قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 3 ف 10

من معرفة المصادر

صفحة رقم : 13255 قصة الحضارة -> روسو والثورة -> الجنوب الكاثوليكي -> البرتغال وبومبال -> يوحنا الخامس

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل العاشر: البرتغال وبومبال 1706 - 1782

يوحنا الخامس 1706 - 1750

لم اضمحلت البرتغال بعد أيامها المجيدة التي أنجبت ماجلان وفاسكو داجاما وكاموئيس؟ لقد كان في جسدها وروحها يوماً ما من الهمة ما يكفي لإرتياد نصف الكرة وإنشاء المستعمرات الجريئة في ماديرا، والأزور، وأمريكا الجنوبية، وأفريقيا، ومدغشقر، والهند وملقا، وسومطرة. أما الآن، في القرن الثامن عشر، فقد باتت نتوءاً ضئيلاً لأوربا، مقيدة إلى إنجلترا في التجارة والحرب، ويغذيها ذهب البرازيل وماسها اللذان يصلان إليها بإذن الأسطول البريطاني. فهل أنهكت قواها لفرط ما قدمت من الرجال البواسل لتملك هذا العدد العديد من المخافر الأمامية القلقة التوازن على أطراف المعمورة؟ أم لعل تدفق الذهب عليها نزح الحديد من عروقها وأوهن طبقاتها الحاكمة فانتكست من حياة الإقدام والمغامرة إلى حياة اللين والدعة؟

أجل، لا بل أنه من قوة الصناعة أيضاً. فأي جدوى في محاولة تبذلها لتنافس مهرة الصناع أو ملتزمي الصناعة الإنجليز أو الهولنديين أو الفرنسيين في الحرف أو الصناعات، ما دام في طاقتها شراء ما تستورده من الكساء والغذاء وأسباب الترف والنعيم بالذهب المستورد؟ فأما الأغنياء الذين يتاجرون بالذهب فقد أصبحوا أكثر غنى، ازدادوا فخامة ملبس وبهاء زينة، وأما الفقراء الذين حيل بينهم وبين ذلك الذهب فقد ظلوا يتردون في فقرهم لا يحثهم على الكد والعرق غير حافز الجوع. وأدخل تشغيل الرقيق في مزارع كثيرة، وملأ المتسولون المدن ضجيجاً بصيحاتهم. وقد كتب عنهم وليم بكفورد حين سمعهم في 1787 يقول "ليس بين الشحاذين قاطبة من يضارع شحاذي البرتغال قوة رئات، ووفرة قروح، وكثرة حشرات، وتنوع أسماك، وترتيب خرق؛ ومثابرة لا تهاب..أن عددهم لا يحصى، عمي، صم، جرب(1)".

ولم تكن لشبونة يومها هذه المدينة الجميلة التي نعهدها اليوم. لقد كانت الكنائس والأديرة غاية في البهاء، وقصور النبلاء فسيحة ضخمة، ولكن نسبة لا تقل عن عشر السكان بغير مأوى، وكانت الأزقة الملتوية تفوح منها رائحة القمامة والقذارة(2). ومع ذلك فهنا، كما في سائر بلاد الجنوب، عوض الفقر بأسباب العزاء من الأيام المشمسة، والأمسيات المزدانة بالنجوم، والموسيقى، والدين، والنساء المتدينات ذوات العيون التي تعذب الناظرين. وكان القوم يتدفقون في الشوارع بعد أن تخف وقدة القيظ لا يعوقهم لدغ البراغيث في أجسامهم ولا طنين البعوض في الهواء، فيرقصون ويغنون ويعزفون على القياثير ويقتتلون للفوز بابتسامة من عذراء.

وكانت المعاهدات (1654، 1662، 1703) قد قيدت البرتغال بإنجلترا في تكافل عجيب حالف بينهما في الاقتصاد والسياسة الخارجية وأبقاهما في الوقت نفسه أشد ما تكونان تبايناً في العادات وخصومة في العقيدة. وتعهدت إنجلترا بحماية استقلال البرتغال والسماح باستيراد النبيذ البرتغالي (البورت من أوبورتو) برسم جمركي مخفض جداً. أما البرتغال فتعهدت بالسماح باستيراد المنسوجات الإنجليزية معفاة من الرسوم، وبالوقوف في صف إنجلترا في أي حرب تنشب. ونظر البرتغاليون إلى الإنجليز على أنهم زنادقة هالكون يملكون أسطولاً قوياً، ونظر الإنجليز إلى البرتغال على أنهم قوم جهلة متعصبون يملكون المواني الاستراتيجية. وسيطر رأس المال البريطاني على الصناعة والتجارة البرتغاليتين. كتب بومبال يشكو من هذه الأوضاع في شيء من المبالغة:

"في سنة 1754 لم تكد البرتغال تنتج أي شيء يعينها على الاستكفاء. فثلثا الضروريات المادية تزودهما إنجلترا. وغدت إنجلترا السيد المتصرف في تجارتنا كلها، وكان الوكلاء الإنجليز يديرون تجارتنا الخارجية بجملتها..فهم يملكون كل شحنات السفن المقلعة من لشبونة إلى البرازيل، ومن ثم يملكون الثروة العائدة بديلاً عن هذه الشحنات. فلم يكن شيء برتغالياً إلا بالاسم فقط(3)". ومع ذلك وصل إلى يد الحكومة البرتغالية من ذهب المستعمرات وفضتها وأحجارها الكريمة ما يكفي لتميل مصروفاتها ولجعل الملك مستقلاً عن مجلس الشعب وسلطانه الضريبي. وهكذا عاش يوحنا الخامس، طوال ملكه الذي امتد أربعة وأربعين عاماً، يرفل في رغد من العيش كأنه أحد سلاطين الشرق؛ ويلطف من تعدد نسائه بالثقافة ويجمله بالولاء للكنيسة. فوهب الأموال الطائلة أو أقرضها للبابوية، وتلقى نظير ذلك لقب "صاحب الجلالة العظيم الإيمان" بل نال حتى حق تلاوة القداس-دون حق تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. قال فردريك الأكبر "كانت لذاته في الوظائف الكهنوتية، ومبانيه أديرة، وجيوشه رهباناً وخليلاته راهبات(4)".

وأثرت الكنيسة بفضل هذا الملك الذي يدين لها بالكثير جداً من الغفرانات. فملكت نصف الأراضي(5)، وشغل أتباعها تسعمائة دار دينية. وبلغ عدد الكنسيين من مختلف الرتب أو الملحقين بالمؤسسات الدينية زهاء 200.000 في أمة تعد مليونين من الأنفس. وأختص اليسوعيون بمكان الصدارة المرموق سواء في أرض الوطن وفي المستعمرات، فلقد ساهموا في الفوز بالبرازيل للبرتغال، ولقي نفر منهم الترحيب في البلاط، وتمكن بعضهم التسلط على الملك. وكان الملك في موكب (عيد القربان) العظيم يحمل أعمدة المظلة التي حمل تحتها بطريرك لشبونة السر المقدس. فلما تعجب الإنجليز لمنظر طريق الموكب يصطف على جانبيه الجند والمصلون وكلهم عاري الرأس جاثٍ على ركبتيه، قيل لهم في تفسير هذا المشهد أن مثل هذه المراسم وعرض الآنية النفيسة والرفاة المعجز في الكنائس، عامل رئيسي في حفظ النظام الاجتماعي بين الفقراء.

وكانت محاكم التفتيش خلال ذلك ساهرة على نقاء عقيدة الأمة ودمائها. وقد كبح يوحنا الخامس من سلطان هذه المؤسسة بحصوله على مرسوم من البابا بندكت الثالث عشر يسمح لسجنائها بأن يدافع عنه المحامون ويشترط مراجعة الملك لجميع أحكامها(6). ومع ذلك كان لهذه المحكمة من النفوذ والسلطان ما مكنها من إحراق ستة وستين شخصاً في لشبونة على مدى أحد عشر عاماً (1732-42) من بينهم أنطونيو خوزيه دا سيلفا كبير كتاب العصر المسرحيين البرتغاليين، الذي اتهم بأنه يضمر اليهودية. وفي يوم إعدامه (19 أكتوبر 1739) مثلت إحدى مسرحياته في ملهى لشبونة(7).

وأحب يوحنا الخامس الموسيقى والأدب والفن. فاستقدموا الممثلين الفرنسيين والموسيقيين الإيطاليين إلى عاصمة ملكه. ثم أنشأ أكاديمية التاريخ الملكية. ومول القناة الكبرى التي تمد لشبونة بالماء. وأنفق خمسين مليوناً من الفرنكتات ليشيد دير مافرا (1717-32)، الذي يفوق الأسكوريال سعة، والذي ما زال من أروع ما تحويه شبه الجزيرة الأيبيرية من صروح. ورغبة في تزيين داخل الدير استعار من أسبانيا أعظم مصوري القرن البرتغاليين.

وكان هذا المصور-فرانسسكو فييرا-البالغ آنذاك الرابعة والثمانين من عمره يمزج العشق والفن في شاعرية افتتنت بها البرتغال بأسرها. ولد بلشبونة في 1699، ووقع في غرام أجنيز إيلينا دي ليما وهما بعد طفلان. وإذ كان مولعاً بالتصوير أيضاً، فقد ذهب إلى روما في التاسعة ودرس فيها سبع سنين، ولما بلغ الخامسة عشرة فاز بالجائزة الأولى في مسابقة قدمتها أكاديمية القديس لوقا. وحين عاد في 1715أختاره يوحنا الخامس ليرسم صورة "سر التناول" وروي أنه أتمها في ستة أيام. ثم أنطلق باحثاً عن أجنيز، فرده عنها أبوها النبيل وحبس الفتاة في دير للراهبات. فلجأ فرانسسكو إلى الملك، ولكنه أبى أن يتدخل في الأمر. فقصد روما وحصل على مرسوم بابوي يلغي نذور أجنيز الديرية ويصرح بزواجه منها. ولكن السلطات البرتغالية تجاهلت المرسوم. فتنكر فرانسسكو في زي بناء بعد أن عاد إلى لشبونة، ودخل الدير وخطف حبيبته وتزوجها. فأطلق عليه أخوها الرصاص، ولكنه شفي من إصابته وغفر لمهاجمه. وعينه يوحنا الخامس مصوراً للبلاط. ولم يكتف بتكليفه تزيين دير مافرا بل وكل إليه تجميل القصور الملكية. وبعد موت أجنير (1775) أنفق فرانسسكو ما بقي من أجله في الاعتكاف الديني وأعمال البر. كم من قصص كهذه تروي مغامرات الروح والدم ضاعت وراء واجهات التاريخ؟

بومبال واليسوعيون

مات يوحنا الخامس عام 1750 بعد أن قضى ثمانية أعوام يعاني الشلل والعته، وبدأ ابنه يوسف الأول (خوزيه مانويل) حكماً حافلاً بالأحداث. فعين في وزارته وزيراً للحرب والشؤون الخارجية يدعى سباستياو خوزيه دي كافالو اي ميللو، الذي يعرفه التاريخ باسم المركيز بومبال، أعظم وأرهب من حكم البرتغال في أي عهد من عهودها.

كان قد بلغ الحادية والخمسين من عمره حين ارتقى يوسف العرش. تلقى العلم على أيدي اليسوعيين في جامعة كويمبرا، واكتسب أول شهرته رياضياً وزعيماً مشاغباً لعصابة "الموهوك" التي عاثت فساداً في شوارع لشبونة. وفي 1733 أغرى النبيلة دونا تريزا نورونها بالفرار معه. فتبرأت منها أسرتها، ثم تبينت موهبته فأعانته على الترقي في حرفة السياسة. وأتته زوجته بثروة صغيرة، وورث مالاً آخر من عم له. وشق طريقه بالوساطة والإلحاح والكفاية الواضحة. وفي 1739 عين وزيراً مفوضاً لدى لندن، واعتكفت زوجته في أحد الأديرة حيث ماتت في 1745 وخلال السنوات الست التي قضاها بومبال في لندن درس الاقتصاد ونظام الحكم الإنجليزيين ولحظ طاعة الكنيسة الأنجلكانية للدولة، ولعله نفض عنه بعض إيمانه الكاثوليكي. ثم عاد إلى لشبونة (1744)، وأوفد مبعوثاً إلى فيينا (1745)، وهناك تزوج ابنة أخ للمرشال داون الذي كتب له الظفر بالخلود لأنه هزم فردريك مرة، وقد ظلت عروسه الجديدة وفية له طوال ما أحرزه من انتصارات وما مني به من هزائم.

وكان يوحنا الخامس عديم الثقة به لأن له "قلباً فضاً"(8). ولأنه "سليل أسرة قاسية محبة للثأر"(9) ولأن فيه القدرة على أن يتحدى ملكاً. ومع ذل استدعي بومبال إلى أرض الوطن عام 1749، ورقي إلى منصب الوزارة بفضل تأييد اليسوعيين. وثبته يوسف الأول في وظيفته. وسرعان ما أتاح له ذكاؤه المقرون بالجد والاجتهاد أن يسيطر على الوزارة الجديدة. كتب قائم بالأعمال فرنسي يقول "يمكن اعتبار كافالو الوزير الأول، فهو سريع البت وافر النشاط لا يعتريه كلل. ولقد كسب ثقة مولاه الملك، ولم يظفر بها أحد أكثر منه في جميع شؤون السياسة"(10).

وظهر تفوقه واضحاً جلياً في الزلزال الكبير الذي زلزل لشبونة في أول نوفمبر 1755. ذلك أنه في الساعة 9.40 صباح عيد جميع القديسين بينما كان معظم السكان يصلون في الكنائس، زلزلت المدينة بهزات أربعة أحالت نصفها أنقاضاً، وقتلت أكثر من خمسة عشر ألف شخص، ودمرت اكثر الكنائس، وأبقت على معظم المواخير(11) وعلى بيت بومبال. وهرع كثير من السكان فزعاً إلى شواطئ تاجه، ولكن موجة مد بلغ ارتفاعها خمس عشرة قدماً أغرقت مزيداً من الأنفس. وفي غمار الفوضى التي ضربت أطنابها بدأ السفلة من الغوغاء يسرقون ويقتلون وهم آمنون. أما الملك الذي لم يفلت هو نفسه من الموت إلا بشق الأنفس، فقد طلب إلى وزرائه أن يشيروا عليه بما ينبغي صنعه. ويقال أن بومبال أجاب "علينا أن ندفن الموتى ونقدم الغوث للأحياء". وأطلق يوسف يده، واستعمل بومبال سلطته بما تميز به من همة وسرعة. فعين الجند لحفظ النظام وأقام الخيام والمعسكرات لإيواء من باتوا بغير مأوى. وأمر بأن يشنق فوراً كل من وجد يسرق الموتى. ثم حدد أسعار المؤن بما لا يزيد على أسعارها السائدة قبل الزلزال، وألزم جميع السفن الوافدة أن تفرغ شحناتها من الطعام وتبعها بتلك السعار. وأعانه تدفق الذهب البرازيلي الذي لم ينضب، فأشرف على إعادة بناء لشبونة سريعاً بطرق مشجرة عريضة وشوارع جيدة الرصف والإضاءة. وقلب المدينة كما نراه اليوم من صنع المعماريين والمهندسين الذين اشتغلوا تحت إشراف بومبال(12). وكان لنجاحه في هذه الكارثة التي أضعفت معنوية الأمة الفضل في ترسيخ قدمه في الوزارة واضطلع الآن بعملين بعيدي الأثر: أولهما تخليص الحكم من سيطرة الكنيسة، والآخر تحرير الاقتصاد من سيطرة بريطانيا. وتطلبت المهمتان رجلاً أوتي صلابة الفولاذ إلى صفات الوطنية والإباء ومضاء العزيمة التي لا تعرف شفقة أو رحمة.

وإذا كان عداؤه للأكليركية قد تركز على اليسوعيين فإنما السبب الأول هو أنه توجس منهم إثارة المقاومة لتملك البرتغال للأقاليم البارجوانية التي كان اليسوعيين منذ عام 1605 ينظمون فيها أكثر من 100.000 هندي في إحدى وثلاثين مستوطنة، على أساس شبيه بالأنظمة الشيوعية في خضوع شكلي لأسبانيا(13). وكان الرواد من الأسبان والبرتغال قد سمعوا بوجود الذهب (الأسطوري تماماً) في تربة باراجوي. وشكا التجار من أن الآباء اليسوعيين يحتكرون تجارة الصادر الباراجوي ويضيفون الأرباح إلى أموال طائفتهم. ففي 1750 فاوض بومبال لعقد معاهدة نزلت البرتغال بمقتضاها لأسبانيا عن مستعمرة سان ساكرامنتو الغنية (على مصب الريودي لابلاتا) بديلاً عن سبع من المستوطنات اليسوعية المجاورة للحدود البرازيلية. واشترطت المعاهدة أن يهاجر الثلاثون ألف هندي المقيمون في هذه المستوطنات إلى أقاليم أخرى ويتخلوا عن الأرض للبرتغال الوافدين. وأمر فرديناند السادس ملك أسبانيا يسوعيي باراجوي بالرحيل عن المستوطنات وبإصدار الأمر لرعاياهم بالرحيل هدوء. وزعم اليسوعيون أنهم امتثلوا لهذه الأوامر، أما الهنود فقاموا في إصرار غاضب عنيف اقتضى التغلب عليه جيشاً برتغالياً ثلاث سنين. واتهم بومبال جماعة اليسوعيين بتشجيع هذه المقاومة سراً.

فعقد العزم على أن ينهى كل مشاركة لليسوعيين في الصناعة والتجارة والحكومة البرتغالية. فلما أدرك يسوعيو البرتغال نيته تضافرت جهودهم للإطاحة به.

وكان قائدهم في هذه الحركة جابرييل مالاً جريداً، الذي ولد بمنادجو (على بحيرة كومو) عام 1689، وتميز على أقرانه في المدرسة بما مارس من غض يديه حتى يدميهما، وكان يقول أنه بهذه الطريقة يعد نفسه لتحمل آلام الاستشهاد. ثم التحق بجمعية اليسوعيين، وأبحر إلى البرازيل مبعوثاً. وراح يبشر الهنود في الأدغال بالإنجيل من 1724 إلى 1735. وأفلت من الموت عدة مرات-من أكلة لحوم البشر، ومن التماسيح، ومن الغرق في السفينة، ومن المرض. وابيضت لحيته في بواكير كهولته. ونسبت إليه قوى خارقة، وكانت الجموع المترقبة تتبعه أينما ظهر في مدن البرازيل. وبنى الكنائس والأديرة، وأسس المدارس اللاهوتية. وفي 1747 قدم على لشبونة في طلب المال من الملك يوحنا. وحصل عليه، ثم أبحر قافلاً إلى البرازيل وأسس المزيد من البيوت الدينية، وكثيراً ما شارك بيديه في أعمال البناء. وفي 1753 عاد إلى لشبونة ثانية، لأنه كان قد وعد بأن يعد الملكة الأم للقاء ربها. وقد عزا زلزال 1755 لخطايا الشعب، وطالب بإصلاح الأخلاق، وتنبأ مع غيره من أفراد طائفته بمزيد من الزلازل إن لم تنصلح الأخلاق. وأصبح بيت خلوته الدينية بؤرة للمؤامرات ضد بومبال. وكان بعض أسر النبلاء ضالعين في هذه المؤامرات. واحتجوا بأن ابن مالك أرض ريفي حقير قد سود نفس على البرتغال، وقبض على مقاليد حياتهم ومقدراتهم. وكان أحد هذه الأحزاب الأرستقراطية تحت زعامة دوم خوزيه دي ماسكارينهاس، دوق أفيرو، وآخر يرأسه ابن أخي الدوق وهو المركيزة دونا ليونور، إحدى زعيمات المجتمع البرتغالي، تلميذة شديدة التحمس للأب مالاً جريداً كثيرة التردد عليه. وكان أكبر أبنائها، الدوم لويز برناردو، "مركيز طابوره الأصغر" متزوجاً من عمته. فلما رحل لويز إلى الهند جندياً، أصبحت هذه "المركيزة الصغيرة" الفاتنة الرائعة الجمال خليلة ليوسف الأول، وهذا أيضاً لم ينسه قط آل أفيرو وطابوره. وافقوا اليسوعيين صادقين على أنه لو أزيح بومبال لتحسن الموقف.

ورد بومبال بإقناع يوسف بأن جمعية اليسوعيين تشجع سراً المزيد من الثورة في بارجواي، وأنها لا تتآمر على الوزارة فحسب بل على الملك أيضاً. ففي 19 سبتمبر 1757 أقصى مرسوم ملكي عن البلاط أباء اعتراف الأسرة المالكة اليسوعيين. وأمر بومبال ابن عمه، فرانسسكو دي المادا إي مندونسا، المبعوث البرتغالي لدى الفاتيكان، بألا يظن بالمال في سبيل تشجيع وتمويل الحزب المناوئ لليسوعيين في روما. وفي أكتوبر قدم المادا لبندكت الرابع عشر قائمة بالتهم الموجهة إلى اليسوعيين: اتهموا بأنهم "ضحوا بكل العهود والواجبات المسيحية، والدينية، والطبيعية، والسياسية في رغبة عمياء...في جعل أنفسهم سادة على الحكومة". وبأن الجمعية مدفوعة "بشره لا يشيع لاقتناء الأموال الأجنبية وتكديسها، بل حتى لاغتصاب أملاك الملوك(14)"، وفي أول إبريل 1758 أمر البابا الكردينال دي سالدانها، بطريرك لشبونة، بالتحقيق في هذه التهم. وفي 15 مايو نشر سالدانها مرسوماً يعلن أن اليسوعيين البرتغال يمارسون التجارة. "مخالفين بذلك جميع القوانين السماوية والبشرية"، وأمرهم بالكف عنها. وفي 7 يونيو، بتحريض من بومبال في أغلب الطن، وأمرهم بالامتناع عن سماع الاعترافات أو عن الوعظ. وفي يوليو نفي يسوعي لشبونة إلى مسافة ستين فرسخاً عن القصر الملكي: وخلال ذلك (3 مايو 1758) مات بندكت الرابع عشر، فعين خليفته كلمنت الثالث عشر لجنة تحقيق أخرى، قررت أن اليسوعيين براء من التهم التي رماها بها بومبال(15). وخامر الناس بعض الشك في أن يوسف الأول سيؤيد وزيره في هجومه على اليسوعيين، ولكن تحولاً فجائياً في الأحداث دفه الملك دفعاً تماماً إلى صف بومبال. ذلك أن يوسف كان في ليلة الثالث من سبتمبر 1758 قافلاً إلى قصره القريب من بيليم من لقاء غرام سري مع مركيزة طابوره في أغلب الظن(16). وقبيل منتصف الليل انبعث ثلاثة رجال مقنعين من عقد قناة وأطلقوا المار على المركبة دون أن يصيبوا هدفهم. وأطلق السائق لجواده العنان، وما هي إلا لحظة حتى انطلقت رصاصتان من كمين آخر، وأصابت الأولى السائق والأخرى الملك في كتفه وذراعه اليمينين. وقررت محكمة تحقيق لاحقة أن كميناً ثالثاً أعده أفراد من آل طابوره كان ينتظر المركبة على مسافة أبعد على الطريق العام إلى بيليم. ولكن يوسف أمر السائق أن يحيد عن الطريق الرئيسي ويقصد بيت جراح الملك، الذي ضمد جراح الرجلين. ولعل الأحداث التالية التي أحدثت ضجة في جميع أرجاء أوربا، كانت تختلف كل الاختلاف لو نجح الكمين الثالث في الاغتيال المبيت.

وتصرف بومبال بتدبر ودهاء. فنفيت إشاعات الهجوم رسمياً، وعزى اعتكاف الملك المؤقت إلى كبوة كباها، وظل جواسيس الوزير ثلاثة أشهر يجمعون الأدلة. فوجدوا رجلاً يشهد بأن انطونيو فريرا استعار بندقية منه في 3 أغسطس وردها إليه في 8 سبتمبر. وقيل أن رجلاً قال أن فريرا استعار مسدساً منه في 3 سبتمبر ورده بعد أيام. وقال الشاهدان أ، فريرا في خدمة دوق أفيرو وشهد سلفادور دوراو؛ وهو خادم في بيليم، بأنه في ليلة الهجوم، بينما كان في لقاء خارج بيت أفيرو، سمع عفواً أفراداً من أسرة أفيرو عائدين من مغامرة ليلية. وأعد بومبال لقضيته في حيطة وجرأة. فضرب صفحاً عن الإجراء الذي يتطلبه القانون، والذي كان سيحاكم الأشراف المشبوهين أمام محكمة من كبار النبلاء؛ ومحكمة كهذه لن تدينهم أبداً. وبدلاً من هذا، أصدر الملك في 9 ديسمبر مرسومين، وكان هذا الإصدار أول كشف علني عن الجريمة: فعين المرسوم الأول الدكتور بدور جونسا لفيس بيريرا قاضياً يرأس محكمة خاصة بقضايا الخيانة العظمى، وأمره الآخر بأن يميط اللثام عن المسئولين عن محاولة قتل الملك ويقبض عليهم ويعدمهم. وخول جونسا لفيس بريرا سلطة إغفال جميع الأشكال المألوفة للمحاكمات، وأمرت المحكمة بتنفيذ أحكامها يوم إعلانها. وأضاف بومبال إلى المراسيم بياناً رسمياً علق في جميع أرجاء المدينة، يروي أحداث 3 سبتمبر، ويعد بمكافأة أي شخص يقد الأدلة التي تعين على القبض على القتلة(17).

وفي 13 ديسمبر قبض 13 موظفاً حكومياً على دوق أفيرو، وعلى ابنه المركيز جوفيا البالغ من العمر ستة عشر عاماً، وعلى خادم أنطونيو فريرا، وعلى مركيزي طابوره الأب والابن، وعلى المركيزة طابوره الأم، وعلى كل خدم الأسرتين، وعلى خمسة نبلاء آخرين. وطوق الجند في ذلك اليوم جميع الكليات اليسوعية، وأودع السجن مالاجريدا واثنا عشر آخرون من زعماء اليسوعيين. وتعجيلاً للفصل في الأمر، أباح مرسوم ملكي صدر في 20 ديسمبر (بخلاف ما جرى عليه العرف في البرتغال) استعمال التعذيب لاستخلاص الاعترافات من المتهمين. وفحص خمسون سجيناً بالتعذيب أو التهديد بالتعذيب. وورطت عدة اعترافات دوق أفيرو، واعترف هو نفسه بذنبه تحت وطأة التعذيب، واعترف أنطونيو فريروا أنه أطلق المار على المركبة، ولكنه أقسم أنه لم يكن يعلم أن ضحيته المحتمل هو الملك. وتحت وطأة التعذيب عرض عدة خدم تلك الأسرة بجملتها للخطر، واعترف المركيز الابن باشتراكه، أما المركيز الأب الذي عذب حتى كاد يلفظ أنفاسه فقد أنكر أنه مذنب. وكان بومبال ذاته يحضر فحص الشهود والمسجونين. وكان قد أمر بتفتيش البريد، فزعم الآن أنه وجد ضمنه أربعاً وعشرين رسالة كتبها دوق أفيرو، وعدة أفراد من آل طابوره، ومالاجريدا وغيره من اليسوعيين، لإحاطة أصدقائهم أو أقربائهم في البرازيل بالمحاولة الفاشلة، واعدينهم بمزيد من الجهود لقلب الحكومة. وفي 4 يناير 1759 عين الملك الدكتور أورزيبيو تافاريس دي سكوبرا للدفاع عن المتهمين. ودفع سكوبرا بأن الاعترافات التي انتزعت تحت التعذيب عديمة القيمة في الدلالة على الجريمة، وأن جميع النبلاء المتهمين يستطيعون إثبات غيابهم ليلة الجريمة. على أن المحكمة قضت بأن الدفاع غير مقنع، ورأت أن الرسائل المعترضة صحيحة وأنها تؤيد الاعترافات، وفي 12 يناير حكمت المحكمة بأن جميع المتهمين مذنبون.

وأعدم تسعة منهم في 13 يناير في ميدان بيليم العام، وأول من تقر إعدامه كان مركيزة طابوره الأم. فانحنى الجلاد ليوثق قدميها وهي على المقصلة فدفعته قائلة "لا تمسني إلا لتقتلني"(18) وبعد أن أكرهت على رؤية العدة التي سيموت بها زوجها وابناها-وهي دولاب التعذيب، والمطرقة والحطب-ضرب عنقها. وحطم ولداها على الدولاب ثم شنقا، وظلت جثتاهما على المشنقة حين صعد إليها دوق أفيرو ومركيز طابوره الأب. وذاقا مرارة الضربات المحطمة ذاتها، وترك الدوق ليطول عذابه حتى تم إعدامه آخر المتهمين-وهو أنطونيو فريرا الذي أحرق حيا. ثم أحرقت جميع الجثث وذر رمادها في نهر تاجه. ومازال الجدل قائماً في البرتغال حول هؤلاء النبلاء، هل تعمدوا حقاً قتل الملك الأم لا؟ هذا مع التسليم بعدائهم لبومبال.

أكان اليسوعيون ضالعين في تلك المحاولة؟ لم يكن هناك في أن مالاجريدا في غضباته المضربة كان قد تنبأ بسقوط وبموت الملك وشيكاً،(19) ولم يكن هناك شك في أنه هو وآخرون من اليسوعيين كانوا قد اجتمعوا مرات بأعداء الوزير من الأشراف. وكان قد دل ضمناً على علمه بمؤامرة ما بكتابته إلى إحدى نبيلات البلاط يرجوها أن تنبه يوسف إلى الحذر من خطر وشيك. فلما سئل وهو في السجن كيف علم بهذا الخطر أجاب في "كرسي الاعتراف"(20). وفي غير هذا (كما يقول مؤرخ من خصوم اليسوعيين) "ليس هناك دليل إيجابي يربط اليسوعيين بهذا الاعتداء"(12). ولكن بومبال اتهمهم بإثارة حلفائهم بوعظهم وتعاليمهم إثارة دفعتهم إلى محاولة الاغتيال. وأقنع الملك أن الموقف يتيح للملكية الفرصة لتعزيز قوتها إزاء الكنيسة. وعليه ففي 19 يناير أصدر يوسف مراسيم بضم جميع ممتلكات اليسوعيين في المملكة، وبإلزام جميع اليسوعيين بيوتهم أو مدارسهم حتى يفصل البابا في التهم الموجهة إليهم. واستعمل بومبال أثناء ذلك مطبعة الحكومة ليطبع-ويوزع عماله على نطاق واسع في الداخل والخارج-كراسات نبسط الحجج التي تدين الأشراف واليسوعيين، وكانت هذه فيما يبدو أول مرة استخدمت فيها حكومة من الحكومات المطبعة لتفسر تصرفاتها للأمم الأخرى. وربما كان لهذه المنشورات بعض الأثر في المعاونة على طرد اليسوعيين من فرنسا وأسبانيا.

وفي صيف 1759 أستأذن بومبال كلمنت الثالث عشر في تقديم اليسوعيين المعتقلين للمحاكمة أمام محكمة الخيانة العظمى، وزاد بالاقتراح بأن يحاكم جميع الكنسيين المتهمين بجرائم ضد الدولة، منذ الآن، أمام البابا بعزم الملك على طرد اليسوعيين من البرتغال، وأعربت عن الأمل في أن يوافق الباب على هذا الإجراء باعتباره إجراء تبرره تصرفاتهم، وضرورياً لحماية الملكية. وصدمت هذه الرسائل كلمنت، ولكنه خشي أن قاومها صراحة أن يقنع بومبال الملك بقطع الصلات جميعها بين الكنيسة البرتغالية والبابوية. وتذكر ما فعله هنري الثامن عشر في إنجلترا، وكان يعرف أن فرنسا أيضاً تزداد عداء لجماعة اليسوعيين، ففي 11 أغسطس بعث بالإذن بمحاكمة اليسوعيين أمام المحكمة المدنية، ولكنه قصر بوضوح موافقته على تلك الحالة بعينها. ثم وجه إلى الملك نداء شخصياً يدعو للرأفة بالقساوسة المتهمين، وذكر يوسف بإنجازات هذه الطائفة الماضية، وأعرب عن رجائه بألا يؤخذ جميع اليسوعيين البرتغاليين بجريرة فئة قليلة منهم. ولكن نداء البابا فشل. ففي 3 سبتمبر 1759-وكان اليوم ذكرى الاغتيال المبيت-أصدر الملك مرسوماً ضمنه قائمة طويلة بجرائم منسوبة لليسوعيين، وأمر بما يأتي:

"إن هؤلاء الرهبان، نظراً إلى فسادهم وسقوطهم المؤسف بعيداً عن رهبنتهم المقدسة، ولما أصابهم عن عجز واضح عن العودة إلى شعائرها بسبب هذه الرذائل البشعة المتأصلة، يجب أن ينفوا نفياً حقيقياً فعلاً..وأن يحاكموا ويطردوا من جميع أهلاك جلالته، باعتبارهم عصاة سيئي السمعة وخونة، وأعداء، اعتدوا على شخصه الملكي وعلى مملكته..ويقتضي الأمر ألا يقبلهم أي شخص كائناً ما كانت مكانته أو وضعه في أي من ممتلكاته وألا يتصل بهم بتاتاً سواء بالحديث أو المراسلة، وإلا كان جزاؤه الموت الذي لا رجوع فيه(22).

واستثنى من المرسوم اليسوعيين الذين لم ينذروا أنفسهم النذر الوثيق للرهبنة، والذين يجب عليهم أن يلتمسوا إعفائهم من نذورهم الأولية. وصادرت الدولة ثروة اليسوعيين كلها، ومنع المنفيون من أن يأخذوا معهم غير ملابسهم الشخصية(23).واقتدوا من جميع أرجاء البرتغال في مركبات أو سيراً على الأقدام إلى سفن أقلتهم إلى إيطاليا. وتم رحيلهم على هذا النحو من البرازيل وغيرها من الممتلكات البرتغالية. ووصلت أول شحنة من المنفيين إلى تشيفيتافكيا في 24 أكتوبر، ورثى لحالهم حتى ممثل بومبال هناك. كان بعضهم ضعيفاً لكبره، وبعضهم يكاد يتضور جوعاً، وبعضهم مات في الطريق. ورتب قائد الجماعة، لورنتسو ريكي، استقبال الأحياء منهم في بيوت يسوعية في إيطاليا، وشارك الأخوة الدومنيكان في استضافتهم. وفي 17 يونيو 1760 أوقفت الحكومة البرتغالية العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان. وبدا نصر بومبال نصراً مؤزراً، ولكنه كان عليماً بأنه نصر لا تحبه الأمة، وأفضى بع الشعور بعدم الأمان إلى توسيع سلطته إلى الدكتاتورية الكاملة، فبدأ حكماً من الاستبدادية والإرهاب حتى عام 1777. وكان جواسيسه يبلغونه بكل ما يكشفونه من ألوان المقاومة لسياساته أو أساليبه، وسرعان ما اكتظت سجون لشبونة بالمسجونين السياسيين. وقبض على الكثيرين من الأشراف والكهنة لاتهامهم بمؤامرات جديدة على الملك، أو باشتراكهم في المؤامرة القديمة. وأصبحت قلعة جنكيرا، المتوسطة الموقع بين لشبونة وبيليم، سجناً خاصاً للأشراف زج فيه كثير منهم حتى قضوا نحبهم. وفي سجون أخرى أودع اليسوعيون المجلوبون من المستعمرات والمتهمون بمقاومة الحكومة-وظل بعضهم نزيلها تسعة عشر عاماً.

أما مالاجريدا فقد ظل يذوي في سجنه اثنين وثلاثين شهراً قبل أن يمثلا أمام المحكمة. وسلى الشيخ سجنه بتأليفه كتاب "حياة القديسة حنه البطولية، أم مريم، أملتها القديسة حنه ذاتها للأب المبجل مالاجريدا"، وصودر المخطوط بأمر بومبال، وقد وجد فيه عدة سخافات يمكن أن توصف بالهرطقة: فقد قال مالاجريدا أن القديسة حنة حبل بها كما حبل بمريم، دون أن تلوثها الخطيئة الأصلية، وأنها كانت تتكلم وتبكي في بطن أمها(24). وبعد أن عين بومبال أخاه بول دي كارفالو رئيساً لديوان التفتيش في البرتغال، أمر بأن يستدعى مالاجريدا للمثول أمامه، وكتب بيده ورقة اتهام تتهم اليسوعيين بالجشع، والرياء، والدجل، وانتهاك المقدسات، وبتهديدهم الملك بالتنبؤ مراراً بموته. وإذ كان مالاجريدا-الذي بلغ الآن الثانية والسبعين-قد أصبح نصف مخبول لشدة ما كابد من عذاب، فقد أخبر قضاة التفتيش بأنه تكلم مع القديس أغناطيوس لويولا والقديسة تريزا(25). وأراد قاضٍ منهم لأن يقف المحاكمة إشفاقاً على الشيخ فحي بأمر بومبال. وفي 12 يناير 1761 حكمت المحكمة المقدسة بأن مالاجريدا مذنب بالهرطقة، والتجديف، والضلال، وبخداع الشعب بما زعم من إعلانات إلهية له. ومد في أجله ثمانية شهور أخر. وفي 20 سبتمبر سيق إلى المشنقة في البراسا روسيو، فشنق، وأحرق مشدوداً إلى خازوق. وقال لويس الخامس عشر معقباً بعد سماعه بالإعدام "لكأني أحرقت الشيخ المخبول نزيل مستشفى البتيت (ميزون) الذي يزعم أنه الله الأب(26). وكان رأي فولتير في الحادث وهو يسجله "أنه حماقة وسخف مقرونان بشر غاية في البشاعة(27)".

ولم يرقَ جماعة الفلاسفة الفرنسيين ما طرأ على بومبال من تطور، بعد أن كان رأيهم فيه في 1758 أنه "مستبد مستنير". لقد رحبوا بالإحاطة باليسوعيين، ولكنهم استنكروا الأساليب التعسفية التي أنتجها الدكتاتور، والنغمة العنيفة التي سرت في نشراته، والوحشية التي لوثت عقوباته. وصدمتهم معاملة اليسوعيين خلال ترحيلهم، وإعدام الأسر العريقة بالجملة، والمعاملة غير الإنسانية التي لقيها مالاجريدا. على أنه لم يصلنا إي سجل يثبت احتجاجهم على حبس أسقف كويمبرا ثماني سنوات لأنه أدان لجنة بومبال للرقابة على المطبوعات التي سمحت بتداول مؤلفات متطرفة، كقاموس فولتير الفلسفي وعقد روسو الاجتماعي. بيد أن بومبال نفسه لم يبشر بهرطقات، وكان يختلف إلى القداس بانتظام. ولم يكن هدفه القضاء على الكنيسة بل إخضاعها للملك، فلما وافق كلمنت الرابع عشر عام 1770 على السماح للحكومة بالترشيح لمناصب الأسقفية، اصطلح مع الفاتيكان. وأسعدت يوسف الأول-وقد دنا أجله-فكرة الظفر بعد هذا كله بكامل البركات الكهنوتية حين يموت. وبعث البابا بقبعة الكردينالية إلى بول أخي بومبال، وأتحف بومبال نفسه بخاتم يحمل صورة البابا، ونمنمة إطارها من الماس، ورفات كامل لأربعة قديسين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بومبال المصلح

وترك الدكتاتور أثناء ذلك بصمته على اقتصاد البرتغال وإدارتها وحياتها الثقافية. وأعاد تنظيم الجيش بمساعدة الضباط الإنجليز والألمان، وقد صد هذا الجيش غزوا أسبانيا في حرب السنين السبع. وانتهج ما أنتجه ريشليو في فرنسا في القرن السابع عشر، فحد من سلطان الأرستقراطية الممزق الأمة، ومركز الحكومة في ملكية تستطيع أن تمنح هذه الأمة الوحدة السياسية، والتطور التعليمي، وبعض الحماية من تسلط الكنيسة وكف النبلاء بعد إعدام آل طابوره عن التآمر على الملك، وخضع الأكليروس للدولة بعد طرد اليسوعيين. وفي فترة الجفوة مع الفاتيكان كان بومبال يعين الأساقفة، وكان أساقفته يرسمون القساوسة دون الرجوع إلى روما. وحد مرسوم ملكي من اقتناء الكنيسة للأرض، وقيد حرية الرعايا البرتغاليين في تحميل تركاتهم بوصايا لإقامة القداديس(18) وأغلق الكثير من الأديرة وحظر على الباقي منها قبول رهبان جدد تقل أعمارهم عن الخامسة والعشرين. وأخضع ديوان التفتيش لإشراف الحكومة. وحولت محكمته إلى محكمة عامة خاضعة للقواعد التي تخضع لها محاكم الدولة، وجردت من سلطات الرقابة على المطبوعات، وألغى ما جرت عليه من تمييز بين قدامى المسيحيين وجددهم (أي اليهود أو المغاربة الذين دخلوا في المسيحية وذريتهم)، لأن بومبال افترض أن في دماء معظم الأسبان والبرتغال الآن عرقاً سامياً(29). وبمقتضى مرسوم صدر في 25 مايو 1773 أصبح جميع الرعايا البرتغال صالحين الاختيار للمناصب المدنية والعسكرية والكنسية(30)، ولم تحرق محكمة التفتيش إنساناً بعد إحراق مالاجريدا عام 1761(31).

وفي تلك السنة ألغى بومبال ثلاثة أرباع الوظائف الصغيرة التي كانت تعوق سير القضاء، ويسرت الطريق إلى المحاكم وجعل التقاضي أقل كلفة. وفي 1761 أعاد تنظيم الخزانة، وألزمها بموازنة حساباتها كل أسبوع، وأمر بأن تراجع إيرادات ومصروفات البلديات كل سنة، وحقق بعض التقدم في أشد الإصلاحات كلها عسراً-وهو خفض عدد الموظفين في البلاط الملكي والحد من الإسراف في نفقاته. فتخلص من الثمانين طاهياً الذين كانوا يطعمون يوحنا الخامس وبطانته، واضطر يوسف الأول أن يقنع بعشرين فقط. وبمقتضى مرسوم صدر في 25 مايو 1773 ألغى الرق في الواقع في البرتغال ولكن سمح باستمراره في المستعمرات.

وامتدت يد المصلح إلى كل ركن. فبذل الدعم الحكومي للزراعة ومصايد الأسماك، وأدخل دودة القز في المقاطعات الشمالية. وأنشأ الفواخير، ومصانع الزجاج، ومصانع القطن والورق، لينهي اعتماد البرتغال على استيراد هذه الحاصلات من الخارج. وألغى المكوس الداخلية في انتقال السلع، وأقام التجارة الحرة بين البرتغال ومستعمراتها الأمريكية. وأسس كلية للتجارة يدرب البرتغال من الأجانب الذين يتجرون فيها وينقلونها، وفي هذا فشل-أو فشلت البرتغال- لأن تجارة البرتغال في 1780 كان أكثرها لا يزال في أيدي الأجانب لا سيما البريطانيين.

واقتضى طرد اليسوعيين بناء التعليم من جديد بناء شاملاً. فنشرت في البلاد المدارس الأولية والثانوية الجديدة التي بلغ عددها 837-وحولت الكلية اليسوعية في لشبونة إلى كلية للإشراف يديرها العلمانيون. ووسع منهج الدراسة في كويمبرا وأضيفت إليه مقررات في العلوم، وأقنع بومبال الملك بتشييد دار للأوبرا ودعوة المغنين الإيطاليين لقيادة الفرق. وفي 1757 أسس "أركاديا لشبونة" لتشجيع الأدب.

وحظي الأدب البرتغالي طوال نصف قرن مثير (1755-1805) بحرية نسبية في الأفكار والأشكال. وبعد أن حرر نفسه من النماذج الإيطالية، أقر بسحر فرنسا، وأحس بنسائم تهب عليه من حركة التنوير. وظفر انطونيو دينيز داكروز أي سيلفا بالشهرة في وطنه كله بكتابة هجاء سماه "أو هسوبي" (1772)، ووصف فيه في ثمانية أقسام شجاراً بين أسقف وكبير كهنة، وترجم خواو أنستاسيودا كونها بوب فولتير، وعلى هذه الترجمة أدانته محكمة التفتيش (1778) عقب سقوط بومبال. وأولع فرانسسكو مانويل دوناسكيمنتو بالكتب، وكان ابن عامل في تفريغ السفن وشحنها، وأصبح قطباً لجماعة تمردت على الأكاديمية الأركادية لأنها عائق لتطور الشعر القومي. وفي 1778 أمرت محكمة التفتيش بالقبض عليه (مغتنمة ثانية فرصة سقوط بومبال) متهمة إياه بالولع بالفلاسفة المحدثين من إتباع العقل الطبيعي "ففر إلى فرنسا، حيث أنفق تقريباً كل سنيه الواحدة والأربعين الباقية من عمره، وهناك كتب معظم قصائده التي تتقد بحب الحرية والديمقراطية، وفيها قصيدة غنائية "لحرية الولايات المتحدة واستقلالها" وقد عده أنصاره إماماً للشعر البرتغالي لا يميزه فيه غير كاموئيس. وحوى مجلد في قصائد الحب يسمى "أماريليا" أرشق وأرخم شعر العصر، الذي خلفه توماز أنطونيو جونزاجا الذي عانى السجن (1785-88) بتهمة التآمر السياسي ومات في المنفى، أما خوزيه أجوستينودي ماسيدو، الراهب الأوغسطيني الذي جرد لفسقه، فقد اتخذ في جرأة، لقصيدته "أو أورينتي" الموضوع الذي اتخذه من قبل كاموئيس-وهو رحلة فاسكو داجاما إلى هند. وكان يرى قصيدته أعظم من اللويزياده "والإلياذة" ولكنهم يؤكدون أنها عمل كئيب. وأطرف منه هجاء كتبه في ستة أقسام "أوس بوروس" شهر فيه ماسيدو صراحة برجال ونساء من جميع المراتب، الأحياء منهم والأموات. وكان ألد خصومه مانويل ماريا باربوزا دي بوساجي، الذي سجنته محكمة التفتيش (1797) بتهمة إذاعة الأفكار الفولتيرية في شعره وتمثيلياته. وقد رده إعدام ماري أنطوانيت إلى المحافظة في الدين والسياسة، فاستعاد تدينه أيام الشباب، ورأى في البعوضة دليلاً على وجود الله(32).

أما الحديث العظيم في تاريخ الفن في حكم بومبال فهو التمثال الذي صنع ليوسف الأول، والذي مازال قائماً في ميدان الحصان الأسود بلشبونة. وقد صممه يواكيم مكادو دي كاسترو، وصبه بالبرونز ترتولوميو داكوستا وهو يمثل الملك راكباً جواداً مطهماً، ظافراً فوق أفاعي ترمز إلى القوى الشريرة التي غلبها في حكمه. وجعل بومبال من إزاحة الستار عن هذا الأثر (6 يونيو 1775) احتفالاً بوزارته المنتصرة. فاصطف جنود الجيش في الميدان، واجتمع رجال السلك السياسي، والقضاء، ومجلس الشيوخ وغيرهم من كبار القوم مرتدين الملابس الرسمية، ثم أقبلت الحاشية، ثم الملك والملكة، وأخيراً تقدم بومبال وأزاح الستار عن التمثال والقاعدة الضخمة التي صورت ميدالية عليها الوزير لابساً صليب المسيح. وفهم الكل إلا الملك أن الموضوع الحقيقي الاحتفال هو بومبال.

وبعد أيام من إزاحة الستار أرسل إلى يوسف الأول وصفاً وردي اللون للتقدم الذي حققه بومبال منذ 1759: نشر التعليم والإلمام بالقراءة والكتابة، ونمو الصناعة والتجارة، وتطور الأدب والفن، وارتفاع مستوى المعيشة بصفة عامة، على أن توخي الصدق لا بد أن تختزل الكثير من وصفه هذا، فالصناعة والتجارة كانتا تنموان، ولكن في بطء شديد، وكانتا تعانيان المصاعب المالية، أما الفنون فركدت، وكان نصف لشبونة لا يزال (1774) في الخرائب التي سببها زلزال 1755. وكان تعلق الشعب الفطري بأهدب الدين يعيد سلطان الكنيسة إلى سابق عهده. وكان صلف بومبال وأساليبه الدكتاتورية تخلق له أعداء جدداً كل يوم. وكان قد اقتنى لنفسه ولأقربائه ثروة طائلة وبنى لنفسه قصراً غالي التكلفة. ولم تكد توجد أسرة نبيلة في المملكة بغير عضو محبوب من أعضائها يذوي غي غياهب السجن. وكان الناس في طول البرتغال وعرضها يصلون ويتضرعون إلى الله سراً بأن يسقط بومبال عن عرشه.


انتصار الماضي

في سنة 1775 بلغ الملك الستين. وكانت العلل الخليلات قد أشبنه قبل أوانه، وراح ينفق الساعات متأملاً في الخطيئة والموت. وسأل نفسه أكان على حق في انتهاج سياسات وزيره، وهل كان منصفاً لليسوعيين؟ ثم ما خطب أولئك الأشراف والقساوسة نزلاء السجون؟ بوده أن يغفر لهم وهو يطلب الآن المغفرة لنفسه. ولكن أنى له أن يذكر فكرة لهذه لبومبال؟ وفي 12 نوفمبر 1776 أصيب بنوبة فالج، وكان البلاط يغتبط توقعاً لحكم ملك جديد ووزارة جديدة. وكانت وريثة العرش ابنته ماريا فرنسسكا التي كانت زوجاً لأخيه بدرو. وكانت امرأة صالحة، وزوجاً وأماً صالحة، وإنساناً عطوفاً باراً، ولكنها كانت إلى ذلك كاثوليكية غيوراً، كرهت عداء بومبال للأكليروس كرهاً حملها على ترك البلاط لتعيش في هدوء مع بدرو في طليوذ على أميال من العاصمة. وأحاط الدبلوماسيون الأجانب حكوماتهم بأن تمنع انقلاباً وشيكاً في السياسات البرتغالية.

وفي 18 نوفمبر تناول الملك الأسرار المقدسة، وفي 29 نوفمبر أصبحت ماريا وصية على العرش. وكان من أول أفعالها إنهاء سجن أسقف كويمبرا، ورد الحبر البالغ أربعة وسبعين عاماً إلى كرسيه وسط مظاهر الفرح الشاملة تقريباً. ورأى بومبال سلطانه يتضاءل، ولحظ في نذر قاتمة أن أفراد الحاشية الذين كانوا بالأمس أتباعاً أذلاء له، يرونه الآن وقد قضى على نفوذه السياسي. وفي عمل أخير من أعمال الاستبداد انتقم انتقاماً وحشياً من قرية تريفاريا التي عارض أهلها-وكانوا صيادي سمك-تجنيد أبنائهم بالقوة، فأمر فصيلة من الجند بأن يحرقوا القرية: فأحرقوها بإلقاء المشاعل الملتهبة من نوافذ الأكواخ الخشبية في ظلام الليل (23 يناير 1777).

وفي 24 فبراير مات يوسف الأول، وأصبحت الوصية الآن الملكة ماريا الأولى (حكمت 1777-1816)، وأصبح زوجها الملك بدرو الثالث (1777-86). وكان بدرو رجلاً ضعيف العقل، واستغرقت ماريا في التقوى وأعمال البر. وسرعان ما استعاد الدين سلطانه، وقد كان نصف حياة الشعب البرتغالي. واستأنفت محكمة التفتيش نشاطها في الرقابة وقمع الهرطقة. وأرسلت الملكة كاريا إلى البابوية أربعين ألف جنيه لرد بعض ما أنفقت في رعاية اليسوعيين المنفيين. وفي غداة دفن يوسف أمرت الملكة بالإفراج عن ثمانمائة سجين، وكان أكثرهم قد سجنه بومبال لمعارضته سياسته. وكان كثير منهم قد قضى عرشين عاماً في غياهب السجون، فلما خرجوا لم تحتمل عيونهم ضوء الشمس وكانوا كلهم تقريباً في أسمال بالية، وبدا الكثيرون منهم في ضعفي سنهم، وكان المئات من السجناء قد قضوا نحبهم في سجونهم. ولم يبقَ على قيد الحياة من بين 124 يسوعياً زج بهم في السجون قبل ثمانية عشر عاماً سوى خمسة وأربعين(33). ورفض خمسة من الأشراف الذين أدينوا بتهمة الاشتراك المزعوم في مؤامرة قتل يوسف أن يبرحوا السجن حتى تعلن براءتهم رسمياً.

وكان لمشهد ضحايا عداء بومبال المفرج عنهم، ولنبأ تحريق تريفاريا، أرثهما في تفاقم كره الشعب لبومبال إلى حد لم بعد يجرؤ فيه على الظهور علانية. وفي أول مارس أرسل إلى الملكة ماريا كتاباً يستقيل فيه من جميع وظائفه ويستأذن في الاعتكاف في ضيعته بمدينة بومبال. وطالب الأشراف المحيطون بالملكة بسجنه وعقابه، ولكن حين تبين لها أن جميع القوانين التي استنكرتها كان قد وقعها الملك السابق، قررت أنها لا تستطيع عقاب بومبال دون أن تلطخ أمام الناس ذكرى أبيها. وقبلت استقالة الوزير وسمحت له بالاعتزال في بومبال، ولكنها أمرته أم يلزمها وفي 5 مارس غادر لشبونة في عربة خفيفة مستأجرة آملاً أن يفلت من أنظار الناس، ولكن بعضهم تبينه فحصبوا عربته ولكنه هرب منهم. ولحقت به امرأته عند مدينة أوبرس، وكان يومها في السابعة والسبعين.

والآن وقد غدا مواطناً عادياً تكاثر عليه الهجوم من كل صوب بدعاوى تطالبه بديون أغفل سدادها، وأضرار أوقعها بالشاكين، وممتلكات استولى عليها دون تعويض أصحابها تعويضاً كافياً. وحاصر المحضرون أبوابه في بومبال بسلسلة من الأوامر القضائية. كتب يقول "ما من دبور أو بعوضة في البرتغال إلا طار إلى هذه البقعة النائية وطناً في إذني". وساعدته الملكة بأن واصلت إجراء الراتب الذي كان يتقاضاه وزيراً عليه مدى الحياة وزادت عليه معاشاً متواضعاً. بيد أن أعداء لا حصر لهم ألحوا على الملكة في تقديمه للمحاكمة بتهمتي الانحراف والخيانة. وقد اتخذت إجراء وسطاً بسماحها للقضاة بأن يزوروه ويسألوه بأمر هذه التهمة. فظلوا يحققون معه ساعات كل مرة على مدى ثلاثة أشهر ونصف حتى التمس الدكتاتور العجوز الرحمة. وأجلت الملكة التصرف في تقرير الفحص، آملة أن يعفيها موت بومبال من هذا الحرج، وسعت في القوت نفسه إلى تهدئة خصومه بأن أمرت بإعادة محاكمة المتهمين الذين أدينوا بالاشتراك في محاولة اغتيال أبيها. وأيدت المحكمة الجديدة الحكم بذنب دوق أفيرو وثلاثة من خدمه، ولكنها برأت ساحة باقي المتهمين أجمعين وأعلنت براءة الطابوريين. وردت كل ألقابهم وممتلكاتهم للأحياء منهم (3 إبريل 1781). وفي 16 أغسطس أصدرت الملكة مرسوماً يدين بومبال "مذنباً بجرائم شائنة" ويضيف قراراً بتركه آمناً في منفاه محتفظاً بثروته مادام قد ألتمس الصفح.

وكان بومبال يمضي حثيثاً إلى مرض الموت. فقد غشي جسده كله تقريباً قروح صديدية يبدو أن سببها الجذام(35). ومنعه الألم من النوم أكثر من ساعتين في اليوم، وأضعفته الدوزنتاريا، وأقنعه أطباءه بشرب حساء مصنوع من جلد الثعابين، كأنما أرادوا أن يزيدوه عذاباً على عذاب. وتمنى الموت، وتناول الأسرار المقدسة، وانتهت آلامه في 8 مايو 1782 وبعد خمسة وأربعين عاماً، وقفت بقبره جماعة من اليسوعيين كانت تجتاز المدينة، وتلت الجماعة، بشعو الانتصار والرأفة، صلاة جنائزية تطلب الراحة لنفسه.