قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 2 ف 4
صفحة رقم : 12969
قصة الحضارة -> روسو والثورة -> فرنسا قبل الطوفان -> فن الحياة -> الفضيلة والكياسة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: فن الحياة
الفضيلة والكياسة
يقول تاليران "لا يعرف لذة العيش من لم يعش حوالي سنة 1780". بالطبع شريطة أن يكون من أبناء الطبقات العليا، وأن تكون مجرداً من أي ميول للفضيلة. وتعريف الفضيلة صعب، فكل عصر يكيف تعريفه وفق طبعه وآثامه. وقد ظل الفرنسيون في القرون الطوال يخففون من وطأة الاقتصار على الزوجة الواحدة بالزنا، كما تخفف منها أمريكا اليوم بالطلاق. والرأي الغالي (الفرنسي) يجد الزنا المعتدل أقل إضراراً بالأسرة-أو بالأبناء على الأقل من الطلاق. على أية حال ازدهر الزنا في فرنسا القرن الثامن عشر، وكان الناس يغضون عنه عموماً. وآية ذلك أن ديدرو حين أراد في موسوعته أن يفرق بين "الارتباط" و"التعلق" ضرب هذا المثال: "أن الرجل يرتبط بزوجته، ولكنه يتعلق بخليلته(2)". ويقول معاصر لذلك الجيل "أن خمسة عشر نبيلاً من بين العشرين الذين تراهم في البلاط يعاشرون نساء لم يتزوجوهن(3)". وكانت الظفر بخليلة أمراً لا غنى عنه للمركز الاجتماعي كحيازة المال سواء بسواء. أما الحب فكان شهوانياً في غير مواربة: صوره بوشيه في صورة وردية، وخلع عليه فراجونار الأناقة والرشاقة، أما بوفون فقال في صراحة وحشية "ليس في الحب شيء طيب إلا الجسد(4)".
على أن الحب الأنبل كان يظهر هنا وهناك، حتى في "كريبيون" الابن(5)، ومن جماعة الفلاسفة جرؤ هلفتيوس على الهيام بزوجته، وظل دالامبير وفياً لجولي دليسبيناس طوال تلميعات لحنها الذي أمتعها. وقد أضطلع جان-جاك روسو في هذا الجيل بإصلاح للأخلاق يدعو إليه رجل واحد. وهل نشيد كذلك بفضل روايات صموئيل رتشاردسن؟ وتحلت بعض النساء بالفضيلة على سبيل الموضة(6) Fashion، ولكن بعضهن تقبلن في عرفان دعوة بعثت من مرقدها، دعوة العفة قبل الزواج، والوفاء بعده، منقذة لهن من هوان استخدامهن معابر لكل زير نساء، على أية حال لم يعد الاقتصار على الزوجة الواحدة شارة تخجل حاملها. فقد اكتشف الفاسقون من جديد بعد أن تزوجوا مباهج قديمة في الحياة الأسرية، وأنه خير للرجل أن يسبر أغوار الوحدة، من أن يظل طوال حياته يعبث بسطح التعدد والتنويع. واستقرت نسوة كثيرات بدأت حياتهن بنزق وطيش كأنهن سطوح لا عمق فيها-حين أنجبن، وأرضع بعضهن أطفالهن حتى قبل أن يحثهن على ذلك روسو، وكثيراً ما كان هؤلاء الأطفال يردون هذا الصنيع بعد أن ترعرعوا في ظل محبة الأم، باهتمام البنين بوالديهم. ومن أمثلة ذلك أن المرشالة دلكسنبورج أصبحت زوجة مثالية بعد شبابها المغامر، وأخلصت لزوجها وهي ترعى روسو في حنان كأنها أمه. وحين مات الكونت دموريا (1781) بعد أن خدم لويس الخامس عشر والسادس عشر وعانى آلام النفي الطويل فيما بين فترتي وزارته، ذكرت زوجته أنهما "أنفقا معاً خمسين عاماً دون أن يفترقا يوماً واحداً"(7). ونحن نسمع الكثير جداً-والمؤلفان قد تكلما كثيراً جداً عن النساء اللاتي أفلحن في دخول التاريخ بفضل حنثهن بعهود الزواج، ولا نسمع إلا القليل جداً عن أولئك النسوة اللاتي امتنعن عن الخيانة حتى ولو خانهن رجالهن. مثال ذلك أن الآنسة كروزا، التي خطبت وهي في الثانية عشرة للرجل الذي أصبح فيما بعد الدوق دشوازيل، احتملت في صبر هيامه بأخته الطموح، ورافقته في منفاه؛ فأشاد بقداستها حتى ولبول "المرقع". ولم تفتر محبة الدوقة درشليو لزوجها طول خياناته الزوجية، وكانت شاكرة لأن القدر سمح لها بأن تموت بين ذراعيه(8).
وظلت الانحرافات، والمطبوعات الفاجرة، والبغاء على ما عهدنا. كان القانون الفرنسي ينص على الإعدام عقاباً للواط، وحدث فعلاً أن لوطيين أحرقا في ميدان جريف عام 1750(9). ولكن القانون كان عادة يتجاهل اللواط الاختياري بين البالغين(10). وكانت الأخلاق الاقتصادية على حالها اليوم، وليلاحظ القارئ الفقرة الواردة في كتاب روسو "إميل"(11). (1762) عن غش الطعام والخمور. وكانت الأخلاق السياسية على حالها اليوم، كان هناك الكثيرون من خدام الشعب المخلصين (مالزيرب، وطورجو، ونكير)، ولكن كثيرون أيضاً ممن وصلوا إلى مناصبهم بالمال أو الاتصالات، وأثروا في المنصب متجاوزين في ذلك نص القانون. وعاش كثيراً من النبلاء العاطلين عيشة الترف على دماء فلاحيهم، ولكن بر الحكومة الأفراد بالناس كان كثيرا.
وكان فرنسيو القرن الثامن عشر في جملتهم شعباً لطيفاً رغم ناموس من الأخلاق الجنسية انتهك المعايير المسيحية بصراحة. فأنظر كم من الناس خفوا لنجدة روسو وتعزيته رغم صعوبة إدخال البهجة على نفسه؛ وكثيراً ما كان هؤلاء القوم الكرام ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية التي سبها. وكانت الشهامة قد اضمحلت في علاقة الرجل بالنساء، ولكنها ظلت حية في معاملة الضباط الفرنسيين لأسرى الحرب الذين من طبقتهم. كتب سموليت الخصم النزق في رحلة له بفرنسا عام 1764 يقول: "إني أخص الضباط الفرنسيين بالاحترام لشهامتهم وبسالتهم، ولاسيما للروح الإنسانية السمحة التي يعاملون بها أعداءهم، حتى وسط أهوال الحرب(12)". وقد صور جويا قسوة الجنود الفرنسيين على العامة الأسبان في حروب نابليون، ولكنه كان في أغلب الظن مبالغاً. وما من شك في أن الفرنسيين كانوا يستطيعون أن يكونوا غاية في القسوة، ربما لأنهم تعلموا القسوة من الحرب وقانون العقوبات، كانوا صخابين يميلون للمشاجرات على نحو ما يفعل طلاب الكليات الذين يهاجمون خصومهم بالمدي، وللمشاغبات في الشوارع بديلاً عن الانتخابات، فيهم عنف ونهور، يندفعون إلى الخير أو الشر دون أن يضيعوا وقتاً في التروي. وفيهم شوفينية (غلو في الوطنية) لا يستطيعون أن يفقهوا لم كان سائر
البشر من الهمجية بحيث يتحدثون بلغة غير فرنسية. وقد أبت مدام دنيس أن تتعلم الكلمة الإنجليزية "الخبز"-لم لا يستطيعون كلهم أن يقولوا Pain؟(13) ولعلهم أحبوا مجد وطنهم أكثر مما أحبه أي شعب آخر. وعما قليل سيموتون بالألوف المؤلفة وهم يهتفون "يحيى الإمبراطور". وقد بز الفرنسيون بالطبع غيرهم من الشعوب في آداب السلوك. صحيح إن تقاليد الأدب التي أرسيت في عهد لويس الرابع عشر لوثها النفاق، والكلبية، والسطحية، ولكنها ظلت في جوهرها حية، وأضفت على الحياة بين الطبقات المتعلمة كياسة لا قدرة لأي مجتمع أن يضارعها اليوم. قال كازانوفا "إن في الفرنسيين أدباً جماً وتلطفاً كثيراً يجذب إليهم المرء للتو" ولكنه أضاف أنه لم يستطع قط أن يثق بهم(14).
وقد تفوقوا على غيرهم من الشعوب في النظافة، فأصبحت في المرأة الفرنسية إحدى الفضائل الأساسية التي تمارسها حتى الموت. وكان من حسن الأدب نظافة الملبس وأناقته. وكان رجال الحاشية ونساؤها يخرجون أحياناً على أصول الذوق السليم بالإسراف في اللبس الفاخر أو الغلو في تصفيف شعورهم. وأرسل الرجال شعورهم في ضفائر، وهي عادة استهجنها المرشال دساكس لخطرها في الحرب لأنها تمكن العدو من صاحب الشعر؛ ثم يبدرون الشعر بنفس العناية التي يبدر بها نساؤهم شعورهن. وغالت النساء في رفع شعورهن حتى خشين الرقص مخافة أن يلتقطن النار من الثريات. وقد قدر زائر فرنسي أن ذقن إحدى السيدات الفرنسيات يقع تماماً في منتصف المسافة تماماً بين قدميها وقمة شعرها(15). وجنى الحلاقون الأموال الطائلة بكثرة تغيير موضات الشعر. ولم تمتد النظافة إلى شعر المرأة، لأن تصفيفه كان يستغرق الساعات، واحتفظت جميع النساء-إلا أشدهن غلواً في التبرج-بنفس التسريحة أياماً دون أن يمسها مشط. وحملت بعض السيدات مكاشط من العاج، أو الفضة، أو الذهب، يحككن بها رؤوسهن في رشاقة ساحرة.
وكان ماكياج الوجه معقداً تعقيده اليوم. كتب ليويولد موتسارت إلى زوجته من باريس في 1763 يقول: "تسألين هل النساء الباريسيات جميلات. ولكن كيف السبيل إلى معرفة هذا إذا كن مزوقات كعرائس نورمبرج، ممسوخات بهذه الحيلة المنفرة نسخاً تعجز معه عينا الألماني الساذج عن التعرف على امرأة ذات جمال طبيعي إذا رآها(16)"؟ وكان النساء يحملن مساحيق الزينة معهن، ويجملن بشرتهن من جديد علانية من غير حياء شأنهن اليوم. وقد حمرت مدام دموناكو وجهها قبل أن تركب لتقطع الجيلوتين رأسها. وكانت جثث الموتى تجمل، وتبدر، وتحمر؛ كما في زماننا. أما ثياب النساء فكانت مزيجاً متحداً من الإغراءات والمعوقات: فيه فتحات النحور الواطئة، والصدارات المخرمة، والجواهر التي تخطف الأبصار، والتنانير الكبيرة الفضفاضة، والأحذية العالية الكعوب المصنوعة عادة من التيل أو الحرير. وانتقد بوفون وروسو وغيرهما لبس المشدات، ولكنها ظلت ضربة لازب حتى أطاحت بها الثورة. وكان تنوع الحياة الاجتماعية ومرحها من مفاتن باريس. فكانت مقاهي بروكوب، ولا ريجانس، وجرادو، تستقبل رجال الفكر والثوار، والأثرياء، من الرجال الباحثين عن اللهو، والنساء الباحثات عن الرجال. أما نجوم الأدب، والموسيقى، والفن، فكانوا يسطعون في الصالونات. وأبهج أقطاب النبالة أو الثروة فرساي وباريس بالمآدب والاستقبالات والمراقص. وكانت الفنون بين علية القوم تشتمل على الأكل والحديث. وكان المطبخ الفرنسي مثار حسد أوربا. وكان الحديث الفرنسي الذكي الظريف قد بلغ الآن من الصقل مبلغاً استنزف فيه كل المواضيع، فقام الضجر على الإشراق، واضمحل فن الحديث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ فرفعت الخطابة من حرارته فوق ما ينبغي، وسبق المتكلمون السامعين، وابتذلت النكتة الذكية نتيجة إسرافها ولدغاتها المستهترة. وقد ذكر فولتير-الذي كان هو ذاته قادراً على اللدغ-باريس بأن النكتة إذا خلت من اللياقة كانت الفجاجة بعينها(17)، وذهب لاشولتيه إلى أن "الولع بالتظرف...أقصى العلم والثقافة الصحيحة عن الصالونات(18)".
وكان الناس يتمشون الهوينا في الحدائق العمة-التي لقيت النظافة والتشذيب وحفلت بالتماثيل-أو يتبعون أطفالهم أو كلابهم، والفتيان الطائشون المرحون يطاردون الصبايا البارعون في التراجع عديم الجدوى. وأغلب الظن أن حدائق التويلري كانت يومها أبدع منها الآن فلنستمع إلى وصف مدام فيجيه-لوبرون:
"كانت دار الأوبرا قريبة في تلك الأيام؛ على حافة الباليه-رويال. وكان التمثيل في الصيف ينتهي في الثامنة والنصف؛ فيخرج علية القوم حتى قبل النهاية للتمشي في أرجاء الحديقة. وراج بين النساء أن يحملن طاقات زهر كبيرة كانت هي والبودرة المعطرة التي في شعرهن تملأ الجو عبيراً بكل معنى الكلمة.و أنا أعلم أن هذه الاجتماعات كانت قبل الثورة تمضي حتى الثانية صباحاً ثم كانت هناك حفلات موسيقية على ضوء القمر في الهواء الطلق....وكان يحتشد في المكان جمع كبير على الدوام(19)".
الموسيقى
اتخذت فرنسا من الموسيقى جزءاً من "مرحها الباريسي" فهي لم تعبأ بمنافسة ألمانيا في القداسات والكورالات الجادة، وقد تجاهلت موتسارت تقريباً حين وفد على باريس، ولكنها نسيت التعصب لوطنيتها حين افتتنت آذانها بالألحان الإيطالية. وجعلت من موسيقاها "مهرجانات ترفيه"، وتخصصت في ألوان تناسب الرقص أو تذكر به-كالكورانت، والسربنده، والجيج، والجافوت، والمنويت. وكانت المرأة المحور الذي تدور حوله الموسيقى كما دارت أخلاقها، وعادتها، وفنونها، وكثيراً ما اتخذت أسماء تذكر بصورتها-كالساحرة، والساذجة، وميمي وكاروين دستير.
وأحب القوم الأوبرا التهريجية في فرنسا، كما أحبوها في إيطاليا، أكثر من الأوبرا الجادة قبل أن يأتي جلوك (1773). وكانت فرقة سميث نفسها الأوبرا كوميك قد استقرت في باريس عام 1714؛ وفي 1762 اتحدت مع فرقة الكوميدي الإيطالية. وفي 1780 انتقلت هذه الأوبرا كوميدي الموسعة إلى مقر دائم لها في صالة فافار. أما صاحب الفضل في ازدهارها فهو فرانسوا أندريه فيليدور، الذي جاب أوربا بطلاً من أبطال الشطرنج، وألف خمساً وعشرين أوبرا، كلها تقريباً هزلية، مثل "سانشوبانسا"، "وتوم جونس" ولكن فيها ذوق سليم وفن رفيع. وقد نسيت الآن أوبراته، ولكن "دفاع فيليدور" "وتراث فيليدور" ما زالا يذكران بوصفهما نقلتين كلاسيكيتين في لعبة الشطرنج وكان الباليه فاصلاً محبباً يتخلل الأوبرا الفرنسية؛ هنا وجدت الرشاقة الفرنسية مجالاً آخر؛ وغدت الحركة شعراً، وقد كتب جان جورج نوفير، أستاذ الأوبرا في دار أوبرا باريس، رسالة كانت يوماً ما مشهورة عن ألحان الرقص-"رسائل في الرقص والباليه" (1760)، وقد مهدت الطريق لإصلاحات جلوك بدعوتها إلى الرجوع للمثل الإغريقية في الرقص، بما فيها من طبيعة الحركة، وبساطة اللباس، وتأكيد على الدلالة الدرامية لا الأشكال التجريدية أو براعات العازفين.
وأصبحت الحفلات الموسيقية العامة الآن جزءاً من الحياة في جميع مدن فرنسا الكبرى. ففي باريس ضربت "الفرقة الموسيقية الروحية" (التي أنشئت بالتوبلري في 1725) مثلاً رفيعاً في الموسيقى الآلية. وبينما كانت الأوبرا-كونيك تمثل مسرحية برجوليزي "لاسيرفا يادورنا" كانت فرقة الكونسير تعزف ترنيمة "ستابات ماتر" (وهي ترنيمة لاتينية عن حزن مريم على المسيح المصلوب) التي أحسن الجمهور استقبالها فظلت تتكرر سنوياً حتى عام 1800(20). وكانت لفرقة الكونسير الفضل في تحديد هاندل، وهيدن، وموتسارت، وجومللي، ويتشيني، والباخيين، إلى الجماهير الفرنسية، وإتاحة فرصة الظهور لكبار عازفي ذلك العهد.
وقد أجمع هؤلاء العازفون الزائرون على أمر واحد، هو تخلف فرنسا في الموسيقى عن ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وشاطرهم جماعة الفلاسفة هذا الحكم. فكتب جريم (وهو ألماني) "من الأسف أن القوم في هذا البلد
لا يفهمون من الموسيقى غير القليل جداً(21)". وكان يستثني الآنسة فل، التي تغني بحنجرة بديعة. ووافق جريم روسو وديدرو على طلب "الرجوع إلى الطبيعة" في الأوبرا، وتزعم ثلاثته الحزب الإيطالي في "حرب المهرجين" تلك التي كانت قد بدأت بتقديم أوبرا تهريجية مثلتها فرقة إيطالية في باريس. وقد سبقت الإشارة إلى هذا الجدل الذي نشب بين المذهبين الموسيقيين الفرنسي والإيطالي، ولم يكن قد انتهى بعد، فمازال ديدرو يخوض حرب المهرجين في قصته "ابن أخي رمو"، وفي "حديث ثالث حول الابن الطبيعي" (1757) وطالب بمنقذ يخلص الأوبرا الفرنسية من الخطب الطنانة والأساليب المفتعلة "ألا فليتقدم ذلك الذي عليه أن يعرض المأساة الصحيحة، والملهاة الصحيحة؛ عن المسرح الغائي؛ وضرب مثلاً لنص صالح "إفجينا في أوليس" لبوربيديس(22). ترى هل سمع هذا النداء جلوك، الذي كان يومها في فينا؛ أما فولتير فقد كرره في 1761 متنبئاً: "أننا نأمل أن يظهر عبقري أوتي من القوة ما يحول بين الأمة عن هذه الآفة (آفة التصنع والتكلف) ويضفي على الإخراج المسرحي...الكرامة والروح الخلقية التي يفتقر إليها الآن...أن سيل الذوق الفاسد متدفق؛ وهو يغرق على غير وعي منا ذكرى ما كان يوماً ما مجد هذه الأمة. ولكنني أكرر ثانية: يجب إرساء الأوبرا على أساس مختلف؛ حتى لا تعود مستأهلة لذلك الاحتقار الذي تنظر به إليها كل أمم أوربا(23)". وفي 1773 وصل جلوك إلى باريس، وفي 19 إبريل 1774 قاد هناك أول أداء فرنسي "لافجينيا في أوليس". ولكن هذه القصة يجب إرجاؤها إلى حينها المناسب.
المسرح
لم تنتج فرنسا في هذه الفترة تمثيليات تتحدى النسيان-ربما باستثناء بعض التمثيليات التي بعث بها فولتير من ليدليس أو فرنيه. ولكن فرنسا منحت الدراما كل تشجيع سواء في العرض أو الاستحسان. ففي 1773 أقام فكتور لوي في بوردو أجمل مسرح في المملكة، له رواق فخم من الأعمدة الكونية، ودربزين كلاسيكي، وزخارف منحوتة. أما الكوميدي-فرانسيز، التي أقر جاريك بأنها خير الفرق التمثيلية في أوربا، فقد أنزلت "التياتر-فرانسيه" الذي شيد عام 1683 في شارع فوس، بسان-جرمان-دي-بريه: ثلاثة صفوف من الشرفات في مستطيل ضيق فرض الإلقاء الخطابي وقرر الأسلوب الخطاب للتمثيل في فرنسا. وعرضت مئات الأسر مسرحيات خاصة، من فولتير في فرنيه إلى الملكة في تريانون-حيث لعبت ماري أنطوانيت دور كوليت في مسرحية روسو "قسيس القرية" وحيث كان "أكثر من عشر نساء من علية القوم يمثلن ويغنين خيراً من أي ممثلات ومغنيات في الملهى"(24) ونبتت في كل مكان في فرنسا "مسارح صغيرة". من ذلك أن ديراً برناردياً، قابعاً في غابات باريس بنى مسرحاً لرهبانه "دون علم من المتعصبين وأصحاب العقول الضيقة" (كما قال أحدهم). ولمع نجوم الكوميدي-فرانسيز فوق ربوع فرنسا رغم منافسة الفرق الهاوية. وقد رأينا كيف أقبل أهل جنيف وفرنيه ليروا الممثل لوكان يمثل لفولتير في شاتلين. أما اسمه الحقيقي فهو هنري-لوي كان Cain، (قابيل) ولكن هذا كان لقباً ملعوناً غيره وله العذر في تغييره. كذلك لم يجلب له وجهه الحظ، وقد استقرت الآنسة كليرون فترة حتى تأنس إليه ولو كان ذلك في تمثيليته، وكان فولتير قد أكتشف مقدرته في حفلة تمثيل للهواة، وعلمه، ووجد له مكاناً في التياتر-فرانسيه. وفي 14 سبتمبر 1750 استهل لوكان حياته المسرحية بدور تيطس في مسرحية فولتير "بروتس"، وظل طوال جيل بعد ذلك يمثل دور البطل في مسرحيات فولتير. وأحبه الشيخ الغضوب إلى النهاية.
على أن أحب من اعتلى مسرح فولتير إلى القلوب كانت الآنسة كليرون (بعد أن توفيت أدريين لكوفرير) وكان اسمها قانوناً كلير-جوزيف إيبوليت ليريس دلاتور. ولدت عام 1723 دون زواج شرعي بين أبويها.
ولم يتوقع أهلها أن تعيش، ولكنها عمرت إلى الثمانين-وما هذا العمر المديد بالشيء الذي تغبط عليه دائماً بطلات المسرح. ولم يرَ أهلها أنها تستحق عناء التعليم، ولكنها تسللت إلى التياتر-فرانسيه، وسحرتها المناظر والخطب المسرحية، ولم تتغلب قط تماماً على الميل للخطابة حتى وهي في نشوة الحب. وأعلنت أنها ستحترف التمثيل، فهددتها أمها بأنها ستكسر ذراعيها ورجليها إن هي مضت في إنفاذ هذه النية الآثمة،(26) ولكنها أصرت، وانضمت إلى فرقة تمثيلية متنقلة. وسرعان ما تخلقت بأخلاق مهنتها. "إنني بفضل موهبتي، وجمال، وسهولة الاتصال بي رأيت عدداً هائلاً من الرجال يركعون تحت قدمي، بحيث استحال عليّ وقد أوتيت قلباً رقيقاً بطبعه...أن أمتنع عن الحب"(27). فلما عادت إلى باريس فتنت المسيو دلا بوبلنيير، وقد استمتع بها ثم استخدم نفوذه ليحصل لها على مكان في دار الأوبرا. وبعد أربعة شهور استطاعت دوقة شاتورو، خليلة الملك آنئذ: أن تدخلها فرقة الكوميدي فرانسيز. وطلبت إليها الفرقة أن تختار الدور الذي ستمثله أول مرة، متوقعة منها أن تجري على السنة المعهودة، فتختار دوراً صغيراً، ولكنها اقترحت أن تمثل دور فيدر، وعارضت الفرقة، ولكنها تركتها تنفذ مشيئتها، وتكللت مغامرتها بالنصر. وبعدها غدت نجم الأدوار المأساوية التي لم ينافسها فيها غير الآنسة دومنيل. وذاعت شهرتها بالفسق المقترن بشهوة الاقتناء. كانت ترفه عن لفيف من النبلاء؛ وتتقاضى منهم أجراً طيباً، وتجمع مكاسبها، ثم تعطي كثيراً منها لعشيقها المفضل الشفاليه دجوكور، الذي كان يحرر مقالات في الاقتصاد للموسوعة. كذلك دفعت ثمناً لملاطفة مارمونتل، الذي سنلتقي به عما قليل مؤلفاً لكتاب "الحكايات الخلقية". تأمل جانب المرأة في هذا الحب في خطابها له: "أممكن أنك لم تعرف أي معاناة سببتها لي (على غير عمد منك، ولكنني كابدتها رغم ذلك)، وأن هذه المعاناة ألزمتني الفراش ستة أسابيع وأنا في خطر كبير؟ لا أستطيع أن أصدق أنك كنت عليماً بهذا، وإلا لما ذهبت في صحبة بينما الناس جميعاً يعرفون ما كنت فيه(28)". ومع ذلك ظلت هي ومارمونتيل صديقين حميمين ثلاثين عاماً.
وهو الذي حملتها انتقاداته مقترحاته على أن تحدث في التمثيل حدثا، ذلك أنها كانت إلى عام 1748 تجري على أسلوب ممثلي التياتل-فرانسيه في الحديث المفتعل العاطفي، والإيماءات الفخمة، والانفعالات المرتعدة، أما مارمونتيل فقد وجد هذا أمراً غير طبيعي يمجه الذوق. وكانت كليرون قد قرأت كثيراً وسط غرامياتها، وأصبحت من أفضل نسا جيلها تعليماً، وأدخلتها شهرتها ورجاحة عقلها حظيرة المجتمع المثقف، وأدركت أن أفرغ الطبول هو أعلاها صوتاً. وفي عام 1752 أكرهتها إصابة بالزهري على اعتزال المسرح حيناً. فلما أبلت قبلت عقداً بإحياء خمس وثلاثين حفلة في بوردو. روت أنها في أول ليلة مثلت فيها هناك لعبت دور فيدر بالأسلوب التقليدي. "بكل الضجيج والعجيج والحماقة التي كانت يومها تلقى الاستحسان في باريس" وصفق لها الجمهور استحساناً. ولكن في الليلة التالية لعبت دور أجرين في مسرحية راسين بريتا نيكوس بصوت هادئ وبحركات محسوبة، وكظمت الانفعالات حتى المشهد الأخير. وضج النظارة بالهتاف. فلما عادت إلى باريس كسبت جمهورها القديم لأسلوبها الجديد. وحبذ ديدرو هذا الأسلوب بحرارة. وكانت في ذهنه حين كتب "مفارقة الممثل" ومؤادها أن الممثل القدير هادئ متمالك نفسه في داخله حتى في أكثر لحظات أدواره انفعالاً، ثم تساءل أي تمثيل كان أروع من تمثيل كليرون(29). "وكانت تحب أن تصدم المعجبين بها فتروي لهم أنها تراجع ذهنها في فواتيرها الشهرية وهي تلقي على الجمهور من الأشجان ما يستدر دموعهم(30). ولم يرحب فولتير بالأسلوب الجديد، ولكنه أيدها تأييداً فعالاً كما أيدته هي في إصلاح ملابس المسرح وأثاثه. وكانت جميع الممثلات إلى ذلك الحين يلعبن أدوارهن-من أي أمة أو عصر-مرتديات زي باريس القرن الثامن عشر، في تنورات بأطواق موسعة وشعر مبدر، ولكن كليرون فاجأت جمهورها باتخاذ زي زمان المسرحية لجسمها وشعرها، فلما لعبت دور إيدامي في تمثيلية فولتير "يتيمة الصين" كانت الثياب والأثاث صينية.
وفي 1763 ذهبت كليرون إلى جنيف لتستشير الدكتور ترونشان. وطلب إليها فولتير أن تمكث معه في فيلا دليس. "إن مدام دنتس مريضة، وكذلك أنا. وسيحضر مسيو ترونشان إلى مستشفانا ليعودنا نحن الثلاثة(31)" وأتت وأعجب بها الحكيم العجوز إعجاباً حمله على إغرائها بزيارة أطول لفرنيه، وأقنعها بأن تشاركه في حفلات عديدة بمسرحه ويظهره رسم قديم وهو في السبعين من عمره راكعاً أمامها في اعتراف حار بالحب.
واعتزلت المسرح في 1766 وكانت صحتها قد اعتلت وهي بعد في الثالثة والأربعين، بل لم تعد قادرة على التحكم في حديثها، وهامت حباً بفتى نبيل أنيق كما فعلت لوكوفيير وباعت كل ممتلكاتها تقريباً لتنقذه من دائنيه ورد لها صنيعها ببذل حبه، ومالها لغيرها من النساء. ثم تلقت وهي في التاسعة والأربعين دعوة من كرستان فريدرش كارل الكسندر، حاكم آنزياخ وبابرويت البالغ من العمر ستة وثلاثين عاماً للعيش معه في آنزياخ ناصحة وخليلة. فذهبت (1773) وظلت محتفظة بسلطانها عليه ثلاثة عشر عاماً. وكان قد تشرب في فرنسا بعض مثل التنوير، وبتشجيع منها أجرى عدة إصلاحات في إمارته، فألغى التعذيب وأقر الحرية الدينية. وكانت آخر مآثرها أن أقنعته بأن ينام كل ليلة مع زوجته. وبمضي الوقت أصاب الملل كليرون فتاقت إلى باريس فكان الأمير يصحبها إليها بين الحين والحين. وفي إحدى هذه الرحلات أتخذ خليلة جديدة، وترك كليرون في باريس بعد أن أجرى عليها معاشاً طيباً وكانت الآن في الثالثة والستين.
ولقيت الترحيب في الصالونات، حتى من مدام نكير الفاضلة، وأعطت الدروس في الإلقاء للفتاة التي أصبحت فيما بعد مدام دستال. واتخذت عشاقاً جدداً منهم الرجل الذي تزوج بعد ذلك مدام دستال ذاتها التي سرها التخلص منه. وقد رتب للممثلة العجوز معاشاً مريحاً، ولكن الثورة اختزلت معاشها فعاشت في ضنك حتى زاد نابليون معاشها في 1801. وفي ذلك العام عرض عليها رجل يدعى المواطن دوبواربيه غراماً أخيراً. فثبطت عزيمته بخطاب مؤلم يلخص مأساة الكثير من الممثلات العجائز. قالت "لعل ذاكرتك ما زالت تتخيلني مشرقة، فتية، محاطة بكل مظاهر سمعتي الماضية. ولكن عليك أن تراجع أفكارك. فأنا لا أكاد أبصر، وسمعي ثقيل ولم يعد لي أسنان، ووجهي كله غضون، وجلدي الذي جف بالجهد ليكسو هيكلي الضعيف(32)". ومع ذلك أتى وعزى أحدهما الآخر باسترجاع ذكرى شبابهما. ثم ماتت عام 1803 إثر سقوطها من فراشها. وكانت قد خلفت ورائها منذ سنين طويلة الدراما المأساوية الكلاسيكية التي أشاد فولتير، أعظم كتابها في القرن الثامن عشر، بكليرون معبرة عنها لا ضريب لها. فقد أتخم جمهور باريس، وكثرتهم من الطبقة الوسطى، بالخطب المسجوعة يلقيها الأمراء، والأميرات، والملوك، وبدت تلك البحور "الإسكندرية" بحور كوريني وراسين التي تمشي مختالة على ست أقدام (أي تفاعيل)-بدت الآن رمزاً للحياة الأرستقراطية، ولكن أليسَ في التاريخ سوى النبلاء؟ بلى بالطبع. ورجل كموليير أبرز هؤلاء من قبل، ولكن في الملهاة، أفليسَ هناك مآسِ من المحن العميقة والمشاعر النبيلة في بيوت وقلوب البشر الذين تجردوا من الألقاب؟ ورأى ديدرو أن قد آن أوان درامات البرجوازيين، وقال أنه إذا كان النبلاء قد تجنبوا العاطفية، واشترطوا إلباس المشاعر قناعاً مهيباً، فإن على الدراما الجديدة أن تطلق الوجدان من عقاله وألا تخجل من إثارة أشجان الجمهور وإدرار دموعه. وهكذا كتب هو وغيره من بعده "مسرحيات باكية".
يضاف إلى هذا أن العديد من كتاب المسرحيات الجدد لم يكتفوا بتصوير حياة الطبقة الوسطى والإشادة بها، بل هاجموا النبلاء، والكهنة، وحتى الحكومة آخر الأمر-هاجموا فسادها، وضرائبها، وبذخها، وإسرافها، ولم يقتصروا على التنديد بالاستبداد والتعصب (فقد أجاد فولتير هذا التنديد من قبل) بل امتدحوا الجمهوريات والديمقراطية، ولقيت تلك الفقرات أشد الاستحسان من النظارة(33) وشارك المسرح الفرنسي عشرات القوى الأخرى في الإعداد للثورة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مارمونتيل
كتب هوراس ولبول من باريس في 1765 يقول "إن المؤلفين في كل مكان" وأنهم "أسوأ من كتاباتهم، ولست أقصد بهذا ثناء على الكتاب أو ما يكتبون(34)" ولا ريب في أن ذلك العصر لم يكن ليضارع في الأدب عصر فولتير وراسين؛ ولا عصر هوجو وفلويير وبلزاك، ففي هذه الفترة القصيرة بين 1757 و1774 ليس لدينا من الكتاب الجديرين بالذكر سوى روسو ومارمونتيل، والجمرات الحية من نار فولتير، وغليان ديدرو الدفين غير المنشور. ذلك أن الرجال والنساء أسلموا أنفسهم بقوة للحديث حتى كلت قرائحهم قبل أن يعتادوا الكتابة. وانقضى زمان العقل الأرستقراطي، واستأثرت الفلسفة والاقتصاد والسياسة بالجو، وتغلب المضمون الآن على الشكل. لا بل إن الشعر نزع إلى الدعاية. فقد قلدت قصيدة سان-لامبير "الفصول" (1769) جيمس طومسن، ولكنها نددت بالتعصب والترف تنديداً في غير أوانه، وتمثلت الشتاء-كما تمثله الملك لير-عواصف ثلجية تقصف حول أكواخ الفقراء.
ويدين جان-فرنسوا مارمونتيل في صعود نجمه لدهائه، وللنساء، ولفولتير. ولد في 1723ز وقد كتب في شيخوخته "مذكرات أب" (1804) وهي تعطينا صورة رقيقة لطفولته وشبابه. ومع أنه اعتنق الشكوكية وكاد يعبد فولتير، إلا أنه لم يذكر إلا بالخير أهله الأتقياء الذين ربوه، واليسوعيين العطوفين المخلصين الذين علموه. وقد أحبهم حباً جماً حمله على أن ينذر نفسه لله، وتطلع إلى الانضمام إلى رهبنتهم، وعلم في مدارسهم بكليرمون وتولوز. ولكنه كالكثيرين من أفراخ اليسوعيين، طار بعيداُ على أجنحة التنوير، وفقد على الأقل عذريته الفكرية. وفي 1743 قدم أبياتاً من شعره على فولتير فاستمتع بقراءتها أيما استمتاع، وأرسل إلى مارمونتيل مجموعة من أعماله صححها بيده. واحتفظ الشاعر الشاب بها ميراثاً مقدساً. وأقلع عن كل تفكير في احتراف القسوسة، وبعد عامين حصل له فولتير على وظيفة في باريس، وعلى إذن بدخول التياتر-فرانسيه مجانا، لا بل إن فولتير، بما في قلبه-قلب الأب المحروم من البنين-من طيبة مستنيرة باع قصائد مارمونتيل وبعث إليه بحصيلة البيع. وفي 1747 قبلت تمثيلية مارمونتيل "دنيس الجبار" (دبونيسيوس)-التي أهداها إلى فولتير، وأخرجت على المسرح؛ وحققت نجاحاً لم يحلم به "فقد أصبح مشهور وغنياً في يوم واحد".(35) وسرعان ما أصبح سبعاً صغيراً من سباع الصالونات، فطعم على موائدها، ودفع الثمن ذكاء وظرفاً، ووجد سبيلاً إلى فراش كليرون.
وآتته تمثيليته الثانية "أريستومين" بمزيد من المال، والأصدقاء، والخليلات. وفي ندوات مدام دتنسان التقى بفونتنبل، ومونتسكيو، وهافتيوس، وماريفو، وعلى مائدة البارن دولياخ سمع ديدرو، وروسو، وجريم. وشق طريقه صعداً في المجتمع تحدوه يد النساء المرشدة. وأدخل إلى البلاط بعد أن مدح لويس الخامس عشر بأبيات ذكية. وافتتنت بومبادور بوجهه المليح وشبابه المتفتح، فأقنعت أخاها بأن يستخدمه سكرتيراً، وفي 1758 عينته محرراً للجريدة الرسمية "مركير دفرانس" وكتب نصوصاً لرامو، ومقالات للموسوعة. وأعجبت به مدام جوفران إعجاباً حملها على أن تقدم له مسكناً مريحاً في بيتها، حيث عاش عشر سنوات ضيفاً بالأجر. وقد كتب لصحيفة المركير (1753-60) سلسلة من "الحكايات الأخلاقية" رفعت تلك الدورية إلى مقام الأب. ومن إحدى هذه الحكايات تكون فكرة عنها كلها. فسليمان الثاني، بعد أن مل المباهج التركية، يطلب ثلاث حسان أوربيات. أما الأولى فتقاوم شهراً، ثم تستسلم أسبوعاً ثم تنحى جانباً. وأما الثانية فتغني غناء رخيماً، ولكن حديثها منوم. وأما الثالثة-روكسالانا-فلا تكتفي بالمقاومة، بل تسب السلطان لأنه داعر مجرم ويصيح السلطان "أنسيت من أنا ومن أنتِ؟ وتجيب روكسالانا "أنت أقوى؛ وأنا جميلة؛، فنحن إذن صنوان". وهي ليست بارعة الجمال، ولكن لها أنفاً أخنس (مرتفع الأريبة)، وهو يغلب السلطان على أمره. فيحاول بكل الحيل أن يكسر مقاومتها ولكنه يخفق. ويهدد بقتلها، فتقترح أن تعفيه من هذا العناء بالانتحار. وسبها فتسبه سباً أقذع. ولكنها تخبره أيضاً أنه جميل، وأنه لا يحتاج إلا لإرشادها لك يصبح في روعة الفرنسيين. فيغتاظ ويبتهج. وأخيراً يتزوجها ويجعل منها ملكة. وفي أثناء حفل الزفاف يسأل نفسه "أممكن أن يطيح أنف أخنس صغير بقوانين إمبراطورية؟(36) والعبرة عند مارمونتيل: إن صغار الأشياء هي التي تحدث جلائل الأحداث،ولو عرفنا تلك التوافه الخفية لراجعنا التاريخ مراجعة كاملة. وسارت الأمور كلها تقريباً رخاء مع مارمونتيل إلى أن نشر (1767) قصة سماها "بيليزيز" وكانت قصة ممتازة؛ ولكنها دافعت عن التسامح الديني، وتشككت في "حق السيف في أن يبيد الهرطقة، والإلحاد، وعدم التقوى، وأن يضع العالم كله تحت نير الدين والحق(37)". وأدانت الصوربون الكتاب لاحتوائه على تعليم يستحق الشجب. ومثل مارمونتيل أما عميد الصوربون واحتج عليه قائلاً "قل لي يا سيدي، ألست تدين الآن روح العصر لا روحي(38)،" وظهرت روح العصر في جرائه، في اعتدال العقوبة. ولو نشر قصته تلك قبل عشر سنوات لزج به في الباستيل ولصودر-كتابه؛ أما الآن فالذي حدث هو أن القصة راجت رواجاً كبيراً؛ وظلت تحمل "إذن الملك وامتيازه" واكتفت الحكومة بالتوصية بأن يلزم الصمت حول الموضوع(39)، على أن مدام جوفران انزعجت كثيراً حين لم يقتصر الأمر في قرار الصوربون بمصادرة الرواية على قراءته في الكنائس، بل تجاوزه إلى تعليقه على باب بيتها. فاقترحت على مارمونتيل في لطف أن يبحث عن مسكن آخر.
ووقع واقفاً كالعادة. ففي 1771 عين مؤرخاً رسمياً ملكياً براتب حسن، وفي 1783 أصبح السكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية، وفي 1786 عين أستاذاً للتاريخ في الليسيه. وفي 1792 حين كان في التاسعة والستين وقد قززته انحرافات الثورة، اعتكف في أفرو؛ ثم في لأبلو فيل؛ وهناك كتب "مذكراته" التي أغتفر فيها حتى للصوربون إساءاتها. وقضى سنواته الأخيرة في فقر لا يشكو ولا يتذمر، شاكراً لأنه عاش حياة غنية ممتعة. ومات في آخر يوم في عام 1799.
حياة الفن
النحت
كان الملك ذواقة في الفن، وكذلك كان نبلاء بلاطه ونبيلاته، والمليونيرات الذين كانوا الآن يتحرقون شوقاً للهيمنة على الدولة. وكان حدثاً هاماً في لتاريخ الفرنسي أن تبدأ مصانع سيفر، التي أسستها مدام دبومبادرو من قبل، إنتاج الخزف الصيني القاسي العجينة عام 1769؛ ومع أن الألمان في درسدن ومايسن قد فعلوا هذا قبل ستين عاماً، فأن منتجات سيفر سرعان ما كسبت سوقاً أوربية. ولم يرَ كبار الفنانين أمثال بوشيه، وكافييري، وباجو، وبيجال، وفالكونيه، وكلودين، ما يغض من قدرهم في رسم التصميمات لصيني سيفر. واستمر خزافو سيفر، وسان كلو، وشانتيي، وفانسين، في إنتاج القاشاني والصيني الطري العجينة في رسوم غاية في الإتقان. وتضافرت مهارات الخزافين، وصناع المشغولات المعدنية والأثاث الخشبي وقطع النسيج المرسومة، لتجميل الحجرات الملكية وغرف النبلاء وأقطاب المال. وكانت الساعات الجدارية، كتلك التي صممها بوازو وصبها جرتيير بالبرونز(40) إحدى حليات العصر المميز. وأبدع بيير جونتير وجاك كافييري في صناعة "الأورمولو" ومعناه الحرفي "الذهب المطحون"، وهو في حقيقته سبيكة أهم مكوناتها النحاس الأحمر والزنك، تنقش وترصع بالجواهر ويكفت بها الأثاث. وألف كبار صناع الأثاث نقابة قوية تعتز بنفسها، اشترط على أعضائها أن يختموا إنتاجهم بأسمائهم علامة على مسئوليتهم عنه. وكان خيرهم في فرنسا وافداً من ألمانيا: جال فرانسوا أوبن وتلميذه جان-هنري ريزنر، وسخر هذان مهارتهما في صنع مكتب فخم للملك لويس الخامس عشر (1769)، وهو تحفة روكوكية معربدة من رسوم ونقوش وتطعيم وتذهيب دفع الملك 63.000 ليرة ثمناً لها.
وقد استمتع بها نابليون الأول ونابليون الثالث، وسلمت إلى اللفور في 1870 وتقدر الآن بخمسين ألفاً من الجنيهات(41). في هذا العهد الذي علق مثل هذه الأهمية على القيم اللمسية، كان النحت يقدر بقدره الكلاسيكي تقريباً، فالشكل لبه، وكانت فرنسا تعلم أن الشكل، لا اللون، هو روح الفن. وهنا أيضاً فاقت النساء الآلهة، لا في عيوب الواقع الطبيعية، بل في المثالي من الأشكال والثياب التي استطاع النحاتون المرهفوا الحس أن يؤلفوا بينها ويصوروها. ولم يزين النحت القصور والكنائس فحسب، بل الحدائق والمتنزهات العامة. وكانت التماثيل التي أقيمت مثلاً في حدائق التويلري من أحب التماثيل إلى الناس في باريس، وقلدت بوردو، وناسي، ورين، ورامس، باريس في التراكوتا (الطين النضيج) والرخام والبرونز.
وأخرج حيوم كوستو الثاني الآن أروع إنتاجه (وكان يصغر العهد بسنة واحدة فق) ففي 1764 عهد إليه فردريك الثاني بنحت تماثيل لفينوس ومارس إله الحرب، وفي 1769 أرسلها كوستو إلى بوتسدام لقصر صانسوسي. كذلك بدأ في 1769 تحت المقبرة الفخمة المشيدة للدوفين والدوفينة (والدي لويس السادس عشر) كاتدرائية صانس،وعكف على هذا العمل بهمة إلى أن مات (1777). ورأى في أخريات عمره أربعة نحاتين من ألمع من عرفتهم فرنسا إلى يومنا هذا، وهم بيجال وفلاكونيه، وكافييري، وباجو.
أما بيجال فقد قصد روما على نفقته، يعينه على ذلك كوستو، بعد أن أخفق في نيل "الجائزة الكبرى" التي تُدفع لنائلها مصروفات تعلمه الفن في روما، فلما عاد إلى باريس شق طريقه إلى أكاديمية النون الجميلة برائعته المسماة "عطارد يثبت خفية"، هذه الرائعة التي صاح الفنان للعجوز جان-باتست لموان حين رآها "وددت لو كنت راسمها" كذلك أعجب بها لويس الخامس عشر، وأرسلها إلى حليفه فردريك الثاني 1749. وقد وجدت سبيلها بطريقة ما عوداً إلى اللوفر، حيث نستطيع أن نتأمل المهارة الفائقة التي ألمع بها الفنان الشاب إلى لهفة الرسول الأولمبي على النهوض والانطلاق. ووافق فن بيجال مزاج مدم دبومبادور، فعهدت إليه بالكثير من المهام. وقد صنع لها تمثالاً نصفياً محفوظاً الآن بمتحف المتروبولتان للفن بنيويورك، وحين هدأ ما بينها وبين الملك من غرام مشبوب واستحال إلى صداقة، نحت لها تمثالاً على هيئه "ربة الصداقة" (1753).(45) وصنع تمثالاً للويس بوصفه مجرد "مواطن" للميدان الملكي برامس، وأتم تمثال بوشاردون "لويس الخامس عشر" للميدان الذي يسمى الآن ميدان الكونكورد. وصور ديدرو في البرونز، رجلاً تمزقه الفلسفات المتصارعة. ولكنه أطلق لنفسه عنان التمثيل في المقبرة التي نحتها لرفات المرشال دي دساكس بكنيسة القديس توما بستراسبوج-فهو المحارب العاشق يركب إلى الموت كأنه راكب إلى معركة ينتصر فيها.
أما أشهر التماثيل الذي كان حديث الناس في هذا العهد فذلك الذي اختارت صفوة مفكري أوربا بيجال لينحته لفولتير. وقد اقترحته مدام نكير في إحدى أمسياتها في 17 إبريل 1770 ورحب بالاقتراح جميع ضيوفها السبعة عشر (ومنهم دلامبير، موريلليه، ورينال، وجريم، ومارمونتيل) ودعي عامة الناس للمساهمة في النفقة. وأثيرت بعض الاعتراضات، إذ لم يكن من المألوف إقامة التماثيل لأي أحياء سوى الملك، ولم يصنع تمثال لكوريني أو راسين قبل موتهما. ورغم ذلك تدفقت التبرعات، حتى من نصف ملوك أوربا، وأرسل فردريك مائتي جنيه ذهبي لتخليد ذكرى صديقه وخصمه القديم. وأستأذن روسو في المساهمة، فأعترض فولتير ولكن دلامبير أقنعه بالموافقة. وعرض فريرون وبالايسو، وغيرهم من خصوم جماعة الفلاسفة أن يشاركوا في التحية، ولكن عرضهم رفض. ووضح أن الفلاسفة كانوا أبطأ من خصومهم مغفرة وصفحاً. أما فولتير نفسه فقد نبه مدام نكير إلى أنه لا يصلح موضوعاً لتمثال: "لقد بلغت السادسة والسبعين، ولم أكد اتماثل للشفاء من مرض عبث بجسدي وروحي عبثاً منكراً ستة أسابيع. ويقولون إن مسيو بيجال قادم ليصنع تمثالاً يحكي محياي. ولكن هذا يا سيدتي يقتضي أن يكون لي محياً، ومن العسير التكهن بالموضع الذي كان فيه هذا المحيا. فعيناني غائرتان ثلاث بوصات، وخداي من الرق البالي الملصق لصقاً سيئاً على عظام لا ترتكز على شيء، وقد فقدت الأسنان القليلة التي كانت لي. وليس كلامي هذا من قبيل التمنع، ولكنه الصدق الخالص. ولم ينحت قط تمثال لرجل مسكين في حالتي هذه، ولعل مسيو بيجال سيعتقد أنكم تهزؤون به، أما أنا فينبغي أن يكون عندي من حب الذات ما لا أجرؤ معه أبداً على الظهور في حضرته. ول شاء أن يضع حداً لهذه المهمة الغريبة لنصحته بأن يأخذ نموذجه، بتغيرات طفيفة، ومن تمثالي الصغير المصنوع من صيني سيفر(34)".
وضاعف بيجال المشكلة باقتراحه أن يصنع تمثالاً عارياً لذلك العفريت الأشهر، ولكنهم ثنوه عن هذا الرأي. وقصد فرنيه في يونيو، وجلس إليه الفيلسوف الخجول ثمانية أيام، في فترات متقطعة، ولكن في تململ شديد-يملي على سكرتير ويومئ للإيماءات وينفخ حبات البسلا على أشياء شتى في الهجرة-حتى قاربت أعصاب المثال على الانهيار(44). فلما عاد إلى باريس بقالب للتمثال عكف على مهمته شهرين، ثم أعلن النتيجة في 4 سبتمبر، وأقبل نصف الصفوة الممتازة يعجبون ويبتسمون. والتمثال يقوم الآن في دهليز مكتبة المعهد.
ولم يكن من مزاحم لبيجال في زعامة النحت في هذه الحقبة غير إيتيين موريس فلاكونيه، ويروي ديدرو قصة لطيفة عن خصومتهما، ذلك أن فلاكونيه الذي كان يصغر غريمه بعامين تجنب أول الأمر منافسته مباشرة، فكان يصنع التمثال من الصيني، وكان من أبهج هذه التماثيل تمثال "بجماليون" الذي صنعه دورو على تصميم فلاكونيل، وفيه تبدو دهشة النحات الإغريقي إذ ينحني تمثاله "غلاطية" المرمري للتحدث أليه. واستطاع ذاك التمثال أن يرمز إلى حقيقة أوشك الناس أن ينسوها، وهي أنه ما لم يتحدث إلينا العمل الفني فهو ليس بفن. فلما أطلع بيجال على هذه القطعة من الطين وقد تحولت إلى رمز خالد فاه بالثناء التقليدي يثني به فنان عظيم على آخر: "وددت لو كنت صانعه!" ولكن فلاكونيه لم يرد التحية بمثلها تماماً حين رأى تمثال بيجال "لويس الخامس عشر مواطنا" فقد قال "إني لا أحبك يا مسيو بيجال، وأعتقد أنك تبادلني هذا الشعور. وقد رأيت تمثال "المواطن" الذي صنعته، لقد كان ممكناً خلق هذا العمل، لأنك قمت بهذا فعلاً، ولكني لا أعتقد أن الفن يستطيع أن يجاوزه بخط واحد وهذا لا يمنعنا من أن نظل كما كنا"(45). وقد نغصت عيش فلاكونيه أربعون سنة من المحن قبل أن يظفر بالتقدير التام، فانطوى على نفسه وعاش في بساطة ديوجينية، وأصبح سريع الشجار، وغض من قدر فنه، وأعرب عن احتقاره للشهرة سواء في حياة صاحبها أو بعد موته. وأتته الشهرة آخر الأمر بتمثاله "المستحمة" (1757)-وهي مستحمة جميلة يجس حرارة الماء بأصابع قدمها.(46) وآنس إليه الآن مدام دبومبادور، فنحت لها "الحب الداهم" الذي يمثل كيوبيد يهدد بإطلاق سهم فيه عدوى الحب. وأصبح فلاكونيه حيناً في عالم النحت ما كانه بوشيه وفراجونار في عالم التصوير مبدعاً دغدغات فتانة مثل "فينوس وكيوبد"، "وفينوس تخلع ثيابها أما باريز".
وقد أبدع في تصميم الشمعدانات الزينية، والنوافير الصغيرة، والتماثيل الدقيقة، وحفر الرخام "ساعة ربات الحسن الثلاث" المحفوظة الآن في اللوفر، وأبهج بومبادور بتمثيلها في صورة الموسيقى(47)" وفي 1766 قبل دعوة كاترين الثانية له للذهاب إلى روسيا. وقد صنع في سانت بطرسبوج رائعة "بطرس الأكبر على جواد يخطر"، وشارك ديدرو وجريم حظوتهما عن الإمبراطورة، وعمل لها بهمة طوال اثني عشر عاماً، ثم تشاجر معها ومع وزرائها، ورحل في نوبة غضب عائداً إلى باريس. وفي 1783 أصيب بالفالج، ولزم حجرته في الأعوام الثمانية الباقية له، وقد زادت نظرته إلى الحياة اكتئاباً.
أما جان-جاك كافيري فكان في وسعه أن يكون أكثر بشاشة وانشراحاً لأنه ربي على النجاح في رعاية أبيه جاك، الذي كان من أئمة-صناع البرونز في العهد الأسبق. وقد شق طريقه مبكراً إلى أكاديمية الفنون الجميلة بتمثال عجوز لا تكسوه غير سبلة سماه "النهر". وكلفه مسرح الكوميدي-فرانسيز بتزيين قاعاته بتماثيل نصفية للمسرحيين الفرنسيين، فأبهج الناس جميعاً بتماثيله التي صورت كورنيي، ومولير وفولتير، في صور مثالية. أما رائعته فتمثال نصفي للكاتب المسرحي جان دروترو نقله عن حفر في حوزة الأسرة. وهو أشبه بدارتنيان في كهولته-شعر مرسل، وعينان متقدتان، وأنف مشاكس، وشوارب كثة، وهو من أبدع التماثيل النصفية في تاريخ النحت. وبدافع الغيرة من مسرح الكوميدي-فرانسيز، كلفت فرقة الأوبرا كافييري بأن ينحت التماثيل لأبطالها هي أيضاً، فصنع التماثيل النصفية للوللي ورامو ، ولكن هذه التماثيل اختفت. وبقيت لوحة جميلة "لفتاة صغيرة"(48). ربما كانت من أعضاء فريق باليه الأوبرا، وهي توفيق ساحر جمع بين العينين الخجولتين والصدر الناهد. أما أحب المثالين لمدام دوباري فهو أوجستن باجو. فبعد أن قضى الفترة المألوفة لتلمذة الفنانين في روما، حقق ثراءً مبكراً بما تلقى من مهام ملكية وتكليفات من خارج فرنسا. وقد صور الخليلة الجديدة في نحو اثنتي عشرة لوحة. ويرتدي التمثال المحفوظ باللوفر رداء كلاسيكياً منقوشاً نقشاً رائعاً. وصور بوفون للجاردان دروا بناءاً على طلب الملك(49)، ثم خلد ديكارت، وتورين، وبسكال، ونوسوبه، وأروع أعماله ما زال حياً في الصور البارزة التي حلى بها المقصورات في دار الأوبرا بفرساي. وعمر حتى قام بأعمال للويس السادس عشر وبكى على إعدام ذلك الملك، وشهد نابليون يبسط سلطانه الشامل على القارة.
العمارة
هل قامت في فرنسا خلال هذه الأعوام الثمانية عشر عمارة خالدة؟ لم يقم إلا القليل فالكنائس كانت أوسع من أن يملئها من بقي من المؤمنين، والقصور أخذت تثير غيرة الجماهير التي طحنها الجوع. وكان تجدد الاهتمام بالمعمار الروماني نتيجة للحفائر التي أجريت في هركولانيوم (1738) وبمبيي (1748-63) يدعم إحياء الطرز الكلاسيكية الخطوط ذات البساطة والوقار، وواجهة الأعمدة القوصرة، والقبة الفسيحة أحياناً. وكان جاك-فرنسوا بلودنل، الأستاذ بالأكاديمية الملكية للعمارة، نصيراً متحمساً لهذه الأشكال الكلاسيكية، وأصدر خلفه جوليان-دافيد لروا في 1750، رسالة سماها "أجمل آثار الإغريق" زادت من سرعة الانتشاء بهذه الآثار. وقد نشر آن-كلودتبيير، كونت دكايلوس، بعد أن ساح كثيراً في إيطاليا اليونان والشرق الأدنى (1752-67)، ثمانية مجلدات خطيرة سماها "مختارات من الآثار المصرية، والأتروسيكية، واليونانية، والرومانية، والغالية" موضحة بعناية ببعض رسومه؛ وتأثرت دنيا الفن الفرنسي كلها حتى السلوك الفرنسي، تأثراً قوياً بهذا الكتاب فمالت إلى نبذ شطحات الباروك ونزوات الروكوك رجوعاً إلى خطوط الطرز الكلاسيكية الأكثر نقاء. وهكذا نجد جريم يقول لقرائه 1763:
"ظللنا سنوات نبحث بحثاً جاداً عن الآثار والأشكال القديمة وأصبح الميل لها عاماً حتى عدا من الأمور المقررة الآن أن يؤدى كل شيء على الطريقة اليونانية ( La Gr(cque من العمارة إلى صنع القبعات، فنساؤنا يصففن شعورهن على الطريقة اليونانية، ووجهاؤنا يرونه عاراً إن لم يمسكوا علبة صغيرة على الطريقة اليونانية(50). أما ديدرو، رسول الرومانسية البرجوازية، فقد استسلم فجأة للموجة الجديدة (1765) حين قرأ ترجمة لكتاب وثكلمان "تاريخ الفن القديم" وكتب يقول "يخيل إليّ أننا يجب أن ندرس القديم لكي نتعلم رؤية الطبيعة"(51). وكانت هذه العبارة في حد ذاتها ثورة.
في 1757 بدأ جاك-جرمان سوفلو بناء كنيسة القديسة جنفييف، التي نذر لويس الخامس عشر خلال مرضه في متز أن يشيدها للقديسة راعية باريس حالما يتماثل للشفاء. وأرسى الملك بنفسه حجر الأساس، وأصبح بناء هذا الصرح "الحدث المعماري العظيم في النصف الثاني من القرن الثمن عشر" في فرنسا(52). وقد صممها سوفلو على شكل معبد روماني، برواق من قوصرة منحوتة وأعمدة كورنثية، وأربعة أجنحة تلتقي في صليب يوناني في خورس أوسط تحت قبة ثلاثية. واتسمت كل مرحلة تقريباً من مراحل البناء بالجدل . ومات سوفلو في 1780 بعد أن أرهقته وفتت في عضده الهجمات التي شنت على تصميمه، وخلف البناء ناقصاً. وتبين أن الركائز التي صممها لتحمل القبة أضعف من أن تحملها، فأحل شارل-أتيين كوفلييه محلها-من الأعمدة تفوقها جمالاً. وحولت الثورة هذه الرائعة من روائع إحياء الفن القديم من هدفها الديني إلى هدف دنيوي؟ فسمتها من جديد البانتيون تذكاراً لرائعة ماركوس أجريبا في روما، لتكون مثوى لــ "جميع آلهة" النظام الجديد، حتى فولتير، وروسو، ومارا، ولم تعد كنيسة مسيحية، بل غدت مقبرة وثنية؛ وقد رمزت في عمارتها ومصيرها إلى انتصار الوثنية المطرد على المسيحية.
وأحرز الشكل الكلاسيكي نصراً آخر في كنيسة المادلين (المجدلية) الأولى التي بدئ تشييدها عان 1764، فحلت صفوف الأعمدة والأجنحة المستوية السقوف محل العقود والبواكي، وغطت الخورس قبة. وأطاح نابليون بها كلها قبل أن تنجز لتحل محلها كنيسة المادلين التي تتبوأ مكانها اليوم والتي هي أشد إمعاناً في الكلاسيكية.
كان هذا الانقلاب إلى الطرز الكلاسيكية الوقورة، بعد إسراف الباروك المتمرد في عهد لويس الرابع عشر وأناقة الروكوك اللعوب في عهد لويس الخامس عشر، جزءاً من الانتقال إلى "طراز لويس السادس عشر" في عهد لويس الخامس عشر نفسه-وهو طراز البناء، والأثاث، والزخرفة الذي سيتخذ اسم الملك الذي أطاحت الجيلوتين برأسه. وضبط الفن نفسه فتحول عن المنحنيات الكثيرة والزخارف المسرفة إلى البساطة المقتصدة، بساطة الخطوط المستقيمة والشكل البنائي. وكان اضمحلال المسيحية قد انتزع من التسامي القوطي المفرط قلبه، ولم يترك للفن ملاذاً غير تحفظ رواقي تجرد من الآلهة وتشبث بالأرض.
أما أعظم المعماريين الفرنسيين في هذا الجيل فهو جاك-أنج جابرييل، الذي أورثه أسلافه العمارة في عروقه. عهد إليه لويس الخامس عشر (1752) بإعادة بناء قلعة قديمة في كونبيين، فجمل مدخلها ببوابة إغريقية ذات أعمدة دورية، وكورنيش بدنطيل (مسنن)، ودرابزين خالٍ من الزخرف. ونهج هذا النهج من التصميم في إعادة يناء الجناح الأيمن في قصر فرساي (1770). وأضاف لهذا القصر (1753-70) داراً أنيقة للأوبرا. وبفضل الأعمدة المستوية، والكرانيش الرقيقة النقوش، والدرابزين الجميل، أصبحت هذه الدار من أجمل المباني الداخلية في فرنسا. وحين سئم لويس ما في حياة البلاط من علنية وتكلف، لجأ إلى جاربييل ليبني له "بيتاً صغيراً" تستره الغابات وأختار جابرييل موقعاً يبعد ميلاً عن القصر، وشاد عليه بطراز النهضة الفرنسية "البتي تريانون" (1762-68). هنا كانت بومبادور تمني النفس بالاستمتاع بحياة العزلة والدعة وهناك مرحت دوباري وقصفت برهة، ثم جعلته ماري أنطوانيت منتجعها المفضل كأنها الراعية الملكية في تلك الأيام الخلية السعيدة والشمس ما تزال تشرق على ربوع فرساي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جروز
كانت الصورة حلية أثيرة في جو البيوت الأرستقراطية الحميم. فالتماثيل باردة عديمة اللون؛ تسر العين والعقل دون القلب والنفس، أما الصور فتستطيع أن تعكس تقلب الأمزجة والأذواق، وأن تنقل الروح إلى الأماكن الخلوية، أو الأشجار الظليلة، أو المشاهد النائية والجسد باقٍ داخل الجدران. وهكذا نرى كلود-جوزف فرنيه يرسم من السفن التي تمخر عباب البحار الفرنسية عدداً بلغ من كثرته إن لويس الخامس عشر في نكتة مشهورة إنه لا حاجة به لبناء المزيد منها. واستأجرت الحكومة الفرنسية فرنيه ليزور الثغور ويرسم السفن الراسية فيها، ففعل، وجعل فرنسا فخورة بأساطيلها. وحصل ديدرو على إحدى صور فرنية للبحر والأرض، وغلى في تقديرها غلواً حتى لقد توسل إلى إله إرتجله ارتجالاً فقال "أنني أتخلى لك عن كل شيء، فخذه كله، إلا فرنيه(53)".-وهناك أومير روبير، الذي لقب "روبير الأطلال" نعم كله لأنه زود كل صور مناظره الطبيعية تقرباً بالأطلال الرومانية مثل "كويري جار في نيم" ومع ذلك كان القوم "يتهافتون عليه" في صالونات باريس كما تؤكد لنا مدام فيجيه-لوبيرون، رغم شغفه المدمر بالأكل(54). ثم هناك فرنسوا-أوبير درواي، الذي حفظ لنا في تصوير مرهف جمال المركيزة دسور والطفولة البريئة للغلام الذي سيصبح شارل العاشر ولأخته ماري أدليد(55). ولكن لنلقي نظرة أكثر تدقيقاً على جروز وفراجونار.
أما جان-بانيست جروز فقد صنع بفرشاته ما صنعه روسو وديدرو بقلمهما؛ إذ أضفى على ألوانه إشراق العاطفة، وجعل نفسه "آيليز" البرجوازية. فالعاطفة أسعد من التكلف والصقل، وليست ضحلة مثلهما، وعلينا أن نغفر لجروز رؤيته الجوانب السارة من الحياة وتصويرها، وحبه لوثب الأطفال المرح؛ وبراءة البنات الجميلات الهشة، والقناعة المتواضعة لبيوت الطبقة الوسطى. فلولا جروز وشاروان لتوهمنا أن فرنسا كلها كانت منحطة فاسدة، وأن دوباري كانت نموذجها، وأن فينوس ومارس كان ربيها الوحيدين. أما الحقيقة فيه أن الأشراف هم المنحطون، وأن لويس الخامس عشر هو الفاسد، وأن الأرستقراطية والملكية هما اللذان سقطا في الثورة. أما جماهير الشعب-باستثناء رعاع الريف والمدن-فقد احتفظت بالفضائل التي تنقذ أمة من الأمم، وقد صورها جروز وحيا ديدور شاردان وجروز، لابوشيه وفراجونار باعتبارهما صوت فرنسا وسلامة روحها. ويروى عن هذا الفنان في شبابه ما يروى عادة من قصص عن شباب الفانين: أراد أن يرسم، فمنعه أبوه ظناً منه بأن هذه الرغبة ليست سوى ستارا للكسل، وكان الغلام يتسلل من فراشه ليلاً ليرسم الصور، فلما وقع بصر أبية على صورة منها لانت قناته فأوفده ليدرس على يد مصور في ليون. ولم يطل رضاء جان-بابتست عما استطاع أن يتعلمه هناك فيم شطر باريس. وعمل فترة في الفقر الذي تمتحن به الموهبة الشابة. وكان محقاً فيما بعد في إبراز الجانب الأفضل في الناس، لأنه وجد كما يجد معظمنا الكثير من العطف مختلطاً بما في الدنيا من عدم مبالاة وانشغال عن الموهبة. وحوالي عام 1754 أشترى جماع للفنون يدعى لاليف دجوللي صورة رسمها جروز تسمى "رب الأسرة" (وقد استعمل ديدرو هذا العنوان ذاته لتمثيليته الثانية عام 1758) وشجعه على مواصلة التصوير. ورأى الفنان الذي كان يعلم التصوير للأسرة المالكة صورة بريشة جروز، فرشحه للأكاديمية. ولكن كل مرشح كان ينتظر منه أن يقدم خلال ستة أشهر رسماً لمشهد من مشاهد التاريخ. ولم تكن هذه المشاهد التاريخية مما يوافق مزاج جروز فترك حقه في الترشيح يسقط، وقبل ما عرضه الأبيه جوجنو من تمويل رحلته إلى روما (1755). وكان قد بلغ الثلاثين، ولابد أنه أحس قبل ذلك بزمن بسحر الأنثى، أو ليس نصف الفن نتاجاً جانبياً لتلك القوى القاهرة؟ وقد خبرها في روما خبرة أورثته تباريح الجوى. ذلك أنه عهد أليه بتعليم الرسم لليتتيا، ابنة أحد الأدواق، وكانت في ميعة الصبا، فما الذي يستطيعه إلا أن يقع في غرامها؟ وكان مليح الصورة، له شعر مموج ووجه بشوش متورد وكان زميله في الطلب فراجونار يلقبه "الملاك العاشق" أنظر في اللوفر إلى صورته التي رسمها لنفسه في شيخوخته، ثم تخيله وهو في الثلاثين. ولم يكن مناص من أن تلعب ليتتيا حميا الشباب الذي لا يعبأ بالمال، دور هلويز أما هذا الأبيلار، باستثناء الجراحة. ولم يستغل ضعفها، وعرضت عليه الزواج: وكان يهفو إليه، ولكنه أدرك أن زواج فنان فقير بوارثة دوق سيقلب بعد قليل مأساة للفتاة. وإذ كان غير واثق من قدرته على السيطرة على نفسه فقد عقد النية على ألا يراها ثانية. فمرضت، وزارها وسرى عنها، ولكنه عاد إلى تصميمه. ويؤكدون أنه ظل ثلاثة أشهر يلزم فراشه بحمى وهذيان متكرر(56). وفي 1756 قفل إلى باريس دون أن يتأثر إطلاقاً بالفن الكلاسيكي أو الإحياء الكلاسيكي الجديد.
يقول "بعد وصولي إلى باريس اتفق أن مررت-ولا أدري أي قدر دفعني إلى هذا-بشارع سان-جاك، حين لحظت الآنسة بابوتي خلف منضدتها(57)". وكانت جاربييل بابوتي تعمل في مكتبة، وكان ديدرو يشتري كتبها و"يحبها كثرا" (على حد قوله) قبل ذلك بسنوات. وكانت الآن (1756-57) قد تجاوزت الثلاثين (كما يقول جروز) تخشى أن تظل عانساً: فوجدت جان-بابتست غير ميسور الحال ولكنه حلو. وبعد أن زارها بضع مرات قالت له "يا مسيو جروز، أتتزوجني أن رضيت بك زوجاً؟" وأجاب كما يجيب أي فرنسي مهذب "يا آنسة، ألا يكون أي رجل غاية في السعادة إذا أنفق حياته مع امرأة ساحرة مثلك؟" ولم يفكر في الأمر أكثر من هذا. ولكنها تركت الجيران يفهمون أنه خطيبها. ولم يطاوعه قلبه على تكذيبها، فتزوجها وظلا. سبع سنين ينعمان بقسط معقول من السعادة. وكانت ذات جمال مغرٍ، فاستخدمها راضية موديلاً في كثير من الأوضاع التي لم تكشف عن شيء وإن ألمعت لكل شيء. وأنجبت له في تلك السنين ثلاثة أطفال عاش منهم اثنان كانا إلهاماً لفنه.
ويعرفه العامل بصور الأطفال التي رسمها. وعلينا ألا نتوقع هنا روعة لوحة فيلاسكويز "دون بلتازار كارلوس"(68). أو لوحة فانديك "جيمس الثاني صبياً"(59)، لا بل إنا أحياناً قد نصطدم بما في بنات جروز من غلو وتهافت في العاطفة، كما تشهد بذلك "صورة عذراء" المحفوظة ببرلين، ولكن لم نرفض ما في صورة "البراءة"(60) من خصل متموجة، وخدود متوردة، وعيون فيها الحزن والثقة، أو ما في لوحة "الفلاحة الصغيرة"(61) من بساطة لم يفسدها التبرج؟ كذلك لا نجد تكلفاً في لوحة "الغلام وكتاب الدرس"(62)، فهي تصور أي غلام مل واجباً يبدو له مقطوع الصلة بالحياة. ومن بين 133 لوحة بقيت من رسوم جروز، اختص البناي بست وثلاثين. وقد أشترى يوهان جيورج فللي، الحفار الألماني نزيل باريس. ما استطاع شراءه من هذه الصور المثالية للطفولة، ورآها "أثمن من أروع صور هذا العهد(63)" ورد جروز هذه التحية بتصويره السكسوني غير الجذاب مثالاً للفحولة. على أن هؤلاء الفتيات يشوبهن التكلف والصنعة إذ يكبرن في فن جروز. مثال ذلك أن "اللبانة(64)" تبدو في أبهى لباس كأنها تتأهب للذهاب إلى المرقص، وصبية "الجرة المكسورة(65)" لا داعي (إلا داعي الجمال) يدعوها للكشف عن حلمة ثديها وهي في طريقها من البئر. ولكن في صورة لصوفي أرنو(66)، وتبدو القبعة ذات الريش، والوقفة الأنيقة، والشفاه القرمزية، كلها طبيعية.
لقد كان جروز أشبه بشاردان صغير فيه مسحة من بوشيه، رجلاً معجباً حقيقة بالفضيلة وبحياة الطبقة الوسطى، ولكنه يكسوها بين الحين والحين إغراءً شهوانياً كان شاردان يتجنبه. وكان في استطاعة جروز إذا نسي أجساد نسائه أن ينشد في صورة أنشودة الحياة العائلية البرجوازية، كما نرى في "عروس القرية(67)" التي ظفرت بأكبر جائزة حين عرضت في آخر أسبوع لصالون 1761، وأصبحت حديث باريس. وأطرها ديدرو لما فيها من "عاطفة حلوة" وأشاد بها "مسرح الإيطاليين" إشادة لم يسبق لها نظير، إذ قدمها في "لوحة حية" على المسرح. وقد وجد الخبراء فيها عيوباً-من ضوء لم يحسن المصور التصرف فيه، إلى ألوان متنافرة، إلى قصور في الرسم والتنفيذ، وضحك الأرستقراطيون على ما فيها من غلو في العاطفة، ولكن جمهور باريس، الذي كان قد عب في الزنا حتى الثمالة، وأبكته في هذه السنة بعينها "جولي" روسو، كان في مزاج يدعوه لاحترام النصائح والتحذيرات الخلقية التي كادت تسمع من فم والد العروس إلى زوجها الموعود. وكانت كل عقيلة من عقائل الطبقة الوسطى عليمة بمشاعر تلك الأم وهي تسلم ابنتها لمشاق الزواج ومخاطره، وكل فلاح كان يشعر بأنه ليس غريباً في ذلك الكوخ الذي تنقر فيه دجاجة وأفراخها الغلة على أرضه أو تشرب في اطمئنان من القدر التي تحت قدم الأب. وأشترى مركيز دمارينيه الصورة لفوره، ودفع الملك فيها بعد ذلك 16.650 جنيهاً ليحول دون بيعها بالخارج. وهي اليوم محفوظة بإحدى حجرات اللوفر التي لا تحظى بزوار كثيرين، وقد أتلفها تغير ألوانها السطحية جداً، وغض الجمهور من قدرها في غمرة تمرد الواقعية والكلبة على العاطفة المتفائلة.
وأحس كل فناني باريس تقريباً بأن جروز حط من شأن الفن لأنه سخره للوعظ من خلال الروايات والقصص بدلاً من كشف الحقيقة والطبائع بنفاذ بصيرة وعدم تحيز. ودافع عنه ديدرو قائلاً إنه "أول فنانينا الذي أضفى الخلق على الفن، وهيأ صوره لتروي قصة(68)" وبلغ به الأمر حد الدهشة والتعجب من المآسي الرقيقة التي رسمها جروس، فصاح في أسى "لذيذة! لذيذة!" حين رأى لوحة "الفتاة الصغيرة تبكي على عصفورها الميت" وكان هو نفسه يدعوا لمواضيع الطبقة الوسطى ومشاعرها في الدراما، فآنس في جروز حليفاً عظيم القيمة وأطره حتى فوق إطرائه شاردان. وغلا جروس في تصديقه، فكرر نفسه كأنه رسول الفضيلة والعاطفة، وأرسل إلى مجلات باريس شروحاً طويلة للدروس الأخلاقية في الصور التي كان ينتجها. وأخيراً استنزف ترحيب جمهور الفن به حتى إبان تسلط العاطفة على مزاج العصر. وكان خلال فترة السنوات الأثنتي عشرة كلها منذ قبول ترشيحه للأكاديمية قد أهمل أن يقدم لها الصورة التاريخية التي كانت شرطاً للعضوية الكاملة، وكانت الأكاديمية ترى أن الصورة التي ترسم المشاهد المألوفة التي تصف الحياة البيتية أو اليومية تتطلب من الموهبة الناضجة أقل مما يتطلبه التأليف القادر على التخيل، والتمثيل الكفء لمشهد من المشاهد التاريخية، ومن ثم قبلت مصوري مشاهد الحياة اليومية على أنهم "مقبولون Agr(es" فقط، ولكنهم ليسوا بعد صالحين للدرجات أو الكراسي الأكاديمية. وفي 1767 أعلنت الأكاديمية أن صور جروز سيتوقف عرضها في الصالون البينالي حتى يقدم لها صورة تاريخية.
وعليه ففي "29 يوليو 1769" قدم جروز صورة لسبتميوس سفيروس يوبخ ابنه كراكالا لمحاولته اغتياله(69). وأطلع أعضاء الأكاديمية على الصورة، وبعد ساعة أبلغه المدير أنه قبل، ولكنه قال له: "سيدي، لقد قبلت في الأكاديمية مصوراً للمشاهد اليومية. وقد أخذت الأكاديمية في الاعتبار تفوق صورك السابقة، وأغمضت عينها عن الإنتاج الحالي غير الجدير بها ولا بك(70)". وصدم جروز، فدافع عن لوحته، ولكن أحد الأعضاء بين الأخطاء في الرسم. وأحتكم جروز إلى الجمهور في خطاب لصحيفة "الأفان-كورييه" (25 سبتمبر 1769)، وأخفق شرحه في إقناع الراسخين في الفن، وحتى ديدرو سلم بعدالة النقد. وألمع ديدرو إلى أن قصور اللوحة راجع إلى أن فشل المصور في زواجه شوش ذهنه. وأتهم جابرييل بابوتي بأنها تردت إلى درك المرأة المشاكسة المغرورة، فاستنزفت مال زوجها بإسرافها؛ وأرهقته بمضايقاتها؛ وحطمت عزة نفسه بخياناتها المتكررة(71). وقدم جروز نفسه لرئيس الشرطة (11 ديسمبر 1785) شهادة خطية يتهم فيه زوجته باستقبال عشاقها بإصرار في بيته ورغم احتجاجاته. وفي خطاب لاحق اتهمها بسرقة مبالغ كبيرة منه، وبمحاولة "تحطيم رأسي بمبولة(72)". وحصل على انفصال شرعي، وأخذ ابنتيها في حضانته، وترك لها نصف ثروته ومعاشاً سنوياً قدره 1.350 جنيهاً. وتدهور خلقه إثر هذه اللطمات، فبات يضيق بأي نقد، وفقد كل تواضع في الإشادة بلوحاته. على أن الجمهور وافقه على اعتزازه بنفسه، فأقبل على مرسمه وأثراه بشراء صوره، والنسخ المطبوعة منها. واستثمر هو مكاسبه غي سندات حكومية، ولكن الثورة أطاحت بقيمة هذه السندات، وألقى جروز مملقاً، في حين انهارت سوق صوره الممثلة للسعادة والسلام البيتين نتيجة "لاستغراق فرنسا في العنف الطبقي، والهياج السياسي، ورد فعل الكلاسيكية الجديدة". وأنقذته الحكومة الجديدة إنقاذاً معتدلاً (1792) بمعاش قدره 1.537 جنيهاً، ولكن سرعان ما نفذ هذا المعاش فالتمس سلفة، وجاءت امرأة من الرعاع تدعى إنتيجون لتعيش معه وتعنى بصحته المتدهورة. فلما قضى نحبه (1805) كان العالم كله تقريباً قد نسيه، ولم يرافق جثمانه إلى القبر سوى فنانين اثنين.
فراجونار
تغلب جان-أونوريه فراجونار على محن النجاح خيراً من جروز، لأنه كان يفوقه شهوانية وصنعة. وفنه الأنيق هو التمجيد الأخير للمرأة الفرنسية في القرن الثامن عشر.
ولد في جراس بإقليم بروفانس (1732): فأضفى على فنه أريج وطنه وعبير أزهاره، فضلاً عن عشق التروبادور الرومانسي، وأضاف إلى هذا كله مرح الباريسيين وتشككهم الفلسفي. وجلب إلى باريس في الخامسة عشرة فطلب إلى بوشيه أن يقبله تلميذاً، وقال له بوشيه بكل ما في وسعه من تلطف إنه لا يقبل غير الطلاب المتقدمين. فذهب فراجونار إلى شاردان ليخدمه. وكان في ساعات فراغه ينسخ الروائع الفنية أينما وجدها. وأطلع بوشيه على بعض هذه النسخ فأعجب بها إعجاباً شديداً حمله على قبوله الآن تلميذاً، وجند خياله الفني في عمل تصميمات لقطع النسيج المرسومة، وتقدم الغلام بسرعة حتى حثه بوشيه على دخول المسابقة لنيل جائزة روما. وقدم فراجونار لوحة تاريخية سماها "يربعام يضحي للأصنام(73)". وكانت إنتاجاً ممتازاً لفتى في العشرين-فيها الأعمدة الرومانية الفخمة، والأرواب المنسابة، ورؤوس الشيوخ الملتحية، أو المعممة، أو الصلعاء، وكان فراجونار قد تعلم في زمن قليل بحث نرى في الوجه العجوز من الملامح أكثر من وجه لم تطبعه بعد الرغبة في الإثارة والاستجابة. ومنحته الأكاديمية الجائزة، فدرس ثلاث سنين في مرسم كارل فانلو، ثم انطلق في نشوة إلى روما (1765).
وثبطت همته كثرة الروائع التي وجدها هناك أول الأمر: "لقد روعتني همة ميكل أنجيلو-فجاشت في صدري عاطفة عجزت عن التعبير عنها، وحين رأيت روائع روفائيل تأثرت إلى حد البكاء ووقع القلم من يدي. وفي النهاية رانت عليّ حالة من التراخي لم أقوَ على قهرها. ثم ركزت على درس المصورين الذين أتاحوا لي الأمل في أنني قد أنافسهم يوماً ما. وهكذا جذب انتباهي باروتشيو، وبييترو داكورتونا، وسليينا، وتييبولو(74)". وبدلاً من أن ينسخ صور قدامى الفنانين راح يرسم التصميمات أو التخطيطات للقصور، والقناطر، والكنائس، والمناظر الطبيعية، والكروم، وأي شيء آخر، ولا غرو فقد ملك الآن في استعمال القلم تلك البراعة التي ستحوله واحداً من أقدر الرسامين وأكملهم في عصر غني في ذلك الفن الأساسي . وقل من الرسوم ما ألتقط من الحياة الطبيعية أكثر من الأشجار الخضراء في فيلا دستي كما رآها فراجونار في تريفولي(75). فلما عاد إلى باريس عكف على إرضاء الأكاديمية بلوحة تاريخية، باعتبار هذه اللوحة شرطاً لا غنى عنه في قبول الرسام عضواً بها. ووجد المواضع التاريخية كما وجدها جروز، لا تناسبه، فقد اجتذبته باريس جميلة بنسائها الساحرات بأقوى مما اجتذبه الماضي. وكان تأثير بوشيه لا يزال حاراً في مزاجه. وبعد تلكؤ كثير قدم لوحة "كبير الكهنة كوربرسوس يضحي بنفسه لينقذ كالليروبيه"؛ ولا حاجة بنا للوقوف والاستفسار عمن يكون هذا الكاهن وتلك العذراء، والمهم أن الأكاديمية وجدتهما نابضتين بالحياة مرسومين رسماً جيداً، فمنحت فراجونار عضوية مشاركة. وقال ديدرو في حماسة عارمة "لا أعتقد أن أي فنان آخر في أوربا كان مستطيعاً تصوير هذه اللوحة(76)". واشتراها لويس الخامس عشر لتكون تصميماً لقطعة نسيج مرسومة. ولكن فراجونار نفض يده من المواضيع التاريخية، بل إنه بعد 1767 رفض أن يعرض في الصالون، وقصر إنتاجه كله تقريباً على التكليفات الخاصة حيث يستطيع إطلاق العنان لذوقه من القيود الأكاديمية. ولقد تمرد على تلك "الصلصة البنية" صلصة النهضة الأوربية، قبل أن يتمرد عليها الرومانسيون الفرنسيون بزمن طويل، وأنطلق في مرح إلى بحار أرحب وأقل تخطيطاً. ولكنها لم تكن خلواً تماماً من التخطيط. فقد فتح فاتو الطريق من قبل بنسائه اللائى كساهن أثواباً مشرقة وهن منطلقات بضمير مطمئن إلى جزيرة فينوس، وكان بوشيه قد نهج هذا النهج بحواس مرحة لعوب، وزاوج جروز بين الشهوانية والبراءة. أما فراجونار فقد جمع بين هذه كلها: ففي لوحاته الثياب الهفافة ترف في النسيم، والغواني الرقيقات يعرضن اللذات الطليقة من كل قيد، والنبيلات الأنيقات يسحرن الرجال بخفيف ثوب أو رقة قميص، أو بحركة رشيقة متناغمة أو بسمة تلين الأفئدة، والأطفال السمان المتوردون الشعث، الذين لم يكتشفوا الموت بعد. وقد صور في رسومه ومنماته كل ناحية تقريباً من نواحي الطفولة-وضع يعانقون أمهاتهم، وفتيات يدللن عرائسهن، وصبية يركبون حماراً أو يلعبون مع كلب.... وقد استجابت ميول فراجونار العشيقة الغالية لطلبات رجال الحاشية المكتهلين، والخليلات المتعبات، من الصور التي تشيد بالجسد وتلهبه. فجال بين أرجاء الأساطير الوثنية بحثاً عن ربا امتنعت أجسادهن الوردية على فعل الزمن. وكانت فينوس ، لا العذراء، هي التي رفعت الآن في صعود ظافر إلى السماوات. وسطا على نصف شعائر الدين لمهرجانات الغرام: فكانت لوحته "القبلة"(77) صلاة، و"نذر الحب" عهداً مقدساً، و"قربان الوردة" التقدمة الأخيرة. ومن بين صور أربع رسمها فراجونار لقصر مدام دوباري الريفي في لوفسيين كان لإحداها عنوان يصلح لتغطية نصف إنتاج الفن: "الحب الذي يشعل الكون". ثم نبشنا في ملحمة "تحرير أورشليم" بحثاً عن المشهد الذي تعرض فيه الحوريات مفاتنهن أمام رينالدو العفيف. وأصبح هذا الفنان "بوشيه" الفراش، إذ أدى النساء نصف عاريات أو عاريات تماماً؛ كما يرى في لوحات "الجمال النائم" أو "القميص المخلوع أو الباخوسية النائمة(78)". فلما أدرك أن العري قد يقشع الأوهام تحول من التصريح إلى التلميح، ورسم أشهر لوحاته "مخاطر الأرجوحة(79)"، ففيها يرى العاشق يتفرس بابتهاج في أسرار ثياب عشيقته الداخلية التي تتكشف وهي تتأرجح لأعلى فأعلى، وتقذف بخفه في الهواء بتحرر لعوب. وأخيراً استطاع فراجونا أن يتقمص جروز، بل وشاردان: فصور النساء المحتشمات، كما في لوحاته "الدراسة" "والمطالعة(80)". و"قبلات الأم"، وفي صورة "مدموازيل كولومب" أكتشف أن النساء نفوساً. وفي 1769، حين بلغ السابعة والثلاثين، أذعن للزواج، فحين قدمت الآنسة جيرار من جراس لدراسة التصوير في باريس، كان حسبها أن تذكر مسقط رأسها حتى تظفر بالقبول في مرسم فراجونار. ولم تكن جميلة، ولكنها كانت امرأة مكتملة النضج، وقرر "فراجو" (كما كان يسمي نفسه) كما قررت مدام بوفاري، أنه لا يمكن أن يكون الاكتفاء بامرأة واحدة مملاً أكثر من الزنا. ووجد متعة جديدة في العمل معها في رسم صور مثل "خطوات الطفل الأولى" وفي التوقيع معها على الصور. فلما ولدت طفلهما الأول استأذنته في استدعاء أختها البالغة أربعة عشر عاماً من جراس لتعينها على الطفل والبيت؛ فوافق وظلت هذه الأسرة سنين تعيش في سلام مزعزع. تنافس الآن جروز في تصوير الحياة البيتية، ونافس بوشيه في توصيل هدوء المشاهد الريفية إلى أنظار المشاهدين. ورسم بعض الصور الدينية، وصور أصدقاءه. وكان في صداقته أثبت منه في حبه، فلم يفتر قط تعلقه بجروز وروبير ودافيد رغم ما أصابوه من نجاح. وحين نشبت الثورة أهدى صورة وطنية سماها "الأم الطيبة" للأمة. وكادت مدخراته تفقد قيمتها نتيجة للتضخم وتخلف الحكومة في الوفاء بديونها، ولكن دافيد الفنان الأثير لدى العهد الجديد، حصل له على وظيفة شرفية صغيرة. وفي نحو هذه الفترة رسم صورته الذاتية الرائعة المعلقة الآن في اللوفر: الرأس قوي ضخم والشعر أشيب قصير القص، والعينان ما زالتا هادئتين ثقة واطمئناناً. وقد روعه عصر الإرهاب وقززه، ففر إلى وطنه الأول جراس، حيث وجد المأوى في بيت صديقه موبير وقد زين الجدران بلوحات تعرف في جملتها باسم "رواية الحب والشباب" وقد رسمها خصيصاً لمدام دوباري، ولكنها كانت قد رفضتها لأنها لم تعد في ثرائها السابق، وهي اليوم من كنوز فريك جالري بنيويورك. وذات يوم من أيام الصيف كان راجعاً من جولة في باريس وقد حمى جسمه وتصبب عرقاً، فوقف عند مقهى وتناول قطعة من الجيلاتي وأصيب للتو تقريباً باحتقان في المخ. ونعم بميته عاجلة (22 أغسطس 1806). وقد أقامت جراس تمثالاً جميلاً لتخليد ذكراه، وتحت قدميه طفل عارٍ ومن خلفه شابة تدوم ثوبها في رقصة مرحة.
أن الفنان لابد أن يدفع ثمناً لرمزه لعصر ما، فشهرته تضمحل بزوال رغبات العصر المشبوبة، ولا سبيل إلى عودة هذه الشهرة إلا إذا رفع قدره عاطف البعد، أو رد تحول في التيار موضة قديمة إلى الذوق الحاضر. وقد زكا فراجونار لأن فنه العاري أو الكاسي أبهج زمانه، بتلطيفه وتزيينه للانحلال، ولكن الناموس الصارم الذي خضعت له ثورة تقاتل في سبيل الحياة سائر أقطار أوربا، كان في حاجة إلى أرباب غير فينون تلهمه، فوجدها في أبطال روما الجمهورية، الشديدي المراس. لقد انتهى عصر المرأة وعاد حكم المقاتل؛ وأقبل جيل جديد من الفنانين على النماذج اليونانية-الرومانية، التي أعاد تأليبها فنكلمان، واكتسح الطراز الكلاسيكي الجديد الباروك والروكوك في موجة عارمة من الأشكال القديمة.
الصالونات الكبرى
مدام جوفران
لقد دالت دولة المرأة، ولكن بعد أن بلغت الصالونات ذروتها. وبلغت تلك المؤسسة الفذة أوجها بمدام جوفران، وانحسرت في حمى من الرومانسية بمدموازيل دليسييناس. وستنتعش بعد الثورة بالسيدتين دستال وربكامييه، ولكنها لن تدرك أبداً فتنة وخصوبة تلك الفترة التي كان يلتقي فيها مشاهير الساسة في أيام السبت بصالوات مدام دوديفا، والفنانون في أيام الاثنين والفلاسفة والشعراء أيام الأربعاء بصالون مدام جوفران، والفلاسفة والعلماء أيام الثلاثاء بصالون مدام هلفتيوس، وأيام الأحد والخميس بصالون البارون دولباخ، وفحول الأدب وأقطاب السياسة أيام الثلاثاء بصالون مدام نكير، وقد يلتقي أي منهم في أي ليلة بصالون جولي دليسييناس. وإلى هذه الصالونات كان هناك الكثير من الصالونات الصغرى: كصالونات السيدات دلكسمبورج ودلافاليير، ودفور كالكييه ودتالمون، ودبرولي، ودبوسي، ودكروسول ودشوازيل، ودكامبيس ودميربوا ودبوفوا، دانفيل، وديجون، ودودتو ودماشيه، ودوبان، وديبينيه.
ولم يكن الجمال هو الذي زين ربات الصالونات هؤلاء، فقد كان جلهن نساء نصفاً أو أكبر، إنما هو ذلك المركب من الذكاء، واللباقة، والكياسة، والنفوذ والمال غير المتطفل، الذي مكن للمضيفة أن تجمع نساء ذوات فتنة وسحر، ورجالاً ذوي عقول راجحة يستطيعون أن يجعلون اجتماعاً أو مجلس سمر يتألق ظرفاً أو حكمة دون أن يؤججوه انفعالاً أو تعصباً. ولم يكن الصالون منها مكاناً للمغازلات ولا للمواضيع العشيقة أو التوريات.(81) فقد يكن لكل رجل فيه خليلة ولك امرأة عشيق، ولكن هذا كان يستر بأدب في التبادل المتحضر للمجاملات والأفكار. وكانت الصداقات الأفلاطونية تستطيع أن تجد القبول هناك، كما كان الحال مع دودفان وهوراس ولبول، أو مع ليسبينياس ودالامبير. وباقتراب الثورة نزعت الصالونات إلى فقدان تساميها الهادئ وأصبحت مراكز للتمرد.
وذاعت شهرة صالون مدام جوفران لأنها كانت أبرع مروضي السباع بين ربات الصالونات، ولأنها أتاحت للرواد مزيداً من حرية النقاش، ولأنها عرفت كيف تمنع الحرية من تجاوز حدود السلوك المهذب أو الذوق السليم-دون أن تبدو مستبدة. وكانت إحدى النساء القليلات اللاتي برزن من الطبقة الوسطى ليحتفظن بصالون مرموق. وكان أبوها، وصيف الدوفيته ماري-آن، وقد تزوج بابنة مصرفي، وأول من رزقا من أطفال في 1699 هي ماري-تريز، التي أصبحت فيما بعد مدام جوفران. ووضعت أمها، وكانت امرأة مثقفة موهوبة في التصوير، الخطط الطموحة لتنشئة ابنتها، ولكنها ماتت عام 1700 وهي تلد صبياً. وأرسل الطفلان ليعيشا مع جدتهما في شارع سانت-أونوريه-وبعد نصف قرن عللت مدام جوفران افتقارها إلى التبحر في الثقافة خطاب أجابت به ما طلبته كاترين الثانية في سيرة ذاتية موجزة لها.
"ولم تحظَ جدتي...إلا بنصيب ضئيل من التعليم، ولكن كان لها عقل أوتي من قوة الملاحظة، والذكاء، والسرعة،...ما جعله دائماً بديلاً عن المعرفة. وكانت تتحدث حديثاً لطيفاً جداً عن أمور لا تعرف عنها شيئاً حتى لم تترك زيادة لمستزيد...وبلغ رضاؤها عن حظها مبلغاً جعلها ترى التعليم نافلة لا تحتاج إليها المرأة". وكانت تقول "لقد وفقتُ توفيقاً لم يجعلني أشعر قط بحاجتي إليه. فإذا كانت حفيدتي حمقاء فستجعلها المعرفة معتدة بذاتها لا يطيقها أحد، وإذا كان له ذكاء وفطنة فسوف تسلك كما سلكت، وسوف تعوض النقص بلياقتها ونفاذ بصيرتها، ومن ثم فإنها في طفولتي لم تعلمني غير القراءة، ولكنها جعلتن أقرأ كثيراً، وعلمتني أن أفكر، وأن أجادل، وعلمتني أن اعرف الرجال وجعلتن أعرب عن رأيي فيه، وأخبرتني كيف تحكم هي عليهم... وما كانت تطيق ضروب التظرف التي يعلمها مدرسو الرقص، وكل ما تمنته لي هو أن تكون لي الرشاقة التي تهيئها الطبيعة للمرأة الحسنة الخلقة(82)".
وأحست الجدة أن الدين أهم من التعليم، ومن ثم كان الطفلان اليتيمان يؤخذان لحضور القداس كل يوم. كذلك اهتمت الجدة بزواج ماري، ذلك أن رجل أعمال غنياً يدعى فرانسوا جوفران، في الثامنة والأربعون من عمره، تقدم للزاج من الفتاة ذات الثلاث عشر ربيعاً، ورأت الجدة في ذلك العرض صفقة طيبة، وكان في تربية ماري وتهذيبها المفرط ما منعه من الاعتراض. على أنها أصرت على أن تصحب معها أخاها إلى بيت السيد جوفران المريح، والواقع في شارع سان-أوتوريه أيضاً، والذي قدر لها أن تقوم عليه إلى نهاية عمرها. وفي 1715 أنجبت ابنه، وفي 1717 ابناً-مات في العاشرة. وفي ذلك الشارع العصري ذاته افتتحت مدام دتنسان صالوناً مشهوراً. ودعت إليه مدام جوفران فأعترض زوجها. ذلك أن ماضي مدام دتنسان كان قد أحدث بعض الضجة، وأن ضيوفها الأثيرين كانوا من أحرار الفكر أمثال فونتينيل، ومونتسكيو، وماريفو، وبريفوست، وهلفيتيوس، ومارمونتيل. على أن مدام جوفران ذهبت برغم ذلك، فلقد بهرتها هذه العقول الطليقة من كل قيد. فما كان أثقل أولئك التجار الذين يأتون لزيارة زوجها الشيخ بالقياس إلى هؤلاء! وكان الآن قد بلغ الخامسة والستين، وهي لم تزل "امرأة الثلاثين" كما يقول بلزاك. وبدأت هي أيضاً تستضيف الزائرين. فاعترض، ولكنها تغلبت عليه، وأخيراً ارتضى أن يترأس على حفلات عشائها؛ صامتاً عادة ومؤدباً دائماً. فلما مات (1749) في الرابعة والثمانين، لم يكد ضيوفها يلحظون غيابه. واستفسر أحد رواد الصالون حين عادوا من رحلة عما أصاب السيد العجوز الذي كان يجلس في استحياء شديد على قمة المائدة. وأجابت مدام جوفران برفق "أنه كان زوجي، وقد توفي(83)".
كذلك طوت مدام دتنسان رحلة الحياة عام 1749، مما فزع له ضيوفها المعتادون. ويجب أن نذكر ثاني تلك الملاحظات التي أبداها فونتينيل الذي بلغ يومها الثمانية والتسعين: "امرأة طيبة جداً (مع أنه كانت تركيبة من الآثام الحقيقة). ياله من خطب مقلق؟ فأين أتناول غدائي الآن الثلاثاء؟" ولكن أساريره انفرجت وقال: "حسناً، في أيام الثلاثاء يجب أن أتناول الغداء في بيت مدام جوفران(84)". وقد أبهجها أن يحضر، لأنه كان "فيلسوفاً" قبل مونتسيكو وفولتير، يحتفظ بذكريات تمتد إلى مازاران، وقد بقي له من الأجل سبع سنوات؛ وكان في وسعه أن يحتمل المعاكسة دون أن يتأذى منها لأن سمعه ثقيل. وحذا حذوه أكثر مشاهير القوم الذين تألقوا على مائدة دتنسان؛ وسرعان ما جمع غداء أربعاء جوفران، في وقت أو آخر، مونتسيكو، وديدرو، ودولباخ، وجريم، وموريلليه؛ ورينال، وسان-لمبير، والأبيه فرديناندو جالياني؛ النابولي القصير الأريب؛ سكرتير السفير النابولي في باريس. وعقب موت زوجها، ورغم معارضة ابنتها الساخطة، سمحت مدام جوفران لديدرو، ودالامبير، ومارمونتيل، بأن يقرروا خط النقاش ونبرته في حفلات غدائها أيام الأربعاء. لقد كانت وطنية ومسيحية، ولكنها أعجبت بشجاعة الفلاسفة وحيويتهم. فلما نظمت "الموسوعة" تبرعت بأكثر من 500.000 جنيه في نفقاتها وأصبح بيتها يعرف بـــ"صالون الموسوعة"، وحين هجا باليسو المتمردين في هزلية "الفلاسفة" (1760) سخر منها في شخصية سيداليز، الجنية عرابة "الشلة". وبعدها طلبت إلى سباعها أن يزأروا بأدب أكثر من ذي قبل، وكبحت البلاغة الجامحة بعبارة مجاملة خففت من غلوائهم- "آه، هاهنا شيء طيب(85)"! وأخيراً سحبت دعوتها الدائمة لديدرو، ولكنها أرسلت إليه طقماً من الأثاث الجديد وروباً فخماً فخامة غير مريحة.
واكتشفت أن الفنانين والفلاسفة، ورجال الأعمال، لا ينسجمون إذا اجتمعوا معاً، فالفلاسفة يحبون النقاش والثرثرة، والساسة يتوقعون التحفظ والتأدب، أما الفنانون فقبيلة صخابة لا يستطيع فهمهم غير الفنانين. وعليه فإن المدام التي كانت جماعة للفن والتقطت شيئاً من حرارة الجماليات من الكون دكايلوس، دعت أقطاب الفن وذواقيه الباريسيين إلى حفلات عشاء خاصة في أمسيات الاثنين. ولبى الدعوة بوشيه، ولاتور، وفرنيه، وشاردان، وفانلو، وكوشان، ودرويه، وروبير، وأودريه؛ وناتييه، وسوفلو، وكايلوس، وبوشاردون، وجروز. وكان مارمونتيل الفيلسوف الوحيد الذي سمح له بحضور هذه الحفلات لأنه كان يسكن في بيت مدام جوفران، ولم تكتفِ المضيفة اللطيفة بالاحتفاء بضيوفها، بل اشترت أعمالهم وجلست إليهم ليصوروها، وأجزلت لهم الأجر، وصورها شاردان خيراً من سائر الفنانين، سيدة بدينة لطيفة في قبعة من الدانتيلا(86). وبعد موت فانلو اشترت صورتين من صوره بأربعة آلاف جنيه ثم باعتهما لأمير روسي بخمسين ألف جنيه، وأرسلت الربح لأرملة المصور(87). واستكمالاً للضيافة كانت مدام جوفران تقيم "حفلات عشاء صغيرة" لصديقاتها. ولكنها لم تدعُ نساء لحفلات الاثنين، وكانت مدموازيل دليسبيناس (ربما بوصفها نفس دالامبير الثانية) من النساء القليلات اللاتي حضرن أمسيات الأربعاء. ذلك أن المدام كانت على شيء من حب التملك، ثم أنها وجدت أن حضور الإناث يصرف سباعها عن الفلسفة والفن. وبدا أن سياسة الفصل بين الجنسين التي انتهجتها قد بررها ما كسبته ندواتها من صيت ذائع بالمناقشات الطريفة الهامة. واحتال الأجانب في باريس للظفر بدعوات إلى صالونها، ذلك أن مباهاتهم، بعد عودتهم إلى أرض الوطن، بأنهم اختلفوا إلى صالون مدام جوفران، كانت تشريفاً لا يفوقه إلا شرف المثول بين يدي الملك. وكان هيوم، وولبول، وفرانكلن، من بين ضيوفها الشاكرين. وحرص السفراء لدى بلاط فرساي-حتى الكونت فون كاونتز الرفيع المقام-على تقديم أنفسهم في ذلك المنزل المشهور في شارع سانت-أوتوريه. وفي 1758 اصطحب الأمير كانتيمير، السفير الروسي، أميرة انهالت تسربست التي حدثت القوم بفضائل ابنتها، ولم تنقضي أربعة أعوام حتى أصبحت هذه الابنة كاترين الثانية، وظلت إمبراطورة الأقاليم الروسية كلها سنين طوال بعد هذا، تبادل ربة الصالون البورجوازية الرسائل الساحرة. وعاد سويدي جميل ذكي ممن اختلفوا إلى بعض ولائم المدام إلى وطنه ليصبح جوستاف الثالث.
وثمة شاب أجمل هو ستانسلاس يونياتوفسكي كان كثير التردد بل كاد يكون من عباد مدام جوفران (التي كانت أحياناً تؤدي عنه ديونه(88))، وما لبث أن اعتاد أن يناديها "ماما"، فلما أصبح ملكاً على بولندا (1764) دعاها إلى زيارة وارسو ضيفاً عليه. فلبت الدعوة مع أنها بلغت الآن الرابعة والستين. وأقامت في طريقها بفيينا فترة، وكتبت تقول "أن القوم يعرفونني هنا خيراً مما يعرفني جيراني على ياردتين من بيتي(89)". وطلت حيناً في القصر الملكي بوارسو (1766) تقوم من الملك مقام الأم والمشيرة. وتبادل الناس الرسائل التي بعثت بها إلى باريس كما تبادلوا الرسائل التي بعث بها فولتير من فرنيه، وقد كتب جريم يقول: "إن الذين لم يقرئوا رسائل مدام جوفران لم يكونوا أهلاً لمخالطة المجتمع الراقي(90)". فلما قفلت إلى باريس واستأنفت ولائمها، ابتهج عشرات من مشاهير القوم، ونظم بيرون وديليل القصائد احتفاء بعودتها. وكانت الرحلة شاقة-فقد استقلت مركبة اخترقت نصف أوربا طولاً ثم عادت بها إلى وطنها، ولم تعد مدام جوفران قط بعدها إلى سابق تيقظها ومرحها. وراحت الآن تجدد حرصها على العبادة الكاثوليكية، وهي التي أعربت من قبل عن أفكارها الحياة بعد الموت(91)، وأحالت الدين محبة وبراً بالناس. وقد وصف مارمونتيل تقواها الغريبة فقال:-
"لكي ترضى السماء دون أن تغضب مجتمعها، ألفت العكوف على لون من العبادة المستورة. فتذهب إلى القداس سراً كما يذهب غيرها إلى مؤامرة، ولها شقة في دير....ومقعد خاص في كنيسة الكبوشيين تتكتم أمرها كما تتكتم النساء العاشقات في تلك الأيام عش غرامهن(92)". وفي سنة 1776 أعلنت الكنيسة الكاثوليكية يوبيلاً يتلقى في كل من يزورون كنائس معينة في أوقات مقررة الحل والغفران. وفي 11 مارس حضرت مدام جوفران صلاة طويلة في كاتدرائية نوتردام. وعقب وصولها إلى بيتها أصابتها نوبة فالج. وغضب جماعة الفلاسفة لأن مرضها جاء عقب قيامها بالعبادة، وعلق الأبيه موريلليه تعليقاً لاذعاً "لقد أكدت بالقدوة صدق القول المأثور الذي كثيراً ما رددته "أن المرء لا يموت إلا بفعل من أفعال العبادة(93)". وتكلفت ابنتها المركيزة دلافرتيه-يامبو بأمها المريضة، وحذرت الفلاسفة من زيارتها. ولم تقع عينا المدام ثانية على دالامبير ولا موريلليه، ولكنها رتبت زيادة في المعاشات التي كانت تجريها عليها بعد موتها. وامتد بها الأجل عاماً آخر، مشلولة عاجزة، ولكنها ظلت توزع صدقاتها إلى النهاية.
مدام دو دفان
كان هناك صالون واحد في أوربا يستطيع صالون مدام جوفران شهرة ومريدين وقد سبق أن درسنا سيرة وخلق ماري ديفيشي-شامرون: وكيف وأنها وهي صبية أفزعت الراهبات والقساوسة بحرية فكرها، وكيف تزوجت المركيز دو دفان، وهجرته، والتمست السلوى لوحدتها في صالون (1739 وما بعدها)، بشارع بون أولاً، ثم (1747) بدير سان جوزيف بشارع سان دومنيك. وروع هذا الموقع الجديد الذي اختارته لصالونها جماعة الفلاسفة الذين كانوا يأتون ليستمتعوا بنبيذها وظرفها، إلا واحداً منهم هو دالامبير، الذي ظل يتردد عليه لأنه كان أقل أفراد هذه القبيلة مشاغبة وعدواناً. أما باقي الرواد فكانوا رجالاً ونساءً من الطبقة الأرستقراطية، يميلون إلى التعالي على مدام جوفران لأنها برجوازية. وحين كف بصر المركيزة وهي في السابعة والخمسين (1754) واصل أصدقاؤها الاختلاف إلى حفلات عشائها. ولكنها خلال باقي الأسبوع أحست وقع الوحدة في جزع متزايد، إلى أن أقنعت ابنة أخيها بالإقامة معها، والقيام بدور المضيفة المساعدة في أمسيتها.
وكانت جولي دليسبناس الابنة غير الشرعية للكونتيسة دالبون وجسبار دفيشي، أخي مدام دو دفان، واعترفت الكونتيسة بها، وربتها مع أطفالها الآخرين، وأتاحت لها تعليماً ممتازاً، وحاولت إقرار شرعيتها، ولكن إحدى بناتها اعترضت فأخفقت المحاولة. وفي 1739 تزوجت هذه الأخت غير الشقيقة من جسبار دفيشي وذهبت لتعيش معه في قصر شامبرون الريفي ببرجنديا. وفي 1748 كانت الكونتيسة بعد أن أوصت بمعاش سنوي قدره ثلاثمائة جنيه لجولي البالغة آنذاك السادسة عشرة. وأخذت مدام دفيشي جولي إلى شامبرون، ولكنها عاملتها على أنها فتاة يتيمة غير شرعية تستخدمها مربية للأطفال. فلما زارت مدام دو دفان شامبرون راعها ما آنسته في الآنسة دليسبيناس من عقل نير وسلوك مهذب، وكسبت ثقة الفتاة، وعلمت أنها تشقى في وضعها الراهن شقاء حملها على أن تدخل ديراً. واقترحت المركيزة أن تأتي جولي وتعيش معها باريس. واعترضت الأسرة مخافة أن ترتب دو دفان تقرير شرعية جولي فيخول لها هذا حقاً في نصيب من تركة ألبون. ولكن المركيزة وعدت بأنها لن تسيء إلى أقربائها بعمل كهذا. ودخلت جولي أثناء ذلك ديراً (أكتوبر 1752) لا كراهبة مبتدئة بل كتلميذة في القسم الداخلي. وجددت المركيزة اقتراحها. ووافقت جولي بعد عام من التردد. وفي 13 فبراير 1754 أرسلت لها المركيزة رسالة غريبة يجب أن نتذكرها ونحن نحكم على ما تلاها:
"سأقدمك على أنك شابة من إقليمي تريدين دخول دير، وسأقول إنني قدمت لك مسكناً حتى تجدي مكاناً مناسباً لك. وستعاملين بأدب، بل بمجاملة، وفي وسعك أن تعتمدي علي في أن أحداً لم ينال من كرامتك". على أن....هناك نقطة أخرى علي أن أشرحها لك. فأنا لا أطيق أي خداع، ولو كان مكراً طفيفاً جداً، إن كنت تخلطينه بسلوكك. وأنا بطبعي شكاكة، اشتبه في كل من أكشف فيهم المكر إلى أن أفقد كل ثقة فيهم. إن لي صديقين حميمين-فورمون ودالامبير، أحبهما حباً جماً، لا للطفهما وصداقتهما بقدر ما أحبهما لصدقهما المطلق. عليك إذن يا مليكتي أن تعتزمي العيش معي بغاية الصدق والإخلاص...قد تظنين أنني أعظك، ولكني أؤكد لك أنني لا أفعل هذا أبداً إلا فيما يتصل بالإخلاص. ففي هذا لا تأخذني رحمة بأحد(94). وفي إبيريل 1754 أتت جولى لتسكن مع مدام دوفان، أولاً فوق سقيفة للعربات، ثم في حجرة فوق شقة المركيزة في دير سان جوزيف. وقرر لها دوق أورليان معاشاً قدره 692 جنيهاً(95)، وربما بناء على اقتراح المدام. وكانت تعين المضيفة المكفوفة على استقبال ضيوفها وإجلاسهم في ندواتها، وأضفت الأشراف على أعمال الندوة بلطف سلوكها وسرعة بديهتها ونضارة شبابها وتواضعه. ولم تكن ذات جمال بارع، ولكن عينيها السوداوين المتألقتين وشعرها البني الغزير ألفا مزيجاً فتاناً. فكاد يقع في غرامها نصف الرجال الذين اختلفوا إلى الندوة، حتى فارس المدام الأمين العجوز شارل-جان فرانسوا اينو، رئيس محكمة العرائض، صاحب الأعوام السبعين، المتوجع أبداً، الثمل أبداً بالكثير من النبيذ. وتقبلت جولي مجاملاتهم بما يجب من عمد الاكتراث، ولك نرغم ذلك فإن المركيز الشديدة الحساسية في عماها لابد قد شعرت بأن بعض العبادة قد انتقلت من عرشها. وربما دخل في الأمر عنصر جديد: ذلك أن المرأة المسنة كانت قد بدأت تحب الشابة جباً لا يرضى بشريك له. وكانت كلتاهما تلتهب بالعاطفة المشوبة، رغم أن المركيزة أوتيت عقلاً من أكثر عقول العصر رجاحة ونفاذاً.
ولم يكن مناص لجولي من أن تحب. أولاً إيرلندياً شاباً لا نعرف عنه غير اسمه تاف. فبعد أن قبل في الصالون كان يختلف إليه كل يوم تقريباً. وسرعان ما تبين للمركيزة أنه لا يأتي لمشاهدتها بل لمشاهدة المدموازيل. وروعها أن ترى أن جولي قبلت تودده بالرضى. فحذرتها من تعريض نفسها للخطر. وأنكرت الفتاة المتكبرة نصيحة الأم. وإذ خافت المركيزة أن تفقدها وحرصت على حمايتها من غرام عات لا يرجى دوامه، أمرت جولي بأن تلزم حجراتها إذا جاء جاف. فأطاعت، ولكن المشاجرة أثارت فيها من الانفعال ما حملها على تعاطي الأفيون لتهدئ أعصابها. وقد شاع استعمال الأفيون في القرن الثامن عشر مهدئاً، ولكن الآنسة ليسبيناس ضاعفت جرعاتها مع كل غرام جديد.
وألفت أن تسلو تاف، ولكن غرامها الجديد دخل التاريخ، لأنه أصاب الرجل الذي اصطفته مدام دو دفان لنفسها في حب أموي ولكنه شديد التملك، وكان هذا الرجل، جان لورون دالامبير، في عام 1754 قد بلغ أوج شهرته رياضياً، وفيزيائياً، وفلكيا، وحرراً في تلك "الموسوعة" التي كانت باريس المثقفة بأسرها. وقد قال فولتير عنه، في لحظة تواضع، إنه "أعظم كتاب في القرن"(96) ومع ذلك لم يؤت شيئاً من فرص فولتير. فقد ولد ولادة غير شرعية، وأنكرته أمه مدام دتنسان، ولم يره أباه منذ طفولته. وعاش برجوازياً بسيطاً في بيت الزجاج روسو. وكان وسيماً، حسن الهندام، جم الأدب، مرحاً أحياناً، في وسعه أن يخوض في أي موضوع مع أي متخصص تقريباً، ولكن في وسعه أيضاً أن يخفي علمه وراء واجهة من القصص، والتقليد الساخر، والنكتة الذكية. وفيما عدا ذلك لم يصالح العالم إلا قليلاً. فقد آثرت استقلاله على الملوك والملكات؛ وحين قامت مدام دودفان بحملة لتدخله الأكاديمية الفرنسية أبى أن يضمن الحصول على صوت إينو بتقريض كتابه "مختصر كرونولوجي لتاريخ فرنسا" (1774) وكان فيه عرق من الهجاء جعل فكاهته لاذعة أحياناً؛(97) فقد ينفد صبره، ويبيت أحياناً عنيفاً في ثورته على خصومه(98)، ولم يعرف قط ما الذي يجب أن يقوله أو يفعله حين ينفرد بالنساء، ومع ذلك فإن حياءه اجتذبهن، وكأنما بتحديه لقوة تأثير مفاتنهن.
وقد راع مدام دو دفان منه في أول لقائها به (1743) اتساع ذهنه ونصوع تفكيره. وكانت يومها في السادسة والأربعين، وهو في السادسة والعشرين. فتبنته "قطها الوحشي"(99) ولم تكتف بدعوته لصالونها بل دعته أيضاً إلى تناول الطعام معها على انفراد؛ وأقسمت بأنها على استعداد "لتنام اثنتين وعشرين ساعة من الأربعة والعشرين، ما دمنا ننفق الساعتين الباقيتين معاً"(100) وكان قد انقضى على هذه الصداقة الحميمة أحد عشر عاماً حين دخلت جولي حياتهما.
كان هناك رباط عائلي طبيعي بين الابن الطبيعي والابنة الطبيعية. وقد دون دالامبير هذه الحقيقة وهو يسترجع ذكراها فيما بعد: "كان كلانا يفتقد الوالدين والأسرة، وإذ عانينا الهجر، وسوء الطالع، والشقاء منذ ولادتنا، بذا أن الطبيعة بعثت بنا إلى العالم ليجد الواحد منا صاحبه، وليكون له كل ما افتقده، ولنقف معاً كأننا صفصافتان، وأحنتهما العاصفة دون أن تقتلعهما، لأنها في ضعفهما تشابكت أغصانهما"(101). وأحس بهذا الانجذاب لأول نظرة تقريباً. كتب لها عام 1771 يقول:- "إن الزمن وطول الألفة يبليان كل الأشياء، ولكنهما عاجزان عن أن يمسا حبي لك، وهو حب ألهمتنيه قبل سبعة عشر عاماً"(102) ومع ذلك تريث تسع سنوات قبل أن يفصح عن غرامه، وحين فعل ذلك بطريقة غير مباشرة. كتب لها من بوتسدام في 1763 يقول: أن له في رفض دعوة فردريك له أن يصبح عميداً لأكاديمية برلين للعلوم "ألف سبب، منه سبب لا يخطر لك أن تحزريه"(103) وتلك زلة في الذكاء تستغرب عن دالامبير، فهل في الوجود امرأة لا تعرف أن رجلاً من الرجال يهواها؟ وأحست مدام دو دفان ذلك الود المتزايد بين ضيفها المقدر وابنة أخيها المحروسة، كذلك لحظت أن جولي تغدو محور النقاش والاهتمام في الصالون. وظلت برهة لا يبدر منها لوم ولا عتاب، ولكنها في رسالة إلى فولتير (1760) أبدت ملاحظات مرة حول دالامبير. وسمحت لصديق أن يقرأ على ضيوفها قبل وصول دالامبير جواب فولتير الذي أشار إلى ملاحظاتها. وإذا دالامبير يدخل بمجرد البدء في القراءة ويسمع الفقرة النمامة، فضحك مع الضاحكين، ولكنه تأذى، وحاولت المركيزة استرضاءه، ولكن الجرح لم تندمل، فلما زار فردريك عام 1763 كانت رسائله يومية تقريباً إلى الآنسة ديليسبناس، نادرة إلى المدام. وبعد عودته من باريس ألف أن يزور جولي في شقتها قبل أن يهبطا إلى الصالون، وكان طورجو أو شاستللوكس أو مارمونتيل يصحبونه أحياناً في هذه الزيارات الحميمة. وشعرت المضيفة العجوز أن الذين أعانتهم وأحبتهم يخونونها.؟ ونظرت الآن إلى جولي كأنها عدو لها، وكشفت عن شعورها بطرق مثيرة كثيرة-كفتور لهجتها في الحديث معها، ومطالبها التافهة منها، وتذكيرها إياها بين الحين والحين باعتمادها عليها. أما جولي فقد ازداد ضيقها يوماً بعد يوم بهذه "العجوز العمياء الغضوب"، وبالتزامها بأن تكون دائماً في متناولها أو على مقربة منها لتلبي حاجة المركيزة في أية ساعة. وزادها مرور الأيام تعاسة على تعاسة، إذ كان لكل يوم لذعته. وقد كتبت في تاريخ لاحق تقول "كل ألم يتغلغل إلى الأعماق، أم اللذة فطائر سريع الفرار"(104) وفي ثورة أخيرة من ثورات غضب المدام اتهمتها بخداعها قي بيتها وعلى نفقتها. وردت جولي بأنها لم تعد قادرة على العيش مع من تنظر إليها هذه النظرة. وفي يوم من أوائل مايو 1764 غادرت المنزل بحثاً عن مسكن آخر. أما المركيزة فقد جعلتها قطيعة لا رجعة فيها بإصرارها على أن يختار دالامبير بينها أو بين جولي، فغادرت البيت، ولم يعد إليه قط. وبدا حيناً أن الصالون القديم قد جرح جرحاً مميتاً بهذين البترين. وواصل معظم رواده زيارة المركيزة، ولكن العديد منهم-كالمرشالة دلكسمبورج، والدوقة دشايتون، والكونتسة دبوفليه، وطورجو، وشاستللوكس، بل حتى إينو-ذهبوا إلى جولي ليعربوا عن تعاطفهم واهتمامهم المستمر بها، وتقلص الصالون فلم يحوِ غير قدامى الأصدقاء والأوفياء منهم، والوافدين الجدد الذين يسعون إلى التميز والطعام الطيب. وقد وصف المدام هذا التغيير في 1768 فقالت:
"كان هنا بالأمس اثنا عشر شخصاً، وأعجبت بمختلف أنواع الحديث التافه ودرجاته. كنا جميعاً مقفلين كباراً، كل في بابه...كنا مملين غاية الإملال. وانصرف الأثنا عشر جميعاً في الساعة الواحدة، ولكن أحداً منهم لم يخلف وراءه أسفاً...أن بون-دفيل صديقي الوحيد، وهو يقتلني ضجراً ثلاثة أرباع الوقت".
إنها لم تكن للحياة أي حب على الإطلاق من انطفاء نور عينيها، أما الآن، وبعد أن انفض عنها أعز أصدقائها، فقد تردت في حالة من القنوط الساخر الذي لا شفاء منه. فلعنت اليوم الذي ولدت فيه كما فعل أيوب "إن عماي وشيخوختي هما أقل ما رزئت به من أحزان...فليس هناك غير خطب واحد...هو أنني ولدت."(106) وسخرت من أحلام الرومانسيين والفلاسفة على السواء-لا من "هلويز، وروسو وقسيسه السافواوي" فحسب، بل من حملة فولتير الطويلة في سبيل "الحقيقة" قالت: "وأنت يا مسيو فولتير"، عاشق الحقيقة المعلن، قل لي بأمانة، هل وجدتها؟ إنك تحارب الأخطاء وتهدمها، ولكن ماذا تحل محلها؟"(107) لقد كانت شكاكة، ولكنها آثرت الشكاكين المعتدلين أمثال مونتيني وسانت-إفرمون على الثوار العدوانيين كفولتير وديدرو. وخالت أنها نفضت يديها من الحياة، ولكن الحياة لم تنفض يديها منها تماماً. فقد بعث صالونها بعثاً متقطعاً خلال وزارة شوازيل، حين تجمع أقطاب الحكم حول المركيزة العجوز، وجاءت صداقة دوقة شوازيل الرقيقة ببعض النور الذي أشرق وسط تلك الأيام الحالكة. وفي 1765 بدأ هوراس ولبول يختلف إلى ندواتها، وشعرت نحوه شيئاً فشيئاً بمحبة غدت آخر تشبث مستميت لها بالحياة. ونرجو أن نلقي بها ثانية في ذلك التجسيد الأخير المذهل.
الآنسة دليسبيناس
اختارت جولي لمسكنها الجديد بيتاً ذا طوابق ثلاث عند ملتقى شارع بلشاش بشارع سان-دومينيك، ولم يكن يبعد غير مائة ياردة من بيت المركيزة الديري ولم تبلغ معاناتها مبلغ الإملاق، فقد تلقيت بالإضافة إلى عدة معاشات صغيرة، معاشين مقدارهما 2.600 جنيه من "دخل الملك (1758 و1763)، بناء على إلحاح شوازيل فيما يبدو، ثم إن مدام جوفران وهبتها بناء على اقتراح دالامبير راتبين سنويين منفصلين مقدارهما ألفا جنيه وألف كروان. وأعطتها المرشالة دلكسمبورج طقماً كاملاً من الأثاث.
وما إن استقرت جولي في مسكنها الجديد حتى أصيبت بالجدري إصابة شديدة. كتب ديفد هيوم إلى مدام دبوفليه يقول "أن الآنسة دليسبيناس مريضة مرضاً خطراً، ويسرني أن دالامبير نس فلسفته في لحظة كهذه"(108) والواقع أن الفيلسوف كان يمشي مسافة طويلة كل صباح ليقوم على خدمتها إلى جوار فراشها حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم يعود إلى حجرته في بيت مدام روسو. وتماثلت جولي للشفاء، ولكنها باتت ضعيفة عصبية باستمرار وغلظت بشرتها وشابتها الندوب. وفي وسعنا أن نتصور ما يعنيه هذا لامرأة لم تجاوز الثانية والثلاثين ولم تتزوج بعد. وقد شفيت في الوقت المناسب لتعنى بدالامبير الذي لزم فراشه في ربيع 1765 إثر ألم في معدته أشرف به على الهلاك. وراع مارمونتيل أن يراه ساكناً "حجرة صغيرة سيئة الإضاءة، سيئة التهوية، تحوي سريراً ضيقاً جداً كأنه النعش.(109) وعرض صديق آخر هو المالي قاتلية على دالامبير أن يستعمل بيتاً فسيحاً قرب التامبل. وارتضى الفيلسوف الآن في أسف أن يترك المرأة التي آوته وأطعمته منذ طفولته. وقال دكلو في دهشة "يا لليوم المدهش! لقد فطم دالامبير!" وكانت جولي تقطع الرحلة كل يوم إلى مسكنه الجديد وترد له رعايته الأخيرة لها بإخلاصها الفياض. فلما نقه إلى حد يتيح له التحرك رجته أن يشغل بعض الحجرات في الطابق الأعلى من بيتها، فذهب في خريف 1765، ودفع لها إيجاراً معتدلاً. ولم ينسَ مدام روسو، فكان يزورها كثيراً، ويقتسم معها بعض إيراده، ولا يكف عن الاعتذار عن انفصالهما "أيتها الحاضنة المسكينة، يا من تحبينني أكثر مما تحبين أبناءك!"(110).
وزعمت باريس حيناً أن جولي خليلته. وأيدت المظاهر الزعم. فقد كان دالامبير يتناول طعامه معها، ويكتب لها الرسائل، ويدير لها أعمالها، ويستثمر لها مدخراتها، ويجمع لها إيرادها. وكانا أمام الناس يظهران معاً على الدوام؛ وما دار بخلد مضيف أن يدعو الواحد دون صاحبه. ولكن شيئاً فشيئاً بدأ القوم-حتى المتقولون منهم-يتبينون أن جولى لا هي بالخليلة ولا الزوجة ولا العاشقة لدالامبير، إنما هي مجرد أخت وصديقة. ويلوح أنها لم تدرك قط أن حبه لها كان كاملاً وإن لم يستطع أن يعرب عنه، وتقبلت السيدتان جوفران ونكير-وكلتاهما مضرب المثل في الفضيلة-هذه العلاقة بين دالامبير وجولي على أنها حب أفلاطوني. ودعت صاحبة الصالون العجوز كليهما لندوتيها.
وكان امتحاناً قاسياً لعطف الأم الذي أبدته مدام جوفران نحو الآنسة دليسبيناس ألا يصدر عنها أي احتجاج حين افتتحت هذه صالوناً خاصاً بها ذلك أن جولي ودالامبير كانا قد صنعا من الأصدقاء عدداً بلغ من الكثرة رجالاً ونساءً، وكلهم تقريباً ذائع الصيت أو رفيع المرتبة. وكان دالامبير يقود الحديث، وجولي تضفي على الندوة كل مفاتن الأنوثة ودفء الضيافة. ولم يقدم فيها غداء أو عشاء، ولكنها اشتهرت بأنها أعظم صالونات باريس حفزاً للعقول، اختلف إليها طورجو، ولموميني دبريين، اللذين سيرقيان سريعاً إلى مكان مرموق في الحكومة؛ ونبلاء مثل شاستللوكس وكوندرو رسيه، وأحبار مثل بوامون وبواجيلان، وشكاكون مثل هيوم وموريلليه، ومؤلفون مثل مابليه، وكوندياك، ومارمونيل، وسان-لامبير. حضروا أول الأمر ليروا دالامبير ويستمعوا إليه، ثم ليحظوا بتلك المهارة المتعاطفة التي كانت جولي تستدرج بها كل ضيف في ميدان تفوقه الخاص, ولم يحظر أي موضوع هنا، فكانت تناقش أدق مشكلات الدين أو الفلسفة أو السياسة، ولكن جولي-التي دربتها مدام جوفران على هذا الفن-عرفت كيف تهدئ من ثائرة الثائرين وترد النزاع نقاشاً. وكانت الرغبة في عدم الإساءة إلى المضيفة الرقيقة هي القانون غير المكتوب الذي بعث النظام في هذه الحرية. وفي ختام حكم لويس الخامس عشر كان صالون الآنسة دليسبيناس
في رأي سانت-بيف "أكثر الصالونات رواجاً، وأحفلها بالزوار المتشوقين إليه، في جيل كثر فيه الألمعيون"(111). ولم يقدم صالون آخر لزواره مثل هذا الإغراء المزدوج، فقد بدأت جولي رغم ندوب وجهها وعدم شرعية نسبها تصبح الحب الثاني لعشرة أو يزيد من الرجال المرموقين. وكان دالامبير في قمة قدراته. يقول جريم: "كان في حديثه كل ما يعلم العقل ويمتعه. فكان يسلم نفسه بيسر ورغبة لأي موضوع يدخل السرور على نفوس أكثر السامعين، مدخلاً فيه معيناً لا يكاد ينضب من الأفكار، والنوادر، والذكريات العجيبة، وما من موضوع أياً كان جفافه أو تفاهته في ذاته لم يملك سر إضفاء المتعة والطرافة عليه. وكان في كل فكاهاته أصالة رقيقة عميقة.(112) ثم استمع إلى ديفد هيوم يكتب إلى هوراس ولبول: "إن دالامبير رفيق لطيف المعشر كامل الفضائل. وقد دل على ترفعه عن المنفعة الشخصية والطمع الباطل بفرضه عروضاً من قيصرة روسيا وملك بروسيا....وله خمسة معاشات، أولها من ملك بروسيا، وثانيها من ملك فرنسا، والثالث يتلقاه بوصفه عضواً في أكاديمية العلوم، والرابع بوصفه عضواً في الأكاديمية الفرنسية، والخامس من أسرته. ولا تزيد جملتها كلها على ستة آلاف جنيه في العام. وهو يعيش على نصف هذا المبلغ عيشة كريمة، ويهب النصف الآخر للفقراء الذين له بهم صلة. والخلاصة أنني لا أكاد أعرف رجلاً، إلا القليلين،يفضله نموذجاً للشخصية الفاضلة الفيلسوفة.(113)
أما جولي فكانت نقض دالامبير في كل شيء خلا يسر الحديث ورقته. ولكن بينما كان هذا الموسوعي واحداً من آخر أبطال حركة التنوير، ينشد العقل والقصد في الفكر والعقل، كانت جولي، بعد روسو، أول صوت واضح للحركة الرومانسية في فرنسا، مخلوقاً (في عبارة مارمونتيل) "أوتي أنشط تصور، وأحر روح، وأشد الخيالات تأججاً منذ سافو"(114). فلم يفقها أحد من الرومانسيين، في عالم الحقيقة أو القصص لا هلويز روسو، ولا روسو ذاته؛ ولا كلاريسيه رتشاردسن، أو مانون بريفوست-في رهافة الحس أو حرارة حياتها الباطنة. كان دالامبير موضوعياً، أو حاول أن يكون كذلك، أما جولي فكانت ذاتية إلى حد الاستغراق الأناني في النفس أحياناً. ومع ذلك "كانت تشارك المحزونين ألمهم، وقد جاهدت جهاداً محموماً لكي ينتخب شاستللوكس ولاهارب عضوين في الأكاديمية، ولكنها حين أحبت نسيت كل شيء، وكل إنسان آخر. نسيت أولاً مدام دودفان، وثانياً دالامبير نفسه".
ذلك أنه في 1766 دخل الصالون نبيل شاب هو المركيز خوزيه دمورا إي جونزاجو، ابن السفير الأسباني، وكان في الثانية والعشرين، وجولي في الرابعة والثلاثين وكان قد زوج في الثانية عشرة من فتاة في الحادية عشرة، ماتت عام 1764. وأحست جولي بعد قليل بسحر شبابه، وربما بسحر ثرائه. وسرعان ما نضج تعلق الواحد منهما بصاحبه فتعاقدا على الزواج. فلما سمع أبوه بالأمر أمر بأداء واجبه العسكري في أسبانيا. وذهب مورا، ولكنه لم يلبث أن استقال من وظيفة الضابط. وفي يناير 1771 بدأ يبصق الدم، فذهب إلى بلنسية التماساً للراحة، فلما لم يشفَ هرع إلى باريس وجولي. وانفقا معاً أياماً سعيدة كثيرة، مما روح عن بلاطها الصغير وأثار في نفس دالامبير ألماً دفيناً. وفي 1772 استدعي السفير إلى أسبانيا، فأصر على أن يصحبه ابنه. ولم يرضَ الأب ولا الأم بزواجه من جولي، فانفصل فوراً عنهما وبدأ رحلته إلى الشمال ليعود أليها، ولكنه مات بالسل في بوردو في 27 مايو 1774. في ذلك اليوم كتب لها يقول "كنت في طريقي إليك، ولابد أن أموت، ياله من قضاء بشع!...ولكنكِ أحببتني، وتفكيري فيكِ ما زال يسعدني، إنني أموت في سبيلكِ!" ونزعوا من أصابعه خاتمين، احتوى أحدهما على خصلة من شعر جولي، ونقش على الآخر هذه الكلمات "كل الأشياء تزول، ولا يبقى غير الحب" وكتب دالامبير الشهم عن مورا يقول "إنني آسف لشخصي على فقد ذلك الرجل الحساس الفاضل الخلق، الرفيع الفكر، أكمل من عرفت من الناس...وسأذكر ما حييت تلك اللحظات الغالية التي أحبت فيها نفس بهذا الطهر والنبل والقوة والتهذيب الاختلاط بنفسي".
ومزق نبأ موت مورا قلب جولي، وزاد الخطب فداحة أنها منحت حبها في الوقت نفسه لرجل آخر. ذلك أنها في سبتمبر 1772 التقت بالكونت جاك-أنطوان دجيبيير، البالغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، والذي كان قد أبلى بلاءً حسناً في حرب السنين السبع. أضف إلى ذلك أن كتابه "دراسة شاملة للتكتيك" أشاد به القواد ورجال الفكر رائعة في هذا الميدان، وقد قدر لهذا الكتاب أن يحمل نابليون نسخة منها عليها تعليقات بخط يده خلال حملاته جميعاً. و"المقال التمهيدي" للكتاب الذي ندد بجميع الأنظمة الملكية صاغ المبادئ الأساسية لسنة 1789 قبل اندلاع الثورة بعشرين عاماً. وفي وسعنا أن نحكم على الإعجاب الذي أغرقه الناس على جيبير من موضوع اختير للنقاش في أحد الصالونات الكبرى: "أيهن تحسد أكثر من غيرها: أم المسيو دجيبير، أم أخته، أم خليلته؟"(117) وكان له بالطبع خليلة-هي جان دمونسوج، آخر وأطول غرام له. وقد حكمت عليه جولي حكماً قاسياً قس لحظة مرارة إذ قالت:- "إن الاستخفاف، بل القسوة، التي يعامل بها النساء مصدرها قلة اعتباره لهن...فهو يراهن معابثات، مغرورات، ضعيفات، كاذبات، طائشات، واللاتي يحسم فيهن رأيه يراهن متعلقات بالخيل، ومع أنه يضطر إلى الإقرار بوجود خصال حميدة في بعضهن، فهو لا يقدرهن لهذا السبب تقديراً أعلى، بل يرى أن فيهن رذائل أقل، لا فضائل أكثر"(118). على أنه كان وسيماً، وسلوكه كاملاً، وحديثه يجمع بين الغنى والشعور، وبين العلم والوضوح، قالت مدام دستال "كان حديثه أكثر ما عرفت تنوعاً، وحيوية، وغنى"(119).
ورأت جولي أنها محظوظة بإيتاء جيبير لندواتها، وأفتتن الواحد منهما بشهرة صاحبه، فنشأت بينهما علاقة أصبحت من جانبه غزوة عارضة، ومن جانبها غراماً قتالاً. وهذا الغرام الفتاك هو الذي أحل رسائلها إلى جيبير مكاناً مرموقاً في الأدب الفرنسي وبين أكثر وثائق العصر كشفاً. ففيها أكثر حتى مما في "جولي أو هلويز الجديدة" لروسو (1761)، تلقى إرهاصات لحركة الرومانسية في فرنسا تعبيرها الحي.
وفي أول رسالة باقية إلى جيبير (15 مايو 1773) نراها واقعة في حبائل غرامه، ولكن كان يمزقها تأنيب الضمير لانتهاكها ميثاق الوفاء لمورا. فكتبت لجيبير وهو راحل إلى ستراسبوج تقول:
رباه! بأي سحر، وبأي قدر، استطعت أن تفتني؟ لم لم أمت في سبتمبر؟ كان يمكن أن أموت آنئذ فأعفى....من اللوم الذي ألوم به نفسي الآن..إنني أشعر بهذا وآ أسفاه، إنني ما زلت أستطيع الموت في سبيله، فمل من مصلحة لي أضن ببذلها له...أواه، أنه سيصفح عني! لقد عانيت كثيراً! ولقد أضنى جسدي وروحي طول ما ألم بي من حزن. وطاش عقلي حين تلقيت خطابه. في ذلك الحين رأيتك أول مرة، في ذلك الحين تسلمت نفسي، في ذلك الحين أدخلت عليها السرور، ولست أدري أيهما كان أحلى-أن أشعر بذلك السرور، أو أن أدين به لك.(120)
وبعد ثمانية أيام سقطت كل أسباب دفاعه: "لو كانت صغيرة جميلة، فاتنة جداً، لما أعياني أن أتبين الكثير من الافتعال في مسلككِ معي، ولكن بما أنني لست من هذا كله في شيء، فإنني أجد في مسلككِ عطفاً وشرفاً أكسباكِ نصراً على روحي إلى الأبد.(121)
وكانت أحياناً تكتب بكل التحرر الذي كتبت بها هلويز لأبيلار: "أنت وحدك الذي يستطيع في هذا الكون أن يمتلك كياني ويتربع فيه..وقلبي، وروحي، لا يمكن أن يملأهما سواك....إن بابي لم يفتح اليوم مرة دون أن يخفق قلبي، ومرت بي لحظات كنت أخشى فيها أن اسمع اسمك، ثم كان يحطم قلبي ألا أسمعه. أن كثيراً من المتناقضات، وكثيراً من الانفعالات المصطرعة، صادقة، وتفسرها كلمة واحدة: أحبك.(122) وزاد الصراع بين الغرامين من الاضطراب العصبي الذي ربما كان مصدره تعطش آمالها إلى تحقيق المرأة لذاتها، واستهدافها المتزايد للسل، وكتبت إلى جيبير 6 يوليو 1773 تقول:
"إن روحك رغم اضطرابها ليست كروحي التي لا تفتأ مترددة بين التشنج والاكتئاب. وأنا أتعاطى السم (الأفيون) لأهدئ نفسي. وأنت ترى أنني عاجزة عن أن أهدئ نفسي؛ فأرشدني، وقوني، وسأصدقك، وستكون سندي.(123) وعاد جيبير إلى باريس في أكتوبر، وقطع علاقاته مع مدام دمونسوج، وباح بحبه لجولي. فقبلته شاكرة، وأسلمت له جسدها-في الحجرة المؤدية لمقصورتها في الأوبرا (10 فبراير 1774)(124) وقد زعمت فيما بعد أن هذه الفعلة التي اقترفتها وهي في الثانية والأربعين، كانت أول زلة لها من "الشرف" و"الفضيلة"(125) ولكنها لم تنح على نفسها باللوم:
"أتذكر الحال التي وضعتني فيها، والتي اعتقدت أنكَ تركتني عليها؟ حسناً أود أن أقول لك أنني بعد أن أفقت سريعاً، قمت ثانية (والكلمتان كتبتهما بحروف مائلة) ورأيت ذاتي غير هابطة عن مقامي قيد أنملة....وربما تعجب لأن آخر الدوافع التي جذبتني إليك هو الوحيد الذي لا يبكتني عليه ضميري.....فبذلك الاستسلام، بتلك المرتبة النهائية من نكران نفسي وكل مصلحة شخصية لي، أثبت لك أنه ليس هناك غير خطب واحد في الأرض لا طاقة لي باحتماله-وهو أن أغضبك وأفقدك. فذلك الخوف يجعلني أبذل لك حياتي"(126).
"ونعمت حيناً بنشوات السعادة. وكتبت إليه (لأنهما أخفيا عن الناس علاقتهما وسكن الواحد بعيداً عن صاحبه). لقد ظللت أفكر فيك طوال الوقت. وأنا مستغرقة فيك استغراقاً يجعلني أفهم شعور العابد نحو إلهه."(127) أما جيبير فلم يكن بد من أن يمل غراماً يسرف هذا الإسراف في سكب نفسه دون أن يترك لقوته أي تحد. وسرعان ما راح يهتم بالكونتيسة دبوفليه، ويستأنف غرامه بمدام دمونسوج (مايو 1774). وعاتبته جولي، فرد في فتور. ثم نمى إليها في 2 يونيو أن مورا مات في طريقه إليها وهو يبارك اسمها. فتردت في حمى من الندم والحسرة وحاولت أن تسمم نفسها، ولكن جيبير منعها. وراحت خطاباتها إليه يدور أكثرها حول مورو، ومبلغ سمو هذا النبيل الأسباني عن أي رجل عرفته في حياتها. وقلت رؤية جيبير لها وزادت لقاءاته بمونسوج. وعللت جولي نفسها بالبقاء على الأقل خليلة من خليلاته، فكانت ترتب له الزيجات، ولكنه رفض عرائسها، وفي أول يونيو 1775 تزوج الآنسة دكورسيل، وكانت فتاة غنية في السابع عشرة. وكتبت له جولي خطابات مفعمة بالحقد والاحتقار، مختتمة بتوكيدات الحب الذي لا يموت(128).
وقد استطاعت طوال حمى غرامها كلها أن تخفي طبيعتها عن دالامبير، الذي خيل إليه أن سببها هو غياب مورا ثم موته. فرحب بجيبير في صالونها، وكون صداقة مخلصة معه، وكان يرسل بشخصه الرسائل المختومة التي تكتبها لعشيقها. ولكن لحظ أنها فقدت اهتمامها به، وأنها كانت أحياناً تستاء من وجوده. والواقع أنها كتبت لجيبير "لولا أنه يبدو عقوقاً بالغاً مني لقلت أن رحيل دالامبير يعطيني نوعاً من السرور. إن حضوره يثقل روحي. وهو يجعلني قلقة مضطربة النفس، فأنا أشعر أنني غير مستحقة أبداً لصداقته وطيبة قلبه.."(129) فلما ماتت كتب إلى "روحها" يقول:
"ليت شعري لأي سبب لا أستطيع أن أفهمه ولا أن أحزره، تغير فجأة ذلك الشعور الذي كان من قبل غاية في الرقة نحوي...إلى شعور الغربة والنفور؟ ما لذي صنعت مما يسيء إليكِ؟ لمَ لم تشكِ إليّ إن كان لكِ مبرر للشكوى؟...أم أنكِ أيتها العزيزة جولي...قد أسأت إليّ إساءة أجهلها، وكان يحلو لي كثيراً أن اغتفرها لو علمت بها...لقد كنت عشرين مرة على وشك أن ألقي بنفسي بين ذراعيكِ، وأن أطلب إليكِ أن تخبريني ما جريرتي، ولكني خشيت أن تصدني هاتان الذراعان..."
"وظللت تسعة أشهر أترقب اللحظة التي أخبركِ فيها بما عانيت وما أحسست، ولكني وجدتكِ خلال تلك الشهور أضعف من أن تحتملي العتب الرقيق الذي كان عليّ أن أكاشفك به، واللحظة الوحيدة التي كان يمكنني فيها أن أكشف لك في غير خفاء عن قلبي المحزون الواهم هي تلك اللحظة الرهيبة، قبل موتك بساعات، حين سألتني الصفح عنكِ بطريقة مزقت نياط قلبي...ولكن عندها لم يعد فيكِ قوة لا للتحدث ولا لاستماع إليّ...وهكذا فقدتِ إلى الأبد لحظة العمر التي كانت ستكون لي أغلى اللحظات-اللحظة التي أخبرك فيها، مرة أخرى، كم أنتِ عزيزة عليّ، وكم شاطرتكِ بحبكِ، وما أعمق رغبتي في أن أنهي آلامي بكِ، وددت لو بذلت كل ما بقي لي من لحظات عمري لقاء تلك اللحظة الواحدة التي لن تتاح لي أبداً، تلك التي ربما كنت أستعيد بها حنانكِ إذ أكاشفكِ بكل ما في قلبي من حنان لك."
وساعد انهيار حلم جولي السل على الفتك بها، ودعي لعيادتها الطبيب بوردو (الذي التقينا به في قصة ديدرو "حلم دالامبير")، فصرح بأنه لا أمل في شفائها. ولم تبرح فراشها منذ إبريل 1776. وكان جيبير يذهب لزيارتها كل صباح ومساء. ولم يكن دالامبير يترك العناية بها إلا لينام. وكان الصالون قد توقف، لولا حضور كوندورسيه، وسوار، ومدام جوفران الطيبة، التي كانت هي ذاتها مشرفة على الموت. وفي أيامها الأخيرة أبت جولي أن تسمح لجيبير بزيارتها، لأنها لم تشأ أن تدعه يرى كيف شوهت التشنجات وجهها؛ ولكنها كانت ترسل العديد من الخطابات، وأكد لها هو أيضاً حبه: "لقد أحببتكِ من اللحظة الأولى التي التقينا فيها، أنكِ أغلى عندي من كل شيء في هذه الدنيا."(131) وكان هذا، ووفاء دالامبير الصامت، وقلق أصدقائها عليها، العزاء الوحيد لها في آلامها. وكتبت وصيتها، التي عينت دالامبير منفذاً لها، وعهدت إليه بكل أوراقها وأمتعتها الشخصية . وجاء أخوها المركيز دفيشي من برجندية، وألح عليها في أن تتصالح مع الكنيسة وكتب إلى الكون دالبون "يسعدني أن أقول لك إنني أقنعتها بأن تتناول القربان على الرغم من "الموسوعة" كلها، وفي مواجهتها"(132).
وأرسلت كلمة أخيرة إلى جيبير: "يا صديقي، أنني أحيك...وداعاً" وشكرت دالامبير على وفائه الطويل، وتوسلت إليه أن يغفر لها جحودها، وماتت في تلك الليلة، في الساعات الباكرة من يوم 23 مايو 1776. ودفنت في اليوم نفسه، في كنيسة سان-سولييس، "دفن الفقراء" كما رغبت في وصيتها.