قصة الحضارة - ول ديورانت - م 10 ك 1 ف 1

من معرفة المصادر
صفحة رقم : 12802   


قصة الحضارة -> روسو والثورة -> أيها القارئ العزيز

المجلد العاشر: روسو والثورة

تاريخ الحضارة في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا

من 1756 وفي بقية أوربا من 1715 إلى 1789

أيها القارئ العزيز

هذا هو المجلد الأخير في قصة الحضارة التي كرسنا لها نفسينا عام 1929، والتي كانت شغلنا اليومي الشاغل وسلوى حياتينا منذ ذلك التاريخ.

لقد كان هدفنا أن نؤلف "تاريخاً متكاملاً" أي أن نكتشف ونسجل ألوان النشاط الاقتصادي، والسياسي، والروحي، والخلقي الثقافي، لكل حضارة، في كل عصر، بوصف هذه الألوان عناصر وثيقة الترابط في واحد يسمي الحياة، ثم نضفي على القصة صبغة إنسانية بدراسات للأبطال في كل فصل من فصول هذه المسرحية المتصلة الحلقات ومع أننا نسلم بأهمية الحكم والسياسة، فقد سقنا التاريخ السياسي لكل حقبة ودولة كما تساق خلفية رويت من قبل غير مرة، دون أن يكون لب القصة أو روحها، وتركز جل اهتمامنا على تاريخ العقل. ومن ثم كان أكثر اعتمادنا في شؤون الاقتصاد والسياسة على المصادر الثانوية، بعكس ما انتهجناه في تناولنا للدين، والفلسفة، والعلم، والأدب، والموسيقى، والفن، فقد حاولنا الرجوع فيها إلى الأصول والمنابع: حاولنا أن نرى كل دين وهو يعمل في منبته، وأن ندرس أخطر الفلسفات في مؤلفاتها الكبرى، وأن نزور الفن في موقعه الأصلي أو الجديد، وأن نتذوق روائع الأدب العالمي، في لغاتها الأصلية في كثير من الأحيان، وأن تستمع إلى الألحان الموسيقية العظمى مراراً وتكراراً، ولو باقتطاعها من جوها المعجز. وتحقيقاً لهذه الأهداف طفنا بالعالم مرتين، وبأوربا مرات لا تحصى من 1911 إلى 1966. وسيدرك القارئ العطوف أنه يستحيل علينا في الأجل الواحد الذي كتب لنا أن نرجع بالمثل إلى المصادر الأصلية في الاقتصاد والسياسة، خلال قرون التاريخ الستين، وحضاراته العشرين ولم نجد مندوحة عن الرضى بالحدود والقيود، والتسليم بما فينا من عجز وقصور.

ويؤسفنا أننا سمحنا لافتتاننا بكل جزء في ملحمة الإنسان بأن يوقفنا في رضى كثير، حتى ألفينا نفسينا في خاتمة المطاف منهوكي القوى حين بلغنا الثورة الفرنسية. ونحن نعلم أن هذا الحدث لم ينه التاريخ، ولكنه نهينا. وما من شك في أن طريقتنا المتكاملة الشاملة أفضت بنا إلى إثقال معظم هذه المجلدات بالطول المفرط. ولو أننا كتبنا تاريخاً ممزقاً-كقصة أمة؛ أو فترة أو موضوع واحد-فلربما وفرنا على القارئ وقته وعتاده، غير أن تصوير جميع الجوانب في قصة واحدة، عن عدة أمم، في فترة معينة، تطلب حيزاً للتفاصيل التي لم يكن منها بد لنفح الحياة في الأحداث والشخصيات. وسيشعر كل قارئ من جانبه بأن الكتاب مسرف في الطول، وأن تناوله لأمته أو لتخصصه مسرف في القصر. فقد يرغب قراء الإنجليزية أو الفرنسية في أن يقصروا قراءتهم الأولى لهذا المجلد على الفصول 1-8، 13-15-و20-38، ويرجئوا الباقي إلى حين، وقد يختار قراء لغات أخرى فصولهم على هذه الشاكلة. غير أننا نأمل أن يسير بعض الأبطال الشوط كله معنا، فيحاولوا أن يروا أوربا بوصفها كلاً في تلك السنين الثلاث والثلاثين المفعمة بالأحداث، والممتدة من حرب السنين السبع إلى الثورة الفرنسية، على أننا لن نقترف هذه الأسباب مرة أخرى، ولكن لو استطعنا أن نفلت من حاصد الأرواح سنة أخرى أو سنتين، فإننا نرجو أن نقدم للقارئ مقالاً ملخصاً في "عظات التاريخ".

ول وإيريل ديورانت

لوس أنجلس

أول مايو 1967


الكتاب الأول: مقدّمة

الفصل الأول: روسو جواب الآفاق 1712 - 1756

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1- الاعترافات

كيف حدث أن رجلاً ولد فقيراً، وفقد أمه عند مولده، ثم هجره أبوه بعد قليل وابتلي بمرض أليم مذل، وترك يضرب في الآفاق اثنتي عشر عاماً بين مدن غريبة ومذاهب دينية متناحرة، مرفوضاً من المجتمع والحضارة، رافضاً فولتير، وديدرو، والمسوعة، وعمر العقل، رجلاً طورد من مكان إلى آخر باعتباره ثائراً خطراً، واتهم بالإجرام والجنون، وشهد في شهور حياته الأخيرة تأليه خصمه الألد-نقول كيف حدث أن رجلاً كهذا، بعد موته؛ انتصر على فولتير، وأحيا الدين، وقلب التعليم رأساً على عقب، ورفع أخلاقيات فرنسا، وألهم الحركة الرومانية، والثورة الفرنسية، وأثر في فلسفة كانت وشوينهاور، وتمثيليات شيلر، وروايات جوته، وشعر وردزورث وبيرون وشيلي، واشتراكية ماركس، وأخلاق تولستوي وأتيح له-على الجملة- من التأثير على الأجيال التالية ما فاق تأثير أي كاتب أو مفكر آخر في ذلك القرن الثامن عشر؛ القرن الذي فاق في تأثير الكتاب تأثيرهم في أي عهد سبقه؟ هنا تواجهنا هذه المشكلة إن كان لها أن تواجهنا في أي موضع: ما الدور الذي لعبته العبقرية في التاريخ، ما دور الإنسان إزاء المجتمع والدولة؟

كانت أوربا آنئذ مهيأة لإنجيل يبوئ الوجدان مكاناً فوق الفكر فلقد سئمت قيود التقاليد والأعراف، والآداب، والقوانين. وسمعت ما يكفي عن العقل، والجدل العقلي، والفلسفة، وبدا أن كل هذه الفوضى، فوضى العقول التي أطلق حبلها على غاربها، قد جردت الدنيا من المعنى، وعطلت النفوس من الخيال والرجاء، وكان الرجال والنساء بينهم وبين أنفسهن تواقين للعودة إلى حظيرة الإيمان. لقد ملت باريس، ملت الضجيج والعزلة، وسجن حياة المدينة وتزاحمها المجنون، وهفت الآن إلى حلم حياة الريف الأكثر هوناً، الحياة التي قد يجلب نظامها الرتيب البسيط للبدن صحة وللعقل سلاماً، والتي يرى فيها الإنسان من جديد نساء تزينهن الحشمة والحفر، والتي تلتقي فيها القرية كلها في كنيسة الأبرشية في هدنة أسبوعية. قم ما بال هذا "التقدم" الذي يزهون به، و"تحرير العقل" هذا الذي يفاخرون به-هل أحلا شيئاً محل ما دمراه؟ هل أعطيا الإنسان صورة للعالم ومصير الإنسان أكثر وضوحاً للإفهام أو إلهاماً للنفوس؟ هل حسنا حظوظ الفقراء، أو أتيا بالعزاء والسلوى للمحزونين على فقد الأعزاء أو للمتألمين المكروبين؟ سأل روسو هذه الأسئلة، وأضفى الشكل والإحساس على هذه الشكوك، فأصغت إليه أوربا بأسرها بعد أن أخمد صوته. وبينما كان فولتير يعيد على المسرح في الأكاديمية (1778)، وبينما كان روسو الموبخ المزدرى يختبئ في ظلام حجرة من حجرات باريس، بدأ عصر روسو.

ولقد ألف أشهر ترجمة ذاتية في أخريات أيامه، وهي كتابه "الاعترافات". ذلك أنه-وهو الرجل الحساس لكل نقد الظنون الذي خال جريم، وديدرو، وغيرهما يأتمرون به ليشوهوا سمعته في صالونات باريس وفي "مذكرات" مدام دينيه-هذا الرجل بدأ عام 1768، بإلحاح من أحد الناشرين، كتابة قصته هو ليروي سيرته وخلقه. وكل التراجم الذاتية بالطبع غرور في غرور، غير أن روسو-الذي أدانته الكنيسة، وحمته من حماية القانون ثلاث دول، وهجره أخلص أصدقائه-كان له الحق في الدفاع عن نفسه، بل في الدفاع المستفيض: وحين قرأ فقرات من هذا الدفاع على بعض المحافل في باريس حصل خصومه على أمر من الحكومة يحظر إي قراءة علنية أخرى لمخطوطته. فلما فت في عضده، تركها عند موته مشفوعة برجاء للأجيال التالية قال فيه:

"إليكم هذه اللوحة الإنسانية الوحيدة-المنقولة بالضبط عن الطبيعة بكل صدق-الموجودة الآن أو التي ستوجد إطلاقاً في أغلب الظن. وأيما كنتم، يا من نصبكم قدري وثقتي حكماً على هذا السجل، فإني أستحلفكم بحق ما أصابني من خطوب ومحن وبحق ما تشعرون به من أخوة البشر، وباسم الإنسانية جمعاء، ألا تدمروا عملاً نافعاً فريداً في بابه، قد يصلح بحثاً مقارناً من الدرجة الأولى لدراسة الإنسان. وألا تنتزعوا من شرف ذكراي هذا الأثر الصادق الوحيد لخلقي، الأثر الذي لم ينل من خصومي مسخاً وتشويهاً(1)".

والكتاب، بمحاسنه ومآخذه، نتاج ما فطر عليه مؤلفه من شدة الحساسية، وقوة الذاتية، ورهافة العاطفة. يقول روسو "إن قلبي الحساس كان أس بلائي كله".(2) ولكن هذا القلب أضفى ألفة حارة على أسلوبه، وحناناً على ذكرياته، وفي كثير من الأحيان سماحة على أحكامه، وكلها تذيب نفورنا ونحن نمضي في قراءة الكتاب. ففيه يغدو كل تجريد واقعاً شخصياً مجسداً، وكل سطر شعوراً نابضاً بالحياة فهذا الكتاب أشبه بالنبع الذي تتدفق منه نهر الاعترافات المستبطنة، النبع الذي روى أدب القرن التاسع عشر، لا لأنه لم يكن له ضريب سابق من كتب الاعترافات، ولكن حتى القديس أوغسطين لم يستطع أن يضارع هذه التعرية للذات، أو يدعي دعواها في الأمانة والصدق. والكتاب يستهل بدقة من البلاغة التي تتحدى المقلدين:

"إنني مقبل على مغامرة لم يسبق لها نظير، ولن يكون لتنفيذها مقلد، أريد أن أظهر إخواني في الإنسانية على إنسان في كل صدق الطبيعة، وهذا الإنسان هو أنا نفسي. أنا مجرداً من كل شيء. إنني أعرف قلبي، وأنا عليم بالناس. ولم أخلق كأي حي من الأحياء. وإذا لم أكن خيراً منهم، فإنني على الأقل مختلف عنهم. أما أن الطبيعة أحسنت أو أساءت بتحطيم القالب الذي صببت فيه، فذلك شيء لا يستطيع الحكم عليه إنسان إلا بعد أن يقرأني".

"وأياً كان موعد الساعة التي سيُنفخ فيها في صور يوم الحشر، فسوف آتي وكتابي هذا في يميني لأمثل أمام الديان الأعظم وسوف أقول بصوت عالٍ: كذلك سلكت ، وكذلك فكرت، وكذلك كنت، لقد تحدثت إلى الأبرار والأشرار بنفس الصراحة، وما أخفيت شيئاً فيه سوء، ولا أضفت شيئاً فيه خير. وقد أظهرت نفسي كما أنا: حقيراً خسيساً حين كنت كذلك، وخيراً سمحاً نبيلاً حين كنت كذلك، لقد أمطت اللثام عن أعمق أعماق نفسي(3).

وتتردد دعواه في توخي الصدق الكامل في الكتاب مراراً وتكراراً. ولكن روسو يسلم بأن تذكره لأشياء انقضى عليها خمسون عاماً كثيراً ما يكون تذكراً مبتوراً لا يمكن الركون إليه، وللجزء الأول في جملته جو من الصراحة يشيع الطمأنينة في القارئ. أما الجزء الثاني فتشوهه الشكاوى المملة من الاضطهاد والتآمر. وأياً كان الكتاب، فهو من أعظم ما نعرف من الدراسات السيكولوجية كشفاً عن النفس، وهو قصة روح حساسة شاعرة خاضت صراعاً أليماً مع قرن واقعي قاس. وعلى أية حال، فأن كتاب الاعترافات، لو لم يكن ترجمة ذاتية، لكان من إحدى الروايات العظيمة في العالم"(4) .


2- الفتى الشريد 1712 - 1731

"ولدت بجنيف في 1712، ابناً لإسحاق روسو وسوزان برنار، المواطنين". والكلمة الأخيرة كانت تعني الكثير، لأن ألفا وستمائة فقد من بين سكان جنيف العشرين ألفاً كانوا يملكون اسم المواطن، وسيشارك هذا العامل في تاريخ جان-جاك. وكانت أسرته فرنسية الأصل، ولكنها وطنت في جنيف منذ 1529. وكان جده قسيساً كلفنياً، وقد ظل الحفيد في صميمه كلفنياً طوال تطويفه الديني كله. أما أبوه فكان من أقطاب صناعة الساعات، رجلاً خصب الخيال لا يستقر له قرار، أتاه زواجه (1704) بصداق قدره عشرة آلاف فلورين. وبعد أن أنجب غلاماً ترك زوجته (1705) ورحل إلى الآستانة حيث مكث ست سنوات ثم عاد لأسباب مجهولة، "وكنت الثمرة الحزينة لهذه العودة"(8) وماتت الأم بحمى النفاس بعد أسبوع من مولد جان جاك "جئت إلى العالم أحمل إمارات قليلة جداً على الحياة، بحيث لم يكن هناك كبير أمل في الإبقاء عليّ". وكفلته خالة له وأنقذته، وهو عمل "أغتفره لك دون تحفظ" على حد قوله. وكانت الخالة يجيد الغناء والترتيل، ولعلها بثت فيع ذلك الشغف بالموسيقى الذي لازمه طيلة حياته. وكان طفلاً عبقرياً، تعلم القراءة في زمن وجيز، ولما كان أبوه إسحاق مولعاً بالقصص الرومانسية، فقد راح الوالد والولد يقرءان الروايات المختلفة في مكتبه أمه الصغيرة. ونشئ جان-جاك على مزيج من القصص الغرامية الفرنسية، وتراجم بلوتارخ، والفضائل الكلفينية، وجعله هذا المزيج قلقاً مهزوزاً. قد وصف نفسه وصفاً دقيقاً بأنه "أبيٌ هش في وقت معاً، في خلقي أنوثة وهو مع ذلك خلق عاتٍ لا يقهر، دأب على وضعي في موضع التناقض مع نفسي لأنه متذبذب بين الضعف والشجاعة، وبين الترف العفة(9)".

وفي 1722 تشاجر أبوه مع رجل يدعى الكابتن جوتيه، فأسال الدم من أنفه، فاستدعاه القاضي المحلي ولكنه هرب من المدينة اتقاء السجن، واتخذ مقره مدينة نيون على ثلاثة عشر ميلاً من جنيف. وبعد سنوات تزوج ثانية. وكفل فرانسوا وجان-جاك خالهما جابريل برنار. وألحق فرانسوا بصانع ساعات، فهرب، واختفى من التاريخ. وأما جان-جاك وابن خاله أبراهام برنار فقد أرسلا إلى مدرسة داخلية يديرها القس لامبرسييه في قرية بوسيه القريبة "هنا كان علينا أن نتعلم اللاتينية، وكل اللغو التافه الذي أطلق عليه اسم التعليم".(10) وكان التعليم المسيحي الكلفني جزءاً من صميم المنهج.

وأحب معلميه، ولا سيما أخت القسيس، الآنسة لامبرسييه، وكانت في الثلاثين، وجان-جاك في الحادية عشرة، فوقع في غرامها على طريقته العجيبة. كان إذا ساطته عقاباً على سوء الأدب، أبهجه أن يتعذب على يديها، "فإن شيئاً من الشهوانية اختلط بالألم والخزي، مما خلف فيّ الرغبة في تكرار العقوبة أكثر من الخوف".(11) فلما عاد إلى الذنب وضح التذاذه بالعقاب وضوحاً صممت معه على ألا تعود إلى ضربه بالسوط. وقد ظل عنصر مازوكي يلازم تكوينه العشقي إلى النهاية.

"وهكذا قضيت سن المراهقة، ببنية متقدة، دون أن أعرف أو حتى أشتهي أي إشباع آخر لرغباتي المشبوبة غير ما أوحت به إليّ الآنسة لامبرسييه في براءة، وحين بلغت مبلغ الرجال لم يخفِ هذا الميل الصبياني بل اتحد مع الميل الآخر. ولقد ظلت هذه الحماقة وما صاحبها من شدة حياء فطري تحول دائماً بيني وبين الاجتراء مع النساء، وهكذا كنت أقضي أيامي أتحرق في صمت شوقاً لم أهيم بهن دون أن أجرؤ على البوح برغباتي.

"وهانذا قد خطوت أول خطوة وأشقها في تيه اعترافاتي الحالك الأليم. ذلك أننا لا نستشعر في البوح بذنب ينطوي على الإجرام فعلاً ذلك النفور الشديد الذي نستشعره في البوح بذنب لا يثير غير السخرية"(12).

ويجوز أن روسو، في حياته اللاحقة، وجد عنصر لذة في شعوره بالمقاومة والصد من العالم، ومن أعدائه، ومن أصدقائه.

وبعد اللذة التي وجدها في عقوبات الآنسة لامبرسييه وجد متعة في المنظر الطبيعي الرائع الذي أحاط به، "كان في الريف من الفتنة...ما حبب إليّ الحياة الريفية حباً لم يستطع الزمن أن يطفئه".(13) ولعل هذين العامين الذين أنفقهما في بوسيه كانا أسعد سني عمره رغم ما تكشفه له من ظلم في هذه الدنيا. فقد عوقب مرة على ذنب لم يجنه، فاستجاب بسخط لم يفارقه قط، وبعدها "تعلم أن يرائي، ويتمرد، ويكذب، وبدأت كل الرذائل المألوفة في حياتنا تفسد براءتنا السعيدة".(14)

ولم يجاوز قط هذه المرحلة من التعليم المدرسي أو الكلاسيكي وربما كان افتقاره إلى التوازن، وصواب الحكم، وضبط النفس، وإخضاعه العقل والوجدان-ربما كان هذا كله راجعاً لإنهاء تعليمه المدرسي في فترة مبكرة. ففي 1724؛ حين بلغ الثانية عشرة، أعيد هو وابن خالته إلى بيت أسرة برنار. وزار أباه في نيون، وهناك هام بفتاة تدعى فورسون، فصدته عنها، ثم بأخرى تدعى جوتون "أبت أن تسمح له بشيء من التجاوز معها، في حين أباحت لنفسها أشد الحريات معي".(15) وبعد عام من التردد والتذبذب ألحق صبيا بحفار في جنيف. وكان يحب الرسم، وقد تعلم الحفر على ظروف الساعات، ولكن معلمه كان يضربه بقسوة على ذنوب صغيرة، "فدفعني إلى رذائل كنت أحتقرها بفطرتي، كالكذب، والكسل، والسرقة". وأنقلب الصبي الذي كان من قبل سعيداً إلى غلام منطوٍ مكتئب كاره لعشرة الناس.

ووجد السلوى في الإدمان على قراءة الكتب التي استعارها من مكتبة قريبة، وفي الرحلات الريفية يقوم بها في الآحاد. وحدث مرتين أنه تباطأ في الحقول حتى وجد أبواب المدينة مغلقة إذ حاول العودة، فأنفق الليل في العراء، ومضى إلى عمله نصف مشدوه، وكان جزاؤه علقة ساخنة.

وفي رحلة ثالثة من هذه الرحلات حملته ذكرى هذا الضرب على أن يقرر ألا يعود إطلاقاً فمضى قدماً إلى كونفنيون في سافوي الكاثوليكية، على ستة أميال من بلدته، وهو لم يبلغ بعد السادسة عشرة (15 مارس 1728) لا نقود معه ولا ثياب سوى ما يحمله على ظهره.

هناك طرق باب قسيس القرية الكاثوليكي الأب بنوا ديونفير، ولعله سمع أن هذا الكاهن الشيخ تواق لهداية الجنيفيين الشريدين، فهو يقدم لهم الطعام الطيب عملاً بالنظرية القائلة أن المعدة الممتلئة تعين على التفكير المستقيم. وقد قدم لجان-جاك غذاءً طيباً، وقال له "اذهب إلى آنسي، حيث تجد سيدة صالحة خيرة يتيح لها كرم الملك أن تحول النفوس عن تلك الخطايا التي أقلعت عنها لحسن الحظ"(16). ويضيف روسو أن هذه السيدة هي "مدام دفاران، التي اهتدت إلى الكثلكة مؤخراً، والتي رتب القساوسة أن يبعثوا إليها بأولئك التعساء المستعدين لبيع عقيدته، وكانت إلى حد ما مضطرة إلى أن تشارك هؤلاء معاشاً قدره ألفا فرنك أنعم بها عليها ملك سردانيا". ورأى الفتى الشريد أن شطراً من ذلك المعاش قد يستأهل تغيير العقيدة. وبعد ثلاثة أيام، في آنسي، مثل أمام مدام فرانسوا-لويز دلاتور، بارونة فاران.

كانت في التاسعة والعشرين، امرأة حلوة، كيسة، دمثة، سمحة جذابة الملبس، "ما رأيت وجهاً أجل ولا جيداً أبدع، ولا ذراعين مليحتين أروع تكويناً"(17). وكانت في مجموعها أبلغ حجة تناصر الكاثوليكية رآها روسو على الإطلاق. ولدت يفيفي بأسرة طيبة، وتزوجت وهي صغيرة جداً من المسيو (البارون فيما بعد) دفاران اللوزاني وبعد سنوات من التنافر الأليم تركته، وعبرت البحيرة إلى سافوي، ونالت حماية الملك فكتور أمادو، وكان يومها في إفيان. وبعد أن نزلت آنسي، قبلت اعتناق الكاثوليكية، معتقدة أنها لو أدت شعائرها الدينية على الوجه الصحيح لغفر الله لها غرامياتها التي تقع فيها بين الحين والحين،

ثم إنها لم تستطع أن تصدق أن يسوع الرقيق القلب سيقذف بالرجال-فما بالك بامرأة جميلة-في النار الأبدية(18).

وكان يطيب لجان-جاك أن يمكث معها لولا أنها كانت مشغولة. فنفحته ببعض المال، وأمرته بأن يمضي إلى تورين ويتلقى التعليم في "نزل الروح المقدس" وقد استقبل هناك في 12 إبريل 1728، وفي 21 إبريل عمد في المذهب الكاثوليكي الروماني. وحين استعاد ذكرى هذه الواقعة بعد أربعة وثلاثين عاماً-وقبل عودته إلى البروتستانتية بثماني سنوات-كتب يصف في رعب تجربته في النزل، بما في ذلك محاولة للاعتداء على عفته من زميل مغربي حديث الاهتداء؛ وقد خيل إليه أن موقفه من اعتناق الكاثوليكية كان موقف النفور، والخزي، والتسويف الطويل. ولكن الظاهر أنه تكيف مع الظروف التي وجدها في النزل لأنه مكث هناك دون إكراه أكثر من شهرين بعد أن قبل في كنيسة روما(19).

ثم ترك النزل في يوليو، مسلحاً بستة وعشرين فرنكاً. وبعد أن أنفق أياماً في مشاهدة معالم المدينة وجد عملاً في متجر جذبه إليه جمال السيدة الواقفة خلف منضدته. ووقع في غرامها للتو والساعة، وما لبث أن جفا أمامها وبذل لها عهداً بالوفاء مدى الحياة. وابتسمت مدام بازيل، ولكنه لم تسمح له بأن يتجاوز يدها، ثم أن زوجها كان وشيك الوصول في أية لحظة. يقول روسو "إن عدم توفيقي مع النساء نشأ دائماً عن إفراطي في حبهن"(20) ولكن كان في فطرته أن يجد في التأمل لذة أعظم مما يجد في الإشباع وقد فرج عن ضيقه بتلك "التكملة الخطرة التي تخدع الطبيعة وتنقذ الفتيان، الذين على شاكلتي مزاجاً، من اضطرابات كثيرة، ولكن على حساب صحتهم، وقوتهم، وأحياناً حياتهم"(21).

ولعل هذه العادة، التي تفاقمت حماها نتيجة النواهي المرهبة، لعبت دوراً خفياً في زيادة نزقه، وأهامه الرومانسية، وشعوره بالقلق في المجتمع، وحبه للوحدة. وهنا نجد "الاعترافات" تتوخى صراحة لم يسبق لها نظير.

"كانت أفكاري في شغل شاغل بالفتيات والنساء ولكن بطريقتي الخاصة. وقد أبقت هذه الأفكار حواسي في نشاط دائم مؤذٍ...وبلغ في التهيج مبلغاً جعلني ألهب رغباتي بأشد المناورات إسرافاً بعد أن عجزت عن إشباعها. فكنت ألتمس الأزقة المظلمة والأركان المنزوية، حيث أستطيع أن أتعرف عن بعد أمام أشخاص من الجنس اللطيف في الوضع الذي اشتهيت أن أكون عليه بقربهن. أو لم يكن ما رأيته مني هو عورتي-فذلك مل لم يخطر لي ببال، إنما كان العضو المثير للضحك (الأرداف). ولا يمكنني وصف اللذة الحمقاء التي استشعرها في تعريتها أما أعينهن. ولم تكن بين هذا وبين المعاملة المشتهاة (وهي الجلد) غير خطوة واحدة؛ ولست أشك أن امرأة حازمة كانت في مرورها مانحتي هذه المتعة لو إنني جرؤت على التمادي في فعلتي.

"وذات يوم ذهبت لأقف في مؤخرة حوش به بئر تستقي منه فتيات البيت...وعرضت عليهن مشهداً يثير الضحك أكثر مما يثير الغواية. أما أحكمهن فتظاهرن بأنهن لا يرين شيئاً؛ وبدأ بعضهن يضحكن، وأحس غيرهن بالإهانة فصحن مستغيثات".

ولكن واحدة منهن لم تتقدم للأسف لتجلده-وبدلاً من ذلك حضر حارس يحمل سيفاً ثقيلاً وله شارب رهيب، ومن خلفه أربعة عجائز أو خمس مسلحات بالمكانس. أما روسو فنجا بأن قال في تعليل مسلكه أنه "شاب غريب من أسرة كريمة إلتاث عقله" ولكن ماله قد يمكنه ف المستقبل من مكافأتهم على غفرانهم فعلته، "وتأثر الرجل المرعب" وخلى سبيله، الأمر الذي أسخط العجائز غاية السخط(22).

وكان خلال ذلك قد وجد وظيفة تابع يرتدي زي الخدم في بيت مدام دفرسللي، وهي سيدة تورينية لهالا نصيب من الثقافة. هناك اقترف جريمة أثقلت ضميره طوال عمره. ذلك أنه سرق شريطاً من أشرطة المدام الزاهية الألوان، فلما أتهم بهذه السرقة ادعى أن خامة أخرى أعطته الشريط. ووبخته الخادمة-ماريون-البريئة تماماً من السرقة توبيخاً انطوى على نبوءة، فقالت له "إيه يا روسو، ظننتك ذا طبيعة خيرة. أنك تجعلني غاية في التعاسة، ولكنني لا أرضى أن أكون في موقفك(23)". وطرد كلاهما، ويضيف روسو في اعترافاته:

لست أدري ما أصاب ضحية افترائي هذا، ولكن كان الاحتمال ضعيفاً جداً في أن تجد لها وظيفة حسنة بعد ذلك، لأنها عانت من تهمة مؤذية لسمعتها من جميع الوجوه...ولقد الذكرى الأليمة لهذا العمل..تثقل ضميري إلى اليوم، وفي وسعي أن أكون صادقاً أن رغبتي في التخفيف من ألم هذه الذكرى شاركت كثيراَ في تصميمي على كتابة اعترافاتي(24).

وقد تركت تلك الشهور الستة التي عمل فيها خادماً بصمتها على خلقه، فهو لم يصل قط إلى احترام نفسه رغم كل وعيه بعبقريته: شجعه قسيس شاب لقيه وهو يخدم مدام دفرسللي على الاعتقاد بأن في استطاعته التغلب على أخطائه إذا حاول مخلصاً القرب من أخلاقيات المسيح. وقال السيد جيم هذا إن أي دين صالح مادام يشيع السلوك المسيحي؛ ومن ثم فقد أومأ إلى أن جان-جاك يكون أهنأ بالاً إن هو عاد إلى مسقط رأسه ومذهبه الأصلي. وقد استقرت هذه الآراء "لرجل من أفضل عرفت من الرجال" طويلاً في ذاكرة روسو، وأوحت إليه بصفحات مشهورة في كتابه "إميل". وبعد عام التقى في مدرسة سان-لازار اللاهوتية، بقس آخر هو إذ الأبيه جاتييه، رجل له "قلب يفيض رقة وحناناً" فاته الترقي بأنه كان سبباً في حمل عذراء في أبرشيته. يقول روسو معقباً "لقد كانت هذه الفعلة فضيحة رهيبة في أسقفية شديدة التزمت، لا يصح فيها أبداً للقساوسة (الخاضعين لتنظيم حسن) أن يكون لهم أبناء-إلا من نساء متزوجات(25)". ومن "هذين القسيسين الفاضلين ألفت شخصية قسيس سافوا".

وفي مطلع صيف عام 1729، عاود روسو-الذي بلغ الآن السابعة عشرة-الحنين إلى حياة الترحل، ثم أنه علل نفسه بأنه قد يجد بمعونة مدام دفاران وظيفة أقل إذلالاً لكبريائه. فأنطلق بصحبة غلام جنيفي مرح يدعى باكل سيراً من تورين، واخترقا ممر جبل سنيس في الأب إلى شامبري وآنسي. وقد صور قلمه الرومانسي تلك الانفعالات التي جاشت بها نفسه وهو يدنو من مسكن مدام دفاران تصويراً رائعاً "فقد ارتعشت ساقاي من تحتي وغامت عيناي، فلم أبصر ولم أسمع ولم أذكر أحداً، واضطررت مراراً إلى الوقوف لألتقط أنفاسي وأملك أحاسيسي المشدوهة(26)". ولا شك في أنه كان غير واثق من أنها سترحب بمقدمه. فكيف يستطيع أن يفسر لها كل ما طرأ على حياته من صروف وتقلبات منذ تركها؟ على أن "نظرتها الأولى بددت جميع مخاوفي. ووثب قلبي لسماع صوتها. وألقين نفسي عند قدميها، وفي نشوة من الفرح العارم ضغطت شفتاي على يدها(27)": ولم يسوءها هيامه بها، فخصصت له حجرة في بيتها، وحين بدأ البعض يتقولون كان جوابها "فليقولوا ما شاءوا، ولكني مادامت العناية قد ردته إليّ، فإني عازمة على ألا أتخلى عنه".

3- ماما 1729 - 1740

وتعلق بها تعلقاً شديداً، كأي فتى يتعلق بامرأة الثلاثين كان يلثم سراً الفراش الذي تنام عليه، والكرسي الذي تجلس عليه "بل الأرض ذاتها حين يخطر إلى أنها مشت عليها(28)".

(هنا يخيل ألينا أن المبالغة طغت على التاريخ)

وكان شيد الغيرة من كل من ينافسونه على الاستئثار بوقتها. وتركته يخرخر كالهر السعيد، وكانت تدعوه تارة بالقط الصغير، وتارة بالطفل، وشيئاً فشيئاً أرتضى أن يدعوها "ماما" واستخدمته في كتابة رسائلها وإمساك حساباتها، وجمع الأعشاب لها، ومعاونتها في تجاربها الكيميائية. وأعطته كتباً ليقرأ-الاسبكتاتور، ويوفندرف، وسانت افرمون، وملحمة فولتير الهنرياده. وكانت هي نفسها تحب أن تتصفح "قاموس بويل التاريخي النقدي" وكانت لا تسمح للاهوتها بأن يضايقها، ولعل استمتاعها بصحبة الأب جرو، ناظر مدرسة اللاهوت المحلية، مرجعه أنه كان يساعدها على إحكام عقد مشدها "وبينما كان مشغولاً بهذا كانت تجري في أرجاء الغرفة، هنا أو هنا كما تدعو الدواعي. وكان الأب، ناظر المدرسة، يتبعها متذمراً تجره الأربطة من خلفها، وهو لا يفتأ يردد "أرجوكِ أن تقفي ساكنة يا سيدتي". وكان هذا كله مشهداً مسلياً حقاً(29)".

وربما كان هذا القسيس المرح هو الذي أشار بأن جان-جاك قد يستوعب من التعليم قدراً يؤهله لأن يكون قسيس قرية، ذلك على الرغم من كل أمارات الغباوة البادية عليه. ووافقت مدام دفاران وهي مغتبطة بالعثور له على مهنة يرتزق منها. وعليه ففي خريف 1729 دخل روسو مدرسة سان-لازار اللاهوتية ليحضر للقسوسة. وكان قد ألف الكاثوليكية الآن بل شغف بها(30)؛ أحب فيها طقوسها المهيبة، ومواكبها، وموسيقاها، وبخورها، وأجراسها التي خالها تعلن على الملأ كل يوم أن الله في سمائه، وأن العالم بخير أو سوف يكون بخير، أضف إلى ذلك أن مذهباً يستهوي مدام دفاران ويغفر لها خطاياها لا يمكن أن يكون سيئاً. غير أن التعليم المدرسي الذي حصله من قبل كان من الضآلة بحيث اقتضى الأمر أن يفرض عليه منهج مركز في اللاتينية. ولكنه لم يستطع صبراً على تصاريف أسمائها وصفاتها وأفعالها، وبعد خمسة أشهر من الجهد والعرق رده معلموه إلى مدام دفاران بتقرير يقول أنه "غلام لا بأس بتقواه" ولكنه لا يصلح كاهناً.

وحاولت مساعدته من جديد. ودعاها ما لاحظته من ميله للموسيقى إلى تقديمه إلى نيكولوز لوميتر، عازف الأرغن في كتدرائية آنسي وذهب جان-جاك ليعيش معه طوال شتاء 1729-30، وعزاؤه أنه لا يبعد عن ماما سوى عشرين خطوة. وراح يرتل في فرقة الترتيل ويعزف على الفلوت، وأحب الترانيم الكاثوليكية، ووجد الغذاء الطيب، وكان سعيداً. ولم يعكر عليه صفو العيش مع المسيو لوميتر غير إسراف هذا العازف في الشراب. وذات يوم تشاجر رئيس فرقة الترتيل الصغير مع رؤسائه، فجمع كراسات موسيقاه في صندوق، ورحل عن آنسي. وامرت مدام دفاران روسو أن يصحبه حتى ليون. هناك سقط لوميتر على الطريق مغشياً عليه بفعل (البطاح) أي هذيان الحمى الذي يصيب مدمني الخمر. واستغاث جان-جاك بالمارة وقد أصابه الرعب، وأعطاهم العنوان الذي كان مدرس الموسيقى يبحث عنه، ثم فر راجعاً إلى آنسي وماما. "أن تعلقي بها بكل ما فيه من حساسية وصدق اقتلع من قلبي كل مخطط يمكن تصوره وكل حماقات الطموح. فلم أر سعادة في غير العيش بقربها، وما كنت لأخطو خطوة دون أن أشعر أن المسافة بيننا قد بعدت(31)". ولكن علينا أن نذكر أنه لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة.

فلما وصل إلى آنسي وجد أن المدام قد رحلت إلى باريس ولا أحد يعرف متى تعود. وأحس أنه وحيد مهجور، فراح ينفق اليوم تلو اليوم هائماً على وجهه في الريف، يتأسى بالمنظر إلى ألوان الربيع المشرقة وسماع زقزقة الطيور-هذه الطيور العاشقة بلا ريب. وكان أحب الأشياء إليه أن يستيقظ مبكراً ويرقب الشمس تطلع ظافرة فوق الأفق. ورأى في إحدى جولاته تلك آنستين راكبتين، تحثان جواديهما المترددين على خوض غدير أمامهما. وفي نوبة من نوبات البطولة أمسك بعنان أحد الجوادين وعبره الماء والآخر يتبعه. وكان على وشك المضي إلى حال سبيله لولا أن الفتاتين أصرتا على أن يصحبهما إلى كوخ يجفف فيه حذاءه وجواربه، فوثب على ظهر أحد الجوادين خلف الآنسة ج. تلبية لدعوتها "فلما اضطررت إلى الإمساك بها لأستقر في مكاني راح قلبي يدق وكانت دقاته من العنف بحيث أحست بها"(32) في تلك اللحظة بدأ يكبر في هيامه بمدام دفاران. وأنفق الشباب الثلاثة يومهم في رحلة خلوية معاً، وتجرأ روسو فقبل يد إحدى الفتاتين ثم تركتاه، فقفل إلى آنسي لا يكاد يعبأ بغياب ماما عنها. وقد حاول العثور على الآنستين ثانية، ولكن دون جدوى.

وما لبث أن عاد يضرب في الأرض من جديد، واصطحب هذه المرة خادمة مدام دفاران إلى فريبورج. وإذا اخترق جنيف "ألفيتني متأثراً بالغ التأثر حتى لم أكد أقوى على المضي في طريقي...فقد رفعت صورة الحرية (الجمهورية) روحي إلى الذرى"(33). ومن فيبورج مشى إلى لوزان. ولم يعرف التاريخ كاتباً شديد الولع بالمشي مثله. فمن جنيف إلى تورين إلى آنسي إلى لوزان إلى نوشاتل إلى برن إلى شامبري إلى ليون عرف الطريق واستمتع شاكراً بالمناظر والروائح والأصوات.

"يطيب لي أن أمشي على سجيتي، وأن أقف حيث أشتهي، فحياة المشي ضرورية لي. والسفر على الأقدام، في ريف جميل، وجو بديع، وبهدف لطيف أختم به رحلتي-هذا أنسب ما يروقني من ضروب العيش"(34).

ذلك أنه لعدم شعوره بالاطمئنان في حضرة الرجال الذين أصابوا حظاً من التعليم، وبالخجل والعي في خضرة النساء الجميلات، كان يسعد إذا انفرد بالغابات والحقول، والماء، والسماء، فجعل من الطبيعة مستودع سره ونجواه وأفضى إليها بغرامياته وأحلامه في حديث صامت. وخيل إليه أن حالات الطبيعة المتقلبة تمتزج أحياناً في تناغم صوفي مع حالته النفسية. ولم يكن أول من أشعر الناس بجمال الطبيعة، إلا أنه كان أشد رسلها تحمساً لها وتأثيراَ فيهم فنصف شعر الطبيعة منذ روسو هو جزء من تراثه، لقد شعر هاللر من قبل بجلال جبال الألب ووصفه، ولكن روسو جعل من سفوح سويسرا على طوال الساحل الشمالي لبحيرة جنيف ملكه الخاص، وأورث الأجيال عبير كرومها المدرجة. فلما أراد اختيار موقع لبيت يسكنه شخصيتي جولي وفولمار أسكنهما هنا، في كلارنس بين فيفيه ومونترو، في فردوس أرضي امتزجت فيه الجبال والخضرة والماء والشمس والثلوج.

وانتقل إلى نوشاتل حين لم يصب نجاحاً في لوزان "هنا....بفضل تدريسي للموسيقى اكتسبت بعض الإلمام بها دون وعي مني."(35) وفي بلدة قريبة تدعى بودري التقى بحبر يوناني يلتمس بعض المال لترميم كنيسة القبر المقدس في أورشليم، فرافقه روسو مترجماً له، ولكنه تركه في سوليو ومشى خارجاً من سويسرا داخلاً فرنسا. وفي أثناء سيره دخل كوخاً وسأل صاحبه أيستطيع شراء طعام، فقدم له الفلاح خبز الشعير واللبن، وقال إن هذا كل ما يملك، ولكنه حين رأى أن جان-جاك ليس جابي ضرائب فتح باباً مسحوراً نزل منه ثم عاد بخبز قمح، وبيض، ونبيذ. وعرض روسو أن يدفع ثمن طعامه، ولكن الفلاح أبى أن يقبله، وعلل سلوكه بأنه مضطر إلى إخفاء خير الطعام مخافة أن يفرض عليه المزيد من الضرائب. إن ما قاله لي خلف في ذهني أثراً لا يمحى، وبذر بذور تلك الكراهية التي لا تطفأ والتي نمت منذ ذلك الحين في قلبي، الكراهية لما يقاسيه هؤلاء التعساء من عنت، والسخط الشديد على ظالميهم.(36)

وفي ليون أنفق أياماً بغير مأوى، يفترش المقاعد في الحدائق العامة أو ينام على الأرض، واستخدم حيناً في نسخ الموسيقى. فلما سمع أن مدام دفاران.

تسكن شامبري (على أربعة وخمسين ميلاً إلى الشرق)، انطلق لينضم إليها من جديد. ووجدت له وظيفة سكرتير لملاحظ الأقاليم (1732-34) وكان خلال ذلك يعيش تحت سقفها، لا ينقص من سعادته بعض الشيء غير ما كشف من أن مدير أعمالها كلود آنية هو أيضاً يعشقها. ويتضح ما طرأ على غرامه من فتور من هذه الفقرة الفريدة في اعترافاته: "لم أستطع أن أعلم، دون ألم، أنها تعيش في مودة أوثق مع شخص غيري...ومع ذلك فبدلاً من أن أشعر بأي كراهية للشخص الذي تفوق عليّ على هذا النحو وجدت الود الذي أكنه لها يمتد فعلاً إليه، فلقد تمنيت لها السعادة فوق كل شيء وإذ كان معنياً بخطتها التي توسلت بها للسعادة، فقد رضيت له السعادة هو أيضاً واعتنق خلال ذلك أفكار خليلته تماماً وشعر بصداقة مخلصة لي...وهكذا عشنا في وحدة أسعدتنا جميعاً، وحدة لا يقوى على فصم عراها غير الموت. ومما يدل على سمو خلق هذه المرأة الودود أن كل الذين أحبوها أحبوا بعضهم بعضاً، فحتى الغيرة والتنافس أذعنا للعاطفة التي ألهمتهم إياها وما رأيت قط واحد ممن أحاطوا بها بضمير أقل حقد للآخرين. فليتوقف القارئ هنيهة عند هذا المديح، وإذا استطاع أن يتذكر أي امرأة أخرى تستحقه فليرتبط بها إن أراد لنفسه السعادة(37).

أما الخطوة التالية في هذه الرواية الغرامية المتعددة الأطراف فكانت هي أيضاً نقيضاً لكل قواعد الزنا. ذلك أن مدام دفاران حين أدركت أن جارة لها تدعى المدام دمانتون تتطلع إلى أن تكون أو ل من يعلم جان-جاك فنون الغرام، عرضت نفسها عليه خليلة دون أن يكون في هذا الوضع إضرار بخدماتها المماثلة لآنية، إما لأنها أبت أن تسلم بالتفوق لجارتها وإما لأنها أرادت أن تحمس الفتى من ذراعين أقل حناناً من ذراعيها وأنفق جان-جاك ثمانية أيام يدير الأمر في رأسه، فقد كان من أثر طول ألفته بها أن أفكاره كانت بنوية أكثر منها شهوانية. يقول "لقد أحببتها حباً منعني من أن اشتهيها(38)" وكان آنئذ يعني من الأمراض التي قدر لها أن تطارده حتى النهاية، وهي التهاب المثانة وضيق مجرى البول. وأخيراً، وبكل الحياء المنتظر منه، ارتضى العمل باقتراحها. بقول:

"وأخيراً جاء اليوم الذي كنت أخشاه أكثر مما أتوق إليه....فلقد كان قلبي يحبذ غرامياتي دون أن يشتهي الجائزة. ولكني حصلت عليها رغم ذلك. ورأيتني لأول مرة بين ذراعي امرأة، وامرأة أعبدها. أكنت سعيداً؟ لا لقد ذقت اللذة، ولكني لا أدري أي حزنٍ طاغٍ سمم هذه التعويذة فلقد شعرت كأني أقترف سفاح المحارم. وبينما كنت أضمها بين ذارعي في نشوة الفرح أغرقت صدرها مرتين أو ثلاثاً بدموعي. أما هي فلم تكن بالحزينة ولا بالفرحة، بل كانت هادئة وهي تعانقني وتقبلني ولم تستشعر أي انتشاء، ولا أحست بالندم قط، لأنها لم تكن شهوانية على الإطلاق، ولم تكن تبحث عن اللذة بتاتاً(39).

وقد عزا روسو إلى سم الفلسفة مناورات هذه السيدة وهو يستحضر ذكرى هذا الحدث البارز فيما بعد. قال:

"أكرر أن كل مشاعرها كانت نتيجة خطئها لا نتيجة شهواتها. فلقد كانت كريمة المولد، نقية القلب، نبيلة السلوك، وكانت رغباتها سوية فاضلة، وذوقها رقيقاً مرهفاً. وبدا أنها خلقت لذلك الطهر الرائع-طهر الآداب-الذي أحبته على الدوام ولكنها لم تمارسه قط، لأنها بدلاً من أن تصغي إلى أوامر قلبها اتبعت عقلها الذي ضللها... ومن سوء حظها أنها كانت تعتز بالفلسفة، وكان من أثر المبادئ الخلقية التي استخلصتها من هذه الفلسفة إفساد الفضيلة التي أشار بها قلبها(40).

ومات آنيه في 1734. واستقال روسو من وظيفته في خدمة ملاحظ الإقليم، وتولى أعمال المدام وقد وجدها في حال خطيرة من الخلل تشرف على الإفلاس فحصل على بعض المال بتدريس الموسيقى،ـ وفي 1737 آلت إليه ثلاثة آلاف فرنك استحقت له من ميراث أمه، فأنفق بعضها على الكتب، وأعطى الباقي لمدام دفاران. ثم لزم الفراش، فمرضته ماما بحنان. ولما لم يكن لبيتها حديقة فقد استأجرت (1736) كوخاً في ضاحية يسمى الشارميت هناك "سارت حياتي سيراً هادئاً غاية الهدوء" ومع أنه "لم يكن يحب قط أن يصلي في قاعة" فإن الخلاء خارج الكوخ حفزه لشكر الله على جمال الطبيعة وعلى مدام دفاران، وللب البركة الإلهية على رباطهما. وكان يومها شديد التعلق باللاهوت الكاثوليكي مع شائبة حزينة من الجانسنية "فكثيراً ما عذبني خوف الجحيم(41)".

وكان يقلقه اكتئاب هو ضرب من الوهم كان رائجاً في ذلك العهد. وقد خيل إليه أن هناك ورماً في غشاء قريب من قلبه، فقصد مونبلييه في مركبة البريد: وفي الطريق هدأ من اكتئابه بما زعم أنه تحقيق لوصال بمدام دلارناج (1738) وكانت أماً لفتاة في الخامسة عشرة. فلما عاد إلى شامبري وجد أن مدام دفاران تجرب علاجاً مماثلاً، وأنها اتخذت عشيقاً جديداً لها من صانع باروكات شاب يدعى جان فنتسنريد. واحتج روسو؛ فقالت له إنه يسلك كالأطفال، وأكدت له أن في حبها متسعاً لاثنين باسم جان. ولكنه أبى أن "يحط من كرامتها على هذا النحو"، فاقترح عليها أن يعود إلى وضعه القديم. فزعمت أنها موافقة، ولكن استياءها من تخليه عنها بهذه السرعة أصاب محبتها له بالفتور. وأعتكف في شارميت وأقبل على دراسة الفلسفة.

ولول مرة (حوالي 1738) وعى بنسائم "لتنوير" الهابة من باريس وسيريه. فقرأ بعض أعمال نيوتن، وليبنتز، وبوب، وقلب في متاهات قاموس بيل. ثم عاد إلى درس اللاتينية، وأحرز في ذلك بجهده وحده تقدماً أكثر مما أحرز من قبل على يد معلميه ووفق إلى أن يقرأ شذرات من فرجل، وهوراس، وتاسيتوس، وترجمة لاتينية لمحاورات أفلاطون. وطلع عليه لابروبير، وبسكال، وفنيلون، وبريفوست، وفولتير، وكأنهم رؤيا أدارت رأسه "لم يفتنا شيء مما كتبه فولتير"؛ والواقع أن كتب فولتير هي التي "أوحت إليّ بالرغبة في أن أتأنق في الكتابة، وحملتني على محاولة تقليد تلوينات ذلك الكتاب الذي فتنت به أية فتنة(42)"وعلى غير وعي منه فقد اللاهوت القديم الذي كان من قبل إطار أفكاره، شكله وصرامته، فوجد نفسه يفكر دون رعب في عشرات الهرطفات التي كانت تبدو له في شبابه فاضحة شائنة. وحل محل إله الكتاب المقدس إيمان حار يوشك أن يكون مشوباً هو الإيمان بوحدة الوجود. هناك إله، نعم، والحياة بدونه لا معنى لها ولا يطيقها الإنسان، ولكنه ليس ذلك الإله الخارجي، المنتقم، الذي تصوره الناس القساة الجبناء؛ إنما هو روح الطبيعة، والطبيعة في صميمها جميلة، والطبيعة البشرية في أساسها خيرة. وعلى هذا الإيمان، وعلى بسكال، سيقيم روسو فلسفته.

وفي 1740 وجدت له مدام دفاران وظيفة معلم خاص لولدي المسيو بونو دمابليه، رئيس بلدية ليون وافترق عنها دون لوم ولا عتاب من أحد الطرفين، وأعدت له ثياب الرحلة، وخاطت لها بعض الملابس بيديها اللتين كانتا فتنة له يوماً ما.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- ليون والبندقية وباريس 1740 - 1749

كانت أسرة مابليه حافزاً جديداً لروسو. وكان رئيس البلدية أكبر أخوة ثلاثة نابهين، أحدهم جابرييل بونو دمابليه الذي اقترب من الشيوعية، والآخر هو الأبيه إيتين بونو دكوندياك، الذي أوشك أن يكون مادياً. وقد التقى روسو بثلاثتهم. وبالطبع وقع في غرام مدام دمابليه، ولكنها كانت من السماحة بحيث لم تعر الأمر أهمية. واضطر جان-جاك أن ينصرف إلى مهمته، وهي تعليم ولديها. فأعد للسيد دمابليه بياناً بأفكاره التربوية، وكانت في بعضها تتفق والمبادئ التحررية التي ستعرض عرضاً رومانسياً ممتازاً في كتابه "إميل" بعد اثنين وعشرين عاماً، وفي بعضها تناقض رفضه اللاحق لـ"الحضارة"، لأنها اعترفت بقيمة الفنون والعلوم في تطوير النوع الإنساني. وكان يلتقي مراراً برجال كالأستاذ بورد عضو أكاديمية ليون (وكان صديقاً لفولتير)، فتشرب قدراً أكبر من "التنوير"، وتعلم أن يهزأ بالجهل والخرافة الشائعين بين الجماهير. ولكنه ظل طوال حياته مراهقاً. فذات يوم رأى شابة عارية تماماً إذ اختلس النظر إليها وهي تستحم في الحمامات العامة، وتوقف قلبه عن النبض، فلما خلا إلى نفسه في حجرته وجه إليها خطباً جريئاً غفلاً من التوقيع قال فيه:

"لا أكاد أجرؤ يا آنسة بالظروف التي أدين لها بسعادة رؤيتي إياك وعذاب حبي لك. فقد فتنني فيك ما هو أكثر من ذلك الجسد النحيل اللطيف الذي لا ينتقص العري من جماله، وذلك القوام الأنيق، وتلك الخطوط الرشيقة...ما هو أكثر من نضارة الزئبق المنثور على شخصك بهذا السخاء الكثير...أنها حمرة الخجل الناعمة التي رأيتها تكسو جبينك حين أسفرت عن وجودي لعينيك بعد أن جردتم بخبث شديد-بغناء بيتين من الشعر(43).

وكان الآن وقد شب إلى السن التي تغريه بعشق الصبايا، فكادت كل فتاة حسنة الطلعة تثير أشواقه وأحلامه، ولكنه تعلق على الأخص بسوزان سير. "مرة-وا أسفاه، مرة واحدة فقط في حياتي؟ لمس فمي فمها. إيه أيتها الذكرى؟ هل أفقدك في القبر؟" وبدأ يفكر في الزواج منها، ولكنه اعترف لها قائلاً "ليس لدي ما أقدمه لك سوى قلبي(44)" ولما لم يكن قلبه عملة قانونية، فإن سوزان قبلت يد غيره، وانكفأ روسو إلى أحلامه من جديد.


إنه لم يخلق ليكون عاشقاً ناجحاً ولا معلماً كفئاً.


"كان لدي من المعرفة القدر اللازم تقريباً لمدرس خاص...وبدا أن رقة طبعي الفطرية تهيئني لهذا العمل، لولا أن تعجل الأمور اختلط بهذا الطبع فإذا سارت الأمور رخاء ورأيت أن الجهود التي لم أضن بها أثمرت كنت ملاكاً، أما إذا أخفقت فقد كنت أنقلب شيطاناً. فإذا لم يفهمني تلميذاي تعجلت الشرح، وإذا أظهرا أي أمارات على الطبع المشاكس كان ذلك يستفزني استفزازاً يكاد يحملني على قتلهما....وصممت على تركهما بعد أن اقتنعت بأنني لن أنجح أبداً في تعليمهما التعليم الصحيح. وتبين المسيو دمابليه هذا بالوضوح الذي تبينته به وأن كنت ميالاً إلى الاعتقاد بأنه ما كان ليطردني قط لولا أنني أعفيته من هذا العناء". وهكذا استقل مركبة البريد قافلاً إلى شامبري بعد أن استقال وهو حزين، أو طرد طرداً كريماً. والتمس العزاء من جديد بين ذراعي ماما. فاستقبلته هي في تلطف وأفسحت له مكاناً على مائدتها مع عشيقها. ولكنه لم يكن سعيداً في هذا الموقف، فأغرق نفسه في الكتب والموسيقى، وابتكر طريقة للتدوين الموسيقي تستخدم الأرقام بدلاً من الرموز. ولما عزم على الذهاب إلى باريس وعرض اختراعه على أكاديمية العلوم أثنى الجميع على قراره. وفي يوليو 1742 عاد إلى ليون ملتمساً خطابات تقديم إلى الأعيان في العاصمة. وأعطاه آل مابليه خطابات إلى فونتنيل والكونت دكايلوس وقدمه بورد إلى الدوق درشليو. ومن ليون استقل المركبة العامة إلى باريس تداعب رأسه أحلام المجد.

وكانت فرنسا آنذاك مشتبكة في حرب الوراثة النمساوية (1740-48) ولكن الحرب كانت تدور رحاها على أرض أجنبية، وعليه فقد سارت باريس سيرتها الأولى وواصلت حياة المرح البهي والاضطراب الفكري، حياة المسارح الناطقة بمسرحيات راسين، والصالونات المتألقة بالهرطقات والسخريات، والأساقفة الذين يقرؤون فولتير، والشحاذين الذين ينافسون البغايا، الباعة الجوالين الذين ينادون على بضائعهم، والصناع الذين يبذلون العرق في سبيل لقمة العيش إلى هذه الدوامة أقبل جان-جاك روسو، وهو في الثلاثين من عمره، في أغسطس 1742، وفي كيسه من المال خمسة عشر جنيهاً. واستأجر حجرة في فندق سان-كنتان بشارع الكوردلييه قرب السوربون-"شارع حقير وفندق تعس، وحجرة بائسة(46)" وفي 22 أغسطس قدم إلى الأكاديمية "مشروعاً عن علامات جديدة للتدوين الموسيقي". ورفض العلماء مشروعه في مجاملة لطيفة. وشرح له رامو رأيهم قائلاً "أن علاماتك حسنة جداً...ولكن عليها اعتراضاً، هو أنها تحتاج إلى إعمال الذهن، وهو أمر لا يمكن دائماً أن يرافق سرعة التنفيذ. أما موضوع علامتنا فيصور للعين دون تزامن مع هذه العملة" واعترف روسو بأن الاعتراض لا يمكن التغلب عليه(47).

وأتاحت له خطابات التقديم التي أخذها معه ذلك الاتصال بفونتيل الذي كان هو في عامه الخامس والثمانين أحرص على طاقته من أن يأخذ روسو مأخذ الجد، والاتصال بماريفو الذي قرأ مخطوطة مسرحية روسو الهزلية "نارسيس" واقترح أن يدخل عليها تحسينات، وذلك رغم انشغاله بنجاحه روائياً وكاتباً مسرحياً وقابل الوافد الجديد ديدرو، الذي لم يكن بعد قد نشر أي مؤلف يؤبه به، وكان يومها يصغر جان-جاك بعام واحد.

"كان ولوعاً بالموسيقى، يعرفها نظرياً... وقد حدثني ببعض مشروعاته الأدبية... وسرعان ما وثق هذا بيننا صلة دامت خمسة عشر عاماً، وأغلب طني أنها كانت ستدوم إلى اليوم لولا أننا لسوء الحظ... أبناء حرفة واحدة"(48).

وكان يصاحب ديدرو إلى المسرح أو يلاعبه الشطرنج، والتقى روسو في تلك اللعبة بفيليدرو وغيره من مهرة لاعبيها، و"لم يكن عندي شك في أنني في النهاية سأتفوق عليهم جميعاً".(49) ووجد سبيله إلى بيت مدام دوبان وصالونها، وكانت ابنة المصرفي صموئيل برنار، وعقد صداقة مع ابن زوجها كلود دوبان دفرانكوي وخلال ذلك أوشكت نقوده على النضوب.

وبدأ يبحث من حوله عن عمل يستكمل به جهود أصدقائه في إطعامه. فعرضت عليه بنفوذ مدام بزنفال وظيفة سكرتير للسفارة الفرنسية في البندقية. وبعد أن قطع رحلة طويلة محفوفة بالخطر بسبب الحرب، وصل إليها في ربيع 1743 وقدم نفسه إلى السفير الكونت دمونتاجو. ويؤكد لنا روسو أن هذا الكونت كان أمياً تقريباً، وكان على السكرتير أن يفك شفرة الوثائق وأن يحررها، وكان يقدم رسائل الحكومة الفرنسية إلى مجلس شيوخ البندقية بشخصه لأنه لم ينسَ الإيطالية التي كان قد تعلمها في تورين وكان فخوراً بمنصبه الجديد، وشكا من أن مركباً تجارياً زاره لم يطلق المدافع تحية له مع أن هذه "التحية نالها من هم أقل شأناً".(50) وتشاجر الرئيس والمرءوس على أيهما يظفر بالرسوم التي تدفع نظير استخراج السكرتير لجوازات السفر إلى فرنسا. وقد صلحت حال روسو بفضل نصيبه من هذه الرسوم، فتناول الطعام الطيب على غير العادة، واختلف إلى المسرح والأوبرا، ووقع في غرام الموسيقى الإيطالية والفتيات الإيطاليات.

وذات يوم زار مومساً تسمى لابدوانا "لكيلا أبدو شديد البلاهة أمام رفاقي" وطلب إليها أن تغني فغنت، فنقدها دوكاتيه وهم بالانصراف، ولكنه رفضت أن تأخذ قطعة النقود دون أن تكون قد بذلت في نيلها جهداً. فأرضاها، وعاد إلى مسكنه "مقتنعاً كل الاقتناع بأنني سأتجرع عواقب هذه الفعلة، فكان أول شيء فعلته أنني استدعيت جراح الملك ألتمس منه الدواء "ولكن الطبيب" أقنعني بأن في خلقتي ما يجعلني لا أقبل العدوى بسهولة"(51) وبعد فترة أقام له أصدقاؤه حفلة يثاب فيها بجائزة هي الغانية الجميلة زوليتا فدعته إلى حجرتها وخلعت ثيابها. "وفجأة، بدلاً من أن اضطرم بنار الشهوة أحسست ببرودة قاتلة تسري في عروقي، وباشمئزاز ينفذ إلى أعماقي، فجلست وانخرطت بالبكاء كالأطفال". وقد علل عجزه هذا فيما بعد بأن أحد ثديي المرأة كان مشوهاً. أما زوليتا فقد انقلبت عليه هازئة وقالت له "دع النساء وشأنهن، وانصرف إلى درس الرياضة"(52).

وأوقف المسيو دمونتاجو صرف راتب روسو لأن راتبه هو كان متأخراً. فعادا إلى الشجار، ورفت السكرتير (1744) وشكا روسو إلى أصحابه في باريس وأرسل استفسار إلى السفير فأجاب "يجب أن أبلغكم كم كنا مخدوعين في السيد روسو. ذلك أن حدة طبعه ووقاحته الناجمين عن شدة اعتداده بنفسه، وعن جنونه، هما اللذان أفضيا به إلى الحال الذي وجدناه عليه. لذلك طردته كما يطرد خادم سيئ"(53) وقفل جان- جاك إلى باريس (11 أكتوبر) وطرح على الموظفين المختصين في الحكومة وجهة نظره في النزاع فلم ينصفوه. فلجأ إلى مدام ديزنفال، ولكنها رفضت أن تستقبله. فأرسل إليها خطاباً عنيفاً نستطيع أن نحس فيه لفحات الثورة الفرنسية البعيدة:

"كنت مخطئاً يا سيدتي، فقد ظننتك منصفة فإذا بك "نبيلة" فقط، وكان يجب عليّ أن أذكر هذا وأن أدرك أنه لا يليق بي-وأنا رجل غريب أنتمي إلى طبقة العامة-أن أشكر أحد السادة. ولو أن قدري رماني ثانية في قبضة سفير بهذا الخلق لكابدت آلامي دون شكوى. فإذا كان مفتقراً إلى الإحساس بالكرامة، ينقصه سمو النفس، فذلك لأن النبالة في غنى عن هذا كله، وإذا اقترن بكل ما هو حقير دنيء في بلد من أشد بلاد الله فساداً، فذلك لأن أجداده خلقوا له من الشرف ما يكفيه؛ وإذا عاشر الأوغاد، أو كان هو نفسه وغداً، وإذا أكل على خادم أجره، إذن يا سيدتي فلن أخلص إلا إلى هذا الرأي، وهو أن من حسن حظ المرء ألا يكون وليد أفعاله هو. فهؤلاء الأجداد-من كانوا؟ أشخاص لا شهرة لهم، ولا مال، نظرائي، كان لهم موهبة من نوع ما، وبنوا لأنفسهم سمعة، ولكن الطبيعة تبذر بذرة الخير والشر، أعطتهم نسلاً حقيراً(54)".

ثم أضاف روسو في "الاعترافات":

"لقد خلفت عدالة شكاواي وعدم جدواها في ذهني بذور السخط على نظمنا الاجتماعية الحمقاء التي تضحي فيها دائماً رفاهية الشعب والعدل الحقيقي في سبيل مظهر للنظام ما أنزل الله به من سلطان، لا ثمرة له إلا أنه يضيف موافقة السلطة العامة إلى ظلم الضعفاء وبغي الأقوياء(55)".

ولما عاد مونتاجو إلى باريس أرسل روسو "بعض المال تسوية لحسابي...وتسلمت من أعطاني وسددت كل ديوني، وعدت يا مولاي كما خلقتني. "واستقر ثانية في فندق سان-كنتان وارتزق بنسخ مدونات الموسيقى. ولما سمع النبيل الذي كان يحمل آنئذ لقب دوق أوليان بفقره أعطاه كراسات موسيقى لينسخها مشفوعة بخمسين جنيهاً ذهبياً، فاحتجز روسو منها خمسة ورد الباقي لأنه يزيد على حقه.(56)

وكان ما يكسبه أقل كثيراً مما يتيح له أن يعول زوجة، ولكنه رأى أن في استطاعته أن يعول خليلة إذا أحكم التدبير وكان من بين من يؤاكلونه في فندق سان-كنتان صاحبة الفندق، وبعض الآباء الدينيين المفلسين، وشابة تخدم الفندق غسالة أو خياطة. وكان في هذه المرأة، واسمها تريز لقاسير، ما في جان-جاك من إحجام وتردد، ووعي بالفقر وأن لم تكن فخورة بفقرها مثله. وكان يدافع عنها إذا عاكسها الآباء. وانتهى بها الأمر إلى أن ترى فيه حاميها، وسرعان ما وجد الواحد منهما سبيله إلى حضن صاحبه (1746) وبدأت أصارحها بأنني لن أتخلى عنها ولن أتزوجها(57)". واعترفت بأنها ليست عذراء، ولكنها أكدت له أنها لم تأثم غير مرة واحدة، وكان ذلك منذ أمد بعيد. فصفح عنها صفحاً جميلاً، مؤكداً لها أن عذراء العشرين مخلوق نادر الوجود في باريس على أي حال.

وكانت مخلوقة بسيطة لا سحر فيها ولا دلال، لا تستطيع الكلام في الفلسفة أو السياسة كنسا الصالونات، ولكنها تعرف كيف تطهو، وتدبر شؤون البيت وتحتمل في صبر نزواته وعاداته الغريبة. وكان يتكلم عنها عادة باعتبارها "مدبرة البيت" أما هي فتقول عنه "رجلي" وندر أن اصطحبها في زياراته لأصدقائه، لأنها ظلت على الدوام مراهقة ذهنياً، كما ظل هو على الدوام مراهقاً خلقيا.

"حاولت أول الأمر أن أصلح عقلها، ولكن جهودي أدراج الرياح. ذلك أن عقلها بقي على ما فطرته الطبيعة، فهو لا يقبل التثقيف. ولا يخجلني أن اعترف أنها لم تعرف قط كيف تقرأ جيداً، وإن كانت تكتب كتابة لا بأس بها.. ولم تستطع قط أن تتلو شهور السنة بالترتيب، أو تميز بين عدد وآخر رغم ما بذلت من عناء في محاولة تعليمها. وهي لا تعرف كيف تعد النقود، ولا تحسب ثمن أي شيء فإذا تكلمت كانت الكلمة التي تخطر لها هي في أحيان كثيرة عكس الكلمة التي تقصدها. وقد صنفت فيما مضى قاموساً بعباراتها لأروح به عن المسيو دلكسمبورج، وكثيراُ ما ذاع أمر أغلاطها بين أخص أصحابي(85)".

فلما حملت "أرتبك أشد ارتباك" فماذا هو صانع بالأطفال؟ وأكد له بعض أصحابه أنه من المألوف إرسال الأطفال غير المرغوب فيهم إلى الملجأ لقطاء. فلما ولد الطفل فعل هذا رغم احتجاجات تريز، ولكن بتعاون أمها (1747) وخلال الأعوام الثانية التالية ولد له أربعة أطفال تصرف فيهم على هذا النحو. وقد ألمع بعض الشكاك إلى أن روسو لم يرزق أطفالاً، وأنه أخترع هذه القصة ليخفي عجزه الجنسي، ولكن كثرة دفاعه عن تنصله هذا من المسئولية تجعل هذه النظرية بعيدة الاحتمال. وقد أعترف سراً بتصرفه في هذا الأمر لديدرو، وجريم، ومدام ديينيه(59)؛ واعترف به ضمناً في كتابهم "إميل"؛ واستشاط غضباً على فولتير لأنه أذاع خبره، ثم أقر به صراحة في كتابه "الاعترافات" وأعرب عن ندمه. إنه لم يخلق للحياة العائلة، لأنه كان حزمة مرهفة من الأعصاب، وجواباً شريداً في الجسد والروح. وكان يعوزه ذلك الاهتمام بالأطفال الذي يجعل الأب صاحباً رزيناً، ولم تكتمل رجولته قط.

في نحو هذه الفترة أسعده الحظ بأن يجد وظيفة مريحة. فقد اشتغل سكرتيراً لمدام دويان، ثم لابن أخيها. وحين أصبح دويان دفرانكوي أميناً عاماً للصندوق رقى روسو صرافاً براتب ألف فرنك في السنة. واتخذ الآن الضفيرة الذهبية، والجوارب الجوارب البيض، والباروكة، والسيف، كلها شارات حاكا بها الأدباء ثياب الطبقة الأرستقراطية ليجدوا طريقهم إلى بيوت النبلاء(60). وفي وسعنا أن نتصور ضيقه بشخصيته المنقسمة على ذاتها. وقد أستقبل في عدة صالونات وصنع أصدقاء جدد، منهم رينال، ومارمونيتل، ودوكلو، ومدام دينيه، ثم فريدرش ملشيور جريم، الذي ارتبط به ارتباطاً حميماً جداً ومؤذياً جداً. وأختلف إلى حفلات العشاء المثيرة في بيت البارون دولباخ حيث كان ديدرو يقتل الآلهة بسلاح سماه خصومه فك حمار. في وكر الملحدين ذاك ذاب وتلاشى جل كثلكة جان-جاك.

وألف الموسيقى خلال ذلك. وكان قد بدأ في 1743 مزيجاً من الأوبرا والباليه سماه "ربات الفنون الرشيقات" يحي به غراميات أناكربون، وأوفيد، وتاسو، وأخرجت الأوبرا في 1745 محدثة بعض الضجة في بيت جابي الضرائب لابولفيير، وقد سخر منها رامو وزعم إنها محاكاة لإنتحالات من الملحنين الإيطاليين، ولكن الدوق رشليو أعجب بها وعهد إلى روسو بتنقيح أوبرا وباليه تسمى "أعياد رامير" أعدها رامو وفولتير على سبيل التجربة. وفي 11 ديسمبر 1745 كتب روسو أول رسالة لأمير أدباء فرنسا: "لقد ظللت خمسة عشرة عاماً أكد وأكدح لأجعل نفسي جديراً باحترامك وبالعطف الذي تحبو به شباب الأدباء الذين تكتشف فيهم الموهبة. ولكني بفضل كتابتي موسيقى إحدى الأوبرات أجدني قد انقلبت موسيقياً. وأياً كان النجاح الذي تحققه جهودي الضعيفة فإنها ستكون في نظري جهوداً رائعة لو كسبت لي شرف معرفتك إياي، والإعراب عن الإعجاب والاحترام العميق اللذين يشرفني أن يكنهما لك خادمك المتواضع المطيع جداً(61)".

وأجاب فولتير: "سيدي، إنك تجمع في شخصك موهبتين وجدتا على الدوام منفصلتين على الدوام، فهذان مبرران طيبان يحملانني على تقديرك ومحبتك".

وبهذين الخطابين من خطابات الحب بدأت خصومتهما الشهيرة.


5- هل الحضارة مرض؟

في عام 1749 سجن ديدرو في فانسين عقاباً له على فقرات مهينة في كتابه "رسائل عن المكفوفين" وكتب روسو إلى مدام دبومبادور يلتمس الإفراج عن صديقه أو الإذن له بأن يشاركه سجنه. وخلال ذلك الصيف قام غير مرة برحلة دائرية طولها عشرة أميال بين باريس وفانسين ليزور ديدرو. وفي واحدة منها أخذ نسخة من مجلة الماركيز دفراني ليقرأ أثناء سيره. وهكذا وقع على الإعلان عن جائزة تقدمها أكاديمية ديجون لأفضل مقال يجيب عن هذا السؤال "هل أعان إحياء العلوم والآداب والفنون على إفساد الأخلاق أم على تطهيرها؟" وأغراه الإعلان بدخول المسابقة، فهو الآن في السابعة والثلاثين، وقد آن الأوان ليحقق لنفسه الشهرة. ولكن هل بلغ من الإحاطة بالعلم أو الفن أو التاريخ مبلغاً يكفي لمناقشة مثل هذه الموضوعات دون أن يفضح ما تعليمه من قصور؟ وقد وصف في خطاب كتبه إلى مالزيرب في 12 مايو 1762 بحماسته العاطفية المتميزة تلك الرؤيا التي تراءت له أثناء هذه المسيرة. قال:

"وفجأة أحسست أن مئات الأضواء المتلألئة تخطف بصري. وتزاحمت حشود من الخواطر النابضة بالحياة في ذهني بقوة واختلاط جعلاني أضطرب اضطراباً لا يوصف وأحسست برأسي يدوّم في دوار كأنني مخمور، وضاق صدري بخفقان عنيف. فلما عجزت عن السير لصعوبة التنفس ارتميت على شجرة على الطريق وقضيت نصف ساعة في حال من الانفعال الشديد حتى أنني حين قمت وجدت مقدمة صدريتي كلها مبللة بالدموع..أوه، لو أتيح لي أن أكتب ولو ربع ما رأيت وأحسست تحت تلك الشجرة، فبأي وضوح كنت أميط اللثام عن كل تناقضات نظامنا الاجتماعي! بأي بساطة كنت أبين أن الإنسان بفطرته خير، وأن نظمنا هي التي جعلته شريراً(62)".

وهذه العبارة الأخيرة ستكون نشيد حياته المتردد، وتلك الدموع التي تدفقت على صدريته كانت منبعاً من المنابع العليا التي انبثقت منها الحركة الرومانسية في فرنسا وألمانيا. لقد كان في وسعه الآن أن يكسب قلبه في هجوم على كل تكلف باريس وتصنعها، وفساد أخلاقها، وزيف سلوكها المصقول، وإباحية أدبها، وشهوانية فنها، وتعالي طبقيتها، وسفه أغنيائها الغليظ الذي تموله إبتزازاتهم من الفقراء، وجفاف الروح لحلول العلم محل الدين، والمنطق محل الوجدان. إنه بإعلانه الحرب على هذا الانحلال يستطيع أن يبرر بساطة ثقافته، وعاداته الريفية، وقلقه وضيقه في المجتمع، ونفوره من حيث القيل والقال، ومن الفكاهة التي تجردت من الاحترام، ويبرر احتفاظه المتحدي بإيمانه الديني وسط إلحاد أصحابه. لقد عاد في أعماق نفسه كلفنياً كما كان، وذكر بشيء من الحنين تلك العفة التي لقنها في صباه. إنه بدخوله مسابقة ديجون سيرفع وطنه جنيف فوق باريس، وسيشرح لنفسه ولغيره لم كان سعيداً في ليشارميت، وشقياً غاية الشقاء في صالونات باريس.

فلما وصل إلى فانسين كاشف ديدرو منيته في دخول المسابقة. فهلل ديدرو للفكرة، وأشار عليه بأن يهاجم حضارة جيلهما بكل ما في وسعه من قوة. فلن يجرؤ متسابق آخر على اتخاذ هذا الموقف، وسيكون موقف روسو فريداً في بابه عاد جان-جاك إلى مسكنه وهو يتحرق شوقاً لهدم الآداب والعلوم التي كان ديدرو يستعد للإشادة بها في "الموسوعة" أو القاموس العقلاني للعلوم والآداب والحرف: (1751 وما يليها) وكتبت "المقال" بطريقة فريدة جداً...فكرست له ساعات الليل التي جفاني فيها النوم، وكنت أتأمل في فراشي وجفناي مغمضتان، وأدير في ذهني المرة بعد المرة عباراتي بعناية واهتمام لا يصدقان..وحالما فرغت من المقال دفعته لديدرو فرضي عنه، وأشار ببعض تصويبات يجب في رأييه إجراؤها...وأرسلت المقال دون أن أخبر بأمره أحداً غيره، اللهم إلا جريم فيما أذكر(65)". أما أكاديمية ديجون فقد توجت مقاله بالجائزة الأولى (23 أغسطس 1740)-وهي ميدالية ذهبية وثلاثمائة فرنك، واتخذ ديدرو الإجراءات بما عهد به من حماسة، لنشر المقال الذي سمي "مقالاً في الآداب والفنون والعلوم" وسرعان ما كتب إلى المؤلف يبلغه النبأ إن مقالك ساحر إلى حد فاق كل تصور، فلم يكن لهذا النجاح ضريب على الإطلاق(66)، وكأني بباريس وقد أدركت أنه هاهنا، في قلب حركة التنوير تماماً، قام رجل يتحدى عصر العقل، ويتحداه بصوت سيصغي إليه العالم.

أما المقال فقد بدا في استهلاله مشيداً بانتصارات عصره:

"أنه لمشهد جليل جميل أن نرى الإنسان يرفع نفسه-إن جاز هذا التعبير-من العدم بجهوده هو؛ فيبدد بنور العقل كل السحب الكثيفة التي اكتنفته بالطبعة فسما فوق نفسه، وحلق بالفكر إلى أجواء الفضاء، واشتمل بخطى عملاقة آفاق الكون الشاسعة كأنه الشمس؛ وأجل من ذلك وأعجب أنه انكفأ إلى نفسه ليدرس الإنسان ويصل إلى معرفة فطرته وواجباته وهدفه..كل هذه المعجزات رأيناها تجدد خلال الأجيال القليلة الأخيرة(67)".

ولابد أن فولتير جاد بابتسامة الرضى عن فرحة هذا الاستهلال، فهاهنا تلميذ جديد لجماعة "الفلاسفة"؛ والرفاق الطيبين الذين سيقضون على الخرافة "والعار"؛ ثم ألم يكن لوشنقار الفتى هذا مساهماً في الموسوعة فعلاً؟ ولكن ما إن جاءت الصفحة التالية حتى اتخذت المناقشة وجهة مؤسفة. فقال روسو إن تقدم المعرفة هذا كله جعل الحكومات أعظم سطوة، فسحقت حرية الفرد واستبدلت بالفضائل البسيطة والكلام الصريح لعهد أكثر خشونة وبدائية، نفاق اللباقة الاجتماعية.

"لقد أقصيت من بين الناس الصداقة المخلصة، والاحترام الحقيقي، والثقة الكاملة وتسترت الغيرة والريبة، والخوف، وبرودة العاطفة، والتحفظ والكراهية، والغش، دائماً وراء ذلك القناع الواحد الخدَّاع، قناع التأدب، والصراحة والكياسة اللتين يتباهى بها الناس، ذلك القناع الذي ندين به لنور عصرنا وقيادته..فلتطالب الآداب والفنون والعلوم بنصيبها الذي أسهمت به في هذا العمل المفيد"(68).

ويكاد فساد الفضائل والأخلاق نتيجة لتقدم المعرفة والفن أن يكون قانوناً من قوانين التاريخ "لقد غدت مصر أم الفلسفة والفنون الجميلة، وسرعان ما غزاها الغزاة".(69) أما اليونان التي كان يسكنها الأبطال يوماً ما فقد قهرت آسيا مرتين، وكانت "الآداب" يومها في المهد، ولم تكن فضائل إسبارطة قد حلت محلها-مثلاً إغريقياً أعلى-تلك الثقافة الأثينية المهذبة، وسفسطة السفطائيين، وتماثل براكستيلبس الشهوانية؛ فلما بلغت تلك "الحضارة" أوجها، أطاح بها فليب المقدوني بضربة واحدة، ثم قبلت نير روما في استكانة. أما روما فقد غزت عالم البحر المتوسط كله يوم كانت أمة من الفلاحين والجند، متمرسة بنظام صارم، فلما أسلمت نفسها للذات الأبيقورية، وأشادت ببداءات أوفيد وكاتللوس، ومارتيال، باتت مرتعاً للرذيلة "وهزؤاً بين الأمم، وهدفاً لاحتقار الشعوب حتى الهمج منها(70). وحين عادت روما إلى الحياة في حركة النهضة الأوربية، عادت الفنون والآداب تنخر في عافية المحكومين والحاكمين، وخلفت إيطاليا أوهى من أن تثبت للهجوم. فأخضع شارل الثامن ملك فرنسا توسكانيا ونابلي دون أن يمتشق حساماً تقريباً، وعزت حاشيته كلها هذا النجاح غير المتوقع إلى انصراف أمراء إيطاليا ونبلائها باهتمام أعظم إلى تثقيف عقولهم دون الاهتمامات النشيطة والأعمال العسكرية(71)".

والأدب ذاته عنصر من عناصر الفناء:

"يحكى أن الخليفة عمر حين سُئل في أمر مكتبة الإسكندرية وما يفعله بها أجاب: "وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامه" وقد ساق أدباؤنا هذا الأسلوب في التفكير على أنه بلغ غاية السخف، ولكن لو أن البابا جريجوري الأكبر كان في مكان عمر، والإنجيل في مكان القرآن، لأحرقت المكتبة رغم ذلك، ولربما عد هذا أروع عمل قام به في حياته"(72).

أنظر إلى تأثير الفلسفة الممزق فبعض "محبي الحكمة" هؤلاء يخبروننا بأنه ليس هناك شيء اسمه المادة، وغيرهم يؤكدون لنا أنه لا وجود لشيء إلا للمادة وليس إله آخر غير الكون ذاته؛ وطريق ثالث يعلن أن الفضيلة والرذيلة ليستا سوى أسمين، وأنه لا اعتبار لشيء إلا للقوة والمهارة فهؤلاء الفلاسفة "يقوضون أسس إيماننا ويحطمون الفضيلة. إنهم يسخرون من الكلمات القديمة التي نستعملها مثل "الوطنية" و"الدين" ويكرسون مواهبهم لهدم وتشويه كل ما نقدسه غاية التقديس(73)". ومثل هذا الهراء ما كان ليعمر في العصور القديمة بعد موت صاحبه، أما الآن فبفضل الطباعة "ستبقى إلى الأبد تأملات هوبز وسبينوزا المؤذية. إذن فاختراع الطباعة كان من أفدح الكوارث في تاريخ الإنسانية، ومن السهل أن نرى أن الملوك في المستقبل سيحرصون على إقصاء هذا الفن الرهيب عن ممالكهم حرصهم من قبل على تشجيعه"(74).

ولنلاحظ ما أوتيت الشعوب التي لم تعرف قط الفلسفة أو العلم أو الأدب من قوة وتفوق؛ الفرس في عصر كورشن أو الألمان كما وصفن تاكيتوس، أو "في زماننا هذا الأم البسيطة (سويسرا) التي لم تقوَ حتى الشدائد والكوارث على قهر بسالتها المشهورة، والتي لم يستطع أي مثال أن يفسد أمانتها" وأضاف الجنيفي الفخور إلى هذه الشعوب "تلك الأمم السعيدة التي لم تعرف حتى أسماء الكثير من الرذائل التي يصعب القضاء عليها، متوحشي أمريكا الذين لم يتردد مونتيني في تفضيل طريقة حكمهم البسيطة الفطرية، لا على قوانين أفلاطون فحسب، بل على أكمل الرؤى التي تستطيع الفلسفة أن تستشرفها"(75). إذن فأي نتيجة ينبغي أن نخلص إليها؟ هي أن "الترف والإسراف، والرق، كانت في جميع الأجيال سوط عذاب سلط على جهود كبريائنا للخروج من حالة الجهالة السعيدة تلك التي وضعتنا فيها حكمة العناية الإلهية. فليتعلم البشر ولو مرة أن الطبيعة كانت تحميهم من العلم، تماماً كما تخطف الأم سلاحاً خطراً من يدي ولدها"(76).

والجواب عن سؤال الأكاديمية العالمة هو أن العلم إذا تجرد من الفضيلة كان فخاً، وإن التقدم الحقيقي الوحيد هو التقدم الخلقي، وإن رقي العلم قد أفسد أخلاق البشر أكثر مما طهرها، وإن الحضارة ليست ارتقاء الإنسان إلى وضع أسمى، بل سقوطه من بساطة ريفية كانت فردوس البراءة والسعادة.

وقبيل ختام المقال كبح روسو جماح قلمه وألقى ببصره في شيء من الخوف على أشلاء العلم، والفن، والأدب، والفلسفة، التي خلفها في إثره وتذكر أن صديقه ديدرو يعد موسوعة كرسها لتقدم العلم. فاكتشف فجأة أن بعض الفلاسفة-كبيكن وديكارت-كانوا "معلمين عظاماً" ورأى أن النماذج الحية من هذه السلالة ينبغي أن يرحب بهم حكام الدول مشيرين لهم. ألم يعين شيشرون قنصلاً لروما، وأعظم الفلاسفة المحدثين قاضياً لقضاة إنجلترا(77)؟ ولعل ديدرو حشر تلك السطور في المقال، ولكن جان-جاك كان صاحب الكلمة الأخيرة:

"أما نحن البشر العاديين الذين لم تشأ السماء أن تحبونا مواهب عظيمة فلنظل في جهالتنا. ولنترك لغيرنا مهمة تعليم الناس واجباتهم، ولننصرف إلى القيام بواجباتنا. أيتها الفضيلة أيتها المعرفة السامية للعقول البسيطة أليست مبادئك منقوشة على كل قلب؟ وهل نحن في حاجة، لكي نتعلم نواميسك إلى أكثر من..الإصغاء لصوت الضمير؟ هذه هي الفلسفة الصادقة التي يجب أن نتعلم القناعة بها(78)".

ولم تدرِ باريس أتأخذ هذا المقال مأخذ الجد، أم تفسره على أنه محاولة ماكرة في المبالغة والمفارقة كتبها المؤلف بخبث. وقال بعضهم (فيما روى روسو)(79) أنه لم يصدق كلمة واحدة مما كتب. أما ديدرو الذي آمن بالعلم وضاق بقيود العرف والأخلاق فيبدو أنه أستحسن مبالغات روسو باعتبارها عقاباً افتقر إليه المجتمع الباريسي، وأما حاشية الملك فقد حبذت المقال باعتباره توبيخاً للفلاسفة السفهاء الهدامين كانوا يستحقونه منذ أمد بعيد.(80) ولابد أن نفوساً حساسة كثيرة ضاقت كهذا الكاتب البليغ بما في باريس من ثرثرة حمقاء وبريق كاذب. وقد عبر روسو عن مشكلة تظهر في كل مجتمع متقدم، فهل ثمرات التكنولوجيا تستأهل ما في الحياة المصنعة من عجلة، وتوترات، ومناظر، وضجيج، وروائح؟ وهل التوتر يقوض الأخلاق؟ وهل من الحكمة أن نمضي وراء العلم إلى خراب شامل، ووراء الفلسفة إلى اليأس من كل رجاء مشدد للعزائم؟.

وانبرى العديد من النقاد للدفاع عن الحضارة منهم بورد عضو أكاديمية ليون، ولاكا عضو أكاديمية روان، وفورميه عضو أكاديمية برلين، ولا ننسَ ستانسلاس لسكفنسكي، الطيب القلب ملك بولندا السابق ودوق اللورين اللاحق. وأشار الأدباء إلى أن هذا الهجاء لم يزد على أن توسع في الشكوك التي أعرب عنها مونتيني في مقاله "عن آكلة لحوم البشر" وسمع غيرهم فيه بصوت بسكال يرتد من العلم إلى الدين، وبالطبع كان مئات من "اللاهوتيين والقديسين" قد أدانوا الحضارة منذ زمن بعيد باعتبارها مرضاً أو خطيئة. وكان في وسع اللاهوتيين أن يزعموا أن "براءة" الحالة الطبيعية وسعادتها التي قال بها روسو، والتي سقط منها الإنسان، ليست إلا قصة جنة عدن معادة، فحلت "الحضارة" محل "الخطيئة الأصلية" علة في سقوط الإنسان، وفي كلتا الحالتين قضت الرغبة في المعرفة على سعادة الإنسان. أما المفكرون المعتزون بعلمهم مثل فولتير عجبوا لرجل في السابعة والثلاثين يكتب هذه المرثية الصبيانية ليهاجم منجزات العلم، ونعمة السلوك المهذب، وإلهامات الفن، وإما الفنانون أمثال بوشيه فلعلهم كانوا يتلوون ألماً تحت سوط روسو، ولكن فنانين آخرين مثل شاردان ولاتور كان في وسعهم أن يرموه بالتعميم العشوائي، وأما الجنود فقد سخروا من إشادة هذا الموسيقار الرقيق بالصفات العسكرية وبالتأهب الدائم للحرب.

واعترض جريم، صديق روسو، على أي رجوع إلى "الطبقية" فقال متعجباً "ياله من هراء شيطاني!: ثم سأل سؤالاً شائكاً، ما الطبقية(81)؟" فلقد لاحظ بيل أنه لا تكاد توجد كلمة تستعمل استعمالاً أكثر غموضاً من كلمة ...الطبيعة...وليسمن المؤكد "أنه لأن شيئاً ما مصدره الطبيعة فهو إذن خير وصواب: فنحن نرى في النوع البشري أشياء سيئة جداً مع أنه لا يتطرق إلينا شك في أنها من عمل الطبيعة".(82) ولا ريب أن مفهوم روسو عن الطبيعة البدائية كان تصويراً رومانسياً للطبيعة في حالتها المثالية. فالطبيعة (أي الحياة دون تنظيم وحماية اجتماعيين) "حمراء في الناب والمخلب" وناموسها الأساسي هو : أقتل وإلا قتلت. والطبيعة التي أحبها جان-جاك؛ كما يتجلى حبه في قيقيه أو كلارنس كان ضرباً متحضراً من الطبيعة، روضها وهذبها الإنسان. والحق أنه لم يرد أن يرتد إلى الأحوال البدائية بكل ما انطوت عليه من قذارة، وخطر، وعنف بدني، إنما أراد أن يعود إلى الأسرة الأبوية التي تفلح الأرض وتعيش على ثمارها، وهفت نفسه إلى التحرر من قواعد المجتمع المهذب وقيوده-ومن الأسلوب الكلاسيكي، أسلوب الاعتدال والعقل. وقد أبغض باريس وحن إلى شارميت وقبيل ختام حياته، في كتابه "أحلام جوال وحيد" صور هذه الفكرة القاصرة تصويراً مثالياً فقال:

ولدت أكثر الناس ثقة بالناس، ولم تخذل هذه الثقة ولو مرة واحدة طوال أربعين سنة. فلما وقعت فجأة بين صنف آخر من الأشخاص والأشياء انزلقت إلى مئات الفخاخ..واقتنعت أنه ليس في مظهر الابتسامات المتكلفة التي أغدقت على غير الغش والكذب، فانتقلت بسرعة من النقيض إلى النقيض....وأصبحت أشمئز من الناس...وأنا لم أعتد قد اعتياداً حقيقياً على المجتمع الحضري الذي كل ما فيه هم وإكراه والتزام، والذي يجعلني استقلالي الفطري عاجزاً فيه على الدوام عن ألوان الخضوع التي لا مندوحة عنها لكل من يريد العيش بين الناس(83).

وفي "الاعترافات" سلم في شجاعة بأن هذا "المقال" الأول (كان مفتقراً الافتقار كله إلى المنطق والنظام وإن زخر بالقوة والحرارة؛ فهو أضعف ما كتبت إطلاقاً من حيث الحجة، وأخلاه من الإيقاع والانسجام(84)).

ومع ذلك فقد رد على نقاده بقوة، وأكد مفارقاته من جديد. ومجاملة لستانسلاس استثنى شيئاً واحدا: فقال أنه بعد الروية قرر ألا تحرق المكتبات أو تغلق الجامعات والأكاديميات "لأننا لن نجني من وراء هذا إلا إغراق أوربا مرة أخرى في دياجير الهمجية(85)"؛ و"حين يفسد البشر فإن من الخير لهم أن يكونوا متعلمين عن أن يكونوا جهلة"(86). ولكنه لم يعدل عن أي فقرة من اتهامه للمجتمع الباريسي. ودليلاً على انسحابه منه أقلع عن لبس السيف والضفيرة الذهبية والجوارب البيضاء، وارتدى ما يرتديه رجال الطبقة الوسطى من رداء بسيط وباروكة أصغر. قال مارمونتيل "وهكذا منذ تلك اللحظة اختار الدور الذي سيلعبه، والقناع الذي سيلبسه". فإن كان هذا قناعاً فإنه أحسن لبسه، وأصر عليه إصراراً شديداً، حتى لقد أصبح جزءاً من صميم الرجل وغير وجه التاريخ.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- باريس وجنيف 1750 - 1754

في ديسمبر 1750 اشتد على روسو مرض المثانة حتى ألزمه الفراش ستة أسابيع وزادته هذه المحنة نزوعاً إلى الاكتئاب والعزلة، وأرسل إليه معارفه الأغنياء أطباءهم ليعودوه، ولكن تطبيب ذلك الزمان لم يؤهلهم لمساعدته "فكلما امتثلت لأوامرهم ازددت شحوباً ونحولاً وهزالاً. ولم يوحِ لي خيالي...على هذا الجانب من القبر، بغير الآلام المتصلة كابدتها من الرمل والحصاة وحصر البول، وكان كل ما يخفف من آلام غيري من المرضى كنقيع الشعير، والحمامات والفصد-يضاعف من عذابي"(88).

وفي مطلع عام 1751 أنجبت له تريز طفلاً ثالثاً تبع أخويه إلى ملجأ اللقطاء. وقد علل هذا في فترة لاحقة بأنه كان أفقر من أن يربي أطفالاً، وأنه لو وكلهم إلى آل لقاسير لكان في ذلك بوارهم، وأنهم كانوا سيعبثون عبثاً منكراً في عمله كاتباً وموسيقياً وأكرهه المرض على الاستقالة من وظيفته صرافاً لديوان دفرانكوي التخلي عن دخله منها، وراح منذ الآن يكسب معظم قوته بنسخ كراسات الموسيقى براقع عشرة سنوات للصفحة. ولم يتلقَ روسو أي دخل من بيع "المقال" سواء كان سبب إهمال ديدرو أو شح الناشرين وتبين أن موسيقاه أكسب له من فلسفته.

وفي 18 أكتوبر 1752، وبفضل نفوذ دوكلو، مثلت أوبريت روسو "عراف القرية" أمام الملك والبلاط في فونتنبلو، ولقيت من النجاح ما أتاح لها عرضاً ثانياً بعد أسبوع وظفرت حفلة للجمهور في باريس (أول مارس 1753) باستحسان أشمل، ووجد المؤلف المعتكف نفسه مرة أخرى رجلاً يشار إليه بالبنان. وكان هذا "الفاصل" الصغير، الذي ألف روسو كلماته وموسيقاه، أشبه باللحن المصاحب "المقال": فالراعية كوليت، التي أحزنتها مغازلات كولان لفتيات المدينة، يرشدها عراف القرية إلى استمالته ثانية بمغازلة غيره من الرجال، فيغار عليها كولان ويعود إليها، ثم ينشدان معاً أغاني راقصة تشيد بحياة الريف وتذم حياة المدينة. وحضر روسو الحفلة الافتتاحية وكاد يرضى عن المجتمع بعد الخصام.

"غير مسموح بالتصفيق أمام الملك، وعليه فقد كان كل شيء مسموعاً، وهذا يخدم المؤلف والتمثيلية. وسمعت من حولي همس النساء اللاتي يدون في حسن الملائكة. وكانت الواحدة تقول للأخرى في صوت خافت: "هذا رائع، هذا خلاب، ليس هناك لحن واحد لا ينفذ إلى الفؤاد" وقد أثار دموعي سروري بأنني أشعر هذا العدد الكبير من الأشخاص اللطفاء بهذه العاطفة، ولم أستطع أن أمسكها في اللحن الثنائي الأول حين لاحظت أنني لم أكن الوحيد الذي يبكي".(89)

في ذلك المساء بعث إليه الدوق دومون كلمة يطلب إليه الحضور إلى القصر في الساعة الحادية عشرة من صباح الغد ليقدم إلى الملك، وأضاف الرسول أن من المتوقع أن ينفح الملك المؤلف معاشاً. ولكن مثانة روسو أفسدت الخطة. يقول:

"أيصدق أحد أن ليله هذا النهار الرائع كانت ليلة عذاب وحيرة؟ فقد كان أول خاطر لي إنني بعد أن أقدم للملك سأضطر إلى الانسحاب غير مرة وكانت هذه الضرورة قد سببت لي معاناة شديدة في المسرح: وقد تعذبني في الغد وأنا في البهو أو في حجرة الملك، بين جميع العظماء، منتظراً خروج جلالته. لقد كانت علتي هي السبب الأهم في الحيلولة بيني وبين الاختلاط بالجماعات الراقية والاستمتاع بحديث الحسان...ولا يستطيع غير من خبر هذا الموقف أن يحكم بالفزع الذي يوحي به التعرض لخطره(90).

وعليه فقد أرسل كلمة يعتذر من الحضور. وبعد يومين وبخه ديدرو على تضييعه فرصة كهذه تتيح رزقاً أنسب له ولتريز" وتحدث عن المعاش بحرارة أكثر مما كنت أتوقع في موضوع كهذا من فيلسوف...مع أنني شكرت له تمنياته الطيبة، فإنني لم أستطع أن أسيغ مبادئه، الأمر الذي أثار بيننا نقاشاً حامياً هو أول ما وقع بيننا من نزاع(91). على أنه لم يحرم كل ربح من وراء تمثيليته. فقد أعجبت به مدام ديونبادو إعجاباً حملها على أن تمثل هي نفسها دور كوليت في عرضها الثاني في البلاط، وأرسلت له خمسين جنيهاً ذهبياً، وأرسل له لويس مائة.(91) وراح الملك نفسه، "بأنكر صوت في مملكته يتغنى بلحن كوليت الحزين" "لقد فقدت خادمي"-وكان هذا إرهاصاً بظهور جلوك.

وكان روسو خلال ذلك يعد مقالات عن الموسيقى للموسوعة "وقد كتبتها في عجلة شديدة، وكتابة سيئة لهذا السبب، في الشهور الثلاثة التي أتاحها لي ديدرو. وقسا رامو في نقد هذه المقالات في كتيب سماه "أخطاء حول الموسيقى في الموسوعة" (1755) وعدل روسو في المقالات، وجعلها أساساً لــ"قاموس الموسيقى" (1767) واعتبره معاصروه، باستثناء رامو، موسيقياً من أعلى طراز(93) وينبغي أن نعده الآن مؤلفاً مجيداً في فرع صغير من فروع الموسيقى، ولكنه كان ولا شك أكثر من كتب عن الموسيقى طرافة وإمتاعاً في ذلك الجيل.

ولما غزت فرقة من مغنى الأوبرا الإيطالية باريس في 1752 تفجر الجدل حول مزايا كل من الموسيقى الفرنسية والإيطالية. وقفز روسو إلى المعركة بــ"رسالة في الموسيقى الفرنسية" (1753) يقول جريم إنه "يثبت فيها استحالة تلحين الموسيقى في ألفاظ فرنسية، وأن اللغة الفرنسية لا تصلح إطلاقاً للموسيقى، وإنه لم يكن قط للفرنسيين ولن يكون لهم أبداً موسيقى(94)". وكان روسو بكليته في صف إتساق الألحان (الميلوديا). كتب في روايته "أحلام جوال وحيد" يقول "غنينا أغنية قديمة كانت أفضل كثير من النشاز الحديث(95)" وأي جيل لم يسمع تلك الشكوى؟ وفي مقاله "الأوبرا" الذي تضمنه قاموسه الموسيقي أعطانا إلماعاً لفاجنر، فعرف الأوبرا بأنها "مشهد درامي غنائي يحاول الجمع من جديد بين جميع مفاتن الفنون الجميلة في تمثيل حركة عاطفية مشبوبة...ومقومات الأوبرا هي القصيدة الشعرية، والموسيقى، والزخرفة: فالشعر يتحدث إلى الروح، والموسيقى إلى الأذن، والصورة إلى العين...والدرامات اليونانية كان يمكن أن تسمى أوبرات(96)".

وحوالي تلك الفترة (1752) رسم موريس كنتان دلاتور صورة لروسو بالباستيل(97)، التقط فيها ملامح جان-جاك مبتسماً، وسيماً، أنيقاً، وقد أنكر ديدرو الصورة لأنها لا تتفق والحقيقة(98). ووصف مارمونتيل روسو كما رآه في تلك السنوات في حفلات عشاء دولباخ فقال "كان قد ربح لتوه الجائزة..في ديجون...فيه تأدب يشوبه الإحجام، قد...يبلغ من للتواضع مبلغاً يقرب من التذلل. ترى عدم الثقة واضحة من خلال تحفظه المشوب بالخوف، وكانت عيناه المطرقتان ترقبان كل شيء بنظرة ملؤها الارتياب الحزين. وقل أن شارك في حديث، وندر أن كشف لنا عن دخيلة نفسه(99)".

وغدا مركز روسو بعد تنديده بالعلم والفلسفة بهذا العنف حرجاً بين جماعة الفلاسفة الذين سيطروا على الصالونات. وكان مقاله قد ألزمه بالدفاع عن الدين. وتروي مدام دينيه أنه في عشاء دعت إليه مدام كينو، وجدت المضيفة أن الحديث عن الدين أصبح نابياً، فرجت ضيوفها "أن يحترموا على الأقل الدين الطبيعي" وبادر بالرد المركيز دسان-لامبير، الذي كان مؤخراً مزاحماً لفولتير على حب دوشاتليه، وسيكون عما قليل مزاحماً لروسو على حب مدام دوديتو فقال "أنه لا يستحق من الاحترام أكثر من أي دين آخر". وتواصل مدام ديينيه كلامها فتقول: "فلما سمع روسو هذا الرد غضب وتمتم بكلام أضحك الجماعة عليه". قال: "إذا كان من الجبن أن يسمح الإنسان لآخر أن يغتاب صديقاً فإن من الإجرام أن يسمح لأحد بأن يتحدث عن إلهه الذي هو حاضر، وأنا أومن بالله يا سادة...واتجهت إلى سان لامبير وقلت له "إنك يا سيدي وأنت شاعر، ستوافقني على أن وجود كائن خالد، كلي السلطان، عظيم الذكاء، هو البذرة لأروع ضروب الحماسة". فأجاب "أعترف بأنه جميل أن نرى هذا الإله يوجه وجهه إلى الأرض،... ولكنها بذرة الحماقات"، وقاطعه روسو قائلاً "سيدي، سأبرح الحجرة إن زدت كلمة واحدة". والواقع أنه كان قد قام عن كرسيه وكان يفكر جدياً في الهروب لولا أن أعلن عن قدوم الأمير(100).

ونسي الجميع موضوع الجدل. وفي رواية وردت في مذكرات مدام ديينيه، أن روسو قال لها أن هؤلاء الكفرة يستحقون النار الأبدية(101).

وجدد روسو الحرب على الحضارة في مقدمة مسرحيته الهزلية "نارسيس"، التي مثلتها فرقة الكوميدي فرانسيز في 18 ديسمبر 1752 "أن الميل إلى الآداب يكون دائماً إيذاناً في الشعب ببداية فساد سرعان ما يعجل به هذا الميل. ولا ينبعث هذا الميل في أمة إلا من منبعين خبيثين...التبطل، وشهوة الامتياز(102)". ومع ذلك استمر حتى عام 1754 يختلف إلى "مجمع" دولباخ المؤلف من أحرار الفكر. هناك استمع مارمونتيل، وجريم، وسان-لامبير، وغيرهم إلى الأبيه بتي يقرأ مأساة من تأليفه، فوجدوها عملاً تافهاً يدعو للرثاء، ولكنهم أطروها إطراءً جميلاً، وكان الأديب قد ثمل بالخمر إلى حد أعماه عن إدراك ما في ثنائهم من تهكم، فانتفخت أوداجه رضى وغبطة، أما روسو الذي غاظه نفاق أصحابه فقد انتقض على الأب بقريع لا هوادة فيه، فقال له "أن تمثيليتك لا قيمة لها...وكل هؤلاء السادة يسخرون منك، فانصرف وعد لتكون قسيساً في قريتك(103)". ووبخ دولباخ روسو على فظاظته، فانصرف غاضباً وانقطع عن الجماعة عاماً.

لقد دمر رفاقه كثلكته، ولكنهم لم يدمروا إيمانه بمقومات المسيحية. وعادت بروتستانتية صباه تطفو في الوقت الذي تغوص فيه كثلكته. فتصور جنيف صباه كاملة مبرأة من العيوب، وخيل إليه أنه سيكون فيها أكثر راحة واطمئناناً من في بلد أضنى روحه كباريس. ولو عاد إلى جنيف لاكتسب من جديد لقباً يبعث على الفخر، هو لقب المواطن، ومعه الامتيازات الخاصة التي ينطوي عليها هذا اللقب. وعليه ففي يونيو سنة 1754 استقل مركبة البريد إلى شامبري وهناك وجد مدام دفاران فقيرة تعسة، ففتح لها كيس نقوده، ثم واصل رحلته إلى جنيف. هناك رحب به القوم ابناً ضالاً قد ثاب إلى رشده: ويبدو أنه وقع إقراراً يؤكد فيه من جديد عقيدته الكلفنية(104)؛ وأغتبط رجال الدين الجنيفيون باستعادتهم "موسوعياً" إلى حظيرة إيمانهم الإنجيلي ورد إليه اعتباره مواطناً، وراح بعدها يوقع في فخر "جان-جاك روسو، المواطن": قال:

"تأثرت تأثراً بالغاً بما لقيت من عطف...المجلس (المدني) والمجمع (الكنسي) وعظيم احترام القضاة، والوزراء، والمواطنين، وحفاوتهم بي....حتى إنني أقلعت عن فكرة العودة إلى باريس إلا لفظ إدارة البيت، والعثور على مل للسيد لفاسير وزوجته، أو تدبير أمر معاشهما، ثم العودة مع تريز إلى جنيف لأستقر فيها ما بقي لي من عمر(105)".

واستطاع الآن أن يتذوق جمال البحيرة وشواطئها تذوقاً أكمل مما فعل في صباه "لقد احتفظت بذكرى حية...لطرف البحيرة الأبعد، وكتبت له وصفاً بعد سنوات في هلويز الجديدة". ودخل الفلاحون السويسريون في حلم الفردوس الريفي الذي سيصفه في تلك الرواية: فهم ملاك لمزارعهم لا يخضعون لضريبة رؤوس أو سخرة، يشغلون أنفسهم بالحرف المنزلية في الشتاء، ويقفون في قناعة بمنأى عن ضجيج العالم وصراعه. وكانت ذكرى دويلات المدن السويسرية عالقة بذهنه وهو يصف مثله السياسي الأعلى في كتاب "العقد الاجتماعي".

وفي أكتوبر 1754 قصد باريس على وعد بالعودة منها سريعاً. ووصل فولتير إلى جنيف بعد رحيل روسو عنها بشهرين، واستقر به المقام في فيلا ديليس. واستأنف جان-جاك في باريس صداقته لديدرو وجريم، دون أن تبلغ من الثقة ما بلغته من قبل. ولما نمى إيه نبأ موت مدام دولباخ كتب إلى البارون خطاب تعزية رقيقاً؛ وتصالح الرجلان، وعاد روسو يؤاكل الزنادقة، وظل ثلاثة أعوام أخر يبدو من جميع الوجوه واحداً من جماعة الفلاسفة، ولم يبحث كثيراً في عقيدته الكلفنية الجديدة. واستغرقه الآن الإشراف على طبع "مقاله" الثاني الذي قدر له أن يهز الدنيا أكثر مما هزه سابقه.


7- جرائم الحضارة

في نوفمبر 1753 أعلنت أكاديمية ديجون عن مسابقة أخرى، أما السؤال الجديد فكان "ما الأصل من عدم المساواة بين البشر، وهل يقره قانون الطبيعة"؟ يقول روسو "استرعى انتباهي هذا السؤال الخطير، وأدهشني أن الأكاديمية اجترأت على طرحه للنقاش، ولكن ما دامت قد أظهرت شجاعتها...فقد عكفت فوراً على مناقشته(106)". وأختار لبحثه هذا العنوان "مقال في أصل وأسس عدم المساواة بين البشر". وفي شامبري في 12 يونيو 1754 أهدى هذا المقال الثاني "إلى جمهورية جنيف" وأضاف خطاباً موجهاً إلى "سادتها الحاكمين" الرفيعي الشرف والمجد، يعرب عن بعض الآراء الفذة في السياسة:

"في بحوثي عن خير القواعد التي يمكن أن يرسيها الإدراك السليم عن تكوين الحكومة أدهشني أن أجدها كلها تحققت فعلاً في حكومتكم، بحيث أنني لو لم أولد بين أسوار مدينتكم لرأيته لزاماً عليّ أن أقدم هذه الصور عن المجتمع الإنساني إلى ذلك الشعب الذي يبدو أنه انفرد دون سائر الشعوب بحيازته لأعظم مزاياهم، ووفر لنفسه أفضل وقاية من مساوئها(107)". ثم هنأ جنيف بعبارات تصدق تماماً على سويسرا اليوم:

"بلد انصرف عن شهوة الغزو الهمجية لافتقاره السعيد للقوة، وأمن بفضل موقعه الأسعد حظاً من خوف الوقوع غنيمة في يد غيره من الدول: مدينة حرة تتوسط عدة أمم، لا مصلحة لواحدة منها في العدوان عليها، ومصلحة كل منها في منع غيرها من هذا العدوان(108)".

وبارك معبود الثورة الفرنسية المستقبل تلك القيود المفروضة على الديمقراطية في جنيف، حيث لا حق في التصويت إلا لثمانية في المائة من السكان:

"لكي نتقي خدمة المصالح الخاصة والمشروعات الطائشة وجميع البدع الخطرة التي انتهت بالقضاء على الاثنين، ينبغي ألا تطلق الحرية لكل رجل في اقتراح القوانين الجديدة على هواه، بل يقصر هذا الحق على القضاة دون غيرهم...فقدم القوانين هو أهم عامل في إضفاء القدسية والاحترام عليها، والناس سرعان ما يتعلمون الاستهانة بالقوانين التي يرونها تبدل وتغير كل يوم، ولو اعتادت الدول أن تهمل تقاليدها القديمة بحجة التحسين والإصلاح، لجلبت من الشرور ما هو أسوأ مما تحاول أن تقضي عليه(109)".

أكان هذا مجرد ذريعة يلتمس بها العودة إلى المواطنة الجنيفية؟

أما وقد تحقق لروسو هذا الهدف فإنه قدم مقاله لأكاديمية ديجون. ولم يمنح الجائزة، ولكن حين نشر المقال في يونيو 1755، سره أن يصبح من جديد الحديث المثير لصالونات باريس. ذلك أنه لم يترك مفارقة إلا تناولها ليثير الجدل حولها. فهو لم ينكر عدم المساواة "الطبيعي" أو الإلزامي، ويلم بأن هناك أفراداً هم بحكم مولدهم أصح أو أقوى من غيرهم في البدن أو الخلق أو الذهن. ولكنه زعم أن كل ضروب عدم المساواة الأخرى-الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والخلقية، عير طبيعية، نشأت حين ترك البشر "الحالة الطبيعية"، وأقاموا الملكية الخاصة وأسسوا دولاً تحمي الثروة والامتياز.

"فالإنسان بطبيعته طيب(110)"، وأكثر ما يجعله شريراً تلك النظم الاجتماعية التي تقيد أو تفسد ميوله للسلوك الطبيعي. وقد صور روسو حالة فطرية مثالية كان الناس فيها أقوياء الأطراف، خفاف الأقدام، حديدي البصر ، يعيشون حياة الحركة والعمل، حياة كان الفكر فيها دائماً أداة للعمل وتابعاً له، لا بديل مضعفاً عنه. ثم قارن بين هذه الصحة الفطرية وبين الأمراض المتكاثرة التي تنجم في الحضارة عن الثروة والأعمال التي تتطلب القعود الكثير:

"أن أغلب عللنا من صنعنا، وكان يسيراً علينا أن نتجنبها، كلها تقريباً، بالتزام أسلوب الحياة البسيط، المماثل ، المنعزل، الذي قررته الطبيعة. فإذا كانت الطبيعة. قد قضت بأن يكون الإنسان سليماً صحيحاً، فأنني أجرؤ على الزعم بأن حالة التفكير والتأمل حالة تناقض الطبيعة، وأن (I'homme Qui M(dite est un aminal d(rar(.).

وحين نفكر في بنية المتوحشين القوية-على الأقل أولئك الذين لم ندمرهم بمشروباتنا الروحية-وفي أنهم لا يكادون يعانون من أي علل غير الجروح والشيخوخة، يغرينا هذا بالاعتقاد بأننا تتبعنا لتاريخ المجتمع المدني؛ إنما نحن نروي تاريخ أمراض البشر(112)".

ويسلم روسو بأن هذه الحالة المثالية "الحالة الطبيعية.. ..ربما لم توجد قط؛ وأغلب الظن أنها لن توجد أبداً(113)". فهو لا يعرضها بوصفها حقيقة واقعة من حقائق التاريخ بل مقياساً للمقارنة. وهذا ما عناه بهذا الاقتراح المفزع "فلنبدأ إذن بتنحية الحقائق جانباً لأنها لا تمس السؤال.والتحقيقات التي يصح أن نخوض فيها....يجب ألا تعالج على أنها حقائق تاريخية، بل حجج مشروطة وفرضية(114)": على أننا قد نكون فكرن عن حياة الإنسان قبل قيام النظام الاجتماعي، بملاحظة حال الدول الحديثة السلوك، لأن "الدول اليوم ما زالت في حالة طبيعية(115)".فكل منها ذات سيادة فردية، لا تعرف فعلاً أي قانون إلا قوانين المكر والقوة، ويجوز أن نفرض أن الإنسان الذي سبق تكوين المجتمعات كان يحيا في حالة مشابهة من السيادة الفردية، وعدم الأمان، والفوضى الجماعية، والعنف بين الحين والحين. ولم يكن مثل روسو الأعلى هو هذه الحياة المتخيلة التي سبقت المجتمعات (لأن المجتمع قد يكون قديماً قدم الإنسان)، بل مرحلة لاحقة من التطور عاش فيها الإنسان في أسر أبوية النظام وجماعات قبلية، ولم ينشئوا بعد نظام الملكية الخاصة "إن أقدم المجتمعات قاطبة، والمجتمع الطبيعي الوحيد، هو الأسرة(116)".

ذلك كان العصر الذي بلغت فيه سعادة البشر أقصاها. حقاً أنه لم يخل من عيوب، وآلام، وعقوبات، ولكنه خلا من القوانين، اللهم إلا السلطة الأبوية والنظام الأسري؛ "لقد كانت هذه الحالة في جملتها أفضل حالة يستطيع الإنسان ممارستها، فلم يكن ليعدل عنها لولا أن أصابه خطب فادح(117). وهذا الخطب هو إقامة الملكية الفردية، وما نجم عن ذلك من تفرقة اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، ومعظم شرور الحياة الحديثة.

"أن أول رجل سور قطعة من الأرض ث خطر له أن يقول "هذه ملكي" ووجد الناس من البساطة بحيث يصدقونه؛ هذا الرجل كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المتمدن. ليت شعري كممن الجرائم، والحروب، والاغتيالات، كم من الفظائع والكوارث، لم يكن في استطاعة أي إنسان أن ينقذ البشرية منها باقتلاع الأوتاد المحددة للأرض أو ردم القناة المحيطة بها والصياح بإخوانه أن احذروا الاستماع إلى هذا النصاب، إنكم إن نسيتم أن ثمرات الأرض ملك لنا جميعاً، وأن الأرض ذاتها ليست ملكاً "لأحد، كان في ذلك هلاككم(118)". ومن هذا الاغتصاب الذي سمح به الناس انبعثت لعنات الحضارة: كالانقسامات الطبيعية، والعبودية، ورق الأرض، والحسد، والسرقة، والحرب، والظلم القانوني، والفساد السياسي، والغش التجاري، والاختراعات، والعلم، والأدب، والفن، و"التقدم"-وبكلمة واحدة، الانحطاط. فلحماية الملكية الخاصة نظمت القوة ثم أصبحت هي الدولة، ولتيسير الحكم طور القانون لتعويد الضعفاء الإذعان للأقوياء بأقل قدر من الإكراه والتكلفة(119). وهكذا نشأ هذا الوضع الذي نرى فيه "القلة المميزة تكتظ بالكماليات، على حين تفتقر الجماهير الجائعة إلى أبسط ضروريات الحياة(120)". يضاف إلى هذه المظالم الأساسية طائفة أخرى متفرعة عنها" كالوسائل المخزية التي يمارسها الناس أحياناً لمنع ولادة البشر، والإجهاض، وقتل الأطفال، وخصي الذكور، والانحرافات الجنسية، وترك الكثيرين من الأطفال الذين يقعون فريسة لإملاق أبويهم في العراء أو قتلهم(121)". هذه الكوارث كلها مفسدة مضعفة، والحيوانات لا تعرفها؛ وهي تجعل "الحضارة" سرطاناً ينهش جسد البشرية. وعلى نقيض هذا الفساد والانحراف المتعدد الأشكال، نجد حياة المتوحشين صحيحة، سليمة، رحيمة،. أينبغي أن نعود إذن إلى الهمجية؟ "أيجب أن تلغى المجتمعات إطلاقاً؟ وتبطل عبارة "مُلكي" و"مُلكك"، ونعود إلى الغابة لنحيا بين السباع؟" لم يعد هذا في وسعنا، فسم الحضارة يسري في دمائنا، ولن ننتزعه بالهروب إلى الغابات، والقضاء على الملكية الخاصة، والحكومة؛ والقانون، معناه الزج بالناس في فوضى هي شر من الحضارة. "لن يستطيع الإنسان العودة أبداً إلى زمان البراءة والمساواة متى تركه(122)". وقد تبرر الثورة، لأن القوة قد تطيح عدلاً بما أقامته القوة وساندته(123)، ولكن الثورة ليست مستحبة الآن. وخير ما نستطيعه هو أن ندرس الأناجيل من جديد، ونحاول تطهير دوافعنا الشريرة بممارسة أخلاق المسيحية(124). في استطاعتنا أن نجعل من العطف الفطري على إخواننا البشر أساساً للأخلاق والنظام الاجتماعي. ونستطيع العزم على أن نحيا حياة أقل تعقيداً، نقنع فيها بالضروريات، ونحتقر أسباب البذخ والترف، ونجتذب سباق "التقدم" وحماه. نستطيع أن ننبذ ما في الحضارة من ضروب الزيف، والنفاق، والفساد، واحداً بعد الآخر، ونعيد تشكيل أنفسنا على الأمانة الطبيعية، والإخلاص. نستطيع أن نترك ضوضاء مدننا وصخبها، وأحقادها، وفسقها، وجرائمها، ونذهب لنعيش في بساطة الريف ومسئوليات الأسرة وقناعتها. نستطيع أن نطلق دعاوى الفلسفة ومسالكها المسدودة، ونعود إلى إيمان ديني يشد أزرنا حين نواجه آلام الموت".

ونحن نحس اليوم شيئاً من التكلف في هذا السخط البار بعد أن سمعنا هذا كله مائة مرة. فلسنا على ثقة من أن الشرور التي وصفها روسو تنجم عن الأنظمة الفاسدة أكثر مما تنجم عن طبيعة البشر؛ وعلى أية حال فالطبيعة البشرية هي التي صنعت الأنظمة. ويوم كتب جان-جاك "مقاله" الثاني كانت الإشادة بذلك "الهمجي اللطيف المعشر، المتدفق العاطفة" قد بلغت ذروتها. ففي 1640 كان ولتر هاموند قد نشر كتيباً "يثبت أن أهل مدغشقر أسعد شعوب الأرض(125)". وبدا أن القصص التي رواها اليسوعيون عن هنود هورون وإيركوا مصداق للصورة التي رسمها الروائي ديفو لخادم روينصن كروزو اللطيف "فرايداي". أما فولتير فكان يسخر عموماً من أسطورة الجمجي الشريف، ولكن استخدمها بمرح في قصته "الساذج" وداعبها يدور في قصته "تذييل الرحلة بوجانفيل" ولكن هلفينيوس هزأ بإشادة روسو بالهمجي مثلاً أعلى(126)، وزعم دوكلو-رغم أنه كان صديقاً وفياً لجان-جاك-أن "الهمج هم الذين تستشري بينهم الجريمة، وطفولة أمة ما ليست عصر براءتها(127)". ويمكن القول على الجملة أن المناخ الفكري كان مواتياً لنظرية روسو.

أما ضحايا مطاعن روسو فقد هدءوا ضمائرهم بالزعم أن هذا المقال الثاني متكلف كسابقهِ. ووصفته مدام دودفان صراحة بأنه دجال(128). وسخر الشكاك من ادعاءاته بسلامة عقيدته المسيحية، وبتفسيره الحرفي لسفر التكوين(129) وبدأ جماعة الفلاسفة يرتابون فيه لأنه يقلب خططهم الرامية إلى استمالة الحكومة إلى أفكارهم في الإصلاح الاجتماعي، ولم يحبذوا استثارة كراهية الفقراء. وسلموا بحقيقة الاستغلال، ولكنهم لم يروا أي مبدأ في إحلال الغوغاء محل القضاة. أما الحكومة فلم تحتج على اتهامات روسو،والراجح أن القصر لم يرَ في المقال إلا تدريباً على الخطابة. وكان روسو فخور ببلاغته، فأرسل نسخة من المقال إلى فولتير، وترقب في شوق كلمة ثناء منه. وجواب فولتير درة من درر الأدب والحكمة وآداب السلوك الفرنسية. قال: "تلقيت يل سيدي كتابك الجديد الذي يهاجم النوع الإنساني. وأني أشكرك عليه. وأنك لتسر الناس الذين تخبرهم بحقائق تهمهم، ولكنك لن تقوم بذلك اعوجاجهم. إنك ترسم بألوان صادقة جداً فضائع المجتمع الإنساني،...وأن أحداً لم يبذل قط مثل هذا الذكاء الكثير ليقنع الناس بأن يكونوا وحوشاً. والمرء حين يقرأ كتابك تتملكه الرغبة في أن يمشي على أربع (Marcher ( Quatre Pattes) ولكن بما أنني فقدت تلك العادة منذ أكثر من ستين عاماً. فأني لسوء الحظ أشعر أنه يستحيل عليّ استئنافها... "وإني متفق معك على أن الآداب والعلوم كانت أحياناً علة الكثير من الشرور...(ولكني) اقرر أنه لا شيشرون، ولا قارو، ولا لوكريتيوس، ولا فرجيل، ولا هوراس، كان لهم أقل نصيب في تحريمات ومصادرات ماريوس، وصلا، وأنطونيوس، وليبدوس، وأكتافيوس...وعليك أن تعترف بأن بترارك وبوكاشيو لم يكونا السبب فيما عانته إيطاليا من متاعب داخلية، وأن مزاح مارو لم يكن السبب في مذبحة القديس برتولومي، وأن مسرحية كورنبي "السيد" لم تثر حروب الفروند. إن الجرائم الكبرى قد اقترفها رجال مشهورون ولكنهم جهلة، والذي جعل هذه الدنيا، وسوف يجعلها على الدوام، وادياً للدموع هو جشع الناس الذي لا يشبع وغرورهم الذي لا يفتر...أن الأدب يغذي الروح، ويقومها، ويعزيها، أنه يخلق مجدك في ذات الوقت الذي تهاجمه فيه... "لقد أنبأني السد شابوي أن صحتك سيئة للغاية. فعليك ان تحضر وتستردها في جو وطنك، وتستمتع بالحرية، وتشرب معي لبن أبقارنا، وتعيش على أعشابنا. وأني يا سيدي بكل، الفلسفة وكل التقدير المشرب بالمحبة، خادمك المتواضع جداً المطيع جداً(130).

ورد روسو التحية بمثلها، ووعد بأن يزور فيللا المباهج عن عودته إلى سويسرا(131).ولكن حز في نفسه كثيراً ذلك الاستقبال الذي استقبل به مقاله في جنيف التي أهداها إياه بمثل هذا المديح السار. والظاهر أن الأوليجاركية الصغيرة المحكمة التي تسلطت على الجمهورية أوجعتها بعض تعليقات ذلك المقال اللاذعة، ولم تسغ تنديد روسو الشامل بالملكية، والحكومة، والقانون "لم أحس أن جنيفياً واحداً سر بما حواه المقال من حماسة قلبية(132). وعليه فقد قررت أن الوقت لم يحن بعد لعودته إلى جنيف.


8- المحافظ

شهد عام 1755، الذي نشر فيه المقال الثاني، ظهور مقال طويل بقلم روسو في المجلد الخامس من الموسوعة عنوانه، مقال في الاقتصاد السياسي. وهو جدير بالملاحظة لأنه خالف المقالين السابقين عليه في بعض تفاصيله الهامة. ففي هذا المقال نرى الكاتب يبجل المجتمع، والحكومة، والقانون، باعتبارها نتائج طبيعية لفطرة الإنسان وحاجاته، ويصف الملكية الخاصة بأنها عطية اجتماعية وحق أساسي. "من المؤكد أن حق الملكية أقدس حقوق المواطنة، بل أنه من بعض الوجوه أهم من الحرية ذاتها. فالملكية هي الأساس الصحيح للمجتمع المدني، والضمان الحقيقي لتعهدات المواطنين(133) بمعنى أن الناس لن يعملوا فوق ما تتطلب أبسط حاجاتهم ما لم يحتفظوا بالناتج الفائض لأنفسهم، ليستهلكوه أو ينقلوه لغيرهم كما يشاءون. ويوافق روسو الآن على أن يورث الآباء ثروتهم لأبنائهم، ويقبل في اغتباط ما يتمخض عنه هذا من انقسامات طبقية. "ما من شيء أضر بالفضيلة والجمهورية من انتقال المراتب والثروات باستمرار بين المواطنين: ومثل هذه التغيرات هي الدليل على وجود مئات من ضروب الخلل والاضطراب، وهي مصدرها في الوقت نفسه، ومن شأنها أن تقلب كل شيء رأساً على عقب وتفسده(134).

ولكنه يواصل التنديد بالظلم الاجتماعي وبما في القانون من محاباة طبقية. فكما أن من واجب الدولة أن تحمي الملكية الخاصة ووراثتها القانونية، كذلك ينبغي أن يسهم أعضاء المجتمع ببعض ثروتهم لإعالة الدولة. وينبغي أن تُفرض ضريبة صارمة على جميع الأشخاص بنسبة تصاعدية مع ثروتهم و"فائض ممتلكاتهم"(135)، وألا تُفرض ضريبة على الضروريات، وأن تفرض ضريبة مرتفعة على الكماليات، وينبغي أن تمول الدولة نظاماً قومياً للتعليم. "أن الأطفال إذا نشئوا معاً (في مدارس قومية) في حضن المساواة وإذا أشربوا قوانين الدولة ومبادئ الإدارة العامة..فلن نشك في أنهم سيحبون بعضهم بعضاً كما يفعل الأخوة. ليصبحوا في الوقت المناسب مدافعين وآباء الوطن الذي كانوا أبناؤه(136). والوطنية خير من العالمية أو التظاهر الهزيل بالعطف العالمي(137)".

وكما طغت النزعة الفردية على المقالين الأولين، طغت النزعة الاجتماعية على مقال الاقتصاد السياسي. وهنا يصرح روسو لأول مرة بعقيدته الغريبة وهب أن في كل مجتمع "إرادة عامة" فوق المجموع العدد لما يحبه الأفراد الذين يؤلفونه وما يكرهون. فالمجتمع، في فلسفة روسو المقطورة، كائن اجتماعي له روحه الخاصة. "أن الدولة هي أيضاً كائن معنوي، يملك الإرادة، وهذه الإرادة العامة التي تنحو دائماً إلى صيانة ورفاهية الدولة كلها وكل جزء فيها، هي مصدر القوانين، وهي التي تشكل لجميع أعضاء الدولة، في علاقاتهم بعضهم ببعض القاعدة التي تفرق بين العدل والظلم(138).

وحول هذا المفهوم يقيم روسو الأخلاق والسياسة التي ستغلب منذ الآن على آرائه في الشؤون العامة. فنرى الثائر الذي اعتبر الفضيلة تعبير الإنسان الحر الطبيعي يعرفها الآن بأنها "ليست سوى مطابقة الإيرادات الفردية للإرادة العامة"(139). ونرى الرجل الذي كان ينظر إلى القانون مؤخراً جداً على أنه إثمٌ من آثام الحضارة، وأنه أداة مريحة لفرض النظام الطيع على الجماهير المستغلة، يصرح الآن بأن القانون وحده هو الذي يدين له الناس بالعدل والحرية، وهذا الجهاز النافع من أجهزة الإرادة الجماعية هو الذي يرسي، في الحق المدني، المساواة الطبيعية بين البشر، أنه الصوت السماوي الذي يملي على كل مواطن مبادئ العقل العام"(140).

ولعل محرري الموسوعة المطاردين كانوا قد نبهوا روسو إلى التخفيف في هذا المقال من هجومه على الحضارة. وسنجده بعد سبع سنوات، في كتابه "العقد الاجتماعي" يدافع عن الجماعة ضد الفرد، ويقيم فلسفته السياسة على فكرة الإرادة العامة المقدسة السامية. على أنه لم يزل خلال ذلك فردياً وثائراً يبغض باريس، ويؤكد ذاته ضد أصدقائه، ويصنع كل يوم أعداء جدداً.


9- الهروب من باريس 1756

كان أصدقاؤه الحميمون الآن هم جريم، وديدور، ومدام دينييه. أما جريم فقد ولد في راتزبون عام 1723، فكان بذلك يصغر روسو بأحد عشر عاماً. وقد تعلم في ليبزج في العقد الأخير من حياة باخ، وتلقى عن أوهان أوجست إرنشتي أساساً مكيناً في لغتي اليونان والرومان وآدابهما. فلما وفد على باريس في 1749 تعلم الفرنسية بما عرف عن الألمان من إتقان ودقة، وما لبث أن وافى مجلة المركيز بمقالاته. وفي 1750 أصبح السكرتير الخاص للكونت فون فريزن. وأغراه حبه للموسيقى بالتعلق بروسو، كما رماه جوع أكثر عمقاً تحت قدمي الآنسة فل المغنية بالأوبرا، فلما آثرت عليه المسيو كاهوزاك، يقول روسو أن جريم: "حز في نفسه حتى أصبحت إمارات خطبه مأساوية-فكان ينفق الأيام والليالي في تراخ وتبلد. ويرقد وعيناه مفتوحتان..لا يتكلم، ولا يأكل، ولا يتحرك. وكنت والأبيه رينال نرعاه، فالأبيه-وكان أشد مني وأصح-يسهر عليه ليلاً، وأنا أرعاه نهاراً، فلا نغيب عنه معاً في وقت واحد"(141).

واستدعى فون فريزن طبيباً يعوده، فأبى أن يصف له دواء غير الزمن. وأخيراً ذات صباح، قام جريم، وارتدى ثيابه، واستأنف نظام حياته العادي، دون أن يذكر يومها أو بعدها..هذا التبلد الشاذ(142).

وقدم روسو جريم إلى ديدور، وراح ثلاثتهم يحلمون بالذهاب معاً إلى إيطاليا. واستوعب جريم في نهم سيل الأفكار المتدفق من معين عقل ديدور وتعلم لغة "الفلاسفة" الخالية من التوقير؛ وألف كتاباً لا أدرياً "في التعليم الديني للأطفال" وأشار على فون فريزن بأن يتخذ ثلاث خليلات في وقت واحد "تذكاراً للثالوث الأقدس"(143) وأقلقت روسو تلك الألفة النامية بين جريم، الذي سيصفه سانت بوف بأنه "أكثر الألمان فرنسية"، وبين ديدور "أكثر الفرنسيين ألمانية"(144) وفال روسو شاكياً "إنك تهماني ياجريم، وأنا أغفر لك هذا" وأخذه جريم عند كلمته. فقال لي إنني مصيب...ثم حطم كل قيد، فلم أعد أراه إلا في صحبة أصدقائنا المشتركين(145).

وفي سنة 1747 كان الأبيه رينال قد بدأ يرسل للمكتتبين الفرنسيين والأجانب خطاب أنباء نصف شهري سماه "الأنباء الأدبية" يورد فيه الوقائع في جنيا الأدب والعلوم والفلسفة والفنون الفرنسية-وفي 1753 عهد بالمشروع إلى جريم الذي-واصله بمعونة من ديدرو وآخرين حتى 1790. وأثناء اضطلاع جريم بالمجلة كان من بين من وافاها بمقالاتهم أفراد بلرزون. كملكة السويد لويزا أوريلكا وملك بولندة السابق ستانسلاس لسكيزنسكي، وكاترين الثانية قيصرة روسيا، وأميرة ساكس-جوتا، وأمير وأميرة هيس-دارمشات، ودوقة ساكس-كوبورج ودوق تسكانيا الكبير، والدوق كارل أوجست أمير ساكس-فيمار. أما فردريك الأكبر فقد أحجم عن المشاركة فيها لكثرة عدد من يبادلهم الرسائل في فرنسا وأخيراً وافق على أن يتسلم المجلة، ولكنه لم يدفع لها مالاً قط. وقد أذاع جريم العدد الأول من المجلة عقب اضطلاعه بإصدارها (مايو 1753):

في الصفحات المطلوبة منا لن نضيع وقتاً على النشرات التي تغرق باريس كل يوم...بل سنحاول أن نعطي تقريراً دقيقاً، وتحليلاً منطقياً (Critique Raisonn(e) للكتب التي تستحق أن يتهم بها الجمهور.

وستكون الدراما جزءاً هاماً من تقريرنا لأنها فرعٌ رائع من فروع الأدب الفرنسي وعلى العموم لن نغفل شيئاً جديراً بفضول غيرنا من الشعوب(146).

وهذه الرسائل الأدبية المشهورة هي الآن سجل رئيسي نفيس لتاريخ فرنسا الفكري في النصف الثاني من القرن الثامن العشر، وقد استطاع جريم أن يكون صريحاً في مقالاته النقدية، لأنها لم تكن معروفة للجمهور الفرنسي أو للمؤلف الذي تتناوله. وكان يتوخى الإنصاف عادة، إلا مع روسو في فترة لاحقة. وقد أصدر الكثير من الأحكام الصائبة، ولكنه أساء الحكم على "كانديد" فزعم أنها لا تثبت-للنقد الجاد، على أن هذا الرأي لم يدفق إليه تحامل على فولتير، فقد وصفه بأنه: "أعظم الرجال في أوربا جاذبية وأكثرهم لطفاً، وأبعدهم صيتاً(147)".

ورد فولتير التحية بطريقته الشيطانية فقال: "ما الذي يتراوى لهذا البوهيمي أن يبزنا ذكاء وفطنة؟" ورسائل جريم هذه هي التي أذاعت في أرجاء أوربا أفكار التنوير الفرنسي أكثر من أي كتابات أخرى باستثناء مؤلفات فولتير. ومع ذلك خامرته الشكوك في جماعة الفلاسفة وفي إيمانهم بالتقدم، فقال: "إنما العالم مركب من: شرور لا يحاول إصلاحها غير إنسان معتوه"(149) وفي 1757 كتب يقول:

"يبدو أن القرن الثامن عشر فاق كل القرون في المدائح التي كالها لنفسه...ولو تمادى في هذا قليلاً لأقنع خيرة المفكرين أنفسهم بأن دولة الفلسفة، الهادئة المسالمة، أوشكت أن تسود بعد عواصف الجنون الطويلة، وأن ترسي إلى الأبد سلام البشر وهدوؤهم وسعادتهم...ولكن الفيلسوف الصادق، لسوء الحظ، لديه أفكار أقل تعزية ولكنها أصح وأدق....وهيهات أن أصدق أننا مقتربون من عصر العقل، وأكاد أعتقد أن أوربا تتهددها ثورة مدمرة"(150).

ونلمح هنا أثراً من الكبرياء والغرور اللذين كانا يغيظان أصدقاء جريم أحياناً. فلقد كان هذا المتفرنس، ينفق الساعات في التزين، وذر المساحيق على وجهه وشعره، والإسراف في التعطر إسرافاً لقب من أجله بدب المسك(151). وهو يبدو في رسائله ينير التحيات بمنة ويسرة بيد تتوقع الرد عليها. وقد اشترط فردريك للاشتراك في الرسائل أن "يعفيني جريم من تحياته"(152). ومثل هذا التملق كان بالطبع من أسلوب الرسائل في ظل "النظام القديم".

واسترعى جريم انتباه باريس، وهو الوجل البارد المتزن عادة، بإشرافه على الموت هياماً بالآنسة فل، وبدخوله في مبارزة من أجل مدام ديينيه. وكانت هذه الأخيرة-لويز-فلورانس تارديو ديسكلافيل-ابنة بارون من فالنسين مات في خدمة الملك عام 1737. وبعد ثمانية أعوام حين بلغت لويز العشرين، تزوجت من دنيس-جوزف لاليف ديينيه وكان ابن جابٍ غني. وذهبا للعيش في قصر ريفي جميل يدعى الشاتو دلاشيفريت، على تسعة أميال من باريس، بقرب غابة مونمورنسي. وفاضت حياتها سعادة، فتساءلت "أيستطيع قلبي أن يتحمل هذه السعادة؟ وكتبت إلى ابنة عم لها تقول" كان يعزف على البيان القيثاري، وأنا جالسة على مسند كرسيه ويسراي على كتفه، ويمناي تقلب الأوراق، فلم يفته قط أن يقبلها في كل مرة تمر أمام شفتيه(153).

ولم تكن جميلة، بل صغيرة الجسم أنيقة على نحو ساحر، بديعة التكوين Yres Bien Faint (كما تنبئنا)(154)؛ وستفتن عيناها السوداوان النجلاوان فولتير بعد حين. ولكن " الإحساس دائماً بنفس الشيء يصبح بعد قليل تماماً كالإحساس بلا شيء"(155)، فلم يمضِ غير عام حتى كف ديينيه عن ملاحظة هاتين العينين. لقد كان قبل الزواج فاسقاً عربيداً فعاد الآن كما كان، يسرف في الشراب، ويسرف في القمار، وينفق المال الطائل على الأختين فريير، اللتين أسكنهما كوخاً على مقربة من لاشيفريت وولدت له زوجته خلال ذلك طفلين. وفي 1748 عاد من رحلة في الإقليم، وضاجع امرأته، فنقل إليها عدوى الزهري. وحصلت على انفصال شرعي عن زوجها بعد أن اعتلت صحتها وتحطمت روحها. ووافق على تسوية سخية؛ وورثت هي ثروة عمها، فاحتفظت بلاشيفريت، وحاولت أن تنسى تعاستها في الحدب على طفليها ورعاية صديقاتها. فلما أصيبت إحداهن-وهي مدام دجوللي-بالجدري إصابة مميتة ذهبت لويز لتمرضها، ومكثت معها إلى النهاية، معرضة نفسها لعدوى قد تؤدي بها أو تشوهها مدى الحياة.

وأجمعت صديقاتها على أن يحسن بها أن تتخذ عشيقاً. وجاء عشيق (1746) وهو دوبان دفرانكوي، الرجل الذي وظف روسو عنده. وقد بدأ بالموسيقى، وانتهى بالزهري، ولم يلبث أن شفي من هذا الداء في حين ظلت هي تعاني منه(156). وانضم إلى زوجها في اقتسام الآنستين دفيريير. وقال لها دوكلو في صراحة جافية "أن فرانكوي وزوجك يقتسمان الأختين فيما بينهما(157)". فأصيبت بحمى وهذيان داما ثلاثين ساعة. وحاول دوكلو الحلول محل دوبان، ولكنها طردته. ثم كانت مأساة أخرى حين أعطتها مدام دجوللي وهي على فراش الموت حزمة أوراق تفضح غرامياتها وألحت عليها في أن تحرقها، ففعلت. واتهمها المسيو دجوللي بأنها أحرقت عن عمد شهادات مديونيتها هي له. وأنكرت التهمة ولكن القرائن كانت ضدها، إذ كان معروفاً أنها كانت تعين زوجها بالمال رغم انفصالها عنه.

في هذه الأزمة دخل جريم الدراما، وكان روسو قد قدمه إلى لويز في 1751، وكثيراً ما اشترك ثلاثتهم في عزف الموسيقى أو الغناء معاً. وذات مساء في حفلة أقامها الكونت فون فريزن أعرب أحد الضيوف عن اعتقاده بأن مدام ديينيه مذنبة..ودافع عنها جريم، واحتد النقاش إلى حد المساس بالشرف، وتبارز صاحب الاتهام والمدافع، فجرح جريم جرحاً طفيفاً. بعد حين وجدت الوثائق المفقودة، وبرئت ساحة السيدة، فشكرت جريم باعتباره "فارسها الهمام" ونمى تقدير الواحد منهما لصاحبه فاكتمل جباً من أبقى وأثبت ما شهده ذلك العصر القلب. وحين أتلف الحزن صحة البارون دولباخ لموت زوجته، وسافر جريم للعناية به في الريف، سألته لويز "ولكن من سيكون فارسي يا سيدي إن هاجمني أحد في غيابك"؟ فأجاب جريم "هو ما كان من قبل-حياتك الماضية(158)" ولم يكن الجواب قاطعاً مانعاً، ولكنه فاق حدود الثناء.

وكان روسو قد التقى بمداد ديينيه في 1748 في بيت مدام دويان. ودعته إلى لاشيفريت. وفي "مذكراتها" وصف له:

"أنه يقدم التحيات والمجاملات، ولكنه ليس مؤدباً، أو على الأقل يعوزه مظهر التأدب. والظاهر أنه جاهل بعادات المجتمع، ولكن من الواضح أنه مفرط الذكاء. وله بشرة سمراء، وعينان بيضاوان تتوهجان وتضفيان الحيوية على قسماته.....ويقال أنه عليل، ويتجلد لعذاب يحرص على كتمانه....وهذا في ظني هو الذي يضفي عليه أحياناً....، مظهر الاكتئاب(159)".

أما الصورة التي رسمها لها فلم تكن شديدة التأنق:

"لم يكن حديثها الخاص ممتعاً، وأن لم يعوزه اللطف في حضرة الجنسين...وأسعدني أن أبدي لها بعض المجاملات، وقبلتها قبلات أخوية صغيرة، ولم تبدو أكثر شهوانية منها هي....لقد كانت غاية في النحول، والشحوب، ولها صدرٌ كظاهر يدها. وكان هذا العيب وحده كافياً للتخفيف من أحر رغباتي(160)".

وظل سبع سنوات يلقى الترحيب في بيت مدام ديينيه. فلما رأت مبلغ ضيقه في باريس فكرت في سبل تقديم المعونة له، ولكنها كانت تعلم أنه سيرفض المال. وبينما كانا ذات يوم يسيران في حديقتها خلف لاشيفريت، أرته كوخاً يسمى "الأرميتاج (الصومعة)" كان من قبل ملكاً لزوجها. وكان مهجوراً متهدماً، ولكن موقعه على حافة غابو مونمورنسي حمل روسو على أن يقول في انفعال: "ياله من مسكن مبهج يا سيدي! كأن هذا الملجأ أعد لي خصيصاً"(161). ولم تجب السيدة، ولكن حين عودا السير إلى الكوخ في سبتمبر 1755، أدهش روسو أن يجده قد رمم، وأثثت حجراته الست، ونظفت الأرض المحيطة به ورتبت. وينقل عنها أنها قالت "يا عزيزي، إليك ملجأك، فأنت الذي اخترته، أن الصداقة تقدمه لك. وأرجو أن يزيل هذا فكرتك القاسي، فكرة الانفصال عني" وكانت تعلم أنه فكر من قبل في أن يقيم في سويسرا، ولعلها لم تعرف ما طرأ من فتور على تحمسه لجنيف. و"فاضت دموعي على اليد الكريمة" يد صديقته، ولكنه تردد في قبول عرضها. فأغرت تريز ومدام لفاسير بقبول خطتها، و"أخيراً تغلبت على جميع قراراتي".

وفي أحد القيامة، 1756، ولكي تجمل الهدية بلياقة، جاءت باريس في مركبتها، وأخذت "دبها" كما كانت تدعوه، هو وخليلته وحماته، إلى الأرميتاج. ولم يلذ تريز فراقها لباريس، أما ورسو، فما أن استنشق هواء الخلاء حتى شعر بأنه أسعد منه في أي وقت منذ أيام فردوسه الريفي مع مدام دفاران. "في 9 إبريل 1756 بدأت أحيا"(162)، ولكن جريم أفسد الفرحة بتحذير لمدام ديينيه:

"إنكِ تضرين روسو ضرراً بليغاً بإعطائه الأرميتاج، ولكنكِ تضرين نفسك ضرراً أبلغ. فستكمل العزلة مهمة تسويد خياله، وسيبدو كل أصدقائه في عينيه ظلمة جاحدين، وأنت أولهم، إن رفضت ولو مرة واحدة أن تمتثلي لأوامره"(163).

وانطلق بعد ذلك جريم، الذي أصبح الآن سكرتيراً للمرشال دستريه، ليلعب دوره في الحرب التي سترسم خريطة العالم من جديد.