قصة الحضارة - ول ديورانت - ك 2 ج 21

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثاني: الهند وجيرانها

الباب الحادي والعشرون: الفن الهندي

الفصل الأول: الفنون الصغرى

الفن الهندي في عصره الزاهر - مميزاته الفذة - اتصاله بالصناعة - صناعه الخزف - المعادن - الخشب - العاج - الأحجار الكريمة - النسيج


إنا نقف إزاء الفن الهندي، كما نقف إزاء كل جانب من جوانب المدنية الهندية، وقفة الدهشة المتواضعة لما نرى من رسوخ في القِدَم واستمرار بين المراحل المتعاقبة؛ فليست كل الآثار التي وجدناها في "موهنجو - دارو" مما ينفع في الحياة العملية، فبينها تماثيل من حجر الجير لرجال ذوي لُحىَ (تشبه التماثيل السومرية شبهاً له دلالته) وتماثيل من الطين لنساء وحيوان، وكذلك بينها خرزات وغيرها من أدوات الزينة المصنوعة من عقيق، وحُليّ من ذهب رقيق الصناعة مصقولها(1)؛ وبين تلك الآثار أيضا ختم(2) نقش فيه بالبارز ثور، رسم رسماً قوياً ثابت الحفر؛ على نحو يغري الرائي بالوثوب إلى نتيجة يؤمن بها، وهي أن الفن لا يتقدم، لكنه يُغير صورته وكفى.

ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، جعلت الهند خلال الخمسة آلاف عام التي توسطت العهدين بما فيها من تغيرات، جعلت تبرز مثلها الأعلى في الجَمال كما تتصوره تصوراً يطبعها بميسم خاص، في عشرات الفنون المختلفة؛ لكن ما خلّفته لنا من تلك الفنون، لا يقدم لنا صورة كاملة، إذ ترى فيها جانباً منقوصاً، لا لأن الهند قد تراخت عن الإبداع الفني في أي عهد من عهودها، بل لأن الحروب ونزوات المسلمين في تحطيم الأوثان، قد عملت على تحطيم ما ليس يقع تحت الحصر من آيات الفن في العمارة والنحت؛ ثم عمل الفقر على إهمال البقية الباقية من تلك الآيات؛ وسنجد الأمر عسيراً علينا بادئ ذي بدء، إذا ما أردنا أن نقدر هذا الفن، فموسيقاهم غريبة على أسماعنا، وسيبدو تصويرهم لأعيننا غامضاً وفنهم في العمارة مضطرباً، ونحتهم للتماثيل خشناً غليظاً؛ فعلينا في كل خطوه نخطوها أن نُذكّر أنفسنا بأن أذواقنا معرضة للخطأ في أحكامها، إذ هي نتيجة لتقاليدنا وبيئتنا المحلية المحدودة؛ وإنا لنظلم أنفسنا ونظلم الأمم الأخرى، إذا ما حكمنا عليهم أو على فنونهم بمعايير وغايات تتفق وطبيعة حياتنا، لكنها غريبة بالقياس إلى الحياة عندهم.

فالفنان في الهند لم يكن بعد قد تميز من الصانع، إذا كان الفن صناعة والعمل اليدوي مهانة؛ فكما كان الحال في عصورنا الوسطى، كذلك كانت في الهند التي انقضى عهدها في موقعة "بلاسي"، وهي أن كل صانع مهر في صناعته كان فناناً في تلك الصناعة، يخلع على نتاج مهارته وذوقه قالباً خاصاً وشخصية متميزة؛ وحتى اليوم، حيث حلّت المصانع محل الصناعات اليدويه، وانحدر الصنّاع اليدويون إلى "أيدٍ عاملة" ، لا تزال ترى في المتاجر والدكاكين في كل مدينة هندية، صناعاً متربعين في جلستهم على الأرض، يطرقون المعادن أو يصوغون الحُليّ، أو يرسمون الرسوم الزخرفية، أو ينسجون الشيلان الدقيقة أو يوّشون الوشي الرقيق، أو ينحتون في العاج أو الخشب، ومن الراجح ألا تكون بين الأمم كلها أمة أخرى كان لها ما للهند من تنّوع خصيب في ألوان الفنون(3).

ومن العجب أن صناعة الخزف لم تستطع أن ترتفع من مستوى الصناعة إلى مستوى الفنون في الهند؛ فقد فرضت قواعد الطبقات كثيراً من القيود على إمكان استخدام الطبق الواحد عدة مرات حتى لقد ضعف الحافز إلى تجميل هذه الآنية الفخارية الهزيلة المؤقتة، التي كانت يد الخزّاف تسرع إلى إنتاجها(4)؛ أما إن كان الإناء لُيصنع من معدن نفيس، عندئذ ينصرف إليه الفن بمجهوده بغير ندم على ذلك المجهود مهما بلغ، فانظر إلى الإناء الفضي الذي يُنسب إلى "تانجور" في معهد فكتوريا في مِدْرَاس، أو انظر إلى صفحة "بِتلْ" الذهبية التي تنسب إلى "كاندي"(5)؛ أما النحاس الأصفر فقد صنعوا منه مجموعة منوعة لا تنتهي أصنافها من المصابيح والأوعية والأواني؛ وكانوا يحصلون على مزيج أسود من الزنك (يسمونه بدري) ويستخدمونه عادة في صناعة الصناديق والأحواض و "الصواني" ؛ كذلك كانوا يطعّمون معدناً بمعدن آخر، تطعيماً بارزاً أو محفوراً، أو كانوا يطلون معدناً ما بطلاء من الفضة والذهب(6). وكان الخشب ينقش بحفر صور كثيرة جداً من النبات والحيوان، وأما العاج فيصوغونه ليمثل أي شيء بادئين بالآلهة فهابطين إلى زهرات اللعب، كما كانوا يطعّمون به الأبواب وغيرها من مصنوعات الخشب، ويصنعون منه آنية صغيرة لطيفة لحفظ الدهون والعطور؛ وكثرت عندهم أدوات الزينة، يلبسها الأغنياء والفقراء إما للتزين أو للادخار؛ وامتازت "جايبور" في طلي مسطحات الذهب بألوان الميناء؛ وعرف صائغوها بحسن الذوق في صناعة المشابك والخرزات والعقود والمدى والأمشاط، فكانوا يزخرفونها بصور الأزهار أو الحيوان أو موضوعات الدين؛ فهنالك عقد برهمي نقشت في واسطته الصغيرة خمسون صورة من صور الآلهة(7)؛ ونسجوا الأقمشة ببراعة فنية لم يبزهم فيها أحد من اللاحقين؛ فمنذ عهد قيصر إلى يومنا هذا، امتدح العالم كله دقة الصناعة في المنسوجات الهندية فقد كانوا أحياناً يصبغون كل خيط من خيوط اللُّحمة أو السُّدى قبل وضعها في المنسج، فكان يقتضيهم ذلك مقاييس دقيقة متعبة قبل البدء في العمل؛ وكان الزخرف المرسوم يتبدَّى شيئاً فشيئاً كلما مضى النسَّاج في نسجه، بحيث يكون هذا الزخرف واحداً في جانبي القماشة المنسوجة(9)؛ إن كل ثوب تم نسجه في الهند- من "الخدَّار" المنسوج من الغزل البلدي إلى الوشي المعقد الذي يتلألأ بالذهب، ومن السراويل الآخذة بالعين إلى الشيلان الكشميرية التي تخاط أجزاؤها على نحو يخفي مواضع الحياكة- أقول إن كل ثوب نسجته الهند له جمال لا يصدر إلا عن فن بالغ في القِدم، وكاد اليوم أن يكون غريزة في فطرتهم.


الفصل الثاني: الموسيقى

حفله موسيقية في الهند - الموسيقى والرقص- الموسيقيون - السلم والصور الموسيقية - الموضوعات - الموسيقى والفلسفة


أتيح لسائح أمريكي أن يحضر حفلة موسيقية في "مدراس" فوجد حشد السامعين يبلغ نحو مائتي هندوسي، يظهر أن قد كانوا جميعاً من البراهمة، يجلس بعضهم على مقاعد خشبية، ويجلس بعضهم الآخر على الأرض المفروشة بالبُسط، وكانوا يسمعون في إصغاء شديد لجوقة صغيرة لو قيست إليها حشود جوقاتنا لخيّل إليك أن جوقاتنا هذه المعربدة إنما أريد بها أن تُسْمع سكان القمر؛ ولم تكن الآلات الموسيقية مألوفة لذلك السائح الأمريكي، بحيث أشبهت في عينه التي تنظر إلى الأشياء من وجهة نظر إقليمية، نباتاً غريباً شاذاً في حديقة مهجورة؛ فقد كان لديهم طبول كثيرة ذات أشكال وأحجام مختلفة؛ ومزامير مزخرفة وأبواق ملتوية كأنها الثعابين، ومجموعة منوعة من ذوات الأوتار؛ وكانت علامات الإتقان في الصناعة بادية في معظم تلك الآلات ، كما كان بعضها مرصعاً بالجواهر؛ وكانت إحدى الطبول- وهي ما تسمى مريدانجا- شبيهة ببرميل صغير، في كل من طرفيها غشاء جلدي رقيق يمكن تغيير درجة صوته المبعوث بجذبه أو بإرخائه بواسطة مفاتيح صغيرة من الجلد؛ وبين غشاوات الطبول أضافوا إليه شيئاً من مسحوق المنغنيز ومرق الأرز وعصير التمر الهندي لكي يحدث نغمة فذة غريبة في نوعها؛ ولم يستعمل الطبال إلا يديه- فأحياناً يخبط براحته، وأحياناً بأصابعه، وأحياناً ينقر بأطراف أنامله؛ وكان عازف آخر يحمل "تمبورة" أو قيثارة لها أوتار أربعة طويلة جعلت تبعث نغماتها موصولة بغير انقطاع، فكانت بمثابة البطانة العميقة الهادئة لموضوع القطعة الموسيقية؛ وبين الآلات آلة- اسمها فينا- كانت مرهفة الحساسية لدرجه تميزها من سواها في ذلك، كما كانت محددة الأصوات تحديداً واضحاً؛ وكانت أوتارها مشدودة فوق عارضة رقيقة من المعدن، في إحدى طرفيها طبلة خشبية يغطيها غشاء من الذبذبة بواسطة مضراب في يمين العازف، بينما جعلت يسراه تغير في النغمات بأصابع تتحرك في براعة من وَتر إلى وَتر؛ ولبث زائرنا ينصت في خشوع، ولم يفهم من كل ذلك شيئاً.

للموسيقى في الهند تاريخ يمتد ثلاثة آلات عام على أقل تقدير؛ فالترانيم الفيدية- مثلها مثل الشعر الهندي كله- إنما نظمت لتنشد؛ ولم يكن في الطقوس القديمة فرق بين الشعر والغناء، والموسيقى والرقص، فكل هذه عندها فن واحد؛ وإن الرقص الهندي ليبدو لعين الغربيّ اللامعة بالشهوة، شهوانياً فاجراً، كما يبدو الرقص الغربي للهنود شهوانياً فاجراً؛ كان هذا الرقص الهندي خلال الشطر الأعظم من التاريخ الهندي، لوناً من ألوان العبادة، وعرضاً لجمال الحركة والتوقيع تكريماً وإجلالاً للآلهة؛ ولم يحدث لراقصات المعبد أن يغادرن معابدهن زرافات ليمتعن أصحاب الدنيا وطلاب الشهوة الجسدية إلا في العصور الحديثة؛ لم تكن هذه الراقصات مجرد عرض للجسد، بل كانت في وجه من وجوهها محاكاة للكون في دوراته التوقيعية ومجرى التغير في ظواهره، وقد كان "شيفا" نفسه إله الرقص، ورقصة "شيفا" كانت ترمز لحركه العالم نفسها .

وينتمي الموسيقيون والمنشدون والراقصون- كسائر أصحاب الفن في الهند- إلى أحط الطبقات؛ فقد يحلو للبرهمي أن يغني في خلوته، وأن يسّري عن نفسه بنغمات يعزفها على "الفينا" أو غيرها من ذوات الأوتار؛ بل قد يعلّم غيره التمثيل أو الغناء أو الرقص، لكنه يستحيل أن يفكر في التمثيل مأجوراً، أو في النفخ في آلة موسيقية، وكانت الحفلات الموسيقية العلنية - إلى عهد قريب- نادرة في الهند فكانت الموسيقى العلمانية إما غناء تلقائياً أو نشيداً جمعياً يقوم به الناس، وإما عزفاً أمام جماعات صغيرة في بيوت العِلْية، كما هي الحال فيما يعرف في أوروبا بموسيقى الحجرات؛ وكان لـ "أكبر"- الذي كان هو نفسه ماهراً في العزف الموسيقي- عدد كبير من الموسيقيين في بلاطه، وأصاب أحد مُغنيه- واسمه تانسِنْ- شهرة وثروة، ومات بالشراب وسنّه أربعة وثلاثون عاماً(11)؛ ولم يكن ثمة هواة، بل كان كل المشتغلين بالعزف محترفين لفنهم، ولم تكن الموسيقى تُعلّم على أنها لون من ألوان التهذيب الاجتماعي، كلا ولا أرغم الأطفال على عزف بيتهوفن، فمهمة الشعب لم تكن أن يعزف الناس عزفاً رديئاً، بل أن يعرفوا كيف ينصتون إنصاتاً جيداً(12).

ذلك لأن الاستماع للموسيقى في الهند فن في ذاته ويتطلب تدريباً طويلاً للأذن والروح؛ وقد لا تكون الألفاظ نفسها مفهومة المعنى للغربي أكثر من ألفاظ المسرحيات الغنائية التي يشعر أن من واجبه الذي تمليه عليه طبقته الاجتماعية، أن يستمتع بها؛ وهي تدور - كشأنها في سائر أنحاء العالم - حول موضوعيّ الدين والحب؛ لكن الألفاظ قليلة الأهمية في الموسيقى الهندية، وكثيراً ما يستبدل بها المنشد - كما يفعل الأديب عندنا في أرقى ألوان الأدب- مقاطع لا تعني شيئاً؛ والسّلم الموسيقي عندهم ألطف مما هو عندنا وأدق، إذ يضيف إلى سُلّمنا ذي الاثنتي عشرة نغمة، عشر نغمات أخرى غاية في الدقة، وبذلك يصبح سُلّمهم مؤلفاً من اثنتين وعشرين "من أرباع النغمات" ؛ وعلى الرغم من أن الموسيقى الهندية يمكن كتابتها بترقيم مأخوذ من الأحرف السنسكريتية إلا أن الأغلب ألا تُكتب ولا تُقرأ، بل تنتقل من جيل إلى جيل أو من المنشئ الموسيقي إلى من يأخذ عنه "بالأذن" وحدها؛ وليست موسيقاهم مقسمة إلى أجزاء توقيعية تفصل الضربات بينها، بل ترى النغم فيها ينساب انسياباً متصلاً يؤذى أذن السامع الذي تعود سماع ضربات دورية في الموسيقى وليس لموسيقاهم إيقاع ولا تناغم بل كل ما تُعنى به هو النغم الواحد وربما جعلوا وراءه بطانة من نغمات صغيرة ولذا كانت في هذه الناحية أبسط وأقل في رقيها من الموسيقى الأوربية، ولو أنها أكثر منها تركيباً في السلم والدورات التوقيعية؛ وأنغامها محدودة في آن واحد، فهي من جهة مضطرة اضطراراً أن تستمد من هذا اللون أو ذاك في معين تقليدي قوامه ستة وثلاثون لوناً، لكن العازفين- في الوقت نفسه- يستطيعون أن ينسجوا حول هذا الهيكل التقليدي نسيجاً لا نهاية لخيوطه ولا صلات تصل أجزاءه المنوعة تنوعاً شديداً، وفي كل موضوع موسيقي- أو "راجا" موسيقية كما يسمونه- خمس نغمات أو ست أو سبع، يرجع الموسيقِي إلى إحداها- يختارها ولا يغيرها- من حين إلى حين؛ ولكل "راجا" اسم مشتق من الحالة النفسية التي تريد الإيحاء بها- "الفجر"، "الربيع" ، "جمال المساء" ، "السُّكر" الخ- وكل "راجا" مرتبطة بزمن معين من اليوم أو من العام وتذهب الأساطير الهندية إلى أن لهذه الراجات قوة روحانية حتى ليقال إن راقصة بنغالية أزالت قحطاً بغنائها إحدى الراجات وهي المسماة "منع مالار"- أي نغمة استنزال المطر(13).

ولقد خلع الأسلاف على "الراجات" صبغة مقدسة فمن يعزفها وجب عليه أن يراعي حُرُماتِها، لأنها صور من الغناء أداها "شيفا" نفسه، ويحكى أن عازفاً اسمه "نارادا" أنشد تلك الراجات في إهمال لشأنها، فزجّ به "فشنو" في نار الجحيم حيث شاهد رجالاً ونساء يبكون على ما تكسر من جوارحهم وقال له الإله إن هؤلاء الرجال والنساء هم الراجات والراجينات التي شوهها ومزقها عزفه المستهتر فلما شاهد "نارادا" ذلك- هكذا تروى الأسطورة- حاول أن يكون في فنه أكثر إتقاناً إذ أخذته بعدئذ خشية الخاشع(14).

والعازف الهندي لا يلتزم "الراجا" التي اختارها لبرنامجه الموسيقي التزاماً يضيّق من حريته تضييقاً خطيراً، أكثر مما يلتزم المنشئ الموسيقي في الغرب، إذا ما أنشأ "سوناتا" أو "سيمفونية"، موضوعَه الموسيقيَّ التزاماً يعرقله؛ ففي كلتا الحالتين، ما يفقده العازف من حرية، يعوضه بما يتاح له من تماسك البناء واتزان الصورة؛ فالموسيقي الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود "ويرسل روحه إلى اللامحدود"؛ إنه يظل يمعن في وَشْي موضوعه وشياً دقيق الأجزاء، حتى يتمكن في نهاية المر بفعل تيار متموج من دورات التوقيع وتكرار النغمة، بل بفعل اطراد الأنغام اطراداً رتيباً مملاً، أن يخلق نوعاً من "اليوجا" الموسيقية، أعني ضرباً من الذهول الذي يشل الإرادة ويطمس الفردية اللتين ننسبهما للمادة والمكان والزمان، وبهذا ترتفع الروح إلى ما يوشك أن يكون اتحاداً صوفياً بشيء "عميق الاتصال في نفوسنا بجذوره" أو قُلْ "بكائن" عميق عظيم ساكن، أو بحقيقة سابقة لهذا العالم ومنبثة في كل أجزائه، تبتسم ساخرة من كافة الإرادات المكافحة ومن التغير والموت بشتى ما لهما من صور.

والأرجح أننا لن نستسيغ الموسيقى الهندية، ولن نفهمها، إلا إذا استبدلنا بالكفاح كينونة ساكنة، وبالترقي ثباتاً، وبالشهوة استسلاماً، وبالحركة استقراراً؛ وربما اصطنعنا لأنفسنا هذه الحالة إذا عادت من جديد خاضعة، وعادت آسيا مرة أخرى للسيادة، لكن آسيا عندئذ ستمل السكينة والثبات والاستسلام والقرار.

الفصل الثالث: التصوير

ما قبل التاريخ - نقوش أجانتا - مصغرات راجبوت مدرسة المغول - المصورون - أصحاب النظريات

إننا نسمي الرجل إقليمياً، إذا حكم على العالم على أساس الأنظمة السائدة في الإقليم الذي يعيش فيه، واعتبر كل ما لم يألفه من أوضاع ضرباً من الجاهلية، فيقال عن الإمبراطور "جهان كير" وهو رجل ذوّاقة علاّمة في الفنون - إنه حين أطْلِع على صورة أوربية امتعض لها من فوره، و "لم يستسغها لأنها مرسومة بالزيت"(15)، وإنه ليسرنا أن نعلم أنه حتى الإمبراطور يجوز عليه أن يكون إقليمي النظرة، وأنه كان من العسير على "جهان كير" أن يستمتع بالتصوير الزيتي الذي ترسمه أوربا كما أنه من العسير علينا أن نتذوّق دقائق التحف في الهند.

ويتبين من الرسوم الحمراء التي نراها لبعض الحيوان ولمطاردة وحيد القرن، على جدران الكهوف في "سنجانبور" و "مرزابور" أن قد كان للتصوير الهندي تاريخ طال أمده على عدة آلاف من السنين، وتكثر لوحات المصورين (التي يضعون عليها ألوانهم) بين آثار العهد الحجري الجديد في الهند، مستعدة للاستعمال بما لا يزال عليها من بقايا الألوان (16)؛ وإننا نلحظ فجوات واسعة في تسلسل تاريخ الفن في الهند، لأن معظم الآثار الفنية الأولى قد أتت عليها عوامل المناخ، ثم فسد كثير مما تبقى بعد ذلك على أيدي المسلمين "محطمي الأوثان" من محمود إلى أورنجزيب(17)، ويشير الـ "فنايابتاكا" (حوالي 300 ق.م) إلى قصر الملك "بازنادا" فيقول عنه إنه كان يحتوي على أبهاء للصور الفنية؛ وكذلك يصف "فا - هين" و "يوان شوانج" أبنية كثيرة فيقولان عنها بأنها اشتهرت بروعة ما عرض على جدرانها(18)، لكنه لم يبق لنا أثر واحد من هذه الأبنية وتبين صورة من أقدم الصور في التبت فناناً وهو يصور بوذا(19) فلم يشك المصورون فيما بعد ذلك التاريخ في أن فن التصوير كان ثابت الأساس في عهد بوذا.

وأقدم صورة هندية يمكن تحقيق تاريخها، مجموعة من الزخارف الجدارية البوذية (حوالي 100 ق.م) وجدت على جدران كهف في "سرجيا" في المقاطعات الوسطى، ومنذ ذلك الحين، جعل فن التصوير الجداري- وأعني به تصويراً يرسم على معجون طري قبل أن يجف - يتقدم خطوة فخطوة، حتى بلغ على جدار كهف "أجانتا" درجة من الكمال لم يجاوزها أحد بعد، حتى "جيوتو" و "ليوناردو"؛ وكانت تلك المعابد تنحت في واجهة صخرية من سفح الجبل؛ وحدث ذلك في فترات مختلفة تقع بين القرن الأول الميلادي والقرن السابع؛ ولبثت قروناً لا يعرفها التاريخ ولا تعيها ذاكرة الإنسان بعد انهيار البوذية، فاكتنفتها أشجار الغابة حتى كادت تخفيها، وسكنتها الخفافيش والأفاعي وغيرهما من صنوف الحيوان، وأتلفت صنوف الطير والحشرات التي تعد بالمئات، تلك التصاوير بفضلاتها؛ ثم حدث سنة 1819م أن عثر الأوربيون على الآثار، وأدهشهم أن يروا على الجدران تلك الصور التي تعد الآن بين آيات الفن في العالم كله(20).

وأطلق على المعابد اسم الكهوف؛ لأنها في معظم الحالات منحوتة في الجبال فمثلاً كهف نمرة 16 عبارة عن حفرة طول كل جهة من جهاتها خمس وستون قدماً، يدعمها عشرون عموداً، وترى على طول القاعة الوسطى ستة عشرة مقصورة من مقاصير الدير، ولها شرفة ذات فتحة للباب تزخرف واجهتها، وفي مؤخرتها جلود مقدسة، وكل الحيطان مزدانة بالتصاوير الجدارية؛ ومن المعابد التسعة والعشرين، ستة عشر كانت في سنة 1879م تحتوي على تصاوير، فلما أن كانت سنة 1910م أتلف التعرض للجو تصاوير عشرة معابد منها، ثم أصيبت الستة الباقية بخدوش بفعل محاولات غشوم في سبيل تجديدها(21)، وقد كانت هذه التصاوير يوماً متلألئة بالأحمر والأخضر والأزرق والأرجواني؛ ولم يبق اليوم من هذه الألوان شيء ما عدا الأجزاء ذات الألوان الخافتة أو القاتمة؛ وإن بعض الصور التي أفسدها الزمن والجهل ليبدو غليظاً خشناً في أعيننا، نحن الذين لا يستطيعون قراءة الأساطير البوذية بقلوب بوذية، وبعضها الآخر فيه قوة ورشاقة في آن معاً،تنبئان عن مهارة الصناع الذين ضاعت أسماؤهم قبل أن تفنى آثارهم بزمن طويل.

وعلى الرغم من كل هذه النائبات، لا يزال كهف رقم (1) غنياً بآياته الفنية فهاهنا ترى على أحد الجدران (ما يرجح أن يكون) صورة "بوذيساتاوا"، أي قديس بوذي يستحق النرفانا، لكنه آثر على النرفانا التي هو جدير بها أن يعاد إلى الحياة في ولادات جديدة لكي يصلح الناس؛ ولن تجد صورة تصور حزن التفكير البصير أعمق مما تصوره هذه الصورة(22)، وإن الإنسان لتأخذه الحيرة أي الصورتين ألطف وأعمق - هذه الصورة أو صورة ليوناردو التي رسمها يدرس بها موضوعاً شبيهاً بموضوع هذه الصورة، وهو رأس المسيح وعلى جدار آخر من نفس المعبد صوره لـ "شيفا" وزوجته "بارفاتي" وقد ازَّينت بالحليّ(23)، وعلى مقربة منها صورة لأربعة غزلان، أشاع فيها الحساسية الرقيقة ذلك العطف البوذيُّ على الحيوان؛ وعلى السقف زخرف لا يزال ناصع الألوان بما فيه من زهور وطيور دقيقة الرسم(24) وعلى أحد جدران الكهف رقم(17) تصوير رشيق - قد تلف الآن بعض التلف - للإله فشنو مصحوباً بحاشيته، وهو هابط من السماء إلى الأرض ليتعهد شيئاً ما مما وقع في حياة بوذا(25)؛ وعلى جدار آخر صورة تخطيطية، لكنها زاهية الألوان، لأميرة مع وصيفتها(26)؛ وترى مختلطاً بهذه الآيات الفنية حشداً متداخلاً من التصاوير الجدارية يظهر فيها ضعف الصناعة وفيها وصف لنشأة بوذا وفراره وإغرائه(27).

لكننا لا نستطيع أن نحكم على هذه الآثار الفنية في صورتها الأصلية بما بقى منها اليوم، ولاشك أن هناك مفاتيح طرائق تقدير قيمتها الفنية، لا يمكن الكشف عنها لمن لا يحمل بين جنبيه روحاً بوذية؛ ومع ذلك فحتى الغربي في مستطاعه أن يعجب بفخامة الموضوع، وعظمة المدى الذي صممت الصورة على أساسه، ووحدة التأليف، ووضح الخطوط وبساطتها وثباتها، وبتفصيلات كثيرة بينها هذا الكمال العجيب الذي بلغوه في رسم الأيدي التي هي آفة المصورين جميعاً؛ وإن الخيال ليصور لنا هؤلاء الفنانين الكهنة الذين كانوا يؤدون الصلاة في هذه المقصورات وربما زينوا هذه الجدران والسقوف بفن التقيّ والورع، بينما أوربا دفينة في ظلام أوائل عصورها الوسطى؛ فهاهنا في " أجانتا " أدمج الدين مختلف الفنون: فن العمارة والنحت والتصوير، في وحدة منسقة، فأنتج أثراً من أعظم آثار الفن الهندي.

فلما أغلقت معابدهم أو خربت على أيدي الهون والمسلمين، أدار الهنود مهارتهم التصويرية تجاه الفنون الصغرى؛ فنشأت بين "الراجبوت" مدرسة من المصورين سجلوا في تماثيل صغيرة قصص "الماهابهاراتا" و "رامايانا" وأعمال البطولة التي قام بها رؤساء "الراجبوتانا"؛ وكثيراً ما كانت تكتفي تلك الآثار الفنية بمجرد تخطيط أولي للموضوع، لكنها كانت دائماً تنبض بالحياة وتبلغ من جمال الزخرف حد الكمال؛ وإنك لترى في متحف الفنون الجميلة في "بوستن"، مثلاً جميلاً لهذا الأسلوب الفني، إذ تراه يرمز إلى إحدى "راجات" الموسيقى بنساء رشيقات وبرج شامخ وسماء دانية(29)، وكذلك ترى مثلاً آخر في معهد الفنون في "دِترْوا" يمثل برشاقة فريدة في بابها منظراً مأخوذا من "جيتا جوفندا"(30)، وصور النساء في هذه التصاوير الهندية وغيرها لم تكن ترسم من نماذج بشرية إلا نادراً، فكان على الفنان أن يتصورها بخياله ويستمدها من ذاكرته، والأغلب أن يصور المصور بألوان زاهية على سطح من ورق ويستخدم في الرسم فراجين مصنوعة من أرق الشعر، يأخذونه من السنجاب أو الحجل أو الماعز أو النمس(31)، واستطاع رسّامهم أن يبلغ من رقة خطوطه وزخارفه حداً يمتع العين، حتى إن كان المشاهد أجنبياً لم يمهر في تقدير الفنون. وقد أبدعت أجزاء أخرى من الهند آثار فنية شبيهة بهذه الآثار، وبخاصة في دولة "كانجرا"(32)، وتطوّر فرع من فروع هذه الدوحة الفنية عينها في ظل المغول بمدينة دلهي، ولما كان هذا الفن المتفرع ناشئاً عن فن الخط الفارسي وفن زخرفة المخطوطات، فقد آل أمره إلى أن يكون تصويراً أرستقراطياً يقابل من حيث رقته وانحصاره في دائرة ضيقة، موسيقى الحجرات التي ازدهرت في قصور الملوك؛ ولقد جاهدت هذه المدرسة المغولية - كما جاهدت مدرسة راجبوت - لتحقق لنفسها رشاقة التخطيط، كان المصورون أحياناً يستخدمون فرجوناً مؤلفاً من شعرة واحدة، وتنافس مصورو هذه المدرسة أيضاً في إجادة تصوير اليدين، لكنهم بالقياس إلى المدرسة الفنية السالفة أكثروا من الألوان وقللوا من جوّ الألغاز والغموض، وقلما مَسُّوا بفنهم الدين أو الأساطير بل حصروا أنفسهم في حدود هذه الدنيا، فكانوا واقعيين بمقدار ما سمح لهم الحذر به من الواقعية؛ وقد اتخذوا موضوعات لرسومهم رجالاً ونساء من الأحياء ذوي المنزلة الرفيعة والمزاج الشامخ بأنفه، فلم يكن أشخاصهم ممن يُعرفون في الناس بضِعة نفوسهم، وأخذ هؤلاء الأشراف يجلسون واحداً في إثر واحد أمام المصور، حتى امتلأت أبهاء الصور عند "جهان كير" - ذلك الملك الأنيق - بصور أعلام الحكام ورجال البلاط جميعاً منذ اعتلاء "أكبر" عرش البلاد، وكان "أكبر" أول حاكم من أفراد أسرته المالكة شجع التصوير، ولو أخذنا بما يقوله "أبو الفضل" فقد كان في دلهي في أواخر حكمه، مائة أستاذ من محترفي هذا الفن، وألف من هواته(33).


وكان من أثر رعاية "جهان كير" لفن التصوير أن تطور هذا الفن واتسع نطاقه من تصوير الأشخاص فحسب إلى تمثيل مناظر الصيد وغيرها من البطانات التي تؤخذ من الطبيعة لتكون مجالاً لتصوير أشخاص من الناس على أساسها - على أن هذه الأشخاص مازالت لها السيادة في الصورة؛ فهنالك صورة صغيرة تمثل الإمبراطور نفسه وقد أوشك أن تنال منه مخالب أسد واثب على مؤخرة الفيل الذي كان يركبه، محاولاً أن يمسك بجسده، بينما ترى تابعاً من الأتباع يفر هارباً كما تقتضي النظرة الواقعية لحقيقة ما يحدث في الحياة(34)، وبلغ الفن في حكم " جهان " أعلى ذروته؛ ثم أخذ بعدئذ في التدهور؛ وكما حدث في التصوير الياباني حدث في الهند، وهو أن شيوع القالب الفني في دائرة واسعة من الناس، كان له نتيجتان في وقت واحد، فقد زاد من عدد المهتمين بالفن من جهة، وقلل من دقة الذوق من جهة أخرى(35)، وأخيراً تمت مراحل التدهور حين جاء " أورنجزيب " فأعاد حكم الإسلام في مقاومة التصوير بغير هوادة. وقد لقي المصورون في دلهي من الازدهار ما لم يعرفوا له مثيلاًً خلال عدة قرون، وذلك بفضل الرعاية الكريمة التي أسداها إليهم ملوك المغول؛ فجددت طائفة المصورين عندئذ شبابها، وهي تلك الطائفة التي احتفظت بنفسها حية منذ العصر البوذي؛ ونفض بعض أعضائها عن نفسه ذلك التخفي الذي كان يدعوهم إلى نكران أسمائهم، والذي يسود الكثرة الغالبة من آثار الفن الهندي، بفعل الزمان الذي يبتلع الأسماء في جوف النسيان من جهة، وإنكار الهنود لذاتيات الأفراد من جهة أخرى، وكان من السبعة عشر فناناً الذين يعدون أعلاماً في حكم "أكبر" ثلاثة عشر هندوسياً(36)، وكان أقرب المصورين إلى الحظوة في بلاد المغولي العظيم هو "دازفانت" الذي لم يؤثر أصله الوضيع - إذ كان ابن حامل المحفَّات التي تنقل الراكبين - في نظرة الإمبراطور إليه أقل تأثير؛ وكان هذا الشاب شاذ الأطوار، فكنت تراه مصراً أينما حل على رسم صورة يرسمها على أية مادة أتيحت له؛ واعترف "أكبر" بعبقريته، وطلب إلى الأستاذ الذي يتلقى عنه هو نفسه فن الرسم، أن يتعهد تعليمه، حتى إذا ما شبّ الغلام، أصبح أعظم رجال الفن في عصره، لكنه وهو في أوج شهرته طعن نفسه طعنة قاضية(37).

إنه حيثما وجدت ناساً يصنعون هذا الشيء أو ذاك، وجدت إلى جانبهم ناساً آخرين يأخذون أنفسهم بشرح الطريقة التي يجب أن يتبعها أولئك في صناعة ما يصنعون؛ فالهنود الذين لم تكن فلسفتهم تعلي من شأن المنطق، قد أحبوا المنطق مع ذلك، وأغرموا بصياغة قواعد دقيقة لكل فن من الفنون، كأدق ما تكون القواعد دقة، وأشد ما تكون انطباقاً على حكم العقل؛ ومن ثم وضعوا في أوائل تاريخنا المسيحي "الساندانجا" أي "الأطراف الستة للتصوير الهندي" وهي شبيهة بما وضعه صينيّ بعد ذلك، وربما كان الصينيّ في ذلك مقلداً، وهو ستة قوانين لإتقان فن التصوير: ( (1معرفة ظواهر الأشياء ((2 صحة الإدراك الحسي والقياس البنّاء ( (3فعل المشاعل في القوالب الفنية ( (4إدخال عنصر الرشاقة، أو التمثيل الفني ( (5مشابهة الطبيعة ( (6استخدام الفرجون والألوان استخداماً فنيا؛ وظهر بعد ذلك تشريع جمالي مفصل، واسمه "شلبا- شاسترا"؛ صيغت فيه قواعد كل فن وتقاليده صياغة تصلح مع مرّ الزمان، وهم يزعمون لنا أن الفنان لا بد له من دراسة الفيدات دراسة متقنة "وأن يغتبط بعبادة الله، ويخلص لزوجته ويجتنب غيرها من النساء ويحصّل معرفة بمختلف العلوم تحصيلاً تحدوه التقوى"(38).

ويسهل علينا بعض الشيء فهم التصوير الشرقي؛ لو وضعنا نصب أعيننا أولاً، أنه لا يحاول تصوير الأشياء بل تصوير العواطف، وأنه لا يحاول مطابقة الأصل بل يكتفي بالإيحاء به، وأنــه لا يعتمد على اللون بل على التخطيط، وأن غايته أقرب إلى أن تكون إثارة عاطفة جمالية ودينية منها إلى أن تكون محاكاة للواقع، وأنه مهتم بما في الناس والأشياء من "أنفس" أو "أرواح" أكثر من اهتمامه بصورتها المادية، ومع ذلك فمهما حاولنا، فنوشك ألا نجد في التصوير الهندي ذلك الرقي الفني، أو ذلك البعد في المدى والعمق في المعنى، الذي يميز فن التصوير في الصين أو في اليابان، وترى بعض الهنود يعللون ذلك تعليلاً مغالياً في شطحته مع الخيال، فيزعمون أن التصوير قد تدهور عندهم لأنه أيسر من أن يتقدم به المتقرب إلى الآلهة، إذ ليس في إخراجه من العناء ما يشرف ذلك المتقرب(39)؛ ويجوز ألا تكون الصور بما تتصف به من سرعة التعرض للزوال والفناء مما يشبع في نفس الهندي ذلك التعطش الذي يحسه نحو تجسيد إلهه المختار تجسيداً يبقى على وجه الزمان؛ فلما لاءمت البوذية بين نفسها وبين التصوير الفني للأشياء، ولما كثرت وازدادت الأضرحة البرهمية، أخذ النحت يحل محل التصوير شيئاً فشيئاً ليأخذ الحجر الدائم مكان اللون والتخطيط.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: النحت

النحت البدائي - النحت البوذي - جاندهارا - جوبتا - تأثره بالمستعمرين - تقدير

ليس في مقدورنا أن نتعقب مراحل النحت التاريخية في الهند بادئين بالتماثيل الصغرى التي وجدت في "موهنجو- دارو" ومنتهين بعصر "أشوكا" لكن يجوز لنا أن نشك في أن هذه الفجوة التي تعترض تطور تلك المراحل، ليست فجوة في تقدم الفن نفسه بمقدار ما هي فجوة في علمنا به؛ وربما أفقرت الغزوات الآرية الهند حيناً من الدهر، فانتكست بفعل الفقر من الحجر إلى الخشب في صناعة تماثيلها؛ أو ربما كان الآريون أكثر انصرافاً إلى الحروب من أن يجدوا الفرصة للعناية بالفنون، فأقدم التماثيل الحجرية التي بقيت لنا في الهند لا يرجع إلى عهد أقدم من "أشوكا" لكن هذه التماثيل تدل على مهارة بلغت من الرقي حداً رفيعاً لا يدع لنا مجالاً للشك في أن الفن كان قبل ذلك آخذاً في نموه عدة قرون(40)؛ وجاءت البوذية فوضعت حوائل معروفة تقوم في وجه التصوير والنحت معاً، وذلك بمقتها للأوثان وللتصاوير الدنيوية: إن بوذا يحرم "تصاوير الخيال في رسم أشخاص الرجال والنساء"(41) وبحكم هذا التحريم الذي يوشك أن يكون صادراً من موسى لقى التصوير والنحت من الحوائل في الهند مثل ما لقياه في عهد اليهود، ومثل ما سيلقيانه بعدئذ في ظل الإسلام، لكن هذا "التزمت"- فيما يظهر- أخذ يتراخى شيئاً فشيئاً كلما تهاونت البوذية في تشددها وازدادت مشاطرة للروح الدرافيدية التي تميل إلى الرمز والأساطير، فلما عاد فن النحت إلى الظهور من جديد (حوالي سنة 250 ق.م) في التماثيل الحجرية البارزة القائمة على "السور" الذي يحيط بأكمات المدافن البوذية في "بوذا- جايا" و "بهارهوت" كانت هذه التماثيل أقرب إلى أن تكون جزءاً لا يتجزأ من التصميم المعماري للبناء منها إلى أن تكون فناً مستقلاً مقصوداً لذاته؛ ولبث الجزء الأكبر من النحت الهندي حتى ختام مراحله التاريخية تابعاً لفن العمارة، وكان طوال الوقت يؤثر النحت البارز على الحفر ؛ وقد بلغ هذا النحت البارز ذروة رفيعة من الكمال في المعابد الجانتيه في "مأثورة"، وفي الأضرحة البوذية في "أمارافاتي" و "أجانتا"؛ ويقول أحد الثقات الراسخين في العلم أن السور المنحوت في "أمارافاتي": "أرق زهرة في النحت الهندي وأوغلها في أسباب الترف"(42).

في ذلك الوقت عينه، كان نمط آخر من أنماط النحت في سبيله إلى الرقي في إقليم "جاندهارا" الواقع في شمال غربي الهند؛ وذلك في رعاية الملوك "الكوشيين"، وهم أبناء أسرة يحيط بها الغموض، انبثقت بغتةً من الشمال- ومن الجائز أن يكون في أصولها جذور هلينية- فظهر بظهورها ميل نحو إدخال القوالب الفنية اليونانية، وكانت بوذية "ماهايانا" التي استولت على مجلس "كانِشْكا" هي التي شقت الطريق إلى ذلك الفن اليوناني، بإلغائها تحريم التصوير والنحت، فاستطاع بعض المعلمين اليونان أن يوجهوا النحت الهندي وجهة اصطنع فيها لفترة من الزمن وجهاً "هلينيا" طليقاً، فتحول بوذا إلى ما يشبه أبولو، وأخذ يطمح إلى بلوغ الأولمب؛ وأصبحنا نرى الثياب تنساب أذيالها على آلهة الهندوس وقديسيهم على نحو ما ترى في نحت "فيدياس" كما نرى تماثيل تصور "بوذيساتوا" التقيّ وهو يصاحب "سيلبني" الطروب المخمور(43)، ومثلوا مولاهم بوذا وتلاميذه في تماثيل جَمَّلوا أجسادها وكادوا يجعلونها مخنثة الأجزاء، إذ أخرجوها على غرار نماذج يونانية بشعة تمثل اليونان وهم في مرحلة واقعية تميل بهم نحو الانهيار؛ ومن ذلك تمثال بوذا في لاهور، بوذا الذي يتضور جوعاً، ففي هذا التمثال ترى كل ضلع وكل عصب من أضلاع جسده وأعصابه، ثم تراهم ركّبوا على هذا الجسد وجه امرأة، ورُتب شعر الرأس على نحو ما يُرَتب الشعر في رؤوس السيدات، ولو أنهم جعلوا في ذلك الوجه لحية الرجال(44)؛ وقد تأثر "يوان شوانج" لهذا الفن الذي يمزج بين اليونانية والبوذية والذي انتقل إلى الصين وكوريا واليابان(45) بفضل "يوان شوانج" هذا وغيره ممن حجوا إلى الهند فيما بعد؛ لكن هذا الفن لم يكن له إلا قليل الأثر في قوالب النحت وطرائقه في الهند ذاتها؛ فلما انقضى عهد مدرسة جاندهارا بعد بضعة قرون قضتها في نشاط مزدهر، عاد الفن الهندي من جديد إلى الحياة في ظل حكام من الهندوس، واستأنف التقاليد التي خلفها الفنانون الوطنيون في "بهارهوت" و "أمارافاتي" و "مأثورة" ولم ينظر إلا بطرف عينه إلى آثار الفترة اليونانية القصيرة التي ظهرت في جاندهارا.

وازدهر النحت- كما ازدهر كل شيء تقريباً في الهند- تحت حكم أسرة جوبتا؛ وكانت البوذية عندئذ قد نسيت عداوتها لتصوير الأشخاص، ونهضت البرهمية وقد تجدد نشاطها، فشجعت الرمزية وزخرفة الدين بكل أنواع الفنون؛ فنرى في متحف "مأثورة" تمثالاً حجرياً لبوذا أتقنت صناعته، بعينين تنمان عن تأمل عميق، وشفتين حساستين، وجسد بولغ في رشاقته، وقدمين قبيحتين مستقيمتي الخطوط، وترى في متحف "سارنات" تمثالاً حجرياً آخر لبوذا في جلسة قرفصاء التي كتب لها أن تسود النحت البوذي، وفي هذا لتمثال تصوير بارع لآثار التأمل الهادئ والرقة القلبية الصادرة عن ورع؛ وفي "كاراتشي" تمثال برونزي صغير لبراهاما، يشبه صورة "فولتير" شبهاً واضحاً(46).

واذهب حيث شئت في أرجاء الهند، ترى فن النحت في الألف عام التي سبقت قدوم المسلمين، قد أنتج آيات روائع على الرغم من أن خضوعه لفن العمارة وللدين قد حدد خطاه، وإن يكن مصدر وحي له في الوقت عينه، فالتمثال الجميل الذي يصور "فشنو" والذي جاء من "سلطانبور"(47) وتمثال "بادماباني" الذي أجيدت صناعته بأزميل الفنان(48) وتمثال "شيفا" الضخم ذو الوجوه الثلاثة "الذي يسمى عادة تريمورتي" الذي نحت نحتاً عميقاً في كهوف "إلفانتا"(49) والتمثال الحجري الذي تكاد تحسبه من صنع "براكسيتي" والذي يعبده الناس في "نوكاس" باعتباره الإله "روكميني"(50) وشيفا الراقص الرشيق- أوناتاراجا- المصنوع من البرونز بأيدي الصناع الفنانين في تانجور(51) وتمثال الغزال الجميل المنحوت من الحجر، وفي "مامالابوارم"(52) و "شيفا" الوسيم في "برور"(53)- هذه كلها شواهد على انتشار فن النحت في كل إقليم من أقاليم الهند.

واجتازت هذه البواعث نفسها وهذه الأساليب نفسها، حدود الهند الأصلية حيث كان من أثرها أن أنتجت آيات فنية في تركستان وكمبوديا وجاوه وسيلان وغيرها؛ ويستطيع طالب الفن أن يجد أمثلة لذلك، هذا الرأس الحجري- ويظهر أنه رأس غلام- الذي احتفره من رمال خوتان "سير أورل شتاين" وصحبه(54) ورأس بوذا الذي جاء من سيام(55) وتمثال "هاريهارا" في كمبوديا الذي يتميز بدقة تشبه دقة المصريين في تماثيلهم(56) والتماثيل البرونزية الرائعة في جاوه(57) ورأس شيفا الذي جاء من "برامبانام" والذي يشبه الفن في جاندهارا(58)؛ وتمثال المرأة البالغ حداً بعيداً في جماله واسمه "براجناباراميتا" وهو الآن في متحف ليدن؛ وتمثال "بوذيساتاوا" الذي بلغ ذروة الكمال وهو في متحف "جلبتوثك" في "كوبنهاجن"(59) وتمثال بوذا الهادئ القوي(60) وتمثال "أفالوكتشفارا" (ومعناها السيد الذي يصوب نظره إلى الناس مستصغراً مشفقاً) وهو تمثال أجيدت صناعته بالأزميل(61) وكلا هذين الأخيرين من المعبد العظيم في جاوه الذي يسمى "بوروبودور" وكذلك تمثال بوذا الضخم الغليظ(62) والعتبة المرمرية البديعة(63) في بناء "آنورا ذابورا" في سيلان؛ هذه القائمة المملة، التي ذكرنا فيها آثاراً فنية لا بد أن تكون قد كلفت دماء كثير من الرجال في عدة قرون من الزمان، تدل بعض الدلالة على أثر العبقرية الهندية في مستعمرات الهند الثقافية.

إنه ليتعذر علينا للوهلة الأولى أن نقدر هذا النحت؛ فليس يستطيع أحد من الناس أن يطرح وراء ظهره بيئته الخاصة حين يرتحل في غير بلاده إلا ذو العقل العميق المتواضع؛ إنه لا مناص لنا من أن ننقلب هنوداً أو أبناء هذا البلد أو ذاك مما أخذ بزعامة الهند الثقافية، لنفهم الرمزية الكامنة في هذه التماثيل، وندرك ما تدل عليه هذه الأذرع والسيقان الكثيرة من وظائف وقوى خارقة، ونسيغ الواقعية البشعة التي تمثلها هذه التماثيل الشاطحة بخيالها، المعبرة عن رأي الهندوس في القوى الخارقة للحدود الطبيعية، التي تبدع في خلقها بما يجاوز حدود العقل، وتخصب إخصاباً يجاوز حدود العقل، وتخرب تخريباً يجاوز حدود العقل، إنه ليروعنا أن نرى كل شخص في قرى الهند نحيل الجسم، بينما نرى كل شخص في تماثيل الهند بديناً، لأننا ننسى أن التماثيل تصور الآلهة قبل كل شيء، والآلهة هم الذين يتلقون زبدة ما تثمره البلاد من خيرات؛ وإن أنفسنا لتطرب حين نعلم أن الهنود صبغوا تماثيلهم بالألوان، ومن ثم ينكشف لنا الغطاء عن حقيقة نسهو عن إدراكها، وهي أن اليونان فعلوا ذلك أيضاً، وأن الجلال الذي في آلهة فيديا يرجع بعضه إلى زوال الصبغة عن تماثيلهم زوالاً جاء عرضاً؛ وإنه كذلك ليسوءنا أن نرى قلة تماثيل النساء قلة نسبية في معارض الفن الهندي، ونرثى لإذلال النساء الذي قد تدل عليه هذه الظاهرة، ولا نذكر أبداً أن مذهب العرى في المرأة ليس أساساً لفن النحت يستحيل الاستغناء عن وجوده، وإن أعمق جمال للمرأة قد يتبدى في الأمومة أكثر مما يتبدى في الشباب، قد تدل عليه "ديميتر" أكثر مما تدل عليه "أفروديت"؛ أو قد ننسى أن النحات لم ينحت ما تتعلق به أحلامه بقدر ما نحت ما أذن به الكهنة، وأن كل فن في الهند كان يتبع الدين أكثر مما يتبع الفن نفسه، إذ كان خادماً للاهوت أو قد نفسر بالجد ما لم يقصد به النحات إلى الجد، وإنما قصد به تصويراً كاريكاتورياً أو فكاهة أو بشائع يخيف بها الأرواح الشريرة فيطردها، فإذا ما رأينا أنفسنا نزور عنها في امتعاض فقد أقمنا بذلك الدليل على تأديتها لما أريد لها أن تؤديه.

ومع ذلك فلم يبلغ فن النحت في الهند كل ما بلغه أدبها من رشاقة، أو ما بلغه فن العمارة فيها من فخامة، أو ما بلغته فلسفتها من عمق؛ فكان أول ما صوره النحت في الهند هو مكنون عقائدها الدينية على خلطه واضطرابه، ولئن بزَّت الهند بفن النحت فيها نظائره في الصين واليابان، إلا أنها لم تبلغ قط مستوى التماثيل المصرية في برود كمالها، ولا مستوى التماثيل المرمرية اليونانية في جمالها الحي المغري، وإذا أردنا أن نقف من فن النحت الهندي عند مجرد الفهم لما ينطوي عليه من مزاعم، كان لا مندوحة لنا عن استعادة الشعور بالتقوى في قلوبنا، ذلك الشعور الذي ساد في العصور الوسطى بجده وإيمانه، والحق أننا نسرف فيما نطالب به فن النحت أو فن التصوير في الهند، فترانا نحكم عليهما كما لو كان في تلك البلاد- كما هما في بلادنا- فنين مستقلاً أحدهما عن الآخر، مع أن حقيقة الأمر هي إننا فصلناهما لتسهل دراستهما حسب ما جرت به التقاليد في تقسيم الفنون أقساماً مختلفة الأسماء مختلفة المعايير، فلو استطعنا أن ننظر إليهما كما هما في رأي الهندي، أي على اعتبار أنهما جزآن من عدة أجزاء يتألف منها فن العمارة عندهم، الذي لا يفوقهم فيه شعب آخر، كان منا بمثابة البداية المتواضعة التي قد تؤدي بنا إلى فهم الفن الهندي.


الفصل الخامس: فن العمارة

1- العمارة الهندوسية

العهد السابق لأشوكا - العمارة في عهد أشوكا - العمارة البوذية - العمارة الجانتية - آيات العمارة في الشمال - هدمها - النمط في الجنوب - المعابد المقامة من حجر واحد - المعابد المقامة من أحجار عدة


لم يبق لنا شيء من العمارة الهندية قبل "أشوكا" فلدينا آثار من اللبِن في "موهنجو - دارو"، لكن أبنية في العهدين الفيدي والبوذي كانت فيما يظهر من الخشب، والأغلب أن "أشوكا" كان أول من استخدم الحجر لأغراض البناء(64) وإننا لنصادف في أدبهم ما يدل على أن قد كان لهم أبنية ذات سبعة طوابق (65) كما قد كان لهم قصور فخمة، لكن لم يبق من كل هذا أثر واحد، ويصف المجسطي قصور الملوك من أسرة "شاندراجوبتا" فيقول إنها أعظم من أي شيء مما عساك أن تراه في فارس ما عدا "فرسوبولس" (أي مدينة الفرس) التي اتخذت نموذجاً احتذاه هؤلاء الملوك الهنود فيما يظهر(66) ولبث هذا التأثير الفارسي حتى عهر "أشوكا" لأنك تراه ظاهراً في تصميم قصره، إذ تجد هذا القصر مطابقاً "للقاعة ذات الأعمدة المائة" في "فرسوبولس" (67) كما ترى تأثير الفرس أيضاً ظاهراً في عمود "أشوكا" البديع في "لوريا" متوجاً في قمته العليا بتمثال الأسد.

فلما تحول "أشوكا" إلى البوذية، أخذت العمارة الهندية تلقي عن كاهلها هذا التأثير الأجنبي وتستمد روحها ورموزها من الديانة الجديدة، ومرحلة الانتقال ظاهرة في رأس عمود كبير، هو كل ما بقي لنا الآن من عمود آخر يرجع إلى عهد "أشوكا" في "سارنات"(68) فهاهنا نشهد أية بلغت من الكمال حداً يستوقف النظر حتى لقد قال عنه "سير جون مارشال" إنه يضارع "أي شيء من نوعه في العالم القديم"(69) ، إذا ترى أربعة أسود قوية وقفت ظهراً لظهر حارسة، وهي فارسية خالصة من حيث الصورة والملامح. لكنك ترى أسفل هذه الأسود إفريزاً نحتت فيه بعض الشخوص نحتاً جيداً، من ذلك تمثال لحيوان قريب إلى نفوس الهنود وهو الفيل، ورمز مطبوع بطابعهم وهو "العجلة البوذية التي ترمز للقانون"، ثم ترى تحت الإفريز صورة حجرية لزهرة كبيرة من زهرات اللوتس، أخطأ الباحثون من قبل فظنوها رأس عمود على صورة جرس مما يدل على تأثير الفرس، أما الآن فقد أجمع الرأي على أنها بين رموز الفن الهندي أقدمها وأوسعها انتشاراً وأخصها انطباعاً بالروح الهندية(70) والزهرة قائمة عمودية، وأوراقها منحنية إلى أسفل بحيث يظهر عضو التأنيث في الزهرة، الذي يحتوي على البذور، وهم يمثلون به رحم العالم، أو يصورون به عرش الله، باعتباره من أجمل ما تبديه من الطبيعة من ظواهر؛ وقد انتقلت زهرة اللوتس- أو سوسنة الماء- بما ترمز إليه، مع البوذية، حيث تغلغلت في ثنايا الفن الصيني والياباني، وقد اصطنعوا في عهد "أشوكا" صورة شبيهة بزهرة اللوتس في بناء النوافذ والأبواب، هي التي أصبحت "قوس حدوة الفرس الذي نشاهده في الأبهاء والقباب التي ترجع إلى "أشوكا"، وهو في بادئ أمره مستمد من تقويس السقوف المصنوعة من القش في منازل البنغال، والتي تشبه "العربة المُغَطَّاة" تلك السقوف التي كانت تسندها دعائم من قضبان الخيزران المثنى(71).

ولم تخلّف لنا العمارة الدينية في العصور البوذية إلا قليلاً من المعابد المخربة وعدداً كبيراً من "أكمات المقابر" وما يحيطها من "أسوار"، وقد كانت "أكمة المقابر" في الأيام الأولى مكاناً للدفن، ثم أصبحت في عهد البوذية ضريحاً كارياً يضم عادة آثار قديس بوذي؛ وتتخذ "أكمة المقابر" في معظم الأحيان صورة قبة من اللبن المجفف، في رأسها برج مدبب الطرف، وحولها سور حجري منحوت بالشخوص البارزة، ومن أقدم هذه "الأكمات" أكمة في "بهارهوت" غير أن الشخوص البارزة هناك غليظة الفن إلى درجة تجعلها بدائية الصناعة، وأرقى ما بقي لنا من هذه الأسوار في زُخرُفه هو السور الموجود في "أمارافاتي"، ففيه ترى مسطحاً مساحته سبعة عشر ألفاً من الأقدام المربعة، تغطيها شخوص صغيرة بارزة، تدل على دقة في الصناعة بلغت من الروعة حداً جعل "فرجسون" يشهد لهذا السور بأنه "على الأرجح أبدع أثر في الهند كلها"؛ وأجمل ما نعرفه من "أكمات المقابر" أكمة "سانكي"، وهي واحدة من مجموعة في "بِهِلْسَا" من بلدان "بهوبال"؛ والظاهر أن البوابات الحجرية تحاكي نماذج خشبية قديمة، وهي التي رسمت الطريق للبوابات التي تراها عند مداخل المعابد في الشرق الأقصى؛ فكل قدم مربعة من الأعمدة أو تيجانها أو القطع المستعرضة أو الدعائم، محفورة بما لا يقع تحت الحصر من صور النبات والحيوان وأشخاص الإنسان وصور الأرباب؛ ونرى على عمود من أعمدة البوابة الشرقية نحتاً رقيقاً يمثل رمز البوذية الدائم- وهو "شجرة بوذى" أي المكان الذي أشرقت فيه على صاحب العقيدة أنوار الحقيقة؛ وعلى نفس البوابة كذلك تجد تمثالاً لإلهة على هيئة قوس رشيق، وهي "ياكشي" ولها أطراف وشفاه بدينة وشفاه مليئة وخصر نحيل وثديان ممتلئان.

وبينما كان الموتى من القديسين يرقدون في "الأكمات" كان أحياء الرهبان يحتفرون لأنفسهم في صخور الجبل معابد يعتزلون فيها الدنيا ويعيشون في تراخ وسلام، بمنجاة من عوامل الجو ومن لفحة الشمس ووهجها؛ ونستطيع أن نتبين مدى قوة الحافز الديني في الهند إذا لحظنا أنه قد بقي لنا أكثر من ألف ومائتي معبد من هذه المعابد الكهفية، بقي هذا العدد لنا من عدة ألوف بنيت في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، بعضها للجانتيين والبراهمة، لكن معظمها للجماعات البوذية، وفي معظم الحالات ترى مداخل هذه الأديرة (أو الفهارات كما يسمونها) بوابة ساذجة على هيئة حدوة الفرس أو قوس زهرة اللوتس؛ وأحياناً - كما هي الحال في "ناسيك" - يكون المدخل واجهة مزخرفة، قوامها أعمدة قوية ورؤوس حيوان وعَتَبٌّ منحوت نحتاً يتطلب صبراً لا ينفد، وكثيراً ما كانوا يزينون المدخل بأعمدة وأستار حجرية وبوابات غاية في جمال التصوير(74) ، وأما الداخل ففيه "شايتيا" أي قاعة للاجتماع بأعمدة تفصل الوسط عن الجانبين، وعلى كلا الجانبين حجيرات للرهبان، وفي الطرف النائي من الداخل مذبح عليه بعض الآثار القديمة ومن أقدم هذه المعابد الكهفية، وقد يكون أجملها جميعاً، معبد في "كارل" الواقعة بين "بونا" و"بمباي"، ففي هذا المعبد أنتجت بوذية "هنايانا" أروع آياتها الفنية.

وأما كهوف "أجانتا" ففضلاً عن كونها مخابئ لأعظم الصور البوذية، فهي كذلك تضارع "كارل" في كونها أمثلة لذلك الفن المركب من جانبين: فنصفه عمارة ونصفه نحت، وهو ما يميز معابد الهند؛ ففي الكهفين رقم (1) ورقم (2) قاعات فسيحة للاجتماع، سقوفها - المنحوتة والمرسومة بزخارف رصينة لكنها رشيقة - قائمة على عمد منقوشة بخطوط محفورة، مربعة عند أسفلها مستديرة عند قمتها، مزخرفة برسوم من الزهر ومتوجة برؤوس لها فخامتها(75) ويتميز الكهف رقم (19) بواجهة أتقنت زخرفتها بتماثيل بدينة ورسوم بارزة مشتبكة الأجزاء(76) ، وفي الكهف رقم (26) تنهض أعمدة إلى إفريز متوج بتماثيل منحوتة في دقة تفصيلية يستحيل أن تتم إلا إن توفرت لها الحماسة الدينية والفنية في آن معاً(77) ؛ فلا تكاد تجد ما يبرر لك أن تسلب "أجانتا" الحق في أن تعدَّ واحدة من أعظم ما خلف تاريخ الفن من آثار.

وأفخم المعابد البوذية الأخرى التي لا تزال قائمة في الهند، البرج العظيم في "بوذ - جايا"، وقيمته في أقواسه المصطبغة بصبغة قوطية خالصة، ومع ذلك فتاريخها يرجع - فيما يظهر - إلى القرن الأول الميلادي(78).

وأهم ما تتميز به العمارة البوذية على وجه الجملة هو أنها مفككة، وجلالها في تمثيلها قبل أن يكون في بنائها؛ ويجوز أن تكون روح التزمت الديني العالقة بها هي التي جعلتها في ظاهرها منفرة للعين عارية عما يجذب النظر؛ وأما الجانتيون فقد توجهوا بعناية أكبر من عناية البوذيين، إلى فن العمارة، وكانت معابدهم خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر أجمل معابد الهند على الإطلاق وهم في بادئ أمرهم لم يخلقوا لأنفسهم نمطاً في العمارة خاصاً بهم، واكتفوا في البداية بمحاكاة الطريقة البوذية (مثال ذلك ما نراه في إكوار) التي تحتقر المعابد في صخور الجبل، ثم بمحاكاة معابد فشنو وشيفا، وهي على نمط يتميز بأنه يقوم على مجموعة من الجدر فوق نشز من الأرض؛ هذه المعابد كانت بسيطة الظاهر، لكنها كانت كثيرة التفصيلات غنية الفن من الباطن - ولعلها في ذلك أن تكون رمزاً موفقاً للحياة المتواضعة، وأخذ الناس يندفعون بروح التقوى فيضيفون إلى هذه المعابد تمثالاً في إثر تمثال مما يخلد أبطال الجانتية، حتى لقد بلغ عددها في "شاترونجايا" - حسب إحصاء فيرجسون - ستة آلاف وأربعمائة وتسعة وأربعين تمثالاً(79).

وأما المعبد الجانتي في "أيهول" فيكاد يكون إغريقي النمط، بصورته الرباعية الأضلاع، وأعمدته الخارجية، ومدخله، والغرفة الداخلية، أو إن شئت فقل الحجيرة التي تتوسطه من الداخل(80) ؛ وقد أقام الجانتيون والفشناويون والشيفاريون في "خاجوراهو" ما يقرب من ثمانية وعشرين معبداً قريباً بعضها إلى بعض؛ كأنما أرادوا بها أن يضربوا مثلاً لروح التسامح الديني في الهند؛ وبين تلك المعابد معبد "بارشوانات"(81) الذي يبلغ درجة الكمال، وهو ينهض مخروطاً فوق مخروط حتى يبلغ ارتفاعاً هائلاً، ويؤوي في جدرانه المحفورة مدينة حقيقية من القديسين الجانتيين؛ وقد أقام الجانتيون على جبل "أبو"، وارتفاعه فوق صدر الصحراء أربع آلاف قدم، معابد كثيرة منها اثنان باقيان، هما معبد "فيمالا" ومعبد "تجاه بالا"، يعدان أعظم ما أبدعته هذه الطائفة في مجال الفنون؛ فقبة الضريح "تجاه بالا" من الأشياء التي توقع في نفس الرائي أثراً عميقاً يتضاءل أمامه كل ما يكتب عن الفنون بحيث يصبح تافهاً عاجزاً(82)؛ وأما معبد "فيمالا" المبني كله من المرمر الأبيض فمؤلف من خليط من أعمدة لا يطرد فيها نظام، ترتبط بأقواس أبدعها الخيال العجيب بمصاطب منحوتة نحتاً أميل إلى البساطة، وفوق الأعمدة قبة من المرمر بولغ في حفرها بالتماثيل الكثيرة لكن حفرها بلغ من الرقة حداً يروعك جلاله وأنت تستعرضه؛ ويقول فيه "فيرجسون": "إن النحت قد أتقنت تفصيلاته وأجيدت زخرفته؛ حتى ليجوز لنا أن نقول إنه ليس في العالم كله ما يفوقه في ذلك؛ إذ النقوش التي زخرف بها المعماريون مُصَلَّى هنري السابع في وستمنستر أو في أكسفورد، تعتبر غليظة بغيضة إذا قورنت بنقوش ذلك المعبد(83).

ونستطيع أن نلحظ في هذه المعابد الجانتية ومعاصراتها، مرحلة الانتقال من صورة الضريح البوذي المستديرة إلى نمط البرج الذي ساد في عصور الهند الوسطى فقاعة الاجتماع المحاطة بأعمدة من الداخل جاءوا بها إلى الخارج حيث تحولت إلى ممشى عند المدخل، ثم تقع الحجيرة خلف هذا الممشى، ويرتفع فوقها البرج المعقد المنحوت في مستويات تقل مساحة كلما ازدادت ارتفاعاً، وعلى هذا التصميم بنيت معابد الهندوس في الشمال، وأوقع مجموعة من هذه المعابد في نفس الرائي، هي المجموعة المسماة (بهوفانشوارا) في إقليم "أوريسا"، وأجمل معبد في هذه المجموعة هو معبد "راجاراتي" الذي أقيم للإله "فشنو" في القرن الحادي عشر الميلادي، وهو عبارة عن برج شامخ يتألف من أعمدة نصف دائرية ملاصق بعضها لبعض، تغطيها التماثيل وتعلوها طبقات من الحجر تتناقص حجماً كلما ازددنا معها صعوداً، وبهذا يكون البرج منحنياً إلى الداخل ومنتهياً بتاج دائري كبير ومسلة؛ وبالقرب منه يقع معبد "لنجاراجا" وهو أكبر من معبد "راجاراني" لكنه لا يبلغ في الجمال مبلغه، ومع ذلك فكل نقطة من مسطح البناء قد مَرَّت عليها يد النحات بإزميلها، حتى لقد قدرت تكاليف النحت ثلاثة أمثال تكاليف البناء ذاته(84) فالهندوسي لم يعبّر عن تقواه بضخامة معابده الجبارة وحدها، بل أضاف إلى الضخامة تفصيلات فنية احتاجت في إخراجها إلى صبر طويل، فلم يكن عنده شيء يَضِنُّ به على الإله مهما بلغت نفاسته.

وإنه لمن البغيض إلى النفس أن نذكر قائمة آيات البناء الهندوسي في الشمال غير التي ذكرناها، دون أن نذكر أوصافها التي تتميز بها، وأن نمثلها بصورها الفوتوغرافية؛ ومع ذلك فيستحيل على من يسجِّل المدنيَّة الهندية أن يغض الطرف عن معابد "سوريا" في "كاناراك" و "موزيرا"، وعن برج "جاجانات بوري"، وعن البوابة الجميلة في "فادناجار"(85)والمعبدين الضخمين "ساس- باهو" و "تلى- كار- ماندير" في "جواليور"(86) وقصر "راجا مان سنج" وهي أيضاً في "جواليور"(87) "وبرج النصر" في شيتور(88)، ولا تستطيع العين أن تخطئ معابد الشيفاويين في "خاجوراهو"؛ وفي المدينة نفسها ترى القبة الكائنة عند دهليز المدخل في معبد "خانوارماث"؛ وهي تدل دلالة جديدة على قوة الفتوة السارية في العمارة الهندية، وعلى ما في النحت الهندي من غزارة تفصيلات وصبر في الصناعة(89) وعلى الرغم من أن معبد شيفا في "إلفانتا" لم يبق منه إلا أنقاض، فهو دليل بأعمدته الضخمة المحفورة، ورؤوس الأعمدة التي على شكل نبات الفُطْر، ونقوشه البارزة التي لا يفوقها شيء في بابها، وتماثيله القوية(90)، هو بهذا كله دليل على عصر قويت فيه الروح القومية، وازدادت المهارة الفنية على نحو لا يكاد يعلق منه بالذاكرة شيء.

إنه ليستحيل علينا إلى الأبد أن نقدر الفن الهندي حق قدره، لأن الجهل والتعصب قد قضيا على أعظم آثاره، ثم كادت تدمر البقية الباقية منه؛ ففي "إلفانتا" أثبت البرتغاليون تقواهم بتحطيم التماثيل والنقوش البارزة على نحو من الهمجية لم يعرف حدوداً يقف عندها؛ وتكاد لا تجد مكاناً في الشمال لم يقوض فيه المسلمون تلك الروائع الباهرة التي يجمع رأي الرواة على أنها كانت أرفع قدراً من آيات العهد الذي تلا عهدها، مع أن هذه الأخيرة تثير فينا اليوم شعور العجب والإعجاب؛ لقد أطاح المسلمون برؤوس التماثيل، ثم حطموها عضواً عضواً، وعدلوا من الأعمدة الرشيقة التي كانت في معابد الجانتيين(91) بحيث تصلح لمساجدهم، ثم قلدوها إلى حد كبير فيما صنعوه لأنفسهم؛ لقد تعاون الزمن والتعصب على عملية الهدم، ذلك لأن الهندوس المتمسكين بأصول عقيدتهم هجروا وأهملوا المعابد التي دنستها أيدي الأجانب حين مسَّتها(92).

لكنه في مقدورنا أن نحدس كم بلغت العمارة الهندية في الشمال من عظمة مفقودة، وذلك استدلالاً من الأبنية القوية التي لا تزال قائمة في الجنوب، حيث الحكم الإسلامي لم يتوغل إلا إلى حد ضئيل، وحيث أدى إلف المسلمين للأوضاع في الهند إلى الحدِّ من كراهيتهم لأساليب الحياة عند الهندوس؛ زد على ذلك أن العصر الزاهر لعمارة المعابد في الجنوب، جاء في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بعد أن راض "أكبر" المسلمين وعلمهم بعض الشيء كيف يقدرون الفن الهندي؛ فنتج عن ذلك أن أصبح الجنوب غنياً بمعابده، التي تسمو عادة على قريناتها التي ما زالت قائمة في الشمال، وتزيد عليها ضخامة وروعة؛ ولقد أحصى "فيرجسون" نحو ثلاثين معبداً "درافيديا" أي كائناً في الجنوب - كل معبد منها في رأيه لا بد أن يكون قد كلف ما تكلفه كاتدرائية إنجليزية من النفقات(93)؛ واصطنع الجنوب أنماط الشمال بأن جعلوا أمام الدهليز (ويسمونه ماندا بام) (بوابة واسمها جوبورام) ودعموا الدهليز بأعمدة أسرفوا في كثرتها، وراح هذا الجنوب يستخدم في غير تحفظ عشرات من الرموز، من الصليب المعقوف "السواستيكا" ورمز الشمس وعجلة الحياة، إلى شتى ضروب الحيوان المقدس؛ فالثعبان رمز لعودة الروح بالتناسخ لما له من قدرة على تبديل جلده؛ والثور هو المثل الأعلى المرموق باعتباره رمزاً للقوة التناسلية، وعضو الذكورة يمثل تفوق "شيفا" في التناسل، وكثيراً ما كانوا يخلعون صورته على المعبد كله.

ويتألف تصميم البناء في هذه المعابد الجنوبية من ثلاثة عناصر هي : البوابة، والدهليز ذو الأعمدة والبرج (فيمانا) الذي يحتوي على قاعة الاجتماع السياسية أو الحجرة؛ ولو استثنينا حالات قليلة مثل قصر "تيرومالاناياك" في "مادورا" وجدنا كل العمارة في جنوب الهند كهنوتية، ذلك لأن الناس لم يُعنِهم كثيراً أن يبنوا دوراً فخمة لأنفسهم فتوجهوا بفنهم إلى الكهنة والآلهة؛ ولن نجد مثلاً أوضح من هذا نبين به إلا معابد من الأبنية الكثيرة التي أقامها الملوك الشالوكيون وشعبهم؛ ولا يستطيع أن يصف التناسق الجميل الذي تراه في ضريح "إتاجي" في حيدر أباد أو المعبد القائم في "سمناثبور" في إقليم "ميسور"(96) الذي نقشت في صخوره الضخمة الجبارة نقوش رقيقة كأنها الوشى، أو معبد "هويشا ليشوارا" في "هاليبيدا"(97) وهي أيضاً في إقليم وميسور" - أقول لا يستطيع أن يصف التناسق البديع في هذا كله، سوى هندوسي ورع طلق اللسان؛ ويقول "فيرجسون" عن هذا المعبد الأخير "إنه أحد الأبنية التي يتخذها المدافع عن العمارة الهندية حجة تؤيد دفاعه، ثم يضيف إلى ذلك قوله: إن في هذا المعبد "ترى الفن في مزج الخطوط الأفقية بالخطوط الرأسية، وترى تصرف الفنان في التخطيط وفي النور والظل، مما يفوق بكثير أي أثر من آثار الفن القوطي؛ فوقع هذا المعبد في نفس الرائي هو بالضبط ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا منه قط هذه الدرجة من الكمال التي تراها في هاليبيدا"(98).

ولقد عجبنا لهذا الورع الدؤوب الذي في مستطاعه أن يحفر ألفاً وثمانمائة قدم من إفريز في معبد "هاليبيدا" وأن يصور فيها ألفي فيل، كل فيل منها يختلف عن كل ما عداه(99) فماذا نقول في الصبر والشجاعة اللذين استطاعا أن يضطلعا بحفر معبد بأسره من الحجر الأصم؟ ومع ذلك فقد كان هذا عملاً شائعاً لدى صنّاع الهنود، فقد نحتوا في "ممالابورام" على الساحل الشرقي بالقرب من "مدراس" عدة معابد (مما يسمى بادوجا) أجملها معبد" ذارما- راجا- راذا" معناها دير لأسمى الطوائف الدينية، وفي "إلورا"- وهو مكان يحج إليه المتعبدون في حيدر أباد- تنافس البوذيون والجانتيون والهندوس المتمسكون بعقيدتهم الأصلية، في احتقار معابد كبيرة ذات حجر واحد، من صخور الجبال؛ وأفخم هذه المعابد هو الضريح الهندوسي في "كايلاشا"(100) وقد أطلق عليه هذا الاسم نقلاً عن اسم الجنة الأسطورية التي تتبع "شيفا" في جبال الهمالايا؛ فها هنا ترى البناءين قد حفروا في غير كلل مائة قدم في جوف الصخر، ليفرغوا المكان حول الجلمود المطلوب - وكتلته مائتان وخمسون قدماً في الطول ومائة وستون قدماً في العرض - لتحويله إلي معبد، وبعدئذ حفروا الجدران فصيروها أعمدة قوية وتماثيل ونقشاً بارزاً، ثم نقروا جوف الحجر نقراً بالأزاميل حتى أفرغوه، وأسرفوا في زخرفة ذلك الداخل بأعجب ألوان الفنون، وليكن النقش الجداري الثابت الخطوط، والذي يطلق عليه اسم "المحبين"(101) مثلاً لها، وأخيراً عمدوا إلى حفر سلسلة من المُصلَّبات والأديرة عميقة في الصخر على ثلاثة من جوانب المعبد المحفور(102)، كأن ما صنعوه لم يكْف لاستنفاد كل ما يختلج في صدورهم من رغبة في البناء؛ وفي رأي بعض الهندوس(103) أن معبد "كايلاشا" يضارع أية آية من آيات الفن في تاريخه كله.

ومع ذلك فقد كان هذا البناء سخرة كما كانت الأهرامات من قبل، ولا بد أن يكون قد كلف طائفة كبيرة من الناس عرقهم ودماءهم، وأما الذي دأب بإرادته على هذه الأبنية دأباً لم يعرف الفتور، فالنقابات العمالية، أو أصحاب السلطان، لأنهم نثروا في كل إقليم من أقاليم الهند الجنوبية أضرحة جبارة بلغت من كثرة العدد حداً يوقع الحيرة في نفس الدارس أو السائح، حتى لينسى الخصائص القروية التي تميز كل معبد على حدة، إزاء كثرتها وقوتها؛ ففي "باتاداكال" أهدت "الملكة لوكاما هايفي" إحدى زوجات "الملك الشلوكيّ فكراماديتيا الثاني" - أهدت إلى "شيفا" "معبد ثيروباكشا" الذي يعد من أسمى المعابد العظيمة في الهند(104): وفي "تانجور" جنوبي "مدراس" اقتسم "الملك الكوليّ "راجا العظيم" - بعد أن فتح جنوبي الهند كله وجزيرة سيلان - اقتسم ما ظفر به من غنائم مع الإله "شيفا" بأن أقام له معبداً جليلاً صُمِّمَ بناؤه على أساس أن يمثل الرمز التناسلي لذلك الإله ؛ وبالقرب من "تريكبنوبولي" إلى الغرب من تانجور - أقام عُبّاد "فشنو" معبد "شِرِى رانجام" على تل عال، أخص خصائصه المميزة "ماندابام" (قاعة ذات أعمدة كثيرة) على هيئة "قاعة من ذوات الألف عمود" وكل عمود منها كتلة واحدة من الجرانيت، حفر بالنقوش المعقدة؛ وكان الصناع الهندوس لا يزالون ماضين في عملهم ليتمموا بناء هذا المعبد، حين جاءت رصاصات الفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يقاتلون في سبيل امتلاك الهند ففرقتهم، وانتهى بذلك عملهم(106)؛ وعلى مقربة من ذلك المكان - في مادورا - أقام الشقيقان "موتو" و "تيرومالا ناياك" ضريحاً فسيحاً لشيفا، فيه قاعة أخرى بألف عمود وحوض مقدس، وعشر بوابات، منها أربع ترتفع ارتفاعاً هائلاً، وقد نحتت بعدد كبير متشابك من التماثيل؛ وهذه الأجزاء مجتمعة تؤلف منظراً من أشد المناظر وقعاً في النفس مما عساك أن تصادفه في الهند؛ ويحق لنا أن نحكم استدلالاً من هذه النتف الباقية ما كانت عليه العمارة أيام ملوك "فيجاياناجار" من خصوبة فنية واتساع؛ وأخيراً ترى في "رامش فارام" وسط مجموعة الجزائر التي يتكون منها "جسر آدم" الواقع بين الهند وسيلان، أقام براهمة الجنوب خلال خمسة قرون (1200 - 1769 ميلادية) معبداً زُخْرِف محيطه بأروع ما قد تصادفه من أبهاء أو مماش - وطول هذا البهو أربعة آلاف قدم من العُمُد المزدوجة، نحتت نحتاً غاية في الجلال وأريد بها في تصميمها أن تفئ بظل بارد، وأن تمكن من مشاهدة مناظر رائعة للشمس والبحر، لملايين الحجاج الذين يلتمسون سبلهم إليها من مدن بعيدة حتى يومنا هذا لكي يتقدموا بآمالهم وآلامهم خُشَّعاً أمام آلهة لا تعبأ مما لهم من آمال وآلام.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

2- العمارة في "المستعمرات"

سيلان - جاوه - كمبوديا - الخمارسة - ديانتهم - أنكور - سقوط الخمارسة - سيام - بورما

على أن الفن الهندي قد صحب الديانة الهندية في عبورها للمضايق والحدود، حتى بلغا معاً سيلان وجاوه وكمبوديا وسيام وبورما والتبت وحوتان وتركستان ومنغوليا والصين وكوريا واليابان؛ ففي آسيا تخرج الطرق كلها من الهند"(107) فقد استقرت جماعات هندوسية جاءت من وادي الكنج، في جزيرة سيلان في القرن الخامس قبل المسيح؛ وبعد ذلك التاريخ بمائتي عام أرسل أشوكا بابنه وابنته ليحولا أهل تلك الجزيرة إلى البوذية، وعلى الرغم من أن هذه الجزيرة الغاصَّة بسكانها اضطرت إلى مقاومة الغزوات "التامِليّة" خمسة عشر قرناً، فقد استطاعت أن تحتفظ بثقافة خصبة حتى جاء البريطانيون واستولوا عليها سنة 1815. بدأ الفن السنغالي بما يسمى "داجوبات" - والداجوبا ضريح قديم ذو قبة يشبه "أكمة المدافن" عند بوذيي الشمال، ثم تطورت "الداجوبات" حتى أصبحت معابد عظيمة تميز بآثارها العاصمة القديمة "أنوراذابورا" وقد كان مما أنتجه ذلك الفن عدد من تماثيل بوذا تعدّ بين أجمل التماثيل البوذية(108) كما أنتج "تشكيلة" كبيرة من التحف الفنية، ثم بلغ ختامه مؤقتاً حين أقام آخر ملك عظيم حكم سيلان - وهو الملك "شِرِى راجا سِنْغا" - "معبد السِّنْ" في "كاندي"؛ وكان من أثر فقدان البلاد استقلالها أن دب الانحلال في الطبقات العليا، فاختفت من سيلان تلك الرعاية وذلك الذوق اللذان لا بد منهما ليكونا حافزين وضابطين للفنان في عمله (109).

والعجيب أن أعظم المعابد البوذية - وقد يزعم بعض الباحثين أنه أعظم المعابد إطلاقاً في العالم كله(110) - ليس في الهند بل تراه في جاوه؛ ففي القرن الثامن فتحت أسرة "شايلندرا" السومطرية جزيرة جاوه، وأقامت فيها البوذية ديانة رسمية، وأعدت المال اللازم لبناء المعبد الضخم في "بوروبودور" (ومعناها بوذون كثيرون)(111)، والمعبد في ذاته معتدل الحجم غريب التصميم فهو عبارة عن " أكمة للمدافن" صغيرة يعلوها ما يشبه القبة، وتحيط بها اثنتان وسبعون أكيمة رصت حولها في دوائر متحدة المراكز ؛ ولو كان هذا كل شيء لما كانت "بوروبودور" شيئاً مذكوراً؛ أما ما يخلع الجلال على البناء فقاعدته التي تبلغ مساحتها أربعمائة قدم مربعة، فهي مصطبة عظيمة تتألف من سبع درجات تتدرج صغراً كلما علوت معها، وفي كل درجة منها أركان للتماثيل، حتى لقط عَنّ لمن قاموا بنحت التماثيل في "بوروبودور" أن يقيموا تمثال بوذا في هذا الركن أو ذاك أربعمائة وستاً وثلاثين مرة، ولم يكْفِهم كل هذا، فنحتوا في جوانب الدّرَج ثلاثة أميال من النقوش البارزة يصورون بها ما ترويه الأساطير عن مولد صاحب القصيدة ونشأته وإشراق الحقيقة عليه، وأظهروا في كل ذلك مهارة جعلت هذه النقوش البارزة من أبدع مثيلاتها في آسيا(112)؛ وبلغت العمارة الجاوية أوجها في هذا الضريح البوذي الجبار، والمعابد البرهمية المجاورة في "برامبانام"، ثم انحدرت بعدئذ انحداراً سريعاً، فقد كانت جزيرة جاوه حيناً من الدهر قوة بحرية فارتفعت إلى الثروة والترف، ورعت في ظلها كثيراً من الشعراء؛ لكن ما جاءت سنة 1479 حتى أخذ المسلمون يعمرون هذا الفردوس الاستوائي، ومنذ ذلك الحين لم تنتج فناً ذا خطر، ثم وثب فيها الهولنديون سنة 1595، وجعلوا يستولون عليها إقليماً بعد إقليم مدى القرن التالي لذلك التاريخ، حتى بسطوا عليها سلطانهم كاملاً.

ولا يفوق معبد "بوروبودور" إلا معبد هندوسي واحد، وهو أيضاً ليس في الهند، ولو أن هذا المعبد قد طمسته الغابة البعيدة التي اكتنفته بأشجارها مدى قرون عدة، حتى جاء مستكشف فرنسي سنة 1858، وهو يشق لنفسه الطريق خلال الجزء الأعلى من وادي نهر ميكونج، وعندئذ وقع بصره خلال الأشجار والغصون، على منظر بدا له معجزة من المعجزات، إذ رأى معبداً ضخماً يبلغ في تصميم بنائه حداً من الجلال لا يكاد يصدقه العقل؛ رآه قائماً وسط الغابة، تلتف حوله: وتكاد تخفيه أغصان الشجر وأوراقه، وشهد في ذلك اليوم معابد كثيرة كان بعضها قد غطته الأشجار فعلا أو شَقَّته نصفين؛ فالظاهر أن هذا المستكشف قد وصل في أخر لحظة يمكن فيها أن يحول دون انتصار الأشجار الملتفة على هذه الآيات التي أبدعتها يد الإنسان، ولم يؤمن أحد بصدق ما رواه هذا الرحالة "هنري موهو" حتى ذهب إلى المكان غيره من الأوربيين وأيدوا روايته؛ وبعدئذ هبطت بعثة علمية على ذلك المكان الذي قد كان يوماً صومعة مسكونة، وقامت مدرسة بأسرها في باريس، هي "مدرسة الشرق الأقصى" كرست نفسها لرسم هذا البناء المستكشف ودراسته؛ هذا هو "أنجوروات" الذي يعد اليوم أعجوبة من أعاجيب العالم.

كان يسكن الهند الصينية، أو كمبوديا، في نهاية التاريخ المسيحي، قوم أغلبهم من الصينيين، ومنهم فريق من أهل التبت، وكان هؤلاء السكان في جملتهم يسمون بالخمارسة (أو الخمبوجيين)؛ فلما زار "تشيو - نا - خوان" - وكان يسفر لقبلاي خان - عاصمة "خامر" واسمها "انكورثوم"، وجد حكومة قوية تحكم أمة جمعت ثراءها من أرزها وعرقها، ويقول "تشيو " إن ملكهم كانت له خمس زوجات "إحداهن خاصة، والأربع الأخريات يقابلن الجهات الرئيسية الأربع" كما كان له نحو أربعة آلاف محظية يحددن أوضاع إبرة البوصلة على تفصيل أدق(114)؛ وكانت البلاد تزخر بذهبها وحليها، والبحيرة مليئة بزوارق النزهة، وشوارع العاصمة غاصة بالعربات والهوادج ذات الستائر، والفيلة المطهمة، وكان سكانها يقربون من المليون، ومستشفياتهم كانت ملحقة بمعابدهم، ولكل منها جماعتها الخاصة من ممرضات وأطباء(115).

ولئن كان السكان صينيين، فقد كانت ثقافتهم هندية، تقوم دياناتهم على أساس بدائي هو عبادة الثعبان "ناجا" الذي ترى رأسه المروحية أينما وجهت النظر في الفن الكمبودي، وبعدئذ دخل آلهة الهندوسيين الكبار، الذين يكوّنون الثالوث الهندي وهم براهما: وفشنو، وشيفا, دخلوا تلك البلاد عن طريق بورما؛ وفي الوقت نفسه تقريباً جاء بوذا وارتبط عندهم بفشنو وشيفا، وأصبح إلهاً مقرباً عند الخمارسة، وتنبئنا النقوش عن الكميات الهائلة من الأرز والزبد والزيوت النادرة التي كان يقدمها الشعب كل يوم إلى القائمين بخدمة الآلهة(116).

وفي أواخر القرن التاسع, أهدى الخمارسة إلى الإله شيفا أقدم ما بقي لنا من معابدهم - معبد بايون - وهو الآن خراب منفر تكسوه إلى نصفه أنواع من النبات الذي يمسك بجذوره في الجدران فلا يزول عنها، وأما أحجاره التي وضعت بغير ملاط، فقد تباعدت في غضون الألف عام التي انقضت، حتى نتج عن تباعدها مَطٌّ في وجوه براهما وشيفا، على نحو جعلها تبدو مكشِّرة عن أنيابها في ابتسامة صفراء لا تليق بالآلهة، ومن تمثيل هذين الإلهين تكاد تتكوّن الأبراج كلها، وبعد ذلك بثلاثة قرون استخدم العبيد ومن جاء بهم الملوك من أسرى الحرب في بناء "أبحوروات"(117) وهي آية فنية تضارع أجمل الآثار المعمارية عند المصريين أو اليونان أو بناء الكاتدرائيات في أوربا، ويحيط بهذا المعبد فندق كبير طوله اثنا عشر ميلاً، ويَعْبُرُ الخندق جسرٌ مرصوف تحرسه ثعابين الناجا المخيفة نحتت من الحجر، وبعدئذ يجيء جدار مزخرف يحيط بالمعبد، تتلوه أبهاء فسيحة على جدرانها نقوش بارزة تقص من جديد حكايات "الماهابهاراتا" و"رامايانا" ثم بعدئذ يجيء البناء نفسه بما له من جلال، ينهض على رقعة فسيحة، درجة فوق درجة كأنه هرم مدرج، حتى يصل إلى حرم الإله الذي يرتفع مائتي قدم؛ وضخامة الحجم في هذا المعبد لا تقلل من روعة الجمال، بل تتعاون الضخامة مع الجمال فيتكون منهما جلال يروع النفس، ويهز عقل المشاهِد الغربّي هزّاً حتى يتبين في غموض ذلك المجد القديم الذي ظفرت به المدنية الشرقية يوماً؛ فقد يستطيع المشاهد أن يرى بعين الخيال تلك العاصمة وقد زخرت بساكنيها، وحشد العبيد وهم ينحتون ثقال الأحجار ويجرونها ويرفعونها، وطوائف الصناع وهم ينقشون النقوش البارزة وينحتون التماثيل في أناة كأنما يستحيل أن يفلت الزمن من أيديهم قبل أن يفرغوا من عملهم؛ وجماعة الكهنة وهم يخدعون الناس ويُسرّون عن نفوسهم و "زانيات المعبد" (وما زلن مرسومات على الجرانيت) وهن يغوين الناس ويسرِّين عن نفوس الكهنة؛ وهل الطبقة العالية وهم يبنون القصور شبيهة ببناء "فنيان آكا" بما له من "شرفة شرفية" فسيحة؛ ثم يرتفع فوق هؤلاء جميعاً، بمجهود الناس جميعاً، الملوك القساة الأقوياء.

كان الملوك بحاجة إلى كثرة من العبيد، فلم يجدوا بداً من إثارة الحروب الكثيرة، وكان النصر حليفهم غالباً، حتى اقترب القرن الثالث عشر من ختامه - وكان ذلك "في منتصف الطريق" من حياة دانتي - هزمت جيوش سيام هؤلاء الخمارسة، ونهبوا مدنهم، وتركوا معابدهم المتألقة وقصورهم الأنيقة خراباً بلقعاً؛ وترى اليوم قلة من الزائرين يتخللون الأحجار التي تخلخل بنيانها، ويشاهدون كيف دأبت الأشجار في صبر لا ينفد على الضرب بجذورها، أو النفاذ بغصونها في ثنايا الصخور، تنزعها بعضها عن بعض شيئاً فشيئاً، لأن الأحجار ليس فيها ما في الشجر من رغبة تعمل على تحقيقها فتنمو، ويحدثنا "تشيو - تا - خوان" عن الكتب الكثيرة التي كتبها الناس في "أنكور" لكنه لم يبق لنا من هذه المؤلفات صفحة واحدة؛ لأنهم صنعوا ما نصنعه نحن الآن، وهو أنهم كتبوا أفكاراً سريعة الزوال على نسيج سريع الفناء، ومات كل ما قد ظنوا به الخلود؛ إن النقوش البارزة الرائعة تصور الرجال والنساء وقد لبسوا غلالات وشباكاً ليتقوا البعوض والزواحف الثعبانية الملمس، أما الرجال والنساء فقد انحدروا إلى فناء، لا يخلدون إلا على الصخور وأما البعوض والضَّباب فما تزال باقية.

وعلى مقربة من تلك البلاد تقع سيام التي أخذ شعبها - ونصفه من التبت ونصفه الأخر من الصين - بطرد الخمارسة الفاتحين شيئاً فشيئاً وارتقى بمدينة قائمة على أساس من الديانة الهندية والفن الهندي، وبعد أن تغلبت سيام على "كمبوديا" بنى أهلها لأنفسهم عاصمة جديدة، هي "أيوذيا" على نفس الموقع الذي كانت تقوم عليه مدينة الخمارسة القديمة؛ ومن هذا المركز وسعوا من نطاق نفوذهم حتى إذا ما دنا التاريخ من عام 1600، كانت إمبراطوريتهم تشمل جنوبي بورما وكمبوديا وشبه جزيرة الملايو؛ ووصلت تجارتهم إلى الصين شرقاً وإلى أوربا غرباً، وقام فنانوهم بزخرفة المخطوطات، والرسم على الخشب بدهان "اللُّكْ" وإحراق الخزف على نحو ما يفعل الصينيون، والوشي على القماش الحريري الجميل، وكانوا أحياناً ينحتون تماثيل من الطراز الأول ؛ ودار التاريخ دورته التي لا يصدر فيها عن هوى، وإذا بأهل بورما يستولون على "أيوذيا" ويخربونها بكل ما فيها من فنون؛ فابتنى السياميون في عاصمتهم الجديدة "بنكوك" معبداً عظيماً، فيه إسراف في الزخرفة، لكنه على كل حال إسراف لا يخفي جمال تصميمه إخفاء تاماً.

كان أهل بورما من أعظم من شهدت آسيا من بناة للعمارة؛ فقد جاءوا هابطين على هذه الحقول الخصبة من منغوليا والتبت، فوقعوا تحت تأثير الهنود، وأخذوا منذ القرن الخامس ينتجون الفنون في كثرة غزيرة على الطرز البوذية والفشناوية والشيفاوية، فينحتون التماثيل على غرار هذه الأنماط، ويقيمون "أكمات المدافن" التي بلغوا بها ذروتهم في معبد "أناندا" العظيم - وهو أحد المعابد في عاصمتهم القديمة "باجان" التي بلغ عدد معابدها خمسة آلاف؛ لكن "باجان" هذه وقعت فريسة لقبلاي خان فسلبها سلباً، ولبثت الحكومة البورمية مدى خمسمائة عام تنتقل من عاصمة إلى عاصمة؛ فكانت "مندلاي" حيناً من الدهر هي المركز الزاهر للحياة في بورما، ومستقر رجال الفن الذين أنتجوا الآيات الروائع في نواح كثيرة؛ من الوشي وصياغة الحلي إلى بناء القصر الملكي الذي نهض دليلاً على مدى استطاعتهم الفنية في المادة الهزيلة التي كانت تحت أيديهم، وهي الخشب(119)؛ وجاء الإنجليز إذ ساءهم ما عومل به مبشّروهم وتجارهم، فضموا بورما إلى أملاكهم سنة 1886، ونقلوا العاصمة إلى "رانجون"، وهي مدينة تقع في متناول البحرية الإمبراطورية، لتؤدبها إذا وقع فيها شيء من العصيان؛ فشيد البورميون في "رانجون" ضريحاً يعدّ من أبدع ما لديهم من أضرحة، وهو "شوي داجون" المشهور، ذلك المعبد الذهبي الذي يحج إلى قمته الملايين في إثر الملايين من بوذيي بورما كل عام، ولم لا؟ أليس يشتمل هذا المعبد على الشعرات نفسها التي كانت تغطي "شاكيا موني"؟


3- العمارة الإسلامية في الهند

الطراز الأفغاني - الطراز المغولي - دلهي - أجرا - تاج محل


شهد الحكم المغولي آخر مراحل النصر التي بلغتها العمارة الهندية؛ إذ برهن أتباع محمد على أنهم أساتذة في فن البناء حيثما حلوا بقوة سلاحهم - غرناطة، والقاهرة، وأورشليم, وبغداد؛ فقد كان المنتظر من هؤلاء الرجال الأشداء، بعد أن يوطدوا ملكهم في الهند على أركان ثابتة، أن يقيموا على هذه الأرض التي فتحوها مساجد في تأنق مسجد عمر في بيت المقدس، وفي ضخامة مسجد السلطان حسن في القاهرة، وفي رشاقة قصر الحمراء؛ نعم إن الأسرة المالكة "الأفغانية" استخدمت رجال الفن الهنود، واقتبست أسس الفن الهندوسي بل نقلت العمد من معابد الهنود وعدلت فيها بما يجعلها ملائمة لأغراضهم في العمارة، بحيث لم يكن كثير من المساجد سوى معابد هندية أعيد بناؤها لصلاة المسلمين(119)؛ لكن هذه المحاكاة الطبيعية سرعان ما تحولت إلى طراز يمثل النزعة الإسلامية تمثيلاً يبلغ من الدقة حداً يثير فيك العجب أن ترى "تاج محل" في الهند، ولا تراه في فارس أو شمالي إفريقيا أو إسبانيا.

والبناء الذي يمثل مرحلة التطور هو "منار قطب" ؛ وهو جزء من مسجد بدئ في بنائه في دلهي القديمة بأمر من "قطب الدين أيبك" تخليداً لذكرى انتصارات هذا السلطان السفاك للدماء على الهنود، ولقد انتزعت أجزاء سبعة وعشرين معبداً هندياً لتتخذ مادة لبناء هذا المسجد ومنارته(120) ؛ وها قد صمدت المنارة العظيمة لعوامل الجو سبعة قرون - ويبلغ ارتفاعها مائتين وخمسين قدماً، وهي مبنية من الحجر الرملي الأحمر الجميل، والنسب بين أجزائها هي غاية الكمال، ويتوجها المرمر الأبيض في طبقاتها العليا - هاهي ذي بعد سبعة قرون من فعل عوامل الجو، لا تزال آية من آيات الهند في دقة الصناعة وروعة الفن؛ وعلى وجه الجملة كان سلاطين دلهي في شغل بالقتل بحيث لم يبق لهم من وقتهم فراغ طويل ينفقونه في فن العمارة؛ وأكثر الأبنية التي خلفوها لنا مقابر أنشأوها لأنفسهم في حياتهم تذكرهم بأنهم - رغم سلطانهم - ذائقوا الموت كسائر الناس؛ وخير مثال لهذه المقابر، مقبرة "شير شاه" في "ساسيرام" من بلدان "بهِار"(121) فبناؤها شامخ صلب متين، وهو يمثل آخر مراحل الفن الإسلامي القوي قبل أن تدب فيه الطراوة حين أصبحت العمارة حليّاً من الحجر على أيدي ملوك المغول.

وجاء "أكبر" بما له من قدرة على الحياد في مشاعره بحيث يختار من كل ثقافة ما يراه صالحاً، فشج الميل السائد نحو دمج الطرز الإسلامية والهندوسية، وقد تضافرت الأساليب الهندية والفارسية في الآيات الفنية التي شيدها له فنانوه، تضافراً جعل بينها اتساقاً رائعاً، يرمز إلى الامتزاج الضعيف بين عقائد الهندوس وعقائد المسلمين، كما أراد لها "أكبر" أن تمتزج، في الديانة التي ركبها تركيباً من عناصر اختار بعضها من هذه وبعضها الآخر من تلك؛ وأول أثر فني بقي لنا من حكمه، هو القبر الذي شيده قريباً من دلهي لأبيه "هميون"، وفيه يتمثل طراز من الفن خاص به - هو بسيط التخطيط، معتدل الزخارف، لكنه مع ذلك ينبئ برشاقة بنائه عما ستنتهي إليه الطريق في أبنية "شاه جهان" التي تفوقه جمالاً؛ وفي "فتح بورسِكْري" أقام له فنانوه مدينة امتزجت فيها قوة المغول الأوائل كلها برقة الأباطرة المتأخرين فهناك سُلّم يؤدي صعوداً إلى بوابة رائعة بنيت من الحجر الرملي الأحمر، وخلال قوسها الفخم يدخل الداخل إلى قاعة ملئت بآيات الفن الروائع، والبناء الأساسي عبارة عن مسجد، لكن أجمل أجزاء البناء ثلاث مقصورات أعدت لزوجات الإمبراطور المقربات إليه، والقبر المرمري الذي دفن فيه صديقه "سليم شِستي" الحكيم؛ فها هنا بدأ رجال الفن في الهند يُظهرون تلك المهارة في وشي الحجر التي بلغت ذروتها في الستار الموجود في "تاج محل". ولم يسهم "جهان كير" في تاريخ العمارة عند شعبه إلا بقسط ضئيل، أما ابنه "شاه جهان" فقد كاد يجعل من اسمه اسماً يضارع اسم "أكبر" في سطوعه لميله الشديد نحو البناء الجميل؛ فأخذ ينثر ماله نثراً بغير حساب على رجال الفن عنده، على نحو ما نثر "جهان كير" ماله بغير حساب على زوجاته؛ وقد صنع ما صنعه ملوك أوربا الشمالية، في استدعائه لرجال الفن الإيطاليين الذين فاضوا عن حاجة بلادهم، وجعلهم يعلَّمون رجال النحت في بلاده كيف يطعمون المرمر بفسيفساء من الأحجار الكريمة، ذلك الفن الذي أصبح أحد مميزات الزخرفة الهندية في عصره؛ ولم يكن "جهان" مسرفاً في تدينه، ومع ذلك فمسجدان من أجمل مساجد الهند بُنيا في ظل رعايته، وهما مسجد الجمعة في "دلهي" ومسجد اللؤلؤة في "أجرا".

وبنى "جهان" في "دلهي" وفي "أجرا" "حصونا" - وهي مجموعات من القصور الملكية يحيط بها حائط يحميها؛ فقد دفعته الكراهية الشديدة أن يحطم في دلهي القصور القرمزية التي كانت "لأكبر" وأحل محلها أبنية تراها - في أسوأ جوانبها - ضرباً من المرمر المزخرف كأنه قطع من الحلوى، لكنها - من أحسن جوانبها - أصفى جمال بلغته العمارة في أرجاء الأرض جميعاً؛ فها هي ذي "قاعة الاجتماعات العامة" بأسفل حيطانها وقد زخرفت بفسيفساء من الزهر على أرضية من المرمر الأسود، وأسقفها وعمدها وأقواسها المنحوتة في وشي حجري له جمال الشيء النحيل الهزيل، لكنه جمال يعز على التصديق، وهاهنا أيضاً "قاعة الاجتماعات الخاصة" التي صنع سقفها من الفضة والذهب وأعمدتها من مُخَرَّم المرمر، وأقواسها على هيئة نصف الدائرة مدبباً في وسطه، يتألف من أنصاف دوائر صغرى يتخذ كل منها صورة الزهرة، وعرشها المسمى "عرش الطاووس" الذي بات أسطورة يتحدث بها العالم أجمعين، وجداره الذي لا يزال يحمل في تطعيم بالحجر النفيس، بيت الشاعر المسلم المليئة ألفاظه بروح الزهو، ومعناه أن لو كان على الأرض فردوس فهي هاهنا.

ونعود فنستجمع في أذهاننا صورة خافتة "لكنوز الهند" في أيام المغول، حين نسمع أعظم مؤرخي فن العمارة يصف لنا مقر الملك في دلهي، فيقول إنه يشغل مساحة ضعف ما تشغله "الأسكوريال" الفسيحة بالقرب من مدريد، ولقد كان ذلك القصر في زمانه ذاك، وبالقياس إلى أضرابه "أفخم قصر في الشرق، بل ربما كان أجمل قصر في العالم كله" .

وحصن "أجرا" اليوم أنقاض ، وكل ما في وسعنا أن نحزر على سبيل التخمين ما كان عليه بادئ أمره من جلال؛ فهنا وسط الحدائق الكثيرة كان مسجد اللؤلؤة ومسجد الجوهرة وقاعتا الاجتماعات العامة والخاصة وقصر العرش وحمامات الملك وقاعة المرايا وقصور "جهان كير" و "شاه جهان" وقصر الياسمينة لـ "نور جهان" وبرج الياسمينة الذي كان يطل منه "شاه جهان" وهو أسير، يطل منه عَبر "الجمنة" على القبر الذي كان ابتناه لزوجته الحبيبة "ممتاز محل".

ويعرف العالم كله ذلك القبر باسم تلك الزوجة المختصر وهو "تاج محل" وما أكثر مهندسي العمارة الذين يضعون هذا البناء في منزلة تجعله أكمل بناء قائم على وجه الأرض في يومنا هذا؛ وقد وضع تصميمه ثلاثة من رجال الفنون: فارسيّ يدعى "أستاذ عيسى"، وإيطالي يدعى "جيرونيمو فيرونيو" وفرنسي يسمى "أوستن دي بوردو"؛ ولم يُسْهم في فكرته هندي واحد، فهو بناء لا هندوسي من أوله إلى آخره، وهو إسلامي خالص؛ حتى مهرة الصناع جيء ببعضهم من بغداد والآستانة وغيرهما من مراكز المِلَّة الإسلامية(124).

وقد لبث اثنان وعشرون ألفاً من العمال اثنين وعشرين عاماً مسخّرين في بناء "التاج"، وعلى الرغم من أن المرمر جاء إلى "شاه جهان" هدية من "مهراجا جايبور" فقد كلَّف البناء وما حوله ما يساوي اليوم مائتين وثلاثين مليوناً من الريالات الأمريكية - وهو في ذلك العهد مبلغ ضخم من المال والمدخل إلى البناء ملائم للغرض منه ملاءمة لا يضارعها إلا مدخل "القديس بطرس"؛ فإذا ما دخل الداخل خلال سور عالٍ ذي أبراج صغيرة على قمته، التقى بغتة "بالتاج" - وهو قائم على مصطبة من المرمر، يحيط به على الجانبين إطار من المساجد الجميلة والمآذن الشامخة، وفي الجانب الأمامي حدائق فسيحة في وسطها بركة ينعكس القصر على مائها فيكون سحراً يرتعش مع رعشة الموج؛ وكل جزء من البناء مصنوع من المرمر الأبيض والمعادن النفيسة أو الأحجار الكريمة؛ وللبناء اثنا عشر ضلعاً، في أربعة منها بوابات، وعند كل ركن من أركانه مئذنة نحيلة، والسقف قوامه قبة ضخمة ذات برج مُدَبَّب؛ والمدخل الرئيسي الذي كانت تحرسه فيما مضى أبواب من الفضة الخالصة، متاهةٌ للخيال بما فيه من وشي مرمري؛ ونقشت على الجدران آيات من القرآن، كتبت بكريم الجواهر، منها آية تدعو "المتقين" أن يدخلوا "جنة الفردوس" وأما الداخل فبسيط، وربما تعاون اللصوص من أهل البلاد ومن الأوربيين على السواء، على سلب الجواهر التي كانت تزين القبر في كثرة مسرفة، والسور الذهبي المغطى بطبقة من الأحجار الكريمة الذي كان أول الأمر يحيط بالتابوتين الحجريين اللذين كان يرقد فيهما "جهان" وملكته؛ فوضع "أورنجزيب" مكان السور الذهبي ستاراً ثُمانيَّ الأضلاع من مرمر يكاد يشف عما وراءه، والستار منقوش بزخرفة رقيقة من "الرخام ذي العروق" نقشاً هو من المعجزات؛ حتى ليبدو لبعض الزائرين أن جمال هذا الستار لم يفُقْه جمال في كل ما أنتجه الإنسان من آثار فنية صغيرة.

وليس هذا البناء أفخم الأبنية، ولكنه أجملها جميعاً؛ فإذا ما بعدت عنه قليلاً بحيث تخفى عليك تفصيلاته الرقيقة، لم يبهرك بعظمته، لكنك تحس له في نفسك نشوة؛ ولا ينكشف لك كماله الذي لا يتناسب مع حجمه إلا إذا دنوت منه ونظرت إليه عن كثب، إننا إذ نرى في عصرنا هذا الذي يتميز بالسرعة، أبنية ضخمة من ذوات الطوابق المائة يكمل بناؤها في عام أو عامين، ثم نتذكر أن اثنين وعشرين ألفاً من العمال ظلوا يكدّون اثنين وعشرين عاماً في إقامة هذا القبر الصغير الذي لا يكاد يبلغ ارتفاعه مائة قدم، فإننا نحسّ عندئذ بعض الإحساس، الفرق بين الصناعة والفن؛ فربما كانت قوة العزيمة الكامنة في تصور إقامة بناء مثل "تاج محل" أعظم وأعمق من قوة العزيمة التي نصف بها أمجد الفاتحين؛ ولو كان الزمن بصيراً بما يفعل، لأبى على كل شيء قبل أن ينال من "التاج" ليبقيه شاهداً على سمو النفس الإنسانية سمواً تمازجه الشوائب، لعل هذا السمو فيها يكون عزاء لآخر من تشهد الأرض من بني الإنسان.


4- العمارة الهندية والمدنية

انهيار الفن الهندي - الموازنة بين العمارة الهندوسية والعمارة الإسلامية - نظرة عامة إلى المدنية الهندية


على الرغم من الستار الذي تم على يدي "أورنجزيب" فقد كان هذا الرجل عثرة نكداء في حظ المغول والفن الهندي، إذ حفزه التعصب الديني الضيق الأفق إلى أن ينصرف بكل نفسه إلى ديانة بعينها لا يسمح بغيرها إلى جانبها، ولذا فلم تر عيناه إلا وثنية وغروراً؛ وكان "شاه جهان" من قبل قد حرم إقامة المعابد الهندوسية(127)؛ ولم يكتف "أورنجزيب" باستمرار ذلك التحريم بل أضاف إلى ذلك شحاً في إعانة العمارة الإسلامية، حتى تضاءلت هي الأخرى تحت سلطانه؛ فلما مات، تبعه الفن الهندي إلى قبره فثوى معه.

إذا ما تأملنا العمارة الهندية باستعراضنا إياها استعراضاً موجزاً يعيد لنا سابق مراحلها، ألفيناها تنطوي على موضوعين، أحدهما فيه صلابة الرجولة والآخر فيه طراوة الأنوثة، أحدهما هندوسي والآخر إسلامي، وحول هذين المحورين تدور العمارة على اختلاف وجوهها كأنها السمفونية المختلفة النغمات؛ ولما كانت أشهر السمفونيات تبدأ بضربات قوية كضربات المطرقة تثير الانتباه اليقظ في الأسماع، ثم سرعان ما يتلوها سيل متدفق من نغمات تبلغ من الرقة حدها الأقصى، كذلك ترى في العمارة الهندية بداية مهيبة تجلت فيها العبقرية الهندسية، وهي آثار "بوذ- جايا" و "بهوفانشوارا" و "مادورا" و "تانجور" ثم يتبعها الطراز المغولي بما فيه من رشاقة ونغم، كالآثار التي في "فتح بورسِكْري" و"دلهي" و "أجرا"، ويظل هذان المحوران يمتزجان في اشتباك مخلوط حتى النهاية؛ لقد قيل عن المغول إنهم شيدوا كما تُشَيِّد العمالقة، ثم ختموا بناءهم بصناعة الصائغين الرقيقة، لكن هذا القول أصح انطباقاً على العمارة الهندية بصفة عامة؛ ذلك لأن الهندوس بنوا كما تبني العمالقة، ثم جاء المغول فختموا المطاف برقة الصائغين؛ فالعمارة الهندوسية تستوقف انتباهنا بضخامتها، والعمارة الإسلامية تستوقف أنظارنا بتفصيلاتها؛ فللأولى جلال القوة، وللثانية كمال الجمال؛ كان للهندوس عاطفة وخصوبة، وللمسلمين ذوق وكبح لجماح نفوسهم، ملأ الهندوسيُّ مبانيه بكثرة زاخرة من التماثيل حتى ليتردد الإنسان أيضع تلك المباني في باب العمارة أم في باب النحت، وكره المسلم تشخيص الأجسام، فحصر نفسه في الزخرفة الزهرية والهندسية، الهندوس هم للهند بمثابة رجال الفن في العصور الوسطى، الذين جمعوا في أنفسهم فني النحت والعمارة، والمسلمون بمثابة الدخيلين في عالم الفن الذين جاءوا في عصر النهضة فأفاضوا؛ وعلى وجه الجملة، كان الطراز الهندوسي أرفع سماكاً بمقدار ما يسمو الجلال على الجمال، وإذا ما عاودنا التفكير في الموازنة بين الفنين، بعد أن يزول عن أنفسنا وقع النظرة الأولى، تبين لنا أن "حصن دلهي" و "تاج محل" بالقياس إلى "أنكور" و "بوروبودور" هما كالقصائد الوجدانية الجميلة بالقياس إلى المسرحيات العميقة- مثل بترارك بالقياس إلى دانتى، أو كيتس بالقياس إلى شكسبير، أو سافو بالقياس إلى سوفوكليز، أحد الفنين تعبير رشيق من وجهة نظر جزئية عن نفوس أفراد جادت حظوظهم، وأما الآخر فتعبير قوي كامل عن روح جنس بأسره.

ومن ثم وجب علينا أن نختم هذا العرض الموجز بما بدأناه به، وهو الاعتراف بأنه لا يستطيع أن يقدر فن الهند كل قدره، أو أن يكتب عنه كتابة تعفو عن نقائصه، إلا هندوسي؛ فهذا الفن المقرب إلى نفوسهم، الذي تملؤه الزخرفة إلى حد الإسراف؛ وتشتبك أجزاؤه إلى حد التعقيد، قد يبدو لعين الأوربي الذي نشأ على قواعد يونانية أرستقراطية من الاعتدال والبساطة، قريباً من الفن البدائي الهمجي؛ لكن هذه الكلمة الأخيرة هي نفسها الصفة التي استعملها "جوته" صاحب النزعة الكلاسيكية، حين ازورت نفسه عن كاتدرائية ستراسبورج، والطراز القوطي؛ فهي تعبر عن رد الفعل العقلي للوجدان، والتدليل المنطقي للدين؛ لا يستطيع أن يشعر بجلال المعابد الهندوسية إلا هندوسي مؤمن، لأن هذه المعابد لم تشيد لتكون صورة معبرة عن الجمال وكفى، بل شيدت لتكون حافزاً على التقوى، وأساساً للإيمان، ولا يستطيع أحد منا أن يفهم الهند إلا أهل عصورنا الوسطى- أمثال "جيوتو" و "دانتي".

على هذا الأساس وحده ينبغي أن ننظر إلى المدنية الهندية- أعني على أساس أنها تعبير عن نفوس شعب "وسيط" اعتبر الديانة أعمق من العلم، ويكفيها لتكون أعمق منه، أن سلم منذ البداية بالجهل البشري الذي لازم الإنسان منذ الأزل، وبغرور الإنسان قدرته؛ في هذه التقوى يكمن ضعف الهندوسي وتكمن قوته على السواء: فيه تكمن خرافته ووداعته، ويكمن ميله إلى الانطواء على نفسه ونفاذ بصيرته؛ ويكمن تأخره وعمقه، ويكمن ضعفه في القتال وبراعته في الفنون؛ ولا شك أن مناخ بلاده قد أثر في عقيدته الدينية وتعاون كلاهما على إضعافه؛ ولهذا استسلم في يأس المؤمن ببطش القضاء، للآريين والهون والمسلمين والأوربيين، ولقد عاقبه التاريخ على إهماله للعلم؛ فلما أخذت مدافع "كلايف" المتفوقة على أسلحتهم، تطيح بالجيش الأهلي في معركة بلاسي (1757) كان في قصفها إعلانٌ بالثورة الصناعية، وسنشهد في عصرنا تلك الثورة، وقد أصابت نجاحاً في الهند كما وُفِّقَتْ في تسجيل إرادتها وفرض طابعها على إنجلترا وأمريكا وألمانيا وروسيا واليابان، فسيكون للهند كذلك رأسماليتها واشتراكيتها، وسيكون فيها أصحاب الملايين وسكان الخرائب الوبيئة؛ لقد أُسدل ستار على المدنية الهندية القديمة، إذ أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة حين جاءها البريطانيون.