قصة الحضارة - ول ديورانت - ك 2 ج 19

من معرفة المصادر

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثاني: الهند وجيرانها

الباب التاسع عشر: الحياة العقلية

الفصل الأول: العلم الهندي

أصوله الدينية - الفلكيون - التفكير الرياضي - الأعداد "العربية" - النظام العشري - الجبر - الهندسة - الطبيعة - الكيمياء -علم وظائف الأعضاء - الطب الفيدي - الأطباء الجراحون - البنج - التطعيم - التنويم


جهود الهند في العلم قديمة جداً وحديثة جداً في آن معاً؛ فهي حديثة إذا نظرنا إلى العلم باعتباره بحثاً مستقلاً دنيوياً، وهي قديمة إذا نظرنا إليه باعتباره مشغلة فرعية من مشاغل الكهنة؛ ولما كان الدين هو لب الحياة الهندية وصميمها، فإن العلوم التي كان من شأنها أن تعاون الدين هي التي سبقت غيرها بالرعاية والنمو: فالفلك قد نشأ من عبادة الأجرام السماوية ومشاهدة حركاتها لتحديد أيام الأعياد والقرابين؛ ونشأ النحو وعلم اللغة عن الرغبة الملحة بأن تكون كل صلاة وكل صيغة دينية، صحيحة في تركيبها وفي مخارج أصواتها، على الرغم من أنها تقال أو تكتب بلغة ميتة(1) فقد كان علماء الهند - كما كانت الحال في عصورنا الوسطى - هم كهنتها، بكل ما في ذلك من خير ومن شر. نشأ علم الفلك عن التنجيم نشأة غير مقصودة، ثم أخذ رويداً رويداً ينفض عن نفسه الأغلال في ظل اليونان؛ وأقدم الرسائل الفلكية - وهي السِدْ ذانتا حوالي 425 ق.م - كانت قائمة على أساس العلم اليوناني(2) حتى لقد اعترف "فارهاميرا" الذي أطلق على مؤلفه الموسوعي اسماً له مغزاه إذ أطلق عليه "مجموعة كاملة للتنجيم الطبيعي" - اعترف صراحة باعتماده على اليونان، وحث "آريا بهاتا"- وهو أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود - في قصائد منظومة موضوعات مثل المعادلات الرباعية والجيب (في حساب المثلثات) وقيمة النسبة التقريبية المستعملة في استخراج مساحة الدائرة. كما علل الكسوف والخسوف والاعتدالين والانقلابين (في حركة الأرض حول الشمس) وأعلن عن كروية الأرض ودورتها اليومية حول محورها، وجاء ما يأتي فيما كتبه سابقاً لعلم النهضة الأوربية سبقاً جريئاً : "إن عالم النجوم ثابت، والأرض في دورانها هي التي تحدث كل يوم ظهور الكواكب والنجوم من الشرق واختفاءها في الغرب"(4) وجاء بعده خلفه المشهور "براهما جوبتا" فنسق المعلومات الفلكية في الهند، ولو أنه أعاق تقدم الفلك هناك برفضه لنظرية "آريا بهاتا" الخاصة بدوران الأرض، هؤلاء الرجال وأتباعهم هم الذين لاءموا بين حاجات الهنود والتقسيم البابلي للسماء إلى أبراج، وهم الذين قسموا العام اثني عشر شهراً، كل شهر منها ثلاثون يوماً، وكل يوم ثلاثون ساعة، وكانوا يضيفون شهراً زائداً كل خمسة أعوام، وحسبوا بدقة تستوقف النظر قطر القمر وخسوف الشمس، وموضع القطبين ومواضع النجوم الرئيسية ودورانها(5)، وشرحوا نظرية الجاذبية- ولو أنهم لم يصلوا إلى قانونها- عندما كتبوا في "سِدْ ذانت" : "إن الأرض تجذب إليها كل شيء بما لها من قوة جاذبة"(6) ولكي يحسبوا هذه العمليات المعقدة ، فكر الهنود في حساب رياضي يفوق ما كان لليونان في كل شيء إلا الهندسة(7)، ولذا فان من أهم ما ورثناه عن الشرق الأعداد "العربية" والنظام العشري، وقد جاءنا كلاهما من الهند على أيدي العرب؛ فإن ما يسمى خطأ بالأعداد "العربية" نراها منقوشة على "صخرة المراسيم" التي خلفها "أشوكا" (256 ق.م)، أي قبل استخدامها في الكتابات العربية بألف عام؛ يقول "لابلاس" العظيم النابغ :

"إنها الهندية هي التي علمتنا الطريقة العبقرية في التعبير عن كافة الأعداد برموز عشرة، لكل منها قيمة تستمد من مكانة في العدد فضلاً عن قيمته الذاتية المطلقة، وإنها لفكرة عميقة هامة تبدو لنا اليوم من البساطة بحيث ننسى ما هي جديرة به من خطر؛ لكن بساطتها هذه، والسهولة العظيمة التي أدخلتها في العمليات الحسابية كلها، قد جعلتا من علم الحساب عندنا مخترعاً لعظمة هذا الابتكار إذا ما تذكرنا أنه غاب عن عبقرية أرشميديس وأبولونيوس، وهما من أعظم من أنجبت العصور القديمة من رجال"(8). وعرف "آريا بهاتا" و "براهما جوبتا" النظام العشري قبل ظهوره في كتابات العرب والسوريين بزمن طويل؛ وأخذته الصين عن المبشرين البوذيين ويظهر أن محمداً بن موسى الخوارزمي- وهو أعظم رياضي في عصره (مات حوالي 850 م)- قد أدخله في بغداد؛ أما الصفر فأقدم استخدام له معروف لنا في آسيا وأوربا هو في وثيقة عربية تاريخها 873 م. أي قبل أول ظهور له- فيما نعلم- في الهند بثلاثة أعوام؛ لكن الرأي مجمع على أن العرب قد استعاروا الصفر أيضاً من الهند(9)؛ هكذا ترى أكثر الأعداد تواضعاً وأكبرها نفعاً كان هدية من الهدايا الرقيقة التي قدمتها الهند لسائر البشر. وتقدم الجبر عند الهنود وعند اليونان دون أن يأخذ فريق عن فريق فيما يظهر لكن احتفاظنا باسمه العربي (الجبر كلمة عربية معناها ملاءمة التركيب) يدل على أن العلم به قد أتى إلى أوربا الغربية من العرب- وهذا معناه أنه جاء إليها من الهند لا من اليونان(11)، وأبطال هذا الميدان من الهنود هم- كما في علم الفلك- آريا بهاتا وبراهما جوبتا وبهاسكارا؛ ويظهر أن أخيرهم (ولد سنة 1114 م) قد ابتكر العلامة الجذرية وكثيراً غيرها من الرموز الجبرية(12)، وهؤلاء الرجال هم الذين ابتكروا فكرة الكمية السلبية التي كان يستحيل الجبر بغيرها(13)، وصاغوا القواعد التي يمكن بها إيجاد التباديل والتوافيق، وحسبوا الجذر التربيعي للعدد 2، وحلوا في القرن الثامن الميلادي معادلات غير متعينة من الدرجة الثانية، كانت تجهلها أوربا حتى أيام "يولر" بعد ذلك بألف عام(14)، ولقد صاغوا علمهم هذا في قالب شعري، وخلعوا على مسائل الرياضة رشاقة تميز العصر الذهبي في تاريخ الهند، وهناك مثلين يوضحان الجبر في صوره البسيطة عند الهنود:

"هناك خلية من النحل، استقر خمسها على زهرة كادامبا، وهبط ثلثها على زهرة سلنذرة، وطار ثلاثة أمثال الفرق بين هذين العددين إلى زهر الكوتاجا، وظلت نحلة واحدة- وهي كل ما تبقى- حائمة في الهواء فأنبئيني أيتها المرأة الفاتنة عدد النحل كله... لقد اشتريت لك يا حبيبتي هذه الياقوتات الثماني، والزمردات العشر، واللؤلؤات المائة، التي ترينها في قرطك، واشتريتها بأثمان متساوية، وكان مجموع أثمان الأنواع الثلاثة من الأحجار الكريمة أقل من نصف المائة بثلاثة، فأنبئيني ثمن كل منها أيتها المرأة المجدودة"(15). غير أن الهنود لم يكونوا على هذه الدرجة من التوفيق في الهندسة؛ ولو أن الكهنة استطاعوا في قياس مذابح القرابين وبنائها أن يصوغوا النظرية الفيثاغورسية (التي مؤداها أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين) قبل ميلاد المسيح ببضع مئات من السنين(16) وكذلك استطاع "آريا بهاتا"- وقد يكون متأثراً باليونان في ذلك- أن يحسب مساحة المثلث والمعَّين والدائرة وأن يقدر قيمة النسبة التقريبية ( في حساب النسبة بين طول قطر الدائرة ومحيطها) بـ 1416ر3- وهو رقم لم يعادله في دقة الحساب رقم آخر حتى عهد "بير باخ" (1423-61) في أوربا(17)؛ وكان "بهاسكارا" سباقاً إلى حساب التفاضل، إذ فكر فيه على نحو تقريبي، وأعد "آريا بهاتا" قائمة بحساب الجيب، وجاء في كتاب "سوريا سِدْ ذانتا" مجموعة منسقة في حساب المثلثات، كانت أرفع مستوى من كل ما عرفه اليونان في هذا الباب(18).

ولدى الهنود مدرستان فكريتان لكل منهما نظرية فيزيائية شبيهة بما كان لليونان في ذلك شبهاً يوحي بما كان بين البلدين من اتصال؛ مذهب "كانادا" مؤسس الفلسفة الفايشيشيكية، إلى أن العالم مؤلف من ذرات يبلغ عدد أنواعها عدد العناصر المختلفة؛ وأما الجانتيون فقد ازدادوا شبهاً بديمقريطس في مذهبهم بأن كافة الذرات من نوع واحد، تحدث آثاراً مختلفة بسبب الاختلاف في طريقة تركيبها(19)؛ ويرى "كانادا" أن الضوء والحرارة ظاهرتان مختلفتان لعنصر واحد؛ ويذهب "يودايانا" إلى أن جميع الحرارة مصدرها الشمس؛ ويفسر "فاشاسباتي"- مثل نيوتن- الضوء بأنه مؤلف من ذرات صغيرة تنبعث من الأشياء وتطرق العين(20)؛ وتجد في رسائل الهنود التي ألفوها في الموسيقى تحليلاً وحساباً رياضياً للنغمات الموسيقية وأطوال موجاتها، وكذلك ارتفاع النغمة، يتناسب عكسياً مع طول الوتر فيما بين نقطة اتصاله ونقطة لمسه؛ وهنالك ما يدل على أن البحارة الهنود في القرون الأولى بعد الميلاد، قد استعملوا بوصلة صنعوها من سمكة جديدة تسبح في إناء من الزيت وتشير إلى الشمال(21). وتقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين: الطب والصناعة؛ فقد أسلفنا بعض القول في براعتهم الكيماوية في صب الحديد في الهند القديمة، وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور "جوبتا" ، حينما كان ُينظر إلى الهند- حتى من روما القيصرية- على أنها أمهر الأمم جميعاً في صناعات كيماوية مثل الصباغة والدبغ وصناعة الصابون والزجاج والأسمنت؛ وفي تاريخ بلغ من القدم القرن الثاني قبل الميلاد، خصص "ناجارجونا" كتاباً بأكمله للبحث في الزئبق؛ فلما أن كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية، فكانوا أساتذة في التكليس والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة، وخلط المساحيق المنومة والمخدرة، وتحضير الأملاح المعدنية، والمركبات والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند القديمة حداً من الكمال لم تعرفه أوربا إلا في أيامنا هذه، ويقال أن الملك يورس ، قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للإسكندر ثلاثين رطلاً من الصلب(22)، إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل المسلمون كثيراً مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية إلى الشرق الأدنى وأوربا؛ فمثلاً نقل العرب عن الفرس، وكان الفرس قد نقلوا بدروهم عن الهند سر صناعة السيوف "الدمشقية"(22أ). وكان التشريح وعلم الوظائف الأعضاء- مثل بعض الجوانب الكيمياء- نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد- رغم أنه عهد يغوص في القدم، كان الأطباء الهنود يعرفون خصائص الأربطة العضلية ورتق العظام والجهاز اللمفاوي، والضفائر العصبية واللفائف والأنسجة الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وأنواع من العضلات أكثر مما نستطيع أن نتبينه من جثة حديثة(23).

وقد زلَّ أطباء الهند في العصر السابق لميلاد المسيح في نفس الخطأ الذي وقع فيه أرسطو حين تصور القلب مركز الشعور وأداته، وظنوا أن الأعصاب تصعد من القلب وتهبط إليه، لكنهم فهموا عمليات الهضم فهماً يستوقف النظر بدقته- أعني الوظائف المختلفة للعصارات المعدية، وتحول الكيموس إلى كيلوس، ثم تحول الكيلوس إلى دم(24)، وسبق "أتريا" ، "وايزمان" بألفين وأربعمائة عام حين ذهب (حوالي 500 ق.م) إلى أن نطفة الوالد مستقلة وكانوا يحبذون فحص الرجال للتحقق من توافر عناصر الرجولة فيهم قبل إقدامهم على الزواج؛ وجاء في تشريع "مانو" تحذير من عقد الزواج بين أشخاص مصابين بالسل أو الصرع أو سوء الهضم المزمن أو البواسير أو شقشقة اللسان(26) وكان مما فكرت فيه مدارس الطب الهندية سنة 500 ق.م، ضبط النسل على آخر طراز يأخذ به رجال اللاهوت، وهو يقوم على نظرية هي أن الحمل مستحيل في مدى اثني عشر يوماً من موعد الحيض(27)؛ ووصفوا تطور الجنين وصفاً فيه كثيراً جداً من الدقة ، وكان مما لوحظ في هذا الصدد أن جنس الجنين لا يتعين إلا بعد مدة، وزعموا أن جنس الجنين في بعض الحالات يمكن التأثير فيه بفعل الطعام أو العقاقير(28). وتبدأ مدونات الطب الهندي بكتاب "أترافا- فيدا" ، ففي هذا الكتاب تجد قائمة بأمراض مقرونة بأعراضها، لكنك تجدها محاطة بكثير جداً من السحر والتعزيم؛ فقد نشأ الطب ذيلاً للسحر؛ فالقائم بالعلاج كان يدرس ويستخدم وسائل جثمانية لشفاء المريض، على أساس أن هذه تساعد على نجاح ما يكتبه له من صيغ روحانية؛ ثم أخذ على مر الزمن يزيد من اعتماده على الوسائل الدنيوية، ماضياً إلى جواز ذلك في تعاويذه السحرية لتكون هذه معينة لتلك من الوجهة النفسية، كما نفعل اليوم بتشجيعنا للمريض. وفي ذيل كتاب "أترافا- فيدا" ملحق يسمى "أجو- فيدا" (ومعناها علم إطالة العمر)؛ ويذهب هذا الطب الهندي القديم إلى أن المرض يسببه اضطراب في وحد من العناصر الأربعة (الهواء والماء والبلغم والدم) وطرائق العلاج هي الأعشاب والتمائم السحرية؛ ولا يزال كثير من طرائق الطب القديم في وصف الأمراض وعلاجها مأخوذاً به في الهند اليوم، وإن ذلك ليصيب من النجاح أحياناً ما يثير الغيرة في صدور الأطباء الغربيين؛ وتجد في كتاب "رجْ- فيدا" نحو ألف اسم من أسماء هذه الأعشاب، وهو يحبذ الماء على أنه خير علاج لمعظم الأمراض؛ على أن الأطباء والجراحين حتى في العهد الفيدي كانوا يتميزون بما يفرق بينهم وبين المعالجين بالسحر؛ وكانوا يسكنون منازل تحيط بها حدائق يستنبتون فيها الأعشاب الطبية(29). وأعظم اسمين في الطب الهندي هما "سوشروتا" في القرن الخامس قبل الميلاد و "شاراكا" في القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد كتب "سوشروتا"- وكان أستاذا للطب في جامعة بنارس، باللغة السنسكريتية مجموعة من أوصاف الأمراض وطرائق علاجها، وكان قد ورث العلم بها من معمله "ذانوانتاري" ؛ فبحث في كتابه بإطناب في الجراحة والتوليد والطعام الصحي والاستحمام والعقاقير وتغذية الرضع والعناية بهم والتربية الطبية(30)، وأما "شاركا" فقد أنشأ "سامهيتا" (ومعناها موسوعة) تشمل علم الطب، وهي لا تزال مأخوذاً بها في الهند(31)؛ وبث في أتباعه فكرة عن مهنتهم كادت تقرب من فكرة أبقراط : "لا ينبغي أن تعالجوا مرضاكم ابتغاء منفعة لأنفسكم، ولا إشباعاً لشهوة كافة ما كانت من شهوات الكسب الدنيوية، بل عالجوهم من أجل غاية واحدة هي التخفيف عن الإنسانية المعذبة، بهذا تفقدون سائر الناس"(32) ويتلو هذين الاسمين التماعاً في تاريخ الطب الهندي اسم "فاجبهاتا" (625 م) الذي أعد موسوعة طبية نثراً ونظماً، ثم اسم "بهافامِسْراً" (1550 م) الذي جاء في كتابة الضخم عن التشريح ووظائف الأعضاء والطب، ذكر الدورة الدموية قبل أن يذكرها "هارفي" بمائة عام، ووصف الزئبق علاجاً لذلك المرض الجديد- مرض الزهري- الذي كان من عهد قريب مع البرتغاليين، جزءاً من التراث الذي خلّفته أوربا للهند(33). وصف "سوشوترا" كثيراً من العمليات الجراحية- الماء في العين، والفتق وإخراج الحصاة من المثانة، وبقْر الأمهات عن الأجنة وغير ذلك، كما ذكر إحدى وعشرين ومائة أداة من أدوات الجراحة منها المشارط والمسابير والملاقط والقثاطير ومناظير القُبُل والدُّبرُ(34)، وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، جعل يدافع عن ضرورة ذلك في تدريب الجراحين؛ وكان أول من رقع أذناً جريحة بقطع من الجلد اقتطعها من أجزاء أخرى من الجسم، وعنه وعن أتباعه من الهنود أخذ الطب الحديث عملية تقويم الأنف(35)؛ ويقول "جارِسُنْ": "لقد أجرى قدماء الهنود كل العمليات الجراحية الكبرى تقريباً، ما عدا عملية ربط الشرايين"(36)؛ فقد بتروا الأطراف، وأجروا الجراحات في البطن، وجبروا كسور العظام، وأزالوا البواسير؛ وقَعَّد "سوشوترا" القواعد الدقيقة لإجراء الجراحة، ويعد اقتراحه بتعقيم الجرح بالتبخير أول ما نعرفه من جهود في وسائل التطهير أثناء الجراحة(37)؛ ويذكر لنا "سوشوترا" و "شاراكا" كلاهما فوائد أنواع من الشراب الطبي في تخدير الجسم عند الألم، وحدث في سنة 927 م أن قام جراحان بتربنة الجمجمة لملك هندي، فخدره عن الجراحة بفعل عقار يسمى "ساموهيني" .

وأوصى "سوشوترا" بأن تتبع في تشخيص الأمراض التي أحصى منها ألفاً ومائة وعشرين، طريقة النظر بالمنظار وطريقتا جس النظر والتسمع بالأذن(40) وقد جاء وصف لجسّ النبض في رسالة تاريخها 1300م(41)؛ وكان تحليل البول طريقة مستحسنة في تشخيص الأمراض؛ حتى لقد اشتهر أطباء التبت بقدرتهم على شفاء أي مريض دون النظر في أي شئ يتعلق به ما عدا بوله(42)؛ وكان العلاج الطبي في الهند في عهد يوان شوانج، يبدأ بصيام مداه سبعة أيام، وكثيراً ما كان يشفى المريض في هذه الفترة ، فإذا بقى المريض لجئوا بعدئذ إلى استخدام العقاقير(43) لكنهم لم يكونوا يسرفون في استخدام العقاقير حتى في أمثال هذه الحالات، إذ كان معظم اعتمادهم على تدبير الطعام الملائم والاستحمام والحقن الشرجية والاستنشاق والحقن في مجاري البول وإخراج الدم بدود العلق أو بالكؤوس(44)، وكان لأطباء الهنود شهرة خاصة في تكوين ترياقات السموم، ويزالون يفوقون الأطباء الأوربيين في علاج عضة الثعبان(45)؛ ولقد عرفت الهند التطعيم منذ سنة 550 م ، مع أن أوربا لم تعرفه إلا في القرن الثامن عشر، ذلك لو حكمنا من نص يعزى إلى "ذانوانتاري" وهو طبيب من أقدم أطباء الهنود، وهذا هو: "خذ السائل من البثور التي تراها على ضرع البقرة ... خذه على سنان المشرط، ثم طعم به الأذرعة بين الأكتاف والمرافق، حتى يظهر الدم؛ عندئذ يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلاطه حمى الجدري"(46) ويعتقد الأطباء الأوربيون المحدثون أن التفرقة بين الطبقات تفرقه تعزل بعضها عن بعض، منشؤها إيمان عند البراهمة بوجود عوامل خفية في نقل الأمراض؛ وكثير من قوانين الصحة التي أوصى بها "سوشوترا" و "مانو" تسلم تسليماً- فيما يظهر- بما نسميه نحن المحدثون الذين نحب الأسماء الجديدة نطلقها على ما هو قديم، أقول إنها تسلم بما نسميه نحن المحدثون بنظرية المرض عن طريق الجراثيم(47)؛ ويبدو لنا أن التنويم كوسيلة للعلاج قد نشأ عند


الهنود الذين كثيراً ما كونا ينقلون مرضاهم إلى المعابد لمعالجتهم بالإيحاء التنويمي أو "نعاس المعبد" كما كان يحدث في مصر واليونان(48) والأطباء الإنجليز الذين أدخلوا طريقة العلاج بالتنويم في إنجلترا- وهم "بريد" و"ازديل" و"إِليوتسُن" "ولاشك في أن ما أوحى لهم بآرائهم تلك، وببعض خبرتهم، هو اتصالهم بالهند"(49). فالطب الهندي بصفة عامة قد تطور تطوراً سريعاً في العهدين الفيدي والبوذي، ثم أعقب ذلك قرون سار فيه التقدم بخطوات الوئيد الحذر؛ ولسنا ندري كم يدين "أتريا" و "ذانوانتاري" و "سوشوترا" لليونان، وكم تدين اليونان لهم؛ يقول "جارسن" إنه في أيام الإسكندر "كان لأطباء الهنود وجراحيهم شهرة- هم جديرون بها- بما يتميزون به من تفوق في العلم والمهارة في العمل" ، وحتى أرسطو نفسه- في رأي طائفة من الباحثين- مدين لهم(50) وكذلك قل في الفرس والعرب، فمن العسير أن تقطع برأي في مدى ما أخذه الطب الهندي من بغداد، ومن الطب البابلي في الشرق الأدنى عن طريق بغداد؛ فمن جهة ترى بعض طرائق العلاج مثل الأفيون والزئبق، وبعض وسائل الكشف عن حقيقة المرض مثل جس النبض، قد جاءت إلى الهند من فارس فيما يظهر؛ لكنك من جهة أخرى ترى الفرس والعرب قد ترجموا إلى لغتيهما في القرن الثامن الميلادي موسوعتي "سوشوترا" و "شراكا" اللتين كانتا قد مضى عليهما ألف عام(51) ولقد اعترف الخليفة هارون الرشيد بالتفوق العلمي والطبي للهنود، واستدعى الأطباء الهنود لتنظيم المستشفيات ومدارس الطب في بغداد(52) ؛ وينتهي "لورد آمِتهِل" إلى نتيجة هي أن أوربا الوسيطة والحديثة مدينة بعلمها الطبي للعرب بطريق مباشر، وللهند عن طريق العرب(53)؛ ولعل هذا العلم الذي هو أشرف العلوم وأبعدها عن اليقين، قد نشأ في بلاد مختلفة في وقت واحد تقريباً، ثم جعل يتطور بما كان بين الأمم المتعاصرة في سومر ومصر والهند من صلات وتبادل فكري.


الفصل الثاني: الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة

قِدَمْ الفلسفة الهندية - أهميتها - أعلامها - ألوانها - مذهب القدماء - مزاعم الفلسفة الهندية


إن تفوق الهند أوضح في الفلسفة منه في الطب؛ ولو أن أصول الأشياء هاهنا أيضا، ينسدل عليها ستار يخفيها وكل نتيجة نصل إليها إن هي إلا ضرب من الفروض؛ فبعض كتب "يوبانشاد" أقدم من كل ما بقي لنا من الفلسفة اليونانية، ويظهر أن فيثاغورس وبارمنيدس وأفلاطون قد تأثروا بالميتافيزيقا الهندية؛ أما آراء طاليس وأنكسمندر وأنكسمينس، وهرقليطس، وأناكسجوراس وأمباذقليس، فهي لا تسبق فلسفة الهنود الدنيوية فحسب، بل يطبعها طابع من الشك ومن البحث في الطبيعة المادية، يميل بنا إلى ردها إلى ما شئت من أصول ما عدا الهنود؛ ويعتقد " فكتور كوزان "أننا" مضطرون اضطراراً أن نلتمس في هذا الميدان الذي درجت فيه الإنسانية، منشأ الفلسفة العليا"(54) والأرجح عندنا أنه ليس بين المدنيات المعروفة لنا جميعاً، مدنية واحدة كانت أصلاً لكل عناصر المدنية. لكنك لن تجد بين بلاد العالمين بلداً اشتدت فيه الرغبة في الفلسفة شدتها في الهند؛ فهي عند الهنود لا تقتصر على كونها حلية للإنسان أو تفكهة يسرّي بها عن نفسه، بل هي جانب هام لا غني لنا عنه في تعليقنا بالحياة نفسها وفي معيشتنا لتلك الحياة؛ وإنك لتجد حكماء الهند يتلقون من إمارات التكريم ما يتلقاه في الغرب رجال المال والأعمال؛ فأي أمة سوى الأمة الهندية قد فكرت في الاحتفال بأعيادها بمناظرات ينازل فيها زعماء المدارس الفلسفية المتنافسة بعضهم بعضاً؟ فتقرأ في اليوبانشاد كيف خصص ملك الفيديهيين يوماً لمناقشة فلسفية باعتبارها جزءاً من الاحتفال الديني، بين "ياجنافالكيا" و "أسفالا" و "أرتابهاجا" و "جارجي" ؛ ووعد الملك أن يثيب الظافر منهم- وكان عند وعده- بمكافأة قدرها ألف بقرة ومائة قطعة من الذهب(56)، وكان المألوف للمعلم الفيلسوف في الهند أن يتحدث أكثر مما يكتب؛ فبدل أن يهاجم معارضيه عن طريق المطبعة المأمون الجانب، كانوا يطالبونه بملاقاتهم في مناظرة حية، وبالذهاب إلى مقارّ المدارس الأخرى ليضع نفسه هناك تحت تصرف أتباعها في جداله وسؤاله؛ ولقد أنفق أعلام الفلاسفة، مثل "شانكارا" شطراً عظيماً من أعوامهم في أمثال تلك الرحلات الفكرية(57)؛ وكان الملوك أحياناً يسهمون في هذه المجادلات، في تواضع يليق بالملك وهو في حضرة الفيلسوف- ذلك إن أخذنا بما يرويه لنا الفلاسفة أنفسهم عن ذلك؛ وينزل الظافر في مناظرة هامة من تلك المناظرات، منزلة عالية من البطولة في أعين الناس، كهذه المنزلة التي يحتلها قائد عسكري عاد من انتصاراته الدامية في ميادين الحروب(58).

وترى في صورة راجبوتية من القرن الثامن عشر(59) نموذجاًً "لمدرسة فلسفية" هندية- فالمعلم جالس على حصير تحت شجرة، وتلاميذه جالسون القرفصاء أمامه على نجيل الأرض؛ وكنت تستطيع أن ترى مثل هذا المنظر أينما سرت في الهند، لأن معلمي الفلسفة هناك كانوا في كثرة التجار في بابل، ولن تجد في بلد أخر غير الهند عدداً من المدارس الفكرية بمقدار ما تجده منها هناك؛ ففي إحدى محاورات بوذا ما يدلنا على أنه قد كان في الهند في عصره اثنان وستون رأياً في النفس يأخذ بها الفلاسفة المختلفون(60)؛ يقــول "الكونت كسرلنج" : "إن هذه الأمة الفلسفية قبل كل شيء، لديها من الألفاظ السنسكريتية التي تعبر بها عن الفكر الفلسفي والديني أكثر مما في اليونانية واللاتينية والجرمانية مجتمعة"(61).

لما كان الفكر الهندي قد انتقل بالحديث الشفوي أكثر منه بالكتابة، فأقدم صورة هبطت إلينا عن مذاهب المدارس المختلفة، هي الحِكَم ويسمونها "سُترات"- ومعناها "خيوط" - يكتبها المعلم أو الطالب، لا لتكون وسيلة لشرح رأيه لغيره بل لتعينه على وعيها في ذاكرته؛ وهذه السُترات ترجع إلى عصور مختلفة فبعضها قديم يرجع تاريخه إلى سنة 200 م ، وبعضها حديث يرجع إلى سنة 1400م؛ وهي جميعاً على كل حال أحدث جداً من التراث الفكري الذي تلخصه، والذي تناقلته العصور بالشفاه، ذلك لأن نشأة هذه المدارس الفلسفية قديمة قدم بوذا، بل لعل بعضها- مثل السانخْيا- كان قد ثبت أساسه عندما ولد بوذا(62). يبوِّب الهنود مذاهبهم الفلسفية كلها في صنفين: المذاهب الأستيكية التي تُثبت، والمذاهب الناستيكية التي تنفي .

وقد فرغنا فيما مضى من دراسة المذاهب الناستيكية التي أخذ بها على وجه التخصيص أتباع (شارفاكا) وأنصار بوذا والجانتيون؛ والعجيب أن هذه المذاهب إنما سميت (ناستيكا) أي الكافرة الهدامة، لا لأنها شكت أو أنكرت وجود الله (ولو أنهم فعلوا ذلك) بل لأنها شكت وأنكرت أو تجاهلت أحكام الفيدات؛ وكثير من مذاهب (آستيكا) شكت في وجود الله كذلك أو أنكرت وجوده، لكنها مع ذلك سميت بالمذاهب المؤمنة بأصول الدين، لأنها سلمت بصواب الكتب المقدسة صواباً لا يأتيه الباطل، كما قبلت نظام الطبقات؛ ولم يفكر أحد في تقييد الحرية الفكرية، مهما بلغت من الإلحاد، عند تلك المذاهب التي اعترفت بهذه الأسس الجوهرية التي تقوم عليها الجماعة الهندية الأصلية؛ ولما كان تفسير الكتب المقدسة يفتح مجالاً واسعاً لاختلاف الرأي، بحيث استطاع مهرة المفسرين أن يجدوا في الفيدات أي مذهب شاءوا، فقد أصبح الشرط الوحيد في واقع الأمر، الذي لا بد من تحققه إذا ما أراد الإنسان أن يكون ذا مكانة عقلية في نفوس الناس، هي أن يعترف بالطبقات؛ حتى لقد أصبح هذا النظام هو مصدر السلطان الحقيقي في البلاد؛ معارضته تعدّ خيانة كبرى، وقبوله يغفر عن كثير من السيئات؛ وإذن فالواقع هو أن فلاسفة الهند تمتعوا بحرية أكبر جداً مما أتيح لزملائهم في أوربا الوسيطة حين سادت الفلسفة الاسكولائية (أي المدرسية)، لكن ربما كان هؤلاء الهنود الفلاسفة أقل حرية من مفكري الدولة المسيحية في ظل البابوات المتنورين الذين سادوا أيام النهضة الأوربية.

وآلت السيادة لستة من المذاهب "الأصيلة"- المؤمنة بأصول الفيدات- أو "الدارشانات" (ومعناها البراهين)، حتى لقد أصبح لزاماً على كل مفكر هندي ممن يعترفون بسلطان البراهمة، أن يعتنق هذا المذهب أو ذاك من تلك المذاهب الستة؛ وهي كلها مجمعة على طائفة معينة من الآراء تعتبر ركائز التفكير الهندي: وهي أن الفيدات قد هبط بها الوحي، وأن التدليل العقلي أقل جدارة بالركون إليه في هدايتنا إلى الحقيقة والصواب، من إدراك الفرد وشعوره المباشرين إذا ما أعد الفرد إعداداً صحيحاً لاستقبال العوامل الروحية وأرهفت نفسه إرهافاً باصطناع الزهد والتزام الطاعة مدى أعوام لمن يقومون على تهذيب نفسه؛ وأن الغاية من المعرفة ومن الفلسفة ليست هي السيطرة على العالم بقدر ما هي الخلاص منه؛ وأن هدف الفكر هو التماس الحرية من الألم المصاحب لخيبة الشهوات في أن تجد إشباعها، وذلك بالتحرر من الشهوات نفسها؛ تلك هي الفلسفات التي ينتهي إليها الناس إذا ما أتعب نفوسهم الطموح والكفاح والثراء و "التقدم" و "النجاح".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1- مذهب نيايا

منطق هندي

أول المذاهب "البرهمية" بالترتيب المنطقي للتفكير الهندي (لأننا لا ندري في يقين ترتيبه الزمني، وكل المذاهب في أجزائها الجوهرية متعاصرة) مجموعة من النظريات المنطقية تمتد إلى ألفي عام؛ فكلمة (نيايا) معناها تدليل، أو طريقة لهداية العقل حتى ينتهي إلى نتيجة، وأهم نصوصه هو النص المسمى (سوترا نيايا) الذي يعزى في غير تأكيد الواثق إلى رجل يسمى (جوتاما) عاش في زمن يختلف فيه المؤرخون، وتتراوح تقديراتهم بين القرن الثالث قبل المسيح والقرن الأول بعده(63)، ويفصح جوتاما عن الغاية من مؤلفه فيقول - كما يقول كل مفكري الهنود - إنها تحقيق النرفانا، أو الخلاص من طغيان الشهوات، وإنما تتحقق هذه الغاية في مجال المنطق بالتفكير الواضح المتسق؛ لكنا نشك في أن غايته المباشرة كانت هداية الحائرين في الصراع الذي كان يقوم به المتناظرين من فلاسفة الهنود؛ فهو يصوغ لهم مبادئ الحِجَاج، ويعرض عليهم أحابيل النقاش، ويحصر المغالطات الشائعة في التفكير؛ وتراه - كأنما هو أرسطو آخر - يلتمس بناء التدليل العقلي في طريقة القياس، ويجد عقدة كل تدليل في الحد الأوسط من حدود القياس وكذلك تراه - كأنما هو جيمس آخر أو ديوى آخر، يعتبر المعرفة والفكر أداتين عمليتين ووسيلتين فعالتين يستخدمها الإنسان في إشباع حاجاته وقضاء إرادته، ومقياس صحتهما هو قدرتهما على الوصول إلى فعل ناجح(64) فهو واقعي، ولا شأن له قط بالفكرة السامية التي تزعم أن العالم ينعدم وجوده إذا لم يعد هناك من يدركه، والظاهر أن أسلاف جوتاما في مذهب نيايا كانوا ملاحدة، وأما أتباعه فقد شغلوا أنفسهم بنظرية المعرفة(65) وكانت مهمته أن يقدم للهند دستوراً جديداً للبحث والتفكير، وقاموساً غنياً بالألفاظ الفلسفية.


2- مذهب فايشيشيكا

ديمقريطس في الهند

وكما أن جوتاما هو في الهند بمثابة أرسطو، فكذلك "كانادا" هناك بمثابة ديمقريطس؛ وأن اسمه الذي معناه "آكل الذرات" ليدل بعض الدلالة على احتمال أن يكون شخصاً أسطورياً خلقه خيال المؤرخين؛ ولم يتحدد بالدقة تاريخ صياغة هذا المذهب الفايشيشيكي، فيقال أنه لم تتم صياغته قبل سنة 300 ق.م ولا بعد سنة 800 م ، واسمه مشتق من كلمة "فيشيشا" ومعناها "الجزئية": فالعالم في مذهب "كانادا" مليء بطائفة من الأشياء، لكنها جميعاً لا تزيد على كونها تركيبات مختلفة من الذرات، صيغت في هذا القالب أو ذاك، وتتغير القوالب، لكن الذرات يستحيل عليها الفناء؛ ويذهب "كانادا"- على أتم شبه بديمقريطس فيما يذهب إليه- يذهب إلى أنه ليس في العالم إلا "ذرات وفراغ" وأن الذرات لا تتحرك وفق إرادة إلهية عاقلة، بل بدافع من قوة غير مشخصة، هي القانون- أو "أدرشتا" ومعناها "الخفي" ولما كان الثائر في تفكيره لا ينسل إلا خَلفَاً جامداً، فكذلك كان الأنصار المتأخرون لمذهب فايشيشيكا يعجبون كيف يمكن لقوة عمياء أن تخلع على الكون نظاماً ووحدة، فوضعوا عالماً من أنفس دقيقة جنباً إلى جنب مع عالم الذرات، ثم جعلوا فوق العالمين إله عاقل(66) وهكذا ترى نظرية ليبنتز في "التناسق الأزلي" موغلة في القدم.


3- مذهب سانخيا

شهرته الذائعة - الميتافيزيقا - التطور - الإلحاد - المثالية - الروح - الجسد والعقل والنفس - غاية الفلسفة - تأثير سانخيا


يقول مؤرخ هندي عن هذا المذهب "إنه أبعد المذاهب الفلسفية التي أنتجتها الهند دلالة"(67) ولقد وجد الأستاذ "جارْب" الذي كرّس شطراً كبيراً من حياته لدراسة سانخيا، عزاء لنفسه إذ وجد أن "مذهب كابيلا قد اشتمل لأول مرة في تاريخ العالم استقلال العقل الإنساني وحريته الكاملتين، وثقته التامة بقدراته"(68) وهو أقدم المذاهب الستة(69) ولعله أقدم مذهب فلسفي ولسنا ندري شيئاً عن "كابيلا" نفسه، سوى أن الرواية الهندية تزعم - في استهتار بدقة التواريخ كالذي تراه عند التلميذ الناشئ - تمجيداً له، أنه مؤسس فلسفة سانخيا في القرن السادس قبل الميلاد(71). يجمع "كابيلا" في شخصه الواقعية والاسكلائية، وهو يبدأ كلامه بما يكاد يشبه أقوال الأطباء، إذ يضع قاعدة في أول حكمه يسوقها، وهي "أن انعدام الألم انعداماً تاماً ... هو أكمل غاية ينشدها الإنسان" ، وهو يرفض الاكتفاء بمحاولة الإنسان اجتناب الألم بوسائل جسمانية، ويدحض بشعوذة منطقية آراء الباحثين في الموضوع واحداً واحداً؛ ثم يأخذ بعد ذلك في تكوين مذهبه الميتافيزيقي الخاص به، في سلسلة من "السوترات" المقتضبة الغامضة؛ وهو يسرد في سانخيا أنواع الحقائق وهي خمس وعشرون، ومن هذا السرد للأنواع جاءت كلمة سانخيا (لأن معناها السرد) وهو يسمي هذه الحقائق "تاتوات" (أي الذلكات جمع ذلك) ومنها يتألف العالم في رأي "كابيلا" ؛ وهو يرتب هذه الحقائق في علاقة مركبة تربط بعضها ببعض، ويمكن توضيحها بالقائمة التالية:

  1. أ - العنصر (برا كريتي، أي المنتج) وهو مبدأ فيزيقي عام ينتج بما له من قُوىً تطورية (واسمها جونات).
  2. أ- الذكاء (بوذي) وهو قوة الإدراك الحسي، وهذا بدوره ينتج بما له من قُوىً تطورية.
  3. أ- العناصر الخمسة الدقاق، أو القوى الحاسة للعالم الداخلي، وهي:
  4. 1- البصر
  5. 2- السمع
  6. 3- الشم
  7. 4- الذوق
  8. 5- اللمس

والحقائق المرقومة من (1) إلى (8) تتعاون على إنتاج الحقائق المرقومة (10) إلى (24)

  1. ب - العقل (واسمه ماناس) وهو الإدراك الفكري.

جـ - أعضاء الحس الخمسة، وهي التي تقابل الحقائق المرقومة (4) إلى (8)

  1. 1- العين
  2. 2- الأذن
  3. 3- الأنف
  4. 4- اللسان
  5. 5- الجلد

د- أعضاء الفعل الخمسة

  1. 1- الحنجرة
  2. 2- اليدان
  3. 3- القدمان
  4. 4- أعضاء الإفراز
  5. 5- أعضاء النسل

هـ- عناصر العالم الخارجي الخمسة الغلاظ.

  1. 1- الأثير
  2. 2- الهواء
  3. 3- النار والضوء
  4. 4- الماء
  5. 5- التراب
  6. ب - الروح (بوروشا أي "الشخص") وهو مبدأ نفسي عام وهو الذي يحرك ويحيي "براكريتي" على الرغم من أنه عاجز عن فعل شئ بذاته، وهو يستثير كل ما في "براكريتي" من قوى تطورية لتباشر أوجه نشاطها . وإن هذا ليبدو في أوله مذهباً مادياً خالصاً، فعالم العقل والنفس، مثل عالم الجسم والمادة، عبارة - فيما يظهر - عن حركة تطورية تتأثر بالعوامل الطبيعية، ومعنى ذلك أنه يسير في حركة مستمرة التكوين والفساد، بادئاً من أدنى الدرجات ومنتهياً إلى أعلاها، ثم يعود إلى أدناها من جديد، كل ذلك والعالم هو هو من حيث عناصره في وحدتها واستمرارها؛ فكأنما كان "كابيلا" يشق الطريق أمام "لامارك" حين يقول إن حاجة الكائن العضوي (النفس) تولد الوظيفة (البصر والسمع والشم والذوق واللمس) ثم تنتج الوظيفة عضوها (العين والأذن والأنف واللسان والجلد)؛ وليس في هذا المذهب فجوة، بل ليس في أية فلسفة هندية تمييز بين اللاعضوي والعضوي من الكائنات، أو بين عالم النبات وعالم الحيوان، أو بين الحيوان وبين الإنسان؛ فهذه كلها حلقات من سلسلة الحياة الواحدة، أو قل إنها قضبان عجلة التطور والانحلال، أي عجلة الولادة والموت ثم الولادة من جديد؛ وإنما يتحدد مجرى التطور اعتباطاً بتأثير الخصائص أو القوى (الجونات) الثلاث الفاعلة في "العنصر": ألا وهي الطهر والفاعلية والجهل الأعمى، وليست هذه القوى بذات هوى نحو التقدم مناهضة للانحلال، بل إنها تنتج الواحد في إثر الآخر على دورات لا تنتهي، مثلها مثل ساحر عابث يظل يخرج أشياء لا تنتهي صنوفها من قبعة، ثم يعيد وضعها في القبعة، ماضياً في هذه العملية إلى الأبد؛ كما يقول هربرت سبنسر في عصر متأخر هو أن كل مرحلة من مراحل التطور تحتوي في ذاته ميلاً إلى الانحلال باعتباره مكملاً لها ونهاية لا محيص عنها.

وكان "كابيلا" شبيها بلابلاس حين لم يجد ضرورة لفرض قوة إلهية يقسر بها الخلق أو التطور(72)؛ وليس من الغرابة في شئ أن تجد ديانات أو فلسفات بغير إله في هذه الأمة التي هي أكثر الأمم إمعاناً في الدين والفلسفة؛ وإنك لتجد في كثير من نصوص "سانخيا" إنكاراً صريحاً لوجود خالق مشخص، والخلق عندهم شئ لا يمكن للعقل أن يتصوره لأن "الشيء لا يخرج من لا شئ"(73) والخالق والمخلوق جانبان لشيء واحد(74)، وترى "كابيلا" يكفيه اطمئنانا أن يكتب (كأنه "ma:عمانوئيل كانت" على وجه الدقة) بأن الخالق المشخص يستحيل أن يقيم عليه الدليل عقل بشري، لأن كل ما هو موجود - في رأي هذا الشكاك الدقيق - لا يخرج على أحد فرضيتين، فإما أن يكون مقيداً أو حراً، ولا يمكن لله أن يكون هذا أو ذاك ولو كان الله كاملاً لما مست به الحاجة إلى خلق العالم، ثم لو كان ناقصاً لما كان إلهاً؛ ولو كان الله خيراً وله قدرات إلهية، لما أمكن قط أن يخلق عالماً على هذا النقص الذي نراه في العالم القائم، الذي يغص بكثرة ما فيه من آلام، ولا يأخذه التردد في الموت(75)؛ وإنه لمما يفيدنا أن نرى كيف يناقش مفكرو الهنود هذه المسائل في هدوء، وقل أن يلجئوا فيها إلى اضطهاد أو إهانة، فقد كانوا يرتفعون بالنقاش إلى مستوى لا يسمو إليه في عصرنا الحاضر إلا ما يدور بين أنضج العلماء من جدل؛ وإنما ضمن "كابيلا" الوقاية لنفسه من الأذى باعترافه بصحة الفيدات، وهو يقول "إن الفيدات مرجع صحيح ما دام مؤلفها كان يعرف الحقيقة الثابتة"(76) وبعد أن أرسل هذا القول إرسالاً راح يفكر كما يشاء دون أن يأبه بالفيدات في شيء.

لكنه ليس بالفيلسوف المادي، بل عكس ذلك هو الصحيح، لأنه مثالي وروحي على طريقته الخاصة به، فهو يجعل إدراكنا الحسي مصدراً للعالم الواقع كله، فما لدينا من أعضاء الحس ومن تفكير يخلع على العالم حقيقته وصورته ومغزاه، ويستحيل عليه أن تكون له حقيقة أو صورة أو مغزى بالنسبة لنا إلا هذه؛ أما ماذا يمكن للعالم أن يكون في حقيقته بغض النظر عن حواسنا وأفكارنا فسؤال أخرق ليس له معنى ولا يمكن أن يكون له جواب(77)؛ ثم هو بعد أن يسرد قائمة بأربعة وعشرين عنصراً (تاتوات) تنطوي - في مذهبه الفلسفي - تحت حركة التطور الفيزيقي، قَلَبَ ماديته هذه التي بدأ بها، وأضاف جانباً جديداً على أنه الحقيقة النهائية، وهو أغرب العناصر كلها، بل لعله أهمها، وأعني به "بوروشا" (أي الشخص) أو النفس؛ وليست النفس على غرار ثلاثة وعشرين من العناصر الأخرى، تأتي نتيجة للمادة (براكريتي) أو نتيجة للقوة الفيزيقية، بل هي مبدأ نفسي قائم بذاته، موجود في كل الوجود، أزلي أبدي، عاجز عن الفعل بذاته لكنه رغم ذلك لا يُستغنى عنه في أي فعل؛ لأن "براكريتي" (المادة) يستحيل أن تتغير في سيرها نحو الترقي، والقوى (وتسمى الجونات) يستحيل أن تفعل فعلها، إلا عن طريق الوحي يأتيها من "بوروشا" ؛ وهكذا ترى ما هو فيزيقي تدب فيه الحركة والحياة والفاعلية بحيث يتطور، بدافع من المبدأ النفسي أينما وجهت للنظر في جنبات الوجود(78) وهاهنا يتحدث "كابيلا" على غرار أرسطو فيقول : " هنالك في الروح تأثير فعال (على براكريتي أي العالم المتطور) سببه ما بينهما من تجاور، على نحو ما يفعل الحجر الممغنط (يجذب الحديد إليه) أعني أن تجاور "بوروشا" و "براكريتي" يجبر هذه الأخيرة على السير في خطوات معلومة للإنتاج؛ وهذا اللون من التجاذب بين الجانبين يؤدي إلى الخلق؛ وبغير هذا المعنى لا تكون الروح عاملاً فعالاً ولا يكون لها شأن بالخلق إطلاقاً" .

والروح متعددة بمعنى أنها موجودة في كل كائن عضوي، لكنها متشابهة في هذه الكائنات جميعاً، ولذا فهي لا تكون عنصراً في تكوين الشخصية الفردية، فالفردية فيزيقية، ونحن ما نحن لا بسبب ما فينا من روح، بل بسبب الأصل الذي عنه نشأنا، أعني التطور والخبرة التي تطرأ على أجسامنا وعقولنا، وفي "سانخيا" يعتبر العقل جزءاً من الجسم كأي عضو آخر؛ فلئن كانت هذه الروح المعتزلة بنفسها البعيدة عن التأثر بغيرها، والتي تكمن فينا، لئن كانت هذه الروح حرة، فإن العقل والجسم مقيدان بقوانين و "جونات" (أي خصائص) العالم الفيزيقي(81) وإذن فليست الروح هي الفاعلة وهي المجبرة، بل الفاعل المجبر هو اتحاد الجسم والعقل؛ كلا ولا هي تتعرض للانحلال والتحول اللذين يصيبان الجسد والشخصية، بل هي محصنة عن تيار الولادة والموت؛ يقول "كابيلا": "العقل يجوز عليه الفساد، أما الروح فلا"(82) والنفس الجزئية التي ترتبط بالمادة وبالجسم هي وحدها التي تولد وتموت وتعود إلى الولادة من جديد، في هذه الذبذبات التي لا تنتهي ولا تنفك تتناول بالتغيير صور المادة التي منها يتألف تاريخ العالم الخارجي(83)؛ وإذا استطاع "كابيلا" أن يشك في كل شئ، فإنه لم يشك قط في انتقال الروح من جسد إلى جسد.

وهو كسائر المفكرين الهنود ينظر إلى الحياة على أنها خير مشكوك فيه إلى حد كبير، إن كانت خيراً على الإطلاق؛ فقليلة هي أيام المرح، وقليلة هي أيام الأسى؛ والثروة شبيهة بنهر طافح بالماء، والشباب شبيه بجسر متهدم لذلك النهر الطافح بمائه، والحياة شبيهة بشجرة على ذلك الجسر المتهدم"(84)؛ والألم نتيجة لكون النفس والعقل الفرديين مقيدين بالمادة، وفريستين لقوى التطور العمياء، فأين المفر من هذا الألم؟ يجيب فيلسوفنا ألا فرار إلا بالفلسفة؛ لا فرار إلا بإدراكنا أن كل هذه الآلام والأحزان، وكل هذا الانقسام وهذا الفوران بين الأنفس المكافحة، إن هو إلا "مايا" أي وهمُ، هو زينة خادعة تصفُّها أمام عيوننا الحياة والزمن؛ "والعبودية تنشأ من غلطة عدم التمييز"(85) - بين النفس التي تعاني الآلام وبين الروح المحصنة، بين السطح المضطرب وبين الأعماق التي تظل ممتنعة على كل اضطراب وتغير؛ فلكي تسمو على هذه الآلام، لا يقتضيك إلا أن تتبين أن جوهر الإنسان، وهو روحه، يجاوز حدود الخير والشر والسرور والألم والولادة والموت؛ هذه الضروب من النشاط والكفاح، وهذه الألوان من النجاح والهزيمة، لا تغمنا إلا بمقدار ما يفوتنا أن ندرك أنها لا تؤثر في الروح ولا تصدر عنها؛ والإنسان المستنير إنما ينظر إليها كأنما يبصرها من خارج حدودها فكأنه متفرج على الحياد ينظر إلى مسرحية ُتمَثل؛ فلتتبين الروح استقلالها عن الأشياء، وستظفر بالحرية من فورها؛ فعملية إدراكها لهذه الحقيقة كافية في حد ذاتها أن تهيئ لها الفرار من سجن المكان والزمان والألم والعودة إلى التجسد من جديد(86)؛ يقول كابيلا: "إن التحرر الذي يظفر به الإنسان من إلمامه بالحقائق الخمسة والعشرين، يعلمه العلم الذي لا علم سواه - وهو وأنني لست موجوداً، ولا شئ يتعلق بي"(87) ومعنى ذلك أن انفصال الأفراد وهمٌ، وكل الموجود هو هذا الزبَّد المتطور المتحلل من مادة وعقل، وأجسام ونفوس، هذا من جهة ومن جهة أخرى هنالك الروح التي لا تتغير ولا تضطرب في خلودها الساكن.

مثل هذه الفلسفة لا يجدي في إراحة الإنسان إذا ما وجد عسراً في فصل نفسه عن بدنه المتألم وذكرياته المعذبة، لكنها فلسفة - فيما يظهر - قد عبرت تعبيراً صادقاً عن الحالة النفسية التي سادت الهند في تأملها الفلسفي؛ وليس هناك من المذاهب الفلسفية الأخرى - إذا استثنينا فيدانتا - ما أثر في العقل الهندي بمثل الأثر العميق الذي كان لهذه الفلسفة فيه؛ وإنا لنلمس أثر "كابيلا" في مثالية بوذا المصطبغة بالإلحاد وبالبحث عن كيفية وصول الإنسان إلى معرفته بالعالم، كما نلمس أثره في فكرة بوذا عن النرفانا، وكذلك نلمس أثر "كابيلا" الماهابهاراتا وفي تشريع مانو، وفي أشعار "البوراتا" وفي "التانترات" - وهي التي تُحَوّر "بوروشا" و "براكريتي" فتجعلهما مبدأي الذكورة والأنوثة اللذين جاءا بالخلق(88)، ثم نلمس فوق هذا كله في مذهب "اليوجا" الذي لا يزيد على كونه تفريغاً لسانخيا من الناحية العملية، فهو يقوم على ما في سانخيا من آراء، ويستخدم ما فيها من عبارات؛ وليس لكابيلا أتباع مباشرون اليوم لأن العقل الهندي قد أسره "شانكارا" و "الفيدانتا" ؛ لكن حكمة قديمة ما تزال ترفع صوتها في الهند حيناً بعد حين، ألا وهي : "ليس في ضروب العلم ما يوازي سانخيا من آراء، وليس في صنوف القوة ما يساوي اليوجا"(89).

4- مذهب اليوجا

القديسون - قدم عهد "اليوجا" - معناها - مراحل الرياضة الروحية الثماني - غاية "اليوجا" - معجزات الآخذين "باليوجا" - إخلاص "اليوجا"



في مكان ساكن جميل

ألقى عصاه ليستقر، ولم يكن المكان موغلاً في الارتفاع

ولا مكان موغلاً في الانخفاض؛ وهناك فليسكن؛ متاعه

قماشةٌ وجلد غزال وحشيشة "الكوشا" ؛

هناك ركّز فكره تركيزاً في "الواحد"

ممسكاً بزمام قلبه وحواسه، صامتاً، هادئاً،

هناك فليمارس "اليوجا" ليخلص إلى طهارة الروح،

ويضبط جسمه فلا يتحرك

منه عنق ولا رأس؛ ونظرته مستغرقة كلها

في طرف أنفه، محجوباً عن كل ما حوله،

هادئاً في روحه، خالياً من الخوف،

مفكراً في نذر (البراهما كاريا) الذي نذره على نفسه،

مخلصاً، مفكراً "فيّ" تائهاً في تفكيره "عني" .


على سُلَّم المستحمين، ترى "القديسين" جالسين هنا وهناك، يحيط بهم هنود ينظرون إليهم نظرة الإجلال، ومسلمون ينظرون في عدم اكتراث، وسائحون يحدقون بالأبصار؛ ويسمى هؤلاء القديسون باليوجيين؛ وهم بمثابة المعبّر عن الديانة الهندية والفلسفة الهندية تعبيراً ليس بعد وضوحه وغرابته وضوح أو غرابة؛ ثم تراهم كذلك في عدد أقل، في الغابات وعلى جنبات الطرق، لا يتحركون ويستغرقون في تفكيرهم؛ منهم الكهول ومنهم الشباب، منهم من يلبس خرقة بالية على كتفيه ومنهم من يضع قماشاً على ردفيه، ومنهم من لا يستره إلا تراب الرماد ينثره على جسده وخلال شعره المزركش؛ تراهم جالسين القرفصاء وقد لفوا ساقاً على ساق، لا يتحركون، ويركزون أبصارهم في أنوفهم أو سُرَرِهم، بعضهم يحدقون في الشمس ساعات متواليات بل أياماً متعاقبة، فيفقدوا إبصارهم شيئاً فشيئاً، وبعضهم يحيطون أنفسهم بألسنة حامية من اللهب في قيظ النهار، وبعضهم يمشون حفاة على جمرات النار، أو يصبون الجمرات على رؤوسهم؛ وبعضهم يرقدون عرايا الأجساد مدى خمسة وثلاثين عاماً على أسرّة من حراب الحديد وبعضهم يدحرجون أجسامهم على الأرض آلاف الأميال حتى يصلون مكاناً يحجون إليه وبعضهم يصفدون أنفسهم بالأغلال في جذوع الشجر، أو يزجون بأنفسهم في أقفاص مغلقة حتى يأتيهم الموت، وبعضهم يدفنون أنفسهم في الأرض حتى الأعناق ويظلون على هذا النحو أعواماً طوالاً، أو طول الحياة، وبعضهم يُنْفِذون سلكاً خلال الأصداغ، حتى يمر من الصدغين؛ فيستحيل عليهم فتح الفكين، وبهذا يحكمون على أنفسهم بالعيش على السوائل وحدها، وبعضهم يحتفظون بأيديهم مقبوضة حتى تنفذ أظفارهم من ظهور أكفهم وبعضهم يرفعون ذراعاً أو ساقاً حتى تذبل وتموت؛ وكثير منهم يجلسون صامتين في وضع واحد، وربما ظلوا في وضعهم أعواماً، يأكلون أوراق الشجر وأنواع البندق التي يأتيهم بها الناس؛ وهم في ذلك كله يتعمدون قتل إحساسهم ويركزون كل تفكيرهم بغية أن يزدادوا علماً؛ وأغلبهم يجتنبون هذه الطرائق التي تستوقف الأنظار، ويبحثون عن الحقيقة في سكينة ديارهم .

لقد كان لنا رجال كهؤلاء في عصورنا الوسطى، أما اليوم فإذا أردت أن تصادف أشباههم في أوربا وأمريكا فعليك أن تبحث في زوايا البلاد وأركانها؛ لكن الهند عرفت هؤلاء الناس مدى ألفين وخمسمائة عام - ويجوز أن يرجع عهدهم إلى ما قبل التاريخ حين كانوا للقبائل الهمجية - فيما نظن - بمثابة الأولياء وهذه الطريقة في التأمل الزاهد التي تعرف باسم "يوجا" كانت موجودة أيام "الفيدات"(90) ؛ و"يوبانشاد" و "الماهابهاراتا" كلاهما اعترفتا بهذه الطريقة التي ازدهرت في عصر بوذا(91)؛ حتى الإسكندر قد استوقف انتباهه قدرة هؤلاء الناس على رياضة أنفسهم في تحمل الألم صامتين، فوقف يفكر في أمرهم، ثم دعا أحدهم أن يصحبه ليعيش معه، لكن (اليوجي) رفض في عزم وثبات - كما رفض "ديوجنيس" - قائلاً إنه لا يريد شيئاً من الإسكندر، مقتنعاً بخلاء وفاضه؛ وكذلك ضحكت جماعة الزاهدين بأسرها سخرية من الرغبة الصبيانية التي جاشت في صدر ذلك المقدوني أن يفتح العالم، على حين أن مساحة لا تتجاوز أقدام قليلة من الأرض - كما قالوا له - تكفي الإنسان كائناً من كان، حياً أو ميتاً؛ وحكيم آخر صحب الإسكندر إلى فارس، وهو (كالاَنسْ) (سنة 326 ق . م) فمرض هناك، واستأذن الإسكندر في أن يموت، قائلاً إنه يؤثر الموت على المرض؛ وصعد على كومة من حطب مشتعل، هادئاً، واحترق لم يبعث صوتاً، فأدهش اليونان الذين لم يكونوا قد رأوا قط هذا الضرب من الشجاعة التي تقذف بالنفس في الموت دون أن يكون في الأمر عنصر الاغتيال الإجرامي(92)؛ ومضى بعد ذلك قرنان (حوالي 150 ق.م) وعندئذ جمع "باتانجالي" أجزاء المذهب من أقوال وأفعال في كتابه المشهور "قواعد اليوجا" الذي لا يزال يتخذ مرجعاً في جماعات اليوجيين من بنارس إلى لوس أنجلس(93)؛ وقد ذكر يوان شوانج الذي زار البلاد في القرن السابع الميلادي، أن هذا المذهب كان عندئذ كثير الأتباع(94) ووصفه (ماركوبولو) حوالي سنة 1296م وصفاً حياً(95)، وبعد كل هذه القرون، لا نزال اليوم نرى المتطرفين من أتباعه وعددهم يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين في الهند(96) يعذبون أنفسهم بغية أن يظفروا بسكينة المعرفة؛ إن (اليوجا) لتعد من أقوى الظواهر تأثيراً وأوقعها في النفس في تاريخ الإنسان بشتى ظواهره.

وبعد، فما هي "يوجا" ؟ معنى الكلمة الحرفي هو النير، وليس المقصود أن يخضع الإنسان نفسه؛ أي يدمجها في الكائن الأسمى(97)، بمقدار ما يقصدون بالكلمة إخضاع الإنسان لنير النظام التقشفي المتزهد الذي يلتزمه الطالب ليبلغ ما يريده لنفسه من طهارة الروح من كل أدران المادة وقيودها، ويحقق ما يسمو على الطبيعة من ذكاء وقوة(98)؛ إن المادة هي أس الآلام والجهل؛ ومن ثم كانت غاية اليوجا أن تتحرر النفس من كل ظواهر الحس وكل ارتباطات الجسد بشهواته؛ فهي محاولة أن يبلغ الإنسان التنوير الأعلى والخلاص الأسمى في حياة واحدة، بأن يكفر في وجود واحد عن كل الخطايا التي اقترفها في تجسدات روحه الماضية كلها(99). ومثل هذا التنوير لا يأتي بضربة واحدة، بل يجب على المريد أن يخطو إلى غايته خطوة خطوة؛ وليس في الطريق مرحلة واحدة يمكن فهمها لأي إنسان إذا لم يكن قد مر على المراحل السابقة كلها، فلا سبيل إلى بلوغ اليوجا إلا بعد درس ورياضة للنفس طويلين صابرين، ومراحل اليوجا ثمان:

  1. - "ياما" أو موت الشهوة، وهاهنا ترضى النفس بقيود "أشما" و "براهما كاريا" وتمتنع عن كل سعي وراء مصالحها وتحرر نفسها من كل رغباتها وجهادها الماديين، وتتمنى الخير للكائنات جميعاً(100).
  2. - "نياما" وهي اتبّاع أمين لبعض القواعد المبدئية للوصول إلى اليوجا، كالنظافة والقناعة والتطهر والدراسة والتقوى .
  3. - "أسانا" ومعناها وضع معين للجسد، والغرض منه إيقاف كل إحساس؛ وأفضل "أسانا" لهذه الغاية هي أن تضع القدم اليمنى على الفخذ اليسرى، والقدم اليسرى على الفخذ اليمنى، وأن يتصالب الذراعان وأن تمسك بالإصبعين الكبريين في القدمين، وأن تحني الذقن على الصدر وتوجه النظر إلى طرف الأنف(101).
  4. - "براناياما" ومعناها تنظيم التنفس، فهذه الرياضة قد تعين صاحبها على نسيان كل شئ ما عدا حركة التنفس، وبهذا يفرغ عقله من شواغله استعداداً للخلاء القابل الذي يجب أن يسبق استغراق تفكيره في تأملاته؛ وفي الوقت نفسه قد يتعلم الإنسان بهذه الرياضة طريقة الحياة على الحد الأدنى من الهواء فيستطيع أن يدفن نفسه في التراب أيام كثيرة دون أن يختنق.
  5. - "براتياكارا" ومعناها التجريد، وهاهنا يسيطر العقل على جميع الحواس ويباعد بين نفسه وبين كل المُحَسَّات .
  6. - "ذارانا" أو التركيز، وهو أن يملأ العقل والحواس بفكرة واحدة أو موضوع واحد بحيث يصرف النظر عن كل ما عداه فتركيز الانتباه في موضوع واحد كائناً ما كان مدة كافية من شأنه أن يحرر النفس من كل إحساس، وكل تفكير في موضوع معين وكل شهوة أنانية، ما دام العقل قد تجرد عن الأشياء فقد يصبح حراً بحيث يحس الجوهر الروحي للوجود على حقيقته .
  7. - "ذيانا" أو التأمل، وهي حالة تكاد تكون تنويماً مغناطيسياً تنتج عن "ذارانا" ، ويقول "باتانجالي" إنها يمكن استحداثها من الدأب على تكرار المقطع المقدس "أوم" ؛ وأخيراً يصل الزاهد إلى المرحلة التالية التي تعد خاتمة المطاف في سبيل اليوجا.
  8. - "ساماذي" أو تأمل الغيبوبة؛ فهاهنا يمحى من الذهن كل تفكير، فإذا ما فرغ العقل من مكنونه، فقد الشعور بنفسه على أنه كائن مستقل بذاته(103) وينغمس في مجموعة الوجود، ويجمع كل الأشياء في كائن واحد، وهو تصوّرٌ إلهيّ مبارك؛ ويستحيل وصف هذه الحالة بكلمات لمن لم يمارسها، وليس في وسع الذكاء الإنساني أو التدليل المنطقي أن يجد لها صيغة تعبر عنها " فلا سبيل إلى معرفة اليوجا إلا عن طريق اليوجا"(104).

ومع ذلك فليس ما ينشده "اليوجيُّ" هو الله أو الاتحاد بالله؛ ففي فلسفة اليوجا ليس الله "واسمه إشفارا" هو خالق الكون أو حافظه، وليس هو من يثيب الناس أو يعاقبهم؛ بل هو لا يزيد على كونه فكرة من فكرات كثيرة مما يجوز لنفس أن تركز فيها تأملها وتتخذها وسيلة لمعرفة الحقيقة؛ الغاية المنشودة في صراحة هي فصل العقل عن الجسد، هي إزاحة كل العوائق المادية عن الروح، حتى يتسنى لها - في مذهب اليوجا - أن تكسب إدراكاً وقدرة خارقتين للطبيعة(105) لأنه إذا نفضت عن الروح كل أثار خضوعه للجسد واشتباكها فيه، فإنها لا تتحد مع براهما وكفى، بل تصبح براهما نفسه؛ إذ أن براهما ليس إلا ذلك الأساس الروحي الخبئ، ذلك الروح اللامادي الذي لا يتفرد بنفس، والذي يبقى بعد أن تطرد بالرياضة كل أعلاق الحواس؛ فإذا الحد الذي تستطيع عنده الروح أن تحرر نفسها من بيئتها وسجنها الماديين، إلى هذا الحد تستطيع أن تكون براهما بحيث تمارس ذكاء برهمياً وقوة برهمية؛ وهنا يظهر الأساس السحري للدين من جديد، حتى ليكاد يتهدد الدين نفسه بالخطر - هو عبادة القوى التي هي أسمى من الإنسان.

كانت "اليوجا" في أيام "اليوبانشاد" صوفية خالصة - أعني محاولة تحقيق اتحاد الروح بالله؛ وتروي الأساطير الهندية أنه في سالف الأيام قد أتيح "لحكماء" سبعة (واسمهم أرشاء) أن يظفروا بالتوبة والتأمل بمعرفة تامة بكافة الأشياء(106)؛ ثم اختلطت "اليوجا" بالسحر حتى أفسدها في العهود المتأخرة من تاريخ الهند؛ وأخذت تشغل نفسها بالتفكير بالمعجزات أكثر مما تفكر في سكينة المعرفة؛ ويعتقد "اليوجي" أنه بوساطة "اليوجا" يستطيع أن يخدر أي جزء من أجزاء جسده بتركيز فكري فيه وبذلك يجعله تحت سلطانه(107) فيمكنه إن أراد أن يخفى عن الأبصار، أو أن يحول بين جسده وبين الحركة مهما كان الدافع إليها أو أن يمر في أية لحظة شاء أو من أي جزء شاء من أجزاء الأرض جميعاً، أو أن يحيى من العمر ما شاء أن يحيا، أو أن يعرف الماضي أو المستقبل كما يعرف أبعد النجوم(108). ولزاماً على المتشكك أن يعترف بأنه ليس في هذه الأشياء كلها ما هو مستحيل؛ ففي وسع الجانبين أن يبتكروا من الفروض ما يستحيل على الفلاسفة أن يدحضوه؛ وكثيراً ما يشترك الفلاسفة وإياهم في مثل هذا الابتكار للفروض الغريبة؛ فشدة النشوة والتخليط الذهني يمكن إحداثهما بالصوم وتعذيب النفس؛ والتركيز يمكن أن يميت شعور الإنسان بالألم في موضع معين، أو بصفة عامة، وليس في وسعنا أن نجزم بألوان الطاقة الكامنة والقدرات المدخرة في العقل المجهول؛ ومع ذلك فكثير من "اليوجيين" لا يزيدون على كونهم سائلين الناس مالاً، يتحملون هاتيك الكفارات الأليمة طمعاً في الذهب، الذي ُيتهَّم الغربيون وحدهم بالطمع فيه، أو هم يتحملونها سعياً وراء ما يسعى إليه الإنسان مدفوعاً بطريقته الفطرية، من لفت الأنظار واستثارة الإعجاب ؛ إن الزهد هو ما يقابل الانغماس في شهوات الحس، أو هو على أحسن تقدير محاولة التحكم في زمام تلك الشهوات؛ ولكن هذه المحاولة نفسها تدنو من شهوة أخرى هي رغبة إيقاع الأذى، مما يجعل الزاهد يكاد ينتشي من الغبطة كلما أنزل بنفسه الألم؛ ولقد كان البراهمة من الحكمة بحيث حرموا على أنفسهم مثل هذه الرياضات، ووعظوا أتباعهم بأن ينشدوا القداسة في أداء الواجبات المألوفة في شؤون الحياة، أداءً يرضي ضمائرهم(110).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- بيرفا- ميمانسا

انتقالنا من "اليوجا" إلى "بيرفا- ميمانسا" هو انتقال من أشهر المذاهب الستة للفلسفة البرهمية إلى أقلها شهرة وأهمية؛ وكما أن "اليوجا" أدخلت في السحر والتصوف منها في الفلسفة، فكذلك هذا المذهب أقرب إلى الدين منه إلى الفلسفة، بل هو بمثابة رد الفعل من جانب المتمسكين بأصل الدين لينهضوا به مذاهب الزندقة التي قال بها الفلاسفة؛ فصاحب هذا المذهب، وهو "جيميني" يحتج على "كابيلا" و"كانادا" في إنكارهما لحجة الفيدات، مع اعترافهما بهذه الكتب المقدسة، ويقول "جيميني" إن العقل الإنساني أضعف من أن يحل مشكلات الميتافيزيقا واللاهوت فالعقل مستهتر يقدم نفسه لخدمة الأهواء كائنة ما كانت فهولا يعطينا "علماً" و"حقيقة" بل يكتفي بصبغ ميولنا الحسية وزهونا بصبغة المنطق؛ إن الطريق إلى الحكمة والسلام لا يمتد في المنطق والتواءاته الفارغة، بل تراه في التسليم المتواضع بما جاء عن طريق الوحي ونقله الخلف عن السلف، وفي الأداء المتواضع للشعائر كما فصّلتها الكتب المقدسة، وهذه وجهة من النظر لا تعدم وجهاً للدفاع.


6- مذهب الأفيدانتا

أصله - شانكارا - المنطق - نظرية المعرفة - "مايا" - علم النفس - اللاهوت - الله - الأخلاق - مشكلات المذهب - موت شانكارا


كلمة "فيدانتا" معناها في الأصل ختام الفيدات- أعني اليوبانشاد؛ أما اليوم فيطلقها الهنود على المذهب الفلسفي الذي حاول أن يدعم بالمنطق بناء الفكرة الأساسية التي وردت في كتب اليوبانشاد- تلك الفكرة التي تسود نغمتها جوانب الفكر الهندي بأسره- وهي أن الله (براهما) والروح (أتمان) شيء واحد؛ وأقدم صورة وصلتنا لهذه الفلسفة التي هي أوسع الفلسفات الهندية شيوعاً، هي كتاب "براهما- سوترا" لصاحبه "بدارايانا" (حوالي 200 ق.م) وقوام الكتاب خمسمائة وخمسة وخمسون حكمة، تعلن أولاها الغاية من الكتاب كله، وهي: "لنفرغ الآن إلى الرغبة في معرفة براهما" ؛ وكادت تمضي بعد ذلك ألف عام، حين كتب "جودايادا" تعليقا على هذه "السوترات" (أي الحكم) ثم علم "جوفندا" أسرار المذهب، وهذا بدوره لقَّنها لشانكارا، الذي ألف أشهر ما كتب عن الفيدانتا من شروح، وكان بما ألف أعظم الفلاسفة الهنود جميعاً .

استطاع "شانكارا" في حياته القصيرة البالغة اثنين وثلاثين عاماً، أن يحقق الاتحاد بين شخصيتي الحكيم والقديس، بين صفتي الحكمة والرحمة، وهو اتحاد يتصف به أسمى ما أنجبته الهند من صنوف الإنسان؛ ولد بين جماعة نشيطة في البحث العقلي من براهمة ملبار، وهم المعروفون باسم البراهمة النمبرديين، وزهد في ترف الدنيا، وانخرط في سلك "الساميناسيين" وهو لم يزل يافعاً، يعبد الآلهة الهندية على اختلافها دون أن يزعم لنفسه القدرة على فهمها على الرغم من أنه كان مغموراً في موجة من التصوف تكشف له عن فكرة "براهما" الواحد الذي يضم الآلهة جميعاً؛ وخُيّل إليه أنه ما ورد في كتب اليوبانشاد، هو أعمق الدين واعمق الفلسفة في آن معاً؛ فهو يستطيع أن يعفوا عن عامة الناس في عبادتهم لآلهة متعددة، لكنه لا يجد ما يغفر به عن الإلحاد في "سانخيا" أو عن لا أدرية "بوذا" ؛ سافر إلى الشمال ليمثل الجنوب فيه فاكتسب هناك شهرة في جامعة بنارس، حدت بالجامعة أن تخلع عليه أسمى ما عندها من أسباب التكريم، وبعثت به مصحوباً بطائفة كبيرة من الأتباع، ليذود عن البرهمية في كل ساحات المناظرة في الهند؛ ولعله كتب وهو في بنارس شرحه المشهور لليوبانشاد، وألف "بهاجافاد- جيتا" الذي هاجم فيه بحماسة دينية ودقة اسكولائية طوائف الزنادقة في الهند، وأعاد للبرهمية زعامتها الفكرية التي سلبها إياها "بوذا" و "كابيلا". يشيع في هذه الأبحاث الجدلية كثير من الميتافيزيقا، وفيها أقفار يباب من نصوص معروضة، لكننا نغفر ذلك كله لرجل استطاع وهو في سن الثلاثين أن يكون في الهند "أكويناس" و "كانت" معاً؛ فهو مثل "أكويناس" يسلم بكل ما في الكتب المقدسة في بلده من حجة على أنها وحي سماوي ثم يطوف باحثاً عن أدلة من خبرته ومن منطق العقل، يؤيد بها كل تعاليم تلك الكتب المنزلة؛ لكنه مع ذلك يختلف عن "أكويناس" في أنه ينكر على العقل وحده قدرته على القيام بهذه المهمة؛ بل هو على عكس ذلك، يتساءل قائلاً ألم نبالغ في قوة العقل وما يقوم به، وفي وضوحه وجدارته بالركون إليه؟(111) فقد أصاب "جيميني" حين قال إن العقل محام مستعد للبرهنة على كل ما نريد البرهنة عليه؛ لأن العقل يستطيع أن يجد لكل حجة حجة تدحضها وتكون مساوية لها؛ والنتيجة التي ينتهي إليها هي شك يزعزع كل ما في أخلاقنا من قوة، ويزلزل كل ما في حياتنا من قيم؛ ويقول "شانكارا": ليس المنطق هو الذي يعوزنا إنما تعوزنا البصيرة النافذة؛ وهي ملكة (شبيهة بملكة الفنون) ندرك بها دفعة واحدة ما هو حيوي في الأمر الذي نحن بصدده، فنميزه مما ليس بذي خطر، ونفرق بها بين ما هو أبدي وما هو زمني عابر، ونخرج بها الكل من الجزء؛ تلك هي أول ما يلزم للفلسفة من شروط؛ والشرط الثاني هو أن نقبل إقبالاً عن طواعية على الملاحظة والبحث والتفكير، لا نبتغي من ذلك كله غاية وراء المعرفة لذاتها، لا نريد من ورائه اختراعاً أو ثراء أو قوة؛ إنه بمثابة انسحاب الروح حتى لا تتعرض لكل ما يصاحب العمل من استثارة وميل مع الهوى واستمتاع بالثمرة؛ وثالث الشروط هو أن يكتسب الفيلسوف ضبطاً لنفسه وصبراً وهدوءاً، ولابد له أن يروض نفسه على الحياة المترفعة عن الإغراء الجسدي والمشاغل المادية وأخيراً يجب أن تشتعل في أعماق نفسه رغبة في "الموكشا" ومعناها التحرر من الجهل، والقضاء على كل الشعور بنفسه الفردية المنفصلة عن سواها، والاندماج السعيد في براهما الذي هو المعرفة الكاملة والاتحاد اللانهائي(112) واختصاراً، ليس الطالب بحاجة إلى منطق العقل بقدر ما هو بحاجة إلى تطهير الروح ورياضتها رياضة تزيد أغوارها عمقاً؛ ولعل في ذلك سر التربية الحقيقية في شتى صورها.

أقام "شانكارا" أساس فلسفته عند نقطة عميقة دقيقة، لم يستطع أحد بعده أن يدركها إدراكاً واضحاً، حتى قيض الله لها بعد ألف عام (عمانوئيل كانت) فكتب كتابه (نقد العقل الخالص)؛ ذلك أنه ألقى على نفسه سؤالاً هو: كيف تمكن المعرفة؟ إن كل علمنا فيما يبدو آت من الحواس، فهو لا يكشف عن الواقع الخارجي كما هو في ذاته، بل يكشف عن طريقة تشكيلنا لذلك الواقع بحواسنا- وربما بلغ التشكيل حد التغيير من الصورة الأصلية تغييراً أساسياً- وإذن فبالحس وحده يستحيل أن نعرف "الحقيقي" معرفة تامة؛ وكل ما قد نعرفه عنه هو العلم به وهو في ثوب المكان والزمان والسببية، وقد يكون ذلك الثوب نسيجاً خلقته حواسنا وعقولنا، فصَوَّرته أو طوَّرته على نحو يتيح له أن يتصيد ثباتاً من هذا الواقع السيال المفلات، وأن يمسك بهذه الصور الثابتة عنه، مع أننا إن استطعنا أن نحدس بوجود ذلك الواقع الخارجي، فيستحيل علينا أبداً أن نصف خصائصه الموضوعية كما تقع في ذاتها؛ ذلك لأن أسلوبنا في الإدراك سيظل إلى الأبد ممتزجاً بالشيء المدرك امتزاجاً لا سبيل إلى عزل الواحد عن الآخر.

وليس هذا بالذاتية الجوفاء، التي يقول بها من يريد أن يغلق على طويته دون أن يجد سبيلاً لاتصاله بالعالم الخارجي، والذي يظن أنه مستطيع أن يحطم العالم تحطيماً إذا تركه واسترسل في النعاس؛ إن العالم موجود، لكنه "مايا" وليس معنى الكلمة أنه وهم بل هو ظواهر، هو مظهر اشترك عقل الإنسان في تكوينه؛ وعجزنا عن إدراك الأشياء إلا في صورها التي تعرض علينا وهي في الزمان والمكان، ثم عجزنا عن التفكير فيها إلا على أساس السببية والتغير، إن هو إلا قصور فطري في طبائعنا، هو "أفيديا" أو جهل مرتبط ارتباطاً شديداً بطريقة إدراكنا نفسها، وعلى ذلك فهو جهل كتب على الجسد أن يصاب به؛ إن "مايا" و "أفيديا" هما الجانبان الذاتي والموضوعي للوهم الأعظم الذي يحمل العقل على الظن بأنه يعرف حقيقة العالم؛ إننا نرى كثرة في الأشياء وتياراً من التغير، بسبب "مايا وأفيديا" أعني بسبب ما ورثناه منذ الولادة من جهل محتوم؛ وحقيقة الأمر هي أن ثمة كائناً واحداً، وما التغيير إلا "مجرد اسم" نطلقه على تغير صور الأشياء في سطوحها الظاهرة؛ ووراء "المايا" أي النقاب الذي يحجب عنا الحقيقة، والذي قوامه تغير الأشياء، تستطيع أن تنفذ إلى الحقيقة الكلية الواحدة، براهما، لا بطريق الحواس ولا بقوة العقل، بل بالبصيرة النافذة والإدراك الفطري المباشر من روح مرنت على ذلك الضرب من الإدراك. هذا القصور الطبيعي للحس والعقل، الذي تسببه لهما أعضاء الحس وصور التفكير العقلي، يحول كذلك بيننا وبين إدراك الروح الواحد الصمد الذي يكمن وراء الأرواح والعقول الجزئية الفردية، فنفوسنا المنعزل بعضها عن بعض، والتي نراها بالإدراك الحسي والتفكير العقلي، لا تقل بطلاناً عن خيالات الزمان والمكان؛ إن الفروق بين الأفراد، والتمييز بين الشخصيات مرتبطان بالجسم والمادة، وهما من خصائص عالم التغير الذي يشبه في تغيره تصاوير الكاليدوسكوب وهذه النفوس التي لا تزيد على مجرد ظواهر زائلة، ستمضي بانقضاء الظروف المادية التي هي جزء منها، أما الحياة الكامنة وراءها والتي نحسها في دخائلنا حين ننسى المكان والزمان والسببية والتغير، هي جوهرنا الصميم وحقيقتنا الأصيلة؛ تلك هي "أتمان" التي نشترك فيها مع سائر النفوس والأشياء، والتي لا تتجزأ ولا يخلو منها مكان، وهي وبراهما، أي الله، شيء واحد بعينه(113). ولكن ما الله ؟ إنه كما في النفس نفسان : الذات و "أتمان" ، والعالم عالمان: عالم الظواهر وعالم الحقائق فكذلك الرب ربان : إشفارا، أي الخالق، وهو الذي تعبده عامة الناس لما يتبدى لهم من مكان وزمان وسببية وتغير، وبراهما أي الكائن الخالص، وهو الذي يعبده المتدينون المتفلسفون الذين يبحثون- ويجدون- حقيقة واحدة عامة وراء الأشياء والنفوس المستقل بعضها عن بعض؛ وتلك الحقيقة الواحدة لا تتغير وسط هذه التغيرات كلها، ولا تتجزأ رغم هذه الانقسامات كلها. أبدية رغم تغير الأشياء في صورها ورغم كل ما نشاهده من ولادة وموت؛ فتعدد الآلهة- بل العقيدة في وجود الله نفسها- نتيجة تتفرع عن عالم "المايا" و "الأفيديا" ؛ وهي صور تعبدية تقابل صور الإدراك الحسي والتفكير؛ وهي ضرورية لحياتنا الخلقية على نحو ما يكون المكان والزمان والسببية عناصر ضرورية لحياتنا الفكرية، لكن حقيقتها ليست مطلقة، وليس لها صدق موضوعي في واقع الوجود(114).

وليس وجود الله معضلة في رأي شانكارا، لأنه يعرّف الله بالوجود، ويجعل الكون الحقيقي كله والله شيئاً واحداً بعينه؛ أما عن وجود إله مشخص، يكون خالقاً ومُخَلّصاً، فقد يكون هناك- في رأيه- موضع للشك؛ مثل هذا الإله في مذهب هذا المفكر الذي سبق "كانت" في تفكيره، لا تمكن البرهنة عليه بالعقل، وكل ما نستطيعه إزاءه هو أن نفرض وجوده فرضاً باعتباره ضرورة عملية(115) يهب الطمأنينة لعقولنا القاصرة والتشجيع لأخلاقنا المتهافتة؛ قد يجوز للفيلسوف أن يعبد الله في أي معبد شاء، ويركع أمام أي إله بغير تفريق، لكنه سيجاوز هذه الصور العامية في العقيدة الدينية، التي ُتغْتفَر للعوام، وسيشعر بما في هذا التعدد من وهم خادع، مدركاً ما بين الأشياء كلها من وحدة لا تعرف التعدد ، إنه سيقدس الكون نفسه على أنه الكائن الأعلى- هذا الكائن الذي يعز على الوصف، لا تحده الحدود، ولا يحصره المكان ولا الزمان ولا يخضع للسببية، ولا يطرأ عليه التغير؛ إنه مصدر الحقيقة كلها ومادتها ، ويجوز لنا أن نصف براهما بأنه "شاعر بذاته" و "عاقل" بل و "سعيد" ما دام براهما يشتمل على النفوس كلها، ويمكن أن تتصف النفوس بأمثال هذه الصفات(116) لكن إلى جانب ذلك أيضاً يمكن أن نصف براهما بسائر الصفات جميعاً، مادام مشتملاً على خصائص الأشياء كلها؛ وبراهما في جوهره محايد يرتفع عن كونه مشخصاً أو مذكراً أو مؤنثاً، وهو يسمو على الخير والشر، وهو فوق كل الفوارق الخلقية، وكل أوجه الاختلاف بين الأشياء وكل الخصائص والصفات وكل الشهوات والغايات؛ إن براهما هو السبب والمسبب معاً وهو جوهر العالم الخفي الذي لا تحدده قيود الزمان.

وهدف الفلسفة هو أن تجد ذلك السر بحيث يذوب الواجد فيما وجد من سرّ ؛ ففي رأي شانكارا أن اندماج الإنسان بالله معناه أن يسمو على- أو يغوص إلى ما دون- انفصال النفس عن سائر النفوس، وقِصَر أمدها في الحياة، وكل ما لها من مصالح وأغراض توافه؛ وأن يصبح على غير شعور بالأجزاء والأقسام والأشياء جميعاً، وأن يكون مندمجاً في سكينة، وفي اتحاد نرفاني خال من كل شهوة، بذلك المحيط الكوني العظيم الذي لا تصطرع فيه الغايات ولا تتنافس النفوس، وليس فيه أجزاء ولا تغير ولا مكان ولا زمان ؛ ولكي يظفر الإنسان بهذه السكينة السعيدة (التي تسمى أناندا) فلا يكفي الإنسان أن ينكر العالم، بل يجب إلى جانب ذلك أن ينكر ذاته؛ لا ينبغي أن يأبه لأملاك أو أدوات للمتاع، بل لا ينبغي أن يأبه حتى بخير أو شر؛ يجب أن ينظر إلى الألم والموت نظرته إلى "مايا" ، أي حوادث تقع على سطح الجسم والمادة والزمان والتغير؛ ولا يجوز له أن يفكر فيما يصيب شخص من قضاء أو أن يفكر فيما له من خصائص؛ فلحظة واحدة يعني فيها بمصلحة ذاته أو يزهى فيها بنفسه كافية لهدم طريق الخلاص الذي يرجوه(119)؛ إن أعمال الخير لا تهيئ للإنسان خلاصاً، لأن أعمال الخير إنما تكون ذات قيمة أو معنى في عالم " المايا " وحده، أي عالم المكان والزمان؛ ولا يأتي بإخلاص إلى معرفة القديس، وما الخلاص إلا في إدراك الاتحاد بين النفس والكون، "أتمان" و "براهما" ، أي الروح والله، وامتصاص الجزء في الكل(120)؛ ويستحيل أن تقف دورة حلول الروح في أجساد جديدة إلا إذا تم هذا الامتصاص عندئذ سيتبين أن الروح الجزئية والشخصية المفردة، التي تصيبها عودة التجسد، وَهْمٌ ليس له وجود(121) وأن الذي يعيد الولادة للنفس على صعيد العقاب أو الثواب هو "إشفارا" أي إله "مايا" ؛ ويقول شانكارا "إنه إذا ما عرفت وحدة أتمان وبراهما، اختفت على الفور الروح الجزئية واختفى براهما باعتباره خالقاً (أي باعتباره إشفارا"(122) وتنتمي "إشفارا" و "كارما"- كما تنتمي الأشياء والأنفس- إلى مذهب فيدانتا المعروف، في صورته المحورة تحويراً يناسب حاجات الرجل من عامة الناس؛ أما الجانب الخفي السري من المذهب، فيعتبر الروح وبراهما شيئاً واحداً، لا يتجزأ ولا يموت ولا يتغير(123). وإنها لحكمة من شانكارا أن يحصر الجانب الخفي من مذهبه في الفلاسفة وحدهم؛ لأنه- كما رأى فولتير- كما أنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش بغير قانون إلا مجتمع من فلاسفة، فكذلك لا يستطيع أن يعيش فوق الخير والشر إلا مجتمع من الإنسان الأعلى؛ ولقد توجه الناقدون بنقد، هو أنه إذا كان الخير والشر جانبين من "مايا" أي من العالم الزائف إذن فلا يعود للفوارق الخلقية وجود، وتصبح الشياطين والقديسون في منزلة واحدة؛ وهاهنا يجيب شانكارا في ذكاء، بأن هذه الفوارق الخلقية حقيقية داخل عالم الزمان والمكان، وهي ملزمة لهؤلاء الذين يعيشون في هذه الدنيا، وليس فيها إلزام على الروح التي دمجت نفسها في براهما؛ فمثل هذه الروح لا تقترف الإثم، لأن الإثم يتضمن الشهوة وتحقيقها بالعمل، والروح التي تحررت- بحكم تعريفها- لا تتحرك في دنيا الشهوات والعمل (الذي يحقق لها شهواتها)، إن ما يُنْزل الأذى بغيره عامداً، يعيش في مستوى "مايا" ، ويخضع لما فيها من فوارق ومن أخلاق وقوانين، فلا حرّ إلا الفيلسوف، ولا حرية إلا الحكمة .

لقد كانت هذه الفلسفة أدق وأعمق مما ينتظر من صبي في العقد الثالث من عمره؛ ولم يكْف شانكارا أن يفصل أجزاءها فيما كتب، وأن يوفق في الدفاع عنها في نقاشه مع الناس، لكنه كذلك عبّر عن أجزاء منها في شعر هو من أرهف الشعر الهندي الديني إحساساً؛ ولما أن فرغ شانكارا من رد كل اعتراض وُجّه إليه، انتبذ صومعة في الهمالايا، وتقول الرواية الهندية إنه مات في سن الثانية والثلاثين(124)، ونشأت عشر جماعات دينية تحمل اسمه، واعتنق فلسفته كثير من الأتباع، ثم ارتقوا بها؛ وقد كتب أحد هؤلاء الأتباع- وبعضهم يقول : إن شانكارا نفسه هو الذي كتب- عرضاً شعبياً للفيدانتا، واسماه "موهامودجارا" ومعناها "مطرقة الحماقة"- عرض أسس المذهب عرضاً موجزاً في وضوح وقوة:

"أيها الأحمق! امح من نفسك هذا الظمأ للمال، واقتلع من قلبك كل الشهوات، واقنع نفساً بما تكسبه لك من "كارما" ...لا يأخذنك زهو بمال أو أصدقاء أو شباب؛ إن الزمن يقضي عليها جميعاً في لحظة واحدة؛ فإذا ما أسرعت وتركت كل هذا- وإنه لملئ بالأوهام- فادخل حيث براهما ... إن الحياة رجراجة مثل قطرة الماء على ورقة اللوتس ... إن الزمن لاه والحياة زائلة- ومع ذلك فأنفاس الأمل لا تنقطع؛ إن الجسد قد أصابه التجعيد والشعر قد شاب، والفم قد خلا من أسنانه، والعصا ترتعش في قبضة اليد، ومع ذلك فالإنسان لا يني متشبثاً بمواضع الرجاء ...احتفظ باتزانك دائماً ...إن فشنو وحده يسكن فيك وفيّ الآخرين؛ ومن العبث أن تغضب أو تثور؛ انظر إلى نفس جزئية في النفس الكلية الشاملة، ولا تعد تفكر فيما بيننا من فوارق(125).

الفصل الثالث: نتائج الفلسفة الهندية

الانهيار - ملخص - نقد - أثرها

جاءت الفتوح الإسلامية فختمت على عصر الفلسفة الهندية؛ وأدت هجمات المسلمين- ثم هجمات المسيحيين فيما بعد- على الديانة القومية إلى انكماش هذه العقيدة القومية نفسها دفاعاً عن نفسها، فوحّدت أجزاءها، وحرّمت كل جدل في الدين، وألجمت حركة الزندقة مع أنها مصدر التجديد، بحيث لم يبق إلا اطراداً راكداً في التفكير؛ ولما جاء القرن الثاني عشر، وجد مذهب "الفيدانتا"- الذي حاول على يدي شانكارا أن يكون ديناً للفلاسفة- من يفسره من القديسين، مثل "رامانوجا" (حوالي 1050م)- تفسيراً لا يجعل فرقاً بينه وبين العبادة الأصلية القديمة لفشنو، وراما، وكرشْنا؛ ولما حرم على الفلسفة أن تفكر فكراً جديداً، لم يكفْها أن تنحدر إلى اسكولائية، بل باتت عقيماً، وجعلت تتلقى العقائد من الكهنوت، وراحت تتعب نفسها في البرهنة عليها، بحيث تبين ما بينها من مميزات للواحدة عن الأخرى دون أن تدل تلك المميزات على فروق حقيقية، مصطنعة في ذلك منطقاً بغير عقل(126).

ومع ذلك فالبراهمة قد استطاعوا في عزلتهم التي أووا إليها وتحت درع واقية اتخذوها من إلغاز عباراتهم إلغازاً لا يفهمه أحد سواهم، استطاعوا أن يصونوا المذاهب القديمة من العبث، بأن صبوها في (سُوترات) (أي حِكَم أو عبارات موجزة) غامضة، وتعليقات ملغزة؛ وبهذا نقلوا نتائج الفلسفة الهندية عبر الأجيال والقرون؛ وقد كانت كل هاتيك المذاهب، برهمية كانت أو غير برهمية، تعتبر ملكات العقل ضعيفة لا حول لها، أو خادعة إزاء حقيقة الكون التي يراها الإنسان أو يحسها رؤية وإحساساً مباشرين . وكل اتجاهاتنا العقلية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، إن هي في رأي الميتافيزيقي الهندي إلا محاولة سطحية عابثة لإخضاع الكون الذي يستحيل حساب دقائقه، لتصورات سيدة رقيقة ممن يرتدن "الصالونات الأدبية" ؛ "في ظلام دامس يمضي أولئك الذين يعبدون الجهل، و في ظلام أشد دماسة يتخبط أولئك الذين يطمئنون نفساً بما لهم من علم"(129)؛ إن الفلسفة الهندية تبدأ حيث تنتهي الفلسفة الأوربية- وهو البحث في طبيعة المعرفة وفي حدود العقل؛ فهي لا تبدأ بمثل فيزيقياً "طاليس" و "ديمقريطس" و لكن بمثل نظرية المعرفة عن "لُكْ" و "كانْت" ؛ والعقل عندها هو ذلك الذي ندركه إدراكا مباشراً، ولذا فهي تأبى أن تحلله إلى معلوم عرفناه بطريق غير مباشر، أي عرفناه بالعقل، وهي تسلّم بالعالم الخارجي، لأنها لا تؤمن بأن حواسنا في مقدورها أن تعرفه على حقيقته الواقعة؛ إن العلوم كلها جهل "رسميٌّ" وهو ينتمي إلى دنيا الظواهر "مايا" فهي تصوغ في ألفاظ وعبارات لا تنفك متغيرة، الجانب العقلي من عالم ليس العقل فيه إلا جزءًا يسيراً- إن العقل في هذا العالم تيار واحد متنقل في بحر ليس له حدود؛ بل إن الشخص نفسه الذي يقوم بالتدليل العقلي لا يزيد على ظاهرة "مايا" أي أنه وهم من الأوهام؛ فماذا عسى أن يكون سوى التقاء مؤقت لطائفة من حوادث، أو سوى عُقدة عابرة في مسارات المادة والعقل خلال المكان والزمان؟- وماذا عسى أن تكون أفعاله و أفكاره سوى نتيجة لطائفة من القُوى التي سبقت بوجودها وجوده بعهد بعيد؟ ليس ثمة من حقيقة إلا براهما، ذلك المحيط الكوني الفسيح الذي لا تكون صورة أي شئ إلا بمثابة موجة عابرة فيه، أو إن شئت فقل لا تكون صورة الشيء إلا نقطة زَبَدِ على موجة من موجاته؛ فليست الفضيلة هي ما في أعمال الخير من بطولة صامتة، كلا ولا هي نشوة من التقوى ينتشيها من يوصف بها؛ بل هي مجرد الاعتراف بوحدة النفي مع كل نفس أخرى في حقيقة واحدة هي براهما؛ و الحياة الخلقية إن هي إلا ضرب من الحياة يكون أساسه الشعور بما بين الأشياء كلها من اتحاد ، "إن من يدرك كل الكائنات في نفسه، ويدرك نفسه في كل الكائنات، لن يصيبه شئ من القلق بعدئذ، إذ كيف يمكن أن يصاحبه بعد ذلك وهم أو أسى؟"(130). إن ما حال دون أن توسع هذه الفلسفة نطاقها بحيث تؤثر في المدنيات الأخرى، هو بعض الخصائص المميزة لها، التي لا يرى الهندي من وجهة نظرة شيئاً يعاب؛ فمنهجها، واصطلاحاتها الاسكولائية ومزاعمها الفيدية تحول بينها وبين أن تجد إقبالاً في أمم لها مزاعم أخرى، أو تثقفت بثقافات أكثر اتصالاً بهذا العالم الذي تعيش فيه؛ فمذهبها الخاص "بالمايا"- أي الظواهر- لا يبعث إلا قليلاً على الحياة الخلقية وفعل الفضيلة، وتشاؤمها هو بمثابة الاعتراف منها بأنها لم تفسر الشر، على الرغم من نظرية "الكارما" التي تحتوي عليها؛ وقد كان بعض تأثير هذه المذاهب الفلسفية، أن تزيد في حمل الناس على السكينة الهامدة في وجه الشرور التي كان يمكن عقلاً أن تصحح، أو إزاء عمل كان كأنما يصيح منادياً لعله يجد من يؤديه؛ ومع ذلك ففي هذه التأملات عمق، إذا ما قارنته بالفلسفات التي تحض على النشاط، والتي نشأت في مناطق أبعث على الفاعلية، أقول إن في هذه الفلسفات عمقاً يصبغ الفلسفات الأخرى الباعثة على النشاط، بلون التفاهة؛ فيجوز أن تكون مذاهبنا الغربية التي وثقت وثوقاً شديداً بأن "المعرفة قوة" بمثابة أصوات شباب مضى، كان فيه شهوة تضخم له الطبيعة قدرة الإنسان ومستطاعه حتى إذا ما أنهكت قوانا في كفاحنا اليومي ضد الطبيعة التي لا تعبأ بنا، والزمن الذي يناصبنا العداء، ازددنا عندئذ رحابة صدر حين ننظر إلى الفلسفات الشرقية التي توصي بالاستسلام والسلام؛ ومن ثم كان أثر الفكر الهندي على الثقافات الأخرى أشد ما يكون، في العهود التي تتعرض فيها تلك الثقافات لعوامل الضعف والانهيار؛ فلما كانت اليونان تحرز نصراً بعد نصر، لم تصرف إلا قليلاً من سمعها لما يقوله فيثاغورس أو بارمنيدس؛ ثم لما أخذت اليونان في التدهور، ذهب أفلاطون وذهب معه الكهنة الأورفيون مذهب تناسخ الأرواح، وطفق زينون الشرقي يبشر بما أوشك أن يكون استسلاماً للقضاء والقدر، وتسليماً للدهر وصروفه؛ ولما كانت اليونان تحتضر، ارتاد أنصار الأفلاطونية الجديدة والغنوسطيون (الذين يأخذون بإمكان معرفة الله) حياض الهند يعبون من أعماقها؛ والظاهر أن ما أصاب أوروبا من فقر بسقوط روما وفتوح المسلمين للطرق الموصلة بين أوروبا والهند، قد كان حجر عثرة مدى ألف عام، يعرقل تبادل الأفكار بين الشرق والغرب تبادلاً مباشراً؛ لكن لم يكد البريطانيون يثبتون أقدامهم في الهند حتى جعلت كتب اليوبانشاد تحرك الفكر الغربي بإعادة نشرها، أو بترجمتها؛ فتصور فخته مذهباً مثالياً على شبه شديد بمثالية شانكارا(132) وأوشك شوبنهور أن يدخل في فلسفته مذاهب البوذية واليوبانشاد والفيدانتا، إدخالاً يجعلها جزءاً من فلسفته لا يتجزأ؛ وكانت اليوبانشاد في رأي شلنج وهو في شيخوخته أنضج ما وصل إليه الإنسان من حكمة؛ أما نيتشه فقد خالط بسمارك واليونان أمداً أطول من أن يتيح له الفرصة للعناية بثقافة الهند، ومع ذلك فقد اعتنق آخر الأمر فكرة آثرها على كل فكرة سواها، وهي فكرة ظلت متشبثة بعقله لا تبرحه إلا وهي فكرة دورة الحياة دورة أبدية تظل فيها تعيد ما مضى من مراحل- وما تلك الفكرة إلا صورة من مذهب عودة الروح إلى التقمص في أجساد كثيرة.

إن أوروبا في عصرنا هذا تزداد أخذاً من فلسفة الشرق كما يزداد الشرق أخذاً من علوم الغرب؛ ويجوز أن تنشأ حرب عالمية أخرى فتفتح أبواب أوروبا (كما انفتحت اليونان عند تحطم إمبراطورية الإسكندر، وكما انفتحت روما عند سقوط الجمهورية الرومانية) بحيث تتدفق فيها فلسفات الشرق وعقائده؛ فثورة الشرق على الغرب ثورة متزايدة، وفقدان الأسواق الآسيوية التي كان من شأنها أن تقيم صناعة الغرب وازدهاره، وضعف أوروبا لما يصيبها من فقر وانقسام وثورة، كل ذلك قد يجعل من هذه القارة المنقسمة على بعضها غنيمة سهلة لديانة جديدة تجعل الناس يعقدون رجاءهم في السماء، و يفقدون الأمل في الأرض؛ و يجوز جداً أن يكون الهوى وحده هو الذي يجعل مثل هذا المصير مستحيلاً في رأي الناس في أمريكا، لأن السكينة و الاستسلام لا تتلاءم مع الجو الكهربائي الذي نعيش فيه، أو مع الحيوية التي تنشئ عن مصادر الثروة الغزيرة و الأرض الفسيحة الأرجاء؛ و لا شك في أن مناخنا سيكون لنا في نهاية الأمر درعاً واقية.