قصة الحضارة - ول ديورانت - ك 2 ج 15

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكتاب الثاني: الهند وجيرانها

الباب الخامس عشر: بوذا

الفصل الأول: الزنادقة

المتشككون - العدميون - السوفسطائيون - الملحدون - الماديون - ديانات بغير إله


إن أسفار اليوبانشاد نفسها تدل على أنه قد كان بين الناس متشككون حتى في أيام اليوبانشاد؛ فقد كان الحكماء أحيانا يسخرون من الكهنة، مثال ذلك في سفر "شاندوجيا" من أسفار اليوبانشاد، تشبيه لرجال الدين المتشددين في تمسكهم بالعقيدة إذ ذاك بموكب من الكلاب أمسك كل منها ذيل سابقه، وهو يقول في ورع : "أم دعونا نأكل، أم دعونا نشرب"(1) ، وفي سفر "سواسانفد" من أسفار اليوبانشاد تصريح بأنه لا إله، ولا جنة، ولا نار، ولا تناسخ، ولا عالم؛ وإن أسفار الفيدا واليوبانشاد ليست إلا تأليفاً من عند جماعة من الحمقى المغرورين، وأن الأفكار أوهام والألفاظ كلها باطلة، وأن من تخدعهم العبارات البراقة يتمسكون بالآلهة، وبالمعابد، و "بالقديسين" مع أنه لا فرق في حقيقة الواقع بين "فشنو" (الإله) وبين كلب من الكلاب(2)، وإن قصة لتروى عن "فيروكانا" الذي عاش اثنين وثلاثين عاماً تلميذاً للإله العظيم "براجاباتي" نفسه، وأنه تعلم علماً كثيراً عن النفس "التي خلصت" من الشرور، والتي لا تشيخ، ولا تموت، ولا تحزن، ولا تجوع، ولا تظمأ، والتي لا ترغب إلا في الحق، ثم عاد "فيروكانا" بغتة إلى الأرض وطفق يعلم الناس هذا المذهب الآتي الذي هو فضيحة الفضائح : "حياة الإنسان إنما تسعد هاهنا على الأرض، ونفس الإنسان لا بد من إشباع رغباتها، فمن استطاع أن يسعد نفسه على هذه الأرض، وأن يشبع رغبات نفسه، كسب الدارين معاً، هذه الحياة الدنيا والحياة الآخرة"(3)، وإذن فقد يكون البرهميون الصالحون الذين صانوا تاريخ بلادهم، قد خدعونا قليلاً حين أفهمونا أن نزعة التصوف والتقوى بين الهندوس كانت عامة لم يشذ عنها أحد.

والحق أنه كلما كشف لنا البحث العلمي عن شخصيات لم تكن في المنزلة العليا من احترام الناس، ممن اشتغلوا بالفلسفة الهندية قبل بوذا، ارتسمت لنا صورة تبين لنا إلى جانب القديسين السابحين في تأملاتهم عن إلههم "براهما"، طائفة من الأشخاص احتقرت الكهنة وشكت في الآلهة، وسميت- دون أن ترتاع لهذا الاسم- سميت بطائفة "اللا أدريين" و "العدميين"؛ فمثلاً رفض "سانجايا" اللا أدري أن يثبت أو أن ينفي الحياة بعد الموت، وتشكك في إمكان حصول الإنسان على العلم اليقيني، وحصر الفلسفة في محاولة استتباب السلام؛ كذلك أبى "بورانا كاشيابا" أن يعترف بالفوارق الخلقية، وعلم الناس أن الروح عبد للمصادفة لا يملك لها دفعاً؛ وذهب "ماسكارين جوسالا" إلى أن القدر قد خط في لوحه كل شئ يصيبه الإنسان بغض النظر عما هو جدير به حقاً؛ ورد "أجيتا كاسا كامبالين" الإنسان إلى عناصر هي التراب والماء والنار والهواء، وقال : "إن الحمقى وأرباب الحكمة يتشابهون إذا ما تحلل الجسد، فكلاهما يزول وينعدم ولا يكون له وجود بعد الموت"(4)، ولقد صور لنا مؤلف "رامايانا" صورة نموذجية للمتشكك حين صور لنا "جابالي" الذي جعل يسخر من راما" لأنه رفض مملكة ليفي بوعد تعهد بالوفاء به : "جابالي وهو برهمي عالم وسوفسطائي مهر في الكلام، تشكك في الإيمان وفي القانون والواجب، وراح يحدث سيد أيوذيا الشاب قائلاً :

أنى لك يا "راما" هذه الحكم السخيفة التي ترين على قلبك وتكتنف عقلك.

هذه الحكم التي تضلل السذج ومن لا يتعمقون التفكير من بني الإنسان ...؟

أواه، إني لأبكي من أجل هؤلاء الفانين من الناس حين يخطئون فيكبون على واجب باطل.

ويضحون بهذه المتعة الحبيبة إلى النفس حتى تنقضي حياتهم القاحلة.

وما ينفكون يقدمون العطايا للآلهة وللأسلاف؛ ياله من ضياع للطعام!

لأنه لا الإله ولا السلف يأخذ منا هذا الذي نقدمه إليه في ولاء وتقوى!

وهل إذا أكل الطعام آكل، تغذى به ناس آخرون؟

فهذا الطعام تقدمونه لبرهمي، هل يمكن له إذن أن يشبع الآباء السالفين؛ إن الكهنة بخبثهم قد صاغوا هذه الحكم، وهم يقولون إذ هم ينظرون إلي أغراض أنانية:


"قدم قربانك وتب إلى الله؛ واترك مالك الدنيوي وأخلص للصلاة!"

كلا، يا "راما" ليس هناك حياة آخره، وكلها أباطيل

هذه الآمال وهذه العقائد عند الإنسان

فابحث عن لذائذ الحاضر، واطرد عن نفسك هذه الأوهام العابثة الواهية(5)

ولما شب بوذا رجلاً، وجد القيعان والشوارع بل وجد الغابات في شمال الهند، تتجاوب كلها بأصداء نزاع فلسفي، كان في جملته ينحو نحواً إلحاديا مادياً. وإنك لترى الأسفار الأخيرة من "يوبانشاد"، كما ترى أقدم الأسفار البوذية ملئاً بالإشارات إلى هؤلاء الزنادقة(6)؛ فقد كان هناك طائفة كبيرة من السوفسطائيين الجوالين- ويسمونهم باريباجاكا أو المتجولين- تنفق أحسن أيام السنة في الرحلة من مكان إلى مكان، باحثة لها عن تلاميذ أو معارضين في البحث الفلسفي؛ وبعضهم كان يعلم المنطق على أنه الفن الذي تستطيع به أن تبرهن على أي شئ ، ولذلك أطلق عليهم بحق اسم "من يشققون الشعرة" أو "من يتلون تلوي ثعابين الماء"؛ وآخرون طفقوا يبرهنون على عدم وجود الله وعدم ضرورة اصطناع الفضيلة؛ وكانت جموع كبيرة من الناس تحتشد لتسمع أمثال هذه المحاضرات والمناقشات، وبنيت قاعات لهم خاصة، وكان الأمراء أحيانا يكافئون الظافرين في أمثال هذه الحلبات الفكرية(7)؛ حقاً لقد كان عصراً يدهشك بحرية فكره، وبألوان التجارب التي أجراها أهله في عالم الفلسفة. ولم يبق لنا كثير مما قاله هؤلاء المتشككة، والفضل في خلود ذكراهم يرجع كله تقريباً إلى ما هاجمهم به أعداؤهم(8)، وأقدم اسم بين تلك الطائفة هو "بريهاسباتي"، لكن أقواله الهدامة قد فنيت كلها، بحيث لم يبق لنا منها إلا قصيدة واحدة تحط من شأن الكهنة في لغة لا يشوبها غموض الميتافيزيقا:


ليس للجنة وجود، وليس هناك خلاص أخير؛

فلا روح، ولا آخرة، ولا طقوس للطبقات ...

إن فيدا ذات الوجوه الثلاثة، وأمر الإنسان لنفسه بلغات ثلاث؛

وهذه التوبة بكل ما فيها من تراب ورماد.

كل هذه وسائل عيش لقوم

خلوا من الذكاء والرجولة ...

كيف يمكن لهذا الجسد إذا ما أصبح تراباً

أن يعود إلى الظهور على الأرض؟ وإذا كان في وسع الشبح أن يمضي

إلى عوالم أخرى، فلماذا لا يجذبه الحب الشديد

لمن يخلفهم وراءه ، فيرجعه إليهم؟

إن هذه الطقوس الغالية التي تقام لمن يموتون

ليست إلا وسائل عيش دبّرها

دهاء الكهنة- لا أكثر من ذلك ...

فما دمت حياً، أنفق حياتك مطمئن البال

مرح النفس؛ ليقترض الإنسان مالا

من أصدقائه جميعاً، ويطعم نفسه بالزبد المذاب.


وعلى أساس القواعد التي أذاعها "بريهاسباتي" هذا، نشأت مدرسة هندوسية مادية بأسرها، أطلق عليها اسم واحد من رجالها، وهو "شارفاكا" وكان أتباع هذه المدرسة يضحكون من سخف الرأي القائل : أن أسفار الفيدا قد احتوت على الحق كما أوحى به الله، وقالوا في حجاجهم إن الحق يستحيل معرفته إلا عن طريق الحواس؛ وحتى العقل لا يجوز الركون إليه والثقة به، لأن كل استدلال عقلي لا يعتمد في صوابه على الملاحظة الدقيقة والتدليل الصحيح فحسب، بل يعتمد كذلك على افتراض أن المستقبل سيجيء على غرار الماضي؛ واليقين في مثل هذا الافتراض مستحيل، كما كان "هيوم" ليقول في الموضوع عندئذ(10)؛ قال فريق "الشارفاكا" إن ما لا تدركه الحواس ليس له وجود، وإذن فالروح وهم من الأوهام والإله "أتمان" أبطولة من الأباطيل؛ أننا لا نصادف في تجاربنا ولا في تجارب السالفين، إذ نستبطن أنفسنا، أية علامة تدل على وجود قوى خارقة للطبيعة في العالم؛ كل الظواهر طبيعية، ولا يردها إلى الشياطين أو الآلهة إلا السذج(11)؛ والمادة هي وحدها الحقيقة التي لا حقيقة سواها؛ والجسم مجموعة من ذرات اجتمع بعضها ببعض(12) وما العقل إلا مادة تفكر؛ والجسم- لا الروح- هو الذي يشعر ويرى ويسمع ويفكر(13) "من ذا الذي رأى روحاً موجودة في استقلال عن الجسم؟" فليس هناك خلود ولا عودة إلى الحياة؛ والدين كله تخليط وهذيان وسفسطة خادعة؛ وافتراض وجود الله لا ينفع شيئاً في شرح العالم أو فهمه، وإذا اعتقد الناس بضرورة الدين، فما ذاك إلا لأنهم تعوّدوه، ولذا فهم يحسون كأنما ضاع منهم ضائع، ويشعرون كأنهم في خلاء لا تطمئن له النفوس، حين تنمو معارفهم نمواً يهدم العقيدة الدينية(14)؛ وكذلك الأخلاق أمر طبيعي؛ فهي عرف اجتماعي ووسيلة لراحة العيش في المجتمع، وليست بالأمر الصادر من الله؛ والطبيعة لا تأبه لخير أو لشر، لفضيلة أو رذيلة، وهي تشرق بشمسها في غير تفرقة بين الأوغاد والقديسين؛ فلو كان للطبيعة صفة أخلاقية إطلاقاً، فهي منافاتها للأخلاق كما تعرفها حدود البشر؛ ولا حاجة بالإنسان إلى إلجام غرائزه وشهواته، لأن هذه هي الإرشادات التي رسمتها الطبيعة للناس؛ الفضيلة غلطة من الغلطات، وغاية الحياة هي أن تعيش، والحكمة الوحيدة هي أن تعيش سعيداً(15).

كانت الفلسفة الثائرة التي أخذ بها فريق "الشارفاكا" ختاماً لأسفار الفيدا وأسفار اليوبانشاد؛ وزعزعت سلطة البراهمة على العقل الهندي، وتركت في المجتمع الهندوسي فراغاً كاد يضطر الناس اضطراراً أن يصطنعوا لأنفسهم ديناً جديداً؛ لكن أنصار المذهب المادي هؤلاء كانوا قد أجادوا أداء مهمتهم إجادة جعلت الديانتين اللتين نشأتا لتحلا محل العقيدة الفيدية، ديانتين ملحدتين، أو عقيدتين تعبديتين بغير إله- ولو أن هذا القول قد يبدو للقارئ تناقضاً- فكلتا الديانتين الجديدتين كانتا شعبتين من الحركة الهدامة؛ وكلتاهما لم تكونا من إنشاء الكهنة البراهمة، بل ابتدعهما فريق من "الكشاترية" أي طبقة المقاتلين، ليردوا بهما فعل اللاهوت والطقوس الكهنوتية؛ وبظهور هاتين الديانتين، وهما الجانتية والبوذية، بدأ التاريخ الهندي عصراً جديداً.


الفصل الثاني: ماهافيرا والجانتيوُّن

البطل العظيم - العقيدة الجانتية - تعدد الآلهة والشرك بالله - التقشف - الخلاص بالانتحار - تاريخ الجانتية في مراحلها الأخيرة


حول منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ولد صبي لرجل ثري من أشراف قبيلة "لِشَّافي" في ضاحية من ضواحي مدينة "فابشالي" في الإقليم الذي يسمى الآن بالإقليم "بهار" . وكان أبواه على ثرائهما ينتميان إلى عقيدة تنظر إلى العودة إلى الحياة على أنها لعنة نزلت بمن يعود، وتنظر إلى الانتحار على أنه ميزة ينعم بها المنتحر؛ فلما أن بلغ وليدهما عامه الحادي والثلاثين، أزهقا روحيهما بجوع متعمد؛ فتأثر ابنهما الشاب تأثراً بلغ منه سويداء نفسه، فأطرح العالم كله وأساليب العيش فيه، وخلع عن جسده كل ثيابه، وضرب في أرجاء الإقليم الغربي من البنغال زاهداً متقشفاً، ينشد تطهير نفسه من أدرانها كما يقصد أن يزداد بسر الوجود فهماً وعلماً، وبعد أن قضى في إنكار ذاته على هذا النحو ثلاثة عشر عاماً، أعلنت جماعة من أتباعه أنه "جنا" (أي قاهر)؛ ومعنى ذلك أنه معلم من عظماء المعلمين الذين يكتب لهم القدر- هكذا كانوا يعتقدون- أن يظهروا على فترات دورية ليهدوا شعب الهند سواء السبيل.

واختار هؤلاء الأتباع لزعيمهم اسماً جديداً هو "ماهافيرا" أو "البطل العظيم"، واتخذوا لأنفسهم اسماً اشتقوه من اسم عقيدتهم، فأطلقوا على أنفسهم اسم "الجانتيين" ؛ ونظم "ماهافيرا" طائفة من رجاله يكونون رهباناً عزاباً، وطائفة من النساء يكن راهبات عانسات؛ فلما أن جاءته منيته وهو في الثانية والسبعين من عمره، ترك وراءه أربعة عشر ألفاً من أشياع مذهبه.

وأخذت هذه العقيدة شيئاً فشيئاً تخرج من جوفها مذهباً من أعجب ما شهده تاريخ الديانات من مذاهب؛ فقد بدأ هؤلاء الأتباع بمنطق واقعي، إذ وصفوا المعرفة بأنها لا تتجاوز حدود النسبي الذي يقع في الزمان؛ فكانوا يعلمون الناس أن ليس ثمة حق إلا من وجهة نظر معينة، ولو نظر إلى هذا الحق من وجهات نظر أخرى لكان الأرجح أن يكون باطلاً؛ وكان يلذ لهم دائماً أن يرووا قصة العميان الستة الذين وضعوا أيديهم على أجزاء مختلفة من جسم الفيل، فمن وضع يده على أذنه ظن على أن الفيل مروحة ضخمة لذر الغلال، ومن وضع يده على ساقه قال أن الفيل عمود مستدير كبير(17)، فالأحكام كلها- إذن- محدود بحدود ومشروطة بشروط، وأما الحقيقة المطلقة فلا تتكشف إلا لهؤلاء المخلصين للبشر الذي يظهرون على فترات منتظمة، أو طائفة "الجنا" كما كانوا يسمونهم؛ وليست تنفع أسفار الفيدا لسد هذا النقص، لأنها لم تهبط من إله، وأقل ما يقال في التدليل على ذلك أن ليس هنالك إله؛ وقد قال الجانتيون أنه ليس من الضروري أن نفرض وجود خالق أو سبب أول، فكل طفل يستطيع أن يفند مثل هذا الفرض بقوله إن الخالق الذي لم ُيخْلَق أو السبب الذي لم يسبقه سبب، لا يقل صعوبة على الفهم عن افتراض عالم لم تسبقه أسباب ولم يخلقه خالق؛ وإنه لأقرب إلى المنطق السليم أن نعتقد أن الكون كان موجوداً منذ الأزل، وأن تغيراته وأطواره التي لانهاية لها ترجع إلى قوى كامنة في الطبيعة، من أن تعزو هذا كله إلى صناعة إله(18).

لكن مناخ الهند لا يساعد على عقيدة طبيعية تقوم بين الناس وتثبت، فلما أفرغ الجانتيون السماء من إلهها، لم يلبثوا أن عمروها من جديد بطائفة من القديسين المؤلهين ممن روى أخبارهم تاريخ الجانتين وأساطيرهم، وراحوا يعبدونهم مخلصين لهم العبادة مقيمين لهم الشعائر؛ لكنهم اعتبروا هؤلاء المؤلهين أنفسهم خاضعين للتناسخ والتحلل، ولم يعدوهم خالقين للعالم أو سادة عليه يحكمونه بأي معنى من المعاني(19)، وليس معنى ذلك أن الجانتين كانوا يعتنقون مذهباً مادياً خالصاً، لأنهم فرقوا بين العقل والمادة في كل الكائنات، ففي كل شئ ، حتى الأحجار والمعادن، أرواح كامنة، وكل روح تحيا حياتها بغير شائبة تلام عليها، تصبح "بارماتمان"- أو روحاً سامية- وكانت تنجو بذلك من التقمص في جسد آخر، مدى حين، على أنها تتقمص جسدها الجديد إذا ما نالت من الجزاء حقها الموفور، ولا ينعم "بالخلاص" الكامل إلا أعلى الأرواح وأكملها؛ ومن هؤلاء تتكون طائفة "الأرْهات"- أي السادة المعظمين- الذين كانوا يعيشون، مثل آلهة أبيقور، في مملكة بعيدة ظليلة، وهم عاجزون عن التأثير في شئون الناس، لكنهم ينعمون بارتفاعهم عن كل احتمال يؤدي إلى عودتهم إلى الحياة(20).

والطريق المؤدية إلى الخلاص في رأي الجانتيين، هي توبة تقشفية، واصطناع "أهْمِساَ" موفورة كاملة، و"أهمسا" معناها الامتناع عن إيذاء أي كائن حي؛ ولزام على كل متقشف جانتي أن يأخذ على نفسه عهوداً خمسة؛ ألا يقتل كائناً حياً، وألا يكذب، وألا يأخذ ما لم يعطه، وأن يصون عفته، وأن ينبذ استمتاعه بالأشياء الخارجية كلها؛ وفي رأيهم أن اللذة الحسية خطيئة دائماً؛ والمثل الأعلى هو ألا تأبه للذة أو ألم وأن تستغني استغناءً تاماً عن الأشياء الخارجية كلها؛ فالزراعة حرام على الجانتي لأنها تمزق التربة وتسحق الحشرات والديدان؛ والجانتي الصالح يرفض أكل العسل لأنه حياة النحل، ويصفى الماء قبل شرابه خشية أن يقتل ما عساه أن يكون كامناً فيه من كائنات؛ ويغطى فمه حتى لا يستنشق مع الهواء أحياء عالقة في الهواء فيقتلها، ويحيط مصباحه بستار حتى يقي الحشرات لذع النار، ويكنس الأرض أمامه وهو يمشي خوفاً من أن تدوس قدمه الحافية على كائن حي فترديه؛ ولا يجوز للجانتي أبداً أن يذبح حيواناً أو يضحي به؛ ولو كان "جانتياً" صميماً أقام المستشفيات والمصحات- كما ترى في احمد أباد- للحيوانات إن هرمت أو أصابها أذى؛ والحياة التي يجوز له أن يزهقها هي حياته دون غيرها؛ فالعقيدة الجانتية تجيز الانتحار ولا تقيم في سبيله العقبات، خصوصاً إذا تم بوسيلة الجوع، لأن ذلك أبلغ انتصار تظفر به الروح على إرادة الحياة العمياء؛ ولقد مات جانتيون كثيرون على هذا النحو، وقادة المذهب يبارحون هذه الدنيا- حتى في عصرنا هذا- بتجويع أنفسهم حتى الموت(21).

إن عقيدة دينية كهذه، قائمة على أساس من الشك العميق في قيمة الحياة والإنكار الشديد لها، كان يمكن أن تجد في الناس شيوعاً في بلد ما فتئت الحياة فيه عسيرة شاقة؛ لكن هذا التطرف في الزهد قد حال دون إقبال الناس عليها حتى في الهند؛ فمنذ ظهور المذهب الجانتي، والجانتيون صفوة مختارة؛ و على الرغم من أن "يوان شوانج" وجدهم عديدي النفر أقوياء الأثر في القرن السابع(22). فإنهم كانوا عندئذ في أوج حياتهم التي سلخت سيرتها في هدوء؛ وحدث سنة 79م أن انشقوا فريقين تفصلهما هوة سحيقة من اختلاف الرأي على موضوع العري؛ ومنذ ذلك الحين، كان الجانتي إما إن يكون منتسباً إلى طائفة "شويتامْبَارا"- أي طائفة ذوي الأردية البيض- وأما أن يكون منتسباً إلى طائفة "ديجامبارا"- أي المتزملين بالسماء، أو ذوي الأجساد العارية؛ وكلتا الطائفتين تلبس الثياب العادية كما يقضي المكان والزمان، وقدّيسوهم وحدهم هم الذين يجوبون الطرقات عراة الأجسام؛ وهذان المذهبان الفرعيان لهما فروع، فطائفة "ديجامبارا" لها أربعة فروع، وطائفة "شويتامبارا" لها أربعة وثمانون فرعاً(23)، ويبلغ عدد أتباع الطائفتين معاً مليوناً وثلاثمائة ألف نسمة من عدد السكان الذين يبلغون ثلاثمائة وعشرين مليوناً(24)، ولقد كان غاندي شديد التأثر بالمذهب الجانتي، واصطنع " أهمسا "- ومعناها الامتناع عن إيذاء الكائنات الحية على اختلافها- أساساً لسياسته وحياته، ورضي من الثياب بقطعة صغيرة من القماش تستر ردفيه، ولم يكن يستحيل عليه أن يزهق نفسه جوعاً؛ ومن يدري؟ فلعل الجانتيين يسلكونه في طائفة "الجنا" ، فيعدونه تجسّداً جديداً للروح العظمى التي تتقمص جسداً من لحم على فترات منتظمة من الدهر لتخلص العالم.


الفصل الثالث: أسطورة بوذا

بطانة بوذية - الولادة المعجزة - النشأة - أحزان الحياة - الهرب - أعوام التقشف - الهداية - رؤية النرفانا


إنه لمن العسير على أبصارنا أن نرى عبر ألفين وخمسمائة عام ماذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية والخلقية التي استدعت ظهور ديانتين تدعوان إلى مثل ما تدعوا إليه الجانتية والبوذية من تقشف وتشاؤم؛ فمما لا شك فيه أن الهند كانت قد خطت خطوات فسيحة في سبيلها إلى الرقي المادي منذ استقر بها الحكم الآري؛ فبنيت مدائن عظيمة مثل "باتاليبُترا" و "فايشالي" ؛ وزادت الصناعة والتجارة من ثروة البلاد؛ والثروة بدورها خلقت لطائفة من الناس فراغاً، ثم طَوَّر الفراغ العلم والثقافة؛ ومن الجائز أن تكون الثروة في الهند هي التي أشاعت فيها النزعة الأبيقورية المادية خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد؛ ذلك لأن الدين لا يزدهر في حياة تزدهر بالثراء، إذ الحواس في ظل الثراء تحرر نفسها من قيود الورع وتخلق من الفلسفات ما يبرر هذا التحرر؛ وكما حدث في الصين أيام كونفوشيوس، وفي اليونان أيام بروتاجوراس- ولن نذكر في الهند أيام بوذا- أن أدى الانحلال العقلي للديانة القديمة إلى شك وفوضى في الأخلاق؛ فالجانتية والبوذية، ولو أنهما مترعتان في ثناياهما بلون من الإلحاد الكئيب، الذي ساد ذلك العصر بعد أن زالت عن عينيه غشاوة الأحلام وأوهامها؛ إلا أنهما في الوقت نفسه كانتا بمثابة رد الفعل من جانب الدين في مقاومته لمذاهب اللذة التي أخذت بها طبقة من الناس حررت نفسها ونعمت في حياتها بالفراغ .

وتصف الرواية الهندوسية والد بوذا- شُدْ ذُوذانا- بأنه رجل غمس نفسه في الحياة ، وهو من أبناء عشيرة "جواتاما" التي تنتسب إلى قبيلة "شاكيا" المُدِلَّة بنفسها؛ كان أميراً أو ملكاً على "كابيلافاستو" عند سفح الهمالايا(25)؛ ولكننا في حقيقة الأمر لا نعرف شيئاً عن بوذا معرفة اليقين؛ فلو رأيتنا قد قصصنا عليك هاهنا القصص التي تجمعت حول اسمه، فليس ذلك لأنها تاريخ نريد إثباته، ولكننا نرويها لأنها جزء ضروري من الأدب الهندي والديانة الآسيوية، ويحدد العلماء مولد بوذا بعام يقرب من سنة 563 ق.م. ثم لا يستطيعون أن يضيفوا إلى ذلك شيئاً، فتتناول الأساطير بقية قصته، وتكشف لنا عن الغرائب التي قد تحدث حين تحمل الأمهات بأعلام الرجال، فيذكر لنا سفر من أسفار "جاتاكا" . أنه في ذلك الوقت:

"في مدينة كابيلافاستو" أعلن عن الاحتفال بالبدر؛ وبدأت الملكة "مايا" قبل موعد البدر بسبعة أيام تقيم حفلاتها بالعيد دون أن تقدم فيها المسكرات، مكتفية بما أغرقت به ولائمها من أكاليل الزهور والعطور؛ وفي اليوم السابع- يوم اكتمال البدر- استيقظت مبكرة واستحمت في ماء عبق بالعطر، وأحسنت للفقراء بأربعمائة ألف قطعة من النقد؛ ولما أخذت زخرفها وازينت، جلست تأكل طعامها من أطيب الطعام، وقطعت على نفسها عهود "أبوساذا" ثم دخلت مخدعها الرسمي المزدان، واستلقت على سريرها، فأخذها النعاس ورأت هذا الحلم:

رأت أربعة ملوك عظماء يرفعونها في سريرها ويأخذونها إلى جبال الهمالايا ويضعونها على هضبة مانوسيلا... ثم رأت ملكات هؤلاء الملوك الأربعة، يأتين إليها فيأخذنها إلى بحيرة أنوتانا، ويغمسنها في الماء ليزلن عنها الصبغة البشرية، ويلبسنها أردية سماوية ويعطرنها بالعطور ويزينها بالزهور القدسية؛ ولم يكن على مبعدة منها أن رأت جبلاً من فضة وعليه قصر من ذهب؛ وهنالك أعددن لها سريراً إلهياً رأسه إلى الشرق، وأرقدنها عليه؛ وهاهنا انقلب "بوذيساتاوا" فيلاً أبيض؛ وكان على مقربة من المكان جبل من ذهب، فلما أن بلغه هبط منه إلى جبل الفضة آتياً إليه من جهة الشمال؛ وفي جعبته التي أشبهت حبلاً من فضة، كان يحمل زهراً أبيض من زهور اللوتس؛ وبعدئذ نفخ في الصور ودخل قصر الذهب ودار تجاه اليمين دورات ثلاثاً حول سرير أمه، ثم ضرب جنبها الأيمن وظهر لها كأنه يدخل رحمها؛ وبهذا تلقى... حياة جديدة.

واستيقظت الملكة في اليوم التالي وروت حلمها للملك؛ فدعا الملك إلى حضرته أربعة وستين من أعلام البراهمة، وخلع عليهم خلع التكريم وأشبعهم طعاماً فاخراً وقدم إليهم الهدايا؛ فلما أن رضيت نفوسهم بهذه اللذائذ كلها، أمر بالحلم أن تقص عليهم قصته، واستفسرهم ما يكنه الغيب، فقال البراهمة : لا يأخذنك الهم أيها الملك، فقد حملت الملكة، حملت ذكراً لا أنثى، وسيكون لك ابن؛ ولو سكن ذلك الولد بيتاً فسيكون ملكاً، سيكون ملكاً على الدنيا بأسرها، وأما إن ترك داره وخرج من أحضان العالم، فسيصبح بوذا، وسيكون في هذا العالم رافع الغشاوة عن أعين الناس (غشاوة الجهل)... وحملت الملكة "مايا" "بوذيساتاوا" عشرة أشهر كأنه الزيت في القدح، ولما أن جاءها أو أنها رغبت في الذهاب إلى بيت أهلها، ووجهت الخطاب إلى الملك "شدذوذانا" قائلة: "أريد أيها الملك أن أذهب إلى "ديفاداذا" مدينة أسرتي" فوافق الملك وأمر بالطريق من "كابيلا فاستو" إلى "ديفاداذا" أن يمهد وأن يزين بأصص النبات، وبالرايات والأعلام، وأجلسها في هودج من ذهب يحمله ألف من رجال البلاط، وأرسلها إلى بيت أهلها في حاشية كبيرة؛ وبين البلدين حرج يملكه أهل المدينتين جميعاً، هو حرج يمرح فيه الناس يتألف من أشجار "الملح" ويسمى "حرج لمبيني" ، وكان الحرج إذ ذاك كتلة واحدة من الزهر الذي يغطي الأشجار من جذورها إلى رؤوسها... فلما رأته الملكة رغبت في أن تمرح في الحرج، وذهبت إلى جذع شجرة كبيرة من أشجار "الملح" وأرادت أن تمسك بغصن من غصونها، فانحنى الغصن حتى بات في متناول يدها كأنه الطرف الأعلى من قصبة لينة، ومدت يدها وتناولته، وفي هذه اللحظة عينها اهتزت بالمخاض، فأقامت لها الحاشية ستاراً يسترها، وأبعدت عنها، فوضعت وليدها وهي لم تزل واقفة ممسكة بغصن الشجرة في يدها؛ ولم ينزل "بوذيساتاوا"- كما ينزل سائر الأطفال من أجواق أمهاتهم- ملوثاً بالشوائب؛ بل نزل "بوذيساتاوا" كما ينزل الواعظ من منبر وعظه، نزل كأنه الرجل ينزل السلم، ومد يديه وقدميه، ووقف لا يلوثه القذر ولا تدنسه شائبة من الشوائب، وقف مشرقاً بالضوء كأنه جوهرة موضوعة على ثوب بنارسي، هكذا هبط من جوف أمه"(28).

وفوق ذلك ينبغي أن تعلم أن عند مولد بوذا ظهر في السماء ضوء لامع، وسمع الأصم، ونطق الأبكم، واستقام الأعرج على ساقيه، وانحنت الآلهة من علياء سمائها لتمد له أيدي المعونة، وأقبل الملوك من نائي البلاد يرحبون بمقدمه، وتصور لنا الأساطير صورة زاهية لما أحاط نشأته من أسباب العز والترف؛ وعاش عيش الأمير الهانئ في ثلاثة قصور "كأنه إله" ، وكان أبوه يقيه، مدفوعاً بحبه الأبوي، شر الاتصال بما تعانيه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وكان يقوم على تسليته أربع آلاف راقصة، ولما بلغ الرشد، عرضت عليه خمسمائة سيدة ليختار إحداهن زوجة له؛ ولما كان ينتمي إلى طبقة "الكشاترية"- أي المقاتلين- أحسن تدريبه في الفنون العسكرية، ولكنه إلى جانب ذلك جلس عند أقدام الحكماء حتى أتقن دراسة النظريات الفلسفية كلها التي كانت شائعة في عصره(29)؛ وتزوج وأصبح والداً سعيداً بحياته، وعاش في ثراء ودعة وطيب أحدوثة.

ويروى الرواة الصالحون أنه خرج من قصره ذات يوم إلى الطرقات حيث عامة الناس، وهنالك رأى شيخاً كهلاً؛ وخرج يوماً ثانياً فرأى رجلاً مريضاً؛ وخرج يوماً ثالثاً فرأى ميتاً... فاسمع له يروي القصة بنفسه- كما نقلها عنه أتباعه في الكتب المقدسة- يرويها فيحرك في نفسك كامن الشعور: "وبعدئذ أيها الرهبان جرت خواطري على النحو الآتي- فيما كنت فيه من جلال عيش ورفاهية بالغة- قلت لنفسي: "إن رجلاً جاهلاً من سواد الناس، ستنال منه الكهولة كما نالت من ذلك الشيخ، وليس هو بالبعيد عن نطاق الشيخوخة، يضطرب ويستحي وتعاف نفسه حين يبصر بشيخ كهل، لأنه يتصور نفسه في مثل حالته؛ إنني كذلك قابل للشيخوخة، ولست بعيداً عن نطاقها؛ أفينبغي لي- وأنا القابل للشيخوخة- إذا ما رأيت شيخاً كهلاً، أن أضطرب وأن أستحي وأن تعاف نفسي؟ " لم أر ذلك مما يليق؛ ولما طاف برأسي هذا الخاطر، ذهب عني بغتة كل تيه بشبابي ...

وهكذا أيها الرهبان، قبل أن أهتدي سواء السبيل، لما وجدتني ممن تجوز عليهم الولادة، بحثت في طبيعة هذه الولادة ماذا تكون؛ ولما وجدتني ممن تجوز عليهم الشيخوخة بحثت في طبيعة هذه الشيخوخة ماذا تكون، وكذلك المرض، وكذلك الحزن، وكذلك الدنس؛ ثم فكرت لنفسي: "مادمت أنا نفسي ممن تجوز عليهم الولادة، فماذا لو بحثت في طبيعتها ... فلما رأيت ما في طبيعة الولادة من تعس، جعلت أبحث عمن لا يولد، أبحث عن السكينة العليا، سكينة النرفانا"(30).

إن الموت هو أصل الديانات كلها؛ ويجوز أنه لم يكن هناك موت لما كان للآلهة عندنا وجود؛ هذه النظرات كانت بداية "التنوير" عند بوذا؛ وكما يرتد الإنسان عن دينه في لحظة، كذلك حدث لبوذا أن صمم فجأة أن يترك أباه وزوجته وابنه الرضيع، ليضرب في الصحراء زاهداً؛ ولما أسدل الليل ستاره، تسلل إلى غرفة زوجته، ونظر إلى ابنه "راهولا" نظرة أخيرة؛ وتقول الأسفار المقدسة البوذية، ففي فقرة يقدسها اتباع "جوتاما" جميعاً، أنه في هذه اللحظة عينها:

"كان مصباح يضيء بزيت عبق، وكانت أم "راهولا" نائمة على سرير مليء بأكداس الياسمين وغيره من ألوان الزهور، واضعة راحتها على رأس ابنها؛ فنظر "بوذيساتاوا"- بوذا المنتظر- وقدماه عند الباب، وقال لنفسه:

"لو أزحت يد الملكة لآخذ ابني، فستستيقظ الملكة، وسيكون ذلك حائلاً دون فراري؛ إنني إذا ما أصبحت بوذا سأعود لأراه" ونزل من القصر (31).

وفي ظلمة الصباح الباكر خلف المدينة على ظهر جواده "كانثاكا" يصحبه سائق عربته "شونا" وقد تعلق يائساً بذيل الجواد؛ وعندئذ تبدى له "مارا" أمير الشر، وأغواه بمُلك عريض، لكن بوذا أبى عليه غوايته، وظل راكباً جواده حتى صادفه نهر عريض فوثب من شاطئه إلى شاطئه بوثبة واحدة جبارة وطافت بنفسه رغبة أن ينظر إلى بلده لكنه أبى على نفسه اللفتة ليرى؛ ثم استدارت الأرض العظيمة حتى لا تصبح أمامه سبيل إلى النظر إلى وراء(32).

ووقف عند مكان اسمه "يوروفيلا" يقول: "قلت لنفسي إن هذا المكان رائع، وإن هذه لغابة جميلة؛ فالنهر ينساب صافياً، وأماكن الاستحمام تبعث في النفس السرور، وكل ما حولي مروج وقرى". وهاهنا في هذا الموضوع أخضع نفسه لأشق أنواع التقشف؛ ولبث ستة أعوام يحاول أساليب "اليوجا"- رياض النفس- التي كانت قد ظهرت قبل ذاك في ربوع الهند؛ وعاش على الحبوب والكلأ، ومضى عليه عهد اقتات فيه بالروث، وانتهى به التدرج إلى أن جعل طعامه حبة من الأرز كل يوم، ولبس ثياباً من الوبر وانتزع شعر رأسه ولحيته لينزل بنفسه العذاب لذات العذاب؛ وكان ينفق الساعات الطوال واقفاً أو راقداً على الشوك، وكان يترك التراب والقذر يتجمع على جسده حتى يشبه في منظره شجرة عجوزاً؛ وكثيراً ما كان يرتاد مكاناً تلقى فيه جثث الموتى مكشوفة ليأكلها الطير والوحش، فينام بين هذه الجثث العفنة. ثم اسمع له مرة أخرى يروي لك قصته:

"قلت لنفسي: ماذا لو زممت الآن أسناني، وضغطت لساني إلى لهاتي، وألجمت عقلي وسحقته وأحرقته بعقلي (وهكذا فعلت) ونضح العرق من إبطي... ثم قلت لنفسي: ماذا لو اصطنعت الآن غيبوبة شعورية يقف فيها التنفس؟ وهكذا أوقفت النفس شهيقاً وزفيراً من أنفي وفمي؛ ولما فعلت ذلك سمعت صوتاً عنيفاً للهواء يخرج من أذني... وكما يحدث للرجل إذا ما أراد أن يهشم لإنسان رأسه بسن سيفه، فكذلك رجت الرياح العنيفة رأسي ... ثم قلت لنفسي: ماذا لو قللت من طعامي، فلا آكل اكثر مما تسع راحتي من عصير الفول أو العدس أو البسلة أو الحمص... فضمر جسدي ضموراً شديداً، وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت العلامة التي أتركها على الأرض إذا ما جلست، في هيئة أثر الخف يتركه البعير على الرمال؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن برزت عظام فقراتي إذا ما حنيتها أو فردتها حتى أشبهت صفاً من رؤوس المغازل؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت عيني تبرقان عميقتين وطيئتين في محجريهما، كما يبرق الماء عميقاً وطيئاً في بئر عميقة؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن ذبل جلد رأسي كما تتشقق وتذوي القرعة المرة المفصولة عن فرعها وهي فجة، بفعل الشمس والمطر؛ ولما كنت أمد يدي لأمس جلدة بطني، كنت أجدني في حقيقة الأمر أمسك بفقرات ظهري؛ وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا ما أردت برازاً وجدتني انبطح على الأرض سطيحاً، وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا أردت راحة لجسمي وأخذت أدلكه بكفي، كانت الشعرات الذاوية تساقط منه"(33).

لكن فكرة أشرقت على بوذا ذات يوم وهي أن تعذيب النفس ليس هو السبيل لما يريد؛ وربما كان في ذلك اليوم أشد جوعاً منه في سائر الأيام، أو ربما ثارت في نفسه إذ ذاك ذكرى من ذكريات الجمال؛ ذلك أنه لم يلحظ تنويراً جديداً يأتيه من هذه الحياة القاسية بزهدها؛ "إنني بمثل هذه القسوة لا أراني أبلغ العلم والبصيرة الساميتين على مستوى البشر، وهما العلم والمعرفة اللتان تتصفان بالرفعة الحقيقية"؛ بل الأمر على نقيض ذلك، إن تعذيبه لنفسه قد ولد فيه شعور الزهو بنفسه مما يفسد أي نوع من أنواع التقديس التي كان من الجائز أن تفيض من نفسه؛ فأقلع عن زهده وذهب ليجلس تحت شجرة وارفة الظل وجلس هناك جلسة مستقيمة لا حركة فيها، مصمماً ألا يبرح ذاك المكان حتى يأتيه التنوير؛ وسأل نفسه: ما مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت؟ وهنا أشرقت عليه فجأة صورة للموت والولادة يتعاقبان في مجرى الحياة تعاقباً لا ينتهي؛ ورأى أن كل موت يزول أثره بولادة جديدة؛ وكل سكينة وغبطة تقابلها شهوة جديدة وقلق جديد وخيبة أمل جديدة وحزن جديد وألم جديد. "وهكذا ركزت عقلي في حالة من نقاء وصفاء... ركزته في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادة جديدة؛ وبنظرة قدسية مطهرة إلهية، رأيت الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتولد دنية أو سنية، خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية، حسب ما يكون لها من "كارما" وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعل خير ثوابه، وكل فعل شرير عقابه، في هذه الحياة، أو في حياة تالية تتقمص فيها الروح جسداً آخر.

إن رؤيته لهذا التعاقب السخيف سخفاً لا يخفي على الرائي، هذا التعاقب بين الموت والولادة، هي التي جعلته يزدري الحياة البشرية ازدراء؛ فقال لنفسه: إن الولادة أم الشرور جميعاً، ومع ذلك فالولادة ماضية في طريقها لا تقف فيه عند حد، أنها ماضية إلى الأبد في طريقها تعيد إلى مجرى الأحزان البشرية فيضه إن فرغ مما يملؤه؛ فلو استطعنا وقف هذه الولادة ... لماذا لا نقفها؟ لأن قانون "كارما" يتطلب حالات جديدة من التقمص للروح، لكي يتاح لها أن تكفر عما اقترفت من شرور في حيواتها الماضيات؛ وإذن فإن استطاع الإنسان أن يعيش حياة يسودها عدل كامل، حياة يسودها صبر وشفقة لا يمتنعان إزاء الناس جميعاً، لو استطاع أن يحوم بفكره حول ما هو أبدي خالد، ولا يربط هواه بما يبدأ وينتهي- عندئذ يجوز أن يجنب نفسه العودة إلى الحياة، وسيغيض معين الشر بالنسبة إليه؛ لو استطاع الإنسان أن يخمد شهوات نفسه، ساعياً وراء فعل الخير دون سواه، عندئذ يجوز أن يمحو هذه الفردية التي هي أولى أوهام الإنسانية وأسوأها آثراً، وتتحد النفس آخر الأمر باللانهاية اللاواعية؛ فيالها من سكينة تحل بقلب طهر نفسه من شهواته الذاتية تطهيراً تاماً !- وهل ترى قلباً، لم يطهر نفسه على هذا النحو، قد عرف إلى السكينة سبيلاً ؟ إن السعادة مستحيلة، فلا هي ممكنة في هذه الحياة الدنيا كما يظن الوثنيون، ولا هي ممكنة في الحياة الآخرة كما يتوهم أنصار كثير من الديانات، أما ما يمكن أن نظفر به فهو السكينة، هو الهمود البارد الذي نصيبه إذا ما نفضنا عنا كل شهواتنا، هو النرفانا. وهكذا بعد سنوات سبع قضاها متأملاً، أدرك "النبي المستنير" سبب ما يعانيه الناس من آلام فأخذ سمته نحو "المدينة المقدسة" مدينة بنارس، وهناك في روضة الغزلان عند "سارنات" طفق يبشر الناس بالنرفانا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: تعاليم بوذا

صورة الزعيم - أساليبه - الحقائق السامية الأربع - الطريق ذو الخمس شعب - قواعد الأخلاق الخمس - بوذا والمسيح - لا أدرية بوذا ومناهضته لرجال الدين - إلحاده - علم النفس بغير نفس- معنى النرفانا


كانت وسيلة بوذا في نشر تعاليمه- شأنه في ذلك شأن سائر المعلمين في عصره- هي المحاورة والمحاضرة وضرب المثل؛ ولما لم يدر في خلده قط- كما لم يدر في خلد سقراط أو المسيح- أن يدون مذهبه، فقد لخصه في "عبارات مركزة" أريد بها أن يسهل وعيه على الذاكرة؛ وهذه المحادثات- على الصورة التي احتفظ لنا بها الرواة من أتباعه- تصور تصويراً لاشعورياً أول شخصية واضحة الحدود والمعالم في التاريخ الهندي: رجل قوى الإرادة، صادق الرواية، مزهو بنفسه، وديع المعاملة، رقيق الكلام، محسن إحساناً لا ينتهي عند حد معلوم؛ ولقد زعم لنفسه "الاستنارة" لكنه لم يدّعِ الوحي، فما زعم قط للناس أن إلهاً كان يتكلم بلسانه؛ وهو في جدله مع خصومه أكثر صبراً ومجاملة من أي معلم آخر ممن شهدت الإنسانية من أعلام المعلمين؛ ويصوره لنا أتباعه- وربما كانوا يضيفون إليه ما ليس فيه لتكمل صورته- يصورنه لنا مصطنعاً لـ "أهمسا" على أتم درجاتها (والأهمسا هي الامتناع عن قتل الكائنات الحية على اختلافها)؛ فيقولون عنه : "أن جوتاما الذي اعتزل الناس قد رفع نفسه عن الفتك بالحياة، بأن كف عن قتل الأحياء؛ لقد خلع عن نفسه الهراوة والسيف (مع أنه كان يوماً من طبقة الكشاترية- أي طبقة المقاتلين) وهو يزورُّ عن غلظة المعاملة ازوراراً، ويمتلئ قلبه بالرحمة، فهو رحيم شفوق بكل كائن تدب فيه بالحياة... وترفع عن النميمة، أو رفع نفسه عن دناءة الغيبة... هكذا كان يعيش رابطاً لما انحلت عراه، مشجعاً لدوام الصداقة بين الأصدقاء، مصلحاً ذات البين عند الخصوم، محباً للسلام، متحمساً للسلام، متحدثاً بكلمات تهيئ للسلام" (36)؛ لقد كان مثل "لاوتسي" ومثل "المسيح" يود أن يرد السيئة بالحسنة، والكراهية بالحب؛ وإذا أسيء إليه في النقاش أو أسيء التفاهم بينه وبين من يحاوره، آثر الصمت: "إذا أساء إلي إنسان عن حمق، فسأرد عليه بوقاية من حبي إياه حباً مخلصاً، وكلما زادني شراً، زدته خيراً" ؛ فإذا جاءه غر وإهانة، استمع إليه بوذا وهو صامت، حتى إذا ما فرغ الرجل من حديثه، سأله بوذا: "إذا رفض إنسان يا بني أن يقبل منحة تقدم إليه فمن يكون صاحبها؟" فيجيبه الرجل : "إن صاحبها عندئذ هو من قدمها"؛ فيقول له بوذا: "إني أرفض يا بني قبول إهانتك، والتمس منك أن تحفظها لنفسك"(37). إن بوذا- على خلاف الكثرة الغالبة من القديسين- كانت له روح الفكاهة، لأنه أدرك أن البحث الميتافيزيقي بغير ضحك يصاحبه، من ضروب الكبرياء.

كانت طريقته في التعليم فريدة لا يماثلها نظير، ولو أنها مدينة بشيء "للجوالين" أو السوفسطائيين المتنقلين الذي عاصروه في بلده؛ فكان ينتقل من بلد إلى بلد، وفي صحبته تلاميذه المقربون، وفي أثره ما يقرب من ألف ومائتين من أتباعه المخلصين؛ ولم يكن أبداً يهتم لغده، فكان يكتفي بالزاد يقدمه له أحد المعجبين من سكان البلد الذي يحل فيه؛ ولقد وصم ذات يوم أتباعه بالعار، لأنه أكل في منزل امرأة فاجرة(38)؛ كانت طريقته دائماً أن يقف السير عند مدخل قرية من القرى، ويضرب خيامه في حديقة أو غابة أو على ضفة نهر؛ وكان يخصص ساعات العصر لتأملاته، وساعات المساء للتعليم؛ وكانت محادثاته تجري في صورة سقراطية من الأسئلة وضرب الأمثلة الخلقية والتلطف في الحوار، أو كان يسوق تعاليمه في عبارات مقتضبة يرمي بها إلى تركيز آرائه تركيزاً يجعلها في صورة من الإيجاز والترتيب بحيث تقر في الأذهان؛ وأحب "عباراته التعليمية المقتضبة" إلى نفسه هي "الحقائق السامية الأربع" التي بسط فيها رأيه بأن الحياة ضرب من الألم، وأن الألم يرجع إلى الشهوة، وأن الحكمة أساسها قمع الشهوات جميعاً:

  1. - تلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن الألم : الولادة مؤلمة، والمرض مؤلم، والشيخوخة مؤلمة، والحزن والبكاء والخيبة واليأس كلها مؤلم...
  2. - وتلك أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن سبب الألم : سببه الشهوة، الشهوة التي تؤدي إلى الولادة من جديد، الشهوة التي تمازجها اللذة والانغماس فيها، الشهوة التي تسعى وراء اللذائذ تتسقطها هنا وهناك، شهوة العاطفة، وشهوة الحياة، وشهوة العدم.
  3. - وتلك- أيها الرهبان هي الحقيقة السامية عن وقف الألم : أن نجتث هذه الشهوة من أصولها فلا تبقى لها بقية في نفوسنا، السبيل هي الانقطاع والعزلة والخلاص وفكاك أنفسنا مما يشغلها من شئون العيش.
  4. - وتلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن السبيل المؤدية إلى وقف الألم : إنها السبيل السامية ذات الشعب الثماني، ألا وهي: سلامة الرأي، وسلامة النية، وسلامة القول، وسلامة الفعل، وسلامة العيش، وسلامة الجهد، وسلامة ما نعني به، وسلامة التركيز(39).

كانت عقيدة بوذا التي يؤمن بصدقها، هي أن الألم أرجح كفة من اللذة في الحياة الإنسانية، وإذن فخير للإنسان ألا يولد؛ وهو في ذلك يقول أن ما سفح الناس من دموع لأغزر من كل ما تحتوي المحيطات العظيمة الأربعة من مياه(40)؛ فعنده إن كل لذة تحمل سمها في طيها، لمجرد أنها لذة عابرة قصيرة: "أذلك الذي يزول ولا يقيم هو الحزن أم السرور؟ "ألقى هذا السؤال على أحد تلاميذه، فأجابه هذا بقوله: "إنه الحزن يا مولاي"(41)؛ إذن فأس الشرور هو "تامبا"- وليس معناها الشهوة كائنة ما كانت، بل الشهوة الأنانية؛ الشهوة التي يوجهها صاحبها إلى صالح الجزء أكثر مما يريد بها صالح الكل؛ وفوق الشهوات كلها الشهوة الجنسية، لأنها تؤدي إلى التناسل الذي يطيل من سلسلة الحياة إلى ألم جديد بغير غاية مقصودة؛ وقد استنتج أحد تلاميذه من ذلك أنه- أي بوذا- بهذا الرأي يجيز الانتحار، لكن بوذا عنفه على استنتاجه ذاك، قائلاً: إن الانتحار لا خير فيه، لأن روح المنتحر- بسبب ما يشوبها من أدران- ستعود فتولد من جديد في أدوار أخرى من التقمص، حتى يتسنى لها نسيان نفسها نسياناً تاماً. ولما طلب تلاميذه منه أن يحدد معنى الحياة السليمة في رأيه لكي يزيد الرأي وضوحاً، صاغ لهم "قواعد خلقية خمسة" يهتدون بها- وهي بمثابة الوصايا لكنها بسيطة مختصرة، غير أنها قد تكون "أشمل نطاقاً وأعسر التزاماً، مما تقتضيه الوصايا العشر" : وأما وصاياه الخمس فهي :


1- لا يقتلن أحد كائناً حياً.



2- لا يأخذن أحد ما لم يعطه.



3- لا يقولن أحد كذباً.



4- لا يشربن أحد مسكراً.



5- لا يقمن أحد على دنس.


وترى بوذا في مواضع أخرى يضيف إلى تعاليمه عناصر يتسلف بها تعاليم المسيح على نحو يدعو إلى العجب: "على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يزيل الشر بالخير... إن النصر يولد المقت لأن المهزوم في شقاء... إن الكراهية يستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها، إنما تزول الكراهية بالحب"(44). وهو كالمسيح لم يكن يطمئن نفساً في حضرة النساء، وتردد كثيراً قبل أن يسمح لهن بالانضمام إلى الطائفة البوذية؛ ولقد سأله تلميذه المقرب "أناندا" ذات يوم:


"كيف ينبغي لنا يا مولاي أن نسلك إزاء النساء؟".



"كما لو لم تكن قد رأيتهن يا أناندا".



"لكن ماذا نصنع لو تحتمت علينا رؤيتهن؟".



"لا تتحدث إليهن يا أناندا"



"لكن إذا ما تحدثن إلينا يا مولاي فماذا نصنع؟"



"كن منهن على حذر تام يا أناندا"


كانت فكرته عن الدين خلقية خالصة؛ فكان كل ما يعنيه سلوك الناس، وأما الطقوس وأما شعائر العبادة، وما وراء الطبيعة واللاهوت، فكلها عنده لا تستحق النظر؛ وحدث ذات يوم أن هم برهمي بتطهير نفسه من خطاياها باستحمامه في "جايا" ، فقال له بوذا: "استحم هنا، نعم هاهنا ولا حاجة بك إلى السفر إلى جايا أيها البرهمي؛ كن رحيماً بالكائنات جميعاً؛ فإذا أنت لم تنطق كذباً، وإذا أنت لم تقتل روحاً، وإذا أنت لم تأخذ ما لم يعط لك، ولبثت آمناً في حدود إنكارك لذاتك- فماذا تجني من الذهاب إلى "جايا"؟ إن كل ماء يكون لك عندئذ كأنه جايا"(46)، إنك لن تجد في تاريخ الديانات ما هو أغرب من بوذا يؤسس ديانة عالمية، ومع ذلك يأبى أن يدخل في نقاش عن الأبدية والخلود والله؛ فاللانهائي أسطورة- كما يقول- وخرافة من خرافة الفلاسفة، الذين ليس لديهم من التواضع ما يعترفون به بأن الذرة يستحيل عليها أن تفهم الكون؛ وإنه ليبتسم(47) ساخراً من المحاورة في موضوع نهائية الكون أو لا نهائيته؛ كأنما هو قد تسلف بنظره إذ ذاك ما يدور بين علماء الطبيعة والرياضيات اليوم من مناقشة حول الموضوع مناقشة ما أقربها من حديث الأساطير؛ لقد رفض أن يبدي رأياً عما إذا كان للعالم بداية أو نهاية، أو إذا كانت النفس هي هي البدن أو شيئاً متميزاً منه، أو إذا كان في الجنة ثواب للناس حتى أقدس القديسين من بينهم؛ وهو يسمي هذه المشكلات "غاية التأمل النظري وصحراءه وبهلوانه والتواءه وتعقيده"(48) ويعتزم ألا يكون له شأن بأمثال هذه المسائل، فهي لا تؤدي بالباحثين فيها إلا إلى الخصومة الحادة، والكراهية الشخصية والحزن؛ ويستحيل أن تؤدي بهم إلى حكمة أو سلام؛ إن القدسية والرضى لا يكونان في معرفة الكون والله، وإنما يكونان في العيش الذي ينكر فيه الإنسان ذاته، ويبسط كفه للناس إحسانا(49)؛ ثم يضيف إلى ذلك تهكماً بشعاً فيقول أن الآلهة أنفسهم، لو كان لهم وجود، لما كان في وسعهم أن يجيبوا عن أمثال هذه المسائل. حدث ذات مرة يا "كفاذا" أن طاف الشك بزميل من طائفة الزملاء هذه، حول النقطة الآتية : "أين تمضي هذه العناصر الأربعة الكبرى : التراب والماء والنار والهواء، بحيث لا تترك وراءها أثرا؟" وجعل ذلك الزميل يقدح زناد عقله حتى أخذته حالة من الوجد اتضحت له معها السبيل المؤدية إلى الله.

وعندئذ يا "كفاذا" صعد هذا الزميل إلى مملكة الملوك الأربعة الكبار، وخاطب آلهتهم قائلاً : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟" فلما أن فرغ من سؤاله هذا، أجابه آلهة في سماء الملوك الأربعة الكبار: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك الملوك الأربعة الكبار، هم أقوى منا وأعظم، سلهم يجيبوك". وعندئذ يا "كفاذا" ذهب ذلك الزميل إلى الملوك الأربعة وسأل نفس السؤال فأحيل بمثل ذلك الجواب إلى "الثلاثة والثلاثين" الذي أحالوه بدورهم إلى ملكهم "ساكا" الذي أحاله إلى آلهة "ياما" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوياما" الذي أحاله إلى آلهة "توسيتا" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سانتوسيتا" ، الذي أحاله إلى آلهة "نمانا- رتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوني ميتا" الذي أحاله إلى آلهة "بارانيميتا فاسافاتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "فاسافاتى" الذي أحاله إلى آلهة العالم البرهمي).

وبعدئذ يا "كفاذا" جعل ذلك الزميل يركز تفكيره في نفسه تركيزاً استنفذ كل ذرة من انتباهه، وانتهى به ذلك التفكير المركز إلى شهوده بعقله الذي أمسك هكذا بزمامه، طريق العالم البرهمي واضحاً؛ فدنا من الآلهة التي تتألف منها حاشية براهما، وقال : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟". "فلما فرغ من سؤاله أجابته الآلهة التي تؤلف حاشية براهما قائلاً: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك براهما، براهما العظيم، الواحد العلي، الواحد القدير، الواحد البصير، من بيده الأمر وله التدبير في جميع الشئون، فهو ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ ... هو السابق للزمان، وهو والد كل ما هو كائن وكل ما سيكون! إنه أقوى منا وأعظم، سله يجبك". "أين إذن هذا البراهما العظيم؟". "إننا يا أخانا لا ندري أين يكون براهما، ولا لماذا كان ولا من أين جاء؛ ولكن يا أخانا إذا ما بدت لنا بوادر مجيئه، إذا ما أشرق الضوء وسطع المجد، عندئذ سيبتدي للناظرين، لأن بادرة ظهور براهما هي إشراق الضوء وسطوح المجد". ولم يمض طويل وقت بعد ذاك يا "كفاذا" حتى تبدى براهما العظيم، فدنا منه أخونا ذاك وسأله: "أين يا صديقي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟". فما فرغ من سؤاله أجابه براهما العظيم: "أنا يا أخي براهما العظيم العلي القوي البصير، بيدي الأمر والتدبير في كل شئ، وأنا ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ، أعين لكل شئ مكانه، أنا السابق للزمان ووالد كل ما هو كائن وكل ما سيكون!". عندئذ أجاب الأخ براهما قائلاً: "أنا لم أسألك يا صديقي هل أنت حقاً كل هذا الذي ذكرت من صفات، لكني سألتك أين تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً؟".



 صفحة رقم : 733   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


فأجابه براهما نفس الجواب مرة أخرى يا "كفاذا". وأعاد أخونا سؤاله للمرة الثالثة إلى براهما. فأخذ براهما العظيم- يا "كفاذا"- أخانا ذاك ونحاه جانباً وقال: "إن هذه الآلهة التي منها تتألف حاشية براهما، تعتقد أني- يا أخي- أرى كل شئ وأعلم كل شئ وأتبين حقيقة كل شئ؛ ولهذا لم أجبك في حضرتهم؛ ولكنني، أيها الأخ، لست أدري أين تذهب هذه العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً(50). فإذا ما قال لبوذا بعض تلاميذه، إن البراهمة يزعمون الإلمام بحلول هذه المسائل، أجابهم بوذا ساخراً: "هنالك يا إخواني بعض الرهبان وبعض البراهمة يتلوون مثل ثعابين الماء، فإذا ما ألقيت عليهم سؤالاً في هذا الموضوع أو ذاك، عمدوا إلى غموض القول، وإلى تلوي الثعابين"(51)؛ ولو بدت من بوذا حدة إزاء أحد إطلاقاً، فإنما كان حاداً تجاه كهنة عصره، فهو يهزأ بدعواهم أن أسفار الفيدا من وحي الإله(52)، ويفضح البراهمة المعتزين بطبقتهم بقبوله في طائفته أعضاء الطوائف جميعاً بغير تفريق؛ إنه لا يهاجم نظام الطبقات مهاجمة صريحة، لكنه يقول لتلاميذه في وضوح وجلاء: "انتشروا في الأرض كلها وانشروا هذه العقيدة؛ قولوا للناس إن الفقراء والمساكين، والأغنياء والأعيان، كلهم سواء، وكل الطبقات في رأي هذه العقيدة الدينية تتحد لتفعل فعل الأنهار تصب كلها في البحر"(53)، وهو يرفض الأخذ بفكرة التضحية في سبيل الآلهة، ويفزع أشد الفزع لرؤية الحيوان يذبحونه ليقيموا أمثال هذه الطقوس(54)؛ ويرفض كل اعتقاد وكل عبادة لكائنات أعلى من هذه الطبيعة، ويربأ بنفسه عن التعزيم والرقى والتقشف والدعاء(55)، ويقدم للناس في هدوء وبغير محاجة ولجاج ديناً حراً أكمل الحرية من جمود الفكر ومن صناعة الكهنوت، ويفتتح طريقاً للخلاص، للكافرين والمؤمنين أن يسلكوه على السواء.



 صفحة رقم : 734   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


وقد يتحول هذا القديس أحياناً، الذي هو أشهر من عرف الدهر من قديسي الهندوس، قد يتحول من اللا أدرية إلى إلحاد صريح ؛ إنه لا ينحرف عن جادته لينكر وجود الله، بل إنه حيناً بعد حين يذكر براهما كأنما هو حقيقة واقعة أكثر منه مثلاً أعلى(58) ثم هو لا يحرم عبادة الآلهة الشائعة بين الناس(59) لكنه يسخر من فكرة إرسال الدعوات إلى "المجهول" ، وفي ذلك يقول "إنه لمن الحمق أن تظن أن سواك يستطيع أن يكون سبباً في سعادتك أو شقائك(60) لأن السعادة والشقاء دائماً نتيجة سلوكنا نحن وشهواتنا نحن؛ وهو يأبى أن يبني تشريعه الخلقي على عقوبات تفرضها قوة وراء الطبيعة، كائنة ما كانت تلك العقوبات، ولا يجعل جزءاً من عقيدته جنة ولا مطهراً ولا جحيماً(61)؛ وهو أرهف حساسية للألم والقتل الذي ينزل بالكائنات الحية بحكم العملية البيولوجية في الحياة، من أن يفرض أن هذا القتل وذاك الألم قد أرادهما إله مشخص إرادة عن عمد وتدبير، وهو يرى أن هذه الأغلاط في نظام الكون ترجح ما فيه من آيات تدل على تدبير وتنسيق(62)؛ إنه لا يرى على هذا المسرح الذي تمتزج فيه الفوضى والنظام، والخير والشر، مبدأ ينم عن الدوام، ولا مركزاً لحقيقة أبدية خالدة(63)، وكل ما يراه في الحياة دوامة تدور وحركة ما تنفك في تغير؛ إن الحقيقة الميتافيزيقية النهائية في هذه الحياة هي التغير. وكما أنه يقترح لاهوتاً بغير إله، فكذلك يقدم لنا علم النفس بغير النفس؛ فهو يرفض الروحانية في شتى صورها حتى في حالة الإنسان؛ وهو يوافق هرقليطس وبرجسن في رأيهما عن العالم، كما يوافق هيوم في رأيه عن العقل، فكل ما نعرفه هو إحساساتنا، وإذن، فإلى الحد الذي نستطيع أن نبلغه بعلمنا، لا نرى سوى أن المادة كلها ضرب من القوة، والعناصر كلها نوع من الحركة، الحياة تغير، هي مجرى دافق محايد من صيرورة وفناء؛ إن "الروح" أسطورة من الأساطير، فرضناها بغير مبرر يؤديها، لنريح بهذا الفرض أذهاننا الضعيفة، فرضناها قائمة وراء سلسلة الحالات الشعورية المتعاقبة(64) إن هذا "الرابط الذي يربط المدركات دون أن يكون واحداً منها" ، هذا "العقل" الذي ينسج خيوط إحساساتنا وإدراكاتنا في نسيج من الفكر، إن هو إلا شبح توهمناه؛ وكل ما هو موجود حقاً هو الإحساسات نفسها والإدراكات نفسها، تتكون بصورة آلية في هيئة تذكرات وأفكار(65)؛ حتى هذه "الذات" النفسية ليست كائناً قائماً بذاته متميزاً من سلسلة الحالات العقلية؛ ليست الذات سوى استمرار هذه الحالات، وتذكر الحالات اللاحقة للحالات السابقة، مضافاً إلى ذلك ما يتعوده الجسم العضوي من عادات عقلية وسلوكية، وما يتكون لديه من ميول واتجاهات(66)؛ إن تعاقب هذه الحالات لا تسببه "إرادة" أسطورية تضاف إليها من أعلى، بل تقررها الوراثة والعادة والبيئة والظروف(67) فهذا العقل السائل الذي لا يعدو أن يكون مجموعة من حالات عقلية، هذه النفس أو هذه الذات التي ليست إلا ميلاً نحو سلوك معين أو هوى إلى اتجاه بذاته، كونته الوراثة التي لا حول لها ولا قوة، كما كونته كذلك الخبرة العابرة خلال تجارب الحياة، أقول إن هذه النفس أو هذه الذات أو هذا العقل يستحيل أن ينطبق عليه معنى الخلود، إذا فهمنا من هذا المعنى استمرار الفرد في وجوده(68) فليس القديس، بل ليس بوذا نفسه بخالد بعد موته خلوداً يحفظه بشخصه(69). ولكن إن كان ذلك كذلك، فكيف يمكن أن يعود الحي إلى الحياة من جديد في ولادة ثانية؟ إذا لم يكن هناك روح، فما الذي يتقمص أجساداً أخرى في ولادات تالية، ليلقي عذابه على خطاياه إذ هو حال في صورة الجسد؟ تلك هي أضعف الجوانب في فلسفة بوذا، فهو لا يحاول أبدا أن يزيل التناقص الكائن بين علم نفسه العقلي وبين قبوله لمذهب التقمص قبولاً أعمى؛ إن هذا الإيمان بحقيقة التناسخ أو تقمص الروح في أجساد متتالية، له في الهند قوة وشمول بحيث يعتنقه كل هندوسي على أنه بديهية أو فرض لا بد من التسليم بصحته، ولا يكاد يكلف نفسه عناء التدليل عليه؛ فتعاقب الأجيال هناك تعاقباً سريعاً متلاحقاً بسبب قصر الأعمار وكثرة النسل، يوحي إلى الإنسان إيحاء لا يستطيع أن يفر منه، بأن القوة الحيوية تنتقل من جسد إلى جسد- أو بأن الروح تحل بدناً بعد بدن، إذا عبرنا عن الأمر بعبارة لاهوتيه -؛ ولقد طافت الفكرة برأس بوذا مع مر الهواء في أنفاسه؛ فهذا الهواء يدخل شهيقاً ويخرج زفيراً هو الحقيقة الواحدة التي لم يشك فيها قط على ما يبدو(70)؛ إنه سلم تسليماً بعجلة التناسخ في دورانها وبقانون "كارما" وتفكيره كله إنما يدور حول سبيل الفرار من هذه العجلة الدوارة، كيف يمكن للإنسان أن يحقق لنفسه النرفانا في هذه الحياة الدنيا، والفناء التام في الحياة الآخرة.

ولكن ما "النرفانا"؟ أنه من العسير أن تجد لهذا السؤال جواباً خاطئاً، لأن الزعيم قد ترك الموضوع غامضاً، فجاء أتباعه وفسروا الكلمة بكل ما يستطيع أن يقع تحت الشمس من ضروب التفسير؛ فالكلمة في السنسكريتية بصفة إجمالية معناها " منطفئ "كما ينطفئ المصباح أو تنطفئ النار؛ أما الكتب البوذية المقدسة فتستعملها بمعان : (1) حالة من السعادة يبلغها الإنسان في هذه الحياة باقتلاعه لكل شهواته الجسدية اقتلاعاً تاماً؛ (2) تحرير الفرد من عودته إلى الحياة؛ (3) انعدام شعور الفرد بفرديته؛ (4) اتحاد الفرد بإلهه؛ (5) فردوس من السعادة بعد الموت؛ أما الكلمة في تعاليم بوذا فمعناها فيما يظهر إخماد شهوات الفرد كلها، وما يترتب على ذلك الإنكار للذات من ثواب وأعني به الفرار من العودة إلى الحياة(71)؛ وأما في الأدب البوذي، فكثيراً ما تتخذ الكلمة معنى دنيوياً، إذ يوصف القديس في هذا الأدب مراراً بأنه اصطنع النرفانا في حياته الدنيا، بجمعه لمقوماتها السبعة وهي: السيطرة على النفس، والبحث عن الحقيقة، والنشاط، والهدوء، والغبطة، والتركيز، وعلو النفس(73)؛ تلك هي مكنونات النرفاثا، لكنها تكاد لا تكون عواملها التي تسبب وجودها، أما العامل المسبب لوجودها، والمصدر الذي تنبثق عنه النرفانا، فهو إخماد الشهوة الجسدية؛ وعلى ذلك تتخذ كلمة "نرفانا" في معظم النصوص معنى السكينة التي لا يشوبها ألم، والتي يثاب بها المرء على إعدام نفسه إعداماً خلقياً(74)؛ يقول بوذا : "والآن فهذه هي الحقيقة السامية عن زوال الألم ؛ إنه في الحق فناء المرء حتى لا تعود له عاطفة تشتهي، إنه إطّراح هذا الظمأ اللاهث، والتخلص منه والتحرر من ربقته، ونبذه من نفوسنا نبذاً لا عودة له"(75) وأعني به هذه الحمى التي تنتابنا من شهوتنا في البحث عن أنفسنا؛ إن كلمة "نرفانا" في تعاليم الأستاذ الزعيم تكاد دائماً ترادف في معناها كلمة نعيم (76) وهو رضى النفس رضى هادئاً بحيث لا يعنيها بعدئذ أمر نفسها؛ لكن النرفاثا الكاملة تقتضي العدم : وإذن فثواب التقوى في أسمى منازلها هو ألا يعود التقي إلى الحياة(77). ويقول بوذا إننا في نهاية الأمر ندرك ما في الفردية النفسية والخلقية من سخف؛ إن نفوسنا المضطرمة ليست في حقيقة الأمر كائنات وقوى مستقلاً بعضها عن بعض، لكنها موجات عابرة على مجرى الحياة الدافق؛ إنها عقد صغيرة تتكون وتتكشف في شبكة القدر حين تنشرها الريح؛ فإذا ما نظرنا إلى أنفسنا نظرتنا إلى أجزاء من كل، وإذا ما أصلحنا أنفسنا وشهواتنا إصلاحاً يقتضيه الكل، عندئذ لا تعود أشخاصنا بما ينتابها من خيبة أمل أو هزيمة، وما يعتورها من مختلف الآلام من موت لا مهرب منه ولا مفر، لا تعود هذه الأشخاص تحزننا حزناً مريراً كما كانت تفعل بنا من قبل؛ عندئذ تفنى هذه الأشخاص في خضم اللانهاية؛ إننا إذا ما تعلمنا أن نستبدل بحبنا لأنفسنا حباً للناس جميعاً وللأحياء جميعاً، عندئذ ننعم آخر الأمر بما ننشد من هدوء.


الفصل الخامس: بوذا في أيامه الأخيرة

معجزاته - زيارته لبيت أبيه - الرهبان البوذيون - موته


ننتقل من هذه الفلسفة العالية إلى الأساطير الساذجة التي هي كل ما لدينا عن بوذا في حياته الأخيرة وفي موته؛ فعلى الرغم من ازدرائه للمعجزات، انتحل تلاميذه ألف حكاية عن الأعاجيب التي تمت على يديه؛ فقد سار عبر نهر الكنج في لمحة بفعل السحر؛ وأسقط من يده شظية من الخشب كان يزيل بها ما بين أسنانه من فضلات الطعام، فنبتت الشظية شجرة؛ وعندما اختتم وعظه ذات يوم "اهتز العالم كله من أقصاه إلى أقصاه"(80)؛ ولما أطلق عليه عدوه "ديفانداتا" فيلاً مفترساً، "غلبه بوذا بالحب" حتى خضع الفيل له خضوعاً كاملاً(81)؛ وقد انتهى "سِنْارت" وآخرون إلى نتيجة من أمثال هذه المُلَح، وهي أن أسطورة "بوذا" قد تكونت على أساس من أساطير الشمس القديمة(82) ومهما يكن من أمر، فبوذا معناه عندنا الأفكار التي تنسب إليه في الأدب البوذي، ولاشك في أن "بوذا" صاحب هذه الأفكار كان حقيقة تاريخية. إن الكتب البوذية المقدسة تصور لنا بوذا في صورة تشرح الصدور؛ فقد التف حوله أتباع كثيرون، وذاعت شهرته في مدائن الجزء الشمالي من الهند؛ ولما سمع أبوه أنه على مقربة من "كابيلافاستوا" أرسل إليه رسولاً يدعوه لقضاء يوم في مَدْرَج طفولته؛ وذهب بوذا إلى أبيه الذي كان قد حزن على أميره المفقود، فسُّرَ أبوه لعودة القديس ساعة من الزمن؛ وجاءته زوجته التي أخلصت له طوال غيابه عنها، فجثت أمامه وأمسكت بعقبيه، ووضعت قدميه حول رأسها، وقدسته كما تقدس الله؛ وقص عليه الملك "شدذوذانا" قصة حبها له حباً شديداً : "مولاي، إن زوجتك حين علمت أنك تلبس رداء أصفر (وهو ثوب الزاهدين) لبست هي الأخرى رداء أصفر؛ ولما علمت أنك تأكل وجبة واحدة كل يوم، أكلت هي الأخرى وجبة واحدة؛ ولما علمت أنك أبيت النوم على سرير كبير، نامت هي الأخرى على كنبة ضيقة؛ ولما علمت أنك رفضت أكاليل الزهور ورفضت العطور، رفضتها هي الأخرى" فباركها بوذا ومضى إلى سبيله(83). ثم جاءه ابنه "راهولا" وعبر له عن حبه قائلاً : "إن ظلك أيها الزاهد ليسر النفس" ؛ وضمه بوذا إلى طائفته الدينية، ولو أن أم "راهولا" كانت تأمل أن ترى ابنها ملكاً؛ لهذا نصبوا أميراً آخر، وهو "ناندا" ولياً للعهد يتولى العرش حين يحين الحين؛ لكن "ناندا" ترك حفلة التنصيب- كأنه في غيبوبة -، تركها قبل ختامها وغادر المملكة وقصد إلى بوذا، طالباً إليه أن يضمه هو أيضاً إلى طائفته الدينية؛ فلما سمع بذلك الملك "شدذوذانا" حزن والتمس عند بوذا مكرمة، قائلاً له: "لما طلق مولانا هذه الدنيا، لم يكن ذلك هين الوقع على نفسي، وكذلك حين غادرنا "ناندا" وقل ما هو أكثر من هذا عن فراق "راهولا" ؛ إن حب الوالد لولده يحز الجلد واللحم والمفاصل والنخاع؛ فرجائي إليك يا مولاي ألا تدع أتباعك الأشراف يضمون إلى طائفتكم ابناً إلا باستئذان أبيه وأمه" فوافق "بوذا" وجعل استئذان الوالدين شرطاً لازماً لانضمام العضو الجديد إلى طائفته(84). ويظهر أن هذه العقيدة الدينية التي أرادت أن تستغني عن الكهنوت، كانت بالفعل قد كونت لنفسها طائفة من النساك الرهبان لا تقل خطراً عن كهنة الهندوس؛ ولن يطول الأمد بعد موت بوذا حتى يحيطوا أنفسهم بكل أسباب المجد التي كان البراهمة يحيطون أنفسهم بها؛ ولا عجب، فأول المتحولين من البرهمية إلى البوذية، إنما جاءوا من صفوف البراهمة أنفسهم، ثم تحول إلى البوذية بعدئذ جماعة من أغنى الشباب في بنارس والمدن المجاورة لها؛ واصطنع هؤلاء الرهبان في حياة بوذا قاعدة بسيطة، فكانوا يحيون بعضهم بعضاً، كما يحيون كل من يتحدثون إليهم بعبارة جميلة هي : "السلام على الكائنات جميعاً" فلم يكن يجوز لهم أن يقتلوا كائناً حياً؛ ولم يكن يجوز لهم أن يأخذوا شيئاً لم يعطوه؛ وكان واجباً عليهم أن يجتنبوا الكذب والنميمة، وأن يصلحوا ما بين الناس من خصومة ويشجعوهم على الوفاق؛ وكان حتماً عليهم أن يظهروا الرحمة دائماً بالناس جميعاً والحيوان جميعاً، وأن يجتنبوا كل لذائذ الحس والجسد، فيجتنبوا الموسيقى ورقصات "ناوتش" والملاهي والألعاب وأسباب الترف واللغو في الحديث والنقاش والتنبؤ بالغيب؛ ولم يكن يجوز لهم أن يؤدوا شيئاً من التجارة بكل صنوف البيع والشراء، وفوق هذا كله، كان لا بد لهم أن يصونوا عفتهم، وأن يجانبوا النساء ويعيشوا في طهر كامل(85)، ولقد توجهت إلى بوذا التماسات كثيرة ناعمة، فاستجاب لها وأذن للنساء أن يدخلن طائفته راهبات، لكنه لم يوافق أبداً من صميم نفسه على هذا القرار، وفي ذلك قال: " إذا لم نأذن يا "أناندا" للنساء بالدخول في طائفتنا، دامت العقيدة الخالصة حيناً أطول، فالتشريع الصالح كان ليقاوم الفناء- بغير دخول النساء- ألف عام؛ أما وقد أذن لهن بالانضمام إلينا، فلن يدوم تشريعنا أكثر من خمسمائة عام"(86)، وكان في ذلك على صواب فعلى الرغم من أن الطائفة العظيمة قد لبثت حتى عهدنا هذا؛ إلا أنها قد أفسدت تعاليم الأستاذ منذ زمن طويل، بما أدخلته عليها من سحر وتعدد للآلهة وخرافات لا تقع تحت الحصر. ولما دنت حياته الطويلة من ختامها، راح أتباعه يؤلهونه، لم ينتظروا في ذلك موته، على الرغم من أنه كان دائماً يحفزهم على الشك في صحة ما يقوله لهم، حتى يفسح كل منهم مجال التفكير الحر أمام نفسه؛ وورد في محاورة من أواخر محاوراته:

وجاء "ساريبوتا" الوقور إلى حيث كان النبي المعظم، وحياه وجلس إلى جانبه في احترام وقال: "مولاي، إن إيماني بالنبي العظيم ليبلغ من القوة بحيث لا أظن أن أحداً فيما مضى أو فيما هو آت، أو أن أحداً فيمن يعاصروننا، سواء أكان من طائفة المتجولين أو طائفة البراهمة، أعظم وأحكم من النبي العظيم .... فيما يخص الحكمة العليا". فأجابه الأستاذ : "كلماتك عظيمة جريئة يا "ساريبوتا" الحق أنك بعبارتك هذه قد رحت تنشد أغنية كما ينشد النشوان أغانيه! وكأني بك- إذن- قد عرفت كل الأنبياء المعظمين فيما مضى ... وفهمت آراءهم بعقلك، فعلمت كيف كانوا يسلكون وفيم كانوا يفكرون ... وأي ضروب التحرر قد بلغوا؟" "لا يا سيدي، لم أبلغ من الأمر كل هذا". "إذن فلا أقل يا "ساريبوتا" من أن تكون قد عرفتني ... وأن تكون قد تغلغلت في ضمير عقلي؟"... "حتى ولا هذا يا مولاي". "إذن فها أنت ذا ترى يا "ساريبوتا" إنك لا تعلم أفئدة الأنبياء القادرين المتيقظين الذين ظهروا فيما مضى، والذين سيظهرون في المستقبل؛ لماذا إذن تقول مثل هذه الكلمات العظيمة الجريئة؟ لماذا تنطلق منشداً لأغنية النشوان؟"(87) وكذلك لقن "أناندا" أعظم دروسه وأشرفها: "إن كل من صار لنفسه- يا أناندا- مصباحاً يهدي، وكل من صار لنفسه ملاذاً يؤوي، سواء في حياتي أو بعد موتي، فلن يلتمس لنفسه من غير نفسه مأوى، وسيستمسك بالحق مصباحاً... فلا يطلب من غير نفسه ملاذاً- أمثال هؤلاء ... هم الذين سيبلغون أعلى الذرى! لكن ينبغي أن يكون بهم شغف بالمعرفة"(88). ومات بوذا عام 483 ق.م، وهو في عامه الثمانين، وكانت آخر كلماته لرهبانه: "والآن أيها الرهبان، هاأنذا أوجه إليكم الخطاب؛ إن كل ما هو مركب مصيره إلى الفساد، فجاهدوا جهاد المخلص الجاد".