قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك

من معرفة المصادر

قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك، هو كتاب من تأليف جلال أمين، نُشر في 2012 عن دار الشروق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المحتويات

  • مقدمة
  • الفصل الأول: عصر محمد علي: تنمية بلا ديون (1805-1848)
  • الفصل الثاني: سعيد باشا: ديون بلا تنمية (1854-1863)
  • الفصل الثالث: عصر إسماعيل: الاستدانة في عصر الرخاء (1863-1879)
  • الفصل الرابع: عصر الاحتلال: الاقتصاد المصري في خدمة الدائنين (1882-1956)
  • الفصل الخامس: ديون عبد الناصر (1956-1967)
  • الفصل السادس: نكسة الاقتصاد المصري (1967-1970)
  • الفصل السابع: ديون السادات في السنوات العجاف (1970-1975)
  • الفصل الثان: ديون السادات في سنوات الرخاء (1975-1981)
  • الفصل التاسع: ديون حسني مبارك (1981-1986)
  • الفصل العاشر: يوم الحساب (1986)
  • الفصل الحادي عشر: عقدان من الانكماش الاقتصادي (1986-2004)
  • الفصل الثاني عشر: الاستثمارات الأجنبية والأزمة العالمية (2004-2009
  • الفصل الثالث عشر: محاولة لتفسير تطور الاقتصاد المصري في مائتي عام (1805-2009)


مقدمة

اندهشت عندما تبينت فجأة أن لي خمسة كتب عن تطور الاقتصاد المصري، نشرت عبر مدة تقرب من نصف قرن. ولكني تبينت أيضاً أن في كل منها نقصاً مهماً يجعل من المفيد إضافة كتاب سادس هو هذا الكتاب. أما الكتاب الأول فقد نشر بالإنجليزية في 1966، أي منذ أكثر من أربعين عاماً، وكان مبنياً على رسالتي للدكتوراه، ومن ثم كان موضوعه ضيق النطاق، كما هي الحال في معظم رسائل الدكتوراه، وهو إنتاج واستهلاك الغذاء في مصر. نشر الكتاب الثاني في 1974، وكان بالإنجليزية أيضاً، ويتناول التطور الاقتصادي في مصر وثمانية بلاد عربية أخرى، خلال ربع القرن التالي للحرب العالمية الثانية. ولكن هذا الكتاب ينتهي عند سنة 1970، أي أنه لا يغطي العقود الأربعة التالية، كما أنه كان يركز على أخطاء السياسة الاقتصادية في مصر والبلاد العربية، دون أن يتناول مسئولية العوامل الخارجية عن ارتكاب هذه الأخطاء. كان الكتاب الثالث، على العكس، يركز على مسئولية العوامل الخارجية، بل ويذهب إلى أولوية هذه العوامل، بالمقارنة بتغيرات السياسات الداخلية، في تفسير تقلبات الاقتصاد المصري بين النجاح والفشل، وهي أولوية لا زلت أعتقد في صحتها حتى الآن. ولكن هذا الكتاب صدر في 1979، أي منذ ثلاثين عاماً، ويتناول، إلى جانب مصر، التطور الاقتصادي في المشرق العربي بأكمله. في 1987 كان الشغل الشاغل للمهتمين بأحوال مصر الاقتصادية هو مشكلة الديون الخارجية، إذ كانت قد بلغت في هذا الوقت حداً لا يطاق، وفرضت على ميزان المدفوعات المصري أعباء هددت بشدة استمرار التنمية. نشرت في هذه السنة كتيباً صغيراً عن تطور مشكلة الديون الخارجية في مصر منذ عهد محمد علي، ومسست من خلال مشكلة الديون التطور الاقتصادي في مصر بصفة عامة حتى سنة 1987. ولكن الاقتصاد المصري، بما في ذلك مشكلة الديون، مر بتطورات مهمة خلال الخمسة والعشرين سنة التالية مما لم يتطرق إليه الكتاب. ثم نشرت في 1994 كتاباً آخر تضمن ما طرأ على الاقتصاد المصري وعلى مشكلة الديون الخارجية من تغيرات حتى سنة 1992. بالإضافة إلى هذه الكتب الخمسة، صدرت لي كتب أخرى عن مصر، ولكنها كانت في الأساس كتباً في التطور الاجتماعي لا الاقتصادي فلم تتعرض للاقتصاد إلا عن نحو هامشي. من هذه الكتب: "الدولة الرخوة في مصر"، و"ماذا حدث للمصريين؟"، و"مصر في عصر الجماهير الغفيرة"، و"وصف مصر في نهاية القرن العشرين"، و"مصر والمصريون في عهد مبارك". لا زال هناك إذن عشرون عاماً من التطور الاقتصادي المصري، لا تغطيها كل هذه الكتب، أو تشير إليها بعض هذه الكتب على نحو عابر. وفضلاً عن ذلك فإن الكتب الخمسة المخصصة للتطور الاقتصادي بالذات لم تعد متاحة الآن للقارئ إلا إذا جلس لقراءتها في بعض المكتبات العامة، وهي قليلة. فكلها لم تعد الآن مطروحة في الأسواق إذ لم تعد طبعاتها منذ فترة طويلة. فلماذا لا أخرج كتاباً جديداً يشمل قصة تطور الاقتصاد المصري كما بدأت منذ مائتي عام، على يد جهود محمد علي المدهشة في التنمية، وأصل بها إلى اليوم، فأغطي بذلك أكثر من قرنين من الزمان، ويصبح من الممكن استخلاص دروس مهمة من هذه الفترة الطويلة من الصعود والهبوط؟ هذا هو الغرض من هذا الكتاب، وقد اعتمدت فيه بالطبع على كل ما كتبته عن الاقتصاد المصري من قبل، ولكن على الأخص على كتاب "قصة ديون مصر الخارجية" وكتاب "المشرق العربي والغرب". وأرجو أن يكون لهذا الكتاب الجديد، عمر أطول من عمر الكتب الخمسة السابقة، بما بذلت فيه من جهد لكي يكون أفضل منها، وما أضفت إليه ليكون اقرب إلى حالة الاقتصاد المصري في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

جلال أمين 10 أبريل 2012

الفصل الأول: عصر محمد علي: تنمية بلا ديون (1805-1848)

منذ بدأ بعض كتاب التنمية، قبل نحو أربعين عاماً، يشيرون إلى التبعية الاقتصادية كسمة أساسية من سمات العالم الثالث، ويدعون إلى فك الارتباط بعجلة الاقتصاد العالمي، والرأسمالي بوجه خاص، وإلى تنمية اقتصادية "معتمدة على الذات"، كثرت الإشارة لدى الاقتصاديين المصريين إلى تجربة محمد علي كمثال جيد لمحاولة بناء تنمية اقتصادية مستقلة، نجحت إلى حد كبير في تحقيق الاعتماد على الذات، حتى تم ضربها من القوى العالمية المستفيدة من ربط مصر بالاقتصاد الرأسمالي. هذا التشخيص لتجربة محمد علي، وإن كان يحتوي على جزء كبير من الحقيقة يشير فقط إلى نصف الحقيقة. فالواقع أن مصر تحت حكم محمد علي شهدت اندماجاً في الاقتصاد العالمي بدرجة لم تعرفها طوال قرون طويلة سابقة، وكانت طبقاً لعدة معايير أقل اعتماداً على النفس بكثير، في عهد محمد علي، مما كانت طوال الحكم العثماني على الأقل. فإذا نظرنا مثلاً إلى الدور الذي لعبته التجارة الخارجية في الاقتصاد المصري تحت محمد علي، نجد أن صادرات مصر من القطن قد أصبحت في ظله هي المصدر الأساسي للدخل القومي وإيرادات الحكومة، وأن الواردات المصرية قد زادت أيضاً في عهده بسرعة مذهلة مع زيادة حصيلة الصادرات، إما لتزويد جيشه الدائم النمو بما يحتاج إليه من معدات، أو لتزويد صناعاته الجديدة بما تحتاج إليه من آلات ومواد أولية. كانت التجارة الخارجية لمصر في القرن الثامن عشر وخلال سنوات الحملة الفرنسية لا تلعب إلا دوراً هامشياً في الاقتصاد المصري، فأصبحت تحت حكم محمد علي هي المحرك الأول لعجلة الاقتصاد. وكانت الأسعار المحلية السائدة في مصر قبله تكاد تكون منعدمة الصلة بالأسعار العالمية، فاقتربت بشدة في عهده من الأسعار السائدة في أوروبا، مع زيادة حجم الواردات والصادرات، ومع التقدم الذي تحقق في عهده في وسائل المواصلات. زاد بشدة أيضاً في عهد محمد علي عدد الأجانب المقيمين بمصر، فبينما لم يزد عددهم على نحو مائة شخص عند قدوم الحملة الفرنسية، تزايد عددهم بسرعة في عهده بسبب استقدامه لأعداد كبيرة من المهندسين والأطباء وغيرهم من الفنيين للخدمة في مصانعه وجيشه وأسطوله، وبسبب ازدهار التجارة الخارجية. بل إنه حتى بمقياس التنوع في مصادر الواردات المصرية وأسواق صادرتها، نجد أن مصر في عهد محمد علي كانت معتمدة اعتماداً أساسياً على سوق واحدة هي السوق البريطانية التي كانت عند وفاة محمد علي في 1849، تستوعب وحدها ما يقرب من نصف إجمالي الصادرات المصرية، وتزود مصر بأقل قليل من نصف إجمالي وارداتها.

لم يكن الاقتصاد المصري إذن "مستقلاً" عن الاقتصاد الرأسمالي في عهد محمد علي، لا بمقياس ضآلة دور التجارة الخارجية، ولا بمقياس تنوع أسواق التصدير والاستيراد، ولا بمقياس الاعتماد على الخبرة والمهارة المحلية. من أي إذن يأتي الحديث عن "التنمية المستقلة" في عهد محمد علي، ولماذا يصح وصف تجربته بأنها تجربة رائدة في "الاعتماد على النفس"؟ يصح ذلك في رأيي من ثلاثة وجوه أساسية، نفتقدها كلها اليوم: أولها: يتعلق بما توفر لمصر في عهد محمد علي من اكتفاء ذاتي في الغذاء. كانت واردات مصر تتكون أساساً من الآلات والسفن والمدافع والحديد والخشب، ولكنها لم تكن تستورد الغذاء، بل كان لدى مصر فائض من الأرز تصدره لتستورد السفن، ومن القمح والفول والذرة تصدره لسد حاجات المصانع والجيش. وثانيها: أن مصر في عهده كانت تتمتع بدرجة عالية من القدرة على المساومة مع المصدرين والمستوردين على السواء. حقاً لم يكن أمام مصر مفر من الاعتماد على تصدير القطن إلى أوروبا، ولا من الاعتماد على استيراد الآلات والخبرة منها، ولكنها كانت أيضاً في وضع يسمح لها بالحصول على أفضل الشروط الممكنة لصادراتها ولواردتها. كان الذي سمح لمصر بذلك هو ما طبقه محمد علي من نظام الاحتكار. فكلنا يعرف أنه طبقاً لهذا النظام أصبح محمد علي هو البائع الوحيد للصادرات المصرية، ولم يكن باستطاعة التجار الأجانب الوصول إلى المزارعين المصريين لشراء منتجاتهم بأبخس الأسعار، بل كانوا يواجهون مزاداً في الإسكندرية يتنافسون فيه على الشراء من الوالي. كان ما لا يقل عن 40% من واردات مصر تمر أيضاً بيد الوالي، وكان بيده أيضاً من الوسائل ما يجبر بها غيره من المستوردين على خفض وارداتهم، وعلى شراء المنتجات المصرية التي تنتجها مصانعه. كان الوجه الثالث من وجوه الاعتماد على النفس في عهد محمد علي هو أهمها على الإطلاق. فهذا الرجل الذي بنى المصانع، وأقام الخزانات والسدود، وأحدث ثورة في التعليم، وارسل البعثات، وأنشأ أقوى جيش في المنطقة، لم يسمح لنفسه قط بالتورط في الديون. نعم، كانت تمر بميزان المدفوعات في عهده بعض سنوات العجز، ولكنه كان سرعان ما يعقبه فائض، فإذا بمصر تحقق اكتفاءاً ذاتياً كاملاً في رأس المال، لا يدخل إليها منه معونات أو قروض أو استثمار أجنبي، ولا يخرج منه إلا ما يفي بالتزاماتها من دفع الجزية لاستانبول أو بعض الهدايا للسلطان. كان في السنوات الصعبة التي يحتاج فيها إلى مزيد من المال لتمويل حملاته العسكرية، يستغني عن كل الواردات غير الضرورية، ثم يرغم التجار الأجانب على دفع قيمة مشترياته منه مقدماً. يروي كراوشلي أن محمد علي احتاج في 1833 احتياجاً شديداً إلى مزيد من المال لتمويل حملته على سوريا. وتدفقت عليه العروض بتقديم القروض، ولكن المقرضين الأجانب طالبوا بتخصيص إيرادات بعض المديريات لضمان السداد، الأمر الذي رفضه محمد علي رفضاً باتاً ولم تتم الصفقة. وكان محمد علي يعجز أحياناً عن دفع مرتبات موظفيه، فيعطيهم بدلاً منها سندات على الحكومة يقومون بخصمها لدى التجار أو بعض المقرضين المحليين، بسعر فائدة قد يصل أحياناً إلى 15% أو 20%. "كان الوالي يمر إذن من حين لآخر، وخلال بعض الظروف الصعبة، بفترات يكون فيها مديناً بمبالغ كبيرة للتجار مقابل ما دفعوه مقدماً، أو لموظفيه مقابل مرتباتهم المتأخرة، ولكنه كان بمجرد أن يحل السلام ويمر بفترة رخاء، سرعان ما يقوم بسداد ديونه، وسرعان ما تمتلئ خزانته من جديد خلال فترة لا تزيد عن سنة أو سنتين. في أثناء ذلك، ورغم أنه كان دائم التطلع إلى مشروعات ضخمة للتنمية وتقدم البلاد، كان يتجنب دائماً التورط في مشروعات تفوق أعباؤها موارد البلاد المالية، فإن به يرحل عن العالم في 1849 دون أن تكون مصر مدينة لأحد بقرش واحد". من المفيد أن نتأمل، من خلال تجربة محمد علي، ما يقال اليوم كثيراً عن "التبعية" وعن "الاعتماد المتبادل" بين الدول. فحينما تثار قضية الديون الخارجية كثيراً ما نسمع من يقول إننا نعيش اليوم في عالم لا معنى فيه للشكوى من التبعية، فالدول كلها، الغنية منها والفقيرة، تعيش على "الاعتماد المتبادل" ولا يمكن لأي منها الاستغناء عن غيرها، مهما بلغ رخاؤها وقوتها. فاليابان مثلاً، بكل ثروتها، تعتمد في حياتها على استيراد النفط، والولايات المتحدة، مع رخائها، لا يمكن تعيش إذا أغلقت أسواق أوربا الغربية واليابان في وجه منتجاتها، والعكس بالعكس. وهذا بالطبع صحيح، ولكنه أيضاً يروي نصف الحقيقة وليس الحقيقة كلها. فالعبرة في درجة الاستقلال، كما رأينا من تجربة محمد علي، ليست بمدى استغناء الدولة عن التجارة الخارجية، أو عن علاقاتها الاقتصادية بالعالم الخارجي، وإنما بمدى ما تتمتع به من قوة المساومة في علاقاتها الخارجية. فخطر إغلاق السوق الأوروبية أمام المنتجات الأمريكية يقابله خطر إغلاق السوق الأمريكية أمام المنتجات الأوروبية. والخطر الذي تواجهه اليابان من احتمال قطع البترول عنها من دول تخضع بدرجة أو بأخرى لمقتضيات السياسة الأمريكية، يقابله الخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة من احتمال اتخاذ إجراءات لا تقل خطورة من جانب الحكومة اليابانية. إنما تأتي التبعية حينما تضعف قدرة الدولة على المساومة بحيث لا يكون لديها أية وسيلة لدفع الخطر عنها إذا أرادت دولة أخرى إخضاعها والتحكم في إرادتها. وهذا هو بالضبط ما نجح محمد علي في تجنبه. والسؤال الآن: من أين توفرت لمحمد علي هذه الدرجة العالية من الاستقلال والاعتماد على النفس؟ من السهل، ومن الصحيح أيضاً، الحديث عن قوة إرادة الرجل وفطنته وبعد نظره، ولكن من السهل ايضاً المبالغة في دوره الشخصي والإفراط في الثناء عليه. لقد كانت مصر في عهد محمد علي، كما كانت في عهد عبد الناصر، على ما سنرى فيما بعد، تعيش وسط ظروف دولية ملائمة للغاية. وهنا نجد المقارنة بين النصف الأول من القرن التاسع عشر ونصفه الثاني، شبيهة أشد الشبه بالمقارنة بين فترة ازدهار الناصرية (56-1965) وفترة انحسارها منذ النصف الثاني من الستينيات. إن الذي يتحكم في درجة اعتمادك على القروض، ليس هو فقط مدى حاجتك إلى الاقتراض، أو مدى رعونتك أو حكمتك في إدارة شئونك، وإنما هو أيضاً مدى استعداد غيرك لإقراضك، ومدى تلهفه عل توريطك في الديون. وهناك نصادف انطباق القاعدة التي كثيراً ما نصادفها في عالم الاقتصاد: "العرض يخلق الطلب". ومعنى ذلك فيما نحن بصدده الآن أن تورطك في الديون لا يتوفق فقط على مدى حاجتك إليها، وإنما يتوفق أيضاً على مدى حاجة غيرك لإقراضك. وقد كان من حسن حظ محمد علي أنه كان يعيش في عصر لم تكن قد بلغت فيه حاجة المقرضين الأجانب للإقراض، ما بلغته في عهد سعيد أو إسماعيل. لقد تولى محمد علي حكم مصر في 1805، ولكن أوروبا كانت لفترة السنوات العشر التالية منهوكة القوى في حروب نابليون. وفي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي كانت بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي أتمت ثورتها الصناعية، وتراكم لديها فائض من رأس المال. كان رأس المال البريطاني ما تزال أمامه فرص مغرية للاستثمار في أوروبا، التي كانت تمر بفترة نمو سريع في أعقاب حروب نابليون، وفي مزارع ومناجم الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية. ثم جاءت الأربعينيات فوجد فائض رأس المال فرصاً أخرى مجزية للاستثمار في مد خطوط السكك الحديدية داخل بريطانيا نفسها، حيث استوعبت السكك الحديدية في تلك الفترة الجزء الأكبر من هذا الفائض. كان علينا إذن الانتظار حتى منتصف القرن قبل أن تبدأ استثمارات بريطانيا الخارجية في النمو بمعدل أكبر من معدل النمو في استثماراتها داخل حدودها، وقبل أن تبدأ استثماراتها في أوروبا تتضاءل لحساب استثماراتها فيما وراء البحار، ثم لحقت بها الاستثمارات الفرنسية والألمانية. أما الولايات المتحدة، التي جاءت ثورتها الصناعية متأخرة بنحو نصف قرن عن بريطانيا، ومرافقة بالتقريب للثورة الصناعية في فرنسا وألمانيا، فكانت لا تزال تستورد كميات كبيرة من فائض رأس المال الأوروبي، التي أتت لتستغل فرص الاستثمار الهائلة التي أتاحها مد السكك الحديدية إلى أطرافها المترامية في الجنوب والغرب. مع انتصاف القرن التاسع عشر ودع محمد علي العالم، وترك مصر لولاة ضعاف، يحار المرء فيما إذا كان تورط مصر في الديون في عهدهم كان بسبب هذا الضعف أم كان هذا الضعف شرطاً أساسياً يتعين تحقيقه من أجل توريط مصر في الديون. أياً كان الأمر، فإن شخصيات الولاة في أعقاب محمد علي جاءت منسجمة تمام الانسجام مع حاجة رأس المال الأوروبي، وإذا بالطلب يخلق العرض والعرض يخلق الطلب، في دائرة جهنمية أودت باستقلال مصر الاقتصادي والسياسي معاً.


الفصل الثاني: سعيد باشا: ديون بلا تنمية (1854-1863)

لا يقف المؤرخون الاقتصاديون عادة وقفة طويلة عند عباس الأول الذي انتقل بمصر من النصف الأول إلى النصف الثاني من القرن الماضي (1848-1854)، إذ لم تشهد مصر في عهده من الأحداث الاقتصادية كثيراً مما يستحق الذكر. فهم لا يكادون يذكرون له إلا إدخال أول خط للسكك الحديدية في مصر، وصل الإسكندرية بكفر الزيات. قد تكون ضآلة أثره وقلة الأحداث في عصره راجعين إلى غرابة أطواره وانطائه وقلة طموحه، فضلاً عن كراهيته للحضارة الأوروبية وللأوروبيين جملة، فلجأ إلى حماية نفسه من تملق قناصل أوروبا وتهديداتهم على السواء، على حد تعبير مؤرخ بريطاني "باتباع سياسة محسوبة ومتعمدة هي أن يبتعد تماماً عن أنظارهم". وقد يكون الأمر على العكس، راجعاً إلى أن الأوروبيين لم يكونوا مستعدين للانقضاض على مصر بعد، فلما تهيأوا لهذا الانقضاض لم يعد الأمر يتحمل والياً بهذا الانطواء، ولم تعد تفلح سياسة "الابتعاد تماماً عن أنظارهم"، وأصبح المطلوب والياً "متفتحاً" يحسن الفرنسية، ويجيد الإنفاق والاقتراض مثل سعيد أو إسماعيل. هل لهذا التفسير علاقة بالفارق بين الطريقة التي انتهت بها حياة عباس، وتلك التي انتهت بها حياة سعيد؟ وهل له علاقة بالطريقة التي بدأت بها ولاية إسماعيل والطريقة التي انتهت بها؟ إذ بينما انتهت حياة عباس بجريمة قتل غامضة لا تعرف على وجه اليقين دوافعها، ترك سعيد ليموت ميتة طبيعية. وبينما تولى إسماعيل العرش بدلاً من أخيه الذي كان صاحب الحق في العرض، ومات بدوره في ظروف لا تقل غموضاً عن ظروف مقتل عباس، استقبل الأوروبيون إسماعيل بالثناء واستمروا يمجدونه طالما ظل قادراً على الاقتراض وتسديد ديونه، وانهالوا عليه بالنقد والتجريح حتى نجحوا في عزله بمجرد أن توقف عن الدفع. لم يكن عباس الأول على دراية بلغة أوربية واحدة، ولم ير أوربا قط في حياته، وطرد الموظفين الأوروبيين من خدمته، ورفض أن يستمع إلى ديليسبس وهو يعرض علي مشروع حفر قناة السويس، بل حاول محاولة يائسة أن يعيد مصر إلى صورة من صور نظام الاحتكار الذي فرضه محمد علي وأجبره الأوروبيون على التخلي عنه. تأمل الفارق بين عباس الأول وهذه الصورة التي يرسمها مارلو لخليفته سعيد باشا التي تذكرنا بشدة بالسادات: "كان (سعيد باشا) في أحواله العادية رجلاً طيب المعشر متساهلاً، وإن كان يتعرض أحياناً لنوبات من العنف والغضب الشديد التي تستحيل تهدئتها. كان يكره الرذالة، سواء صدرت من أحد أقربائه أو من بعض القناصل، أو من الباب العالي، أو من قناصي الفرص الباحثين عن الامتيازات، ولكنه كان أيضاً على استعداد دائماً لإنفاق المال كوسيلة للخروج من مأزق.. لم يكن لديه لا الصبر ولا القدرة على أن يعكف على تفاصيل الإدارة والحكم.. كما أنه أزال كل حاجز يقوم بينه وبين أفواج الأوروبيين المتدفقين على بابه، من قناصي الفرص والامتيازات والطفيليين الذين سرعان ما اكتظ بهم قصره.. لم يكن سعير يفتقر إلى الذكاء، فقد كان في معظم المواقف واعياً لأغراض هؤلاء الذين أحاطوا به والتفوا من حوله. ولكنه كان أكثر جبناً من أن يحاول التصدي لضغوط القناصل عليه، وأشد كسلاً وتقاعساً من أن يرفض طلباتهم التي لا تستند إلى أي أساس معقول، كما كان له من طيب المعشر ومن التساهل ما يمنعه من إغضاء هؤلاء الذين تخصصوا في التودد إليه". بينما يروي مؤرخ آخر عن سعيد أنه كثيراً ما كان يوقع ما يقدم إليه من وثائق دون أن يقرأه، بما في ذلك اتفاقية قناة السويس، التي قدمها ديليسبس، بل وحتى دون أن يستشير مستشاريه القانونيين أو الماليين، مرتكزاً إلى أن ديليسبس صديقه ولا يمكن أن يخدعه. لم يمض وقت طويل على اعتلاء سعيد العرش (1854) حتى بدأ يتورط في الديون. فبعد أقل من ثلاث سنوات من بداية حكمه بدأ يتأخر عن دفع مرتبات موظفيه وعن دفع الجزية للسلطان. لجأ سعيد في البداية إلى الاقتراض من بعض البنوك الأوروبية التي كانت قد أنشئت حديثاً في الإسكندرية، ثم استجاب لنصيحة ديلسبس بأن يصدر أذونات على الخزانة، تتراوح مددها بين ستة أشهر وثلاث سنوات، ويتراوح سعر فائدتها بين 15% و18%، بينما كان السعر السائد على القروض التجارية لا يزيد عن 7%. كان سعيد أحياناً يستخدم هذه الأذونات في دفع مرتبات الموظفين، ومن ثم كان يحدث أن يتجمع على أبواب وزارة المالية دائنو الموظفين من الخبازين والجزارين ومن إليهم، ليطالبوا بقيمة الأذونات التي في أيديهم. وإذ لم تكفه القروض المحلية وأذونات الخزانة لجأ سعيد في 1860 لعقد أول قرض خارجي مع أحد المصارف الفرنسية، ولكنه كان قرضاً باسمه لا باسم الحكومة المصرية، قيمته الرسمية 1.2 مليون جنيه استرليني، وبسعر فائدة 6%، ولكن لم يتسلم سعيد من قيمة القرض، بعد خصم العمولات والأتعاب والمصروفات، إلا أقل من ثلاثة أرباعه، وخصصت لضمانه حصيلة جمارك ميناء الإسكندرية. ومع هذا فلم يمض أكثر من عام حتى أصبحت خزانته خاوية من جديد، فلجأ في 1862 إلى عقد أول قرض خارجي تعقده الدولة المصرية في تاريخها الحديث، قدمه لها مصرف أوبناهيم الألماني بمبلغ 2.5 مليون جنيه إسترليني، بسعر فائدة 11% ومضموناً بحصيلة ضريبة الأطيان على أراضي الدلتا. من هذا القرض أيضاً لم يحصل سعيد، بعد خصم العمولات والمصاريف، إلا على 84% من القيمة الاسمية. وكان عليه أن يدفع لسداده عبر ثلاثين عاماً، بعد إضافة الفوائد والرسوم السنوية، 8.2 مليون جنيه، أي نحو أربعة أمثال المبلغ الذي تسلمه بالفعل. عدما مات سعيد في 1863، كانت مصر إذن مدينة بنحو 8 مليون جنيه إسترليني، مستحقة السداد عبر ثلاثين عاماً، بالإضافة إلى مليون آخر واجب الدفع عبر ثلاث سنوات، وديون قصيرة الأجل تبلغ نحو 9 مليون جنيه. كان إجمالي حجم الدين المصري إذن، عائماً وثابتاً (أي قصر الأجل وطويله)، نحو 18 مليون جنيه عند وفاة سعيد، أو ما يعادل نحو خمسة أمثال إيرادات الحكومة المصرية في السنة السابقة على وفاته. من أين جاء هذا التورط المفاجئ في الديون؟ من المؤكد أنه لا يمكن تفسيره بجهود سعيد في التنمية. فباستثناء بدء العمل في قناة السويس وقيامه بتطهير ترعة المحمودية، واستكمال خط السكك الحديدية من كفر الزيات إلى القاهرة، ومد خط حديدي آخر بين القاهرة والسويس، وكلها مشروعات تخدم التجارة الدولية أكثر مما تزيد القدرة الإنتاجية لبلد، لا يجد المرء في سجل سعيد في تنمية الاقتصاد المصري ما يستحق الذكر. ففي الصناعة لم يضف سعيد مصنعاً واحداً. وكانت مصر عندما تسلم حكمها تصدر 28 ألف قنطار من السكر فتركها وهي تصدر أقل من نصف هذا القدر. وفي الزراعة لم يبذل أي جهد لتطوير نظام الري، وكانت مساحة الأرض المزروعة عند وفاته أقل مما كانت عليه قبل بداية حكمه. أما إطلاق وصف "العصر الذهبي للفلاح" عل عهده، فلم يكن بسبب زيادة الإنتاج أو إنتاجية الفدان، وإنما بسبب تخفيض عبء الضريبة على الفلاح، على حساب إهمال مشروعات الري، وبسبب إعطائه الفلاح حق التصرف في الأرض التي يزرعها بالبيع والرهن والتوريث، الأمر الذي فتح الباب أمام نمو الملكيات الزراعية الكبيرة على حساب الفلاح الصغير الذي كثيراً ما اضطر إلى التنازل عن ملكيته لصالح المرابين من المصريين والأجانب. وليس بالإمكان أيضاً تفسير مديونية سعيد بزيادة الإنفاق على الحرب والجيش، فلم يعرف عصره حروباً طويلة ولا توسيعاً لرقعة بلاده، بل خفض سعيد حجم جيشه وخفض مدة الخدمة العسكرية ليوجه المجندين لحفر قناة السويس، وأصدر أوامره بالكف عن إصلاح سفن الأسطول، بل وتكسير بعضها وبيعه أخشابها. لم يشترك سعيد إلا في حربين لا ناقة لمصر في أي منهما ولا جمل، حرب القرم لمناصرة السلطان، والتي انتهت على أي حال بعد استلامه الحكم بعامين، وحرب المكسيك لمناصرة صديقه نابليون الثالث، التي أرسل إليها كتيبة صغيرة من السودانيين ولقي معظمهم حتفه. كان جل مشروعات سعيد في التنمية، إن لم تكن كلها، بنصيحة الأجنب ولخدمتهم، من حفر قناة السويس التي أدى فتحها إلى فقدان مصر لما كان يعود عليها من عوائد من مرور التجارة في وسط الدلتا، إلى مد الخط الحديدي من القاهرة إلى السويس، الذي تم بإلحاح الحكومة الإنجليزية لتسهيل نقل جنودها إلى الهند ولصالح الشركة البريطانية التي تبيع المعدات، والذي سرعان ما أصبح عديم النفع بمجرد فتح قناة السويس وتم هجره نهائياً. وكذلك كان موقفه من التعليم، فبينما كان يغدق الإعانات على مدارس الراهبات الفرنسية وعلى مدرسة إيطالية بالإسكندرية، كان يغلق مدرسة المهندسخانة ببولاق ثم يحولها إلى مدرسة حربية، ويغلق مدرسة الطلب بقصر العيني فترة ويفتها فترة، ويلغي ديوان المدارس (وزارة المعارف). إن معظم مؤرخي عصر سعيد يميلون إلى إلقاء المسئولية عن توريط مصر في الديون في عهده إلى "ما جبل عليه من سخاء وعدم التدقيق في حسابه" وإلى كونه "متلافاً للنقود" على حد قول الرافعي "وكثرة نفقاته على قصوره ومعيشته الخاصة"، والكتب حافلة يذكر تبديده للنقود على أسرة فضية كهربائية بمناسبة زواج ابنه، وعلى أوان للشرب يصفها أحد الكتاب بأنها لابد أن كانت، من فرط ارتفاع سعرها، أواني سحرية تظل مملوءة على الدوام، وعلى استيراده نظارات معظمة بأحجام هائلة من باريس، وتزيين أكتاف ضباطه بالفضة الخالصة، ومده لخط حديدي بين الإسكندرية ومريوط لنزهاته الخاصة... إلخ. على أننا نلاحظ أن هذا الميل إلى إلقاء اللوم على الوالي نفسه كان أشد وضوحاً لدى من كانوا أقرب عهداً به، وأنه كلما مر الزمن وبعد عهدنا بهذه الحقبة، كلما زاد الميل عند المؤرخين إلى رؤية مصر كجزء صغير من العالم، بعلاقاته الاقتصادية والمالية المتشابكة. وإذا بهم يميلون أكثر فأكثر إلى إهمال دور النزعات الشخصية والنفسية، ويبدون اهتماماً أكبر باتجاهات رأس المال الدولي والتطورات الاقتصادية في العالم، الأبعد غوراً والأطول مدى. هكذا نجد مؤرخين اقتصاديين مثل كراوشلي، الذي كان يكتب في الثلاثينيات من القرن العشرين، ولهيطة، الذي كان يكتب في الأربعينيات، لا يكادون يذكرون شيئاً عن مسئولية العوامل الخارجية في توريط مصر في الديون في عهد سعيد، بينما نجد لاندز، الذي كان يكتب في الخمسينيات، ومارلو الذي كتب في السبعينيات، يجعلان محور قصتهما المصالح المالية الأوروبية الكامنة وراء محنة مصر الاقتصادية في ذلك العصر. أهم بكثير من شخصية سعيد وكونه "متلافاً للنقود" حقيقة كالحقيقة الآتية: وهي أن الفائض السنوي في ميزان المدفوعات البريطاني ظل يتراوح بين 5 و6 مليون جنيه خلال الربع الثاني من القرن التاسع عشر، ثم قفز إلى 6 و7 مليون جنيه خلال السنوات الخمس السابقة على اعتلاء سعيد العرش، ثم تضاعف إلى أكثر من ثلاثة أمثاله خلال السنوات الخمس التالية (1855-1860). هذه الزيادة الكبيرة في الفائض الباحث عن فرص للاستثمار بالخارج يؤيدها ما بدأ يظهر من إعلانات في الجرائد البريطانية لإغراء أصحاب الأموال بفرص الربح المجزية المتاحة أمام الإقراض في بلاد كمصر، فنشرت إحدى الشركات البريطانية إعلاناً في بريطانيا مؤداه أن: "ميدان العمليات المالية ليس له حدود" وأن: "المزارعين والتجار في مصر العليا والسودان يستطيعون أن يقترضوا بسعر 4% و5% في الشهر". كانت الفرصة التي تتيحها مصر لرأس المال الأوروبي والتجار الأوروبيين في عهد سعيد تتمثل في انفتاح مصر على العالم بعد زوال نظام الاحتكار الذي فرضه محمد علي، ونمو الاقتصاد النقدي، وما أصبح متاحاً لهم من الاتصال المباشر بالفلاحين دون وساطة الوالي. وسرعان ما بدأت البنوك الأوروبية تفتح لها فروعاً في مصر، خاصة في الإسكندرية، لتمويل التجارة الخارجية ورهونات الأراضي ولتقديم القروض للوالي الجديد. كان المرابون والأفاقون من الصيارفة والتجار بد بدأ يسيل لعابهم حتى قبل مقتل عباس الأول، فإذا بهم بمجرد سماع خبر مقتله يتدفقون على مصر بأعداد هائلة، كما لو كانت مصر كاليفورنيا جديدة، فدخل مصر فيما بين عامي 1857 و1861 ما يقرب من 20 ألف أجنبي سنوياً. يصف لاندز الإسكندرية في عهد سعيد بأنها كانت "مدينة قبيحة مليئة بالعشش والمساكن الحقيرة... وفي كل مكان توجد الرائحة الكريهة للقاذورات ومخلفات الإنسان التي تكوم أمام المنازل حتى تملأ الطريق... إن الإسكندرية لم تكن بالمكان الذي يجذب الزائر الحساس القادم من دولة أكثر تحضراً، ولكن الإسكندرية هي البلد الذي فيه المال، وقليلون هم الذين يرغبون في التضحية بجيوبهم بسبب ما تشمه أنوفهم. لم يكن النجاح في الحصول على امتياز من الحكومة المصرية أو في عقد صفقة ما من نصيب الأرخص أو الأسرع في الإنجاز أو الأنسب في شروطه، وإنما كان من نصيب من يعرف الوالي منذ الطفولة، أو من نصيب التاجر الذي يتناول الطعام مع وزير الأشغال العمومية، أو المقاول الذي ينام مع عشيقة الوزير.. أما بالنسبة للموظفين الصغار فقد كانت الرشاوي المكشوفة تؤدي نفس المهمة". في مناخ كهذا يكاد يستحيل على المرء أن يتصور والياً مهما أوتي من بعد النظر وقوة الإرادة، يستطيع الصمود أمام مختلف أساليب الضغط والإغراء والتهديد، سواء كان تهديداً بسحب التمثيل القنصلي، أو بإثارة المتاعب للوالي لدى السلطان، أو حتى بالتلويح بالهجوم العسكري، اللهم إلا إذا دفع الوالي حياته ثمناً لهذا الصمود. لم يكن سعيد في الواقع يشتري ما يحتاج إليه أو حتى ما يرغب فيه، بل ما كان يفرض عليه شراؤه، وكان يقترض لا لتمويل مشروع اقتنع بفائدته، بل لشراء ما يحتاج البائع لتصريفه، أو لملء جيوب المرابين بالفوائد، أو لتمويل مشروع يعود على الأجانب بالربح. كان بدء إصدار سعيد لأذونات الخزانة بناء على نصيحة ديليسبس لكي يمكن سعيداً من الحصول على الأموال اللازمة للإنفاق على قناة السويس، وكان عقده لأول قرض خارجي مع مصرف فرنسي بتأييد بل وتشجيع وزير الخارجية الفرنسية. ثم تأتي بالطبع عمليات النهب من جانب قناصل الدول الأوروبية. فإذا بقنصل بلجيكا يضطر سعيد لدفع 3 ملايين فرنك تعويضاً له عن امتياز زعم أن محمد علي أعطاه له بكلمة شفوية منذ عشر سنوات لنقل البضائع إلى خليج السويس، وإذا بقنصل هولندا يضغط عليه ليحصل منه على امتياز بتشغيل قاطرات لجر حاملات البضائع في النيل، على أن يكون لهذه الشركة احتكار هذا الحق، فإذا ما احتج قناصل الدول الأخرى على حرمان رعاياهم من هذا الحق، وجد سعيد نفسه مضطراً لدفع تعويض إما لرعايا هذه الدول المحتجة، إذا أصر على إعطاء الامتياز للهولنديين، أو للهولنديين إذا سحب منهم الامتياز. فإذا به يلجأ إلى حل ثالث لا يقل سوءاً، وهو قيامه بشراء كافة أسهم الشركة الهولندية بسعر باهظ ثم يهجر المشروع بأكمله. لم يكن وضع مصر الاقتصادي خلال عهد سعيد ليضطرها قط إلى الاستدانة، بل كان لديها من فائض الإيرادات ما يكفي، على حد تعبير القنصل الإنجليزي في ذلك الوقت "لتوظيف كل ما تحوزه من أيد عاملة، ولو كانت هذه الإيرادات قد وجهت إلى مشروعات مختارة بحكمة لاستطاعت مصر أن تلبي كل احتياجاتها". ولكن هذا الوالي الذي اعتلى عرش مصر في عصر الأفاقين، لم يكن في وضع يسمح له بتوجيه إيرادات مصر إلى "مشروعات مختارة بحكمة"، بل كان المقصود هو العكس بالضبط.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: عصر إسماعيل: الاستدانة في عصر الرخاء (1863-1879)

لا يمكن لأحد أن يعيش في الثمانينيات من القرن العشرين، إذا شرع في قراءة تجربة مصر في التورط في الديون في عهد الخديوي إسماعيل، ألا يصاب بالدهشة إذ يرى أوجه الشبه الصارخة بين تجربة الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر، وتجربة السبعينيات من القرن العشرين. إن التاريخ بالطبع لا يمكن أن يعيد نفسه بالضبط، وهناك بالطبع من أوجه الاختلاف ما لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه، ولكن ما معنى الكلام عن "دروس التاريخ" و"الإفادة من معرفة الماضي" بل ما فائدة قراءة التاريخ أصلاً، إن لم يكن هناك بعض الصدق في القول بأن التاريخ يعيد نفسه؟ انظر أولاً إلى تغير لهجة المعلقين الغربيين والصحافة الأوروبية والأمريكية في الحديث عن السادات، أثناء حياته وبعد مقتله في 1981، واستعدادهم المدهش للتغاضي عن أخطائه ونقائصه طالما كان يمشي في ركاب الغرب ويحقق مآربه، ثم استعدادهم المدهش أيضاً للحديث عن نقائصه بعد أن بدا وكأنه قد حقق المطلوب منه وأدى مهمته. هكذا كان تغير موقف الأوروبيين من إسماعي، فقط كالوا له الثناء طالما كان قادراً على الاستدانة والشراء وتسديد القروض، ووصفوه بالحاكم العظيم البالغ الاستنارة والنشاط حتى وهو يطبق نظام السخرة لتنفيذ مشروعاته، أو وهو يعرض الفلاحين للموت جوعاً تحت وطأة ضرائبه. بل عمل القناصل الأوروبيون على الحصول له على قسط أكبر من الاستقلال عن السلطان العثماني في إدارة مصر، كانوا قد بخلوا به على محمد علي نفسه. على أنه ما إن فرغت جعبته، وظهر عجزه عن سداد ديونه، وأبدى مقاومة لما أرادوا فرضه من مشروعات التسوية، حتى بدأوا يوجهون إليه سهام النقد والسباب، وإذا بالجرائد الأوروبية تتحدث فجأة عن استبداده وظلمه، ووحشيته في معاملة عشيقاته، ويتهمونه بترتيب موت أخيه غرقاً ليستولي على العرش. أو فلتنظر إلى تورط مصر في الاستدانة في السبعينيات من القرن العشرين في وقت لم تعرف مصر مثله، قبله أو بعده، من حيث تدفق العملات الأجنبية عليها من مختلف المصادر، ومن حيث ارتفاع معدل نمو الدخل، ومن حيث القدرة على الاستغناء عن القروض بل وتسديد ما سبق اقتراضه، على النحو الذي سنتناوله تفصيلاً فيما بعد، وقارن ذلك ببداية تورط إسماعيل في الديون في ظل رخاء لم تكن مصر قد عرفت مثل لعشرات من السنين، وفي ظروف هي أبعد ما تكون عن ظروف العوز والحاجة إلى الاستدانة. كانت الحرب الأهلية الأمريكية (61-1864) قد بدأت قبل تولي إسماعيل العرش بنحو عامين وترتب عليها انخفاض شديد في المعروض من القطن الأمريكي، ومن ثم زيادة الطلب بشدة على القطن المصري، فارتفع سعر القطن المصري بنحو 100% في السنتين الأوليين من حكمه (63-1865)، وزاد حجم الصادرات بنفس النسبة، ومن ثم زادت قيمة صادرات القطن المصري خلال هاتين السنتين إلى أكثر من ثلاثة أمثالها (من 27 مليون ريال إلى 90 مليوناً)، ومع ذلك لجأ إسماعيل إلى الاستدانة حتى خلال هذين العامين، فعقد قرضاً خارجياً بمبلغ 5.7 مليون جنيه ف 1864 وآخر بمبلغ 2.4 مليون في السنة التالية. كان إسماعيل قد ورث بالطبع تركة سعيد من الديون، كما ورث عنه أخطاء أخرى لم يكن من الممكن التخلص منها إلا بالمزيد من الإنفاق، كما ورث السادات من عبد الناصر بعض الديون وبعض الأخطاء التي احتاج تصحيحها إلى تحمل أعباء مالية، كما سيأتي بيانه في حينه. ولكن الأمر في الحالتين لم يكن قط مما يستعصي على الخزانة المصرية مواجهته، ولم يكن قط مما يفرض على مصر التورط في مزيد من الديون لو ووجهت الأمور بحكمة، بل وأهم من ذلك، لو لم يتعرض الحاكم الجديد لإغراء الأجانب له بالاستدانة. كان سعيد قد ترك لمصر ديوناً قدرها كما رأينا نحو 18 مليوناً من الجنيهات، كما أنه قد ورط مصر في شرطين بالغي القسوة وردا في امتياز شركة قناة السويس وأراد إسماعيل التخلص منهما: أحدهما شرط توفير عمال السخرة في حفر القناة وفي حفر ترعة تزود منطقة القناة بالمياه العذبة، الأمر الذي كان من شأنه سحب نحو 60 ألف عامل من الزراعة، والثاني هو التنازل لشركة قناة السويس عن الأراضي المتاخمة لقناة المياه العذبة وتستخدم هذه القناة في ريها. وكان على إسماعيل تعويض الشركة عن إلغاء هذين الشرطين بمبلغ 4 ملايين من الجنيهات، طبقاً لقرار التحكيم الذي قضى به الإمبراطور نابليون الثالث. ولكن علينا أن نلاحظ أن الجزء الأكبر من الديون التي تركها سعيد، والتعويضات التي تحمل بها إسماعيل، كان مستحق الدفع عبر فترة ممتدة من الزمن. فكان نحو نصف ديون سعيد مستحق الدفع عبر ثلاثين عاماً، والتعويضات المستحقة لشركة القناة كانت مستحقة الدف بأقساط سنوية عبر ستة عشر عاماً. كان القسط السنوي الواجب الدفع من هذين الدينين لا يزيد عن نحو نصف مليون من الجنيهات، أي ما لا يزيد عن 9% من إيرادات الحكومة السنوية في السنوات الأربع الأولى من عهد إسماعيل، وأقل من 7% من متوسط إيراداتها السنوية حتى نهاية عهده. أما الجزء الباقي من الديون، وقدره نحو عشرة ملايين من الجنيهات، ويشمل ديون سعيد قصيرة الأجل، فقد كان يكفي لسدادها كلها تخفيض الإنفاق الحكومي بأقل من 20% خلال السنوات الخمس الأولى من حكم إسماعيل. ولكن إسماعيل، كما يعرف الجميع، لم يفعل هذا، كما لم يفعل السادات ذلك فيما بعد، بل زاد الإنفاق بدلاً من أن يضغطه، وإذا بنا نجد، بعد ثلاثة عشر عاماً من حكم إسماعيل، أي في 1876، وهي السنة التي خرجت إدارة المالية المصرية عن سيطرته وأصبحت في يد المراقبين الماليين من الأجانب، أن ديون مصر الخارجية (بما في ذلك ديون الخديوي الخاصة) قد بلغت نحو 91 مليون جنيه، يبلغ حجم خدمتها السنوية (أي حجم الأقساط السنوية والفوائد) أكثر من ستة ملايين جنيه، أو ما يمثل نحو 80% من إجمالي إيرادات الدولة في تلك السنة، وذلك بالمقارنة بعبء خدمة الديون في آخر عهد سعيد الذي لم يزد عن 260 ألف جنيه أو ما يمثل أقل من 5% من إجمالي إيرادات الدولة في 1863. مما يلفت النظر بشدة أيضاً، أوجه الشبه بين نمط البيئة في عهد إسماعيل ونمطها في عهد السادات. ففي كلا الحالين كان جل الاهتمام منصباً على مشروعات البنية الأساسية دون إحداث أي تغيير يذكر في هيكل الاقتصاد المصري لصالح التصنيع. ومع ذلك فمن الخطأ التقليل من شأن ما تم في عصر إسماعيل من تنمية لهذه البنية الأساسية، ولا شك عندي في أن المقارنة بين ما أضافه إسماعيل وما أضافه السادات في هذا المجال، بالنسبة لما ورثه كل منهما عن سلفه، هي في صالح إسماعيل. إن ما يذكر به عهد إسماعيل عادة من بناء القصور الشامخة وإقامة دار فخمة للأوبرا وتوسيع الشوارع والميادين وتجميل القاهرة، ليس في الحقيقة أهم ما أضافه الرجل من عمران. فقد أضاف إسماعيل إلى شبكة الري ما لا يقل عن 8400 من الأميال من الترع وقنوات الري الجديدة، فزادت المساحة الزراعية في عهده بنحو 750 ألف فدان بعد أن ظلت ثابتة تقريباً في السنوات العشر السابقة على حكمه. كذلك أضاف إسماعيل 910 ميلاً من السكك الحديدية ربطت بين كافة مدن الدلتا الأساسية ووصلت إلى أسيوط والفيوم، وبنى 340 جسراً، ومد 520 ميلاً من خطوط التلغراف وأصلح ووسع ميناء الإسكندرية، وأضاف 15 فناراً على البحرين المتوسط والأحمر. كان إسماعيل قد ورثت عن سعيد 185 مدرسة من المدارس الحديثة فأصبح عددها عندما ترك الحكم 4817 مدرسة. أما في مجال التصنيع فتكاد تقتصر مساهمة عصر إسماعيل على التوسع الكبير في مصانع السكر، وفيما عدا ذلك لا نكاد نجد ما يذكر لإسماعيل إلا أنه أعاد فتح بعض مصانع النسيج والطرابيش والأسلحة التي كان قد أنشأها محمد علي وأغلقت في عهد عباس. فلنلاحظ أيضاً ما شهده عصر إسماعيل مثلما شهد عصر السادات، من تغير واضح في أنماط الاستهلاك، والزيادة الواضحة في الاعتماد على الاستيراد لتلبية حاجات هذه الأنماط الاستهلاكية الجديدة. كانت القوة المحركة لهذا التغير هي في الأساس تزايد عدد الأجانب المقيمين في مصر، الذي بلغ في نهاية عهد إسماعيل نحو ستة أمثال عددهم في 1836، وتزايد عدد حديثي الثراء من المصريين الذين بدأوا يقطنون الأحياء الأوروبية في القاهرة والإسكندرية، ويقلدون الأجانب في نمط معيشتهم ونوع مساكنهم، ويستوردون مثلهم معظم حاجياتهم من الخارج، بما في ذلك مواد البناء، بل وأحياناً قطع الحجارة التي ترصف بها شوارعهم. لا يمكن مع هذا، تفسير تورط مصر في الديون في عصر إسماعيل بما أنفق على مشروعات البنية الأساسية أو مشروعات التنمية عموماً، وسوف نرى نفس الملاحظة فيما يتعلق بمصر السادات أيضاً. إن كراوشلي يقدر ما أنفق في عصر إسماعيل على المشروعات العامة، من قنوات الري والجسور والسكك الحديدية وخطوط التلغراف، وعلى توسيع الموانئ وإنشاء مصانع السكر، بنحو 39 مليوناً من الجنيهات، أو نحو 51 مليوناً إذا أضفنا ما كان على إسماعيل دفعه لمواجهة التزامات مصر قبل شركة قناة السويس، ولكن بعد أن نخصم من قيمة هذه الالتزامات ما حصل عليه إسماعيل من قيمة بيع أسهم مصر في شركة القناة. من الممكن إذن أن نعتبر هذا المبلغ (51 مليون جنيه) هو بالتقريب قيمة ما أنفق في عصر إسماعيل على مشروعات التنمية. ولكن ديون مصر الخارجية زادت في عهده كما رأينا، بنحو 73 مليوناً. هناك إذن ما لا يقل عن 22 مليوناً من الجنيهات أو نحو 30% مما أضافه إسماعيل إلى ديون مصر الخارجية، مما لم تستفد منه التنمية في مصر، حتى بفرض أن كل ما أنفق بالفعل على مشروعات التنمية كان يمثل قيمة الزيادة الحقيقية في رأس المال القومي، وهو فرض بعيد عن الحقيقة بسبب خضوع إسماعيل لمختلف أنواع الغش والتدليس فيما عقده من صفقات لاستيراد المعدات والتجهيزات. يضاف إلى ذلك بالطبع ما تحقق من زيادة في إيرادات مصر الذاتية خلال حكم إسماعيل ولو يوجه إلى مشروعات التنمية. لقد كان المتوسط السنوي لإيرادات الدولة في عصر إسماعيل نحو 6.7 مليون جنيه، أو ما يمثل نحو 290% من المتوسط السنوي لإيراداتها في عصر سعيد (2.3 مليون جنيه). هذه الزيادة في الإيرادات الذاتية للدولة يجب أن تضاف إلى ما يمكن اعتباره تبديداً في غير أغراض التنمية. من السهل أن نفسر هذا التبديد للموارد، الذاتية والخارجية، بصفات إسماعيل الشخصية، من ميل طبيعي إلى البذخ، سواء في إنفاقه على نفسه وحاشيته أو في ضيافته للأجانب، ومن رغبة لا تقاوم في كسب رضا ومودة الأوروبيين، وفي تحويل مصر إلى "قطعة من أوروبا". ولكن الأقرب إلى الحقيقة هو أن الجزء الأكبر من ذلك الفارق بين ما أنفقه إسماعيل على مشروعات التنمية وبين قيمة الزيادة في ديون مصر الخارجية في عهده، لم يتسلمه إسماعيل في الواقع أصلاً. بعبارة أخرى، إن حجم التبديد الاستهلاكي الذي يرتبط عادة باسم إسماعيل، إنما يبدو ضخماً حقاً إذا قارنا بين ما أنفقه على التنمية وما أضافه من ديون، ولكن يظهر لنا في الحقيقة أقل من ذلك بكثير إذا قارنا بين ما أنفقه على التنمية وما استلمه بالفعل من المقرضين، بعد خصم مختلف أنواع السمسرة والعمولات والمصاريف التي كان المقرضون الأجانب يقتطعونها ابتداءً من القيمة الاسمية للقرض. فطبقاً للأرقام التي يوردها أوين، كانت القيمة الاسمية للقروض الخارجية التي عقدت في الفترة الممتدة بين 1862 (وهي آخر سنة من حكم سعيد) و1873، هي 68.5 مليوناً من الجنيهات، لم يتسلم منها سعيد وإسماعيل إلى 46.6 مليوناً، أي ما يقل بنحو 22 مليوناً عن القيمة الاسمية. كذلك فإنه طبقاً للأرقام التي يوردها مارلو عن قروض إسماعيل وحده فيما بين سنة اعتلائه للعرش (1863) وسنة 1876، كانت القيمة الاسمية للقروض الخارجية طويلة الأجل التي عقدها إسماعيل هي 53 مليون جنيه لم يتسلم منها بالفعل إلا 32 مليوناً، أي ما يقل عن القيمة الاسمية بمقدار 21 مليون جنيه، وهو يكاد يعادل بالضبط ما اعتبرناه المبلغ "المبدد" من قروض إسماعيل الخارجية. لم تكن خطيئة إسماعيل الأساسية إذن هي "التبديد" بقدر ما كانت هي محض اللجوء إلى الاستدانة في ظل الشروط القاسية التي كانت تقدم بها القروض، ولكن هذه الخطيئة من السهل أيضاً تفسيرها بما سبق أن ذكرناه من قبل من أنه فيما يتعلق بالإقراض والاقتراض يبدو أن ما يحدث هو أن: "العرض يخلق الطلب" أكثر مما يحدث العكس، أي أن تورط المدين في الاستدانة قد لا يرجع إلى حاجته إلى الاقتراض بقدر ما يرجع إلى حاجة الدائن إلى الإقراض. لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون تورط مصر في الديون مصاحباً لتورط الدولة العثمانية فيها، كما حدث بعد ذلك في السبعينيات من القرن العشرين، حيث كان تورط مصر في الديون جزءاً من ظاهرة دولية عامة، أو أن يأتي إفلاس إسماعيل في 1876 بعد سنة واحدة من إفلاس الباب العالي. وإنما جاء تورط الاثنين وإفلاسهما استجابة في الأساس، لا لميل كل منهما إلى التبذير وتبديد الأموال، وإنما لشدة حاجة أوروبا إلى الإقراض. كان هناك أولاً تزايد أهمية التجارة الخارجية بصفة عامة بالنسبة للاقتصاد الأوروبي منذ منتصف القرن، وتزايد أهمية منطقة الشرق الأوسط في هذه التجارة، ومن ثم تزايد الحاجة إلى دفع المزيد من رؤوس الأموال الأوروبية لتمويل هذه التجارة من ناحية، ولتمويل مشروعات البنية الأساسية التي تخدمها، من مد السكك الحديدية إلى توسيع الموانئ إلى إنشاء خطوط التلغراف.. إلخ. يذكر أوين أن العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر شهدا معدلاً للنمو الاقتصادي في بريطانيا وفرنسا غير معهود في تاريخ الدولتين، مما انعكس في حجم تجارتهما الخارجية. ففي بريطانيا تضاعف حجم الصادرات فيما بين 1848 و1857 ثم تضاعف مرة أخرى خلال الاثنتي عشرة سنة التالية، كما زادت الواردات والصادرات الفرنسية بما يقرب من 100% فيما بين 1852 و1860، وصاحب ذلك زيادة كبيرة أيضاً في حجم التجارة بين كلتا الدولتين من ناحية وبين مصر وتركيا من ناحية أخرى. كانت هناك أيضاً الزيادة الكبيرة في حجم رؤوس الأموال الجاهزة للاستثمار الخارجي، وما صحب ذلك من نمو المؤسسات المصرفية الأوروبية التي قامت لتعبئة هذه المدخرات وتوجيهها إلى الخارج، في وقت كانت قد انتهيت فيه فرص الاستثمار في مد السكك الحديدية في داخل بريطانيا وفرنسا، وبدأت تنضب فرص الاستثمار المجزي الأخرى في كلتا الدولتين كما سبق لنا أن أشرنا. وأخيراً كان هناك محض التنافس بين الدول الأوروبية على كسب موطئ قدم لها فيما وراء البحار وتدعيم وجودها الاقتصادي والسياسي، وخشية كل منها أن تسبقها غيرها في توسيع دائرة نفوذها. كان الشكل المفضل من أشكال الاستثمار الخارجي في ذلك الوقت هو تقديم القروض للحكومات. ففضلاً عن إمكانية الحصول من الوالي على عائد مجز، وما يمكن الحصول عليه من ضمانات وعمولات، كانت قدرة الوالي على استيعاب القروض كالبالوعة التي تتسرب منها المياه بلا نهاية، وكان من أسهل الأمور إخضاعه لمختلف أنواع الإغراء والتهديد، وإذا لزم الأمر استبدال غيره به. لا أعتقد أن من المفيد الإطالة هنا في تتبع الخطوات التي أدت بها الديون إلى فقدان مصر لاستقلالها الاقتصادي والسياسي في أواخر عهد إسماعيل، فالقصة معروفة ومشهودة. وإنما يكفي فقط أن نروي بسرعة الملامح الرئيسية للتطورات التي صاحبت أزمة الديون في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر، لكي نلفت النظر إلى أوجه الشبه بينها وبين التطورات التي حدثت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين. لقد بدأ التدخل الأجنبي بقبول الخديوي إسماعيل تحت وطأة الديون، أن يضع تحت تصريف "الخبير" البريطاني كيف في 1875، ما يريد جمعه من معلومات عن إيرادات مصر ومصروفاتها، بشرط ألا يعني ذلك، على حد تعبير المذكرات الرسمية المتبادلة حينئذ "أي تدخل أو عدوان على السيادة المصرية"! ثم اضطر إسماعيل في السنة التالية (1876) إلى قبول إنشاء صندوق الدين المكون من مراقبين أوروبيين يمثلون أهم الدول الدائنة، تكون مهمتهم تسلم وتوزيع ما تضعه الحكومة تحت تصرفهم من إيرادات بغرض تسديد الديون، وإلى أن يقبل في نفس السنة شروط التسوية التي فرضها ممثلا الدائنين (جوشين الإنجليزي وجوبير الفرنسي) بإعادة جدولة الديون، لطمأنة الدائنين، ما لم يصحبه الاطمئنان على تنظيم إيرادات ونفقات الحكومة المصرية، بما يوفر فائضاً كافياً لخدمة الديون، مما أدى إلى تكوين لجنة التحقيق في 1878، التي تذكر توصياتها بما يطلبه صندوق النقد الدولي في وقتنا الراهن، تحت مسميات مختلفة، كإصلاح المسار الاقتصادي، أو إجراءات التصحيح والتكيف، أو ترشيد السياسة الاقتصادية.. إلخ. يقول مارلو في وصف هذه الفترة التي انقضت بين قبول إسماعيل لشروط التسوية أو إعادة الجدولة، في نوفمبر 1876، وبين تشكيل لجنة التحقيق في مارس 1878: "كان هناك ميل متزايد لدى دائني مصر إلى الاعتقاد بأن شيئاً ما يتعين عمله لضمان السيطرة على تصرفات الخديوي.. وحاول إسماعيل أن يستخدم في المعركة الدائرة بينه وبين الدائنين كل وسيلة بإمكانه استخدامها، مهما كانت المحاولة يائسة، كالاعتماد مثلاً على أن الحكومة البريطانية قد لا تهمها مصلحة الدائنين بقدر ما تهمها مصلحتها الاستراتيجية في مصر، باعتبارها واقعة على طريق إنجلترا إلى الهند.. أو مسايرته وانصياعه لرغبات الحكومة البريطانية فيما يتعلق بمصالحها في البحر الأحمر وأفريقيا الوسطى.. أو محاولته الحصول على مساعدة بعض الشخصيات الأوروبية البارزة التي كانت تبدي تعاطفاً معه.. بل وحاول أن يستغل عاطفة الوطنية المصرية الوليدة والشعور الديني لإثارة غضب المصريين على طريقة الأوروبيين في ابتزازه.. ولكن اضطر إسماعيل للخضوع التام والاستسلام في النهاية، كما حدث بالضبط في قبوله لتسوية جوشين وجوبير، نتيجة لاتفاق الحكومتين البريطانية والفرنسية على اتخاذ مسلك واحد إزاءه". أما محاولة إسماعيل الأخيرة لاستعادة سيطرته، فقد كلفته عرشه. فإذ تجرأ إسماعيل على عزل مجلس الوزراء الذي فرضه عليه الأوروبيون، واستدعى شريف باشا لتشكيل وزارة مصرية خالصة، وإذ حاول أن يطبق مشروعه الخاص للإصلاح المالي وتجاهل المشروع الذي أعدته لجنة التحقيق، أرسلت الحكومتان البريطانية والفرنسية مذكرتين متطابقتين تحملان الخديوي مسئولية ما صنع، وتعتبر محاولته "للتصرف في شئون الدين المصري وفق تصوره الخاص" من قبيل "الاعتداء المباشر والصريح على الاتفاقات الدولية" وسرعان ما سعت الحكومتان لدى الباب العالي لعزله، وهو ما تم بالفعل في 26 يونيه 1879. ولم يكن قد انقضت بعد عشرة أسابيع على قيام إسماعيل بطرد الوزارة الأوروبية. ولا يجوز مع ذلك أن نختم قصة الديون في عهد إسماعيل دون أن نأتي على ذكر قصة إسماعيل المفتش، ذلك اللغز الذي يكتنفه الغموض ويختلف حوله الرأي. كان إسماعيل صديق، الذي اشتهر بإسماعيل المفتش، صديقاً لإسماعيل منذ الطفولة وأخاه في الرضاعة، ومديراً لمزارعه، قبل أن يعينه إسماعيل وزيراً للمالية في 1868. ولكنه قتل في ظروف غريبة في 1876، وهي نفس السنة التي أنشئ فيها صندوق الدين، والتي جاء فيها جوشين وجوبير إلى مصر كممثلين للدائنين الأوروبيين، وأجبرا الخديوي على وضع إيرادات مصر من السكك الحديدية وميناء الإسكندرية تحت السيطرة الأجنبية كضمان لتسديد ديونه. في نفس هذه السنة كان إسماعيل المفتش قد أجبر أيضاً على الاستقالة كوزير للمالية بناء على إلحاح جوشين الذي يصفه الرافعي بأنه كان "وزيراً سابقاً في الوزارة الإنجليزية، ثم عاد إلى الوزارة في سنة 1887، وهو ابن المالي جوشين أحد أصحاب بنك فرهلنج وجوشين بإنجلترا وهو البنك الذي أقرض مصر قروضها الأولى". ثم أعلن رسمياً عن وفاة إسماعيل المفتش بعد استقالته ببضعة اسابيع. هناك ثلاثة مواقف مختلفة، على الأقل، في تقييم إسماعيل المفتش وتفسير مقتله، هناك أولاً رواية الرافعي البالغة القسوة والتي يصب فيها جام غضبه على إسماعيل المفتش ويصفه بأنه كان هو نفسه "من الكوارث التي حلت بمصر في عهد إسماعيل" وأن سنوات توليه وزارة المالية "هي التي جرت الخراب المالي على البلاد (وأنها) أتعس فترة في تاريخ مصر المالي"، ويقول إنه "أثرى إثراءً فاحشاً، وقلد مولاه في عيشة البذخ والإسراف والاستكثار من القصور والأملاك والجواري والحظايا، وإليه يرجع السبب في استدانة الحكومة نحو ثمانية ملايين جنيه ضاع معظمها سدى". ويميل الرافعي إلى أن الخديوي إسماعيل هو الذي أمر بقتله خوفاً من أن يكشف أسرار الخديوي وإسرافه، ومن أن يشرك الخديوي معه في المسئولية عن تبديد أموال الدولة "فعهد الخديوي إلى أتباعه بقتله فقتلوه وألقوا جثته في النيل". ولا تختلف رواية الرافعي كثيراً، سواء في تفاصيل مقتل المفتش أو في إلقاء المسئولية في قتله على الخديوي إسماعيل، عن رواية ويلفرد بلنت في كتابه الشهير "التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر". ولكننا نجد موفقاً مختلفاً بعض الشيء عند مارلو الذي يصف إسماعيل المفتش بالكفاءة والإخلاص التام للخديوي، وإن كان قد "كرس هذه الصفات الشخصية لامتصاص أكبر قدر ممكن من المال من الشعب المصري، ونجح في ذلك أكثر من اللازم.. وأثرى هو نفسه ثراءاً كبيراً". ويذكر مارلو أيضاً أن إسماعيل المفتش هو الذي كان يحرض إسماعيل على رفض اقتراحات جوشين وجوبير الخاصة بتسوية الديون وتخصيص إيرادات السكك الحديدية لخدمتها، ويرجح مارلو وجود اتفاق ضمني بين الخديوي وبين جوشين وجوبير للتخلص من إسماعيل المفتش كطريقة للوصول إلى تسوية مع الدائنين الاوروبيين وكسب رضا الحكومتين البريطانية والفرنسية. على أننا نجد موقفاً ثالثاً، ومختلفاً إلى حد كبير عن الموقفين المتقدمين، لدى روذشتين مؤلف كتاب "خراب مصر" حيث يبدو الكاتب شديد التعاطف مع إسماعيل المفتش بحيث يكاد يجعله بطلاً قومياً، فيصوره في صورة الرجل الوطني الذي رفض التدخل الأوروبي في شئون مصر وحاول مقاومته، ويصور مقتله على أنه الثمن الذي دفعه الرجل لهذه المقاومة، ويجعل الدائنين الأوروبيين المسئولين الأساسيين، إن لن يكونوا المسئولين الوحيدين عن قتله. يرفض روذشتين الصورة التي رسمها المعلقون الأوروبيون لإسماعيل المفتش على أساس أنهم كلهم "من أصدقاء المستر جوشين وحملة السندات"، حيث صوروا المفتش "كمثال للباشا الشرقي، قالوا إنه كان رجلاً فاقد الضمير، غليظ القلب، خائناً ومتعصباً" لمجرد أنه كان "يقف بينهم وبين تحقيق أغراضهم الحقيرة". والحقيقة في نظر روذشتين أن موقف المفتش "كان هو الموقف الصائب من جميع الوجوه". كان يقول إنه: "إذا وصل الأمر إلى اتفاق مع الدائنين، فإن منتهى السفاهة أن يكون أساس الاتفاق تحميل مصر بسعر فائدة قدره 7% في حين أن 5% هو أقصى سعر تستطيع مصر دفعه دون أن تجر على نفسها الخراب، وأما الرضا بوضع رقابة على المالية المصرية، التي ليست في الواقع إلا رقابة على الإدارة المصرية كلها، فقد كان في رأيه لا يعني إلا تسليم البلد للأجانب، وهو أمر لا يختلف عن الخيانة العظمى في شيء". أما مقتل إسماعيل المفتش فيرى روذشتين أنه: "إذا لم يكن قد تم بناء على التحريض المباشر من جانب الدائنين الأوروبيين وممثليهم في مصر، فهو قد تم على الأقل نتيجة قسوتهم المفرطة في الضغط على الخديوي إلى حد اضطراره لقتله". ويستند روذشتين في ذلك إلى مقاومة المفتش للتسوية التي كان الدائنون يريدون فرضها على الخديوي، واعتبارهم التخلص منه "مسألة حياة أو موت"، إلى ما كانت تنشره جريدة التايمز البريطانية من اعتبار المفتش "العدو الاول لإصلاح" وابتهاجها الشديد بسقوطه، والرواج المفاجئ الذي أصاب بورصة الإسكندرية بمجرد أن ترددت إشاعة سقوطه، وإلى خطاب القنصل الإنجليزي لحكومته بمجرد حدوث مقتله حيث قال إنه "قد قوي الأمل كثيراً في نجاح بعثة جوشين وجوبير عقب سقوط ناظر الملاية السابق"، وإلى أنه لم يمض أسبوع واحد على مقتله حتى أعلن إسماعيل قبوله لمشروع جوشين وجوبير للتسوية. ويرفض روذشتين رواية لبنت عن مقتل إسماعيل المفتش على أساس أن بلنت قد استقاها مباشرة من السير ريفرز ويلسن، وهو البريطاني الذي تولى وزارة المالية في مصر بعد سقوط المفتش، والذي رأس لجنة التحقيق التي جاءت إلى مصر لفرض إرادة الدائنين، ومن ثم فلديه مصلحة أكيدة في إخفاء الحقيقة. وأخيراً يذكر روذشتين أن قنصل إنجلترا العام في مصر في ذلك الوقت (اللورد فيفيان) نسب جريمة قتل المفتش إلى شخص حدث فيما بعد أن أنعمت عليه الحكومة البريطانية بلقب "سير".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: عصر الاحتلال - الاقتصاد المصري في خدمة الدائنين (1882-1956)

إذا كنا قد وصفنا عهد محمد علي بأنه كان عهد التنمية بلا ديون، فإن من الممكن وصف عهد سعيد وإسماعيل بأنه كان عهد الديون بلا تنمية. حقاً لقد شهد الاقتصاد المصري نمواً لا يستهان به في عصر إسماعيل، ولكننا إذا اعتبرنا التغير في بنيان الاقتصاد وفي هيكل الجهاز الإنتاجي شرطاً "للتنمية"، تمييزاً لها عن مجرد النمو، فإننا لا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا إن عصر إسماعيل كان بالفعل، كما كان عصر سعيد، عصراً تورطت فيه مصر في الديون دون تنمية. وقد ذكرنا أن شيئاً شبيهاً جداً بذلك قد عانته مصر بعد مائة عام من عصر إسماعيل، حيث اقترنت السبعينيات من القرن العشرين بالتورط في الديون، مع النمو السريع في الدخل، دون أن يحدث أي تقدم يذكر في هيكل الجهاز الإنتاجي بل مع تدهور ملحوظ فيه، كما سنبين تفصيلاً فيما بعد. وقد تركنا عصر إسماعيل ومصر على أعتاب الاحتلال، ودخلت مصر مع قدوم الاحتلال في 1882 عهداً تختلف سماته الاقتصادية اختلافاً بيناً عن عصر سعيد وإسماعيل. فخلال العقود الثلاثة الأولى للاحتلال البريطاني (1882-1914) كانت السمة الأساسية للاقتصاد المصري هي النمو السريع الموجه لخدمة الدائنين، إذ تحولت مصر إلى دولة مصدرة لرأس المال بدلاً من أن تكون مستوردة له، وأصبح من بين الأهداف الأساسية للإدارة الاقتصادية في ظل الاحتلال توليد الدخل الكافي لخدمة الديون التي تورطت فيها مصر في العقدين السابقين. كانت أول حجة قدمتها الحكومة البريطانية لتبرير احتلالها لمصر هي حماية حقوق الدائنين الأوروبيين. وبصرف النظر عن الأهمية النسبية لهذا الدافع بالمقارنة بسائر دوافع بريطانيا لاحتلال مصر، فمن المؤكد أنه كان من بين المحددات الأساسية للإدارة البريطانية للاقتصاد المصري خلال العقود الثلاثة الأولى للاحتلال. يصف الدكتور علي الجريتلي أهداف هذه الإدارة بقوله: "كان الهدف الوحيد للإدارة البريطانية في السنوات التالية لـ1882، هو زيادة مساحة الأراضي المروية رياً دائماً والمساح المزروعة بالقطن، بدافع توليد إيرادات كافية من النقد الأجنبي لخدمة الدين الخارجي الضخم، وكان من المهم أن يتغاضى عن أية اعتبارات أو أهداف أخرى، والتركيز على إعادة ترتيب المالية المصرية من أجل تمكين أصحاب السندات من الحصول على (رطل اللحم) من جسم الاقتصاد المصري"، بالطبع إلى مطالبة شايلوك برطل اللحم من جسم أنطونيو في المسرحية الشهيرة. كما تقتطف وثائق الحكومة البريطانية الرسمية الصادرة في 1898 قولاً للورد كرومر يبرر فيه بناء خزان أسوان بنفس الاعتبار، وهو توليد الإيرادات الكافية لخدمة الديون. إن من الخطأ الظن بأن مصر لم تشهد خلال الثلاثين عاماً الأولى للاحتلال البريطاني نمواً اقتصادياً يستحق الذكر، فالعكس بالضبط هو الصحيح. لا تتوافر لدينا بالطبع إحصاءات عن نمو الدخل القومي أو الناتج القومي الإجمالي خلال هذه الفترة، ولكن عدداً من المؤشرات الأخرى يدل على نمو الاقتصاد بمعدلات لم تعرف مصر مثلها منذ محمد علي. كان محور الاقتصاد المصري بالطبع هو الزراعة، وإذا كانت المساحة المنزرعة لم تزد بأكثر من نحو 10% طوال تلك العقود الثلاثة، فإن المساحة المحصولية زادت خلالها بنحو 60% (1877-1913)، وزاد إنتاج القطن بنحو ثلاثة أميال، وقيمة صادرات القطن بنحو أربعة أمثال نتيجة زيادة إنتاجه وارتفاع أسعاره معاً. ولكن هذه الزيادة الكبيرة في الدخل لم تقترن بأي تغير يذكر في بنيان الاقتصاد المصري، أو بزيادة درجة التنوع والتوازن بين مختلف عناصر الدخل، ذلك أنه لم يكن يتصور في إدارة اقتصادية تستهدف بدرجة أساسية توليد مصادر للنقد الأجنبي تكفي لخدمة الديون، أن تعطي الأولوية للإنتاج الموجه للسوق المحلي بالمقارنة بالإنتاج للتصدير، أو أن تسمح "بتبديد" النقد الأجنبي في تنمية صناعات جديدة لا تجلب موارد جديدة للدولة إلا في المدى الطويل. وهكذا انحصرت الاستثمارات الموجهة إلى قطاعي الزراعة والبنية الأساسية فيما يخدم صادرات القطن، وانحصر النمو الصناعي في تلك الصناعات التي تتمتع بحماية طبيعية، مثل حلج وكبس القطن وصناعات الزيوت والإسمنت والبيرة، بالإضافة إلى صناعة السجائر التي كانت تعتمد على استيراد الدخان من تركيا، المعفى من الضرائب الجمركية بمقتضى خضوع مصر اسمياً للدولة العثمانية. ولم تسمح سياسة كرومر، كما هو معروف، بأي تحول في هيكل الصناعة، كإقامة صناعة حديثة للمنسوجات تنافس المنسوجات البريطانية المستوردة، متعللاً بانه لم سمح بذلك "لقامت لانكشير بحمل السلاح ضده". وهكذا نجد أن الاستثمار في الصناعة لم يستوعب خلال هذه الفترة إلا نسبة ضئيلة من حصيلة الصادرات لا تزيد على 9%، بالمقارنة بنسبة تزيد على الثلث في عهد محمد علي. أما نصيب الأسد في حصيلة الصادرات فقد ذهب لخدمة الديون. لقد سبق أن رأينا أن إجمالي ديون مصر الخارجية (بما في ذلك ديون الخديوي الخاصة) قدر بمبلغ 91 مليون جنيه في 1876، وهي السنة التي خرجت فيها إدارة المالية المصرية عن سيطرة الخديوي وأصبحت في يد المراقبين الماليين الأجانب. على أنه طبقاً لتقرير لجنة التصفية الذي صدر بمقتضاه قانون التصفية في 1880، قدرت ديون مصر الخارجية، بما في ذلك ديون الدائرة السنية والقرض الإضافي الذي عقد مع روتشايلد في 1878، بمبلغ 98.4 مليون جنيه. ثم زادت الديون خلال العشرين سنة التالية بما عقدته إدارة الاحتلال من قروض حتى بلغت 116 مليون جنيه في 1900. خلال هذه الفترة خصصت إدارة الاحتلال نسبة تتراوح بين 24% و40% من إجمالي حصيلة الصادرات لخدمة الدين، أو ما يعادل ما بين 35% و46% من إجمالي الإيرادات الحكومية، واستمرت مصر تدفع لخدمة ديونها (بالإضافة إلى الجزية التي كان عليها دفعها للباب العالي) حتى بداية الحرب العالمية الأولى، وما بين 4.5 و5 ملايين من الجنيهات سنوياً في المتوسط. معنى ذلك أن مصر دفعت لخدمة ديونها خلال الثلاثين عاماً الأولى من الاحتلال نحو 145 مليون جنيه، ومع ذلك كانت ما زالت مدينة في 1914 بمبلغ 86 مليوناً. أي أن مصر دفعت 145 مليون جنيه لإنقاص مديونيتها بمبلغ 30 مليون جنيه فقط وذهب الباقي (115 مليون) في صورة فوائد! يجب ألا يستهين القارئ، الذي تعود في أيامنا هذه على سماع أرقام خدمة الديون الحالية التي تقدر بمئات الملايين، بمبلغ أربعة أو خمسة ملايين كانت تدفع سنوياً لخدمة الدين في أوائل القرن. ذلك أن حجم الدخل القومي في ذلك الوقت لم يكن يتعدى نحو مائة مليون جنيه، ومنى ذلك أن خدمة الدين كانت تستوعب 4 أو 5% من الدخل القومي، وهو يكاد يمثل أقصى قدرة الاقتصاد المصري على الادخار في ذلك الوقت، ولا يكاد يترك لمصر شيئاً يمكن أن تنفقه على النهوض بالتعليم أو الصحة أو التنمية الصناعية. أو فلنقارن هذا المبلغ (4-5 ملايين) بكل ما تكلفه بناء خزان أسوان في 1902، وهو أهم مشروع استثماري قامت به الحكومة في تلك الفترة، إذ لم تزد نفقاته، بما في ذلك ما دفع كتعويض لأصحاب الأراضي، على ثلاثة ملايين من الجنيهات. اقترن هذا التدفق للموارد إلى خارج مصر، بورود بعض الاستثمارات والقروض الأجنبية الخاصة إليها. ولكن هذه كان يقابلها بدورها تحويلات لأرباح وفوائد على هذه الاستثمارات والقروض الخاصة، بحيث لم يتعد صافي تدفق رأس المال الخاص إلى مصر خلال الفترة (1884-1914) مبلغ 33 مليوناً من الجنيهات، بالمقارنة بنحو 145 ميلوناً خرجت من مصر لخدمة الديون، معنى ذلك أن مصر كانت خلال هذه العقود الثلاثة مصدراً صافياً لرأس المال بنحو 3.4 مليون جنيه سنوياً. من المفيد أن نلاحظ أيضاً ما طأ من تغير على معدل تدفق رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة إلى مصر في هذه الفترة، إذ قد لا يخلو هذا من مغزى بالنسبة لظروف مصر الراهنة، لما يفصح عنه من تأثر هذا التدفق بالظروف السياسية الداخلية وبتغير الظروف السياسية والاقتصادية خارج مصر. فطوال السنوات العشر التالية لبدء الاحتلال (83-1892) لم تطرأ اية زيادة تذكر على حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة في مصر إذ بقى هذا الحجم ثابتاً تقريباً عند 6 مليون جنيه. والراجح أن الاستثمار الأجنبي الخاص كانت ينتظر تحقق الاستقرار السياسي في مصر بعد ثورة عرابي وعزل الخديوي، كما كان ينتظر إصلاح المالية المصرية، والاطمئنان على قدرة الاقتصاد المصري على توليد فائض من العملات الأجنبية تكفي لخدمة الديون وتحويل الأرباح. فما إن تحقق هذا الاستقرار، واطمأن المستثمرون على استمرار الاحتلال، وزاد تفاؤلهم بإمكانيات زيادة الدخل، حتى قفزت الاستثمارات الأجنبية الخاصة في السنوات الخمس التالية بنحو الضعف (من نحو 6 مليون جنيه في 1892 إلى 11.4 مليون في 1897)، ثم تضاعفت مرة أخرى في السنوات الخمس التالية (إلى 22.1 مليون في 1902). ثم قفز الاستثمار الأجنبي مرة أخرى إلى ما يقرب من ثلاثة أمثاله خلال السنوات الخمس التالية (إلى 60 مليوناً في 1907) بعد أن تم الاتفاق الشهير بين بريطانيا وفرنسا ف 1904، الذي أطلقت بمقتضاه يد السياسة البريطانية في مصر مقابل أن تطلق يد فرنسا في المغرب العربي. تلت ذلك فترة تراخى فيها معدل الاستثمار الأجنبي لم يزد إلا بنسبة 25% خلال السنوات السبع التالية بسبب الأزمة العالمية في 1907، وما ترتب عليها من تضييق سوق الائتمان. استمرت مصر بعد نشوب الحرب العالمية الأولى في تحقيق فائض في ميزانها التجاري، بل زاد هذا الفائض بشدة بسبب الارتفاع الكبير في أسعار القطن وصعوبات الاستيراد بسبب ظروف الحرب. فإذا أضفنا إلى ذلك ما انفقته بريطانيا على قواتها المرابطة في مصر، نجد أن مصر استطاعت خلال سنوات الحرب والسنوات التالية مباشرة لها أن تحقق فائضاً متراكماً في ميزان مدفوعاتها يبلغ 139 مليوناً من الجنيهات. ولكن استمرت خدمة الديون تستأثر بنصيب الأسد في استخدامات هذا الفائض، وإذا بهذا الفائض الذي كان يمكن، على حد تعبير مارلو: "أن يحمي مصر من وطأة الكساد العالمي المقبل، وأن يعدها لتحقيق تغير بعيد المدى في جهازها الإنتاجي- تلتهمه أقساط الديون". وهكذا انخفضت مديونية مصر الخارجية في العشرين سنة التالية للحرب الأولى (1914-1934) من 86 مليون جنيه إلى 39 مليوناً، أو ما يمثل 20% من الدخل القومي، بالمقارنة بأكثر من 100% عند بداية الاحتلال الإنجليزي. أي أن مصر دفعت للدائنين الخارجيين خلال هذين العقدين نحو 47 مليوناً من الجنيهات عدا الفوائد. جاءت نقطة التحول الأساسية التالية في تطور ديون مصر الخارجية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، إذ استطاعت مصر خلالها ليس فقط أن تسدد بقية ديونها بل وأن تتحول من دولة مدينة إلى دولة دائنة. ذلك أنه على الرغم من العجز في الميزان التجاري المتولد خلال سنوات الحرب، بسبب انخفاض صادرات القطن، جاء الإنفاق العسكري لقوات الحلفاء في مصر فعوض هذا العجز وزاد عليه، وإذا بمصر تتمكن في 1934 من تحويل ما بقي من ديونها الخارجية إلى دين محلي، الدائنون فيه هم المصريون أو أجانب مقيمون بمصر. كانت مصر عندما قامت بتسديد ما بقي من ديونها الخارجية ما زالت ترزح تحت الاحتلال، كما كانت بقيامها بذلك تسدي خدمة أخرى لسلطات الاحتلال التي كانت قد تحولت من دولة تبحث عن مجال لاستثمار فوائض رأس مالها إلى دولة تحتاج إلى استرداد مستحقاتها بل وإلى الاقتراض، فإذا بمصر تنهض بعبء المهمة الثانية كما نهضت بالأولى. كانت بريطانيا قد أنهكتها نفقات الحرب، وبلغت نفقاتها العسكرية في مصر وحدها في سنوات الحرب 314 مليون جنيه، أي نحو ثمانية أمثال إجمالي ديون مصر الخارجية عند بداية الحرب، وكان مما يلائم سلطات الاحتلال إذن أن تسرع مصر بسداد ما بقي من ديونها، التي كان لبريطانيا أكبر نصيب فيها. ووقع عبء هذه المهمة على أمين عثمان وزير المالية في ذلك الوقت، والذي اشتهر بإخلاصه لبريطانيا أكثر مما اشتهر بالوطنية، فقدم مذكرة إلى مجلس الوزراء في سبتمبر 1943 صور فيها "تمصير الدين" على أنه عمل من أعمال الكرامة الوطنية إذ قال: "كان أول ما عنيت به منذ تقلدت وزارة المالية أن أبحث مع الإخصائيين عن خير طريقة لتحويل دين مصر من دين دولي إلى دين داخلي بحت، وبذلك نعدم الدين القديم ونعدم معه ذكرياته السيئة التي جريت على البلاد في الماضي ويلات الاحتلال، وساعدت على تدخل الدول الأجنبية في أخص شئون مصر الداخلية. وفضلاً عما في تحقيق هذا الهدف من إرضاء الكرامة الوطنية، فإنه يرمي إلى تخفيف عبء الدين إلى حد بعيد". وعندما عرض الأمر على مجلس النواب اشتم بعض الأعضاء أن المقصود بقانون التمصير خدمة المصالح البريطانية، وأنه لن يؤدي إلى "تمصير" الدين بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، ذلك أن القانون المقدم من الحكومة يطرح السندات الجديدة لا على المصريين فقط بل وعلى الأجانب المقيمين بمصر، ومن ثم "فلن تنتج عملية التحويل إلا انتقال هذا الدين من أيدي الأجانب المقيمين في إنجلترا وفرنسا وغيرهما إلى أيدي أجانب مقيمين في مصر، أو أجانب أيضاً مقيمين في الخارج يشترون بواسطة ممثلين في مصر ما يريدونه من سندات هذا القرض عندما يعرض على الاكتتاب العام". ورد أمين عثمان على هذا بقوله:. "إننا لم نلجأ إلى القرض إلا لتتمكن الحكومة من تحويل الدين من قرض دولي إلى قرض مصري، أعني قرضاً بالعملة المصرية يدفع في مصر لا قرضاً لا يكتتب فيه غير المصريين، وإني لأرحب بكل مكتتب في القرض سواء كان مصرياً أم أجنبياً لأني أعتبر الأجنبي مصرياً ما دام يعيش بيننا ويتمتع بخيرات بلادنا، فنحن في هذا السبيل سواء". ووافق المجلس على القانون، وعرضت القروض التي سميت بالقروض الوطنية على الاكتتاب في نوفمبر 1943 وغطيت بكامل قيمتها. وهكذا أسدلت سنوات الحرب العالمية الثانية الستار على مرحلة طويلة كئيبة من تاريخ المديونية المصرية، استغرقت من تاريخ مصر الاقتصادي نمو ثمانين عاماً. فلم يتم سداد الديون الخارجية التي بدأها سعيد باشا في 1862 إلا بقانون تمصير الدين في 1943. وصندوق الدين الذي فرض الرقابة الأوروبية على المالية المصرية في 1876، لم يتم إلغاؤه إلا في 1940. وخرجت مصر من الحرب العالمية الاثنية دائنة لبريطانيا بمبلغ 340 مليوناً من الجنيهات، وعانت مصر الأمرين في استيفاء حقوقها مثلما عانت من قبل في تسديد ديونها. مرة أخرى نلاحظ أن تحول مصر من دولة مكتفية بمواردها إلى دولة مدينة، ثم من دولة مدينة إلى دولة دائنة، لم تحكمه حاجة مصر إلى الاقتراض أو قدرتها على السداد بقدر ما حكمته تقلبات ظروف الاقتصاد الدولي. ففي عصر من الرخاء لم تكن لدى مصر فيه أدنى حاجة إلى الاستدانة لتنمية اقتصادها، أقدمت على التورط في الديون. وفي فترة انكماش وكساد شديد الوطأة في ظل ركود شبه تام في متوسط الدخل، كالذي ساد مصر فيما بين 1913 و1943، قامت مصر بسداد جزء كبير مما سبق لقها اقتراضه. لقد بين هانسن بدراسته لإحصاءات الدخل القومي المصري خلال الفترة 1913-1956، أن متوسط الدخل القومي عند قيام حرب السويس كان تقريباً عند نفس مستواه عند قيام الحرب العالمية الأولى. فالتقدم الضعيف الذي أحرزته الزراعة المصرية بالإضافة إلى نمو الناتج الصناعي، ضاع أغلبه بسبب اتجاه معدل التبادل الدولي لغير صالح مصر (بانخفاض أسعار القطن بالمقارنة بأسعار الواردات)، والتهمت باقي الزيادة في السكان. فإذا كانت مصر في حاجة ماسة إلى الاقتراض في أية فترة من تاريخها الحديث فقد كانت هي هذه الفترة. ولكن هذه هي بالضبط الفترة التي قامت فيها مصر بسداد ديونها وتحولت فيها إلى دولة دائنة! ذلك أن هذه الفترة كانت هي ايضاً الفترة التي انكمشت فيها بشدة حاجة الاقتصاديات المتقدمة إلى ولوج أبواب الاستثمار الخارجي. فأوروبا كانت مشغولة بالاستعداد أو الإنفاق على الحربين العالميتين، أو بإعادة تعمير ما دمرته الحربان، أو بدفع التعويضات المفروضة على من انهزم في الحرب الأولى، أو بالكساد العالمي الذي حل بها جميعاً في الثلاثينات. والولايات المتحدة كانت منشغلة باستغلال مواردها الاقتصادية الهائلة وسوقها الواسعة. في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، عندما رحل آخر جندي من جنود الاحتلال عن أرض مصر، كان وضع مصر من حيث المديونية الخارجية لا يختلف كثيراً عما كان عليه قبل ذلك بمائة عام. ففي 1956 كانت مصر، كما كانت في منتصف القرن التاسع عشر، غير مدينة للخارج بشيء. ولكن كان على مصر في 1956 الشروع في برنامج طموح للتنمية تدعم به عهد الاستقلال الجديد. في نفس الوقت، كان العالم الصناعي يدخل بدوره عهداً جديداً أهم ما يميزه أن استقطاباً دولياً جديداً، يتمثل في التنافس على مناطق النفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، قد حل محل النظام الاستعماري القديم الذي تزعمته بريطانيا وفرنسا، فإذا بقصة مديونية مصر الخارجية ابتداءً من ذلك الوقت تعكس ما طرأ على النطاق الاقتصادي والسياسي العالمي من تغيرات، وإذا بنا نقرأ قصة جديدة تمتد من منتصف الخمسينيات إلى منتصف الثمانينيات، لها بالطبع ملامحها الخاصة التي اكتسبتها في الأساس من الملامح الجديدة للنظام العالمي، ولكن لها أيضاً أوجه شبه مذهلة بقصة القرن التاسع عشر.


الفصل الخامس: ديون عبد الناصر (1956-1967)

لا يعرف التاريخ الاقتصادي نفس الانكسارات الحادة التي يعرفها التاريخ السياسي، فقد تقوم ثورة تقلب نظام الحكم بين يوم وليلة ويستمر مع ذلك التطور الاقتصادي لمدة سنوات بعدها، بنفس النمط الذي ساد قبلها. وينطبق هذا القول على انفجار ثورة 1952. فتطور مصر الاقتصادي لم يشهد انكساراً في 1952 كالذي شهده النظام السياسي، بل استمر لنحو أربع سنوات (حتى 1956)، بنفس الملامح الأساسية التي اتسم بها التطور الاقتصادي في العقد السابق على الثورة. كذلك فإن تغير شخصية الحاكم لا ينطبق دائماً مع التغير في النظام الاقتصادي أو السياسة الاقتصادية. كثيراً ما يوقعنا هذا في الخطأ ونحن بصدد تقييم تجربة تاريخية معينة. وقد وقع فيه كثيرون وهم بصدد تقييم التجربة الناصرية، على الأقل فيما يتعلق بأدائها الاقتصادي. ذلك أنه حتى إذا جاز اعتبار الحقبة الناصرية، من الناحية السياسية، هي تلك التي بدأت بقيام ثورة 1952 وانتهت بوفاة عبد الناصر في 1970، فإن النظام الاقتصادي الناصري كان في الواقع أقصر عمراً بكثير. فأهم الملامح المميزة للناصرية من الناحية الاقتصادية لم تسد في الواقع إلا في الفترة الواقعة بين حرب السويس في 1956 وانتهاء الخطة الخمسية الأولى في 1965، أي لفترة لا تزيد على عشر سنوات، سبقتها فترة ليست في الحقيقة إلا امتداداً لسنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأعقبها فترة أصيبت خلالها السياسة الاقتصادية بما يشبه الشلل، واستمرت كذلك حتى إلى ما بعد وفاة عبد الناصر ببضع سنوات. والوضع هنا يشبه إلى حد كبير تجربة النصف الأول من القرن التاسع عشر. فعلى الرغم من أن محمد علي حكم مصر فترة تقرب من نصف قرن (1805-1858) فإن أهم الملامح الاقتصادية المميزة لعهد محمد علي عما سبقه وما لحقه، لم تسد في الواقع أكثر من ربع قرن (1816-1840) وهي الفترة التي بدأت ببداية إصلاحاته لنظام الري وفرض نظام الاحتكار في الصناعة، وانتهت بمعاهدة لندن التي أجربته على التخلي عن نظام الاحتكار. وكما أن محمد علي ظل يعتلي عرش مصر لمدة ثماني سنوات بعد انكسار تجربته، فإن عبد الناصر ظل أيضاً حاكماً لمصر حتى نهاية الستينيات ولكن تجربته الحقيقية كانت قد انتهت قبل ذلك بثلاث أو خمس سنوات على الأقل. سبق أن رأينا أن سنة 1943 شهدت إسدال الستار على الفصل الأول من قصة مديونية مصر الخارجية، وهو الفصل الذي بدأ في مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر وانتهى بتحويل الديون الخارجية إلى دين محلي. استمرت مصر لفترة خمس عشر عاماً أخرى، تشمل السنوات السبع الأولى من الثورة، في غنى عن الديون الخارجية، فحتى نهاية 1958 ظلت مصر غير مدينة للخارج بشيء. لقد تلقت مصر خلال هذه السنوات السبع بعض المنح والقروض الخارجية، ولكنها كانت ضئيلة للغاية ولم يترتب عليها أية التزامات ذات شأن بالدفع بالعملات الأجنبية، فالمساعدات الأمريكية لمصر خلال سنوات الثورة الأولى كانت إما معونات فنية في صورة منح لا ترد (برنامج النقطة الرابعة)، أو معونات غذائية طبقاً للقانون الأمريكي المعروف برقم 480، وهذه كانت تقدم في صورة قروض تسدد بالعملة المصرية، ومن ثم لم يترتب أية التزامات على مصر بالعملات الأجنبية. وعلى أية حال فإن مصر لم تتلق من هذه المعونات الغذائية خلال تلك الفترة إلا ما قيمته 17 مليون دولار، وفي سنة واحدة هي 55/1956، ولم تستأنف بعد ذلك إلى في 58/1959. وفيما عدا هذا وقعت مصر خلال هذه الفترة قرضين مع الاتحاد السوفيتي لتمويل مجمع الحديد والصلب بحلوان، ولتمويل المرحلة الأولى لبناء السد العالي قيمتها 170 و97 مليون دولار على التوالي، واتفاقاً مع ألمانيا الغربية للتعاون الاقتصادي قيمته 124 مليون دولار، ولكن لم تسحب مصر أي مبلغ طبقاً لهذه الاتفاقيات الثلاث حتى آخر 1958. ليس من الصعب تفسير استغناء مصر عن الاستدانة خلال السنوات السبع الأولى للثورة. فمن ناحية كانت لا تزال لدى مصر أرصدتها الإسترلينية المستحقة على بريطانيا، فضلاً عما كانت قد تلقته مصر منها قبيل الثورة ولم تنفقه فأضافته إلى احتياطياتها. ومن ناحية أخرى كانت جهود التنمية في ذلك الوقت متواضعة للغاية، إذ كانت حكومة الثورة ما زالت منشغلة بتثبيت أسس النظام الجديد وتقليم أظافر القى السياسية القديمة فضلاً عن تحقيق الجلاء، كما كانت لا تزال تؤمن بإمكانية الاعتماد على الاستثمارات الخاصة، الوطنية والأجنبية، لتحقيق التنمية، فلم يشكل الاستثمار العام عبئاً ملحوظاً على ميزان المدفوعات في الوقت الذي أحجم فيه رأس المال الوطني والأجنبي عن الاستثمار حتى تتبين له اتجاهات السياسة الاقتصادية للنظام الجديد، فلم يشكل الاستثمار الخاص بدوره عبئاً على موارد مصر من العملات الأجنبية. وهكذا نجد أن إجمالي قيمة الواردات السلعية لم تزد خلال هذه الفترة إلا زيادة طفيفة للغاية (بما لا يزيد عن 5% فيما بين 52 و1958) وأن متوسط العجز في ميزان العملات الأجنبية في 57-1958 كان أقل مما كان في 51-1952. على أن صورة ميزان المدفوعات المصرية ومديونية مصر الخارجية تغيرت تغيراً شاملاً خلال السنوات السبع التالية (5-1965). وهي أكثر سنوات الثورة تمثيلاً للنظام الاقتصادي الناصري. إن أغلب ما يقترن في أذهاننا بالإنجازات الناصرية في المجال الاقتصادي إنما يعود إلى هذه الفترة. فهذه هي سنوات التنمية بالغة الطموح، والارتفاع الملحوظ في معدلات الاستثمار، وفي متوسط الدخل على الرغم من الزيادة السريعة في السكان، والتغير الواضح في هيكل الاقتصاد ومعدل التصنيع. وهي أيضاً الفترة التي شهدت تجربة مصر الوحيدة في التخطيط الشامل وفي التدخل الجدي لإعادة توزيع الدخل. ففي هذه الفترة ارتفع معدل الاستثمار من 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي (59/60) إلى 17.8% (64-1965) ومن ثم حقق الاقتصاد القومي نمواً حقيقياً زاد على 6%، وارتفع مستوى الدخل الحقيقي للفرد بأكثر من 3% سنوياً بعد ركود في متوسط الدخل استمر، كما سبق وأن أشرنا، أكثر من أربعين عاماً. وقد حظيت الصناعة والكهرباء بأكبر نصيب في الاستثمارات (نحو الثلث) فنما الناتج الصناعي بمعدل 8.5% سنوياً والكهرباء بمعدل 19%. وكذلك فاق معدل نمو الزراعة أيضاً (3.3%) بدرجة ملحوظة معدل النمو في السكان (2.8%). أدى ذلك إلى أن أصبحت صورة الهيكل الاقتصادي في نهاية سنوات الخطة مختلفة بشكل ملحوظ عما كانت في بدايتها، فارتفع نصيب الصناعة والكهرباء في الناتج المحلي الإجمالي من 17% في 1958 إلى 23% في 1965، وزاد نصيب الصناعة في الصادرات من 18% إلى 25%. وإذا كان نصيب الصناعة في إجمالي العملة لم يرتفع بنفس الدرجة، فإن العمالة الصناعية قد زادت خلال هذه الفترة بأكثر من ضعف الزيادة في إجمالي القوة العاملة، وهو ما لم يعرفه الاقتصاد المصري منذ أيام محمد علي. واقترن كل ذلك بتحسن ملحوظ في نمط توزيع الدخل، فارتفع نصيب الأجور الزراعية في إجمالي الدخل الزراعي من 25% في بداية الخطة إلى 32% في نهايتها، ونصيب الأجور الصناعية في إجمالي الدخل الصناعي من 27.5% إلى 33.4%، وزاد متوسط الأجر الحقيقي في الزراعة والصناعة بنسبة 34% و12% على التوالي خلال نفس الفترة. لم يكن غريباً أن يترتب على كل هذا أن يزيد العبء الملقى على ميزان المدفوعات وأن تظهر الحاجة إلى الاستدانة، بل الغريب أن يكون قد تم إنجاز كل ذلك دون تدهور أكبر بكثير مما حدث بالفعل في ميزان المدفوعات، ودون تورط أكبر بكثير في الديون. وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه القفزة الكبيرة في معدل الاستثمار إلى زيادة الواردات من السلع الرأسمالية والوسيطة زيادة كبيرة، وأن تؤدي إعادة توزيع الدخل إلى زيادة كبيرة أيضاً في استيراد السلع الاستهلاكية. فإذا أضفنا إلى ذلك الزيادة الملحوظة في الإنفاق الحكومي، وفي الإنفاق العسكري بوجه خاص لتمويل حرب اليمن، كان علينا أن نتوقع زيادة ملحوظة في عجز ميزان المدفوعات. وبالفعل، بعد ما اتسمت به قيمة الواردات السلعية من ثبات في السنوات السبع الأولى للثورة، قفز المتوسط السنوي لإجمالي الورادات السلعية من 558 مليون دولار في تلك الفترة إلى 824 مليون دولار في الفترة 56-1966، أي بزيادة قدرها 48%. وعلى الرغم من الزيادة الملحوظة في الصادرات السلعية وفي إيرادات مصر من قناة السويس بعد تأميمها، لم تستطع إيرادات مصر من العملات الأجنبية أن تواجه هذه الزيادة الكبيرة في الاستيراد، فزاد عجز ميزان المعاملات الجارية بحيث أصبح (في 59-1966) نحو ثلاثة أمثال ما كان عليه في (52-1958). كان لا يزال لدى مصر في بداية هذه الفترة من الأرصدة الإسترلينية ما تستطيع استخدامه في مواجهة العجز، إذ كانت بريطانيا لا تزال مدينة لمصر في مطلع 1959 بمبلغ 80 مليون جنيه إسترليني، ولكن هذا كان أقل بكثير مما كانت مصر في حاجة إليه لتمويل استثمارات الخطة والزيادة في الاستهلاك الخاص والحكومي، فضلاً ‘ما كان على مصر مواجهته من أعباء إضافية خلال تلك الفترة أهمها ما كان عليها دفعه من تعويضات لحملة أسهم قناة السويس المؤممة وغيرها من الممتلكات الأجنبية التي جرى تأميمها في أعقاب حرب 1956، فضلاً عن التعويضات المستحقة للسودان بسبب إغراق بعض أراضيها الذي ترتب على بناء السد العالي. هذه التعويضات بلغت نحو 67.5 مليون جنيه إسترليني (27.5 مليون لمساهمي شركة قناة السويس و25 مليون للبريطانيين الذين أممت ممتلكاتهم و15 مليوناً للسودان) وذلك دون حساب ما دفع من تعويض لرعايا اليونان وفرنسا ولبنان وإيطاليا وسويسرا عن ممتلكاتهم المؤممة. فإذا أضفنا إلى هذا المبلغ ما قدمته مصر من قروض ومساعدات لبعض الدول العربية والأفريقية خلال هذه الفترة (منها 10 ملايين جنيه للجزائر و6 ملايين لمالي) نجد أنه لا صحة للقول بأن الأرصدة الأسترالية المتوفرة لمصر خففت عن مصر عبء التنمية بدرجة ملحوظة. فالحقيقة أنها لم تساهم في ذلك إلا مساهمة محدودة للغاية إذا أخذنا في الاعتبار ما كان على مصر دفعه من تعويضات، وأن إجمالي المتوفر منها في بداية الخطة كان أقل من نصف حجم الاستثمارات المنفذة في السنة الأولى وحدها من سنوات الخطة. لم يكن هناك إذن مفر لمصر من أن تلجأ في هذه الفترة إلى الاقتراض. ويقدر الدكتور الجريتلي ما تلقته مصر بالفعل من مساعدات وقروض خلال الفترة الممتدة من يونيو 1958 إلى يونيه 1965 بما يعادل 800 مليون جنيه مصري، منها 300 مليون قيمة المساعدات الغذائية المقدمة من الولايات المتحدة و500 مليون من الاتحاد السوفيتي وغيرها من دول الكتلة الشرقية وبعض الدول الغربية والمؤسسات الدولية. بمقارنة هذه الأرقام بأرقام الناتج المحلي وأرقام الاستثمار نجد أن ما حصلت عليه مصر من قروض خلال هذه الفترة كان يمثل نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وأن مصر اعتمدت على الاقتراض في تمويل نحو 30% من إجمالي الاستثمارات. كانت هذه الأرقام تبدو للباحثين في الاقتصاد المصري في منتصف الستينيات أرقاماً مزعجة ومدعاة للقلق، كما تميل كتابات أكثر حداثة إلى الإيحاء بأن مصر قد بدأت تتورط في الديون تورطاً خطيراً منذ سنوات الخطة الأولى. فيقتطف خالد إكرام في كتابه الصادر عن البنك الدولي في 1980 عبارة لهانسن تشير إلى تزايد التجاء مصر منذ 64/1964 إلى الاقتراض قصير الأجل بأسعار فائدة باهظة "كان من شأنها أن تصيب بالدهشة الخديوي إسماعيل نفسه. ولكن الحقيقة تبدو لنا الآن عكس ذلك تماماً. فالذي يبدو لنا الآن، ونحن ننظر إلى تجربة هذه الحقبة بعد مرور أربعين عاماً على انتهائها، هو أن لجوء مصر إلى الاقتراض في ذلك الوقت كان مبرراً تماماً، ولم يخلق لمصر من الأعباء ما كان يصعب عليها النهوض به مع الاستمرار في التنمية، وأن الذي أوقف مسيرة التنمية منذ منتصف الستينيات ليس هو أعباء المرحلة السابقة، سواء كانت أعباء زيادة الاستثمار أو الاستهلاك، ولا حتى أعباء الإنفاق العسكري، بل الذي أوقفها هو ما تعرضت له مصر من ضغوط خارجية بدأت منذ السنة الأخيرة للخطة، وبلغت قيمتها بحرب 1967 وما ترتب عليها من آثار. ذلك أن معيار الحكم بما إذا كان الاقتراض مبرراً أو غير مبرر، وما إذا كانت درجة الاستدانة خطيرة، لا يختلف كثيراً في حالة الدولة عنه في حالة الفرد. فالعبرة ليست بالضبط بنسبة الاقتراض إلى الدخل، وإنما هي في الأساس بمدى القدرة على الوفاء بالدين، في فترة زمنية معقولة. وهذه القدرة على الوفاء تتوقف بدورها على استخدامات القروض، أي ما أنفقت فيه، وعلى شروط الاقتراض. وتطبيق ذلك على ديون عبد الناصر يجعلنا نميل إلى أن نصدر على تجربة الاقتراض في هذه الفترة التي نحن بصددها، حكماً إيجابياً إلى أبعد الحدود. فمن ناحية استخدامات القروض، لا أظن أن أحداً يمكن أن يجادل في أن قروض عبد الناصر المدنية قد وجهت بكاملها تقريباً لزيادة قدرة مصر الإنتاجية. فقروضه من الكتلة الشرقية ذهبت إما لتمويل مشروعات صناعية أو لتمويل السد العالي. إن الجدل ما زال يحتدم بالطبع عما إذا كان نظام عبد الناصر قد "بدد" جزءاً كبيراً من الموارد الذاتية والخارجية على صناعات قليلة الكفاءة، وعما إذا كان مشروع السد العالي قد ولد من الأعباء ما قلل كثيراً من منافعه الصافية. على أن القضية التي نحن بصددها الآن تختلف عن ذلك. فالقضية التي نواجهها هنا ليست هي ما إذا كانت القروض قد استخدمت أفضل استخدام ممكن، يفرض أن تحقيق ذلك كان متاحاً أصلاً حتى في أحسن الظروف الداخلية والخارجية، وإنما هي ما إذا كان العائد الذي تحقق من القروض يفوق تكاليفها، فإذا طرح الأمر على هذا النحو لبدا لنا من شبه المؤكد أن تجربة عبد الناصر في الالتجاء إلى الاقتراض لتمويل التنمية كانت مبررة تماماً، حتى لو ثبت لدينا أن أخطاء معينة قد ارتكبت في توزيع الاستثمارات. والعبرة على كل حال في تقييم تجربة ما، ليست هي في القدرة على الدفاع عن كل مشروع استثماري على حدة وإثبات كفاءته الاقتصادية، بل هي في النظر إلى توجه الاستثمارات بوجه عام ومدى مساهمتها جملة في زيادة قدرة الدولة الإنتاجية بحيث تتمكن الدولة في فترة زمنية معقولة من سداد ديونها. وقد أشرنا منذ قليل إلى التغير في هيكل الاقتصاد القومي الذي أحرزته التجربة الناصرية في فترة وجيزة نسبياً، سواء كان مقاساً بزيادة نصيب الصناعة في الناتج القومي أو في الصادرات، وهو تغير عجزت مصر عن إحداثه طوال الفترة التالية لعهد محمد علي، وكذلك طوال الفترة التي انقضت منذ انتهاء الخطة الأولى في 1965 وحتى اليوم. بل ليس من التعسف القول بأنه حتى التجاء عبد الناصر إلى الولايات المتحدة للحصول على معونات غذائية كبيرة كان إلى حد كبير اقتراضاً إنتاجياً وليس اقتراضاً استهلاكياً. فمن المتفق عليه أنه حتى المواد الغذائية يمكن أن تعتبر سلعاً إنتاجية إذا استخدمت لتشغيل أعداد أكبر من العمال في أعمال منتجة ولم تستخدم في مجرد رفع مستوى الاستهلاك للعمال المشتغلين بالفعل. وهذا هو بالضبط ما حدث في الفترة التي نحن بصددها، فقد زاد عدد المشتغلين في هذه الفترة (59-60-64/1965) بمعدل يفوق بنسبة 50% معدل الزيادة في القوى العاملة. وكانت أكبر معدلات النمو في العمالة من نصيب قطاعات التشييد فالكهرباء فالصناعة. أما من حيث شروط الاقتراض فقد كانت في جملتها من أفضل ما حصلت عليه مصر من شروط في تاريخ مديونيتها الخارجية، إن لم تكن أفضلها على الإطلاق. فمن ناحية القيود السياسية المرتبطة بالقروض، كانت هذه الفترة، بما اتسمت به من ظروف توازن القوى بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، هي الفترة الذهبية بالنسبة لمصر والعالم الثالث عموماً، من حيث القدرة على الاقتراض من كلا المعسكرين بأقل قدر من التضحية بحريتها في التصرف. كانت هذه الفترة من الفترات النادرة، التي تذكرنا مرة أخرى بالفترة الذهبية من حكم محمد علي، التي قنعت فيها كل من الدولتين العظمتين بأن تكون الدولة الصغيرة غير خاضعة للقوة العظمى الآخرين دون أن تشترط خضوعها لسيطرتها هي. كان من الممكن إذن لدولة كمصر أن تتلقى معونات اقتصادية كبيرة من كل من المعسكرين بمجرد إثبات استقلالها عن المعسكر الآخر، فتتلقى المعونات الغذائية من الولايات المتحدة وهي في قمة تطبيقها للإجراءات الاشتراكية، وتتلقى معونات الاتحاد السوفيتي لبناء السد العالي والمشروعات الصناعية والماركسيون المصريون قابعون في المعتقلات. أما الشروط الاقتصادية فكانت بالغة اليسر، سواء من حيث فترة السداد أو سعر الفائدة. فالفروض السوفيتية كانت تقدم لفترة اثنى عشر عاماً، وبسعر فائدة لا يتجاوز 2.5%. ومعونات الغذاء الأمريكية كانت تقدم في صورة قروض مستحقة الوفاء بالعملة المصرية، وعبر فترة ثلاثين عاماً، وبسعر فائدة 4%. أما ما يشير إليه خالد إكرام من أسعار الفائدة الباهظة التي اقترضت بها مصر، فهي لا تتعلق إلا بالسنة الأخيرة من سنوات الخطة (64-1965) والسنوات الثلاثة التالية لها، ولم تضطر مصر إليها إلا بسبب القطع المفاجئ من جانب الولايات المتحدة لمعونتها الغذائية، وفي وقت كانت مصر تعاني فيه من تعاقب موسمين من الإنتاج الزراعي المنخفض. إن من الممكن بالطبع أن نعتبر أن مجرد التجاء عبد الناصر للاعتماد على المعونات الغذائية الأمريكية كان موقفاً يتسم بقصر النظر والبعد عن الحكمة، على أساس أن هذه المعونات كان لابد من اعتبارها من أول الأمر أمراً غير مضمون الاستمرار ومرهوناً بموقف الولايات المتحدة السياسي من النظام الناصري، وأن من قبيل التهور رسم خطة للتنمية على افتراض استمرار هذه المعونة. هذا النقد، وإن كان لا يخلو من الصحة، فإنه أقرب إلى ذلك النوع من الانتقادات الذي يسهل توجيهه ممن ينظر إلى التجربة برمتها بعد انتهائها، وممن يعرف نهاية القصة، دون أن يقع عليه عبء المرور بالتجربة نفسها. لم يكن من السهل في اعتقادي، أن يتنبأ المرء في 58 أو 1959، حينما كان النظام الناصري يتمتع في الواقع بتأييد الولايات المتحدة، وحينما بدت الظروف الدولية مواتية للغاية لتدشين تجربة طموح في التنمية، بأن توازن القوة الدولية في منتصف الستينيات سوف يؤدي بالولايات المتحدة إلى اتخاذ موقف عدائي تماماً من التجربة الناصرية، ويقترن في نفس الوقت بإحجام الاتحاد السوفيتي عن تقديم يد العون لمصر بالدرجة المطلوبة لتعويضها عن توقف المعونة الأمريكية. كان من الممكن بالطبع تجنب انتكاس تجربة التنمية، الذي حدث منذ منتصف الستينيات، لو استمع عبد الناصر لرأي فريق من الاقتصاديين المصريين في نهاية الخمسينيات الذين كانوا يعتبرون أهداف الخطة مفرطة في طموحها، فقبل معدلاً للتنمية أكثر تواضعاً وأقل اعتماداً على الموارد الخارجية، أو لو أنه على العكس اختار طريقاً أشد تقشفاً فلم يسمح بزيادة معدل الاستهلاك الفردي والحكومي واعتمد على المدخرات المحلية في تمويل متطلبات الخطة. كان الطريق الثالث الذي اختاره عبد الناصر هو التمسك بمعدل طموح للتنمية مع السماح في نفس الوقت ببعض الزيادة في مستويات الاستهلاك، وهو ما أسماه في ذلك الوقت "بالمعادلة الصعبة"، من حيث أنه لم يكن في الوقع يريد التضحية بشيء: لا بمستوى الاستثمار ولا بمستويات الاستهلاك، لا بالجيل الحاضر ولا بالمستقبل. كان حل المعادلة يكمن فيما توفر لعبد الناصر من موارد خارجية، وهو حل كان لا يخلو بالطبع من مخاطرة، ولكنها مخاطرة بدت وقت اتخاذ القرار مبررة بسبب توفر الظروف الدولية المواتية. إن من السهل علينا الآن أن نقول أنه كان على عبد الناصر أن يكون في نهاية الخمسينيات أقل مغامرة وأقل واقعية، ولكن الواقع هو أننا، على الرغم من كل ما تعرضت له مصر من مصاعب بعد منتصف الستينيات، ما زلنا حتى اليوم نجني بعض ثمرات مغامرة عبد الناصر وجسارته، وأن ما تعرض له الاقتصاد المصري من مصاعب منذ ذلك الوقت لم يكن بالضبط من آثار تلك المغامرة، بل كان من آثار توقفها، وأن هذا التوقف لم يكن في الأساس بسبب قطع المعونات الأمريكية، الذي كان باستطاعة مصر بسهولة التغلب على آثاره، وإنما كان في الأساس بسبب حرب 1967 التي فرضت على مصر فرضاً.


الفصل السادس: نكسة الاقتصاد المصري (1967-1970)

سبق أن ذكرنا أن من الأخطاء التي يمكن أن ترتكب، وترتكب بالفعل، في تقييم السياسية الاقتصادية المصرية منذ ثورة 1952، النظر إلى فترة حكم عبد الناصر، ابتداءً من قيام الثورة وحتى وفاته في 1970، وكأنها فترة متجانسة يمكن أن تتخذ كلها أساساً للحكم بنجاح أو فشل النظام الاشتراكي أو سيطرة القطاع العام والتدخل المركزي في الاقتصاد. ففضلاً عن أن سياسة التدخل الصارم من جانب الدولة في مختلف جوانب الاقتصاد المصري لم تبدأ في الواقع إلا في اعقاب حرب 56، فإن الظروف التي تعرضت لها التجربة الناصرية منذ منتصف الستينيات تجعل من الظلم الصارخ إصدار حكم على الاشتراكية والقطاع العام بناء على أداء الاقتصاد المصري في الستينيات بأكملها. لقد تضافرت على الاقتصاد المصري منذ 1965 مجموعة من العوامل الخارجية التي حتمت أداء اقتصادياً باهتاً، ويكاد أن يكون من غير المتصور أن يكون بمقدور أية سياسة اقتصادية مهما كانت براعتها وحكمتها، أن تنقذ الاقتصاد المصري من الانحدار ثم الركود طوال عشر السنوات التالية (65-1975). كان استخدام تعبير "النكسة" لوصف الهزيمة العسكرية في 1967 تعبيراً غير موفق بلا شكن كان المقصود به تخفيف وقع الصدمة على المصريين فلم ينجح في أداء هذه المهمة بل ربما زاد من الشعور بمرارتها. ولكن استخدام تعبير "النكسة" لوصف ما حدث للاقتصاد المصري لم يكن في الواقع بعيداً عن الحقيقة، فقد كان يحمل بالفعل إمكانيات الدخول فيما سمي وقتها بحق "بمرحلة الانطلاق" ثم اندثرت الآمال فجأة ودخل الاقتصاد المصري بدلاً من ذلك في مرحلة من الركود الطويل. على أن من الخطأ أيضاً الاعتقاد بأن انتكاسة الاقتصاد المصري منذ منتصف الستينيات كانت في الأساس بسبب توقف المعونات الأمريكية وتضاؤل المعونات الغربية بوجه عام. لم يكن هذا التوقف أو التضاؤل في المعونات الخارجية أمراً يستهان به بالطبع، ولكن هناك من الدلائل ما يشير على نحو شبه قاطع بأن التنمية الاقتصادية في مصر كان من الممكن أن تستمر بمعدل مرض، وإن لم يبلغ مثل معدلها في السنوات العشر السابقة على 1965، ودون تضحيات بالغة الشدة في مستوى الاستهلاك، لولا قيام حرب 1967. كان إجمالي ما حصلت عليه مصر من مساعدات غذائية من الولايات المتحدة خلال الفترة 58-1965 نحو 200 مليون جنيه مصري، فلما أوشك حلول موعد تجديد اتفاقية المعونات الغذائية أبلغ السفير الأمريكي في القاهرة الحكومة المصرية بأن حكومته "ليست على استعداد في الوقت الحاضر للدخول في أي نقاش حول تجديد الاتفاقية لأنها غير راضية عن سياسة الحكومة المصرية. واكتفت الولايات المتحدة بمد الاتفاقية لفترات تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر حتى توقف المساعدات الأمريكية تماماً في فبراير 1967. اقترن ذلك بانخفاض مذهل في المعونات التي كانت مصر تتلقاها من الدول الغربية والمؤسسات الدولية. إذ بينما بلغ المتوسط السنوي لهذه المعونات كلها (بما في ذلك المعونات الغذائية الأمريكية) 200 مليون دولار في 61-1966، انخفض هذا المتوسط إلى 16 مليوناً في 67-1969. كان المتوسط السنوي للمعونات الغربية خلال سنوات الخطة الأولى يمثل إذن نحو خمس إجمالي الاستثمارات المتحققة خلالها، ومن ثم فإنه في حالة الاستغناء عن هذه المعونات برمتها في السنوات الخمس التالية كان على مصر تخفيض معدل الاستثمار بهذا القدر، بفرض عدم زيادة مصادر المعونة الخارجية الأخرى والاحتفاظ بمستوى الاستهلاك والادخار على ما كانا عليه. ولكن من الممكن أيضاً أن نتصور أنه كان بإمكان النظام الناصري أن يعوض هذا النقص في الموارد الخارجية أو جزءاً منه على الأقل بزيادة الادخار المحلي عن طريق ضغط الاستهلاك العام والخاص، واتباع سياسات في الأجور والإنفاق العام أكثر تقشفاً، الأمر الذي كان من الممكن أن يستجيب له الناس في مواجهة التعنت الخارجي لو لجأ عبد الناصر إلى تحويل قضية وقف المعونات الخارجية إلى قضية وطنية كما فعل من قبل فيما يتعلق بتأميم قناة السويس. إن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن عبد الناصر كان يزمع بالفعل اتخاذ هذا المسلك منذ خطبته الشهيرة في بورسعيد في 23 ديسمبر 1964، عندما بدت أولى بوادر عزم الولايات المتحدة على وقف معوناتها، وحينما تحدى عبد الناصر محاولة الولايات المتحدة فرض إرادتها على مصر. على أنه أيضاً كانت قدرة عبد الناصر الحقيقية على النجاح في هذا المسلك فإنه من المؤكد أن العامل الذي حسم الأمر في اتجاه معاكس، وألغى نهائياً احتمال اتباع سياسة اقتصادية أكثر تقشفاً واشد إصراراً على تعبئة الموارد المحلية، هو قيام حرب 1967. كان هذا الحل مستحيلاً تصوره في اعقاب الهزيمة لأكثر من سبب، فأياً كان استعداد الجماهير لقبول سياسة تقشفية كنوع من التحدي للقوى الخارجية، فإنه كان من الصعب الارتكان إلى هذا في ظل مناخ عام من الإحباط واليأس ولدته الهزيمة، وفي ظل انخفاض شعبية نظام عبد الناصر بسبب أثارته الهزيمة من شعور بتقصير المؤسسة العسكرية، وشك في قدرة النظام على الصمود في مواجهة التحدي الأمريكي والإسرائيلي. كان من شبه المستحيل حينئذ على نظام عبد الناصر أن يضيف إلى العبء النفسي المتولد عن الهزيمة العسكرية أعباء اقتصادية جديدة للاستمرار في التنمية. أضف إلى ذلك ما ترتب على هزيمة 1967 من انخفاض شديد في موارد مصر الذاتية من العملات الأجنبية، الأمر الذي جعل الاستمرار في تحقيق معدل مرتفع للتنمية مع تحمل أعباء الإنفاق العسكري للاستعداد لحرب جديدة أمراً في حكم المستحيل، حتى مع افتراض استعداد الناس لقبول تخفيض كبير في مستوى الاستهلاك. فقد ترتب على الحرب فقد مصر لآبار البترول في سيناء، وتخريب معامل تكرير البترول في السويس، وإغلاق قناة السويس التي كانت تدر لمصر سنوياً 164 مليون دولار في المتوسط خلال السنوات السبع السابقة على إغلاقها في 1967، أي ما يزيد بنحو الثلث على المتوسط السنوي للمعونات الغذائية الأمريكية خلال نفس الفترة، فضلاً عن الإنفاق الذي فرضه تهجير نحو مليون شخص من سكان مدن قناة السويس، والانخفاض الكبير في إيرادات السياحة التي كانت بدورها تدر نحو 100 مليون دولار سنوياً في المتوسط خلال السنوات السبع السابقة على الحرب. كان أمام عبد الناصر إذن، في مواجهة كل ذا، اختيار واحد من البدائل الثلاثة الآتية: إما أن يضحي بالإنفاق العسكري وأن يقبل الهزيمة والصلح وقبول أي عرض للتسوية يعرض عليه في سبيل الاستمرار في التنمية، أو أن يضحي بكليهما: التنمية والحرب، في سبيل رفع معدلات الاستهلاك، أو أن يضحي بالاستمرار في التنمية وألا يسمح إلا بالحد الأدنى من الزيادة في الاستهلاك في سبيل الاستعداد لمعركة مقبلة. لم يكن هناك في الواقع بديل آخر، إذ لم يكن هناك من الموارد الخارجية من القروض والمعونات ما يسمح بالاستعداد للحرب والاستمرار في التنمية في نفس الوقت. فالدول والمؤسسات الغربية ما كانت لتعود إلى سابق عهدها في مد مصر بالقروض والمعونات ما لم تقبل مصر صلحاً غير مشرف مع إسرائيل، والتخلي عن سياسة حماية الصناعة المصرية وتقييد الواردات. ولم يبد من الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية الاستعداد لتقديم معونات كافية لتحقق الغرضين معاً وتعويض مصر عما فقدته من المعونات الغربية. فالمتوسط السنوي لمعونات الكتلة الشرقية التي حصلت عليها مصر بالفعل (تمييزاً لها عن إجمالي التعهدات) بلغ خلال الفترة 67-1972 نحو 140 مليون دولار، وهو ما لا يزيد كثيراً عن المتوسط السنوي لهذه المعونات خلال السنوات العشر 54-1964 (116 مليون دولار)، وهي زيادة لم تكن تكفي لتعويض النقص في المعونات الغربية حيث بلغ النقص في المتوسط الشهري لهذه المعونات، كما رأينا، نحو 184 مليون دولار. كان المصدر الأساسي للمعونات المقدمة إلى مصر في السنوات التالية لحرب 1967 هو البلاد العربية، إذ حصلت مصر بناء على اتفاقية الخرطوم الموقعة في 1968، من المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا على منح قدرها في المتوسط 286 مليون دولار في السنة، وهو مبلغ لا يمكن الاستهانة به إذ كان يساوي تقريباً المتوسط السنوي لمعونات الكتلتين الغربية والشرقية معاً في سنوات ما قبل 1968. ولكن معنى ذلك في الواقع أننا، إذا اعتبرنا أن المعونات العربية قد أتت لتعويض النقص في المعونات الخارجية فإنه كان لا يزال على مصر أن تواجه بعد 1967 كل الآثار الاقتصادية المترتبة على إغلاق قناة السويس، وفقدان بترول سيناء، ونقص إيرادات السياحة، ونفقات توطين المهجرين من منطقة القناة، فضلاً عن الإنفاق العسكري الجديد. أضف إلى ذلك ما كان على مصر دفعه لخدمة الديون التي حل موعد استحقاقها في السنوات التالية لحرب 67، إذ بلغت قيمة أقساط الديون المستحقة الدفع خلال الفترة (67-1972) نحو 240 مليون دولار في السنة في المتوسط، وهو ما كان يلتهم وحده الجزء الأكبر من كل ما تلقته مصر من مساعدات وقروض وتسهيلات خارجية خلال هذه الفترة. فكأن مصر في السنوات اللاحقة على حرب 1967 كان عليها، ليس فقط مواجهة ظروف اقتصادية وسياسية جديدة غاية في القسوة، بل وكان عليها ايضاً أن تتحمل جزءاً كبيراً من أعباء التنمية السريعة السابقة على 1967. إن هذا هو الأساس الذي نبني عليه قولنا إنه لم يكن هناك أمام عبد الناصر إلا البدائل الثلاثة المتقدمة، وقد اختار عبد الناصر البديل الثالث، وهو الاختيار الوحيد الذي كان يسمح له بالاستعداد لحرب جديدة، والدخول فيما سمي بحرب الاستنزاف، ولو على حساب التضحية بالتنمية والارتفاع بمستوى الاستهلاك. دخلت مصر إذن في أعقاب 1967 مرحلة من الركود الاقتصادي استمرت حتى منتصف السبعينيات، وشهدت مصر خلالها فترة من أحلك فترات تاريخها الإجمالي في 64/1965 إلى 11.8% في 69/1970، أي ما لا يكاد يزيد على معدل الادخار المحلي (11.3%)، وبقي الاستهلاك الفردي (أو العائلي) ثابتاً تقريباً كنسبة من الناتج المحلي (65%)، وذلك للسماح بزيادة الاستهلاك العام (أو الحكومي) من 19.7% إلى 24.1%، وعلى الأخص زيادة الإنفاق الحربي الذي ارتفعت نسبته إلى إجمالي الدخل القومي من 9% في 1965 إلى 14% في النصف الثاني من الستينيات. وقد ترتب على ذلك بالطبع انخفاض شديد في معدل التنمية من نحو 6% سنوياً في السنوات الخمس الاولى من الستينيات، إلى نحو 3% في السنوات الثماني التالية (65-1973)، أي ما لا يكاد يزيد عن معدل نمو السكان. فإذا أخذنا في الاعتبار ما أصاب المرافق العامة والبنية الأساسية من تدهور بسبب ضغط الإنفاق على التجديد والصيانة، تبينا أن مستوى المعيشة قد تعرض بلا شك للانخفاض في تلك الفترة. من أسوأ سمات هذه الفترة ايضاً توقف الاتجاه إلى تصحيح هيكل الاقتصاد المصري توقفاً تاماً. فبعد النجاح الكبير الذي أحرزته سنوات الخطة الأولى في إحداث تغير جذري في هيكل الجهاز الإنتاجي لصالح الصناعة والكهرباء، بقي نصيب الصناعة والكهرباء في الناتج القومي الإجمالي ثابتاً طوال الفترة 65-1972 بسبب الانخفاض الشديد في معدل الاستثمار. بل أصابت النكسة أيضاً نمط توزيع الدخل فتوقفت الحركة نحو تصحيح توزيع الدخل لصالح فئات الدخل الدنيا توقفاً شبه تام، بسبب تراخي معدلات التصنيع والتشغيل من ناحية، وبسبب القيود السياسية التي فرضتها الهزيمة على حركة عبد الناصر في هذا الاتجاه. من المؤشرات الدالة على ذلك عودة نصيب الأجور الزراعية في إجمالي الدخل الزراعي إلى الانخفاض من 32% إلى 25% فيما بين 1965 و1972، وانخفاض نسيب الأجور الصناعية في الدخل الصناعي من 33% إلى 31% خلال نفس الفترة، بعد زيادة كل منها زيادة ملموسة في السنوات الخمس الأولى من الستينيات. لم تمنع هذه التضحيات بالتنمية من تدهور ميزان المدفوعات. فقد كان النقص في إيرادات مصر من قناة السويس والسياحة، والانخفاض الشديد في معونات الدول والمؤسسات الغربية، والزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري وفي أقساط تسديد الديون، أكبر من أن تستطيع تعويضه الزيادة الطفيفة في معونات الكتلة الشرقية ومنح الدول العربية وتخفيض الاستثمار. فقد ارتفع المستوى السنوي لعجز ميزان العمليات الجارية بنسبة 86% (من 202 مليون دولار في 59-1966 إلى 375 مليون في 67-1972)، وزاد المدفوع تسديداً لأقساط الديون طويلة ومتوسطة الأجل من 56 مليون دولار إلى 250 مليوناً في السنة، ومن ثم كان على مصر أن تجد مصادر لتمويل عجز إجمالي في العملات الأجنبية قدره 625 مليون دولار في السنة. اعتمدت مصر في تغطية هذا العجز، على المنح المقدمة من بعض الدول العربية طبقاً لاتفاقية الخرطوم (286 مليون دولار) ثم قروض الكتلة السوفيتية (140 مليوناً)، وتمت تغطية الباقي بالسحب من احتياطي العملات الأجنبية (30 مليوناً) وبتسهيلات الموردين من الدول الغربية (133 مليوناً)، وبالاقتراض قصير الأجل من البنوك التجارية (37 مليوناً). لابد أن نلاحظ إذن أنه على الرغم من الصعوبات التي واجهت الاقتصاد المصري في أعقاب 1967، لم يكن من بين الحلول التي لجأ إليها عبد الناصر إغراق مصر بديون لا تستطيع الوفاء بها. فمع ضخامة الأعباء، والتضاؤل الشديد في الموارد الذاتية، كان سد العجز يتم في الأساس بالمنح التي لا تولد أية أعباء مالية، أو بالقروض من الكتلة الشرقية ذات الشروط بالغة اليسر. ولم يلجأ عبد الناصر إلى الاقتراض باهظ التكلفة (الاقتراض قصير الأجل وتسهيلات الموردين) إلا في حدود لا تتجاوز 27% من إجمالي العجز في العملات الأجنبية. كان الثمن الذي دفعه الاقتصاد المصري لذلك يتمثل في الانخفاض الشديد في معدل التنمية، ولكنه كان في اعتقادنا يمثل اختياراً حكيماً، إذ كان من شأن التورط في الديون في تلك الفترة أن يجبر مصر في وقت لاحق على التخلي عن أية محاولة لمتابعة مسيرة التنمية المستقلة التي بدأها عبد الناصر في نهاية الخمسينيات. كان من شأن هذا الاختيار أن كانت مصر وقت وفاة عبد الناصر لا تحمل إلا عبئاً هيناً نسبياً من الديون، فيقدر خالد إكرام إجمالي ديون مصر المدنية (بما في ذلك كل الديون طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل) في 31 ديسمبر 1971، أي بعد نحو سنة من وفاة عبد الناصر بما لا يزيد على 1300 مليون دولار، لا تزيد نسبتها إلى الناتج القومي الإجمالي على نحو الربع. وبلغت نسبة خدمة الديون كلها، مدنية وعسكرية، وبمختلف أنواعها، طوال السنوات 67-1972 نحو 33% من إجمالي الصادرات من السلع والخدمات. إن من المفيد تذكر هذه الأرقام حينما نأتي لوصف حالة المديونية الخارجية لمصر في نهاية الثمانينيات، إذ إن ما كان يبدو عبئاً باهظاً في 1970 يبدو الآن عبئاً يسيراً للغاية إذا ما قورن بحجم المديونية وعبء خدمة الديون بعد وفاة عبد الناصر بعشرين عاماً. كما أن من المفيد أن نتذكر الفارق البين بين هيكل المديونية في نهاية حكم عبد الناصر وهيكله في 1990. ففي نهاية 1971 كان إجمالي الديون المستحقة موزعاً بالتساوي بين الكتلتين الشرقية والغربية، فبينما كانت الديون المستحقة للاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية والصين تشكل نحو 43% من إجمالي ديون مصر المدنية، كانت الديون المستحقة للدول والمؤسسات الغربية والبنك الدولي تشكل 46%، والباقي كان ديناً للكويت. وسوف نرى كيف زال هذا التوازن بالتدريج خلال السبعينيات والثمانينيات حتى أصبحت الديون المستحقة للدول والمؤسسات الغربية (مضافاً إليها اليابان) تشكل النسبة العظمى من إجمالي مديونية مصر.


الفصل السابع: ديون السادات في السنوات العجاف (1970-1975)

من المعروف أنه خلال الأعوام الأحد عشر التي تولى فيها أنور السادات حكم مصر (70-1981) زادت ديون مصر الخارجية زيادة مذهلة. وإنما يثور الخلاف حول الاسباب التي أدت إليها وحول قوة الأعذار التي يمكن أن تقدم لتبريرها. إن من الصعب الوصول إلى مقارنة دقيقة بين حجم الديون في بداية حكم السادات وبينها في نهايتها، بالنظر على تناثر المعلومات في مصادر مختلفة، وتنوع أنواع الديون التي يشير كل من هذه المصادر إلى بعضها دون البعض الآخر، فضلاً عن عدم توفر أرقام دقيقة عن بعض أنواع الديون، خاصة الديون العسكرية. وسوف نحاول هنا أن نقدم للقارئ الأرقام على نحو يسمح بالمقارنة الصحيحة، دون إرهاقه بتفاصيل قد تمنعه من إدراك الأبعاد السياسية لتطور المديونية، ثم نحاول البحث عن الأسباب الحقيقية لزيادتها. ولنبدأ بأهم أنواع الديون، وهو الدين الخارجي المدني العام، طويل ومتوسط الأجل، ويشمل المبالغ التي اقترضتها الحكومة أو المؤسسات العامة، أو المضمونة من جانب الحكومة ، لغير الأغراض العسكرية. والأرقام التي سنذكرها هنا تشمل المبالغ التي تسلمتها الحكومة (والمؤسسات العامة) بالفعل، تمييزاً لها عن المبالغ المتعاقد عليها دون أن يكون قد تم سحبها في الفترة محل البحث. هذا النوع من الديون زاد من 1.7 بليون دولار في سنة وفاة عبد الناصر (1970) إلى 14.3 بليوناً في سنة مقتل السادات (1981)، أي أنه تضاعف خلال حكم السادات أكثر من ثماني مرات. ولكن هذا النوع من الديون، وإن كان أهمها، لا يشمل كافة ديون مصر الخارجية. فهناك الديون الحكومية المدنية قصيرة الأجل، الديون العسكرية، ثم ديون القطاع الخاص، وكلها تفرض أعباء على حصيلة البلاد من العملات الأجنبية. ولا تتوفر لدينا إلا أرقام تقريبية عن هذه الأنواع الثلاثة، ولكن بمقدورنا تقديرها بما لا يزيد على ثلاثة بلايين في 1970 وبنحو 15 بليوناً في 1981. معنى ذلك أن إجمالي مديونية مصر الخارجية، بمختلف أنواعها، المدني والعسكري، العام والخاص، وذات الأجل الطويل والمتوسط والقصير، زاد من نحو 5 بلايين دولار في 1970 إلى نحو 30 بلويناً في 1981، أي أنها تضاعفت خلال حكم السادات نحو ست مرات. فكيف يمكننا تفسير ذلك؟ إن التفسيرات المطروحة تتراوح بين رد هذا النمو المذهل في المديونية إلى أخطاء السياسة الاقتصادية خلال السبعينيات، وعلى الأخص تلك المقترنة بسياسة الانفتاح الاقتصادي، وردها إلى ظروف الاقتصاد الدولي التي لم يكن لمصر حيلة معها، أو إلقاء المسئولية على تركة الستينيات وما ورثه أنور السادات من أخطاء السياسة الناصرية. ولكي نستطيع أن نحدد أقرب هذه التفسيرات إلى الصواب، ونصيب كل منها من الصحة، يتعين أن نسير خطة خطوة متتبعين تطور المديونية خلال السبعينيات، حيث إن الظروف التي واجهتها مصر خلال هذه الحقبة لم تكن ظروفاً متجانسة، وتقلبت خلالها موارد مصر من العملات الأجنبية، والظروف الإقليمية والدولية تقلباً شديداً، بحيث إن ما يصلح في تفسير نمو المديونية خلال النصف الأول من السبعينيات قد لا يصلح في تفسير ما حدث بعدها. على أننا قبل أن نبدأ هذه المهمة نريد أن نلاحظ بصفة عامة أن زيادة المديونية الخارجية لأية دولة لابد أن يكون مصدرها المباشر أحد أمرين: إما زيادة العجز في ميزان المعاملات الجارية، الذي يعود بدوره إلى تراخي نمو الصادرات بالنسبة لنمو الواردات، أو إلى انخفاض تدفق رؤوس الاموال إلى الدولة المعنية في صورة استثمارات أجنبية خاصة أو في صورة منح وهبات لا ترد، أو بالطبع إلى مزيد من الأمرين معاً، أي زيادة العجز في ميزان المعاملات التجارية مع انخفاض في تدفق الاستثمارات الخاصة والمنح، بحيث لا يبقى أمام الدولة من سبيل إلى سد العجز إلا الاقتراض من الخارج. فإذا ركزنا النظر على السنوات الخمس الأولى من حكم السادات (70-1975) نجد أن البذور الأولى للزيادة السريعة في المديونية قد بذرت بالفعل خلال هذه الفترة، إذ زادت الديون الخارجية المدنية العامة (بما في ذلك الديون قصيرة الأجل) من 1.8 بليون دولار إلى 6.3 بليون، أي بنحو 350%. وبينما كان معدل النمو السنوي في الديون الخارجية المدنية طويلة ومتوسطة الأجل 9% طوال الستينيات، قفز هذا المعدل إلى 23% في السنوات الخمس الأولى من السبعينيات. أما الديون الخارجية قصيرة الاجل، فبينما كانت تنمو بمعدل سنوي قدره 25% في الستينيات قفز هذا المعدل إلى 55% فيما بين 70 ونهاية 1975. لا يمكننا تفسير التزايد في المديونية خلال هذه الفترة بالنقص في تدفق الاستثمارات الأجنبية أو في المنح والهبات الخارجية. فالفترة السابقة على حكم السادات لم تشهد استثمارات أجنبية ذات شأن، والمنح التي كانت تحصل عليها مصر قبل حكم السادات كانت تتكون أساساً من المعونات العربية، وهذه لم تستمر فقط خلال سنوات السادات الاولى، بل زادت بشدة عما كانت عليه في عهد عبد الناصر. فبينما بلغ المتوسط السنوي للهبات التي تلقتها مصر خلال الفترة 67-1972 (وكلها من دول النفط العربية) 261 مليون دولار، قفز هذا الرقم إلى 731 مليون في 1973 و1.3 بليون في 1974، و1.1 بليون في 1995. لم تلجأ مصر إذن إلى الاقتراض الخارجي في هذه الفترة لتعويض النقص في المعونات العربية، فهذه المعونات زادت ولم تنقص، بل إن الهبات والتحويلات العربية غطت في هذه الفترة ما يقرب من نصف إجمالي العجز في موارد مصر من العملات الأجنبية. يتعين إذن البحث عن تفسير لزيادة المديونية فيما طرأ على ميزان المعاملات الجارية، أي في أداء الصادرات والواردات. وهنا بالفعل نجد بداية الإجابة. لقد زادت الصادرات حقاً (من السلع والخدمات) خلال السنوات الخمس الاولى من حكم السادات بنحو 240%، ولكن الواردات من السلع والخدمات زادت بدورها بنسبة أكبر بكثير (350%). قارن ذلك بأداء الصادرات والواردات في السنوات الخمس السابقة (64/65- 69/1970) حيث انخفضت قيمة الصادرات من السلع والخدمات بنسبة 7%، للأسباب التي سبق لنا ذكرها، ويرتبط معظمها بآثار حرب 1967، لكن انخفضت الواردات بنسبة أكبر (15%) نتيجة لسياسة الانكماش وضغط الاستثمارات التي اتبعها عبد الناصر. من الممكن إذن أن نقدم الإجابة الأولية التالية: إن زيادة تورط مصر في الديون خلال السنوات الخمس الأولى من حكم السادات ترجع إلى الفشل في ضبط الواردات. ولكن هذا بدوره يثير التساؤل عما إذا كانت هذه الزيادة السريعة في الواردات تعود إلى خطأ في الإدارة الاقتصادية أم إلى ظروف خارجية لا سلطان لمصر عليها. والواقع أن المسئولية تقع على العاملين معاً، ولكن الأرقام المتوفرة لا تدفع مجالاً للشك في أن جزءاً كبيراً من المسئولية يقع على أخطاء الإدارة الاقتصادية. فمن ناحية، عانت مصر خلال هذه الفترة من تدهور حاد في معدل التبادل الدولي بين أهم صادراتها (القطن) وبين أهم وارداتها (القمح)، أي من الانخفاض الشديد في أسعار صادراتها بالنسبة لأسعار ما تستورده، فبينما تضاعف سعر الطن من القمح خلال السنوات الخمس بنحو أربع مرات ونصف (من 25 جنيهاً للطن إلى 112 جنيهاً)، لم يزد سعر الطن من القطن إلا بنحو الضعفين (من 530 جنيهاً إلى 1068 جنيه). وترتب على ذلك أن الطن الواحد من القطن الذي كانت تصدره مصر جلب لها من القمح في 1975 أقل من نصف ما كان يجلبه لها في 1970. ولكن من المهم أن نلاحظ أنه حتى فيما يتعلق بهذا العبء الناتج عن ارتفاع أسعار الواردات، لا يمكن أن نلقي المسئولية بأكملها على الظروف الخارجية، فالاضطرار إلى الاستيراد بأسعار مرتفعة لا يثير فقط مسئولية العوامل الخارجية التي أدت إلى ارتفاع الأسعار الدولية، وإنما يثير أيضاً المسئولية ذاتها عن العجز عن زيادة الإنتاج الوطني بمعدل كان من شأنه أن يغني بدرجة أو بأخرى عن الاستيراد. وهنا نصادف بالفعل أول مظهر من مظاهر مسئولية السياسية الداخلية عن التورط في الديون. فقد عجز الإنتاج المصري من الحبوب خلال السنوات الخمس الأولى من السبعينيات عجزاً مذهلاً عن مواكبة الزيادة في استهلاكها. إذ بينما ارتفع استهلاك الفرد من الحبوب الغذائية من 258 كيلو جرام في السنة في 70/1971 إلى 286 كيلو جرام في 74/1975 (أي بنسبة 9%) انخفض الإنتاج للفرد الواحد من 196 إلى 187 كيلو جرام أي خلال نفس الفترة (أي بنسبة 5%)، ومن ثم ارتفعت نسبة العجز الذي يتعين تغطيته بالاستيراد من 24% من إجمالي استهلاك الحبوب الغذائية في 70/1971 إلى 35% في 74/1975. ليس من الإنصاف مع ذلك، أن نرد هذا الفشل في زيادة إنتاج الحبوب خلال النصف الأول من السبعينيات، إلى أخطاء ارتكبتها السبعينيات نفسها. فزيادة الإنتاج الزراعي في فترة ما تحتاج إلى القيام بالاستثمارات وإدخال بعض الإصلاحات على السياسة الزراعية في فترة سابقة. والأقرب إلى الصحة أن هذا الفشل في تحقيق زيادة كافية في إنتاج الحبوب والإنتاج الزراعي بوجه عام في تلك الفترة بالذات (70-1975) إنما يعود في الاساس إلى اضطرار مصر لضغط استثماراتها في النصف الثاني من الستينيات وعلى الأخص في أعقاب حرب 1967. إنما تكمن مسئولية السبعينيات الأساسية عن التورط في الديون خلال الفترة (70-1975) في أمرين: الأول: إطلاق حرية الاستيراد في كثير من السلع الضرورية وغير الضرورية، وعلى الأخص في أعقاب حرب 1973، على نحو لم تكن تسمح به ضآلة موارد مصر من العملات الأجنبية والمعدل المنخفض نسبياً للزيادة في الصادرات. والثاني: الالتجاء المفرط إلى تمويل جزء كبير من العجز في ميزان المعاملات الجارية بالاقتراض قصير الأجل وباهظ التكلفة. أما عن إطلاق حرية الاستيراد فيجري الدفاع عنه عادة بالقول بأن القطاع الإنتاجي في مصر كان يعاني منذ فترة طويلة، ترجع إلى منتصف الستينيات، من ندرة السلع الرأسمالية والوسيطة، ومن التضاؤل الشديد في حجم المخزون من السلع الوسيطة وبعض السلع الاستراتيجية والغذائية، الأمر الذي كان لابد من تلافيه بإطلاق حرية الاستيراد إذا أريد لعجلة الإنتاج أن تعود إلى الدوران. كما يجري الدفاع عنه أحياناً بالقول بأن حالة المرافق العامة كانت قد بلغت درجة من التدهور خلال الستينيات لم يكن هناك مفر من التصدي لها بزيادة الإنفاق على تجديدها، الأمر الذي كان لابد أن ينعكس بدوره في زيادة الواردات وزيادة العبء على ميزان المدفوعات. ونحن من جانبنا نرى أن كلا القولين يسمان جزءاً فقط من الحقيقة ولا يمكن أن يفسرا وحدهما ما حدث من تدهور في ميزان المدفوعات، ومن ثم لا يصلحان لإعفاء الإدارة الاقتصادية في تلك الفترة من المسئولية عن الزيادة في حجم المديونية الخارجية. ففيما يتعلق بالحاجة إلى إطلاق حرية استيراد السلع الوسيط والرأسمالية، نلاحظ أن الواردات من هذه السلع قد زادت بالفعل بسرعة كبيرة في أعقاب حرب 1973، إذ تضاعفت الواردات من السلع الرأسمالية نحو ثلاث مرات (من 89 مليون جنيه في 1973 إلى 260 مليوناً في 1975)، وتضاعفت الواردات من السلع الوسيطة نحو خمس مرات (من 132 مليون جنيه في 1973 إلى 619 مليوناً في 1975). ولكننا نريد هنا أن نورد ثلاثة تحفظات أساسية: أولها: أن ما حدث خلال هذه الفترة من تلبية لحاجة المنتجين المشروعة إلى مزيد من الواردات الرأسمالية والوسيطة، يجب ألا يتخذ وسيلة لصرف النظر عما حدث خلال هذه الفترة أيضاً من إطلاق حرية الاستيراد لإشباع حاجات استهلاكية بحتة لم تكن ظروف الاقتصاد المصري وقتها تسمح بها. فخلال السنتين التاليتين لحرب 1973، زادت مثلاً قيمة الواردات من السيارات بأكثر من أربعة أضعاف وزادت الواردات من السلع الاستهلاكية غير المعمرة بأكثر من أربعة أضعاف وزادت الواردات من السلع الاستهلاكية غير المعمرة بأكثر من خمسة أضعاف (من 40 مليون جنيه في 1973 إلى 220 مليوناً في 1975)، ومن ثم أصبحت قيمتها في 1975 لا تقل كثيراً عن قيمة مجموع الواردات من السلع الرأسمالية. والتحفظ الثاني: هو أن عبارة "السلع الرأسمالية والوساطة" تخفي في طياتها كثيراً من السلع التي لا تساهم مساهمة تذكر في زيادة القدرة الإنتاجية للدولة وأنها قد تضم من السلع ما هو أقرب إلى الاستهلاك منه إلى الاستثمار. من أمثلة ذلك مواد البناء واللوريات وقطع غيار السيارات التي تخدم أنشطة استهلاكية لا إنتاجية. يؤيد هذا التحفظ ما نلاحظه من تدهور بعض أهم الصناعات في مصر خلال النصف الأول من السبعينيات، فبينما لم يزد معدل النمو السنوي في إنتاج المنسوجات عن 2% وفي غزل القطن عن 0.7%، انخفض الإنتاج في صناعات الأسمنت والورق والسكر والسجائر وحديد التسليح وإطارات السيارات والأتوبيسات.. الخ. التحفظ الثالث: هو أن من المشكوك فيه جداً أنه كان من الحكمة إطلاق حرية الاستيراد في تلك الفترة، حتى فيما يتعلق بالواردات من السلع الإنتاجية، إذا كان تمويل العجز يعتمد أساساً على المزيد من المديونية. فلزيادة المديونية ثمن لابد من دفعه إن آجلاً أو عاجلاً، والاعتماد على الديون لرفع معدل التنمية لابد أن يؤدي في وقت لاحق إلى التضحية بالتنمية من أجل خدمة الديون، ما لم تكن أسعار الفوائد على القروض أقل من معدل العائد على الاستثمارات التي توجه هذه القروض إليها، وهو ما لم يتحقق. أما الدفاع عن التورط في الديون بحجة إصلاح المرافق العامة، فهو دفاع مرفوض لأكثر من سبب، أولها ما ذكرناه حالاً من خطأ الاعتماد على القروض غير الميسرة لتمويل مشروعات لا تساهم مساهمة مباشرة في زيادة الإنتاج، أو تساهم فيها بمعدل يقل عن فوائد القروض. يضاف إلى ذلك ما نلاحظه من أن نصيب المرافق العامة في إجمالي الاستثمارات في الفترة 71-1975 لم يزد عن 4%، الأمر الذي يؤيده أن حالة المرافق العامة في منتصف السبعينيات لم تكن في الواقع أفضل بكثير مما كانت في بدايتها، وأن الجزء الأكبر مما أنفق على المرافق العامة في أعقاب حرب 1973 إنما وجه إلى إعادة تعمير مدن القناة التي فرضتها في الأساس اعتبارات سياسية أو مصالح اقتصادية ضيقة أكثر مما استوجبتها اعتبارات إعادة بناء الجهاز الإنتاجي، وهي على كل حال أقرب إلى الإنفاق الاستهلاكي منها إلى الاستثمار. ليس من الغريب إذن أن نجد أن زيادة الديون في تلك الفترة (70-1975) لم يصحبها ارتفاع ملحوظ في معدل النمو أو تحسن في هيكل الإنتاج. فمعدل النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي لم يزد عن 4.5%، ولم يزد معدل النمو في الزراعة عن 2.4% وفي الصناعة عن 4.3% وفي الإسكان عن 2%. وإنما كانت أكبر معدلات النمو (فيما عدا الكهرباء 14.9%) من نصيب النقل والمواصلات والتخزين (13.3%) وقطاع التجارة والمال (9.5%). ترتب على هذا أن بدأ اتجاه معاكس للاتجاه الذي ساد في الستينيات نحو تصحيح الهيكل الإنتاجي لصالح القطاعات السلعية. فمع بداية السبعينيات بدأ نصيب القطاعات السلعية في التضاؤل ونصيب الخدمات في التزايد، حتى أصبحت صورة الاقتصاد المصري في منتصف السبعينيات أسوأ مما كانت عليه في نهاية الخمسينيات من حيث التوزيع النسبي للناتج الإجمالي بين القطاعات السلعية وقطاعات الخدمات. أما الجريرة الثانية للسياسة الاقتصادية في النصف الأول من السبعينيات فتتمثل في زيادة الالتجاء إلى القروض قصيرة الأجل من البنوك التجارية ذات أسعار الفائدة التي تجاوزت في بعض الأحيان 15%. وقد زاد هذا الاعتماد على القروض قصيرة الأجل في أعقاب حرب 1973 حتى بلغت نسبة هذا النوع من القروض، بما في ذلك تسهيلات الموردين، في 1975، نحو 35% من إجمالي ديون مصر المدنية. وقد حمل هذا النوع من القروض ميزان المدفوعات أعباء ثقيلة لا تتمثل فقط في الفوائد الباهظة المستحقة عليها، ولكن أيضاً في المبالغ المستحقة للتأخر في سدادها. وقد كان من الممكن تجنب هذا وذاك لو لجأت الحكومة إلى كبح جماح الاستيراد، بما في ذلك حتى بعض السلع الوسيطة والرأسمالية، في مواجهة الارتفاع المفاجئ في أسعار الواردات الاستهلاكية الضرورية، كالقمح والدقيق. خلاصة تقديرنا إذن للسنوات الخمس الأولى من السبعينيات هي أن الاقتصاد المصري لم يجن كثيراً من الثمار خلالها في مقابل زيادة التورط في المديونية، سواء من حيث رفع معدل النمو، أو تغيير هيكل الاقتصاد، وتكاد تنحصر الثمار الاقتصادية لهذه الفترة في بداية إعادة تعمير مدن قناة السويس وإعادة فتح القناة وتطهيرها، واستكمال النقص في المخزون السلعي من بعض المواد الأولية والوسيطة. أما حرب 1973 فقد اعتمد في تمويلها في الأساس على الهبات والمنح العربية ومن ثم لا يجوز التعلل بها لتبرير زيادة المديونية. على أنه أياً كانت تحفظاتنا على السياسة الاقتصادية خلال السنوات الخمس الأولى من حكم السادات، فإن الأخطاء التي ارتكبت خلال النصف الثاني من حكمه كانت أخطر شأناً بكثير وأبهظ ثمناً، وهي التي تمثل في رأينا تركة السادات الحقيقية التي ورثها الاقتصاد المصري من بعده.

الفصل الثامن: ديون السادات في سنوات الرخاء (1975-1981)

في 1974 فوجئ السادات، أو هكذا قال، بالوضع الاقتصادي الخطير الذي تمثل في عجزه عن الوفاء بمبالغ من القروض قصيرة الأجل. واستخدم السادات حينئذ في وصف حالة الاقتصاد المصري أنه: "بلغ درجة الصفر". وتعلل بأعذار غريبة منها أن أحداً لم يخبره من قبل بخطورة الأمر، ومنها أن الأرقام التي عرضت عليه كان يظن أنها بالدولارات ثم تبين له فيما بعد أنها بالجنيهات الإسترلينية. رأينا من قبل، كيف أن الخديوي إسماعيل كان قد اكتشف بدوره قبل ذلك بمائة عام (1876) أن الخزينة المصرية خاوية وأنه عاجز عن الوفاء بديونه التي ورطه فيها الدائون الأوروبيون خلال الثلاثة عشر عاماً السابقة. كما ذكرنا أن تورط الخديوي إسماعيل في الديون لم يكن مصدره بالضبط ميله إلى البذخ والإنفاق وإنما توفر أموال سائلة في المصارف الأوروبية كانت تبحث عن فرص للاستثمار المجزي في الخارج، وأن بذخ إسماعيل وتوسعه في الإنفاق لم يكن السبب بمقدار ما كان نتيجة لما تعرض له من ضغوط وإغراءات من جانب السماسرة والمرابين زينت له مشروعات باهظة التكاليف وقليلة العائد. ولكننا نعرف أيضاً أنه في أعقاب 1973 توفرت للمصارف الأوروبية والأمريكية كميات طائلة من الأموال السائلة نتيجة لما سمي بإعادة تدوير عوائد النفط في أعقاب ارتفاع سعره، وكانت هذه المصارف تبحث بدورها عن مجالات لتوظيف هذه الأموال خارج بلادها. نحن نعرف أيضاً أن مجموع ديون مصر قصيرة الأجل في 1970 لم يكن قد تجاوز 148 مليون دولار فتضاعف نحو ثماني مرات في خمس سنوات ليصل إلى 1168 في 1975. فإذا تذكرنا أيضاً أنه بمجرد انتهاء حرب 1973 زينت للسادات مشروعات إعادة تعمير مدن القناة، وهي ما لم تكن تسمح بالتوسع فيه أحوال مصر الاقتصادية في ذلك الوقت، لضآلة مواردها من الصادرات، وأن اعتراضات بعض المسئولين الاقتصاديين على هذا التوسع في الإنفاق على مشروعات التعمير، خاصة إذا كان يضطر مصر إلى التورط بشدة في القروض التجارية قصيرة الأجل، هذه الاعتراضات التي قوبلت وقتها بالقول بأن الأمر يتعلق "بسياسات عليا" لا يسمح بمناقشتها، إذا تذكرنا كل هذا أصبح من الصعب ألا يثور بقوة احتمال أن يكون التورط في هذا النوع من الديون في عهد السادات قد جاء استجابة لنفس النوع من الضغوط والإغراءات التي تعرض لها الخديوي إسماعيل من قبل. شهدت تلك السنة (1975) والسنة التي تلتها، جولات متعاقبة للرئيس السادات ولرئيس الوزراء ووزراء المالية والاقتصاد المصريين في دول الخليج يرجون فيه زيادة حجم المعونات العربية المقدمة لمصر، مستخدمين كل ما يمكن استخدامه من حجج، من بطولة الجيش المصري في حرب أكتوبر، إلى ما قدمته مصر من تضحيات للقضية الفلسطينية، إلى ما تؤديه العمالة المصرية من خدمات لتنمية دول الخليج، ولكن دون طائل. فقد كان رد حكومات النفط على الدوام أن: "هذا الذي نقدمه هو أقصى ما نستطيعه، وأنه حتى لو كانت باستطاعتنا تقديم أكثر من ذلك فإنه ليس لدينا ما يضمن أن مصر سوف تحسن استخدام ما نقدمه لها من معونات". كانت هناك أيضاً تلميحات إلى ما يسود تصرفات الإدارة المصرية من فساد وتبديد، وهي أمور كانت حكومات النفط العربية آخر من يحق لها أن يشير إليها. كانت هناك أيضاً ردود تعلمتها حكومات النفط من رجال البنك الدولي والمؤسسات الدولية مثل القول بأن تقديم المساعدات لدعم ميزان المدفوعات يساعد على التبديد، وأن الأفضل هو تقديم مساعدات لتمويل مشروعات بعينها يتفق عليها، ولكن مصر للأسف لا تتوافر لديها كمية كافية من دراسات الجدوى، ومن المشروعات كاملة الإعداد تبرر زيادة حجم المساعدات. هكذا نجد أنه في ظل اشتداد الضائقة الاقتصادية بمصر في 1976، انخفضت المعونات التي قدمتها دول النفط العربية لمصر انخفاضاً ملحوظاً. فانخفض إجمالي المدفوعات الثنائية الميسرة التي دفعتها هذه الدول لمصر من 1873 مليون دولار في 1975 إلى 1028 مليوناً في 1976، أي بنسبة 45%، وانخفضت المدفوعات غير الميسرة لمصر من نفس الدول من 668 مليون دولار إلى 235 مليوناً أي بنحو الثلثين بين هذين العامين. ليس هناك، في رأيي، إلا تفسير واحد مقبول لهذا المواقف التي اتخذته حكومات النفط العربية في هاتين السنتين (75، 1976). لقد كان لدى هذه الحكومات بغير شك ما يكفي من الأموال لانتشال مصر من أزمتها. ففي الوقت الذي كانت تقترض فيه مصر من البنوك التجارية بأسعار فائدة تزيد على 15%، كانت دول النفط تستثمر فوائضها في البنوك الأمريكية والأوروبية والبنك الدولي بأسعار فائدة تقل عن نصف هذا القدر. وفي الوقت الذي كانت حكومات النفط وشركات الاستثمار فيها تتكلف فيه عن ارتفاع المخاطر السياسية للاستثمار في مصر، كانت استثمارات هذه الحكومات والشركات في الدول الغربية تتعرض لمخاطر حقيقية تتمثل في التدهور المستمر في قيمة الدولار وارتفاع معدلات التضخم. لم يكن الأمر إذن في الحقيقة إلا أن حكومات دول النفط لم تكن قد تلقت بعد إيماءة الموافقة من الولايات المتحدة وهيئات المعونات الدولية بزيادة حجم معوناتها لمصر، ولم يكن هذا ليتم إلا إذا أظهرت مصر استعداها نهائياً لقبول توصيات صندوق النقد الدولي، ولاتخاذ خطوة حاسمة في اتجاه عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل. كانت مصر، بنهاية 1967، قد ذهبت بالفعل شوطاً بعيداً نحو قبول كلا المطلبين، ولكن يبدو أن ما تم حتى ذلك الوقت لم يكن كافياً. كانت مصر قد أصدرت بالفعل قوانين تشجيع رأس المال الأجنبي على الاستثمار في مصر، وخفضت بشدة من القيود على الاستيراد، وسمحت للبنوك الأجنبية بفتح فروع لها في مصر، وأقامت مناطق اقتصادية حرة، وضيقت الفجوة بين قيمة الجنيه المصري الرسمية وقيمته السوقية.. إلخ. ومع ذلك كانت ما تزال هناك سياسة الحماية المفروضة لشركات القطاع العام، وما تقدمه الحكومة من دعم لهذه الشركات ولتخفيض أسعار السلع الاستهلاكية، وهو ما كانت الحكومة المصرية تبدي إحجاماً واضحاً عن التخلي عنه. كذلك فيما يتعلق بقضية إسرائيل. كانت مصر بنهاية 1967 قد قطعت أيضاً شوطاً بعيداً في الرضوخ للمطالب الإسرائيلية، ولم يكن ذلك بدوره كافياً. فمنذ حرب أكتوبر 1973، بل وحتى أثناءها، وقبل عبور القوات الإسرائيلية إلى غربي القناة، كانت الحكومة المصرية قد بدأت تعبر عن استعدادها للسلام، ثم عقدت اتفاقيتين لفك الاشتباك، ودخلت في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع الإسرائيليين. ولكن كانت الحكومة المصرية لا تزال تصر على رفض عقد صلح منفرد مع إسرائيل لا تشترك فيه سوريا والأردن، ويستبعد الفلسطينيين. كان هذا هو الوضع إذن في نهاية 1976، ولكن بعد أقل من سنة كانت الصورة قد اختلفت تماماً. ففي صباح أحد أيام نوفمبر 1977، كان المصريون فيه يحتفلون بعيد الأضحى، استيقظ الناس على خبر زيارة رئيس الجمهورية المصرية للقدس، ورأوا في نفس اليوم على شاشة التلفزيون رئيس جمهوريتهم وهو يستعرض حرس الشرف الإسرائيلي ويضع إكليل الزهر على قبر الجندي الإسرائيلي المجهول. كانت الحكومة السعودية في مطلع نفس العام قد أعلنت، بعد إحجام، عن قبولها أن تساهم بنسبة 40% في رأس المال "هيئة الخليج لتنمية مصر"، البالغ قدره 2 بليون دولار، وذلك في أعقاب إعلان مصر قبولها لمشروع صندوق النقد الدولي "لترشيد" السياسة الاقتصادية. في يونيو من نفس العام كان قد عقد في باريس أول اجتماع للمجموعة الاستشارية التي تضم جميع الدول والهيئات المهتمة بتقديم المعونة لمصر، واستمع الحاضرون لتقرير وزير التخطيط المصري عن السياسة الاقتصادية المزمع تطبيقها، وهو تقرير كان قد تم إعداده في القاهرة بمساعدة خبراء صندوق النقد الدولي، ومن ثم فقد تلقى التقرير على الفور مباركة دائني مصر المجتمعين في باريس. لا يعرف أحد على وجه الدقة ماذا حدث بين نهاية 1976 ونوفمبر 1977، ولكن من الصعب أن نتصور أن هذه الفترة لم تكن فترة عصيبة للحكومة المصرية. كانت هناك بالطبع أحداث يناير 1977 التي قام بها الناس يحتجون على زيادة أسعار بعض السلع الضرورية، والتي قد تكون قد ساهمت إلى حد ما في التخفيف من قسوة خبراء صندوق النقد الدولي أو على الأقل أقنعته بضرورة تأجيل بعض التنازلات، ولكن من الصعب تصور أنه لم تتخذ خلال تلك الفترة بعض أساليب الضغط التي لم تعرف أبعادها بعد، والتي كانت الظروف الاقتصادية والديون الخارجية المستحقة الدفع من أهم الوسائل المستخدمة فيها، وربما كان قبول رئيس الجمهورية لزيارة القدس واحداً من الشروط المفروضة عليه من أجل التدخل لإنقاذه. على أية حال فإنه قد يذكر ذلك العام (1977) على أنه العام الذي أجبرت فيه مصر على تقديم أكبر تنازل في المجال السياسي منذ زمن طويل، بينما قد يذكر عام 1987 على أنه العام الذي أجبرت فيه مصر على تقديم أكبر تنازل في الميدان الاقتصادي كما سنبين فيما بعد. سوف يذكر القارئ ما حدث في مصر قبل ذلك بمائة عام. ففيما بين 1876 و1879 توالت الضغوط على الخديوي إسماعيل ليقبل التدخل المباشر في إدارة الاقتصاد المصري من جانب الدول الأوروبية التي ينتمي إليها الدائنون. وكانت نقطة الضعف لدى الخديوي، كما كانت لدى السادات، هي عجزه عن الوفاء بمستحقات الديون التي تورط فيها دون موجب في السنوات القليلة السابقة. وقد أبدى الخديوي إسماعيل منذ 1876 استعداده لقبول أي إجراء للإصلاح قد تنصح به الحكومتان البريطانية والفرنسية، فقبل تكوين "صندوق الدين العام" وتكوين "لجنة التحقيق" للإشراف على مالية الدولة وحصر مواردها وأوجه إنفاقها، كما قبل السادات توصيات "المجموعة الاستشارية" المجتمع في باريس. ولكن السادات فيما يبدو كان على استعداد إلى أبعد مما ذهب إليه الخديوي إسماعيل. إذ بينما حاول الخديوي مقاومة إشراك ممثل لبريطانيا وآخر لفرنسا كوزيرين في مجلس الوزراء المصري فكلفه ذلك عرشه في 1879، قبل السادات القيام بزيارة القدس في 1977 فاستحق بذلك رضا الأمريكيين والدول الغربية وهيئات المعونات الغربية والدولية. بقدوم 1977 بدا وكأن عقداً كاملاً من المتاعب الاقتصادية المتراكمة قد أوشك على الانتهاء، وإذا بالاقتصاد المصري يبدأ فترة جديدة من الانتعاش الواضح استمرت حتى نهاية عصر السادات. ففي الخلال السنوات الأربع الأخيرة من عهد السادات (77-1981) بلغ معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي، بالأسعار الثابتة، ما بين 8%، 9% سنوياً، وهو معدل لم يستطع تحقيقه في نفس الفترة إلا عدد محدود للغاية من البلاد، ولم تحقق مصر مثله منذ الحرب العالمية الأولى على الأقل. في هذه السنوات الأربع أيضاً شهدت مصر زيادة لم تعرف لها مثيلاً منذ ذلك الوقت في موارد العملات الأجنبية، فضلاً عن اتجاه معدل التبادل الدولي لصالحها. فقد زادت إيرادات مصر من صادرات البترول، التي لم تتجاوز 162 مليون جنيه في 1977، إلى ما يقرب من عشرة أمثالها، فبلغت 1.5 بليون جنيه في 1981، بفضل الزيادة السريعة في كل من إنتاج وأسعار البترول، بينما زادت إيرادات مصر من الصادرات غير المنظورة من 998 مليون جنيه إلى 4 بليون جنيه في نفس الفترة، وهي زيادة ترجع في الأساس إلى الزيادة السريعة في تحويلات المصريين العاملين بالخارج. كذلك شهد معدل التبادل الدولي تحولاً لصالح مصر بنسبة 81% فيما بين 77 و1981، حيث فاق الارتفاع في أسعار النفط، بدرجة ملحوظة، الارتفاع في أسعار الواردات من السلع الاستهلاكية والرأسمالية. وهكذا تضاعفت إيرادات مصر الجارية من العملات الأجنبية نحو أربع مرات خلال أربع سنوات. كانت هذه الظروف المواتية هي بلا شك أنسب الظروف، ليس فقط لوضع حد لتزايد المديونية الخارجية بل ولإحداث تخفيض كبير فيها. ففي الفترة 77-1981 كانت قيمة الزيادة في إجمالي صادرات مصر من السلع والخدمات نحو خمسة بلايين من الجنيهات أو نحو سبعة بلايين من الدولارات، وهو مبلغ يساوي نحو 87% من إجمالي قيمة ديون مصر الخارجية المدنية طويلة ومتوسطة الأجل، في 1977. ولكن الذي حدث هو العكس بالضبط، فإذا مصر تلجأ في فترة رخاء لم تشهد مثلها طوال سبعين عاماً على الأقل، إلى مزيد من الاستدانة، وإذا بنا نجد الديون المدنية طويلة ومتوسطة الأجل التي كانت قد بلغت 4.8 بليون دولار في 1975، وزادت إلى 8.1 بليون دولار في 1977، تزيد بنسبة 76% في السنوات الأربع التالية فتصل إلى 14.2 بليون دولار في 1981. كيف يمكن تفسير ذلك، وأي عذر يمكن أن يقدم لتبريره؟ لقد رأينا حالا أنه لا يمكن تفسير ذلك بضآلة أو تراخي حصيلة الصادرات، فقد شهدت صادراتنا المنظورة وغير المنظورة في تلك الفترة، رواجاً لم يسبق له مثيل. إنما يكن السبب فيما أصاب الواردات من السلع والخدمات من زيادة غير معهودة أيضاً. فخلال السنوات الأربع 77-1981 زادت واردات مصر السلعية ن 1.8 بليون جنيه مصري إلى 6.1 بليون جنيه، أي بنحو اربعة أمثال. وترتب على ذلك أنه، على الرغم من الزيادة الكبيرة في حصيلة الصادرات، زاد العجز في ميزان المعاملات التجارية من 892 مليون جنيه إلى 1.9 بليون، أي بأكثر من الضعف. على أن هذه الإجابة لا تكفي بالطبع، إذ يهمنا أن نعرف معدلات الزيادة في مختلف أنواع الواردات. لقد شاع القول بأن هذه الزيادة في عجز ميزان المعاملات التجارية في تلك الفترة، ومن ثم زيادة الالتجاء إلى الاقتراض، إنما يرجع في الأساس إلى إطلاق حرية استيراد السلع الكمالية. وهذا القول، وإن كان يشير إلى جزء من الحقيقة، فإنه لا يشير إلى السبب الأساسي لزيادة العجز والمديونية. ذلك أننا إذا نظرنا إلى توزيع الواردات بين مختلف البنود، وجدنا أن ثلاثة ارباع الزيادة فيها، خلال هذه السنوات الأربع، يرجع إلى زيادة الواردات السلعية، وربعها يرجع إلى الزيادة في الواردات من الخدمات. أما زيادة الواردات السلعية، وقدرها 4.3 بليون جنيه، فيرجع 18% منها إلى الزيادة في واردات القمح والذرة والدقيق. و23% للزيادة في السلع الاستهلاكية المعمرة وغير المعمرة عدا القمح والذرة والدقيق، ويرجع الباقي، وقدره 59% إلى الزيادة في واردات السلع الوسيطة والرأسمالية. أما الزيادة في واردات الخدمات فيرجع نحو ثلثها إلى فوائد الديون، ويوصف الجزء الأكبر من الباقي في إحصاءات ميزان المدفوعات التي ينشرها البنك الأهلي بأنه: "نفقات أخرى"، فلا يعلم أين ذهب هذا الجزء إلا الله. نستخلص من ذلك أن زيادة العجز والمديونية خلال السنوات الأربع الأخيرة من عهد السادات، وإن كان من الممكن إلقاء جزء من المسئولية عنها على زيادة الاستهلاك فإن الجزء الأكبر يرجع إلى زيادة استيراد السلع الوسيطة والرأسمالية، وهو ما يعكس ارتفاع معدل الاستثمار إلى نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي. ولقد كان من الممكن أن يتخذ هذا عذراً للإدارة الاقتصادية في ذلك الوقت لو كانت أوجه الاستثمار التي وجهت إليها الأموال المقترضة من النوع الذي يولد عائداً يزيد على تكلفة الاقتراض. ولكن العكس تماماً كان هو الصحيح، فقد وجه الجزء الأكبر من الاستثمارات في تلك الفترة إلى فروع قليلة الإنتاجية وضعيفة العائد، كالمرافق العامة والخدمات التجارية والمالية، مما يجعل مصر تواجه السنوات التالية بعبء ثقيل من المديونية دون أن يكون في قدرتها توليد الدخل الكافي للقيام بهذا العبء. ففي خلال السنوات 77-81/1982، كانت القطاعات التي أحرزت أعلى معدلات النمو (فيما عدا قطاع البترول وقناة السويس) هي قطاعات التجارة والمال (12.5% سنوياً)، والبناء والتشييد (11.3%) والخدمات الحكومية (10.6%) والنقل والمواصلات والتخزين (8.3%) بينما لن تنم الصناعة والتعدين (بعد استبعاد البترول) بأكثر من 6%، وتراخى معدل نمو الزراعة (2.3%) عن معدل النمو في السكان. لم تقترن إذن تلك الزيادة المذهلة في المديونية، خلال عهد السادات، بأي تصحيح لهيكل الاقتصاد المصري، بل صاحبتها زيادة كبيرة في درجة الاختلال، سواء في هيكل الانتاج أو في هيكل العمالة. فانخفض نصيب الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 25% في بداية عهده إلى 17% في نهايته، بينما ارتفع نصيب الخدمات من 45% إلى 48% ونصيب البترول الخام من أقل من 1% إلى 18%. كذلك زاد الاختلال في هيكل العمالة لصالح قطاع الخدمات الذي يضم أكبر نسبة من البطالة المقنعة. إذ بينما ظل نصيب الصناعة التحويلية في إجمالي القوة العاملة ثابتاً تقريباً عند 12% طوال عهد السادات، كان الانخفاض في نصيب الزراعة في القوة العاملة مساوياً تقريباً للزيادة في نصيب الخدمات، حيث زاد هذا الأخير بنحو 50% (من 30% من إجمالي القوة العاملة إلى 45%). ولم يقترن توقيع اتفاقية السلام في 1979 بتخفيض الإنفاق العسكري، بل على العكس زاد هذا الإنفاق بشدة في أعقابها، وزاد الالتجاء في تمويله إلى القروض الخارجية أيضاً، التي ساهمت فيها الولايات المتحدة بأكبر نصيب، وبأسعار الفائدة التجارية التي كانت بالغة الارتفاع في ذلك الوقت. ويذكر تقرير لصندوق النقد الدولي صادر في 1984 أن الإنفاق العسكري زاد بنسبة تتجاوز 20% سنوياً في أعقاب 1979، وبلغت نسبة الزيادة فيه في عام مقتل السادات 32%. لا يسع المرء من جديد إلا أن يلاحظ شبهاً آخر بين تجربة الاقتصاد المصري في عهد السادات وبينها في عهد الخديوي إسماعيل. ففي الحالتين اقترنت الزيادة الكبيرة في المديونية بمعدل نمو بالغ الارتفاع في الدخل القومي، وبازدهار واضح في مصادر النقد الأجنبي، فلم يمنع الرخاء من التورط في مزيد من الديون في الوقت الذي كان يجب أن تستخدم الموارد الذاتية الجديدة في تسديد الديون السابقة. وفي الحالتين، وعلى الأخص في عصر السادات، استخدم جزء كبير من هذه القروض في تمويل مشروعات لا تضيف إضافة ملحوظة إلى الإنتاج، بما في ذلك شراء السلاح، الأمر الذي لابد أن يثير التساؤل مرة أخرى عن نوع النصائح (أو الضغوط) التي كان يتعرض لها الحاكم في الحالين، وعن المصالح الخارجية والداخلية التي كانت تجد مصلحها في تشجيع الاتجاه نحو الاستدانة، إما تسهيلاً لفرض الإرادة في المستقبل، أو تصريفاً لمنتجات لا تجد من يشتريها.


الفصل التاسع: ديون حسني مبارك (1981-1986)

مع تغير القيادة السياسية في 1981 ظهرت فرصة أخرى لإنهاء حالة الارتباك والفوضى في السياسة الاقتصادية وللمواجهة الجديدة لمشكلة الديون الخارجية. سبق أن ذكرنا أنه ليس من السهل رسم صورة دقيقة لتركة الديون التي ورثها أنور السادات لمصر في 1981 ولكننا نستطيع أ، نستخلص، من بين متاهات الأراقم المتشعبة والمتضاربة، الصورة التالية التي يمكن أن نعتبرها قريبة جداً من الحقيقة. كان إجمالي ديون مصر الخارجية، العامة المدنية، طويلة ومتوسطة الأجل، عند وفاة السادات 14.3 بليون دولار، وهي الديون المستحقة على الحكومة المصرية أو المضمونة من جانبها والمسحوبة بالفعل. وكانت الديون العامة المدنية قصيرة الأجل 6.8 بليون دولار، وديون القطاع الخاص نحو نصف بليون دولار. كانت الحكومة مدينة أيضاً بديون عسكرية تبلغ نحو خمسة بلايين دولار للولايات المتحدة وسائر دول العالم الغربي، ونحو ثلاثة بلايين للاتحاد السوفيتي وبقية الكتلة الشرقية. كان إجمالي ديون مصر إذن عند وفاة السادات المدنية والعسكرية، العامة والخاصة، طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل، نحو ثلاثين بليوناً من الدولارات. كان هذا المبلغ يمثل نحو 141% من الناتج المحلي الإجمالي في 1981 بالمقارنة بنسبة 43% عند بداية تولي السادات الحكم. وكان على مصر في 1981 أن تدفع لخدمة ديونها المدنية وحدها 2.9 بليون دولار (1.3 بليون كأقساط و1.6 بليون كفوائد) أو ما يمثل 28% من جملة إيراداتها من العملات الأجنبية، وهو ما يساوي تقريباً معدل خدمة الديون عند بداية عهد السادات، مع هذا الفارق الهام: وهو أن مصر في 1981 كانت تتدفق عليها من الإيرادات من العملات الأجنبية ما لم تكن تحلم به في 1970، إذ كان مجموع قيمة إيراداتها من صادرات السلع والخدمات في 1981 أكثر من عشرة أمثال ما كنت عليه في 1970. كان الشعور في أعقاب مقتل السادات، عاماً وملحاً بالحاجة إلى إعادة النظر في السياسة الاقتصادية برمتها، وإلى إدخال إصلاحات جوهرية عليها، ولكن كان من المقدر لأية محاولة للإصلاح أن تجري في ظروف خارجية غاية في الصعوبة. فقد اقترنت نهاية عصر السادات بظروف جديدة بدا فيها أن فترة الرخاء القائم على تدفق إيرادات البترول وتزايد تحويلات العاملين بالخارج وإيرادات قناة السويس والسياحة قد ولت. ففي السنوات الأربع التالية لمقتل السادات (81/82- 85/1986) انخفضت إيرادات البترول بنسبة 36%، وأصاب الركود مصادر الدخل الثلاثة الأخرى، التي تعتمد بدورها، بدرجات متفاوتة، على أسعار البترول، بينما ظل معدل تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة ثابتاً تقريباً عند زهاء بليون دولار سنوياً. في نفس الوقت لم يسمح استمرار الركود في أسواق التصدير الرئيسية بحدوث زيادة ملموسة في الصادرات المصرية من السلع التقليدية، ومن ثم لم تزد قيمة الصادرات من السلع الأولية (عدا البترول) بأكثر من 4% سنوياً، ولم تزد صادرات غزل القطن والمنسوجات التي تمثل أهم بند في صادرات مصر المصنعة، وإن كانت لا تشكل إلا نسبة ضئيلة للغاية من الصادرات الكلية، بأكثر من 8% سنوياً، ومن ثم انخفضت القيمة الكلية لصادرات السلع والخدمات في 85/1986 بنسبة 11% بالمقارنة بقيمتها في 81/1982. في نفس الوقت كان على مصر بالطبع أن تستمر في دفع فوائد متزايدة على ديونها السابقة، حيث ارتفعت قيمة الفوائد السنوية المستحقة الدفع من 1.4 بليون دولار في 81/1982 إلى 1.7 بليوناً في 85/1986. كان قد ولى أيضاً عهد الهبات والمنح القادمة من الدول العربية التي توقفت معونتها بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في 1979. ولم تكن الهبات والمنح تشكل نسبة كبيرة من معونات الدول الغربية، ولم تطرأ عليها زيادة تذكر خلال الثمانينيات اللهم إلا بتحويل المعونات العسكرية الأمريكية إلى هبات لا ترد ابتداء من 1985، دون أن ينطبق ذلك على القروض العسكرية المعقودة قبل 1985. كان من الواضح أن الاختيارات السهلة نسبياً، التي كانت متاحة في السنوات الخمس الأخيرة من عهد السادات، حينما كان تتدفق العملات الأجنبية على مصر بلا حساب، لم تعد متاحة في بداية عهد مبارك، وأن محاولة إجراء تخفيض كبير في المديونية، أو على الأقل عدم التورط في مزيد منها، كان يتطلب تخفيضاً كبيراً في الواردات، حتى من بعض السلع الأقل كمالية، وبما في ذلك الواردات من السلع الرأسمالية والوسيطة، مما يتطلب بدوره التضحية بارتفاع معدل النمو، فضلاً عن تخفيض حجم الإنفاق العسكري بما يخفف من عبء ميزان المدفوعات، مع إمكانية تعويض كل ذلك بإجراءات جادة لإعادة توزيع الدخل وترشيد توزيع الاستثمارات. كان هذا الحل، حتى مع ما يتسم به من بعض القسوة، يمثل في رأيي الحل الحكيم الوحيد، إذ كان البديل لذلك لا يعني إلا تأجيل المتاعب إلى فترة لاحقة، بل وزيادة الأعباء في المستقبل، متمثلة في خدمة ما يعقد من قروض جديدة. كان هذا أيضاً هو الحل الذي اتجهت إلى الأخذ به صفوة الاقتصاديين المصريين في المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس مبارك في فبراير 1982، عقب توليه الرئاسة بشهور قليلة، وكان هو الذي يتردد في مؤتمرات الاقتصاديين المصريين السنوية في أواخر عهد السادات وأوائل عهد مبارك. ولكن الذي حدث هو أن الإدارة الاقتصادية تبنت الاختيار الآخر الأكثر سهولة في المدى القصير، والمؤذن بمتاعب لا حد لها في المدى الطويل، والذي يعتبر في سماته الأساسية، استمراراً للسياسة الاقتصادية السابقة على 1981، وهو تبني معدل مرتفع للاستثمارات، خاصة في المرافق العامة، وعدم إخضاع الواردات أو الإنفاق العسكري لدرجة عالية من التقييد، مع الاستمرار في الاعتماد على القروض الخارجية في تمويل العجز بين الموارد والإنفاق. كان من الواضح منذ تدشين ما سمي بالخطة الخمسية الأولى (82/83-86-1987) أن ليس من بين أولياتها تخفيض الاعتماد على التمويل الخارجي. فعلى الرغم من تبني الخطة في مقدمتها شعار "الاعتماد على الذات"، استهدفت الخطة أيضاً زيادة المديونية الخارجية المدنية من 13 بليون جنيه في 81/1982، طبقاً لأرقامها، إلى 16.2 بليون في 86-1987، أي زيادة المديونية المدنية بنحو الربع في خمس سنوات، وذلك من أجل تمويل استثمارات مستهدفة تبلغ 25% من الناتج المحلي الإجمالي، وتحقق معدل نمو 8.1% سنوياً. لم يكن يتوقع بالطبع في مطلع 1982، أن تنخفض أسعار البترول، ويصيب الركود تحويلات المصريين العاملين بالخارج وإيرادات السياحة وقناة السويس على النحو الذي حدث منذ السنة الثانية للخطة، ولكن كان يكفي في اعتقادنا ما وصلت إليه حال المديونية في 1981، وما بدأت تلقيه من أعباء ثقيلة على ميزان المدفوعات، لأن يتبنى المخطط معدلاً للنمو أقل طموحاً، ومعدلات أقل للاستثمار، بما يتطلبه ذلك من تخفيض الواردات، بغية التخلص التدريجي من المديونية، وتعويض هذا الانخفاض في معدل النمو بالتركيز على ترشيد الاستثمار وإعادة توزيع الدخل. بل إن الذي حدث هو أن واضعي السياسة الاقتصادية لم يستجيبوا استجابة كافية للتغيرات التي بدأت تطرأ على موارد مصر من العملات الأجنبية مع توالي سنوات الخطة. فعلى الرغم مما تم بالفعل من تخفيض معدل الزيادة في الواردات السلعية تخفيضاً كبيراً عما كان عليه في عهد السادات، عجز هذا التخفيض عن ملاحقة الانخفاض في الصادرات، ومن ثم استمر العجز في ميزان المعاملات التجارية في الزيادة، فارتفع من 1.7 بليون دولار في 81/82 إلى 2.5 بليون في 85/86، الأمر الذي حتم، مع ضآلة الهبات والمنح وثبات حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة، الالتجاء إلى مزيد من الاستدانة، وإذا بالاقتصاد المصري في منتصف 1986، بعد أربع سنوات من بداية الخطة، ينوء بعبء من المديونية الخارجية أثقل بكثير مما تركه السادات، ومما تصوره واضعو الخطة في 1982. ففي 30 يونيو 1986، بلغت قيمة الديون الخارجية العامة المدنية، طويلة ومتوسطة الأجل، 24.3 بليون دولار، بزيادة قدرها عشرة بلايين (أو 70%) عما كانت في 30 يونيو 1918، كما ارتفعت ديون القطاع الخاص بنحو خمسة أمثال (من نحو نصف بليون دولار في 81 إلى 2.7 بليون في 1986). خلال هذه الفترة مالت الديون المدنية العامة قصيرة الأجل إلى الانخفاض (من 6.8 بليون دولار في 81 على نحو 6 بليون في 1986) وبقيت الديون العسكرية المستحقة للاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية ثابتة عند ثلاثة بلايين دولار، ولكن زادت الديون العسكرية للولايات المتحدة وبقية الدول الغربية من نحو خمسة بلايين دولار في 1981 إلى ما بين 8-9 بلايين دولار في 1986. طبقاً لهذه التقديرات يكون إجمالي ديون مصر الخارجية، المدنية والعسكرية، قد زاد من نحو 30 بليون دولار في منتصف 1981 إلى نحو 45 بليون دولار في منتصف 1986 أي بزيادة قدرها 50% في خمس سنوات أو ضعف النسبة التي استهدفتها الخطة، مع مراعاة أن هذا الرقم الأخير (45 بليون) لا يشمل تسهيلات الموردين التي قدرتها بعض المصادر بنحو ثمانية بلايين دولار في منتصف 1986. إن هناك الكثير من الأعذار التي يمكن أن تقدم، وتقدم بالفعل، لتبرير زيادة بهذا الحجم في المديونية خلال الثمانينيات. فمن الممكن أولاً المقارنة بين تطور المديونية في السنوات الخمس الأولى من الثمانينيات، وتطورها في السنوات الأخيرة من حكم السادات على نحو يظهر الثمانينيات في ثوب ناصع للغاية. إذ فلنقارن زيادة بنسبة 44% خلال السنوات الخمس (81-1986) في إجمالي المديونية الخارجية المدنية (من 21.2 بليون دولار إلى 30.3 بليون) بتضاعف ديون السادات المدنية أكثر من ثلاث مرات في ست السنوات الأخيرة من حكمه (من 6.3 بليون دولار في 1975 إلى 21.1 بليون في 1981). وهناك ثانياً اختلاف الظروف الخارجية اختلافاً شاسعاً، حيث تضاعفت ديون السادات بهذا القدر في سنوات بالغة الرخاء، بينما استدانت مصر في الثمانينيات في ظل انخفاض أسعار البترول، وركود المصادر الأساسية الأخرى للنقد الأجنبي. بل إن من الصحيح أيضاً أن جزءاً لا يستهان به من القروض التي سحبتها مصر خلال الثمانينيات كان قد تم التعاقد عليه بالفعل أيام السادات. وقد قدر وزير التخطيط هذا الجزء بنحو ثلثي الزيادة في ديون مصر الخارجية المدنية خلال الفترة (81-1986). يمكننا أيضاً أن نضيف أن الاعتذار الذي تعودنا سماعه لتبرير ديون السبعينيات، وهو حاجة المرافق العامة لمبالغ طائلة للنهوض بها مما تردت إليه، إنما يصلح لتبرير قروض الثمانينيات بدرجة أكبر بكثير مما يصلح لتبرير قروض السادات. فالتحسن الملحوظ في حالة المرافق العامة، وخاصة في قطاع النقل والمواصلات، وفي مياه الشرب والصرف الصحي، إنما يرجع في الاساس إلى قروض تم سحبها في الثمانينيات وليس قبل ذلك. كل هذا صحيح، وإنما يكمن اعتراضنا الأساسي على السياسة الاقتصادية لهذه الفترة في أمرين: الاعتراض الأول: هو أن التورط في الاقتراض لتمويل مشروعات المرافق العامة في ظل إهمال واضح للقطاعات السلعية التي يمكنها وحدها أن تولد القدرة على خدمة هذه القروض في المستقبل، كان يعكس استمراراً لنفس سياسة السبعينيات التي تقوم على تبني أسهل الحلول في المدى القصير مع تجاهل أثرها المدمر على الاقتصاد في المدى الطويل. كانت هذه السياسة تعكس توجهاً آخر أكثر عمقاً للسياسة الاقتصادية في الثمانينيات والسبعينيات معاً، ويتعلق بموقفها من دور كل من القطاع العام والقطاع الخاص. فقد قامت فلسفة الانفتاح الاقتصادي منذ تدشينها في 1974، وما زالت مستمرة دون انقطاع حتى اليوم، على تقليص مسئولية القطاع العام وتركيز توسعاته على مشروعات المرافق العامة، على افتراض أن يقوم القطاع الخاص بنصيب متزايد من استثمارات الزراعة والصناعة. هذه النظرة إلى توزيع مسئوليات التنمية ما كانت لتحدث بالضرورة ضرراً لمعدلات التنمية في المدى الطويل، لو كان القطاع الخاص قد قام فعلاً بالدور المنوط به في تنمية القطاعات السلعية. ولكن هذا لم يحدث خلال السبعينيات، وتفاقم الاختلال لصالح قطاعات الخدمات وعلى حساب الزراعة والصناعة، كما سبق أن رأينا، سواء من حيث نصيب هذه القطاعات في الناتج القومي أو في خلق فرص العمالة. وقد اعترفت وثيقة خطة التنمية (82/83- 86-1987) بهذا صراحة، وجعلت من بين أهدافها تصحيحه. ولكن نفس النمط من التنمية استمر خلال سنوات الخطة. ففي الوقت الذي أقبلت فيه الحكومة على الاقتراض لتمويل مشروعات المرافق العامة، تراخت جهود القطاع الخاص، المحلي والأجنبي، في الاستثمار في القطاعات السلعية، وأقبلت بدورها على الاستثمار في قطاعات التجارة والمال والإسكان، وفي مشروعات ضئيلة الأثر في زيادة القدرة على التصدير، وشديدة الاعتماد على الاستيراد. بل إن مقارنة توزيع الاستثمارات المنفذة بالفعل خلال السنوات الثلاث الأولى من سنوات الخطة (82/83- 86-1987)، بتوزيع الاستثمارات في السنوات الخمس السابقة عليها (77-81/1982) لا تظهر أي تقدم في هذا الصدد، إذ بلغ نصيب القطاعات السلعية في إجمالي الاستثمارات المنفذة 49% في ثلاث السنوات المذكورة. و49.3% في السنوات الخمس السابقة عليها، ترتب على ذلك بالطبع استمرار الاختلال في الجهاز الإنتاجي لصالح قطاعات الخدمات وهو ما يحمل مغزى هاماً فيما يتعلق بمشكلة المديونية الخارجية. إذ بينما انهمكت الحكومة في الاقتراض لتمويل مشروعات ليس من شأنها توليد عائد كاف من العملات الأجنبية يمكنها به خدمة قروضها، لم يعوض القطاع الخاص هذا العجز بتوليد دخل كاف من الصادرات، بل شكلت الاستثمارات الأجنبية الخاصة عبئاً متزايداً على ميزان المعاملات التجارية، بما تولده من طلب على الواردات، وما تحوله من أرباح للخارج، وأهم من ذلك ما تسرب من خلال فروع البنوك الأجنبية من مدخرات المصريين بالعملات الأجنبية. لقد وصفنا هذا التوجه العام نحو تركيز الحكومة على الاستثمارات في مشروعات المرافق العامة بالاعتماد على القروض الأجنبية، وصفناه بأنه كان أسهل الحلول في المدى القصير لأنه كان في الواقع يعفي الحكومة من الأعباء السياسية التي يفرضها الحل البديل وهو تعبئة أقصى قدر من الموارد الذاتية من القادرين على الدفع، ولأنه كان يعفيها كذلك من محاولة مقاومة الإغراء الذي يمارسه المقرضون لتمويل مشروعات بعينها، قد لا تحتل أولوية خاصة في نظر المخطط ولكنها تجلب للمقرض نفسه مغانم محققة. هذه المغانم لا تتمثل فقط، ولا أساساً، في خدمة القروض بل فيما تتيحه القروض للمقرض من تصريف منتجات يعجز عن تصريفها بعائد عجز. بل إن هذا التوجه كان يعفي الحكومة ايضاً من محاولة مقاومة الضغوط التي تمارسها الدول المقرضة نفسها في سبيل استمرار سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تترك مشروعات الاستثمار، خارج نطاق المرافق العامة، مفتوحة للاستثمار الخاص. إن القول بأن جزءاً لا يستهان به مما اقترضته مصر خلال السبعينيات والثمانينيات كان بضغط وإغراء المقرضين وتحقيقاً لمصلحتهم، لا هو من قبيل التخيل ولا هو يصف ظاهرة جديدة لم تعهدها مصر من قبل. فقد سبق أن رأينا كيف كان الجزء الأكبر من ديون إسماعيل، من هذا النوع، والمسئولون الرسميون أنفسهم يضطرون في بعض الأحيان للاعتراف به صراحة. ففي حديث لوزير التخطيط، الذي تسلم مسئولية التخطيط في مصر في بداية الثمانينيات، تحدث الوزير عما تعرضت له مصر في السبعينيات من "إغراء وتوجيه للاستدانة" من جانب الدول الصناعية بسبب "زيادة الفائض المالي لديها". ولا نرى من جانبنا سبباً للاعتقاد بأن نفس "الإغراء والتوجيه للاستدانة" اللذين مورسا في السبعينيات لم يمارسا أيضاً خلال النصف الأول من الثمانينيات. قد لا يكون الأمر قد اختلف بالفعل عما كان عليه في السبعينيات من حيث مدى توفر الأموال السائلة لدى الدول المقرضة، ولكن المصالح الأخرى التي يحققها الإقراض للمقرض استمرت قائمة بطبيعة الحال، خاصة مع استمرار الكساد الاقتصادي في الدول الصناعية، وهي المصالح المتمثلة في تصريف سلع وخدمات يصعب تصريفها بعائد مجز. من الأمثلة الصارخة لذلك ما يذكره تقرير صادر عن الجهاز المركزي للمحاسبات في مصر عن مشروع الصرف الصحي لمدينة الإسكندرية، ومشروع تطوير ميناء السويس اللذين مولا بقروض أمريكية، وذهب 59.5% من حصيلة القرض الأول و43.3% من حصيلة القرض الثاني مقابل أتعاب المكاتب الاستشارية الأجنبية التي قامت بإعداد الدراسات الخاصة بالمشروعين، وما يذكره نفس التقرير من أن نفقات شحن بعض السلع التي تشتريها مصر من الولايات المتحدة بحصيلة بعض القروض الأمريكية، وتشترط اتفاقية القرض شحنها على سفن أمريكية، تبلغ في بعض الأحيان أربعة أضعاف الأسعار السائدة للشحن، وأن وزارة الصناعة المصرية أخطرت الجهاز المركزي للمحاسبات بخطاب مؤرخ 12/2/1985، بأن أسعار بعض السلع الأمريكية التي تمولها قروض أمريكية تبلغ في بعض الأحيان ضعفي الأسعار المتاحة لمصر من دول أخرى. على أن أكبر مغنم يتحقق للمقرضين، هو بالطبع الذي يأتي من الإقراض العسكري، وهذا يقودنا إلى الوجه الثاني للاعتراض على توجه السياسة العامة في النصف الأول من الثمانينيات. إن ديون مصر العسكرية قد زادت، كما رأينا، بنحو 80% في خمس سنوات (من نحو خمسة ملايين في 1981 إل 8-9 بلايين في 1986). وقد بدأت الزيادة الكبيرة في الديون العسكرية في 1979، مع بداية الاقتراض لأغراض عسكرية من الولايات المتحدة في أعقاب اتفاقية "السلام" بقرض قدره 1.5 بليون دولار. ثم تزايد الاقتراض العسكري باطراد حتى بلغت ديوننا العسكرية للولايات المتحدة 4.5 بليون دولار في مطلع 1985، حينما أصبحت المعونات العسكرية الأمريكية منذ ذلك الوقت منحاً لا ترد. ولكن ما كان قد تم اقتراضه اقترن بشروط بالغة القسوة استمرت في إرهاق كاهل ميزان المدفوعات المصري. فقد بلغ سعر الفائدة الذي قدمت هذه القروض العسكرية بمقتضاه 12% في المتوسط، الأمر الذي كلف ميزان المدفوعات في 81/1982، كفوائد على الديون العسكرية وحدها، 173 مليون دولار، ارتفعت إلى 463 مليوناً في 84/1985 أو ما يمثل 13% من إجمالي خدمة الديون الخارجية في تلك السنة. اقترنت هذه القروض العسكرية أيضاً بعقوبات على التأخير في سدادها تتمثل في إضافة أربع نقاط مئوية إلى سعر الفائدة المتفق عليها (فيصبح سعر الفائدة 16% بدلاً من 12%) على كل مبلغ يتأخر سداده لمدة ستين يوماً أو أكثر. وقد بدأت مصر بالفعل في التأخر في سداد هذه الديون في 1984، ثم لم تستطع أن تدفع في السنة التالية أكثر من 38% من المستحق دفعه منها. ود قدر بنك التمويل الفيدرالي (الأمريكي) حجم المتأخرات من هذه الديون في يوليو 1986 بمبلغ 527 مليون دولار. لقد ذكرنا وجنين أساسيين للاعتراض على سياسة الاقتراض في الثمانينيات، يشترك في تحمل المسئولية عنهما المقرض والمقترض معاً. فكل من الإغراء والضغط يحتاج إلى طرفين، ذلك الذي يمارس الإغراء أو الضغط وذلك الذي يخضع لهما. إن من الممكن بالطبع القول بأنه لم يكن هناك مفر أمام الطرف الأضعف من الخضوع وقبول ما يفرض عليه من شروط، ولكن الحكم فيما إذا كان هذا من شأنه أن يعفي الطرف الأضعف من المسئولية يثير من القضايا الأساسية والأخلاقية ما يخرج عن نطاق بحثنا. يهمنا هنا أن نبين ما آل إليه هيك المديونية الخارجية لمصر في منتصف 1986، وما اتسم به من اختلال واضح لصالح الكتلة الغربية، بعد أن كان هذا الهيكل يتسم بدرجة عالية من التوازن بين الكتلتين في 1970. ففي آخر يونيو 1986 كان التوزيع النسبي لإجمالي قروض مصر العامة المدنية، الطويلة والمتوسطة والقصيرة الأجل (30 بليون دولار) على النحو التالي: 25% للولايات المتحدة، 33.3% لبقية الدول الغربية واليابان وأستراليا، 9.5% لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، 21% لدول ومؤسسات عربية، 3% للكتلة الشرقية. وهكذا اقترن التحول في السياسة الاقتصادية والخارجية لمصر منذ بداية السبعينيات، بارتفاع نصيب الدول والمؤسسات الغربية والمنظمات الدولية السائرة في ركابها من 46% من ديون مصر المدنية في نهاية 1971 إلى 68% في منتصف 1986، وارتفع نصيب البلاد العربية من نحو 11% إلى 21%، بينما انخفض نصيب الكتلة الشرقية من 43% إلى 3% خلال نفس الفترة.


الفصل العاشر: يوم الحساب (1986)

في 1986 تعرض الاقتصاد المصري لصدمة عنيفة أظهرت بجلاء جوانب الضعف في بنيان مصر الاقتصادي برمته، وألقت مزيداً من الضوء على أخطاء تراكمت خلال أكثر من عقد كامل، وكأن مصر قد طولبت فجأت بأن تسدد حساباً دأبت على تأجيل دفعه عاماً بعد عام. هذه الصدمة كانت بالطبع هي الانخفاض الحاد في أسعار البترول. كان العجز المزمن في ميزان المعاملات التجارية قد أخذ في التزايد بسرعة منذ بداية سنوات الخطة (82/1983)، ولكن مع الهبوط الشديد في أسعار البترول في أوائل 1986 أصبح من المؤكد أن هذا العجز خلال السنة الأخيرة من الخطة (86/1987) سوف يصل إلى أبعاد خطيرة من شأنها أن تفرض أعباء اقتصادية لم تواجهها مصر منذ عشرة أعوام على الاقل، أي منذ أن أعيد فتح قناة السويس وبدأ تدفق إيرادات البترول، وينتكس معها معدل النمو أياً كانت السياسة الاقتصادية التي يمكن أن تتبع. لقد أصبح من المؤكد أن إيرادات البترول سوف تنخفض بما لا يقل عن 50% خلال العام، وأن تحويلات المصريين العاملين بالخارج سوف تنخفض بدورها نتيجة الانخفاض الشديد في إيرادات دول البترول المضيفة، وأن الاتجاه الذي كان قد بدأ بالفعل لعودة أعداد لا يستهان بها من المصريين العاملين في هذه الدول سوف يزداد بقوة، الأمر الذي يخلق تهديداً جديداً لسوق العمالة في مصر التي كانت عاجزة، حتى قبل ذلك، عن توفير فرص العمالة بالمعدل المطلوب. أما المصدران الهامان الآخران للنقد الأجنبي، وهما قناة السويس والسياحة، فقد أصابهما الضعف بدورهما، الأول بسبب كساد سوق البترول نفسه، والثانية بسبب ما اقترنت به 1986 والسنة السابقة عليها من أحداث سياسية عنيفة أثرت على معدل تدفق السياحة في مصر. زاد الطين بلة أن سنة 85/1986 اقترنت أيضاً بحلول موعد سداد بعض الأقساط لديون سابقة، زادت بشدة من عبء خدمة الدين في تلك السنة عن السنوات السابقة عليها. فطبقاً لتقدير صندوق النقد الدولي، كان المستحق على مصر دفعه في تلك السنة لخدم الديون لا يقل عن 5.5 بليون دولار (2.9 بليون سداداً لأصل الدين و2.6 بليون فوائد)، وهو ما لا يقل كثيراً عن ضعفي خدمة الديون في 1981، ويمثل أكثر من 50% من كل إيرادات مصر من العملات الأجنبية من صادرات السلع والخدمات في تلك السنة، أي أنه يلتهم وحده كل إيرادات مصر من البترول وقناة السويس والسياحة معاً، بالإضافة إلى نحو ثلث تحويلات المصريين العاملين بالخارج. بينما كان ما على مصر دفعه في تلك السنة من الفوائد وحدها يفوق كل ما تلقته خلالها من الولايات المتحدة من قروض ومنح، مدنية وعسكرية. لم تكن مصر قادرة بالطبع على الوفاء بهذا المبلغ. كانت مصر قد توقفت بالفعل منذ عدة سنوات عن الوفاء ببعض التزاماتها لدائنيها. ففي أعقاب مؤتمر بغداد في مارس 1979، الذي شجب اتفاقية كامب دافيد، أصدرت الحكومة المصرية قراراً بالتوقف عن خدمة ديونها المستحقة للدول المشاركة في ذلك المؤتمر، وكان هذا القرار يتعلق بديون قيمتها نحو أربعة بلايين دولار، وترتب عليه أن توقفت مصر منذ ذلك الوقت عن خدمة ديونها للبلاد العربية بما في ذلك ديونها لما سمي بـ"هيئة الخليج لتنمية مصر" التي تكونت في 1976. كذلك توقفت مصر عن خدمة ديونها العسكرية للاتحاد السوفيتي في 1980 بعد إدانة السوفييت لاتفاقية كامب دافيد، ولم تكن تقوم بخدمة ديونها المستحقة لإيران. بالإضافة إلى ذلك بدأت مصر في التأخر في خدمة ديونها لعدد من الدول العربية حتى بلغ حجم المتأخرات في السداد أكثر من بليون دولار في 84/1985 ويقدر البعض أن هذه المتأخرات قد وصلت إلى 2 بليون في 85/1986. من الممكن النظر إلى حالة المديونية الخارجية لمصر كما بدت في 1986، وما آل إليه الوضع الاقتصادي بوجه عام في ذلك الوقت، من أكثر من زاوية، كلها صحيح. فمن الممكن القول، من ناحية، بأن التركة الثقيلة التي خلفها السادات للاقتصاد المصري في 1981، وتتمثل أساساً في أعباء ثقيلة من الديون في بنيان اقتصادي شديد الاختلال بدرجة يعجز معها عن خدمتها، لم يكن من الممكن التخفيف منها خلال السنوات الخمس الأولى من عهد الرئيس مبارك، بسبب تضافر مجموعة من العوامل الخارجية غير المواتية وانقضاء الرواج الذي اتسمت به سنوات السادات الأخيرة، وذلك حتى لو كانت الإدارة الاقتصادية قد أدخلت إصلاحات جذرية على السياسة الاقتصادية المتبعة، إذ أن هذه الإصلاحات، حتى ولو كانت قد طبقت بالفعل، ما كانت لتحدث أثرها بسرعة، ومن ثم ما كانت لتنقذ مصر مما آلت إليه في 1986. ومن الممكن القول، من ناحية أخرى، بان الوضع الذي آل إليه الاقتصاد المصري في 1986، كان في الأساس نتيجة لفشل وأخطاء السياسة الاقتصادية المطبقة منذ 1974، والتي استمرت ملامحها الرئيسية كما هي حتى 1986. إن من الممكن إطلاق وصف "الانفتاح الاقتصادي" للدلالة على الملامح الرئيسية لهذه السياسة، ولكن هذا وحده لا يكفي للدلالة على كل أوجه القصور التي اتسمت بها، والتي ترتبت عليها الأزمة الاقتصادية في منتصف الثمانينيات. إن من المؤكد في رأينا، أن سياسة الحرية الاقتصادية التي دشنت في 1974، بما عنته من إطلاق حرية الاستيراد، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية الخاصة دون تمييز كاف بينها حسب مدى مساهمتها في زيادة الصادرات، وأمام فروع البنوك الأجنبية دون رقابة كافية على ما تقوم به من تحويل مدخرات المصريين إلى الخارج، من المؤكد أن هذا وحده كان كفيلاً بزيادة عجز ميزان المدفوعات وزيادة المديونية الخارجية. ولكن الذي زاد الأمر سوءاً أن سياسة الانفتاح، كما طبقت بالفعل، كانت تتسم، بالإضافة إلى ذلك، بدرجة عالية من التخبط وعدم الاتساق حرمت الاقتصاد المصري حتى من بعض المزايا التي كان يمكن أن تترتب على إطلاق الحرية لقوى السوق وتشجيع الحافز الفردي. إن المعنى الذي نريد أن نؤكده هنا هو أنه، حتى إذا طرحنا الاعتبارات الاجتماعية والأيديولجية جانباً، وافترضنا أن سياسة الحرية الاقتصادية كانت هي السياسة الأفضل في ظروف مصر في السبعينيات والثمانينيات من حيث رفع معدل النمو وتصحيح الاختلال في البنيان الاقتصادي، وتجاهلنا أثرها على توزيع الدخل على افتراض أنه سوف يصحح تلقائياً مع استمرار معدل النمو في الارتفاع، حتى إذا افترضنا كل ذلك (مع أننا لا نميل إلى قبوله) فإن هذه السياسة ما كان من المحتمل أن تصادف النجاح المفترض إلا إذا كان قد توفر لها حد أدنى من الاتساق والانسجام بين عناصرها الأساسية. فليس هناك أسوأ، فيما يبدو لنا، من سياسة اقتصادية تحاول أن تحقق أهدافاً اقتصادية متعارضة في آن واحد، كالتي تحاول توزيعاً أفضل للدخل مع اجتذاب أكبر حجم ممكن من الاستثمارات الخاصة، أو التي تحاول أن تحمي القطاع العام في نفس الوقت الذي تحاول فيه تشجيع الاستثمارات الأجنبية، أو التي تحاول توفير الضرورات الغذائية بأسعار متدنية في نفس الوقت الذي تريد فيه تشجيع الصادرات الزراعية.. إلخ. والواقع أن نجاح تجربة التنمية في مصر في الفترة (56-1965)، التي حقق الاقتصاد المصري خلالها معدلاً عالياً للنمو وتغييراً ملحوظاً، في نفس الوقت، في الهيكل الاقتصادي، مع تحقيق مستوى معقول من الاكتفاء الذاتي في الغذاء ودون أن تتحمل البلاد عبئاً ثقيلاً من المديونية الخارجية، هذا النجاح يرجع إلى حد كبير إلى ما اتسمت به السياسة الاقتصادية في تلك الفترة من درجة عالية من الاتساق والانسجام بين مختلف أدوات السياسة الاقتصادية، حيث تدخلت الحكومة في أدق تفاصيل النشاط الاقتصادي، وطبق نظام التخطيط بدرجة من الجدية لم تعرف مصر مثلها قبل تلك الفترة أو بعدها، وخضعت الأسعار للسيطرة الإدارية، وخفض الاستثمار الأجنبي الخاص إلى الحد الأدنى، وكاد يقتصر الاستثمار الوطني بأكمله على القطاع العام. على العكس من ذلك اتسمت سياسة الانفتاح الاقتصادي منذ 1974 وحتى 1986، بدرجة عالية من التردد وعدم الاتساق في تطبيق مبدأ الحرية الاقتصادية، وكانت كما يقول التعبير الشعبي "كمن رقص على منتصف السلم"، أو كما سقط بين مقعدين، فلا هي طبقت سياسة الحرية الاقتصادية بحذافيرها، ولا هي تبنت سياسة التدخل الحكومي الصارم بمختلف متطلباتها، ومن ثم لم تحرز مزايا هذه ولا تلك، بل عانت من نقائص كليهما. مثال ذلك ميل عجز الموازنة العامة إلى التزايد عاماً بعد آخر، إذ في الوقت الذي استمرت فيه الدولة في سياسة دعم السلع الضرورية (بل وبعض السلع الكمالية أيضاً) وفي الالتزام بتعيين الخريجين، بما يخلقه كلاهما من عبء في جانب الإنفاق الحكومي، لم تلجأ الدولة إلى تعويض ذلك بزيادة الإيرادات الضريبية ومكافحة التهرب الضريبي. وقل مثل ذلك عن أثر تضارب أدوات السياسة الاقتصادية على توزيع الاستثمارات، إذ بينما استمرت سياسة التحديد الإداري لأسعار بعض المنتجات الزراعية والصناعية، على نفس النمط الذي كان سائداً قبل الانفتاح، الأمر الذي لم يكن من شأنه تشجيع الاستثمار الخاص على ولوج بعض أوجه الاستثمار في هذين القطاعين، تراخى معدل الاستثمار العام في كل منهما ولم تستخدم وسائل التدخل الإداري بكبح جماح الاستثمار الخاص في القطاعات قليلة الإنتاجية. يذكر الدكتور عبد الجليل مثالاً آخر هاماً لنفس الخطأ في مجال التعليم إذ يقول: "كيف نعلل قرار الحكومة بالتزامها بإيجاد عمل لكل من ليس له عمل، وهو المتبع في البلاد الاشتراكية، وفي نفس الوقت لا تتبع السياسة التي يستلزمها هذا (الالتزام بالتعيين) من حيث مراقبة توجيه من يدخل المدارس الثانوية العامة وعدد من يدخل المدارس الفنية، وبالتالي نحد من الالتحاق بالجامعات وكلياتها بحيث لا يتخرج إلا الأعداد المطلوبة من خريجي الجامعات، وهو النظام المتبع بدقة في البلاد الاشتراكية؟". نلاحظ ايضاً أثر هذا التضارب وعدم الاتساق على معدل الزيادة في الواردات بالمقارنة بالصادرات. فهنا أيضاً نجد أن الاعتماد على قوى السوق في تخفيض معدل النمو في الواردات وتشجيع الصادرات كتخفيض سعر الصرف، ك ن دائماً جزئياً وناقصاً، إذ ظلت الفجوة واسعة دائماً بين سعر الصرف الرسمي وسعره في السوق الحرة، ولم يقترن هذا بسياسات أخرى يتطلبها منطق الحرية الاقتصادية نفسه، كالتخفيف من القيود الإدارية على الصادرات وتبسيط إجراءات التصدير، في الوقت الذي أحجمت فيه الدولة عن التدخل الجدي في حرية الاستيراد، وإذا بالاستيراد لا يكبح جماحه لا قوى السوق الحرة ولا التدخل الحكومي المباشر، فيزداد ميزان المعاملات التجارية عجزاً وتزداد الحاجة إلى الاقتراض. ولكن هناك زاوية ثالثة يمكن النظر منها إلى ما آل إليه الاقتصاد المصري والمديونية الخارجية في 1986، حيث تظهر أزمة الاقتصاد كانعكاس لطبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية. ذلك أنه من الممكن النظر إلى أخطاء السياسة الاقتصادية منذ أوائل السبعينيات وما اتسمت به من تحول غير مبرر في توجهها العام، ومن مظاهر التضارب وعدم الاتساق بين عناصرها المختلفة، على أنها كانت في الأساس استجابة لضغوط خارجية لم يكن من السهل مقاومتها. لقد سبق أن أشرنا إلى أن التورط غير المبرر في الديون في النصف الأول من السبعينيات كان، جزئياً على الاقل، استجابة لتوفر السيولة في أيدي المصارف الغربية ومؤسسات التمويل التي كانت تبحث عن فرص الاستثمار المجزي خارج حدودها، وأن أزمة السيولة التي عانت منها مصر في منتصف السبعينيات كانت من الوسائل التي استخدمت لفرض تسوية مع إسرائيل ربما لم تكن مصر لتقبلها في ظروف اقتصادية مختلفة. كذلك فإن من الممكن النظر إلى الإمعان في التورط في الديون في السنوات الخمس الأخيرة من عهد السادات، رغم كل ما تدفق على مصر خلالها من نقد أجنبي، على أنه كان بدوره، ولو جزئياً أيضاً، استجابة لضغوط وإغراءات الدول والمؤسسات المقرضة التي كانت تحقق نفعاً محققاً من الاقتراض، يتمثل في تصريف سلع وخدمات يصعب تصريفها بغير ذلك، وكوسيلة أكيدة تمكن الدول المقرضة من فرض إرادتها السياسية في أيام مقبلة. من الممكن أيضاً أن ننظر إلى السنوات الخمس التي أعقبت مقتل السادات من نفس المنظور، حيث زاد توريط مصر في الديون المدنية والعسكرية تحقيقاً لنفس الأغراض. ليس المقصود بذلك أن نعفي أحداً من المسئولية، وأن نتعلل بمسئولية العوامل الخارجية لراحة ضمائرنا. فكا سبق أن قلنا: إن التورط في الديون يحتاج إلى طرفين لا يمكن أن يعفى أحد منهما من المسئولية عنه. وإنما المقصود أن نشير إلى أن تجنب الخطأ في اتخاذ القرارات الاقتصادية لا يتطلب فقط حداً أدنى من المعرفة والحكمة، وإنما يتطلب أيضاً حداً أدنى من حرية الإرادة وإصراراً على استخدام القدر المتاح منها. وقد كانت مصر دائماً، وبدرجة أكبر من دول كثيرة أخرى، معرضة لفقدان هذه الحرية. ولكن هذا لا ينفي أيضاً أن الرجال ليسوا سواء في مدى استعدادهم لتولي المسئولية في ظل ظروف لا يمارسون فيها حريتهم في التصرف، كما أنهم ليسوا سواء في حرصهم على استخدام القدر المتاح من هذه الحرية لأبعد مدى ممكن. يهمنا هنا أيضاً أن نلاحظ أوجه شبه أخرى بين تجربة مصر في المديونية الخارجية في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وما مرت به في السبعينيات من القرن التاسع عشر والعقود الثلاث الأخيرة التي تلت الاحتلال الإنجليزي لمصر. سبق أن رأينا كيف أن تورط مصر في الديون في عهد الخديوي إسماعيل اقترن بفترة من الرخاء سال لها لعاب المقرضين والمرابين الأوروبيين، وأنه ما إن وصلت الديون حداً لم تعد موارد مصر تسمح معه بخدمة ديونها، حتى انقض الدائنون عليها مطالبين بالسداد، وفرضوا على مصر السياسات التي تهيء لهم استرداد أموالهم وفوائدها، متسلحين بما وفرته لهم قوات الاحتلال الإنجليزي من سيطرة. وقد ترتب على ذلك أن أنفقت مصر العقود الثلاثة التالية للاحتلال في تنمية مواردها الزراعية لتستخدم الفائض الناجم عنها في خدمة ديونها. ولكننا نلاحظ أيضاً أنه في فترة ما بين الحربين العالميتين، التي فرضت خلالها الأزمة الاقتصادية العالمية على مصر أعباء اقتصادية ثقيلة، استمرت مصر في خدمة ديونها إلى أن سددتها جميعاً، وهي أقل ما تكون قدرة على تحمل أعبائها وأشد ما تكون حاجة إلى الاقتراض بدلاً من تسديد الديون القديمة. ولكن الأزمة العالمية لم تكن شراً محضاً على مصر (إذ أن قليلاً من الأمور هو شر محض)، فقد اضطرت مصر خلالها إلى تطوير هيكلها الاقتصادي، حيث قامت الصناعات الوطنية الناشئة لتلبي حاجات كانت مصر تلبيها من قبل عن طريق الاستيراد ثم امتنع عليها ذلك بسبب ضآلة مواردها من النقد الأجنبي. وكان استحكام الأزمة نفسه في عقد الثلاثينيات، هو الذي فرض على مصر تنويع جهازها الإنتاجي، حينما عجزت مواردها الزراعية وحدها عن القيام بعبء خدمة الديون وتلبية حاجات الاستهلاك في نفس الوقت، فإلى أي حد تكرر هذا الأثر الطيب خلال العقدين التاليين لأزمة 1986؟


الفصل الحادي عشر: عقدان من الانكماش الاقتصادي (1986-2004)

كان من المحتم أن تزيد ديون مصر الخارجية بعد 1986، بسرعة أكبر مما كانت تزيد به في السنوات الخمس السابقة، ومع ذلك فإن معدل النمو في هذه الديون لم يبلغ قط معدل نموها خلال السبعينيات. فقد زادت هذه الديون بنسبة 21% خلال ثلاث سنوات التالية لصدمة انخفاض أسعار البترول في 1986، فبلغت 45.7 بليون دولار في يونيو 1989. وقد بلغ حجم الفوائد المدفوع بالفعل أكثر من 50% من إجمالي حصيلة الصادرات السلعية. صحيح أن المصادر الأساسية الثلاثة للعملات الأجنبية، عدا البترول، وهي تحويلات العاملين بالخارج وقناة السويس والسياحة، قد جلبت معاً لمصر خلال 89/1990 ما يعادل تقريباً ضعفي مجموع ما جلبته كل الصادرات السلعية، ولكن ظلت مصر تحقق عجزاً في حساب العمليات الجارية قدره (باستبعاد التحويلات الرسمية) 2284 مليون دولار، أي أكثر من خمس قيمة كل الواردات السلعية. فإذا أدخلنا في حسابنا التحويلات الرسمية لتلك السنة، ينخفض العجز في حساب العمليات الجارية إلى نحو النصف، ومع هذا يظل هناك عجز قدره 1214 مليون دولار في وقت كانت مصر تتخلف فيه عن الوفاء بأكثر من ثلث الفوائد المستحقة عليها. كان وضع المديونية إذن قاتماً إلى حد كبير عشية تفجر أزمة الخليج في أغسطس 1990. ففي ذلك الوقت كان إجمالي الديون الخارجية قد بلغ 47.6 بليون دولار أي أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي، مما جعل عبء الدين الخارجي لمصر من أعلى أعباء الديون في العالم، إذا قيس بنسبته للناتج المحلي، وأعلى كذلك من عبء الدين الخارجي الثقيل الذي كانت تحمله مصر قبل قرن من الزمان (نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي)، والذي أدى إلى عزل الخديوي إسماعيل عن عرشه واحتلال بريطانيا لمصر. في 1990 كان مبلغ خدمة الديون المستحقة على مصر قد ارتفع إلى 6 بليون دولار (أي ما يمثل 54% من قيمة جميع صادرات مصر من السلع والخدمات)، وضاقت بشدة فرص الاقتراض التجاري أو الرسمي المتاحة لمصر، وبدأت الحكومة تواجه صعوبات شديدة في تمويل بعض الورادات الأساسية من المواد الغذائية. كما هذا هو الوقت الملائم بالضبط لأن يقتطع شيلوك (الدائن) رطل اللحم من جسم أنطونيو (المدين). كان رطل اللحم المطلوب في هذه الحالة هو وقوف مصر للاشتراك إلى جانب القوات الأمريكية، عجز قدره 1214 مليون دولار في وقت كانت مصر تتخلف فيه عن الوفاء بأكثر من ثلث الفوائد المستحقة عليها. كان وضع الميزانية إذن قاتماً إلى حد كبير عشية تفجر أزمة الخليج في أغسطس 1990. ففي ذلك الوقت كان إجمالي الديون الخارجية قد بلغ 47.6 بليون دولار أي أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي، مما جعل عبء الدين الخارجي لمصر من أعلى أعباء الديون في العالم، إذا قيس بنسبته للناتج المحلي، وأعلى كذلك من عبء الدين الخارجي الثقيل الذي كانت تحمله مصر قبل قرن من الزمان (نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي)، والذي أدى إلى عزل الخديوي إسماعيل عن عرشه واحتلال بريطانيا لمصر. في 1990 كان مبلغ خدمة الديون المستحق على مصر قد ارتفع إلى 6 بليون دولار (أي ما يمثل 54% من قيمة جميع صادرات مصر من السلع والخدمات)، وضاقت بشدة فرص الاقتراض التجاري أو الرسمي المتاحة لمصر، وقد بدأت الحكومة تواجه صعوبات شديدة في تمويل بعض الواردات الأساسية من المواد الغذائية. كان هذا هو الوقت الملائم بالضبط لأن يقتطع شيلوك (الدائن) رطل اللحم من جسم أنطونيو (المدين). كان رطل اللحم المطلوب في هذه الحالة هو وقوف مصر إلى جانب الولايات المتحدة ضد صدام حسين، إلى حد إرسال قوات مصرية للاشتراك في الحرب إلى جانب القوات الأمريكية، وذلك كطريقة للوفاء بديون لم يكن لدى مصر أي موارد لتسديدها. ومن الطريف أن نلاحظ أنه خلال ستة الأشهر التالية لبدء أزمة الخليج، حصلت مصر على تعهدات بمساندات مالية بلغت 4726 مليون دولار من بعض الدول العربية، أهمها المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات، وهي نفس الدول التي كانت خاصمت مصر وأدارت ظهرها لها منذ عشر سنوات بسبب توقعيها اتفاقية السلام مع إسرائيل. ولكن الأهم من ذلك ما حصلت عليه مصر من إعفاءات كبيرة من ديونها. أعفيت مصر أولاً، من جانب الولايات المتحدة ودول الخليج، من ديون قدرها 13.7 بليون دولار. ثم دعيت مصر إلى عقد اتفاقية في مايو 1991 مع الدول المكونة لنادي باريس، أسفر عن إعفاء مصر من 50% من ديون أخرى، على مراحل، مع الاشتراط بأن يكون حصول مصر على الإعفاء على المرحلتين الأخيرتين (1992 و1994) متوقفاً على تنفيذ مصر لتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فيما سمي بـ"برنامج الإصلاح الاقتصادي". ترتب على هذا أن انخفضت ديون مصر الخارجية من 47.6 بليون دولار في يونيو 1990 إلى 34 بليوناً في فبراير 1991 ثم إلى 24 بليون دولار في منتصف 1994، أي نصف ما كانت عليه في منتصف 1990. مما يلفت النظر ما حدث لديون مصر الخارجية من ثبات نسبي في السنوات العشر التالية (1994-2004) بالمقارنة بزيادتها بمقدار ستة أضعاف في السنوات العشر التي حكم فيها السادات، وزيادتها بمقدار 60% في السنوات العشر الأولى من حكم مبارك. ففي الفترة (1994-2004) لم تزد ديون مصر الخارجية إلا بمقدار 5.4 بليون دولار (فوصلت إلى 29.4 بليون)، أي بنحو 22% في عشر سنوات. كيف نفسر هذا الثبات النسبي في ديون مصر الخارجية بعد ربع قرن من الزيادة السريعة؟ من الممكن أولاً أن نقول أنه لا يمكن لأي دولة أن تستمر في الاقتراض والتورط في الديون إلى مالا نهاية، إذ لابد أن يأتي الوقت الذي يظهر فيه عجز الدولة عن خدمة ديونها ويبدأ الدائنون في القلق على أموالهم فتدخل الدولة في فترة جديدة تتسم بتسديد الديون السابقة أكثر ما تتسم بعقد قروض جديدة. بعبارة أخرى، لابد أن تدخل الدولة المقترضة في دورة من ازدياد المديونية ثم انحسارها: تزداد ديونها، ليس عندما تشتد بها الضائقة الاقتصادية، بل على العكس عندما تتدفق عليها الأموال فتزداد ثقة الدائنين بقدرتها على السداد، ثم تتوقف عن الاقتراض ويطالبه الدائنون بسداد الديون السابقة عندما يفقدون الثقة في مستقبلها الاقتصادي. لقد حدث هذا كما رأينا مع الخديوي إسماعيل، إذ انهال عليه المقرضون عندما كانت أسعار القطن مرتفعة بسبب الحرب الأهلية الأمريكية، وبدئوا يضيقون عليه الخناق عندما زال عهد الرواج. ثم حدث مرة أخرى مع السادات، عندما انهال عليه المقرضون الذين أسال لعابهم ارتفاع أسعار النفط وتحويلات المهاجرين المصريين إلى الخليج، ثم ضيقوا الخناق على مبارك عندما انخفضت أسعار النفط وبدأ المهاجرون المصريون يعودون إلى مصر. من المكن أيضاً أن نفسر هذا الثبات النسبي في الديون المصرية ابتداءً من أوائل السبعينيات وحتى الآن، بما أصاب الاقتصاد المصري من تدهور في معدل النمو منذ ذلك الوقت، ومن ثم تباطؤ الزيادة في الواردات. ترتب على هذا تحسن في ميزان المدفوعات أغنى مصر عن الالتجاء إلى المزيد من القروض، ولكنه تحسن لا يعكس زيادة القدرة على التصدير بل يعكس انخفاض القدرة على الاستيراد، (فضلاً عن تخلص مصر من جزء كبير من عبء خدمة الديون بما حصلت عليه من إعفاءات لأسباب سياسية). على أي حال، وأياً كان السبب، فالديون الخارجية، بعد ربع قرن من تولي مبارك لحكم مصر لم تعد مشكلة ملحة، أو حتى مشكلة مطروحة على الإطلاق، مثلما كانت في بداية عهده. فحجم الدين الخارجي في سنة 2004 لم يكن يمثل أكثر من 31.2% من الناتج المحلي الإجمالي بالمقارنة بـ141% في بداية عهد مبارك. ولم يمثل عبء خدمة الديون في سنة 2004 أكثر من 10% من مجموع قيمة صادرات مصر من السلع والخدمات بالمقارنة بـ28% في 1981. يبدو إذن أن "الهم" الذي تجلبه الديون باليل قد زال (أو كاد يزول)، ولكن المدهش أن "الذل بالنهار"، أصبح أشد مما كان. فقد استمرت مصر تابعاً ذليلاً للولايات المتحدة تفعل ما تؤمر به، وتمتنع عما تنهى عنه، بل هناك ما يدل على أن هذا الخضوع قد أصبح أشد مما كان عليه في بداية عهد مبارك. من الممكن تفسير استمرار الخضوع على هذا النحو بعدة أمور. فالديون وإن كانت وسيلة فعالة لإخضاعك، فإنها ليست الوسيلة الوحيدة. فهناك مثلاً الخوف من الفضيحة، إذا كان ممارس القهر يعرف لك زلة تخاف أن تعلن علن الملأ. وهناك اعتماد على سلام يملكنه الغير ولا تستطيع حماية نفسك بغيره. ولكن هناك فوق كل شيء مجرد "الإدمان". فإذا كنت قد اعتدت نمطاً من الحياة بسبب ديونك السابقة، وأصبح من الصعب عليك أن تتخلى عنه، فإن من السهل إملاء الإرادة عليك من جانب من يمكنك من ممارسة هذا النمط من الحياة. إن التاجر قد يستدرجك إلى متجره بتشجيعك على الشراء مع تأجيل الدفع، حتى تتمكن منك الرغبة في الحصول بأي ثمن على ما يبيعه من سلع، هنا لا حاجة بالبائع إلى تأجيل دفع الثمن (أي لا حاجة للإقراض) إذ أن خضوعك لإرادته قد أصبح مضموناً. حدث شيء كهذا لمصر بين منتصف السبعينيات ونهاية الثمانينيات، إذ أدى الانفتاح الاقتصادي بلا حدود إلى اعتياد (أو إدمان) الشرائح العليا من المجتمع المصري نمطاً جديداً من الحياة. بل وحدث أيضاً خلال هذه الفترة التحول من تسليح الجيش بأسلحة سوفيتية إلى تسليحه بأسلحة أمريكية، وهذا التحول في الحالين يصعب جداً الرجوع عنه. ومن ثم فقد حققت الديون هدفها وأدت وظيفتها، ولم يعد هناك ضرورة لزيادتها، ولو إلى حين. كانت البداية الحقيقية لعهد مبارك، فيما يتعلق بالاقتصاد، في منتصف الثمانينيات، وليس في بدايتها عندما تولى الريس مبارك الحكم. فقد استمر الاقتصاد في السنوات الخمس الأولى (81-1985) ينمو بمعدل مرتفع وإن كان أقل مما كان في عهد السادات، واستمر الاخلال المألوف في الجهاز الإنتاجي، واستمرت سياسة الانفتاح بلا ضابط، واستمر معدل التضخم مرتفعاً، وكذلك معدل هجرة المصريين إلى دول البترول، ونفس النمط في توزيع الدخل: اتساع في الفجوة بين الدخول ولكن الهجرة تخلق متنفساً لمحدودي الدخل ولخريجي المعاهد والجامعات بتقديم فرص كبيرة للعمل المجزي في الخارج. ثم انخفضت بشدة أسعار البترول في 1986، فانخفضت بسبب ذلك إيرادات الحكومة المصرية من البترول، كما انخفض معدل الهجرة تبعاً لانخفاض إيرادات دول الخليج، فزادت البطالة للسببين: الحكومة تنفق أقل لانخفاض إيراداتها، ودول البترول تطلب عمالة مصرية أقل لانخفاض إيراداتها ايضاً. ثم زاد الطين بلة تدخل صندوق النقد الدولي في 1987 لفرض سياسة سميت بالتصحيح أحياناً والتثبيت والتكيف الهيكلي أحياناً أخرى، إذ وجدها الصندوق فرصة سانحة للتدخل بفرض شروطه عندما ظهر عجز الحكومة المصرية عن خدمة ديونها. والصندوق يطلب عادة، في سبيل إعادة جدولة الديون، أي تقسيطها ومد آجال السداد، أن تتبع الدولة المدينة سياسة انكماشية، أي أن تلتزم الحكومة بتخفيض إنفاقها، (وعلى الأخص تخفيض الدعم الممنوح للسلع والخدمات الضرورية)، وهذا من شأنه تخفيض معدل التضخم، ولكنه يخفض أيضاً من معدل نمو الناتج القومي ويزيد البطالة فتزداد أعباء الفقراء. هذا هو ما حدث بالضبط في العقدين التاليين (1986-2004): معدل النمو في الناتج القومي لا يزيد في المتوسط، عن 4% سنوياً، أي زيادة في متوسط الدخل الحقيقي أقل من 2% وهو أقل بدرجة ملحوظة مما تحقق في عهد السادات وعبد الناصر على السواء (باستثناء تلك السنوات الثماني الكئيبة التي انقضت بين هزيمة 1967 وبداية عهد الانفتاح في 1974. وهي فترة لم نر من الملائم اعتبارها ممثلة لعهد عبد الناصر ولا لعهد السادات). انخفض معدل التضخم في هذين العقدين (1986-2004) عما كان في عهد السادات بسبب السياسة الانكماشية، ولكن بشدة معدل البطالة وتدهور توزيع الدخل فزادت الفجوة بين الدخول. حدث بعض التحسن في الهيكل الإنتاجي لصالح الصناعة التحويلية ولكن علينا أن نتناول الأرقام الدالة على ذلك ببعض الحذر. ذلك أن أداء الصناعة في عهد الرئيس مبارك كان مختلفاً بين فترة وأخرى. ففي السنوات العشر الأولى من حكمه (1981-1990) كان أداؤها قريباً مما كان في عصر السادات ولكنه تدهور بشدة في الخمسة عشر عاماً التالية، فأصبح معدل نمو الصناعة التحويلية في النصف الأول من التسعينيات نحو نصف معدله في النصف الثاني من الثمانينيات (5% و10% على التوالي) ثم استمر التدهور بعد ذلك حتى تراوح هذا المعدل بين 3% و4% في السنوات الأولى من القرن الجديد. على الرغم من هذا المعدل المتواضع لنمو الصناعة في عهد مبارك يلاحظ أن نصيب الصناعة التحويلية في الاقتصاد القومي في سنة 2005، أكبر منه في نهاية عهد السادات. فنصيبها في الناتج المحلي الإجمالي هو 20% (بالمقارنة بـ13.5% في 1981)، ونصيبها في العمالة 14% (بالمقارنة بــ12.5%)، ونصيبها في الصادرات السلعية 45% (بالمقارنة بـ9%). ولكن يقلل من أهمية هذا التقدم أنه خلال العشرين عاماً (1986-2005) تدهور بشدة معدل نمو الناتج القومي، كما تدهورت أسعار النفط، بالمقارنة بما كان عليه معدل نمول الناتج القومي ومستوى أسعار النفط في نهاية عصر السادات، فارتفع نصيب الصناعة التحويلية النسبي دون أن تحدث نهضة صناعية حقيقية. بالإضافة إلى ضعف النمو الصناعي، تميز تطور الصناعة في مصر في الخمس عشر سنة الأخيرة من عهد مبارك بالاتجاه المتزايد إلى بيعها. كانت سياسة التصنيع في الستينيات مزيجاً من إنشاء شيء من العدم، ونقل ما كان مملوكاً ملكية خاصة، لأجانب أو مصريين، إلى الملكية العامة. ثم بدأ الحديث عن الخصخصة على استحياء في السبعينيات، ولكن ظلت الخصخصة، في السبعينيات والثمانينيات، تواجه بمقاومة شديدة من الاقتصاديين وعمال الصناعة على السواء. إلى أن جاءت التسعينيات فاكتسب دعاة الخصخصة جرأة، وزادت ضغوط صندوق النقد الدولي والإدارة الأمريكية بعد توقيع مصر لاتفاقها مع الصندوق في مايو 1991، ومع البنك الدولي في نوفمبر 1991. ويبدو أن الصندوق والإدارة الأمريكية رأيا، في سنة 2004، أن الخصخصة لابد أن تسير بسرعة أكبر بكثير مما أدى إلى أن وصلت في الحكم حكومة من نوع جديد، أبرز وزرائها من أكبر المتحمسين لبيع القطاع العام.


الفصل الثاني عشر: الاستثمارات الأجنبية والأزمة العالمية (2004-2009)

طوال العشرين عاماً (1986-2004) ظل حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة في مصر ضئيلاً للغاية، بالرغم من كل ما اتخذته الحكومة لتشجيع هذه الاستثمارات، وتعليقها الآمال عليها باعتبارها الحل السحري لمشكلة التنمية. وقد كان كل من تولى رئاسة الحكومة خلال هذه الفترة (عاطف صدقي- الجنزوري- عاطف عبيد) من المؤمنين بأهمية الاستثمار الأجنبي الخاص، ولا يألون جهداً في محاولة اجتذابه. نعم كان المستثمرون الأجنب المحتملون، وكذلك المؤسسات الدولية، دائمي الشكوى من العقبات التي تفرضها البيروقراطية المصرية، من بطء اتخاذ القرارات الحكومية وتعقيداته، واضطرار المستثمر الأجنبي لدفع رشاوي لتسهيل مهمته، ولكني لا أميل إلى رد ضآلة حجم الاستثمارات الأجنبية في مصر خلال هذه الفترة إلى مثل هذه العوامل، ولا حتى إلى تباطؤ الحكومة المصرية في تخفيض سعر الجنيه المصري. فعندما ارتفع فجأة حجم الاستثمارات الاجنبية في مصر ابتداءً من 2005، لم يكن شيء مهم قد تغير في كل هذه العوامل، فضلاً عن أنه عندما تكون الرغبة الحقيقية لدى الشركات الأجنبية والمؤسسات الدولية في زيادة تدفق الاستثمار الأجنبي في مصر زيادة كبيرة، لا أظن أن هذه أو تلك ستعجز عن إيجاد السبل الكفيلة بتسهيل هذا التدفق بممارسة الضغط الكافي على الحكومة، بل وتغييرها في بعض الأحيان إذا لزم الأمر. يبدو أن الأسباب الحقيقية لتعطيل هذا التدفق طوال هذه الفترة تتعلق بالمناخ السياسي السائد في المنطقة العربية. يؤيد هذه النظرة ما حدث فجأة في صيف 2004، أي بعد عام من احتلال الولايات المتحدة للعراق، ووسط كلام كثير عن مشروعات لإقامة "الشرق الأوسط الجديد". ففي صيف 2004، حدث تغير مهم ومفاجئ في الحكومة المصرية. فقد تسلم رئاسة الحكومة د. أحمد نظيف بدلاً من د. عاطف عبيد، دون أن يقدم أحد أي تفسير لهذا التغيير. لم تكن هذه بالطبع أول مرة يحدث فيها أن يأتي وجه جديد تماماً إلى رئاسة الحكومة، فمنذ قيام ثورة 1952 اعتاد المصريون على أن يسقط رئيس للوزراء فجأة، لغير سبب معروف، ويأتي رئيس آخر للوزراء دون أن يكون هناك سبب واضح لماذا اختير دون غيره. استمرت هذه الظاهرة منذ 1952، ثم أضيف إليها بعد سقوط فؤاد محيي الدين كرئيس للوزراء في أوائل الثمانينيات، ظاهرة اختيار رئيس للوزراء لم يعرف عنه اهتمام كبير بالسياسة، ناهيك عن الانتماء لفكر سياسي معين. كان هذا شأن كمال حسن علي، ثم علي لطفي، ثم عاطف صدقي، ثم كمال الجنزوري، ثم عاطف عبيد. ولكن أحمد نظيف لم يكن حتى يتظاهر بالاهتمام بالسياسة. كان في الحكومة السابقة وزيراً للاتصالات، معروفاً بالنزاهة والاخلاص في عمله، ولكنه لم يظهر أي اهتمام بالقضايا السياسية. ربما كان هذا أحد أسباب اختياره لرئاسة الحكومة في 2004، إذ إنه جاء ومعه مجموعة من الوزراء الجدد تولوا الوزارات المتعلقة بشئون الاقتصاد، وعرفوا بتغليب اعتبارات الكفاءة الاقتصادية على أي اعتبار آخر، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً. ولم يمض وقت طويل حتى اتضح أن الحكومة الجديدة قد جاءت لتنفيذ جدول أعمال معد سلفاً يتفق تماماً مع فلسفة" الليبراليين الجدد" في الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت السير بسرعة أكبر في تحقيق مصالح خارجية طالب التباطؤ في تنفيذها. في ديسمبر 2004 مثلاً ظهر أن مصر قد خارت قواتها إلى حد أنها أصبحت مستعدة لاتخاذ هذه الخطوة الخطيرة: وهي التوقيع على اتفاقية الكويز مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، التي تسمح لبعض الصناعات المصرية (التي توصف "بالمؤهلة) بدخول السوق الأمريكية دون ضريبة جمركية، بشرط أن تحتوي منتجاتها على جزء من إنتاج إسرائيلي. وهكذا وضعت الصناعات المصرية تحت رحمة إسرائيل التي يمكن لها الآن تقرير أي الصناعات سوف تنمو وتزدهر وأيها سوف يتقلص ويندثر. في سنة 2005، قفزت الاستثمارات الأجنبية الخاصة في مصر إلى ضعف ما كانت عليه في العام السابق، ثم تضاعفت مرة أخرى في السنتين التاليتين. وعندما رأى المستثمرون العرب ذلك فهموا معنى ما يحدث، فتسابقوا على الاستثمار وشراء الأراضي في مصر، وإذا بالحكومة المصرية تعلن فجأة أن الحقبة المظلمة قد انتهت، وأن عهد التنمية السريعة والمستمرة قد بدأ، وأن السبب بالطبع هو الحكمة التي تتسم بها الحكومة الجديدة بعكس كل الحكومات السابقة. وكأن كل معاناة الشعب المصري طوال العشرين سنة السابقة كانت نتيجة مجرد خطأ بسيط في اختيار شخصية رئيس الحكومة. أصبح من الواضح بعد شهور قليلة من مجيء الحكومة الجديدة أنها تتبنى في شئون الاقتصاد المبادئ الأربعة الآتية: 1- المشكلة الاقتصادية الأساسية في مصر هي انخفاض معدل نمو الناتج القومي. هذه المشكلة في نظر الحكومة الجديدة، أهم من مشكلة البطالة أو سوء توزيع الدخل، وهاتان المشكلتان سوف يتم حلهما، على أي حال، إذا نجحنا في رفع معدل النمو. 2- أفضل وسيلة للارتفاع بمعدل نمو الناتج القومي، هي تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة على المجيء إلى مصر، بالمقارنة باستثمار رؤوس الأموال المحلية، سواء كان استثماراً خاصاً أو عاماً. 3- الخصخصة، أي تحويل الملكية العامة للمشروعات القائمة إلى ملكية خاصة، سياسة ضرورية للنهوض بحالة الاقتصاد المصري، وكلما زادت الخصخصة كان هذا أفضل، بما في ذلك خصخصة المرافق العامة. 4- السبب الأساسي لسوء أداء الاقتصاد المصري خلال الخمسين عاماً الماضية هي تدخل الحكومة في الاقتصاد أكثر من اللازم، فبهذا يمكن تفسير انخفاض معدل نمو الناتج القومي، وانخفاض معدل الدخل ومعدل الاستثمار، وكذلك ارتفاع معدل البطالة. وبناء على ذلك فإنه كلما قل تدخل الدولة في الاقتصاد كان هذا أفضل. كانت التصريحات الحكومية (وكذلك ما تتخذه من إجراءات) يعبر عن هذه المبادئ الأربعة صراحة أحياناً، وفيما بين السطور أحياناً أخرى. وبعد مرور أربعة أعوام على مجيء الحكومة الجديدة، أي قبيل مجيء خريف 2008، أخذت الحكومة تكرر توجيه التهنئة لنفسها على تحقيق الإنجازات التالية: 1- ارتفع معدل نمو الناتج القومي الحقيقي في السنتين الأخيرتين (أي في 2006/2007-2007-2008) إلى أكثر من 7% سنوياً، بعد أن كان متوسط المعدل طوال العشرين سنة السابقة نحو 4% سنوياً. 2- ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة في السنة الأخيرة (2007-2008) إلى 11 بليون دولار بالمقارنة بـ9.3 بليون دولار عندما استلمت الحكومة الجديدة المسئولية، أي أن هذه الاستثمارات تضاعفت نحو ثلاث مرات في أربع سنوات. 3- تسارع معدل الخصخصة في السنوات الأربع السابقة، حتى جلب 8.2 بليون دولار في السنة الأخيرة. لم يكن من الصعب على من يشك في ملاءمة سياسة الليبرالية الجديدة لمصرن خاصة في هذه المرحلة من تطورها الاقتصادي، أن يثير الشكوك في أهمية هذه الإنجازات: ففيما يتعلق بمعدل نمو الناتج القومي، لم يكن هناك أي دليل على أن ارتفاع هذا المعدل قد صاحبه أي تقدم في حل المشكلة الاقتصادية الأساسية في مصر وهي المعدل المرتفع للبطالة. لقد روجت الحكومة لنتائج مسح لسوق العمل أجري في آخر أكتوبر 2006، زعم أن حالة البطالة في مصر، وإن كانت قد تدهورت بشدة فيما بين 1988 و1998، قد أظهرت تحسناً في السنوات الثماني التالية (1998-2006). ولكن هناك أسباباً قوية تشكك في صحة هذا الزعم. فالسنة التي تقارن بها حالة البطالة في 2006، وهي سنة 1998، هي السنة التالية مباشرة لحادث الأقصر "الإرهابي" الذي أثر تأثيراً كبيراً على حالة العمالة في قطاع السياحة. والتحسن المذكور لا يشمل القاهرة الكبرى، ومن ثم قد يكون التحسن في أرقام البطالة في الريف المصري ناتجاً عن الهجرة إلى القاهرة الكبرى بحثاً عن عمل دون العثور عليه. والانخفاض المذكور في حالة البطالة من (11.7%) في 1998 إلى (8.3%) في 2006، قد يرجع جزء كبير منه إلى اختلاف طريقة جمع الإحصاءات وتفسيرها بين 1998 و2006. والأهم من ذلك أن ظاهرة البطالة في حالة بلد فقير كمصر يجب ألا يقتصر تعريفها على البطالة السافرة التي تتمثل في حال الباحثين عن عمل دون أن يكون لهم عمل على الإطلاق، بل يجب أن تشمل حالة المشتغلين الذين يعتبرون وظائفهم وأعمالهم أقل بكثير من طاقتهم أو مؤهلاتهم، والذين لم يقبوا الاشتغال بالأعمال التي يشتغلون بها بالفعل إلا بسبب اليأس من العثور على ما يليق بقدراتهم أو بمؤهلاتهم، بعد استمرار البطالة فترة طويلة. إن أصحاب فلسفة الليبرالية الجديدة، يستندون في إهمال مشكلة البطالة إلى اعتقادهم في صحة النظرية القديمة التي تعود إلى أيام الاقتصاديين التقليديين الإنجليز، والمسماة بنظرية "التساقط (Trickle Down)، والتي تثق في حل مشكلة البطالة في المدى الطويل، طالما استمرت زيادة استثمارات وارتفاع معدل نمو الناتج القومي، على أساس أن مصير العمالة منوط بالطلب عليها من جانب المستثمرين. ولكن هذه الثقة في أن تؤدي زيادة الاستثمار وارتفاع معدل النمو إلى اختفاء البطالة تفقد جزءاً كبيراً من قوتها في ظل ظروف (كظروف مصر الحالية) يتسم فيها الاستثمار بدرجة عالية من كثافة رأس المال (أي بطلب منخفض نسبياً على الأيدي العاملة)، وبتفضيل مجالات الإنتاج من أجل التصدير على مجالات الإنتاج للسوق المحلي (وهذه الاخيرة أكثر مساهمة في تشغيل العمال)، فضلاً عن ارتفاع نسبة الواردات في إنفاق المشروعات التي تمول بالاستثمارات الأجنبية، مما يوجه جزءاً كبيراً من الطلب إلى السلع والعمالة الأجنبية بالمقارنة بالطلب على السلع وأيدي العمل المحلية. أضف إلى ذلك أن هناك من الأسباب ما يجعل المرء يشك بشدة في إمكانية استمرار هذا المعدل المرتفع لنمو الناتج القومي (7%). بعض هذه الأسباب سياسي وبعضها اقتصادي. أما الأسباب السياسية فتتعلق بانتماء المجموعة الجديدة من واضعي السياسة الاقتصادية إلى نفس النظام السياسي الذي أدى أداء اقتصادياً بائساً للغاية في العشرين سنة السابقة. ولم يظهر ما يدل على حدوث أي تغيير في طريقة اتخاذ القرارات أو في طبيعة الممسكين بالسلطة وتطلعاتهم الطبقية ومدى استعدادهم للخضوع للمساءلة. وأما الأسباب الاقتصادية للشك في إمكانية استمرار هذا المعدل المرتفع للنمو، فتتعلق بمصادر هذا النمو، أي توزيعه على القطاعات الإنتاجية المختلفة. فيلاحظ أن القطاعين الأساسيين اللذين يمكن التعويل عليهما في استمرار النمو المرتفع في المستقبل، وهما الصناعة التحويلية والزراعة، لم يساهما خلال الفترة (2005-2007) إلا بنسبة 27.6% من الزيادة في الناتج القومي، أي بأكثر قليلاً من الربع (كان معدل النمو 3.7% في قطاع الزراعة و7.3% في قطاع الصناعة التحويلية) بينما حدثت الزيادة الكبيرة في القطاعات الأكثر تعرضاً للتقلب والأقل مدعاة للثقة باستمرار نموها في المستقبل (كالسياحة التي ساهمت وحدها بـ13.2% من الزيادة في الناتج الإجمالي، وقناة السويس 14.9%، وقطاع التشييد والبناء (خاصة بناء المساكن) 15.8%. إن هذا التوزيع النسبي لمصادر النمو في الفترة (2005-2007)، لابد أن يذكر المرء بما حدث في الفترة (75-1982). ففي هذه الفترة أيضاً زاد الناتج الإجمالي بمعدل مرتفع (8.9% سنوياً) ولكن لم تساهم الصناعة التحويلية إلا بـ1.3% من هذا المعدل (أي بنسبة 14.6%) والزراعة بـ0.7% (أي بنسبة 7%). أي أن القطاعين الرئيسيين (الصناعة التحويلية والزراعة)، لم يساهما في تلك الفترة إلا بأقل من ربع الزيادة في الناتج الإجمالي، وهي نسبة قريبة جداً من نسبة مساهمتهما في الفترة (2005-2007). كان النمو المرتفع في الفترة السابقة (75-1982) ناتجاً أياً من قطاعات غير مضمونة، كالبترول وقناة السويس والسياحة والتشييد والتجارة. لا عجب أن معدل النمو المرتفع في الناتج الإجمالي لم يمنع من دخول الاقتصاد المصري في فترة طويلة من الانكماش، استمرت نحو عقدين، (1986-2004)، وكذلك ليس من الممكن الاطمئنان إلى أن يؤدي ارتفاع معدل نمو الناتج الإجمالي في الفترة 2005-2007 إلى استمرار النمو بعد ذلك. أما الزيادة الكبيرة في تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة، فيلاحظ عليها أيضاً أن القطاعين الأساسيين (الزراعة والصناعة التحويلية) من حيث توليد فرص العمالة، وتحفيز مزيد من النمو في المستقبل، لم يحظيا بأكثر من عشر إجمالي الاستثمارات الأجنبية الخاصة (2006/2007) إذ ذهبت 27% من هذه الاستثمارات إلى قطاع البترول، و17% لقطاع الاتصالات، بينما كانت 25% منها حصيلة "خصخصة" أي بيع أصول قائمة بالفعل دون إضافة أصول جديدة. كما يلاحظ أن الاستثمارات المتجهة إلى قطاع البترول هي استثمارات تستهدف استغلال أصول آيلة إلى النضوب، وأن جزءاً من الاستثمارات في قطاع الاتصالات اتخذ صورة قيام بعض شركات التليفون المحمول بشراء رخصة تسمح لها بالعمل في مصر، وهو "استثمار" ليس من طبيعته التكرار. أما فيما يتعلق بما أنجزته الحكومة في مجال الخصخصة، فمن الشيق أن نقارن بين ما حدث في هذه الفترة الأخيرة (2005-2007) من حيث مصادر تمويل التنمية، وما حدث في الفترة (75-1981). ففي فترة السبعينيات كانت مشروعات التنمية تعتمد اعتماداً كبيراً على القروض الأجنبية بمعدلات فائدة مرتفعة، بينما اعتمدت الفترة (2005-2007) اعتماداً كبيراً على الاستثمارات الأجنبية الخاصة، بما في ذلك بيع أصول إنتاجية قائمة بالفعل. ولكل من المصدرين حدود لا يمكن تجاوزها. فعندما تراخى الإقراض التجاري وانخفض حجمه ابتداءً من منتصف الثمانينيات، أصيبت التنمية بصدمة ونكسة شديدتين. كذلك لابد أن يكون لعملية الخصخصة نهاية، ببيع كل ما يمكن بيعه من مشروعات القطاع العام، ومن ثم من الخطأ تعليق آمال التنمية على ما يجلبه هذا البيع من موارد. الشيء الوحيد الذي لم تفاخر به الحكومة بل حاولت أن تنفذه في صمت، آملة في ألا تلتفت إليه الأنظار أكثر من اللازم، هو تقليص ما تقدمه الحكومة من دعم للفقراء في صورة تخفيض أسعار بعض السلع الغذائية والبترول وأسعار بعض الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة. كان مبدأ الحكومة هنا، هو المبدأ الذي يعتنقه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بأن هذه الصورة المختلفة من الدعم تشوه هيكل الأسعار ومن ثم تؤدي إلى تبديد كبير للموارد وبالتالي تعطيل التنمية. ولكن هذا المبدأ يرجع إلى ما قاله الاقتصاديون التقليديون، والتقليديون المحدثون، منذ أكثر من قرن ونصف، وهؤلاء كانوا يستبعدون من المناقشة أثر هيكل الأسعار على توزيع الدخل يخضع لقرارات سياسية ليس من شأنهم هم (أي المشتغلين بالاقتصاد البحث)، الخوض فيها. فإذا افترضنا أن راسمي السياسة سوف يتخذون بالفعل القرارات الحكيمة فيما يتعلق بتوزيع الدخل، فلا شك أن ترك الأسعار حرة موقف حكيم بسبب تقليله من تبديد الموارد. بعبارة أخرى، إن ترك الأسعار حرة يكون موقفاً حكيماً في ظل نظام حكيم لتوزيع الدخل، أما إذا كان الحال غير ذلك، كما هو الحال في مصر منذ فترة طويلة، فإن ترك الأسعار حرة وإن كان يقلل من تبديد الموارد المادية فهو يزيد بشدة من تبديد الموارد البشرية، أي أنه نظام جيد للسلع ولكنه سيئ للبشر. كان الزهو بهذه الإنجازات الثلاثة (ارتفاع معدل النمو، وارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية، والإسراع بعملية الخصخصة) هو الاتجاه السائد في حديث المسئولين عن حالة الاقتصاد المصري، عند وقوع الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008. بل زاد من زهو الحكومة أن السنة المالية السابقة مباشرة على الأزمة (2007/2008) شهدت استمرار معدل نمو مرتفع للناتج القومي (يزيد أيضاً عن 7%)، واستمرار الزيادة في حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة (فبلغ 13 بليون دولار في تلك السنة) واستمرار "الإصلاح الاقتصادي"، وبالذات عملية الخصخصة، إذ قامت الحكومة ببيع شركة أو شركتين كبيرتين في كل عام من الأعوام الأربعة منذ استلامها المسئولية في 2004. وقعت الأزمة المالية العالمية وقع الصدمة الكبيرة على الحكومة المصرية، وعلى الأخص على المسئولين فيها عن الاقتصاد. فهؤلاء كانوا يرجعون الأوجه المختلفة لنجاح سياستهم إلى جانب أو آخر من جوانب "الاندماج في الاقتصاد العالمي"، ولكن ها هو الاقتصاد العالمي يصاب بأزمة شديدة لا يعرف أحد مداها، ولا يستطيع أحد التنبؤ بموعد انتهائها. والعالم الآن، بما في ذلك العالم الرأسمالي نفسه، أصبح يتكلم بلغة هي العكس بالضبط مما كان يقولوه راسموا السياسة الاقتصادية في مصر: إذ يتكرر اللوم على الإفراط في تطبيق سياسة الحرية الاقتصادية وفي الاعتماد على قوانين السوق، ويتكرر القول بضرورة تدخل حاسم من جانب الحكومة. وزاد عدد من يتوقعون انكماشاً عاماً وتراجعاً في مسيرة العولمة، ودرجة أكبر من الاعتماد على النفس، أي الاعتماد على السوق المحلي أكثر من التصدير، وعلى الادخار المحلي بدلاً من القروض أو المعونات أو الاستثمارات الأجنبية الخاصة، وكلها اتجاهات في عكس الاتجاه التي كانت تتبناه السياسة الاقتصادية في مصر وتبشر به. كان لابد أن نتوقع أن تؤدي الأزمة المالية إلى انخفاض في حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة الواردة إلى مصر، وانخفاض في قيمة وحجم الصادرات السلعية، بما في ذلك البترولية، والصادرات غير السلعية، بما في ذلك إيرادات السياحة وقناة السويس، وفي حجم تحويلات المصريين الآتية من الخارج، وكان هذا ما حدث بالفعل في نهاية السنة المالية 2008/2009 بالمقارنة بالسنة المالية السابقة. فقد انخفضت قيمة صادرات مصر من البترول بنحو 3 بليون دولار، والصادرات غير البترولية وإيرادات السياحة بنحو بليون لكل منهما، وإيرادات قناة السويس بنحو 400 مليون، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج بـ600 مليون، كما انخفضت الاستثمارات الأجنبية بنحو 3.5 بليون دولار أي بنحو الثلث. كان النقص في مجموع إيرادات مصر من النقد الأجنبي في العام الأول من الأزمة نحو 10 بليون دولار، ولكن النقص الصافي في إيرادات النقد الأجنبي (بعد خصم النقص في قيمة الواردات وهو أكثر من 3 بليون دولار) كان نحو 6 بليون دولار. كان لا بد إذن من انخفاض معدل نمو الناتج الإجمالي، وقد قدرت الحكومة هذا المعدل بـ4.8% خلال 2008/2009 بالمقارنة بـ7.2% في العام السابق بينما قدر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هذا المعدل بـ3.6% فقط، أي بنحو نصف ما كان عليه في العام السابق. هذه الانتكاسة في معدل نمو الناتج الإجمالي لا بد بالطبع ان تدعو للأسف، ولكننا لا يجب أن نبالغ في تعليق الأهمية على هذا المعدل، إذ إن الخلل الأساسي كان قائماً حتى في ظل معدل النمو المرتفع، ولم ينجح المعدل المرتفع (7.2%) في التخفيف منه، وهو الاختلال في الهيكل الاقتصادي وفي انخفاض نصيب القطاعات الأكثر ضماناً لاستمرار النمو، والأكثر مساهمة في حل مشكلة البطالة، في إجمالي الاستثمارات. كان لا بد أن يؤدي هذا الانخفاض في معدل النمو إلى ارتفاع معدل البطالة، ولكن ليس من الضروري أن يظهر ذلك بوضوح (أو حتى أن يظهر على الإطلاق) في الإحصاءات الرسمية، التي تعتبر أن الاشتغال بأي عمل، مهما كان منخفض الإنتاجية وحتى لو لم يتناسب البتة مع مؤهلات صاحبه وقدراته، يؤهل صاحبه لأن يندرج في عداد "العاملين". كان لا بد للأزمة العالمية إذن أن تنبه من جديد إلى خطورة الاعتماد المبالغ فيه على "الاندماج في الاقتصاد العالمي"، وإلى أن الانفتاح على العالم، وإن كان مطلوباً لشحذ الهمة، والإفادة من مزايا التنافس، واستكمال النقص في الخبرة والتكنلوجيا، وأحياناً أيضاً لتكوين رأس المال، فإن هذا الانفتاح وهذا الاندماج في الاقتصاد العالمي لا بد أن يكون له حدود، ولابد أن يخضع لقيود واستثناءات، كلما ظهر أنه يضر بالمصلة الوطنية.


الفصل الثالث عشر: محاولة لتفسير تطور الاقتصاد المصري في مائتي عام (1805-2009)

(1)

يستخدم الاقتصاديون عادة في الحكم على جودة أو سوء الأداء الاقتصادي لدولة ما، في حقبة ما، ثلاثة معايير، مؤكدين أحياناً على بعضها وأحياناً على البعض الآخر: 1- معدل نمو متوسط الدخل، (أو معدل نمو الدخل الأجنبي أو الناتج الإجمالي للدولة، مطروحاً منه معدل نمو السكان). إذ إن هذا المعدل يستخدم كمؤشر لما حدث في مستوى الرفاهية في الدولة بوجه عام، أو لمستوى الرفاهية "في المتوسط". 2- مدى النجاح في تغيير "الهيكل الاقتصادي"، أي الأهمية النسبية للقطاعات المختلفة في مجمل الإنتاج، كنسبة مساهمة الزراعة أو الصناعة التحويلية أو البترول أو السياحة أو سائر الخدمات، في مجموع ما تنتجه الدولة من سلع وخدمات، ويركز على الأخص على نصيب الصناعة التحويلية في إجمالي الإنتاج على أساس أنه كلما زاد هذا النصيب (خاصة إذا كنا نبدأ من مستوى منخفض من الدخل) زاد احتمال استمرار النمو في الدخل أو الناتج الإجمالي في المستقبل، ومن ثم زاد احتمال الارتفاع بمستوى الرفاهية. 3- مدى النجاح في تحقيق درجة أكبر من المساواة في توزيع الدخل، أي في منع تركز الدخل في أيد قليلة، والنجاح في توزيع ثمرات النمو على أكبر عدد ممكن من الناس.

أما الديون الخارجية، فتظهر أهميتها في أن ارتفاع حجم المديونية واستمرارها لفترة طويلة لا بد أن ؤثر في هذه المؤشرات الثلاث. ارتفاع المديونية وازدياد عبء خدماتها (أي عبء دفع أقساط الديون وفوائدها) لا بد عاجلاً أو آجلاً أن يضعف من القدرة على الاستمرار ومن ثم على رفع معدل نمو الإنتاج الإجمالي ومتوسط الدخل، وكذلك يضعف القدرة على تصحيح الهيكل الإنتاجي بتوجيه مزيد من الاستثمارات إلى قطاع الصناعة التحويلية، وكذلك يضعف القدرة على التخفيف من حدة التفاوت في الدخول، إذ إنه في فترات النمو البطيء أو الركود تشتد عادة مقاومة أصحاب الدخول العالية لأي محاولة لإعادة توزيع الدخل لصالح أصحاب الدخول المتدنية. ويمكن استخدام التشبيه التالي لتصوير دور المديونية الخارجية في تقييم الأداء الاقتصادي. فأنت قد لا تدكر بمجرد النظر إلى شخصين سائرين في الطريق أيهما الدائن وأيهما المدين، ولكن إذا استمرت المديونية فترة كافية من الزمن، تزداد قدرتك على هذا التمييز، إذ تلاحظ تدهور حالة الملابس التي يرتديها المدين بالمقارنة بما يرتديه الدائن، واختلاف نوع المطاعم التي قد يقصدها هذا وذاك، (مما يعبر عن متوسط الدخل)، وقد تكتشف تدهور قدرة المدين على إرسال أولاده إلى أفضل المدارس (ضمان استمرار الزيادة في الدخل)، وربما أيضاً تدهور قدرته على دفع أجور مجزية لمن يقوم بخدمته (توزيع الدخل). إذا نظرنا إلى تطور أحوال الاقتصاد المصري خلال القرنين الماضيين، سوف نلاحظ تتابع فترات الأداء الجيد والأداء المتواضع أن السيء في جانب أو آخر من هذه الجوانب الثلاثة، أو فيها كلها، ولن يكون من الصعب رد هذا النجاح أو الفشل إلى أحد العاملين الآتيين أو كليهما: 1- تغيرات في الظروف الاقتصادية والسياسية في العالم الخارجي، انعكاسها في الأحوال في مصر، إما عن طريق خلق فرص أوسع أو أضيق للتصدير والاستيراد، أو للحصول على رءوس الأموال الأجنبية (قروضاً كانت أو استثمارات خاصة)، أو عن طريق زيادة أو نقص الضغوط التي تتعرض لها مصر من القوى الخارجية التي تحاول فرض إرادتها وتوجيه السياسة الاقتصادية المصرية بما يتفق مع مصالحها حتى لو تعارضت مع المصلحة المصرية. 2- تغير النظام الاقتصادي (أو طبيعة السياسة الاقتصادية المطبقة) في مصر من نظام تحكم فيه الدولة سيطرتها على الاقتصاد إلى نظام يتسم برخاوة الدولة وضعف دورها أو بالعكس، من نظام الدولة الضعيفة أو قليلة الدخل في الاقتصاد إلى الدولة القوية، وكذلك درجة ما يشيع من فساد يؤثر بالضرورة على طبيعة القرارات الاقتصادية، من جانب الدولة والأفراد على حد سواء.

هذان العاملان متداخلان بلا شك، إذ أن قدرة الدولة المصرية على ممارسة سياستها الاقتصادية المستقلة وفرض نظام الدولة القوية تتوقف بدرجة أو بأخرى على مدى ملاءمة الظروف الدولية، ومدى سماحها أو عدم سماحها لدولة في مثل ظروف مصر بهذا الاستقلال، وعلى حجم الضغوط الدولية التي يجري فرضها على مصر بحيث تلعب دور "الدولة الرخوة" إزاء المصالح الأجنبية والمستفيدين منها في داخل مصر. ورغم اعترافي بأن العامل الثاني (أي الظروف المحلية داخل مصر) ذو أثر مهم بلا شك في مسار الاقتصاد المصري، فإني أميل بشدة إلى تغليب دور العامل الأول (أي الظروف الخارجية) بما في ذلك أثره في تشكيل الظروف المحلية. إن بعض مناهج البحث التي يجوز اتباعها في دراسة التطور الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي في دولة مستقلة لا تخضع لأي نوع من الضغط السياسي أو الاقتصادي من قوة خارجية، لا يجوز أن تطبق في دراسة تطور دولة لا تتمتع بهذا الاستقلال. فإذا جاز أن تكون نقطة الانطلاق في تفسير التطور الاقتصادي للنوع الأول من البلاد، هي البحث فيما تحوزه هذه البلاد من موارد طبيعية أو بشرية، أو تطور فنون الإنتاج فيها، وإذا جاز أن يركز في تفسير تطورها السياسي على تطور موازين القوة بين طبقاتها الاجتماعية، أو حتى على الخصائص الشخصية للحاكم، وفي تفسير تطورها الثقافي على أساس تفاعل هذه العوامل جميعاً، فإن نقطة الانطلاق في تفسير التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي في دولة تخضع بدرجة عالية لقوى خارجية وللنفوذ الأجنبي، يجب أن تكون ما يحدث في الدولة المسيطرة نفسها من تطورات. قد يكون للموارد الطبيعية والبشرية في الدولة الخاضعة أثر لا يمكن إنكاره فيما يطرأ على هذه الدولة من تطور اقتصادي، ولكن الأغلب أن تكون درجة استغلال هذه الموارد، بل وأحياناً مجرد اكتشافها، محكومة بطبيعة المصالح السائدة في الدولة المسيطرة. وقد يكون لتغير ميزان القوى بين الطبقات الاجتماعية في الدولة الخاضعة أثر كبير في تغير نظامها الاقتصادي والسياسي، ولكن كثيراً ما يعجز هذا التغير عن تفسير تطورات على أكبر قدر من الأهمية في هذا النظام. فقد يحل نظام الاقتصاد المفتوح محل اقتصاد مغلق، دون أن يكون قد طرأ تغير يذكر على ميزان القوى الاجتماعية الداخلية. وقد يصاب النمو الاقتصادي بالشلل التام نتيجة انقلاب في نظام الحكم ليس للتغيرات الاجتماعية الداخلية يد في إحداثه، أو نتيجة لهزيمة عسكرية في حرب لم يكن لأية طبقة اجتماعية في الداخل دور في نشوبها. وقد تدخل مجموعة من الدول الخاضعة في نزاعات بعضها مع بعض، ويتحقق فيها بعض النفع لبعض الطبقات أو الفئات الحاكمة، وقد تغذيها أهواء بعض الحكام أو مطامعها الشخصية، ومع ذلك تعجز كل تلك الأحداث عن تفسير فشل هذه الدول في التعاون فيما بينها، أو في تحقيق اندماجها، في الوقت الذي يستند فيه هذا الاندماج إلى مصالح اجتماعية داخلية لا تقل قوتها الذاتية، ودرجة نضوجها عن قوة المصالح الداخلية المضادة لها. بتضافر هذين العاملين (الخارجي والمحلي) مع التركيز على العامل الخارجي، يمكن تفسير ما طرأ من تغيرات على أداء الاقتصاد المصري، بين مرحلة وأخرى، خلال مائتي العام الماضية.

(2)

في الثلاثين عاماً الأولى من حكم محمد علي (1810-1840)، بعد استبعاد السنوات الأولى التي قضاها الوالي في تثبيت أقدام حكمه لمصر والتخلص من أعدائه، كان أداء الاقتصاد المصري رائعاً طبقاً للمعيارين الأولين، بل وكذلك، بمعنى ما المعاني، طبقاً للمعيار الثالث أيضاً. لقد حققت مصر في تلك العقود الثلاثة ثورة صناعية صغيرة، وثورة زراعية كذلك، ارتفع بسببها الدخل القومي المصري بدرجة لم تتحقق خلال عدة مئات سابقة من السنين، وزاد بسببها عدد السكان إلى ما يقرب من الضعف بعد ثبات أو تدهور في القرون الثلاثة السابقة على الأقل. أدى النمو الصناعي السريع إلى تغير في الهيكل الإنتاجي لصالح الصناعة التحويلية كان يبشر باستمرار النمو في العقود التالية لولا ما حدث في 1840. وبالرغم من أن حكم محمد علي كان حكماً استبدادياً، ولم يكن، كما لم يكن العصر بأكمله، يهتم بتقريب الفوارق بين الطبقات، فقد أدى تحسن مستوى التغذية وازدياد فرص العمالة في المشروعات الصناعية والزراعية الجديدة إلى رفع مستوى المعيشة للفلاحين ولمن انتقل منهم إلى المدن، ولابد أن أدى ذلك، مع عدم سماح محمد علي بتراكم الثروات أو الملكية الزراعية في أيد قليلة، إلى تحسن في توزيع الدخل. كانت الدولة القوية إذن عاملاً مهماً في تقدم مصر الاقتصادي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، بأي معيار من معايير التقدم الثلاثة. ولكن قيام هذه الدولة القوية نفسه لا يمكن تفسيره بمجرد صدفة مجيء شخص قوي، وشديد الطموح هو محمد علي، إلى مصر من ألبانيا، ونجاحه في تحقيق درجة عالية من الاستقلال عن الدولة العثمانية والتخلص من خصومه في داخل مصر. إن التاريخ مليء حقاً بالصدف المهمة، ولكن الذي يسمح أو لا يسمح لبعض الصدف بإحداث آثار مهمة هو ما يحيط بها من ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهكذا كان الحال في مصر. فمن ناحية، شكل ضعف الدولة العثمانية إغراء كبيراً لوالي مصر بمحاولة الاستقلال عنها. ومن ناحية أخرى، فإن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدول الأوروبية خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر، لم تمل على هذه الدول ضرورة التدخل لمنع قيام الحركات الاستقلالية في المشرق العربي، فأوروبا لما تفق من حروب نابليون إلا في أعقاب 1815، وكانت حجة الصناعات الناشئة في بريطانيا وفرنسا إلى أسواق البلاد العربية ومواده الخام ما زالت محدودة، وكان أمام رأس المال المتراكم فيهما رص واسعة للاستثمار المحلي لم تستغل بعد. لقد كان من أهم المصالح البريطانية طوال القرن الماضي تأمين طريق تجارتها مع الهند، ولكن طوال العقود الأربع من القرن ظل الطريق المفضل إلى الهند هو طريق رأس الرجاء الصالح، إذ لم تكن السفن البخارية قد بدأ استخدامها بعد في الطريق بين أوروبا والهند، واقتصر استخدامها حتى 1830 على الملاحة الداخلية في إنجلترا وعبر القنال الإنجليزي. وكان الطريق إلى الهند عبر الفرات والخليج العربي، الذي أضفى فيما بعد أهمية خاصة على العراق، شديد البطء والمخاطر في ظل استخدام السفن الشراعية، وكان طريق البحر الأحمر، الذي أضفى فيما بعد أهمية خاصة على مصر، طريقاً مغلقاً أمام هذه السفن، بسبب ظروف الجو، لعدة شهور من كل عام. لقد قيل في تفسير فشل تجربة محمد علي أن الصناعات التي أقامها كانت باهظة التكاليف، وأن المنسوجات التي كانت تنتجها مصانعه كانت أعلى نفقة بكثير من أسعار المنسوجات البريطانية التي كان يمكنه استيرادها، وأنه مع حلول 1840 كانت خسائره قد وصلت إلى حد كانت ستجبره عاجلاً أو آجلاً على التخلي عن محاولة تحويل مصر إلى بلد صناعي، وهاجمه الساسة البريطانيون لتطبيقه نظام السخرة في بعض المشروعات العامة، وقال عنه بالمرستون، وزير الخارجية البريطانية، في 1833 إنه "ليس أكثر من همجي جاهل، نجح عن طريق المكر والجرأة والذكاء الفطري في الثورة والتمرد... إني أنظر إلى ما يزعمه من تمدينه لمصر على أنه كذب وخداع محض، وأعتقد أنه ليس بأقل استبداداً وإرهاباً من أي حاكم آخر استبعد شعبه من قبل". كما قيل إن سقوط حكمه في سوريا يرجع إلى ارتفاع ضرائبه وتطبيقه الصارم لنظام الخدمة العسكرية الإجبارية، وأن السودانيين قد سخطوا على نظامه لأسباب مماثلة. وقيل أيضاً إن فتوحات محمد علي العربية لم تكن مدفوعة بأي شعور قومي بل بطموحه الشخصي المحض وأطماعه. ولكن ارتفاع نفقات الصناعة الوطنية لم يمنع دولة قامت بحمايتها من تحقيق صورة صناعية، ولم يمنع الطموح والأطماع الشخصية لقائد أمة من تحقيق آمال أمته، والنجاح والفشل لم يكونا قط مرهونين بنبل الباعث، ولم يمنع التعصب أحداً من الانتصار على خصمه. وإنما يتعين البحث عن الأسباب الحقيقية لفشل حركات الاستقلال العربية فيما لحق العالم الغربي من تغيرات بدأت مع بداية الثلاثينيات من القرن التاسع عشر.


(3)

أبحرت أول سفينة بخارية تعبر البحر الأحمر ف 1830، واستدعى فتح هذا الطريق أمام الملاحة البخارية إقامة محطات لتموين السفن. وإذ كانت عدن هي أفضل ميناء طبيعي على البحر الأحمر، فقد اختيرت عدن لهذه المهمة وتم احتلال بريطانيا لها في 1839. ومن ناحية أخرى، استدعى تأمين هذا الطريق ضد أي تهديد من دولة أوروبية أخرى إما احتلالاً بريطانياً مباشراً أو على الأقل خضوع المنطقة التي يمر بها هذا الطريق لدولة ضعيفة لا تستطيع أن تشكل تهديداً للمصالح البريطانية. وإذ كانت الدولة العثمانية هي هذه الدولة، ظلت المحافظة على تكامل الدولة العثمانية محوراً للسياسة البريطانية إزاء المشرق العربي حتى نهاية القرن. ومن ناحية أخرى أدى استخدام الآلة البخارية في الصناعة البريطانية على نطاق واسع إلى زيادة فائض المنتجات الباحثة عن أسواق التصدير، بينما سمح استخدام الطاقة البخارية في النقل البحري واختراع التلغراف بتخفيض نفقات النقل وتسهيل الاتصال بهذه الأسواق. وكان تبني بريطانيا لسياسة حرية التجارة في 1846 يمثل استجابة لهذه التطورات ودافعاً لفتح أسواق جديدة في الوقت نفسه. وأصبح أي نظام للحماية كالذي فرضه محمد علي، على مصر وسوريا والسودان، يشكل عائقاً أمام التوسع في صادرات المنسوجات البريطانية يتعين إزالته، وأصبح من الضروري أن يتمكن التجار الأوروبيون من إقامة علاقات مباشرة مع شعوب الإمبراطورية العثمانية دون وساطة حكوماتهم، ومن التنقل بحرية في أراضيها دون التعرض للمضايقات والإتاوات وغيرها من الأعباء المالية. كانت بريطانيا قد أصبحت منذ نهاية حروب نابليون بلداً مصدراً لرأس المال، ولكن كان اتجاه فائض رؤوس الأموال البريطانية خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن هو في الأساس نحو إعادة تعمير أوروبا ونحو الاستثمار في مزارع ومناجم الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية. وفي الأربعينيات استوعبت الاستثمارات في مد خطوط السكك الحديدية داخل بريطانيا نفسها الجزء الأكبر من رؤوس الأموال المتاحة. على أنه ابتداءً من منتصف القرن بدأت تظهر الحاجة الملحة لدى أرباب الصناعة البريطانية إلى استغلال مصادر جديدة للمرة الأولية يسمح من ناحية باستمرار زيادة الإنتاج بمعدل مرتفع، ومن ناحية أخرى بتوليد مصدر للدخل للبلاد المستوردة للمنتجات البريطانية. وكان هذا بدوره يستدعي زيادة الاستثمار في توسيع موانئ البلد المصدر للمواد الأولية ومد الطرق والسكك الحديدية فيها. وهكذا أخذت الاستثمارات البريطانية خارج أوروبا، تتجه أساساً إلى تنمية إنتاج المواد الأولية كالصوف في أستراليا والأرجنتين، أو في مزارع الشاي في الهند وسيلان، أو في مناجم الذهب في جنوب أفريقيا...إله، وإلى مشروعات المواصلات الأساسية. وقد قادت بريطانيا حركة الاستثمار الخارجي في النصف الثاني من القرن، حيث نمت استثماراتها الخارجية بمعدل أسرع من استثماراتها داخل حدودها، بل وأخذت استثماراتها في أوروبا نفسها تتضاءل لحساب استثماراتها فيما وراء البحار. ولم تساهم فرنسا في حركة الاستثمار الخارجي المباشر بالدرجة نفسها، بسبب البطء النسبي لنموها الصناعي من ناحية، وبسبب تفضيل المستثمرين الفرنسيين للاستثمار في القروض داخل الدخل الثابت. أما الولايات المتحدة وألمانيا فقد استوعبت الاستثمارات داخل حدودهما ما توفر لديهما من رأس مال. ليس من الصعب في ضوء هذه التطورات تفسير ما طرأ على المشرق العربي وعلى الأخص مصر، من أحداث في نهاية العقد الرابع من القرن. فقد كان "من باب الحماقة الكبرى- على حد تعبير بالمرستون- "أن تقوم بريطانيا، دون أي التزام أخلاقي أو سياسي، بأي عمل من شأنه أن يؤدي بطريق الفرات وطريق السويس إلى الهند، إلى الخضوع لسيطرة محمد علي في الوقت الذي أصبح فيه لهذين الطريقين أهمية سياسية بالغة". ويشير دودويل إلى خطاب أرسله بالمرستون إلى شقيقه في نابولي يقول فيه: "إن المقصد الحقيقي لمحمد علي هو أن ينشئ مملكة عربية تضم كل البلاد التي تتكلم العربية. وقد لا يكون هناك ضرر لهذا العمل في حد ذاته، ولكن من حيث إنه لابد أن يؤدي بالضرورة إلى تقطيع أوصال تركيا، فإنه ليس باستطاعتنا أن نقره أو نؤيده. وفضلاً عن ذلك، فإن سيطرة الأتراك على الطريق إلى الهند ليست في نظرنا أسوأ من خضوع هذا الطريق لحاكم عربي قوي. وفي خطاب آخر كتب بالمرستون إنه "ليس هناك مجال للإنصاف في معاملتنا لمحمد علي... إن السارق لابد دائماً أن يجبر بالقوة على لفظ ما قام بالتهامه". كانت بريطانيا قد زودت العناصر الساخنة على حكم إبراهيم باشا في سوريا بالسلاح والمال، وأرسلت إلى لبنان أحد عملائها (ريتشارد وود) للاتصال بالعناصر الساخطة على حكم الأمير بشير (حليف محمد علي) تحت ستار تعلمه اللغة العربية قبل قيام الثورة ضده بعمين. وسلم الأمير بشير نفسه للبريطانيين في أكتوبر 1840 حيث تم نقله على سفينة بريطانية إلى مالطا. وضربت المدافع البريطانية والنمساوية والعثمانية بيروت وعكا مجبرة إبراهيم باشا على الانسحاب، وأرغمت بوارج أوروبا الحربية، الواقفة أمام ساحل الإسكندرية، محمد علي، على الإذعان لشروط المعاهدة التي أبرمت في لندن في 1830 بين القوى الأوروبية فيما عدا فرنسا، والتي حددت حكم محمد علي بحدود مصر، وعلى تنفيذ معاهدة بالتاليمان التي عقدتها بريطانيا مع الباب العالي في عام 1838، والتي رسمت إطار السياسة التجارية لكل البلاد الخاضعة للإمبراطورية العثمانية حتى قيام الحرب العالمية الأولى. لم تكن بريطانيا لتقدم على إجراء عسكري ضد محد علي لولا اطمئنانها إلى أن فرنسا لن تقوم بمساعدته. لقد كان في الأمر بعض المخاطرة، وانقسم مجلس الوزراء البريطاني على نفسه بين مؤيد للتدخل العسكري ومعارض له خشية التدخل الفرنسي. ولكن بدا احتمال قيام فرنسا بعمل جاد ضد التدخل الأجنبي ضعيفاً. فلا أقل من 60 ألف جندي فرنسي كانوا مشغولين باستكمال احتلال الجزائر، وكان أسطولها في البحر المتوسط أضعف من أن يقف ضد الأسطول البريطاني مدعوماً بتأييد روسيا والنمسا وروسيا. لقد هددت ملك فرنسا والوزراء الفرنسيون والصحافة الفرنسية بالحرب ولكن فرنسا لم تحارب. وقال لوي فيليب "إن المسيو تيير غاضب علي لأني لم أقدم على الحرب، وقال لي إنني سبق أن هددت بالحرب، ولكن الكلام عن الحرب شيء والقيام بالحرب بالفعل شيء مختلف تماماً". فرضت اتفاقية 1838 بين بريطانيا والباب العالي إلغاء كل أنواع الاحتكار الذي كان يمنع التجار البريطاني من إقامة علاقات مباشرة بينهم وبين التجار المحليين، وأدت بالفعل إلى إلغائه في مصر وسوريا ابتداءً من 1840، وفي السودان ابتداءً من 1842. وفرضت الاتفاقية رسوماً جمركية ثابتة منخفضة على الواردات والصادرات (5% على الواردات و12% على الصادرات و3% على التجارة العابرة). وكان مؤدي تطبيقها أن أصبحت المنتجات المحلية تخضع للرسوم لدى تداولها داخل الإمبراطورية العثمانية، بينما خضعت السلع المصدرة والمستوردة مرة أخرى لدى خروجها أو دخولها إلى الإمبراطورية. وفي السنة نفسه (1838) وقعت فرنسا مع الباب العالي اتفاقية مماثلة أصبح بموجبها من حق فرنسا "أن تشتري من أي مكان في الإمبراطورية العثمانية، كافة السلع بدون استثناء، من منتجات الأراضي أو الصناعات في المناطق الخاضعة للإمبراطورية، إما بغرض التجارة أو الاستغلال. وتعهد الباب العالي بإلغاء أي احتكار على المنتجات الزراعية أو أي منتجات أخرى داخل أراضيه، وبأن تلغي التعريفات المفروضة من جانب السلطات المحلية على شراء هذه السلع أو على نقلها من مكان شرائها إلى مكان آخر". وقد زعم بالمرستون أن إلغاء نظام الاحتكار سوف يؤدي إلى زيادة إيرادات الخزانة المصرية والدولة العثمانية "على الرغم من أنه قد يؤدي في المدى القصير إلى إصابة النظام المالي الذي فرضه محمد علي بالشلل". ولكن الذي اصيب بالشلل لم يكن النظام المالي الذي فرضه محمد علي فحسب، بل ومحاولات التصنيع في مصر وسوريا والعراق والسودان، ليس فقط في المدى القصير، بل لفترة تقارب من مائة عم. فقد أدى تطبيق اتفاقية 1838 إلى تدفق البضائع الأوروبية على البلاد العربية، وإلى خروج المواد الاولية لتغذية مصانع أوروبا، وحرمت الصناعات المحلية من المواد الأولية ومن الحماية الجمركية في نفس الوقت. ففي مصر لم تنقض سنوات قليلة على تطبيق الاتفاقية حتى أصبح "كل ما تبقى من ذلك البناء الصناعي الضخم الذي تكلف بناؤه الملايين، لا يزيد على كمية من الآلات التي علاها الصدأ، والمتناثرة في أنحاء البلاد في مبان متداعية مهجورة"، بينما أخذت واردات مصر من المنسوجات البريطانية تزيد بسرعة حتى أصبحت في 1860 ثلاثة أمثال ما كانت عليه في 1835، وزادت صادراتها إلى بريطانيا من القطن الخام حتى أصبحت في 50-1852 ثمانية أمثال ما كانت عليه في 25-1830. وفي دمشق وحلب "لم يبق من 12000 مغزل، التي كانت قائمة في هاتين المدينتين، إلا ما زاد قليلاً على ألف في دمشق وألف وخمسمائة في حلب". وصدرت خامات الحرير من لبنان لتشغيل مصانع النسيج في ليون، بينما "باع النساجون العراقيون مغازلهم وتحولوا إلى مستوردين أو وكلاء لتوزيع السلع ذاتها من النسيج الأوروبي، وتحولت العراق إلى بلد مصدر للصوف والبلح والحبوب. وكتب المستشرق ألفردفون كريمر، اثناء زيارته لدمشق في 1850: "إن السبب الوحيد لتدهور صناعة المنسوجات الحريرية في دمشق، التي كانت مزدهرة يوماً، هو إطلاق حرية استيراد المنتجات البريطانية والسويسرية. إن هذه المنتجات أقل سعراً بنحو الربع من المنسوجات الحريرية الدمشقية، ولكنها أقصر عمراً بكثير. إن الطبقات الفقيرة هي التي تشتري هذه المنسوجات الأوروبية، إذ دفعهم تزايد فقرهم إلى الانصراف عن المنسوجات المحلية الأكثر جودة والأعلى سعراً". وفي السودان، أدى إلغاء نظام الاحتكار في 1842 إلى دخول التجار الأوروبيين لاستغلال عاج الجنوب، ونمت تجارة الرقيق بسرعة "حتى فاقت في أهميتها التجارة المشروعة". واتخذت الاستثمارات الأجنبية في البلاد العربية منذ منتصف القرن وحتى الحرب العالمية الأولى صورتين أساسيتين: الأولى هه الاستثمار المباشر في إقامة مشروعات المواصلات والنقل لخدمة تجارة التصدير والاستيراد، كمد البريطانيين لخطوط السكك الحديدية في مصر والسودان، وتوسيعهم لميناء الإسكندرية، أو توسيع الفرنسيين لميناء بيروت، أو مد السكك الحديدية بين يافا والقدس، وبين بيروت ودمشق، أو شق قناة السويس، أو كإقامة بعض مشروعات النفع العام كالغاز والكهرباء والتلغراف. وقد استغل ضعف الباب العالي والولاة للحصول على الاحتكارات وحقوق الامتياز لإقامة هذه المشروعات بشروط بالغة الإجحاف. حتى يروى أنه عندما قدم ديليسبس إلى حاكم مصر، سعيد باشا، اتفاقية منح الامتياز لشركة قناة السويس، "قام سعيد بتوقيعها دون أن يقرأها، بل ودون أن يعرضها على مستشاريه القانونيين أو الماليين، وكان كافياً في نظره أن ديلسبس صديقه، وأنه تلقى منه وعداً بأن يحصل لنفسه على 15% من الأرباح". والصورة الثانية هي تقديم القروض للولاة بفوائد باهظة، وعلى الأخص لخلفاء محمد علي في مصر وللباب العالي نفسه، وهي قروض بدد الجزء الأكبر منها في الإنفاق على الملاذ الشخصية للوالي وحاشيته، وعلى مشروعات مظهرية قليلة العائد. واستغرق سداد هذه الديون، وغرامات التأخير في سدادها، جزءاً كبيراً من إيرادات الدولة التي لجأت للتعويض عن ذلك إلى زيادة عبء الضرائب على المزارعين.

(4) اتسم العقدان الفاصلان بين نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية (1918-1939) بعدد من التغيرات الهامة التي طرأت على الاقتصاد الغربي وعلى العلاقات الدولية بين القوى الكبرى، حددت أيضاً التغيرات الأساسية التي لحقت بالتطور الاقتصادي والسياسي والثقافي في مصر وسائر البلاد العربية. فمن ناحية، تميزت هذه الفترة عن نصف القرن السابق عليها باختفاء الإمبراطورية العثمانية وانكماشها في دولة صغيرة عديمة المطامح هي تركيا، واختفاء روسيا من المسرح الدولي بعد ثورة أكتوبر 1917، واختفاء ألمانيا كدولة عظمى بهزيمتها العسكرية، وانطواء الولايات المتحدة على نفسها وانشغالها باستغلال مواردها الاقتصادية الهائلة وسوقها الواسعة، وانحصر التنافس الدولي على مناطق النفوذ بين إنجلترا وفرنسا. وهكذا بينما كانت البلاد العربية الإفريقية، باستثناء ليبيا التي احتلتها إيطاليا قبيل الحرب، قد تم توزيعها بين مناطق نفوذ بريطانية أو فرنسية، تم توزيع البلاد العربية الأخرى الموروثة من الإمبراطورية العثمانية بين الدولتين. شهدت سنوات ما بين الحربين أيضاً فترة الكساد العظيم في الاقتصاد الغربي. فبالمقارنة بنصف القرن السابق على نشوب الحرب، الذي شهدت فيه أوروبا نمواً عظيماً في الإنتاج والاستثمار والتجارة الدولية، لم تعرف أوروبا خلال العقدين 1918-1939 فترة يمكن وصفها بفترة رخاء عدا فترة السنوات الخمس 1925-1930. فقد استغرقت أوروبا خلال السنوات السبع التالية للحرب (1918-1925) في إعادة بناء ما دمرته الحرب، ولم يبلغ إنتاج أوروبا ما كان عليه في 1913 إلا في سنة 1925. وبعد فترة قصيرة من الرخاء النسبي عاد الإنتاج الأوروبي والأمريكي إلى الانكماش خلال الثلاثينيات بدرجة لم يعرف لها مثيل في تاريخ الاقتصاد الغربي، حتى قيل إن فرنسا في 1939 كانت دولة صناعية بدرجة أقل مما كانت عليه قبل عشرة أعوام. وزاد من حدة الكساد ما فرضته الدولة المنتصرة على ألمانيا من أعباء التعويضات، وانسحاب روسيا من التجارة الدولية، وقلة مساهمة الولايات المتحدة فيها، واتباع كل دولة سياسية "إفقار الجار"، بزيادة الحواجز الجمركية حماية لسوقها الوطنية. أدى كل ذلك إلى تباطؤ النمو في التجارة الدولية بدرجة ملحوظة، بالمقارنة بسنوات ما قبل الحرب. فبينما نمت التجارة الدولية في نصف القرن السابق على الحرب بمعدل يفوق معدل نمو الإنتاج، انعكس الأمر خلال الثلاثينيات، فانخفض حجم التجارة الدولية في المنتجات الصناعية بنسبة 13% بيما بين 1929-1938 بالمقارنة بزيادة في الإنتاج العالمي منها بنسبة 20%، وانخفضت كمية الصادرات البريطانية بنسبة 22%، والأمريكية بنسبة 26% والألمانية 38% والفرنسية 45% في الفترة نفسها. وشهدت حركة الاستثمارات الدولية اتجاهاً مماثلاً، إذ لم يعد لبريطانيا فائض من رأس المال لتصديره، وانتهى تاريخه الطويل كمصدر صاف لرأس المال. بينما اتجه الجزء الأكبر من المدخرات الأمريكية إلى الاستثمار في الداخل بحيث يقدر البعض أن حجم الاستثمارات الخاصة للولايات المتحدة في الخارج كان في نهاية الحرب العالمية الثانية أقل مما كان في 1939. وهكذا فاق حجم سداد الديون الدولية القديمة خلال الثلاثينيات حجم القروض الجديدة، وانخفض الاستثمار الدولي الصافي إلى ما يقرب من الصفر. لا عجب أن تحولت مصر في تلك الفترة إلى تسديد ديونها بدلاً من الاقتراض، بل وتحولت مصر خلال سنوات الحرب العالمية الثانية إلى دولة دائنة لبريطانيا كما سبق أن رأينا. أدى انكماش الإنتاج والدخل في الدول الغربية إلى تراخ في طلب هذه الدول السلع الغذائية والمواد الأولية التي تنتجها المستعمرات، وساعد على ذلك ايضاً لجزء الدول الصناعية إلى حماية إنتاجها الزراعي وتخفيض وارداتها الزراعية لمواجهة الانخفاض في صادراتها ولحماية مزارعيها من انخفضا أسعار منتجاتهم. كما ساعد عليه انخفاض معدل النمو في السكان انخفاضاً كبيراً في أعقاب الحرب. وأدى كل ذلك إلى تراخي معدل نمو التجارة الدولية في المواد الأولية والغذائية، فكان الرقم القياسي لحجم التجارة الدولية في المواد الغذائية في 1937، 935.5 (1929=100) وفي المواد الأولية 108 بالمقارنة بالرقمين القياسيين لحجم الإنتاج العالمي من كل منها: 108 و116 في السنة نفسها على التوالي. إن هذه التطورات التي لحقت بالاقتصاد الغربي في فترة ما بين الحربين، أكثر من أي تطور داخلي، هي التي تفسر لنا ازدهار حركة التصنيع في البلاد العربية في الثلاثينيات. فإذا كانت قوة الضغط الخارجي هي التي حطمت المحاولة الأولى لبناء صناعة حديثة في منتصف القرن الماضي، فإن تراخي هذا الضغط، بسبب انخفاض الدخل، وانخفاض القدرة على التصدير والاستيراد في الدول الغربية، هو الذي سمح لمصر وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق بالقيام بالمحاولة من جديد. بل إننا لا نميل إلى تعليق كمية كبيرة على استرداد هذه البلاد لحريتها في فرض التعريفات الجمركية الحمائية في مطلع الثلاثينيات كتفسير للنهضة الصناعية التي حققتها في هذه الفترة، إذ أن الأرجح هو أن استرداد هذا الحق نفسه ما كان ليتحقق لو كان الاقتصاد الغربي يمر بفترة رخاء وتوسع في التصدير والاستثمار. ففي ظل درجة أكبر من الاستقلال السياسي ومن القدرة العسكرية تم إجبار مصر وسوريا على إلغاء ما كانت تتمتع به صناعاتها بالفعل من حماية حينما كانت صناعات أوروبا تمر بمرحلة من التوسع والازدهار. فلما اصاب أوروبا الركود والانكماش عادت الحيوية من جديد إلى الصناعة العربية. ففي مصر قامت شركات بنك مصر بنشاط صناعي باهر من إقامة محالج القطن ومصانع النسيج على نصاعة الملابس والأحذية، والمنتجات الجلدية والسجاد والورق، إلى تكوين شركات الملاحة النهرية والبحرية والتأمين.. إلخ. وحققت مصر درجة عالية من الاكتفاء الذاتي، تجاوزت في كثير من الصناعات 90% من الاستهلاك، كما في صناعات السكر والسجائر والأحذية والأسمنت والصابون والأثاث. وشهدت فلسطين وسوريا ولبنان والعراق آنذاك ازدهاراً مماثلاً في الصناعات ذاتها. كانت هذه الفترة ايضاً هي التي شهدت بزوغ مبدأ "القومية الاقتصادية" في كل بلد عربي على حدة. إذ بينما سادت القومية الاقتصادية في أوروبا ودخلت دولها في حرب تجارية فيما بينها، فرضت كل دولة عربية الحماية لمنتجاتها الصناعية ضد منتجات الدول العربية الأخرى، خاصة لتلك الخاضعة لدولة أجنبية مختلفة، وقامت صناعات متشابهة في كل منها دون أية محاولة لتحقيق التكامل بين الصناعات الجديدة أو للإفادة من اتساع السوق العربية أمام كل منها. وكما رفعت كل دولة من الدول الأوروبية شعارات تحث مواطنيها على الاقتصار على شراء المنتجات الوطنية، قامت كل واحدة من الدول العربية على انفراد برفع شعارات مماثلة. وهكذا انعكست الحرب التجارية بين إنجلترا وفرنسا في حرب تجارية مماثلة بين مصر وفلسطين والعراق وشرق الأردن، الخاضعة للنفوذ البريطاني، وبين سوريا ولبنان الخاضعين لفرنسا. وبينما سادت درجة عالية من حرية التجارة بين سوريا ولبنان وكذلك بين مصر والسودان، وبين فلسطين وشرق الأردن، أنهت شرق الأردن في الثلاثينيات الاتفاق التجاري المعقود بينها وبين سوريا في 1923، وأنهت فلسطين اتفاقية 1939 التجارية مع سوريا. وعندما خضعت سوريا ولبنان لفترة قصيرة في 1940 لحكومة فيشي إثر احتلال ألمانيا لفرنسا، اختفت تجارة سوريا ولبنان مع البلاد العربية الأخرى اختفاءاً تاماً، وعندما انهزمت قوات هذه الحكومة في سوريا ولبنان في السنة التالية انضمت الدولتان إلى منطقة الإسترليني وعادت التجارة بينهما وبين الدول العربية المجاورة.

(5)

بانتهاء الحرب العالمية الثانية حلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، باعتبارهما الدولتين العظيمتين الجديدتين، محل بريطانيا وفرنسا اللتين أدت الحرب إلى اعتمادهما على المعونة الاقتصادية التي قدمتها الولايات المتحدة أثناءها، وعلى استمرار هذه المعونة لإعادة بناء ما دمرته الحرب، بينما نجت الولايات المتحدة من دمار الحرب، واكتسب الاتحاد السوفيتي قوة سياسية واقتصادية جديدة باحتلاله لدول شرقي أوروبا ولما ظهر به كحامل رسالة جديدة للعالم بأسره، وما حظي به بسبب ذلك من تأييد الحركات الاشتراكية داخل العالم الثالث والعالم الغربي بنفسه. ومن ناحية أخرى، أبرزت الحرب العالمية الثانية بدرجة أكبر بكثير من الحرب الأولى، أهمية النفط في إحراز النصر العسكري وفي النمو الاقتصادي على السواء. كما اكتسب النفط أهمية جديدة بعد الحرب لشدة حاجة أوروبا إليه في إعادة التعمير، الأمر الذي علقت عليه الولايات المتحدة نفسها أهمية كبيرة لمنع انتشار النفوذ السوفيتي على غرب أوروبا. وقد برزت بوجه خاص أهمية نفط الشرق الأوسط بعد الاكتشافات الكبيرة التي تحققت قبل الحرب، وبسبب انخفاض نفقة انتاجه انخفاضاً كبيراً بالمقارنة بنفط الولايات المتحدة وفنزويلا. وهكذا تحددت مصالح الولايات المتحدة في المنطقة العربية بالمصالح الرئيسية الثلاث الآتية: إحلال النفوذ الأمريكي محل النفوذ البريطاني والفرنسي الآخذ في الزوال، ومنع الاتحاد السوفيتي من اكتساب موطئ قدم له في المنطقة، وضمان تدفق النفط على أوروبا الغربية، مع اكتساب امتيازات جديدة لشركات النفط الأمريكية على حساب المصالح النفطية في أوروبا أو بالتعاون معها. أما إحلال النفوذ الأمريكي محل النفوذ البريطاني والفرنسي فقد تحقق في بعض الأحوال دون الحاجة إلى ممارسة الضغط الأمريكي، كلما كان ضغط الحركات الوطنية من الداخل وضعف قدرة الدولتين على مواجهتها، كافياً لتحقيق الانسحاب، ولكنه استدعى في أحوال أخرى ضغطاً مباشراً من الولايات المتحدة لإجبار الدولتين على تقليص نفوذهما أو على قبول الولايات المتحدة شريكاً لهما. وفي أحوال كثيرة بدت الانقلابات العسكرية التي تؤيدها الولايات المتحدة، قبل أو بعد قيامها، أنسب الطرق لتحقيق هذا الانتقال، إذ كان من الصعب على الولايات المتحدة الاعتماد على الطبقة الاجتماعية نفسها التي اعتمدت عليها بريطانيا وفرنسا، أو على الحكام التقليديين الذين ترسب لديهم ولاء عميق للدولة الاستعمارية القديمة. ووجدت الولايات المتحدة في ضباط الجيش أداة مناسبة للغاية للسيطرة، تتلاءم مع قلة خبرتها بأوضاع هذه البلاد الاجتماعية والسياسية. وهكذا حصلت سوريا ولبنان على استقلالهما في أعقاب الحرب مباشرة، وتعهدت بريطانيا لمصر في 1954 بالانسحاب من قناة السويس الذي تم بالفعل في منتصف 1956 ومنحت السودان استقلالها في أول العام نفسه. وبدأت في سوريا سلسلة الانقلابات العسكرية ابتداءً من انقلاب حسني الزعيم في 1949، وقام الانقلاب العسكري في مصر في 1952. تميزت فترة السنوات العشر (55-1965) بقيام حركة استقلالية في البلاد العربية تذكر بلا شك بالعقود الأربعة من القرن الماضي. ومع كل ما تحقق في هذه الفترة من مكاسب وما أحيته من آمال في نفوس العرب، فإن من الصعب أن يتجاهل المرء، هنا أيضاً أثر تغير الظروف الدولية، الإستراتيجية والاقتصادية، الذي جعل قيام هذه الحركات أمراً ممكناً. فمن ناحية، تغيرت الظروف الاستراتيجية في العلاقة بين المعسكرين بحيث حل نظام الصواريخ العابرة للقارات والغواصات الحاملة لصواريخ بولاريس في أعالي البحار محل نظام الصواريخ متوسطة المدى باعتباره الرادع الأمريكي الأساسي الجديد، ولم يعد من الاعتبارات الحيوية ربط دول الشرق الأوسط بتحالف عسكري مع الغرب. وهكذا فإنه أياً كانت صحة القول بأن مهاجمة مصر لحلف بغداد في 54-1955 كانت بتأثير من الولايات المتحدة على النظام الجديد في مصر، لأنه كان حلفاً "بريطانياً أكثر من اللازم"، فإنه من المؤكد أن ربط العراق وتركيا وإيران بحلف الأطلنطي عن طريق منظمة الحلف المركزي (CENTO) سرعان ما فقد أهميته، ولم تبذل محاولة جدية لربط دول عربية أخرى. أما مبدأ أيزنهاور الذي أعلن في أعقاب حرب السويس، والذي وصف الوضع المترتب على انتهاء الاستعمار البريطاني والفرنسي بأنه: "فراغ" يحتاج على الولايات المتحدة لملئه، والذي هاجمه جمال عبد الناصر بعنف مماثل لعنف هجومه على حلف بغداد، فإنه لم يكن أكثر من امتداد لسياسة عصر مضيء، وترك ليموت في صمت. وقد كان اعلان هذا المبدأ ونزول القوات الأمريكية إلى أرض لبنان في صيف 1958 وانسحابها السريع، هما آخر إجراء من هذا النوع تتخذه الولايات المتحدة ضد الحركة الوطنية العربية حتى منتصف الستينيات، ولم تلجأ إلى استخدام إسرائيل لشن هجوم على البلاد العربية حتى 1967. كذلك حدث تراخ مماثل في أهمية النفط العربي في نظر السياسة الأمريكية آنذاك، فعلى الرغم من استمرار اعتماد أوروبا الغربية على نفط الشرق الأوسط، فقد تميزت هذه الفترة بتضاؤل أهمية النسبية بسبب إتمام أوروبا لمرحلة إعادة التعمير، وثقتها باستمرار تدفقه إليها مع تباعد خطر سيطرة الاتحاد السوفيتي عليه، ومع تحول سوق النفط من "سوق البائع" إلى "سوق المشتري"، باكتشاف مصادر جديدة له وصعوبة تسويقه خارج أوروبا الغربية. في الوقت نفسه تراخت الأهمية الاقتصادية النسبية للعالم الثالث لنمو الاقتصاد الغربي بسبب مجموعة من العوامل الجديدة التي طرأت على الاقتصاد الأمريكي واقتصاديات أوروبا الغربية. فمن ناحية خلقت نهضة الاقتصاد الأوروبي فرصاً مجزية لتصدير السلع الأمريكية إلى أوروبا ولاستثمارات رءوس الأموال الأمريكية في الصناعات الأوروبية. وأدى قيام السوق الأوروبية المشتركة في 1958، التي لعبت الولايات المتحدة نفسها دوراً أساسياً في تكوينها، إلى خلق سوق واسعة أمام هذه الاستثمارات دون الحاجة إلى إقامة مشروعات متعددة داخل كل دولة أوروبية. وإذا كان الاقتصاد الأمريكي قد عانى فيما بعد من منافسة السوق الأوروبية، فإن هذا الخطر كان يبدو بعيد الاحتمال في أواخر الخمسينيات في ظل هيمنة الاقتصاد الأمريكي ومركز الدولار القوي آنذاك. كذلك أدى انخفاض مستوى الأجور وارتفاع نسبة البطالة في أوروبا الغربية بالنسبة لمستواهما في الولايات المتحدة إلى ارتفاع درجة الاستثمار في أوروبا ارتفاعاً واضحاً عنها في الولايات المتحدة، حيث قدر معدل الربح في ألمانيا الغربية في منتصف الخمسينيات بنحو ضعف معدله في الولايات المتحدة. وهكذا زاد حجم الاستثمارات الأمريكية المباشرة في دول السوق الأوروبية المشتركة بأكثر من الضعف في سنتين (من 400 مليون دولار في 1959 إلى 840 مليون في 1961)، وبلغت الصادرات الأمريكية إلى دول السوق في نهاية الستينيات نحو ثلاثة أمثال ما كانت عليه في نهاية الخمسينيات. ومن ناحية أخرى، صاحب هذه الزيادة في أهمية السوق الأوروبية كمجال للاستثمار والتجارة، انخفاض في أهمية التجارة والاستثمار في المواد الأولية التي تنتجها دول العالم الثالث، نتيجة لانتعاش الإنتاج الزراعي في الدول الصناعية، وزيادة درجة الحماية التي تمنحها هذه الدول لإنتاجها الزراعي، وتزايد إحلال المواد الصناعية محل المنتجات الطبيعية. ومن ثم اتجه حجم الاستثمارات الجديدة التي تقوم بها الدول الصناعية في العالم الثالث إلى الانخفاض، واتجه معدل التبادل الدولي ضد دول العالم الثالث مع ميل أسعار المواد الأولية إلى الانخفاض بالنسبة لأسعار المنتجات الصناعية، فانخفض هذا المعدل من 104 في 1955 (1963= 100) إلى 88 في 1965، وانخفض نصيب صادرات دول العالم الثالث إلى الدول الصناعية في إجمالي التجارة الدولية من 24% إلى 18.5% في 1965، ونصيب صادرات الدول الصناعية إلى دول العالم الثالث من 22% إلى 19، بينما زاد نصيب صادرات الدول الصناعية فيما بينها من 33% إلى 46% في الفترة نفسها. مرة أخرى نشهد كيف يؤدي تراخي الضعف الخارجي وضعف المصالح الاقتصادية للدول الكبرى في دول العالم الثالث إلى قيام حركات وطنية تحقق درجة ملحوظة من النجاح في الاستقلال السياسي والاقتصادي. لقد كانت هذه الأعوام العشرة هي "الفترة المجيدة" في تاريخ دول العالم الثالث طوال فترة ما بعد الحرب، فشهدت هذه الفترة زعماء من نوع جديد مثل نهرو في الهند وسوكارنو في إندونيسيا وعبد الناصر في مصر وبن بيلا في الجزائر ونيكروما في غانا، يرفعون شعار الحياد الإيجابي وينادون بالتضامن الآسيوي الأفريقي. وأصبح عبد الناصر منذ تأميمه لقناة السويس في 1956 رمزاً لنضال دول العالم الثالث ضد الاستعمار، وانتهت تبعية العراق للغرب بقيام ثورة 1958، وقامت حكومة إبراهيم عبود في السودان في أعقاب انقلاب عسكري في السنة نفسها، وحكومة فؤاد شهاب في لبنان في أعقاب حرب أهلية في السنة ذاتها أيضاً. وشهدت الفترة نفسها تكوين منظمة الأقطار المصدرة للنفط في 1959 لمنع التدهور في أسعاره، وقيام ثورة اليمن في 1962، وقيام الثورة ضد الاحتلال البريطاني في عدن. واضطرت الحكومات العربية الأخرى إلى القيام بإصلاحات عاجلة في محاولة لصد تيار الحركة الوطنية، وتهدئة شعوبها المتعاطفة مع الجمهورية العربية المتحدة، فتولى الأمير فيصل في المملكة العربية السعودية مقاليد الحكم في محاولة لوضع حد للإسراف والقيام ببعض الإصلاحات العاجلة في إدارة الحكم، وطردت حكومة الأردن القيادة البريطانية للجيش الأردني، وطلبت حكومة ليبيا والولايات المتحدة إجلاء القواعد الحربية عن أراضيها. في هذه الفترة أيضاً، رفعت كل من مصر وسوريا والعراق شعار الاشتراكية، فأممت القطاعات الأساسية في الاقتصاد القومي، وأصدرت كل من سوريا والعراق قانوناً للإصلاح الزراعي، وخفضت مصر الحد الأقصى للملكية الزراعية، وتبنت كل منها لأول مرة أسلوب التخطيط الشامل للاقتصاد، وأقامت أسواراً جمركية عالية لحماية الصناعة الوطنية، وفرضت القيود على حركات رؤوس الأموال وعلى سوق الصرف الأجنبي، وعلى الأخص فيما يتعلق باستيراد الكماليات، وخفضت من درجة اعتمادها، في التصدير والاستيراد، على دول الكتلة الغربية. وإذا كانت برامج التصنيع والإصلاح الزراعي في كل من سوريا والعراق لم تحظ خلال هذه الفترة بدرجة عالية من النجاح، بسبب قلة حظهما من الاستقرار السياسي، فقد أحرزت مصر نجاحاً أكبر في كلا المجالين، فبلغ معدل النمو في الإنتاج الصناعي 9.3% سنوياً (57-1957) وزاد متوسط الدخل الحقيقي بأكثر من 3% سنوياً (56-19865) بعد ركود طويل لفترة تقرب من 50 عاماً. وعلى الرغم من أن قوانين الإصلاح الزراعي المصرية حتى منتصف الستينيات لم تؤد إلى إعادة توزيع أكثر من 12% من إجمالي الأراضي الزراعية فإنها قد أمنت مستأجري الأراضي الزراعية على دخولهم، ورفعت نصيب الأجور الزراعية في إجمالي الدخل الزراعي. ليس من قبيل الصدفة أن تشهد هذه الفترة أيضاً التجربة الجادة الوحيدة العربية المتجهة لخدمة الاقتصاد العربي لا الأجنبي. فاتحدت مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة في 1958، وأعفيت التجارة بين إقليمي الجمهورية الجديدة من معظم القيود التجارية والتعريفات الجمركية. ووضعت خطتان خمسيتان للإقليمين جرى التنسيق بينهما تنسيقاً كاملاً، فزادت واردات سوريا من مصر فيما بين 57-58 و60-1961 بأكثر من خمسة أمثالها (بالمقارنة بزيادة قدرها 47% في إجمالي الواردات السورية)، وزادت صادرات سوريا إلى مصر بمقدار مرتين ونصف مرة في تلك الفترة نفسها (بالمقارنة بانخفاض قدره 33% في إجمالي الصادرات السورية). وخلال الفترة نفسها أيضاً بتخفيض أو إلغاء الرسوم الجمركية على عدد كبير من السلع. ومن ثم زادت واردات مصر من الدول العربية جميعاً بنسبة 256% فيما بين 55-1956 و64-1965، وارتفع نصيب واردات مصر من الدول العربية إلى إجمالي الواردات المصرية من 5.8% إلى 7.9% في الفترة نفسها. شهدت هذه الفترة أيضاً إبرام اتفاقيات هامة بين عدد من الدول العربية، منها اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية التي تهدف إلى تحقيق التكامل الاقتصادي العربي. ففي 1960 تبنت الجمهورية العربية المتحدة الدعوة إلى تحقيق وحدة اقتصادية عربية كاملة، وفي 1962 أنشئ مجلس الوحدة الاقتصادية لتحقيق هذا الهدف، وفي 1964 صدر قرار بإنشاء "السوق العربية المشتركة" التي قضت بإلغاء كل القيود التجارية والرسوم الجمركية فيما بين الدول الأطراف، وهي مصر وسوريا والعراق والأردن والكويت، ووضع القرار موضع التنفيذ في الدول الأربع التي صادقت عليه (باستثناء الكويت) في أول يناير 1965. وإذا كان التطبيق العملي لقرار السوق العربية المشتركة لم يصادفه نجاح كبير، على الرغم من بعض الزيادة في نصيب التجارة بين الدول الأطراف في إجمالي تجارتها سواء من حيث قلة عدد الدول المنضمة إليها، أو انسحاب بعض الدول التي وقعتها، أو استمرار الأطراف فيها في تطبيق قيود الحصص واستثناء عدد كبير من السلع من الخضوع لها، فإن الظروف السياسية التي لحقت بالمنطقة العربية بعد 1965 قد لعبت دوراً هاماً في هذا الفشل، وعلينا أن نتذكر أن بداية تطبيق السوق العربية المشتركة قد اقترنت ببداية الانحسار الذي أصاب الاتجاه الذي نتحدث عنه بأكمله. يقول كاتب أمريكي، معلقاً على تطورات العالم العربي خلال هذه الفترة: "إن هذه التطورات قد استقبلتها واشنطن بدرجة من الهدوء لم تكن ممكنة في السنوات العشر السابقة". ونحن نميل في تفسير ذلك إلى تليق أكبر قدر من الأهمية على مجموعة التغيرات التي ألمحنا إليها التي طرأت على نظام الدفاع الغربي، وعلى انخفاض الأهمية النسبية للتجارة والاستثمار في المنطقة العربية، والعالم الثالث بوجه عام، من وجهة نظر الاقتصاد الأمريكي، بالإضافة إلى ما كانت تحققه حركة القومية العربية من بعض النفع للولايات المتحدة في تصفية آخر معاقل الاستعمار البريطاني والفرنسي في الجزائر ولبنان والأردن وجنوب الجزيرة العربية. وأهم من كل ذلك سمح استمرار التنافس الحاد بين المعسكرين لدول العالم الثالث أن تستخدم كلا منهما في منع وقوعها فريسة للآخر، الأمر الذي سمح لدولة كمصر أن تحصل على كميات كبيرة من المعونات الغذائية الأمريكية ومن المعونات السوفيتية لبناء السد العالي، وتمويل بعض المشروعات الصناعية، بينما كانت الحكومة المصرية تهاجم كلا المعسكرين.


(6)

مع انتصاف الستينيات، بدأت مظاهر الوهن تظهر على الاقتصاد الأمريكي، وظهر أن فترة هيمنة الاقتصاد الأمريكي على الاقتصاد الغربي، والتي استمرت طوال العشرين عاماً التالية للحرب، قد أوشكت على الأفول. فمع استرداد اقتصادات أوروبا الغربية واليابان لقوتها بعد عشرين عاماً من النمو المطرد، بدأت تلك الاقتصادات التي كان نموها السريع في الخمسينيات عملاً مساعداً بل وشرطاً للنمو السريع في الولايات المتحدة، تشكل تهديداً حقيقياً للاقتصاد الأمريكي. فمع تقدم أوروبا الغربية نحو التكامل الصناعي، وتحقيق صناعاتها درجة عالية من الاندماج والتركز، أخذت كثرة من الصناعات الأمريكية تفقد تفوقها الناتج عن ضخامة الحجم. ففي الصناعات الكيميائية والنفطية وصناعة الصلب والآلات، زال تماماً أو كاد يزول هذا الفارق. وتضاءل فارق الحجم بشدة في صناعات أخرى كالسيارات والآلات الحاسبة. ومن ناحية أخرى، أدى دخول السوق الأوروبية المشتركة في اتفاقات تجارية تفضيلية مع دول البحر المتوسط وأفريقيا وأوروبا الشمالية وبعض دول الكومنولث إلى الإضرار بالصادرات الأمريكية، بينما أدى التقدم في تحقيق التكامل الزراعي بين دول السوق إلى فقدان الصادرات الزراعية الأمريكية نحو 40% من مبيعاتها لأوروبا الغربية خلال أربع سنوات (68-1971). وبدأت حركة معاكسة لاتجاه حركة رءوس الاموال الأمريكية إلى أوروبا، الذي ساد في الخمسينيات وأوائل الستينيات، بزيادة اتجاه رءوس الأموال الأوروبية إلى الاستثمار في الولايات المتحدة، بحيث فاقت استثمارات بعض الدول الأوروبية، كهولندا وسويسرا، في الولايات المتحدة، الاستثمارات الأمريكية فيها، كما فاقت مبيعاتها في الولايات المتحدة مبيعات الأخيرة في أرضها. وبعد أن كانت الولايات المتحدة في 1964 هي المصدر الأول إلى ألمانيا الغربية، وهي سوقها الرئيسية في أوروبا الغربية، تراجع ترتيبها إلى المصدر الرابع في أوائل السبعينيات، بينما بلغت صادرات ألمانيا الغربية إلى الولايات المتحدة في 1970 مرتين ونصف قدر ما كانت عليه في 1965، بالمقارنة بزيادة قدرها 33% فقط في السنوات الخمس السابقة (1960-1965). كذلك بدأت الصناعات اليابانية التي اعتمدت في الخمسينيات على استيراد المعرفة الفنية وفنون الإنتاج الأمريكية، تنتج السلع نفسها بنفقة أقل بكثير من نفقة إنتاجها في الولايات المتحدة، بفضل انخفاض مستوى الاستهلاك والأجور، وأخذت تتحدى الشركات الأمريكية ذاتها التي باعتها الفن الإنتاجي في الخمسينيات، وتنافسها في الولايات المتحدة نفسها. وأصبحت أسماء سوني وتويوتا وميتسوبيشي أسماء شائعة لدى المستهلك الأمريكي، وتحولت اليابان من مستورد صاف من الولايات المتحدة إلى مصدر صاف. وهكذا نجد أنه في النصف الثاني من الستينيات، لم يتجاوز معدل زيادة الصادرات الأمريكية 5.5% سنوياً بالمقارنة بـ9% لدول السوق الأوروبية المشتركة و15% لليابان. وانخفض نصيب الصادرات الأمريكية في إجمالي صادرات العالم من 16% في 1960 إلى 14.5% في 1965 ثم إلى 13.8% في 1970، بينما ارتفع نصيب صادرات دول السوق الأوروبية في السنوات العشر ذاتها من 23.5% إلى 28%، ونصيب الصادرات اليابانية من 3.2% إلى 6%، وانخفض نصيب الولايات المتحدة من إجمالي احتياطي الكتلة الغربية من الذهب والعملات الأجنبية من 25% إلى 15% في الفترة نفسها، وأخذت ندرة الدولار تتحول بالتدريج إلى "فائض"، وكف الاقتصاد الأمريكي عن أن يكون ذلك الاقتصاد المهيمن الذي لا يجد له منافساً. كان ميزان المدفوعات الأمريكي قد حقق عجزاً منتظماً ابتداءً من 1958، نتيجة تضخم النفقات الحربية والاستثمارات الأمريكية في الخارج، ولكن هذا العجز ازداد حدة ابتداءاً من منتصف الستينيات بسبب تصعيد حرب فيتنام، فزاد الإنفاق الحربي الأمريكي في الخارج بنسبة 90% فيما بين 65 و1968، وبلغت الزيادة السنوية في عجز ميزان المدفوعات في هذه الفترة 1.2 ألف مليون دولار. وإذا لم يكن من الممكن الاعتماد في تمويل حرب فيتنام على زيادة الضرائب بسبب المعارضة الداخلية العنيفة لهذه الحرب، جرى تمويلها أساساً عن طريق عجز الميزانية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع موجة التضخم، وزاد من ضعف القدرة التنافسية للصادرات الأمريكية، وزاد الطلب على الواردات. والواقع أنه منذ 1966 كان الميزان التجاري الأمريكي يحقق عجزاً منتظماً وإن لم يكن معلناً بسبب ما جرت عليه وزارة التجارة الأمريكية من إدراج بعض ما تمنحه الولايات المتحدة من معونات ضمن قيمة صادراتها، وعدم إدراج نفقات التأمين والشحن ضمن قيمة الواردات. في حين كان استبعاد الأولى من قيمة الصادرات وإضافة الثانية إلى قيمة الواردات من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عجز سنوي في الميزان التجاري منذ 1966 تبلغ قيمته الإجمالية المتراكمة حتى نهاية 1970 نحو 15 بليون دولار. ترتب على هذا التدهور في ميزان المدفوعات الأمريكي انخفاض احتياطي الولايات المتحدة من الذهب والعملات الأجنبية من 95% من قيمة الواردات في 1963 إلى 31% في 1970. وحينما بلغ الاحتياطي من الذهب ما لا يزيد على 10 بليون دولار اضطرت الحكومة الأمريكية إلى إعلان وقف قابلية الدولار للتحويل إلى ذهب في أغسطس 1971 وزيادة الرسوم الجمركية، ثم لجأت إلى تخفيض قيمة الدولار في ديسمبر من العام ذاته بنسبة 8.57% بالنسبة للذهب وبنسبة 12% بالنسبة للعملات الأجنبية الأساسية، على أمل أن يؤدي هذا إلى تخفيض الواردات وزيادة الصادرات. ولكن ظهر في العام التالي أن عجز الميزان التجاري قد زاد إلى 6.8 بليون دولار أي إلى أكثر من ثلاثة أمثال مقداره في 1971، وبلغ العجز في ميزان المدفوعات 40 بليوناً من الدولارات أو ما يساوي العجز المتراكم في ميزان المدفوعات عبر فترة عشرين عاماً (50-1970). وكان معظم العجز في الميزان التجاري في 1972 في مواجهة كندا وألمانيا الغربية واليابان، وهي الدول الثلاث التي كانت التجارة معها تزود الميزان الأمريكي بنحو 30% من فائضه في بداية الستينيات. من هذا نتبين الأهمية التي اكتسبتها دول العالم الثالث كمجال لتصريف الصادرات الأمريكية. ليس معنى هذا بالطبع أن الصناعة الأمريكية لم تعد قادرة على زيادة مبيعاتها عاماً بعد عام داخل السوق الأمريكية أو الأوروبية أو اليابانية، وإنما معناه أن معدل النمو في الطلب داخل الدول الصناعية لم يعد كافياً لضمان معدل النمو المطلوب في الإنتاج. خاصة مع ارتفاع مستوى الإنفاق على بحوث تطوير الإنتاج الذي أصبح يتطلب زيادة معدل الإنتاج والتصريف بدرجة أكبر من ذي قبل. في مقال بعنوان: "من أجل اقتناص فرص جديدة، الشعار الآن هو: فلنذهب إلى الخارج: نشرته مجلة "U.S. News and World Report" في يونيو 1964، جاءت الفقرة الآتية: "إن رجال الأعمال الأمريكيين يتحققون، يوماً بعد يوم، من أن الأسواق الخارجية، وليس السوق الأمريكية، هي التي تقدم لهم أكبر فرص النمو في المستقبل، ويزداد الشعور بينهم بأن السوق الأمريكية، رغم اتساعها، قد كانت تصل إلى درجة التشبع". واقتبست المجلة المذكورة حديثاً لمدير شركة جنرال إلكتريك يتنبأ فيه بأنه "بصرف النظر عن التقلبات السياسية والاقتصادية، سوف تكون الأسواق الخارجية أسرع الأسواق نمواً خلال ربع القرن القادم... وكثير من المشروعات تحقق في خارج الولايات المتحدة ضعف ما تحققه من عائد في الداخل"، وحديثاً لأحد المسئولين في شركة كولجين- بالموليف الأمريكية يقول فيه: "إنكم تعملون في سوق تم إشباعها: ولا يسمح بالنمو إلا عن طريق إنتاج منتجات جديدة، أما في الخارج فإن هناك ملايين من الناس يبلغون كل عام مرحلة من نموهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي تسمح لهم بشراء الصابون ومعجون الأسنان وأشياء أخرى مما نعرضه للبيع". وعبر عن الأمل نفسه مدير المبيعات في أكبر شركات السجائر في البرازيل، التي تمتلك المصالح الأمريكية والبريطانية 70% من رأس مالها، إذ قال إنه يطمح "عن طريق الدعاية التلفزيونية للسجاير في البرازيل (بعد منعها في تلفزيون الولايات المتحدة) أن يفوز بنحو ستة أو سبعة ملايين مدخن برازيلي جديد". ومن ناحية أخرى، أدى ارتفاع مستوى الأجور في الولايات المتحدة وزيادة ندرة بعض المواد الأولية الأساسية فيها، وزيادة حدة الشعور بما يشكله النمو الصناعي من تهديد للبيئة، إلى زيادة جاذبية الاستثمار الصناعي في دول العالم الثالث، بما تقدمه من فرص العمل الرخيص ووفرة بعض المواد الأولية غير المستغلة، وحيث ما زالت الصناعة تعتبر رمزاً للتقدم تهون معه التضحية بنظافة البيئة. ففيما يتعلق بمستوى الأجور، بلغ عنصر الأجور في نفقة إنتاج جهاز واحد للتلفزيون في الولايات المتحدة 56 دولاراً بالمقارنة بما لا يزيد عن 4.5 دولارات تدفعها الشركة الأمريكية نفسها في مصنعها الجديد في تايوان، وفي صناعة المنتجات الإلكترونية 2.31 دولاراً في الولايات المتحدة بالمقارنة بـ0.53 دولار في المكسيك، وفي صناعة الأحذية 2.49 دولار ي الولايات المتحدة مقارنة بـ0.4 دولار في ترينداد... وهكذا. وفيما يتعلق بالمواد الأولية، زادت نسبة واردات الولايات المتحدة من عدد المواد الأولية الأساسية إلى مجموع استهلاكها زيادة كبيرة فيما بين 1950 و1970. ففي البوكسايت زادة هذه النسبة من 64% إلى 85% في هذه الفترة، وفي خام الحديد من 8% إلى 31%، وفي المنجنيز من 88% إلى 95% وفي القصدير من 77% إلى 98%، وفي الزنك من 38% إلى 59%. وبلغت نسبة واردات الولايات المتحدة من هذه المواد من العالم الثالث إلى مجموع وارداتها: 95% للبوكسايت و32% للحديد و57% للمنجنيز و21% للزنك. وفيما يتعلق بتلوث البيئة، فإن زيادة القيود المفروضة على الصناعة بهدف حماية البيئة داخل الولايات المتحدة جعلت نقل بعض الصناعات، خاصة الصناعات البتروكيماوية، إلى بعض دول العالم الثالث، إجراء اقتصادياً، حيث يعفيها غياب هذه القيود من تحمل النفقات التي يتطلبها تخفيض درجة التلوث. إن الاعتبارات الثلاثة المذكورة، وهي: ارتفاع مستوى الأجور، وندرة بعض المواد الأولية، وزيادة القيود المتعلقة بحماية البيئة، بدأت تعمل أيضاً على جذب الصناعتين الأوروبية واليابانية في اتجاه العالم الثالث. فمع اقتراب الستينيات من نهايتها، كانت أوروبا الغربية واليابان قد أنهت مرحلة طويلة استطاعت خلالها الصناعتان الأوروبية واليابانية أن تعتمد على فائض من القوى العاملة الوطنية أو الوافدة، واستوعبتا أعداداً كبيرة من عمال الدول المجاورة الأقل دخلاً. ومع انخفاض هذا الفائض وارتفاع مستوى الدخل في أوروبا اليابان زادت مطالب العمال حدة وطموحاً، وانفجرت سلسلة من الاضرابات العمالية في دولة بعد أخرى، أدت بصناعة بعد أخرى إلى إغلاق أبوابها ثم الرضوخ إلى مطالب العامل برفع مستوى الأجور. فارتفع متوسط الأجور في اليابان في أواخر الستينيات بنحو 17% سنوياً، وفي إيطاليا ارتفع متوسط الأجور في أعقاب "خريف 1969 الساخن" بنسبة 18%، وفي ألمانيا ارتفع متوسط الأجور في بعض الصناعات فيما بين 69 و1972 بما لا يقل عن 50%. ووجدت الصناعات الأوروبية واليابانية الحل، كما وجدته الصناعة الأمريكية، في نقل جزء متزايد من عملياتها الإنتاجية إلى دول العالم الثالث، وإلى دول أوروبا الشرقية، وكذلك إلى دول غرب أوروبا الاقل دخلاً كإسبانيا. فعلى سبيل المثال، عندما وجدت شركة سيارات فولكس فاجن، وهي أكبر الشركات الألمانية، بأن أرباحها انخفضت خلال ثلاث سنوات إلى أقل من العشر، بسبب ارتفاع مستوى الأجور، لجأت إلى نقل جزء كبير من إنتاجها إلى البرازيل والمكسيك، وأقامت صناعات للتجميع في فنزويلا وإندونيسيا. وإذ انخفضت ارباح شركة فيات الإيطالية بنحو 60% في 1970 نقلت الشركة ايضاً جزءاً من إنتاجها إلى البرازيل، ولحقت بها شركة تويوتا اليابانية في 1973. وإذ وجدت شركات الأجهزة الإلكترونية الأوروبية واليابانية والأمريكية، بعد سنوات من الإنتاج في تايوان وكوريا الجنوبية، أن مستوى الأجور هنا أيضاً قد ارتفع إلى أكثر من دولار في اليوم، شرعت في نقل إنتاجها إلى ماليزيا وإندونيسيا حيث لا يزيد متوسط الأجور على 30 سنتاً في اليوم. بهذا يمكن تفسير الزيادة الكبيرة التي طرأت على حركة رؤوس الأموال الخاصة من الدول المتقدمة إلى دول العالم الثالث. إذ بينما انخفض معدل تدفق الاستثمارات الأمريكية الخاصة إلى الدول النامية في النصف الأول من الستينيات بالمقارنة بالفترة 56-1959 بنحو الثلث، زاد هذا المعدل إلى أكث رمن الضعف فيما بين 60-1964 و65-1969. كذلك بينما زاد معدل تدفق الاستثمارات الخاصة من دول السوق الأوروبية المشتركة إلى الدول النامية فيما بين 56-1959 و60-1964 بنسبة 12%، قفز إلى نحو الضعف في الفترة التالية: بينما زادت الاستثمارات اليابانية إلى نحو اربعة أمثالها فيما بين 56-1959 و60-1964، وإلى أكثر من الضعف فيما بين 60-1964 و65-1969, في أوائل الستينيات طرأ على العلاقات الدولية تغير من نوع آخر كان ذا أثر بالغ على التطور السياسي والاقتصادي لدول العالم الثالث بأسره. هو بداية عهد الانفراج بين المعسكرين. فقد أبرزت الأزمة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة حول قواعد الصواريخ السوفيتية في كوريا في 1962، وتهديد كل من الطرفين للآخر بالحرب، ضرورة وضع حد لاحتمال نشوء مواجهة أخرى قد تفضي إلى حرب نووية. وانتهى الطرفان، خاصة بعد مقتل كنيدي في أواخر 1963، وسقوط خروتشوف في 1964، إلى الاعتراف بحق كل منهما في أن يسعى إلى كسب نفوذ له في دولة ما من دول العالم الثالث دون أن يترتب على ذلك تدخل عسكري على الاقل من جانب الطرف الآخر، وإن كان من الممكن أن تكون مكاسب كلا الطرفين موضع مفاوضة فيما بينهما. ومن الممكن أن يسعى كل منهما إلى الظفر بعملاء جدد، ولكن على كل منهما أن يحذر عمليه من الاعتماد على الدولة الحامية في مواجهة عميل للطرف الآخر. ساعد أيضاً على حدوث الانفراج في العلاقة بين المعسكرين فضلاً عن اشتداد حدة النزاع بين الاتحاد السوفيتي والصين، أن تبين كل منهما أن الانفراج يمكن أن يساعده على حل بعض المشكلات الاقتصادية الأساسية. فالولايات المتحدة رأت في أسواق أوروبا الشرقية، وعلى الأخص في الاتحاد السوفيتي، بضخامة سكانه وانخفاض مستوى الاستهلاك فيه بالنسبة للولايات المتحدة، الفرصة نفساه التي رأتها في دول العالم الثالث لزيادة صادراتها وتحسين ميزان مدفوعاتها، فضلاً عن مزايا إضافية تتمثل في الاستقرار السياسي في الاتحاد السوفيتي، وانعدام الإضرابات العمالية. في الوقت نفسه كان الاتحاد السوفيتي قد بدأ، تحت وطأة بطء النمو في إنتاجه الزراعي، وتباطؤ معدل النمو في الناتج القومي بصفة عامة، يدرك ما يمكن تحقيقه من منافع عن طريق استيراد أنواع معينة من السلع وفنون الإنتاج الغربية يمكن بها تطوير بعض الصناعات السوفيتية، وتوفير بعض المستخدمات اللازمة لرفع معدل النمو في الزراعة، واستغلال موارد سيبيريا الغنية من النفط والغاز الطبيعي. وهكذا عندما عقد مؤتمر القمة الأمريكي- السوفيتي في موسكو في يونيو 1972، عرض بريجنيف على نيكسون خريطة تبين موارد سيبيريا الطائلة قائلاً: "هذه هي الثروة التي نحن على استعداد لاقتسامها معكم". ونشرت البرافدا مقالاً أشارت فيه إلى أن: "هذا التعاون بين المؤسسات السوفيتية والمشروعات الأمريكية في تطوير.. مواردنا الطبيعية، والذي يحقق منافع للطرفين، يمكن في رأينا، أن يكون طريقاً من أكثر الطرق إثماراً ومدعاة للأمل... وسوف يخلق قاعدة وطيدة وطويلة الأمد لتوسيع وتدعيم العلاقات التجارية والاقتصادية السوفيتية الأمريكية". وفي يوليو 1972 عقد الاتحاد السوفيتي أكبر صفقة لشراء الحبوب من الولايات المتحدة بلغت قيمتها 750 مليون دولار، وفتح أبوابه لاستيراد الآلات الزراعية ومصانع الكيماويات الأمريكية. وما إن حل منتصف 1973 حتى كانت الشركة الأمريكية وشركات أوروبا الغربية قد أبرمت أكثر من 1200 اتفاقاً للتعاون الاقتصادي مع أوروبا الشرقية. وصرح نائب وزير الخارجية الأمريكي في أبريل 1973 بأنه: "في الوقت الذي تحقق فيه عجزاً في ميزاننا التجاري مع معظم مناطق العالم يصبح ما نحققه من فائض في تجارتنا مع أوروبا الشرقية أمراً بالغ الأهمية"، ووصف نائب مدير بنك تشيس مانهاتن الانفراج بأنه: "ابن الحاجة"، وبدأ البعض يتكلم عن وجود ما يمكن تسميته "بتوازن الضعف" بدلاً من "توازن القوة". وضعت سياسة الانفراج في العلاقة بين المعسكرين حداً لقدرة دول العالم الثالث على التزام الحياد بينهما، وعلى الاحتفاظ ببعد متساو، أو شبه متساو، بينها وبين كل من الدولتين الكبريين، وعلى تحييد ضغط أي منهما بالحصول على تأييد الأخرى، وعلى تعويض نقص المعونة التي تحصل عليها من واحدة منهما بزيادة معونة الدول الأخرى. وسمح الانفراج لكلا الدولتين بالاطمئنان إلى وقوع مناطق أو دول العالم الثالث تحت نفوذها دون خشية تهديد الطرف الآخر، وبتخفيض مقدار "التبديد" المتضمن فيما تمنحه كل منهما من معونات، هذا التبديد الناتج عن استعداد الطرف الآخر لتقديم المعونة للدولة نفسها. ومن ثم شهدت السنوات التالية لسقوط كنيدي وخروتشوف نهاية عهد الدولتين بالقادة الذين تتحكم "الأيديولوجية" في سياستهم بدرجة أكبر مما ينبغي، وبدأت كلا الدولتين تمارس ضغطاً سافراً على دول تمتعت في السنوات السابقة بدرجة عالية من حرية الحركة، دون أن يزيد رد الفعل من الدولة الأخرى على ترديد بعض عبارات الاحتجاج الإنشائية. وسقطت الحركات الاستقلالية في دولة بعد أخرى من دول العالم الثالث. ففي فترة لا تزيد على العامين (63-1965) سقط نظام سوكارنو في إندونيسيا ونيكروما في غانا وبن بيلا في الجزائر وجولار في البرازيل، بينما ترك نهرو يرحل من هذا العالم بسلام، وبدأ تيتو، الذي لم يكن قد تبقى له من أقطاب عدم الانحياز غير جمال عبد الناصر، يبحث لنفسه عن طريق للتعاون مع اقتصادات أوروبا الغربية. وفي السنوات التالية استعاد الاتحاد السوفيتي سيطرته على أوروبا الشرقية بعد إخضاع تشيكوسلوفاكيا المتمردة في 1968، وزاد نفوذ الاتحاد السوفيتي في جنوب شرقي آسيا في أعقاب حرب فيتنام، وكسب مناطق نفوذ جديدة في أنجولا وإثيوبيا، بينما استبدلت النظم المتحررة أو شبه المتحررة في أمريكا اللاتينية واحداً بعد آخر، بنظم موالية ولاء كاملاً للولايات المتحدة، باستثناء كوريا التي ترسخت تبعيتها بالتدريج للاتحاد السوفيتي. في دولة بعد أخرى من دول العالم الثالث أصبح من غير الممكن إذن أن يكون الولاء لإحدى الدولتين الكبريين ولاء ناقصاً، وأصبحت شعارات عدم الانحياز والحياد الإيجابي من ذكريات الماضي، وتفرغت كل من الدولتين الكبريين لإيجاد الظروف المناسبة لها في كل دولة من الدول التي استتب لها النفوذ فيها. وإذا كان من الطبيعي أن تختلف وسائل إجراء هذا التحول من بلد لآخر من بلاد العالم الثالث، بما يتلاءم مع ظروف كل دولة، فقد كان وجود إسرائيل في قلب المشرق العربي يجعل استخدمها لتحقيق التحول المطلوب هو أكثر الوسائل ملاءمة، بالإضافة إلى إمكانية التحكم في المعونات الاقتصادية الأمريكية، وعلى الأخص المعونات الغذائية، لإحداث التحول نفسه. وقد بدأ الإعداد لاستخدام كلا الوسيلتين قبل حرب 1967 ببضعة أعوام. ففي 1963 زودت الولايات المتحدة إسرائيل بصواريخ هوك، ثم حلت الولايات المتحدة مع تولي جونسون الرئاسة، محل ألمانيا الغربية في تزويد إسرائيل بالدبابات، تلتها صفقة الطائرات المقاتلة سكاي هوك. وهاجمت القوات الإسرائيلية بعض المدن الأردنية في نوفمبر 1966، واشتبكت في معركة جوية مع سوريا في أبريل 1967. وإذ أوشك حلول موعد انتهاء اتفاقية المعونات الغذائية بين الولايات المتحدة مصر (يونيو 1965) أبلغ السفير الأمريكي في القاهرة المصرية بأن حكومته "ليست على استعداد في الوقت الحاضر للدخول في أي نقاش حول تجديد الاتفاقية لأنها غير راضية على سياسة الحكومة المصرية". ولم يكف لإرضاء الولايات المتحدة وقف مصر لمساعدتها لثوار الكونغو، واكتفت الولايات المتحدة بمد الاتفاقية لفترات تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر حتى توقفت المساعدات الأمريكية تماماً في فبراير 1967. وإذ لم يكن الاتحاد السوفيتي على استعداد للقيام بسد النقص في المعونات الأمريكية إلا بتحول مصر إلى دولة موالية تماماً له، لم يعد من الممكن لمصر الارتكان إلى مصادر التمويل الخارجي فأصيبت السياسة الاقتصادية المصرية بالشلل بانتهاء الخطة الخمسية الأولى، وتعرضت خطة السنوات الخمس التالية (65-1970) لتعديلات متوالية حتى طرحت جانباً كلياً، واقتصرت مهمة المخططين على وضع خطط لاستخدام موارد النقد الأجنبي لا تزيد فترة كل منها على ثلاثة أشهر، وظلت الخطة الخمسية الأولى هي خطة مصر الوحيدة التي تستحق هذا الاسم حتى أصبح مبدأ التخطيط الاقتصادي الشامل نفسه من ذكريات الماضي في منتصف السبعينيات. على أن الضربة الكبرى جاءت بالطبع في يونيو 1967، حينما هاجمت إسرائيل كلاً من مصر وسوريا والأردن. ويصف وليام كوانت، الذي أصبح عضواً في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ما حدث داخل دوائر صنع السياسة الأمريكية خلال الأسابيع الثلاثة التالية لإغلاق جمال عبد الناصر لمضيق تيران في 22 مايو 1967 بأنه: "يكاد يكون من المستحيل معرفته على وجه اليقين... فقد انتقل مركز اتخاذ القرارات بسرعة من مستوى خبراء وزارة الخارجية الأمريكية، إلى مراكز الدولة العليا، إلى وزارة الدفاع الأمريكية، إلى رئيس الولايات المتحدة ومستشاريه المقربين". أما الاتحاد السوفيتي فقد شجب العدوان الإسرائيلي، ولكنه كان قد اتفق مع الولايات المتحدة في 5 يونيو 1967، عن طريق استخدم "الخط الساخن" بين الكرملين والبيت الابيض، لأول مرة منذ إنشاء هذا الخط، على ألا يتدخل أي منهما تدخلاً مباشراً في الحرب. وأفاد الاتحاد السوفيتي من قيام حالة "اللاحرب واللاسلم" في السنوات التالية للحرب في تدعيم نفوذه في مصر وسوريا، واستغل رغبة مصر في شن حرب استنزاف على إسرائيل في 69-1970، في إقامة مراكز حربية جديدة له في مصر، في محاولة لاتخاذ هذا النفوذ ورقة في مفاوضاته حول مختلف الصفقات السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة. واستمرت هذه المحاولة في أعقاب حركة مايو 1971، التي سقط فيها أنصار الاتحاد السوفيتي من موقع السلطة في مصر، إذ سارع السوفييت بعدها مباشرة لعقد معاهدة "طويلة المدى" للصداقة والتعاون مع مصر، لم يكن يراد منها في الواقع أكثر من الاحتفاظ، لأطول وقت ممكن، بمصر كورقة في التفاوض مع الولايات المتحدة. ولم تنته هذه اللعبة إلا في مايو 1972، خلال مؤتمر القمة بين بريجنيف ونيكسون في موسكو حينما "أكد الاتحاد السوفيتي نهائياً أنه يعلق أهمية أكبر بكثير على تدعيم الانفراج بينه وبين الولايات المتحدة، مما يعلقه من أهمية على التزاماته العسكرية والسياسية للدول العربية، وعلى الأخص لمصر". ولم يجد الاتحاد السوفيتي غضاضة في أن تنسب الحكومة المصرية لنفسها "شرف" طرد الخبراء العسكريين السوفييت من أرضها بعد مؤتمر القمة بشهرين (18 يوليو 1972) ثم "شرف" الإلغاء المنفرد لاتفاقية الصداقة والتعاون، ف يمارس 1976. وأتم الاتحاد السوفيتي سحب عشرين ألفاً من الخبراء قبل الموعد المحدد له، وأصر على أن يكون الانسحاب كاملاً، فتم سحب قواعد ومعدات لم يشملها قرار الحكومة المصرية، وأعلن الاتحاد السوفيتي أن سحب الخبراء من مصر قد تم "بعد أن أتموا المهمة الملقاة على عاتقهم". وتفرغ الاتحاد السوفيتي بعد ذلك لاسترداد ديونه من مصر، ورفض التساهل بتأجيلها أو تخفيض حجمها، فعقدت اتفاقيات تجارية متتالية في 74 و75 و1976 تميزت كلها بزيادة قيمة صادرات مصر للاتحاد السوفيتي على وارداتها منه. وجاء رئيس الولايات المتحدة في زيارة لمصر في يونيو 1974 يتفقد بنفسه معالم تلك الدولة التي ضمت أخيراً إلى منطقة النفوذ الأمريكي، بعد عصيان بدأ قبل ما يقرب من عشرين عاماً عندما تجرأت مصر على شراء السلاح من المعسكر الآخر في 1955. إن ما طرأ من تحولات خطيرة على السياسات الاقتصادية المصرية والتي رفعت شعاراتها بحذر في البداية ثم بجرأة في أوائل السبعينيات، لم تكن إذن نتيجة مجموعة من الأفكار "الذكية" التي طرأت على أذهان بعض السياسيين أو الاقتصاديين، ولا كان حدوثها استجابة لتدهور نتج ن فترة سابقة من الانغلاق الاقتصادي، بل إن هذه الأفكار "الذكية" نفسها، وهذا التدهور نفسه، الذي لم ينتج عن الانغلاق بل عن الصعوبات الموضوعة في طريقه، لم تكن إلا نتاج لتلك التطورات الخارجية التي ألمحنا إليها فيما تقدم.

(7)

يندر أن يقدم لنا التاريخ المصري مثالاً لتشابه صارخ بين تجربتين تاريخيتين، كالذي نجده بين سقوط تجربة محمد علي في منتصف القرن التاسع عشر وسقوط تجربة جمال عبد الناصر في نهاية الستينيات من القرن العشرين، على الرغم من التفاوت الكبير بين ظروف العصرين. ففي مطلع الستينيات كان عبد الناصر في نظر الاتحاد السوفيتي صديقاً يستحق الدعم، وكان الاتحاد السوفيتي يتحدث عن عبد الناصر على نحو يذكر بما قالته وزارة الخارجية الفرنسية عن محمد علي في 1833: "إننا نشعر بغبطة شديدة إذ نرى أننا ساهمنا في قيام وتطور هذه القوة الدولية الجديدة التي تستحق بجدارة أن تحصل على تأييدنا ومساعدتنا، من حيث إننا نحرص حرصاً كبيراً على تحقيق الرخاء في بلاد البحر المتوسط. ونحن على استعداد لأن نمنح الباشا في المستقبل الدرجة نفسها من الصداقة والتأييد التي تلقاها في الماضي من الحكومة الفرنسية". ولكن عندما هددت بريطانيا محمد علي بالحرب لإجباره على الانسحاب من سوريا وتطبيق معاهدة 1838، اكتفت فرنسا بأن تنصح محمد علي بالمقاومة دون أن تقدم له المساعدة، وهددت بالحرب دفاعاً عنه دون أن تحارب. وإذ هاجمت إسرائيل كلاً من مصر وسوريا والأردن في 1967 اكتفى الاتحاد السوفيتي بشجب العدوان والتأييد الأدبي لمصر في الأمم المتحدة، دون أن يحارب في صفها، واعتذر الاتحاد السوفيتي عن تعويض السلاح العربي المفقود، بالسرعة المطلوبة، بأن الأسلحة المطلوبة غير متوفرة بالدرجة الكافية. وبينما جرى تعويض هذا السلاح تدريجياً بعد 1967 بأسلحة سوفيتية، روعي على الدوام ألا يكون السلاح الجديد كافياً لتحرير الأرض، وكان من المفهوم دائماً أن حرب الاستنزاف يجب أن تجري في حدود لا ينبغي تجاوزها. وبينما كان محمد علي يدرك أنه: "كما أن السمكة الكبيرة تبتلع السمكة الصغيرة.. فإن إنجلترا سوف تلتهم مصر يوماً باعتبارها نصيب إنجلترا في ميراث الإمبراطورية التركية"، كان عبد الناصر يدرك منذ بداية الانفراج الدولي وتساقط زعيم بعد آخر من زعماء العالم الثالث أن دوره لا شك آت عن قريب. وقد انقضت فترة ما بين إجبار محمد علي في 1840 على قبول معاهدة لندن وعلى تطبيق اتفاقية 1838 التجارية، وبين وفاته في 1849، لم يفقد فيها محمد علي حكم مصر، ولكنه كان قد فقد أي أمل في تحقيق الاستقلال الاقتصادي لمصر، وأصيبت إرادته بالشلل وموارده بالنضوب بحيث لم يعد من الممكن الاستمرار في محاولة بناء اقتصاد صناعي حديث، وتوحيد البلاد العربية في دولة واحدة. وبالمثل، مرت مصر منذ 1965، وعلى الاخص بعد هزيمة 1967، بفترة، وإن استمر فيها جمال عبد الناصر حاكماً لمصر، فإن إرادته أيضاً كانت قد أصيبت بالشلل، وموارده بالنضوب، بحيث لم يكن من الممكن الاستمرار في تطبيق سياسة الاستقلال الاقتصادي. وظلت الإرادة المصرية مشلولة تماماً عن تحقيق أية خطوة هامة في دفع التنمية الاقتصادية أو في دعم حركات التحرر في الدول العربية الأخرى أو في دول أخرى من دول العالم الثالث أو في قيادة حركة التوحيد العربي. وتراخى معدل النمو في مصر ابتداءً من منتصف الستينيات، إلى ما يقارب أو يقل عن معدل النمو في السكان، واستنفذ الإنفاق العسكري نسبة بالغة الارتفاع من الموارد، ولجأت مصر إلى الاعتماد على المعونة التي تقدمها دول النفط العربية. وتحولت القضية الوطنية بعد 1967 من قضية تحقيق التقدم الاقتصادي أو الاشتراكية أو الوحدة، إلى ذلك المطلب المتواضع وهو مجرد تحرير الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي. وانشغل العرب بمحاولة البحث عن أسباب الهزيمة في أسباب القصور الداخلية، لمجرد أنها أقرب إلى العين وأسهل على الفهم، فضلاً عن إلحاح وسائل الإعلام الأجنبية على "التفوق الإسرائيلي" و"عدم كفاية العربي" كان قد أصبح أقرب إلى التصديق في ظل الانهيار النفسي الذي ترتب على الهزيمة، كما كان من الصعب على كثير من اليساريين المصريين أن يصدقوا أن كبرى الدول الاشتراكية التي تعلقت بها آمال اليسار لعشرات من السنين، يمكن أن تتحكم في سياستها اعتبارات لا صلة لها بمبادئ الاشتراكية إذا تعارضت مع مصالح الدولة السوفيتية. لم يعد إذن من الممكن تحميل الشعب أعباء جديدة أو حتى التركيز على شعارات التنمية أو الاشتراكية، بل أصبح من المطلوب سياسياً استرضاء الشعب في الداخل ولو على حساب التنمية، واسترضاء الحكومات العربية المانحة للمعونة، بل ومحاولة استرضاء الولايات المتحدة التي بدا في يدها سلطة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي أو استمراره. وكما أعقب انتهاء حكم محمد علي سير حثيث من جانب خلفائه إلى فتح باب الاقتصاد على مصراعيه للسلع والاستثمارات الأجنبية، وتخلت الدولة عن سيطرتها على الصناعة والزراعة الوطنية، أعقب انتهاء عهد جمال عبد الناصر في 1970 سير حثيث في الاتجاه نفسه. فصدرت قوانين تشجيع الاستثمارات الأجنبية وإقامة المناطق الحرة، ومنحت الاستثمارات الأجنبية الإعفاءات من ضرائب الدخل، ووارداتها من الرسوم الجمركية، وأرباحها من قيود التحويل إلى الخارج، وملكيتها من المصادرة أو التأميم، وإدارتها من مشاركة العمال. وبدأ بالتدريج اتجاه نحو التخلي عن الملكية العامة في الصناعة وعن تدخل الدولة في الاقتصاد وعن الحماية الممنوحة للصناعة المحلية. وما زال الاقتصاد المصري في رأيي، في هذه اللحظة، أي في سنة 2009، حتى بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على هزيمة 1967، يدفع ثمن هذه الهزيمة، وهي فترة، على الرغم من طولها، ما زالت أقصر من الفترة التي استمر الاقتصاد المصري فيها يدفع ثمن ضربة تجربة محمد علي في 1840، ولكن هذا يحتاج إلى بعض التفصيل. كان العامل الاساسي الحاكم لتطور الاقتصاد المصري خلال ثلث القرن الماضي (1974-2009) هو تبعية مصر الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة. كان الرئيس المصري في السبعينيات (أنور السادات) قد قرر، كما عبر عن ذلك صراحة، أن: "99% من الأوراق في يد الولايات المتحدة" وكان يقصد بهذا أن تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، والوصول إلى أي حل للصراع العربي الإسرائيلي يتوقف على موقف الولايات المتحدة واستعدادها أو عدم استعدادها إلى الوقوف إلى جانبنا. ومن ثم كان من الضروري في نظره، أن تسعى مصر لإرضاء الإدارة الأمريكية وتلبية مطالبها للحصول منها على أكبر قدرة من التأييد لمطالبنا. في هذا الأمر على الأقل كان عهد الرئيس حسني مبارك استمراراً لعهد أنور السادات، فأبدت مصر طوال ثلث القرن الماضي استعداداً مدهشاً لتنفيذ مطالب الأمريكيين، حتى بعد أن استعادت مصر سيناء، وحتى بعد أن ظهر أن الإدارة الأمريكية لا تنوي الانحراف قيد أنملة عن تأييدها للسياسة الإسرائيلية. كانت مطالب الولايات المتحدة طوال تلك القرن الماضي سياسية واقتصادية، وكانت مطالبها الاقتصادية تتخذ في العادة صورة توجيهات و"نصائح" من صندوق النقد الدولي والبنك الدول. وهكذا استمرت سياسة مصر الاقتصادية طوال هذه الفترة تتبع توجيهات هاتين المؤسستين الدوليين إلى جانب توجيهات الإدارة الأمريكية، وكانت النتيجة دائماً في صالح الولايات المتحدة والتجارة والاستثمارات الأمريكية ونادراً ما كانت في صالح مصر. لم تكن سياسة الانفتاح الاقتصادي خطأ، ولكن الصورة التي طبقت بها، باندفاع مبالغ فيه نحو تحرير الاستيراد، ودون تمييز بين الاستثمارات الأجنبية التي تحتاجها مصر وتلك التي لا تحتاجها، ودون محاولة لفرض شروط على المستثمر الأجنبي لتحقيق أكبر مكسب ممكن للاقتصاد المصري وأقل خسارة ممكنة، ودون تمييز بين خصخصة مفيدة وخصخصة مضرة، كان لابد أن يترتب عليها أداء اقتصادي أسوأ بكثير مما كان يمكن تحقيقه لو كانت مصر حرة الإرادة، بحيث ترسم سياستها الاقتصادية باستقلال. فهيكل الجهاز الإنتاجي لم يتغير في الاتجاه المأمول لصالح الصناعة التحولية بل استمر يعتمد على قطاعات غير مأمونة وشديدة التقلب، كالبترول وقناة السويس والسياحة، واستمر قطاع الخدمات ينمو بسرعة تفوق سرعة نمو القطاعات السلعية، واستمر توزيع الدخل في التدهور منذ منتصف السبعينيات. لعبت الهجرة من دول الخليج وليبيا دوراً مهماً في رفع معدلات النمو لنحو عشر سنوات، بين منتصف السبعينيات ومنصف الثمانينيات، وفي التخفيف من حدة البطالة التي كان لا بد أن تزيد نتيجة هذه الصورة من صور الانفتاح. ولكن بمجرد أن ضاقت فرص الهجرة منذ منتصف الثمانينيات، أخذ معدل البطالة في الارتفاع، واستمر الارتفاع حتى الآن، خاصة بين المتعلمين. وهكذا بدأ الاقتصاد المصري في القرن الجديد بمعدلات نمو منخفضة في الناتج القومي، وجهاز إنتاج مشوه، وتوزيع للدخل سيء ويزداد سوءاً، ومعدل للبطالة آخذ في الارتفاع. كان قبول السادات لهذه الدرجة من التبعية للولايات المتحدة هو ما منعه من رؤية الأخطار الشديدة للتورط في الديون الخارجية بالدرجة التي تورطت بها مصر في السبعينيات، وكذلك كان تقلب أحوال المديونية الخارجية لمصر في عهد مبارك، من استمرار للتورط فيها في السنوات الاولى لحكم مبارك، إلى الخضوع لشروط وإملاءات صندوق النقد الدولي ابتداءً من سنة 1987، إلى حصول مصر على إعفاءات من جزء كبير من ديونها في مطلع السبعينيات. كل هذا كان محكوماً في الأساس بهذا الارتباط الحديدي بين النظام المصري والإدارة الأمريكية، مما جعل عبء الديون يشتد أحياناً ويخف أحياناً وفقاً لتطور المصالح الأمريكية، ومصالح الدائنين الغربيين، وتطور نظرة الأمريكيين والدائنين إلى حالة الاقتصاد المصري، وتقيمهم لمستقبله فضلاً، بالطبع، عن تقييمهم لما يمكن أن يؤديه النظام المصري من خدمات للسياسة الأمريكية والإسرائيلية. لم يكن إذن لتغير الأوضاع الدولية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أي طوال عهد مبارك، أثر ملحوظ في تمكين مصر من الخروج من قيود التبعية للولايات المتحدة. إذ بعد عشر سنوات من بداية حكم مبارك سقط الاتحاد السوفيتي وانتهت الحرب الباردة، وبدت الولايات المتحدة وكأنها الحاكم بأمره في العالم، وشرعت تضرب يميناً ويساراً الخارجين عن طاعتها، كما بدت، مع بداية القرن الجديد، وكأنها تنفذ مخططاً جديداً للشرق الأوسط بدأ بحرب الخليج، ثم باحتلال العراق، وكثرت المؤتمرات والتصريحات عن "شرق أوسط جديد". وإذا كان الترتيب الجديد للمنطقة لم يتحقق حتى الآن (أي حتى نهاية العقد الأول من القرن)، لأسباب تتعلق في رأيي بصعوبة حصول الولايات المتحدة على تأييد كامل من حلفاء مهيمنة عليها، أو من قوى جديدة صاعدة في شرق آسيا، فإن النظام المصري استمر بيدي استعداداً لتقديم خدماته الإدارية الأمريكية وتحقيق الطلبات الإسرائيلية حتى ولو كان في ذلك ضرر بالغ بتقدم مصر الاقتصادي. هكذا لا بد أن ننظر ممثلاً إلى اتفاقية الكويز التي عقدت بين مصر والولايات المتحدة في ديسمبر 2004، والتي ربطت قدرة الصناعة المصرية على النفاذ إلى السوق الأمريكية بدرجة تعاونها مع إسرائيل، وكذلك تسارع معدل الخصخصة في أعقاب مجيء حكومة مصرية جديدة في 2004، أعلنت ولاءها الكامل لسياسة حرية السوق وفلسفة صندوق النقد الدولي، ورفضها التام لأن يعطل من تنفيذ هذه السياسة أي تنازلات في مجال تحسين توزيع الدخل وتخفيف أعباء الفقراء. هذا الاستسلام التام الذي بدأ في سنة 2004، إزاء المطالب الإسرائيلية من ناحية، ومطالب رأس المال الدولي والأمريكي بوجه خاص، من ناحية أخرى، هو الذي يفسر، في رأيي، تدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة إلى مصر، ابتداءً من 2005، بمعدلات أكبر بكثير مما عهدته مصر منذ بداية الأخذ بسياسة الانفتاح قبل ذلك بثلاثين عاماً. وكان لا بد أن يظهر أثر ذلك في ارتفاع معدلات نمو الناتج القومي، وزيادة حصيلة مصر من العملات الأجنبية، وتحسن في قدرة مصر على التصدير، دون أن يقترن هذا بأي تحسن في معدلات البطالة أو في توزيع الدخل. فلما حدثت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، وتدهور بسببها معدل تدفق الاستثمارات الاجنبية ومعدل نمو الناتج القومي وحالة الصادرات، ولم يكن هذا إلا مثالاً جديداً لما يجب أن يصيب اقتصاداً انفتحت أبوابه على مصارعيها على الاقتصاد العالمي، دون أي ضابط، مما يذكرنا من جديد بأن فترات النهضة الحقيقية للاقتصاد المصري كانت دئماً، طوال القرنين الماضيين، هي الفترات التي تتمتع فيها مصر بدرجة معقولة من استقلال الإرادة، تسمح بها درجة معقولة من التحسن في الظروف الدولية.