في ذكرى وفاة عبد الناصر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في ذكرى الخالد جمال

عبدالناصر في ذكري ميلاده التسعين .. بـشـــرٌ أنـا.. كالآخرين

تعليق


عبدالناصر كان لدي أبي دكان صغير: شاي وسكر وصابون وعدس وزيت وملح وسجائر.. وعلي واجهة الدكان صورة ملصوقة بالغراء للرئيس جمال عبدالناصر: الكتفان بعرض الصورة.. لكن الوجه أوسع من الأفق.

كان أبي يبيع ويشتري بـ«المليم»، وكان يلف بضاعته الفقيرة في ورق جرائد: «عبدالناصر يخطب».. «عبدالناصر يتحدي».. «عبدالناصر يبحث».. وكان القرش علي القرش ثروة.

كانت صورة عبدالناصر تنكفئ قليلا فوق رأس ناظر المدرسة، وكانت أصواتنا تندلع من الفناء: «تحيا الجمهورية العربية المتحدة.. عاش الرئيس جمال عبدالناصر».. ثم تحلق في خلاء القرية مثل غيمة، فتنكسف الشمس دقائق، ثم تخرج علي الناس: «لقد زوجته نفسي».

كان رزقنا حلالاً وعشقنا حلالاً وخوفنا حلالاً وغناؤنا حلالاً.. كان كل شيء في حياتنا حلالاً طيباً، لأن «أبانا» يحبنا ويحرسنا ويعطف علينا، يجلس معنا علي عتبات البيوت وأسطح الأفران في زمهرير الشتاء، ويستظل بصفصافنا ونخيلنا في قيظ الصيف. كان يتمدد في الحلم والحكاية والموال.. وحتي في الخرافة: «لو أبوك جمال.. عدي البحر من غير ما تتبل».

لا شأن لنا بـ«متي ولد ومتي يموت ومتي يبعث حياً».. أين يعيش وكيف وماذا يأكل ويلبس!.. هل يضحك ويبكي مثلنا؟ هل يمشي علي الأرض فيحرقها.. أم علي مجرة بين سماءين؟.. ما اسم زوجته؟ وكم ولداً لديه وكم بنتاً؟.. وما كتابه المفضل وأغنيته المفضلة؟.. أهو أهلاوي أم زملكاوي؟.. لا شأن لنا بكل ذلك، لأن «أبانا» ليس دماً ولحماً مثلنا.. بل شظية ضوء اندلعت حين التقي في قلوب الرعايا صوته المجلجل بصورته المعلقة علي واجهة دكان أبي.. وكان أبي يقول لي مزهواً: «عش بشرفك ومت بكبريائه.. لتراه في الجنة».


ســـــيـرة أطــول من العمر

ولد «جمال» في ١٥ يناير ١٩١٨ في ١٨ شارع «قنوات» في حي باكوس في الإسكندرية، كان والده يعمل في مصلحة البريد هناك، وألحق ابنه بالمدرسة الابتدائية في الخطاطبة عام ١٩٢٣، وفي عام ١٩٢٥ التحق بمدرسة النحاسين الابتدائية في الجمالية.

علم عبدالناصر بوفاة والدته في إحدي العطلات عام ١٩٢٦ بعد أن أتم سنته الثالثة في مدرسة النحاسين.

في عام ١٩٣٠ التحق بالقسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية لمدة عام، ثم نقل إلي مدرسة رأس التين الثانوية في الإسكندرية.

بعد مشاغبات عبدالناصر في مدرسته بسبب اشتراكه في المظاهرات نقله والده إلي القاهرة عام ١٩٣٣ وألحقه بمدرسة النهضة في حي الظاهر، لكنه استمر في نشاطه السياسي حتي صار رئيسا لاتحاد مدارس النهضة الثانوية.

قاد عبدالناصر مظاهرة طلابية في ١٣ نوفمبر ١٩٣٥ للتنديد بتصريح بريطانيا، الذي رفضت فيه عودة الحياة الدستورية إلي مصر وذلك بعد تعيين «صمويل هور» وزيرا لخارجية بريطانيا.

بعد أن قرر الالتحاق بالجيش سقط عبدالناصر في كشف الهيئة، لأنه حفيد فلاح من «بني مزار» وابن موظف بسيط في البريد، ورفضته الكلية الحربية، وبعد التحاقه بكلية الحقوق عقدت معاهدة ١٩٣٦ واتجهت النية إلي زيادة عدد ضباط الجيش بصرف النظر عن مستوياتهم الاجتماعية، فقدم عبدالناصر أوراقه مرة أخري وتم قبوله عام ١٩٣٨.

بعد التخرج التحق عبدالناصر بسلاح المشاة ونقل إلي «منقباد» في الصعيد وتعرف علي السادات وزكريا محيي الدين ونقل إلي السودان عام ١٩٣٩.

بعد سلسلة من الترقيات وصل عبدالناصر عام ١٩٤٨ إلي رتبة «مقدم»، وعندما اندلعت الثورة في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وتحولت مصر من ملكية إلي جمهورية تولي محمد نجيب رئاسة الجمهورية ثم عبدالناصر عام ١٩٥٤ حتي توفي في ٢٨ سبتمبر عام ١٩٧٠.

يالها من حياة رائعة

اعتاد عبدالناصر زيارة صديقه القديم عبدالحميد كاظم أسبوعيا في بيته في منشية البكري، ومن خلال هذه الزيارات أعجب بابنته «تحية» التي تزوجها بعد ذلك، وقدم لها أول هدية «جرامافون»، لأنها كانت تحب الموسيقي. وأنجب منها هدي وعبدالحكيم وعبدالحميد وخالد ومني.

كان عبدالناصر أهلاويا.. لكنه كان يخفي ذلك، وكان يحب السينما حتي إنه كان يشاهد ثلاثة أفلام كل ليلة، ومن أقوي المؤثرات في حياته فيلم «يالها من حياة رائعة» إخراج فرانك كابرا، وكثيرا ما تدخل وصرح بعرض الأفلام التي منعتها الرقابة مثل: «أريد أن أعيش»، «شيء من الخوف»، «ميرامار»، «ثرثرة فوق النيل»، «يوميات نائب في الأرياف».

كان عبدالناصر يحب الراديو ولا يفارقه، ويحفظ عن ظهر قلب مواعيد نشرات الأخبار في الإذاعات المختلفة، وكان يحتفظ بالراديو في مكتبه وحجرة نومه دائما مفتوحا.

عندما كان يشعر بالزهق من ضغوط العمل، كان يذهب إلي استراحة المعمورة، خاصة في فصل الصيف، وعندما زاد عليه المرض نصحه الأطباء ببناء حمام سباحة في منزله، لكنه رفض، لأن تكلفته ستتعدي ٥ آلاف جنيه.

بعد الثورة، قرر عبدالناصر إعفاء يوسف رشاد، طبيب الملك فاروق الخاص، بعد تدخل السادات، لأنه كان صديقه القديم.

ورغم أنه لم يكن من اختصاصاته التدخل في الشؤون الداخلية، طلبت حرم الرئيس عبدالناصر من سامي شرف شراء «طقم شاي» لتقديمه للرئيس في عيد ميلاده، لأن «بزبوز» براد الشاي الذي تضعه علي مائة الإفطار «انكسر».

عندما كان يستيقظ في الصباح، كان يدق الجرس أربع مرات: الأولي يستدعي بها السفرجي ليتناول الشاي والعسل، والثانية يستدعي بها طبيبه الخاص، والثالثة تعني أنه سيدخل الحمام، فيدخل السفرجي ومعه آخر ينظفان الحجرة، ويتركان «غيارا» علي السرير، والرابعة يطلب الإفطار الذي كان يتكون عادة من جبنة بيضاء وفول وزبادي، وكان يطلب السيدة حرمه لتناول الإفطار معه.

كان عبدالناصر يحب الجبنة البيضاء وعصير الليمون والبرتقال، وسمح له طبيبه الخاص بأكل تفاح وصله علي سبيل الهدية من لبنان، لأنه لم يشكل خطورة علي صحته.

لم يبالغ عبدالناصر في استخدام الأدوات المكتبية، وكان يتميز بقوة الذاكرة، لدرجة أنه يتذكر تقريرا بالكامل.

يفضل عبدالناصر «الكرافتات» ماركة «سولكا»، وكانت تصله هدايا من أصدقائه، وفي دولابه كان يحتفظ بقماش بدل صوف، أهدي منها قطعة لطبيبه الخاص د. الصاوي.

ولأنه كان يشكو آلام القدمين، فصل عبدالناصر حذاء له في مصنع مصري حسب مواصفات الأطباء، لكنه لم يستخدمه سوي مرتين عاد بعدهما إلي حذائه القديم.

منزل عبدالناصر في منشية البكري، كان مكونا من طابقين وحديقة واسعة، لكنه لم يكن يشبه القصور، وكانت حجرة مكتبه تقع في الدور الأرضي يسارا، والصالون يمينا، وحجرة نومه في الدور فوق الأرضي، وإلي جوارها حجرة نوم السيدة حرمه، ويفصل بينهما الحمام ومائدة الطعام في الصالة الرئيسية.

ملابس عبدالناصر كانت صناعة مصرية، والداخلية ماركة كابو، وكان يفضل البيجامة ذات الخطوط الطولية، ويفصل قمصانه عند الترزي.

في يناير عام ١٩٦٤، صدر قرار من رئيس الجمهورية العربية المتحدة، بتعيين د. الصاوي حبيب طبيبا في رئاسة الجمهورية براتب ٦٧ جنيها، وكانت أولي رحلاته مع الرئيس عبدالناصر بصفته طبيبه الخاص في مايو من العام نفسه.

كان الرئيس عبدالناصر مدخنا منتظما، ومن هواياته لعب الشطرنج والتنس مرة أو مرتين أسبوعيا.

حرمه السيدة تحية عندما تتحدث عنه أمام الغرباء، كانت تشير إليه باسم «السيد الرئيس» لكنها كانت تناديه أمام الأصدقاء الحميمين باسم «الريس».

منزله في منشية البكري يخلو من مظاهر الترف المبالغ فيه، حيث اقتصر العاملون فيه علي جنايني ومربية وطباخ وخادم مائدة، وخادمين آخرين تدفع الحكومة رواتبهما ويخدمان في الغرف التي يستخدمها الرئيس.

لم يستخدم عبدالناصر إحدي سيارتيه الكاديلاك السوداوين الحكوميتين في رحلاته الشخصية أو الخاصة بأسرته، وكان يستخدم سيارته الشخصية «الأوستين» السوداء، والتي استبدل بها بعد الثورة بعامين سيارة «فورد» فستقية.

اقتضت أعباء الرئاسة والأسرة معا، توسعة منزل عبدالناصر مرتين، ولم يزد حراس المنزل علي ستة جنود بملابس رسمية وجنديين في الداخل بملابس مدنية.

كان عبدالناصر يستغرق وقتا طويلا في إفطاره، حيث كان يطالع الصحف، وكان يتناول غداءه في الثانية والنصف ظهرا، وبعد الغداء يقرأ مجموعة أخري من الصحف والمجلات.


نكتة أبكت عبدالناصر

( .. في أحد مشاهد المسلسل الجميل «العندليب» يدخل مدير مكتب رئيس الجمهورية على الزعيم الراحل «جمال عبد الناصر» قائلا له.. «ملف النكت.. يا ريس»! هذه ليست إضافة من كاتب السيناريو، بل حقيقة أكدها عبد الناصر بنفسه خلال خطاب جماهيري عقب شهور من نكسة عام 1967 حين طالب الشعب المصري بـ «تخفيف النكات» لأنها كانت مؤلمة ومؤثرة بقدر ماكانت مضحكة، تطبيقا للقول العربي المأثور.. «شر البلية.. ما يضحك»!! . أطلق مونولوجست مصري شهير «نسيت اسمه» نكتة أثناء إحدى حفلات «أضواء المدينة» التي ينقلها التلفزيون على الهواء مباشرة - في الستينات - جعلت «عبد الناصر» ينتفض من مقعده داخل منزله ويجري اتصالا هاتفيا يطلب فيه استدعاء ثلاثة وزراء في حكومته ليحضروا على الفور وزير المالية، ووزير التموين ووزير التجارة الخارجية !! .. ما هي نكتة ذلك « المونولوجست» التي قلبت كيان رئيس الجمهورية ؟! توجه رجل إلى البقالة لشراء كيس رز خلال أزمة اختفى فيها الرز من السوق فأخبره البقال ان الرز موجود فقط في الاسكندرية، ركب الرجل القطار وأخبر «الكمسري» بانه يريد الذهاب إلى الاسكندرية لشراء كيس رز، وعندما وصل القطار إلى محطة «بنها» - والتي تبعد من الاسكندرية حوالي 50 كيلومترا، قال له الكمسري.. «انزل هنا، لأن طابور الرز اللي بيتباع فيالاسكندرية يبدأ من.. هنا» !! … عبد الناصر التقط الاشارة المرعبة واستدعى الوزراء الثلاثة وطلب منهم استيراد عشرات الآلاف من الاطنان من الرز فورا ومن اي بلد.. في العالم! خلال أسابيع، كان الرز يغمر الأسواق في كل البقالات، واستطاعت نكتة واحدة ان تحقق ما عجزت عنه الصحافة «الرسمية» ومجلس الشعب والاتحاد الاشتراكي وكل أعضاءمجلس قيادة الثورة من بقايا.. الضباط الأحرار!

لكن.. نكتة أخرى أحزنت «عبد الناصر»كثيرا، بل.. وأبكته أيضا حين ورد ذكرها في أحد هذه الملفات التي يسلمها إليه مدير..مكتبه!! ما هي هذه النكتة ؟! تقول ان رجلا اعتاد على النزول من شقته صباح كل يوم ليذهب إلى الحلاق ويستلف منه جريدة الأهرام، ثم ينظر في الصفحة الأولى ويقرأ كل ما فيها و.. يتأفف وينفخ ويلقيها جانبا ويعود إلى منزله، تكرر هذا الأمر عدة مرات على عدة أيام فسأل الحلاق الرجل.. «أنت بتدور على ايه كل يوم في الجورنال»؟! فجاءجوابه.. «أصلي بأفتش في صفحة الوفيات»، فاستغرب الحلاق الإجابة، وقال له.. «بس صفحة الوفيات داخل الجورنال وأنت بتفتش في الصفحة الأولى، فقال الرجل: » أصل اللي مستني وفاته لا يمكن ينشروا اسمه وصورته إلا على.. الصفحة الأولى»! كانت الرسالة واضحة..الرجل - وهي هنا تعني الشعب - ينتظر - وبلهفة - نهاية مرحلة عبدالناصر بوفاته !! و«من هنا، كانت أوامر الرئيس عبد الناصر لطاقم مكتبه بأن يجمعوا له - كل صباح - كل النكات السياسية والاجتماعية وحتى العسكرية ويقدموها له في ملف خاص ليقرأها ويعرف منها حال شعبه وحال أمته العربية.. كلها!



كتب: محمود الكردوسى الملف من إعداد ماهر حسن ١٨/١/٢٠٠٨ الصورة من أرشيف الفنان : حسن دياب