في بلاد العجائب، كامل الكيلاني
في بلاد العجائب، احدى قصص كامل الكيلاني.
نبدأ هذه القصة حين كان هذا العالم الذي نعيش فيه في أول نشأته طفلاً. فقد كانت الدنيا في ذلك الحين منذ آلاف من السنين، في طفولتها، أعني: أنها لم تكن آهلة (عامرة) بالسكان والبلدان. ولم يكن في العالم كله حينئذ إلا تلك البلاد التي نشأ فيها بطلا هذه القصة، فيما يقول القصاصون، أعني: رواة القصص الذين يحكونها.
وقد أطلق القصاصون على تلك البقعة البعيدة من الأرض اسم: بلاد العجائب، لأن كل ما فيها كان عجيباً، لا يصدقه العقل، كما تحدثنا بذلك الأساطير والأخبار الخيالية القديمة.
2- بين لافظ
وقد حاول الباحثون أن يتعرفوا مكان هذه البلاد من الكرة الأرضية ليعرّفوك طريقها، ولكنهم عجزوا عن الاهتداء إليها، ولم يوفقوا إلى مكانها. ولعل السبب في ذلك هو: تقادم العهد (بعد الزمن) على تلك البلاد البعيدة عن سكان الدنيا. على أن الأسطورة تخبرنا: أن غلاماً اسمه لافظ قد نشط في بلاد العجائب من غير أم ولا أب، كما تنشأ الأطفال جميعاً في تلك البلاد كلها.
أراك تتعجب من ذلك، أيها الطفل العزيز! فلماذا؟ ألا تذكر أنني أحدثك عن بلاد العجائب؟ فلا تدهش مما تقرؤه، فإن كل ما في تلك البلاد عجيب، ولولا ذلك لما أطلقت عليها الأساطير اسم "بلاد العجائب".
وكان لافظ يعيش بمفرده (وحده) في بلد من تلك البلاد. ولم يكن له من رفيق (صاحب) يؤنسه ويسليه. وكان يسكن في طفولته بيتاً صغيراً، لا يعرف من بناه له؛ ولكنه وجد نفسه فيه منذ نشأته فاتخذه سكناً له ومأوًى.
3- الصندوق المقفل
فلما كبر الطفل قليلاً، قدمت عليه (جاءت إليه) طفلة اسمها: لاحظة، ولدت في بلد ناءٍ (بعيد) من بلاد العجائب، من غير أم ولا أبي. وبحثت لاحظة عن بيت تأوي إليه (تسكنه) حتى اهتدت إلى بيت لافظ فاتخذته لها سكناً.
ولما رآها لافظ ابتهج لمقدمها، وهشّ لها وبشّ (ابتهج)، واتخذها صديقة له- منذ ذلك اليوم- وتقاسما ذلك البيت. ولكن لاحظة لم تكد تستقر في بيت لافظ حتى استرعى بصرها صندوق مقفل.
فسالت لافظاً عما يحويه ذلك الصندوق، فقال لها: "لست أعرف شيئاً من أمر هذا الصندوق المقفل، ولا دراية لي بما يحويه. ومبلغ علمي أن فيه سراً، لا ينبغي أن يطّلع عليه أحد".
فقالت لاحظة: "فكيف وصل إليك"؟
فقال لها لافظ: "وهذا أيضاً من الأسرار التي لا ينبغي لي (لا يسهل عليّ) أن أبوح بها".
فغضبت لاحظة وقالت لصديقها لافظ:
"تباً لهذا الصندوق، (فليكسر ويحطم). لقد عافته نفسي (كرهته). ولست أطيق رؤيته بعد اليوم ما دمت أجهل ما يحتويه. وما أجدرك أن تقذف به خارج البيت، حتى لا تقع عليه عيناي بعد هذه المرة"!
فقال لها لافظ: "لا يحزنك من أمر هذا الصندوق شيء، ولا تشغلنّ به نفسك بعد اليوم. وهلمّي (تعالي) نلعب مع أصدقائنا من الأطفال لنسرّي (لنُذهب) عن نفسينا ما ألمّ بهما من الكدر، واتصل بهما من الهم".
4- حياة السعداء
كان لافظ ولاحظة يعيشان في بلاد العجائب منذ آلاف السنين. وكانت الدنيا في ذلك العصر السحيق، (الزمن القديم) غير دنيانا هذه التي نعيش فيها. وكان العالم كله حينئذ لا يعرف الشر، ولا يشعر ساكنوه بالألم، ولا يلم المرض بهم، (لا يصيبهم)، ولا يتعرّضون لأي خطر كائناً ما كان.
ولم يكن الأطفال في ذلك العصر يحتاجون إلى آباء وأمهات، للعناية بأمرهم، وتحذيرهم الأخطار، ووقايتهم الأمراض. ولم تكن ثيابهم في حاجة إلى من يصلحها.
وكانت الأرض تنبت أشهى الثمار، وأطيب الفواكه، من غير أن يتعهدها أحد بالبذر، والحرث، والسقي، وما إلى ذلك.
وكانت وسيلة العيش كلها ممهدة، وطرائق الحياة مستقيمة ميسّرة (مهيّأة مسهلة)، والدنيا صافية لا كدر فيها. ولم يكن الأطفال يشكون شيئاً مما يشكوه الناس في هذه الأيام. ولم يكن لهم من عمل يشغلهم طول يومهم إلا اللعب، والجري، والقفز، والضحك، والاستماع إلى شدو الحمائم (غناء الحمام)، وأغاريد البلابل، والابتهاج بروائع الطبيعة، والتأمل في مشاهد الأرض والسماء التي تملأ النفوس بهجة وانشراحاً. ولم يكن الأطفال في ذلك الزمن يعرفون الخصام والمشاجرة، ولا يعتري نفوسهم الضجر (لا يصيبهم القلق)، ولا يدركون شيئاً من معاني الجبن والكذب والألم، وما إلى ذلك من الصفات الحقيرة والنقائص الكبيرة.
5- بدء الشر
وكانت لاحظة لسوء حظها أول طفلة عرفت الحزن في تلك البلاد. وكانت مقدم هذه الطفلة الغريبة عن بلادها البعيدة مصدر شقاء العالم، وسبب نكباته التي نشكو منها إلى الآن. وكان أول ما أحست به لاحظة من الألم، حرمانها رؤية ما يحويه ذلك الصندوق المغلق وحرصها الشديد على تعرف ما فيه من أسرار محجوبة (مستورة). وكان خيراً لها وللناس كلهم من بعدها أن تجهل ما ينطوي عليه ذلك الصندوق من ألغاز وخفايا، وأن تبتعد عما يجلبه عليها من مصائب ورزايا، وأن تريح بالها، فلا تسأل عن أشياء إن بدت لها ساءتها وألحقت بها ضروب البؤس والشقاء، وإن حُجبت عنها نفعتها وأبقت لها ما تمتع به من فنون البهجة والهناء. ولكن فضولها (دخولها فيما لا يعنيها) قد انتهى بها إلى خاتمة محزنة مفزّعة. وكان ذلك الفضول بدء الشر وأصل الفساد الذي طغى على عالمنا الأرضي، منذ ذلك الحين.
6- حوار لافظ ولاحظة
وظلت لاحظة مهمومة مشغولة البال، لا يهدأ لها ثائر (لا يسكن ما يثور في نفسها من القلق)، ولا يرتاح لها خاطر، أو ترى (حتى ترى) ما يحويه الصندوق المغلق، وتتعرف اللغز المستسرّ فيه (تدرك السرّ الخفي الذي يحويه).
وما زال الألم يتجسّم ويعظم في نفسها- يوماً بعد يوم- حتى انتهى بها إلى حسرة. وتبدّل سرورها غماً، وأنسها هماً، وأصبح البيت أقل إشراقاً وبهجة من البيوت الأخرى التي يقطنها أطفال المدينة.
وظلت لاحظة تسائل صاحبها لافظاً مستفسرة منه كل يوم: "كيف جاءك هذا الصندوق؟ وماذا يحويه من ألغاز وأسرار"؟ فلا جيبها لافظ بشيء.
ومرت على ذلك أيام، وهي لا تكف (لا تسكت) عن تكرار هذين السؤالين على صاحبها لافظ حتى ضجر بإلحاحها. وكان هذا أول ضجر شعر به أول طفل من ساكني تلك البلاد. وقد حاول صاحبها أن ينسيها أمر الصندوق ويغريها باللعب مع اطفال المدينة، ولكنها أصرّت على عنادها وقالت له متأففة (متضجرة):
"لقد مللت اللعب، وسئمت اللهو، ولن يرتاح بالي حتى تخبرني بما يحويه الصندوق المغلق". وثمة (هنا) أحسّ لافظ أن الضجر قد بدأ يساور نفسه، أعني: أنه شعر أن السآمة بدأت تلاحقه وتغالبه، لإلحاحها وعنادها فقال لها:
"لقد تأكد لك- مما قلت أكثر من خمسين مرة- أنني أجهل ما يحويه هذا الصندوق، ولا أعرف أي سرّ يخبؤه في ثناياه، فكيف أجيبك إلى طلبتك وأحقق لك أمنيتك"؟
فنظرت إليه بمؤخر عينها، (طرف ناظرها) وقالت له:
" وماذا عليك إذا أذنت لي بفتح هذا الصندوق، لعلنا نتعرف ما يحجبه عن أنظارنا من حقائق"؟
فقطّب لافظ جبينه، حين سمع من لاحظة هذا الكلام الجريء، وسيء وجهه (تغير إلى حال سيئة) من الرعب والفزع. وقال لها مدهوشاً: "ماذا تقولين يا لاحظة؟ أتريدين أن أخالف النصيحة، ولا أوفيَ بالعهد؟ لقد كنت واثقاً من رجاحة عقلك (عظمه)، وأصالة رأيك (جودته)، فكيف تخلفين ظني فيك"؟
7- عطارد
فقالت له لاحظة: "فلا أقلّ من أن تخبرني: كيف عثرت على هذا الصندوق في بيتك"؟
فقال لها لافظ: "لن أضنّ (لن أبخل) عليك بالإجابة عن هذا السؤال، فاعلمي يا عزيزتي أن مَلَكاً (روحاً سماوياً) من الملائك قد جاءني بهذا الصندوق ووضعه في بيتي، وطلب مني ألا أفتحه.
وكان في يده عصاً جميلة. وهو كما رأيته مثال للوداعة، واللطف والذكاء، ولم يستطع أن يكتم ابتسامة كان يحاول إخفاءها حين وضع الصندوق على الأرض. ولو رأيت هذا الملك، لدهشت من جناحيه الشافّين (الرقيقين) الظريفين، وأجبت بما فيهما من الريض الفاخر، المتألق نوراً".
فقالت لاحظة: وكيف كانت عصاه التي يحملها؟
فأجابها لافظ: كانت أغرب عصاً رأيتها في حياتي. وأنت إذا رأيتها خيّل إليك أن ثعبانين قد التفا. لأن براعة النقش الذي عليها قد فاقت كل براعة، حتى لقد حسبت عليها ثعبانين حقاً.
فأطرقت لاحظة قليلاً ثم التفتت إلى لافظ قائلة:
لقد عرفت هذا الملك. فهو بلا شك عطارد. ولست أشك في ذلك، فهو الذي جاء بي إلى هذه المدينة، وأدخلني هذا البيت، وهو الذي أرسل إليّ هذا الصندوق بلا ريب وخصّني به وحدي. وما أشك في أنه قد ملأه بالتحف (الأشياء الثمينة)، والثياب الفاخرة لي ولك".
فقال لها لافظ، وقد أشاح (انحرف وانصرف) بوجهه عنها، متألّماً: ربما كنت على حق، فيما تظنين ولكننا على كل حال لا يحق لنا أن نفتح الصندوق قبل أن يأذن لنا عطارد في فتحه.
8- سخط لاحظة
ثم خرج لافظ من البيت بمفرده وكانت هذه هي المرة الأولى التي خرج فيها دون أن يصحب لاحظة. وإنما دفعه إلى ذلك أنه سئم حوارها (مل حديثها)، وضجر بإلحاحها، وبرم (قلق) بعنادها. وكان يتمنى لو أتيحت له فرصة يلقى فيها عطارداً ليردّ إليه أمانته التي ائتمنه عليها. ويود لو أن عطارداً كان قد وضع ذلك الصندوق في بيت أي طفل آخر. ويأسف لأن ذلك الصندوق المشؤوم قد أثار في نفس لاحظة فضولها وأزعج بالها، وكدّر صفوها.
أما لاحظة فقد اشتدّ همها، وتعاظمها الوجد (اشتد عليها الحزن) وتملكها الفضول لرؤية ما يحويه الصندوق. وقد لعنته لأنه كان سبب همها ومصدر ألمها.
أجل، لقد لعنت الصندوق ألف لعنة لأنه أثار حزنها، فوصفته بالقبح وإن لم يكن قبيحاً. فقد كان خشبه بديعاً، وصنعته دقيقة، وسطحه مصقولاً (ناعم الملمس) كالمرآة: يرى الناظر فيه وجهه. وكانت جوانبه موشّاة (محلاة) بالنقوش الرائعة، التي تمثل جمهرة (جماعة) من حسان الأطفال والرجال والنساء، تحفّهم (تحيط بهم) الأشجار، والأزهار والرياحين من كل جانب.
9- آخرة الفضول
وأطالت لاحظة تأملها وتفكيرها في ذلك الصندوق، فلم تر عليه قفلاً ولا رتاجاً (شيئاً يغلقه). ولكنها أبصرت عقدة مشتبكة بحبل ذهبي. ولم تستطع أن تتعرف مبدأ تلك العقدة أو نهايتها. فزادها ذلك شوقاً إلى إنعام النظر (إطالة الرؤية)، وإمعان الفكر في أمرها.
وأمسكت بالعقدة بين إبهامها (وهي الإصبع الكبرى) وسبابتها (وهي الإصبع التي نشير بها وهي تلي الإبهام). وقد حاولت جهدها أن تهتدي إلى حل العقدة، فلم تفلح، فقالت تحدث نفسها:
"لا شك أنني قادرة على حل هذه العقدة، ولكني أرى من الحكمة والحزم، أن أرجئ (أؤخر) فتحها حتى يحضر لافظ، وإن كنت على ثقة من أنه لن يأذن لي في ذلك. فهو فيما أعلم عنيد أحمق (لا عقل له).
وقد أخطأت لاحظة حين أزمعت (عزمت) فتح الصندوق. وكان أولى بها، وأجدى عليها (أنفع لها): أن تعدل عن هذه الفكرة الخاطئة. ولكنها كانت على كل حال طفلة غير مجرّبة، ولم تكن تعرف أن إقدامها على مخالفة النصيحة سيورثها غماً وهماً لا ينتهيان.
ولعل كثيراً من الأطفال الحمقى، كانوا يفعلون ما فعلته لاحظة لو أنهم كانوا مكانها. وما أظنهم يكونون أكثر عقلاً، وأوفر (أكثر) حزماً من تلك الفتاة الحمقاء.
وجمّاع القول (خلاصة الكلام) أن لاحظة في هذا اليوم لم تطق صبراً على مغالبة فضولها. فانتهى بها الأمر إلى قرار خطير: هو اعتزامها أن تفتح الصندوق، فيا لها من حمقاء بلهاء، (ناقصة العقل).
10- حلّ العقدة
اقتربت لاحظة من الصندوق، وقد أجمعت (عزمت) على فتحه، وحاولت أن ترفعه بيديها عن الأرض، فوجدته ثقيلاً جداً، لأنها كانت- كما حدثتكم- طفلة، ولم يكن لها قدرة على حمل الصندوق، وليس لها طاقة (قوة) على رفعه.
فأفرغت قصارى جهدها (بذلت كل ما في قدرتها) في زحزحة الصندوق عن مكانه، واستطاعت بكدّ واستكراه أن ترفع أحد أطرافه عن الأرض قليلاً ثم خانتها قواها، فسقط الصندوق، وأحدث سقوطه دوياً هائلاً مفزعاً، خيّل إليها أنها تسمع شيئاً يتحرك داخله، فأرهفت أذنيها واصغت، وإذا بصوت أشبه بالطنين، فاشتدت رغبتها في تعرف مصدر هذا الصوت الخافت.
ثم رفعت رأسها، فلاحت منها التفاتة إلى العقدة التي ينتهي بها ذلك الحبل الذهبي. فبحثت جاهدة عن طرفيها، وظلت تعبث بها، وهي تحاول إمكانها لعلها تستطيع أن تحلّ العقدة، حتى وصلت إلى ذلك. كيف اهتدت إلى حل العقدة؟ ذلك ما لم تحدثنا به الأسطورة.
11- تردد لاحظة
وما انتهت إلى هذه الغاية، حتى نفذت (دخلت) أشعة الشمس من نافذة البيت وكانت مفتوحة حينئذ، فطرق سمعها أصوات الأطفال في الخارج، وهم يمرحون ويلعبون. ولعلها سمعت صوت لافظ وهو يتحدث إليهم في فرح واغتباط.
وقد كانت جديرة أن تنتهز هذه الفرصة الجميلة، فتعدل عن فكرتها الطائشة (التي لا صواب فيها) وتخرج لتلعب مع أصحابها وأترابها (من يشبهونها في عمرها) من الأطفال العقلاء، في ذلك اليوم الجميل الصحو. ولكنها لسوء الحظ لم تفعل وأبت إلا أن تتم ما اعتزمته.
ولاحت منها التفاتة، فرأت رأساً متوّجاً بالأزهار والرياحين، هو رأس أحد النقوش التي نقشت على الصندوق، فخيّل إليها أنه ينظر إليها مبتسماً، فقالت في نفسها:
"يظهر في أن هذه الابتسامة الخبيثة إنما تعني السخرية (والاستهزاء) بي، فلأكف عن هذه المجازفة (فلأمتنع عن التدخل في هذا الأمر الخطر)". ثم حاولت أن تربط الأنشوطة (العقدة) كما كانت، فلم توفق إلى ذلك، وضاع تعبها سدًى (من غير فائدة). وحاولت أن تذكر أنشوطة الحبل الذهبي، وكيف كان شكلها لتعيدها كما كانت فلم تفلح.
واعتزمت أن تترك الصندوق، ثم خشيت أن يعود لافظ فيتهمها بأنها خالفت النصيحة، وحاولت أن تفتح الصندوق، ثم عدلت عن فكرتها بعد أن عجزت عن فتحه. ثم عرفت أنها إذا تركته أو وفّقت إلى فتحه سراً، فهي على الحالين قد خانت الأمانة، وخالفت النصح وأتت أمراً لا يجوز.
12- هدية لافظ
ولما رأت نفسها متهمة على الحالتين صممت ومضت في تنفيذ رغبتها وإرضاء فضولها.
فيا لهذه الطفلة الطائشة الحمقاء! لقد كان عليها أن تستمع إلى النصح، ولا تخالف قول لافظ.
وإنها لكذلك، إذ سمعت صوتاً خافتاً يهمس قائلاً:
"افتحي لنا يا لاحظة، فإننا رفاقك الأخيار (أهل الخير الذين يصاحبونك)، ومتى رأيتنا، ملأنا بيتك أنساً وحبوراً (فرحاً) واشتركنا معك في لعبك السارة البهيجة".
فقالت لاحظة في نفسها:
"أي همس أسمع يا ترى؟ أيمكن أن يكون في هذا الصندوق كائن حي يتكلم؟ لا بد من كشف السر. وماذا عليّ إذا رفعت غطاء الصندوق وألقيت على ما فيه نظرة واحدة سريعة، ثم أغلقته في الحال دون أن يعلم أحد بما فعلت"؟
أما لافظ فقد شعر بالحزن في ختام هذا اليوم، بعد أن ضحك مع الأطفال ما شاء أن يضحك، وقد فاجأه الحزن، فلم يدر له سبباً.
وقد حدثتك أيها الطفل العزيز أن الأطفال في ذلك الزمان كانوا سعداء، لا يحزنون ولا يتألمون، ولكن لافظاً شعر بالحزن والألم للمرة الاولى في حياته، ولم يظفر في ذلك اليوم بمثل ما كان يظفر به من العنب الشهي السائغ (المحبوب) والتين الناضج اللذيذ.
ولم يدر أحد من رفاقه سبب أحزانه، كما أنه لم يدر كذلك سبب الانقباض الذي ألمّ به. ثم سئم (كره) اللعب، فعاد أدراجه (رجع في طريقه الذي جاء منه) حتى وصل إلى البيت، ليشرك لاحظة في لعبها، ويدخل السرور على قلبها؛ وقطف لها طاقة (صحبة) من الأزهار ليهديها إليها، ويصنع لها منها إكليلاً يضعه على رأسها. وقد نسّق (نظم) لها تلك الطاقة من مختلف الازهار الجميلة، وألفها من الورد والزنبق، وزهر البرتقال، وما إلى ذلك من الورود العطرة.
13- مقدمُ لافظ
وإنه لعائد في طريقه إلى البيت إذ تلبدت السماء بالغيوم حتى كادت تحجب الشمس. ولم يكد يصل إلى بيته، حتى تكاثفت السحب، وتراكم (تكاثف) الغيم، فاحتجب الضوء (استتر النور)، وساد الظلام فجأة، فامتلأ الجو حزناً وانقباضاً ووحشة.
ثم دخل لافظ البيت وأقفل الباب بخفة ليفاجئ لاحظة مفاجأة سارة، ويضع تاج الأزهار على رأسها خلسة (في خفية) دون أن تفطن لمقدمه (من غير أن تنتبه لحضوره)، ولكنه لم يكد يدخل، حتى أبصر تلك الصبية الطائشة واضعة يدها على غطاء الصندوق وهي تهمّ بفتحه.
وقد كان واجبه يحتم (يوجب) عليه في تلك اللحظة أن يصيح بها محذراً، حتى لا تقدم على تلك الفعلة النكراء (القبيحة). ولو أنه فعل ذلك، لحال (لحجز) بينا وبين وقوع الكارثة (حدوث المصيبة)، ولكنه لسوء الحظ كان ممتلئاً رغبة في تعرف ما في الصندوق، فلم يحذّر صيقته الطائشة من فتحه، وصبر عليها، حتى تتم عملها، ثم يقاسمها ما في الصندوق من نفائس (أشياء ثمينة غالية).
14- فتح الصندوق
لقد كان لافظ قبيل هذه اللحظة مثالاً للأمانة والتعقل والثبات. أما الآن فقد أصبح على العكس من ذلك، مثالاً للخبل (ضعف العقل) والفضول والتسرع. فقد ارتضى لنفسه أن يقرّ صاحبته لاحظة (يوافقها) على فعلتها النكراء، ومن أقرّ مذنباً على ذنبه، أو أعان آثماً على إثمه (نصر مجرماً وساعده في جرمه)، أو شجع مخطئاً على خطئه، فهو شريكه في الاثم والعقاب جميعاً. فلا تعجب أيها الطفل العزيز إذ ساوينا بين لافظ ولاحظة في التثريب (في اللوم والمؤاخذة)، وجعلناهما شريكين في تلك الجريمة التي اقترفاها (ارتكباها) معاً.
والآن: لننظر إلى ما فعلاه: لقد همت لاحظة برفع غطاء الصندوق، ولم تكد تفعل، حتى تكاثف الغيم، وتلبدت السحب فحجبت نور الشمس، وخيم الظلام على الدنيا، حتى خيل إليها أنها أصبحت في مثل ظلام القبر. وما رفعت الغطاء عن الصندوق حتى أبصرت جمهرة من الحشرات المجنحة (ذوات الأجنحة) تخرج طائرة من الصندوق، ثم سمعت صراخ لاحظ وهو يولول (يبكي) قائلاً: "آه، ويلاه! لقد لدغت! لدغت! ألا ساء ما فعلت يا لاحظة! وقبح ما صنعت أيتها الشريرة الخبيثة. وما لنا ولهذا الصندوق الملعون"؟
وارتاعت لاحظة (فزعت) وتملّكها الذعر (استولى عليها الخوف)، فهوى الغطاء من بين يديها وأقفل الصندوق كما كان.
وتكاثف الظلام في الغرفة، حتى عجز لافظ ولاحظة عن رؤية ما فيها بوضوح. ولكن لاحظة سمعت طنيناً مزعجاً، ثم أبصرت بعد قليل أشباحاً (أشكالاً) مفزعة ذات أجنحة، وهي أشبه شيء بالخفافيش (الوطاويط)، ولها إبر طويلة في أذنابها، وكانت إحدى هذه الحشرات هي التي لدغت لافظاً.
ولم تلبث لاحظة أن صاحت من شدة الألم وفرط الرعب، لأن حشرة من تلك الحشرات المفزّعة وقعت على وجهها، وكادت أن تلدغها، لولا أن لافظاً أسرع فطردها وهي تهم بلسع جبينها.
15- أسرة الشر
أراك تسألني أيها الطفل العزيز، أي حشرات هذه الحشرات التي كان يحويها الصندوق؟ فاعلم حفظك الله أن هذه الحشرات التي تصفها لك الأسطورة هي أسرة الشقاء. وقد حلت أسرة الشر والأذى في عالمنا الأرضي، منذ ذلك اليوم. وهذه الأسرة تمثل النزعات (المطالب) الخبيثة، والأهواء الجامحة (الرغبات غير المعقولة)، كما تمثل الهموم المزعجة والأحزان المضنية (المضعفة)، والأمراض الفتاكة التي لا تعد ولا تحصى، وما إلى ذلك من الرزايا والمصائب والمحن التي يشكو منها العالم ويعاني من شرورها إلى اليوم.
وقد أودع عطارد في ذلك الصندوق كل هذه الجراثيم المؤذية، وأغلق باب الصندوق عليها، حتى لا تؤذي أحداً من الأطفال السعداء الذين في العالم.
ولو حرص لافظ ولاحظة على حراسة الصندوق، واحتفظنا بتلك الأمانة من غير أن يعبثا بها، لما أصاب العالم شر، ولا لحقه أذى، ولما تألم رجل ولا بكى طفل إلى اليوم.
ولكن هكذا حكم القضاء، فكانت حماقة فاحظة وسكوت لافظ على عملها، مصدر شقاء العالم بأسره. فلولا أن الفضول دفع لاحظة إلى فتح الصندوق المغلق، ولولا أن لافظاً تراخى في زجرها عما همّت به، لما حلّت النكبات بهذا العالم، طول الدهر.
16- تفاقم الأذى
ولم يطق الطفلان صبراً على البقاء بين الحشرات المؤذية، فأسرعا بفتح الأبواب والنوافذ، ليطرداها خارج الدار، ويتخلصا من شرها وأذاها. فتفاقم الشر وعم الأذى وانتشرت تلك الحشرات الخبيثة في أنحاء المدينة، فقدّلت أفراح الأطفال أتراحاً (آلاماً)، وسرورهم حزناً، وصحتهم مرضاً وأمنهم رعباً.
ولم تسلم أزهار العالم من الغم والأذى، فانحنت من فرط الأسى (من شدة الحزن) يومين كاملين، وفقدت نضرتها (جمالها) وعطرها. ثم كبر الأطفال ووشابوا من الهم والحزن، وكانوا قبل ذلك لا يكبرون ولا يهرمون، وصار الشبان والفتيات والرجال والنساء والكهول يعانون من ضروب الآلام والمصائب ما يعانون.
أما الأذى والشر الذان أصابا لافظاً ولاحظة فقد فاقا كل أذًى وشر. وقد حل الخصام بينهما محل الصفو والوئام، ودبت العداوة بين الناس جميعا.
وجلس لافظ في ركن مظلم من أركان الغرفة، وأدار ظهره إلى لاحظة وشرد ذهنه (ذهب فهمه)، وأغرقته الأحزان.
وارتمت لاحظة على الأرض، وأسندت رأسها إلى الصندوق المشئوم، واستسلمت للبكاء والعويل، وقد كان قلبها يتمزق حزناً وأسىً.
17- هاتف الصندوق
وإنها لكذلك إذ سمعت صوتاً خافتاً ينبعث من جوف الصندوق، فرفعت رأسها مرتاعة وقالت مدهوشة:
"ترى، أي صوت هذا"؟
ثم عاودها الفضول مرة أخرى فصاحت قائلة: "من أنت أيها الهاتف (الصائح الذي أسمع صوته ولا أرى شخصه)؟ من أنت أيها الذي ينادي من جوف هذا الصندوق المشئوم"؟
فانبعث صوت لطيف من جوف الصندوق، يقول لها في أسلوب عذب ولهجة مشفقة (لسان ناطق بالعطف والحنان):
"اكشفي عني غطاء الصندوق، فلن تريْ مني إلى ما يسرّك".
فبكت لاحظة وقالت لذلك الهاتف:
"كلا! كلا! لا سبيل إلى ذلك،وحسبي ما أكابده (ما أقاسيه) من جرّاء فتح الصندوق (بسببه)، وما أعانيه من الآلام والمصائب من أجل هذا الخطأ الشنيع. فالبث حيث أنت في مكانك من الصندوق، وحسب العالم (كفاه) ما يلقاه من أذى رفاقك (أصحابك) وإخوتك، من الحشرات الخبيثة، التي ملأت الدنيا، وطبّقت الآفات (عمت النواحي)، وملأت الجهات".
والتفتت لاحظة إلى صاحبها لافظ لترى رأيه فيما قالته، لعله يشكرها على تعقلها فيما فاهت (نطقت) به هذه المرة، وتسأله أن يشير عليها بما تفعله ولكنه اكتفى بأن قال لها غاضباً:
"لقد ضاعت منا الفرصة، ومضى زمن التعقل".
ثم عاد صوت الهاتف يقول:
"شدّ ما تحسنين صنعاً (ما أجمل ما تصنعين) إذا كشفت عني غطاء الصندوق. فإنني لست مؤذياً كتلك الحشرات التي رأيتها من قبل. وما هي إخوتي كما تظنين. فلا عليك (لا خوف عليك)، إنها العزيزة، وكوني واثقة من أنك ستحمدين لي آثاري (أعمالي)، حين أظهر أمامك".
وكان ضوت ذلك الهاتف حلواً، ونبراته جذابة. وكان قلب لاحظة يرق له (يعطف عليه)، ويرتاح إلى سماع حديثه. فالتفتت إلى لافظ تسأله:
"أسمعت يا لافظ صوت هذا الهاتف الصغير"؟
فأجابها مغضباً عابساً: "سمعت كل شيء، فماذا تريدين"؟
فقالت له: "أترى أن أرفع الغطاء"؟
فقال لها يائساً محزوناً: "افعلي ما بدا لك، فلن تزيدي المصائب إلا واحدة، ولن يضر الناس بعد ذلك أن يضاف همّ واحد إلى ما لحقهم بسببك من الهموم التي لا تحصى".
فقال له وهي تجفف دمعها: "شدّ ما تقسو عليّ في خطابك يا لافظ".
فصاح الهاتف الصغير: "يا له من غلام ماك، إنه ليعلم علم اليقين أنه سيبتهج لرؤيتي، ويفرح بي أشد الفرح. فما باله يتظاهر بأنه زاهد في لقائي؟ هلمي يا لاحظة فاكشفي عني غطاء الصندوق، لأنشق الهواء الطلق، ولن تري مني إلا ما يسرّك ويبهج نفسك المحزونة".
فقالت لاحظة: "لا بد لي من فتح الصندوق مرة أخرى".
فأسرع إليها لافظ وهو يقول: "وإني لمعاونك في رفع غطائه الثقيل".
18- ابتسامة الأمل
ثم تعاون الصغيران على فتح الصندوق، وما كادا يفعلان حتى طار منه شخص صغير، تبدو على فمه ابتسامة عذبة، ويشعّ (يضيء) من وجهه السرور والبهجة في جميع ما حوله، وظلّ يطير في أرجاء الغرفة (نواحيها)، ويشعّ نوره في كل مكان يمر فيه، كما تعكس المرآة أشعة الشمس، فتبدد الحلكة (تذهب الظلمة)، ثم طار صوب لافظ (جهته) ولمس مكان الألم الذي أصابه اللدغ، فزال ألمه في الحال. ثم قبّل لاحظة في جبينها، فزال عن نفسها ما ألمّ بها من الحزن والأسى.
ثم طار فوق رأسيهما، وظل ينظر إليهما متلطّفاً باسماً، حتى انسرى (انكشف وزال) عن نفسيهما كل ما لحقهما من الكدر والألم، وعزّاهما عمّا أصابهما من الأذى، وجعلهما يحمدان ما فعلاه في المرة الثانية، بعد أن حزنا لما فعلاه في المرة الأولى.
ورأينا أنهما أحسنا صنعاً، إذ أطلقا هذا السجين الكريم، وأنقذاه مما كان يعانيه في ذلك الصندوق من أذى أولئك الرفاق الأشرار.
ثم قالت لاحظة: "خبرني، من أنت أيها الطائف (الخيال الطائر) الجميل"؟
فقال لها والنور يشع من وجهه في جميع الأرجاء: "إنهم يسمونني الأمل، وقد سجنوني في هذا الصندوق لأعوض على التعساء والمحزونين كل ما يلم بهم (ما يصيبهم) من ضروب الهم والأذى. فلا تخشيا بعد اليوم شيئاً، فإني كفيل بتبديد ألامكما والقضاء على كل ما تشعران به من الهموم.
19- حديث الأمل
فقالت لاحظة: "ما أجمل جناحيك، وما أشبه لونهما بقوس قزح"!
فابتسم لها الأمل قائلاً: "صدقت يا لاحظة، فإني أشبه بقوس قزح الذي يظهر في السماء بعد المطر فيجمع بين مختلف الألوان، ويؤلف بين أشتاتها. وإنما كنت كذلك، لأنني خلقت من الدموع، كما خلقت من الابتسامات. فأنا ولد الدمع وابن الابتسامة كليهما".
فقال له لافظ: " لعلك باقٍ معنا، ومصاحبنا طول الحياة"؟
فابتسم له الأمل ابتسامة لطيفة عذبة وهو يقول: "إني رفيقكما ومصاحبكما، كلما دعوتماني إليكما. ولو أتأخر عن إسعادكما وإبهاج نفسيكما طول الحياة. وربما مرت بكما أوقات مضجرة، تخيل إليكما أنني قد استخفيت عنكما، وتركتكما إلى غير عودة. ولكنكما لن تلبثا أن تريا جناحيّ يرفرفان على سقف بيتكما، فيبدد نورهما كل ما في قلبيكما من هم وحزن، وسأحمل إليكما هدية نفيسة أقدمها إليكما بعد زمن قليل"!
فصاحا يسألانه في صوت واحد: "بربك خبرنا، أي هدية أعددت لنا"؟
فوضع الأمل إصبعه على فمه الأرجواني (الأحمر)، ثم همس قائلاً: "لا تسألاني عما أعددت لكما من خير، ولكن استمعا إلى نصيحتي الآن، فإن فيها السعادة والنجاح كليهما".
فأرهفا آذانهما واستمعا لنصيحة الأمل، فاستأنف الأمل قائلاً: "لا تيأسا أيها الصديقان، ولا يتسرب القنوط في قلبيكما أبد الدهر (لا يدخل اليأس في نفسيكما، ولا ينقطع رجاؤكما طول عمريكما). ولا تضجرا بشيء في الحياة، فإن مع العسر يسراً، وإن مع الضيق فرجاً، وإن مع الألم أملاً. ولئن فاتكما شيء في هذه الحياة الدنيا، إنكما لظافران بخير منه وأبقى، في الحياة الآخرة. احفظا عني هذه النصيحة، واستمسكا بها طول الحياة، وكونا على ثقة أنني لا أقول لكما غير الحق".
فقال لافظ: "لسنا نرتاب (لا نشك) في شيء مما تقول".
20- خاتمة القصة
وقد صدقهما الأمل وعده، كما صدق كل حيّ من الأحياء بعدهما. ولا يزال الأمل يبددّ آلامنا وأحزاننا إلى اليوم، ويبعث فينا من روح الإقدام والعزم (الشجاعة والقوة) ما يدفعنا إلى النجاح، ويبلّغنا غايات العظائم (الأمور العظيمة)، ويجدد قوانا ويقوّي عزائمنا. ولولا فسحة الأمل لضاقت بنا الدنيا، واستولى اليأس والهم على قلوبنا، ولكنّ ابتسامة الأمل هي وحدها التي تنير لنا طريقنا في الحياة.