في الذكرى الثانية عشرة لأحداث 11سبتمبر
في الذكرى الثانية عشرة لأحداث 11 سبتمبر ذكريات شاهد عيان: مؤلمة ومُلْهِمَة، بقلم علاء الدين الأعرجي، 11 سبتمبر 2013.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقال
يرى العاِلم الرياضي الفلكي لابلاس Laplace أننا لو تمكنّا من الأحاطة الدقيقة والكاملة بكل تفصيلات ما يحدث في العالم في هذه اللحظة بالذات(أي في نقطة على الخط الافتراضي الرقيق الذي يفصل بين الماضي والمستقبل)؛ لكان بإمكاننا أن نعرف بنفس الدقة ما سيحدث في المستقبل . هذه النظرية تثير الكثير من الأسئلة ، منها: هل يمكن أن نستنتج أننا بسبب جهلنا حاضرنا، نجهل مستقبلنا، الذي يفاجئنا غالباً بأحداثه؟ وهل سيساهم علم التاريخ، إذا اكتمل، على استشراف المستقبل على نحو أفضل؟ وهل سيمكننا، بعد ذلك، تجنب الأحداث المؤذية، واستقبال الأحداث المسرّة؟ تبدو الصورة مُغرِقة في المثالية!!!
- * *
لم يتوقع أحد التفجيرات التي حدثت في نيويورك وواشنطن التي ذهب ضحيتها الآلاف والتي أسفرت عن حروب ماحقة ما تزال مستعرة، ذهب ضحيتها الملايين، كما لم يتوقع أحد اندلاع الثورات العربية بعد عشرة أعوام من تلك الأحداث. فهل لهذه الأحداث علاقة مباشرة أوغير مباشرة بهذه الثورات؟
الصباح الذي غير وجه العالم
في صباح ذلك اليوم المشرق الجميل، كنت، أتـناول الإفطار، في حديقة المنزل، المُطلــَّة على نهر الهدسن العريض، مع زوجتي التي استيقظتْ في وقت مبكر، على غير عادتها( في الثامنة صباحا). وفي الضفة الثانية للنهر، تنتصب أمامنا نيويورك، مدينة المال والآمال، والأعمال والجَمال، بكل عظمتها وبهائها: غابة هائلة من ناطحات السحاب الجبّارة، تتحدى العلاء والفضاء، تـتوسطها اثنين من أعلى وأهم الصروح في العالم، هما برجا "مركز التجارة العالمي (110 طوابق) وإمباير ستيت، (102 من الطوابق). وبينما كنت أحتسي قهوتي المفضلة، وبعد أن قمت بواجب إطراء طعام الآفطار الذي قامت زوجتي بإعداده، قلت لها، مُداعباً ومعاكِساً نومها الصباحي الطويل المعتاد :" هل لاحظت ِ، يا حبيبتي، أن الطوابق العليا من برجي مركز التجارة العالمي، أول من يستقبل أنوار الفجر، حين تُتوجها خيوط الأنوار الملونة، بألوان الكون العجيبة، فتشتعل قممها العالية، متألقة في الصباح الباكر!!؟". فـَهـِمَـتْ زوجتي الدُعابة وأدركتْ النقد الـمـُـبطن، فأجابت، بابتسامة مُـتحدية :" أترك لك مُـتعة مراقبة "نجوم الصباح" ثم "خيوط أنوار الفجر"، التي تعانق ناطحات سحاب نيويورك، وتـُشعل قممها السامقة، مقابل أن تتركني محتفظة باللقب العربي الجميل، الذي أطلقـْـته عليّ ، بسبب كسلي الصباحي اللذيذ، وهو "نؤوم الضحى"(قالتها بعربية متكسرة ومُحَبَــبَة)، وهو اللقب الذي قلتَ لي أنه يطلق على الأميرات العربيات المـُترفات، اللواتي اعتدن النوم المتأخر حتى الضحى".
وما كادت تنهي عبارتها تلك، حتى سمعنا صوتاً يشبه الرعد. هبتْ زوجتي من مقعدها، وصرختْ مذعورة : "يا إلهي، ماذا أرى! ها هو برج المركز يشتعل فعلا ً كما يُعجبك أن تراه ". التـفتُّ إلى الجهة التي أخذت تشير إليها زوجتي، بيدها المرتجفة بشدة، حيث انتصبتْ قائمة باضطراب شديد . رأيت أحد الأبراج يشتعل فعلاً والدخان الأسود الكثيف يتصاعد بشدة. وفي هذه اللحظة كانت زوجتي قد انطلقت إلى الداخل وفتحت جهاز التلفزيون.
المذيع يعلن بتوتر عن خبر عاجل:اصطدام طائرة بأحد برجي مركز التجارة العالمي "وسنوافيكم بالتفصيلات فور ورودها ". أقفزُ عائدا إلى الحديقة لأراقب البرج المشتعل، وسحابة الدخان الأسود ترتفع وتحجب الطوابق العليا. ثم أعود أدراجي إلى الداخل لأستمع إلى المذيع يقول :" يبدو إنها طائرة ركاب كبيرة أصابت الطوابق من 94 إلى 98 من البرج الشمالي ". ( علمنا فيما بعد أنها كانت طائرة أميركان أيرلاين، الرحلة 11، من مطار بوسطن إلى لوس أنجلس، وكانت محملة بـ 24000 غالون من الوقود سريع الاشتعال، حدث ذلك في تمام الساعة الثامنة و46 دقيقة من صباح ذلك اليوم المشهود والمشؤوم ).
تعود زوجتي لاهثة ومضطربة، ودموعها تتساقط بغزارة، وتسلمني منظاري المقرِب.
أصبح المنظر واضحاً، إذ رأيت الطوابق العليا من مبنى البرج الشمالي تحترق. قـدَّرت أن عدد الضحايا الأبرياء سيكون كبيراً، بمن فيهم ركاب الطائرة وعشرات الموظفين، بكل أسف وحزن.(قــُدِّر عدد ضحايا الصدمة الأولى فيما بعد بـ 1344).
قلت لزوجتي، بعد أن تركت لها الـمنظار: "إنه حادث غريب، أن تصطدم طائرة ركاب كبيرة في البرج بطريق الخطأ أو الصدفة ، فهناك مسار محدد للطائرات عادة، لاسيما طائرات الركاب، إذ يحظر عليها الطيران فوق مدينة نيويورك".
تختفي زوجتي مرة أخرى وتعود حاملة جهاز راديو ترانسستر. راح المذيع يعلن نفس الخبر، ويقول إن مندوبهم في طريقه إلى مكان الحادث لينقل الأخبار على الهواء فور وقوعها.
اصطدام الطائرة الثانية
أراقب المشهد بالمنظار، فألاحظ طائرة كبيرة أخرى تحوم قريبا من البرجين. قلت لزوجتي" ربما تكون طائرة استطلاع أو إطفاء أو إنقاذ". وعبّرت عن إعجابي بسرعة استجابة الأمن العام الأمريكي الساهر والجاهز لكل طارئ. ولكنني هتفت فجأة وبانفعال:" يا إلهي!! إن هذا مستحيل، لأن الطائرة العمودية هي المعنية بهذه العمليات عادة، تـُرى أين تقصد هذه الطائرة الأخرى؟". وبينما كنت أمر بهذه الأفكار اللحظية، وما أن انتهيت من هذا السؤال، حتى أجابتني الطائرة فوراً، حين اصطدمت بالبرج الجنوبي السليم.( طائرة يونايتيد إيرلاين، الرحلة 175 من بوسطن إلى سان فرانسيسكو، محمَّلة بنفس الكمية من الوقود تقريبا. الساعة التاسعة وثلاث دقائق).
كـُرة ٌ نار هائلة تـتـفجر من الثلث الأعلى لهذا الصرح العظيم. نظرتُ إلى ساعتي فكانت تتجاوز التاسعة قليلا. أي بعد ربع ساعة من إصابة البرج الأول تقريبا. زوجتي تهتف وهي تجهش بالبكاء: "يا ربي، هذا فضيع، ثمة شيءٌ مخيفٌ يحدثُ!!". ذهني يستنتج، فيقفز فورا إلى الحقيقة الـمُرّة المُفجِعة: أهتف قائلا لزوجتي:"هجوم انتحاري مُبـَيـَّتٌ ودقيق ومُفجِع. تـُرى ماذا يمكن أن نتوقع أكثر من ذلك ربما في أماكن أخرى، هل هي بداية حرب كاسحة؟
تمثّـَلتُ في هذه اللحظة فقط، مئات الناس الأبرياء، الذين قضوا في هذه المحرقة الكبيرة، والآخرين الذين ينتظرون حتفهم في الطوابق العليا وربما السفلى. كان الوقت يمر بسرعة والأخبار تتوالى: "إن أمريكا تتعرض لهجوم كاسح"، لاسيما بعد أن أعلن المذيع عن اصطدام طائرة ثالثة في مبنى وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاغون)، التي تقع في شمال فيرجينيا، وذلك في الساعة التاسعة و45 دقيقة.(أميركان أيرلاين، الرحلة 77، من مطار دالاس الدولي القريب من مكان الحادث).
زوجتي تنتحب مستندة برأسها على كـَتفي، أحاول أن أواسيها بلطف، ونحن مازلنا نراقب ونستمع إلى مندوب محطة الإذاعة الذي وصل إلى مكان قريب من المبنى، وهو يقول: إنه يشاهد بعض المحتجزين في الطوابق العليا يلوح بقطع قماش طلبا للنجدة، ولا يظن أن باستطاعة أحد مساعدته، بكل أسف وحزن. ثم صرخ قائلا: "يا إلهي!! إنني أشاهد عدداً منهم يلقي بنفسه إلى حتفه من الطوابق العليا، ربما مفضلين ذلك على الموت حرقا"(قدر عددهم فيما بعد بمئتين).
وبينما كنت أرقب هذه المذبحة الفظيعة، وأضرب أخماساً لأسداس، عن هوية الفاعلين، وأستبعد "القاعدة"، لأنني لم أكن أتصور أنها قادرة على تنظيم مثل هذا الهجوم الدقيق والكاسح ، ثم يقفز ذهني المشوش والمتحفز، إلى النتائج والتداعيات، بما فيها الحروب وضحاياها ومآسيها. وكنت قد فرغت للتو من مطالعة كتاب " الفوضى" لبرجنسكي.
أقول بينما كنت أفكر في كل ذلك، تضاعف ذهولي وحزني عندما شاهدت البرج الجنوبي وهو يتفجر و ينهار في كرة هائلة من النار والدخان،( في الساعة العاشرة وخمس دقائق). تصورت كتل الحديد والخرسانة المسلحة المتهشمة وهي تنهال من ذلك العلو الشاهق (أكثر من 1200 قدم على الأقل) تحمل معها آلاف الأشلاء المهشمة والأجساد المتفحمة، لبشر يحملون آلاف الآمال العظيمة، والعلاقات الحميمة، مع بقية الناس المحيطين بهم(الأسرة والأولاد والأصدقاء). بل يشتركون مع جميع البشر الآخرين في العالم، أينما كانوا، بأثمن رابطة: "الإنسانية"، التي تتجاوز وتسمو على جميع الاختلافات والروابط الأخرى، مهما كانت. أقول جميع تلك العلاقات والآمال، تحطمتْ بلحظة، نتيجة هذا العمل الإجرامي الفظيع.
أستمع إلى المذيع يسعل بشدة ويصرخ قائلا: "يا إلهي!! أكاد أختنق من الدخان والغبار، بل نحن نتعرض لشظايا الانفجار مع أننا بعيدين عن البرجين. الناس يهربون بفزع وانهيار. العويل والبكاء والصراخ يتعالى في كل مكان، من النساء والرجال والأطفال على السواء، يتراكضون بجنون، كأنه يوم الحشر، وهم يتوجهون نحونا يكللهم الغبار الأسود الكثيف، وكأنهم كتلاً من مخلوقات خرافية، وبعضهم يتساقط فلا يحفل به أحد. وأنا سأهرب مع فريقي إلى مكان آمن ".
وبعد 23 دقيقة من تداعي البرج الجنوبي الأول، شعرت بالغثيان، وأنا أراقب تداعي وانهيار شقيقه التوأم، البرج الشمالي( في العاشرة و28 دقيقة )، وهو البرج الذي وقع فيه الاصطدام الأول(في الساعة الثامنة و 46دقيقة)، والذي يضم، مع شقيقه الذي تهاوى قبله، عدداً كبيراً من مقار أهم الشركات الكبرى في العالم، التي تتجاوز ميزانية كل منها ميزانية العديد من الدول. وانهدتْ معه صارية أحد أهم مراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية العالمية، بالإضافة إلى واحد من أشهر مطاعم العالم، الذي كان يقع في قمته. لاحظت أن زوجتي كانت تذرف الدموع بغزارة، بينما تحاول أن تتمالك نفسها لتلتقط بعض الصور.
وفي هذه اللحظة المأساوية بالذات، قفز إلى ذهني ذلك "العشاء الأخير"، حين دعانا أحد الأصدقاء، من رجال الأعمال الأغنياء، بمناسبة عيد ميلاد زوجته المدللة. دعانا زوجتي وأنا ، مع ثلة من الأصدقاء، إلى ذلك المطعم الفخم، المسمى، بحق،" نافذة على العالم"، الذي يقع فوق الطابق المائة من ذلك الصرح، الذي يتهاوى أمامي في هذه اللحظة. وتذكرت كيف قضينا واحدة من أجمل الليالي الحالمة والباذخة ، حين كنت أشعر خلالها أننا كنا في أجمل وأكمل وأأمن مكان في العالم. ويا للمفارقة الهائلة !! وعندما ذكـّرتُ زوجتي بتلك الليلة، كي أواسيها، تضاعف نَحـيـبُها.
تساؤلات
(ملاحظة مهمة قبل أن نتساءل : على الرغم مما قيل أحياناً، من ان هذه الانتفاضات التي حدثت منذ مطلع 2011، صناعة أجنبية، دون وجود أدلة كافية على ذلك، كما اعتقد، مع ذلك، أفترض أنها كانت شعبية تلقائية بدون قيادة، وعندي من الأدلة ما يكفي لأثبات ذلك، حتى يثبت العكس. لكن ذلك لا يمنع من أن القوى الداخلية والخارجية، ركبت الموجة، بعد ارتفاعها، لتغيير مسارها، وهذا ما نلاحظه اليوم على أرض الواقع، بعد أن ابتلعنا الطُعم: "يفعل الجاهل بنفسه ما يفعله العدو بعدوه").
- * *
هل هي مجرد صدفة أن تحدث هذه الثورة العربية، بعد عشرة أعوام من أحداث نيويورك وواشنطن؟ أم كان هناك قِــدْرٌ (بالكسر فالسكون )كبير، ينتصب فوق موقد تاريخ الماضي والمستقبل والحاضر، تُسَخِّنُه نارٌ هادئة أحياناً، ومتأججة أحياناً، يحتوي على خليط من عشرات وربما المئات من المواد والعناصر المتجانسة أو المتنافرة، ظلت تتفاعل فتنضج تدريجيا، بل بدأت بالغليان حينما ارتفعت درجة حرارتها، بسبب شدة النار التي تأججت في الموقد!!؟
الأحداث التاريخية الخطيرة التي تغيّر مسيرة التاريخ ووجه العالم، التي تبدو للمراقب العادي غريبة أو فجائية، لن تحدث من فراغ، بل لابد أن وراءها الكثير من العوامل المتكاملة والمتقاطعة والمتفاعلة.
ولم ينتبه إلى هذه النقطة أحد من كبار المؤرخين العرب الذين كانوا أول من دوّن التاريخ العربي، من أمثال الطبري وابن كثير والبلاذري والمسعودي وابن مسكويه والسيوطي، وغيرهم. ولكنَّ عبد الرحمن بن خلدون، أدرك ذلك حين كتب في القرن الرابع عشر الميلادي، كتابه المعروف بـ" كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، ودَبَّجَ "مقدمته" الشهيرة، التي فتحت أبواب "علم التاريخ "، لأول مرة. فقد بحث، بين أمور أخرى، في أسباب أحداث التاريخ والعوامل المختلفة والمتفاعلة التي تؤدي إلى تشكيل الحدث التاريخي.
وبعد ستة قرون تقريباً، بحث كارل ماركس في "النظرية المادية الجدلية"،وتحول التغيّرات الجزئية إلى كميّة مما يؤدي إلى تغيّر نوعي كبير ومفاجئ. والحديث يطول ويتعقد، لاسيما إذا ، زاوجنا بين نظرية لابلاس ونظريات علماء التاريخ ابتداء من ابن خلدون إلى فيكو وماركس وشبنغلر وتوينبي، قد نتناوله في مناسبة قادمة.