في أصول المسألة المصرية

من معرفة المصادر

مقدمة ما زالت المسألة المصرية تثير الاهتمام فى مصر والخارج وتدفع بالكتاب إلى تقصى أسبابها والتصدى لمعالجتها . ولكن هذا الاهتمام يدور فى الغالب حول العلاقات التى قامت منذ مطلع القرن الماضى بين مصر وتركيا ثم مصر وبريطانيا العظمى دون العوامل الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التى صحبت ـ من الناحية المصرية ـ نشوء هذه العلاقات وتقلباتها وكانت الباعث لها إلى حد بعيد . وهو يميل لذلك بأصحابه إلى النظر لهذه المسألة نظرهم إلى مسألة خارجية معقدة لا تقبل سوى الحلول الدولية ولا تكاد تقوم لها صلة بالملابسات الداخلية لأمة التى نسبت اليها .

وقد رأينا نحن , والمسألة المصرية ما زالت قائمة والاتجاه إلى العناية بمشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والفكرية , نعنى بعناصرها الداخلية , آحذ فى الظهور , رأينا أن نخص هذه العناصر ببحث شامل , نرتفع بها فيه إلى أصولها الأولى وتتبع أخطر المراحل التى جاوزتها ثم نصل بينها وبين جوانب حياتنا الخارجية وصلتنا بالغرب على وجه الخصوص . وكان الذى دفعنا إلى طرق هذا البحث واختيار النحو الذى نحوناه فى وضع حدوده وتصريفه أمر نجد فى الكشف عنه هنا ما قد يعين على ادراك هندسته . وهذا الأمر هو هذه الحيرة التى أصبحت ترهقنا جميعا , وترهقنا اليم أكثر مما كانت تفعل فى أى يوم مضى , من المظاهر التى تتخذها حياتنا العامة والخاصة والآثار المتنافرة التى يثيرها نشاط الدولة لدينا ثم القنوط الذى يبعثه ذلك فينا وبين الطبقة الحاكمة منا على وجه الخصوص .

قلنا دفعنا إلى طرق هذا البحث واختيار النحو الذى نحوناه فى وضع حدوده وتصريفه , فقد قصرناه على العناصر التى ترجع اليها ظروفنا الحاضرة قبل سواها ونعنى بها فيما بيننا اليوم ورأينا أن تنتبع كل عغنصر منها على حدة من أقصى مراحله المفيدة إلى الى المرحلة التى تهمنا مباشرة وأطلنا الوقوف عند الجانب التاريخى لبعض هذه العناصر أحيانا رغبة فى استخلاص جوهرها وتوضيح ملامحها وابراز آثارها وهى جميعا أشياء يندر أن نجدها أو نجد بعضها فى غالب هذه الآلاف المؤلفة من الكتب التى وضعت فى تاريخ مصر القديم والحديث على حد السواء . وآية ذلك أننا ما زلنا لا ندرك من ماضينا القديم شيئا كثيرا وما زلنا نجهل حقيقة مصر البطلمية والقبطية والعربية والمملوكية وما زال محمد على واسماعيل وقادة تاريخنا الحديث فى وعى الكثير منا صورا مائعة يكتنفها التناقض ولا يمت غالب ما كتب حولها بصلة إلى البحوث العلمية الصحيحة .

وقد ذهبنا فى تحليلنا التاريخى مذهب المؤرخين المحديثن ففلسفنا الحوادث ورددناها إلأى مصادرها الاجتماعية العامة وأنزلنا الطبقة الحاكمة وأعمالها وآراءها فى المنزلة الثانية . وننحن نذكر هذا هنا عمدا لأننا لا نريد أن يفهم مما قد يقرن فى هذا البحث ببعض الظاهر الناجحة أو الفاشلة من أسماء أننا نشيد بأصحابها أو ننعى عليهم فنحن لم نعرض لواحد منهم الا من ناحية العناصر الاجتماعية التى خلق منها والتى لا شأن كبير له بها إلى حد بعيد . وقد نحونا مثل هذا النحو مع الدول والأديان أيضا فنظرنا اليها نظرتنا إلى عنماصر مجردة حينا فأخذت أمور مصر وجهة بعينها وتفاعلت حينا آخر فأخذت هذه الأمور وجهة أخرى , كما تتفاعل العناصر الطبيعية فتنتج شيئا تارة وآخر تارة آخرى تبعا لملابسات تفاعلها , دون أن يكون لها أو لبعضها حظ من الشر أو الخير قل أو كثر . بقى أن عنايتنا الظاهرة بالعنصر الاقتصادى فى هذا البحث لا ينبغى أن يفهم منها اننا نرجع ظروفنا القائمة إلى هذا العنصر ولا إلى شئ سواه فهناك العاناصر الروحية دون شك . ولكننا انتهينا إلأى تقديمه على غيره لأننا رأيناه أشد هذه العناصر جميعا حاجة بالاهتمام فى حياتنا الحاضرة . وقد نكون أخطأنا الصواب فى هذا التقدير ونكون قد أخطأناه فى بعض النتائج التى انتهينا إليها أو فيها جميعا فلعل هذا البحث أول بحث نعالج المسألأة المصرية فيه على هذا النحو دون أن تسبقه الدرسات التمهيدية اللازمة . ولكن هناك نتيجة نخرج بها على كل حال ولا شك فيها البتة , وهذه النتيجة هى أن الذين يردون فساد حياتنا الحاضرة إلى طبيعة العامة لدينا , وهم غالب أهل الرأى وأن لم يعلنوا ذلك , أو إلى تربص بعض الدول بنا قبل كل شئ , وهو ما يتجه اليه تفكيرنا عادة , ويريدون أ، يجدوا فى ماضينا ما يدعمون به رأيهم هذا , يظلمون هؤلاء العامة ويظلمون هذا الماضى على حد سواء . انما الحقيقة هىأننا يجب أن نبحث عن أساب هذا الفساد فى تقلبات الحياة العامة ـ وقد صار بعضها يسير المعالجة ـ وفيما مازلنا نجنيه بأيدينا على هذا البلد كل صباح ومساء بدافع من عقد النقص هذه الكثيرة التى خلفها لنا ماضينا العثمانى ـ الانجليزى وثقافتنا الهزيلة ثم انسياقنا خلف شهوة الضجيج الفارغ هذه التى ينفرد بها عهد الطفولة فى حياة الأفراد وحياة الأمم , دون الجهد الصحيح الواجب ـ نخرج بهذه النتيجة ونجد فى ثباتها واقامة الدليل عليها واذاعتها هدفا كافيا لهذا الكتاب .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في أصول المسألة المصرية

درج الذن كتبوا فى المسألة المصرية على اعتبارها مسألة خارجية , وقصروا لذلك كتابتهم على استعراض علاقات مصر ببريطانيا العظمى . ولكن كتاب "فى أصول المسألة المصرية" يرد هذه المسألة إلى ظروف مصر الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ويجعل منها مسألة داخلية , وهو يتولى لذلك هذه الظروف بالتحليل العلمى . وقد قسم هذا الكتاب إلى خمسة فصول :

الفصل الأول ـ وعنوانه "الفتح العربى" . وقد عرض لدرو مصر فى حضارة البحر الأبيض المتوسط والتطور الذى أصاب حياة هذا البحر بانتقال طريق التجارة العالمية منه إلى الأطلنطيق وما صحب ذلك من انقطاع علاقة مصر بالغرب وبقائها بعيدا عن التطورات الاقتصادية والفكرية والاجتماعية التى تمت به .

الفصل الثانى ـ وعنوانه "حكم المغل" . وقد عرض للاقتصاد المصرى فى العهد المملوكى وربط حكم المماليك وما أنزله بهذا الاقتصاد من اضمحلال شديد وبين ظروف مصر الحاضرة . ويحلل المؤلف فى درسه لأسباب هذا الاضمحلال ظاهرة المماليك ونظم حكمهم ودور المصريين فى هذا الحكم .

الفصل الثالث ـ وعنوانه "الموجة الغربية" . وقد عرض للنهضة الأوروبية الحديثة وعلاقة أوروبا بالسلطنة العثمانية وأثر ذلك فى حياة مصر خصوصا الاقتصادية تحت محمد على وعباس وسعيد واسماعيل .

الفصل الرابع ـ وعنوانه "أعراض المراهقة" . وقد عرض لتفاعل الموجة الغربية وظروف مصر الفكرية والاقتصادية والاجتماعية كما انتهت اليه تحت المماليك وأثر ذلك فى تكوين الجيل المصرى الحالى . والمؤلف يحلل هنا أهم مظاهر الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ويرد كل منها إلى أصوله وينتقل من ذلك توضيح الصلة بين وجوه الضعف فى هذه الحياة واهمال البلاد شوئنها الاقتصادية ثم أهمية الدور الذى تقوم به الصناعة فى الحضارة الحديثة وأهميتها الخاصة فيما يتعلق بمصر .

الفصل الخامس ـ وعنوانه "عقد النقص" . وهو يعرض لأهم الأفكار الفاسدة التى تتحكم فى الحياة المصرية الآن وأهمها ما ترمى به مصر من تعود الاستبداد والخلط بين الشئون الروحية والزمنية والاعتقاد فى الخرافات والقصور عن الاقتصاد الصناعى والتأرجح بين الشرق والغرب . . . والمؤلف يحلل هذه العقد واحدة واحدة ويقارن الحالة فى مصر من ناحيتها بالحالة فى الغعرب فى نفس الزمن من نفس الناحية وينتهى منذ ذلك عن أمم البحر الأبيض المتوسط الأخرى وان المرجع فى ظروف مصر الحاضرة ليس إلا فقر الدم الاقتصادى الذى أصابها تحت المماليك .

وقد قرأ كبار المشتغلين بالشئون المصرية هذاالكتاب وكتب بعضهم يثنى عليه فقال صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا فى كلمة له فيه :

". . . وقد عرفت الأستاذ وحيدة اقتصاديا بارعا واجتماعيا من الصنف الذى أدرك كيف يمكن التوفيق بين الحاجات المعنوية والمادية للعصر الذى يعيش فيه . ولم أكن قد عرفت أن مواهب الأستاذ وحيده مما تسمح بالاحاطة بشتى الشؤون التى تهم البلاد التى أنجبته بل تتبع الخطوط الرئيسية التى لا يتهيأ لها النهوض والرقى الا من طرقها . والمؤلف الذى وضعه الأستاذ يمكن اعتباره بحق من تلك الخطوط لأنه وسيلة من وسائل الارشاد التى لا تزال ـ ونحن فى العهد الأول من نهضتنا ـ فى حاجة ماسة إلى الاسترشاد بها . والواقع أن المؤلف قد توخى فى استعراضه لمركز مصر القديم منه والحديث الحق والدقة مستعينا بأفضل مراجع البحث ولو اصطدمت نتائجه أحيانا ببعض المعتقدات الراسخة فى الأذهان والأراء المحببة للكافة . فأخرج كتابا يزيد فى نفعه وفى أثره أنه بالغ فى نزاهته . والنزاهة ترجع هنا إلى التمسك بالأساليب العلمية فى البحث والاستقراء وهو الطالبي الغالب فى الكتاب" . . .

وقال صاحب السعادة عبد القوى أحمد باشا:

" . . . انتشرت فكرة فقد المصريين حرياتهم السياسية منذ اٌدم العصور وخضوعهم للحكم الأجنبى وتعودهم ما يصحب هذا الحكم عادة من ظلم وجهل وفاقة بين العامة أيضا . وطال العهد بها حتى أصبحت المصدر الأول للكثير من مظاهر الاستهتار التى تحيط بحياتنا اليوم وصارت لذلك خليقة بأن يقف عندها الذين يهتمون بمصير هذه البلاد ويخشون عاقبة مثل هذه الأفكار على مستقبل أبنائها . . . "

". . . وقد بقيت هذه الفكرة دون دراسة خاصة إلى أن صدر كتاب "فى أصول المسألة المصرية" للأستاذ صبحى وحيدة فسد هذا النقص بفصل كامل متخصص لهذه الدراسة بالذات . . . "

". . . عندى أن فيما يقول به هذا الكتاب ما يوضح الشئ الكثير من تطور نظم الحكم فى مصر ويبين الفكرة القومية المصرية ويبدد إلى حد بعيد تهممة تعود المصريين الحكم الأجنبى وان كان لا يوضح كل ذلك توضيحا كاملا ولكنه يمكن أن يعد على كل حال مقدمة لاتجاه جديد فى دراسة ماضى القومية المصرية وهويستحق لذلك كل ثناء . . . "

"وكتب صاحب السعادة توفيق دوس باشا يقول :

". . . وكتاب "في أصول المسألة المصرية" يقارن بين نظم الحكم والملكية والأوضاع الدولية التى أخذت بها مصر وبلاد البحر الأبيض المتوسط أخرى ليثبت أن هذه النظم لم يختلف بعضها عن البعض اختلافا شديدا انما حدث الاختلاف فى الظروف الاقتصادية التى رمت بها مصر ومر بها الغرب منذ القرن السادس عشر . وفقد سارت مصر وقتئذ إلى الفاقة العامة التى يصفها الجبرتى فى تاريخه بينما ارتفعت أوروبا إلى أوج الرخاء الذى عرفته فى القرن التاسع عشر , وصحب ذلك , التقدم الاجتماعى والسياسى الذى نشهده فى اوروبا اليوم والانقباض الاجتماعى والسياسى الذى وجد محمد على عليه مصر فى مطلع القرن التاسع عشر والذى أخذنا نحاول أن نتخلص من آثاره اليوم . . . ".

". . . وهكذا تكون العناية بحياتنا الاقتصادية أهم واجب فى عنق هذا الجيل اذا كان يريد خدمة نافعة" . " . . . واننى وأن كنت لا أتفق ومؤلف الكتاب فى جميع النتائج التى يصل إليها خصوصا ما يتعلق منها الظروف الاقتصادية والاجتماعية فى مصر فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالحملة الفرنسية والاحتلال الانجليزى وعلاقة مصر بالأمم الغربية الآن فأننى أتفق معه فيما يقول به عن أثر الحياة الاقتصادية فى نهضتنا الحاضرة وعما أصاب تاريخ مصر القديمة من تشويه شديد . ويقينى أنه وضع بحثا مفيدا غاية الفائدة أهنئه عليه خالص التهنئة وأشكره عليه خالص الشكر وأتنمى لهذا البحث ما يستحقه من الانتشار . . . "

وقال صاحب السعادة حسن نشأت باشا فى كلمة له :

". . . وكتاب "فى أصول المسألة المصرية" كتاب قيم يقول فيه "واضعة با، الحالة التى تعانيها مصر الآن ترجع ـ قبل كل شئ ـ إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية التعسة التى انتهت إليها مصر تحت المماليك والاضطراب الذى يحيط بمعالجتنا لهذه الظروف الآن ثم العقد النفسية التى يثيرها ما نزل بتاريخنا القديم والحديث من تشويه على وجه العموم . . . " .

"" . . . وقد استرعى انتباهى فى هذاالكتاب خصوصا نقطتان أرى أنهما جديرتان بأن يقف عندهما الذن يعنون بمسائلنا العامة ويشتركون فى الحكم عن طريق مباشر أو غير مباشر . وهاتان النقطتان هما علاقة مصر بالشرق والغرب منذ ابان الحكم العثمانى ثم الدور الذى لعبه فى حياة مصر فى العصور الوسطى وعادت تلعبه الآن . . ."

" . . . ولا شك فى أن هذه الآراء التى يقول بها كتاب "فى أصول المسألة المصرية المصرية" تتفق والواقع إلى حد بعيد وهى تستحق على كل حال أن تدرس وأن تقرأ بتأمل عميق . . . " .


الفصل الأول: الفتح العربي

انفرط عقد شعوب البحر المتوسط بعد تسعة قرون أو تزيد من الحياة المشتركة إذ أطبقت القبائل العربية على ساحله الجنوبى فى المائة السابعة وتحول كل فريق منها إلى عالم جديد خص به فلحقت الشعوب الشرقية بالمجتمع الضخم الذى خلقته فتوحات القرن الول الهجرى بآسيا وأفرقيا وبعض أوروبا وانقلبت الشعوب الغربية إلى داخل القارة الأوروبية لتسكن فى تلك الدجنة الثقيلة التى تواضع أصحاب علم التاريخ على تسميتها بالعصر الوسيط . وامتدت هذه الفرقة على وجه الخصوص بين جنبى الطرف الغربى من البحر المتوسط حتى المائة الحادية عشر حين عادت أوروبا تتصل بالشرق اتصالا هينا أول الأمر ثم نشطا دافقا إلىحد لم يعهده من قبل إذ كانت تعمل داخله وقتئذ عوامل جديدة منها , فيما يهمنا هنا , ما كان عرض لهذا البحر بالذات , أثناء ذلك , فتغيرت شعوبه واتسعت آفاقه وحالت وظيفته . تغيرت شعوبه تغيرا بالغا توشك من جرائه أن لا تعرف فلم تعد يونانية أو رومانية أو غالية خالصة كما كانت فى الغرب منذ ظهور والأغارقة إلأى سقوط الرومان , ولم تبق مصرية أو فينيقية أو فارسية فقط كما كانت فى الشرق فى ذلك الزمن بالذات , وانما صارت خليطا من هذه الشعوب بالغوط والنورمانديين والجرمان هناك والعرب والمغل والأتراك هنا . واتسعت آفاقه فشملت البلاد التى قبلت منها الشعوب الجديدة حتى كان الشرق الاسلامى وحده يمتد من شواطئ البحر المتوسط إلى أطراف الصين والمحيط الهندى والطلنطيق وكان الغرب المسيحى يشمل ألمانيا جميعا واسكندناوية والجزر البريطانية فى حين كانت جامعة الشعوب الرومانية , وهى أكبر جامعة عرفها العالم القديم , لا تضم غير بلاد البلقان وأوروبا الجنوبية وأفرقيا الشمالية وآسيا الصغرى . وحالت وظيفته أيضا فبينما كان لا يعرف قبل ذلك لغير الشعوب النازلة على شواطئه نشاطا يذكر صار طريقا من طرق بحرية مختلفة اتخذها ما أقبل العالم الجديد عليه وقتئذ من تبادل تجارى رحب , إذ لا يمضى القرن الثانى عشر حتى تظهر مدن الشمال الصناعية مثل أنفرس وامستردام ولندن وتنشط حركة النقل فى بحر الشمال فى الوقت الذى تشتد فيه الملاحة فى البحر الأحمر والمحيط الهندى بفضل تداخل شعوبهما فى نطاق المجتمع الاسلامى ثم يحل القرن الخامس عشر وتكتشف أوروبا طريق رأس الرجاء الصالح والأمريكتين فتمتد شرايين التجارة العالمية إلى الأطلنطيق وتكاد تقصر عليه إلىنهاية القرن الثامن عشر .

وبدهى أن هذا التحول لم يتم جميعا فى جيل واحد أو أجيال قلائل فمعروف أن أول احتكاك للرومان بقبائل الشمال يرجع إلى قبل قيصر . وقد قاتل أغسطس الجرمان وهزم لهم وظلت القبائل الجرمانية تتغلغل فى الامبراطورية الرومانية تغلغلا متصلا حتى قامت الامبراطورية الرومانية المقدسة . وكان اتساع رقعة الشرق المعروف يسير أيضا سيرا بطيئا متصلا منذ أمد طويل فقد عرف الفراعنة شعوب البحر الأحمر واتصل البطالمة بالهند وكانت الاسكندرية تتجر بسلع الشرق الأقصى فى العصر الرومانى , وان ظلت هذه البلاد تجهل بعضها البعض بعد ذلك أجيالا وبقيت علاقاتها حتى حين اشتدت علاقات خارجية : علاقات مجتمعات مختلفة لا تربط بينها أسباب غير أسباب التبادل العاجل . كذلك كان تنكب شعوب البحر المتوسط حياتها المشتركة آخذ فى الظهور منذ وقت بعيد ولم يكن قيام القسطنطينية فى القرن الرابع وانقسام الكنيسة المسيحية وتطاحن الاسكندرية وروما ثم الاسكندرية والقسطنطينية الا بعض مظاهره .

كان كل هذا سائرا فى تطور بطئ هادئ إلى أن كانت فتوحات القرن السابع فكانت الطفرة وكان أن اتخذ هذا التباعد شكل الاختلاف الدينى أيضا فدخلت الشعوب الشرقية الاسلام وبقيت الشعوب الغربية على مسيحيتها وسار كل من الفريقين فى طريق يفترق عن طريق الآخر . وجعل هذا الاختلاف يعمل عمله حتى استحالت ملامح هذه الشعوب استحالة شديدة فإذا بها تنكر بعضها البعض حين تلتقى أول القرن الحادى عشر وتصير الحرب الشكل الغالب على علاقاتها الجديدة , ومن ثم كان غزو المسلمين ثغور أوروبا الجنوبية وحروب الصليبين وشئ كثير من السياسة التى انتهجها الغرب فى الشرق فى القرن الثامن عشر ومن نظر شعوب الشرق الاسلامى إلى الحضارة الغربية وعلاقتها بالغربيين على وجه العموم .

ويسير على من ينظر فى تاريخ مصر قبل السابع وبعده أن يلمس ما أصابها من جراء ذلك التحول فبدل علاقتها بالشعوب الأخرى وأثر فى اتجاهاتها الروحية والسياسية جميعا . فمن المعروف أن مصر اتصلت بشعوب المغرب منذ القدم : اتصلت بشعوب آسيا القريبة صلة وثيقة تحدثنا عنها قصص بنى اسرائيل ووثائق تل العمارنة والحروب التى نشبت بين المصريين وما قام فى تلك الأمصار من دول قوية كالهكسوس والأشوريين والفرس . وكانت صلتها بهذه الشعوب جميعا صلة الجار بالجار , صلة دول يقوم بعضها جانب بعض فتتصادق أو تختصم , وقد يبلغ تصادقها حد التعاون فى ميادين الاقتصاد والسياسة والحرب ويبلغ اختصامها حد التطاحن والتخريب وما يعقب ذلك من فرض الغالب نفسه على المغلوب إلى أن يفيق من سكرته فينصب له الحرب ويرده إلى مصره . ولكنهاغ تظل على الدوام صلة عوالم قائمة بذاتها تتغاير فى اللغة والدين والتفكير وان تفرع بعض ذلك على أصل واحد أو أوجدت الظروف الاقليمية المتقاربة بعض العنماصر المشتركة بينها فلا يدخل أحد أبنائها مجتمع الآخر متعاونا أو غاصبا حتى يلحظ دخوله ويعد عنصرا غريبا طارئا .

واتصلت مصر بالدويلات اليونانية عدة قرون قبل حرب طراودة . تحدثنا بذلك آثار نيسين (199 ق . م) وكريت (عصر الهكسوس) وارجو (1510 ق . م9 . وهذه الصلة الأولى بالغرب تأخذ شكل الهجرة حينا فيقيم المصريون المستعمرات بتلك البلاد ويهاجر أهل سردينيا إلى مصر ويخدمون فى جيشها وشكل الاعتداء المسلح غذ يهاجم حلف المدن الهلينية والصقلية والأترورية مصر من البر فى عهد منفتاح الول ثم من البحر على أيام رمسيس الثالث وشكل النفوذ السياسى تارة أخرى فيشرف الأسطول المصرى على سواحل البحر المتوسط الشرقية جميعا تحت الأسرة الثانية عشرة . ونحن نستطيع أن نتصور مدى هذه الصلة مما يذكره كتاب اليونان القديمة عن علقة مصر ببلادهم فى ذلك القوت وانحدار آلهتهم وكثير من الأبطال الذين ألقوا بذور حضارتهم منها وما أصبح لا ينكره أصدقاء الثقافة اليونانية من الأثر المصرى فى الحضارة الاغريقية ومنه عبادة الويزيس التى قامت فى اليونان كصورة من عبادة ايزيس وانتشرت منها فى بلاد البحر المتوسط تحت البطالمة والرومان وكانت العبادة الوحيدة التى استطاعت أن تجمع بين الشعوب اليونانية .

وقد اشتدت هذهالصلة بين نهاية القرن الثامن عشر ق . م وفتوح الاسكندر حين عمد الأغارقة إلى انشاء المستعمرات بمصر السفلى كما كانوا يفعلون فى آسيا الصغرى إذ كانت هذه المستعمرات تقوم كأجزاء حية من العالم الاغريقى يشهد بها المصريون أحدث ثمار هذا العالم ويتصل الأغارقة بالحضارة المصرية ويقع الاختلاط الاجتماعى بين الشعبين . فالى هذا العهد يرجع تردد علماء اليونان وقادتها على مصر مثل ارفيون وقيرسيد وفيتاغورس وامبدكل وليكوم وصولون وكريتون وديمقريط وأفلاطون , واقدام الأمراء المصريين على ندب رجال السيف من الأغارقة لجيوشهم كما فعل بسماتيك رأس الأسرة السادسة والعشرين حين استعان بمن جمعه منهم على التخلص من منافسيه فى الحكم , واقبال الأغارقة على انشاء المعابد لايزيس ووضع القصص التى ترجع بنشأة آلهتهم إلى مصر كما فعل الرومان بعد ذلك إذ وضعوا القصص عن نشأة آلهتهم فى اليونان , وظهور الأسماء الاغريقية بين المصريين والمصرية بين الاغريق . وإليه يرجع أول ما جعل يبدو فى حياة الخاصة بمصر من لون اغريقى نشهد بعضه فى آثار تونا الجبل وما تنفرد به من تقارب بين الفن الاغريقى والفن المصرى ونجد أثره فى تزوج أماسيس أحد خلفاء بسماتيك من اغريقية وبعثه الهدايا إلى معابد دلفى وسامو وهى معابد اغريقية ثم نلمسه لمسا فيما نعلمه عن مجموعة اماسيس هذا القانونية التى كانت تنظم مجتمعا مصريا اغريقيا بينا . كذلك إلى هذا العهد يرجع ما نشأ عن ضغط الامبراطورية الفارسية على مصر واليونان من تآزر دخل بعلاقات البلدينم إلى ميدان التحالف السياسى أيضا , ومن ثم كانت استعانة أماسيس بفامس ومناصرة الأثينين وأميرته ومعاضدة نفريديس وتحالف تاخوس مع اثينا وسبرطة واعتماد نكتانب وأبنائه على أجيزيلاس قائد هذه المدينة وحلفائه وكان تفكيره بركليس بعد ذلك فى العمل على دفع المصريين دفعا شديدا داخل دائرة النفوذ الاغريقى والاستعانة بهم فى تطويق النفوذ الفارسى وهى السياسة التىانتهجها الاسكندر والبطالمة من بعده .

وقد أفلح الفرس فى دخول بعد أن ألبوا عليها قوى آسيا الفتية جميعا فى الوقت الذى كانوا يخضعون أثناءه الدويلات اليونانية لسلطانهم فيفرضون الخراج على ما يقوم منها بآسيا الصغرى ويعضدون ما يدعى بحكم الغاصبين (tirannid) فى مدن الأرخبيل وشبه الجزيرة ويتحكمون فى مقدونيا مولد الاسكندر ويشترون الطبقة الحاكمة اليونانية بالمال ثم يتخلصون من أثينا بسيف سبرطة ويثيرون الدويلات الأخرى الواحدة على الأخرى حتى يصلوا إلى ما قصدوا إليه من فرض وصايتهم الثقيلة عليها جمعيا بمعاهدة انطوكليديس (Antoclides) (386 ق . م) وهى المدن الاغريقية ووضعوا هذه المدن فى نفس الوضع السياسى الذى عرفته تحت الامبراطورية الرومانية بعد ذلك . وهم ينتهون من هذا إلى انشاء دولة ضخمة تجمع العالم المتحضر المعروف وقتئذ وتختلط داخلها شعوب هذا العالم جميعا اختلاطا اشتد واتسع بعد ذلك اذ تمكن الأغارقة بحملات الاسكندر من الانتشار فى جنبات هذه الدولة والاشتراك فى حكمها .

وكان ييسر من شأن هذا الاختلاط ما كانت عليه هذه الشعوب فى ذلك الزمن من أوضاع سياسية خاصة فنحن نعلم أن العالم القديم لم يعرف دولة يونانية واحدة وانما عرف جملة دويلات متفرقة يقاتل بعضها البعض ويستعدى عليه عدوهم المشترك وينزل أهله منزلة العبيد ولا يرفض قادتها أن يبيعوا ضمائرهم إلى خصومهم السياسيين أو يتحرج أبناؤهم من القتال فى صفوف الزاحفين إلى ديارهم . ولم تكن حروب اليونان للفرس حروب أمة لأمة بل قراع أبناء البلد الواحد للغريب المغير أو غزاة الشركاء فى مغامرة واحدة لأرض غنية وهم فى الحالتين لا يكادون يفوتون مرحلة الخطر حتى ينقلبوا كل إلى داره . وقد كانت أثينا تقاتل الفرس وسبرطة وحلفاءها فى وقت واحد وكانت المدن الأخرى التى استطاعت أن ترتقى إلى زعامة اليونان على أيام الفرس تضطر إلى فعل ذلك . كذلك لم تكن انتصارات الاسكندر عند الذين وفقوا لاحراز انتصارات أمة على أمم بل انتصارات أمير بعينه من أمراء الجند الكثيرين الذين كانوا يتجرون بالحرب وقتئذ وان نبه ذكره بعد ذلك وأثار فى موطنه فخرا عنصريا شاملا . وقد سبقت انتصارات الاسكندر على الفرس انتصارات أخرى لأبيه وله على الأغارقة وكانوا يعدون مقدونيا أرضا أجنبية متأخرة وينظرون إلى زعامتها لليونان نظرتهم إلى الاحتلال الأجنبى . وكانت الدويلات اليونانية تتبع هذه الانتصارات فى غير حماسة كبيرة بل أرادت سبرطة أن تنتهزها وتثور بمعونة الفرس فهزمها المقدنيون ونقضوا حلف كورتنيس الذى أنشأه فيليب لتوحيد سياسة اليونان الخارجية وأنزلوا منزل المحكومين وفرضوا عليهم عبادة الأسكندر . وكانت الجيوش التى أحرزت تلك الانتصارات جيوشا مختلطة يعمل فيها الاغريقى إلى جانب الأسيوى أو الافريقى مقابل جعل معلوم . وقد نشأ الأسكندر نفسه فى مقدونيا وهى وقتئذ أوسع الأقاليم اليونانية تأثرا بالنوفذ الفارسى فى بيت اتصل بصلة المصاهرة بالفرس وبيئة مشبعة أشد التشبع بالفكر الدينى المصرى وكان فى جميع حركاته المثل الحى للمجتمع المحتلط الذى جعل ينمو على أيامه . فحمل طوال حياته للفرس ونظمهم وشجاعتهم احتراما عظيما واستعان باليونان وان لم يؤمن بكفايتهم ولم يصدر فى عمل من أعماله عن غير الرغبة فى اقامة دولة عالمية تجمع بين الشعوب المعروفة حينئذ وهى دولة كانت عناصر تكوينها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تنتشر فى جو العالم فى ذلك الوقت . ومن ثم كان اعتناقه عبادة آمون وهى أوسع العبادات انتشارا حينئذ ومصاهرته العائلة المالكة العجمية وتفكيره فى اقامة عاصمته بمدينة بابليون .وقد كان الأغارقة يشعرون بعد ذلك بمغايرتهم الشعوب الأخرى فى الجنس واللغة والظروف الاجتماعية ويظهرون هذا الشعور برميهم هذه الشعوب بالهمجية ولكن هذا الشعور لم يعد قط ما كانت تحسه قبائل بدوية كقبائل الجزيرة العربية قبل الاسلام من اشتراكها فى الجنس واللغة والظروف الاجتماعية مغايرتها فى هذا الشعوب الأخرى دون أن يرتفع بها ذلك إلى الوعى بوحدتها السياسية كأمة . ولفظ "barbare" الذى نميل الان إلى ترجمته بال "همجى" لأنه كان ينطوى على بعض هذا المعنى حين أطلق بعد ذلك على القبائل الجرمانية يقابل لفظ "الأعجمى" الذىكان يطلقه العرب على من يتكلم غير لغتهم وكان المصريون يطلقونه بهذا المعنى على أبناء اليونان كما أطلقه الرومان على الشعوب الأخرى من بعدهم .

ولم يكن الفرس يختلفون من هذه الناحية اختلافا كبيرا عن اليونان فقد كانوا ينقسمون حتى أيام قمبيز إلى قبائل متباينة . وقد وجهت هذه القبائل إلى الفتوح حتى دانت لها شعوب آسيا واليونان ومصر قبل أن تندمج فى وحدة سياسية شاملة وكانت الدولة التى قامت على اكتافها مجموعة شعوب مختلفة لا يجمع بينها غير شخص ولى الأمر وهو فى ذلك الحين لا يميز بين رعاياه الا بمقياس ولائهم لعرشه . ونحن نعلم أن الفرس كانوا يستعينوا بالاغريق , خصومهم السياسيين , فى جيوشهم وحكومتهم ومجالسهم الحربية إلى حد أن يظهر بين ساسة اليونان فى القرن الرابع ق . م من ينادى بغزو بلادهم بعد أن صارت المراكز الهامة فيها فى يد يونانيين ونعلم أنهم لم يفقدوا فى الغالب معاركهم مع اليونان الا بسبب تنافر الشعوب التى كانوا يحكمونهم وخيانة أعضاء العائلة المالكة بعضهم البعض وتعاقب المؤامرات السياسية التى تذكرنا بآخر أيام الامبراطورية الرومانيةوالبيزنطية والعربية والعثمانية وهى جميعا امبراطوريات حكمت حكما شخصيا لم يعرف القومية . وكان المصريون لا يختلفون بدورهم فى ذلك الوقت من نفس هذه الناحية كثير الاختلاف عن الاغريق والفرس وان عاشوا بعكسهم قرونا طويلة فى ظل دولة وطنية مركزة ذات حضارة خاصة تجمع بينهم . فقد تطورت هذه الدولة بين الأسرة الثامنة عشرة والسادسة والعشرين تطورا طططمس معالم هذه الوحدة وخرج بذلك الشعور عن طوره . وقد بدأ هذا التطور اذ مدت مصر حدودها السياسية , تحت تحتمس الثالث , إلى قلب افريقيا والفرات والأرخبيل اليونانى وتحولت بذلك من مملكة وطنية مركزة إلى امبراطورية مختلفة الشعوب ثم ارتدت بعد سقوط هذه الامبراطورية , تحت الأسرة العشرين , إلى الحكم الموزع بين الأقاليم المستقلة فأخذت منطقة الدلتا تعيش فى الجو الاغريقى الذى كان ينتشر حول شواطئ البحر المتوسط واتصل ببلاد النوبة اتصالا شديدا . وظهر أثر كل ذلك فيما شهدناه من اتسام مصر السفلى بالطابع الاغريقى , وما نعلمه عن ظهور المدن المستقلة بها فى ذلك الوقت , واعتقاد الأغارقة حينئذ والرومان من بعدهم أن الدلتا جزء من آسيا وبقية مصر جزء من افريقيا , عد كتابهم الأسكندرية مدينة منفصلة عن مصر , واعتياد المصريين أنفسهم حتى العصر المسيحى التحدث عن الدلتا حديثهم عن أرض أجنبية , ثم ارتقاء النوبيين عرش مصر وانتقال عاصمة البلاد على أيامهم إلى مدينة نباتة , واستقرارها فى الأسكندرية حتى الفتح العربى . ونحن نلتقى تحت ملوك الفرس بمصريين يعيشون فى بلاط صوس ويشتركون فى الجيوش الفارسية ويقيمون فى اليونان ونعلم أن سكان المدن المصرية كانوا اذ دخل الاسكندر مصر خليطا من اجناس مختلفة وخصوصا من الاغريق والفرس .

وكانت النظم الدينية المصرية ، وهى وقتئذ من اهم مقومات الدولة ، تسير هى ايضا فى طريق الانقسام والعالمية . ومعروف ان مصر القديمة لم تصل فى سبيل التوحيد الدينى الى أكثر من الاتحاد الاقليمى الذى كان يحققه اعتناق فرعون الدين الذى تؤمن به كل الكنائس الاقليمية .

ولم تكن هذه الكنائس تتجه لذلك اتجاها قوميا يمتد الى المصريين ويترك من عداهم او يفرق بين الناس بمقايس الجنس . وقد كانت مصر أول دولة حاولت أن تضم أطراف امبراطوريتها فى دين واحد بثورة اخناتون الدينية وكانت الكنائس المصرية أول كنائس بشرت بعقائدها فى بلا أجنبية . ومعروف أيضا أن ارتداد مصر إلى الحكم الموزع بين الأقاليم صحبه ارتفاع سلطان رجال الدين فى حياتها العامة حتى صاروا هم حكامها الفعليون فاستأثرت كنيسة طيبة بالعرش تحت الأسرة الواحدة والعشرين وظلت تستأثر به حتى نهاية العهد النوبى وكانت هى التى نقلت مقر الحكم إلى نباتة وتوجت الفراعنة النوبيين وكانت منافستها كنيسة منفيس مصدر انتقاضات العهد الفارسى وسند الأسكندر والبطالمة . وكان المصريون ينزعون فى حياتهم من قبل ذلك نزعة دينية بارزة ويميلون إلى عد من يدين بدينهم منهم فزاد ارتفاع السلطان اليدنى فى نزعتهم هذه ومال بالمجتمع المصرى للتحول إلى مجتمع دينى يتجه فى تمييزه بين الناس إلى عقيدتهم الدينية قبل كل شئ . وقدصحب هذا التطور تحول اقتصادى واجتماعى لا يقل عنه غورا . فنحن نعلم أن اتصال مصر السفلى بدويلات آسيا الصغرى واليونان نشط بها التجارة والصناعة والملكية الفردية بينما بقيت مصر العليا على الزراعة , ونعلم أن حروب مصر للاشوريين والفرس وانتقاضاتها عليهم , حين دخلوها , انتهت إلى القضاء على الطبقة العسكرية فيها . وآية ذلك اعتماد الفراعنة المتأخرين على الأغارقة فى جيوشهم واندثار العزة القومية واختفاء طبقة كبار أصحاب الأراضى الزراعية . ونحن لا نعثر على ذلك لهاتين الطبقيتن عند دخول الاسكندر مصر وتنصيب بطليموس بعد ذلك ولا علم لنا بأنهما اتصلا بغير كنيسة منفيس التى لعبت الدور الأول فى هذه الحركة وكان رجال يمثلون الارستقراطية المصرية الوحيدة حتى أيام البطالمة .

ونحن نلسم فيما قدمنا تفككا سياسيا يخرج بالمصريين عن الوحدة السياسية التى عاشوا عليها منذ عهد مينا , يصحبه ارتفاع شاذ فى نفوذ رجال الدين بنزعتهم الاقليمية أو العالمية , وتحول اقتصادى , على الأقل فى مصر السفلى , وآخر اجتماعى يشمل الوادى كافة , فى الوقت الذى تشتد أثناءه هجرة الأغارقة إلى الشرق ومصر بوجه خاص وهم على الأقل ما رأينا من انكار للقومية السياسية , وتسير الدول فى التحول إلى امبراطوريات وتتجه الشعوب إلى عبادة اله كبير واحد يكون الجالس على عرش هذه الامبراطوريات ممثله , كما كان امبراطور الفرس , أو ابنه , كما كان الاسكندر من آمون , أو هو نفسه , كما كان أباطرة الرومان . ومن ثم كان انتشار الأغارقة فى مصر وبلاد الشرق الأخرى وبلوغهم فيها غايات ما كانوا بالغيها لو كانوا مثقلين بقومية ناضجة , وكان ايغال مصر فى الجو الاغريقى , وانتشار الفكر الدينى المصرى فى حوض البحر المتوسط جميعه خصوصا بعد انتظمت شعوبه فى الامبراطورية الرومانية واعترفت الشعوب جميعا إلى اندماج فى مجتمع واحد .

وقد ظهر هذا المجتمع الجديد أول ما ظهر فى المدن المبثوثة على شواطئ آسيا الصغرى وأوروبا الجنوبية وأفريقيا الشمالية وهى المدن التى كانت تتركز فيها حركة المبادلات التجارية بين الشرق والغرب وتختلط الشعوب القديمة بالشعوب الجديدة وتربو الثروة المنقولة باعثة حولها حياة اجتماعية خفيفة لا عهد للعالم القديم بها من قبل . وكانت هذه الحياة تستمد مضمونها الحضارى من حضارات هذه الشعوب جميعا , وأوضاعها الاجتماعية من ذها الاقتصاد الجديد , ولونها ولغتها من شبه الجزيرة اليونانية التى كانت تغذيها بالرجال وتجمع إلى عهد الاسكندر خير ثمارها , ثم امتدت داخل هذه القارات فى العهد الفارسى وتحت الاسكندر وخلفائه . كذلك كان هذا المجتمع يقتصر , أول أمره , على خاصة أهل المدن والأقاليم المتصلة بها . ثم جعل يتغلغل بين الطبقات التالية لها قليلا قليلا حتى حتى كانت الامبراطورية الرومانية وجمعها شعوب البحر المتوسط فى حكم واحد وتسويتها بينها فى القانون العام بقانون كركلا والقانون الخاص بقوانين ديوكلسيان , ثم دخولها المسيحية اذ بلغ هذا المجتمع غايته . والطور الأول من حياة هذا المجتمع هو ما يدعوه المؤرخون بالهلينية ويميزون اسمها هذه الحضارة المختلطة التى كانت تغشى شواطئ البحر المتوسط بين ظهور الاسكندر وقيام الامبراطورية الرومانية وتتركز فى مدن اليونان أول الأمر ثم تنتقل إلأى الأسكندرية عاصمة هذا العالم إلى ما بعد أغسطس . أما الأطوار الأخرى فتختلط بتاريخ الامبراطورية الرومانية والامبراطورية المسيحية من بعدها .

وقد سبق أن رأينا كيف كانت مدن الدلتا تشترك فى حياة هذا المجتمع العالمى وكيف كان الفراعنة المتأخرون يشجعون اتجاهها هذا . ونحن نعلم أن خاصة المصريين كانت تشترك فيها أيضا كما كان رجال الدين منهم يتقنون الاغريقية ويعرفون الفكر اليونانى قبل دخول الاسكندر . ولعلنا نستطيع أن نقرب إلى تصورنا هذا المجتمع الغريب متى نظرنا إلأى الشعوب التى تتكلم العربية الآن وتأملنا شعورها بوحدتها أو ذكرنا ما كنا نلحظه إلأى وقت قريب فى الغريب والشرق على السواء من قيام مثل امبراطورية ثقافية فرنسية تجمع بين المثقفين بالثقافة الفرنسية ولو لم يكونوا من أصل فرنسى فى جو فكرى واحد .

وقد أقبل الاسكندر على مصر بعد أن تحول وجهها ووجه العالم على الشكل الذى رأيناه بعقب انتصاراته على خصومه من الفرس وحج إلى سيوة وهى ذى ذلك الوقت كعبة شعوب البحر المتوسط جميعا فشهر كهنتها بنوته لآمون ونصبوه على عرش مصر بحق هذه البنوة ثم عاد إلى منفيس فوزع السلطة بين رجاله وبعض المصريين وانصرف إلى التمكين لحملة آسيا واعداد وسائل الدفاع عن البلاد ومنها تخطيط الاسكندرية إلى جانب راقورة المدينة المصرية القديمة .

ومات الاسكندر فتحطمت الامبراطورية التى أقامها دون أن تتحطم الوحدة الاجتماعية التى كانت من بواعثها والتى بقيت الصلة الوحيدة بين شعوب اليونان وآسيا الصغرى ومصر وايطاليا الجنوبية والأساس الذى اتخذته الدول التى تخلفت عن تلك الامبراطورية فى الشرق وعلى رأسها دولة البطالمة . وقد خلف بطليموس الاسكندر فى مصر بمقتضى ميثاق تعهد فيه لكنهة منفيس برد الأملاك التى سلبها الفرس اياهم ودود خطرهم عن البلاد وسعى طوال حياته كما سعى الاسكندر من قبله لأيلاف المصريين وهو سعى نشهد بعض آثاره فى كتابات ماتنون ومعبد بتزوريس وعبادة سرابيس والمعابد التى أقامها البطالمة لألهة المصريين . وكان عدم استناد البطالمة إلى دولة قوية خاصة بهم يستمدون منها القوة أو يضطرون إلى مراعاة مصالحها أو يتأثرون بتقلباتها السياسية على أى شكل , كما كان يستند الاسكندر على مقدونيا , يساهم وتجردهم من كل عقيدة دينية أو حضارة خاصة فى دفعهم دفعا إلى مواصلة العمل على التقريب بين المصريين والاغريق تقريبا بلغ بهؤلاء فى القرنين الثانى والأول ق . م حد الفناء فى جيل اغريقى مصرى جديد يذكرنا بما حدث بعد ذلك فى مصر نفسها من امتزاج الترك والشراكسة بالمصريين رغم ما بين العنصريين من تنافر لا وجود له بين العقيلة المصرية وعقلية شعوب البحر المتوسط الأخرى . وهذا الجيل هو الجيل الذى شهد الحكم الرومانى وحمل رسالة المسيحية .

ونحن نلمس بعض آثار هذا الاتجاه الجديد لعلاقات مصر بالعالم الاغريقى فى شيوع التزواج بين الجنسين واقبال يونانى ذلك العصر على اتخاذ الأسماء المصرية والمصريين على اتخاذ الأسماء الاغريقية حتى يصير من المستحيل أن يميز الانسان المصريين من الاغريق بأسمائهم منذ منتصف القرن الثانى ق . م . كذلك نلسمه فى غمر العنصر المصرى ما عداه فى الأسكندرية على أيام يوسف الأسكندرى , واقدام بطليموس التاسع على منح المصريين حقوق الاسكندريين الأصليين ليملأ بذلك الفراغ الذى يتركه تناقص هؤلاء , ثم انخراط الاغريق فى سلك الكهنوت المصرى , وعبادة آلهة اليونان فى المعابد المصرية , وعلو كلمة الكهنوت المصرى علوا ينم عليه انتقال مجامعهم إلى منفيس بعد أن كانت تنعقد بالأسكندرية , واضطرار الملوك إلى السعى اليهم بعد أن كانوا هم الذين يسعون إلى بلاطهم , واشتراك هذا الكهنوت فى جميع الأعمال الهامة , ثم اتسام شعائر البلاط البطلمى بالطابع المصرى اتساما بارزا , وعودة الروح العسكرية إلى الظهور بانتصار رفح , وامتزاج الفن الاغريقى بالفن المصرى فى معابد ذلك العهد , كمعبد أمبو , ثم ظهور المصريين فى الحياة السياسية أيضا مثل بتوزرابيس الذى حاول خلع ارفيجيت وأخيه والاستئثار بالملك دونهما واستطاع أن يثير الأسكندرية عليهما فى سبيل ذلك , وكيلاس الذى قاد حركة المقاومة للنفوذ الرومانى وكان أول من سعى قيصر إلى التخلص منهم . وقد حدا ذلك بالمؤرخين الذين كتبوا فى ذلك العصر إلى الاجماع على القول بأن البطالة لم يغيروا فى حياة مصر شيئا يذكر فيبفان يقول أن العهد البطلمى لا يعدو أن يكون ثمرة اختلاط الفكر المصرى بالفكر الاغريقى , وبيو يرى أن هذا العهد ليس الا مرحلة جديدة من مراحل الحياة القومية المصرية , ولترون يعتقد أن مصر لم تتغير بعد الفراعنة الابالمسيحية , وشامبليون فيجيل يؤمن بمثل هذا الرأى .

ولم يكن الأمر بين شعوب شرق البحر المتوسط الأخرى يختلف وقتئذ كبير الاختلاف عما كان عليه فى مصر فقد كان كتاب الأسكندرية كما نعلم , فى الغالب , غير اغريقى الجنس وان كانوا اغريقى اللغة والتفكير و وكان حكام الشرق غير اغريقى الجنس وان كانوا اغريقى اللغة والأسلوةب , وكان أكبر حام للهيلينية من اعتداء الرومان وهو ميتريدات عجميا "متهلنا" أن صح هذا التعبير . ونحن نعلم أن روما أيضا كانت سائرة فى ذلك الوقت بالذات فى التأثر بالحياة الاغريقية تأثرا شديدا كان الرومان يقرون به بالجملة المأثورة أسرت اليونان الأسيرة روما ومن ثم كان النحو الخاص الذى نحته علاقة مصر بروما تحت قيصر وانطونيو وأغسطس , فقد بدأت هذه العلاقة بوصية يهب بها بطليموس اسكندر الثانى ملكه الشعب الرومانى وهو نوع من الوصيات كان منتشرا وقتئذ فى الشرق والجمهورية الرومانية . وتبع ذلك اشتراك كليوبطره فى الحرب التى كانت تدور بين الأحزاب الرومانية على حكم الامبراطورية الرومانية بأسرها كحليفة لبعض زعمائها . وأخيرا ولى أغسطس شؤون مصر دون أن يشعر أهلها بتغيير ما اذ لم يكن الأمر يعدو فى النهاية تغيير شخص الجالس على العرش . وسبق أن رأينا كيف كان الاغريق لا يتصورون الدولة الا فى شكل المدينة القائمة بذاتها . ونحن نعلم أن الرومان بدأوا مثلهم ثم اضطروا تحت ضغط الشعوب اللاتينية إلأى مد حدود دولتهم ومنح حقوقها السياسية والمدنية هذه الشعوب . وقد انتهجوا بعد ذلك فى عهد كركلا حتى امتدت آثار الاختلاط الذى شهدناه إلى دائرة الحكم أيض . ونحن نشهد أثر هذا الامتداد فى اتجاه قيصر وأغسطس إلأى اقامة ملكية عالمية وتنصيب الاسكندرية بعد ذلك فسبسبيان امبراطورا ثم تنصيب انطاكية أدريان واقامة أدريان هذا فى مصر أربع سنوات تباعا ومنح سيفيرو الاسكندرية مجلس شيوخ كمجلس روما وفتح كركلا هذا المجلس الأخير للمصريين ثم اعتناقه ديانة ايزيس واقامته معبدا لها فى روما .

وقد ظهر بعد كركلا على عرش الامبراطورية الرومانية آباطرة شرقيون فكان ماكرينو المصرى وفيروس السورى وستيمو سيفيرو الافريقى وأتى أورليانو بعد ذلك فجعل من عبادة ايزيس دين للدولة وأقرها فى روما بنظمها المصرية . وكان المصريون يذهبون وقتئذ إلأى روما كهنة وأطباء وصناعا كذلك كان يرحل اليها كثير من الشرقيين وخصوصا السوريين . ونحن نعلم أن رئيس المدرسة القانونية الرومانية فى القرن الثامن , كانا أسيويين , وأن كانوا من أصل مصرى وأن كبار مستشارى الأباطرة كهيردوت الكبير وهيرود أجربيا الوضع العالمى كانوا شرقيين .

وقد مهد كل هذا لانتشار المسيحية واتخاذها الوضع العالمى التى كانت عبادة ايزيس ثم الحضارة الهلينية والامبراطورية الرومانية من بعدها قد ألقت بذوره . وبانتشار المسيحية غلب الطابع الدينى على حياة الشعوب الخاصة والعامة جميعا فكانت فلسفتها وثوراتها وحروبها فلسفة وثروات وحروبا دينية وكان آئمتها فى هذه الميادين جميعا رقيين ومصريين على وجه الخصوص فكان أكبر فلاسفتها الأوليين أورجانس مصريا وصاحب أخطر فرقها الأولى أريو مصريا وأشهر أبطالها الأولين كانستاس وكيرلس وشنودة والآباء أنطون وآمون وباخوم وبنيامين وبول والياس مصريين .

وهؤلاء المسيحيون الجدد يخاصمون أعدائهم فى الدين كما يخاصمهم هؤلاء خصاما شديدا ولو كان الجميع أبناء جلدة واحدة فيضطهد الامبراطور ماكرينو المسيحيين المصريين كما يضطهدهم امبراطور من قبله وهو مصرى ويعتدى مسيحو الأسكندرية على معابدهم جميعا وهى معابد تركها لهم آباؤهم ويقفل البطريرك تيوفيدس أكبر هذه المعابد وهو معبد سيرابيس بيده وهو مصرى ويخرب شنودة معابد أخميم ليبنى بحجارتهم اديرته .

وزعماء هؤلاء المسيحيين يتمتعون بنفوذ لا يعرف بدوره الحدود الاقليمية أو القومية فالامبراطور تيودور يوجه إلى يوحنا الأسيوطى داعيا اياه لزيارته فيرفض الراهب الزيارة فلا ينكر الامبراطور منه ذلك ويبعث اليه من جديد راجيا أن ينبئه بما ينتظره فىالحرب التى كان مقبلا عليها حينئذ . ثم يكتب لشنودة قائلا أنه يقدسه وأ، شيوخ الأمبراطورية يريدونه بينهم ويبعث اليه من يحمله إلى القسطنطينية . ورهبان القسطنطينية يستجلبون من مصر عظام شهدائها ويتبركون بها . وبطريرك الاسكندرية ديورسكور يخلع بطريرك القسطنطينية رغم مناصرة الامبراطور له ويعين أحد أتباعه مكانه . وامبراطورة القسطنطينية العتيدة ديو دورة تكتب إلى حاكم طيبة المصرى هوريان راجية اياه العمل على نشر نذهبها فى مقاطعته . وجوستنيان القدير يعطى بطريرك الاسكندرية المصرى بيرا السلطة على حاكمها اليونانى . وقد كان أسقف رافنا وأعوانه بين سنة 396 وسنة 435 شرقيين وكان أسقف باريس فى سنة 596 شرقيا وكان الجالسون على عرش البابوية نفسها حول ذلك العهد وطوال قرن ونصف قرن شرقيين .

وقد قدم عمكرو بن العاص مصر فىالقرن السابع وأهلها خليط من الروم والقبط والنوبة أى من الشعوب التى صهرتها المسيحية فى أتونها هذا الرحب . ومن المحقق الآن أن الفتوحات الاسلامية كانت , ومن الناحية الاجتماعية , شكلا من الأشكال التى اخذها فيض القوى البشرية التى تجمعت فى الجزيرة العربية , قبيل ظهور الاسلام , على السهول المحيطة بهذه الجزيرة فى وقت كانت هذه السهول تعانى فقه فقرا فى الرجال , وكانت مصر على وجه الخصوص تسير منذ القرن الثالث الميلادى إلأى خراب اجتماعى رهيب . كانت تفزع إلأىالصحراء وتغلق دونها أبواب الأديرة وتنتحر هربا من الاضطهاد الدينى وفوضى الحكم والأزمات المالية المتوالية . وكان انقباضها هذا يحدث داخلها فراغا اجتماعيا نلمس بعض آثاره فى غارات قبائل الرحل التى وقف لها القديس شنودة وغزوات النوبة التى اشترط المقوقس على عمروة بن العاص حماية مصر من خطرها وكرات البدو على الصعيد .

وقد أقبلت القبائل العربية على مصر عقب الفتح فى موجات متوالية فقدمها فى العهد الأموى 12 قبيلة من قريش وقيس وجهينة والأزد وحمير ولخم , وهبطتها فى العهد الفاطمى قبائل أخرى من عرب الشام وأفريقا الشمالية وبنى سليم وبنى هلال وخزام , عدة قبائل كتامة وزويلة والبربر التى صحبت جوهر الصقلى والمعز . وكانت هذه القبائل خصوصا ما استجلبه منها الولاة لتعزيز سلطانهم أو اخضاع الانتقاضات المسيحية التى ظلت تترى حتى نهاية القرن الرابع عشر واستثمار الأراضى المهجورة التى كانت توجد بوفرة عند دخول عمرو , تستقر فى الوجه البحرى وتتسرب منه إلى حيث تستطيع . وقد استأثر بعضها بالحوف الشرقى واستولى على القرى الواقعة بالشاطئ الغربى للنيل وانصرف إلى الزراعة ولا سيما زراعة القصب التى اشتهرت مصر بها حينئذ , بينما انتشرت القبائل الأخرى بسائر الأقاليم ولم تقطع صلتها بقبائل الجزيرة والشام وافريقا الشمالية بل كانت تدعو من يريد منها إلأى اللحاق بها وتتناسل بالكثرة التى تعهد بين البدو , بينما كان أهل البلاد الأصليون يثورون المرة تلو المرة فيسبون او يقتلون أو يدخلون الاسلام فيصيرون عربا فى الروح والتفكير والتقاليد ويقل عدد الباقى منهم على كل حال حتى يصيروا أقلية لا تكاد تذكر .

وقد لحق بهذين العاملين فى نهاية العهد الفاطمى وعهد المماليك وبنى عثمان عامل ثالث لا يقل عنهما أثرا وهو ما كان يعقب اضطراب أمور الدولة وقتئذ من خلل فى توزيع المياه كان ينتهى بالفلاحين إلى ترك أراضيهم ليهبطوا المدن أو ينصرفوا للسلب والنهب أو يلحقوا ببدو الصحراء فتتسع مساحة الأراضى التى لا تزرع ويجد هؤلاء البدو المجال الذى يحتاجون اليه لرعى قطعانهم أو مزاولة الزراعة الهينة التى يحسنونها وينمنو بذلك مجتمعهم على حساب المجتمع المدنى المصرى . وهكذا كانت الموجة العربية تتسع وتعلو بفعل قوتها التناسلية الذاتية وما يلحق بها من امدادات قبائل الصحراوات المحيطة بمصر على مر القرون , ثم اتساع الأراضى الصحراوية على حساب الأراضى الزراعية فى العصرين المملوكى والعثمانى حتى أصبحت فى هذين العصرين قوة اجتماعية بحسب حسابها وتشغل مركزا خاصا ظلت تتمتع به حتى القرن الثامن عشر . وعرب مصر هؤلاء هم الذين أهاجوا الحجاز على عثمان بن عفان حتى قتل وقاتلوا عمال بنى أمية قتالا مريرا وأقاموا بالصعيد , آخر أيامهم , خلافة مستقلة وحاربوا عمال هرون الرشيد وغلبوهم واضطروا المأمون إلى المجئ بنفسه إلأى مصر لقمع فتنتهم وأقاموا بمنفلوط سنة 1300 حكومة مستقلة بسطت سلطانها على الصعيد وفرضت الضرائب على أهله وأنشأت جيشا لا يقل عن جيش الدولة نظاما واستعداد وظلوا بعد ذلك الخطر الدائم الذى أقض مضجع الدولة المملوكية حتى دالت . وليس بين مؤرخى ذلك العصر من يذكر نزاعا بين الأمراء المماليك فى مدينة القاهرة أو انتقالا للحكم من يد إلى يد أو هزيمة عسكرية تصيب الحكومة القائمة الا وذكر إلى جانب ذلك ثورة للعرب فى مكان ما من مصر أو سطوة لهم على قرى البحيرة أو الشرقية أو الصعيد أو منطقة القاهرة أحيانا . ومعروف أن المماليك أوالعثمانيين انتهوا إلأى الاستعانة بالعرب فى حروبهم الخارجية والداخلية رغم تخوفهم من شرهم .

وىثار الفتح العربى لمصر تغنينا بعد عما يقتضيه التقصى العلمى من اطالة فى هذا الصدد . فنحن ما نكاد نبلغ القرن الثامن ونلقى أول مصرى كتب عن مصر بعد الفتح وهو ابن عبد الحكم حتى نجدنا أمام مجتمع عربى بارز المعالم مثل مجتمعات دمشق والمدينة ومكة المعاصرة . فأهل هذا المجتمع عرب وتفكيرهم عربى وتقاليدهم عربية وليس فى عروبة من ليس بينهم من أصل عربى كابن عبد الحكم نفسه أى تكلف أوزيف . ومصر ابن عبد الحكم ذاتها مصر سامية عربية منذ أن كانت الخليقة وليس فى تاريخها الطويل ما يستحق أن يذكر سوى قصص ابراهيم واسماعيل وموسى ويوسف ومريم القبطية وايثار النبى القبط وبغض الله كفر المصريين الأولين . وهذا هو رأى معاصرى ابن عبد الحكم المسلمين جميعا من علماء وغير علماء وظل إلى حد بعيد رأى من كتب بعدهم حتى الجبرتى لأنهم ربوا عليه وربى عليه كل من نشأ فى مصر من أصل عربى أومصرى ما دام مسلما .

والمصريون من أبناء هذا المجتمع الجديد حتى من دخل منهم الاسلام بالأمس ينتسبون لأصل عربى ويسمون أنفسهم ابن عبد الحكم وشمس الدين وبهاء الدين زهير وتقى الدين المقريزى . وهم لا يعون أنهم أصحاب قومية خاصة وان شعروا بشئ فانما يشعرون أنهم من أصل مسيحى وهو بعد الشعور الوحيد الذى كانت كنيسة الأسكندرية وما زالت تشعر به فى قيامها على هامش هذا العالم الغريب عنها الجديد عليها لاسلامه ومسيحيتها لا لعروبته ومصريتها . ومجتمعات ناصر خسرو وابن جبير وابن بطوطة وابن خلدون والمقريزى قد تختلف عن مجتمع ابن عبد الحكم والكندى والقضاعى من حيث تعدد الأجناس التى تختلط داخلها ولكنها لا تختلف عنها فى الطابع العربى الذى تتسم به . والمجتمع المصرى ما زال بعد مجتمعا عربى الأفق والروح والتفكير وهاهم أولاء نوابغ كتابه , وغالبهم ممن اشتراكوا فى قيادة الحركة القومية , كالعقاد وهيكل وطه حسين , يكتبون "الصديق أبو بكر" و "عبقرية على" و "على هامش السيرة" , بل ان من يقرأ "قبائل العرب فى مصر" للطفى السيد , وهو من أنبغ من أنجبت مصر وأكثر من سعى لخير أبنائها , يلمس فيه نعرة عربية بارزة . والعلة فى هذا التحول الذى لا يفوقه تحول آخر فى تاريخ البشرية جميعا على ما نعلم ـ إلأى جانب سعة الموجة العربية التى صحبته وطول أمد عملها ـ هى طبيعة المجتمع الذى أنشأته هذه الموجة فقد كان كالمجتمع المسيحى الذى تقدمه , مجتمعا دينيا يقوم على العقيدة ولا يعرف الحدود الاقليمية أو الجنسية . وقد كانوا يقولون عادة فلان القاهرى المولد الدمشقى الاقامة البغدادى الوفاة ولا يقولون فلان المصرى أو العراقى أو الشامى لأنهم فى الحالة الأولى يشيرون إلى أمر محسوس يصح أن يفيد فى وضع صاحبه الوضع الصحيح من جيله أو بيئته أما فى الحالة الثانية فلا يقولون شيئا البتة . كذلك كانوا يجمعون بين الأبيض والأسود والأصفر فى العائلة الواحدة فيكون للبيض زوجات سود وأبناء سود ويكون للسود زوجات بيض وأبناء بيض ويحدث هذا بكثرة وبين الأثرياء والفقراء على السواء .

وقد ينقسم المسلمون بعد ذلك فيما بينهم , تبع ميولهم وأمزجتهم ومصالحهم , خصوصا حين بعد ما بين أطراف الأمة الاسلامية , فيكونون مالكيين وحنفيين وشافعيين أو شيعة وسنيين أو اسماعيلية وقرامطة . ويبتلى مجتمعهم أيضا بالعصبيات فيعرف العصبية العربية والفارسية والتركية . وتختلف وجهاته الفكرية فينفرد أهل العراق بوجهة غير وجهة أهل مصر وأهل الشام . وتتعدد دوله فتقوم دول العباسيين والفاطميين وأموى الأندلس زمن واحد ولا يقضى ذلك على وحدتهم . وقد كانت عصبيات الاسلام مرضا يظهر ويسكن وينتهى إلأى الاختفاء حين تتوافر له أسباب الاختفاء : يظهر كلما دخل الاسلام جنس جديد لما يعمل فيه عمل فيبدل تفكيره ويمزجه بغيره ويسمه بميسمه . وهو يعمل حينئذ فى ميدان النزاع على الحكم حيث تغلب النزعات الدنيوية أو ميدان الجدل الأدبى الذى يتصل بهذا النزاع , ولكنه يعى نفسه وينتج انتاجا ايجابيا فى الميدان الدينى أى الميدان الاسلامى الحقيقى لأن الانتاج فى هذا الميدان يقتضى أن يسبقه تمثل العقيدة التى تتكون منها تربته وهى عقيدة تنكر العصبيات . وكلما واصل الاسلام عمله فى جنس من الأجناس كلما خفت عصبيته وتحللت ولم تبق منها سوى عناصرها الأولى , عناصرها الطبيعية التى يمثلها مناخه وأرضه وماؤه والتى تلازم الأمم حتى تنقرض وتلازم من ينزل عليها أو يحل محلها ان تمكنت منه . والعصبية فى هذه الحالة , أن صح تسميته بهذا الاسم , لا تتعارض والوحدة الدينية حتى لو تبلورت فى نوضع فكرى وأصبحت مذهبا كالمالكية والحنفية أوالسنية و الشيعية . ثم أنها قابلة لفقد الشعور بنفسها والتوارى , اذا لقح أهلها بدم جديد , كما حدث للمصريين الذين أسلموا فهم لم يعرفوا غير العصبية الاسلامية , ان سمح لنا بهذا التعبير , التى كانت تدفع بهم إلى محاربة خصوم الاسلام حتى حين كانوا أقباطا أى مصريين . ونحن نقرأ كتب تغرى بردى المملوكى الدم وابن اياس التركى الأصل والجبرتى الحبشى الجنس ولا نجد لدى واحد منهم صدى ولو بعيد لعصبية جنسية واعية .

والذى يدرس التراث الثقافى الاسلامى اليوم يستطيع أن يميز فيه التفكير المصرى من التفكير العراقى والتفكير الشامى , نقصد تفكير أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام , لأن طبيعة أولئك غير طبيعة هؤلاء ,ولكنه لا يستطيع بالغا ما بلغ جهده أن يرتفع بهذا الاختلاف فى التفكير إلى قومية مصرية أو عراقية أو شامية واعية . كذلك لا يستطيع الباحث أن يعود بتعدد الدول الاسلامية إلى مثل هذا الوعى . وقد كانت هذه الدول تدعى الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة الفاطمية لأن الذين أقاموا كانوا من بنى أمية أو العباس أو فاطمة أى أبناء أشخاص بعينهم , قد يمثلون أو لا يمثلون فكرة بعينها وقد يستندون أو لا يستندون إلى عصبية صحيحة ولكنهم لم يمثلوا قط تمثيلا واعيا فكرة قومية ما . وان لم يكن الأمر كذلك فما معنى أن يكون معاوية بن أبى سفيان من أشراف مكة ولا يشعر بوازع إلى اقامة مقر حكمه فى هذه المدينة ؟ واذا كانت الظروف التى صحبت قيام خلافة الأمويين هى التى دفعت بها إلى ذلك فلم أقام بنو العباس ملكهم فى بغداد وهم من عرب الجزيرة أيضا ؟ ولم استعانوا بالفرس على العرب ؟ ولم فكروا فى نقل مقر حكمهم إلأى سر من رأى أو أية مدينة أخرى دون ديارهم العربية ؟ وكان الفاطميون عربا طافوا الأقطار وأقاموا لنفسهم ملكا فى أفريقيا الشمالية دون أن تأنف قائلها الأبية من الائتمار بأمرهم ولكنهم ما دخلوا مصر حتى تركوا مقر حكمهم ذلك وأقاموا بها وهى ليست بلادهم ولعلهم كانوا تاركيها لوأفلحوا فى نزاعهم مع العباسيين .

وأقبلت الموجة التركية بعد ذلك فغيرت من نظم الشعوب الاسلامية واتجاهاتها ولكنها لم تغير شيئا من تركيبها هذا فكان المماليك يأتون من القوقاز ومن الأصقاع الأسيوية الأخرى ويزاولون الحكم فى مصر وآسيا الصغرى جميعا ولا يحطر لواحد منهم أن ينقل هذا الحكم إى وطنه الأصلى أو يخضعه له .

وقد كان العرب يعيشون قبل الاسلام قبائل رحلا تنزل حيث يحلو لها النزول ولا تعرف رابطة اجتماعية غير رابطة القبيلة فأتى الاسلام وقضى على هذه الرابطة وأحل محلها رابطة الأمة الاسلامية . ولما كانت الأمة الاسلامية تعيش فى مملكة الله وكان الله يملك الأرض ومن عليها ويخضعها لمشيئته الأزلية الشاملة فالأصل فيها أن تكون لها دولة واحدة . ومن ثم كان تنازع الأمويين والعباسيين والفاطميين وادعاء كل فريق منهم حق الولاية على المسلمين دون الفريق الآخر . وكان أيضا عدم اختلاف التشريع والقضاء بين البلاد الاسلامية إلى حد بعيد جدا وإى عهد قريب جدا . وهكذا كان مسلم مصر الذى يذهب إلى بغداد ومسلم الهند الذى يقدم مصر ومسلم العراق الذى يرحل إلى الجزائر يخضع لنفس القانون ويظهر أمام نفس القضاء ولا يكاد يقوم بينه وبين أهل البلاد الأصليين فارق قانونى يذكر . هكذا كان ما بين شاطئ البحر المتوسط والمحيط الهندى وحدود الصين مثل وعاء واحد ضخم , تختلط داخله الأجناس والأفكار والتقاليد , ويحتل كل جنس منه الطبقة التى تلائم الدور الاجتماعى التى جمعت بين شتاتها , فيحتل أصلحهم لحمل السلاح , وهم عادة أقربهم عهدا بالبداوة وحياتها الخشنة , مراكز الدفاع , وكانوا فى أول الأمر عربا فصاروا أكرادا وزنجا ومغاربة وتركا وديلما . ويحتل أقدمها عهدا بالنظم الحكومية مراكز الادارة فيكونون فرسا لدى العباسيين ومصريين لدى الفاطميين والأيوبيين والمماليك ويكون السوريون تجارا وصناعا وقضاة الخ . . .

وحكم هذا المجتمع ينتقل بالتالى من اليد التى تضعف إلى اليد القوية التى تستطيع النهوض به دون أن يتنازع عليه غير متبادلية ودون أن يتعدى النزاع عليه القدر الذى يستتبعه فقده أو الوصول اليه من حرمان أو متعة شخصية مباشرة . وقد سلمه العرب فى مصر إلىالمغاربة والمغاربة إلى الأكراد والأكراد إلى المماليك والمماليك إلأى بنى عثمان دون أن يعنى به غير متداوليه من أهل المجتمع الا فى حدود ما يصيبهم من أذى , ان مس مدنهم شئ من شر القتال , ودون أن يؤثر فيهم تغير الحكم , فيما عدا ما قد تقتضيه الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية العامة التى كانت تثير هذا التغير فى بعض الأحوال . وقد كان الذين واطأوا ومهدوا لدخولهم مصر عربا لا مصريين . بل يخبرنا المقريزى أهل تينس , وكان غالبهم قبطا , قاتلوا جند المعز فى هذه المدينة قتالا شديدا لأسباب تتصل بسلامة تجارتهم وصناعتهم . كذلك كان أهل الدولة الفاطمية هم الذين دعوا الأيوبيين إلى اسقاط هذه الدولة بعدأن عجزت عن الوقوف فى وجه الكفار . وكان الأيوبيين بالذات هم الذين أنشأوا فرق المماليك هم الذين واطأوا بنى عثمان وانهزموا لهم وتعاونوا معهم فى الحكم حتى جفت عروق الدولة العثمانية . وكل دولة من هذه الدول حم قضاؤها تتلفت حولها النجدة فلا تجدها فى غير أعضاء العائلة التى تحكمها وأتباعها المباشرين لأنها لم تكن قط الا حكومة شخصية , حكومة عائلة بعينها . وقد رأينا كبف كانت القبائل العربية , وهى وقتئذ جزء هام من المجتمع , تنتهز كل ضائقة كى تثور وتسطو بالحكام القائمين . ونحن نعلم من ابن اياس أن السلطان طومان باى طلب إلى المغاربة أن ينضموا إلى جيشه فى محاربة بنى عثمان فقالوا لها أنهم لا يحاربون الا النصارى وكان هذا المنطق هو منطق الجميع حتى السلاطين . كذلك نقرأ مؤرخى ذلك العصر كابن اياس نفسه والمقريزى وتغرى بردى والجبرتى بعد ذلك فلا نجد تحت ما يبعثه سقوط الدول والسلاطين فى نفوسهم سوى الاشفاق على مصالح الناس أو عزة الاسلام أو خراب الدولة أو تدهور الحضارة أيضا أو كل شئ سوى الشعور بكرامة وطنية ديست أو عزة قومية جرحت .

وقد كان من شأن هذا الوضع الذى اتخذه المجتمع الاسلامى وقتئذ أن ما انهارت الخلافة العباسية وأنشأ الخطر المغولى يهدد آسيا الصغرى بين القرنين الحادى عشر والسادس عشر حتى صارت ملاذ المسلمين من جميع الأجناس . ونحن نعلم أن الصليبيين ما كادوا يهددون مصر فى القرن الحادى عشر حتى ثار أهلها الفاطميين واتصلوا ببغداد ومهدوا السبيل لقيام حكم صلاح الدين . ونعلم أن صلاح الدين قدم مصر ومعه قوات كبيرة من الأكراد وان أولاده استعاونوا بعده بالأتراك والشعوب التى كان المغل يسوقونها أمامهم . وقد جعلت القطعان البشرية التى كانت تتناثر من تطاحن هؤلاء المغل تقبل , خلف أولئك الفارين , فى موجات متوالية , كفى من هبط منها القاهرة وحدها , بعد سقوط بغداد , لتعمير ما كانت مجاعات العهدين الفاطمى والأيوبى خربته من أحيائها , وبلغ من قدم منهم , تحت كتبغا , عشرة آلف عائلة على رأسها تاعز زوج بنت هولاكو , واتصل اقبالهم هذا على مصر حتى صاروا العنصر الغالب فى جيوشها وظلوا كذلك إلى أن هبط الفرنسيون مصر فى القرن الثامن عشر بفضل من كان يجلبه الحكام اليها منهم لهذا الغرض .

وكان هؤلاء النازحون يتلاقون ويختلطون ويتعاونون فى مجتمع واحد يجمع بينهم بروحه الدينية وينشئ منهم دولة واحدة تنعكس على سطحها ملامحهم الغريبة المختلفة : دولة يلقب رئيسها , منذ بيبرس حتى الغورى , ب "سلطان الاسلام وارث الملك وسلطان العجم والترك اسكندر الزمان صاحب القبلتين خدام الحرمين الشريفين سيد الملوك والسلاطين " لا سلطان مصر , وتمتد حدودها إلى أرمينيا القصية , وتجمع بين المصريين وغير المصريين من أعراب ومغل وأتراك وأكراد , وتقوم على نظم لم تعرفها مصر فى عصر من عصور حياتها الطويلة قط , وقضى بنو عثمان على هذه الدولة فى القرن السادس عشر فتم بذلك لآسيا الوسطى الظهور على شعوب هذاالجانب من البحر المتوسط فى الحرب المريرة التى دامت بين الطرفين منذ ظهور الخطر المغولى , وبلغت شعوب هذه القارة السحيقة ما لم تكف طوال ذلك الزمن عن محاولته من اقامة حكم ثابت تديره على طريقتها وبرجالها ولنفسها ,وهو حكم كان الناس يتكلمون إلى آخر أيامه التركية لا العربية , كما كانوا يفعلون فى القاهرة فى أشد أيامها تعرضا للموجات المغولية , ويكتمون بالتركية لا العربية كما كانوا يفعلون تحت المماليك , ويتجهون فى حياتهم العامة والخاصة اتجاهات أسيوية بارزة . وهكذا تغيرت مصر تغيرا عميقا شاملا بعد الفتح العربى عما كانت عليه من قبله فصار أبناؤها يفكرون بالعربية بعد أن كانوا يفكرون بال "هيرغلفية" أو الاغريقية ويشعرون شعورا اسلاميا لا "فرعونيا" أو مسيحيا ويتنفسون فى جو آسيا المغولية بعد أن كانوا يتنفسون غو جو البحر المتوسط .

ونحن نعلم أن هناك من يحجون بأن الموجة العربية لم تعد فى مصر قط حدا معينا من الارتفاع ولم تؤثر بالتالى فى كيان المصريين وعلى رأس القائلين بهذا الرأى ماسبرو . ولكننا نخالف هؤلاء بما أوردنا من وقائع لا ريب فيما يتعلق ببحثنا هذا هو اللون الفكرى والشعورى قبل كل شئ ولاشك البتة أن هذا اللون عربى حتى اليوم . كذلكم نعلم ا، هناك من يقول بأن المصريين لم يتغيروا قط وان الذى تغير وتمصر هو من هبط عليهم من الخارج وبين هؤلاء الدكتور طه حسين . ونحن نتفق وهؤلاء ان كان ما يقصدون اليه هو أن من قدم مصر من الشعوب المختلفة تأثر بفعل شمسها ونيلها وماضيها كما يتأثر الأغراب فى كل بلد يهبطونه , ان اختلف مناخه عن مناخ بلادهم وكانت له حضارة تختلف عن حضارتهم وتفضلها , ولكننا نخالفهم فيه ان كان ما يقصدونه هو أن المصريين لم يتغيروا ماديا ومعنويا قط ولم يبلغ تغيرهم هذا حد الذهاب بكثير من معالم حضارتهم وشعورهم بوحدتهم كأمة , وان لم يقض على مقومات هذه الوحدة لأنها مقومات طبيعية وهى بذلك أزلية لا تتحول .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني: حكم المغل

هبت أعاصير الحرب على العالم الاسلامى , منتهى القرن الحادى عشر , وظلت تعنفت به عنفا يكاد يكون متصلا حتى مطلع القرن الخامس عشر , وقد بدأت هذه الحرب بهبوط الصليبين الشام فى سنة 1097 وبلغت ذروتها بانقضاض المغل على آسيا الصغرى فى صدر القرن الثالث عشر ثم مالت إلى الهدوء فى القرن الذى يليه لتندلع من جديد , أول القرن الخامس عشر , اذ عاود المغل غارتهم الرهيبة على الشام وظلوا يهددونها حتى ظهور الخطر العثمانى , وهو نفس الخطر الذى استكاع بعد ذلك أن يبطش بمصر ايضا وأن يهدد القارة الأوروبية تهديدا متواليا حتى نهاية القرن السابع عشر . ولم تكن هذه الحرب من الحروب العادية التى تواترت على الشرق والغرب , بين سقوط الدول القديمة وظهور الدو الحديثة , بين مدينة ومدينة أو أمير وأمير أو ما ندعوه بالسلطة الزمنية والسلطة الروحية . كانت حربا ضروسا من الحروب التى يضرمها اصطراع العناصر الاجتماعية من حين إلى حين فتنقض نسج التاريخ وتقيم من الدماء حضارات جديدة , كهجرة الآربين إلى الغرب فى فجر التاريخ وغزوات القبائل الجرمانية لجنوب أوروبا فى القرن الخامس والفتوح العربية فى القرن السابع . فكان الصليبيون هم أوروبا الخارجة من ليل الغزوات الجرمانية إلى فجر النهضة بعد أن امتزج بها الغزاة بالمغزوين فى مجتمع جديد واحد وبلغوا من الشدة ما قدرهم على دحر الترك السلاجقة والوقوف فى وجه صلاح الدين ومقارعة المماليك قرنين متوالييين , أقاموا , أثناءهما , فى قلب سوريا وفلسطين , امارات ثلاثا ومملكة قوية , كانت تمتد من بيروت إلأى العريش وتشرف على مواصلات مصر بالشرق , وجعلوا يشنون على الممالك الاسلامية الواقعة فى نطاقهم , الغارة تلو الغارة , فى غير هوادة أو كلل , بما لديهم من الجيوش المرابطة فى الأراضى التى أخذوها أو ما كانت توفدها اليهم ديارهم منها فى موجات متوالية , كانت تتحول أحيانا إلى الحملات الضخمة التى يدعوها المؤرخون بالحملات الصليبية . وهى الحلات التى امتدت من سنة 1096 إلى سنة 1101 ومن سنة 1147 إلى سنة 1149 إلى سنة 1192 ومن سنة 1194 إلى سنة 1197 ومن سنة 1217 إلى سنة 1221 ومن سنة 1227 إلى سنة 1247 ومن سنة 1247 إلى سنة 1254 ومن سنة 1263 إلى سنة 1291 . وهذه هى تواريخ المواقع الرئيسية لا تواريخ المواقع جميعا فقد كانت هذه لا تفتر الا ريثما يعيد المتحاربون تنظيم صفوفهم وينزلون إلى الميدان من جديد .

وكان الصليبيون يشتركون فى هذه الحرب بجيوش ضخمة يشبه المؤرخون الغربيون كثرتها بغزراة رمال البحر ونجوم السماء . فاشتراكوا فى الحملة الأولى ب 600 ألف رجل من خير مقاتلة ألمانيا وفرنسا وايطاليا , لحق بهم بعد سقط القدس 300 ألف مقاتل آخرون وعدد لا حصر له من المتطوعة الذين كانوا يخففون جماعات إلى جبهات التاقل , واشتركوا فى الحملة الثانية بثلاثة جيوش تبلغ عدتها مليون راجل و120 ألف فارس , واشتركوا فى الحملة الثالثة ب 600 ألف مقاتل . وكان يقودهم فى الغالب ملوك عظام مثل كراد وفردريك الأول وفردريك الثانى امبراطورة ألمانيا وريشلر قلب الأسد ملك انجلترا وفيليب أوجست ولويس السابع ولويس التاسع ملوك فرنس , ورجال أشداء ينتسب غالبهم إلى أعرق العائلات الحاكمة فى أوروبا وقتئذ كجوفريدى بوليون وريموند كونت تولوز وتنكريدى , ومن ورائهم الكنيسة الكاثوليكية بوسائلها التى لا تنضب والجمهوريات الايطالية بثرائها العريض وبحريتها التى لا تضارعها بحرية ثانية .

وبينما كانت أوروبا الجديدة تغزو العالم الاسلامى على هذا الوجه , كانت حمم البركان البشرى الذى انفجر فى قلب آسيا , ابان القرن الثالث عشر , عن تنكيزخان وجحافله , تقبل بدوى قاصف فى سيول وفيرة من الأسرى واللاجئين , وتطغى على الشعوب الاسلامية التى تلقاها فى طريقها . وثورة تنكيزخان من الظواره التاريخية التى لا نزال نجهل سرها حتى اليوم كما نجهل سر الثورة المغولية التى انفجرت من قبلها فى القرن الثالث وطوحت بالشعوب الجرمانية إلأى حوض البحر المتوسط فاكتسحت فى طريقها امبراطورية الرومان . كل ما نعلمه هو أنه ما حل القرن التاسع حتى جعلت تطرق الامبراطورية الاسلامية موجات بشرية متلاحقة من الديلم والغزو والترك , كانت تقبل من صحروات آسيا الوسطى وتتسلل إلى المقاطعات الشرقية من هذه الامبراطورية فى شكل رقيق مختلف الأجناس , أول الأمر , ثم كقبائل مسلحة , سرعان ما نتهت إلى غمر جيوش الخلفاء والقبض على دفة السلطان . ثم أقبل القرن الثالث عشر واذا بهذه الموجات تستحيل طوفانا اكتسح الصين وغمر آسيا الصغرى وروسيا وأوروبا الشرقية وبلغ الهند وسواحل البحر الأحمر , ثم انحسر عن الامبراطورية الضخمة التى تركها تنكيزخان لأبنائه وأتباعهم . ويقول بعض من أرخ لها انها كانت تكاد تكون خاوية على عروشها أول الأمر لكثرة ماأنزله الغزاة بأهلها من قتل وتنكيل .

وكان المغل حين انطلقوا إلى غزواتهم هذه لا يزالون على البداوة التى عرفوها قبل تنكيزخان وظلوا عليها بعد وفاته بزمن طويل , يمتازون بما يمتاز به البدو عادة من وفرة فى النسل وشغف بالقتال إلى جانب تلك القسوة الغريبة الرهيبة التى لا تعرف حرمة للحياة ومازالنا نشهد بعض مظاهراها بين شعوب الشرق الأقصى إلى اليوم . وهكذا أقبلوا علىالامبراطورية الاسلامية فىالنصف الأول من القرن الثالث عشر فى جحافل جرارة تميد بها الأرض وتنهرا تحت سناكبها المدن يقتلون ويدمرون ويسفكون لغير ماغاية سوى القتل والتدمير وسفك الدماء . وقد بدأوا بالترك القجاق والروس وثنوا بأهل الرى ثم انقضوا على مملكة جلال الدين الخوارزمى ففتكوا بها ثم عبروا دجلة وأطبقوا على العراق فأغرقوا بغداد فى دم أهلها وألقوا بجثة الخليفة فى العراء ثم ساروا إلى الشام فمزقوها وبدأوا يناوشون مماليك مصر ويتربصون بهم الدوائر حتى مطلع القرن الخامس عشر حين حين هبط تيمورلنك الشام من جديد ليرتد عنه إلى غير رجعة أمام زحف العثمانيين . وقد أصاب مصر من هذه الحروب جميعا شر بالغ ففقدت المدن التى استولى عليها الصليبيون فى الشام وفلسطين وهما حينئذ جزء منها . وتعرضت للغارات العنيفة التى كانوا يشنونها عليها من الشرق والغرب والشمال , وهى الغارات التى بدأها ملوك القدس بحرقهم مدينة الفرما فى سنة 1117 وواصلها الروم ونورمانديو ايطاليا الجنوبية , بعد أن أخذوا صقلية وأغاروا منها على المهدية , مهد الفاطمية ,بما لايقل عن 250 قطعة بحرية , استخدمت بعد ذلك هى وأساطيل الجمهوريات الايطالية فى مهاجمة الثغور المصرية ومحاصرتها وتخريبها . ثم قاست مرارة المحاولات المتوالية التى قام بها الغزاة لأخذ أراضيها اذ هاجم الروم دمياط فى سنة 1169 . واستولى ملك القدس على بلبيس وكاد يستولى على القاهرة تحت العاضد . وقصدت الحملة الصليبية الخامسة دمياط من جديد فسقطت المدينة فى سنة 1218 ثم فى سنة 1249 وكاد لويس الحادى عشر يفتك بالقوات المصرية لو لم يصمد له المماليك البحرية , بينما كان المغل يهاجمون الشام ويستولون عليه مرتين , شلت حياة مصر , فى المرة الأولى منهما , شللا تاما وخطب لبركة بن جنكيز خان على منابرها , ونزل بها , فى المرة الثانية , ما يدعوه المقريزى بالبلاء العظيم ويصفه قائلا : "فخربها كلها (أى تيمورلنك للشام) وحرقها وأسر أهلها حتى فقرت بها جميع أنواع الحيوانات وتمزق أهلها فى جميع أقطار الأرض ثم دهمها بعد رحيله جراد لم يترك بها خضراء وشرقت الأرض بمصر أيضا لقلة الماء من النيل وعظم البلاء والفناء فباع أهل الصعيد أولادهم وصاروا أرقاء ومملوكين وشمل الخراب عامة أراضى مصر والشام" .

ونحن نستطيع أن نلمس الأثر البالغ الذى تركه ما بذلته مصر حينئذ من جهد حربى مرهق فى حياتها العامة والخاصة بالمقارنة بين أوضاع حياتها هذه قبل بدء الحروب الصليبية وبعدها . فاننا اذا ألقينا النظر على مصر فى العهد الفاطمى الذى هبط الصليبيون الشام فى نهايته أبصرنا مجتمعنا وادعنا بمارس شتى أنواع الزراعة والصناعة والتجارة وينهض بالأمر فيه خليفة يزاول السلطة بنفسه أو بواسطة وزيره ويستعين فى ذلك بعناصر يختارها من القضاء أو الوظائف الادارية أو الأعمال المالية , أى وجدنا مجتمعا مدنيا بالقدر الذى تسمح به طبيعة المجتمعات فى ذلك الزمن . وقد فقد هذا المجتمع بعض لونه هذا المدنى تحت المستنصر حين نكبت البلاد بالمجاعة وهاج الجند وبدأ رجال السيف يظهرون فى مراكز الحكم . ولكنه لم يفقده تاما اذ ظل الخلفاء يصمدون لميل هؤلاء الرجال إلى التفرد بالسلطان حتى دالت دولتهم , فتخلص أمير من الأفضل شاهنشاه والمأمون وحكم بدونهما وفعل الحافظ بعده مثل ذلك مع كتفيت وحذا حذوهما من جاء بعدهما من الخلفاء حتى العاضد , آخر الفاطميين , فأبو المحاسن يقول انه عهد إلى صلاح الدين بالوزارة لقلة عساكره وأمله فى التخلص منه وممن بقى معه من جند الشام بمن لديه من الكتامى .

وكان بدر الجمالى , أول القادة العسكريين الذين نهضوا بالحكم فى نهاية العهد الفاطمى وأعظمهم شأنا , أرمينيا من أصل مسيحى أبدى نشاطا حسنا فى ادارة الشام فاستوزره المستنصر حين زلزلت المجاعة اقتصاد البلاد فواجه الموقف بالشدة التى اقتضاها وكان حاكما عسكريا مطلقا . ولكنه ظل إلى آخر ايامه ظاهرة فاطمية محضة فكان اذا بدأ حياته السياسية من أهل الدولة التى نهض بشئونها ولم يطرأ عليها من الخارج أو يعتمد فى حكمها على غير قوات البلاد وانصرف طوال حكمه إلى معالجة أمور مصر القريبة فما كانت له اتجاهات خارجية بعينها . وقد مات بدر الجمالى دون أن يترك أثرا فى نظم الحكم الفاطمى , دون أن يترك غير المثل الذى ضربه لكل قائد طوح يستطيع أن يجمع حوله قبضة من الجند المغامرين . يدل على ذلك نجاح أمير فى التخلص من ابنه شاهنشاه ومأمون الذى تولى الوزارة من بعده واستطاعة الحافظ القضاء على وزيره كتفيت وطرد أنيس الأرمنى الذى خلفه وتعيين ابنه سليمان محله ثم معارضة الأمراء للحسن ابن هذا الخليفة , حين ارتقى إلأى الوزارة بالقوة , وفرضهم على أبيه خلعه وقتله . وافلاح الخلفاء هذا فى تسريح وزارئهم العسكريين هؤلاء سراحا يسيرا يرجع لحد بعيد إلى طبيعة النزاع الذى كان يقوم بينهم وبين هؤلاء الوزراء فقد كان نزاعا بين السلطة الشرعية القائمة وقواد جند يستوون فى القوة العسكرية ويتنافسون على الحكم وهم وجندهم من نبات الأرض التى أنبتت أولئك الخلفاء , بهم من وجوه الضعف ولديهم ما لديهم من وسائل القوة , ولكنهم ينقصون عنهم فى أنهم لا يستندون كما كانوا هم يستندون إلى أساس من الحقوق الشرعية المتوارثة . ونحن نعلم أن الأفضل شاهنشاه كان يعنى بتحفة أكثر مما يعنى بالخطر المقبل من ناحية الشام , كما كان يفعل الخلفاء الفاطميون حينئذ , وأن مأمونا لم يكن أقل اهمالا من الأفضل للشئون العامة , كما كان الوزراء الذين جاءوا بعدهما . ونعلم أيضا أن الجند الذين استعان بهم هؤلاء الوزراء لم يتعدوا قط حدا معينا من الكثرة أو الاستعداد أو النظام فقد اضطر بدر الجمالى إلى جلب الجند من الشام واحتاج الأمير حسن بن الحافظ إلى تعبئة أوباش القاهرة وانتهى رضوان إلى مغادرة مصر فى البحث عن جند يقوم بهم أمره . وبانت ضآلة هؤلاء الأمراء جميعا بعد ذلك حين حاولوا الكيد لصلاح الدين فأطلق عليهم جنده فردوهم إلى الطاعة ردا عاجلا كما فعلوا بجند الخليفة من السود حين ثاروا فى الصعيد وساروا إلى القاهرة يريدون أن يعيدون الفاطميين .

ونحن نعلم أن صلاح الدين قدم مصر على رأس الغز الذين أرسلهم نور الدين زنكى , وهو وقتئذ قطر الرحى فى مجاهدة الصليبيين , لاستنقاذ القاهرة من قوات ملك القدس اذ استنجد بها شاور فى منافسة ضرغام فخفت إلى نجدته وأرادت تنتهز الفرصة فاستولت على بلبيس وأخذت طريق العاصمة . ونعلم أن الذى طلب إلى نور الدين ارسال جنده هؤلاء كان خليفة العاضد رغم ما بين الشيعة والسنيين وقتئذ من خصام شديد وشاور نفسه اذ يغتته ملك القدس ثم الرأى العام فى مصر جميعا حين سقطت ثقته فى قردة الفاطميين على حماية ثغوره . ويعلم أخيرا أن نور الدين زنكى هو الذى أمر صلاح الدين بخلع الفاطمية ووضع حد للاضطراب الذى كان يعترى علاقات مصر بالشام والخلافة العباسية فى ذلك الوقت . ونحن نلمس هنا صلة الخطر الصليبى بسقوط الففاطميين وقيام الأيوبيين ووجوه الاختلاف بين صلاح الدين ومن تقدمه من وزراء الفاطمية العسكريين . فبينما لم يكن هؤلاء الوزراء , ىخر الأمر , سوى رؤساء جند طامحين يطلبون الحكم لنفسهم وجندهم كما رأينا , كان صلاح الدين من الرجال الأشداء الذين شاركوا نور الدين زنكى فى مجاهدة الصليبيين وكان يقدم مصر استجابة لمقتضيات هذا الجهاد على رأس جيش غريب تجمعه به عصبية حية ويفصل بينه وبين المجتمع الفاطمى الذى كان ينزل عليه اختلاف بعيد فى المستوى الاجتماعى , وفضلا عن تميزه بما كان عليه من اتصال مباشر بتلك الأصقاع الاسيوية السحيقة التى كانت تطلق . على العالم الاسلامى حينئذ سيلا لا ينضب من الترك والديلم والغز والأكراد والتكمان والمغل وسائر تلك الأجناس المتشابهة المتقاربة المتلاحقة التى تفهم من كنهها شيئا حتى اليوم .

وكان أول ما فعله صلاح الدين بعدأن استجمعت له الأمور فى مصر أن أزال الجند الذين وجدهم فيها من سود ومصريين وعربان وأورمن وأحل محلهم الأكراد والترك الذين قدموا معه فى نحو 12 ألف فارس ثم انصرف إلى التهيؤ لمقاتلة الصليبيين ومات وهو يشنها عليهم حربا عوانا العالم تلو العام واقتدى أبناؤه به فى ذلك من بعده فكانوا ينفقون غالب وقتهم فى الشام , ميدان هذه الحرب , حتى اذا انتقل القتال إلأى سواحل الدلتا انتقلوا معه اليها . وكان صلاح الدين وخلفاؤه يعتمدون فى هذه الحرب على الأكراد من أبناء جلدتهم قبل غيرهم ويرسلون فى طلبهم من المشرق ثم انقسموا على أنفسهم وهبطت عصبيتهم فاستعانوا بالمرتزقة من الأجناس الأخرى واستخدم الصالح أيوب الخوارزمية ومماليك القجاق والأصقاع التى تليها , وهم نفس المماليك الذين أنقذوا بعد ذلك دمياط من ملك فرنسا بأهل القاهرة تنكيلا يقول المقريزى انه فاق ما كان الصليبيون ينزلونه حينئذ بالثغور المصرية ز وبمقتل توران شاه انتقل الحكم من يد الأكراد الذين قدموا مصر تدعوهم مقتضيات الدفاع عن الاسلام إلى يد المماليك الذين حلوا محلهم فى هذا الدفاع والذين تحولوا بعد ذلك إلى التصدى للزحف المغولى حين بلغ العراق وأطاح بالخلافة العباسية واتجه إلى الشام ومصر . وقد آوت مصر حينئذ الخلافة العباسية واحتضنت المماليك ونزلت إلى ميدان الجهاد من جديد لتمنع الاسلام من أشد خطر عرض له منذ نشأته وهو الخطر المغولى . ونحن نتظر إلى مصر فى هذه الفترة فنجد مجتمعا غريبا لا سابق عهد لها به , مجتمعا تغلب على حياته فكرة الحرب : حرب المسلمين للنصارى وحرب المغل للمسلمين وحرب المماليك بعضهم بعضا وكل هذا فى وحشية كئيبة , وسط فوضى بدوية لا توصف , وبكثرة عجيبة حقا . ونجد فى مناصب الحكم الذى كان يقوم بشئون هذا المجتمع أولئك الأمراء الغلاظ من الأيوبيين والمماليك الذين ينفقون حياتهم فى الحروب وحولهم فرق من العسكر تخضع لارادتهم أو تخضع لارادتها وتوجه أمور الحكم كما تشاء . نجد دولة عسكرية من نوع الدول البدائية التى قامت فى الغرب بعد سقوط الامبراطورية الرومانية وقامت فى الشرق على انقاض الامبراطورية العباسية : جند فى الأسفل ثم أمراء عسكريون ثم قائد أعلى يزاول السلطات جميعا والجميع لا يعرفون لهم عملا غير القتال .

وهذه الفترة هى بعد الفترة التى بنيت فيها قلعة المقطم الموحشة وأقيم سور القاهرة وأنشئت قلعة الروضة , وهى أكبر الآثار الفنية التى بقيت لنا ان لم تكن الآثار الفنية الوحيدة . ظهرت طائفة المماليك فى مصر تحت الأيوبيين واكتملت حدودها على الوجه الذى نعرفه الآن فى العهد الذى أعقبهم . وهى اذا من مستحدثات الجو المغولى الذى خيم على الحياة المصرية منذ نهاية القرن الثانى عشر ويجدر بنا لذلك ألا تقيد , فى توضيح ملامحها القانونية , بأحكام الشريعة الاسلامية , خصوصا اذا تأملنا اختصاص أبناء ذلك العصر , بلفظ مملوك , هؤلاء الأغراب دون غيرهم ممن مسهم الرق ـ وهو الحالة القانونية التى ينسبون اليها فى العادة ـ ووقفهم اياهم على القتال دون غيره من الأعمال التى يحق للسادة أن يوجهوا ايلها عبيدهم , والتزامهم فى معاملتهم حدودا لا تتفق وما نعرفه عن أصول الرق الصحيح كالاعتراف لهم بحق الملكية وتورثيهم فيما بينهم والسماح لهم بالانتقال من سيد إلى سيد بمحض رغبتهم . والظاهر من وثائق ذلك العصر أن الأيوبيين كانوا يطلقون على أتباعهم , أول عهدهم , لفظ "الغلمان" ولا يستعملون فى الغالب لفظ "مملوك" الا فى رسائل الملوك والأمراء للتعبير عن اخلاصهم ووفائهم واستعدادهم للتضحية بكل غالب فى سبيل حلفائهم أو من يخطبون وده ثم سقط استعمال لفظ "غلام" وحل محله لفظ "مملوك" دون أن يفقد هذا المعنى أو يسقط من الوثائق الرسمية . وقد شاع الاستعمال الجديد لهذا اللفظ فى الوقت الذى فترت فيه العصبية الأيوبية واضطر الأمراء إلى البحث عن دعامة جديدة لحكمهم فاستخدموا الخورازمية ثم أسارى الحرب الناشئة وقتئذ . وكان هؤلاء وأولئك يرتبطون بهم برباط الوفاء ذلك الذى كانوا لا يغفلون الاشادة به فى مكاتبهم والذى كان يحل محل تلك العصبية المفقودة ويتخذ لونا عائليا يشف عنه عد مماليك السيد الواحد أنفسهم "خشداشية" أى أخوة وتوراثهم فيما بينهم واطلاقهم على سيدهم لفظ الأستاذ أى الوالد أو المخدم , وهو أمر يذكرنا ببعض هادات المغل وقوانينهم ان لم تكف لتذكيرنا بها الظروف التى ظر فيها المماليك والتقاليد الاجتماعية التى نعرفها عنهم . فنحن نعلم أن قوانين التوريث التى كان يأخذ بها المغل فى ذلك الوقت كانت تقصر انتقال العقار بالفواة على أصغر أبناء المتوفى وتقسم ثروته المنقولة فى بقية الأبناء كل حسب مواهبه فالخيل لأشجعهم والغنم لأدمثهم وهكذا . وكان هذا النظام يؤدى إلى بقاء غالب الويثة بتركة زهيدة أو دون تركة البتة , الا فى الحالات القليلة التى يكون فيها المتوفى اذ ثروة طائلة , ويدفع لذلك بأكثرهم إلى ترك عائلتهم والسعة خلف من يستطيعون أن يبيعوه العمل الوحيد الذى يحسنونه وهو مهنة القتال . ولما كانت علاقات العمل بين المغل تتفرع حينئذ فى الغالب على علاقة القربى وكانت الألفاظ التى يطلقونها على مختلف درجات هذه القربى عادة ألفاظا عسكرية فقد كانت العلاقة بين هؤلاء المهاجرين والسيد الذى يأويهم تتخذ شكل التبنى ويعبر عنها ألفاظ عسكرية وتعقد بنفس الطرق التى كانت تتبعها قبائل المغل فى حالات التبنى العادية من مزج بعض الدم المتبنى والمتبنى باللبن إلى القسم على انشاء العلاقة الجديدة إلأى مجرد تبادل القبول والايجاب . وكانت إلى ذلك تنتج جميع آثار التبنى العادى فيتمتع المتبنون بحقوق الأبناء الشرعيين ويحملون لقب عائلتهم الجديدة والاسم الذى يطلقه عليهم آباؤهم الجدد . ومن هذا القبيل كانت علاقة جنكيز خان وتيمورلنك وكثير من رجالات بملوك آسيا الوسطى العصر. وواضح أن العلاقة التى كانت تقوم بين المهاجر ووالده الجديد على هذا الوجه تختلف فى جوهرها عن علاقة العبد بسيده وان انطوت على ما تنطوى عليه علاقة البنوة الطبيعية فى المجتمع البدوى , خصوصا فى آسيا الوسطى فى ذلك الزمن , من عناصر تصورنا للرق مثل استطاعة الآباء التصرف فى حياة أبنائهم كما يشاءون وخضوع الأبناء لآبائهم خضوعا يشل ارادتهم , أو على ما تنطوى عليه علاقة العمل فى المجتمع الزراعى القديم من تحول العامل إلأى مثل متاع لصاحب عمله , وغلبة الذلة على صلات الطرفين , وهى غلبة لا تستغرب خصوصا فى مجتمعات آسيا الوسطى أى الأرض التى ابتدعت مراسيم تقبيل الاقدام والتمرغ فى التراب والانحناء العميق . وهذه هى المراسيم التى أصبحت تنسب إلى الشرق جميعا منذ أن شهدها الصليبيون فى آسيا الصغرى تحت المماليك . والذى يهمنا مما تقدم هو أن هذه العلاقة تشبه العلاقة التى كانت تقوم بين مماليك مصر واساتذتهم . فقد رأينا الاشكال العائلية التى كانت تتخذها هذه العلاقة عادة, ونحن نعلم أن كثيرا من المماليك المصريين هبطوا القاهرة مختارين فلم يكونوا دائما من الأسارى أو المختطفين , ونعلم أيضا أنهم كانوا ينصرفون جميعا إلى صناعة الحرب دون غيرها . ولا يقدح فى هذا ما كان يصحب التحاق المماليك بأساتذتهم , بعد انفجار الحرب فى آسيا وتكاثر الأسرى واقبال المغل على ارسالهم إلى حلفائهم البنادقة نظير ما كانوا يقدمونه اليهم من الخدمات أو الألطاف أو الأموال , أو بعد استقرار النظام المملوكى وتحوله فى العهد العثمانى إلأى نظام التجنيد الوحيد الذى كانت تعتمد عليه البلاد لحفظ امنها فى الداخل والخارج , من مكافأة الأساتذة من كان يجلب اليهم مماليكهم ببعض المال , وان كان علماء المسلمين يرون فى ذلك ضربا من النخاسة ان لم تكن النخاسة بعينها , ما دام هؤلاء المماليك يضعون حياتهم رهن اشارة أساتذتهم مقابل ما يؤديه هؤلاء لمن يجلبهم والأرزاق التى يصرفونها لهم ويختلفون فى لذك عن الأجناد العاديين الذين يخاطرون بحياتهم فى سبيل ديارهم ولا يلعب الأجر فى علاقتهم بهذه الديار , حين ظهر, الا دورا ثانويا .

والواقع أن نظام المماليك كان , كغالب نظم الدولة المملوكية , شيئا قائما بذاته تختلط في تقاليد المغل الشرعية الاسلامية بأنظمة العصر , فكان المملوك يعطى أستاذه ما اعتاد آباؤه أن يعطوه من آواهم , أى عمله وقت السلم وسيفه وقت الحرب , وكان أساتذتهم يقدمون اليهم ما اعتاد أمثالهم أن يقدموه إلأى من التحق بهم من أولئك الغرباء المهاجرين , أى طعامهم وكساءهم وما يحتاجون اليه من أدوات القتال , ولم يكن الجعل الذى كان التاجر البندقى أو المشرقى يتقاضاه مقابل جلبه المملوك إلأى مصر , سواء كان هذا قد قدم له نفسه طائعا أو قدمه اليه الجندى أو الأسير الذى سباه أو والد مدقع يرجو الخير لذريته , الا عنصرا طارئا قد يشبه الجعل الذى تتقاضاه مكاتب التوظيف الآن عن توظيف من يلجأون إلى خدماتها , ولم يظهر على كل حال الا حين اتصل المجتمع الاسلامى بهؤلاء الغرباء واتجه إلى الانتفاع بهم فى الحروب . وكان المجتمع الاسلامى يرى فى هذه العملية وفى علاقة المملوك بأستاذه علامات الرق وان شعر بعد ذلك أنه رق من نوع خاص ورأى كيف كان هذا اللفظ يضيق بالمعنى الذى كانت تنطوى عليه هذه العلاقة فوضع له لفظ "مملوك" وعامل الذين يحملونه بالسماحة التى توصى بها الشريعة الاسلامية نحو الرقيق .

وفى اتصال ظاهرة المماليك هذه بالغزو المغولى ما يكشف لنا عن سر ارتفاع عددهم حينا وهبوطه حينا آخر تحت الأيوبيين والسلاطين البرجية . فنحن نعلم أن البنادقة كانوا يرسلون مماليك القجاق إلأى مصر منذ سنة 1223 ولكنهم ضعفوا عددهم منذ سنة 1238 وهى سنة غزو المغل تلك الديار . وقد بلغ اقبال المماليك على مصر اشده فى عهد أيبك وقطز وبيبرس وكتبغا , وهو عهد اشتداد الغزوات المغولية , حنى كانت تعج بهم القاهرة ثم جعل يهبط بعد ذلك حى وصل ثمنهم تحت الناصر إلى أرقام غاية فى الارتفاع . كذلك فى هذا الاتصال وفيما ذكرنا من تقاليد المماليك ما يعين على توضيح حركتهم والخروج بها من الحدود التى توضع فيها عادة كحركة عبيد شراء ارتفعوا إلى السلطان وفرضوا أنفسهم على بعض شعوب الشرق . فلم يكن الرجال الذين استطاعوا الوقوف فى وجه المغل والانتصار عليهم فى الوقت الذى قدروا فيه على اكتساح أوروبا الوسطى والقضاء على جيوش أشد أممها بأسا كبولونيا وهنغاريا وألمانيا , مضافا اليها ما لحق بها من امددات فرنسية وايطالية , فيما لا يزيد على ثلاثة أيام , عبيد بالمعنى الذى نفهمه الآن حين نذكر عبيد أمريكا أو أفرقيا أو اليونان أو روما . ولم يكن أمرهم أمر ضعفاء قووا أو وضعاء تجبروا بل شكلا غريبا من أشكال الغزو السلمى ان صح هذا التعبير : شعوب فتية تتطاحن فتنتشر أشلاؤها خارج الحدود وتتجمع وتربو حتى تغمر البلاد التى تجمعت داخلها كما لو دخلتها فاتحة . وهى تحتفظ أثناء ذلك ببميزاتها العنصرية من شغف بالقتال وشدة بأس وقوة احتمال فتمكنها هذه المميزات من الارتفاع إلى حكم هذه البلاد فى وقت تقتضى حالة الحرب التى تحيط بهذا الحكم أثناءه أن يعهد به إلأى العسكريين ويمنع لونه الدينى المحكومين أن يستهجنوا لنتقاله إلى أيد غريبة . كان شكلا من الأشكال التى اتخذها غمر الطوفان المغولى آسيا وأوروبا فى القرن الثالث عشر وكان انهيار الخلافة العباسية واحتلال روسيا واصطباغ أوروبا الشرقية بالصبغة المغولية ثم ظهور الامبراطورية العثمانية وتهديدها أوروبا حتىنهاية القرن السابع عشر من بعض آثاره .

ونحن لا نعلم بالتحديد كم كان عدد المماليك فى الفترة بين الصالح أيوب وقلاوون , وهى الفترة التى طغت موجة المشارقة أثناءها على مصر , حذر الغول المغولى , ولكننا نعلم من القمريزى أن مماليك المعز كانوا شيئا وفيرا وأن مماليك قلاوون كانوا عشرة آلاف ومماليك ابنه اثنى عشر ألفا وجند مصر العاملين جميعا من غير العربان , حول ذلك الوقت , 24.631 جنديا , ينقسمون إلأى فرق من عشرة ثم من أربعين ثم من مائة مملوك على رأس كل منها أمير يقودها , وهو نظام كانت تأخذ به جيوش جنكيزخان وأبناؤه فى ذلك الوقت . كذلك نعلم أن المماليك كانوا يخضعون , كغيرهم من أهل المجتمع فى مصر حينئذ , لنظم طائفية محكمة فيبدأون صبية متعلمين لا يبرحون دور أساتذتهم ما داموا فى دور التدريب ويمرون بمثل المراحل التى يمر بها الصبية فى طوائف الحرف عادة قبل أن يصيروا مماليك , أعنى جندا : جند مرتزقة كأولئك الذين يزهرون عادة حين تميل الدول إلى الزوال لضعف نسل أهلها ـ روما ـ أو ضعف عصبية الطبقة الحاكمة فيها ـ العباسيون ـ أو تتجه بعض الأسر إلى اقامة ملكيات جديدة ـ الجمهوريات الاغريقية والبطالمة والدول الحديثة جلها ـ أو تتسع الامبراطوريات الشخصية ويتنوع مستوى شعوبها الاجتماعى ويختص بعض هذه الشعوب بصناعة الحرب ـ الامبراطورية البيزنطية والفاطميون ـ فيحتاج الحكام إلى جند مجلوبين لا يتأثرون بمؤثرات مجتمعهم ويرتبطون بأشخاصهم . وقد يتسع أمر هؤلاء الجند بعد ذلك فيستبدون بالحكم كما حدذ فى الجمهورية الرومانية أو يكونون أساس الدولة كما حدث فى أوروبا الاقطاعية أو يرتفعون إلى الصدارة كما حدث فى امبراطورية المماليك . وكانت طائفة المماليك تتكون من الأجناد ثم الأمراء من مختلف الدرجات ثم السلطان . والأجناد والأمراء , فى الأصل , هم الذين ينصبون السلطان , لكن الأمراء هم الذين يزالولون هذا الحق عادة فيختارون بينهم من يشاؤون أو يقرون من يستولى منهم على السلطة بالعنف . وهذا الاستيلاء من الوسائل المشروعة للوصول إلى الحكم بل الوسيلة التى يغلب اتباعها حتى أيام العثمانيين , وفى ذلك تقليد آخر من التقاليد المغولية الكثيرة التى عرفها مصر فى ذلك العهد . والسلطان يعين الأمراء والأجناد ويوزع فيهم الاقطاعات والوظائف ويشرف على شئونهم جميعا . والأمراء , كما يقول القلقشندى , سلاطين صغار لكل منهم أقطاع وديوان يديره ومماليك يقودهم , وهم يشتركون فى سياسة الدولة كأعضاء فى مجلس الأمراء ويشغلون الوظائف العسكرية وبعض الوظائف الادارية الكبرى . والأجناد قوات عاملة واحتياطية : والقوات العاملة تتكون من مماليك السلطان ومماليك الأمراء وتتقاضى مرتباتها من اقطاعات السلطان واقطاعات الأمراء , والقوات الاحتياطية تتكون من جند الحلقة , أى ممن يختارهم السلطان من أبناء السلطان والأمراء وجند الحلقة , وهؤلاء جميعا لا يحتفظون به الا ما داموا أهلا لحمل السلاح , فاذا سقطت أهليتهم هذه سقط الاقطاع , وهم ملزمون أثناء ذلك بصيانة الاقطاع والقيام بما تقتضيه من أشغال خاصة وعامة . والدولة هى مجموع هذه الاقطاعات بمن يشرف عليها من الأمراء ومن تعوله من المماليك وما تصرف عليه من أشغال عامة . ومن هنا نظرة السلاطين والأمراء والمماليك إلى الدولة نظرتهم إلى متاع خاص يملكونه وقيام الصلة بينهم علاى علاقة الأجر قبل كل شئ . فالجند لا يتحركون للقتال ولو أصبح العدو على الأبواب ان لم ينالوا أرزاقهم أو ما يطالبون به من زيادة فيها . والأمراء يطمحون إلى الحصول على الاقطاع الأكبر وهو اقطاع السلطان ولا يتحرجون عن خيانة الدولة فى سبيل ذلك . والسلطان يسطو على اقطاعات الأمراء ويستصفى الأموال ويتجر بسلطته ما استطاع . ومن هنا أيضا طابع الغدر والفتك والتحرز الذى ينفرد به المجتمع المملوكى . فالسلطان دائم العناية بشراء المماليك ليدفع بهم غائلة الأمراء , وهو ما يكاد يتم له بعض ذلك حتى يلجأ إلأآ الفتك بهم واعطاء وظائفهم واقطاعاتهم مماليكه حتى تخلص لهم وله الدولة . وهو أثناء هذا قابع بين أسوار قلعة الجبل لا يكاد يبرحها , يستقبل الأمراء جالسا بين مماليكه ولا يسمح أن يتحدث بعضهم إلأى بعض بحضرته أو يتزاوروا فيما بينهم فى أوقات الفراغ . والأمراء يتآمرون ويتربصون فى غير ما كلل حتى اذا أذنت الساعة وثبوا على السلاطين وفتكوا بهم وسلبوهم عرشهم . والمماليك يثورون كلما اضطرب الأمن وأمنوا العقاب . وبطش أهل هذا المجتمع بعضهم بالبعض يتخذ أشكالا قاسية ممعنة فى القسوة كالتوسيط والاجلاس على الخازوق والتمزيق , أو مزرية بالغة الازراء , كضرب السلطان بالمقارع على رؤوس الأشهاد أو تجريدهم من ثيابهم أو تطويقهم فى الطرق , ولكنه لايظهر الا فى حينه أما قبل ذلك وبعد ذلك فالذلة فى أرذل مظاهرها اذ يستعبر السلاطين ويؤكدون حبهم للأمراء واعتمادهم عليهم اعتماد الأخ على أخيه , ويدارى الأمراء السلاطين ويلثمون أيديهم ويتمرغون عند أقدامهم , ويفعل المماليك مثل ذلك وما هو شر منه . وهذا هو ما يحدث كل يوم أى أنه ليس بالشئ الشاذ فكل سلطان يجب أن يفتك ببعض أمرائه , وكل أمير يجب أن يطمع ويتآمر ويتحفز , وكل مملوك يجب أن يتربص ويعتى ويسطو , وما يحدث شئ من ذلك حتى تقفل القلعة أبوابها ويشيع الاضطراب ويفعل كل ما يريد بمن يريد .

ونحن نجد فى تكوين الدولة المملوكة هذا أيضا بعض تقاليد المغل , فمعروف أن الحكم المغولى يقوم على أكتاف حملة السلاح ولا يعترف بحقوق سياسية لسواهم . وهو يدير أمور الدولة كما تدار الضياع ويجهل حدود القانون العام ولا يفرض على من يتولونه غير أن يضمنوا الغذاء والشراب والكساء لرعاياهم , فاذا لم يستطيعوا فلا حكام ولا محكوكمون , هذا التصور للحكم يرجع إلى الدور الاجتماعى الذى كان يجتازه المغل حينئذ بدليل وجوده لدى غيرهم , ولكن الذى يشك فيه هو أ، طابع القسوة الرهيبة الذى امتاز به الحكم المملوكى كان من خواص أهله , وأن هذا الحكم كان أول حكم دفع بالدولة فى مصر إلى هذا المستوى البدائى وجعل منها مرتعا خصبا تضرب فى أرجائه بضعة آلاف من جند مستجلبين لا يحسنون الفتك والغدر والتعذيب فى غير هوادة أو كلل . كذلك لا شك أن فى قيام النظام المملوكى على استجلاب رجاله من الخارج كان من الأسباب التى وقفت دون تطوره التطور الطبيعى وحفظت عليه الطابع البدائى هذا الذى انفرد به . وقد أخفق السلاطين فى اقرار مبدأ وراثة العرش رغم ما حاولوه فى سبيل ذلك وبقى قتل الساطين الوسيلة المفضلة للوصول إلأى الحكم وظل الأمراء إلى العهد العثمانى لا يتوارثون الاقطاعات بل لا يضمنون الاحتفاظ بها حتى آخر اقطاعات جند الحقلة وهو اقطاع قد يصل وقد لا يصل بهم إلى مناصب الحكم . كذلك كان المماليك يفقدون كل شئ بخروجهم من الخدمة فلا يبقى لأبنائهم غير الانخراط فى حرفة من الحرف . وهكذا كان أهل هذا النظام يتجددون تباعا ولا تكاد تتهذب نفوسهم أو تتأقلم حتى يتركوا مراكزهم ويحل محلهم من استجلب غيرهم من الخارج بعقليتهم وأمزجتهم وطبيعتهم البدائية التى تصقل . وقد زاد ما فى ذلك من شر حين انحسرت الموجةى المغولية وقل أسرى الحرب ولم يبق من سبيل إلأى تغذية هذا النظام بغير قبول من كان يقدم مصر من قوقازين معدمين أو أطفال مسروقين أو صبية تعساء دفع بهم أهلهم إلى من يبحث لهم عن سيد يأويهم اذ هبط مستوى المماليك وصاروا حثالة تلك البلاد بعد أ، كانوا من خيرة شباب آسيا الوسطى وأبناء أعرق أسرها أحيانا . ونحن نعلم أن المماليك ابرجية كانوا يستحبون آخر عهدهم الاشتغال بالبيع والشراء على صناعة الحرب ويقبلون النزول عن بعض أرزاقهم لمن يقبل السير إلى القتال بدلهم ويبلغون من الجهل بفنون القتال حد أن يمنعهم السلاطين أرزاقهم . ونعلم أن انحطاطهم هذا وانصرافهم عن شئون الحرب وهبوط عددهم كان من الأسباب التى مكنت جيوش بنى عثمان الغزيرة من القضاء على الحكم المملوكى واقامة الحكم العثمانى الذى كان يفوقه بداوة وخشونة وعسفا . وقد امتد هذا الحكم العسكرى بعد ذلك حتى ظهور محمد على وكان له بدوره فى حياة البلاد أثار ضخام , سنحاول أن نحلل فيما يلى ما يهمنا منها فى هذا البحث , مما يتصل 1- بالملكية الزراعية و 2- النشاط الاقتصادى و 3-الدورة الاجتماعية , مقارنين عند الحاجة بين الحالة لاتى أوجدها والحالة التى سبقت ظهوره فى العهد العربى . -1- كان الجند الذين فتح عمرو بن العاص بهم مصر من القبائل العربية التى وجهها الخلفاء إلأى الفتوح , وهى قبائل كانت تجمع بين أعضائها الوحدة القبلية , وتجمع بينها وبين الخلفاء العصبية الجنسية المشتركة , من الناحية الاجتماعية , والعلاقة الدستورية التى تقوم بين الحكام والمحكومين , من الناحية القانونية ز وق

ظلت هذه حال القوات العسكرية فى مصر إلأى أن ظهر الأتراك فى الدولة العباسية . ونحن لا نعلم على وجه التحديد كيف كانت تتكون قوات الولاة العباسيين المتأخرين حتى عهد ابن طولون وان كان من السهل أن نستنتج مما نعرفه عن جيوش العباسيين فى ذلك الوقت انها كانت تضم عددا غير قليل من الأتراك . أما قوات ابن طولون فالمقريزى يقول انها كانت تتكون من 40 ألف أسود و 24 ألف تركى و 7 آلف مرتزق . كذلك يقول المقريزى أن قوات الأخشيديين كانت تتكون من 400 ألف مقاتل من السود والترك المرتزقة . وقد هبط الفاطميون مصر بعد ذلك فظهر المغاربة فى الجيش ولكنهم لم يستأثروا به فالمقريزى أيضا يقول ان العزيز بالله كان يستخدم الديلم والترك ويقدمهم على المغاربة والصقالبة من جند والده . وناصر خسرو ـ وقد زار مصر أيام الفاطميين ـ يقول ان قوات الخليفة المستنصر كانت تتكون من 20 ألف فارس كتامى و 15 ألف مغربى و 20 ألف أسود و 10 آلاف مشرقى بين تركى وعجمى ولد غالبهم فى مصر و 30 ألف عبد أسود ومشترى و 50 ألف بدوى من الحجاز و 10 آلاف رجل من أجناس مختلفة وفرقة كاملة من أبناء الملوك وأمراء المغرب واليمن والروم والسرب والحبشة والهند وجورجيا ودلماسيا وتركستان الذين يقيمون فى القاهرة ويلحقون بحاشية الخليفة . ومن ثم يتضح أن قوات الفاطمية أيضا ظلت إلى آخر أيامها قوات مختلفة لا تجمع بينها عصبية مشتركة .

وكانت القوات العربية الى اشتركت فى الفتوح تقاتل باسم الأمة الاسلامية التى سيرتها اليها ولا تنال مقابل ذلك سوى الأرزاق التى يصرفها لها بيت المال . وظل هذا شأنها حتى كانت خلافة الأمويين واقدامهم على ايفاد القبائل إلى مصر تقيم بها وتكون عونا لولاتها على الانتقاضات القبطية اذ كانت الدولة تقطع حينئذ هذه القبائل بعض الأراضى التى تملكها فتستغلها وقت السلم فضلا عن الأرزاق التى تتقاضاها . ثم كان ارتفاع موجة الأتراك فى جيوش العباسيين وأمر المعتصم ولاته باسقاط أرزاق القبائل العربية , ففقدت هذه القبائل صفة الجندية وصاروا قوما مدنيين ينصرفون إلى ما ينصرف اليه المدنيون عادة من أسباب الحياة . والظاهر أن اقطاع هذه القبائل فى العصر الأموى كان يشتمل , على الأقل من ناحية الواقع , على عناصر الملكية بأوسع ما تنطوى عليه من معنى قانونى يحتمله تصور ذلك العصر ز فنحن نعلم أن هذه القبائل كانت لا تزال توجد على اقطاعاتها فى عهد المعتصم ونستطيع أن نستنتج من ظروف اقطاعها أنه كانت تقطع كقبائل لا كأفراد , فهى قد استجلبت لغايات الدفاع ولا مناص لها اذا من أن تقيم مجتمعة فى مكان واحد . هذا إلى أنه من العسير أن يكون الولاة قد أقدموا على اقطاع أعضاء هذه القبائل فردا فردا لما فى ذلك من صعاب ادارية جمة ومجافاة لطبيعة الملكية المشتركة التى لا يعرف البدو سواها عادة . وبديهى أن الأراضى التى تقطع لقبيلة بأسرها لا يمكن أن تعود إلى الدولة الا بفناء القبيلة لأنها لو فرض وعادت قطعة قطعة بوفاة النتفع المباشر لكل قطعة لما استطاعت الدولة أن تتصرف فيها بقطعها أو بيعها أو تأجيرها إلى شخص من قبيلة أخرى أو من غير قبيلة ألبتة , بالنظر إلى عدم استطاعة المقطع الجديد العيش فى قبيلة غير قبيلته . يضاف إلى ذلك أنه ليس لدينا ما يثبت أن الدولة انتزعت من هذه القبائل بعض اقطاعاتها أو اقطاعاتها جميعا فى يوم من الأيام . وناصر خسرو يلاحظ , فى حديثه عن تكوين جيش الفاطميين , أن هذا الجيش كان يتقاضى أرزاقه جميعا من السلطان ولا ينالها مباشرة من الأهالى بطريق الاقطاع كما كان الحال وقتئذ فى المشرق , الا أننا نجد لدى غيره من مؤرخى ذلك العصر ما يدل على أن الفاطميين عرفوا هم أيضا نظام الاقطاعات زان لم تكن هى بعينها اقطاعات العصر العربى أو الاقطاعات المشرقية . فالمقريزى يقول ان الأفضل ابن أمير الجيوش حل اقطاعات الجند الموجودة على أيامه , وأمر الضعفاء منهم أن يتزايدوا فيها فوقعت الزيادة فى اقطاعات الأقوياء ثم أمر الأقوياء أن يتزايدوا فى الباقى . ويضيف إلى ذلك أن نظام التزايد هذا أصبح يتجدد كل ثلاثين عاما . وفى هذا ما يدل على أن الفاطميين كانوا يخصون الجند ببعض أراضى الدولة على الأقل , آخر أيامهم , وان الجند كانوا يتزايدون فى استغلال هذه الأراضى لأجل معلوم ثم يردونها للدولة فتطرحها للتزايد من جديد . والمقريزى لا يقول لنا كيف نشأ هذا الاقطاع ولكننا ندرك مما يقوله عنه أنه كان يفترق على وجه العموم عن الاقطاع العربى فى أنه كان يعطى إلى الجند بعد أنه أصبحوا جندا مرتزقة تختلف أجناسهم ولا تربطهم بالدولة عصبية ما , فهم يعملون اليوم لحساب هذا وغدا لحساتب ذاك ولا يحتفظ بهم من يستخدمهم الا آجالا مضروبة أى انه كان اجرا ولم يكن كسابقه شكلا من أشكال الاستعمار الاجتماعى . وقد انتشر هذا النوع من الاقطاع واتسعت حدوده اتساعا غريبا على أيام الأيوبيين فالمقريزى يقول ان صلاح الدين أقطع أخاه توران شاه قوصا وعيذاب واسوان ثم مدينة الأسكندرية , وهو أمر لا سابقة له فى مصر فقد كان الفاطميون يقطعون الأمراء خصوصا , آخر أيامهم , بعض الأراضى , كما فعل الخلفاء الراشدين مع كبار المجاهدين وفعل الأمويون والعباسيون من بعدهم , ولكنهم لم يقطعوهم , فيما نعلم , مدنا زاهرة كالاسكندرية أو قوص . ثم ان اقطاعات المجاهدين فى عهد الخلفاء الراشدين كانت على ما يفهم مما نعلمه عنها اقطاعات تملك في حين كانت اقطاعات توران شاه هذه لا يمكن أن تكون الا مما دعوه كتاب العصر المملوكى باقطاعات الاستغلال , أى الاقطاعات التى يقصر حق مقطعها على التصرف فى حصيلتها من الضرائب , فقد كان سكان المدن المصرية يملكون الأراضى والدور فيها حتى أيام محمد على ولا يعقل أن تكون مدينة كالاسكندرية ملكا كاملا للدولة أول العهد الأيوبى . يضاف إلى ذلك أن نعلمه عن تقسيم صلاح الدين مدن الشام بين ورثته ومزاولة كل من هؤلاء سلطة المقطع والحاكم فى نفس الوقت فيما أصابه منها يكاد يدفعنا إلى الظن بأن صلاح الدين أراد م اقطاع الأسكندرية أخاه توران شاه اعطاءه هذه المدينة على الوجه الذى كان يأخذ به ورثته مدن الشام ويتبادلونها بينهم , خصوصا اذا ذكرنا أن توران شاه كان من أكبر قواد صلاح الدين ان لم يكن أكبرهم على الاطلاق وانه أقام فى الأسكندرية بجنده ولعله كان يزاول السلطة العامة فيها أيضا . والمقريزى يضيف إلى ما سبق أن الأيويين كانوا آخر أيامهم قليلى لعدد كثيرى الخلافات غيرورين على الاستقلال بأمرهم , يحتفظ كل منهم بجند يختلف عددهم باختلاف أهمية اقطاعه . ونحن نفهم من هذا أن الأمراء الأيوبيين كانوا يملكون على الأقل , آخر عهدهم , جيوشا خاصة ينفرد كل منهم بواحد منها , فلم يكن بمصر وقتهم جيش واحد كجيش الدولة الذى رأيناه تحت الفاطميين , ونفهم أيضا انهم كانوا ينالون أجورهم وأجور جندهم الخاصة أولئك منن غلة الاقطاعات التى كاوا يقطعونها ولا يتقاضونها من الخزانة العامة مباشرة كالأمراء الفاطميين . كذلك نفهم من قول المقريزى ان عدد جند الأمراء الأيوبيين يتناسب وأهمية أقطاعاتهم ان هؤلاء الأمراء كانوا يعطون الاقطاعات ليصرفوا منها على جندهم بعكس الامراء الفاطميين الذين كانوا لا يتقيدون نظير اقطاعاتهم بالتزام عسكرى . وأبو المحاسن لا يدع لنا مجالا للشك فى هذا العنصر الأخير من عناصر الاقطاع الأيوبى حين يقول ان المعظم ملك الشام كتب لأهل دمشق بعد سقوط دمياط فى يد الأفرنج يقول : "اننى كشفت ضيع الشام فوجدتها ألفى قرية منها ألف وستمائة أملاك أهلها وأربعمائة سللطانية وكم مقدار ما تقوم به هذه الأربعمائة من العساكر؟ ". ومعروف أن القرى السلطانية هى القرى التى كانت تعطى للحاكم .

وأتى المماليك بعد الأيوبيين فأكملوا هذا النظام وثبتوه فيما عدا اقطاع المدن , فاننا لا نكاد نجد له أثرا تحتهم , وبسطوه على أ{اضى مصر جميعا سوى ما وقف منها على أماكن العبادة ووجوه الخير . وكانت تدفعهم إلى ذلك الظروف التى هبطوا فيها البلاد وتقاليدهم الاجتماعية , لا سيما ما يتصل منها بتصور الدولة , والحالة الاقتصادية التى وجدوها . فقد كان المماليك كما رأينا خليطا من الشعوب الأسيوية التى مزقتها المغل وكانوا يقدمون مصر فرادى أو زمرا لا تجمع بينهم عصبية كالعصبية القبلية التى كانت تجمع بين القبائل العربية الى قادها عمرو أو المغربية الى جاء بها المعز أو الكردية التى تبعت الأيوبيين , لا يجمع بينهم سوى الأسر أوة خشية الخطر المغولى أو طلب الررزق فيما بعد . وكانوا لذلك لا يهبطونها بالروح التى هبطتها بها هذه القبائل : روح الفاتحين لبلد مغلوب أو المنشئين لدولة مكان أو المستعمرين لأرض جديدة يستولون عليها بحق الفتح ويورثونها أبناءهم من بعدهم , وانما يهبطونها بروح ابن الريف الذى يقصد المدينة سعيا وراء الثروة أو المجد ان شئنا ولكنها الثروة الشخصية والمجد الشخصى لا مجد قوم بعينهم أو دين بعينه أو بلد بعينه . فكان قطز أحد أولاد أخت خوارزم شاه ملك خوارزم . أسر وهو صبى و جلب إلى مصر حيث جعل يتقدم فى جيشها حتى نصب سلطانا وتمكن من التنكيل بالمغل ولكنه لم يحاول , على ما نعلم , أن يقيم دولة فارسية جديدة وأن يعيد الدولة التى قضى عليها أولئك المغل بالذات . وكان بيبرس من أسرى القجاق قصد به البنادقة الشام وقدموه إلى حد أمراء الصالح أيوب فجعل يتقدم حتى بلغ الامارة ثم قتل قطز بعد غلبه المغل فصار سلطانا لمملكة ضخمة ولكنه لم يعن بأن يستجلب من البلاد التى نشأ بها جندا يستعين بهم أو يمكنهم من بعض ملكه واستمر يعتمد على من كان يهبط مصر من الأسرى أوالفارين أو الأرقاء , أيا كان جنسهم , بل دون أن يقدم بينهم من يأتى من بلاده على من يأتى من غيرها . وكان قلاوون من نفس الأصقاع جلب إلى مصر صبيا وألحق بأحد أمراء الملك الصالح وجعل يرتقى فى مناصب الدولة حتى مات بيبرس زميله القديم فأخذ يتآمر على ولديه حتى تخلص منهما واستولى على عرشهما دون أن يصل به تفكيره بعد ذلك إلى اقامة دولة قداقية خاصة به أو أبناء جلدته . وأعقب بيبرس وقلاوون عشرات السلاطين فلم يشذ عن سرتهما أحد سوى كتبغا , زوج بنت هولاكو , الذى حاول أن يدعم ملكه بمن هبط خلفه مصر من المغل فثار عليه الأمراء وفتكوا به وردوا الأمر إلى نصابه . وكان نظام الاقطاع يرضى بعد ذلك تصور المماليك السلطة العامة كمتاع خاص يستأثر ويتصرف فيه كما يشاء . ونحن نعلم كيف كان الأيوبيين يقتسمون المماليك ويتبادلونها فيما بينهم وكيف كان المماليك يصرفون أمور الدولة كما يصرف صاحب الضيعة شئون ضيعته وكيف كان النظام الاقطاعى يجعل من الدولة مجموة دواوين متفرقة يستوى أصحابها فى طبيعة الحقوق والواجبات ويستأثرون بالثروة الوحيدة التى يعرفونها ويستمدون من امتلاكها السلطة العامة فى بلادهم وهى الأرض , فضلا عما فيه من توزيع لبعض وظائف الدولة توزيعا لا يخلو أحيانا من الفائدة . كذلك نعلم أن السلاطين كانوا يصرفون أرزاق مماليكهم الخاصة من ديوانهم ويقطعون الأمراء وسائر المماليك اقطاعات المماليك وضمها إلى اقطاعات الأمراء على أن يخصص هؤلاء ثلثى رعها للماليك الذين يتبعونهم . وندرك من ذلك أن تبعة الجند للأمراء التى نشأت على أيام الأيوبيين ظلت قائمة تحت المماليك وان كان علو نفوذ السلاطين حال بين الأمراء والانقسامات التى حدثت خصوصا بالشام تحت الأيوبيين . ولكن ما هذه الاقطاعات على وجه التحديد ؟ وكيف تكونت ؟ تكونت إلأى حد بعيد بفعل الظروف الخاصة بمصر فى ذلك الوقت , فقد كانت الدولة تملك إلأى آخر الفراعنة قدرا كبيرا من الأراضى , وقد انتقلت هذه الملكية إلى البطالمة والرومان واتسعت على أيامهم , ثم ظهرت الكنيسة القبطية بأديرتها العديدة ودب الخلل فى الادارة البيزنطية فانتقلت بعض هذه الملكية إلأى رجال الدين والأمراء المصريين الذين كانوا يشرفون على تلك الادارة وبقى البعض حتى دخل العرب مصر ولا تزال الدولة تملك فيها شيئا وفيرا من الأراضى المزروهة أو الصالحة للزراعة فوهبوا بعضها القبائل التى نزحت اليها وجعلوا يؤجرون الباقى . والمقريزى يقول ان الولاة كانوا يؤجرون الأراضى إلى آخر أيام الفاطميين صفقات صفقات آجلا لا تزيد فى العادة على أربع سنوات ويدعنا ندرك مما يقوله عن الفاطميين انهم كانوا يسرفون , آخر أيامهم , فى منح أراضى الدولة أو حق استغلالها كبار موظفيهم . سواء كان الدافع الذى حدا بالفاطميين إى لذك هو اتساع سلطان هؤلاء الموظفين أو الأزمات التى أصابت الخزانة العامة فى آخر عهدهم أو الرغبة فى استصلاح الأراضى الضعيفة باعطائها من يقوى على ذلك أو هذه الأسباب مجتمعة وهو الأرجح , فقد سقطت الدولة الفاطمية وهى ما زالت تؤجر أراضيها لكل راغب وتنفق ريعها على مظفيها وجندها ومشاريعها العامة وظل الاقطاع على عهدها وجها من وجوه الانتفاع بتلك الأراضى وليس القاعدة العامة لهذا الانتفاع .

وأتى صلاح الدين بعد ذلك فأورث قواده اقطاعات الأمراء الفاطميين وأنفق أموال الخليفة العاضد جميعا فى حرب الصليبيين ثم أراد أن يستميل أهل البلاد توطئة لازالة افاطمية فألغى ضرائب الاستهلاك التى وجدها بها . وهنا كانت أزمة مالية شديدة اضطرت الحكومة معها إلى اجتلاب الأموال من المشرق بعد أن كانت لا تجلب منه سوى الجند . وقد أعقبت حملات صلاح الدين على الصليبيين الغارات التى شنها هؤلاء على مصر أو شنها المماليك عليهم حتى سلطنة خليل بن قلاوون وأعقبت أزمته المالية أزمات أخرى متوالية لم تشهد مصر نظيرها الا آخر أيام الفاطميين . فأبو المحاسن يقول ان العزيز ابن صلاح الدين اضطر أن يقترض كيما يدفع أجور موظفيه بينما يصف عبد اللطيف البغدادى الوباء الرهيب الذى أصاب مص أيام العادل فيقول أنه أخلى المدن و القرى من أهلها وخرب القاهرة وعود التاس أكل اللحم البشرى . وقد عاد هذا الوباء على أيام الكامل وفتك بأهل القاهرة وأهل الريف مرتين وشعث حياة البلاد فى الوقت الذى كانت تجارتها الخارجية تضطرب فيه غاية الاضطراب وكانت هى تضطر إلى مواصلة القتال والاكثار من الجند ولا تجد موردا تعتمد عليه فى مواجهة نفقات الحرب والمصروفات العامة عموما غير الأرض فلجأت اليها وجعلت تتعامل بها وتوفى التزاماتها عن طريقها . ونحن نعلم فعلا أن القاضى الفاضل كان يتقاضى مرتبه اقطاعا على أيام صلاح الدين , وأن العادل أعطى الأرض جنده يزرعونها بعد وبائه المروع وان الاقطاعات جعلت تكثر بعد ذك وتتسع حتى كادت تشمل , آخر أيام الأيوبيين , جميع الأراضى المزروعة ما عدا ما هو موقوف مكنها على وجوه الخير . وقد استقر هذا النظام كما قلنا تحت المماليك ونظمت أدواره جميعا تنظيما دقيقا فكانت الحكومة تمسح الأراضى الصالحة مسحا دوريا وتفرقها بين الأمراء والجند فيستغلها هؤلاء ويحصلون ريعها مقابل الخدمة العسكرية أو المدنية التى يؤدونها حتى اذا ماتوا أو تركوا الخدمة انتقل الاقطاع إلى من يخلفهم فيها . وهنا نجد أهم الخصال التى انفرد بها الاقطاع المملوكى دون الاقطاعات التى سبقته فبينما كانت الاقطاعات العربية هبات تورث فى القبيلة , كما رأينا , وكانت الاقطاعات الفاطمية منحا لا يعادلها التزام من ناحية المقطع عادة , وكانت اقطاعات الأمراء الأيوبيين مثل أنصبة أعضاء العائلة الواحدة فى ملك يتوارثونه , وبينما كانت هذه الاقطاعات جميعا شيئا شخصيا ينشأ ويقوم ويكيف قانونا حسب رغبة المقطع وقدر المقطع , كان الاقطاع المملوكى منظمة مالية ـ ادارية ذات شخصية خاصة , توجد بحقوقها وواجباتها , سواء وجد من يسند اليه أو لم يوجد , ويعطى للتمكن من الانصراف إلى أداء أعمال عامة بعينها , كما هو أمر الدرجات الآن فى الميزانيات الحكومية أو أمر الوظائف الدينية فى الكنيسة الكاثوليكية إلى يومنا هذا . فهذا الكنيسة هى التى تملك ما تحت يد البابا وكرادته وأساقفته من مال أو غقار وهؤلاء جميعا ان هم الا متمتعون ينشا لديهم حق التمتع بهذا المال بالارتفاع إلى المناصب التى ربط عليها ريعها . وهذا الحق لا يعدو حق صاحب الريع على دخل المال الذى يغله اذا كان لا يحوز هذا المال , كما كان الحال فى اقطاعات الاستغلال , وحق المنتفع اذا كان يحوز هذا المال , كما كان الحال فى اقطاعات التملك . وهو يعطى فى الحالتين إلأى بعض أهل الدولة ورجال الجيش على وجه العموم بعد أن اضطرت البلاد أن تنشئ جيشا ثابتا فى وقت لا موارد ثابتة لديها فيه سوى الأرض . ونحن نفهم من ابن اياس أن العثمانيين لم يمسوا , حين دخلوا مصر , نظم الحكم القائمة بها الا من حيث تزويدها بما كان يقتضيه دخولها نطاق امبراطوريتهم من أجهزة تنفيذية جديدة , فأحلوا نائبا لسلطانهم محل السلطان المخلوع , وأقاموا إلى جانبه قاضيا ومتصرفا للمالية , وأضافوا إلى القوات المملوكية التى وجدوها قوات أخرى توازنها , وفعلوا ذلك كما يفعل رؤساء الحكومات عادة حين يديرون أمور المقاطعات المختلفة فىالبلد الواحد ويربطون بين أوصالها , فقد يعمدون لاسناد مناصب الحكم فيها إلى أصدقائهم أو أتباعهم أو ذوى قرباهم أيضا لثقتهم فيهم أو رغبتهم فى اسعادهم دون أن يفقوا عند لونهم القومى الذى يشاركهم فيه الجميع . كذلك نفهم من ابن اياس أن المماليك احتفظوا بعد الهزيمة التى نزلت بهم وقتئذ بالاقطاعات التى كانت بيدهم بينما كانت القوات العثمانية التى استقرت فى مصر تتقاضى من الخزانة العامة مرتبات دورية وكان كبار الموظفين والقواد العثمانيين يجمعون بين المرتبات الدورية والاقطاعات طوال المدة القصيرة التى يقضونها بالبلاد . وقد راينا أن الاقطاعات كانت توزع فى عهد السلاطين بين الأمراء الدولة لتمكنهم من النهوض بالتزامات عامة أهمها الاحتفاظ بعدد معين من المماليك , ولكن انتقال مقر الحكم إلى الآستانة وقيام قوات عسكرية إلى جانب القوات المملوكية , تشرف عليها الدولة مباشرة وتعدها قواتها الأصلية , وهى القوات العثمانية , وتفكك النظم المملوكية عموما , انتهى قليلا قليلا إلى القضاء على هذه الحدود ,وجعل من علاقة الأمراء بمماليكهم علاقة شخصية بحتة ومن الفرق المملوكية جيوشا خاصة تأتمر سادتها وتعمل لحسابهم . وبذلك أصبح عدد مماليك الأمراء مرتبطا بقدرتهم على الصرف لا بمركزهم فى جيش الدولة وانفتح الباب من يريد منهم لاقتناء المماليك وانشاء الفرق .

وقد استطاع الأمراء فعلا أن يزيدوا بفضل هذا الخلل فى عدد مماليكهم وأن يرتفعوا به إلى أرقام تفوق الأرقام التى كانت تبلغها القوات الحكومية ويصلوا من أعدداهم وتسليحهم إلى ما كانت لا تصل الحكومة اليه من اعداد قواتها ويتمكنوا بذلك من أن يستولوا من جديد على غالب الأراضى الزراعية ويستبدوا بالمراكز الحكومية الرئيسة ويصيروا بكوات وسناجق وكشافا , نعنى قوادا وحكاما ومديرين , ويقود الحامية العثمانية نفسها ويستأثروا بالديوان الكبير الذى يشرف على الحكم ويملك حق خلع الوالى ومحاكمته ورسم سياسته والاتصراف بعد ذلك إلى اشباع ما كانت تدفعهم اليه طبيعتهم وتقاليدهم من شهوة التنافس على الانفراد بالحكم والاعتماد فى ذلك على قواتهم العسكرية الخاصة وما كانت تشاركهم فيه من قسوة وانكار لكل تقليد حضارى وجهل لمعنى الكرامة الانسانية . وهكذا ما كادت تهدأ العمليات الحربية التى مكننتت العثمانيين من دخول مصر فى الصدر الأول من القرن السادس عشر ,وما يكاد الأجناد العثمانيون الذين دخلوا القاهرة والمدن المصرية الكبيرة الأخرى يتنهون من اشباع غرائزهم الهدامة , وما كادت تسكن الاضطرابات المتوالية بين الفرق العثمانية المخلفة داخل أسوار المدن على الأرزاق والمرتبات والامتيازات العديدة , حتى انفجر بركان غرائز هؤلاء البكوات وماليكهم وظل يرسل حممه فى غير هوادة أو كلل إلى أن دخل الفرنسيون البلاد فى القرن الثامن عشر , حتى ليكاد يقوم فى روع من يتبع حوادث مصر فى هذه الحقبة من تاريخها التعس انه فى غابة موحشة تقتتل داخلها وحوش ضوار يفترس بعضها البعض وتفترس جميعا ما تلقاه بهذه الغابة من خلائق وادعة . ـ2ـ ولكن النظام الاقطاعى كان يصطدم فى مصر حتى آخر أيام السلاطين بما كان يعج به الوادى من حياة مدنية صاخبة . ونحن نعلم فى شئ من الدقة ما كانت عليه هذه الحياة المدنية على أيام الفاطميين من رحلة ناصر خسرو بمصر فى عهد المستنصر . وناصر خسرو يصف المدن المصرية التى زارها مدينة مدينة فيقول ان مدينة تينس , أول ثغر يعترض المقبل على مصر من الشرق , كانت مدينة صناعية هامة , بها 150 ألف ساكن وما لايقل عن خمسة آلاف نول للغزل وصناعة معدنية مزدهرة و 36 معصرة سكر و 36 حمام و 100 دكان لبيع الروائح وميناء لا يقل عدد المراكب الراسية بها عن 100 مركب . وكان دخل الدولة منن تينس وقتئذ لا يقل عن ألف دينار يوميا حتى دفع ذلك امبراطور القسطنطينية إلى مفاتحة الخليفة فى مبادلته اياها بمائة مدينة من مدنه فلم يقبل الخليفة . وناصر خسرو يقول أيضا ان القاهرة كانت تحتوى على عدد لا حصر له من الدكاكين , يبلغ ما كان يملكه الخليفة وحده منها ما لا يقل عن 20 ألف دكان , وسوق للقناديل ترد اليها البضائع من جميع أنحاء العالم ومصانع للصينى والزجاج والنحاس ومصارف تعج بالذهب والجواهر والنقود ومتاجر تضيق بالأقمشة . ويضيف إلى ذلك أ، مصر وحدها كان بها ما لا يقل عن20 قيسارية , ايجار الواحدة منها لا يقل عن 20 ألف دينار فى العام , ثم يلاحظ أن غزارة انتاج السكر والعسل والفواكه فى البلاد كان يفوق كل حد وان المديريات جميعا كانت توجه انتاجها إلى القاهرة وتبعه فيها . وقد زار ابن جبير مصر فى سنة 1183 (ابان العهد الأيوبى) لإأعجب بثرائها وثراء مدنها التجارية على وجه الخصوص وهبط قوصا فوجدها "حافلة بالأسواق متسعة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار المصريين والمغاربة واليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة" . ثم سافر إلى عيذب بطريق الصحراء فراعه ما صادفه بها من حركة تجارية وكتب يصف ذلك فقال : "ورمنا فى هذا الطريق احصاء القوافل الورادة والصادرة فما تمكن لنا ولا سيما القوافل العيذابية المتحملة بسلع الهند الواصلة إلى اليمن ثم إلى عيذاب وأكثر ما شاهدناه من ذلك أحمال الفلفل فلقد خيل الينا لكثرته أنه يوازى التراب قيمة" . وكانت عيذاب حين زارها ابن جبير أكبر الثغور المعروفة شأنا "بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائدا إلى مراكب الحجاج الصادرة والواردة" . وزار ابن بطوطة مصر فى سنة 1384 فوجد الأسكندرية تتجر اتجارا واسعا خصوصا فى العطور والسكر والحرير . ووجد دسوقا مدينة ضخمة تبلغ ضعف الاسكندرية وتملك تجارة واسعة . وشهد بأسواق القاهرة من السكر والمواد الغذائية والعطارة مالم يره فى عاصمة أخرى . وكانت المدينة تزخر أيام زيارته لها بالسكان فلا يكادون يجدون ما يكفيهم للبيات فيها خارجها كل يوم لا أقل من مائة ألف ساكن . وكان بمصر وحدها 120 ألف سقاء و 30 ألف مكارى و 36 ألف مركب نيلية . كذلك كانت أبيار مدينة كبيرة تصنع الثياب القيمة وتصدرها إلأى الشام والعراق , والمحلة مدينة جليلة حسنة كثيرة السكان , ودمياط مدينة صناعية تملح السمك وتصدره إلى الشام وبلاد الروم . وكانت مدينتنا قوص ودلاص تصنعان الكتان وتصدرانه خصوصا إلى أفريقا الشمالية , وبهنسة تنسج الصوف الجيد , ومنلوى تصنع السكر , ومنفلوط تصنع العسل وتمتاز باناقتها . وابن بطوطة يقدر ما كان يحصل وقتئذ على البضائع المصدرة فى جمرك قطا زكاة بما لا يقل عن ألف دينار ذهب فى اليوم ويلاحظ أن الأسواق كانت لا تنقطع بين القاهرة وأسوان حتى لا يكاد المسافرون يحتاجون إلى حمل ما يطعمونه . وفرسكو بالدى ـ وقد زار مصر فى ذلك الوقت ـ يقول ان سكان القاهرة كانوا حين مر بها أكثر من سكان مقاطعة توسكانا الايطالية جميعا وان عدد السفن الراسية فى مينائها كان يفوق ما فى موانئ البندقية وجنوا وانكونا معا ولا يقل على كل حال عن 15 ألف سفينة . والمقريزى يصف الحالة الاقتصادية فى مصر على أيامه فيقول "سمعت غير واحد ممن أدركته من المعمرين يقول ان القصبة (سوق من أسواق القاهرة) تحتوى على اثنى عشر ألف حانوت كأنهم يعنون ما بين أول الحسينسة مما يلى الرملة إلى المشهد النفيسى . ومن اعتبر هذه المسافة اعتبار جيدا لا يكاد أن ينكر هذا الخبر . وقد أدركت هذه المسافة بأسرها عامرة بالحوانيت غاصة بأنواع المآكل والمشارب والأمتعة تبهج رؤيتها ويعجب الناظر هيئتها ويعجز العاد عن احصاء ما فيها من الأنواع فضلا عن احصاء فيها من الأشخاص . وسمعت الكافة ممن أدركت يفاخرون بمصر سائر البلاد ويقولون يرمى بمصر فى كل يوم ألف دينار ذهبا على الكيمان والمزابل , يعنون بذلك ما ستعمله اللبانون والجبانون والطباخون من الشقاف الحمر التى يوضع فيها اللبن والتى يوضع فيها الجبن والتى تأكل فيها الفقراء الطعام بحوانيت الطباخين وما يستعمل بياعو الجبن من الخيط والحصر التى تعمل تحت الجبن فى الشقاف وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق المقوى والخيوط التى تشد بها القراطيس الموضوع فيها حوائج الطعام من الحبوب والأفاوية وغيرها فان هذه الأصناف المذكورة اذا حملت من الأسواق وأخذ ما فيها ألقيت إلى المزابل" . وفييت يقول ان مصر كانت تصدر إلى أوروبا وقتئذ البردى والأقمشة وتصنع الورق والجلد والأثاث والحلى والعاج والأوانى والزجاج والصنى والنسيج بكافة أنواعه . وهو يذكر ثروات بعض رجال ذلك العصر فيقول ان الأمير توران تاى ترك عند وفاته 60 ألف دينار أة ما يعادل 7.590.000 فرنك ذهبى و 170 قنطار فضة ومماليك وفوانى وجمالا وخيلا وبهائم وأملاكا وغلالا وسكرا وعسلا وأسلحة وجواهر لا حصر لها . وهو يقدر الخسائر التى أنزلها بعض الماليك بقصر أحد أمراء ذلك العصر فيقول انها بلغت نحو 1.250.000 فرنك ذهب عدا الجواهر والأوانى ثم يذكر أن بكنمار الساقى كان له سيف وسرج يبلغ ثمنها 6.500.000 فرنك ذهب . كذلك يشيد هايد بأهمية التجارة فى حياة مصر الاقتصادية فى ذلك الوقت ويقول انها كانت من الأسباب التى وجهت أوروبا بعد اخفاق الحملات الصليبية إلى التفكير فى القضاء على المصريين بتحريم التعامل التجارى معهم . وقد كان ها النشاط الصناعى التجارى يؤثر فى الحكم المملوكى ويتأثر به فهو الذى كان يوجه انتاج الأقاليم إلى العاصمة , كما لاحظ ناصر خسرو , فيصل بين أسواق البلاد جميعا فى وحدة اقتصادية شاملة ويحول بذلك بينها وبين الانقسامات التى عرفتها أوروبا بعد الغزوات الجرمانية وارتدادها إلى الزراعة وتحول أسواقها إلى أسواق محلية . وهو الذى كان يركز الحياة الاجتماعية فى المدن والعاصمة على وجه الخصوص فيحول بين الأمراء المماليك والاستقرار فى اقطاعاتهم استقرارا يتطور إلى حركات انفصالية كالتى عرفتها أوروبا الوسيطة فى ذلك العصر بالذات . ونحن لا نجد بالفعل أثرا لاستقرار الأمراء المماليك فى الأقاليم فى ذلك العهد ونعلم أن حكام المديريات كانوا عادة , على أيام السلاطين , من غير اصحاب الاقطاعات فيها , ولا نعرف أميرا واحداً حاول أن ينشق باقطاعه عن الدولة , كما كان يحدث فى أوروبا كل يوم , فى حين أننا لا نعرف سلطانا واحدا لم يتآمر عليه ليسلبوه عرشه ويخلعوه . يضاف إلى ذلك أن اقامة الأمراء ومماليكهم فى المدن كانت عرضهم لاغراء نشاطها الاقتصادى وتنتهى بهم إلى الاشتراك فيه والاتصال بالمدنيين واطراح خشونتهم البدائية قليلا قليلا . وكان السلاطين والأمراء يشتغلون بالتجارة والصناعة فى بعض الأحيان كما كان المماليك ينتهون فى الغالب إلى مزاولة الحرف بل والاتجار باقطاعاتهم أيضا فالمقريزى يقول ان أجناد الحلقة كانوا ينزلون عن اقطاعاتهم ويتقاضون عليها وان غالبهم كان يعد على أيامه بين أصحاب الحرف والصناعات . وقد ظهر هذا النوع من التجارة تحت شعبان بين الناصر وعاد إلى الظهور تحت حسن بن الناصر واشتد فى أيام صالح بن الناصر الذى أذن للجند ببيع اقطاعاتهم والمقايضة عليها ثم أتى السلطان حاجى فمنعه . وكان الحكم المملوكى يصطدم أيضا , خلف هذا النشاط القتصادى , بالنظم العامة التى أقامها الاسلام فى مصر : نظم مملكة الله بدستورها القرآنى وقيمها الأخلاقية وتسويتها بين الجميع ما داموا ن دين واحد . ومن ثم كان يشبه الانقسام الذى نلحظه على هذا الحكم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية . فقد رأينا كيف كان الأمراء ينصبون السلاطين بعد أن يقع اختيارهم عليهم أو يسلطوا هؤلاء على العرش ولكن السلاطين كانوا لا يزاولون السلطة الا بعد أ، يبايعهم الخلفاء وينقلوا اليهم السلطات التى يمثلونها . غير أن محاولة تركيز فى شخص السلطان على هذا الوجه كانت تؤدى فى الواقع إلأى انقسامها بسبب انفراد رجال الدين بعد ذلك , دون السلطان ورجاله , بتفسير مبادئ الشريعة وتطبيقها واكمالها أى بجميع عناصر التشريع الاسلامى . ولعل مركز السلاطين كان لا يختلف من هذه الناحية كثير الاختلاف عن مركز الخلفاء الذين سبقوهم لو لم يكونوا , بحكم نشأتهم , غرباء على التشريع الاسلامى مضشربين بروح تشريعية تخالقه راغبين إلى ذلك فى احترام هذا التشريع بحماسة اليافع الذى يعتنق دينا جديدا . فقد كان ذلك يزيد فى حاجتهم إلى القائمين بهذا التشريع ويؤدى إلى تقلص سلطتهم التشريعية وقصورها , من ناحية الواقع , على تعيين شيخ الاسلام أو القاضى الذى يتفق رأيه وغايتهم , فى حالة اتجاههم إلى غايات معينة , أو عزله اذا لم يتفق معهم باعتباره موظفا من موظفى الدولة التى نزل الخليفة لهم عن رياستها . وقد كان السلاطين يجدون هؤلاء القضاة عادة كلما كان زمام السلطة مستتبا فى يدهم وكانت الأمور لا تعدو حدا معينا من الخطورة وكان فى الرأى العام تيار يقبلها أما فيما عدا ذلك فكان من العسير أن يجدوهم وكانوا لا يجدونهم فعلا فى غالب الأحوال . وكان القضاة يجمعون وقتئذ , إلى سلطة التشريع , سلطة المحاكمة وانفاذ الأقضية وادارة اموال المؤسسات الدينية , ويزاولون بذلك سلطة تشريعية ـ قضائية ـ ادارية واسعة , كانت تكفل للشريعة الاسلامية وقتئذ السيطرة على تشريع الولة , دون ما عداها من القوانين والتقاليد ولا سيما التقاليد المغولية التى انتشرت فى مصر فى ذلك العهد . ونحن نعلم بانتشار هذه التقاليد من المقريزى أيضا فهو يقول : "أعلم أن الناس فى زماننا بل ومنذ عهد دولة تركيا بديار مصر والشام يرون أن الأحكام على قسمين : حكم الشرع وحكم السياسة . ولهذه الجملة شرح فالشريعة هى ما شرع الله تعالى من الدين وأمر به الصلاة والصوم والحج وسائر أعمال البر . . " " . . . والسياسة نوعان سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهى من الأحكام الشرعية علمها من علمها وجهلها من جهلها وقد صنف الناس فى السياسية الشرعية كتبا متعددة . والنوع الآخر سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها . وليس ما يقوله أهل زماننا فى شئ من هذا وانما هى كلمة أصلها باسة فحرفها أهل مصر وزادوا باولها سينا فقالوا سياسة وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من علم عنده أنها كلمة عربية وما الأمر فيها الا ما قلت لك . واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام وذلك أن جنكيز خان القائم بدلة التتر ببلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها فى كتاب سماه ياسة ومن الناس من يسميه يسق والأصل فىاسمه ياسة ولما تم وضعه كتب ذلك نقشا فى صفائح الفولاذ وجعله شريعة لقومه فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم" . وبعد أن يأتى القمريزى على بعض أحكام السياسة هذه يقول : "فلما كثرت وقائع التتر ببلاد الشرق والشمال وبلاد القجاق وأسروا كثيرا منهم وباعوهم تنقلوا فى الأقطار واشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية ومنهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز ايبك ثم كانت لقطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت وهزم التتار وأسر منهم خلقا كثيرا صاروا بمصر والشام وخطب للملك بركة بن جيوش بن جنكيز خان على منابر مصر والشام والحرمين فقصد أرض مصر والشام بطوائف المغل وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم . وهذا وملوك مصر وأمراؤها وعسكرعا قد ملئت قلوبهم رعبا من جنكيز خان وبنيه وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم وكانوا انما ربوا بدار الاسلام ولقنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية فجعوا بين الحق والباطل وضموا الجيد إلى الردئ وفوضوا لقاضى القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية كالصلاة والصوم والزكاة والحج وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام وجعلوا اليه النظر فى الأقضية الشرعية كتداعى الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك واحتاجوا فى ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكيز خان والاقتداء بحكم الياسة فلذلك نصبوا الحاجب ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم والأخذ على يد قويهم وانصافهم الضعيف منهم على مقتضى ما فى الياسة وجعلوا اليه مع ذلك النظر فى قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف فى أمور الاقطاعات" . ثم يقول : "وكان أول ما حكم من الحجاب فىالدولة التركية بين الناس بمصر أن السلطان الملك الكامل شعبان بن ناصر محمد بن قلاوون استدعى الأمير شمس الدين بن سنقر الناصرى نائب طرابلس ليوليه نيابة السلطنة بديار مصر عوضا عن الأمير سيف الدين وعينه أميرا حاجبا كبيرا يحكم بين الناس فخلع عليه فى جمادى الأولى سنة ست وأربعين وستمائة فحكم النا سكما كان نائب السلطنة يحكم وجلس بين يديه موقع السلطان لمكاتبة الولاة بالأعمال ونحوه" . ونحن ندرك من أخبار المقريزى هذه أن المماليك كانوا يحتفظون يقوانينهم وتقاليدهم الأصلية وأن علاقتهم بعضهم ببعض كانت تخضع لهذه القوانين ولا تخضع للشريعة الاسلامية اللهم الا فى الحالات التى يقرر فيها السلطان تطبيق هذه الشريعة عليهم لسكوت القوانين الأصلية أو نقصها . وندرك أن غير المماليك أيضا كانوا يستطيعون المطالبة بتطبيق هذه القوانين فى دعاويهم ويجدون فى شخص أحد الأمراء , وهو الحاجب الذى رأينا , القاضى لهم بها . وقد يكون بعض أحكام السياسة هذه من وضع الادارة الحكومية أو املاء ضرورات الحياة اليومية حينئذ , نعنى أحكام قانون وضعى فى دور التكوين . وقد يكون العمل بها أثرا الأزمات النفسية التى كانت تعترى السلاطين من حين إلى حين لقرب عهدهم بالاسلام . ولكن الذى لا شك فيه هو أن غالب هذه الأحكام كان مأخوذا من قانون جنكيز خان وطرائق المشارقة , كما يقول المقريزى . وانه كان يؤثر فى النظم القانونية القائمة بمصر ويتأثر بها إلى حد بعيد , وأن ظلت أسس هذه النظم هى الأسس الاسلامية لاصطباغ الدولة بالطابع الدينى وقصور القوانين المغولية عن معالجة أوضاع المجتمعات المتمدنة التى لم تكن تعرف حين وضعت . ومن الطبيعى بعد ذلك أن يشتد تفاعل الشريعتين فى دائرة القانون العام , بسبب اشتراك المماليك فىالدولة اشتراكا فعليا واسعا , ويخف خارجها شيئا فشيئا حتى يكاد ينعدم فى دائرة الأحوال الشخصية وهى الدائرة التى لا يقبل الاسسلام فيها نزيلا . وقد رأينا كيف كان نظام الجيش حينئذ مغوليا وكيف كان تكوين الحكومة مغوليا أيضا ورأينا إلى أى حد تأثرت الملكية الزراعية بهذه النظم فى حين أننا نعلم من المقريزى أن الساطين كانوا يمنعون المأذونين من تزويج المماليك فيضرب المأذنون بمنعهم عرض الحائط . كان الحكم المملوكى اذا فى جوهره حكما بدائيا نشأ كظاهرة طبيعية من ظواهر الحروب الضروس التىوالت على مصر بين القرن الحادى عشر والقرن الخامس عشر . ثم مالت سورة هذه الحروب إلى الهدوء نفقد هذا الحكم حكمة قيامه وقل معيته من الرجال واختلت نظمه وتحول إلى ذلك الشئ البشع الذى يتبادر إلى نفسنا الآن حين نذكر عصر المماليك . وكانت الحياة المدنية المصرية بحيويتها الذاتية والأوضاع الاسلامية التى اتخذتها تحد من أثر عيوب هذا الحكم بل وتكاد تخرج به عن طوره من حين إلى حين وظلت تقوم بوظيفتها هذه على خير وجه حتى ابان عهد المماليك الجراكسة وهوعهد توالى الأزمات المالية الحادة وما صحبها من انحلال فى النظم المملوكية وغلبة الطابع العسكرى على المناصب العامة , اذ انعكست الاية حينئذ وجعل هذا الحكم يعصف بالحياة المدنية وينخر فى عظام البلاد جميعا حتى انتهى بها إلى ما وجدها عليه محمد على فى القرن الثامن عشر . والمقريزى يرجع بأول الأزمات المالية إلى اجتياح تيمورلنك الشام فى القرن التاسع فهو لا يكف عن الشكوى مما يدعوه بالبلاء الكبير الذى حل بمصر وقتئذ اذ مزق تيمورلنك الشام وهبط النيل واضطر الفلاحون إلى بيع أولادهم وترك أراضيهم . ولكنه يرجع به قبل ذلك إلى فساد الحكم وجهل القائمين به فيقول فى "كشف الغمة" : "وسبب ذلك كله (الأزمة المالية على أيام برقوق) ثلاثة أشياء لا رابع لها : السبب الأول وهو أصل الفساد ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية وولاية الحسبة وسائر الأعمال حيث لا يمكن التوصل إلى شئ منها الا بالمال الجزيل فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى مالم يكن يؤلمه من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة" . ويبين المقريزى بعد ذلك ما يضطر اليه المعينون لسد ما يقترضونه فى سبيل تأدية الرشوة من تعسف مع المكلفين ثم يقول : "فلما دهى أ÷ل الريف بكثرة المغارم وتنوع المظالمة اختلت أحوالهم وتمزقوا كل ممزق عن أوطانهم فقلت مجالب البلاد ومتحصلها لقلة ما يزرع بها ولخلو أهلها ورحيلهم عنها لشدة الوطأة من الولاة عليهم وعلى من بقى منهم" . ويشير إلى بعض ما حدث تحت برقوق من احتمال الناس ذلك لقرب عهدهم به ثم ثيقول : "وانسحب الأمر فى ولاية الأعمال بالرشوة إلى أن مات الظاهر برقوق وحدث بموته اختلاف بين أهل الدولة إلى تنازع وحروب قد ذكرتها فى كتاب مفرد فاقتضى الحال من أجل ذلك ثورة أهل الريف وانتشار الزعار (اللصوص) وقطاع الطرق فخيفت السبل وتعذر الوصول إلى البلاد الا بركوب الخطر العظيم وتزايدت غباوة أهل الدولة وأعرضوا عن مصالح العباد وانهمكوا فى اللذات لتحق عليهم كلمة العذاب" . "السبب الثانى غلاء الأطيان : وذلك أن قوما ترقوا فى خدمة الأمراء يتزلفون اليهم بما جابوا من الأموال إلى أن استولوا على أموالهم" . ويشير إلى ما عمد اليه هؤلاء من زيادة أجر الاراضى ثم يقول : "فخرب بما ذكرنا معظم القرى وتعطلت أكثر الأراضى من الزراعة وقلت الغلال وغيرها مما تخرجه الأرض بموت أكثر الفلاحين وتشردهم في البلاد من شدة السنين وهلاك الدواب ولعجز الكثير من أرباب الأراضى عن زرعها لغلو البذر وقلة المزارعين وقد أشرف الاقليم لأجل هذا الذى قلنا على البوار والدمار . . ." . "السبب الثالث رواج الفلوس . ." ثم يصف الأدوار التى مر بها النقد فى الامبراطورية الاسلامية وآثار تضخمه فى الاقتصاد المصرى على أيامه . وفييت يميل للرجوع بالأزمات المالية فى هذا العهد إلأى الانقباض الذى كان آخذ سبيله إلى الصناعة المصرية وقتئذ , بينما يميل الدكتور زيادة لردها إلى اسراف السلاطين فى فرض الرسوم على تجارة الشرق . ولاشك فى أن هذه الأزمات كانت ترجع إلى هذه الأسباب جميعا , كما كانت ترجع إلى اضطراب الأمن فى المدن التجارية من جراء تطاحن المماليك المستمر داخلها . وترجع أيضا , خصوصا فى المراحل الحادة التى مرت بها بعد ذذلك , إلى السبب العالمى الذى يكشف عنه ابن اياس حين يشير إلى ما أثارته أخبار وصول البرتغاليين إلى رأس ارجاء الصالح , فى القرن الخامس عشر , فى الأسواق المصرية , من جزع شديد . وقد سبق لنا نحن أن رأينا كيف كان البحر المتوسط يتجه منذ القرن الثالث عشر للتحول إلى طريق من طرق المبادلات التجارية بين بلاد الشرق الأٌصى وشعوب أوروبا الشمالية الجديدة بعد أن ظل زمنا طويلا عالما قائما بذاته يحيا من حياة الشعوب القائمة على ضفافه ولا يعرف لغيرها نشاطا ملموسا . كذلك سبق أن راينا كيف أخذ بحر الشمال ينشط فى ذلك الوقت أيضا كأداة من أدوات التبادل بين شعوبه تلك الجديدة ثم كطريق طبيعى لاستيراد ما كانت تحتاج اليه هذه الشعوب من سلع الشرق الأقصى وبلاد البحر المتوسط , حين اتسع أفق التجارة الدولية وفضل التجار النقل البحرى على النقل البرى فى جلب سلعهم من الموانى الايطالية إلى بلادهم , عبر القارة الأوربية جميعا . وكان من علامات هذا التحول ما اشتعل حينئذ من منافسة شديدة بين البندقية , التى كانت تحتكر الجزء الأكبر من هذه التجارة , واسبانيا والبرتغال , اللتين كانتا تنازعانها اياها بسبب ما تتمتعان به من وضع جغرافى يفضل وضع الموانئ الايطالية بالنسبة إلى ثغور أوروبا الشمالية , وما حاولته البندقية أيضا بعد ذلك من الخروج بسفنها إلى عرض المحيط , وما كان يبعثه كل ذلك من انتعاش فى موانئ الجزيرة الأسبانية واقبال عليها وظهور لشعوبها على مسرح التجارة الدولية . وكان انفجار الطوفان المغولى واتجاهه شطر آسيا الصغرى وشواطئ البحر المتوسط الشرقية يبعث فى الطريق التجارية الشرقية فى ذلك الوقت بالذات بعض ما كان يحدث فى الطرق الغربية من اضطراب فهو قد وسع آفاق التجارة العالمية بضمه آسيا الوسطى اليها ولكنه فتح أمامها أيضا طرقا شرقية جديدة تنافس الطرق القديمة ومن بينها طريق الاسكندرية . وقد دبت الفوضىبعقب ذلك فى الممالك الأسيوية التى انحسر عنها هذا الطوفان فعادت التجارة العالمية إلى طرقها القديمة . ثم أقبل العثمانيون ونصبوا الحرب للمسيحية فى البلقان والبحر المتوسط شرقه ووسطه فاشتد تحول هذه التجارة إلى غربه وتضافرت الحاجة وما كانت الملاحة البحرية قد بلغته من تقدم على الانتهاء بالبرتغاليين إلى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح أى الطريق البحرى المباشر إلى سلع الشرق الأقصى . وكشف كولمبوس عن أمريكا فيما بعد . وهو يجد فى البحث عن طريق أخرى إلى تلك السلع بالذات , فتركزت المبادلات الدولية فى الأطلنطيق وبحر الشمال واتصلت أوروبا الجديدة اتصالا مباشرا بموارد السلع التى كانت تبتاعها من البحر المتوسط ووضعت يدها على منابع الثروة الأمريكية . وقد بدأ هذا التحول فى القرن الثالث عشر وظل إلى ما بعد اكتشاف طريق ارجاء الصالح , اذ كانت جمهرة تفضل الطرق القديمة على هذا الطريق , واستطاعت البندقية أن تقاومه حينا ثم تحولت إلى دولة زراعية عزيزة الجانب وعاشت كذلك إلى قبيل الثورة الفرنسية . ولكن مصر لم تبذل فى سبيل هذه المقاومة مسعى جديا ما , فقد قنع السلطان الغورى , حين بلغه نبأ وصول البرتغاليين إلى الهند عبر المحيط , بأن توعد ملكهم بالاعتداء على القدس فى حملة بحرية أرادوا بها القضاء على الأسطول البرتغالى . وقد أخفقت هذه المحاولة كما لم يجد الوعيد الذى سبقها واستمر البرتغاليون يجوبون المحيط بينما كانت الانتقاضات المملوكية المتوالية تدفع بالتجار دفعا إلى ترك طريق مصر وتفضيل الطريق البحرية عليها . وهنا جعلت موارد الدولة تهبط هبوطا شديدا وكثرت ثورات المماليك على الأمراء وثورت الأمراء على السلاطين وانتهاز البدو هذه الثورات جميعا للامعان فى السلب والنهب حتى صارت الحياة فى القاهرة والمدن الأخرى جحيما لا طاقة بشرية باحتماله . وبينما كانت الفوضى الاقتصادية تضرب أطنابها فى مصر على هذا الوجه , كان العثمانيونن يزحفون إلى آسيا الصغرى ويخضعونها بلدا بلدا ثم يقتمحون مصر نفسها ويضعون باقتحامها حدا لتلك الحرب العاتية التى كانت آسيا المغولية تشنها على العالم العربى منذ القرن الثالث عشر وكان المصريون كسبوا معاركها المتوايلة إلى ذلك الوقت , فخسرت القاهرة مركزها كطريق مبادلات أوروبا مع الشرق وعاصمة أكبر امبراطورية اسلامية أعقبت الخلافة العباسية , الجديدة , وخرجت بذلك من مجرى التاريخ , ان صح هذا التعبير , لتقع فريسة أبشع ما عرف عن سيئات الحكم المغولى . وقد سبق أن رأينا ما أدى اليه قيام هذا الحكم فى مصر من انتشار نظام الاقطاعات بها انتشار واسعا , وخروج الأراضى التى كان يشملها , وهى يومئذ كافة الأراضى المزروعة , فيما عدا الموقوف منها على وجوه الخير , من دائرة المعاملات الفردية للتحول إلى ملكية عامة تأجر بها الدولة عمالها . وقد أدى انتشار الاقطاعات هذا بدوره إلى القضاء على ما كان صائرا إلى الظهور تحت الفاطميين من ملكيات خاصة . ونحن نعلم بوجود هذه الملكيات من المقريزى فهو يقول ان القاضى الرشيد بن الزبير تحقق فى أيام الخليفة الأفضل الفاطمى أن أرباب الأملاك فى الصعيد سطوا على ما يجاور أملاكهم من أملاك الدولة وان الحكومة أقرت هؤلاء الملاك فى ملكيتهم غير الشرعية هذه تشجيعا لها وترغيبا لأهل الصعيد فى استصلاح أراضيه . ولاشك أن أراضى مصر السفلى كانت تسير فى هذا الاتجاه هى أيضا بسبب ارتباك أمور الدولة واتساع نفوذ الأمراء والوزراء وأتباعهم . كذلك لاشك فى أ، انتشار نظام الاقطاعات ذلك هو الذى أدى إلى وقوف تطور الملكية فى مصر فى ذلك الوقت , فما دامت الأراضى لا تملكها الا الهيئات العامة التى تدخل فى صلب الدولة , ومادام الذين ينهضون بهذه الهيئات لا يتمتعون ازاءها الا بحق انتفاع موقوت فمن العسير ان لم يكن من المستحيل أن يمتلك الأفراد شيئا منها بوسيلة من الوسائل التى تنشأ بها الملكية الخاصة . ونحن نعلم من المقريزى أيضا أن الزراعة لم تكن بوجه عام على نصيب كبير من الازدهار على أيام المماليك بسبب اهمال الحكومة الأرض وقلةاليد العاملة وعسف الملاك على وجه الخصوص . وقد يكون فى قول المقريزى هذا شئ من الاسراف فقد كان الرجل ناقما على حكام عصره . ومع ذلك لا شك أن الزراعة فى مصر كانت تمضى فى الاضمحلال منذ آخر أيام المماليك البحرية , على أقل تقدير , وأن الصحراء كانت لا تنفك تطغى على الأراضى الزراعية , كما كان أبناؤها البدو يهاجمون المدن . ولاشك أن كل هذا كان يرجع إلى الاهمال قبل كل شئ , فمصر واحة كبيرة والكفاح بينها وبين الصحراء قديم تاريخها الطويل وهذا الكفاح يقتضى عناية خاصة بمنشآت الرى وقد كانت هذه العناية من أسس الحكومة الفرعونية والحكومات التى أعقبتها بينما كانت تكاد لا يكون لها وجود فى عهد المماليك بسبب تصورهم الخاص للدولة وما كان ينبنى عليه من نظرهم إلىالمنشآت العامة كمنشآت خاصة تقام أو لا تقام حسب هوية المقطع العارضة أو مصلحته المباشرة أو رغبته فىترك ما ينبه به ذكره .وسائر منشآت ذلك العصر من مدارس وجوامع وخلجان , فيما عدا ما اقامه السلاطين منها بدافع الظروف الملحة , اقامة الأمراء على هذا السبيل . ونحن ما زلنا نقرأ لابن اياس واجبرتى وغيرهما من مؤرخى ذلك القوت فنشعر وكأن غالب الأراضى المصرية صارت صحراء يضرب البدو جنباتها . وكما تأثرت الثروة الزراعية بالحكم المملوكى تأثرت به الملكية العقارية فى المدن أيضا فانتشرت بها الأوقاف انتشارا كبيرا . والأوقاف ضرب من الاقطاع للمؤسسات الدينية ينفرد دون الاقطاع العادى بطول الجل نظرا لاستطاعة هذه المؤسسات البقاء أجيالا متوالية وعدم استطاعة الدولة حلها ما دامت تقوم بوظيفتها الدينية . ولاشك فى أن هذا العنصر الأخير كان من الأسباب التى مالت باهل ذلك العصر إلى الاكثار من الأوقاف فقد كان الأمراء لا يستطيعون حفظ اقطاعاتهم لذريتهم وكان اقبال السلاطين على استصفاء أموال الأمراء وكثرة تآمر هؤلاء بعضهم على بعض وعلى السلاطين يعرض بحياتهم وما يملكون جميعا إلى الدمار ويقضى على كل ثقة لديهم فى المستقبل . ولم يكن لذلك ثمة سبيل إلى النجاة من هذا الاضطراب وحفظ بعض ثروة الآباء للأبناء , ثم اثبات الملكية بطريقة قاطعة فى وقت كانت تعد فيه شيئا فذا يفتقر إلى الدليل القوى الثابت , سوى الخروج بها من دائرة سلطة السلطان وأمرائه باشراك الأغراض الدينية التى كانوا لا يعرفون حرمة لسواها فى الافادة منها . ولما كانت الدولة تبيح وقتئذ تملك الأرض التى يبيعها بيت المال والأرض التى تستصلح وكان الأمراء يستطيعون بنفوذهم وسعة وسائلهم أن يحصلوا على هذه الأراضى وينشئوا بذلك لأنفسهم ملكية عقارية حقيقية فى حلها والاستعانة بها على مواجهة مصاريف الدولة فوقف المشايخ فى وجهه ومنعوه . ولكن أشد آثار الحكم المملوكى فى حياة مصر الاقتصادية على الاطلاق كان دون شك ذلك الذى أصاب نشاطها الصناعى والتجارى . ونحن نشهد هذا الأثر بأشع صوره فيما وجد الفرنسيون عليه الصناعة وقتئذ على صنع ما تحتاج اليه السوق المحلية وبعض أسواق سوريا وأفريقيا الشمالية والوسطى من أنواع النسيج والأغذية والأدوية بطرق بدائية عتيقة . وكانت التجارة لاتعدو تصدير بعض الخامات المتوفرة فى البلاد كالقمح والأرز والجلود والعدس والفول والكتان والبلح , واستيراد بعض الخامات كالعاج وريش النعام والجلود والنطرون والشب والذهب والعبيد من أفريقيا وبعض المصنوعات كالصابون والمنسوجات والأسلحة والدخان من الشام . وكانت صادرات مصر إلى أفريقيا الوسطى أقل بكثير من وارداتها منها بينما كانت صادراتها إلى البلاد العربية تعادل ثلثى وارداتها من هذه البلاد . ومؤلفو "وصف مصر" يقدرون ربح مصر من تجارتها مع فرنسا وايطاليا بما لا يزيد على 50 ألف قرش فى السنة ومن تجارتها مع أفريقيا الوسطى باثنى عشر ألف قنطار من تراب الذهب ومن تجارتها مع السلطنة العثمانية بمليوة ريال , كانت تخسر جزءا كبيرا منها فى تجارتها مع جدة لامتناع هذه عن قبول المنسوجات المصرية , ويحسبون ايرادات الجمارك المصرية جميعا بنحو ثلاثة ملايين فرنك فى العام . وهذه الأرقام تتعلق بالتجارة المصرية فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر أى فى الوقت الذى عادت أوروبا تنظر فيه إلى البحر المتوسط وتتصل بالشرق من جديد وهى تمثل لذلك حالةانتعاش بالقياس إلى المدة السابقة . وقد كانت مصر حين نزلها الفرنسيون فىنهاية القرن الثامن عشر تتكون من بضع مدن يشبهها مؤرخو الحملة بالقرى الكبيرة , لا يزيد عدد سكانها جميعا على 339800 ساكن , و 3600 قرية , لا يزيد متوسط عدد سكان كل منها على 534 ساكنا . وكان تعداد المصريون جميعا لا يزيد على مليونين ونصف . وكانت القاهرة , عروس الشرق وثانى مدينة فى السلطنة العثمانية ومركز الحياة المصرية الوحيد فى لذك الحين ـ القاهرة التى كانت حين زارها ابن بطوطة لا تكاد تسع سكانها من كثرتهم وكانأهلها فى صبى المقريزى لا يلبسون الا المهاميز الذهب ـ كانت القاهرة مدينة نصف خربة لا يزيد عدد سكانها على 260 ألفا منهم 12 ألف مملوك وجندى و 30 ألف خادم و 3 آلف حفار و 25 ألف صانع و 15 ألف عامل أجير و 5 آلاف بائع و ألفا قهوجى و 6 آلاف مالك وألفا تاجر بينما التجارة الدولية فى العصور الوسطى , قرية كبيرة لا يزيد عدد سكانها على ثمانية آلاف ساكن يشتغلون بالصيد والنسج وصناعة الصابون وتأتى فى الأهمية بعد رشيد . وكان ما بين الأسكندرية ورشيد صحراء يبابا وما بين القاهرة والأسكندرية قرى منتشرة وأكوخا قذرة . أما الصعيد فكان منفى البكوات وميدان الحروب الداخلية المختار بين من يضطر من الأمراء المماليك إلى مغاردة القاهرة فرارا من شر زبانيتها . والجبرتى يصف فى تاريخه الحالة الاقتصادية قبيل دخول الفرنسيين مصر فيقول : "زانقضت هذه السنة (سنة 1198 هجرية) كالتى قبلها فى الشدة والغلاء وقصور النيل والفتن المستمرة وتواتر المصادرات والمظالم من الأمراء وانتشار أتباعهم فى النواحى لجلب الأموال من القرى والبلدان واحداث أنواع المظالم ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة حتى أهلكوا الفلاحين وضاق ذرعهم واشتد كربهم وطفشوا من بلادهم , فحولوا الطلب على الملتزمين وبعثوا لهم المعينيين فى بيوتهم فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم بسبب ذلك مع ماهم فيه من المصادرات الخارجية من ذلك وتتبع من يشم فيه رائحة الغنى فيؤخذ ويحبس ويكلف بطلب أضعاف ما قدر عليه وتوالى طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقبلة . ولما تحقق التجار عدم الرد استعاضوا خساراتهم من زيادة الأسعار ثم مدوا أيديهم إلى المواريث فاذا مات الميت أحاطوا بموجوده سواء كان له وارث أو لا وصاربيت المال من جملة المناصب التى يتولاها شرار الناس بجملة من المال يقوم بدفعه فى كل شهر ولا يعارض فيما يفعل فى الجزئيات وأما الكليات فيختص بها الأمير . فحل بالناس ما لا يوصف من أنواع البلاء الا ممن تداركه الله برحمته أو اختلس شيئا من حقه فان اشتروا عليه عوقب على استخراجه وفسدت النيات وتغيرت القلوب ونفرت الطباع وكثر الحسد والحقد فى الناس لبعضهم البعض فيتتبع الشخص عورات أخيه ويدلى به إلى الظالم حتى خرب الاقليم وانقطعت الطرق وعربدت أولاد الحرام وفقد الأمن ومنعت السبل الا بالخفارة وركوب الغرور وجلت الفلاحون من بلادهم من الشراقى والظلم وانتشروا فى المدينة بنسائهم وأولادهم يصيحون من الجوع ويأكلون ما يتساقط فىالطرق من قشور البطيخ وغيره ولا يجد الزبال شيئا يكنسه واشتد بهم الحال حتى أكلوا الميت من الخيل والحمير فاذا خرج حمار ميت تزاجموا عليه وقطعوه وأخذوه ومنهم من يأكله نيئا من شدة الجوع ومات كثير من الفقراء بالجوع . هذا والغلاء مستمر والأسعار فى الشدة وعز الدرهم والدينار من أيدى الناس وقل التعامل الا فيما يؤكل وصار سمرالناس وحديثهم فى المجدالس ذكر المآكل والقمح والسمن ونحو ذلك لا غير" . والجبرتى أيضا يقول ان التجار كانوا اثناء وجود الانجليز فى الأسكندرية بعد خروج الفرنسيين يتركون التجارة ويبيعون أثاثهم ومنازلهم ويهجرون الثغور ويضيف إلى ذلك أن أعيان القاهرة كانوا يستدينون فلا يجدون من يدينهم سوى الجند . -3- وقد صحب هذا الانقباض انقباض اجتماعى لا يقل عنه ضيقا فتوارت العناصر المدنية الفذة , التى كان النشاط الصناعى والتجراى والعلمة يدفعها إلى سطح المجتمع , وحل العسكريون من المماليك والعثمكانيون محل المدنيين فى الوظائف المدنية وهبط أهل المدن والريف إلى مستوى العبيد . ونحن نشهد تلك العناصر المدنية بكثرة إلى جانب السلاطين حتى دخول العثمانيين مصر . فنجد صلاح الدين , ابن مماتى ثم القاضى الفاضل , الذى يقول المقريزى ان صلاح الدين لم يفعل شيئا بدونه , وكان يتجر اتجارا واسعا مع الهند والمغرب ويعد من أكبر أثرياء عصره . ونجد إلى جانب أيبك , الأسعد شرف الدين ابن وهيب الله الفائزى وقد بدأ حياته عاملا بأسيوط ثم جعل يتقدم حتى قلد الوزارة وكان أيبك يثق به ويكاتبه بالمملوك ويرسله بالعسكر إلىالصعيد لمقاتلة الأمراء . والفائزى هو الذى وضع سياة أيبك المالية على أساس التوسع فى فرض الضرائب التجارية والصناعية وهى الضرائب التى كان صلاح الدين ألغاها وكان الأيوبيين والمماليك لا يملكون ناصيتها . ونجد إلأى جانب بيبرس بهاء الدين على بن حنا عديل الفائزى الذى يقول المقريزى ان بيبرس لم يبرم أمرا بدونه , وإلى جانب الناصر بنقلاوون , أدهى سلاطين المماليك على الاطلاق , مجد الدين اسلامى , تاجر الخاص الذى عقد الصلح بينه وبين القان بن سعيد , الفخر محمد بن فضل الله الذى يقول المقريزى انه حمل الناصر على ابطال الوزارة ونيابة السلطنة لأن النائب الأمير أرغون خاصمه وبذلك صار كل شئ بيده حتى هتف الناصر يوم وفاته قائلا : "لعنة الله ! خمس عشرة سنة ما يدعنى أعمل ما أريد" . ونجد إلى جانب الأشرف , خليل شمس الدين السلعوس الذى لجأ الأعسر , أحد أمراء قلاوون , إلىالتزاوج من ابنته ليتوسط له فى العودة إلى مركزه بعد أن صادره الأشرف خليل , وأدةى فى هذا الزواج ألفا وخمسمائة دينار صداقا . ونجد إلى جانب المظفر حاجى بن دنبور الذى أعاد تنظيم مالية الدولة كيما يتمكن من مواجهة الزمة المستحكمة على أيامه وكان يملك معاصر السكر والمراكب والمخازن والمتاجر و 400 ألف دينار . ونجد إلى جانب برقوق , الصاحب كريم الدين بن مكانس وسعد الدين بن البقرى والقاضى عبد الوحد بن اسماعيل الذى كان برقوق يركن اليه فى كل شئ . ولكن الرجل الذى بذ هؤلاء القادة جميعا فة سعة السلطان واستطاع ا، يجمع فى قبضته أعنة الدولة وينصب السلاطين ويخلعهم , كما يشاء , كان ولاشك القاضى الأمير سعد الدين ابراهيم عبد الرازق بن غراب الاسكندرانى ناظر الخاص وناظر الجيوش واستادار السلطان وكاتب السر. وكان جده غراب قد أسلم وباشر بالاسكندرية حتى ولى الثغر وولى ابنه من بعده . وقد ارتقى سعد الدين إلى نظارة الديوان المفرد على أيام برقوق وعمره عشرون عاما وعاون أخاه فخر الدين فىتنصيب الناصر فرج بن برقوق بعد وفاة والده وتدبير أمور الدولة على أيامه . ثم تولى الاستدارية عوضا عن الأمير يلبغا الساعى رغم كونها من وظائف السيف , دون أن يخلع زى الكتاب , وصار له ديوان كدواوين الأمراء وطبول وكاتبه الناس بالأمير وعاش ملكية من حيث الأعطية والأسمطة التى كان يعطيها , وأكثر من المماليك والخيول والماشية . ثم خرج من القاهرة مغاضبا الأمراء وصار إلى ناحية تروجه ييد جمع العربان ومحاربة الدولة فلم يتم له ذلك فعاد إلى القاهرة واشترك مع الأمير يشبك فى محاربة فرج بن برقوق وانهزم مع يشبك فذهب إلأىالشام وحرض الأمير شيخ نائبها على السلطان . ثم استطاع أن يستمكيل السلطان ويتخلص منه وينصب عبد العزيز بن برقوق مكانه . ثم أ‘اد فرجا من جديد فجعله هذا أميرا وفوضه كل شئ . وكان ابن غراب يقول انه لو أراد لأخذ الملك لنفسه . وهذه أمثلة قليلة نجدها هنا وهناك فى كتب العصر وهى تشعرنا بأن الأمر لم يكن شذوذا وانما كان قاعدة عامة فى عهود السلاطين جميعا وفى دوواين الحكومة ودوواين الأمراء علىالسوا ء. وكان هؤلاء الرجال يأتون من صميم الطينة المصرية ويشتركون فى الحكم ويوجهون مصائره دون أن يكون فى سلوكهم شئ من روح العبودية الذى أراد أن يراه الذين عرضوا لتاريخ ذلك العصر , قياسا على ما حدث تحت المماليك الشراكسة حين شل اقتصاد البلاد وضعفت قيم الحياة امدنية فيها . ونحن نعلم أن رجال الدين كانوا يتمتعون وقتئذ بنفوذ وامتيازات واسعة ويحسنون استعمال السلاح ويشتركون فى الحروب . ونعلم انهم كانوا ينهرون السلاطين والأمراء حتى دخول نابليو مصر وأن السلاطين والأمراء كانوا يبجلونهم ويقدمونهم على أنفسهم ويقبلون قدم من يعتقدون فى قداسته منهم ولا يشذ عنهم فى ذلك رجال مثل بيبرس وبرقوق . وقد كان أقسى المماليك وأشرسهم خلقا يلوذون بالأزهر ويحتمون بشيوةخه اذا خشوا عقاب الدولة حتى آخر أيامهم . كذلمك نعلم أن أرباب الحرف كانوا يسبون السلاطين فى الطرق ومواجهتهم ويتظاهرون تحت نوافذ القلعة وينكتون على اهلها ويثورون على الأمراء والمشايخ ويمنعونهم من الزيادة فى الضرائب بل ويحملونهم على ممالأتهم بالغائها كما فعل صلاح الدين وبيبرس والناصر قلاوون من بعده . وكانوا فى أول أيام المماليك يستنكرون صعودهم إلى مراكز الحكم جهارا ويبدون فى ذلك روحا من الدعابة أبعد ما تكون عن الاستكانة والخنوع . كذلك نعلم أن أهل المدن كانوا يصنعون وقتئذ أنواع السلاح جميعا ويحملونها فى الطرق ويتبارون بها فى الميادين العامة ويشتركون فى حرب المغل والصليبيين وأن أهل الأسكندرية كانوا يملكون علىأيام ابن بطوطة مستودعات كبيرة تزخر بأنواع السلاح ويرفضون أن يقوم السلطان بالدفاع عن المدينة من دونهم . ونعلم أن أبناء البلاد جميعا كانوا يجتمعون وقتئذ فى نقابات لها قوانين وتقاليدها ورؤساؤها وأن هذه النقابات كانت تتمتع , ازاء أعضائها , بسلطة ادارية ـ قضائية ـ مالية واسعة تجعل منها وحدات حكومية قائمة بذاتها تعترف بها الدولة وتعتمد عليها وتحسب حسابها إلى حد بعيد . ومن السخف ان يقال ان المماليك كانوا ينظرون إلى أبناء لبلاد كعنصر مغتصب ويرفضون الاختلاط بهم ويكونون ارستقراطية قائمة بذاتها . فقد كانت تقوم فواصل شديدة دون شك ولكنها كانت من طبيعة القواصل التى تقوم إلأى اليوم بين الطبقات المختلةى فى المجتمع الواحد , من طبيعة الفواصل التى تقوم الآن بين الصناع والزراع وأصحاب المهن الحرة وأهل الدولة , إلى جانب الأنفة التى تثيرها صناعة السلاح فيمن يشتغل بها عادة وما كانت تدفع بهم اليه فى ذلك الوقت من الاستهانة بغيرهم خصوصا اذا كانوا ممن ينصرفون لتحصيل خبزهم اليومى بالبيع والشراء . وقد كان المملوك يحمل لابن زميله نفس الشعور الذى يحمله لابن البلد فهو أيضا فى عينه سوقى يتكسب ولا يقضى اليوم مثله ويده على مقبض سيفه . يضاف إلى ذلك أن علاقات المماليك بأمرائهم والأمراء بعضهم بالبعض وعلاقاتهم جميعا بالسلطان كانت تتخذ هى أيضا أشكالا ذليلة حقا من تقبيل الأقدام إلى السجود إلى التمرغ فى التراب إلى القيام بأعمال الخدم , وهى عادات أتوا بها منن الاصقاع التى نشأوا فيها , وكانت لا تمنع بعد من أن يثب الأمراء على السلطان فيقتلوه أو الأمراء بعضهم بالبعض أو يقف المماليك للأمراء فى الطرق ويضربونهم ضربا مبرحا كانت لا تمنع السلاطين والأمراء من ضرب المشايخ الذين كانوا يبجلونهم ويريدون الجنة على يديهم بالمقارع أو المماليك من تخطف عمائمهم أو هؤلاء جميعا من الالتزاوج والاختلاط الحقيقى الواسع فلا شك فى أن الأمراء , مثل سنقر الأعسر الذى رأيما , كانوا يتزوجون من العائلات المصرية , كما كان المصريون يتزوجون من بناتهم , مثل القاضى أبى بكر الذى تزوج من ابنة الأمير قانصوه وأخت أبى المحاسن التى تزوجت من قاض سورى ثم من قاض مصرى , وكما كان المماليك يتزوجون من المدن المصرية التى ينزلونها . ولم يكن انفراد المماليك فى ذلك الوقت بصنعة السلاح وقيادة الجش وحيازة الاقطاعات يجعل منهم عنصر غاصبا يمكن مقارنة وضعه من قريب أو بعيد بوضع الجيوش الاجنبية فى بعض بلاد الشرق اليوم . فقد رأينا كيف كان هؤلاء المماليك يهبطون مصر فرادى سعيا وراء الرزق ولم يتصلوا قط بالبلاد التى استجلبوا منها فضلا عن اعتمادهم عليها فى الصعود إلى الحكم أو الاحتفاظ به أو توجيه سياستهم فيه , ورأينا الاقطاعات لم تكن , آخر الأمر , سوى الوسيلة التى اهتدى اليها أبناء ذلك العصر لرصد ما ندعوه اليوم باعتمادات الدفاع , كما لم يكن المماليك سوى جند الجيش الثابت الذى اضطرت الحروب المستمرة مصر إلى انشائه بين نهاية العصر الفاطمى وآخر أيام الأيوبيين .ونحن نعلم أن عدم وجود نظم التجنيد الحديثة فى ذلك الوقت , والاتجاه الدينى الذى اتخذه وعى الشعوب فى الوقت نفسه ثم تقدم الحياة الاقتصادية والاجتماعية فى البلاد , كان يميل بالمصريين حينئذ عن الانخراط فى الجندية وترك الجيش لمن لا سبيل له إلى الارتزاق غيره من أولئك الرجال الغلاظ الذين كانوا يفدون عليهم من أصقاع آسيا , وذلك طالما كان السلم مستتبا أو كانت الحروب حروبا داخلية تشنها الدول الاسلامية بعضها على بعض , أو تضرمها الأحزاب المختلفة فى الدولة الواحدة , ولا تتعرض الأمة الاسلامية من جرائها لخطر كبير يستدعى هبوب المسلمين جميعا لذوده عنها . ونعلم أ، المصريين اشتركوا فعلا فى مواقع الحروب الصليبية والمغولية الكبيرة وأن حثالة أهل المدن جعلت تدخل الجيش , اذ كسدت الأعمال فى المدن بعد ذلك وهبط مستوى المماليك وجعلوا يستنكفون من السير إلى الحرب ويفضلون استئجار من يحل محلهم فيها , قبيل دخول العثمانيين وتحت الأمراء المماليك . وقد ظهرت هذه الظاهرة فى أوروبا أيضا فى ذالعصر فكان أبناء الجمهوريات الايطالية التى يقارنها مؤرخو أوروبا بالجمهوريات اليونانية فى التعلق بالحرية السياسية , يفضلون فى ذلك الوقت تحمل أرزاق الجند المستجلبين على ترك أعمالهم والذهاب إلى سفك الدماء . ومن الواضح أن الرجل الذى يقضى الأسابيع والشهور فى صنع تحفه أو نقش باب أوزخرفة حائط يجد انفاق الوقت فى التقتيل حونا ليس بعده جنون ويفضل أن يتحمل أجر من يقبذلك مكانه مهما ارتفع قدر هذا الأجر دون أن يفكر فيما قد يؤول به اليه ذلك فى مستقبل الأيام . ونحن لا نكاد نجد للعناصر المدنية فى حياة مصر العامة أثرا يذكر منذ نهاية المماليك البرجية ولا نكاد نرى على سطح المجتمع المصرى حتى دخول الفرنسيين سوى البكوات المماليك والموظفين العثمانيين ومشايخ الأزهر زفئة ضئيلةى من كبار التجار . ونلحظ اخفاء المدنيين عموما من الزظائف الحكومية وحلول رؤساء الوجاقات العثمانية وفرق المماليك , الذين كانوا يبدأون حياتهم عسكريين ويظلون عسكريين بطابعهم ونظرهم إلى الأمور ومجافاتهم لكل تدبير حضارى , محل تلك الطبقة الغزيرة المثقفة من القضاة , التى كانت تدبر أمور الدولة تحت السلاطين , فى جميع هذه الوظائف , فيما عدا ما هو خاص منها بالمسائل الدينية أو جباية الضرائب التى كان يقوم بها الأقباط حتى نهاية القرن الثامن عشر . كذلك نلحظ اختفاء كبار رجال العلم أمثال ابن خلدون والمقريزى والسيوطى , ويروعنا تركز الحياة الفكرية فى الأزهر بعد أن كانت تنتشر بين جوامع القاهرة وجوامع المدن الكبرى جميعا , وتحول المستوى الفكرى العام إلى الجمود الذى وجدنا عليه الحياة الأزهرة فى مطلع هذا القرن . والمقريزى يصف ما كانت عليه هذه الحال على أيامه وصلتها بالأزمات المالية فيقول : "اعلم حرسك الله بعينيه التى لا تنام وركنه الذى لا يرام ان الناس بأقليم مصر فى المالية على سبعة أقسام : القسم الأول أهل الدولة . والقسم الثانى أهل اليسار من التجار وأولى النعمة من ذوى الرفاهية . والقسم الثالث الباعة وهم متوسطو الحال من التجار ويقال لهم أصحاب البز ويلحق بهم أصحاب المعايش وهم السوقة . والقسم الرابع أهل الفلح وهم أهل الزراعات والحرث وسكان القرى والريف . والقسم الخامس الفقراء وهم كل الفقراء وطلاب العلم والكثير من أجناد الحلقة ونحوهم . والقسم السادس أرباب الصنائع والأجراء وأصحاب المهن . والقسم السابع ذوو الحاجة والمسكنة وهم السؤال الذين يتكففون الناس ويعيشون منهم . فأما القسم الأول وهم أهل الدولة فحالهم فى هذه المحن على ما يبدو لهم ولمن لا تأمل عنده ولا معرفة بأحوال الوجود له أن الأموال كثرت بأيديهم بالنسبة لما كانت قبل هذه المحن باعتبار ما يتحصل لهم من خراج الأراضى فان الأراضى التى كان مبلغ خراجها من قبل هذه الحوادث مثلا عشرين ألف درهم صار الآن خراجها مائة ألف درهم" . ويقول ان هذه الزيادة فى دخل أهل الدولة كانت صورية بسبب هبوط القوة الشرائية للنقد ثم يعرض للمياسير من أهل التجار وأصحاب البز فيقول انهم كانوا يخضعون هم أيضا لنفس هذه القاعدة ثم ينتقل إلى أهل الفلاحة فيقول : "فهلك معظمهم لما قدمناه من شدة السنين وتوالى المحن بقلة رى الأراضى" . ويلاحظ بعد ذلك أن افقهاء وطلاب العلم أصبحوا فى عسر شديد ثم ينتقل إلى أرباب المهن والأجراء فيقول : "ان أجورهم تضاعفت تضاعفا كثيرا الا أنه لم يبق منهم الا القليل لموت أكثرهم بحيث لم يوجد منهم الواحد الا بعد تطلب وعناء ولله عاقبة الأمور . وأما القسم السابع فهم أهل الخصاصة والمسكنة فنى معظمهم جوعا وبردا ولم يبق منهم الا أقل من القليل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" . ولكن أثقل آثار النظام المملوكى فى حياة المجتمع المصرى كان بلا شك ذلك الذى أصاب طائفة منذ أول عهد المماليك .والمقريزى يصف هذا الأثر فيقول : "يسمى المزارع المقيم بالبلد فلاحا قرارا فيصير عبدا قنا لمن أقطع تلك الناحية الا أنه يرجو أن يباع ولا أن يعتق بل هو قن ما بقى ومن ولد له" . وذلك أن الزراع كانوا يستطيعون حتى آخر أيام الفاطميين وأن يرتقوا من أدنى درجات المجتمع إلى أسماها دون أن يعوقهم عائق من النظم العامة اللهم الا شرط الدين ان كانوا غير مسلمين فيما يتعلق بشغل بعض المناصب الحكومية ومصاهرة الأسر الاسلامية . فقد كانت الدولة تطرح الأراضى الزراعية التى تملكها , وهى غالب الأراضى الصالحة للزراعة , فى مزايدات عامة دورية. وكان لكل من يريد أن يتقدم إلى هذه المزايدات أن يصل عن طريقها إلى ما يستطيعه من الثراء . كذلك كانوا يستطيعون أن يتركوا الزراعة للاشتغال بأى عمل آخر وأن ينتقلوا من مكان إلى مكان كما يشاؤون , ثم ظهرت الاقطاعات العسكرية بنظمها الدقيقة فخرجت الأراضى الزراعية من نطاق الاقتصاد العادى ل "تتحجر" فى نظام ادارى خاص وأصبح الزراع لا يستطيعون أن يكونوا غير اجراء لدى المقطعين . ومن البديهى ألا تكون علاقة الزراع بمقطعيهم قد هوت إلى الصورة التى يرسمها المقريزى مرة واحدة وألأ، تكون تدحرجت اليها شيئا فشيئا بدافع ثقلها الذاتى وتطور الظروف الاقتصادية العامة . فقد رأينا أن الأصل فى الاقطاع العسكرى أن يربط ريع بعض الأراضى على نفقات الدفاع , ومن ثم كانت الأحباس الجيوشية وأحباس صلاح الدين فى العهد الأيوبى , وهى أحباس كانت تستغلها بطريق المزايدات ولا تغير بذلك من حالة الزراع شيئا . ثم كان ضغط الحرب وتوالى الأزمات المالية وتغلب التقاليد المغولية فكان توزيع الدولة هذه الأراضى بين رجال الجيش ليحصلوا منها أجورهم . والظاهر أن حق هؤلاء الرجال كان مقصورا , أول الأمر , على الحلول محل الخزانة العامة فلا علاقتها المالية بمؤجر الأرض المقطعة فينال أجره من المؤجر مباشرة بدل أن يناله من الخزانة العامة بعد أن يؤدى اليها هذا الأخير ما عليه ثم تحول إلى حق انتفاع كما رأينا حين ظهرت فكرة تنمية الانتاج الزراعة بالاستعانة بالمقطعين فى الاشراف عليه وبرزت حدود الاقطاع. ولم يكن أمام المقطع حينئذ الا أن يزرع الأرض بنفسه أو لحسابه أو يؤجرها أو يشارك فى زراعتها . ونحن نستطيع أن نجزم بأن مقطعى العهد الأيوبى والعهد المملوكى لم يزرعوا الأرض بنفسهم قط فلا وجود لأثر لهذه الزراعة لدى مؤرخى ذلك العصر , اذا استثنينا ما يقوله المقريزى فى "كشف الغمة" عن حراثة الجند الأرض على أيام العادل عندما فتك الوباء بالفلاحين وخلا الريف من أهله وهو أمر يبدو أنه لم يمتد العهد به أو يتكرر . ثم أنن نعلم أن حروب العهد الأيوبى المتصلة كانت تضطر الجند إلى البقاء فى الثغور والتنقل الدائم ونعلم أن صناعة الحرب تقدمت حنئذ تقدما كبيرا كان لا شك يضطر المشتغلين بها إلى الانصراف لشئونها ونفهم ذلك خصوصا من النظام الدقيق الذى وضعه قلاوون لتنظيم حياة المماليك منذ صباهم إلى أن يدخلوا الجيش العامل ومن محاولات السلاطين الذين سبقوه فى هذا السبيل . ونعلم أخيرا أن المماليك كانوا يقدمون مصر للعمل فى جيشها والارتقاء عن طريقه إلى أرفع المناصب لا للاشتغال بالفلاحة . بقى أن يزرع المقطع الأرض أو يؤجرها أو يزارع فيها أى أن يقدم الأرض للزراع فيزرعها ثم يشترك الاثنان فى المحصول . ونحن نجد علامات المزراعة هنا وهناك حتى آخر أيام المماليك الشراكسة فمؤرخو ذلك العهد يقولون أن الزراع كانوا يضيفون المقطعين ويهادونهم بأقدار مختلفة من الكشك والفراخ وما أشبه ذلك حتى سلطنة الناصر اذ انقلبت هذه المهادة إلى حق ثابت من حقوق المقطع . ويقولون أيض ان الدولة كتنت تحصل الخراج , أى ضريبة الأرض , من المحصول تحت يد الزراع . فيقول المقريزى ان زراع اقطاع برقوق كانوا يأتون القاهرة يحاسبونه على خراجه , أى نصيبه من محصول الاقطاع , فيحيلهم إلى صديقه القاضى عبد الواحد بن اسماعيل . يقول ابن اياس ان الأمراء كانوا يتذمرون من زيادة الخراج على الأرض لأنه كان يدفع الفلاحين إلى تركها وان الفلاحين رفضوا تقديم خراج المقطعين حين علموا بانهزامهم للعثمانيين لأنهم لم يعودوا أصحاب الحق فيه . وفى هذا ما يدل على أن الزرارع لم يكونوا فى جميع هذه الحالات عمالا مأجورين , الا لما التزموا بمهادة مؤجريهم ولما كان تحت أيديهم محصول تتقاضى الدولة منه ضريبتها ويأخذ منه المقطع نصيبه . ويلاحظ أن نصيب المقطعين من المحاصيل كان يدعى , كما نفهم من عبارة المقريزى , بالخراج , نقصد بنفس الاسم الذى كان يطلق على ضريبة الدولة , نعنى أ، الفلاح كان ملزما بخراجين خراج للدولة يصيب نصيبه ونصيب المقطع جميعا , وهو الضريبة التى كان يؤديها أيضا قبل ظهور الاقطاعات , وخراج المقطع , أى نصيبه من المحصول بدل الأجر الذى كان يؤديه عند التأجير بالمزايدة حين كان نظام المزايدات قائما . ولكننا لا نجد أثرا للزراعة لحساب المقطعين وتحول الزراع إلى اجراء مقيدين بالأرض كما يقول المقريزى , خصوصا وانه هو نفسه يقول ان الفلاحين كانوا يهجرون الأرض لارتفاع أجرها أى انهم كانوا يؤجرونها , اللهم الا اذا كان المقصود بهذه الحالة ما كان يحدث فى ذلك العصر بالذات فى الامارات الاقطاعية الأوروبية من قيام الزراع بزراعة اقطاع سيدهم نظير منحه اياهم مساحة معينة يزرعونها لأنفسهم ويتقوتون بمحصولها المعهود . غير أن انتشار الاقطاعات وتوحد نظم العمل بها ثم ميل الفلاحين المعهود إلى ملازمة الأرض التى ولدوا عليها وما كان ينبنى على توارثهم العلاقات بالمقطعين وعدم تخلصهم منها بانتقال الاقطاع من مقطع إلى آخر كانت لا بد تنتهى فى الأزمات المالية الشديدة , وعلى وجه الخصوص فى آخر أيام المماليك والعصر العثمانى , بهذه الحالات جميعا إلى مايشير اليه المقريزى من سقوط الزراع إلى حالة تشبه الرق وتؤدى على كل حال إلى قيام طبقتين مقفلتين لا تداخل بينهما : طبقة المقطعين أى الحائزين للأراضى , وهم جميعا من المشارقة الأغراب , كما شهدنا , وطبقة الزراع أى أهل الريف الذين يعملون بالزراعة ولا يستطيعون أن يصبوا إلى أكثر من استئجار بعض هذه الأرض . وهكذا كان المجتمع يتكون وقتئذ فى مصر من طوائف أربع : المماليك ورجال الدين وأهل الصناعة والتجارة والفلاحون . والطبقة الأولى تنفرد , من حيث تكوينها , بقصرها الانتماء اليها على من يستجلب من أصقاع آسيا خصيصا للانخراط فى الجيش . كذلك تنفرد طائفة الفلاحين بتقييدها إلى طائفة المماليك فهى تعمل فى العادة لديها ومن أجلها . أما الطائفتان الأخريان فمفتوحتان لمن يريد أن ينتمى اليهما ـ وان كانت طائفة أصحاب الحرف تأخذ إلى حد بعيد بقاعدة التوارث ـ وكانتا تغذيان صفوفهما فعلا من أبناء الريف وأبناء المماليك على السواء . ونحن اذ لحظنا ما كان للزراعة من أهمية بالغة فى الحياة الاقتصادية فى ذلك العصر فى الغرب والشرق , وما كانت تقتضيه مواجهة حالة الحرب التى كانت تكتنف مصر حينئذ من بروز الطبقات التى تتناسل وتتكاثر وتكس الأمم مناعتها الجنسية , وهى الطبقات الزراعية , وتركيز السلطة العامة فى أيد قوية صلبة , وهى أيد لا تنتجها عادة الا هذه الطبقات , استطعنا أن نتصور مدى الأثر الرهيب الذى ينجم عن اقصاء أبناء الريف المصرى , وهم بعد غالبية أهل البلاد الأصليين , عن الطبقة الحاكمة , الى كان يستحيل عليهم الارتقاء اليها , فى حياة البلاد العامة . استطعنا ان تصور فظاعة الشلل الاجتماعى الذى كان يصيب مصر فى عصر الاختلاط ذلك بالذات من جراء القفل على أصلح أبنائها للعيش فيه والقيام بالتزاماته فى طبقة مغلقة لا تستطيع أن ترتفع عن الأرض , واستطعنا أن نفهم لم كانت مصر تضطر إلى استعارة من يشغل بعض أجهزتها الحكومية من الخارج , وكل هذا فى الوقت الذى افترقت أثناءه عن الخلافة العباسية , أى أصبحت دولة قائمة بذاتها ,ودخل غالب أبنائها الاسلام فصاروا يستطيعون الارتقاء إلى مراكز الحكم دون أن تقوم فى وجههم عقبة اختلاف الدين التى كانت تقوم فى وجههم من قبل والتى كانت أكبر عقبة تعترض الدورة الاجتماعية فى ذلك الزمن . وقد كان هذا النقص الرهيب الذى امتد حتى آخر أيام المماليك يجد بعض ما يسده فى الدور الذى كان يقوم به رجال الدين وطوائف أهل الحرف فى الحياة الاجتماعية والحياة العامة تحت السلاطين كما رأينا . ولكنه لم يكن يسده سدا تاما فرجال الدين , أو هكذا كانوا على الأقل وقتئذ , قوم يفضلون السماء علىالأرض ويدنون بالعالمية ويرون يد الله فى كل شئ . وهم يميلون لذلك إلى ترك تصريف أمور هذه النيا إلى هذه اليد القادرة والانصراف إلى العمل الصالح , بعيدا عن مغريات الحياة وما من شأنه أن يعرض بهم لارتكاب الخطيئة ولا سيما الاشتغال بأمور الحكم . وقد تكون هذه الفلسفة فلسفة صادقة تنبعث من شعور صحيح ولا تمنع أصحابها أن يكونوا رجالا أشداء يسوسون الأمم ويخوضون الحروب اذا كان المجتمع فى دور صعود كما كان الأمر فى صدر الاسلام أو كان معتنقوها أصحاب استعداد ذاتى كما كان بعض خلفاء عصر الأفول الاسلامى . وقد تكون دعوى فارغة ترمى إلى ستر قصور شخصى أو حب السلامة أوقلة الحيلة كما كان الأمر ولاشك إلى حد بعيد فى ذلك العصر , فيضعف أصحابها عن مواجهة أعباء الخياة العامة ويتجنبون مشاكلها ويقبعون فى بيوتهم يزدردون ما قسمه الله لهم من رزق حتى اذا أقحموا فى هذه الحياة اقحاما كانت نظرتهم اليها مخالفة لما يجب أن تكون , تحمل على سطحها وفى جوهرها آثار بصرغير عاد أعشاه طول التأمل فى نور السماء . وقد كان كبار أهل الدين يرفضون حينئذ الاهتمام بالحياةالعامة صراحة وينعون على من يشذ منهم عن هذه القاعدة ويعدون الاشتغال بامور الحكم عارا وأى عار ويغلبون نص أحكام الشريعة على كل اعتبار آخر فيرفضون أن تزاد الضرائب لمواجهة مصاريف الدفاع فى الوقت الذى يهدد فيه المغول الحدود المصرية ويهددون معها الحضارة الانسانية جميعا . والتجار والصناع يشاركون فى الغالب رجال الدين فى عالمينهم هذه إلى حد بعيد فالتكسب ورأس المال عادة شئ لا وطن له يتلمس غايته فى كل مكان . وهو إلى هذا ماكر مرن محب للاستقرار لا يقدم على الثورة وقلب الأوضاع وانشاء النظم الجديدة الا اذا ضاقت به ظروفه ضيقا شديدا . وقد كان للتجار وأ÷ل الحرف فى الحياة العامة الغريبة بعد الحروب الصليبية دور هام بل الدور الأول أحيانا لأنهم استطاعوا أن يعيشوا خارج دائرة المجتمع الاقطاعى الذى نشأوا فيه وأن يقيموا بالمدن التى كانوا هم أهلها وحكامها وأن يستعينوا بالكنيسة فى محاربة الأمراء الاقطاعيين وبالأمراء الاقطاعيين فىمحاربة الكنيسة ويقيموا لنفسهم دولا يدافعون عنها ويشرعون لها ويدبرون أمورها . ولكن مصر لم تنقسم إلى ممالك وامارات أو بلديات مستقلة قط فيها مجتمع مدنى منفصل عن المجتمع الريفى يوما ما ولم تفلت السلطة فيها من العاصمة اتنتهى إلى يد هيئة مستقى عنها أو تتخذ أوضاعا جديدة مرة واحدة . فكان السلطان وقضاته ونوابه ومماليكه هم الذين يحكمون القاهرة وأعلى الأرض وأسفل الأرض على السواء وكان التشريع هو التشريع والنظام العام هو النظام العام ولم يكن لذلك من سبيل لنشوء مجتمعات غريبة تختلف عن المجتمع الأصلى . ونحن نعلم فعلا أن التجار وأصحاب الحرف كانوا يفضلون وقتئذ مدارة أهل الدولة وتجنب شرهم واستمالتهم على الوقوف فو وجههم ما استطاعوا . فما يصطدم الأمراء بعضهم بالبعض أو يثور المماليك علىألأمراء أو يتربص الجميع بالسلطان حتى يقفل كل منهم حانوته وينقلب إلى أهله ينتظر انقضاء الأزمة أو فورة الغفلة التى أثارتها . وكان يمكن لهذه الظاهرة وقتئذ ما عرفه ذلك العصر من نظم ادارية ومالية خاصة كانت تجعل من مختلف طبقاته مثل مجتمعات متفرقة فقد راينا كيف كان أصحاب الحرف يجتمعون وقتئذ فى طوائف منتظمة تتمتع بسلطة ذاتية واسعة تجعل منها شبه حكومات صغيرة إلى جانب الحكومة الأصلية . يضاف إلى ذلك أن اعتماد المالية العامة وقتئذ , سواء فى الشرق أو الغرب , على دخل الأموال التىتملكها الدولة دون الضرائب الحقيقية , كان يبعد ما بين الحاكمين والمحكومين فى ميدان الساسة وميدان الحرب على السواء , ويجعل من الحكم مسألة خاصة لا تكاد تعنى غير القائمين به اللهم الا فى الحالت التى تعظم فيها الأمور ويضطر الحاكم إلى طلب المال من الرعية فتنتبه هذه وتسع صوتها وكثيرا ما تثور أيضا . وقد وهنت طبقة رجال العلم وأهل الحرف فى هذا المجتمع بعد ذلك , كما شهدنا , بوهن الحياة المدنية التى كانت تنجبها , وطغت الموجة المملوكية على كل شئ منذ ابان عصر المماليك الشراكسة حتى ظهور محمد على , وهذه هى الفترة التى عاشت مصر أثناءها أظلم حياتها الطويلة على الاطلاق .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: الموجة الغربية

قلنا ان حروب الصليبيين كانت ترجع , فيما كانت ترجع اليه , لما بدا على المجتمع الأوروبى فى نهايىة عصر الوسط من انتعاش . وقد اتصل هذا الانتعاش بعد ذلك وكان من بوادره ظهور بحر الشمال وسيطرة أوروبا على البحر امتوسط واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والأمريكتين , هذا الاكتشاف الذى يعده آدم سميث بحق أكبر حدث فى تاريخ الانسانية إلى أيامه على الاطلاق , ثم ما أعقب ذلك من نمو اقتصادى لا سابق له , اذ كانت اوروبا تتصل بأسواق الشرق الأقصى اتصالا مباشرا وتضع يدها بغتة على عالم ثان وتنتقل بالتالى , من الانتاج المحلى البسيط لأسواقها المحدودة , إلى الانتاج الضخم للعالم الجديد وشعوب آسيا وأفريقيا أيضا , وتزول ما يستتبع هذا الانتاج من اتجار ونقل . ومن ثم كان ازدهار التجارة والصناعة فيها ازدهار رائعا وكانت عودة الحياة إلى مدنها بعد أن هجرتها إلى الريف , عشية العصر الاقطاعى , وكان ظهور المنشآت الصناعية والتجارية والمصرفية الحديثة .

وكان المجدتمع القائم على هذا النمو الاقتصادى يأخذ من ناحيته , ثناء ذلك , بأسباب الرقى الذى نشهده فى الغرب وتنفسه عليه إلى اليوم , فقد اتسع نشاطه حتى أصبح يشمل الشرق الأقصى والعالم الجديد وآسيا الوسطى , أى المناطق التى جعل أبناء أوروبا ينزحون اليها ويتجرون معها فيثرون ويتكاثرون ويحيون حياة رخية جديدة . وتمايزت وظائفه فافترقت الشئون الزمنية الدينية وتنوع الاقتصاد وظهرت العلوم المختلفة . وبرزت أجهزته فكانت الدولة الحديثة والكنيسة الحديثة والجامعات والمصارف . وكان بوجه عام أن هبط الناس من العالم السماوى الذى حملتهم اليه المسيحية إلى الأرض هذه الماثلة بين أيديهم واقبالهم خفافا على استثمار خيراتها , وقد أسرتهم متعها وملأت مشاعرهم مباهجها وراعتهم أسرارها وما يحمله الكشف عنها من ترغيب فى المادة وشحذ للهمم واعتداد بالنفس بدل انتظار المعجزات وترقب يد الله أن تمتد من بين السحب .

وقد لازم هذا النمو وتفاعل معه ما كان لابد حادث فى عالم الفكر أيضا من تحول عميق شامل فعاد المفكرون يدرسون آثار الماضى الاغريقى ـ الرومانى , حين كان الناس يعيشون على هذه الأرض كما كان معاصروهم يريدون أن يعيشوا , ويبنون من حيث انتهى أسلافهم ويتعمقون مشاكل الحياة المادية بعد أن طال تعمقهم للحياة الآخرة , ومن ثم كان الأومنيوم والنهضة ومذهب العقليين والمذاهب الفلسفية الحديثة , وكان الاتجاه إلأى العلوم الطبيعية والدراسات التطبيقية التى ثارت بالعالم من جديد باختراعات القرن التاسع عشر . وصحب هذا التحول تطور بالغ فى الأوضاع الاجتماعية والسياسية أيضا فقد استطاعت المدن أن تسيطر على المجتمع الريفى القائم حولها باجتذاب أهله وتمويل أشرافه والتحكم فى اقتصاده أى اخضاع حياته جميعا لمقتضيات حياتها هى . وهنا تتحطم القيود التى تربط الريفيين بالأرض وتتراخى علاقاتهم بسادتهم وتظهر الملكية الفردية , نعنى تتحلل مقومات النظام الاقطاعى وتتجه إلى الاستخفاء . وتنتعش الدورة الاجتماعية أثناء ذلك فينشط تنقل داخل طبقته ويسرع ارتفاع الطبقات من الأسفل إلى الأعلى وتطفو على سطح المجتمع عناصر جديدة من رجال أعمال وساسة وعلماء , صعدوا من صفوف الصناع والتجار ومزاولى الأعمال الحرة الذين نهضوا بالمدن وخبروا حياتها وأقاموا نظمها . أو هبطوا من صفوف النبلاء الاقطاعيين الذين استطاعت الحياة الجديدة أن تشدهم إلى عربتها . وعندئذ يبدأ النزاع على الحكم بين هذه العناصر الجديدة والعقلية الاقطاعية القديمة فينادى الأولون بالحرية التى يحتاجون اليها للوصول إلى الحكم وتوجيهه الوجهة التى تلائمهم ويتمسك الاقطاعيون بالنظم القديمة ولا ينفك هذا النزاع قائما حتى يتخذ الشكل الذى بلغه بروسو ومنتسكيو وفولتير وأتباعهم ثم بنفجر بالثورة الفرنسية , اذ تداعت النظم الاقطاعية جميعا وانتقل الحكم من أيدى الأقطاعيين إلى أيدى هذه الطبقة الجديدة من أبناء الصناع والتجار والزراع الذين شقوا الحياة بسواعدهم وعاشوا مسائلها يوما بعد يوم وأقاموا مجتمعا جديدا واسع الأفق كثير المشاكل دقيق التركيب . وكان الشرق العثمانى يحيا أثناء ذلك حياته الخاصة بعيدا عن التطورات التى أصابت الحياة الغريبة ومقوماتها وقوانينها . وقد سبق أن رأينا ما انتهت اليه الحياة الاجتماعية لهذا الشرق تحت المماليك وما نزل بمصر خاصة عقب انتقال التجارة العالمية إلى الاطلنطيق وظهور العثمانيين . ورأينا كيف ارتدت مصر إلى الحياة الاقليمية المحدودة بعد ذلك وكيف لم يكن العثمانيون فى نهاية الأمر سوى موجة ديدة من هجرة أهل آسيا الوسطى إلى حوض البحر المتوسط , يمتازون بما امتاز به من سبقهم إلى تلك الهجرة من اكراد ومغل وشراكسة من خشونة بدوية مقاتلة . ومن ثم كانت غارتهم المتوالية على المسييحة الأوروبية وضعف استجابتهم لدواعى الحياة المدنية وعدم اكتراثهم أيضا للاكتشافات الجغرافية الجديدة على الاطلاق , فهم لم يتصلوا بامريكا من بعيد أو قريب ولم يحاولوا شيئا فى سبيل منافسة طريق الرجاء الصالح بله تعتعطيله وقنعوا بما عرفوا وعرفته البلاد التى استولوا عليها من نظم اقتصادية أصابها ما أصابها من انتكاس فى ذلك الوقت بالذات . وقد كان من شأن مضى الغرب فى الطريق الفسيح الجديد الذى رأينا , بعد انقباضه فى عصر الوسط , وتعثر الشرق فى الطريق الذى كان آخذ به منذ الفتوح العربية , بعد الامعان فى الاتساع , عدم طروء عوامل فعالة , كالعوامل الخارقة التى طرأت على حياة الغرب , من اكتشافات جغرافية إلى اختراعات علمية إلى ظهور طبقات جديدة , على حياته , كانم من شأن ذلك أن ما انكسرت سورة الغارات العثمانية فى القرن السابع عشر والتقى العالمان فى ميدان الحياة المدنية حتى طغلا الغرب على الشرق وغمره غمرا , كما يحدث حين يلتقى سائل فى مستوى عالى بسائل فى مستوى أقل منه ارتفاعا فيطغى عليه ويغمره , ومن ثم كانت جهود العثمانيين منذ ذلك الوقت لسد هذا الفراغ والسمو بسلطنتهم إلى المستوى الذى بلغه الغرب أى كان ما تواضع مؤرخو بنى عثمان على تسميته بالاصلاح الاسلامى , وهو الاصلاح الذى لا نزال نسمع عنه بعض مظاهره فى بلاد الشرق جميعا ليومنا هذا . وقد بدأت هذه الحركة فى صورة محاولات قام بها السلاطين وأعوانهم المباشرون لتوطيد نظم الامبراطورية ومعالجة ما بدا بها من نقص , كانت ترجع اليه , فى رأيهم , الهزائم العسكرية التى نزلت بها خلال القرن السابع عشر , نقصد فى صورة السعى للعودة إلى تقاليد السلف الصالح , ومن هنا كان الاتجاه إلى اعادة تنظيم الجيش والوقوف فى وجه الميول الانفصالية للولايات والنظر فى احكام المالية العامة , ثم اتخذت صورة الاستجابة للضغط الدولى , اذ كان ما يثير اتجاه السلاطين هذا الجديد من معارضة داخلية , وما كانت هذه المعارضة تبعثه من اضطراب فى بنيان الامبراطورية , يغرى بها الدول الكبرى جميعا . واذ كان فريق من هذه الدول يقصد وقتئذ إلى القضاء على العثمانيين وكان الفريق الآخر يريد الابقاء عليهم كعنصر من عناصر التوازن الدولى , فقد كان الخلاف يقف بها جميعا عند التدخل السلمى فى شؤونها الداخلية والعمل على الملاءمة بين نظمها والنظم الغربية بطريق الايعاز أولا ثم طريق الضغط السياسى والعسكرى , ومن ثم كانت المذكرات الدبلوماسية والمؤتمرات الدولية والاتفاقات السياسية التى شغلت العواصم الغريبة فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر , وكانت تلك السلسلة الطويلة من التنظيمات التى امتدت حتى أول القرن العشرين , وكانت المستحدثات العسكرية والادارية والدستورية التى أخذت بها الاستانة أثناء ذلك كالنظام الجديد والمحاكم المختلطة والمجالس الشورية . وكان فى هذا الاتجاه الغربى شئ من شتى العناصر التى كانت تكيف موقف الدول الكبرى من المسألة العثمانية حينئذ : كان فيه شئ من رغبة روسيا فى تفكيك أوصال الامبراطورية العثمانية باثارة شعوبها المسيحية واحلالها المحل الذى يمكنها , وهى المتصدرة لزعامتها , من تحقيق غاياتها الخاصة . وكان فيه شئ من رغبة انجلترا فى تثبيت العثمانيين والاحتماء بهم من سورة الخطر الروسى . وكان فيه شئ من نزعة فرنسا إلى التوسع وخلافها مع النمسا وسيرها خلف عربة السياسة الانجليزية . وكان فيه الكثير من ميل أوروبا جميعا إلى بسط سلطانها على السلطنة العثمانية واستثمار أموالها وتوظيف أبنائها فيها , كذلك كان فيه دون شك بعض العداء القديم بين المسيحية والاسلام , وهو العداء الذى برز بعد ذلك فى ثورة أوروبا للدفاع عن الحركة الانفصالية اليونانية وما صحبها من تهويل , لا يزال ما كتب حينئذ وبعد ذلك فى تاريخ الاغريق وآدابهم وعلومهم يحمل طابعه إلى اليوم . وقد أثر تحول وضع الغرب من الشرق على هذا الوجه فى حياة مصر أيضا منذ نهاية القرن السابع عشر : أثر فيها من ناحية علاقاتها بالسلطنة العثمانية وأثر فيها من ناحية اتصالها بالقارة الأوروبية مباشرة . وكانت مصر تمس فى ذلك الوقت قاع الهوة التى دفعتها اليها أحداث القرنين الخامس عشر والسادس عشر بعد أن تحللت صلتها بالآستانة تحللا زاد فى خلل أوضاعها الداخلية والخارجية جميعا فتفاعل ذلك التحول وظروفها الخاصة هذه فى تكييف الاتجاهات التى أخذتها بعد ذلك . ونحن نعلم فعلا أن مصر استهلت القرن الثامن عشر بحركة على الكبير وهى حركة تحولت من منافسة عادية على مشيخة البلد بين الأمراء المماليك إلى حرب انفصالية شنها شيخ البلد المنتصر على السلطان واتجه أثناءها اتجاها دوليا لا عهد للبلاد به منذ أمد بعيد فاتصل بروسيا وتعاون مع حكومة البندقية وفتح الثغور المصرية للتجارة الغربية . وقد أجابت تركيا على حركة على الكبير بحمية عسكرية قصدت بها إلى التخلص من أصدقاء الروس فى مصر ورد نظم الحكم إلى ما كانت عليه قبل أن تتحول تحت ضغط المماليك ولكنها لم تعد تعديل بعض الأنظمة العسكرية والحجر على حرية الذميين ورفع نصيب الجندى من حصيلة الخراج , كما حدث فى الولايات الأخرى اذ كانت السياسة العثمانية تقوم فيها وقتئذ جميعا بمثل هذه المحاولات ولا تصل إلى أبعد من هذه النتائج . كذلك نعلم أن تطاحن الأمراء وضعف الولاة واضمحلال المماليك خصوصا بعد سنة 1786 , وهى السنة التى منع فيها السلطان بيع الرقيق إلى مصر , وما يبعثه كل ذلك من شعث فى الشئون العامة , دفع وقتئذ بالمدنيين إلى الثورة وزاد فى قيمة صوتهم لدى هذه الجهات جميعا حتى انتهى الأمر بهم إلى المطالبة بتسوية جديدة لعلاقاتهم بالحكام . ونحن نعلم بهذه التسوية من الجبرتى فهعو يقول : "وفى شهر ذى الحجة (سنة 1209 هجرية ) وقع به من الحوادث أن الشيخ الشرقاوى له حصة فى قرية بشرق بلبيس حضر اليه أهلها وشكوا من محمد بك اللألفى وذكروا أن أتباعه حضروا اليهم وظلمومهم وطلبوا منهم ما لا قدرة لهم عليه فاستغاثوا بالشيخ فاغتاظ وحضر إلى الأزهر وجمع المشايخ وقفلوا أبواب الجامع وذلك بعد ما خاطب مراد بك وابراهيم بك فلم يبديا شيئا , ففعل ذلك ثانى يوم وقفلوا وأمروا الناس بغلق الأسواق والحوانيت ثم ركبوا فى ثانى يوم واجتمع عليهم خلق كثير من العامة وتبعوهم وذهبوا إلى بيت شيخ السادات وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة بحيث يراهم ابراهيم بك . وقد بلغه اجتماعهم فبعث من قبله أيوب بك الدفتردار فحضر اليهم وسلم عليهم ووقف بين يديهم فسألهم عن مرادهم فقالوا له نريد العدل ورفع الظلم والجور واقامة الشرع وابطال الحوادث والمكوسات التى ابتدعتموها وأحدثتموها . فقال لا يمكن الاجابة إلى هذا كله فاننا ان فعلنا ذذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات فقيل له هذا ليس بعذر عند الله ولا عند الناس وما الباعث على الاكثار من النفقات وشراء المماليك والأمير يكون أميرا بالاعطاء لا بالأخذ . فقال حتى بلغ وانصرف ولم يعد لهم بجواب فانقض المجلس وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر فاجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية وباتوا فى المسجد . وأرسل ابراهيم بك إلأى المشايخ يعضدهم ويقول لهم أنا معكم وهذه الأمور على غير خاطرى ومرادى وأرسل إلى مراد بك يخيفه عاقبة ذلك فبعث مراد بك يقول أجيبكم إلى جميع ما ذكرتموه الا شيئين ديوان بولاق وطلبتكم المنكسر من الجامكية ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم وندفع لكم جامكية سنة تاريخية اثلاثا ثم طلب أربعة من المشايخ وعينهم بأسمائهم فذهبوا اليه بالجيزة فلاطفهم والتمس منهم السعى فى الصلح على ماذكر . ورجعوا من عنده وباتوا على ذلك تلك الليلة وفى اليوم الثالث حضر الباشا إلى منزل ابراهيم بك فاجتمع الأمراء هناك الشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوى والشيخ البكرى والشيخ الأمير وكان المرسل اليهم رضوان كتخذا ابراهيم بك فذهبوا معه منعوه العامة من السعى خلفهم ودار الكلام بينهم وطال الحديث وانحط الأمر على أنهم تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كييسا موزعة على أن يرسلوا غلال الحرمين ويصرفوا غلال الشون وأموال الرزق ويبطلوا رفع المظالم المحدثة والكشوفيات والتفاريد والمكوس ما عدا ديوان بولاق وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس ويرلسوا صرة الحرمين والعوائد المقررة من قديم الزمان ويسيروا فى الناس سيرة حسنة . وكان القاضى حاضرا بالمجلس فكتب حجة عليهم بذلك وفرمن عليها الباشا وختم عليها ابراهيم بك وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها أيضا وانجلت الفتنة" . وهكذا من أجهوة مشايخ الأزهر يقومون فى هذا المجتمع بدور كبير يجعل منهم جهازا من أجهزة الحكم القائم ويؤدى بهم إلى الوقوف فى صفه كلما هدده خطر خارجى . وقد وقفوا فى صفه فعلا حين فجأ حسن باشا القبطان الأمراء المماليك بحملته ثم هبط الفرنسيون مصر . كذلك كان امعانهم فى الاشتغال بأمور الحياة يؤثر فى وضعهم الاجتماعى ويكاد يجعلهم سادة اقطاعيين كالأمراء المماليك سواء بسواء . والجبرتى لا ينى يشير إلى هذه الظاهرة وينعيها على مشايخ عصره فيقول : "ولما انقضى هذا الأمر واستقر الباشا واطمأن خاطره وخلص له الاقليم المصرى وثغر الأسكندرية الذى كان خارجا من حكمه حتى قبل مجئ الانجليز ـ فان الأسكندرية كانت خارجة عن حكمه فلما حصل مجئ الانكليز وخروجهم صار الثغر فى حكمه أيضا ـ فأول ما بدأ أنه أبطل مسموح المشايخ والفقهاء ومعافى البلاد التى التزموا بها لأنه لما ابتدع المغارم والشهريات والفرض التى فرضها على القرى ونظام الكشوفية جعل ذلك عاما على جميع الالتزامات والحصص التى بأيدى جميع الناس حتى أكابر العسكر وأصاغرهم ما عدا البلاد والحصص التى للمشايخ خارجة عن ذلك ولا يؤخذ منها نصف الفائظ ولا ثلثه ولا بعه وكذلك من ينتسب لهم أو يحتمى فيهم . ويأخذون الجعالات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتهم ونظير صيانتها واغتروا بذلك واعتقدوا به وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة وافتتنوا بالدنيا وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم الا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدميين واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان وأجروا الحبس والتعذيب والضرب بالفلكة والكرابيج المعروفة بذب الفيل واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم فى الارساليات بالبلاد وقدروا حق طرق لاتباعهم وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وانذرات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين ومخصامتهم القديمة معع بضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة فى طباعهم الخبيثة وانقلب الوضع فيهم بذده وصار دينهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميرى والفائظ والمضاف والرماية والمرافعات والمراسلات والتشكى والتناجى معغ الأقباط واستدعاء عظمائهم فى جمعياتهم وولائمهم والاعتناء بشأنهم والتفاخر بتردادهم والترداد عليهم والمهاداة فيما بينهم إلى غير ذلك مما يطوله شرحه" . وقد قال المشايخ أنفسهم للوالى أحمد باشا حين هبط القاهرة : "لسنا أعظمهم علمائهم (أى علماء مصر) بل نحن المتصدرون لخدمة أهلها وقضاء حوائجهم عند أباب الدولة وأهل الحكم فيها" . وبلغ بعضهم فعلا وقتئذ حدا من النفوذ لابأس به , كالشيخ شمس الدين محمد أبو الأنوار , وجمع إلى الثراء مصاهرة الأمراء كوالد الجبرتى الذى ورث عن صهره قيادة حصون الطور والسويس بالغرم من اشتغاله بالعلم . ونحن نعلم أيضا أن اخفاق تركيا فى استعادة سلطانها على مصر , وقصور القوى التى كانت تتجاذب النفوذ فى البلاد عن اجتياز مرحلة هذا التجاذب إلى دور الانشاء لحكم جديد , أديا ما كان يؤدى اليه حينئذ ضعف الشرق فى جميع الميادين , من تحول اللتيار الغربى , الذى كان يهب على ربوعه , من الضغط الخارجى إلى التدخل المباشر , فكانت الحملة الفرنسية ونقلها بغتة إلى مصيم مصر أحدث ثمرات التقدم الغربى اذ كانت فرنسا تسير حينئذ على رأس هذا التقدم وكان نابليون أنبه عبقرية سياسية عسكرية عرفتها القارة الأوروبية بعد قيصر وشارلمان وكان الجيش الذى هبط معه الاسكندرية خير من يمثل أحدث ما بلغته هذه القارة فى العلوم والفنون والاتجاهات الاجتماعية الحديثة على وجه العموم . وقد أقبل نابليون على مصر وفى صدره ذكرى الاسكندر وقيصر وماضى البحر المتوسط , نعنى ذكرى العالم الذى اشتركت مصر فى بناء صرحه , وما استقر بها حتى صرف بعض قواده إلى البحث عن معالمها القديمة واتجه إلى تنظيم ادارتها وتنسيق مواردها وربط ما بينها وبين بلاد البحر المتوسط ثم وصل هذا البحر بالبحر الأحمر وكان هو ما كاد يهبط الأسكندرية حتى أذاع على أهل البلاد منشورا يحدثهم فيه عن ماضيهم البعيد وينوه لهم بصداقته للسلطان ورعاياه ويعرض لهم بالحكم الذاتى . ولكن هذا المنشور لم يغن عنه شيئا ولم يكد المصريون يلتقون بالقادمين وجها لوجه حتى انفجرت الحرب وظلت تتقد بلا انقطاع طوال مدة الحملة . فقاوم أهل الأسكندرية الغزاة بعصيهم ـ وكان زعمائهم وقالوا لرجال نلسون قبل ذلك بأيام أن مصر أرض السلطان ولا شأن لأحد بها وطردوهم شر طردة "حتى تتحقق ارادة الله" كما يقول الجبرتى ـ بينما كان مشايخهم يجأرون بالدعاء فى الجوامع وكانت الحامية التى استجلبوها من بدو البحيرة تنسحب مدحورة على عجل . وقاتلهم الدمنهوريون قتالا شديدا ثم وقف لهم المماليك فى الرحمانية وانهزموا لهم بالقرب من القاهرة فى موقعة عنيفة , لعلاها آخر موقعة نازل فيها فرسان عصر الوسط علم الحرب الحديث , واستمروا يهاجمونهم بعد ذلك من وقت لآخر .وثارت عليهم القاهرة المرة تلو المرة كما ثارت عليهم المدن الأخرى ما ساتطاعت . وقد قاتلهم الجميع لأنهم رأوا فيهم أعداء دينهم الدائمين وأبعدوا فى ذلك حتى أقلبوا على التنكيل بمن كان يقوم بين ظهرانيهم من غير المسلمين خصوصا بعد أن انقاد بعض هؤلاء لعصبيتهم الدينية وانضموا إلأى الغزاة وخامروهم واحتضنهم الغزاة واستعانوا بهم . وقاتلوهم لأنهم لم يفقهوا دعوتهم إلى الحرية السياسية فأبى العلماء أن يزينوا صدورهم بالطليسان , رمز الثورة الفرنسية , كان أحرار أوروبا يتخاطفونه حينئذ , ورأوا فيه رجسا من عمل الشيطان , ورفضوا أن يعينوا قاضيا من بينهم بدل القاضى التركى قائلين ان تعيينه من حق السلطان , وانكروا عرض نابليون الوظائف العامة عليهم وقالوا له أن العامة لا يخشون سوى الأتراك , ولم تبعث الحملة فى مفكريهم وعلى رأسهم الجبرتى سوى العبر الدينية والاخلاقية بل ان الجبرتى لا ينى ينعى على الثوار ثورتهم التى ألحقت البلاء بالناس . ولكنهم اشتدوا فى قتالهم قبل كل شئ حين اصطدم تصورهم الحكم ووظيفته ومداه بتصورهم هم , فقد كان المصريون فى ذلك الوقت لا يكادون يعرفون لهم حكومة حقيقية تحكمهم وكان تدخل ادارة السلطان فى أمورهم ضيقا متطعا , بينما كان الفرنسيون يجيئون من عالم تطور فيه الحكم إلى حلقة متتابعة من الأنظمة الدقيقة المتصلة بنشاط الأفراد جميعا وكان هذا التطور هو الذى قاد خطاهم إلى تنظيم الملكية وترتيب الأحوال الشخصية واعادة ربط الضرائب وهو الذى أثار القاهرة مرتين . وقد أخفقت الحملة الفرنسية كحملة عسكرية ولكنها أفلحت فى توجيه أضواء العلم الحديث إلى ماضى مصر البعيد ولفت نظر الدول لفتا عنيفا إلى أهمية مركزها السياسى ثم فتح نفوس بعض أبنائها للتيارات الغريبة الحديثة . ونحن نجد أول صدى هذه التيارات فى مشروع المعلم يعقوب لتحرير مصر من الحكم العثمانى . ويعقوب من الأقباط الذين لازموا الفرنسيين منذ بدأت حملتهم فتمثل آراءهم السياسية , وكانت إلى ذلك الوقت مشبعة بروح الثورة الفرنسية , وما كاد يتبين اضطرارهم إلى ترك البلاد حتى عزم من ناحيته على الرحيل إلى أوروبا والسعى لتحقيق الاستقلال المصرى بتخويف انجلترا مما لابد سوف يبعثه انهيار السلطنة العثمانية من تنافس بين الدول ويعرض مواصلاتها مع الهند له من أخطار , واستمالة الرأى العالم بما لمصر القديمة من أياد على الحضارة الانسانية . والأثر الفرنسى فى تفكير يعقوب هذا واضح لا يحتاج إلى تبين فقد كان المصريون وقتئذ , مسلمون ومسيحيون , لا يذطرون من ماضيهم القديم شيئا , وكانت فكرة الاستقلال الحقيقى عن السلطنة العثمانية لا تخطر لهم على بال ,ولم تكن انتقاضات الأمراء المماليك , فيما عدا حركة على الكبير ـ وقد رأينا صلتها بالسياسة الروسية والبندقية ـ تذهب إلى أكثر من محاولة ايثار أصحابها بالحكم دون الولاة . وما كان من الممكن أن تتجه غير هذه الوجهة والامبراطورية العثمانية يومئذ هى العالم الاسلامى فى مجاهدته المسيحية , وسلطانها على مصر مقصور على تعيين وال , يحق لمن ولى عليهم أن يحاكموه على مصر ويخلعوه , وارسال فرمانات تشريعية أو ادارية أو مالية , يحق لمن أرسلت لهم أن يبطلوها , واستجلاب خراج يستطيع من حين لآخر ألا يرسل , فضلا عن ما ينبنى على التغير عن طاعة السلطان من دخول فى عالم العلاقات الدولية الذى كان المماليك لا يعلمون من أمره الا ما يبلغهم عن طريق التجار أو الرسل . وقد اتجه الألفى بعد يعقوب إلىالانجليز واستعان بهم فى محاولة استعادة الحكم ومضى فى ذلك شوطا بعيدا , ولكنه لم يكن فى ذلك أكثر من حاكم معزول يلتمس السبيل إلأى استرداد حكمه فلم يرتفع إلى الوعى المصرى الذى بلغه يعقوب . ونحن لا نحس خلجة استقلالية واحدة فى سرد الجبرتى سيرة على الكبير أو الألفى فهو لا يعدو سرد كاتب أمين سيرة رجلين نابهين , بل ان الجبرتى لا يذكر انقطاع الباب العالى عن ارسال الولاة إلى مصر على أيام على الكبير الا عابرا ولا ينفك يثنى على حسن بلاء العثمانيين فى ذودهم عن الاسلام والمسلمين . وهذا إلى أننا نعلم أن أفكار يعقوب كانت تنتشر وقتئذ بشكل أو آخر علىألسنة الفرنسيين والغربين على وجه العموم وأن حركته ماتت بموته فى فرنسا بعد ذلك وعادت أمور مصر سيرتها الأولى فكان زعيم أكبر حركة سياسية هزت كيانها بين نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر رجل دينى هو السيد عمر مكرم .والسيد عمر مكرم من نقباء الطوائف التى كانت تقتسم السلطة العامة فى ذلك الوقت وتقوم كوحدات حكومية صغيرة إلى جانب الحكومة فكان له حرس وجند وكان يزاول السلطة القضائية ازاء المنتمين إلى طائفته ويدير أوقافا واسعة تكفل له استقلالا ماليا لا بأس به وتصل بينه وبين الحياة الاقتصادية التى كانت تتأثر يومئذ باضطراب السلطة العامة وثقل الضرائب وهياج الجند .وقد اشترك فى جميع المؤامرات التى حيكت بالقاهرة لاخراج الفرنسيين من مصر وقاد ثورة المدينة عليهم وانتهى إلى الانفراد بزعامتها عند ما تركوا البلاد وبدأ النزاع بين القوات العثمانية علىمغانم الحرب وشعر المدنيون بالحاجة الشديدة إلىالتكتل والذود عن أنفسهم . كذلك نظم الدمنهوريين عن مدينتهم حين هاجمها مماليك الألفى فى ذلك الوقت بالذات وغذى الدفاع عن رشيد من الانجليز . وكان يصحب نشاطه العسكرى هذا بنشاط سياسى عريض فيوجد ممثليه خارج القاهرة ويراسل الأمراء محاولا اقصاءهم عن المدينة , حين يخشى شر دخولهم على أمنها , ويقف فى وجه فرقهم , حين تدخلها مرغما اياها على الانسحاب , ثم يظاهر محمد على فى التخلص من الجند الثائرين وقوادهم وينصبه واليا ويخرق بهذه التولية التقاليد التى ألفتها البلاد إلى ذلك الوقت خرقا شديدا . فقد كان المتبع قبل ذلك أن يخلع الأمراء الوالى الذى لا يريدونه وينتبدون من يقوم مقامه إلى أن يأتى الوالى الجديد فيحل محله . ولكن الخلع هذه المرة جاء على يد المدنيين ولم يأت على يد الأمراء ثم انه لم يقف عند حد انتداب من يقوم مقام الوالى المخلوع إلى أن يأتى الوالى الجديد بل تجاوزه إلأى تعيين هذا الوالى أيضا , ومن كان اعتراض الوالى المعزول وعده خلع أهل البلاد له اعتداء على حقوق السلطان وقوله ان الفلاحين لا يملكون الحق فى خلعه . وقد جلس السيد عمر مكرم بعد ذلك يرقب أعمال الوالى الجديد ويحصيها عليه فعاونه فيما أجازه منها وبدأ يناوئه حين تخلص هذا الوالى من الخطر الانجليزى وبعض الخطر المملوكى وبدأ يقيم حكمه الجديد ويحتاج فى ذلك إلى مال كثير كان لا يستطيع أن يجده الا بضبط الحسابات القديمة وفرض الضرائب الجديدة والاعتداء على الحقوق المكتسبة . ولكن هذه امناوأة لم تمتد حينا حتى استطاع محمد على أن يبذر الشقاق بين السيد عمر مكرم وأعوانه وينفى السيد عمر مكرم إلى دمياط ويخضع المشايخ جميعا لاراديته . وقد برر السيد عمر مكرم السياسة التى اتبعها مع الولاة فى حديث له مع صديق لأحدهم . فقال له ان المقصود من "أولى الأمر منكم" فى الآية القراآنية الكريمة هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان حين يكون عادلا . وأضاف إلى ذلك أن الشعب يخلع الولاة من قديم الزمن ويستطيع أن يخلع الخليفة والسلطان اذا حادا عن الصراط المستقيم وأنه ما دام العلماء قد أفتوا بوجوب مقاتبة الوالى وأعوانه لافتئاتهم على حقوق الناس فقد أصبح فى حل هو ورجاله من مقاتلتهم . ونحن نعثر هنا على التصور الاسلامى للحكم فى جميع العصور . نعثر عليه فى القرن التاسع عشر ولدى أكبر شخصية ظهرت علىمسرح السياسة المصرية بين الحملة الفرنسية ومحمد على . وندرك من مقارنة الأثر العميق الذى كان لحركة السيد عمر مكرم بضيق الحدود التى اتخذتها حركة يعقوب كم كان ضمير مصر لا يزال أقرب ماضيها الاسلامى منه إلأىتيارات الغريبة الحديثة . وقد أخفق يعقوب لأنه كان يمثل فى مطلع القرن التاسع عشر أول محاولة فى طريق لم تتبين معالمه الا فى القرن العشرين وأخفق السيد عمر مكرم لأنه لم يستطع أن يؤدى ثمن الحكم الاسلامى الذى أراده . أخفق الاثنان ونجح محمد على . ومحمد على من أبناء مقدونييا الصلبة الذين جندتهم تركيا لاستخلاص مصر من الفرنسين , فلم يكن من الرجال الذين كانوا يحكمون حينئذ الامبراطورية العثمانية ويدون ما تبديه من تفكك وتردد وانحلال , وما ولج القاهرة وهى وقتئذ فى معترك التيارات المختلفة حتى رسبت به طبيعته السليمة وانتهت به إلى التمكن من القبض على ناصيتها وتوجيهها وجهته . وكانت هذه التيارات حينئذ عنيفة حقا فقد قبل الفرنسيون أن يغادروا البلاد ولكنهم لم يقبلوا النزول عنها حتى لا تقع فى يد منافسيهم . وساهم الانجليز فى اجلاء الفرنسيين , بعد أن شهدوا الضرر البالغ الذى يستطيع من يأخذ مصر أن يلحقه بمصالحهم الجديدة فى الشرق , وصاروا يرون لهم حقوقا عليها ويشعرون على كل حال بالحاجة الشديدة إلى تتبع ما يحدث فيها فأبقوا بها بعض جندهم وجعلوا يأتلفون المماليك لعلهم ناصروهم فى سياستهم هذه . واستعاد العثمانيون مصر بعد تضحيات كبار ولكنهم لم يستطيعوا أن يستخلصوا لأنفسهم من جراء هذه السياسة الانجليزية الفرنسية ورغبة المماليك فى الاستئثار بالحكم من جديد . وكان يزيد فى هذا التضارب شدة انشقاق المماليك على أنفسهم وتفكك القوات العثمانية وتردد السياسة الانجليزية والفرنسية فيما يخلق بها أن تتبعه ازاء مسألة مصر هذه الجديدة ثم اضطراب أمور الحكم اشد الاضطراب بعد ما أصاب نظام المماليك أثناء حملة العثمانيين والحملة الفرنسية من رجات شدا . وهكذا اتصلت الحرب فى مصر بعد خروج الفرنسيين وانقسمت البلاد إلى مناطق يحتلها الأتراك ومناطق يحتلها الانجليز ومناطق يحتلها المماليك . وضاقت سلطة الحكومة الشرعية حتى صارت لا تكاد تتجاوز مدينة القاهرة . وجعل الجند يتكتلون طوائف حول من يعطيهم ما يريدون أو يرون أنهم يستطيعون برفعه وتمكينه من السلطان أن ينالوا ما يريدون . وأخذ القتال يمتد من القاهرة إلى مديريات الدلتا , حيث الألفى ورجاله , والصعيد حيث بقية المماليك وغالب الفرق العثمانية ويتحول إلى سطوات على المدن والقرى وما بين يدى أهلها من زاد ومال . وقد دفع هذا المدنيين إلى قفل محالهم واللجوء إلى مشايخهم فأغلق المشايخ جامعهم واجتمعوا بالقاضى وقدموا له شروطا علقوا بقبولها انتهاء هذا الاضراب العام ومضاعفاته فأرسل القاضى هذه الشروط إلى الوالى فطلبهم الوالى ولكنهم رفضوا الذهاب اليه وأعلنوا الثورة . وقد شهد محمد على هذا الانحلال فثار بنفسه ما ثار بنفس أقرانه من رغبة فى محاولة أمر . وتطورت هذه الرغبة لديه إلى ادارة الحكم حين خبر الحوادث وقاس مواهبه بمواهب من يحيط به من قواد وحكام متهافتين فوسمت هذه الارادة سلوكه بطابع الزهد فى المغانم العارضة والميل إلى التعاون مع القوى السياسية الحقيقية المشتركة فى هذا النزاع فعارض الولاة المغامرين وخامر المماليك , وهم أول الأمر القوة العسكرية القوية الوحيد فى البلاد , ثم اصطف إلى جانب المشايخ حين تبلور الشعور العام فى ثورة صحيحة . وكان فيما لدى قادة هذه الثورة من رغبة فى القضاء على الفوضى , دون طموح واع إلى الحكم المباشر , وحاجة دفينة إلى ساعد قوى يحل محل سواعد المماليك التى نعم نسيجها , وما به هو من حاجة إلى سند يوصله إلى الحكم , وهو ليس من رجال الاستانة فيستعين بها أو أصحاب العصبيات الكبيرة بين الجند فيعتمد عليهم , ما يقرب بينه وبينهم ويشركهم فى اتجاه واحد . وهكذا ما انفجر بركان القاهرة حين أذن تولى خورشيد ببلوغ الفوضى غايتها حتى كان نحند على الرجل الوحيد الذى يستطيع الثائرون أن يطمئنوا اليه ويأنس من نفسه قبول الأخذ بسياستهم . وقد صارحهم بذلك وأشار إلى ما كان لهم من سلطان وما كانوا يستطيعونه بهذا السلطان من الزامه بهذه السياسة ان حاد عنها فبايعوه واليا وكتبوا إلى الآستانة بذلك , ولئن كان تولى محمد علىالحكم يستطيع أن يوجهه وجهة جديدة فما كان يستطيع أن يغير الظروف التى أنشأته بين عشية وضحاها . فقد كان المماليك لا يزالون يريدون العودة إلى الحكم وكان جند الحكومة هم نفس أولئك المرتزقة المتمردين الذين فتكوا بالولاة السابقين وكان الانجليز والفرنسيون ما زالوا يناوئون بعضهم بعضا فى مصر والآستانة , حيث بدأ القائمون بأمور السلطنة يشعرون أن والى مصر هذا الجديد ليس كغيره من الولاة , ومن هنا امتداد الحرب الداخلية وحاجة هذا الوالى الشديدة إلى المال واضطراره من جراء ذلك إلى فرض الضرائب الجديدة والمطالبة بالضرائب القديمة وتسوية المشايخ بالمكلفين العاديين واحتجاج هؤلاء وبخاصة السيد عمر مكرم على ذلك ثم تغيرهم عليه . وقد تحرجت حاله تحرجا شديدا حين استطاع الألفى أن ينال بمعونة الحكومة الانجليزية أمر خلعه وتعيين موسى باشا محاه , واقدم الانجليز على مهاجمته بأنفسهم فأخذوا الأسكندرية وزحفوا إلى رشيد . ولكنه استطاع أن يتغلب على الوالى الجديد وعلى الانجليز وعلى المماليك وأن يفرق شمل المشايخ ويضرب على أيديهم ويركز السلطة فى يده كما لم يركزها وال عثمانى أو أمير من الأمراء الذين تعاقبوا فى مشيخة البلد منذ أول القرن الثامن عشر . فقد كان هؤلاء الولاة يصطدمون أول الأمر بنفوذ السلطان ثم جعلوا يصطدمون بسلطة الأمراء حين ضعف السلاطين , وكان الأمراء اذ استأثروا بالحكم ينقسمون على أنفسهم ويشعرون فى هذا الانقسام بحاجتهم إلى أبناء البلاد فيلتمسون معونة مشايخهم ويستشيرونهم ويستجيبون لتوجيهاتهم , أما هو فكان يستأثر بالحكم فى وقت احتاج فيه السلطان لولاته وانتهى المماليك أو كادوا وفقد المشايخ استقلالهم الاقتصادى بفقدهم الالتزامات والأوقاف واصبح هو الحاكم وحده . وكان هو يختلف بعد ذلك عمن سبقه وعاصره من الولاة حنكة وعزما , ولكنه كان مثلهم مثل معاصريه منهم على وجه الخصوص رغبة فى الاحتفاظ بولايته والاستقلال بها ما استطاع . وهو يقول فعلا لقنصل فرنسا ـ حين هبط قبطان باشا الاسكندرية بأمر خلعه وتولية موسى باشا ـ أنه لن يترك له مصر بعد أن أخذها بحد السيف . ويطلب معونة حكومة هذا القنصل المالية والعسكرية عند نزول الانجليز فى الأسكندرية استجابة لدعوة الألفى ثم يقول له اذ تمتد الحرب معهم انه اذا ما واجههم وانتهى منهم فيستحفظ بولايته تلك ويحاول أن يصل بها إلى ما كان عليه بايات أفريقيا الشمالية فى علاقتهم بالسلطان . وهو يخشى بعد ذلك تربص انجلترا فى البحر المتوسط والبحر الأحمر واضمار فرنسا أخذ مصر وأشراف السلطنة العثمانية على الانهيار والتفتت بين وريثيها العديدين فيتجه بتفكيره أول الأمر إلى مصادفة الانجليز والتحالف معهم حتى ينجو بولايته هذه الثمينة ثم يتجه إلى فرنسا حين يرفض الانجليز عروضه ويبدأ معها ذلك التعاون الطويل الذى امتد حتى أيام اسماعيل .وهو لا يهمل فى تقلبه هذا بين أبواب السلامة المختلفة أمر تقوية حكمه باستجلاب من تصل اليه يده من جند مرتزقة حى يستطيع أن يحتفظ بمصر على كل حال . وكذلك لا ينسى أنه مكن كبار موظفى السلطنة العلية , وأنه يستطيع أن يتقدم برضا السلطان عليه فى مناصب السلطنة حتى يصل إلى أعلاها , ومن هنا سلسلة الحروب التى خاض غمارها منذ سنة 1811 حتى نهاية حرب اليونان , اذ بدأ حرب الحجاز ولما تهدأ البلاد من سطوات المماليك , وهاجم السودان سنة 1820 , وهاجم اليمن سنة 1823 . وقد قام بحرب الحجاز استجابة لأمر السلطان ورغبته هو فى بسط نفوذه واخضاع الوهابيين الذين كانوا يهددون كيان الامبراطورية العثمانية حينئذ . وأقدم على حرب السودان وحرب اليمن , واسترضاء للسلطان , وسعيا وراء المال والرجال , وسيلتيه المفضلتين للظهور والدفاع عن النفس , أو المساومة بقوة اذا ما انهارت هذه الامبراطورية وأذن وقت انقسامها . وقد بلغ فعلا من ذلك ما أراد فارتفع نجمه فى سماء الآستانة , واتجت الأنظار صوبه حين شبت حرب اليونان وأخذت تتطور تطورا خطيرا حقا . وكان هو قد رأى ما قد يؤدى اليه اشتراكه فى هذه الحرب من ظهور على مسرح السياسة الدولية , وصعود إلى المرتبة التى تصبو اليها نفسه , فلم يتردد فى انتهاز الفرصة التى أتاحتها له . وكانت أوروبا المعينة بمسألة اليونان ـ لا سيما فرنسا وانجلترا ـ قد رفضت إلى تلك الساعة المشاريع الكثيرة التى عرضها عليها هذا الوالى من تعاون إلى تحالف إلى احتماء . وفضلت المضى فى طريق الآستانة القديم على سلوك طريقه الأسكندرى الوعر . كذلك كان السلطان قد رفض السماع إلى المشاريع العديدة التى أنهاها اليه أن عنى بوضعها فى اطار مصالح سلطنته , من العمل على تحويل مصر إلى حصن يدفع عن الامبراطورية غائلة الغرب أو شبه مملكة قائمة بذاتها يكون لها فى مقابلة هذه الغرب المسلمين موقف خاص يمكنها من تعزيز مركزهم , اذا وقع ما كان يخشاه الجميع واستولت أوروبا على أراضيهم , إلى ضم سوريا لمصر أو توحيد القيادة العسكرية للقاهرة ودمشق وبغداد فى يده , إلى الاعتراف له بمثل مركز بايات أفريقيا الشمالية , اذ أدرك السلطان ما كان ينطوى عليه ذها المنطق من ناحية الواقع من قضاء على وحدة الامبراطورية ـ كان الطرفان قد رفضا السماع له , ولكنهما ما شهدا الدور الحاسم الذى قامت به قواته فى تلك الحرب العصيبة حتى بادر كل منهما إلى طرق بابه فعرضت أوروبا عليه أن يخرج من الحرب وله صداقتهما وطلب اليه السلطان أن يواصلهما وهو يعرض له بولايات سوريا الثلاث والقيادة العامة فى هذه الحرب بالذات . وقد اشتد بعد ذلك ضغط أوروبا على ألاستانة وتحول إلى شبه حملة أوروبية على العثمانيين . ورأى هو مافى ذلك من خطر على العالم الاسلامى , فاتجه بتفكيره اتجاها جديدا وكتب إلأى الآستانة يحذرها من لتردى فى ذك المأزق ويقترح قبول صلح مؤقت تفيد منه الامبراطورية فى تقوية نفسها والاستعداد للحرب من جديد . ثم يخطو خطوة ثانية ويقترح أن يعهد اليه السلطان فى انهاض الامبراطورية واستغلال مواردها واعدادها للدفاع عن نفسها . ويشير إلى بعض ما يجب عمله فى سبيل ذلك من تعبئة الشباب المثقف وتوجيهه إلى العلوم العسكرية والانتفاع به فى انشاء قوات حديثة ويطالب أن يزوده السلطان ويزود ابنه ومساعده بثلاثة أو أربعة من خيرة رجاله , كيما يستعين بهم فى تحقيق هذه النهضة . ولكن الآستانة جعلت أصابعها فى آذانها وواصلت العمل بسياستها الموضوعة حتى بلغ الروس ادريانوبل , وفرضت الدول عليها الاعتراف باستقلال اليونان . وهنا عاد محمد على من سماء فلسفته السياسية العثمانية إلى حقيقة حاله الرهنة . فهو قد خسر قسما من جيشه فى اليونان , وفقد أسطوله جميعا فى نافارين , ولم يفز بشئ جديد من السلطان . وهو قد لمس بيده عبث الأمل فى قدرة حكام الامبراطورية على انهاضها , كما كان يريد المسلمون حينئذ جميعا , وفى قبول السلطان الاعتماد عليه فى ذلك رغم رغبته الشديدة فيه واعتقاده فى استطاعته , وهو قد لمس أيضا , ان كان ما زال فى حاجة إلى ذلك , الضعف الرهيب الذى كانت عليه الامبراطورية العثمانية والذى كان لا يقصيها عن غايته الا انشقاق الدول الكبرى فى ذلك الوقت على نفسها بصدد سياستها الشرقية . وهو ينتهى من ذلك إلى العدول عمال كان قد أخذ به نفسه لتلك الساعة من تجنب الخروج السافر على السلطان ومحاولة الارتفاع بالامبراطورية برضاه والامتناع عن فرض نفسه عليه فرضا .ويفكر فى الاعتماد على ضعف السلطان وقوته هو , وفساد ضمائر أعوان السلطان وثرائه هو , واختلاف أوروبا وترددها , فى الوصول إلى ما يريد اليه , بعد لفه فى الأشكال الجذابة التى تبرد جروح المجروح وتيسر قبول المعارض , كما سبق أن فعل فى مصر حين قصد إلى الاستئثار بولايتها . وكان هو قد اتجه منذ حرب الحجاز إلىالرغبة فى الحصول على سوريا , وطالب السلطان بها كضرورة عسكرية لانهاء هذه الحرب على خير وجه ثم كجزء من مشاريعه الدفاعية عن الامبراطوية العثمانية ثم كثواب له على خدماته الثمينة . وكانت تميل به ناحية سوريا وقتئذ صلتها الطبيعية بمصر وتفوقها على الولايات العثمانية القريبة منه فى الرجال والمال , ثم أمل بعيد قريب ظل يملأ صدره حتى مماته , فق كان هو قبل كل شئ وزيرا من وزراء تلك الامبراطورية الضخمة التى اتفق المسؤولون عنها والمهاجمون لها على حاجتها إلى تحقيقه . ووكانت الولايات العثمانية تثور حينئذ الواحدة أثر الأخرى فتهز بثوراتها أهل الآستانة وتوشك أن تحملهم كل حين على خلع السلطان . وكان هو بعد ما أتم من فتوح ومد من أسباب قد رفع نفسه فوق الولاة جميعا وأصبح علما من أعلام هذه الامبراطورية , والرجل الذى آمن غالب رجالها بقدرته على تحقيق ما لم يحققه لها غيره . وهكذا من يدرى ؟ لعله اذا تقدم فى سوريا وقارب الآستانة , وأشار إلى أعوانه داخلها وخارجها , أو زحف الروس اليها , لعله يشهد ما كان يتوقعه الجميع من خلع كبار السلطنة لعاهلهم ودعوتهم له هو إلى العاصمة قائدا أو مشيرا أو وصيا أو من يدرى ماذا ؟ حينئذ يستطيع أن يحتل المركز الذى خلق له ويشرف على مصائر العالم الاسلامى ويملأ الفراغ الذى كان يحطه عن الغرب . وكان قناصل الدول يدركون ذلك ويتحدثون به , فكتب قنصل فرنسا إلى حكومته يقول أن محمد على يريد الذهاب إلى الشرق من طريق سوريا أملا فى أن يحمله حادث هو وابنه إلى غايته . وكتب قنصل انجلترا إلى وزيره يقول ان اراهيم دعا رجاله إلى شرب نخب انتقال محمد على إلى الآستانة وهو يغادر الاسكندرية مبحرا إلى سوريا وان هذه الدعوة كانت تعبر عن حقيقة أفكار والده . وكتب قنصل النمسا إلى امبراطوره بما يشبه ذلك . وهكذا كانت سياسة محمد على تقوم على الاحتفاظ بمصر وتقويتها والقدرة على الدفاع عنها , تمتد بدافع تخوفها من انهيار الامبراطورية العثمانية , وطموحه الشخصى , إلى الرغبة فى توسيع حدودها , والبلوغ بها إلى الخطوط الطبيعية التى تمكنها من القيام بنفسها , ثم تعلو إلى محاولة الوصول إلى الآستانة لتحقيق ما كان يصبو اليه العالم الاسلامى حينئذ من انهاض الامبراطورية العثمانية . وكانت تدفع لذلك به دفعا نحو سوريا , وتميل به عن الانسياق خلف مشروعات تركيا فى آسيا (حملة بغداد) أو شرق البحر المتوسط (حملة المورة وكريت) , ومشروعات فرنسا فى أفريقيا الشمالية (حملة الجزائر) , وان كانت لم تمنعه من النظر فى جميع هذه المشروعات والانتفاع بها أوسع الانتفاع , كما فعل باستغلال كريت فى سياسته البحرية حين أعطتها تركيا اياه , وانتهاز مشروع الجزائر لمحاولة الحصول على ما كان يحتاج اليه من مال فرنسا وسفنها حين عرضته عليه الحكومة الفرسية . كذلك لم تمنعه من السعى للتحالف مع انجلترا خوفا من اتساع نفوذ فرنسا فى أفريقيا الشمالية وأثره عليه , ومن عرض التحالف على فرنسا ليؤثر بوساطته فى سياسة أوروبا ويبعث فيها الشقاق . وقد أثناء ذلك بألبانيا ما غذى آماله تلك ومد لها فى الاتساع , اذ ثار واليها على السطان وتآمر الولاة الآخرون على خلعه , اتصل بمحمد على طالبا مؤازرته . ورأى محمد على ألا يتورط مع هؤلاء الثائرين ما دام يستطيع بالوقوف بينهم وبين السلطان أن يستفيد منهم ومنه على السواء , فقنع بتمويلهم والتربص خلف حدوده حتى اذا انتصروا فرض عليهم ارادته واستولى على ما يستطيع أن تصل اليه من أراضى الامبراطورية , واذا انهزموا لم تتأثر علاقاته الدقيقة بالسلطان , واستمر يعبئ الجند , ويبنى السفن , يضع المشروعات انتظارا لما يأتى به الغد . ولكن الثورة أخفقت بعكس ما كان يتوقعه الجميع , ووقع الثوار فى الأسر , ووقف السلطان على دخائل المؤامرة ومنها الجزء الخاص به , فزاد بذلك توتر العلاقات بين الطرفين , وأصبح لا أمل له فى المحافظة حتى على الشكليات , ولا مفر له من اللجوء إلى الحر ان أراد أن يأخذ سوريا , ويحمل الآستانة علىالاستجابة لارادته . وقد لجأ إلى الحرب فعلا ,وان هو أعطاها شكل الحملة العقابية على والى عكا لتعطيله تجاريته ورفضه رد من فر اليه من الفلاحين المصريين . وعزم على الوقوف أول الأمر عند دمشق نظرا لأهمية هذه المدينة لدى السلطان حتى لا يضطره إلى المعارضة , على أن يفعل الله بعد ذلك ما يشاء . ولكن عكا لم تسقط بالسرعة التى تسمح للسلطان بقبول ما أريد له , وأثارت الحرب بسوريا والولايات الأخرى ما كان يثيره كل اعتداء على عاهلها من تحفز وتمرد وقلب لروح التذمر المنتشرة إلى ثورة سافر, فبدأ السلطان يحتج , وبدأ الجو يتوتر . ووقف السلطان من كل ذلك موقف صاحب الحق المهضوم ,ومحمد على موقف المعتدى العاصى . وأخذ كل من الاثنين يلتمس ما يدفع به عن نفسه , فأعلن السلطان عصيان محمد على وولده , واتهم محمد على السلطان بافساد الاسلام والمسلمين , ثم هدد بخلعه واعادة الخلافة العربية . وكان مشروع الخلافة العربية حينئذ فى جو السياسة الدولية , فقد سعى له الوهابيون وثاروا من أجله ,وفكرت فيه فرنسا غير مرة , وكان المحيطون بمحمد على وابراهيم من الضباط والفنيين الغربيين الذين كانوا يد سون ماضى العرب ويعجبون به لا يتفكرون يتحدثون به . وقد انتهى احتدام النزاع بينه وبين السلطان إلى العزم به علىالسير بالحرب إلى أقصى ما يستطيع ما دامت انفجرت , وما دام هو أصبح فى غير حاجة إلى مهادنة الآستانة . وهكذا لم يقنع بعكا حين سقطت , وأمر قواته بالاستيلاء على سوريا جميعا , وبرر أمره هذا لقناصل الدول بقوله ان الامبراطورية العثمانية شارفت الانهيار , وان القسم العربى منها حقيقة لا ريب فيها , وان روسيا لا شك ماضيه فى الدفع بتركيا إلأى مقاتلته حتى تقضى عليهما معا . ولكنه يريد مع ذلك أن يحتاط لغده فيستطلع رأى فرنسا وانجلترا فى الموقف , ويصرح لفرنسا أنه لا مانع لديه من أن يقف عند حده ويبلغ انجلترا انه ان أرادت امسك عن الزحف إلى الاستانة . ثم يخشى امتداد الحرب وانتفاض الولايات , وما قد يعقبه من تدخل الدول , فيدعو الدولتين لتنبيه السلطان إلى ما فى سياسته ازاءه من خرق , وإلى ضرورة قبول الأمر الواقع وانهاء الحرب , ويطلب من فرنسا أن تستميل انجلترا اليه وتمنعها من مساعدة خصومه . وتتسع انتصاراته أثناء ذلك فيشتد ميله للذهاب إلى الآستانة حيث يستطيع أن يسوى كل شئ , ويحقق ما يريد , وينفذ مشروعاته العربية والانفصالية والوراثية جميعا . ولكنه يفضل الانتظار إلى أن تثور الاستانة على سلطانها حنى لا يستفز الدول , وينهى ابنه عن التسرع فى الزحف اليها , فقد كان ايراهيم يريد هذا الزحف ويرى فيه الضمان الوحيد لمستقبل أسرته , ولا يسوءه أن تسقط الامبراطورية , وهو لا يشعر نحوها بما كان يشعر به والده الذى شب تحت سمائها ولم يود فى حياته شيئا كما ود أن يصلحها . وكلما زاد دنو قواته من الآستانة قل حديثه عن الخلافة العربية وكثر تأكيده لقناصل بأنه لم يفكر قط فى الاستقلال عن السلطنة وترددت اشارته إلى موقف روسيا من تركيا وضرورة اصلاح الامبراكورية وما سيؤدى اليه اصلاحها من تقوية تفيد انجلترا وفرنسا فى نزاعهما مع روسيا , وحذر الدولتين من التدخل المسلح بما يثيره ذلك من حرب دينية بين المسلمين والمسيحيين . ولكن تدخل الدول لم يتأخر بعد ذلك طويلا , فقد رأى السلطان أن حركة محمد على هذه لم تكن فى نهاية الأمر الا حركة عدائية تقصد إلى عرشه , فألقى بنفسه بين ذراعى روسيا , وهنا اضطربت أوروبا جميعا وبادرت إلى العمل فى الآستانة والاسكندرية فى وقت واحد , طاغية بمصالحها العالمية على هذا النزاع العثمانى الداخلى . وقد انتهى الأمر بأن أقرت تركيا الحالة القائمة على أن يبقى محمد على فى حظيرتها , وانقلب كل المتخاصمين إلى داره وهو يشعر أن الأزمة ما زالت قائمة , وأنها لا شك منفجرة من جديد , وأن هذا الاتفاق ما كان الا هدنة ترجع إلى تردد الدول زعدم استعدادها ورغبتها فى التخلص من الخطر الروسى قبل كل شئ . ومن ثم كانت مواصلتهما الاستعداد للقاء جديد , وتحرش تركيا بعد ذلك بمحمد على تحرشا قابله بالتململ الصامت والتفكير العميق , ثم الكتابة إلى الدول بأنه لم يسبق أن فكر فىالاستقلال بمصر ولكنه أصبح مضطرا ازاء تحرش السلطان واستعداده إلىالتفكير فى هذا الاستقلال , وبخاصة أنه يتفق واختلاف البلاد العربية التى كان يحكمها عن بقية الامبراطورية , فضلا عن كونه الضمان الوحيد المكن لانهاء الحرب الاسكندرية والآستانة التى كان يفيد منها الروس ولا يفيد منها أحد سواهم , ويضيف إلى ذلك أنه اذ أفلح فى مسعاه فسيجرد جيشا قويا ينقذ به تركيا من الخطر الروسى . وقد أعقب ذلك بعرض الأمر على الآستانة فى سنة 1837 عرضا صريحا , ولكنه لم يلق الا الرفض الرسمى منها ومن تلك الدول ثم العداء السافر من ناحية السلطان اذ اجتازت جيوشه الجديدة حدود سوريا . وهنا انفجرت الحر بمن جديد , وانهزمت القوات العثمانية مرة أخرى , وعادت الولايات تتحفز وتثور ,فتدخلت أوروبا تدخلا سريعا , بل ومنعت الطرفين من التفاوض فيما بينهما , وتولت الأمر بنفسها لتفصل فيه طبقا لمصالحها التى كان هذا النزاع المستحكم يقلقها كل حين . وممحمد على فى هذه الحرب الثانية يتجه بتفكيره أول الأمر اتجاها جديدا , ولا سيما بعد ما وثق من رفض أوروبا مشروعه الانفصالى عن الامبراطورية العثمانية . فهو يقول لقنصل روسيا ـ قبل أن تلتقى قوات ابنه بقوات السلطان فى سوريا ـ انه لا يريد الاستقلال , ولكنه يريد الوراثة لأسرته . ويقول لقنصل فرنسا انه لم يعمل ما عمل فى مصر لتمتع بثماره وال تركى يأتى من بعده . وهو لا يكاد يثير هذه المرة مشروع الخلافة العربية القديم أو ذكر ما كان يوحى به من الوحدة الجنسية بين البلاد التى كان يحكمها , بل لا يفكر فى الرد على اعتداء السلطان بالتلويح باعادة هذه الخلافة أو التمهيد لها . ولكن نبأ يأتى من الآستانة فيحفزه من جديد ويعدل به وجهته هذه , فقد سقط السلطان حينئذ مريضا , واتجه التفكير إلى الوصاية على ولى عهده , نعنى عاد المشروع الذى كان والى البانيا وضعه وكان هو اشترك فيه , ولاحت له من جديد فرصة الانتقال إلى مقر السلطنة حيث مجال العمل الحقيقى الذى كان يصبو اليه . وهنا يرتد تفكيره إلى ألآستانة وتعبئة القوات اللزمة للدفاع عن المسلمين , ان عزم الروس على الزحف اليها , واقامة وصاية قوية يكون له أمرها . ويبعد فى ذلك حتى يبشر قنصل فرنسا بقرب اتساع نفوذ حكومته فى الآستانة , يريد بذلك التلويح بدنو أجل انتقاله اليها وهو صديق الفرنسيين الحميم . ثم يفكر فى تزويج ابنه سعيد من أخت السلطان توثيقا للعلقاة بني الأسرتين , ويتأهب للسفر من وقت لآخر. وقد فطن قنصل فرنسا لتحول محمد على هذا التحول الجديد , وكتب إلى حكومته مؤكدا أنه سيقدم هذه المرة على العمل وحده مهما فعلت الدول , ويعلن نفسه حاميا للاسلام والمسلمين , فهو لم ينس عثمانيته , ولم ينس أنه ملزم بالدفاع عن الأراضى المقدسة وديار المسلمين . وقد صرح محمد على نفسه بعد ذلك للقناصل أنه اذا زحف الروس إلى الآستانة فسيبادر إلى مساعدة اخوته ويأمر ابنه بالسير إلى الأناضول ويجند من لديه من عمال لا يقلون عن 70 ألف ويقاتل بهم أعداء المسلمين . ولكن السلطان يموت دون أن يحدث هذه المرة أيضا شئ من ذلك أو يدعوه داع إلى تولى الوصاية التى عهد بها على عجل إلى خسرو . وهنا هاجت هائجة محمد على من جديد , فقد خسرو خصما شخصيا له منذ أن عرفه فى مصر واحتك به فى حرب اليونان وواجهه فى سوريا , ثم انه كان متهما بممالأة الروس والتفريط فى السلطنة , وقد هجر لذلك بعزمه على السير إلى الآستانة لينقذ السلطان الشاب من هذا الرجل . واستدرج القوات البحرية العثمانية بعد أن هزم القوات البرية فى سوريا فأتى الأسطول التركى إلى الأسكندرية يقوده قائده . وكان خسرو يتوقع ثورة محمد على هذه فكتب اليه يعده بالوراثة فى ولاية مصر , ولكن هذا الوعد يزيد فى ثورة محمد على بدل أن يهدئها فيطالب الدول باقصاء خسرو من منصبه وارضاء رغباته جميعا , ويعود مرة أخرى إلى السماء فلسفته العثمانية من ضرورة اصلاح الامبراطورية وانفراده هو بالقدرة على ذلك , إلى توقعه أن تثور الآستانة أو يدعوه كبارها بينهم إلى التهديد باثارة اسلامية شاملة ان وقفت الدول فى طريقه . ثم يكتب إلى حكام الولايات وشيخ الاسلام مقارنا ماضيه بماضى خسرو , طالبا معونتهم فى اقصائه والعمل على انهاض امبراطوريتهم , ولانى يستعد أثناء ذلك للسير إلى الآستانة وترك حكم مصر لابنه , وهو لا يلحظ ما بين طموحه هذا إلى حكم الامبراطورية وسعيه إلىالاحتفاظ بحكم مصر والبلاد العربية الأخرى من تناقض صارخ لعله كان السبب الأكبر فى رفض السلطان ورفض الدول مشروعاته العديدة فى الاعتراف لمصر بمركز خاص يتخذه وسيلة يدعم بها الامبراطورية العثمانية , ما دامت كل تقوية لمصر لابد مفضية إلى اضعاف تركيا , وما دام ذهابه هو إلى الآستانة لايد مفضيه اما عودة مصر إلى حظيرة الامبراطورية واما إلى ارتفاع مصر على تركيا وهو ما كان لا يريده أحد . ولعله هو كان فى قرارة نفسه لا يرمى إلى أكثر من أن يعهد اليه فى القيام بشئون السلطنة على أن تنال أسرته مقابل خدماته اقطاعا وراثيا كالاقطاعات التى كانت تقرها نظم الحكم التركية منذ أن نشأت . ولكن أوروبا تأبى له هذه المرة أيضا , وتقنع بدفع الآستانة إلى الاجابة على الدعاوى الاصلاحية العريضة التى كان يروج بها لحكمه , بنشر مشروع من المشروعات الاصلاحية الكثيرة التى كانت توضع حينئذ فى وزارتها . فيصدر دستور كلخانة ويبلغ إلى جميع الولايات , وإلى مصر أيضا . وهنا تنصح له فرنسا بالنزول عن الولايات التى تحت يده مابل الحصول على حق الوراثة فى حكم مصر , ولكنه لا يقبل النصيحة أنت انتصر على السلطان ,وأخذ أسطوله وجعل يواصل السعى للذهاب إلى ألاستانة . وعندئذ وقفت أوروبا جميعا فى وجهه مرة أخرى وفرضت عليه اتفاق لندن الذى أقر له الوراثة , ولكنه كبل يديه وقيده إلى عربة الامبراطورية العثمانية من جديد . وكما كانت سياسة محمد على الخارجية نتيجة تفكيره العثمانى وعلاقة مصر بتركيا والضغط الغربى , كانت سياسته الداخلية تصدر عن تفاعل هذه العوامل نفسها وملابسات مصر الخاصة . وقد سبق أن رأينا كيف كان قد كانم قضى على المماليك وأقصى مشايخ الأزهر من الحياة العامة واستأثر بالسلطان من دونهم هو وأ‘وانه من رجال الحملة العثمانية . وكان القضاء على المماليك يحرم الحكومة خير جندها وأجهزتها التنفيذية جميعا . ولكنه كان يرد اليها الاقطاعات التى كانوا يلكونها , وكانت تعادل ثلث الأراضى المزروعة , فى الوقت الذى كانت الملكية الزراعية تكاد تكون فيه منبع الثروة الوحيد بالبلاد . بيد أن يد محمد على لم تقف عند جنى هذه الثمرة الطبيعية لاختفاء المماليك , وامتدت إلى الملكيات الأخرى أيضا , فقد كانت الخزانة الاعامة وقتئذ فارغة , وكان هو يريد جيشا يمكنه من الاحتفاظ بولايته ويطمع فى توسيع هذه الولاية وفرض نفسه على الآستانة .وكان يحتاج فى ذلك إلى نظام دقيق واستعداد مستمر محكم ,ومالية قوية تقوم به . ولكنه ـ فيما عدا هذه الأراضى التى آلت اليه ـ كان لا يكاد يملك شيئا يذكر . فقد بلغت التجارة والصناعة حالة شديدة من البؤس ,وتوزعت الأراضى الأخرى الزروعة بين مشايخ الأزهر ,وهم معفون من الضرائب ,والأوقاف الدينية وهى تصرف ولا تغل , وبعض صغار الملتزمين الذين كانوا لا يحسنون الاستغلال الاقتصادى . وكانت حقوق هذه الطوائف الثلاث إلى ذلك حقوقا تكاد تكون غير شرعية ,وان اتصلت مدة من الزمن , فقد نال المشايخ أراضيهم عن طريق الالتزام , ولكنهم لم يتقيدوا بشروطه , ولم تكن الأوقاف آخر الأمر سوى صورة من صور التحايل على ابتذاذ مال الدولة , كذلك لم يكن صغار الملتزمين علىالدوام ممن يطرقون إلى الأمر سبله الصحيحة . ومن ثم كان فرضه الضريبة على أراضى المشايخ والأرزاق والأوقاف , ثم استيلاؤه على هذه الأراضى , ثم الغاؤه نظام الالتزام وقضاؤه علىالطبقة الموسعة الوحيدة فى البلاد وهى طبقة الملتزمين , اذا استثنينا بعض كبار التجار , واضطراره من لا مورد آخر له منهم إلى مزاولة الزراعة أجراء , واستئثاره بالنشاط الاقتصادى كاستئثاره بالنشاط السياسى من قبل . وقد أراد بعد ذلك أن يستغل هذه الأراضى أوسع استغلال , فاتجه إلى ضبط ريها , وتزويع اليد العاملة فيها , والملاءمة بين حاصلاتها وحاجات الاستهلاك المحلى والتصدير , واستعان فى ذلك بما وضعه فريق السان سيمونيين ـ وكانوا يجدءون فى انقاذ سياستهم الاشتراكية فى مصر وقتئذ ـ من مشروعات الاصلاح والتعمير . واندفع فى سياسته المالية هذه حتى منع الفلاحين من التصرف فى حاصلاتهم , فكان يعين لهم الأنواع التى يريدها لهم ثم يأخذها منهم بالسعر الذى يقدره ويقوم بتوزيعها فى الداخل والخارج . وكان يلجأ إلى العنف حين يشهد ما يؤدى اليه هذا العنت من نتائج اجتماعية واقتصادية , اذ يهجر الفلاحون الريف هربا من هذا النصب الذى لا غناء فيه , أو يقللون من انتاجهم فيدفعهم إلى الحقول دفعا وهو لا يرى لم يجب أن يترك هؤلاء الفلاحين وشأنهم يزرعون ما يشاؤون ويبيعونه كما يشاؤون فينال التجار وبخاصة المصدرين منهم غالبهم من الأجانب غالب ربحهم ولا ينال هو هذا الربح لينفقه فيما هو أجدى على البلاد مما يصرفه فيه هؤلاء التجار , ويستطيع أن يزيد منه ادخال الحاصلات المختارة , ويقول ذلك للقناصل حين يراجعونه فى سياسته الاقتصادية هذه فى غير استنكار أو استكبار . وهكذا امتد احتكار الحاصلات الزراعية إلى احتكار توزيعها وتصديرها , وتصنيع الباقى منها . واستمر محمد على يحمل على كتفيه هذا العبء الضخم حتى كان الاتفاق التجارى الانجليزى ـ التركى فى سنة 1838 وتعهد تركيا بالغاء نظام الاحتكار فى أنحاء الامبراطورية العثمانية والزامها اياه بالعدول عن نظامه هذا وقفل مصانعه الواحد بعد الآخر والزراعة رفعا شديدا . وقد بلغ محمد على من سياسته هذه ما أ{اد رغم الأثر الاقتصادى والاجتماعى الرهيب الذى تركته , فارتفع دخله من 11035 جنيه فى نهاية القرن الثامن عشر إلى 1199700 جنيه فى سنة 1821 و 3064300 فى سنة 1826 . ولكنه استطاع قبل كل شئ أن يعنى بمسائل لم يألف حكام الشرق فى ذلك العهد أن يعنوا بها عناية كبيرة . وقد رأينا كيف كان مماليك قليلى الحساسية بالمسائل الاقتصادية على وجه العموم , وكيف كانت أيام العثمانيين أيام كساد شامل . أما هو فقد اضطر أن يزرع ويتجر ويصنع واضطر , لما كان يرمى اليه بالنزول إلى هذه الميادين من الاستعانة بثمارها فى حلبة سياسته الخارجية ورغبته فى أن يحكم كما يجب بلادا كانت القارة الأوروبية تمد اليها منذ نحو قرن شباكها الاقتصادية المشبعة , أن يفعل كل ذلك فى أحدث صورة يستطيعها , مستعينا بالاكتشافات العلمية والفنيين الغربيين . ومن ثم كان فتحه أبواب مصر لهجرة الأجانب وكانت اقامته القنوات والقناطر والطرق , وكان انشاؤه المصانع والبيوتات التجارية وخلقه الادارات اللازمة للاشراف عليها . وكان ظهور أيضا بمظهر المصلح الذى ينفذ إلى جانب المصلحين الكثيرين الذين لا ينفذون , أو اذا نفذوا وقفوا عند الأشكال فارتدوا الملابس الأفرنجية وحلقوا لحاهم ولو ألسنتهم ببعض اللغات الأجنبية , مثل حكام الآستانة الذن كانوا يجدون أنفسهم بعكسه أمام نظم قائمة لا يقوون على التخلص منها , كما تخلص هو من بقايا النظم المملوكية ومنطق المشايخ , ويتلقون من الغرب مشاريع ضخمة تعرض للمسائل من جميع نواحيها ولكنها لا تقف بها عند ما يمكن ازراده وتنفيذه تنفيذا شرقيا كما كان يستطيع هو أن يفعل بالتعاون مع قناصله وفنييه الذين كانوا رجال أعمال قبل أن يكونوا شيئا آخر . وقد استطاع بفضل هذه السياسة أن ينشئ الجيش الجديد الذى كاد يحمله إلى الآستانة وينفق على الحروب المتصلة التى خاض غمارها ويقيم الصناعات الأساسية اللازمة لها . وكان هو قد عمد أول حكمه إلى الاستعانة بالمرتزقة من الجند متأثرا فى ذلك تقاليد الامبراطورية العثمانية . ثم أراد أن يفرض على من لديه منهم التنظيم الحديث الذى اقتنع رجال الامبراطورية بضرورته منذ أن اتصلوا بالغرب الجديد فثاروا عليه فعزم على التخلص منهم وتحول إلى تجنيد أهل البلاد كما كان يفعل بعض الولاة والأمراء المماليك حين كانوا يستعينون فى حروبهم بالبدو والسود وأبناء الريف . وشجعه على المضى فى ذلك ما كان يكفله له تجديدا يسيرا . وهكذا كان المصريون يعودون إلى صنعه السلاح بعد أن هجروهم منذ أن اتصلت مصر بالامبراطورية اليونانية والرومانية والعربية وهى امبراطوريات كانت تعتمد فى حروبها على المرتزقة من شعوبها الخشنة , ويجتمعون فى كتلة واحدة منتظمة ويلتقون فى ميادين القتال بالشعوب الأخى فيشعرون بشخصيتهم ووحدتهم واختلافهم عن غيرهم بالشعوب الأخرى فيشعرون بشخصيتهم ووحدتهم واختلافهم عن غيرهم . وقد استتبع تكوين هذا الجيش قيام المرافق والمدارس عن غيرهم . وقد استتبع تكوين هذا الجيش قيام المرافق والمدارس والادارات اللازمة لتغذيته , وكانت تستخدم هى أيضا أهل البلاد وتدربهم وتوجههم الوجهة التى تقتضيها الحياة الجديدة , أى تبعث نواة هذه الدولة الفتية بجوهرها المصرى , وأوضاعهاه الأهلية ومواردها الخاصة . وأفاد من هذه السياسة أيضا الاتصال المستمر بأبناء أوروبا هؤلاء الذين كانوا يعملون حينئذ كل شئ , ويشرفون على كل أمر , ويمثلون الحضارى الجديدة والنفوذ السياسى فى أجلى معانيهما . فكان يلقى تجارهم وصناعهم وعلماءهم كل يوم , وكان يسمر فى ساعات فراغه مع طائفة ذكية منهم , ويحاول أن يتعلم كل ما يستطيع أن يتعلمه من خيارهم . ويتطور بذلك تطورا لم يفتر قط فى السنين الأربعين التى قضاها فى الحكم . بيد أن أثر اتصاله هذا بالغرب لم يبلغ صميم نفسه , أو ينل من معدنها البتة , وانما ظل يعمل خارجها , ظل يعمل فى دائرة الوسائل التىكانت تتلمسها لبلوغ غاياتها الخاصة , ومن هنا ما تنفرد به سياسته من حزم , وما يبدو عليها أيضا من تناقض بين المظاهر الحديثة والنزعات القديمة . فهو يقيم المجالس الاستشارية ولكنه يغلب عليها ارادة الحاكم . وهو ينشئ المدارس ثم يغلقها فى غير ما تردد حين يرى تحقيقها للغايات القريبة التى يقصد بها اليها , وهو يقيم المنشآت الزراعية والصناعية الحديثة , فى الوقت الذى يتمسك فيه بسياسة اقتصادية عتيقة تكاد تنتهى بالبلاد الخراب . والنزعات القديمة تتغلغل لديه فىالمظاهر الحديثة وتكبح جمتحها بقوة تنبثق من شخصية سليمة لم يرتقها الشك أو يتطرق اليها التردد . وهى بعد شخصية حاكم عثمانى عريق من نسيج الحكام الذين قادوا المسلمين إلى الانتصارات الصليبية والمغولية وأقاموا حكم المماليك وبنى عثمان . فهو مثلهم لا يرى من الحكم الا الجانب العسكرى , ولا ينظر إلى الحياة المدنية الا كوسيلة من وسائل الانتصارات فى ميادين القتال , فيسأل القناصل ماذا لم يفعل لمصر ؟ ألم يعطها جيشا وأسطولا ومدافع ؟ زيقول لقنصل فرنسا انه يريد أن يكون فى كل وقت على أتم استعداد عسكرى حتى لا ينساه المسلمون . ويكتب لمديريه قائلا ان رفاهية مصر ترجع لجيشها . ويستنكر تفكير أوروبا فى حرمانه من بلاد أخذها بحد سيفه . واذاأراد أن يعبر عن نجاخ حكم أو ثراء ولاية ذكر عدد الجند الذين يستطيع أن يجندهم منها وهو مثلهم لا يفرق بين الناس الا بمقياس الدين , فلا يفهم لما تقف أوروبا فى جهه على طريق الآستانة وهو وسلطانه من دين واحد . ولا يدرك لم تخش أوروبا انفصاله مادام باقيا على اسلامه كما كان . ويعجب من استنكار القناصل التجاء الأسطول العثمانى إلى الاسكندرية ما دامت ميناء اسلامية كالآستانة . ويخطب فى قواد هذا الأسطول فيدعوهم ألا ينسوا أنهم ورجاله من دين واحد . وهو يصرف أمور المحكومين تصريف رب العائلة أمور أبنائه , فلا يفرق بين المالية العامة والمالية الخاصة , ويهدد مرؤسيه "بالفلكة" أن أهملوا فى تأدية واجباتهم , ويخاطب أعوانه مخاطبة الشيخ أبناءه القصر . وهوإلى ذلك يكاد لا يخرج طوال حياته فى تصور علاقته بالسلطان عن دائرة صلات الحاكم الاقطاعى بعاهله : فيبعد نفسه مكلاف بوضع سيفه وماله رهن مشيئة السلطان , ويرى فىارضائه الوسيلة المثلى للارتفاع إلى أسمى مناصب الامبراطورية , ويفخر بأنه لم يحكم مصر قط كما كان يحكمها على أيامه , ويغتبط أشد الاغتباط بتوليته اياه قيادة قواته فى اليونان , ولا يظهر فى نهاية حكمه الا وقد شد إلى وسط السيف الذى أهداه له بعد تصفية نزاعهما ,وما يرتفع به الحوادث إلى سماء الفلسفة السيساية حتى ينسى كل شئ ما عدا سلامة السلطنة العثمانية وضرورة العمل على صيانتها واصلاح أمرها . فيتحدث إلى خليل باشا رسول السلطان اليه فى أشد ساعات نزاعهما فى اعداد جيش كبير يذود به عن هذه السلطنة . ويداعب الأمل كل حين فى أن تدعوه الآستانة إلى تليل ما لم تقو على تذليله منمشاكلها المعقدة . ولم تكن فى رغبته فى الاستئثار بحكم مصر ما يتعارض شديد التعارض وتصوره هذا , فقد كانت السلطنة العثمانية تقطع ولاياتها إلى عهده , وقد وعده السلطان صراحة بشئ منذلك فى حرب الحجاز , وقال هو لقنصل فرنسا أثناء الحملة الانجليزية أنه سعمل على تثبيت أمره فى مصر والوصول بها إلى مركز ولايات أفريقيا الشمالية . ولم يفكر حين رأى ألا فائدة من محاولة التعاون مع السلطان فى غير الاحتفاظ بولايته لأبنائه ضمن نطاق السلطنة العثمانية . هو حامن عثمانى فذ شاء له عدم انتمائه إلى الطبقة الحاكمة العثمانية لعهده , وما اضطره اليه من فرض ارادته على هذه الطبقة فرضا , وتفكك اامبراطورية العثمانية الذى منعها من القضاء عليه قبل أن يستفحل أمره , أو الانتفاع بمواهبه حين استفحل , ووقوف أوروبا بينه وبين السلطان بما كانت تتمتع به وقتئذ من نفوذ فائق ,شاء له كل ذلك أن يقف ارتفاعه الطبيعى إلى سماء السلطنة , وأن يقصى عن مقرها الرئيسى ويزدهر فى الأقاليم , حيث أقام من ولايته دولة جديدة , استمدت من مركزها وشخصيته هو بريقا خاصا , وبقى طوال حياته بريئا من الانحلال الذى خص به حكام تركيا وقتئذ , ولا نزال نرى بعض أعراضه فى حكام الشرق إلى اليوم من جراء توزع ضميرهم بين الشرق والغرب . وهو يختم بذلك سلسلة الحكام العمالقة الذين أنجبتهم الامبراطورية الاسلامية ,ويضع حدا فاصلا بين عصرين مختلفين فى تاريخ هذا الجانب من الشرق الاسلامى بقامته هذه الجبارة التى تجعل منه ندا عظيما لبيبرس وقلاوون وأباطرة بنى عثمان الأولين . ولعل السلطنة العثمانية لم تخسر آخر أيامها مثل ما خسرت باقصائه عن مقاليد الحكم فيها . قلنا أن النزاع بين محمد على وحكومة ألآستانة انتهى إلى معاهدة لندن فى سنة 1840 . وكانت هذه المعاهدة تحقق نقطة التوازن بين ميول أطراف النزاع جميعا : كانت تحقق الغاية التى لا يستطيع محمد على بقواه السياسية الخاصة بلوغ ما يفوقها , وتشبع رغبة السلطنة فى المحافظة على وحدة السلطنة , وهى محافظة كانت لا تتعارض حينئذ واعطاء الولاة حق الوارثة مادام مقيدا تقييدا محكما , وترضى رغبة الدول العظمى فى الابقاء على الامبراطورية العثمانية واعطاء ولاياتها وخصوصا مصر الاستقرار الذى تحتاج اليه فى توسعها الاقتصادى . وكانت إلى ذلك لا تقفل الباب دون تحقيق الغايات الأخيرة لهذه الأطراف جميعا , فقد كان توارث الحكم فى مصر يمكن محمد على وأولاده من انتظار اليوم الذى يستطيعون فيه الاستقلال بولايتهم أو يقرر فيه السلطان الاستعانة بهم فيصلون إلى قمة السلطنة التى كان حكمها أمل جدهم الأكبر . وكان بقاء مصر ضمن نطاق الامبراطورية يمكن الآستانة من ترقب الساعة التى تقدرها على العودة بالحالة إلى ما كانت عليه . وكان اشتراك أوروبا فى تسوية النزاع بين السلطان ووزيره يعطيها المركز الممتاز الذى أرادته ويمكنها من الاشراف على شئون الطرفين . وقد كان الاعتراف لأبناء محمد على بحق الوراثة فى حكم مصر ينشئ بها أسرة حاكمة تتعاقب على عرشها فى الوقت كانت عودة الحياة إلىالبحر المتوسط تفتح فيه أمامها آفاقا واسعة , وكانت تركيا تميل إلى الأفول بعد أن بلغت غاية ما تستطيع أن تصل اليه امبراطورية قديمة , وكان يقيم بذلك مصالح العثمانية والأوروبية القائمة . وتاريخ مصر حتى قبيل سقوط اسماعيل هو تاريخ جهود هذه الأسرة فى تثبيت أقدامها ومحاولة تركيا استرجاع ما نزلت لها عنه من سلطان وتسرب الموجة الغربية من كل ثغرة تصل اليها فى بناء هذا الحكم الجديد . وكان محمد على قد عمد بعد عقد معاهدة لندن واطمئنانه إلى علاقته الجديدة بالسلطان إلى التقرب من تركيا وتجنب النفوذ الأجنبى بعد أن تلون بلون الوصاية ذك الثقيل , فزار الآستانة , ووطد صلته برجالها , وعارض فى فتح قناة السويس , ووضع يده على الموصلات التى أنشأتها الشركات الانجليزية , وجعل يتحاشى انجلترا بفرنسا وفرنسا بانجلترا محاولا التخلص منهما جميعا . وأتى عباس بعده فاقتدى به فى ذلك , وأبعد ابعادا كبيرا . فقد كان عباس يؤمن بسلامة هذه السياسة من تلقاء نفسه ويميل اليها ميلا طبيعيا , وهو قد ربى تربية عثمانية محضة , ولم يعرف الغرب من قريب أو بعيد , ولم يستطع أن يساير تيار جده وعمه فنأى عنهما فى آخر أيامهما وعاش على اتصال بمن كان ينكر سياستهما ويحقد على أعوانهما وبخاصة الأجانب . وما تولى الحكم حتى بادر إلى القضاء على بقايا هذه السياسة , فأنقص الجيش , وأزال ما كان يقوم على هامشه من نمشآت . وأقفل ما وجد من المدارس وهدم الأسطول الذى كان يصل البلاد بالخارج . وفرض القيود على الأجانب المقيمين بالبلاد , وتخلص ممن كان يعمل منهم فى المصالح والمعاهد . وفعل كل ذلك وهو يضع يده على ما فيه من وجوه النقص والاهمال وكأنه يعالج ما غر فيه جده . ثم أراد أن يتفادى قناصل الدول أيضا فانتقل إلى صحراء العباسية واحتجب عنهم هم الذين استعبدوا جده وكان هو يفضل عليهم السلطان لاسلامه ومسيحيتهم على الأقل . ولكنه ما كاد يصطدم بميل تركيا إلى انتهاز سياسته هذه الشرقية ومحاولة تضييق حقوقه حتى اضطر أن يخرج من عزلته هذه ويتقرب إلى ضامنى معاهدة لندن وانجلترا صاحبة الأثر البعيد فى نفسه ونفس جده على وجه الخصوص فأعانته انجلترا وتقاضته ثمن معونتها هذه خطأ حديديا تستخدمه تجارتها الشرقية بين الأسكندرية والسويس , ثم تركته يعود إلى صحرائه من جديد . وقد اعقب عباسا سعيد فعاد الاتجاه إلى الغرب , وعاد هذه المرة شديدا جارفا . وكان سعيد ولد فى مصر بعد أن استجمعت الأمور لوالده واتضحت لعينيه مشروعاته السياسية الواسعة وما يتصل منها بالتعاون الغربى فرباه تربية حديثة مع لفيف من المصريين تحت أشراف بعض الأساتذة من الفرنسيين . وقد أكسبته هذه التربية الحديثة شفغا بأشكال الحضارة الغربية , ولكنها لم تكشف له عن سر انحطاط العالم العثمانى الذى كان يخرج منه وكانت تكرهه فيه , أو تكشف له عن جوهر الازدهار الغربى الذى كان يبهره : لم تضع تحت عينيه المسائل بحدودها جميعا فيستطيع أن يتبين معالمها ويرى طريقه بينها , ومن ثم كانت مشاركته حكام الامبراطورية , الذين كانوا ينالون مثل هذه التربية وقتئذ , فى بوادر الانحلال التى برأت منها طبيعة جده , وسيره سيرتهم فى حب الظهور بمظهر الحاكم العصرى , والأخذ بأساليب الحياة الحديثة , وبغضه الأتراك الذين كانت أوروبا ترميهم حينئذ بكل نقيصة , وتقربه إلى المصريين ,واتخاذه لهجة قومية لا عهد لأحد من الحكام بها فى مصر من قبل , ثم مبادرته إلى تطبيق ما كانت الآستانة تحاول تطبيقه من التنظيمات ومبادئ الحكم الحديثة , كالقرعة والملكية الفردية وحرية التجارة , وابعاده فى ذلك بايعاز مستشاريه الغربيين الذين كانوا يهبطون عليه ولكل منهم مشروع يعرضه , وقنصل يوصى به , ويدافع عنه , ومواجهة كل ذلك دون أن يكون له مرجع ثابت يرجع اليه , أو طبقة حاكمة قوية تثبت خطاه , أو نظرة شاملة توجه سيره . وكان سعيد يشبه عباسا بعد ذلك فى براءته مما يمكن أن يعد طموحا سياسيا حقيقيا فيما عدا الاحتفاظ بالحكم , فهو لم يفكر فى توسيع ولايته أو الانفراد بأمورها الا حين هددت الحرب تركيا بالانهيار ,ولم يصطدم بالسلطان الا على سبيل الدفاع عن حقوقه المقررة ,ومن هنا خلو عهده من الرجات الشداد وما يصحبها من ارهاق فى الداخل , ورضا العامة على حكمه وتمكنهم تحته من الانصراف إلى امورهم والعمل على انمائها إلى حد بعيد . ونحن نجد فى هذا الجانب المشترك بين عباس وسعيد أحد وجوه الاختلاف بينهما وبين اسماعيل الذى ولى بعدهما , فقد كان اسماعيل بعكسهما ذا طموح وارادة واتجاهات خاصة . وكان قد أقام حينا فى النمسا وفرنسا , واتصل بحكامهما , واختلف إلى معاهدهما , ثم قضى بعض شبابه فى الآستانة متنقلا بين مناصبها الكبرى , ثم استقر فى مصر بين مزارعه ودوواين القاهرة . وكان يعرف لذلك الشرق والغرب معرفة مباشرة , ويعرف مشاكل مصر من قريب , ويصل من طريق هذه المعرفة إلى ما كانت طبيعته تجعله أن لا له من رغبة فى حكم حقيقى يصدر فى اتجاهاته عن وحيه هو لا عن وحى خارجى , ويتخذ تلك الأوضاع الغربية الحديثة التى راقته ,وكان حكام الشرق يحتذون على مثالها منذ قرن أو يزيد . وكانت الحياة المصرية تنذر حين ولى اسماعيل بتطور عاجل , فقد راينا كيف كان محمد على قد أقدم على الاستعانة بالغرب ولكن إلى حد , فلم يستقدم سوى الخبراء أو الصناع أو المشيرين , ولم يتوان فى العمل على اعداد الشرقيين الذين يحلون محلهم , ولم يطلق الحياة الاقتصادية من قيودها الحكومية الا حين فرضت عليه علاقته بتركيا ذلك فرضا . وأتى عباس من بعده فذهب بسياسة الحذر هذه إلى غايتها , ثم تولى سعيد فكانت حرية التجارة والصناعة والمواصلات كما أرادها الغرب , وكان تعاقب المهاجرين على مصر من كل صوب , ثم اقبال رؤوس الأموال الأجنبية ,ومصر وقتئذ فى مثل الظروف الاقتصادية التى وجدها الفرنسيون عليها حين هبطها نابليون , مضافا اليها اختفاء طبقة الملتزمين والتجار وأهل الحرف التى كانت تشغل قبل ذلك مركز الطبقيتن الثرية والمتوسطة فيها , بعد أن احتكرت الحكومة الزراعة والتجارة والصناعة جميعا , فتحول أربابها إلى أجراء , ولم يبق هناك الا مالك واحد هو ههذ الحكومة المحتكرة . وكانت الحكومة إلى عهد سعيد تحصل ما تستحقه لدى أجرائها عينا , ولا تملك رؤوس أموال سائلة تذكر , وتخضع إلى ذلك فى مزاولة سلطاتها جميعا للنفوذ السياسى الذى كانت تتمتع به الدول فى القاهرة بحق الوصاية التى خولته اياها معاهدة لندن . وكان قناصل هذه الدول يعاملون ولاة مصر وقتئذ كصنائع من عمل حكوماتهم , أو وكلاء عهد اليهم فى رعاية مصالحها , ويتولونهم بالثناء والوعيد . ومن ثم كان انتهاء الأموال القادمة إلى طرق أبواب الحكومة بصفتها المنتج الأكبر والوحيد الذى يريدها , أو السلطة الوحيدة القائمة التى يستطيع أن يتجه اليها أصحابها للحصول على ما يدعونه فى مجتمع لم تمهد أرضه للاستغلال الصناعى والتجارى , وفوزها على الدوام بما تريد , وانقلاب القناصل إلى سماسرة ينالون الامتيازات لأصدقائهم أو شركائهم , ويقرضون القروض ويتممون الصفقات , وتحولهم على كل حال إلى أدوات لهذا الغزو المالى الخاطف الذى كان يغزو الاقتصاد الزراعى المصرى ويعمل فيه عمله المحتوم . وكان أحكم ما يعرض على الولاة حينئذ من مشروعات مالية وأضخمها وأخطرها مشروعات عالمية تفوق حاجات البلاد , وتدور جميعا حول وصل مراكز الانتاج الغربية بمنابع تموينها , وأسواق استهلاكها , فى آسيا وأفريقيا , كسكة حديد السويس والقناة وسلسلة السكك الحديدية والتلغرافية والموانى والفنارات التى تمت تحت اسماعيل . فلم تكن سكة حديد السويس ـ حين دفع الانجليز اليها عباسا دفعا ـ تدور بخلده , أو تتصل بحاجات البلاد الاقتصادية اتصالا مباشرا . وما كان مشروع القناة ـ حين احتال دى ليسبس على سعيد للشروع فيه ـ بالشئ الذى تؤمن به أوروبا نفسها ايمانا صادقا , ومع ذلك نالت انجلترا سكة حديد السويس ثمنا لمساعدة عباس فى الاحتفاظ بحقوقه كاملة , ونال دى ليسبس قناة السويس ثنائه العاطر ووعوده السخية . ومضت القاهرة فى تنفيذ المشروعين بخطى سريعة كانت تثير أهل البلاد وعارضة الدول التى كانت لا تفيد من مثل هذه المشروعات فائدة مباشرة . وهكذا كان اسماعيل يجد خلف اراديته فى الحكم الحقيقى , حين ولى مصر , تيارا دوليا قويا , وروحا داخلية ظاهرة , ومن هنا اعتناقه السياسة التى كانت تنتهجها انجلترا فى محاربة مشروع القناة , ومن المنادة بوحشية السخرة التى كانت تلجأ اليها شكرة القناة , إلى ابراز الخطورة السياسية التى كان ينطوى عليها امتلاك هذه الشركة مساحات واسعة من الأراضى المصرية , إلى الالحاح فى انشاء قضاء منظم يضع علاقة الأجانب بحكومة البلاد ورعاياها فى حدود طبيعية , ويقفل الباب فى وجه الامتيازات التى كان ممثلو فرنسا ينالونها من حكامهم , ثم كثرة الاعتداءات على الأجانب التى صحبت ارتقاءه العرش . وقد أثارت هذه السياسة فرنسا فى وجهه فبدأت تناوئه وتهيج عليه الآستانة والرأى العام المصرى . وكانت الآستانة التى أراد هو الاحتماء بها تتردد بين لندن وباريس ولا تجسر على الانحياز لاحداهما . كذلك كانت انجلترا لا تريد أ، تسير معه إلى آخر الشوط , أو تغير من سياسة الشك التى كانت تتمسك بها ازاء أبناء محمد على . وهكذا اضطر هو أن يلين ويلتقى بشركة القناة عند النقطة التى ترضاها ولا تؤذى كرامته , ويدفع ثمن ذلك ملايين الجنيهات التى أقرضته اياها البنوك الفرنسية , وبخاصة حين وجد أن فرنسا كانت لا تزال الدولة الوحيدة التى يستطيع أن يلجأ اليها الولاة حين يريدون الوقوف فى وجه تركيا أو الحصول على ما يريدونه منها . وكان هو يريد الكثير , كان يريد أن يتخلص من قيود اتفاقية لندن وينشئ ملكية زاهرة كتلك التى أعجب ببريقها فى الغرب , ويصدر فى ذلك عن طموح شخصى لحياة تلك الملكيات , ومعرفة دقيقة لنقط الضعف فى الآستانة , ثم عزة نفس شديدة أو ورثة اياها الاتاصل بالغرب والشعور بضآلة مركزه . ومن ثم كان ميله لمحاولة شراء الأعوان فى مقر السلطنة دون الالتجاء للحرب , وكان التردد الذى يبدو فى نقط كثيرة من سياسته , وكان اهتمامه بالرأى العام الغربى أى اهتمام . وقد استطاع أن ينال حق الوراثة الذى أراده لأبنائه واللقب الذى أراده لنفسه ليخرج من زمرة الولاة العاديين . واستطاع أن يعيد الصفاء إلى جو صلااته بالآستانة حين أراد أن يتمتع بما أن نال من النجاح فى جولته بالعواصم الأوروبية قبيل القناة , ويحصل على ذلك القدر من الاستقلال الادارى والمالى الذى كان يحتاج اليه احتياجا شديدا لمحاولة السيطرة على الظروف المالية التى يواجهها حينئذ , فأنكرت عليه الآستانة ذلك وخاصمته . وكانت هذه الظروف المالية ترجع إلى ما اضطر أن يحتمله فى سبيل تسوية النزاع الخاص بمشروع القناة , وترضى السلطان , والتقرب من العواصم الغربية , ثم ما اختطه لنفسه من سياسة مالية أراد أن يتجنب بها ما انتهت اليه اتجاهات سعيد المالية من نتائج وخيمة . وكانت هذه السياسة تقوم على استثمار مرافق البلاد بانشاء شركات قوية كالتى كانت تقوم فى أوروبا لذلك الوقت , يعهد اليها بهذا الاستثمار , ويشترك هو ورجاله فى رأسمالها , ويخضعها لقضائه . وكان هو يقصد من ذلك إلى تنسيق الاستغلال الاقتصادى , والاسراع فيه , وتفادى الضغط الأجنبى من طريقه , ولكنه كان يعرض الخزانة العامة , وكانت مازالت منذ أيام المماليك المتأخرين لا تفترق عن مال الولاة , إلى أخطار الاستغلال التجارى , دون أن يستطيع بعد ذلك الاستغناء عن رؤوس الأموال الأجنبية وخبرة أصحابها , وما يصحب ذلك من تدخل قناصل الدول بنفوذهم السياسى العريض . وقد أخفقت غالب هذه الشركات كما تخفق مثيلاتها من شركات الاستغلال المالى الحكومية عادة وتحولت , مثل امتيازات سعيد , إلى وسيلة من وسائل ابتزاز الخزانة العامة . كذلك تحول القضاء المختلط , الذى أنشأه إلى جانبها ليحد به من تدخل الدول وتسربه من ميدان الأعمال المالية الفردية إلى دائرة الصلات السياسية , إلى أداة حجر على تصرفاته وماليته هو , فلم يكن الأمر بعد أمر قناصل يتكسبون أو يتحكمون , بل أمر أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة تتسرب من الغرب إلى المجتمع المصرى الزراعى القديم , وتتخذ فيه مكانها , وتفرض عليه قوانينها . وكانت هذه الأوضاع تفعل ذلك حينئذ فى جميع بلاد الشرق : كانت تفعله فى تركيا , وتفعله فى تونس , وتفعله فى بلاد العجم أيضا . ولكن هذا الاخفاق كان يدفع نفسه المغامرة إلى الابعاد فى هذه السياسة , ومحاولة الاستعاضة عما خسرو فيها , وتوسيع سلطانه التوسيع الذى يمكنه من المضى إلى غايته , بدل الوقوف به عند محاولاته الأولى . وهكذا كان يقيم السكك الحديدية والتلغرافية والقناطر والمبانى وهو يقترض . ويرشى السلطان ورجاله والعواصم الغربية وساستها ويرسل الحملات العلمية والعسكرية إلى أفريقيا وحالة البلاد المالية على شر ما يكون . ويصرف مليون جنيه على افتتاح القناة وهو يشارف الافلاس . وكان اسماعيل يمضى فى سياسته هذه بنفسية الشرقيين الأولين , الذين قضوا طرفا من شبابهم فى الغرب , فبهرتهم أنواره , وعادوا إلى بلادهم يتوقدون رغبة فى الوصول بها إلى ما وصل اليه أقرانهم هناك . وما تتيح لهم فرصة العمل لذلك حتى يندفعوا فى تغيير ما يحيط بهم وعيونهم مسددة إلى المثل التى بهرتهم . وهم يستعملون فى تغييرهم هذا وسائل البيئة التى نشأوا منها , ويصلون إلى نتائج تخالف النتائج التى ترقبوهم لاختلاف المادة التى بين أيديهم عن المادة التى صنعت منها مثلهم , وما ينتبهون إلى ذلك حتى ينتهوا إلى حالة بين الشك والاستهتار ويقيموا فى مكان منعزل بين عالمهم هذا الذى لم يعد يروق لهم وذلك العالم المثالى الآخر الذى يستطيعوا الانخراط فيه . وهم يكادون يبدون عندئذ بطبيعتين : طبيعة المزدرى للعالم الأول وما هو حقيقى بأن يصدر عنها من صرامة , وطبيعة الدخيل فى ذلك العالم الثانى وما هو قمين بأن يصحبها من تكلف . ومن ثم كان الطابع الحديث الذى جهد طوال حكمه أن يطبع مصر به , واسرافه فى المناسبات التى كان يقيمها لأهل البلاد والأجانب , وسعيه لتكوين أرستقراطية مصرية يزين بها بلاطه . وكان فى الوقت نفسه ما يأخذه بعض مؤرخيه على حكمه من استبداد واستهتار واقدام على أشد الوسائل للتخلص من الأعوان السابقين أو المنافسين الخطرين . وقد استطاع اسماعيل أن يدعم بسياسته هذه بناء الدولة المصرية الناشئة , وأن يدعم شخصيتها . واستطاع أن يوجه إلى القاهرة كثيرا من الرجال الأقوياء الذين كانوا يفكرون حينئذ فى مصائر الشرق ومشاكل اصلاحه , كالأفغانى ومريديه. ولكنه اضطر أن يستدين ليؤدى ثمن كل ذلك فى الداخل والخارج , واضطر أن يستدين بالشروط الباهظة , التى كانت ماليته الزراعية ومركزه الخاص من الامبراطورية العثمانية والدول الغربية وبعض الحظر الذى فرضته عليه الآستانة فيما يتعلق بالقروض الخارجية , ثم بقاء ادارته على الأسس المرتبكة القديمة , تدفعه إلى قبولها دفعا . وما توانى فى الوفاء بديونه حتى تداخلت مصالح دائنيه فى مصالح اللدول التى ينتمون اليها , وأرادت هذه الدول أن تقيد يديه وتحكم باسمه , وما كاد يرفض ارادتها هذه حتى أسقطته . ونحن نلمس فيما أسلفنا من سيرة ولاة مصر هؤلاء , فى الوقت الذى كانوا يمثلون فيه القوة السياسية المصرية الوحيدة , الدور الكبير الذى كان يلعبه الغرب فى الحياة العامة المصرية . نلمسه فى تحول النزاع بينهم وبين السلطان من نزاع اقطاعى داخلى إلى مسألة دولية مشعبة , ونلمسه فىأهمية المركز الذى كان يشغله الفنيون الغربيون فى جميع ميادين نشاط هؤلاء الولاة, وميدان النشاط الاقتصادى على وجه الخصوص . ونلمسه فى نحو حياة البلاد جميعا نحوا , نجد دوافعه فى اتجاهات الحياة العالمية أكثر مما نجدها فى مقتضياتها الخاصة, وينتهى لذلك إلى الخروج بظواهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية جميعا عن مجراها الطبيعى وافساد تكوينها وتشوية معالمها . وتلمس ذلك ونرى بعد أثره فى تحول تفكير الولاة ورجالهم أيضا من عدم الانقياد لتعاليم الغرب , الا تحت الضغط الخارجى , إلى السعى الملح لتأثر هذه التعاليم عن ايمان ورغبة فيها , وارتفاع الأساليب الغربية تبعا لذلك إلى مثل عليا يحتذى بحياة المصريين على منوالها , وشعور المصريين فى سبيل تحقيق ذلك إلى الحاجة للخبرة التى أنتجتها هذه الأساليب .

والغرب فى هذه الفترة ينظر إلى مصر نظرة الصانع إلى شئ من صنعه , فيذكر ممثلو فرنسا محمد على كل حين بأيادى حكومتهم البيضاء عليه ويصرح "السان سيمونيون" المرة تلو المرة أنه منفذ وصية نابليون الأمين فى مصر ويعد الموظفون الأجانب فى الحكومة المصرية نفسهم تابعين لحكوماتهم ويخاطبون زملاءهم المصريين وكأنهم أصحاب البلاد . ويختلف قنصل فرنسا فى الأسكندرية مع السلطات المصرية فيدعو مواطنيه صراحة إلى الوقوف فى وجه هذه السلطات .ويقول المسؤولون عن مشروع القناة فى عريضتهم إلى نابليون الثالث ان استقلال مصر من صنع فرنسا , ويطلبون تدخله على هذا الأساس زوالولاة يشعرون بما فى ذلك من خطر يهددهم فيتملقون هذا الغرب ويخشون ممثليه ويجتهدون فى كسب اعجاب الرأى العام فيه , حتى اذا أخفقوا فى ذلك عادوا يتجهون إلى الآستانة , عاصمة تلك الامبراطورية العثمانية الضخمة التى ظلوا إلى آخر أيامهم يعدون نفسهم من كبار موظفيها قبل أن يكونوا شيئا آخر .

الفصل الرابع: أعراض المراهقة

اسقطت الدول اذا اسماعيل قبل أن تستكمل الدولة التى أنشأها جده عناصر تكوينها جميعا . وكان سقوطه عاقبة النزول لها عن معنى الحكم الذى كانت هذه الأسرة الحاكمة الفتية تريد أن تزاوله ورغبة الدول فى تعهد مصالحها بنفسها بعد أن بلغت ما بلغت من نمو فى مصر ثم بقاء الحكم الذى كان يمثله من غير سند حقيقى يستند اليه : فلا هو بقى فى حظيرة الحكم العثمانى فيستطيع أن يلوذ بعطفه , ولا هو انخرط فى العالم الغربى الذى كانت ظروفه نشأته تدفعه إلى ابتغاء رضاه , ولا هو استطاع أن يثبت جذوره فى الأرض التى اتخذها فيتمكن من الاعتماد عليها فيما عسى يفجأ به من ضغط خارجى . وهكذا لم يثر خلع اسماعيل معارضة حقيقية وان كان معنى هذا الخلع , نعنى اتجاه التيار الغربى إلى الاستيلاء على الحكم . قد وجد من هذه الأرض بالذات تلك المعارضة المستميتة التىأدت إلى الثورة العرابية , ثم حركة سنة 1919 , ثم المفاوضات المصرية الانجليزية المتوالية . وقد سبق أن رأينا كيف أقصى محمد على عن مناصب الحكم العناصر التى كانت تنهض به منذ أيام الأيوبيين , بقضائه على النظم المملوكية , وكيف استعان بمن اجتلب من عثمانيين , واستقدم من فنيين غربيين , وعبأ من أهل البلاد , فى انشاء جيش حديث وادراة جديدة ومالية انشائية . وقد احتفظ خلفاؤه بهذا الجيش , وحاولوا اكمال هذه الادارة , وساروا حثيثال فى طريق تنمية هذه المالية الانشائية . فأبقى عباس على المدارس العسكرية الرئيسية , رغم غلقه المدارس عامة , ووضع سعيد نظام اقتراع ثابت مثل ما فعلت تركيا وقتئذ , واستقدم اسماعيل المدربيين العسكريين من امريكا , وعمل ثلاثتهم على اقامة الدواوين الجديدة وانفاذ المشروعات الاقتصادية الضخمة , فكانت الوزارات المختلفة , وكانت سكة حديد وقناته والسكك التلغرافية والمنشآت الزراعية والصناعية والتجارية الأخرى , وكان ما صحب ذلك من ارتفاع فى الدخل القومى , وزيادة فى عدد السكان ,وتطور فى الملكية الزراعية أيضا , اذ تبلور حق الانتفاع الذى أنشأه محمد على , وثبتت معالمه على أيام سعيد , وتحول إلى ملكية تكاد تكون تامة , حيث قبل اسماعيل مشروع المقابلة , ثم إلى ملكية تامة , بقانون سنة 1880 . وهكذا قام على أنقاض النظام المملوكى الذى كان يتنفس فى جو الأمة الاسلامية العالمى , وإلى جانب الأسرة الحاكمة الجديدة التى كانت تتعاقب على عرش البلاد , جيش أهلى , وطبقة من موظفين وطنيين , وطائفة ملاك زراعيين محليين , أى ظهرت مصالح أهلية تنفرد بأوضاعها الخاصة , وتصدر فى حركاتها عن نفسها , وتقيم هيكل مجتمع جديد . ونحن نشعر بظهور هذا المجتمع منذ الصدر الأول من القرن الثامن عشر فيما يذكره الجبرتى عن الكبرياء التى كان يثيرها الثوب العسكرى فيمن كان يجندهم محمد على من أ÷ل الريف وقفراء المدن , وما يقوله المؤرخون الفرنسيون عن النعرة التى كانت حملات الشام تثيرها فى جند ابراهيم , وما نلحظه من تردد معانى الوطنية فى كتابة رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وغيرهما من كتاب ذلك العصر , ووصف عرابى لأثر أحاديث سعيد معه فى أمور مصر فى نفسه ونفس من تصل اليهم من أهل البلاد . ثم نلمسه لمسا يسيرا تحت اسماعيل فى ظهور طبقة ذكية من رجال الحكم لا نجد لها نظي ا إلى جانب محمد على أو عباس أو سعيد , تصدر فى أعمالها عن تقدير مستقل لمصالح البلاد , وتحجب الجالس على العرش تارة وتقف فى وجهه طورا . فنوبار يضع الجانب الأكبر من سياسة اسماعيل الخارجية والمالية والداخلية ويرمى , بين ما يرمى اليه من انشاء المحاكم المختلطة , إلى الحد من سلطة الخديوى . وصديق المفتش يتزعم التيار الوطنى الذى أدى إلى وضع قانون المقابلة ,ويجالد التدخل الانجليزى الفرنسى فى مالية البلاد , وينتهى إلى سقوط صريعا فى سبيل مجالدته هذه . وشريف يرفض أن يصدر فى الحكم عن غير تقديره للأمور ويذهب بالتفكير فى اصلاح نظمه إلى حد المعارضة السافرة للخديوى . كذلك نلمسه فى الاتجاه الذى اتخذته الحياة النيابية المصرية فى الصدر الأخير من القرن التاسع عشر . فنحن نعلم أن اسماعيل أنشأ فى سنة 1866 مجلسا استشاريا يقوم إلأى جانب الدوواين الحكومية ويعينها على تأدية وظيفتها . وقد جعل هذا المجلس يظهر ويسنخفى دون أن يكون له أثر فى حياة البلاد حتى كانت الأزمة المالية , وتناوش اسماعيل ومدينيه , واتجاه فرنسا وانجلترا إلى التدخل فى الادارة المالية , اذ اخذ اسماعيل يشعر بالحاجة إلى سند يعتمد عليه , وجعلت قيمة المحكومين ترتفع فى جلبة العراك السياسى , وانتهى الأمر إلى تعاون اسماعيل وهؤلاء المحكومين , حين فكرت انجلترا وفرنسا فى الحجر عليه ووضع يدهما على ادارته , فكان قانون المقابلة , واقالة الوزارة المختلطة , ثم اقامة الحكم النيابى الحقيقى , اذ أجمع اسماعيل على المضى فى معارضة دائنيه , وطمح أهل البلاد إلى الاستيثاق من ثمرة تعاونهم هذا , وكان ما أعقب ذلك من ووقوف النواب الجدد فى وجه التدخل الأجنبى والفساد الداخلى وما أدت اليه وقفتهم من انفجار الثورة العرابية . وهذا المجتمع الجديد يتجه قليلا قليلا إلى الشعور بنفسه كشئ يختلف عن المجتمعات الأخرى , اسلامية كانت أو غير اسلامية : يتجه إلى تكوين ما ندعوه بالوعى القومى . فالطهطاوى يكتب فى الوطنية والتاريخ المصرى القديم وواجب العمل لرفاهية مصر , وهو أمر لا نجده فى الجبرتى مع قرب العهد بينهما . وعلى مبارك يضع لفظ "مواطن" للتفريق بين أهل البلاد وغيرهم . وعرابى يستعمل لفظ "المصريين" و "الأمة المصرية" بمعناه الحديث , وبعد من ليسوا من أ÷ل البلاد , سواء كانوا من الأرمن أو الأتراك , أى سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين , أجانب لا يحق لهم أن يحكموها , وهو أمر جديد أيضا لا نجد له أثرا فى التفكير المصرى منذ أن احتضنته الموجة المسيحية . وكتاب العصر الآخرون يشعرون بهذه الحقيقة , وان فى اضطراب , ويشعرون من يقرأهم بها أيضا بطريق أو آخر . والأسرة الحاكمة الناشئة تقوم فى هذا التحول بدور هام , فهى التى تلقى بذوره بسعيها الملح فى اقامة حكمها الجديد , وتنضج ثماره بكفاحها فى سبيل استكمال عناصر هذا الحكم , وتبرز باتجاها الانفصالى عن الامبراطورية العثمانية . فينشئ محمد على الجيش الذى ثار على الشراكسة أيام عرابى ويرسل البعثات العلمية التى ركزت الوعى الحديث ويثير حرب الشام التى بعثت النعرة المصرية , ويغذى ابراهيم بنداءاته وتصريحاته حركة الخروج السافر على الامبراطورية العثمانية , ويبعث سعيد , بتقريب أهل البلاد اليه واعادته اللغة العربية لغة رسمية ونفخه فى المصريين المحيطين به , الروح التى خرج منها عرابى , ويقضى اسماعيل حكمه عاملا على انشاء الأرستقراطية التى ثارت فى وجهه ووجه ابنه من بعده . وكل هذا يبدأ هينا ثم يغلظ ويتبلور , فالطهطاوى يكتب فى الوطنية المصرية ولكنه اسلامى قبل كل شئ , وعلى مبارك يقرب عنه إلى الفكرة القومية ولكنه لا يظهر وعيا مصريا كاملا . وعرابى يحيط الشعور المصرى بغلاف عربى اسلامى لا يزال يحيط بشعور الكثير منا حتى اليوم . وقد رأينا كيف كان محمد على وابراهيم يترددان بين الفكرة العثمانية والفكرة العربية . وكيف كان عباس وسعيد واسماعيل من رجال السلطنة العلية قبل أن يكونوا شيئا آخر . وكيف كان ثلاثتهم بعيدين عنم الشعور بقومية مصرية صحيحة بعد أهلا البلاد نفسهم عنها . وقد كان الحكام يدعون أ÷ل الباد , وكان أهل البلاد يدعون بعضهم البعض حتى مطلع القرن العشرين ب "الأهالى" و "العباد" و "الناس" و "أولاد العرب" كما كان الحال على أيام الامبراطورية الاسلامية . وهذا التمايز التدريجى يبدو بقوة نسبية بين الذين يواجهون مشاكل الحكم أو يشتغلون المراكز الرسمية أو يمثلون الصمالح المادية , ثم يضعف بين الطبقات الأخرى حتى يكاد يختفى بين المفكرين , ويظل مختفيا بين العامة إلى عهد قريب , نعنى أنه ينبثق من طبيعة الأمور , ولا يهبط من وعى سابق أو فكرة جديدة أو قديمة تجددت . فمحمد على يحس الفروق الكبيرة التى تقوم بين مصر وسائر السلطنة العثمانية رغم عثمانيته , وابراهيم يفوقه فى هذا الشعور وان لم يرتفع به ذلك إلى درجة الوعى المصرى . وقد كان الطهطاوى من أبناء الملتزمين الذين فقدوا التزاماتهمه وهبطوا إلى الفلاحة أو طرقوا أبواب الوظائف الحكومية , فكان اماما , ثم مبعوثا يدرس فى باريس ويتصل بمستشرقيها , ويطلع على بحوثهم فى تاريخ الاسلام وتاريخ مصر . وكان على مبارك أحد الصبية الذين انتزعوا من آبائهم وأغلقت خلفهم أبواب المدارس الأميرية ثم عادوا ذات يوم إلى عائلتهم فى ملابسهم "ولى النعم" الرسمية المقصبة . وكان عرابى من أبناء الريف الذين دخلوا الجيش وعاشوا فى بلاط سعيد واسماعيل . كذلك كان نوبار من حفدة باغوش ربيب محمد على . وشريف ابن قاضى تركى رباه محمد على أيضا . وصديق المفتش من المقربين إلى الأسرة الحاكمة . وسلطان باشا وزملاؤه المطالبون بالحياة النيابية والقائمون بشئونها بعد ذلك من الملاك الزراعيين الذين أقرضوا الخديو وشعروا بضعف مركزه فأرادوا أن يقاسموا سلطانه . كذلك كان العرابيون أول أمرهم ضباطا ثائرين على ما نزل أو خشوا أن ينزل بهم من ضيم , وقواد جند يريدون أن يشغلوا المراكز الرئيسية التى كان لا يشغلها لذلك الوقت الا الشراكسة , ويقبضوا على ناصية الحكم كوسيلة للدفاع عن نفسهم مما كانوا يدعونه الغدر الشركسى . وفى هذا ما يفسر بعض اتهام الشيخ محمد عبده العرابيين والعثمانيين والخديويين بالأثرة والهوى , وان كان ليس فيه ما يطعن فى حركتهم كحركة وطنية فليس فى تاريخ الحركات الوطنية حركة واحدة لا تتصل نارها من بعيد أو قريب بالمصالح المادية للذين أثاروها أو قاموا بها . وقد كان محمد عبده وأقرانه من مفكرى ذلك العصر يتجهون بعكس ذلك اسلاميا قبل كل شئ . فكان الأفغانى يجوب البلاد الاسلامية وكأنه يجوب المقاطعات المتجاورة فى البلد الواحد ويدعو أهلها جميعا إلى احياء الاسلام . وكان محمد عبده يكافح فى سبيل الأمة الاسلامية قبل كل شئ وكان صديقه وزميل كفاحه الشيخ رشيد رضا ينكر الروح القومية ويجدها بدعة مؤذية حتى آخر أيامه . وهذا الشعور الدينى هو الغالب على العامة فى منصر والبلاد الاسلامية الأخرى إلى اليوم . وآية ذلك ما انتهت اليه الحركة العرابية وما تنتهى اليه فى الغالب كل فورة شعبية من نوعها . والوعى المصرى الجديد يبدى فى اتصاله بالتيارات الخارجية مظاهر رد فعل بينة وان ضعفت , تبدأ فى الميدان السياسى , بحكم اشتداد هذه التيارات فيه وتكون طبقة حاكمة وطنية , ثم تمتد إلى الميادين الأخرى . وقد قاوم محمد على هذه التيارات , ومقاومها اسماعيل , ثم انتقلت المقاومة من الولاة إلى أهل البلاد , فكانت الثورة العرابية , وكان اخفاق كل هذا فى الدورة الأولى منه لحداثة هذا الوعى وميوعته وتوزع أفكار أصحابه فقد رأينا كيف محمد على عثمانيا قبل أن يكون شيئا آخر , وكيف سعيد واسماعيل يترجحان بين الشرق والغرب . ونحن نعلم أن الحياة النيابية لم تكن أول عهد البلاد بها الا شكلا من أشكال نشاط السلطة التنفيذية, وان هذه السلطة لم تكن حينئذ فى جوهرها الا صورة من صورالحكم العثمانى الفاسد بكل ما خص به من خشونة وقسوة واضطراب . وكانت الطبقة الحاكمة سواء القائم منها بالحكم أو المتربع على كراسى النيابة ما زالت تتلمس الطريق إلى العثور على نفسها فهى تتكلم لغة مهشمة بين عربية وتركية وتبدى أفكارا مشوهة بين تركية وعربية وغربية وتتخذ اتجاهات تتأرجح بين الحيطة الشديدة والشطط الأهوج . ومعاصرو عرابى يرجعون اخفاق حركته إلى جهله وعدم ايمان أعوانه بالقضية التى كانوا يدافعون عنها , ونحن لا نستطيع أن نقرأ تاريخ الحركة العرابية اليوم ولا نميل إلى الأخذ بهذا الرأى . وقد خسر الرجل المعركة فكان أول ما فكر فيه أن ينجو بنفسه من انتقام الشراكسة الذين خاصمهم وانتقام الحكومة التى كانت إلى عهده تلقى بأعدائها فى البحر "بعد أن تضعهم فى صناديق مقفلة مثقوبة" كما يقول فى تقريره وأن يلجأ إلى الانجليز . وخسر النيابيون معه معركتهم فنفضوا يدهم منها وانقلبوا إلى ديارهم راشدين . وقد دخلت مصر بالاحتلال الانجليزى الذى أعقب الثورة العرابية دورا جديدا من أدوار التطور الذى أخذت بأسبابه منذ نهاية القرن الثامن عشر , اذ كان التيار الغربى , الذى كان يؤثر فيها من خارج الحكم , يعمل فيها من داخله أيضا , بعد أن انتقلت السلطة العامة من الولاة إلى ممثلى أكبر دولة تستطيع أن تمثل هذا التيار وهى انجلترا . وكانت هذه السلطة تنتقل حينئذ إلى الأيدى الجديدة فى أوسع ما بلغته من حدود , وترتكز من طريقها على سطوة امبراطورية قوية , أقوى امبراطورية عرفها العصر الحديث . ولكن هذه الامبراطورية كانت تواجه فى البلاد خصوما ثلاثة : كانت تواجه معارضة الدول الكبرى التى هبطت الوادى باسم الذود عن مصالحها وعلى رأسها فرنسا , وتواجه برم العرش الذى قمت بحجة تثبيته , وتواجه سخط المحكومين الذين كانوا يقومون فى ذلك الحين بالذات بأول المحاولات الواعية للاشتراك فى حكم نفسهم . وقد كان من شأن معارضة الدول تلك أن بقى مركز انجلترا فى مصر دون سبق قانونى صحيح وان اتجهت السياسة الفرنسية فى القاهرة إلى الأخذ بيد الحركة الاستقلالية المصرية . كما كان من شأن تناطح صاحب السلطة الشرعية ومزاوليها غير الشرعيين أن جعل كل من الطرفين يجهد جهده فى تثبيت جذوره فى ميدان صراعهما المشترك واثارة الغبار فى وجه الآخر , والبحث عن الأعوان بين أهل البلاد . ومن ثم كان الدور الذى لعبه الخديو عباس فى حركة مصطفى كامل وكان التجاوب الذى حدث بين حزب الأمة ولورد كرومر . كذلك كان من شأن تزمر المجتمع المصرى الجديد أن ظهرت هذه الحركة الوطنية المصرية التى بدأت بمصطفى كامل وما زالت تتأجج نارها حتى اليوم . ونحن نشهد أثر هذا التحول فى الوجهة التى أخذتها حياة البلاد بعد الاحتلال فى جميع الميادين ولاسيما الميدان الاقتصادى . وقد سبق أن رأينا كيف تدهور الاقتصاد المصرى تحت العثمانيين حتى كانت الصناعة حين هبط الفرنسيون الاسكندرية خليطا من حرف بدائية لا غناء فيها , وكانت التجارة فى غالبها تجارة اقليمية محدودة . ورأينا كيف اتجهت سياسة محمد على فى هذا الميدان إلى الاستغلال الحكومى والتركيز والدفع إلى الأشكال الجديدة, وكيف اضطر فى الجزء الأخير منحكمه إلى الرجوع عن ذلك . ثم تولى سعيد واستجابت مصر من جديد إلى التيارات الغربية فظهرت المشروعات الاقتصادية الضخمة والاتجاه إلى نفاذها بمنح امتيازات الاستغلال للراغبين فيها , وما انبنى على ذلك من اقبال رؤوس الأموال الأجنبية . ثم أتى اسماعيل فكانت سياسة انشاء الشركات التى تشارك الحكومة فيها رؤوس الأموال الأجنبية هذه . وكان أبناء البلاد يقفون فى هذه الحالات جميعا بعيدا عن هذا الميدان , بعد أن فقدوا خبرتهم به أيام العثمانيين , وهبطوا بما كانوا يزاولونه منه إلى المستوى البدائى الذى كانت عليه حياتهم الاجتماعية فى نهاية القرن الثامن عشر و ثم قضى على كل احتمال لمقاومتهم باختفاء الهيئات التى كانت تجمع بينهم فى صدر القرن التاسع عشر , وتحولهم إلى اجراء للدولة الجديدة , وبقى الميدان الاقتصادى مقصور على عمل الحكومة ونشاط ممثلى الاقتصاد الغربى . ونحن نعثر بطلائع النشاط فى مصر منذ الصدر الأول من القرن الثامن عشر فيما نعلمه عن اقبال عليه المجتمع المصرى على استيراد الفاخر من ثيابهم وأثاثهم وأسلحتهم من الخارج وارتفاع عدد المهاجرين بين تجار الأسكندرية والقاهرة , وظهور الأجانب فى مصانع الأسلحة ببيوت الأمراء المماليك قبيل الحملة الفرنسية , ثم اتصال سياسة على الكبير الاقتصادية بسياسة حكومة البندقية , وفتح الانجليز طريق البحر الأحمر على أيام أبى الذهب , واحتياج محمد على إلى الفنيين الأجانب فى كل ماأخذ ةبه من أسبابا التعمير , وشعور عباس وسعيد واسماعيل بنفس الحاجة . وقد اشتد هذا النشاط بعد ذلك وتغلغل فى سائر فروع الاقتصاد المصرى حتى صار هذا الاقتصاد جزءا مكملا للاقتصاد الغربى قبل أن يكون شيا آخر . فلم تنشأ سكة حديد السويس كما رأينا الا بغية تسهيل المواصلات البريطانية مع الهند ولم تشق قناة السويس بعدها الا لسد حاجات التجارة العالمية , وظهرت البيوتات المالية الكبير فيما بعد , فكان أكبر عمل لها هو تزويد الأسواق الأوروبية بالخامات المصرية . وكانت البلاد توجه حينئذ انتاجها تبع حاجات هذه الأسواق قبل كل شئ فتزرع القمح اذا أرادت هذه الأسواق قمحا , وتزرع القطن اذا أرادت هذه الأسواق قطنا , وتربح أو تخسر تبعا لنزوع أو سقوط أثمان محصولاتها هذه فيها . وقد زار سعيد انجلترا فطلب اليه رجال الأعمال من الانجليز أن يزيد فى زراعة القطن وزارها اسماعيل من بعده فقابله ممثلو الصناعة الانجليزية واحتجوا على عدم اهتمام حكومته بتيسير اصدار الخامات المصرية اليهم . وكانت الأزمة التى انتهت بخلع اسماعيل أزمة مالية قبل أن تكون أزمة سياسية , كما كان أول مظاهر السياسة الانجليزية والفرنسية ازاءها هو المطالبة بتعيين فرنسى وانجليزى بوزارتى المالية والأشغال , وهما وزراتا الاستغلال المالى فى ذلك الوقت . وحدث كل هذا حدوثا هينا وبنفس الشكل الذى كان يحدث به فى ذلك الوقت بالذات فى تركيا وتونس وفارس والبلاد الشرقية الأخرى ولابد أن يحدث به كلما اتصل اقتصاد زراعى متأخر باقتصاد صناعى حديث . وقد اتسع هذا النشاط بعد الاحتلال الانجليزى فشمل أدوار الانتاج والتوزيع جميعا ز وكثر المشتركون فيه فصاروا يعدون بمئات الآلاف بعد أن كان عددهم لا يزيد على بضع مئات , أول حكم محمد على . وارتفعت رؤوس الأموال الأجنبية الموظفة فى مصر فبلغت 7.326.000 جنيه فى سنة 1892 و 6.280.000 جنيه فى سنة 1902 و 87.176.000 جنيه فى سنة 1907 و 100.152.000 جنيه فى سنة 1912 , فيما عدا الدين العام ورأسمال شركة القنال . وكانت ثلاثة أرباع هذه الأموال تشتغل بالاستغلا الزراعى والعمليات المتصلة به من توزيع وتصدير , بينما كان الباقى يشتغل بالخدمات اللزمة للمجتمع القائم على هامشه من نقل واضاءة الخ . . . , وتبعث حركة تصدير ترتفع قيمتها فى سنة 1912 إلى 30.662.000 جنيه , بلغت نسبة القطن فيها 93% , وحكرة استيراد ترتفع قيمتها فى سنة 1913 إلى 27.865.000 جنيه , استنفدت غالبها المنسوجات والمنتجات المعدنية , وتوجه بذلك اقتصاد البلاد نحو التوسع فى الاستثمار الزراعى والاعتماد على الاستيراد فيما يتعلق بالمنتجات المصنوعة . وهذا النشاط الاقتصادى يتركز فى يد العناصر الأجنبية التى تموله وتشرف عليه وتنهض بشئونه جميعا فيما عدا الأعمال البسيطة التى لا يمكن جلب من يقوم بها من الخارج جلبا اقتصاديا . وغالب هذه العناصر من أنشط من نشأ فى الغرب من تجرا وصناع وفنيين زاولوا مهنهم فى أشد من ظروف مصر , أى هى العناصر التى كانت تنقص المجتمع المصرى بعد أربعة قرون من الحياة الزراعية المغلقة . وهذه العناصر تحتفظ بعد هبوطها البلاد بدينها ولغتها وعاداتها فتقوم بذلك بينها وبين المجتمع المصرى طبقة عازلة تفصل بينهما . ويزيد من صفاقة هذه الطبقة استئثار هؤلاء الأغراب مع قلة عددهم بالثروة المنقولة وقنوع أهل البلاد بالثروة الزراعية , اذ يتأثر وضع كل من المجتمعين بطبيعة الاقتصاد الذى يزاوله , فيكون المجتمع الأجنبى مجتمعا مدنيا رخى الحال خفيف الحركة رائق الاشكال , يكون المجتمع الوطنى مجتمعا زراعيا محدود الربح بطئ الحركة متواضعا , ويبلغ هذا الاختلاف حد أن تتأثر به النظم العامة أيضا فتكون للأجانب قوانين ومحاكم وادراة خاصة تكتسب من شدة الظاهرة التى لفظتها واستنادها إلى النفوذ السياسى الأوروبى حيوية بارزة وتصير بذلك لسانا أوروبيا ممتدا فى صميم المجتمع المصرى ز وقد كان المجتمع المصرى يتكون فى سنة 1882 من 6.804.021 شخص لا يكادون يعرفون غير الزراعة , فصار 2.258.005 منهم يعملون فى سنة 1907 فى الزراعة و 356.425 يعملون فى المرافق العامة و 135.645 يعملون فى التجارة و 101.026 يعملون فى النقل . وكان غالبه يعمل أجيرا لدى الدولة أول حم اسماعيل , فتكونت له طبقة من أثرياء الملاك لا يقل عددها فى سنة 1913 عن 40 ألف شخص , وظهرت على سطحه طبقة من مزاولى الأعمال الحرة بلغت عدتها فى سنة 1913 135.733 شخص . وكان ينتشر فى الريف ولا تكاد تقوم له فيما عدا القاهرة والاسكندرية مدن حقيقية , فأخذ يتجمع عند عقد المواصلات ومراكز التصدير والاستيراد فى القاهرة والاسكنديرية والمدن الأخرى , وينشئ بها حياة حضرية تحمل ميسم طبيعته الزراعية هذه وأثر التيار الجديد الذى يعمل فيه . ففى هذه المدن يلتقى أبناء البلاد من ريفيين وحضر قريبى العهد بالريف من مستخدمى المنشآت التجارية الجديدة وموظفى الادارة الحكومية ومزاولى الأعمال الحرة بأولئك الأجانب الذين قدموا البلاد ليعموا فيها , وكانوا يعيشون إلى جانبهم ويعملون معهم فى ميدان الانتاج . وهم ينكرون هؤلاء الأجانب وينظرون اليهم شذرا ويحذرونهم اذ هم يشعرون بضآلة الدور الذى يقومون به فى ميدان هذا التعاون المشترك وينفسون على هؤلاء الأغراب حياتهم هذه الأنيقة ويرون فى نشاطهم الصناعى ـ التجارى وأرباحه السريعة ابتزازا لكدهم ومالهم ليس بعده ابتزازا . وقد يزيد من ألم شعورهم هذا اشتارك باعثيه فى المسييحة تلك التى كانت لا تزال فى نظر السواد الأعظم منهم عنصر التفريق بين المجتمعات ثم مشاركتهم فى المصالح والتفكير أولئك الغاصبين من الانجليز الذين كانوا يزالون السلطة العامة حينئذ . كذلك يشعر الأجانب بعلو شأن الدور الذى يشغلوا مثله فى بلاد استكملت نظمها الاقتصادية والاجتماعية و السياسية ويجتهدون فى الذود عن المراكز التى نالوها بذلك الاستهتار الذى يثيره الشعور بضعف المنافسين والقيام فى بلاد غريبة لا رقيب فيها من السلطة العامة أو البيئة الاجتماعية وشئ من العداء الدينى والعنصرى لا شك فيه أيضا . ولكنهم يتفاعلون بحكم قيامهم جنبا إلى جنب وخضوعهم جميعا لأثر البيئة الطبيعية المشتركة , فيتأقلم الأجانب خصوصا المستوطنين منهم حتى يكادوا يضيقون بالقامة فى بلادهم اذا عادوا اليها ويسيرون على كل حال لى اتخذا عادات المجتمع الوطنى والتحدث بلغته والاندماج فيه . ويتجه المصريون إلى الأخذ بأساليب الحياة الغربية عن رغبة فيما لهذه الحياة من رونق يروقهم ويبعدون فى ذلك قبل أن يكمل تحول حياتهم إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التى تبعث هذه الأساليب , فيسقطون فى الالتفرنج وهذا الاختلاف العنيف بين الحياة فى المنازل والحياة خارجها , ثم يلحظ الآن على الجيل الجديد من تكالب على الربح العاجل لمواجهة مقتضيات الحياة العصرية ومخلفات الحياة القديمة وبخاصة قلة الدخل الزراعى وكثرة نسل العائلة الزراعية وثقل التزاماتها . وهذا التفاعل بين المجتمع المصرى والمجتمع الغربى سريع بين غير المسلمين من أبناء البلاد الشرقيين النازلين عليهم , بطئ بين المسلمين , وهو بين الفريقين أنشط فى محيط المتعلمين والمشتغلين بالحياة الصناعية والتجارية منه بين من عداهم . والأمر فى الحالة الأولى أمر التجاوب الدينى , فالمصرى والشرقى المسيحى عموما لذلك العهد أقرب إلى الأجنبى المسيحى منه إلى المصرى أو الشرقى المسلم , وفى الحالة الثانية أمر الاستجابة للظروف الاقتصادية والاجتماعية التى تصحب الحياة الصناعية الحديثة حيثما وجدت . وهو فى الحالتين مصدر هذه الحياة المهلهلة التى نجدها لعهدنا هذا خصوصا فى المدن الكبرى , حيث تقوم هذه الدور العصرية , التى لا تختلف فى شئ عن دور مدن الغرب , إلى جانب البيوت المتواضعة التى تمثل مجتمعا آخر قبل أن تمثل عدم مساواة اجتماعية حقيقية , وتلتقى أحدث الأزياء العصرية بأزياء الشرق القديم وتختلط العربية باللغات الأجنبية فى كل مكان . ولم تكن السياسة المسيرة لهذا المجتمع تبدى إلى بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ما من شأنه الخروج به من هذه الأوضاع السقيمة إلى حياة كاملة يحياها لنفسه فاتجاهها العام طوال القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين اتجاه زراعى يرمى إلى تنمية المحصولات الزراعية التى يمولها الغرب كما يشاء ويشتريها بالأسعار التى يريد ثم يبيع أصحابها ما يحتاجون اليه منها بعد أن يحولها إلى منتجات مصنوعة . وهى تقصد بصفة عامة إلى تثبيت أهل البلاد فى وضعهم وقتئذ من المجتمع الغربى بتضييق آفاقهم وابعادهم عن مقومات الحياة الحديثة وتشويه ماضيهم التشويه الذى يلقى فى روعهم أنهم لم يكونوا قط غير ما كانوا أو خير مما كانوا . وهكذا كان القطن المصرى يزرع ويصدر إلى حد كبير بأموال انجليزية , وكانت معاهدنا الحديثة تقوم الواحد بعد الآخر بالرغم من معارضة الحكام , وكان تاريخنا القديم والقريب ومازال يدرس فى مدارسنا تدريسا بادى التشويه واضح الأغراض . وليس يعنينا هنا أن نستوضح هل كانت هذه السياسة تصدر عن ارادة مبيتة لابقاء مصر فى الوضع الذى كانت تشغله من النظام الاقتصادى ـ السياسى الانجليزى أو تنبعث عن خطأ فى تقدير الحكام أو ترجع للظروف المالية التى كانت عليها مصر فى القرن التاسع عشر , ولا إلى شئ عداها , فاننا كما بينا نردها فى الأصل إلى الفروق التى وجدها الشرق والغرب بينهما حين عادا إلى الالتقاء فى القرن الثامن عشر . والمهم عندنا هو أن دخول انجلترا مصر أعقبه اتساع فى التيار الغربى الذى كان ينفخ فى أطرافها منذ القرن الثامن عشر , وأن انتقال السلطة إلى يد الانجليز صحبه الاتجاه بالنمو الذى كانت تمضى فيه , سواء بقواها الخاصة أو بدفع هذا التيار , إلى خدمة المجتمع الغربى إلى حد بعيد , وأن العامل الأكبر الذى كان يتسلح به التيار الغربى , سواء حين اتخذ شكل النفوذ السياسى أو شكل التأثير الاجتماعى , كان العامل الاقتصادى الذى كان ينقص المجتمع المصرى حينئذ بحكم الظروف التى أحاطت به تحت المماليك . وقد ظل المجتمع المصرى محتفظا بطابعه الزراعى ذلك حتى قبيل الحرب العالمية الثانية اذ ظهرت صناعة الغزل والنسج والصناعات الأخرى التى شهدنا ازدهارها أثناء هذه الحرب ونشهد كفاحها الآن . وهى صناعات تختلف عن ما عهدته مصر فى القرن التاسع عشر من حيث قيامها كثمرة من ثمرات التفكير الاقتصادى الفردى فلم تكن ضرورة من ضرورات الحرب أو المالية العامة كصناعات محمد على أو صورة من صور النشاط الحكومى كغالب صناعات اسماعيل . واحتوت على جناح مصرى بحت هو جناح بنك مصر وشركاته . ولكنها تشاركها فى قيام غالبها برؤوس أموال أجنبية وتركز ادارتها وقواعدها الفنية إلى حد كبير فى يد ممثلى رؤوس هذه الأموال . وهذا التوسع الصناعى يتضافر وانتشار التعليم , ثم استعادة البلاد سلطتها التشريعية فى سنة 1936 , وما انبنى عليه من خضوع الجاليات الأجنبية التى تشتغل بهذا النشاط لنفس القوانين التى تنظم حياة بقية المجتمع , إلى دفع ظاهرة التفاعل بين الحياة المصرية والحياة الغربية , التى أشرنا لها , إلى الانتشار وانشاء طبقة صناعية جديدة تتكون ـ فى الأسفل من عمال وموظفين يبلغون فى سنة 1937 , 379..37 عاملا وموظفا , ويرتفعون فيما بين سنتى 1939 و 1945 إلى نحو مليون ـ وفى الأعلى من طاقة من الفنيين وأصحاب المصانع والشركاء فى الشركات المختلفة . وهذه الطبقة الجديدة لا تزال تتذبذب بين التكوين الزراعى الذى نشأت عليه والتكوين الصناعى الذى تتجه اليه , فالب عمال الصناعة يأتون من الريف ويترددون عليه ويتزوجون منه أصل زراعى ويجمعون بين الأعمال الصناعية والزراعية فى وقت واحد ويهتمون بهذه أكثر مما يهتمون بتلك العادة . ومن هنا صدى العقلية الصناعية لديهم , وقلة من يدعون "بالمقاولين" , نقصد أصحاب المشاريع الصناعية والتجارية الحقيقيين بينهم . وقنوعهم فى الغالب بتوظيف بعض أموالهم فى الصناعة أو التجارة . وهذا التكون القلق لعقليتنا الصناعية يتضافر وقلة عدد الذين يحملونها فى الحد من تأثيرها فى الحياة العامة . ونحن نشعر الان فى المدن بوجود عمال الصمناعة ونكاد نشعر به فى الريف أيضا لما يحدث من اتجاه الشباب الريفى إلىالمراكز الصناعية ونشهد ظهور طبقة من موظفى المؤسسات الصناعية والتجارية فى دور التكوين . كما نجد فى مجالس المنشآت أسماء مصرية غير قليلة ولكننا لا نجد أثرا لكل ذلك فى تكون الطبقة الحاكمة أو اتجاهاتها , فالغالبية الساحقة من أعضاء هيئتنا التشريعية زراعيون , ومن النادر أن نجد وزيرا غير زراعى أو حقوقى أو موظف سابق , قد يكون له نصيب كبيرا أو صغير فى منشأة صناعية ولكنه مازال زراعيا تكوينا ومصلحة واتجاها . وهنا نضع يدنا على خصلة هامة من خصال مجتمعنا الحديث ,فهو كما رأينا مجتمع زراعى يتجه إلى الاقتصاد الصناعى . ولكن هذا الاقتصاد الصناعى الذى ينتهى إلى مشاركة التجارة الخارجية فى التحكم فى حياة البلاد الاقتصادية جميعا , اذ هو الذى يشترى محصولات الأرض ويحولها ويلقيها إلى الاستهلاك , وهو الذى يمول بالضرائب التى يؤديها مرافق حياتها الجديدة , وهو الذى يعطى عملا لمن يزيد عن حاجات العمل الزراعة , هذا الاقتصاد مازال يتركز فى أيد أجنبية تقوم بينها وبين المجتمع الوطنى حدود من الفوارق الجنسية والدينية والفكرية . وهو بحكم وضعه هذا يؤثر فى المجتمع الوطنى من حيث المشاركة فىتنمية ثروته واعداده عناصره الصناعية وتجديد حياته ولكنه لا يؤثر مباشرة فى الحكم ولا يشترك بالتالى فى وضع التشريع الخاص به لأنه لا يتمتع بالحقوق السياسية ولا يعقل أن يتمتع بها فى دولة حديثة تقوم على التفريق القومى . وقد عاد الحكم إلى أبناء البلاد بمعاهدة سنة 1936 المصرية الانجليزية يعد الكفاح السياسى الذى بدأ بمصطفى كامل . ومصطفى كامل من بيئة على مبارك , نقصد من ثمرات العهد الجديد , فهو ابن مهندس تربى فى المدارس الأميرية وخدم فى الجيش واختلف هو أيضا إلى المدارس الأميرية فلم يتصل بالأزهر صغيرا أو كبيرا ثم التحق بالمعاهد الفرنسية فى القاهرة ثم فرنسا , وقد رأينا كيف كان الجيش المنبت الأول للفكرة المصرية ونحن نعلم أن الخديو عباس ما كاد يرتقى العرش حتى أنشأ يهيج طلبة المدارس الأميرية على الانجليز وقرب اليه مصطفى كامل ولم يقطع صلته به حتى غادر كرومر مصر . كذلك نعلم أن مصطفى كامل كان وثيق الصلة ببمثلى فرنسا فى الوقت الذى كانوا يعملون فيه فى مصر على معاكسة السياسة الانجليزية . ونحن نرى أثر تربية مصطفى كامل بالمدارس الأميرية والمعاهد الفرنسية فى تفكيره والوجهة التى اتخذتها حركته . فهو بلا منازع أول مصرى اكتمل لديه الوعى المصرى وأدى هذا الوعى تأدية من يشعر بمعناه شعورا لا تردد فيه , وان ظل يتمسك بفكرة الوحدة العثمانية التى كانت تعتمد عليها سياسة الخديو عباس حينئذ مع من يتصل بهم فى الملاءمة بينه وبين هذه الفكرة فى كتاباته وأحاديثه مع من يتصل بهم من ساسة غربيين .وهو يعتمد على فرنسا فى محاولة استخلاص مصر من الانجليز ويأخذ من الفرنسيين أسلوبهم فى نقد هؤلاء ولا يكف عن ذلك حتى يرى بعينيه تخلى الفرنسييت عن القضية المصرية . وهو إلى ذلك أول مفكر مصرى نقرأه فنكاد لا نجد له الا ثقافة غربية , يختلف حظها من العمق والاتساع ولكنها غربية فى جوهرها وطابعها . فهو يطرق الأبحاث القانونية فيكتب فى "الادارة" و "الرق عند الرومان" . ويريد أن يفيد بمجلته المدرسية فيغمرها بالبيانات عن أوروبا والطرائف المقتطفة من المراجع الأوروبية . وهو يخطب وينشئ فلا ينسى أن يقول أن أوروبا فيها ذلك . وهو يكتب إلى أخيه برغبته فى دخول مدرسة الحقوق الفرنسية فيقول له أنها مدرسة "الحري" ومن "صنع فرنسا" , ثم يكثر من الكتابة فى معنى الوطنية وينشر الأناشيد التى تمجدها ويذكر حق المحكومين ويريد أن يكونه حكم البلاد إلى الأذكياء المتعلمين من أبنائها . وهذه جميعا أفكار جديدة لاشك انها أو أن لهجتها على الأقل ليست من نتاج التربية الشرقية الخالصة فى ذلك الحين . وتربية مصطفى كامل هذه الجديدة تنتهى به إلى تصور أوروبا وعلاقتها بالشرق والوسائل القمينة بسد الفراغ القائم بينهما تصورا أقرب إلى اتجاه مفكرى القرن العشرين منه إلى اتجاه المفكرين الذين سبقوه . وهو يتحدث يوما إلى على مبارك فى ذلك فيقول له أن تقدم أوروبا يرجعغ عنده إلى العقائد السياسية التى تؤمن بها طبقتها الحاكمة وانصراف هذه الطبقة إلى خدمة الشعب واثابتها الصالحين من أبنائه . ويكتب فى وصف له للقسم الشرقى من معرض ليون الفرنسى فيقول : "أن للشرقى الذى يزوره أن يبكى وأوطانه ويندب بعد ذلك قومه وعشيرته ويأسف على بلاد ضاعت من أبنائها بالحقد والحسد بعد ذلك قومه وعشيرته ويأسف على بلاد ضاعت من أبنائها بالحقد والحسد وذهبت غنيمة الغرب بسبب حب الذات المستحكم بين أهلها ودس الأجنبى" . ثم يبدى الشك فى حكمه الاتجاه الغربى الذى أراده جيله لمصر , فيقول فى وصفه ذلك أنه كلم حراس هذا القسم الجزائرين بالعربية "فسألونى عن تقليدنا للأفرنج فى الملابس , لإاجبتهم جوابا فى الحقيقة غير مقنع" . ونحن نلمس هنا أثر هذا التثقف بالثقافة الأجنبية دون أساس شرقى تستند اليه فى تفخيم الحياة الغربية لدى أصحابه ونرى الجزع الذى مازل الاطلاع على حضارة الغرب يبعثه فى نفس أجيالنا الجديدة وما يصحبه من سعى لتعليل هذه الحضارة بالفضائل الأخلاقية التى تنسب للغربيين حينا وحكمه حكامهم حينا آخر ثم ما يحيط بذلك من حيرة من شأن الطريق التى أخذتها مصر هلى هى الطريق الصواب وما حكمة سلوكها على كل حال دون أية طريق أخرى . وكما قام الحزب الوطنى مستندا أول أمره إلى العرش نشأ حزب الأمة على صلة بوجود الانجليز . وقد ورث حزب الأمة من الحركة الوطنية التى سبقت الاحتلال مجافاتها الخديو ونزعتها الاصلاحية . وكان يتكون فعلا من أبناء الملاك الزراعيين الذين اشتركوا فى الحركة العرابية وبعض المفكرين المجددين ويتجه إلى معالجة مشاكل البلاد الاجتماعية بحكم صلة رجاله بمصالح البلاد المادية وهى مصالح كان تنظيمها لا يتعارض وقتئذ وسياسة الانجليز بينما كان نشاط الحزب الوطنى يتجه فى الغالب إلأى الدعاية الوطنية واستمالة الرأى العام الدولى بحكم صلته بسياسة الخديو وفرنسا وقرب عهد البلاد بالاحتلال . وقد حرم انقلاب السياسة الانجليزية , بعد عزل كرومر , من مناوأته السلطة الشرعية إلى مصافاتها ـ حرم الحزب الوطنى وحزب الأمة من الدعاية الخارجية التى كانا يعتمدان عليها وتركهما لقوامها الخاصة , فمال الحزب الوطنى إلى انتقال الخديو واتجه حزب الأمة إلى مهاجمة السلطة المحتلة واشترك الاثنان فى المطالبة بالحياة النيابية حتى خفت صوت الحزب الوطنى بعد وفاة الرجلين اللذين قام على أكتافهما وتحول حزب المة إلى حزب الوفد , عقب الحرب العالمية الأولى , وسلم قيادة لسعد زغلول . وسعد زغلول ينفرد دون عامة كبار ساسة مصر فى القرن العشرين بنشأته المصرية الفاقعة ومروره بجميع أطوار الحياة المصرية بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين . فهو قد نشأ فى البيئة الريفية الوطنية واختلف إلأى الأزهر أيام الأفغانى ومحمد عبده واشترك فى الحركة العرابية ثم درس الحقوق الفرنسية وصاهر مصطفى فهمى صديق الانجليز , أى جمع إلى التربية المصرية والثقافة الأزهرية المجددة شيئا من الثقافة الغربية ووفد من التيار الدستورى العرابى على بيئة المتصلين بالانجليز . ومن ثم كان اختلاف معنى الوطنية عنده عنه عند مصطفى كامل وعند معاصريه فهى لم تكن لديه الحس المرهف والجرح الدامى والتفزز المتصل الذى كونته لدى مصطفى كامل بنيته العلية وقرب عهده بالعدوان الانجليزى واتصاله المباشر بالغرب . ولم يكن الشعور بما بين مصر والغرب من فروق تؤدى التربية الغربية , وما يصحبها فى العادة من ابتعاد عن القوى الشعبية , إلى التهويل من قدرها والرغبة فى تخطيها كما كانت لدى ثروت وعدلى ومحمد محمود . وانما كانت عزة نفس قوية ونفرة مهضوم وأباء ؤيفيا عريضا , كانت مجموعة صفات أخلاقية , ان صح تعبيرنا هذا , صقلتها الجبلة الريفية والتربية الاسلامية والثقة بالنفس , وهى ثقة عززتها بعد ذلك الانتصارات الشعبية الساحقة , فهو بلا شك أقوى من استطاع هز ضمير المصريين والشرقيين على وجه العموم فى الصدر الأول من القرن العشرين . ومن ثم كان أيضا قبوله الحكم والتعامل مع الانجليز المسيطرين عيله ومحاولته حل القضية المصرية بمراودتهم بعد أن تأصلت جذور الاحتلال وألف المصريون مظاهرة ويئسوا من معاونة تركيا وفرنسا لهم فى مناهضته مناهضة جدية . وبسعد زغلول اصبحت الحركة الوطنية حركة مستقلة تستمد قواها من ذات نفسها , وتقتعد مكان الصدارة من الحياة السياسية المصرية . وقد انصرفت هذه الحركة أول الأمر إلى منازلة المحتلين وبخاصة فى المؤتمرات الدولية . ثم أعلن تصريح فبراير سنة 1922 وصدر الدستور , فجمعت إلى ذلك السعى إلى الحكم كحق من حقوقها الأصلية والوسيلة المباشرة لمعالجة علاقاتها الخارجية والعناية بمصالح البلاد عناية مصرية صميمة . وأبرمت المعاهد المصرية الانجليزية فى سنة 1936 فمالت إلى محاولة تعهد هذه المصالح . وكانت هذه الحركة تنمو أثناء ذلك وتتشعب فى جداول صغيرة تتخذ مكانا خاصا من المجرى العام وتقوم أحزابا يفترق بعضها عن العض ولكنها تشترك جميعا فى نسيجها وتفكيرها ووسائلها : فهى على كل حال لفيف من الملاك الزراعيين وخريجى المدارس الجديدة ولا سيما المحامين والأدباء وطلبة العلم . وهى على كل حال تعد القضية المصرية مسألة اقناع يحاوله أصحاب حق يريدون استعادته كما يحملوا غاصبى هذا الحق على رده فى سبيل المحافظة على مصالحهم الخاصة. وهى على كل حال تتخذ شكل الدعاية الصحفية والمساعى الشخصية , وتلجأ إلى هذه وتلك فى الحكم وخارج الحكم على السواء . ووضع المسألة هذا الوضع يهبط بها من مستوى النضال بين أمة تريد أن تستقل ودولة تريد أن تستعمر إلى مستوى التحايل على الفوز بالحكم بين بضعة أفراد يطمحون اليه وممثلى الدولة المحتلة التى تتصرف فى أمره . وهؤلاء الطامحون لا يجدون وراءهم عادة سوى صلاتهم الخاصة وما قد يعملون على اثارته من تيارات شعبية لا يطول أجلها لعدم صدورها عن مصالح واعية , ومن ثم انتهاؤهم فى الغالب للاستناد إلأى احدى السلطتين القائمتين , أى سلطة العرش أو سلطة المحتلين , وتحول الأزمات المصرية عادة إلى مناوشات بين هاتين السلطتين , وقنوع المجالس التمثيلية الوطنية فى هذه المناوشات بدور ثانوى . واتجاه حركتنا القومية هذا الاتجاه يقصى عن مجالها القوى الشعبية التى لا قوى لديها دونها , فما دامت الجماهير شاعرة بأن الأمر لا يعدو أن يكون أمر وصول بعض الرجال إلى الحكم , ولا تجد لدى من يحكم منهم ما يتصل بحياتها اليومية , ولا ترى نهاية مقارعتهم المحتلين أو مواقعها الهامة , فهى منتهية إلى عدم الاهتمام بها , اللهم الا فى الأزمات المستحكمة التى ينقلب أثناءها الأمر فيصير أمر كرامة تمنع . ومن هنا قصور حركتنا القومية على طلبة العلم قبل كل شئ وما يعتور حياتنا البرلمانية من نقص وقلق , وخضوع الانتخابات النيابية لدينا إلى سلطان السلطة التنفيذية , ثم بقاء الأداة الحكومية دون تعديل أو اصلاح , واهمال الدولة لدينا الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد إلىعهد قريب . وقد صحب الكفاح السياسى واتصل به كفاح فكرى عريض بدأ كما رأينا فى البيئة الدينية وقت أن كانت هى البيئة الفكرية الوحيدة بالبلاد ثم تحول عنها إلى بيئة أعضاء البعثات العلمية وخريجى المدارس الأميرية الذين كانوا يتثقفون بالثقافة الغربية ويشعرون بتفوق الغرب ويريدون مداركته , أى يمثلون الحياة المصرية الجيددة . ونحن نعلم عن أعلام هذا الكفاح فى القرن التاسع عشر أنهم كانوا فى الغالب ممن اتصلوا بالموجة الغربية الزاحفة وتأثروا بها تأثر رد فعل بالفعل الذى يبعثه و واتجهوا إلى الاصلاح الذى يمكن البلاد من الوقوف فى وجه هذه الموجة أو مسايرتها . فكان حسن العطار أستاذ الطهطاوى من مشايخ الأزهر الذين شهدوا الحملة الفرنسية وآثارها . وكان حسن الطويل أستاذ محمد عبده من العلماء الذين اتصلوا بحاشية اسماعيل . وكان الأفغانى رجل دولة قاتل الانجليز فى بلاده وسهد الحكم الانجليزى فى الهند وطوف بالبلاد الاسلامية التى كان هذا الحكم يعنف بها أو يهددها . وكان محمد عبده وأعوانه من الأزهريين الذين اشتركوا فى الحركة الوطنية المصرية . وقد كان حسن العطار يريد أن يلاحق المسلمون الحضارة التى لمسها فى الحملة الفرنسية بمعاودة درس العلوم التى كانت تقوم عليها هذه الحضارة بعد أن ألقوها وراءهم منذ أن خبت حياتهم الفكرية تحت العثمانيين . وكان الأفغانى يقصد إلى احياء الاسلام ويرى فى ذلك الوسيلة الوحيدة لانقاذ المسلمين . وكان محمد عبده يعمل على تجديد الشريعة الاسلامية وتخليصها مما علق بها فى قرون العبودية . كانوا يرون جميعا الخطر المقبل من الغرب ويريدون الوقوف فى وجهه بالعتكاف على أنفسهم وتحليل الأوضاع القائمة وتجديدها , كانوا يرديون الاصلاح من الداخل ولا ينظرون إلى الحضارة الغربية الا كتجربة يستأنس بها حين يحس الاستئناس . ومن ثم كانت ثقافة هؤلاء المفكرين ونحوهم فى تصور الأمور ونسيج نتاجهم شيئا شرقيا فاقعا . ولكن المفكرين المصريين بعد الاحتلال نقصت غالبهم الثقافة الشرقية الصحيحة بحكم التربية الجيدة التى أصابوها وأصابها مجتمعهم بعد أن أبعدته وجهته الجديدة عن التربية القديمة , ولم تهمل هذه التربية حتى تستنفد عملها التجديدى , فاتجه إلى المدارس الأميرية والعلوم الحديثة التى كانت تلقنها اياه من حيث انتهى بها الغرب بأوضاعها وطعمها ولونها الغربى , وانتقل بذلك دفعة واحدة من الثقافة الدينية الراكدة التى كانت ظروفه القائمة تحمله عليها إلأى آخر تطورات الفكر البشرى , دون أ، يلائم بين هذا الفكر وظروفه الفكرية , أو أن تقوم بينه وبين الحياة الاجتماعية القائمة تلك الصلة المباشرة التى ينبثق منها فى الغرب . ومن هنا جهل غالب أبنائه بالتراث العلمى الشرقى وعدم تمثلهم الفكر الغربى تمثلا كاملا واضطراب انتاجهم الفكرى وما يصحب ذلك من انكارهم الشرق واعجابهم بالغرب لا حد له . وهكذا لا يعالج كتابهم أمرا حتى يذكروا وضعه الغربى ويستعيروا بعضه وينساقوا فى ذلك إلى حد الابتعاد عن حقيقته . ولا يخطب خطباؤهم حتى يشيدوا بسابقة غريبة يريدون الاقتداء بها ولا يقص قصاصوهم حتى يلقوا بين يدى قرائهم أوصافا ونعوتا وفى كثير من الأحيان أيضا ألفاظا أجنبية . وعامة هؤلاء المفكرين يشتركون جميعا فى الحيرة من أمر هذا الغرب وخشيته وتملقه ويبدون هذا الشعور فى حماسة قد ترتفع أو تهبط , وقد تتخذ شكل الحب أو شكل البغض , ولكنها حماسة على كل حال لو جهدت فى البحث عن أصلها لما وجدت فى الغالب سوى الانبهار الذى يشعر به الطفل أمام لعبة جديدة . والغرب هنا ليس فكرة كاملة , واضحة المعنى بارزة المعالم , بل صورة ساحرة لا رابط بينها ولا مرجع ترد اليه , هو الثورة الفرنسية وأبطالها الخرافيون , أو جهابذة الفكر الحديث وتحليقاتهم الفكرية الشاهقة , أو لندن وباريس وروما وبرلين ونيويورك برونقها الخلاب , أو فى محيط ما أيضا , نعومة الحياة فى هذه العواصم جميعا وما تثيره فى النفوس الفتية المحرومة . هو شئ كالسراب الأغريقى ـ الرومانى الذى تخيله جمهرة مفكرى الغرب وما زال يتخيله بعضهم إلى اليوم أو أصنام المعابد التى كانت تهرع اليها الجماهير فى الأزمنة الخوالى اذا أعياها أمر لم تقو على ادراك كنهه , أو الواحة الخضراء يصبو اليها الضالون فى صحراء يباب . وهذا الاعجاب المفرط يحمل البررة من هؤلاء المفكرين على أعمال الفكر فى أسباب تأخر الشرق عن الغرب وما ينبغى أن يبذل للقضاء عليها . وهم يبدون فى هذا اللغز آراء تتنوع إلى ما لا نهاية , تنوع ثقافة الذين يعرضون له والأوضاع التى يتخذونها . فالدينيون يجدون على تأخر الشرق فى ابتعاد أهله هن الدين الصحيح . والدين الصحيح هنا صيغة مبهمة كالصيغ الاجتماعية المطلقة عادة , وهى تعنى شيئا يمتد من قفل الأبواب دون كل رجس مسيحى إلى الاجتهاد فى تطبيق الأحكام الدينية تطبيقا غربيا . وغير الدينيين ينسبون تقدم الغرب إلى قوة أخلاق أهله أو اخلاص حكامه أو مركز النساء فى مجتمعه الخ وهذه الحيرة تنتهى بغالبهم إلى الشك والاستهتار والتشاؤم وتصرفهم فى الغالب عن النظر إلى وقائع الحياة المصرية القائمة بين أيديهم نظرا عميقا شاملا وتحول بينهم وبين رؤية ما يقع تحت بصرهم منها الا من وراء الثقافة الغربية التى نالوها . وهى تضعف من قوة انتاجهم الفكرى بفصلها اياهم عن الوقائع وابقائهم معلقين بين ذلك المجتمع الغربى الذى لاا يحيون حياته وهذا المجتمع الشرقى الذى لما تتوافر له ظروفه والذى تقوم هى بينهم وبينه بأنوارها المضللة . وهى تجعل على كل حال من وضع الشرق دون الغرب شيئا جامدا لا يكاد يتحرك , فالغرب هو هذا الغرب وسيظل كذلك إلى آخر الدهر والشرق هو هذا الشرق , وسيظل هو أيضا كذلك أبد الأبدين , والعلة الأولى فى ذلك هى انفراد الشعوب الغربية بصفات لا تملكها الشعوب الشرقية ولا سبيل إلى أن تملك يوما ما . ومن هنا اتهام هؤلاء المفكرين العامة بالاستكانة والاغفلة والأثرة وكل جريرة أخرى كلما حاولوا شيئا وانتهوا إلى ما لاا يتوقعونه منه بعكس أقرانهم الغربيين الذين اذ حاولوا شيئا انتهوا فى الغالب إلى ما يريدون . واتجاه تفكيرنا هذه الوجهة , يتضافر ونشاطنا الاقتصادى الجديد ثم اتصال رأينا العام بمصادر الرأى العام العالمى فى نشر طبقة غربية رقيقة حول حياتنا اليومية , تتكاثف وتشتد اشتدادا ثقيلا فى دائرة نشاط الدولة وتتسبب فى أمر على جانب كبير من الخطورة من حيث الآثار التى تثيرها وهو سبق التشريع لدينا ظهور الظواهر الاجتماعية التى يتصل بها أو نضوجها النضوج الكامل على الأقل . وقد رأينا كيف يرجع ضعف مقاومتنا فى المحيط السياسى وقلة انتاجنا فى ميدانى الاقتصاد والفكر قبل كل شئ إلى عدم انبثاق تلك المقاومة وهذا الانتاج من حياة اجتماعية زاخرة تجمع بين طبقات المجتمع جميعا فى عزمة واحدة لا يعدوان أن يكونا نفرة الطاقى العليا من مجتمع قديم يلج جوا جديدا ويحاول الذود عن نفسه والملاءمة بين شئونه ومقتضيات هذا الجو . وهذه الملاءمة عسيرة غاية العسر لأنها تقتضى خلق بعض الظواهر الاجتماعية خلقا وتعجل نضوج البعض الآخر وتنسيق أطوار هذه الظواهر جميعا تنسيقا شاملا , أة تحقيق ما حققه المجتمع الغربى فى قرون من السير الطبيعى الهادئ فى دفعة واحدة وبتدبير مقصود . وهى تتطلب لذلك درس الظروف القائمة والظروف المبتغاة درسا يفوق فى العمق والدقة والجهد ما يتطلبه تنظيم الظواهر التى تقوم قياما طبيعيا . وقد غاب عن السلاطين الذين قاموا بأول محاولات هذه الملاءمة فى مصر والأقطار العثمانية الأخرى , فكان ما عرف بالنظام الجديد , وكانت الدواوين والمحاكم الجديدة , وكان اخفاق كل ذلك والافلاس المالى أيضا . ثم انتقل الحكم فى هذه الأقطار إلى أيدى ممثلى الغرب فاتجهت هذه المحاولة وجهة جديدة ينقصها التقدير الصحيح للظروف القائمة ويبدو عليها الميل إلى الاعتقاد بأنها ظروف ثابتة لا تقبل التحويل البعيد كما يبدو عليها التغليب الظاهر للأغراض التى يرمى اليها هذا الغرب على الأغراض المحلية الخالصة . وأخذ الحكم يعود بعد ذلك إلى أهل البلاد فعادت هذه المحاولات تهدف إلى الأغراض المحلية ولكنا ظلت تتجاهل الظروف القائمة وتتأثر بالنضال السياسى وبذلك التفاوت بين هذه الظروف , وهى كما راينا فى جملتها ظروف مجتمع زراعى يتجدد , وتلك الطبقة الغربية الرقيقة التى أكسبتنا اياها صلتنا بالغرب ونظمنا الاقتصادية الجيددة وانخراطنا فى دائرة الرأى العام العالمى . ونحن نحاول هذه المحاولات ونعالج مسائلنا على وجه العموم بخبرة من لدينا من عناصر فتية نالت نصيبنا الغربية , دون أن يكون لها حظ كبير من الثقافة الشرقية الصحيحة , ويدفع بها التيار الغربى الذى يحيط بنا من أقطارنا جميعا إلى أجهزة الحكم , دون العناصر التى كان يحق للمجتمع بتكوينه الزراعى الدينى أن يرسلها اليها لو لم يكن هذا التيار الغربى بمقتضياته الاجتماعيى ونفوذه السياسى . وهذه الخبرة هى النتاج المباشر للثقافة الجامعية التى نالتها هذه العناصر فى اغرب دون أن تكون بينها وبين الحياة العملية التى انتجتها أو حياة البلاد الحقيقية سبب كبير . وهى تخضع لوضعها هذا حين تفكر وحين تعمل وحين تعالج ظواهر لما تظهر أو ظهرت ولكنها لم تنضج , كما تنضج مثيلاتها فى الغرب , ولم تتخذ على كل حال نفس الأوضاع التى اتخذتها هناك , وتفعل ذلك بالأساليب التى ابتدعها هذا الغرب تحت ضغط تلك الأوضاع . وهكذا لم يتهم الذين وضعوا دستورنا يوم وضعوه بدرس ماضينا الدستورى أو حاضرنا الاجتماعى كما اهتموا بدرس الدساتير الأجنبية , ولم يعن الذين وضعوا نظمنا الحكومية بماضى هذه النظم لدينا كما عنوا بنقل القوانين الفرنسية , وما زال الذين يضعون تشريعنا الاجتماعى والاقتصادى ينتهجون مثل هذا المنهج إلى حد بعيد . والجو الغربى الذى ينفذ على هذا النحو إلى حياتنا العامة والخاصة جميعا يدفع بظواهرها إلى النضوج العاجل ولكنه يضعف فى نفس الوقت من حيويتها ويميل بها عن مجراها الطبيعى . فمادامت الظاهرة نصيبها من التربة المحلية محدودا ودادام اتصالا بالجو الخارجى مستمرا متروكا لنفسه يكون كما يستطيع أن يكون فسيمد لها هذا الجو فى الارتفاع السريع فتصاب بالسطحية والاضطراب والسقوط فى التقليد . يضاف إلى ذلك أن الصيغة التى نضعها لمعالجة ظواهر حياتنا , أية كانت , تنشأ عادة مشوهة بحكم اعتماد واضعها على الاقتباس وبعدهم عن الناحية العملية من هذه الظواهر . ثم أنها تظل ضعيفة فارغة مادامت هذه الظواهر ناشئة لم تكمل , أو لم تبلغ السعة التى وضعت لها الصيغة المنقولة . ومن هنا ما نلاحظه من تقلص قوانيننا عند التطبيق وطغيان السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى والهزات الشداد التى تتعرض لها حياتنا الاقتصادية والاجتماعية بين الحين والحين من جراء شطط التدخل الحكومى . وقد أخطأنا حتى اليوم فى اتهام الذين يحكمون بقلة النشاط وضعف الوطنية والاستهتار , والواقع أن غالبهم يريدون الاصلاح صادقين وأنهم لا يقلون نشاطا أو يزيدون استهتارا عن زملائهم فى البلاد الأخرى . ولكنهم يختلفون عنهم فى أنهم حين يصلون إلى الحكم يجدون نفسهم وجها لوجه أما مسائل لم يسبق لهم فى الغالب أن عالجوها ولا يجدون إلى جانبهم الخبرة الفنية التى يستطيع أن تغذى نشاطهم أو توجهه . وهم يتعرضو حينئذ لما يتعرض له المحكومون من التاثر بالرأى العام العالمى ومصادره التى نجد فى صحافتنا واذاعتنا الأداة الفعالة التى نحتاج اليها , فيكون هذا التناقض الذى تمتاز به حياتنا العامة والذى يؤخذ عادة على محمل النفاق المقصود . فالمحكومون يقتدون فى أفعالهم ببعض ما يطالعون كل صباح من أخبار المجتمعات الأخرى , والحاكمون يغالون فى الغالب فيما يقولون ليرضوا المحكومين ويرضوا اتجاههم الفكرى ويرضوا التيار الغربى الذى يحيط بهم , والجميع يصدرون فى أقوالهم عن تفكير دخيل ويصدرون فى أفعالهم عن الظروف القائمة لمجتمع ينتقل من حال إلى حال . هناك اذا مجتمع مصرى جديد ترتفع نشأته إلى مطلع القرن التاسع عشر وترجع أصوله فى مجموعها إلى تراخى الصلة بين السلطة العثمانية ومصر , وتحلل النظم المملوكية , ثم النزعة الانفصالية التى بدأت تحت مشايخ البلد وبلغت أشدها بمحمد على ثم انتهت إلى غاياتها عند انفجار الحرب العالمية الأولى , اذ تضافرت هذه العوامل فى تكوين أسرة مالكة جديدة وحكومة محلية ومصالح وطنية وأتاحت لأبناء البلاد الغلبة على من كان يختلط بهم إلى ذلك الحين من عناصر أخرى . وهذا المجتمع يرث عن ماضيه فكره العربى وضميره الاسلامى ونظمه المغولية و فى حالة ثقيلة من الفساد الذى دب اليها جميعا تحت الدولة التركية , ويخضع لتأثير هذه الحضارة الغربية البراقة , التى تكونت بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر , أى أثناء نكسته العثمانية بالذات , بفضل الحروب الصليبية , التى ردت الغرب إلى حياة البحر المتوسط وأعادت الصلة بينه وبين ماضيه الاغريقى ـ الرومانى وأشركته فى ثمار الحضارة الاسلامية , واكتشاف الأمريكتين , الذى وسع آفاقه توسيعا لا عهد له به من قبل , ثم العلوم الحديثة وما مكنته منه فى طريق استثمار هذين العاملين . وهذا التأثير الغربى يتخذ إلى المجتمع المصرى الجديد طريق التغلغل الاقتصادى , فيقيد منابع ثروته بانتاجه , والنفوذ السياسى و اذ يبعد هذا التغلغل ويدفع بحكومات القائمين به إلى الضغط على الحكم ثم الاستئثار به , والغزو الثقافى , اذ يشعر أبناء البلاد بمقتضيات الحياة الجديدة التى يتجهون اليها فيقبلون على التعليم الحديث ويشعر الغرب بالحاجة إلى ايلافهم , فينشر بينهم ما يريده من هذا التعليم , وتنشأ بذلك طبقة من المفكرين المحدثين , ترفعها مقتضيات الحياة الجديدة إلى الصدارة , ثم تنتشر الصحف وتعم الاذاعة فتلحق البلاد بدائرة الرأى العام العالمى . وهو يبدأ فى هذه الميادين جميعا كتيار يهب من الغرب ثم ينقلب جذوة تتقد من الداخل . ويكون فى الحالة الأولى شكلا من أشكال التوسع الغربى , فى حين يصير فى الحالة الثانية عنصرا هاما فى نهضة محلية .ولكنه يبقى فى الحالتين شيئا يفرض على عامة المجتمع ولا يكون ثمرة تنبت من أعماقه , شيئا يصدر عن ارادة التوسع الخارجية أو ارادة الاصلاح الفردية الداخلية ولا يصدر من قاع الحياة الاجتماعية المحلية . وهو يسير لذلك جنبا إلى جنب وظروف هذه الحياة ويبدى خصال كل ارادة تفرض على المجتمعات من تأثر شديد بشخصية أصحابها وميولهم واستعدادهم وتعثر فى سيرها واثارة مالم تفكر فى اثارته قط . ونحن ما زلنا ننظر إلى هذا المجتمع فنبصر عناصر ماضيه هذا القريب وعمل التيار الغربى فيه وتفاعلهما معا . نبصر هذا الاقتصاد الزراعى الذى مازال يستأثر بالقسم الأكبر من نشاط البلاد ويعتمد على وسائل الاستغلال القديمة ويتحول فى أقل من قرن , أى منذ أن عرفت الملكية الفردية تحت اسماعيل حتى اليم , من اقطاعية حكومية إلأى اقطاعيات خاصة تشغل الغلبية الساحقة من السكان وتبقيهم من الناحية المادية والمعنوية على ما كانوا عليه فى القرن الثامن عشر . ونجد إلى جانب هذا الاقتصاد , العقلية التى صحبته منذ ا، كان النظام الاقطاعى , عقلية التوكل وتغليب الحياة الآخرة على الحياة الدنيا وانتظار المعجزات و وما يتبع ذلك من تقاعس فى السعى فى طلب الرزق والعلم والارتقاء , ثم التصور الدينى للمجتمع كجزء من تلك الأمة الاسلامية الكبيرة التى تحيا فى مملكة الله والتى صار حكمها منذ عصر الأفول الاسلامى لا يعنى الا الخلفاء والعلماء وأولئك الأجناد الغلاظ الذين كانوا يح\جتلبون من أصقاع آسيا القصبية وينفقون حياتهم فى الحروب . نبصر هذا ونلمس أثره اسعصاء ريفنا على مقتضيات الحياة الحديثة , سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية , واستئثار أبنائه بالحكم فى جميع أشكاله وانفرادهم بالمناصب الكبرى والصغرى الادارية والفنية المدنية العسكرية والدينية ثم ميوعه حياتنا النيابية على ما عداها إلى حد بعيد . كذلك نبصر حكما يتخذ أوضاعا حديثة ولكنه مازال يذكر ماضيه المغولى فهو يخلط بين الحكم والتحكم ويطغى على كل شئ كما يشاء ويعد الأفراد ومصالحهم وسيلة لوجوده لا غاية لها . وهو لا يكاد يميز بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة , فيتحول فى يسر إلى وسيلة من وسائل اصلاح الحال ومحاباة ذوى القربى والاعلان الشخصى . ثم انه لا يقدر وزنا للتشريع الوضعى فيتزيد وينتقص فى تفسيره وتطبيقه أو تعطيله كما يشاء دون أن يكلف نفسه حتى التزام الطريق الصحيحة المؤدية إلى ذلك . وهو على كل حال حديث فى تكوينه فليس بين القائمين به من أدنى الدرجات إلى أعلاها من عمل به أكثر من جيل أو جيلين ولكنه قديم فى نظمه فهذه النظم مازالت فى جوهرها تلك التى انشئت فى القرن الماضى دون رؤية أو تعمق . ونبصر من ناحية أخرى هذا الاقتصاد الصناعى ـ التجارى الذى مازال يقوم فى غالبه لعهدنا هذا على أكتاف الأجانب ومازال يتركز فى الاسكندرية والقاهرة وبورسعيد , حيث تقوم هذه الأحياء الحافلة التى لا يكاد يقوم بها شئ مصرى , والتى تحول منتجات البلاد وتتجر فيها وتبادل بها ما يحتاج اليه أبناؤها من منتجات أجنبية , أى تتحكم فى حياتها الاقتصادية جميعا , وتتحكم فى حياتها الاجتماعية أيضا اذ تجتذب اليها اليد العاملة والشباب الحديث وطائفة لا بأس بها من أصحاب السلطان وتنمى الثروة الأهلية وتنشر أساليب الحياة العصرية ز ونبصر هذه المعاهدة العلمية التى أخذناها هى وبرامجها وسبلها فى التعليم عن الغرب والتى تنشئ بيننا وبين هذا الغرب هذه الصلة الفكرية التى تمكننا من تتبع تطوراته وتهيئنا لتلقى آرائه ونظمه وأساليب حياته . ثم نبصر نظمنا العامة جميعا من الدستور إلى أقل القوانين شأنا , ومن تنظيم السلطات إلى التقسيم الادارى ومن المجالس النيابية إلى المحاكم القضائية والادارية والدينية , وقد نقلت هى الأخرى عن مثيلاتها الغربية واستعيض بها عما كان فى ماضى البلاد البعيد أو القريب من نظم لم يعن أحد إلى اليوم أن يتبين ما الفاسد منها وما الصالح . نبصر هذه العناصر المصرية والغربية ونلمس أثر تفاعلها لمسا يسيرا فى اتجاهات هذا الجيل المصرى الجديد الذى شارفت طلائعه المراكز الأمامية من الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية فى البلاد . وهذا الجيل ان شئنا هو أول ثمار الحياة المصرية الجديدة فهو أو غالب الطاقة المتعلمة منه على الأقل ـ وهى التى تعنيننا هنا ـ من أبناء الطبقة المثقفة التى عاصرت كرومر وجاهدته . وهو قد تربى جميعه تربية حديثة . ونال فى الغالب هذه التربية على الأيدى المصرية التى كفلها له الاتجاه الوطنى فى الحكم . ثم هو ينعم الآن قطعته البلاد فى هذا النصف الأول من القرن العشرين من تقدم اقتصادى , نقصد أنه لم ينشأ فى بيئة كالبيئة التى نشأ فيها رفاعة الطهطاوى أو على مبارك أو عرابى أو مصطفى كامل . وهذا الجيل يعاب الآن من ناحية تربيته وناحية تشبهه بالغرب . وظاهرة التربية هذه , التى خشاها الشيخ محمد عبده وأتباعه اذا تركنا الأسباب الفنية التى يرده اليها المتخصصون فى هذا الميدان , ترجع ولاشك إلى ما سبق أن أشرنا اليه من الاختلاف بين الحياة فى المنازل والحياة خارجها وبين الحياة التى نصبوا اليها والحياة التى نحياها . فقد نال الآباء حظا من التعليم لم تنله أو لم تنل مثله الأمهات . والآباء نفسهم يختلفون فيما نالوه من تعليم فالكبار منهم شبه أميين والصغار جاوزوا التعليم الأولى ثم وقفوا عند ذلك . والكبار مازالوا ينظرون إلأى الحياة كما كان ينظر اليها المصريون أيام محمد على وقبل ذلك من حيث علاقة هذا العالم بالعالم الآخر وعلاقة الفرد بالدولة ووضع الفرد من النشاط الاقتصادى على وجه العموم , وهى النظرة التى يحاربها التعليم الحديث ويسعى إلأى القضاء عليها . أما الصغار فقد زعزع التعليم الذى نالوه العالم القديم فى نفوسهم دون أن يعطيهم سواها وبعث فيهم الشك والحيرة وان فتح أمامهم آفاقا جديدة وأكسبهم هذا الميل إلى تعليم أبنائهم مهما كلفهم من جهد أو عناء . وقد حدث التشبه بالغرب الذى تنبأ به الشيخ محمد عبده أيضا ولكن على غير الصورة خشاها فهو لم يجعل من الجيل بوقا للاستعمار ولكنه أسبغ على تصوره الأمور ذلك الشكل الغربى الأجوف الذى يفسد نظرتهم للأمور والذى يرجع إلى جهل هذا الجيل بالتراث العلمى الشرقى والمامه بالتراث العلمى الغربى الماما مضطربا وبقاء العلوم الحديثة فى تفكيره مثل السراب المتبدد . ولا يتلقى الفكر الغربى من مصادره الأولى ولا يجد للعلوم الكثيرة التى تقدم اليه أثرا فى الحياة اليومية التى يحياها , ومن هنا ترجحه بين انكار ماضيه , وبخاصة الجيل الذى سبقه والذى يلقى هو عليه صعوبات حاضرة , والتعصب الأهوج , الذى يصدر عن الشعور المتحفز ولا يصدر عن الدرس العميق , ويبدو لذلك فى جمل جوفاء لا تغنى شيئا , ثم الحماس للغرب حماسا يبلغ فى خريجى المدارس الأجنبية والمعاهد الخارجية حد فقد الوعى القومى ويضطرب فيمن عداهم بين الارتفاع والهبوط , ولكنه يشرك هؤلاء وأولئك فى التشوق لهذا الغرب والاقتداء به وتقديس ما يصدر عنه تقديس عبدة الأصنام أصنامهم . وهذا الاختلاف بين دكنة الحياة القائمة ونور الآفاق التى يفتحها التعليم الحديث أمام أبناء هذا الجيل يضعف من تقديرهم لقيم الحياة القديمة ويزيد فى تقديرهم للقيم الجديدة دون أن يثبت معالمها لديهم لأن هذه القيم لا تجد من الوقاع الجوهر الذى يملأها فتظل كالأشباح التى تلم بالنائم ليست سرابا وانما هى شئ مائع يلزم مؤخر الرأس ويبلبل الفكر ويفسد الرؤية فلا تميز الهام من الثانوى أو العام من الخاص أو الحقيقة من الزيف . ونحن نلمس هذه البلبلة فيما نقرؤه كل صباح ومساء خصوصا عن الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية القديمة والجديدة وما نشهده من حركات بين الطلبة وما سمعناه عن تلك السلسلة الطويلة من الاعتنداءات السياسية الأخيرة . واليه أيضا يرجع ما يلاحظ على هذا الجيل , خصوصا من أتم منهم الدراسة فى الغرب , من تهافت على الحياة المادية ورغبة فى الدعة وخلط بين الحضارة الحقيقية وهذه الأشكال المترفة التى تتخذها فى بعض العواصم الغربية . فما داموا قد حصلوا مثل ما يحصله أقرانهم هناك من علم وما دام ما حصلوه لم يبلغ بهم جوهر الأمور فهم يخلطون بين الأصول والفروع . ونزعتهم إلى ذلك تغذيها السن كما تدفع اليها أقرانهم فى الغرب ولا يردهم عن الانسياق اليها ما يرد هؤلاء من الجوانب الخشنة للحياة الغربية كالخدمة العسكرية والحرب وصعوبات السعى للرزق . ومن هنا هذا التهالك الذى نسمعه فى الغناء ونقرأه فى الصحف ونراه فى الأشرطة السينمائية . وهذا الجيل ينتقص أيضا بأزواره عن الأعمال المالية زاقباله على الوظائف رغم ما يهديه اليه الناصحون من نصح لا يقرنونه بالعمل . ولاشك فى أن هذا الأزورار يرجع فى غالبه إلى ما رأينا من غلبة الطابع الزراعى على الاقتصاد المصرى وما ينبنى عليها من بقاء المجتمع محدود المعاملات قليل الربح كثير الأخطار . وهو لا يمكن لذلك أن يعالج بالنصح والانتقاد انما يكون علاجه باستثمار الأموال المصرية فى الصناعة والتجارة واقامة المنشآت التى تستخدم أبناء البلاد وتدربهم تدريبا عمليا نافعا . وليس لدينا على كل حال ما يدل على انصراف من التحق بالأعمال المالية ونجح فيها من أبناء الجيل الحاضر عن ميدان هذه الأعمال رغبة فى التظف . وانما الذى نشهده الآن وشهدناه أثناء الحرب الأخيرة , حين كثرت المنشآت الصناعية ونشطت المعاملات , هو عكس ذلك بالذات فقد أقبل الموظفون وقتئذ على ترك وظائفهم للالتحاق بهذه المنشآت . وهكذا يكون الأمراء أمر الأوضاع الاقتصادية والثقة بالمستقبل قبل أن يكون شيئا آخر . ومما يصدر عن هذه الظاهرة الأخيرة ويلحق بها , هذا النهم المادى الذى يلحظ على الجيل الحاضر ويدفع بعض أبنائه إلأى ما انتهى عنه الأخلاق السليمة كارتشاء الموظف وعبث الطبيب وغش اللمهندس الخ . . رغبة فى التزيد من اللربح . فهذا أيضا يرجع إلى ندرة المعاملات وعدم اكتمال وعيها والى الحديثة أيضا . فهذا الجيل ان شئنا أول جيل يتكسب بمزاولة الصناعة والتجارة ويواجه تكاليف الحياة العصرية دون أن تكون وراءه ثروة خاصة . وهو لذلك يحاول الاكثار من الربح ما استطاع ولا يتقيد بالتقاليد الصناعية والتجارية أو مقتضيات الاستثمار الحكيم . وقد سبق أن رأينا كيف ينظر المجتمع الزراعى عادة إلى الانتاج الصناعى والتجارى نظرته إلى الابتذاذ أو الاستغلال الأثيم . وشعور هذا الجيل بالفروق اللقتصادية التى تقوم بينه وبين اغربيين هو بعض العلة فيما يبديه من ج فاء نحو الأجانب المقيمين بين ظهرانيه , وهو جفاء يحمل عادة على محمل البغض للغرب ويبعث لذلك الدهشة فيمن يقارنه بانتشار أساليب الحيالة الغربية بين أبناء البلاد . والواقع أن هذه الظاهرة تشتمل على عوامل مختلفة ففيها دون شك شئ من تشفى المستضعف الذى استعاد قواه , وشئ من أثر الخلافات الدينية القديمة , وشئ من هذا التوتر الذى ينشأ بين قوم يلتقون كل صباح ومساء ولا يتواصلو , وفيها قبل كل شئ الرغبة الملحة التى يشعر بها الجيل الجديد فى هذه الحياة العصرية التى استأثر بها هؤلاء النزلاء إلى الآن , وهى لا تعارض لذلك والميل إلى الغرب فى شئ بل تبدو بين أصحاب هذا الميل , وخصوصا بين من قضى منهم بعض حياته فى الغرب وأصبح يرمى الابتعاد عن صميم الحياوة الشرقية أكثر مما تبدو لدى غيره , ولا تعدو لذلك أن تكون هى الأخرى فى جوهرها مظهرا من مظاهر التوازن الآخذ سبيله بين المجتمع الغربى والمجتمع المصرى , بعد ما قطعه هذا الأخير فى هذا الصدر الأول من القرن العشرين , فى طريق التقدم الاجتماعى والسياسى . ونحن لم نتصل على كل حال بالغرب صلة التزاو ةالصداقة والتعامل كما اتصلنا به فى هذه السنوات الأخيرة ولعل تزاوج المصريين من الغلربيين لم يبلغ ما بلغه فى هذه السنوات أيضا قط . وقد أفاد انتعاش الحياة الاقتصاديةة فى هذا النصف الأول من القرن العشرين , وانتشار التعليم , ومجاهدة قادة الفكر فى اذاعة الفكر الصحيح , وما صحب ذلك من انتشار هذا الجو السياسى الجديد الذى أعقب نزول الاحتلال السياسى عن معاقله الأمامية ـ أفاد دون شك فى تثبيت أقدام هذا الجيل وتقوية شخصيته وتجنينه , ولو إلى حد , الحيرة التى عاناها الجيل السابق من أمر الطريق التى يحسن بمصر أن تسلكها كيما تحقق أهدافها , ونحن نقرأ الآن لكتابنا حتى من قنع منهم بفتات الثقافة الغربية وعرف فى شبابه بالابعاد فى التقليد والتشيع للغرب , فنشعر بهم وقد عادوا يعكفون على نفسهم وتراثهم الوطنى وجعلوا ييستمدون من عودتهم هذه شخصية جديدة وأسلوبا فى التفكير والكتابة جديدا . وما الحركات الاسلامية المنتشرة الآن الا صورة هذه الظاهرة فى الجناح الذى لم يتصل بالغرب من المجتمع . كذلك نعثر بين نتاجنا الفكرى الحديث على آثار ذات قيمة علمية لاشك فيها , ونسمعغ من القائمين بالحكم فى ميدان النضال السياسى لهجة حرة لم نكن نسمعها حتى عشية الحرب العالمية الثانية , ونجد بين المحكومين ابعادا فى هذا الاتجاه يكاد ينقلب إلأى استهتار بكل ما هو أجنبى واستعلاء عليه , ثم نرى هذا الاقبال على النشاط الصناعى والتجارى الذى كان يلقى الرهبة فى نفوسنا حتى الأمس القريب , وان كنا نلمح فى كل هذا أثر قادة الرأى فى اتباعهم وتحول الأوضاع السياسية العالمية ونمو الثروة فى البلاد أكثر مما نلمح أثر العمل الايجابى المدبر . ونحن ننتهى من هذه النظرة السريعة لأوضاعنا الحاضرة إلى ما وصلنا اليه بالعرض لأهم أحداث تاريخنا تحت المماليك من أن الأمر فيما عليه حالتنا الراهنة هو قبل كل شئ أمرفقر الدم هذا الذى أصاب أطراف مصر جميعا بين القرنين الخامس العشر والتاسع عشر , فحد من نشاطها الاقتصادى , وهبط بحياتها الاجتماعية إلأى الحضيض , ودفع بفكرها إلى الجمود الأزهرى . أمر مجتمع يخرج من أقصى ما يستطيع أن يتردى فيه شعب من دمار إلى أحدث ما انتهت اليه البشرية المتمدنة , ويحاول أن يسايرها هذه الحياة الجديدة دون تقاليد أو مقومات حقيقية , وهو يتعثر لذلك بين هشيم الماضى وعقبات الحاضر ولا يريد أن ينظر إلى ظروفه الخاصة النظرة المجردة التى تستحقها , ويعالجها بالحزم الذى تقتضيه . ومعالجة مثل هذه الحالة مثل هذه الحالة لا تستطيع أن تستقيم الا بتنقية هذا الدم وتغذيته والاكثار منه , وهو عمل يقتضى مجهودا كبيرا يشترك فيه جميع أفراد المجتمع , لأنه يتصل بنشاط كل منهم . هذ اذا كان المجتمع قد بلغ من الرشد ما يشعره بحقيقة أوضاعه ولا كان هذا المجهود من واجبات الذين ينهضون بالحكم والصفوة التى تقوم إلى جانبهم . وقد صرفنا كفاحنا السياسى ـ وهو أيضا كما رأينا صورة من صور قصورنا الاجتماعى ـ صرفنا عن مواجهة ذلك المجهود ومازال يفسد علينا محاولته . كذلك مازال غالب الطبقة الحاكمة فينا يظنون صادقين أن العناية بمسائلنا الداخلية تأتى فى المرتبة الثانية بعد مجاهدتنا الانجليز ولا يرون أن أوضاع الأمم فى ميدان الحياة الدولية ليست , آخر الأمر , سوى الانعكاس المباشر لظروفنا الداخلية فى هذا الميدان ولا شأن كبير لها بمهارة الرجال الذيم يحكمون أو دهائهم أو ما يتصايحون به كل حين من تحالف الأحزاب السياسية أيضا . وقد تحالفت الأحزاب لدينا فعلا فلم تتقدم أمورنا فى الداخل أو الخارج خطوة واحدة بل عقدت تلك المعاهدة المصرية الانجليزية التى تنتكر لها هذه الأحزاب الآن , لأن نصوصها لم تزد فى قوة مصر الذاتية ولم تضعف من قوة انجلترا الذاتية فبقى وضع كل من البلدين على ما هو عليه وبقى القوى منهما يؤثر فى الضعيف كما حدث وكما سيحدث فى الصلات بين الأفراد وبين الدول فى كل زمان ومكان , وهكذا ظل الساسة يتلقون التعليمات من ممثل السلطة الكحتلة , وموظفوا الدولة يترجحون بين السلطة الشرعية والسلطة غير الشرعية , ومصالح الباد تدور فى فلك مصالح هذه السلطة الأخيرة , بينما نحن نشهد الآن تحولا حقيقا فى هذه الصلات وتحررا ملموسا من ناحية الذين يحكمون لا شك فيه , لأن سنى الحرب الأخيرة شهدت ارتفاعا فى قوى البلاد لا ريب فيه أيضا وظهور جيل جديد أوفر شعورا بالوعى القومى من الجيل الذى سبقه وتطورا فى تكوين الطبقة الحاكمة , وكل ذلك فى الوقت تغيير فيه جو السياسة العالمية وتضعضعت قوى الامبراطورية الانجليزية . نشهد هذا ونعلم ا، المعاهدة المصرية الانجليزية مازالت قائمة كما كانت منذ سنة 1936 . ولسنا نريد أن نقول بهذا أن وضع انجلترا فى مصر لا يؤدى إلى تعطيل النهضة التى نريدها ولكننا نريد أن نقول أنه لو درس الطالب فأتقن دراسته وعمل العامل فأحسن عمله وحكم السياسى فاحسن حكمه لما استطاعت انجلترا أن تقاوم احسانهم مقاومة مثمرة ولكانت خسرت أكبر تكأة لها فى البلاد . وقد بذلت وما زالت تبذل دون شك جهود كثيرة فى طريق معالجة ما يدعى بالمسائل الداخلية أو الاصلاح الاجتماعى , نقصد هذا النقص فى تكويننا كمجتمع حديث , بذلت فى ميدان التعليم والاستثمار الزراعى على وجه الخصوص ,وهى تبذل الآن فى ميدان العلاقات الاجتماعية والاقتصاد ان شئننا أيضا , وكانت النتيجة هو ما يعاب على هذه الجهود الآن من التعثر والوقوف عند القشور , كما عيب ذلك على حكام الآستانة والولاة العثمانيين , لأنها لم توجه إلى صميم الأمور , ولم تنظر إلى حالة المجتمع كشئ يتمم بعضه بعضا . ونحن لا نريد أن نعرض هنا للجدل القائم الآن فى كل مكان حول دور الاقتصاد فى الحياة الاجتماعية ونقنع بالاشارة إلى ما يقر به حتى أشد المفكرين انكارا للمادية التاريخية من ما بين حالة المجتمعات وحظها من الثروة , وبين الأوضاع التى تتخذها والطرق التى تنتهجها فى انتاجها وتوزيعها من صلة مباشرة . وقد سبق أن تحدثنا طويلا عغن الحالة الاقتصادية التى كانت عليها مصر فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ورددنا اليها قبل كل شئ ما كانت عليه البلاد وقتئذ وما زالتا عليه من ضعف ظاهر , كما رددنا اليها التوغل الغربى فى حياتها الاقتصادية والثقافية والسياسية . وقد كان أول ما يجب بذله فى سبيل الاصلاح الاجتماعى هو معالجة هذه الحالة بتنحية الثروة . ولكن الذى حدث وما زال يحدث هو أن محاولاتنا الاصلاحية تركت هذا الجوهر للعروض , وانصرفت عن معالجة الفساد الحقيقى لتقف عند معالجة آثاره , فوجهت تثقيفنا وجهة لا صلة لها بحياتنا اليومية وأقامت نظم الحكم الحديثة دون أن تعنى بايجاد الأساس الذى تقوم عليه . وهى تصرف الآن الملايين فى الارشاد الاجتماعى لتوجه وتهذب قوما تعلم أنهم لا يأكلون , ثم اذا خرج شبابنا من معاهده ولم يجد عملا , أو أقبل علىالعم الحكومى , أو حاول الأعمال الحرة ثم أخفق , أو انحرفت نظم الحكم لدينا عن الطريق التى أريد لها , أو ضاعت الملايين التى تصرف فى الاصلاح الاجتماعى سدى , قلنا فيما بيننا أن الذنب ذنب هذا الشعب الذى لا يفقه . وقلنا فيما نعلن أن الذنب ذنب هذا أو ذنب ذلك النفر من المسئولين , وأن الحال على ما يرام , وأن هذه الأمة خير أمة تسعى فى الأرض . وتركنا الأمور تجرى فى أعنتها إلى أن يأتى الله أمرا كان مفعولا ز والذنب من قبل ومن بعد هو دون شك ذنب يحكمون . ذنب الذين يحكمون ولا يقوون على الخلاص من سياسة التستر التى تجرى عليها أمورنا إلى اليوم , سياسة التستر التى لعلها كانت من مقتضيات النضال السياسى فى مصر حين كان الأمر أمر تقوية الروح المعنوية بين المحكومين , واقناع العالم بأنهم شعب حقيق بالاستقلال , مثله مثل غيره من الشعوب . لا يقوون على الخلاص من هذه السياسة وانتهاج سياسة تقوم على مواجهة الحقائق بعد أن ترد الحكم إلى أهله واستكملت البلاد وعنها وقامت على قدمها وأصبحت فى حاجة إلى معالجة مسائلها معالجة حقيقية فليس من العيب أن تتأثر أمة بعوادى الزمن , انما العيب كل العيب فى أن لا تقاومها أو أن يكون كل ما تستطيع أن تقاومها به هو التستر عليها والمنافقة فى أمرها .والعلة فى هذه الطريقة التى يجرى عليها الاصلاح لدينا هى , كما رينا , أن الذين يشرعون يقلدون الغرب بدلا من أن يدرسوا الحقائق الواقعة , ويخلطون بين الأوضاع الاجتماعية والقوانين التى تنظمها فينقلون هذه وهم يظنون أنهم ينقلون تلك . ونحن نعلم أن من أكثر قوانيننا خطرا ما ترجمه ترجمة سيئة أو جمع جمعا سريعا دون أن يكون لمن ترجمه أو جمعه صلة مباشرة كبيرة بالظواهر التى تعالجها . ونرى ما يصيب حياتنا اليومية من جراء هذا ونكاد نلمح الجراثيم التى تحملها القوانين المنقولة وهى تفرخ فى مجتمعنا هذا الناشئ الذى كان من المستطاع , لو أحكمنا التفكير , أن نضع له ـ وأمامنا خبرة العالم أجمع ـ خير تشريع يمكن أن يضعه البشر . ولسنا نعرف مسؤولا واحدا يقدر مسئوليته ولا يشكو قلة الخبرة الفنية لدى معاونيه وأثر الاضطراب السياسى فى عمله . وما دامت الخبرة الفنية لا توجد فى الداخل لأنها لا يمكن أن تنشأ هكذا من لا شئ أو من التعليم النظرى , ولا يمكن استقدامها من الخارج لأن سياسة التستر لا تسمح بذلك , فستظل حياتنا الاقتصادية , وهى كما رأينا أضعف ما فى كياننا الحديث , معرضة لهذه الهزات الشداد التى تصيبها الآن , وتظل أمورنا جميعا مجردة من التنسيق الذى تحتاج اليه كل الاحتياج , ان أردنا أن نسير حقيقة إلى الأمام ونقطع المسافات التى تفصلنا عن هذا الغرب الذى نعجب به .أن الذين وضعوا هذا التشريع يلمسون الآن أخطاءه ولا ينكرون ما أحاط بوضعه من شعث , ولكننا لا نستطيع أن نغفل ما يقوم بشأنه فى روع الكثيرين منا حتى اليوم , مما يتصل بهذا البحث , من ناحية نشاطنا الصناعى ومستقبله وعلاقته بحياتنا الاجتماعية وتبديد ما يعلق بكل ذلك من وهم ليس من الخير أن يستمر . ونحن ننقسم الآن من هذه الناحية فريقين : فريق يرى أننا بلد زراعى وسيبقى كذلك إلى آخر الدهر . وهذا الفريق , وان قل عدده فى السنوات الأخيرة , ومازال يضم غالب أصحاب الأراضى الزراعية , ويتمكن بنفوذه فى دوائر الحكم من توجيه التشريع المالى والاجتماعى إلى ما يرجح كفته , ويجد فى دعاية البلاد التىتنافس صناعتنا ما يدعم فلسفته . وفريق يرى أن مصر فى حاجة إلى الصناعة لمواجهة مسألة النسل وقلة الأراضى الزراعية . وهذا الفريق يثير الآن مسائل عديدة انتقل اليه بعضها من الفريق الأول , فهو يتساءل من أين لنا الخامات التى نغذى بها صناعتنا ونحن لا نملك منها شيئا كثيرا , وكيف تستطيع هذه الصناعة , متى قامت , أن تناهض البلاد الصناعية فى الداخل والخارج , وهل اذا احتاجت فى ذلك إلى معاونة الدولة , وجب على الدولة أ، تقدمها اليها , وإلى أى حد يجب أن تقدمها اليها , ومن أى نوع تكون , وما الحقوق ـ وهنا يرتفع صوت الدوائر المسئولة على وجه الخصوص ـ ما الحقوق التى يجب أن تخولها هذه المعونة للدولة ؟ والقول بأن مصر فى حاجة إلى الصناعة لمواجهة مقتضيات زيادة النسل قول لا يعدو الصواب , ولكنه ليس الصواب كله , فليس أم رالصناعة لدينا أمر موارد جديدة ينبغى لنا أن نجدها كيما نسد بها عوزنا , ونستطيع أن ننصرف عنها ان كف عوزنا هذا بان قل النسل أو عثرنا على موارد أخرى فاستصلحنا الصحارى أو زدنا فى قيمة محاصلينا . انما هو أمر نوع الحياة التى نريدها لنا ولأبنائنا من بعدنا , هل هى هذه الحياة العصرية التى لا تنى تسير من اكتشاف إلى اكتشاف وترفع من شأن البشر وتفتح امامه آفاق لا آخر لها , وهى الحياة التى تتركز فى الحواضر الصناعية الجبارة التىنعجب بها جميعا , أم هى هذه الحياة القديمة بجوها الراكد وأفاقها الضيقة وعلاقاتها البدائية , وهى هذه الحياة الزراعية التى لم تعد تستطيع أن تشغل الا مركز التابع من المتبوع بالقياس إلى الحياة الأولى . وقد فاتنا ونحن ننقل نظم الغرب وندهش لتقلصها لدينا , فاتنا أن هذه النظم وضعت لمجتمعات صناعية ولم يكن من المستطاع الا تنتقص لدينا ما دام مجتمعنا مجتمعا يغلب عليه الطابع الزراعى . فهذا الحكم النيابى الذى نريده على كل حال وهذه القوانين الاجتماعية التى وضعناها أو نريد أن نضعها وهذه الأوضاع العصرية التى نريد ا، تجرى عليها حياتنا العامة والخاصة جميعا أشياء انتجتها مجتمعات تعيش متجمعة فى المصانع وقصدت بها إلى معالجة ظواهر حياتنا الخاصة ولم تنتجها المجتمعات الزراعية .ونحن لا نريد أن نقول بهذا أن مرجع الحضارة هو نوع الانتاج ولا شئ عداه , انما نريد أن نقول ان الثروة وانتاجها وتوزيعها عوامل هامة فى تكييف الأوضاع الاجتماعية التى تتخذها الشعوب , ومن ثم يصير أمر تصنيع حياتنا أمرا لا مفر منه , لا حلا من حلول نستطيع أن نتخذه وننصرف عنه حسب ظروف النسل , وتصير مسائل المواد الخام والمنافسة الدولية ومعونة الدولة التى تثار الآن عقبات تقتضى التذليل لا شروطا بقيامها هذا التصنيع . ومسألة المواد الأولية هذه لا تعد , حتى لدى من يثيرها , بالمسألة الخطيرة حقا , فقد كشفنا فى المدة الأخيرة عن شئ منها وما زلنا نستطيع أن نكشف عن غيرها . ونحن لم نشعر على كل حال فى الأوقات العادية بالحاجى إلى مادة تستخدمها صناعتنا وعجزنا عن جلبها بأسعار لا تزيد زيادة ذات بال على أسعارها فى بلادها . وليس كل بلد غنى فى المواد الأولية بلدا صناعيا وليس كل بلد فقير فى المواد الأولية أو بعضها بلدا غير صناعى . وقد كانت انجلترا أكبر الدول المنتجة للمنسوجات القطنية وهى لم لتزرع القطن قط , ولا نظن أنها كانت تجبرنا على زراعته جبرا . وسويسرا بلد صناعة إلى أقصى حد وهى مع ذلك ليست أحسن منا حالا من ناحية المواد الأولية . ونحن على كل حال أثرياء فى مادة لا يجدها غيرنا بالكثرة أو الجودة التى نجدها لدينا , وهى ما تستطيع أن تؤديه هذه الملايين من السواعد الفتية الذكية التى تبحث الآن عن عمل ولا تجده وتضيع فيما لا غناء فيه ملايين الساعات من الانتاج . وأمر المنافسة أمر اتقان وسعر . والاتقان لابد آت مع الزمن , ولا سيما اذا قامت عليه الدولة ومدت له الأسباب بالتيسير الحكيم والاعداد والتشجيع فنحن شعب ذكى وأمامنا خبرة هذه القرون من الحياة الصناعية نستطيع أن نغترف منها ما نشاء ما دمنا نغترف بحكمة . والغرب لا يخترع كل يوم , ثم انه يخطأ كثيرا , وفى مقدورنا لذلك اذا قبلنا أن نتحمل ما يقتضيه ذلك من جهد أن نقطع فى سنين ما قطعه هو فى قرون بعد أن أصبح الطريق أمامنا طريقا معبدا ظاهر المعالم . كذلك ليست الأسعار شيئا جامدا لا يتحول . وتكاليف الانتاج مرتفعة لدينا الآن لحداثة المنشآت وقلة الانتاج وارتفاع أجور الفنيين وعلو رأس المال ولكنها لابد منخفضة متى تكونت التقاليد الصناعية واتسع الانتاج وكثر الفنيون ونمت رؤوس الأموال . ونفقات انتاجنا الزراعى لا تقل ـ رغم عراقته ـ عن نفقات انتاجنا الصناعى , ونحن مع ذلك ما زلنا نزرع ونحصد ونعيش مما نحصد . ولا شك فى اننا نستطيع أ، نزيد فى انتاجنا الحالى وفى النعشة التى يبعثها منذ الآن فى أطراف المجتمع جميعا إلى أضعاف أضعافه دون أن نخرج إلى الأسواق الخارجية حيث المنافسة التى قد لا تقوى عليها لاشتباك العوامل السياسية والمالية بالعوامل الاقتصادية فيها , اذا واجهنا اقتصادنا الزراعى بالحزم الذى يقتضيه ورفعنا من شأن المشتغلين وزدنا بذلك فى عدد المستهلكين لمنتجاتنا الصناعية . فنحن لا ننتج الآن الا لهذه المدن القلائل التى تنتثر فى أعلى الأرض وأسفل الأرض دون أهل الريف الشاسع الذى يبلغون نحو ثلاثة أرباع أبناء البلاد لأنهم لا يكادون يستهلكون الا ما يصلون إلى تحصيله من لامواد الضرورية لحياتهم المتواضعة . واليوم الذى نصل فيه إلى ذلك ونزيد عدد مصانعنا بما يقتضيه ـ وبعضها يكفى الآن وحده دون أن يكون كبيرا غاية الكبر لاستهلاك البلاد بأسرها من سلعة بعينها ـ نكون قد بلغنا من التقدم الاجتماعى ما نستطيع أ، ننظر معه بعين مطمئنة إلى المنافسة فى الأسواق العالمية لأنه يكون اليوم الذى يرد فيه إلى الحياة المنتجة جميع هؤلاء الملايين من التعساء الذين لا يعلمون الآن شيئا من عالمنا هذا أو يعوقون سير البلاد بثقلهم الميت . ولا يضير الدولة فى شئ أن تمد يد المعونة إلى الصناعة فى دور نشأتها فقد مدتها لها دول غيرها من قبل ولاشك فى أنها ستمدها اليها فيما تستقبله من الأيام أيضا لأنها ضرورة لا مناص منها لكل صناعة ناشئة ضرورة الوصاية للقصر , مادامت هذه المعونة معونة حكيمة تقصد إلى اعطاء الصناعة ما حرمها اياه عدم تأصل التقاليد الصناعية أو شذوذ الأوضاع الاقتصادية أو الفقر فى المواد , ومادامت تعمل على تهيئتها للاستغناء عنها قليلا قليلا فى حدود ما تستطيع . وهذه المعونة تستطيع أن تكون فنية فتعمل على توفير اليد العامة المتخصصة , أو مالية فتخفف الضرائب حين يجب تخفيفها , أو ترفع الرسوم الجمركية مادام رفعها لازما ومادام الجهد مبذولا لتجنبه , فنحن نحمى القطن ومحصولات زراعية أخرى , وليس فى العالم دولة لا تحمى شيئا مما تزرع أو تصنع . ليس هذا بمضير الدولة , وهو ليس أيضا , فى ظروفنا الحاضرة , بمضير المستهلكين فليس الأمر لدينا الآن , كما هو لدى غيرنا , أمر الحصول على سلعة معينة بسعر يزيد أو يقل بل أمر استطاعة الحصول أو عدم الحصول أو عدم استطاعة الحصول على هذه السلعة اطلاقا . نقصد أمر التفضيل بين أن تقوم لدينا مصانع عملا لمن لا يعمل أو يعمل بما لا يسمنه من جوع , فيستطيع أن يحصل على ما يحتاجه اليه بسعر يزيد سعره فى البلاد الأخرى , وبالتالى يحصل على بعض حاجاته , على ألا تقوم هذه المصانع البتة ويبقى هؤلاء الملايين الذين لا يعملون أو يعملون بما لا يسد رمقهم حيث هم . وأكبر الظن أن قيام الصناعة لدينا على يد الأجانب هو الذى يدفع بنا الآن إلى هذا التفريق الغريب بين المستهلك والمنتج , وهو تفريق لا يوجد فى الواقع المحسوس , فكل منا منتج ومستهلك فى وقت واحد وان جاز أن يختلف انتاج كل منا عن استهلاكه . ونحن لن تستهلك ان لم ننتج وكل خروج عن هذه القاعدة قرينة على شذوذ اقتصادى ليس من الخير أن يستمر . ومصانعنا وان ملكها أجانب فهى ثروة مصرية وملكيتها لابد آيلة للتمصير إلى حد بعيد . وقد قلنا انه لا يضير الدولة أن تمد يد المعونة للصناعة فى دور نشئتها قاصدين بذلك أن نقول انه لا يؤذيها من الناحية المالية , أما من الناحية الاجتماعية والسياسية فهذه المعونة واجب من أول واجباتها . ونحن لا نقول هذا لأن دوائرنا المسئولة تنكره ولكن لأنها أو لأن بعضها على الأقل مازال ينظر إلى الصناعة ـ مع اقراره بهذا الواجب ـ كشئ لا صلة لها به يريد أن يرتب عليها للدولة حقوقا ازاء ما يقدمه اليها من معونة , وهى نزعة هذه الأخيرة تسير منذ حين فى الاتساع بدافع تيار التأميم فى الغرب . وانكار الصلة المباشرة بين النشاط الاقتصادى ومصير الدولة وهم غريب من نوع التفريق بين المنتج والمستهلك , فما نظن دوائرنا المسئولة تنكر انها قد أفادت من حصيلة الضرائب على الصناعة والتجارة فى تمويل مشاريعنا الاقتصادية والاجتماعية العامة الجديدة إلى حد بعيد . ولا نظن أن هذه الدوائر لا يهمها حقيقة أن تندثر الصناعات فترتد إلى الاقتصاد الزراعى المحض ويقل دخل الدولة ويعود أهلها إلى ما كانوا عليه أسلافهم تحت المماليك إلى جانب ما يصيب المجتمع بأسره من جراء ذلك . وقد اتجهنا أخيرا إلى وضع سياسة خارجية نسير على هداها ولا سياسة خارجية بدون قوات مسلحة ولا قوات مسلحة بدون أسلحة ولا أسلحة بدون الصناعة القومية التى تنتجها أو تستطيع أن نتنتجها وقت الحرب . والدولة لدينا تتدخل الآن فى نشاط الأفراد جميعا أكثر مما يجب . وهى ليست حقيقة فى حاجة إلى الائتمام ببعض بلاد اغرب والمد لنفسها فى هذا التدخل خصوصا فى ميدان الانتاج فهو ميدان كثير الحساسية دقيق التركيب ثم انه جديد عليها وهى فقيرة فى الفنيين وليس من مصلحة البلاد أ، تنقل إلى هذا الميدان أيضا ـ وهو بعد أكبر آمالها فى مستقبل خير من هذا الحاضر ـ ما تشكوه هى من الاضطراب ووجوه النقص التى يعلنها الجميع . لتقنع الدولة اذا بالتعضيد دون التدخل , وتعمل قبل كل شئ على التيسير ما استطاعت . ففى نظمنا الادارية الحاضرة ما أصبح يتعارض وحاضرنا ويعوقه اعاقة ما أحوجنا إلأى الجهد الذى نبذله فى مواجهتها . وتشريعنا المالى والاجتماعى فى حاجة إلى الاصلاح والتكميل . وقد آن لنا أن نصرف إلى درس أمورنا الدرس العسير الذى تستحقه وان نتخذ لذلك العدة التى يقتضيها فقد نضج وعينا ولمسنا بيدنا فى السنوات الأخيرة عاقبة الارتجال وليس من العيب أن نجهل ما لا سابق عهد لنا به , وأن نستعين بخبرة القرون التى نالها غيرنا وأن نتعلم . وانما العيب فى أن نتستر على كل ذلك وأ، نغلب الأإراض العاجلة على الغايات البعيدة .

الفصل الخامس: عقد النقص

والنتائج السلبية التى تسفر عنها سياسة مجتمعنا الحالى على الوجه الذى رأينا ترد عادة إلى طبيعة أهله , ولا ترد إلى التفاوت الذى شهدنا بين حقيقة ظواهره والوسائل التى تعالج بها . وهكذا يتحول الفرق بين مصر والغرب من حقيقته الزمنية , نعنى حقيقته كفرق كمى بين ما انتهى اليه المجتمع المصرى بوقوف عجلته صدرا من الزمن , وما بلغه الغرب بدور عجلته دورا سريعا فى هذا الصدر من الزمن بالذات , لأسباب يخرج أخطرها فى جوهره عن ارادة كل منهما , إلى نقص ذاتى ينسب إلى المعدن الذى قد منه هذا المجتمع . ووضع الأمر هذا الوضع فى قلب أبناء بذور الشك فى نفسهم , فيترجحون بين القنوط والاستهتار . وتنحل عزيمتهم , ويبعدون فى هذه الحياة المتداعية المتشائمة التى نجد عليها حتى أبعد دوائرنا وطنية إلى اليوم . وهو يمد بعد ذلك ظله القاتم إلى ماضيهم القريب والبعيد أيضا , ويشوهه تشويها شديدا , وينخر بذلك فى عظامهم نخرا لا يقل وطأة عن نخر الفاقةالاقتصادية والاجتماعية فيها .

وقد فطن بعض كبار كتابنا إلى خطر تشويه تاريخنا هذا الثقيل وهموا بالوقوف له فعرض له هيكل فى مقدمة كتابه "تراجم مصرية" , وعنى به العقاد فى مقدمته لحياة "سعد زغلول" وتصدى له آخرون , ولكن لم ينهض إلى يومنا هذا للقضاء عليه القضاء المبم , حتى صار أثر حياتنا اليومية فى أضعاف عمله أقوى كثيرا من أثر جهودنا العلمية . ولعل بعض السبب فى هذا الشذوذ يرجع إلى ما زلنا نلتزمه من درس ماضينا على هدى المراجع التى تمكن لذلك التشويه . ومن الغريب حقا ألا يفطن الذين يشكون فى مصيرنا أنهم يشاركون فى هذا الشك المعتدين الذين ينادون بضرورة التخلص منهم مؤرخونا إلى مشاكلة ما يكتبون فى تاريخ مصر ما كتبه فيه غالب الرحالة والساسة وأنصاف اعلماء الذين نزلوا عليها من الغرب منذ الحملة الفرنسية إلى الصدر الأول من هذا القرن , أى أثناء النكسة المصرية , فى الطابع المغرض الذى ينفرد به , وألا تدفعهم هذه المشاكلة إلى الارتياب فى صحة ما يكتبون , وتردهم عنه إلى آفاق جديدة .

وقد سبق أن شهدنا , عند التحدث عن صلة المصريين بالشعوب القديمة , فى الفصل الأول من هذا الكتاب , كيف بليت مصر , آخ رأيام افراعنة و بعداء امبراطورية الفرس , وكانت أقوى امبراطورية عرفها العالم القديم لذلك العهد , فى الوقت الذى كانت تنقسم فيه على نفسها , فيلحق شمالها بشعوب البحر المتوسط ويتصل جنوبها ببلاد النوبة اتصالا شديدا , ويتوزع الحكم فيها بين الأمراء الاقطاعيين , ولا يمنعها ذلك من الثورة على الفرس تحت داريوس وكسرى وارتكسيرس حتى تسترد حريتها بعد مائة وعشرين عاما من الحرب المتصلة, وهى الحرب التى يشبه مانتون عنفها بعنف معركة ترمبولى بين الفرس والأغريق , ثم تحاول القضاء على الحكم الفارسى فى الشرق الأدنى تحت الفرعون تاخوس . ولكن الفرس يعاودون الهجوم عليها فى سنة 338 ق . م ويتمكنون من دخولها عنوة والبقاء بها ستة أعوام تباعا , بعد أن يغدر بها المتطوعة من الأغريق والفنيقيين وينقسم الرأى فيها بين التشيع للعجم والتشيع للأغريق , وكانوا يتنازعون فى ذلك الوقت السيطرة على العالم . كذلك شهدنا كيف كانت الشعوب تسير فى ذلك الحين نحو الحكم العالمى فكانت الامبراطورية المصرية ثم الامبراطورية الفارسية ثم امبراطورية الاسكندر . ووكان اختلاط الشعوب فى كل من هذه الامبراطوريات العالمية وفقدها الوعى بفوارقها السياسية واشتراكها جميعا فى حضارة واحدة هى الحضارة الهلينية , ومن ثم كان امعان المصريين فى الاعتماد على مقياس الدين فى التمييز بين الناس , بدلا من مقياس الجنس , وارتفاع سلطان الكهنة بينهم , وانتشار طقوسهم الدينية بين بلاد البحر المتوسط و وترحيبهم بالاسكندر فى ثورتهم على الفرس الذين كانوا يحقرون معابدهم , وقبولهم حكم البطالمة بعد أن اعتنقوا الديانة المصرية مثلهم .

ولم تكن السلطة التى كان رجال الدين المصريون يزاولنها وقتئذ سلطة شكلية أو روحية فقط , فقد كانت الكنيسة المصرية تتمتع حتى آخر أيام الفراعنة بسلطة تشريعية ـ قضائيةـ مالية واسعة .وكان فقد هذه الكنيسة بعض هذه السلطة من الأسباب التى دفعتها إلى ممالأة البطالمة والتمهيد لقيام دولة الاسكندر ودولة البطالمة من بعدها . وقد صحب قيام الدولة البطلمية اعتناق رجالها عقيدة منفيس , فكان البطالمة يتوجون فى هذه المدينة ويديرون مجالس كهنتها ,ويسترشدون برأيهم , ويعبدون فى معابدهم , ويأتمون يهم فى معابد الاسكندرية . وهكذا كان وضع الكنيسة المصرية يشبه فى ذلك العصر إلى حد بعيد وضع الكنيسة الكاثوليكية فى عصور الوسط حين كان حكم القارة الأوروبية إلى رؤساء قبائل الفرنك والغوط والهون , فقد كانت ذهه الكنيسة تمثل وقتئذ أهل الباد الأصليين وتقاسم هؤلاء الحكام سلطانهم وتتمتع لديهم , وبخاصة بعد أن أدخلتهم دينها , بنفوذ عريض , وان كان الوضعان يختلفان بعد ذلك فى أن قيام دولة البطالمة فى مصر سبقه اختلاط عريض بين المصريين والأغارقة وظهور حياة اجتماعية مشتركة لا نجد لها نظيرا بين أهل الامبراطورية الرومانية وقبائل البربر فى القرن الخامس . وقد أراد البطالمة أن يحدوا من سلطان الكنيسة العتيدة بعد أن استقام لهم الأمر فى الباد فأصدروا مراسيم الصدر الأول من حكمهم لتنظيم المعابد وعلاقتها بالدولة , ومركز الدولة من الملكيات الزراعية الواسعة التى كانت تتمتع بها , ولكن هذه المراسيم لم تكن فى جوهرها الا مظهرا من مظاهرة فنوة الحكم البطلمى الجديد , ورغبته فى مزاولة سلطته كاملة فى جميع ميادين الحياة العامة , وهى رغبة اختفت بعد ذلك بقليل وتركت المكان خلفها للزعازع التى ظلت تنتابه حتى دال , والتى كانت تطلق يد هذه الكنيسة من جديد حتى كان آخر البطالمة يحسبون لها ألف حساب . وقد رأينا كيف بدأ تاثر حياة الشرق بالحضارة الهلينية فى ذلك العصر فى المدن الساحلية والتجارية وفى الطبقات العليا من أهل هذه المدن على وجه الخصوص . ثم جعل يتغلغل ويمتد فيما عداها حتى ظهور المسيحية . ونحن نعلم فيما يتعلق بمصر أنه حتى آخر أيام البطالمة قويا فى الدلتا , ضعيفا فى الصعيد . فقد كان أهل الصعيد يجهلون الأغريقية لذلك العهد على عكس أهل مدن الشمال , ويقيمون المعابد لآلهة مصر القيدمة و ويترددون على بلاد النوبة . وكانت الثورات المصرية علىالحكم البطلمى تنفجر عادة فى الصعيد بعكس ثورات العصر الفارسى فقد كانت غالبا ما تنفجر فى الشمال حيث الأثر الأغريقى . وهكذا كان هذا التفاعل يترك خلفه ساحات واسعة لا يمد اليها أثره أو يمده اليها مدا هينا , ومن ثمة كان أخذ البطالمة بأساليب الحكم الأغريقى فى الاسكندرية وبعض المدن المصرية الأخرى , وابقاؤهم على الادارة المصرية فيما عداها , ومحافظة الأغريق المقيمين فى مصر على كثير من تقاليد بلادهم , وقبولهم فيما عدا ذلك تقاليد أهل البلاد , ثم وجود طبقات مصرية كثيفة لا تستسيغ الحكم القائم وتقدم على مجاهدته كحكم أجنبى.

ولم يكن قيام نظم الحكم الأغريقية فى الاسكندرية والمدن الأغريقية القائمة فى مصر سوى مظهر من مظاهر قصور اغريق عن التخلص من تصورهم الدولة كمدينة قائمة بذاتها كما كان الحال فى بلادهم . وليس ممن أرخوا لذلك العصر من يأتى بصورة صادقة للطريقة التى كانت تجكم بها الاسكندرية والمدن الأغريقية القائمة فى مصر على وجه العموم , وان كانوا يجمعون على خضوعها لسلطة الملك إلى حد بعيد . وقد فقدت هذه المدن جميعا بعد قليل من قيام البطالمة المجالس النيابية التى كان يتجسم فيها استقلالها ولم يبق لها منه الا ما احتفظت به من القوانين والتقاليد الادارية والمالية والقضائية التى نشأت عليها , وهو أمر كان ملوك العالم القديم لا ينكرونه على رعيتهم عادة, وكان المصريون يتمتعون به إلى حد بعيد , سواء من كان يعيش منهم داخل هذه المدن أو خارجها .

ومؤرخو ذلك العصر يكادون يجمعون على وجود فوارق لا يستهان بها بين الحقوق التى كان يتمتع بهااليونانيون المقيمون فى مصر والحقوق التى كانت يتمتع بها المصريون ويردون ذلك إلى الاختلاف الجنسى . وهم يغفلون فى هذا ما كان يحدث وقتئذ باليونان نفسها من انفراد علية المدن بحقوق لا تتمتع بها عامتها أو أهل الريف من اليونيين . وينسون أن فقراء أغريقى الاسكندرية كانوا لا يتمتعون ـ رغم أغريقيتهم ـ بجميع الحقوق التى كان يتمتع بها أعيانها , وأن مرد ذلك كان إلى تصور الحكم وليس إلى التفريق الجنسى . وفى هذا ما يفسر تخبط غالب هؤلاء المؤرخين فى تحديد الفوارق التى يجدونها بين المصريون والأغارقة فى ذلك العصر , فجوجيه , وهو منهم , يقول ان اليونانيين كانوا يميزون على المصريين , ثم مؤكد أن المصريين كانوا يعاملون معاملة حسنة وأن البطالمة كانوا يعملون على استمالتهم . وهو يعترف بعد ذلك بشيوع الزواج المختلط بين المصريين واليونانيين رغم منع المدن الأإريقية أبناءها من التزوج من الأغراب , سواء أكانوا يونايين أم غير يونانيين , ولا ينكر أخذ اليونانيين بالطقوس الدينية المصرية فى حماسة شديدة , وتأثر الحكم البطلمى بالنظم المصرية تأثرا عريضا , وتساوى المصريين القاطنين بالمدن , سواء كانت مدنا أغريقية أو مصرية , فى الحقوق مع الأغراقة فى عهد أغسطس ,وهو العهد الذى نظمت فيه الحقوق السياسية لهذا المجتمع المختلط , ووضحت معالمها . وهى جميعا ملاحظات لا يمكن أن تتفق أو تستساغ لو كانت الفروق بين المصريين والأغارقة فروقا جنسية حقيقية . كذلك كان الطامحون إلى الحكم من المصريين يجدون خلفهم جماهير غفيرة من المتذمرين المتحفزين للثورة. ونحن نجد من هؤلاء المصريين فى لذك الوقت فريقين : فريق المتعاونين مع الحكم القائم , وفريق المناهضين له مناهضة سافرة . وإلى الفريق الأول ينتسب بتزوريس الملقب بديونيزوس الذىتدخل فى فى النزاع بين الملك ارفيجيت وأخيه وعزم على خلعهمها والاستئثار بالعرش بعد أن يثير حركة قومية يستند اليها . وقد نجح فعلا فى اثارة أهل الاسكندرية وكاد ينجح فى قتل أخى الملك , ثم اضطر إلى مغادرة المدينة والتحصن هو وأعوانه من المصريين فى مدينة الويزيس والفرار بعد ذلك إلى الصعيد . واليه أيضا كان ينتسب سوزيبيوس الذى قاد الجيوش المصرية إلى انتصار رفح , وكان يوجه السياسة المصرية على أيامه ثم آكيلاس الذى قاد الثورة على قيصر .

ولكن أكبر تأثير سلمى مصرى فى هذه الدولة كان بلا شك تأثير كنيسة منفيس التى مهدت لقيامها , فقد كان رجالها يتوجون الملوك ويجتمعون بهم فى مجامع تعقد كل عام للنظر فى الشئون التى يهتمون بها . وقد انتقل البلاط السياسى البطلمى بأكمله بعد البطالمة الثلاثة الأول من الاسكندرية إلى منفيس , مقر هذه الكنيسة و وجعل البطالمة يوثقون علاقاتهم برجالها حتى انقلب تتويجهم من واجب يلزمون به إلى حق يستطيعون أن يمنعوه . وكان تتويج البطالمة فى منفيس يتخذ حينئذ شكلا مصريا فاقعا , كذلك كانت قرارات المجامع السنوية بها تمتاز منذ عهد بطليموس الرابع بما تدل عليه من عودة سلطان الكنيسة المصرية إلى الامتداد من جديد .

وكان مناهضو الحكم البطلمى يلجؤون أثناء ذلك إلى الثورات العسكرية الدامية . ومؤرخو هذه الثورات يرتفعون بها إلأى معركة رفح فسنة 217 ق . م . اتى كسبتها الفرق المصرية من جيوش البطالمة فقد رد هذ الانتصار إلى المصريين الثقة فى نفسهم فثاروا فى العام التالى وواصلوا ثورتهم طوال عهد فلدباتور وخليفته , ثم أعقبت هذه الثورة ثورات ومؤمرات وحركات عصيان امتدت حتى نهاية العهد البطلمى . وبوليب يقول ان الحرب بين المصريين والبطالمة كانت قاسية عنيفة , وانها بدأت فى الدلتا إلأى الصعيد حيث عطلت أ‘مال البناء فى معبد أدفو , وبلغت من الخطورة حد أن عرضت بعض الدول على البطالمة ممعونتها . وقد نادى الثوار فى وقت ما بأحد زعمائهم ملكا على البلاد , وحالفوا كنيسة طيبة , وجعلوا يستعينون بالنوبيين , وواصلوا الحرب حتى استطاع البطالمة أن يهدموا عاصمتهم طيبة فى سنة 228 ق . م . ونحن اذا ذكرنا أن نعلمه عن عهد البطالمة نقلت غالبه الينا المصادر الأغريقية والرومانية المعارضة للتيار المصرى , استطعنا أن نجزم بأن هذه الثورات كانت أوسع وأشد بكثير مما تذكره هذه المصادر . وسكوت المصادر المصرية فى ذلك العصر عن هذه الثورات يرجع بلا شك إلى الوسيلة التى كان العالم القديم مازال يعتمد عليها فى النقل الفكرى ـ وهى البناء وكتابات الكهنة ـ فالبناء وسيلة ثقيلة التكلفة معرضة للعيان ولا يستطيع لذلك أن يلائم الثائر . أما الكتابات الدينية فلم تكن قادرة على العناية بالثورات السياسية ولا سيما بعد أن تحولت الكنيسة المصرية عن الحدود الوطنية واتجهت اتجاها عالميا . يضاف إلى ذلك أن الفنون والعلوم والآداب كانت لا تودهر فى العالم القديم , وبخاصة بعد أن ظهرت الدول الضخمة ومالت الطبقات الوسطى إلى الزوال , الا فى قصور الملوك وأروقة المعابد , حيث يستطيع رجال الفكر الانصراف إلى الدرس . ومن ثم كان ما تحت يدنا من تراث البطالمة الفكرى من انتاج الاسكندرية وانتاج رجال الفكر الذين كانوا يترددون على بلاط الملك ومتحفه ومكتبته بوجه خاص , وكان أيضا خاو هذا التراث مما يغضب الملوك فى الحياة العامة وبروز اليونانيين أو المصريين "المتهلنين" دون غيرهم فيه واختفاء اللون المصرى الذى يلحظه مؤرخو ذلك العصر منه . وقد قلنا اختفاء اللون المصرى لأن جوهر تلك الحياة الفكرية لم يكن مصريا خالصا ولم يكن يونانيا خالصا أيضا , وانما كان ثمرة اختلاط الحضارات الذى كان يسير فى طريقه منذ قايم امبراطورية الفرس وكان يمهد فى لذك الوقت بالذات لظهور المسيحية . وقد اصاب الآثار الفرعونية والبطلمية القائمة فى آخر أيام البطالمة وأصاب ما بها امن الوثائق المكتوبة على كل حال كثير من التدمير الذى تولاها به الثوار , وأعقبهم المسيحيون الأولون فيه بهمة لم تعرف الكل . وفى هذا ما يفسر لنا أيضا قلة التراث التاريخى الذى تختلف لنا من ذلك العهد .

وهكذا عاشت تلك الدولة البطلمية العجيبة بلونها الأغريقى وجوهرها المصرى : الطبقة العليا منها أغريقية تسير إلى التمصر , أو مصرية تسير إلى "الاستغراق" , والطبقتان المتوسطة والدنيا , فيما عدا سكان المدن الاغريقية التى كانت تسير بدورها إلى التمصر , مصرية يتغلغل بأكمل مظاهرها فى حياة الاسكندرية , حيث يختلط المصريون بالاغريق باليهود بشعوب البحر المتوسط جميعا , وتنمو الفكرة العالمية , فلا يتمايز الناس الا بلونها الحضارى , ويقوى التيار الدينى الذى مكن لعبادة ايزيس فى الشرق الأدنى واليونان وايطاليا , حيث قاومها القناصل , ثم قبلها قيصر , ثم عطلها أغسطس ليجعل منها أورليان دين الامبراطورية الرومانية الرسمى . وهكذا عاشت حتى انقرضت الأسرة التى حكمتها وحل محلها أباطرة روما , فى الوقت الذى كانت هذه المدينة تنتقل فيه من النظام الجمهورى إلى الحكم الامبراطورى الشخصى وتتوغل فى الحضارة الهلينية , وتمتزج بشعوب البحر المتوسط فى وحدة اجتماعية سياسية واغحدة . ونحن نعلم فعلا أن روما وما كانت تعانى , حين مالت الدولة البطلمية إلى الزوال , أزمة داخلية عميقة , بعد أن أدت حروبها الأوروبية إلى ارتفاع سلطان رجال السيف بين الطبقة الحاكمة فيها وبدأ هؤلاء الرجال يخاولون الاستئثار بالحكم ويتحملون فى سبيل ذلك من النفقات الباهظة ما كانوا يستصدرون القوانين ويثيرون الحروب بغية التخلص منه . ومن ثم كانت محاولة قيصر الحصول على حكم مصر بأثارة مسألة وصية بطليموس اسكندر الثانى ثم تقديمه قانون توزيع أراضى ايطاليا ومصر بين جنده فيما بعد , دون أن يصل فى الحالتين إلى تحقيق شئ من غايته لتخوف مجلس الشيوخ الرومانى مما قد يكون لنجاحه من أثر فى النزاع السياسى الداخلى القائم وقتئذ وما كان ينفقه البطالمة . عن سعة لشراء أعضاء هذا المجلس وشراء قيصر نفسه حين صار قنصلا . من التقائه بكليوباطرة وزواجه منها , ثم عودته إلأى روما وهو أشد ما يكون رغبة فى اقامة ملكية عالمية كملكية الأسكندر . وقتل قيصر فحل محله أغسطس , وكان أول ما فعله , بعد أن استجمعت له الأمور , هو التخلص ممن يستطيعون أن ينازعوه حكم المملكة الجديدة , وبخاصة ابن قيصر من كليوباطرة , ووضع يده على مصر هذه التى كانت تتجه اليها عيون أحزاب المعارضة فى روما منذ حين وكانت مواردها أكبر عون استعان به منافسوه فى هذا الحمك بالذات .

وكان حكم مصر ينتقل إلأى أغسطس فى نفس الوقت الذى كان ينتقل اليه فيه حكم الامبراطورية الرومانية جميعا بحكم وراثته قيصر بعد وفاة ابنه من ملكها , وان كان هو قد عنى باستصدار القوانين التى تقلده هذا الحكم بصفته الشخصية ,وتصف هذا التقليد بأنه رغبة من رغبات الشعب الرومانى الذى كانت القوانين الرومانية مازالت تنسب اليه لذلك الوقت . وقد أثار استئثار أغسطس بحكم مصر وما صحبه من مظاهر انفرد بها ذلك الحكم دون غيره فى أقطار الامبراطورية الرومانية الأخرى ـ أاثر الخلاف بين مؤرخى ذلك العصر حول حقيقة الصلة التى قامت وقتئذ بين روما ومصر , وهل كانت صلة الاتحاد الشخصى , أو صلة التابع للمتبوع . وهذا الخلاف يدور حول الاشكال القانوينة أكثر مما يدور حول الوقائع , وهو يدور فى الغالب حول جميع النظم الدستورية الرومانية فى ذلك العهد لما يبدو بينها وبين الوقائع التى تتصل بها من تباين شديد , يرجع إلى ما كانت الجمهورية الروماينة تمضى فيه وقتئذ من تحول سريع , من ناحية , وإلى السياسة التى انتهجها أغسطس طوال حكمه , من ناحية أخرى . فقد كانت روما تحتاج وقتئذ ـ وقد اتسعت أطرافها , وتغيرت طبقتها الحاكمة , ونعم نسيج أهلها ـ إلأى حكم مركز منظم سريع لا يستطيع أن يعطيها اياه النظام الجمهورى الذى عرفته . وكانت نظمها تتجه فعلا منذ حين إلى حكم الملكى . وكان أغسطس من ناحيته يريد أن يتجنب الاعتداء السافر على النظم القائمة ,ويفضل المحافظة على الأشكال , ومسايرة التطور الطبيعى , ومن هنا كان ابقاؤه على مجلس الشيوخ وموالة هذا المجلس اصدار القوانين فى صيغتها العادية , وان أصبح يصدرها الآن تلبية لأمر رئيس الدولة الجديد , كما كان يصدر هذه المرة قانون اسناد حكم مصر إلى أغسطس فى الوقت الذى يقلده فيه مراكز الحكم العامة جميعا وكانت مصر تنصبه ملكا عليها محل البطالمة . وفى تقليد الملكية المصرية أغسطس شخصيا , مع تقليده حكم روما , ما يزكى رأى الذين يرون فى انضمام مصر للامبراطورية الرومانية صورة من صور الاتحاد الشخصى , كما ان فى بقاء سائر المصريين محرومين من الحقوق السياسية كأهل غالب الأقطار الرومانية لذلك العهد ما يعزز رأى الذين يأخذون بنظرية التبعية . ومهما يكن من شئ فنحن نعلم من مؤرخى ذلك العصر أن أغسطس أراد الاستئثار بحكم مصر للانتفاع بمواردها فى محاولة السيطرة على روما التى كانت تعانى حينئذ أزمة مالية شديدة , أو الاكتفاء به , اذا لم يفلح فى هذه المحاولة , وتجنب سقوطه فى يد منافسيه سقوطا يضر بمركز روما نفسها أو يضع حدا لحكمه ,ومن ثم كان منعه أعضاء مجلس الشيوخ من زيارة الأراضى المصرية بدون اذن خاص منه وتحاشيه دخول المصريين هذا المجلس واستمساكه ازاءهم بسياسة الحذر الشديد التى كانت روما لا تأخذ بها فى ذلك الوقت الا مع قرطجنة عدوتها اللدود.

وقد انفراد الحكم الرومانى فى مصر دون الحكم البطلمى الذى سبقه بأنه لم تتقدمه أو تصحبه هجرة رومانية كالهجرة اليونانية التى سبقت هبوط الاسكندر مصر واتصلت بعده أيضا , ولم يؤثر لذلك فى الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى كان عليها المصريون وقتئذ . هذا إلى أنه كان يتأثر إلى حد بعيد بالروح اليونانية التى كانت تؤثر فى مصر والتى كانت تحتوى على شئ كثير من التفكير المصرى وخصوصا الدينى منه , ما يمكن أن يعد اصطداما حقيقيا بين عالمين غربيين , أو تغييرا جديا فى الظروف العامة التى كانت تحياها مصر وقتئذ . وكانت الطبقة التى علو المجتمع ويمكن أن تتأثر بانتقال الحكم إلى الأيدى الجديدة , دون عدم محاولتها شيئا ضده , وقنوعها بتأكيد أغسطس لها عزمه على ابقاء الحالة على ما هى عليه ومغادرته مصر دون حدث يذكر .

وكان الحكم الرومانى يعتمد , كالحكم البطلمى , فى التمييز بين الشعوب وأهل مصر , من الناحية العامة , على لونهم الحضرى , أهو هلينى أم غير هلينى , ومن الناحية السياسية , على وضعهم الاجتماعية , هلى هو وضع الأحرار من أهل المدن التى تحكم بالنظم المدنية , سواء أكان أهلها يونانيين حقيقة أم غير يونانيين , أو هو وضع غير الأحرار وأهل الريف المحرومين من هذه النظم , سواء أكانوا مصريين أم يونانيين أم أيطاليين . وقد سوى بين حقوق المدن وأنظمتها فى عهد أغسطس بالذات ثم صدر قانون كركلا كما رأينا قسوى بين أهل المدن والأقاليم جميعا . ويسر من أمر هذه التسوية وقتئذ تشجيع روما الملكية الفردية بغية التخفيف مما كانت تعانيه الامبراطورية من ضيق اجتماعى ومالى شديدين , وما أدى اليه هذا التشجيع من ارتفاع أهمية الضرائب فى المالية العامة واتجاه الدولة فى السنين العجاف إلى اعطاء المدن والأقاليم الحقوق المالية والسياسية الواسعة التى أدت إلى ظهور البلديات والمدن .

ولكن هذا الاتجاه العالمى فى الحكم الرومانى لم يجنيه , كما لم يجنب الحكم البطلمى من قبله , خطر الثورات السياسية . فثار اقليم طيبة على الحاكم الرومانى بعد مغادرة أغسطس مصر مباشرة وتبعته فى لذك أقاليم أخرى . واضطر الامبراطور أديان إلى المجئ إلى مصر فى سنة 136 لتهدئة الاضطرابات التى انفجرت فى ذلك الوقت وانتهز فرصة اقامته فيها فأنشأ مدينة انتينوبولس . وثارت الأسكندرية أيضا فى سنة 153 وقتل أهلها الحاكم الرومانى , ثم ثار أهل الدلتا فى عهد ماركو أورليو _61 -1809 وعلى رأسهم الراهب ايزيدور وتمكنوا من أخذ الأسكندرية .

وقد اتخذت هذه الثورات شكلا جديدا حين ظهرت المسيحية بعد ذلك , فقد كانت المسيحية تأتى معها , ككل ثورة اجتماعية كبيرة , وبطبقة حاكمةة جديدة . وكانت هذه الطبقة ترتفع من أسفل طبقات المجتمع , من طبقة العمال والفلاحين التى لم يصل اليها التيار الأغريقى ـ الرومانى , أو يعمل فيها عمله كاملا , وتحتفظ لذلك بتفكيرها وتقاليدها وعقائدها أيضا , وتختلف فى كل هذا اختلافا صارخا عن الذين كانوا يقبضون على دفة الحكم فى ذلك القوت . يضاف إلى ذلك أنه ما كادت المسيحية تصير دين الدولة الرسمى وما كاد نفوذها يعلو على السلطة الزمنية التى كانت تمتزج بها شخص الامبراطور , بسبب الاقبال الذى كانت تلقاه فى كل مكان , وما كادت الكنائس الاقليمية , وكانت تتكون عادةة من أهل البلاد , تتمتع بهذا النفو , حتى اشتدت الاتجاهات الاقليمية , التى كانت آخذة فى الظهور منذ أن استوت الشعوب المنتظمة فى الامبراطورية فى الحقوق , وبدأت تنشئ جيوشها وادارتها وتنمى بذلك خصائصها ومميزاتها . ومن ثم كان ما يلاحظه مؤرخو المسيحية المصرية من اتجاه الكنيسة القبطية اتجاها محليا فاقعا وتحول أساقفة الاسكندرية إلى فراعنة سافرين ومنافسة الروح المصرية الروح الاغريقية . وكانت أيضا استماتة المصريين فى الدفاع عن المسيحية حين كان الأباطرة يناهضونها واستمساكهم بنظرية الثالوث التى كانت تتفرع على عقيدتهم الدينية القديمة , ثم ثورتهم السافرة على الامبراطورية , وان لم يكن الأمر فى ذلك جميعا أمر مصريين وغير مصريين , فقد كانت المسيحية بالذات تقضى وقتئذ على بقية تلك الفروق القضاء الأخير , بل أمر مذاهب دينية يجتمع فيها المصريون أولا يجتمعون دون أن يكون للوعى القومى فى ذلك أثر ظاهر . وأتى الفتح العربى فأفاد فى نشاطه السياسى والحربى من هذا النزاع , وأفاد من التفتت الادارى والعسكرى اذلى صحبه والذى كان أابطرة بيزنطة قد عملوا على السير به إلى أبعد الحدود تحقيقا لسياستهم الامبراطورية . وما استجمعت الأمور للعرب عبد ذلك حتى سهلت عليهم مواجهة الانتقاضات التى عمد اليها أهل البلاد حين لمسوا معنى ذلك الفتح ومداه , كما عمد آباؤهم إلى مثلهم تحت أغسطس , وأحلوا المؤمنين بها جميعا .

عاشت مصر اذا يحكمها أبناؤها القرون الفرعونية الطويلة , ثم أخذت شعوب البحر المتوسط تتجه إلى العالمية , وقد بدأت فى ميدان الدين بانتشار عبادة ايزيس , وتمت بظهور المسيحية , وبدأت فى ميدان الثقافة بامتزاج الحضارات الشرقية , وتمت بانتشار الهلينية تحت البطالمة , وبدأت فى ميدان اللحكم بمحاولات الفراعنة فى آسيا الصغرى , وتمت بقيام الامبراطورية الرومانية , فسارت بدورها فى هذا الاتجاه وهى تقوم هذه النزعة الجديدة كما كانت تقاومها الشعوب الأخرى مقاومة تبدأ عنيفة ثم تفتر . فتثور على الفرس قرنين متواليين , تفقد خلالهما خيرة شبابها , ويكون الحافز لها فى ثورتها هذه الاختلاف الشديد بين الشعبين , ووجود طبقة حاكمة ما زالت تستطيع الدفاع عن مصالحها , واتصال سياستها الخارجية بالسياسة الاغريقية . ثم تثور على البطالمة بعد أن نصبتهم كنيسة منفيس , وهى وقتئذ القوة السياسية الوحيدة القائمة , فة سبيل مواصلة الحرب على الفرس , التى كانت هذه الكنيسة تنظر اليها من زاويتها الدينية الخالصة , ويكون الدافع لها فى هذه الثورة طموح بعض رجالها إلى الاستئثار بالحكم أو رغبة أهل الصعيد فى مناهضة التيارات الاغريقية التى كانت تعمل فى الشمال ولا تنالهم , أو التذمر العام بين المصريين وغير المصريين من خطر الحكم البطلمى . ثم تثور على الرومان واليزنطيين , ويكون الدافع لها إلى ثورتها هذه الأزمات الاقتصادية أو الفروق الاقليمية التى تعود إلأى رفع رأسها من جديد , حين ترفع المسيحية الطبقات السفلى من الشعوب التى اعتنقتها إلى سطح المجتمع , وتقيم الحكومات الدينية المركزية فى صورة الكنائس والأديرة , التى كانت نتنشر فى كل مكان , وتمهد لتبلور الأوضاع القومية من جديد . وقد قلنا الأوضاع القومية ولم تقل الوعى القومى لأن المجتمعات القديمة لم تعرف هذا الوعى وان عرفت العصبيات الجنسية . وقد رأينا كيف ظلت اليونان ـ حتى سقوطها تحت الحكم الرومانى ـ مجموعة مدن متفرقة يقاتل بعضها بعضا , أو يستدعى عليه الشعوب الأخرى , وكيف قامت الامبراطورية الفارسية على أكتاف المتطوعة من الفينيقيين والأغارقة وانهارت بفعلهم أيضا , وكيف سلم البطالمة ملكهم للرومان بأيديهم , وكيف كان سر امتداد الحكم الرومانى هو ما عمدت اليه روما من بسط جنسيتها على الأراضى الايطالية ثم أقطار الامبراطورية جميعا . كذلك راينا كيف كانت صلة الحكام بالمحكومين , سواء أكانوا فرسا أم أغارقة أو رومانا , لا تختلف باختلاف البلاد بقدر ما تختلف باختلاف الأوضاع الاجتماعية التى يتخذها أهلها , هل هى أوضاع المواطنين الذين يقيمون فى المدن التى كانت تحيا فى جو الحضارة الهيلينية أو أوضاع غير المواطنين الذين يقيمون فى تلك المدن بالاذت أو فى الريف الشاسع المحيط بها , ويتصلون بالمواطنين بصلة الرق أو الولاء . وقد كان وضع أباطرة الفرس , ووضع الاسكندر والبطالمة والرومان , من بعدهم , من مصر هو نفس وضعهم من أهل بلادهم , اذا استثنينا مقتضيات عصبية الدم التى كانت تؤدى بهم إلى تقريب أبناء جنسهم اليهم قبل ابناء الأجناس الأخرى وأبناء قرابتهم قبل أبناء جنسهم , واستثنينا فترة التردد التى مضت بين تحول نظم الحكم المحلية إلى نظم امبراطورية والتى قضتها روما على وجه الخصوص فى رفع مختلف الشعوب المنتظمة فى جامعتها من حق إلأى حق حتى وصلت بها إلى الحقوق الكاملة . ونحن نعلم أ، تاريخ المدن اليونانية والجمهورية الرومانية هو قبل كل شئ تاريخ سعى علية أهلها إلى الاستئثار بالحقوق السياسية دون الطبقات الأخرى من سكانها وسكان الريف جميعا , وثورة هذه الطبقات على هذا السعى . ولم تكن الفروق بين المصريين وغير المصريين فى العصر الاغريقى والرومانى تختلف عن هذه الفروق , فهم يتمتعون بالحقوق السياسية التى يتمتع بها غيرهم اذا انتموا إلأى المدينة بعينها ولا يتمتعون بها ذا لم ينتموا إلى مدينة ما . وقد دخل المصريون , حين اندثرت هذه الفروق , مجلس الشيوخ الرومانى وارتفعوا إلأى مناصب الحكم فى الامبراطورية , بل وجلس أحدهم على عرشها ثم حكموا العالم حين انتشرت المسيحية من كنيسة الاسكندرية .

والذين ينتقصون مصر لترحيبها بالاسكندر وقبولها الرومان ورضاها بالعرب ينسون أن العهود اليونانية والرومانية والعربية عهود ثورات عالمية اجتاحت العالم المعروف على أيامها ولا شأن لها البتة بالحروب الحديثة التى تنشب بين أمم مستكملة وعيها القومى , متمتعة بمستوى اجتماعى واقتصادى واحد . فدخلت تحت الاسكندر جميع الشعوب , وبينها مدن اليونان بالذات , وفى الوضع نفسه الذى عرفته هذه الشعوب . ودخلت تحت روما جميع بلاد البحر المتوسط وبعض أوروبا الشمالية وجودها السياسى . ومزق العرب ما بلغوه من الامبراطورية الرومكانية تمزيقا , واستولوا على القسم الشرقى منها , واستمروا يسطون على القسم الغربى حتى ظهر العثمانيون , فامتد هذه السطو إلى اسوار فينا وظل خطره رابضا حتى الحرب العالمية الأولى .

ومن الخطأ أن يقارن الباحث بين بلدين فيقصر المقارنة على فتوة أحدهما بشيخوخة الآخر . فلئن كانت اليونان قد عاشت مستقة بشئونها سبعة القرون التى عرفتها قبل فقدها استقلالها فى القرن الأول قبل المسيح وبقائها بدونه حتى القرن التاسع عشر , فقد عاشت مصر مستقلة بشئونها عشرات القرون التى عرفتها بين بناء الأهرام وقيام امبراطورية الأسكندر . وقد كانت روما تفتك بالمدن اليونانية وتدمر كورنتيس , أكبر حواضرها التجارية , وتقتل أهلها أو تبيعهم بيع العبيد , فى الوقت الذى كانت المدن اليونانية الأخرى يقاتل فيه بعضها بعضا , وكان زعماؤها يتملقون سادة روما هذه بالاذت , وبلوطارخ يتغنى بمجدها . وقد سقطت اليونان تحت الحكم الرومانى فلم تقم لها قائمة بعد ذلك , وخبت حضارتها , ونسى أبناؤها معانى الحرية التى تنسب اليهم , إلى أن ذكرتهم أوروبا المسيحية بها فى القرن التاسع عشر , فى حين استطاعت مصر أن تنهض من كبوتها الرومانية , وأن تقيم امبراطورية الفاطميين والمماليك , وتنتج حضارة جديدة , وتشغل مركزا عالميا ممتازا . وليست بلاد كايطاليا وفرنسا وانجلترا بمستطيعة أن تقارن بمصر , فايطاليا لم تظهر كوحدة سياسية الا فى نهاية القرن التاسع عشر أما قبل ذلك فكانت مجموعة امارات صغيرة يحكمها أجانب أو ايطاليون وتناهض كنيستها الايطالية الدوم وحدتها , مناهضة الدول الديمقراطية الخطر الشيوعى الآن . ونشؤ فرنسا كدولة موحدة لا يرتفع إلى أبعد من القرن الخامس عشر , فقد كانت قبل ذلك هى أيضا اقليما من أقاليم الامبراطوريات الشخصية التى تعاقبت على أوروبا بعد انهيار الامبراطورية الرومانية , وكانت تقوم بنفس الشكل الذى كانت تقوم وتهوى به الامبراطوريات الشرقية القديمة التى يستهجنها مؤرخو هذا العصر . كذلك لا يرتفع مولد انجلترا كدولة ذات كيان حقيقى إلى أبعد من مطلع العصر الحديث , أما قبل ذلك فكانت مجموعة أمارات واقطاعات موزعة بين الانجليز والفرنسيين .

وهذه الدول لا تبدى منذ حين , رغم حداثتها , تمسكا شديدا بقيمها القومية , فقد شهدنا الترحيب الذى تلقت به الأمريكيين والانجليز بعد انهيار الحكم الألمانى . وقد قبل ان البارسيين كانوا يتحسرون على أيام هذا الحكم إلى عهد قريب . ونحن نشهد الآن تمسك اليونان بالأمريكيين والانجليز فى أرضها وتودد الايطاليين لهم , وتسليم أوروبا الغربية قيادها للأمريكيين , وأوروبا الشرقية للروسيين . وقد زوج الانجليز أخيرا بين مظاهر الحبور العام ملكتهم المقبلة من أمير قد يكون يونانيا أو دنمركيا أو أى شئ آخر , ولكنه ليس انجليزيا أكثر من أسرة هذه الملكة بالذات .

والذى يزور القارة الأوروبية فى هذه الأعوام الأولى بعد الحرب العالمية الثانية يلمس لمسا يسيرا ما أصابتها به الانكسارات العسكرية والضيق الاقتصادى , فقد أبناؤها الثقة فى نفسهم , رغم قرب عهدهم بذلك , وأصبحوا يستقلون شأن أوطانهم , ولا يريدون طريقا بين يديهم إلى السلامة غير طريق الانقياد للساسة الأمريكية أو السياسة الروسية , وأمعنوا فى هذا الطريق حتى يكادوا ينتهون إلى الخضوع الأعمى أو الخيانة الوطنية . يلمس ذلك ولا يصعب عليه أن يرده إلى القنوط الذى يصحب الخفاق إلى قلوب بنى البشر وإلى ما يقوم بين القارة الأوروبية وأمريكا من فرق هائل فى العمر والوسائل , وهما بعد الظاهرتان اللتان ينفرد بهما تاريخ مصر بين نهاية العصر الفرعونى وابان الموجة اليونانية ـ الرومانية . وانفراد المصريين دون من بقى على قيد الحياة من الشعوب القديمة والشعوب الحديثة كافة بمعاصرة تقلبات الحياة البشرية المعروفة جميعا , هو إلى حد بعيد السبب فيما يؤخذ عليهم من اختفائهم من مناصب القيادة الحكومية المدنية والعسكرية قرونا عديدة , فقد كانت هذه التقلبات تهز حياتهم هزا وتفتك بزعمائهم وتذهلهم عن أنفسهم إلى حين . فهم ما كادوا يستقرون فى الحضارة الهلينية بعد ماضيهم الفرعونى الطويل ونضالهم المتصل للموجة الفارسية والموجة الاغريقية أيضا حتى عنفت المسيحية بضمائرهم عنفا شديدا . وما كادوا يستقرون فى المسيحية بعد طول الصمود لها حتى فجأتهم الموجة الاسلامية وعنفت بضمائرهم من جديد وظلت تعمل فيهم عملها حتى شملتهم جميعا تحت العثمانيين . وهم فى هذه الحالات جميعا يثبتون لهذه الثورات النفسية العالمية فيسقطون صرعى عند أقدامها , أو ينساقون لها وينتهون إلى الاندماج بها ولا يطفون على سطحها وفىى مناصب الحكم منها , ألا بعد أن يتمثلوها ويستعيدوا كيانهم من جديد . وقد كان المصريون يحدقون بالحكم حين باع البطالمة أنفسهم للرومان , وكانوا يسيرون فى سبيل انشاء طبقة حاكمة جديدة عشية الفتح العربى . يضاف إلى ذلك أن طول عهد المصريين بالحياة المتحضرة , وتمتعهم بكل ما يستطيع اليه شعب قديم من ضروب الثروة , وغلبة الطابع الزراعى على حياتهم الاجتماعية , وكان من شأنه ان يبرزهم فى مناحى النشاط الحضارى من الامبراطوريات التى كان يستأثر بها العالم القديم وحروبه الكثيرة الغلاظ من رجال السيف من هذه الشعوب . ويضاف اليه أيضا أن ضيق نشاط الدولة فى العالم القديم وتوزع سلطاتها وتجردها من اللون القومى كان لا يشعر المحكومين بشئون الحكم وهزاته منذ أن أفلت زمامه من يد المجاتلس الشعبية . وقد كانت الكنائس المصرية تتمتع تحت البطالمة والرومان بسلطان واسع يقوم بين أبنائها وبين سلطان الدولة ز ومؤرخو البطالمة والرومان يجمعون على عدم مس الدولتين النظم المصرية فى شئ بل من يرى أن اللبطالمة لم يزاولوا سلطة تشريعية حقيقية . كذلك كانت الكنائس صاحبة الحكم الحقيقى فى العهد المسيحى , وكانت الحكومات الاقليمية ـ وجميعها وطنى ـ تطغى على الحكم المركزى . وقد رأينا كيف كان نظام الطوائف يشغل الجانب الأكبر من دائرة نشاط الدولة تحت المماليك والأتراك , وكيف ضاق حكم هؤلاء حتى قيصر على جباية الضرائب والمحافظة على الأمن والسير إلى الحرب وأصبح المدنيون ينظرون اليه نظرتهم إلى مهنة حقيرة مزرية لا يصلح لها الا أولئك الرجال الغلاظ الذين كانوا يستجلبون خصيصا لذلك جماعات جماعات من أصقاع آسيا الخشنة المعدمة .

وقد أصاب نظم الحكم فى مصر ما لحق بوضعها الدولى من تشويه شديد , فالذين أرخوا لهذه النظم حتى مطلع القرن العشرين يكادون يجمعون أنها كانت دائما نظما مطلقة تهبط بالمحكومين إلى مستوى العبيد وتختلف أيما اختلاف عن النظم الحرة الأبية النبيلة التى قامت فى الغرب وبخاصة فى اليونان وروما . وهذا الاختلاف يرجع أيضا فى رأى هؤلاء المؤرخين إلأى جبلة أبناء البلاد واعتيادهم النظم المطلقة ونظرهم إلى الحاكم نظرهم إلى السيد الذى يجب أن يطاع . والمقارنة بين نظم الحكم فى مصر قبل الفتح العربى وبعده وبين الحكم فى المدن اليونانية والجمهورية الرومانية أمر لا يستقيم . كما لا يستقيم النظر إلى تاريخ مصر بين العصر الفرعونى ونهاية القرن التاسع عشر بمنظار القومية التى تعرفها البشرية الا بعد ذلك بقرون . فقد كانت النظم المصرية فى الوقت الذى ينصب فيه هؤلاء المؤرخون المقارنة بينها وبين النظم الاغريقية والرومانية نظما عريقا لدولة كبيرة استقرت دعائمها فى بلد زراعى كثير السكان , وكانت لذلك نظما يتركز فيها السلطان ويتسع الاختصاص وتبعد المسافات بين الحكام والمحكومين , فى حين كانت النظم اليونانية والرومانية نظما ماشئا لمدن صغيرة تزاول فى الغالب ولا يكاد أهلها يجتمعون فى وحدة سياسية حقيقة .

وقد قلنا فى الوقت الذى ينصب فيه هؤلاء المؤرخون المقارنة لأن نظم الحكم المصرية لم تبق دائما على صورة واحدة , كما لم تبق النظم الاغريقية والرومانية نفسها على ما كانت عليه فى أوجها بالرغم ممما يقوم فى روع الكثيرين منا حتى اليوم . ونحن نعلم من بيرين أن مصر السفلى كانت تختلف حتى قبيل ظهور الأسر عن مصر العليا بسعة تجارتها وكثرة مدنها ونشاط أهلها . وقد كانت هذه المدن تصرف شئونها بنظم تشبه نظم مدن اليونان القديمة , فكان الحم فيها إلى مجلس رؤساء الأسر , وكان لأهل التجارة والحرف الكلمة العليا فى توجيه سياستها , وكان أبناؤها يركبون كل عسير فى سبيل الاحتفاظ باستقلالها حتى انتهاى بهم الأمر إلى محالفة مدن آسيا البحرية بغية مناهضة الحكم المركز . وقد شعرت هذه المدن بالحاجة إلى التعاون بعد ذلك فأنشأت لها اتحاد يرأسه مجلس مكون من قادتها انتهى إلى الانفراد بالحكم وتحول رئيسه إلى ملك وراثى . وظل هذا المجلس قائما حتى تمت الوحدة بين الصعيد والدلتا , كما ظل أهل المدن ينهضون بشئونهم الداخلية زمنا طويلا حتى تركزت الدولة وبسطت سلطانها على جميع الوادى وظهرت لها ادارة ضخمة , كانت تقيد حركات الملوك وتخضعها لقوانينها الثابتة . كذلك نعلم أن الامبراطورية المصرية القديمة انهارت بفعل ثورة الطبقات الفقيرة على النبلاء والأثرياء وبخاصة فى مدن الدلتا , وأن الامبراطورية الوسطى قامت على الاعتراف بالمساواة بين جميع المصريين فى الحقوق الدينية والساياسية والغاء امتيازات النبلاء وتوزيع الأراضى . وقد رأينا كيف تفتت الحكم تحت الامبراطورية الحديثة وقامت المدن المستقلة , ثم ظهرت المسيحية فكانت ثورة على الفروق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية جديدة . وأعقب الاسلام المسيحية فأخذ الوجهة نفسها ووضع للمسلمين دستورا لا يقوى حتى أولياؤهم على تحويله .

ونحن لا نريد أن نتصدى هنا لتحليل الأوضاع الدستورية التى اتخذها الحكم فى مصر وفى اليونان وروما والمقارنة بينها فليس هنا مكان ذلك , ولكنا نريد أن نسائل الذين ينتقصون النظم العامة المصرية وقتئذ ـ وهى نظم ينسبونها إلى الشرق عموما ـ هل خلا الحكم فى اليونان وروما وأوروبا الحديثة أيضا من أسباب هذا التنقص ؟

وقد أصبح من المسلم به بعد ما نشر من بحوث قيمة ظهرت فى تاريخ اليونان وروما أن المدن اليونانية القديمة ظهرت كمجموعة أسر متفرقة يلتف كل منها حول رئيسه ثم يتجمع مع الزمن ومقتضيات العمران فى وحدات عائلية دائمة هى ال ثم ال ثم ال وكان الأصل فى هذه الوحدات أن تكون لها حكومتها وقضاؤها ونظمها العامة والخاصة بها , وأن يخضع أبناؤها لرئيس الوحدة خضوع العبد للسيد , وينظروا إلى أبناء الوحدة الأخرى نظرتهم إلى الأجنبى الغريب , حتى كانت المرأة التى تتزوج خارج وحدتها , حين أجيز هذا الزواج بعد أن كان يعد سفاجا , فقدت حقوقها فى وحدتها الأصلية ,وكان المجتمع الاغريقى ـ الرومانى لا يعرف غير قرابة العصب . وكان رؤساء الوحدات الكبرى حين قامت المدينة ـ وهى فى الأصل المركز الذى يلتقى فيه أعضاء الأسر لمقتضيات التبادل الاقتصادى أو الدفاع ـ يجتمعون فى مجلس يرأسه رئيس أقوى هذه الوحدات ليصرفوا الأمور المشتركة بينهم . وقد أصبح هذا المجلس "سناتو" المدينة , وأصبح رئيسه ملكها وأصبح رؤساء الوحدات أعضاءه , وأصبح آباء الأسر مواطنى المدينة أى أصحاب الحقوق فيها . أما أعضاء الأسر أو من لا أسرة لهم البتة فهم العامة , وهم مجردون من هذه الحقوق ولا قوانين أو قضاء لهم , بل هم لا يملكون . وقد اتجه الملك مع المضى الزمن إلى محاولة الحد من سلطة مجلس الشيوخ , واتجه مجلس الشيوخ إلى محاولة الحد من سلطة الملك , وانتهى ضعف مركز هذا الأخير به إلى محاولة الاستعانة بالعامة , وشعر الشيوخ بما فى هذا الميل من خطر , فثاروا على الملكية وأقاموا النظام الجمهورى , أى سلبوا الملك سلطته الزمنية وركزوها فى مجلسهم وجعلوا يعينون من ينهضون بأجهزتها التنفيذية . وهنا بدأ النزاع بين هؤلاء الشيوخ والطبقات الأخرى من أهل المدينة , وهو النزاع الذى اتصل حتى نهاية الجمهوريات الاغريقية وتحول الجمهورية الرومانية إلى ملكية مطلقة . وقد حاز العامة انتصارا مبدئيا فى هذا النزاع بين القرنين السابع والخامس ق . م . بعد أن ظهرت بينهم طبقة ذكية ثرية تستطيع أن تقوم بأمرهم , فنالوا الحقوق السياسية ولكن بشرط النصاب المالى , فكان لا يدخل منهم ال , وهى المجالس التى أ،شئت إلى جانب المجالس القديمة لتحقيق مبدأ المساواة الجديد , الا من ملك قدرا معينا من الثروة , أما من لا يملك شيئا , كطبقة عمال الزراعة والصناعة , فلا يدخلونها . وكانت ال هى المجالس الوحيدة التى تجتمع فيها النبلاء بالطبقة الثرية من العامة للنظر فى بعض شئون المدينة أو السير إلى الحرب , أما فيما عدا ذلك فكان النبلاء يجتمعون على حدة فى ال , وكانت العامة المتمتعون بالحقوق السياسية يجتمعون على حدة فى ال , وكان الأولون يعينون القناصل لتصريف أمورهم , وكان الأخيرون يعينون ال لرعاية مصالحهم . وقد انتشرت الفوضى من جراء هذا النظام حتى شعر الجميع بالحاجة إلى معالجته بتشريع ينظم المجتمعين معا . ثم تداخل المجتمعان بانقراض الأسر القديمة وارتفاع الأسر الحديثة , فتحول النزاع القديم إلى نزاع بين الأثرياء والفقراء , وأخذ الأثرياء يحاولون تركيز الحكم فى مجلس الشيوخ , فى حين كان الفقراء يحاولون اعادة الملكية للحد من سلطان هذا المجلس حتى تمكنوا من ذلك بحركة قيصر .

ونحن نعلم من مومسن أن ملوك روما الأولين كانوا أحرار فى استشارة مجلس الشيوخ أو عدم استشارته , وفى الأخذ بمشورته أو اهمالها , وكانوا لا يستشيرونه عادة فى الأمور العسكرية والقضائية . ونعلم أن ثورة مجلس الشيوخ على الملوك كانت موجهة لأشخاصهم ولم تكن موجهة للسلطة التى يمثلونها , نعنى أنها كانت لا ترمى إلى تقرير حق الشعب فى حكم نفسه بحال من الأحوال . وقد ظهرت الحقوق السياسية بعد انهيار الملكية , ولكنها ظلت كما قدمنا مقصورة على الذين يملكون الأراضى , ثم على الذين يؤدون الخدمة العسكرية , وهى وقتئذ من أبناء هذه الطائفة عادة . وكان عمل المجالس التى تمارس هذه الحقوق مقصورا على الاجابة بالقبول أو الرفض , دون نقاش , على الأسئلة التى توجهها اليها الحكومة , صاحبة الحق الوحيد فى دعوتها أو عدم دعوتها إلى الاجتماع . وقد تركزت السلطة بعئذ فى مجلس الشيوخ لقلة المدة التى كان القناصل يقضونها فى الحكم ـ وكانت لا تزيد على عام فى الحالات العادية ـ وانتساب هؤلاء القناصل عادة إلى الأسر التى يتكون منها المجلس وتحريم شغل المراكز العامة والامتيازات المالية , التى كان ينفرد بها النبلاء , على غيرهم حتى من استطاع منهم دخول مجلس الشيوخ , فثارت العامة عليه فى سنة 250 ق . م . وواصلت ثورتها حتى أجيبت إلى بعض مطالبها وخولت حق تعيين من يدافع عن الحقوق التى اعترف لها بها , أى ال . وكان ال يختلفون عن القناصل فى انهم لا يعدون أى مستشارين كهؤلاء , ولا يزاولون السلطان الحقيقى ال ولا يحملون شارته ولا يتمتعون بسلطة دينية ما . وكان عملهم فى الأصل عملا سلبيا لا ايجابيا , نعنى أنهم كانوا يستطيعون الوقوف فى وجه الاعتداء دون ممارسة سلطة التشريع الحقيقى . وهكذا امتد سلطان الشيوخ إلى كل شئ وأصبح القناصل وال عمالهم , وصارت المجالس الشعبية هيئات لا قيمة لها . وقد ابعد مجلس الشيوخ فى هذا الطريق حتى صار منذ سنة 244 ق . م . هيئة تشريعية تنفيذية مستقلة تنتخب أعضاءها وتشرع وتنفذ , وفقدت المجالس الشعبية كل سلطان سياسى حقيقى . ثم عبثت الفروق الاجتماعية بهذه المجالس فاصبح اثرياء المدينة يشترون أصوات الغالبية من اعضائها ويوجهونها كما يشاؤون . وقد تمكنوا فعلا من تضييق انتخاب القناصل فى سنة 165 ق . م . وبدأوا يشترون الملكيات الصغيرة أو يسطون عليها اذا رفض أصحابها بيعها حتى هبط عمال الزراعة والصناعة إلى مستوى العبيد . وعندئذ ظهرت النزعة شديدة إلى الملكية من جديد , وانفجرت الحرب الأهلية (سنة 87 ق . م) وجعل الطامحون إلى الملكية يحاولون استمالة العامة بالقوانين الشعبية , وشط ماريو فى لذك , حين أقدم على انشاء الجندية المحترفة , فدخل الجيش المنازعات السياسية , معضدا من يحسن استمالته , وظهر أثر ذلك سريعا فى فتك سيلا وأعوانه بزعماء العامة واستئثاره بالسلطان جميعه , واباحة ماريو التقتيل فى أرستقراطية روما بعد اغلاق أبوابها خمسة أيام وخمس ليال تباعا , ثم ظهور قيصر وقيام الملكية من جديد .

والذى يتبين من حقيقة النظم العامة الاغريقية والرومانية هذه هو قصورها على مدن ضيقة النطاق , وانبعاثها من قرب عهد أهل هذه المدن بنظم الحكم العائلى , ثم تفريقها الشديد بين أهل المدينة الواحدة إلى نبلاء وعامة , وأثرياء وفقراء , للأولين كل الحقوق , وعلى الأخيرين جميع الالتزامات , وبقاؤها مختلة التوازن محدودة النشاط الادارى متناقضة أشد التناقض حتى آخر أيامها . ويلاحظ إلى ذلك أن هذه النظم لم تقم فى روما الا بين سنة 510 ق . م , وهى سنة انهيار الملكية , وبدء الحروب الأهلية , أى سنة 87 ق . م , وأن عهد تمتع العامة أو الأثرياء منهم بالحقوق السياسية امتد أقل من ذلك أيضا , فهو قد بدأ بانشاء ال فى سنة 250 ق . م وانتهى بالحروب الأهلية . وهو لم يعمر أكثر من ذلك فى اليونان أيضا .

كذلك يلاحظ أن عدد أصحاب الحقوق الساسية فى المدن الاغريقية والايطالية لم يعد قط نسبة ضئيلةى من أهلها , فلم يزد فى أثينا , عاصمة الديمقراطية القديمة , على 30 ألفا من 138 ألفا اذ لم يكن أهل الريف والعبيد ـ وكانوا يعدون بالآلاف ـ يزاولون الحقوق السياسية , مثلهم مثل الفقراء من العامة . هذا إلى أن الحقوق السياسية كانت لا تحد وقتئذ من سلطان الدولة على رعاياها حتى من يتمتع بها منهم , فهى تستطيع على كل حال أن تفعل بهم ما تشاء . وقد كان سطو النبلاء على العامة والعامة على النبلاء فى المدن الاغريقية والايطالية لا يكاد ينقطع . وكانت حرية الفكر فى أثينا نفسها شيئا نسبيا لا كبير نصيب له من الواقع فقد قتل سقراط فى سبيل رأيه واضطهد غيره مفكرون كثيرون .

وقد شملت الملكية التى أقامها قيصر شعوب البحر المتوسط جميعا وبينا مدن اليونان وامتدت حتى غزوات القبائل الجرمانية فى القرن الخامس الميلادى , اذ انهار اجانب الغربى منها ليعود من جديد فى صورة الامبراطورية الرومانية المقدسة التى نصبت كنيسة اللاتينية عليها شارلمان الأجنبى , وهى الامبراطورية التى تفرعت عنها فى القرن الخامس عشر الملكيات الأوروبية الحديثة , أى فرنسا وايطاليا وألمانيا , فى حين بقى الجانب الشرقى منها فى صورة الامبراطورية البيزنطية حتى دخل الترك القسطنطنسة فى ذلك القرن بالذات . وليس بين من أرخ للامبراطورية الرومانية المقدسة أو الامبراطورية البيزنطية أو الدول الأوروبية الحديثة حتى انفجار الثورة الفرنسية من يجرؤ , فيما نعلم , أن يدعى أن هذه الامبراطوريات كانت تحكم حكما ديمقراطيا أو تختلف عن الامبراطوريات الشرقية القديمة فى شئ ذى بال . فقد كان أباطرة روما يستأثرون بالسلطان ويتحكمون فى مصائر الشعوب ويؤهلون نفسهم كما كان يفعل الفراعنة الأولون . وكانت الامبراطورية الرومانية المقدسة تحكم حكما اقطاعيا بدائيا أثقل من حمن المماليك , وكانت الدول الحديثة , حين نشأت , مجموعة اقطاعات سعى أصحابها إلى بسطها بالحرب أو المصاهرة أو الخديعة , دون أن يكون للشعوب فى ذلك دور ايجابى , أو أن يكون لها حقوق تمنع . وكان أباطرة بيزنطية الذين نشأوا فى المسيحية وورثوا الحضارة الاغريقية وشعوبها ينظرون إلى رعيتهم نظرهم إلى العبيد .

ونحن اذا بدأنا تاريخ حياة أوروبا بقيام روما فى القرن الثامن ق . م , واتخذنا الثورة الفرنسية فى نهاية القرن الثامن عشر تاريخا لعود الحريات السياسية إلى أوروبا , وذكرنا ما بينا من عدم مزاولة عامة روما الحقوق السياسية حقيقة الا بين سنتى 510 و 87 ق . م , تكون أوروبا قد تمتعت بالحريات السياسية زهاء خمسة قرون من خمسة وعشرين قرنا , ويكون الذين يدعون النظم التى قامت فيها , أثناء تلك القرون الخمسة , بالنظم الغربية ويعدونها الأصل فى حياة أوروبا السياسية ويهملون العشرين قرنا اللأخرى , ويدعون ما قام فى الشرق من نظم شبيهة بالنظم التى قامت فى أوروبا فى هذه القرون العشرين بالنظم الشرقية , قوم متنعنتون . قوم متنعتنون يتجاهلون الحقائق ولا يفطنون لما بين نظم الحكم وظروف المجتمع من علاقة لا محيص عنها . فقد كانت النظم الاغريقية الرومانية تقوم فى اليونان وايطايلا حين كانت الدولة لا تعدو أن تكون مدينمة صغيرة تضم مجتمعا محدود المسائل , تتشابه ظروف أعضائه , ويتمتع بعضهم تجاه بعض باستقلال اقتصادى لا بأس به . ففى هذه المجتمعات ـ كما فى مجتمعات القرى الصغيرة إلى اليوم ـ تستوى الرؤوس ويشتد التنافس وتعظم الكرامة الشخصية , فتتكون الحقوق العامة أى حقوق كل أسرة تجاه الأسرة الأخرى ـ دون أن يصحب ذلك قيام حقوق الفرد داخل دائرة الأسرة ـ ويبقى الحكم شيئا خفيفا قلقا ضيق النشاط , ويظل هكذا إلى أن تختلف ظروف أهل المدينة بأن يثرى بعضهم على حساب البعض أو يقوى عليه أو ينال المعونة من الخارج , كما حدث فى اليونان أيام الفرس , وكما حدث فى روما حين بسطت حقوقها على المدن الايطالية ثم شعوب الامبراطورية جميعا . وعندئذ يطمح الأقوياء إلى الاستئثار بالحكم ويعوق تشعب المسائل العامة المجالس الشعبية عن النظر فيها ثم يستحيل تكوينها وتنظيمها والاستعانة بها , وتظهر , أو كانت تظهر على الأقل , فى العصور القديمة , النظم الملكية بسلطانها الذى يزيد أو يقل , تبعا لاتساع هذه الظاهرة وطبيعة الاقتصاد الذى تنشأ فيه . وهكذا ظهرت الملكية المقدونية وامبراطورية الأسكندر ثم الملكيات الهلينية ثم الامبراطورية الرومانية. ونحن نعلم فعلا أن المدن اليونانية وروما لم تعرف الادارة الحكومية المستقرة الحقيقية بخدماتها الثمينة , التى كانت جوهر الدولة فى مصر منذ أقدم العصور بسبب ارتباط حياة البلاد باستغلال مياه النيل , الا بعد قياك الملكية , وأنها ما كادت تقيمها حتى سارت فى الطريق التى قطعتها مصر من قبل , فكلما ثبتت الادارة واتسع عملها وأحكمت نظمها , كلما تضخمت الدولة وضاقت الحريات الفردية وضئل مركز الفرد فى الحياة العامة . ونحن نشهد ذلك الآن فى حركة التأميم التى انتشرت فى أوروبا وفى تدخل الدول هناك فى الاقتصاد عموما تدخلا شديدا . كذلك نجد آخر صورة لنظم الدولة الاغريقية ـ الرومانية فى القرن السابع فى مدينة شرقية تجارية صغيرة هى مكة المكرمة . فقد كانت مكة حتى ظهور الاسلام مجموعة أسر تتنافس على السلطان ولا تعرف من الحكم الحقيقى الا أبسط أشكاله وتعيش من تجارتها الواسعة . وكانت تقسم أهلها إلى شيوخ وأحرار وموال وعبيد , وتنظر إلى غير أبنائعا نظرتها إلى الأجنبى المستذل .

ولقد عرفت روما , مع الملكية المطلقة والادارة الضخمة , عبادة الملوك التى يفرد بها المؤرخون الشرق على وجه العموم ومصر على وجه الخصوص , فعبد قيصر , وعبد أغسطس , وعبد الأباطرة من بعدهما , ورفع نسبهم جميعا إلى الآلهة الأولين , ونصبت لهم المعابد فى أقطار الامبراطورية جميعا . وكانت هذه العبادة هى الرباط الأدبى الوحيد الذى يجمع بين هذه الأقطار والأباطرة . ولا يقدح فى لذك ما يذكره بعض هؤلاء المؤرخين عن انكار الأباطرة عبادة الجماهير اياهم أو عدم صدق الجماهير فى اقامة هذه العبادة , فقد كانت ربوبية الفراعنة أيضا تسير إلى الهزال منذ الأسرة الخامسة , واستمكرت تضعف حتى نشأ تحت البطالمة أدب الحادى , ثم أصبحت زخرفا لفظيا لا غناء فيه . هذا إلى ما بين عبادة الأباطرة فى روما من قرون انتقل فيها العقل البشرى من الوثنية إلى المسيحية , وما نعلمه من أ، استنكار الأباطرة هذا لم يمنع من عبادتهم , فقام للامبراطور كلود أكبر هؤلاء المستنكرين معبد فى بريطانيا وعبد خلفاؤه جميعا . والعبادة فى العالم القديم لا تتضمن المعنى الذى نفهمه منها الآن , فهى أقرب إلى التكريم أو التفخيم أو التعظيم منها إلى الاجلال الروحى , وهى تظهر لذلك بين العامة حين تبعد الشقة بين الطبقات ويمتد سلطان الحاكم وتتسع دعوته فتحيط به فى مخيلة المحكومين تلك الهالة من الهيبة التى كنا نجدها لعهد قريب حول أباطرة اليابان وأباطرة ألمانيا وما زلنا نجدها حول أصحاب النفوذ فى المجتمع الريفى . يضاف إلى ذلك أنها كانت لدى الاسكندر وأباطرة الرومان , كما كانت لدى الفراعنة , ضرورة من ضرورات الحكم فى وقت لم تقم فيه القوميات , ولم تصل الشعوب الداخلة فى تلك الامبراطوريات الجديدة إلى الاندماج فى وحدة سياسة متينة , وكان الشعور الدينى يفوق لدى هذه الشعوب كل شعور عداه , ولم يكن من سبيل لذلك إلى جمعها فى دولة واحدة الا بضمها فى عبادة مشتركة هى عبادة ذلك الحاكم القدير الذى استطاع أن يدين لحكمه الناس جميعا .

وكان لهذه العبادة فى مصر واليونان وروما طقوسها وخدمتها ومعابدها , نعنى شعائرها وقسسها وكنائسها , وان لم يعد ذلك فى اليونان وروما الجمهورية حدودا بحكم ضآلة المجتمع الذى قامت فيه . وقد بين فوستيل دى كولانج فى كتابه القيم ما كانت تتسم به الحياة الخاصة والعامة فى المدن اليونانية وروما القديمة من طابع دينى بارز , اذ كان اليونانيون والايطاليون موتاهم ويجعلون من مقابرهم معابد يقدمون بها القرابين , ويقيمون الأسرة على الشراكة فى الدين الواحد , ويفهمون من الوطن , الاتحاد فى العقيدة الدينية . وكانوا يخلطون بين اللسطة الزمنية والسلطة الروحية , فيجمع حكامهم بين السلطتين , ويعد ملكهم راهب المدينة الأول , وتمتزج أحكام العبادة فى قوانينهم بأحكام المعاملات , وتنسب هذه وتلك أول الأمر إلى الآلهة ثم لا تنفذ , حين يعهد بوضعها إلى المجالس التشريعية , حتى يقرها رجال الدين ويعلنوا عدم مخالفتها لرغبة الآلهة . وكان لا يتم عمل خاص أو عام الا وتدخلت فيه الآلهة , فلا تنعقد المجالس ـ وبعضها كمجلس شيوخ روما كان يجتمع فى المعابد ـ الا اذا تقدمتها الصلاة , ولا تعلن الحرب الا بعد أن يوافق عليها عراف المدينة , ولا يعين فى مراكز الحكم الا من اختارته الآلهة فأخرجت اسمه عند الاقتراع على المرشحين , كما كان يحدث فى اليونان , أو أوحت به إلى القناصل , حين يعرضون أسماء المرشحين على الناخبين فى روما الجمهورية كيما يقروها .

وقد انفصلت الادارة الدينية عن الادارة الزمنية فى روما بعد ذلك حين نمت الدولة وتنوعت وظائفها وتعددت أجهزتها كما حدث فى مصر , دونا، تنشطر السلطة إلى دينية وزمنية أو يفلت بعضها من يد الأباطرة حتى فى العصر المسيحى . فليس ثمة شك فى أن الأباطرة البيزنطيين كانوا يمارسون السلطتين معا , ويشرفون على شؤونها معا . وليس ثمة شك فى أن المسيحية الغربية لم تكد تفوت دور التبشير الأول وتنتشر بين الجماهير , نعنى لم تكد تجتاز دور معارضة الحكم القائم , اذا سمح لنا بهذا التعبير الحديث , حتى اتجهت إلى الاستئثار بالسلطان الزمنى , فكان قيام الكنيسة الرومانية كدولة إلى جانب الدولة بسلطتها التشريعية والقضائية والمالية المستقلة , وكان ظهور الامبراطورية الرومانية المقدسة والصراع الطويل بين كنيسة روما والأباطرة , ووقوف هذه الكنيسة بعد ذلك فى وجه الوحدة الايطالية حتى القرن التاسع عشر . وقد ظل رجال الدين يقومون بالدور الأول فى حياة المجتمع الغربى المسيحى , كما كان زملاؤهم يقومون به فى حياة المجتمع الشرقى الاسلامى , وان اختلف الوضع الذى اتخذه كل من الفريقين , فكان رجال الدين الغربيين هيئة مغلقة تمد فروعها إلى كل مكان , وهى هذه الكنيسة الشامخة التى مازلت تؤثر فى حياة الشعوب المسيحية لليوم , فى حين عاش علماء الاسلام فى المتمع ولم تكن لهم منظمة خاصة ينفردون بها . وبدأت أوروبا نضالها للخلاص من ظلمات عصر الوسط , عقب الحروب الصليبية , فكان أئمتها فى هذا النضال من رجال الكنيسة أو تلامذتهم , كما كان أئمة الاصلاح فى البلاد الاسلامية فى القرن التاسع عشر من العلماء أو تلامذتهم , فكان بطرركا رئيس الاومنيزم قسا , وكان سان فرنشيسكو وسفنرولا ولوتير أصحاب الاصلاح الاجتماعى قسسا يريدون هذا الاصلاح من طريق الاصلاح الدينى كالأفغانى ومحمد عبده ومصطفى المراغى , وكان قادة المذاهب العلمية والأدبية والسياسية الحديثة كديكارت وبيكون وروسو وفولتير من طلبة المدارس الدينية .

وهكذا يكون التفريق الحقيقى بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية شيئا حديثا لم يحدث فى الغرب الا كأثر من الآثار التى صحبت التطور الاجتماعى العام فى أوروبا منذ القرن الخامس عشر , مثله مثل انحسار الطابع الدينى عن حياة الأوروبيين سواء بسواء ,ويكون الرجوع بالركود الذى وجدت أوروبا عليه الشرق فى القرن الثامن عشر إلى امتزاج السلطتين لدى الشرقيينم وما يزعم لهم من انفراد بالتفكير الدينى والجمود الذى يمتاز به , سواء كان شرقيا أو غربيا , ولا إلى شئ عدا ذلك , دعوى لم ينزل الله بها من سلطان , وخلطا بين النتائج والأسباب .

كذلك عرفت الامبراطورية الرومانية ما يدعوه مؤرخو مصر القديمة بالملكية المشتركة , ويعنون به حيازة الدولة جزءا كبيرا من الأراضى الزراعية , فهم يقولون ان فرعون مصر كان يملك أراضيها كافة , ثم يختلفون بعد ذلك فيما بينهم , فيقول فريق منهم ان هذه الأراضى كانت موعة بين الملك والكنيسة والنبلاء , أو بين الملك والكنيسة . ويلمح الفريق الآخر هنا وهناك ما يستدل منه على وجود الملكية الفردية أيضا الخ . . .

والذى يضلل هؤلاء المؤرخين هنا هو ما يضللهم فى غالب وجوه تاريخ مصر القديم , نقصد اغفالهم ظاهرة التطور فى النظم العامة جميعا , ثم وقوفهم عند الأشكال القانونية دون التغلل إلى عناصرها الأولى , فقد كان فراعنة مصر يملكون الأراضى الكثيرة دون شك , وكانت تملك مثلها الكنيسة والنبلاء من أهل البلاد , ولكنهم كانوا يملكونها كما يملك الملوك والقسس والنبلاء ليومنا هذا ثروات واسعة توارثوها آباء عن جدود , مع اختلاف يسن رغم ذلك وهو أن الملكية العقارية كانت تكاد تكون شكل الثروة الوحيد فى ذلك الزمن الذى لم يعرف الأوراق المالية أو النقود فكان فرعون مصر الذى ورث العرش عن آبائه جيلا بعد جيل يملك جل ما يرثه أو يقتنيه أراضى زراعية , وكانت هذه الأراضى تتسع مع تعاقب الأجيال اتساعا طبيعيا وتتضخم حتى تتضاءل إلى جانبها الملكية الصغيرة وتفنى فيها.

ونحن اذا ذكرنا ما نشر فى الزمن الأخير عن ثروات بعض ملوك أوروبا المخلوعين استطعنا أن ندرك كيف كان فرعون مصر يستطيع ان يملك ثلث الأراضى الزراعية فيها , وكذلك الكنيسة المصرية والنبلاء .

وتضخم الملكية العقارية اقتصادية عرفتها بلاد كثيرة فى عصور مختلفة : عرفتها اليونان فى القرن لخامس حتى كانت سببا من أهم أسباب حروبها الداخلية والخارجية. وعرفتها روما فى العهد الجمهورى المتأخر حتى كان عدد الملاك الزراعيين فيها لا يزيد , على أيام شيشرون , على ألفين , وكانت الحكومة فى العصر الامبراطورى تملك مساحات من الأراضى الزراعية لا حصر لها . وعرفتها أوروبا جيمعا فى العصر الاقطاعى . وقد كانت الدولة تنتهى فى غالب هذه الحالات إلى وضع هذه الأراضى تحت تصرف الزراع فى صور قانونية مختلفة لا تعدو أن تكون فى جوهرها شكلا من الأشكال التى اتخذها تطور الملكية الخاصة.

قلنا ان مصر عرفت الكنيسة كما عرفت اليونان وروما , ولكن هذه الكنيسة لم تكن موحدة كالكنيسة المسيحية الآن بحكم تعدد الآلهة فى العالم القديم , اذ كان لكل مقاطعة أو قرية أو قبيلة ألهها المحلى إلى جانب الأله الكبير الذى يجله الجيمع . وكانت الآلهة المحلية تتخذ أشكالا مختلفة وتمتزج عادة بشعار الاقليم الذى تقدس فيه فتكون طيرا أو حيوانا أو نباتا . وتمتاز عن الآله الكبير باشتمالها على شئ كثير من الخرافات التى تقبلها عقول العامة . ومن ثم ما يدهش له المؤرخون من تفشى الخرافات الدينية فى مصر فى الوقت الذى يصل الفكر الدينى لديها فيه إلى الوحدانية بحركة أخناتون ويلقى بذور الاسرائيلية بموسى . هذا إلى أن الظن بتقمص الآلهة أجسام الحيوانات ليس بالشئ الذى تنفرد به مصر دون الشعوب القديمة الأخرى فهو طور من الأطوار إلى اجتازها الفكر اليدنى لدى غالب الشعوب وبينها الشعوب اليونانية والايطالية أيضا . يضاف إلى ذلك أن العالم القديم كان لا يقيم بين الانسان واليحوان والنبات هذه الحدود الفاصلة التى نقيمها نحن الآن , فكان المصريون يستعملون أسماء الحيوانات للتعبير عما يشعرون به من حب وعطف فتدلل الزوجة زوجها داعيا اياها يافأرى وكاتنت أثينا تحاكم الحيوانات والجماد وتعاقبها اذا أذت وظلت أوروبا تفعل فعلها حتى القرن الثامن عشر . ونحن لا نزال نكبر بعض الحيوانات والطيور ونشبه بها فنقول : برئ كالحمل , طاهر كالحمام , ويرمز للقوة بصورة الصقر والأسد , ونفضل القط على الكلب فى الشرق , والكلب على القط فى الغرب .

كذلك لم تكن الخرافات وضروب السحر المختلفة فى مصر القديمة شذوذا لو يعرفه غير الشعوب , فقد كان الرومان فقد كان الرومان يعبدون من الآلهة عددا لا حصر له , ويفردون لكل عمل من أعمالهم الها يشرف عليه و فهذا اله يعلم الطفل كيف يأكل ويشرب , وذلك اله يصحب العروس إلى منزل العريس , وذلك اله يحمى الأمهات الخ . . . وكانوا يبدأون أمورهم بالدعاء والصلاة , ويملأون مدينتهم بالمعابد , ولا يبرحون المنازل قبل التأكد من حسن طالع يومهم , ويمتنعون عن استعمال الألفاظ التى تكرهها الآلهة , ويستشيرون الآلهة فى كل شئ وكل وقت بالتأمل فى أمعاء القرابين أو مراقبة الطيور , ولا يحلقون رؤوسهم الا فى الأيام المقمرة , ويحملون شتى أنواع التمائم , ويغطون جدران دورهم بالكتابات الدينية ويحفظون الأدعية الواقية من الأمراض . وكانوا يعتقدون أن للمدن الأخرى أيضا آلهة تحميها ولا يحاصرونها الا بعد أن يدعوا آلهتها إلى مغادرتها , ويتعمدون بعد ذلك أن يبقوا اسم اله مدينتهم مجهولا حتى لا تفعل معه شعوب تلك المدن مثل ذلك فى سبيل السطو عليها . وكان الرومان واليونان لا يقاتلون أعدائهم قبل أن يأذن الآلهة لهم بالقتال ولا يمضون إلى الحرب الا ومعهم أصنامهم , ويستهلون المعارك بالقرابين وكان أ÷ل سبرطة لا ينصبون الحرب الا اذا اكتمل القمر , كما كان الأثينيون لا يقاتلون قبل اليوم السابع من الشهر , واذا هبوا إلى معركة ذهبوا تمثال آله مدينتهم من جديد . وكان هؤلاء وأولئك يخفون آلهتهم أو يقيدونها داخل المعابد اذا حوصرت مدنهم حتى لا يستدرجها المحاصرون . وهيردوت يقول ان الأثنيين كانوا يعدون الريح صهرهم الأكبر , لأنه تزوج من بنت , وقد شتت أسطول الفرس فى موقعة من المواقع فأقامت له أثينا مذبحا فى كذلك يقول كسنوفون ان أثينا كانت أكثر المدن القديمة أعيادا دينية ومعابد وتعاويذ .

ونحن نعلم أن قانون الألواح الاثنى عشر الرومانى كان يعاقب من يقدم على سحر موظفى الدولة , وأن المدن اليونانية والأيطالية كانت تعهد إلى بعض موظفيها الرسميين فى التنبؤ بسقوط الجليد , وما يكاد هؤلاء الموظفون يتنبأون بسقوطه حتى تهرع الجماهير إلى المعابد ويضحى كل بما يستطيع من أنعام أو طيور فاذا لم يملك شيئا من ذلك جرح أصبعه وأسال شيئا من دمه . وقد كان أمبد وكل فيلسوف يفخر باستطاعته السيطرة على المطر والريح . فرونه يقول ان اله الريح قضى على أسطول ديونيس فى احدى غواته فمنحه أهل المدينة جنسيتهم وأقاموا له منزلا وحقلا وجعلوا يحتفلون به كل عام . وشيشرون يقول ان الرومان خسروا معركة ترزيمين لأن القنصل فلامين نسى ان يضحى للآلهة فسقط بحصانه أمام تمثال جوبتر , ورفضت الطيور المقدسة الطعام ولم يستطع أحد أن ينزع أعلام الجيش من الأرض . وهو يقول أيضا ان الرومان عقدوا مع آلهتهم عقدا مكتوبا على قرابين بعينها يقدموها لها فى حالة الانتصار على هنيبال حينما هاجمهم بجيوسه . وكان القنصل ماريو يصطحب فى حروبه الألمانية كاهنة سورية تدعى مارتا ويسترشد بها فى مقاتلة الألمان . كذلك كان أويليو يصطحب فى حروبه الفيلسوف للهلاك أرنوفى للغرض نفسه . وقد حدث ذات يوما أن تعرض جنده العطاش . و يقول أن الرومان كانوا لا يعلمون أى آله يدعون اذا زلولت الأرض زلزالها فيأمرون فى أوقات معينة بالاحتفال بآله مجهول يمنع الناس من ذكر اسمه حتى لا يخطئه أحد .

وكان قيصر يستأنس بالسحر ويتلو اذا ركب عربته تعويذة خاصة بذلك. ويحيط مولد الامبراطورة بظواهر خارقة كتلك التى أحاطت بمولد الاسكندر، ويقول ان أغسطس أيضا كان ثمرة زواج والدته من ثعبان رهيب.

وقد عرفت أوروبا المسيحية بعد ذلك مثل هذه الخرافات فكان فيها قسس يكلفون بالاشراف على الزوابع واخضاعها . وكان القديس ترتليانو يعتقد فى امكان التخلص من الجفاف بالصلاة ويؤمن بأن الله اتصل بمريم العذراء فى صورة شعاع من نور خرق احدى أذنيها . كذلك كان شارلمان يدعو رعاياه إلى مضاعفة رسوم الكنيسة محافظة على الزرع من عبث الشياطين . وكان القديس تومازو يعتقد أن الشياطين يستطيعون أن يثيروا الرياح ويسقطوا النار من السماء . ونحن نعلم أن نيوتن ـ وهو أحد آباء العلم الحديث ـ وضع كتابا فيه الدليل على تحقق رؤيا يوحنا , وأن ريشيليو كان يعالج شلله فى القرن الخامس عشر بمزيج من براز الخيل بالشمبانيا . وليس فى كل هذا ما يستنكر , فالخرافة توجد حيث يوجد الجهل , وقد كان العالم القديم جاهلا فى غالب طبقاته . والفكر الدينى لا يؤمن بالمنطق البشرى ولا ينكر لذلك المعجزات . هذا إلى أن السحر شكل من الأشكال التى اتخذتها العلوم فى أطوارها الأولى , وهو لذلك يوجد لدى الأمم المتمدينة كافة .

وقد شهدنا فى الفصل الأول من هذا الكتاب ما استتبعه غزو العرب مصر فى القرن السابع من عداء دينى بين المصريين وأوروبا المسيحية , ورأينا فى الفصل الرابع ما يثيره اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية بين المجتمع الزراعى المصرى ونزلائه الصناعيين من الأجانب فى صدر هذا المجتمع بالذات من تحامل . ولاشك فى أن ما أسلفناه فى الصفحات السابقة من مظاهر التشويه الذى لحق تاريخ مصر وانتهى به فاعلوه لتحويلها إلى شئ شاذ لا مكان له فى هذا العالم الحديث ـ لا شك فى أنه إلى جانب الاختلاف الدينى والفروق الاجتماعيةى المختلفة ـ العلة فيما يبديه المصريون اليوم من تنكر للغربيين والغرب , إلى حد ما , على وجه العموم , وفيما يدفعهم اليه نحوهم من تخوف أصبح لا يخلو من الاسراف . والأجانب فى مصر اليوم فريقان : فريق يتألف من الغربيين الحقيقيين الذين يهبطون البلاد آجالا مختلفة بغية استثمار أموالهم وينتهون إلى مغادرتها أو الاستقرار بها مع الابقاء على صلتهم بأوطانهم . وفريق يتألف من المهاجرين الذين هبطوا مصر فى القرن الماضى من بلاد البحر المتوسط وبعض أقطار السلطنة العثمانية واستوطنوا بها , ولكنهم احتفظوا بجوازتهم الأجنبية ليتمتعوا بما كانت تخولهم اياه من حقوق , واستمروا يعيشون على هامش الحياة الغربية التى عرفوها فى بلادهم الأصلية . والفريق الأول يتكون , فى الغالب , من رجال الأعمال القليلين الذين يمدون نشاطهم خارج القارة الأوروبية , وقد فقد النفوذ السياسى الذى كان يتمتع به إلى مطلع هذا القرن منذ أن فقدت الدول التى يتبعها نفوذها لدينا وصار عنصرا اقتصاديا لا غير . وهو اذا وظف أمواله فى مصر ربط مصالحه بمصالحها ولم يحجم عن منافسة مصالح بلاده فى سبيل مصالحه هذه .

أما الفريق الثانى , وهو الأوفر عددا , فليس من حيث تكوينه بالمصرى , ولكنه ليس بالأجنبى أيضا , وانما هو وليد تلك الحالة الاقتصادية ـ الاجتماعيى ـ السياسية الشاذة التى أوجدها ما كان يقوم بين السلطنة العثمانية والدول المسيحية فى الشرق الاسلامى فى القرنين الماضيين من صلات خاصة كانت تنشئ بين أهل الأقطار ومن ينزل عليهم مشمولا برعاية بعدم خضوعه لسلطة عامة بعينيها , فلا هو يخضع للحكومة المحلية , ولا هو يخضع لحكومة غيرها خضوعا شاملا مباشرا . وهو يتخذ لذلك اتجاهات خاصى به , ويبعث فى أفراده هذه الخصال التى نذكرها الآن فى باب انتقاد الأجانب المستوطنين لدينا من استهتار بالنظم العامة وانصراف للمصالح المادية إلى عدم مشاركة أهل البلاد فى محنهم القومية . وهذا الفريق لا يسيغ الاقامة خارج مصر ولا تتعنى به الحكومات التى يتبعها عناية خاصة وان كانت قد عنيت به فى وقت من الأوقات كوسيلة من وسائل النفوذ . وهو على كل حال أكثر من الفريق الأول تأثرا بطابع البلاد .

لفريقان معا لا يزيد عدهما , حسب آخر احصاء رسمى , على 186.515 شخص ولا يستطيعان لذلك أن يكونا خطرا سياسيا حقيقيا . فضلا عن أنهما بتقديمهما نشاطهما الاقتصادى على ما عداه يصيران أداة طيعة فى يد الدولة . وقد استردت هذه فى الأعوام الأخيرة استقلالها التشريعى فصارت تملك زمامهما من نواحيه جميعا , ولم يعد ثمة معنى لتخوفها منهما أكثر مما يحق لأية دولة حديثة أخرى أن تتخوف من الأجانب النازلين عليها . وواضح أن السياسة التى تتبعها منذ حين فيما يتعلق بالأجانب تهدف إلى افساح المجال للمصريين فى دائرة نشاطهم الاقتصادى , ما دامت الدائرة الاقتصادية المصرية لا تزال لا تكفيهم , وما دام هؤلاء الأجانب ينساقون إلى ما تنساق اليه كل أقلية اجتماعية قصيرة النظر من قصر تعاونهما على ابنائها وعدم مد يدها إلى سواهم . غير أن تكون جزء كبير من هؤلاء الأجابن , كما رأينا , من المستوطنين الذين لا جنسية لهم معينة لهم , ولا نظن أننا سنقدم يوما على اخراجهم من البلاد أو حرمانهم من حق العمل فيها , وبخاصة أن جانبا لا بأس به منهم من الشرقيين أو المنحدرين من بلاد شرقية , فالغالب أن تكون النتيجة الفعلية التى تنتهى اليها هذه السياسة هى أننا سنغلق أبواب مصر فى وجه الغربيين الحقيقيين , وندعم مركز هؤلاء المستوطنين على الأقل أول الأمر إلى أن تكتسب العناصر المصرية الحقيقية التى تنقصها . ولا شك فى ان اقتصادنا الحديث يستطيع أن يستغنى عن الكاتب أو المحاسب أو المترجم الغربى أو الشرقى المستغرب دون أن يعرض كيانه لخطر جسيم حتى لو كان المصرى الذى يحل محله أقل منه خبرة , ولكنه لا يستطيع أن يستغنى عن الفنى الغربى الذى سعى فى العادة إلى استقدامه من الخارج وليس من الخير أن يحاول ذلك ما دامت الصناعة والتجارة لدينا محتاجين كما هما الآن الخبرة العملية التى لا تكفى معاهد العلم لتكوينها مهما رفع من شأنها والتى لا خوف من مزاحمتها العناصر الوطنية مزاحمتها العناصر الوطنية مزاحمة حقيقية بالنظر إلى قلة عدد هذه العناصر وكونها فى الغالب من درجة لا تتأثر بمثل هذه المنافسة تأثرا شديدا . وهكذا يكاد هذا العلاج لأوضاعنا الاقتصادية الشاذة أن يؤدى إلى عكس ما يقصد اليه ككل علاج شكلى مثله . ولعله كان من الأجدى أن تعنى الدولة بوجيهنا توجيها اقتصاديا حديثا حقيقة , وأن تتمثل أثناء ذلك ما تحتاج اليه نهضتنا الاقتصادية من فنيين غربيين , وأن تعدل الأجانب من ناحيتهم عما أخذوا به أنفسهم إلى اليوم من ايثار مواطنيهم بكل شئ , ولزوم الاستعلاء على أهل البلاد والنظر إلى مسائلهم وكأنها مسائل طبيعية لا تتحول , لا مسائل تطور عادى تعرض للشعوب جميعا .

وقد أسرفنا مازلنا نسرف على نفسنا من حين إلى حين فى التفضيل بين ما ندعوه بالحضارة الشرقية والحضارة الغربية والبحث فى أيهما خير لنا من الأخرى . ورأى فريق منا أن لا مفر من الأخذ بالثانية لأننا أصحاب عقلية غربية , فى حين رأى الفريق الآخر أن لا مناص لنا من التمسك بالأولى لأنها أقرب الحضارتين صلة بالفضائل الانسانية غير أن أصحاب الرأى الأول يلاحظون بعد ذلك أن العقلية الشرقية لم تمنع بلدا كاليابان أن تتخذ الحضارة الغربية وتنافس فيها . كذلك لم تمنع ارادة التمسك بالحضارة الشرقية المنادين بها من الرغبة فى الأخذ بأسباب الحياة الغربية , نقصد من الرغبة فى اتخاذ الطائرة وسيلة للانتقال دون الدواب , والتمتع بالحكم النيابى بدل النظم التى كانت تحكم بها الدولة الأموية أو العباسية أو الفاطمية أو ما سبق ذلك وأعقبه من دول قديمة , والانصراف إلى الأعمال التى يتقنونها ويعيشون منها عيشة آمنة بدلا من أن يكونوا علماء ومتسولين أو فقهاء وصناعا وتجارا فى وقت واحد , نعنى لم تمنعهم من الرغبة فى التمتع بثمرات الحضارة الغربية التى لا يريدونها فى الوقت الذى يريدون فيه التمسك بالخصال التى كانت تنادى بها , ولا أقول تعمل بها المجتمعات الخالية .

ونحن لا نريد أن ندخل فى ميدان العقليات هذا الزلق فلسنا من أبطاله , ونقنع بالاشارة إلى ما أصبح لا ينكره منكر من اتصال ما يدعى الفكر الاغريقى ـ الرومانى بالفكر المصرى من جهة , والفكر العباسى من جهة , وتأثير المسيحية والاسلام فى الحضارة الغربية الحديثة واشتراك الشعوب القائمة فى هذا الجانب من العالم على وجه العموم فى نسج هذه الحضارة . وقد أصبحت البشرية تسير جميعا بخطى عاجلة إلى حياة مشتركة منذ أن كشف لها العالم عن أسرار الملاحة الجوية والاذاعة اللاسلكية والانتاج الآلى , نقصد منذ أن ضاقت بين أطرافها الفروق الزمنية والفكرية والاقتصادية وصارت تعيش عيشة سواء . وليست الحضارة بعد بالشئ الذى ينتقيه المرء كما يشاء , وانما هى الثمرة المحتومة للأوضاع الاجتماعية التى تخذها الشعوب , وهذه الأوضاع تسير الآن مسرعة نحو الوحدة , ومن اتلعبث لذلك أن نحاول التعلق بحضارة الماضى فى الوقت الذى نسعى فيه خفاف إلى الأخذ بأساليب الحياة الحديثة .

ليست الحضارة بالشئ الذى ينتقيه المرء كما يشاء , وهى ليست بالشئ الذى يستطيع المرء أن يتقله بنقل القوانين أو المظاهر فليست هذه وتلك سوى أشكال يتخذها جوهر دفين تنتجه الحياة اليومية والتقاليد والجهود وهذا الجوهر لا يمكن الوصول اليه الا بمعالجة مقومات حياة الشعوب , نعنى عناصرها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية معالجة لا تغفل فيها الظروف القائمة ومقدماتها ومدى قابليتها للتحويل ولا تغفل فيها طبيعة الجوهر الذى يراد نقله ومقدماته ومدى قابليته للنقل . وقد أغفلنا نحن هذا الى اليوم وظننا أن الأمر أمر التعليم ولا شئ سواه وأنشأنا ننظر إلى كل متعلم لدينا وكأنه قادر على كل شئ فصار كل حقوقى لدينا مشرعا وفقهيا ومؤلفا وكل مهندس أو طبيب عالما ومدرسا وكاتبا , ثم لمسنا ما فى ذلك من شطط فهاجم اليأس قلوبنا وافترضنا العجز فى نفسنا وقدمنا عليها كل ما هو غربى . والحقيقة هى أن التعليم لن يغنى عن المتعلمين شيئا ما داموا لا يجدون فى الحياة اليومية ما يتصل به من ظاهر يستطيعون بمعالجتها أن يطبقوا علمهم وينموا ملكاتهم ويرتفعوا إلى الابتكار ,وان نعشة واحدة تصيب حياتنا الاقتصادية تستطيع أن تكسب هؤلاء المتعلمين ما يمتاز به أقرانهم فى البلاد الأخرى وما لا يستطيع التعليم النظرى أن يزودهم به . وقد اردنا أخيرا أن نحاول هذه النعشة فقمنا بنقل قوانين الأمم الأخرى دونأ، نقف عند مقدماتها وظروفها ونتائجها , ودون أن نطيل النظر فى ظروفنا نحن ومقدماتها واحتمالاتها . واتجهنا إلى الزج بالدولة فى الاقتصاد , والدولة ما زالت لدينا قصيرة الباع فى هذا الميدان , وهذا الميدان نفسه ما زال هزيلا يحتاج إلى مجهود الفرد وعنايته واندفاعاته . وأقدمنا على بذر الشقاق بين أطراف الانتاج وهى ما زالت فى حاجة إلى التعاون والوصول بالانتاج إلى ما وصل اليه غيرنا. ومضينا مسرعين فى تقييد النشاط الاقتصادى , وهذا النشاط مازال فى حاجة إلى الترغيب والتوسع والتشجيع , لا لشئ الا لأن الغرب يفعل ذلك .

ونحن لا نريد أن ننكر بما قدمنا فى هذا الفصل اختلاف شعوب البحر المتوسط بعضها عن بعض , أو اختلافها جميعا عن مصر , أو التهوين من أثر هذا الاختلاف فى أوضاعها الاجتماعية . انما نريد أن نقول أن هذا الاختلاف لم يصب الخطوط الكبرى التى جرت عليها النظم العامة لدى هذه الشعوب من قريب , وأن الذين جهدوا فى الرجوع بظروف مصر الحاضرة إلى تغاير هذه النظم فقط يخطئون , كما يخطئ الذين يدفعهم الغرض أو الجهل أو الضعف إلى أن يروا فيه أمر الجبلة التى جبلنا عليها ويشككون لذلك فى مستقبلنا هذا التشكك الذى يفسد علينا قوميتنا الحاضرة . انما الأمر قبلل كل شئ هو أمر تلك القرون الطويلة التى تعاقبت بين اكتشاف رأس الرجاء الصالح وافتتاح قناة السويس واتصلت أوروبا أثناءها بالشرق الاقصى والعالم الجديد فاتسع مجالها ونمت أعضاؤها ونضجت ملكاتها بعد عصر الركود الذى عرفته فى عهد الوسط , على حين كانت مصر والشعوب العربية الواقعة شرقها على شاطئ البحر المتوسط توغل فى دائرة الحياة المغولية التى فتحها عليها الاسلام فى القرن السابع , فجعلت تغمرها بموجاتها البدائية الغزيرة منذ القرن الثامن , ثم أطبقت عليها بالفتح العثمانى فى مطلع القرن السادس عشر وظلت تعنف بها حتى كاد يغيض ماء الحياة فى عروقها فى مطلع القرن الثامن عشر . أمر تلك القرون الطويلة وما قطعه الغرب خلالها من مسافات ينبغى لمصر كيما تقطعها الآن أن تطرح ما زالت تأخذ به من سياسة التستر أو الجهل أو القصور , على ما من شأن حداثة نهضتها أ، تبقى عليه فيها من أسباب الضعف أو الجهل أو القصور , وتقلع عن القنوع بنفخ الأوداج والضجيج الفارغ , وتواجه جوهر لنقص فى حياتها , أى فقر الدم هذا الظاهر فى أوصال مجتمعنا جميعا , يتنقيته وتغذيته وانعاشه , وهو عمل يقع غالبه من دائرة النشاط الاقتصادى فى الصميم . ومن ثم حاجتنا الماسة إلى حشد قواتنا فى هذا الميدان واحاطته بكل ضمان فنى ممكن , وتغليب المصالح الأساسية البعيدة على المصالح الثانوية القريبة , وحاجتنا أيضا إلى توجيهه توجيها عصريا , أى صناعيا , كيما نضمن لأنفسنا عدم التخلف عن موكب الحضارة الحديثة وهى حضارة صناعية لا شك فيها .

لنقلع اذا عن تشاؤمنا الحالى , فلا أصل له سوى وقوفنا عند عوارض الحياة الهجينة التى بذرناها بالحكم الخاطئ والقصور عن الارتفاع إلى أصول نقائصنا الحقيقية وننظر إلى ما كتب حتى اليوم فى تاريخنا القديم والحديث , وبخاصة فى الغرب , على حقيقته كمظهر من مظاهر الاستعلاء الذى يروق الأقوياء أن يبدوه نحو الضعفاء , أو رغبة الحكام فى تخدير أعصاب المحكومين , أو هذا الميل الوثنى الذى ما زال يدفع ببنى الانسان إلى خلع ما يصبون اليه من مثل عليا على شئ نا فى عالم المحسوس هذا القائم أو عالم الخيال الذى يقيمونه لنفسهم , والذى لاشك فى أنه مازال إلى بعيد مصدر ما يحيط به المؤرخون الغربيون تاريخ اليونان القديمة والامبراطورية الرومانية من فضائل لم ينزل الله بها من سلطان , وما يحيط به المؤرخون الشرقيون تاريخ العرب الأولين من صفات ليس لها من الصحة نصيب خير من نصيب تلك الفضائل . لنقلع عن ذلك ونتحول بجهودنا عما لا غناء فيه من محاولات تمس العرض دون الجوهر , وتدفع نزعة التقليد اليها قرب عهدنا بهذه الحياة الحديثة التى نريد , ونقبل على العمل الايجابى مستعينين فى ذلك دون خجل أو تردد\ بكل ما نستطيع ، أن نغترفه من خبرة الغرب , ففى هذه الخبرة , التى ليس فى عدم توفرنا عليها الآن , ونحن لم نعد إلأى الحياة الا بالأمس القريب , ما يعنيبنا من بعيد أو قريب , طريق السلامة الوحيد الباقى بين يدينا . ونذكر قبل كل شئ أنه كان الفرق بين مصر والبلاد الأخرى هو الفرق بين مستوى عامة المصريين وعامة الشعوب الأخرى , فان الفرق بين السرعة التى نسير بها لتغطية هذه الفروق والسرعة التى تسير بها هذه الشعوب هو إلى حد بعيد الفرق بين حكامنا وحكامهم . وقد لا يستطيع المصرى البسيط أن يتثقف ويبلغ بنفسه مستوى أقرانه فى الغرب ويقوم بواجبه كاملا , ولكن الطبقة الحاكمة المصرية تملك وسائل ذلك خصوصا الوقت والمال .