فتوي ابن تيمية عن كتاب فصوص الحكم
وسئل ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين رضى الله عنهم أجمعين فى الكلام الذى تضمنه كتاب فصوص الحكم وما شاكله من الكلام الظاهر فى اعتقاد قائله
- أن الرب والعبد شىء واحد ليس بينهما فرق
- وأن ما ثم غير
- كمن قال فى شعره أنا وهو واحد ما معنا شي
- ء ومثل أنا من أهوى ومن أهوى أنا
- ومثل إذا كنت ليلى وليلى أنا
- وكقول من قال لو عرف الناس الحق ما رأوا عابدا ولا معبودا
وحقيقة هذه الأقوال لم تكن فى كتاب الله عز وجل ولا فى السنة ولا فى كلام الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين ويدعى القائل لذلك أنه يحب الله سبحانه وتعالى والله تعالى يقول قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله والله سبحانه وتعالى ذكر خير خلقه بالعبودية فى غير موضع فقال تعالى عن خاتم رسله فأوحى الى عبده ما أوحى وكذلك قال فى حق عيسى عليه السلام إن هو الا عبد أنعمنا عليه وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون الآية فالنصارى كفار بقولهم مثل هذا القول فى عيسى بمفرده فكيف بمن يعتقد هذا الاعتقاد تارة فى نفسه وتارة فى الصور الحسنة من النسوان والمردان ويقولون ان هذا الاعتقاد له سر خفى وباطن حق وانه من الحقائق التى لا يطلع عليها الا خواص خواص الخلق فهل فى هذه الأقوال سر خفى يجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله أن يجتهد على التمسك بها والوصول الى حقائقها كما زعم هؤلاء أم باطنها كظاهرها وهذا الاعتقاد المذكور هو حقيقة الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به أم هو الكفر بعينه وهل يجب على المسلم أن يتبع فى ذلك قول علماء المسلمين ورثة الأنبياء والمرسلين أم يقف مع قول هؤلاء الضالين المضلين وإن ترك ما أجمع عليه أئمة المسلمين ووافق هؤلاء المذكورين فماذا يكون من أمر الله له يوم الدين أفتونا مأجورين أثابكم الله الكريم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جواب
فأجاب شيخ الاسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ما تضمنه كتاب فصوص الحكم وما شاكله من الكلام فإنه كفر باطنا وظاهرا وباطنه أقبح من ظاهره وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة وأهل الحلول وأهل الاتحاد وهم يسمون أنفسهم المحققين وهؤلاء نوعان نوع يقول بذلك مطلقا كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربى وأمثاله مثل ابن سبعين وابن الفارض والقونوى والششترى والتلمسانى وأمثالهم ممن يقول إن الوجود واحد ويقولون ان وجود المخلوق هو وجود الخالق لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر بل يقولون الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق و يقولون إن وجود الأصنام هو وجود الله وإن عباد الأصنام ما عبدوا شيئا إلا الله ويقولون ان الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم
عبادة العجل
ويقولون ان عباد العجل ما عبدوا إلا الله وان موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل وان موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق فى كل شيء بل يرونه عين كل شئ وأن فرعون كان صادقا فى قوله أنا ربكم الأعلى بل هو عين الحق ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص ويقول أعظم محققيهم ان القرآن كله شرك لأنه فرق بين الرب والعبد وليس التوحيد الا فى كلامنا فقيل له فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأم حراما فقال الكل عندنا واحد ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم وكذلك ما فى شعر ابن الفارض فى قصيدته التى سماها نظم السلوك كقوله لها صلواتى بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لى صلت كلانا مصل واحد ساجد الى حقيقته بالجمع فى كل سجدة وما كان لى صلى سواى ولم تكن صلاتى لغيرى فى أدا كل سجدة
وقوله وما زلت اياها واياى لم تزل
وقوله وما زلت اياها واياى لم تزل ولا فرق بل ذاتى لذاتى أجبت وقوله الى رسولا كنت منى مرسلا وذاتى بآياتى على استدلت فأقوال هؤلاء ونحوها باطنها أعظم كفرا وإلحادا من ظاهرها فإنه قد يظن أن ظاهرها من جنس كلام الشيوخ العارفين أهل التحقيق والتوحيد وأما باطنها فإنه أعظم كفرا وكذبا وجهلا من كلام اليهود والنصارى وعباد الأصنام ولهذا فان كل من كان منهم أعرف بباطن المذهب وحقيقته كان أعظم كفرا وفسقا كالتلمسانى فإنه كان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب وأخبرهم بحقيقته فأخرجه ذلك إلى الفعل فكان يعظم اليهود والنصارى والمشركين ويستحل المحرمات ويصنف للنصيرية كتبا على مذهبهم يقرهم فيها على عقيدتهم الشركية وكذلك ابن سبعين كان من أئمة هؤلاء وكان له من الكفر والسحر الذى يسمى السيميا والموافقة للنصارى والقرامطة والرافضة ما يناسب أصوله فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب ووافقهم عليه كان أظهر كفرا وإلحادا وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانا ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدى وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم ولا يتصور أن يثنى على هؤلاء الا كافر ملحد أو جاهل ضال
الجهمية
وهؤلاء من جنس الجهمية الذين يقولون ان الله بذاته حال فى كل مكان ولكن أهل وحدة الوجود حققوا هذا المذهب أعظم من تحقيق غيرهم من الجهمية وأما النوع الثانى فهو قول من يقول بالحلول والاتحاد فى معين كالنصارى الذين قالوا بذلك فى المسيح عيسى والغالية الذين يقولون بذلك فى على بن ابى طالب وطائفة من أهل بيته والحاكمية الذين يقولون بذلك فى الحاكم والحلاجية الذين يقولون بذلك فى الحلاج واليونسية الذين يقولون بذلك فى يونس وأمثال هؤلاء ممن يقول بإلهية بعض البشر وبالحلول والاتحاد فيه ولا يجعل ذلك مطلقا فى كل شيء ومن هؤلاء من يقول بذلك فى بعض النسوان والمردان أو بعض الملوك أو غيرهم فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصاري الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم وأما الأولون فيقولون بالإطلاق ويقولون النصارى انما كفروا بالتخصيص وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى وفيها من التناقض من جنس ما فى أقوال النصارى ولهذا يقولون بالحلول تارة وبالإتحاد أخرى وبالوحدة تارة فإنه مذهب متناقض فى نفسه ولهذا يلبسون على من لم يفهمه فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع كل مسلم ومن شك فى كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك فى كفر اليهود والنصارى والمشركين
الإشباه بالعارفين
ولكن هؤلاء يشبهون بشئ آخر وهو ما يعرض لبعض العارفين فى مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر فإنه قد يعرض لأحدهم لقوة استيلاء الوجد والذكر عليه من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره فيغيب بمعبوده عن عبادته وبمعروفه عن معرفته وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده ومثل هذا قد يعرض لبعض المحبين لبعض المخلوقين كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه فى اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال له أنا وقعت فما الذى أوقعك فقال غبت بك عنى فظننت أنك أنى وينشدون رق الزجاج وراقت الخمر وتشاكلا فتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر وهذه الحال تعرض لكثير من السالكين وليست حالا لازمة لكل سالك ولا هى أيضا غاية محمودة بل ثبوت العقل والفهم والعلم مع التوحيد باطنا وظاهرا كحال نبينا صلى الله علي وسلم وأصحابه أكمل من هذا وأتم
أقسام الفناء
والمعنى الذى يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام
- فناء عن عبادة السوى
- فناء عن شهود السوى
- فناء عن وجود السوى
- فالأول
- أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذى أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو تحقيق لا إله إلا الله فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله ولا يبقى فى قلبه تأله لغير الله وكل من كان أكمل فى هذا التوحيد كان أفضل عند الله
- والثانى
- أن يفنى عن شهود ما سوى الله وهذا الذى يسميه كثير من الصوفية حال الإصطلام والفناء والجمع ونحو ذلك وهذا فيه فضيلة من جهة إقبال القلب على الله وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه فانه اذا شهد أن الله رب كل شىء ومليكه وخالقه وأنه المعبود لا إله الا هو الذى أرسل الرسل وأنزل الكتب وأمر بطاعته وطاعة رسله ونهى عن معصيته ومعصية رسله فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقا وأمرا كان أتم معرفة وشهودا وإيمانا وتحقيقا من أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر وشهود التفرقة فى الجمع والكثرة فى الوحدة وهو الشهود الصحيح المطابق لكن اذا كان قد ورد على الانسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا كان معذورا للعجز لا محمودا على النقص والجهل
- والثالث
- الفناء عن وجود السوى وهو قول الملاحدة أهل الوحدة كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون وجود الخالق هو وجود المخلوق وماثم غير ولا سوى فى نفس الأمر فهؤلاء قولهم أعظم كفرا من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام
حقيقة ولاية الله
فإن ولاية الله هى موافقته بالمحبة لما يحب والبغض لما يبغض والرضا بما يرضى والسخط بما يسخط والامر بما يأمر به والنهى عما ينهى عنه والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه كما فى صحيح البخارى عن أبى هريرة عن النبى أنه قال يقول الله تعالى من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة وما تقرب الى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يسعى ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه فهذا أصح حديث روى فى الأولياء فالملاحدة والاتحادية يحتجون به على قولهم لقوله كنت سمعه وبصره ويده ورجله والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة منها قوله من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة فأ ثبت معاديا محاربا ووليا غير المعادى وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا ومنها قوله وما تقرب الى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه فأثبت عبدا متقربا الى ربه وربا افترض عليه فرائض ومنها قوله ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فأثبت متقربا ومتقربا اليه ومحبا ومحبوبا غيره وهذا كله ينقض قولهم الوجود واحد ومنها قوله فاذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به لى آخره فانه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد وهو عندهم هذه الاعضاء بطنه وفرجه وشعره
مراتب و مجالي و مظاهر الوجود
وكل شىء لا تعدد عندهم ولا كثرة فى الوجود ولكن يثبتون مراتب ومجالى ومظاهر فان جعلوها موجودة نقضوا قولهم وان جعلوها ثابتة فى العدم كما يقوله ابن عربى أو جعلوها المعينات والمطلق هو الحق كانوا قد بنوا ذلك على قول من يقول المعدوم شىء وقول من جعل الكليات ثابتة فى الخارج زائدة على المعينات
- والأول
- قول طائفة من المعتزلة وهو قول ابن عربى
- والثاني
- قول طائفة من الفلاسفة وهو قول القونوى صاحب ابن عربى وكلا القولين باطلان عند العقلاء
ولهذا كان التلمسانى أحذق منهما فلم يثبت شيئا وراء الوجود كما قيل وما البحر الا الموج لا شىء غيره وإن فرقته كثرة المتعدد لكن هؤلاء الضلال من الفلاسفة والمعتزلة ما قالوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وهؤلاء الملاحدة قالوا هذا هو هذا ولهذا صاروا يقولون بالحلول من وجه لكون الوجود فى كل الذوات أو بالعكس وبالاتحاد من وجه لاتحادهما
الحديث و وحدة الوجود
وحقيقة قولهم هى وحدة الوجود وفى الحديث وجوه أخرى تدل على فساد قولهم والحديث حق كما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم فان ولى الله لكمال محبته لله وطاعته لله يبقى إدراكه لله وبالله وعمله لله وبالله فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه وما يراه مما يحبه الحق أحبه وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه ويبقى فى سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل كما قال النبى فى الحديث المتفق على صحته اللهم اجعل فى قلبى نورا وفى بصرى نورا وفى سمعى نورا وعن يمينى نورا وعن يسارى نورا وفوقى نورا وتحتى نورا وأمامى نورا وخلفى نورا واجعل لى نورا فولى الله فيه من الموافقة لله ما يتحد به المحبوب والمكروه والمأمور والمنهى ونحو ذلك فيبقى محبوب الحق محبوبه ومكروه الحق مكروهه ومأمور الحق مأموره وولى الحق وليه وعدو الحق عدوه بل المخلوق إذا أحب المخلوق محبة تامة حصل بينهما نحو من هذا حتى قد يتألم أحدهما بتألم الأخر ويلتذ بلذته
مثل المؤمنين
ولهذا قال مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ولهذا كان المؤمن يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوؤهم ومن لم يكن كذلك لم يكن منهم فهذا الاتحاد الذى بين المؤمنين ليس هو أن ذات أحدهما هى بعينها ذات الآخر ولا حلت فيه بل هو توافقهما واتحادهما فى الإيمان بالله ورسوله وشعب ذلك مثل محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله فإذا كان هذا معقولا بين المؤمنين فالعبد إذا كان موافقا لربه تعالى فيما يحبه ويبغضه ويأمر به وينهى عنه ونحو ذلك مما يحبه الرب من عبده كيف تكون ذات أحدهما هى الأخرى أو حالة فيها فإذا عرفت هذه الأصول من الحلول والاتحاد المطلق والمعين الذى هو باطل ومما هو من أحوال أهل الايمان ومن ولاية الله تعالى وموافقته فيما يحبه ويرضاه وتوابع ذلك تبين لك جواب مسائل السائل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كلمات مشتبهة لبعض المشايخ
وهؤلاء قد يجدون من كلام بعض المشايخ كلمات مشتبهة مجملة فيحملونها على المعانى الفاسدة كما فعلت النصارى فيما نقل لهم عن الانبياء فيدعون المحكم ويتبعون المتشابهة فقول القائل إن الرب والعبد شىء واحد ليس بينهما فرق كفر صريح لاسيما اذا دخل فى ذلك كل عبد مخلوق وأما اذا أراد بذلك عباد الله المؤمنين وأولياءه المتقين فهؤلاء يحبهم ويحبونه ويوافقونه فيما يحبه ويرضاه ويأمر به فقد رضى الله عنهم ورضوا عنه ولما رضوا ما يرضى وسخطوا ما يسخط كان الحق يرضى لرضاهم ويغضب لغضبهم اذ ذلك متلازم من الطرفين ولا يقال فى أفضل هؤلاء إن الرب والعبد شىء واحد ليس بينهما فرق لكن يقال لأفضل الخلق كما قال الله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم وقال من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال والله ورسوله أحق أن يرضوه وقال إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة وأمثال ذلك وأما سائر العباد فان الله خالقهم ومالكهم وربهم وخالق قدرتهم وأفعالهم ثم ما كان من أفعالهم موافقا لمحبته ورضاه كان محبا لاهله مكرما لهم وما كان منها مما يسخطه ويكرهه كان مبغضا لاهله مهينا لهم وأفعال العباد مفعولة مخلوقة لله ليست صفة له ولا فعلا قائما بذاته
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فمعناه وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل المرمى فان النبى كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب وقال شاهت الوجوه فأوصلها الله الى وجوه المشركين وعيونهم وكانت قدرة النبى صلى الله عليه وسلم عاجزة عن إيصالها إليهم والرمى له مبدأ وهو الحذف ومنتهى وهو الوصول فأثبت الله لنبيه المبدأ بقوله إذ رميت ونفى عنه المنتهى وأثبته لنفسه بقوله ولكن الله رمى والا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفى فان هذا تناقض والله تعالى مع أنه هو خالق أفعال العباد فانه لا يصف نفسه بصفة من قامت به تلك الأفعال فلا يسمى نفسه مصليا ولا صائما ولا آكلا ولا شاربا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قول القائل ما ثم غير
وقول القائل ما ثم غير اذا أراد به ما يريده أهل الوحدة أى ما ثم غير موجود سوى الله فهذا كفر صريح ولو لم يكن ثم غير لم يقل افغير الله أتخذ وليا ولم يقل افغير الله تامرونى أعبد ايها الجاهلون فانهم كانوا يأمرونه بعبادة الاوثان فلو لم يكن غير الله لم يصح قوله أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون ولم يقل أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلا ولم يقل الخليل أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لى الا رب العالمين ولم يقل إننى براء مما تعبدون الا الذى فطرنى فانه سيهدين فإن ابراهيم لم يعاد ربه ولم يتبرأ من ربه فإن لم تكن تلك الآلهة التى كانوا يعبدونها هم وآباؤهم الاقدمون غير الله لكان ابراهيم قد تبرأ من الله وعادى الله وحاشا ابراهيم من ذلك وهؤلاء الملاحدة فى أول أمرهم ينفون الصفات ويقولون القرآن هو الله أو غير الله فاذا قيل لهم غير الله قالوا فغير الله مخلوق وفى آخر أمرهم يقولون ما ثم موجود غير الله أو يقولون العالم لا هو الله ولا هو غيره ويقولون وكل كلام فى الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فينكرون على أهل السنة اذا أثبتوا الصفات ولم يطلقوا عليها اسم الغير وهم لا يطلقون على المخلوقات اسم الغير وقد سمعت هذا التناقض من مشايخهم فانهم فى ضلال مبين وأما قول الشاعر فى شعره أنا من أهوى ومن أهوى أنا وقوله إذا كنت ليلى وليلى أنا فهذا انما أراد به هذا الشاعر الاتحاد الوضعى كاتحاد أحد المتحابين بالآخر الذى يحب أحدهما ما يحب الآخر ويبغض ما يبغض ويقول مثل ما يقول ويفعل مثل ما يفعل وهو تشابه وتماثل لا اتحاد العين بالعين اذ كان قد استغرق فى محبوبه حتى فنى به عن رؤية نفسه كقول الآخر غبت بك عنى فظننت أنك أنى فأما ان يكون غالطا مستغرقا بالفناء او يكون عنى التماثل والتشابه واتحاد المطلوب والمرهوب لا الاتحاد الذاتى فان أراد الاتحاد الذاتى مع عقله لما يقول فهو كاذب مفتر مستحق لعقوبة المفترين وأما قول القائل لو رأى الناس الحق لما رأوا عابدا ولا معبودا فهذا من جنس قول الملاحدة الاتحادية الذين لا يفرقون بين الرب والعبد وقد تقدم بيان قول هؤلاء وهؤلاء يجمعون بين الضلال والغى بين شهوات الغى فى بطونهم وفروجهم وبين مضلات الفتن وفى الحديث عن النبى أنه قال إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم حتى يبلغ الامر باحدهم الى أن يهوى المردان ويزعم أن الرب تعالى تجلى فى أحدهم ويقولون هو الراهب في الصومعة وهذه مظاهر الجمال ويقبل أحدهم الأمرد ويقول أنت الله ويذكر عن بعضهم انه كان ياتى ابنه ويدعى انه الله رب العالمين أو انه خلق السموات والارض ويقول أحدهم لجليسه أنت خلقت هذا وانت هو وأمثال ذلك فقبح الله طائفة يكون الهها الذى تعبده هو موطؤها الذى تفترشه وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا ومن قال ان لقول هؤلاء سرا خفيا وباطن حق وأنه من الحقائق التى لا يطلع عليها الا خواص خواص الخلق فهو أحد رجلين إما ان يكون من كبار الزنادقة أهل الالحاد والمحال واما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال فالزنديق يجب قتله والجاهل يعرف حقيقة الامر فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله ولكن لقولهم سر خفى وحقيقة باطنة لا يعرفها الا خواص الخلق وهذا السر هو أشد كفرا والحادا من ظاهره فان مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس ولهذا تجد كثيرا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض ويتواجد عليها ويعظمها ظانا انها من كلام أهل التوحيد والمعرفة وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين فلا يفهمون حقيقته فإما أن يتوقفوا عنه أو يعبروا عن مذهبهم بعبارة من لم يفهم حقيقته واما ان ينكروه انكارا مجملا من غير معرفة بحقيقته ونحو ذلك وهذا حال أكثر الخلق معهم وأئمتهم اذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه وقالوا هذا من علماء الرسوم وأهل الظاهر وأهل القشر وقالوا علمنا هذا لا يعرف الا بالكشف والمشاهدة وهذا يحتاج الى شروط وقالوا ليس هذا عشك فادرج عنه ونحو ذلك مما فيه تعظيم له وتشويق اليه وتجهيل لمن لم يصل اليه وان رأوه عارفا بقولهم نسبوه الى انه منهم وقالوا هو من كبار العارفين واذا اظهر الإنكار عليهم والتكفير قالوا هذا قام بوصف الإنكار لتكميل المراتب والمجالى وهكذا يقولون فى الأنبياء ونهيهم عن عبادة الأصنام وهذا كله وأمثاله مما رأيته وسمعته منهم فضلالهم عظيم وافكهم كبير وتلبيسهم شديد والله تعالى يظهر ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا والله أعلم.