زال

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولادة زال

قال كان سام بن نريمان بهلوان العالم فى عهد منوجهر. و كان يبتهل الى اللّه تعالى و يسأله أن يرزقه ولدا يكون قوّة لظهره، و قرة لعينه. و كانت له جارية فحملت منه. فلما أخبر بذلك شكر اللّه تعالى، و لم يزل يعدّ الليالى و الأيام، منتظرا طلوع صبح ما ارتجى، و حصول ما أراد و ابتغى. فولدت ولدا ذكرا كأنه القمر إضاءة غير أن شعره كان أبيض يشتعل شيبا كرءوس المشايخ الطاعنين فى الأسنان.

فبشر سام بذلك. فلما رآه على تلك الهيئة استقبحه، و نفر عنه طبعه، و رفع رأسه الى السماء و جعل يدعو اللّه تعالى و يبتهل اليه، و يظن أنه لمعاصيه و ذنوبه ابتلاه اللّه فى ولده بتلك الهيئة القبيحة.

و أمر به فأخرج إلى جبل ألبرز، و هو جبل عظيم من جبال الهند. و أصعد به الى ذلك الجبل، و ترك فى بعض شعفاته وحيدا. و كان على رأس الجبل معشش العنقاء. و كانت تطير فى طلب الرزق لأفراخها، فرأت ذلك الصبى فى مثل ذلك الموضع. فألقى اللّه تعالى فى قلبها محبة منه فجاءته و رفرفت بجناحها عليه، ثم حملته و حلقت به الى رأس الجبل، و وضعته بين أفراخها. فكانت تربيه مع أولادها حتى طالت عليه المدّة فى قلة ذلك الجبل، و ترعرع بين أفراخ العنقاء. و كانت القوافل تعبر تحت ذلك الجبل فوقعت أبصارهم على مولود إنسى بين أفراخ العنقاء فى شعفة الجبل


رؤيا سام حال ابنه‏

و رأى هو أيضا فى منامه ليلة كأن رسولا جاء على فرس كالبرق الخاطف فأعلمه أن ولده على بعض الجبال فانتبه و أحضر الحكماء و المعبرين و سألهم عن حال رؤياه.

فعبروها على أن اللّه تعالى لما رأى جفاءك على ولدك حين أبعدته و نفيته و طرحته على بعض الجبال وحيدا فريدا تعطف برحمته عليه فرباه و وقاه، و هو حىّ يرزق. فتوجه الى الجبل و تضرع الى اللّه و تب اليه فانه يردّ عليك ولدك.

ففعل ذلك و اقبل الى تلك الجبال يدور فى مخارمها و شعابها وحيدا. و يبكى و يتضرع الى اللّه و يسأله أن يرد عليه ابنه. قال: فألهم اللّه العنقاء أنه إنما يدور فى هذه المخارم و الشعاب لطلب ولده ذلك. فحلقت نحوه، و كانت سمته« دستان»، و قالت: ان أباك قد جاء. و هو يدور فى هذه الجبال محترق القلب، منسكب الدمع عليك. و قد ربيتك مثل أفراخى، و أنت أعز علىّ من روحى. و أرى لك أن أحملك بين جناحىّ الى أبيك.

فانك ستصير ملكا من الملوك، و يعظم شأنك بين الخلق. و أنا أعطيك من جناحى ريشة. فاذا حزبك أمر مهم فأحرقها فإنى سأحضر للوقت و أقضى حاجتك.

فحملته و حلقت به ثم رفرفرت حوالى سام، و وضعته بين يديه. فرأى شخصا قد أفرغ فى قالب الجمال، رشيق القدّ كالغصن المائل، صبيح الوجه كالبدر الكامل. فخر ساجدا للّه تعالى يعفر وجهه فى التراب، و يشكره على ما أكرمه به من ردّ ولده و قرة عينه عليه. و عاهدا اللّه تعالى و أشهده على نفسه ألا يوحش بعد ذلك قلبه، و لا يضيق صدره. و أطلق لسانه بالثناء على العنقاء لحسن صنيعها مع ولده.

ثم انجدر به من ذلك الجبل كالليث المشبل. و كساه قباء فكان ملأه رونقا و بهاء و عزا و سناء. فلما رأى العسكر ساما قد أسهل مع ابنه دستان رفعوا أصواتهم بالبشارات، و كاد الطرب يسلب عقولهم، و أقبلوا راجعين الى المدينة بالدبادب و البشائر.

اطلاع منوجهر على أمر سام و زال زر

فاستفاضت بذلك الأخبار حتى بلغ الخبر الى حضرة منوچهر. فأنفذ ابنه نوذَر الى سام للتهنئة بما يسر اللّه له من رجوع ولده اليه. و أمره بالركوب مع دستان الى الحضرة فى أسرع زمان، و أقرب أوان. فلما وصل نوذر الى سام خرج مبادرا و خيم بظاهر البلد فنجز أموره، و رتب أسبابه، و نهض مع دستان متوجها نحو الحضرة. فلم يزل يصل السير بالسرى حتى وصل الى مستقرّ سرير السلطنة. فخرج منوجهر لاستقباله فى مواكب جنوده، تحت أعلامه و بنوده. فلما رأى سام دِرَفْشه الميمون، و لواءه المنصور ترجل إجلالا، و قبل الأرض إعظاما و إكبارا. فأوسعه الملك برا و إلطافا، و أمره بالركوب. فسارا الى دار المملكة، و جلس على سرير الذهب، و أجلسه عن يمينه، و أجلس قارن عن يساره.

و أمر الحاجب الكبير بإحضار دستان. فخرج و أخذ بيد دستان و أدخله على الملك مشدود الخصر بمنطقة مرصعة باليواقيت، معصوب الرأس بإكليل من الذهب، على كاهله جرز كقطعة من الجبل. و كأنه يحكى بذلك الرأس الأبيض و الوجه الأزهر، تحت إكليل الذهب الاحمر، صورة القمر بعد التسع و الخمس، متوّجا بعين الشمس.

فملأ عين الملك بشكله و شمائله، و ما لاح فيه من أمارات العز و مخايله. ففرح بلقائه و شكر اللّه تعالى على ما رزقه من الاكتحال بوجهه، و الاستظهار به ليومه و غده، و قربه من بساطه و مسح عينه و وجهه بيده. ثم أقبل على سام و استخبره على أحواله و كيفية استنزاله من معشش العنقاء و شعفات تلك الجبال. فسرد لديه حكاية ن أوّل ميلاده الى يومه ذلك.

رجوع سام إلى زابلستان‏

فلما سمع الملك ذلك أمر بإحضار المنجمين و سايلهم عن طالع دستان و ما قدّر اللّه له من المقامات، و كتب على يده من الوقائع.

فنظروا فى ذلك و تدبروا ثم جاءوا الى الملك مبشرين بسعادة طالعه، و يمن نقيبته. فسر الملك بذلك و أمر لهم بمال عظيم.

ثم قال لسام: هذا وديعتى عندك، و هو علىّ أعز من إحدى عينى. و شرط عليه أن يعلمه بمكارم الأخلاق و آداب الملوك و مراسهم فى حالتى و الترحال، و السلم و القتال. ثم أمر له بخلعة راقت العيون و شرحت الصدور، من الدبابيج المنسوجة بالذهب و المرصعة بالجواهر الثمينة، بأطباق من اليواقيت و اللآلئ، و عدد من الخيول العتاق، و جماعة من روقة الغلمان الرشاق. و عقد له لواء عظيما، و وقع له بجميع ممالك الهند و السند و ما والاهما من الممالك. فتوجه الى تلك الولايات فى مواكب العز و الإِقبال ، و كواكب المجد و الجلال.

إعطاء سام الملك لزال‏

فاستقرّ بها على سرير الملك ينهى و يأمر حتى استنهضه الملك فى بعض المهمات السانحة، و هو استخلاص مملكة مازندران التى استولى عليها بعض العتاة المعاندين، و العداة المارقين. فدعا بابنه دستان و استنابه فى مملكته، و أمر أركان دولته و أعيان حضرته، بالتوفر على خدمته، و إقامة مراسم طاعته.

و أمر الوزراء و النصحاء و من ندبهم لمنادمته و مجالسته من الكفاة الأذكياء، و العلماء الأتقياء، بتحريضه على مكارم السير، و تأديبه بمحاسن الشيم. ثم أذن له فى الطرد و الصيد متوجها حيثما أراد من أطراف المملكة. فودّعه و انحدر على مقتضى الامتثال الى أرض مازندران لما ندب له من استخلاص تلك الممالك و قتال من استولى عليها من المخالفين المعاندين.

قصة دستان و بنت مِهراب

مجي‏ء زال إلى مهراب الكابلي‏

قال فقعد دستان مقعد أبيه ينهى و يأمر، و يورد و يصدر. ثم إنه نهض متصيدا الى قرب أراضى كابل. و كان لتلك البلاد ملك يسمى مهراب. فلما سمع بقرب دستان منه ركب الى حضرته للخدمة، و استصحب من طرائف الجواهر و نفائس ما يليق أن يتحف به مثله من الملوك. فقبله دستان أحسن قبول، و قابله بأتم إحسان و إكرام. و كان مهراب ذا صورة عجيبة تستوقف الألحاظ و تستتبع الأحداق من شطاط قامة، و حسن وجه، و لين معطف، و أبهة جلالة، و طراوة منظر، و عذوبة منطق. فلما قام من حضرة دستان و خرج أقبل على أصحابه و ندمائه، و قال ما أحسن هذا الشاب. و إنه قد ملأ قلبى بمحاسنه و شمائله، و كأنه ما ولد قط مثله. فلم يزل يكرر هذا الكلام و نحوه حتى قال له بعض الندماء إن له وراء حجابه بنتا كالشمس الطالعة. و قد خلقت من طينة الجمال، و أفرغت فى قالب الكمال. بيضاء تسحب من قيام فرعها و تغيب فيه و هو و حف أسحم‏ فكأنها فيه نهار ساطع و كأنه ليل عليها مظلم.

فاستهام بها دستان، و شغفه حبها حتى ملك الغرام عنان قلبه، و استلبه زمان عقله. و جعل يتجلد و يخفى ما يجن و يضمر. فأبت لواعج همومه إلا الاشتغال، و سوابق عبراته إلا الانهمال.

نعم و لما أصبح مهراب جاء الى باب سرادقه للخدمة. فبادر الحجاب و رفعوا دونه الحجب حتى دخل على دستان. فتهلل فى وجهه، و تلقاه بأريحيته، و لاطفه فى الكلام، و أمر برفع حوائجه، و وعده بإنجاح مطالبه، و إنجاز مآربه. فقال مهراب: إن حاجتى أن يتجشم الملك حضور منزلى لينوّره بإشراق طلعته مشرّفا عبده بذلك. فقال: أما هذا فلا سبيل اليه بدون أمر الملك سام. و اعتذر اليه، و خلع عليه. و ردّه الى داره على جملة تسر قلوب مواليه، و تسخن عيون أعاديه.

سؤال زوجة مهراب عن دستان و شمائله‏

فلما عاد مهراب الى داره سايلته زوجته عن دستان و صورته و شكله و حاله بمحضر من ابنته، و كانت تسمى روذابه فطفق مهراب يصفه و يذكر ما أعطاه اللّه من الصورة الجميلة و الشمائل المعسولة، و المنظر البهىّ ، و الرواء الأنيق. و قال: غير أن رأسه أبيض كالكافور، يرف شعره واردا على عارضيه كأوراق الأقحوان، على شقائق النعمان. فكأنه لا يصلح لحمرة وجهه، غير بياض شعره، و لا لبياض شعره غير حمرة خده.

فجعلت روذابه تسمع ذلك بمجامع قلبها حتى أثرت لك الصفة فيها فتغير اصفر لونها. و ما أحسن ما قال بعض الحكماء: لا تصفوا محاسن الرجال، لربات الحجال.

فانها تعلق بقلوبهن، و تأخذ من نفوسهن، و تفتح عليها مكامن الشيطان، فلا يكون للعقل بمقابلتها يدان. فعشقته روذابه، و حالفتها الأشجان حتى ملك الهوى عنان اختيارها، و فجعها بنومها و قرارها.

مشاورة روذابه جواريها

و لما عادت الى بيتها ضاقت ذرعا عن كتمان سرها. و كان لها خمس جوار يخدمنها و يحضنها مختصات بها. فأفضت اليهن بمكنون سرها، و مخزون أمرها.

و أخبرتهن بما تقاسيه من لواعج الحزن، و لوافح الحب. فأنكرن ذلك عليها، و أطلقن ألسنتهن بالتوبيخ و التعنيف، و أخذن يخوّفنها سطوة مهراب، و يذكرون لها شدّة غيرته على الحرم. فخنقتها العبرات، و تصعدت من صدرها الزفرات. ثم أقبلت عليهن و قالت قد فنى منى الاصطبار، و خرج من يدى الاختيار.

لم يبق لى الشوق لا صبرا و لا جلدا فليصبرن خلىُّ يملك الخَلدا فصارت لا تستأنس إلا بوصفه، و لا تستريح إلا الى ذكره. فلما أبصرن ذلك طفقن يعللن قلبها و يقلن: إنا سنتدبر فى شأنك و سنجمع بينه و بينك.

ذهاب جواري روذابه لرؤية زال زر

و كان معسكر دستان قريبا من قصرها.

فلبسن وشائح الحلل، و تبرجن للألحاظ و المقل. و أخذت كل واحدة منهنّ على يدها طبقا من ذهب، و صرن الى بستان قريب منه على شط نهر، و جعلن يجتنين الورد و الياسمين و أنواع الرياحين، و ينضدن ما يجتنينه على الأطباق.

و ذلك بمرأى من دستان. فأبصرهن من تحت السرادق و سايل عنهنّ . فقيل وصائف خرجن من قصر مهراب الى هذا البستان، يجتنين الورد و الريحان. فدعا بالقوس و النشاب و قام يتمشى بين تلك الرياض، و معه جماعة من صغار الغلمان الحصارية فلما قرب من الماء أزعج طيرا و رماه بنشابة فوقع الطير الى ذلك الجانب من الماء، بين أشجار الورد و الياسمين، عند الجوارى المذكورات. فأمر بعض الغلمان بالعبور الى ذلك الجانب و أخذ الطير. فلما عبر الغلام الى البستان سايلته إحداه عن الشاب.

فقال الوصيف: هذا ابن ملك الهند، و هو كما ترين يروق العيون جمالا، و يملأ القلوب كمالا. و طالت مسارتهما.

فضحكت الجارية و قالت للغلام: إن وراءنا فى الحجاب سيدة كالقمر ليلة التمام. و أخذت تصف صاحبتها له و هو يصغى الى ذلك.

ثم رجع بالطير الى صاحبه فساءله عن الجارية و عما حاورته فيه. فسرد عليه ما جرى بينهما. فسر بذلك حتى تورّدت صفحات وجنته، و تهللت أساير جبهته.

ثم رد الغلام الى الجارية و أمرها ألا تبرح من البستان إلا بإذن الملك. و دعا الخازن و أمره فأحضر قطعا من الجواهر النفيسة فأنفذها على يد ذلك الغلام الى الجارية، و أمرها أن تحملها الى صاحبتها، و بأن لا تبرح من مكانها حتى يحملها رسالة اليها.

فقالت الجارية: إن كان للملك رسالة فلا يسمعنها غيرى. فان السر اذا جاوز اثنين لا يبقى مكتوما، و كان بالإذاعة قمينا. فتجشم الملك النهوض الى البستان، و خلا بتلك الجارية و باح اليها بمكنون سره، و أخبرها بما انطوى عليه قلبه من حب صاحبتها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رجوع الجواري إلى روذابه‏

ثم رجعت الوصائف الخمس الى القصر، و بشرت تلك الجارية سيدتها بأن قلب الملك هائم بها، و أن وجده بها فوق وجدها به.

و قدّمن الجواهر التى. أنفذها بين يديها. ففرحت بذلك و سرى عنها بعض همومها. ثم تردّدت الجارية بين المتعاشقين حتى تواعدا على الاجتماع.

ذهاب زال إلى روذابه‏

فلما جنّ الليل جاء دستان و وقف عند أصل القصر. و أشرقت عليه روذابه من بعض شرفاته، قال: و العهدة عليه: فسدلت قرونها و أشارت الى أن يتعلق بها و يصعد. فامتنع من ذلك و قبل تلك الضفائر الممسكة، و علق الوهق، و صعد فى أسرع من رجع الطرف.

فاجتمعت الشمس و القمر، و طال بينهما الحديث و السمر، و باتا يتشاكيان حرّ الاشتياق، و يتفاوضان ذكر الفراق، فى مجلس فرش بالديباج و الحرير، و نضد بالمسك و العبير.

نفحت نسايم السحر، و تشعشعت تباشير الصبح، و غردت سواجع الأطيار، و فى عذبات الغصون و الأشجار، قام دستان فودعها فتعانقا و تحالفا على ألا يقرب كل واحد منهما غير صاحبه حتى يجمع اللّه بينهما بالنكاح. فافترقا على ذلك و جاء الى مخيمه.

مشاورة زال الموبدان في أمر روذابه‏

فلما طلعت الشمس جمع الوزراء و الأمراء، و شاورهم، و أعلمهم بأنه و يريد أن يتزوّج بابنة مهراب. فقالوا إنه من أولاد الضحاك. و لا يخفى عليك ما بين البيتين من العداوة و الشحناء. و لا يرضى أبوك سام و لا الملك منوجهر، بأن يجرى بينكما امتزاج و اتشاج. و إن سمعا بميلك الى هذه المصاهرة احتدما غيظا، و صعب استرضاؤهما، و نعذر استعطافهما. فلما سمع ذلك أطرق محزونا مكتبئا.

ثم أقبل عليهم و قال: لا بد من إعمال الفكر فى ذلك بما يفضى الى حصول هذا المقصود. فأشاروا عليه بأن يكتب الى أبيه و يتضرع اليه، و يعرض ما بلى به من العشق عليه. فلعله يرق قلبه و يتشفع الى الملك و يتوسل اليه بذرائع عبوديته، و شوافع خدمته، و يسأله إذنه فى مصاهرته تلك.

كتابة زال رسالة إلى سام و الإبانة عن حاله‏

فاستصوب هذا الرأى فأحضر الكاتب و أمره أن يضمخ كافور القرطاس بمسك الأنفاس، و يكتب الى حضرة ذلك الهزبر الهصور كتابا يفتتحه بالثناء على اللّه خالق الأمم، و بارئ النسم. ثم يثنّى بالدعاء بثبات دوحة الجلال، و جرثومة الإقبال، ليث الحفاظ، و غيث النوال، مفخر السيوف و الأرماح، و فاجع الأشباح بالأرواح.

ثم يثلث بما بلى به قرّة عينه، و فلذة كبده من شغفه بالمخدّرة العربية. ثم يذكره العهود التى أبرمها يوم استنزاله من معشش العنقاء فى إيثار ما يعود بطيب قلبه، و يقضى بخفض عيشه. ثم يستأذنه، بعد الإطناب و الإسهاب فى معنى خلوص عب‏وديته، و نصوع طاعته، فى المصاهرة المذكورة، و المواصلة المطلوبة. فكتب على تلك الجملة كتابا و ختمه بالمسك، و طير به راكبا الى مازندران الى حضرة سام.

فلما وصل الرسول أخبر سام بقدمة فقرّبه من بساطه، فأوصل اليه الكتاب بعد تقبيل التراب، و إقامة شرائط الخدمة. ففض ختامه و قرأه، فأخذه الوجوم، و تناوشته الهموم. ثم أخذ يفكر فى السبيل الموصل الى ما خامر قلب ابنه من مواصلة آل الضحاك و مصاهرتهم. و رأى أن ذلك مما لا يرتضيه الملك منوجهر.

مشاورة سام الموبدان في أمر زال‏

فأحضر المنجمين و الحكماء و شاورهم فيما هجس فى ضمير ولده من ذلك، و أنه كيف يجوّز الحزم التغافل و التغابى عن الحقود الدفينة، و الحسائك القديمة.

و قال لهم: تدبروا فى ذلك الأمر، و استدلوا بطالعيهما على ما فيه من الخير و الشر، و استعينوا على ذلك ببصيرة العقل و قوّة الفهم، و استشفوا ستر العواقب، و طالعوا مرآة الغيب بالآراء الثواقب.

ثم أعلمونى نتيجة ذلك. و أذن لهم فقاموا و التجئوا الى الزيجات و التقاويم، و تشمروا للنظر السديد و الرأى القويم.

حتى وفقوا على الأمر المكنون، و السر المخزون. ثم جاءوا الى باب الملك مبشرين بسعادات دلت المخايل على ظهورها، و آذنت تباشيرها بطلوعها.

و أخبروه أن اللّه أجرى قلم التقدير فى اللوح المحفوظ باقتران السعدين، و اجتماع النيرين بتواصل البيتين، و أنه يولد بينهما ولد يملأ الدنيا مهابة و قهرا، و شهامة و فخرا، و يرفع تاج السلطان، الى أوج الكيوان.

و يطهر بساط الأرض عن أهل البغى و الطغيان، و تشتعل به نار ملوك الفرس حتى تمدّ باعها الى ذروة السماك، و يضرب لهم رواق المجد على مفرق الأفلاك. فلما سمع سام ذلك من المنجمين أخذته أريحية الطرب، و تمشت فى رأسه نشوة الفرح.

فأفاض على أعطافهم الخلع الرائقة و أجزل لهم الأعطية و المنح الوافرة. ثم دعا برسول ولده دستان و أمره بالرجوع إليه. و ردّ اليه، أنا نتوصل الى قضاء حوائجك، و نسعى فى إنجاح مطالبك. و نهض الى حضرة السلطان لاستذانه فى إنشاء هذه المصاهرة، و تنجيز هذه المواصلة. و أمر بأن ينادى فى العسكر بالرحيل و التوجه الى مستقر سرير الملك، بعد ما كفاه اللّه تعالى ما اهتم به من العدوّ ، و أنعم عليه بالظفر و النصر و النجاح و الفوز.

ذكر انكشاف حال روذابه عند أمها و أبيها و اطلاع الملك على ذلك‏

اطلاع سيندخت على أمر ابنتها روذابه‏

قال: فرجع الرسول الى حضرة دستان، و أعلمه أن أباه تقبل له بإنجاح المأمول، و إطلاب المقصود. فدعا بعجوز كانت تتردّد بينه و بين روذابه، و أنفذها اليها و أصبحها الرسالة التى عاد بها الرسول من عند أبيه. فدخلت عليها و بشرتها بذلك. فتخايلت من الفرح و تهللت من المرح، فأمرت لها بخلعة من القصب منسوجة بالذهب. فلما خرجت من عندها رأتها« سين دُخت » أم روذابه. فاسترابت بها، و أمرت بالقبض عليها، و استكشافها عما وراءها.

ففزعت العجوز و تعلقت بأذيال الأكاذيب، و تمسكت بأهداب المخاريق. فما وقع ما ذكرته عندها موقع القبول. و أمرت بتفتيش ما اشتمل عليه إزارها. فعثروا على تلك الخلعة الفاخرة. فشدّدت حينئذ على الخبيثة الفاجرة، و أغلقت جميع الأبواب، و طفقت تلطم الورد بالعناب، و تفض من النرجسين عقود اللؤلؤ المذاب.و دخلت على بنتها و أخذت تخاطبها بلستان اللوم و التعنيف و العذل و التوبيخ على طرحها قناع الحياء، و تدرّعها ملابس الفحشاء.

و تؤاخذها بإلباس العجوز الشوهاء، ملابس الخريدة العذراء. فما أجابتها إلا بالإطراق و رمي الأرض بالأحداق. فلما طالت مطالبتها لها باظهار حالها، و إعلان سرها تنفست الصعداء، و أسبلت من محاجرها الدماء، و فضت ختام سرها و ذكرت لها شغفها بابن الملك، و اجتماعهما فى تلك الليلة، و ما جرى بينهما من المعاهدة و المحالفة على الازدواج و الامتزاج و الأخذ فيما يفضى اليه من السعى البليغ و الجهد الأكيد.

و أخبرتها بأنه قد كتب فى المعنى الى أبيه سام، و أنه رد اليه فى جواب كتابه أنى أنهض الى حضرة الملك منوجهر و أستأذنه فى ذلك توخيا لما يرتضيه، و انقياد لما يبتغيه. فلما سمعت ذلك سين دخت خفضت من غلوائها قليلا، و كفكفت من طغيانها حتى عاد حدّه كليلا لميلها الى مصاهرة ابن الملك و الاتصال به رغبة فيه لمكانه و علوّ شأنه.

ثم اعتذرت الى تلك العجوز و طيبت قلبها، و أمرتها بإسبال الستر على ما جرى من الإساءة. و دخلت الى قصر مهراب و اضطجعت فى موضعها و تتفكر فى عاقبة الأمر و وخامته.

اطلاع مهراب على أمر ابنته روذابه‏

فدخل مهراب فرآها نائمة على غير العادة المعهودة، منزعجة قد تورّست صفحات خدّها بردع الألم، و تردّدت فى محاجرها عبرات الهم و الحزن. فاستخبرها عن حالها فما أجابت إلا بما نبت عنه مسامعه، و استبعدته ألمعيته. فألح عليها فى إظهار ما انطوى عليه سرها، و بث ما استجنه ضميرها.

و استمرت على المدافعة عن إطلاعه على حقيقة الحال، و الإفصاح عنها بصدق المقال. فلم يزل يعيد عليها السؤال حتى شرحت لديه الحال. فلما وقف على ذلك مهراب تضرمت نيران غيرته، و وثب كالليث المحرج الى السيف متوجها نحو البيت. فنهضت زوجته و تعلقت به. ثم قالت: إنى‏ئأعرض عليك رأيا فان كان من الصواب قريبا قبلته و إلا مضيت على غلوائك، و مقتضى رأيك.

فتوقف ساعة. فقالت: إن هذا الأمر قد شاع و إن دستان قد كتب بذلك الى أبيه سام و رجع الرسول اليه مخبرا بأنه نهض من مازندران متوجها الى حضرة السلطان ليستأذنه فى الخطبة اليك. و سردت عليه جميع ما جرى من المراسلات و المكاتبات.

فلما سمع مهراب ذلك خفض قليلا، و مال الى جريان الاتصال بين الدولتين، اعتضادا للبعض بالبعض من الجانبين.

معرفة منوجهر حال زال و روذابه‏

قال فاطلع منوجهر على الحال و أنهى اليه أن ابن سام يريد الاتصال ببنت مهراب، و أن أباه متابع على ذلك، و مصمم على النهوض الى حضرته لاستئذانه. فاحتدم و استشاط غضبا، و جمع وزراءه و قوّاده ، و فاوضهم فى ذلك. و قال: أخاف أن يكون تحت هذا الرماد جمر يثور منه دخان.

و قد علمتم أن أفريدون كم تجرّع غصص المكاره حتى استأصل شأفة الضحاك. و اذا حصل بين ابن سام و بنت مهراب التى هى شعبة من الدوحة الضحاكية تزاوج أمكن أن يحصل بينهما ولد يكون له صغو الى أمه، فتحدّثه نفسه بإحياء بعض سنن البيت، فيتفاقم الأمر و يعضل الداء. و الحزم ألا يفتح له طريق الى هذا، و لا يمكن من السؤال فى ذلك المعنى. فاستصوبوا رأيه و أثنوا عليه.

مجي‏ء سام إلى منوجهر

فلما قدم سام استقبله على العادة المعهودة، و تلقاه بالإعظام و الإجلال، و البر و الإِكرام ، و أنزله على جملة الاحترام. فلما كان من الغد جاء برسم الخدمة الى باب الملك فرفع دونه الحجب، و تلقاه الملك بالبشر و التهلل، و سايله عما قاساه من محاربة شياطين مازَندران و مكافحة أسود كركساران و ما لاقاه من مقاتلتهم و معاركتهم. فأخبره بما جرى له من أوّل نهوضه الى أن فتح اللّه عليه تلك البلاد.

و ذكر له ما تيسر من قتل ملكهم الذى كان من أولاد سلم بن أفريدون. و أعلمه أنه قد صفت له تلك المملكة و انضمت الى جملة ممالكه. فلما أنهى حديثه أثنى الملك عليه و شكر سعيه. ثم دعا بآلات مجلس الأنس، و اشتغلوا بالقصف و الطرب، و تعاطوا أقداح اللهو و الفرح. حتى استباحت عقولهم الكئوس، و ثقلت من فضلات الراح الرءوس. استأذن حينئذ سام للقيام، و رجع الى مضطجعه.

فلما أصبح ركب الى خدمة الملك ليعرض بذكر ولده زال، و يستأذن له فى معنى الاتصال ببنت مهراب. فلما دخل على منوجهر رآه كالمغتاظ محتدما كالنار. فافتتح و قال لسام: إنا تدبرنا فى أمر مهراب و أنه شعبة من تلك الجرثومة الخبيثة و لا بدّ من قلعها و استئصالها. و قد اقتضت آراؤنا أن تنهض لكفاية أمره، و استصفاء مملكته، و استضافتها الى ما فى يدك من ممالك الهند. فلما رأى سام أن الملك قد سدّ عليه طريق ملتمسه كف لسان سؤاله، و سارع الى الانقياد، و تشمر لما جرد فقبل الأرض فخرج متوجها نحو ممالك الهند.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذهاب سام لحرب مهراب‏

فتناهى الخبر بذلك الى زال و مهراب، و قامت القيامة على مهراب و أصحابه و يئسوا من الحياة.

و ضاقت الأرض على زال لأنه كان السبب فى إيقاد نائرة الفتنة. و توقد من الغيظ متنمرا كالثعبان الصائل. حتى قال يوما: إن مهراب نسيبى و هو معتضد بقوّة باسى و شدّة مراسى، و لا يقدر العقاب أن يطير على ساحة مملكته ما دام هذا الرأس على جسدى، و استقر هذا الصمصام فى يدى.

ثم جاء الخبر بمقدم أبيه فخرج للاستقبال فى مواكبه. فلما طلعت رايات أبيه ترجل للخدمة، يتلقى الأرض بيده، و يلثم التراب بفيه. فأركبه أبوه و عانقه و مسح بيده غرته. فسار تحت أعلامه حتى نزل فى إيوانه. فجلا به فى الوقت و أخذ يبث اليه شكوى الحال، و ما قاساه مدّة مفارقته من الأشواق اليه، ثم ما أصابه من رسيس الوجد و حرقة الغرام. و أذكره معاهدته إياه على مواتاته فيما يطلب و يقترح، و معاونته فيما يعرض من مآربه و يسنح، و تنكبه عما يعود بضيق صدره، و يقضى بشغل قلبه.

و كأنك الآن لم تقدم من مازندران إلا على ما يوغر صدرى، و يوحش قلبى، و يفجع بروحى شخصى. لما أنت عليه مصمم من محاربة مهراب، و تخريب دياره، و انتهاب خزائنه و رغائبه. فان كان الأمر على هذه الجملة فها أنا واقف بين يديك، مسلم زمام قيادى اليك.

فخذ رأسى أوّلا ثم خض فى محاربة مهراب ثانيا. فرق عند ذلك من سام قلبه، و لانت صفاته، و طفق يعلل قلب ابنه بالأمانى. و قال له إنى أنفذك الى خدمة الملك، و أكتب اليه كتابا أستعطفه و أسأله الإنعام عليك بما يفضى الى إنجاح مآربك، و قضاء حوائجك.

ارسال زال رسولا إلى منوجهر

فاستحضر الكاتب و أمره أن يكتب مفتتحا بحمد اللّه خالق النجم و الشجر، و منوّر الشمس و القمر، المتصف بالقدم، المسلط على الوجود يد العدم. و مثنيا بالثناء على الملك الجليل ناعش التاج و التخت، و مالك الشرق و الغرب.

ثم قال إنه لا يخفى على آرائه العالية أنى قد طعنت فى السن و تلفعت برداء الشيب، و ضعف كاهلى عن حمل أثقال السلاح، و وهت منتى عن إعمال السيف عند الكفاح. ثم أخذ يُدل فى كتابه بحرمانه السالفة، و حقوقه الثابتة، و مقاماته المشهورة، و وقائعه المذكورة، و نكاياته فى أعادى دولته، و مخالفى‏ كلمته، و يصف ما لاقاه فى محاربة سعالى مازندران، و عفاريت كركساران و يذكر أنه جعل ولده دستان ولى عهده فى عبودية الملك و كفاية، ما يحدث من مهم يحتاج فيه الى قوّة باس، و شدّة مراس، و أنه قد نفذه الى حضرة الملك حتى يكتحل بالطلعة الميمونة و يمثل فى زمرة العبيد.

و بعد ذلك لا يخفى على ألمعية الملك أنه و إن كان بقوّة أعضاده يدفع فى نحور الآساد، و يضعضع أركان الأطواد، فهو ربيب الطير. و من أجل ذلك هو رقيق القلب. و كأنه قد رأى بنت مهراب فملكت قلبه، و سلبته عقله. فهو أسير فى يد الغرام، منفجر الدمع مثل الغمام. نومه غرار، و دموعه غزار. و قد وفد الى حضرة الملك ملتجئا الى عاطفته، و مستعيذا بظل رأفته. راجيا أن ينعم عليه بالإذن فيما يروم.

و ختم الكتاب بالدعاء و الثناء، و دعا بدستان و دفع اليه الكتاب. و أمره أن يتوجه الى خدمة الملك منوجهر فركب يطوى الأرض كالبرق الخاطف، حتى وصل إلى مستقر الملك منوجهر على ما سيأتى ذكره إن شاء اللّه تعالى.

== ذكر إرسال مهراب زوجته سين دُخت و السبب فى ذلك‏ و غضب مهراب على سين دخت‏ == قال و لما شاع فى بلاد كابل أن منوجهر أمر ساما بالنهوض اليها لتخريبها و استصفاء حصونها و قلاعها، و استفاضت به الأخبار اهتاج مهراب و طار واقعه، و أقضت مضاجعه. فالتهب مستشيطا، و دعا بزوجته سين دخت، و شكا اليها ما ابتلى به من شؤم بنتها و قبح فعلها، و أنه بسببها قد ظهر الشر الكامن. و تحرّك العرق الساكن. و أوعد بقتلها مع بنتها متوسلا بذلك الى استعطاف الملك منوجهر و استرضائه فلعله يكف عن غلوائه، و يمسك عن محاربته، و انتزاع ممكلته من يده.

فالتجأت الى إعمال الحيلة، و إجالة الفكر فيما يقضى لها بالنجاة من تلك المصيبة. فنهضت خائفة ترجف أحشاؤها، و باتت بليلة أنقد، تأبى مزعجات الخوف أن تغفو و ترقد. فلما أصبحت دخت لعى زوجها و قالت إن هذا الأمر لا بد من تلافيه، و مقتضى الحزم التشمر فيه. فإنه ما عز أمر إلا هان، و لا تصعب ريض إلا استقاد و لان.

و كذلك ظلام الليل و ان أرخى سدوله، و سحب على النواظر ذيوله، فلا بدّ من انفراجه بطلوع الصبح و ابتلاجه. و الرأى أن أنهض رسولا إلى سام، و أستل هذا الحسام، و أستعطفه و أستلين عريكته، و أطفئ هذه النائرة، و أسكن الفتن الثائرة. و اذا خاطرت أنا بالروح‏ فلا بدّ لك من المساعدة بالمال.

فاستصوب مهراب رأيها و رضي لها بالبروز، و سلمت اليها مفاتيح الكنوز. و أطلق يدها فى جميع تلك الرغائب، و الذخائر و الحرائب.

فقالت لا آمن، اذا غبت، على روذابه من بائقة غضبك، و بادرة سطوتك، و لا يمكن خروجى إلا بعد الاستظهار منك بعقود محكمة، و مواثيق مبرمة، على كف عاديتك عنها. ففعل ذلك. ثم تشمرت للنفود فى ذلك و فتحت أبواب الخزائن، و أخرجت ثلاثين ألف دينار برسم النثار، و عشرة من الخيول المذكورة، و ثلاثين رأسا غيرها من العراب الجياد، و خمسين وصيفا كالأقمار الطالعة، مشدودى الأوساط بمناطق الجواهر الرائعة، و ستين وصيفة كأنهن ضرائر الحور العين، على يد كل واحدة جام مملوء من المسك الفتيق، و العنبر السحيق، و أربعين رزمة من الوشائع و الرومية و الدبابيج التسترية، و مائة قطعة من السيوف الهندية، و الصوارم المشرفية، و مائة ماقة حمر الأوبار هدل الشفاه قوالص الأشفار، و مائة بغلة كأركان الجبال برسم الأحمال، و تاجا من الذهب محلى بزهر الجواهر، كالشمس المنقطة بالنجوم الزواهر، و تختا يشبه الفلك الدّوار ركبت فيه يواقيت تخطف الأبصار، و أربعة من الفيلة الهائلة التى تضرب وسط الحروب بالأسداد، و تزاحم مناكب الأطواد.

سام يحسن إلى سين دخت‏

قال: فلما أعدّت استعدّت و ركبت منطلقة نحو حضرة سام فلم يحس بها أحد حتى حلت بفنائه. فسألت الحجاب أن يعلموا ساما بوصول رسول من عند ملك كابل.

فلما أخبر سام بذلك أمر أن ترفع دونها الحجب. فدخلت و قبلت الأرض، و مثلت بين يديه. و كانت قد أمرت أن تصف الهدايا صفوفا و بأن يقدم الواحد منها بعد الواحد بين يدى سام. ففعل ذلك و أعجبته تلك التحف بكثرتها، و جميل هيئتها.

و جعل يتعجب من إنفاد مهراب إياها على يدى امرأة و يقول فى نفسه: إن قبلت هذه التحف و علم بذلك منوجهر لم آمن عواقب سخطه. و إن لم أقبلها و سمع بذلك دستان تنمر فطار واقعه، و هاج وادعه. فوقع له أن يسلموا تلك الهدايا و التحف إلى خازن ابنه دستان. فلما رأت العقيلة الكابلية أن ساما أمر بقبول مستصحباتها تهللت فرحا.

و كانت معها ثلاث وصائف على يد كل واحدة طبق مشحون من الياقوت و الزبرجد فأمرتهن فنثرنها تحت قدم سام. ثم أخلى المجلس لأداء الرسالة. فتقدّمت نحو بساطه، و أطلقت لسانها بالثناء.

و قالت أيها الملك: إنه لا تتعلم مكارم الشيم إلا من أخلاقك، و لا يهتدى الى طريق المحاسن و المآثر إلا بإشراق أنوارك. و أنت الذى يفرج برأيك رتاج كل أمر، و يغلق‏ بعدلك باب كل شر. و لا يخفى عليك أن البرى‏ء لا يؤاخذ بذنب المجرم، و أن المحسن لا يقابل بجزاء المسي‏ء المذنب. و إذا أساء الضحاك الذى ذاق وبال ظلمه، و استوخم عاقبة فعله فأنَّى تجوّز المعدلة الفائضة، و المرحمة الشاملة أن يعاقب لإساءته مهراب الذى هو غرس نعمتك، و تراب قدمك، و لم يسلك منذ تصدّى لسلطنة كابل غير طريق طاعتك، و منهج عبوديتك. نعم و إن كان قصد الملك لبلاده من أجل الدين فإن إلهنا و إلهكم واحد، لا خلاف بين الطائفتين فيه. غير أن قبلتنا التماثيل و الأصنام، و قبلتكم الشمس و النيران.

و على الجملة فأنت تعلم أن سفك الدماء لا يستحسن، و أن مؤاخذة غير المجرم عند الملوك تستهجن. فلما سمع سام ذلك أقبل عليها و سايلها عن حالها أ هي زوجة مهراب أم مستخدمة له؟ ثم سايلها عن حال روذابه وصفتها و عن مبدأ السبب فى هيمان ولده بها.

فقالت إذا وثقت من الملك بمعاهدته إياها على ألا يرصد لها و لا لصاحبها بالغوائل، و لا بقصدهما قصد العدوّ المخاتل، أطلعته بصدق المقال على جميع الأحوال. فصفق بيده على يدها، و حالفها على ذلك. فقامت سين دخت و قبلت الأرض، و قالت أما أنا فانى، مع انتسابى الى الدوحة الضحاكية، صاحبة مهراب و والدة روذابه التى ملكت بجمالها و كما لها قلب ابنك دستان.

و نحن كلنا عبيد حضرتك، و المنخرطون فى سلك خدمك. نسأل اللّه تعالى دوام ملك و ثبات دولتك. و إنما باشرت بنفسى هذه الرسالة لأعرف رأيك فى أهل كابل. فان كنا نحن من المجرمين، أو لا نليق بالملك فى تلك الأرضين جريت فينا على مقتضى رأيك. فسيفك محكم فى رقابنا. و لا ينبغى على ذلك أن تتعرّض بمكروه لأهل كابل الذين لم يجترحوا ذنبا، و لم يقترفوا جرما. فلما علم سام صدق مقالتها، و نصوع طويتها فى الطاعة أقبل عليها و قال إن المعاهدة بيننا قد سبقت آنفا.

و لست عن مقتضاها أحيد، و لو قطع منى الوريد. حوا آمنين فى مراتع عيشكم، و اطمئنوا وادعين فى ظلال أمنكم. فانى مظاهر ولدى على هذه المصاهرة و المواصلة. و إن كنتم من أهل بيت آخر فإنكم من أهل الملك، و من أصحاب التاج و التخت، و ولادة الأمر و النهى. و لكن جرت عادة الأيام بتقلب الأحوال.

و العاقل يعلم أن لأدوار الدول أطوارا، و أن فى مسالك الحظوظ أنجادا و أغوارا. فمن ناقص ينمو نموّ الهلال، و كامل ينقص كالقمر بعد الكمال، و مصير الكل الى الزوال. و إنى قد كتبت الى الملك منوجهر كتاب تضرع و ابتهال، و نفذته الى حضرته على يدى ولدى زال. و قد حلق نحوه طائرا بقوادم العجلة، حتى كأنه حين ركب لم تحوه دفتا سرجه، و لم تمسس التراب حوافر خيله.

و سيردّ الملك، إن شاء اللّه ، عنانه منعما علىّ بانجاح أمه، و قضاء وطره. فرأت سين دخت حينئذ مباسم سام عن الرضا متبسمة، و أسارير جبينه بالريتاح متهللة. فطيرت فارسا الى مهراب مبشرا بما حصل من استرضاء سام، و رجوعه الى خطة الموافقة، و مخبرا بما فى نفسه من المساعدة على المصاهرة. ثم جاءت صباح اليوم الثانى الى سام و استأذنته فى الرجوع الى دار ملكها، و مقرّ عزها، للاشتغال بإعداد أسباب العرس الميمون.

فأذن لها فى المعاودة. و أمر لها بخلعة تليق بمكانتها و جلالتها. و وهب لها جميع ما كان له فى بلاد كابل من الدور و القصور و الخيل و النعم، الى غير ذلك من أن أنواع النعم. و تصافقا ثانيا متقبلا روذابه لولده دستان، قولا يصدّقه الوفاء و وصلا يشايعه البنون و الرفاء. و قال لها: لن تراعوا بعد يومكم هذا. فودعها و سرحها راجعة و أنفذ فى خدمتها أميرا كبيرا فى مائتى فارس، يصحبها الى أن تطأ عرصة مملكتها، و تعود الى معرّس دولتها.

ذكر وصول زال الى حضرة منوجهر

مجى‏ء زال بكتاب سام الى منوجهر

قال فجاء الخبر الى منوجهر بوصول زال فاستقبله، أعيان القوّاد ، و أمراء الأجناد، و لما قرب من السرادق رفعت دونه الستور حتى دخل. فلما وقعت عينه على الملك قبل الأرض، و وضع جبهته على التراب، على رسمهم فى الخدمة. و بقى كذلك ساعة. فأشار الى من رفع رأسه من الأرض و قرّبه الى التخت فلا لاطفه فى خطابه، و سايله عن حاله، و ما تحمله من وعثاء السفر فى حله و ترحاله.

فقال كل تعب يقضى الى لقائك فهو راحة و سرور، و كل عناء يقع فى الطريق اليك فهو مسرة و حبور.

فتناول منه الكتاب فتبسم لما قرأه مستبشرا متهللا. ثم أقبل عليه و قال: حملت قلبك هما طويلا، و ألزمت نفسك عناء عظيما.

و لكن العزم بسبب هذا الكتاب الذى كتبه ذلك الشيخ الكبير، و إن كان صدرى بما فيه يضيق، ألا تسدّدون مرادك الطريق. و سأقضى لك جميع حوائجك، و أحقق جميع مآربك، و مدّوا السماط. فلما طعموا و رفع مالوا الى مجلس الأنس و الطرب، و تعاطوا كئوس الرحيق. و لما ثمل دستان نهض فأركب مخيمه. و لما أصبح عاودا الخدمة فأثنى عليه الملك حين شاهده، و حين ثنى عنانه و فارقه.

البحث في طالع زال من قبل المنجمين‏

قال: فأمر بمجمع العلماء و الحكماء و من تبحر من المنجمين، و أمرهم بالبحث فى طالع زال، و التنقيب عن سر الفلك فى أمره، و عما يؤول اليه حاله فى مصاهرته تلك. فلبثوا ثلاثة أيام يعملون دقائق النظر، و ثواقب الفكر، فى تطلب علم ما وارثه ستور الغيب.

ثم جاءوا الى باب منوجهر و قالوا أيها الملك: إنه قد ظهر لنا على مقتضى الأحكام السماوية، و أسرار الأجرام العلوية أن يولد بين ابن سام و بنت مهراب ولد كبير القدر، رحيب الصدر، طويل النجاد، طلاع‏ الأنجاد، و يكون غمر الرداء، واسع العطاء، مخصوصا بشدّة القوّة ، و ضخامة الجثة، و طول المدّة .

تكاد هيبته تمنع العقاب الكاسر أن يطير حواليه، و الأسود السود أن تزأر بين يديه. اذا لمعت بوراق سيفه فى اللقاء تدفقت شآبيب الدماء.

يشدّ وسطه فى هذه الممالك لخدمة الأملاك، و يرفع قواعد مجدهم على ذرى الأفلاك. فلما سمع الملك ذلك أمرهم بإخفاء السر، و دعا بزال ليجرّب عقله و فهمه بمساءلته عن مسائل غامضة، و إشارات خفية. فأحضر كل موبذ كان بحضرته و عقد مجلسا عظيما، و أحضر زالا فأمرهم أن يباحثوه و يسايلوه المسائل التى سئل عنها زال و ما ذكر فى جوابها

امتحان الموبذان زال‏

قال فتصدّى موبذ و سأله عن اثني عشرة شجرة جذب بأضباعها السموق، و مدّ من أعضادها البسوق. قد تشعب من كل واحدة ثلاثون غصنا لا يرى الفرس فيها زيادة و لا نقصا.

و سأله آخر عن فرسين: أحدهما أشقر كالنار و الآخر أدهم كالقار. لا يزالان يتراكضان، يتعاقبان و لا يتسابقان.

و سأله آخر عن ثلاثين فارسا يعرضون على السلطان، اذا عبروا نقص منهم واحد، و اذا رجعوا فلا ناقص و لا زائد. و سأله آخر عن روضة معشبة يرف نباتها فى رونق الغضارة، و تروق العيون بالبهجة و النضارة.

ثم ينحى عليها ذو منجل يُنزل بساحتها مكروه الخطب، و يجمع فى حصدها بين اليابس و الرطب. و سأله آخر و قال: شجرتان من بواسق الأشجار، ثابتتان فى البحر الزخار، على كل واحدة منهما وثَر لطائر يصبح على إحداهما و يسمى على الأخرى.

اذا طار من هذه تساقطت أوراقها، و اذا وقع على الأخرى راق العيون إيراقها. فتكون الأولى ناضرة على الدوام، و الثانية ذابلة مدى الأيام و سأله آخر عن بلدة طيبة حصينة فى ذروة جبل، تركها الناس و عمدوا الى أرض تنبت القتاد، فأرسوا بها الأوتاد. و بنوا بها الدور، و شيدرا فيها القصور.

و تناسوا تلك البلدة الطبية. فبيناهم كذلك إذ خسفت بهم أرضهم، و قامت عليهم القيامة، و حالفتهم الحسرة و الندامة. فقيل لزال: إن أبرزت هذه الكنوز، و أو صخت هذه الرموز كنت العالم الخبير، و أثرت من التراب العبير

إجابة زال الموبدان‏

فأطرق ساعة ثم رفع رأسه و أعاد تلك المسائل. ثم قال: أما الشجرات الاثنتا عشرة فهى عدة الشهور مع الأيام، على تعاقب الأزمنة و الأعوام.

و أما الفرسان فهما الملوان يتعاقبان و لا يتسابقان. و أما أعداد الفرسان، و ما يظهر فيها من النقصان، فذاك إشارة الى نقصان الشهر و أنه تارة يكون تسعا و عشرين، و تارة ثلاثين. و أما الشجرتان اللتان عليهما معشش الطائر فإن العالَم من وقت حلول الشمس فى برج الحمل الى أن تبلغ الى الميزان يتبرج كالخريدة المعطار، فى حلى الرياحين و حلل الأزهار.

و من حين حلولها العقرب الى أن تحل الحوت يقبع بين إسحاق الحِداد ، و أطمار السواد. فالشجرتان كنايتان عن عضدى الفلك الدوّار ، و الطائر عبارة عن الشمس الباهرة الأنوار. و أما البلدة الطيبة فهى دار القرار، و منزل الأبرار. و الأرض التى آثروها عليها فهى الدنيا قرارة الأكدار، و معرّس الأخطار. تناهبك مدارج الأنفاس، و تضرب فى انصرام عمرك الأخماس فى الأسداس. بينا أنت الى نعيمها راكن، و فى ظلالها وادع ساكن، إذ تزلزلت من تحتك، و أمطرت مكارهها من فوقك، فسمعت الأفلاك تنشدك فى ذاك الإنسان، و إن طاول الكيوان، فليس يصحبه منها غير ستره تحت حفرة. فإن اكتسب فيها الذكر الجميل، أحرز هنالك الأجر الجزيل. و إن زرع العدل و الإحسان، حصد الروح و الريحان. ثم إن صاحب المنجل كناية عن الأجل يحصدنا كحصد النبات، فيأتي على البنين و البنات، سواء فى مكروهه الشيب و الشبان، و الفروع و الأغصان.

زال يظهر مزاياه أمام منوجهر

قال: فلما رأى منوجهر استخراجه لتلك الرموز الخفية و الأسرار المبهمة تهلل مستبشرا و ارتاح مبتهجا، و جلس فى مجلس عظيم قد فرش بالديباج و الحرير، و طيب بالمسك و العبير. و دعا بدستان و سائر القوّاد . و تعاطوا كئوس الرحيق.

فلما تورّدت وجناتهم، و تمشت فى مفاصلهم نشواتهم، قاموا متمايلين الى مضاربهم. و لما أصبح زال عاود الخدمة و استأذن الملك فى عوده الى أبيه. و ذكر أنه قد برحت به اليه الأشواق، و استنفد صبره الفراق. فقال له الملك تلبث عندنا هذا اليوم. فمازحه و قال إن الذى يزعجك حب ابنة مهراب، و النار تأبى إلا الالتهاب.

فأمر العسكر فلبسوا السلاح، و جردوا الصفاح، و اعتقلوا الرماح. و برزوا الى الميدان، يتلاعبون بالسيف و السنان، و يتساجلون فى الضراب و الطعان. قد نصبوا الأغراض، و تعاطوا التوتير و الإنباض. فمسخ زال معاطف قوسه و أطلق نشابة نحو شجرة عظيمة كانت بين يديه فمرقت منها. ثم أتبعها بأخرى راكضا فرسه فنفذت فيها كمثل الأولى. ثم اصطف العسكر من الجانبين و زحف بعضهم الى بعض يواترون بين طعن و ضرب. و كان زال مطلا عليهم ينظر اليهم.

فرأى فيهم فارسا يغلب الأقران، و لا يتهيب السيف و السنان. فصمد صمده، و قصد قصده. و أنشب فى معاقد منطقته مخالبه و قطرة عفيرا. فرفع الناس صياحهم، و قالوا ما من فارس مقدام نعرّض هذا الغضنفر له إلا و أمه ثاكلة.

و هيهات أن تلد الضراغم مثله أو يلاقى الملاحم و الوقائع شكله. فليهن ساما أن يخلفه هذا البطل الجسور و الليث الهصور. و أثنى عليه منوجهر فى جميع الأمراء و القوّاد . و رجع الى الإيوان فخلع عليه خلعة تليق بمثله مضافة الى التاج و التخت و السوار و الطوق الى غير ذلك من الثياب الرفيعة، و الخيول العتيقة، و الغلمان الرشيقة.

جواب منوجهر إلى سام‏

و أمر بأن يكتب جواب كتاب سام، و يعلم فيه أنه قرّ عين الملك بطلعة زال و لقائه و انشرح صدره بمحاسن آدابه.

و أنه تقدّم بإنجاح جميع مطالبه و قضاء مآربه. فخرج زال بالطائر الميمون، و الطالع المسعود.

و قدّم فارسا الى حضرة أبيه ليعلمه بإقباله منصرفا من حضرة الملك منوجهر، و يبشره بما قابله من الإنعام و الإعظام، و أفاض عليه من المنن الجسام. فلما بلغ الخبر بذلك الى سام دبت فى معاطفه دواعى الطرب حتى كأنما عاد شبابه النضير بعد أن جلله القتير. فأرسل فارسا الى مهراب ليعلمه بالحال و يبشره بما أنعم به الملك منوجهر، و يعلمه بأنه منتظر قدوم ولده، و أنه اذا وصل بادرنا الى فنائك، و استسعد بلقائك. فلما بلغ الخبر بذلك الى مهراب كاد يخلع روحه على البشير و يطير من الفرح و السرور.

و دعا بزوجته سين دخت و شكر سعيها و قال: إنك قد أعلقت يدك بشجرة من شجرات المجد، و اتصلت بجرثومة من جراثيم الملك. فتأهبى للأضياف الكرام، و أعدّى أسباب الإكرام و الإعظام. و سلم اليها مفاتيح الخزائن، و أطلق يدها فى تلك الدفائن. فقامت و دخلت على بنتها روذابه و بشرتها بعلو جدّها و سعادة طالعها. فدعت لها بطول البقاء، و دوام المجد و السناء.

و قالت: سأجعل تراب قدمك على مفرق رأسى إكليلا، و أتخذ من رأيك الى جميع السعادات هاديا و دليلا. قال: فأقبلت سين دُخت تزين الدور، و تنجد القصور. فزينت مجلسا مذهبا و فرشت فيه.

بساط منسوجا من الذهب موشحا باللؤلؤ و الزبرجد. و نصبت تختا من العقيان مخروط القوائم من حجر البهرمان. ثم حلت الخريدة العذراء، و جلتها على ذلك التخت. كأنها الشمس فى كبد السماء، موشحة بقلائد الجوزاء. و سدلت دونها الحجب و أرخت السجف. ثم أمرت فزينوا جميع البلد بموشيات المطارف، و مستحسنات الرفارف. و جللوا ظهور الفيلة بالحرير و الديباج، و وضعوا على كواهلها أسرة العاج لتركبها القيان المحسنات، و الجوارى المسمعات. و اشرأبوا لاستقبال الملكين، و طلوع النيرين، مترصدين للانتظار، طامحين نحو الطريق بالأبصار.

ذكر رجوع زال الى أبيه سام و نهوضهما الى كابل للعرس‏

وصول زال الى سام ابيه‏

قال فانصرف زال من حضرة الملك منوجهر يسوق مستعجلا كالطير فى الهواء، و السفينة على وجه الماء. فلم يشعر به أحد حتى طلع على أبيه. فلما رآه وثب اليه فعانقه، ثم أهوى زال بقبل الأرض. و عاد سام الى تخته فتسنمه. و طفق ابنه يحكى لديه ما أنعم به الملك عليه، و أسدى من عوارفه اليه. و حكى له أبوه قدوم سين دُخت عليه فى طلب المصالحة و المسالمة، و مسارعته الى تحقيق مطالبها، و مبادرته الى محالفتها و مصافقتها، و مواعدته العزم على النهوض الى كابل لاجتماع القمرين، و اقتران السعدين. فلما سمع دستان ذلك تورّدت بشرته، و تهللت أسرّته من فرط الفرح و السرور.

فبيناهم فى ذلك اذ وصل رسول من كابل يذكر أن مهراب ينتظر قدوم سام و دستان. و يترقب تجشمها النهوض اليه. فأمر سام بالرحيل و قدم الى راكبا الى مهراب يعلمه بوصول دستان من حضرة الملك و أنهما آخذان فى الركوب اليه و القدوم عليه. فخرج مهراب لاستقبالهما و أمر بشدّ الكوسات و الطبول على مناكب الفيول، و ركوب العساكر فى موشعات الملابس، و نشر عذبات الرايات و الأعلام، و خروج القيان و المغانى بالمزاهر و المعارف.

نهوض سام و دستان إلى كابل للعرس‏

قال: فلما طلعت رايات سام ترجل مهراب إعظاما لقدرة و إجلالا لمحله. فعانقه سام و جعل يسأله ملاطفا و يساره مفاكها، و مهراب يقابله بالثناء و الدعاء. فركب يسايره، و دستان يسير قدّامه كالهلال ليلة العيد يشار اليه بالأصابع، و يرمى نحوه بالنواظر. حتى انتهوا الى كابل فرأوا الأرض تطن بحفق الطبول و نقرات السرور. و استقبلهم اهل البلد راكبين قد ضمخوا أعراف الخيول بالمسك الأذفر، و خلّقوا سائبها بالزعفران و العنبر. و خرجت البلد راكبين قد ضمخوا أعراف الخيول بالمسك، على يد كل واحدة جام من الذهب نضدت عليه قطع الياقوت و حبات اللآلئ.

فلما رأت ساما و ولده أمرتهنّ فنثرن تلك الجواهر تحت سنابك الخيل. و كثر نثر الدراهم و الدنانير يمنة و يسرة حتى خيل للرائين أن السماء تمطر على المواكب زهر الكواكب. و قال سام فى خلال ذلك لسين دخت: أ لم يأن أن تقرّ ألحاظنا بالخريدة العربية، و تكتحل أحداقنا بالعقيلة الكابلية؟

فأجابته ضاحكة و قالت: إن أحببت أن ترى الشمس المنيرة فأين التحفة و الهدية؟ فلاطفها سام و قال: كل ما أملكه من صامت و ناطق نثار لقدمك و فداء لخدمك. فنزلوا و رفعت دونهم الأستار و الكلل حتى دخلوا الايوان المذهب، و المجلس المنجد.

فرأى سام روذابه فوق تلك المنصة متجلية كالشمس البازغة. فبهت لرونق جمالها و قضى العجب من حسنها و كمالها. و أمر مهراب فتقدّم و عقدوا العقد على عادتهم المألوفة و سنتهم المعهودة.

ثم أخذوا بيد زال و أقعدوه لجنب صاحبته، و نثروا على سريرهما المنجد أطباق الياقوت و الزبرجد.

و كانت تلك الليلة من الليالى الزهر، و من حسنات الدهر.

قال فجاءوا بنسخة تفصيل الجهاز للعرض، فأفصحت بذكر نفائس لم تر مثلها عين و لا سمعت بها أذن. و أقاموا بكابل ثلاثة أسابيع لا يفيقون من نشوات الأفراح، و لا يقصرون عن معاطاة الأكواب و الأقداح. ثم عزم سام على الارتحال خارجا نحو سجستان.

فتوجه اليها و أمر زال بإعداد العماريات و تهيئة المهود و الهوادج، و اتبعه مستصحبا صاحبته و مهراب و زوجته، و ارتحلوا من سجستان جميعا قاصدين قصد نيم روز فقدموها. و أقام سام بضيافتهم ثلاثة أيام.

و رحل راجعا الى كابل خطة ملكه و مقرّ عزه. و أقامت سين دخت عند ابنتها. و أمام سام فانه جعل تلك الممالك برسم ابنه دستان. و أقعده على سرير ملكه، و أقامه مقام نفسه. و ترحل عنها نحو كركَساران و نواحى مازَنْدران ليتخذها دارا و يتبوأها قرارا.

ذكر ولادة رستم

فلم يمض إلا قليل حتى حملت روذابه و تناوش شخصها النحول، و مس ورد وجنتيها الذبول.

و كانت أمها سيمين دخت تسايلها عما تقاسيه من الحبل و وصيه، و تعانيه من الوحم و نصبه.

فكانت تخبرها بما تجده من الآلام و يزعجها من الأوجاع. و كانت لا تنام بالليل و لا تهدأ بالنهار.

كأن جلدها حشى بالجندل و الحديد أو بالصرفان الشديد. فلما انتهت مدّة حملها، و دنت ساعة وضعها غشى عليها فشهقت سين دُخت و خمشت خدّها ، و نتفت شعرها. و دب فى وصائفها الأنين و النجيب، و شملهن البكاء و العويل.

و أعلم بالحال زال فجاء بقلب محترق، و دمع مندفق. فبيناهم كذلك متلددين بين اليأس و الأمل، متردّدين بين الرجاء و الوجل إذ ذكر زال ريشة العنقاء التى أعطتها إياه على ما سبق ذكره.

فبشر بذلك سين دخت، و دعا بمجمر فأحرق بعضها فاذا بالسماء كأنها قد تغيمت، و بالآفاق كأنها أظلمت، و بالعنقاء قد أقبلت بالطائر الميمون كسحابة شآبيبها قصب المرجان، أو روضة شقائقها من العقيان.

و لما دنت خرّ زال ساجدا يقبل الأرض و يذرى الدمع. فنادته العنقاء و بشرته بسلامة صاحبته، و أنكرت عليه الجزع، و قالت حاش لعيون الأسود أن تنضح برشاش المدامع، و معاذا لناكب الأطواد أن تتزلزل بالرياح الزعازع.

إنه سيصحر من أجمة هذه اللبوة شبل أغلب، تقبل سود الأسود مواطئ قديمه، و لا يجترئ السحاب المكفهر أن يمرّ عليه. تتشقق جلود النمور دون غرار هيبته، و تستل بأنيابها مخالبها مخافة سطوته.

ثم قالت تأخذ بإذن اللّه تعالى حديدة حادة و تدفعها الى آس حاذق أخذ يد القميص و يعل الحاملة بأرطال من سلاف العقار حتى يملك السكر عنان حواسها.

ثم يشق الحكيم بتلك الحديدة خاصرتها و يستخرج منها الولد. ثم الشق و يرتق الفتق. ثم يؤخذ حشيشة كذا و كذا، و تدق بلبن و مسك، و تجفف فى الظل و تسحق. ثم تذر على موضع الشق. و تمرّ عليه ريشة من جناحى الميمون.

فهنالك يسهل جميع الحزون. و لا تستهولن ذلك، و أطلق لسانك بشكر اللّه تعالى حيث آتاك شجرة ناضرة تثمر لك كل يوم ثمرة يانعة. ثم نزعت ريشة من جناحها و رمت بها اليه و طارت فى السماء، و حلقت نحو تلك القلة الشماء. فبادر زال الى تلك الريشة و أخذها، و أعدّ جميع ما أشارت به العنقاء من الأدوية. و الخلق مجتمعون يقضون العجب من تلك الحالة.

كيفية تسميته برستم و ما جرى بعد الولادة

ثم جاءوا بموبذ خفيف اليد أحذق أهل زمانه فى صناعته. فسقى روذابه من المدام الصرف أقداحا حتى سكرت و خرت صعقة لم تحس بشي‏ء. فاستل تلك الحديدة و شق خاصرتها ثم استخرج منها بخفة و سرعة يد ولدا لم ير مثله قط. قد صوّره اللّه تعالى على خلقة تعجب العيون الذهب و الجوهر و بقيت أمه على حالها مغشيا عليها يوما و ليلة.

ثم أفاقت بعد ذلك فنثروا عليها الذهب و الجوهر و دعوا اللّه تعالى و حمدوه على ما أسد اليهم. ثم قدّموا الطفل اليها كأنه ابن عشر سنين. فلما رأته تبسمت ضاحكة و قالت برستم أى قد خلصت. فسمى الصبى« رُستَم ».

قال: فخاطوا على قدّ ذلك الطفل العزيز تمثالا من الحرير و حشوه بوبر السمور. و صوّروا وجهه كصورة الشمس. و ركبوا عليه أعضادا كأنها الثعابين. و جعلوا له أظافير كبراثن الأسود. و شغلوا إحدى يديه بالجرز مرفوعا الى كاهله، و الأخرى بعنان فرس أركبوه عليه محفوفا بخدم مكنوفا بخول و حشم. و أثاروا هجينا و نفذوا التمثال الى سام. قال: و بلغ الخبر الى مهراب فاستهز الطرب أعطافه، و كساه السرور أفوافه.

و اتخذ الناس من أوّل أراضى كابل الى آخر حدود زوال تلك الأيام أعيادا، مواسم سرور و فرح‏ و حبور. يواصلون بين الصبوح و العبوق، و يفيضون سيول الرحيق فى أودية العروق. لا يفيقون من قصف، و لا ينفكون من عسف و عزف.

و لما جاء المبشر بذلك التمثال الى سام و وقع بصره عليه قامت شعرات بدنه حين رآه على صورته و شكله. و أمر بإفاضة الدراهم و نثرها على المبشر حتى كاد ينغمر فيها شخصه.

ثم أمر بضرب البشائر و ركوب العساكر للتطارد فى الميدان، و التلاعب بالسيف و السنان.

و أمر الكاتب أن يجيب عن كتاب زال مفتتحا كتابه بحمد اللّه عز و جل قائلا فيه لزال: إنى كثيرا ما ابتهلت الى اللّه تعالى و تضرعت اليه أسأله أن يقرّ عينى بشبل يصحر عن غيلك، على صورتى التى جبلنى عليها. فالحمد للّه على قضاء الحاجة و إنجاح الطلبة. و لا أسأله سبحانه إلا أن يطيل بقاءه، و يسهل الى معارج العلوّ ارتقاءه.

قال: و كانت له عشر مرضعات يمتص نخب ألبانهن حتى ترعرع. و لما بلغ ثمانى سنين صار كالنخل الباسق: و الكواكب الدرىّ فى الظلام الغاسق، يحكى فى بهاء المنظر، و رشاقة القد، و أبهة الجلالة جده ساما. و كان لا يحمله مركوب غير الفيل لضخامة جثته و عبالة أكتافه.

مجي‏ء سام لرؤية رستم‏

و جاء الخبر الى سام بأنه قد ترعرع و ارهق. فاشتاق الى لقائه و أقبل نحو زابلستان. فلما أحس بمقدمه زال ركب مع مهراب، و أمر بركوب العساكر للاستقبال. و شدّت الكوسات على كواهل الأفيال. و قدّموا فيلا عظيما، و شدّوا على ظهره تختا من الذهب.

و جليس عليه رستم مشرفا على الناس معصوب الرأس بالتاج مشدود الوسط بالمنطقة، فى يده قوس و نشاب. فلما طلعت رايات سام من بعيد اصطفت العساكر سماطين. فترجل زال و مهراب و الأمراء و القوّاد و وضعوا جباههم على الأرض برسم الخدمة. ثم أطلقوا ألسنة الإخلاص بالثناء و الدعاء.

و تهلل وجه سام حين وقع نظره على رستم. و أمر فقرب منه الفيل الذى هو راكبه فرآه على تلك الهيئة. فأثنى على اللّه تعالى، و دعا له بالبقاء.

ففتح رستم لسانه بالثناء عليه و قال: إنما أنا فرع أنتمى الى جرثومة جلالك و أتقيل شمائلك فى جميع أحوالك. و لعل اللّه تعالى و حين صوّرنى على صورتك يمدّ أعضادى بمثل قوّتك . ثم نزل عن ظهر الفيل.

و أكب عليه سام يقبل رأسه و عينه، و يعوذه باللّه عز و جل. ثم توجهوا جميعا نحو لكورابذَ يتفاكهون فى الطريق بصدور منشرحة و قلوب مرتاحة و أقاموا بها شهرا كاملا لا شغل لهم غير اللهو و الطرب، و لا نديم لهم سوى ابن الغمام و ابنة العنب. و كان سام لا يقبض عنان طرفه عن رستم و ضمائله، و يقول لزال لو سايلت مائة من القرون لم تسمع بولد استخرج عن خاصرة أمه كما استخرج هذا.

و طفق يشكر العنقاء و يحمد اللّه عز و جل إذ ألهمها صنيعها ذلك. فاندفعوا فى شرب المدام الى أن أفرغت الكئوس، و شرقت بالخندريس‏ النفوس.

و طفق مهراب فى غمار سكره يقول: لا أبالى بعد يومى هذا بزال، و لا أتفكر فى سام، و لا يهمنى هم الملك المتوّج . اذا برزت مع رستم الى الميدان و تطاردنا مع الفرسان اضطرب لمهابتنا الخافقان. و سأحيى دولة الضحاك، و أضرب خيم العز على الأفلاك. ثم عزم سام على الرحيل فارتحل و خرج فى ركابه رستم و أبوه برسم الوداع مرحلتين. فأقبل سام على زال و أوصاه بالعدل و الاحسان، و طاعة السلطان، و متابعة الرأى و العقل، و مخالفة النفس الأمارة بالسوء، و سلوك سبيل الحق، و التنكب عن طريق الشر.

ثم قال له: إياك و الإخلال بشى‏ء من هذه الوصية. و اعلم أن نفسى تحدّثنى بأن مقامى ليس يطول فى دار الدنيا، و كأنى قد شارفت الارتحال. ثم ودع ولديه و ركب. فشيعاه مرحلتين أخريين و رجعا. و انطلق سام متوجها( نحو مستقرّه ).