رشدي فكار
المفكر الإسلامي الكبير الدكتور رشدي فكار
وحوار حول الدين والعلم
أجرى الحوار : محمد همام فكري 1996 mhammamf@gmail.com
نشر هذا الحوار في العدد الثالث من مجلة المنتدى العلمي – الدوحة - قطر الالتقاء بعالم جليل ومفكر كبير من وزن الدكتور رشدي فكار أمر عظيم حقاً ، وهو ما جعلني أستعد للقاء وأنا أعي أبعاد شكل الحوار الذي يمكن أن يدار مع هذا الفيلسوف الكبير ، وكان لابد علي أن أستعيد بعض ما درسته عن المدارس والمفاهيم الفلسفية وأن أقرأ بعض الشيء فيما توفر في مكتبتي عن إشكالية العلم والدين فهذا لقاء فلسفة ، والفلسفة هي أم العلوم .. وإن نظرة الفيلسوف والمفكر إلى القضايا كثيراً ما توضح لنا اتجاه الفعل وانعكاساته. والأستاذ الدكتور / رشدي فكار ، مفكر من طراز فريد فهو مصري - صعيدي - متخصص في الفلسفة الوضعية . ويعمل أستاذاً للفلسفة الإسلامية بجامعة محمد الخامس بالمغرب، يتحدث العربية بلكنة (صعيدية - مغربية - فرنسية) ويطرح القضايا ببساطة وأسلوب مميز للغاية . أقرب إلى الحكي منه للمباشرة في الطرح. لذلك لم أجد صعوبة مطلقاً في بناء وطرح الأسئلة اكتفيت فقط بالوصول في الموعد المحدد لإجراء اللقاء ووجدتني مع لفيف من العلماء والمريدين الذين يستمعون إليه ، وعندما سلمت عليه ، ذكرته بموعدي معه فقال ببساطة وتلقائية . - ياسيدي مرحباً بك .. فقلت له ماذ تريد أن نتحدث ليكن مدخلنا علاقة العلم بالدين أوالدين بالعلم هذه إشكالية قديمة وجديدة معاً ، وقد طرحت في البدء في الغرب خاصة عندما انقلب العلماء على الكنيسة ، وبالخطأ تطرح عندنا تحت ما يسمى بالعلمانية أحياناً ، وأنا أراها قضية مفتعلة لا تمت لنا بصلة .. فعلاقة الإسلام بالعلم علاقة تكامل وهذا ما سيرد فيما بعد ، المهم أن هذه الإشكالية القديمة وقع في مصيدتها معظم الفلاسفة الغربيين وعلى رأسهم المفكر الوضعي (سان سيمون) الذي يعد من أكبر المفكرين الذين عرفتهم أوروبا في العصر الحديث ,ويعتبر امتداداً مشوهاً لفكر «سان سيمون» فيما يخص النظرية الاشتراكية والرأسمالية. وأنا أذكر هنا سان سيمون لأنه طرح عليه نفس السؤال الإشكالي .. عندما سأله تلميذه «أوجست كونت» وكان سيمون يحتضر وكان السؤال من قسمين أحدهما يقول : - لماذا لم تعط نفسك إجازة حتى الان ؟ والثاني يقول : - كيف ترى علاقة الدين بالعلم ؟ ففكر سيمون وهو على فراش الموت ثم قال : - أما عن السؤال الأول .. فإنني بعد أن أنتهي من الإجابة عن السؤال الثاني .. سآخذ إجازة أبدية (يقصد إجازة الموت) .. أما موقفي من العلم والدين أو موقفي من الدين بشكل محدد .. فأنا أختلف جداً مع رجال الدين المسيحي .. وليس مع الدين المسيحي, وأن هجومي الذي أبليت عمري فيه كان هجوماً على رجال الكنيسة الذين ينصبون أنفسهم آلهة ولم يكن هجومي في يوم من الأيام مع الدين ,فالدين لازم للإنسان والعلم لازم لمستقبله هذا ما قاله «سيمون» . وكان كما قلت على فراش الموت ، لأنه بعد أن أجاب عن هذا السؤال أخذ إجازته الأبدية بالفعل.. فالدين هو جوهر الإنسان ومرجعيته ، والعلم وسيلة الإنسان في تحقيق تطلعاته المستقبلية. وبالتالي هو وسيلة لإسعاد البشرية . الخيارات الخمس: لكي نناقش علاقة العلم بالدين علينا أن نستعرض خمس خيارات طرحت حول هذا الموضوع ، هي : أولاً : خيار أن الدين سابق للعلم ، فهو معروف أولاً للبشرية فالأنبياء سبقوا العلماء ، بعد ذلك ظهرت الحركات العلمية التي أخذت طابعاً متميزاً في الحضارة المعاصرة إنطلاقاً من عصرالنهضة إلى ظهور المدارس الحديثة .. أي أن العلم بالنسبة للبشرية أشبه بالوليد الجديد ، وأن هذا العلم قدم للبشرية معارف جديدة عظيمة .. فكلنا يذكر حكاية جاليليو وكروية الأرض والاضطهاد الذي واجهه من قبل رجال الدين المسيحي. وهذا إلى حد ما شيء جميل .. من العلم ، أما العلم الذي تصادم مع الدين فهو ما أسميه بعلم الكفر وهي التخصصات التي أسست لتقويض الدين والانتهاء منه (تصفيته) فهم ينظروا للدين على أنه سحر .. وهذا يتضح من دراسات رائد علم الاجتماع الغربي (دور كايم) و(تايلور) و( بل ).. وهم مجموعة من العلماء أضاعوا وقتهم في محاولة تصفية الدين فضاعوا فيه ، فهم يريدون أن يثبتوا أن الدين فعل اجتماعي والتاريخ شهد بأنهم أفلسوا .. لأنهم أفلسوا بالفعل .. واستثنى منهم عالم النفس الكبير (يونج) الذي تتلمذت عليه ، ويعد عميد بل من أكبر عمداء السيكولوجيا (علم النفس) في القرن العشرين ويشهد له أنه تجاوز (فرويد) فقد طرح فلسفة الأديان ودافع فيها عن الأديان . وكان له موقف مخالف لموقف (فرويد) الذي كتب كتاباً خطيراً ضد الأديان أسماه (عُصاب الأنبياء) اتهمهم فيه بأنهم مصابين بالعصاب «الجنون» والغريب أن فرويد نفسه مات مصابا بالعصاب بل وانتهت حياته بشكل مريع . ونيتشه الذي انتهت حياته أيضاً بالجنون ، والأمثلة كثيرة إلا أن الثابت أن بعض التخصصات العلمية أرادات أن تصفي حساباً مع الدين (يقصد الاضطهات الذي تعرضوا له من قبل رجال الدين المسيحي) .. فأرادوا أن يتصيدوا مآخذ على الدين لكنهم سرعان ما انقلبوا على أنفسهم .. فنظرية (دور كايم) الأشكال المبدئية للأحياء سرعان ما انهارت رغم أنه حاول كثيراً أن يلف ويدور حول الدين في محاولة لضربه .. والدين المعني هنا كل المعتقدات الدينية. وهنا نجد روعة الدين الإسلامي، الذي لم يستطع واحد منهم أن ينال منه وهي حقيقة لا تحتاج إلى دفاع من مثلي ، فليس في الإسلام ما يدفع الإنسان للشعور باليأس أو القلق أو الشعور بالأزمة ، فالإسلام هو الدين الكامل ليس لأنه خاتم ا لرسالات فحسب ولكنه الدين الصحيح الذي لم يصبه أي تحريف .. لذلك فإننا نرفض هذا الخيار تماماً فالدين لا يتصارع مع العلم .. ولا يسعى لأن يحل محله وهذه حقيقة في الدين الإسلامي. هل العلم يطمح أن يحل محل الدين ؟ هذه محاولة عمرها أربعة قرون .. فشل فيها العلم فشلاً زريعاً . وآخر ما يؤكد ذلك انهيار دولة كبرى كروسيا التي قالت أن الدين أفيون الشعوب ، وانطلقت وراء الأيدلوجية الاشتراكية العلمية فانهارت معها .. المهم أننا شاهدنا بأعيننا هذا النموذج الذي رفع شعار النصر النهائي للعمال وهو ينهار كإمبراطورية كبرى .. لازلت أذكر كيف أمسك زعيم روسي شهير بنعله في أحد اجتماعات هيئة الأمم المتحدة وهو يهدد قائلاً : - لدينا ما يكفي الأرض عشرة مرة .. المهم أن ما آلت إليه دولة كبرى كروسيا هو نتيجة حتمية لفكرة مغلوطة هي فكرة أن يحل العلم محل الدين .. وهي فكرة مرفوضة تماماً في عقيدتنا الإسلامية ، وفي العديد من مؤلفاتي كنت أبرز جوانب العظمة التي اتسمت بها عقيدتنا دون غيرها من الأديان : فالإسلام ليس لديه مشكلة البتة مع العلم بالعكس تماماً فهو جاء ليدعو إلى العلم ويرفع من قدر العلماء قال تعالى : «ويتفكرون في خلق السموات والأرض».(إقرأ باسم ربك الذي خلق) ، (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البر بما ينفع الناس لآيات لقوم يتفكرون) . فليس في الإسلام هذه الفكرة المغلوطة ولا يقبل أن يحل العلم محل الدين فهي فكرة غير موجودة نهائياً في الإسلام .. فالعلم في الإسلام ركيزة أساسية يرتكز عليها بالعقل والتدبر .. وهو موقف متميز ، لأن الإسلام أشمل وأعم من العلم فهو الرسالة السماوية الكاملة فيكفي أنه لم يتعرض إلى تحريف أو تغيير . كما تعرضت له الأديان الأخرى .. لذلك جاءت (علوم الكفر) التي أشرت إليها لتحاول أن تبتلع الدين وتلغيه من حياة البشر تحت شعار "أوجست كونت " رائد المدرسة الواقعية الذي قال أن الإنسان عندما هبط على الأرض وقع عليها فحدث له نوع من الدوار .. فطلب المساعدة ومن هنا فعليه أن يلغي كل ما هو ميثافيزيقي حتى لو كان ذلك الشيء «دين» .. ونجد هذه الفكرة واضحة لدي مفكر مجنون (كشبنهور) الذي ابتدع فكرة البديل للآلة .. أو الإنسان الخارق .. فجعل من الإنسان إلهاً .. للإنسان وهي فكرة ظهرت جلية عند «هتلر» فقد آمن بها واعتنقها وجعلها مذهبه في إذلال الناس والطغيان حتى انتهى نهايته التي تعرفونها .. أما الإسلام فهو يهذب الإنسان ويقول له (كلا إن الإنسان ليطغى) .. فالإسلام يحذر الإنسان من أن يطغى ، فالطغيان للمسلم يلغي العلم والإسلام يدعو للعلم. - هل يلجأ العلم لتدعيم ذاته وتركيزها عن طريق الدين حتى يبرهن عن مصداقيته؟ سؤال أو خيار ظهر مؤخراً مع الهزات الروحية العنيفة التي فجرتها الثورة العلمية في القرن العشرين ، وهو خيار جاء مع اندفاع العلم وانحرافه وراء تحقيق أهداف قد تؤدي إلى حيرته . لذلك وقف البابا .. بابا الفاتيكان مؤخراً ليخطب في جمع من العلماء .. ليقول : آن الآوان للعلماء أن يتدبروا في الكتب المقدسة، لأن بها قوانين تحكم اتجاهات العلم .. وعليهم أن يأخذوا رأي (رجال الدين) ، لأن التقدم العلمي قد يؤدي إلى خراب الأرض ، وظهرت بوادره في التلوث الذي أصاب البيئة في كل شيء .. إضافة إلى تجاوزات التجارب المعملية التي بدأت تنال من إنسانية الإنسان وقيمة الأخلاقية تحت دعوى التقدم العلمي .. وأذكر وأنا في فرنسا أيام حكم (ديجول) أنه قام مرة بزيارة أحد علماء النفس الذي كان يجري بحوثاً في مجال وظائف المخ على بعض القردة .. بهدف توجيه العقل .. فتوقف ديجول أمام القردة المحبوسة في أقفاصها وهو يتطلع للعالم الذي بشرح له هدفه من تجاربه وكيف أنه بهذه البحوث سيصل إلى نتائج غير مسبوقة عن تطويع المخ البشري .. فقال ديجول : - هذا هراء وطغيان أيها العالم .. إنك تريد السيطرة على فطرة الخلق .. وهو ما لا يتمشى مع المبادئ المسيحية ، وأمر ديجول بإغلاق هذا المعمل .. وكان ذلك قرار سياسي بوازع ديني. والإسلام ينظر للعلم على أنه وسيلة من وسائل إسعاد الإنسان في إطار القيم الروحية الغنية التي يدعوه إليها.. - أما هل يستند الدين إلى العلم التركيز ذاته ؟ فهذا أمر مرفوض تماماً لأن الدين أعم وأشمل كما قلت .. ولا يحتاج الدين لعالم من العلماء ليقول أن الدين الإسلامي صحيح وأن ما جاء به يتفق مع ما وصلنا إليه نحن في المعمل ، الدين أشمل وأعم وليس في حاجة إلى ذلك مطلقاً .. فالعلم متغير وأحياناً تتعارض النظريات والنتائج .. فعلم القرن التاسع عشر غير الذي عرفنا في القرن التاسع عشر والذي نعيشه الآن ونحن في العقد الأخير من القرن العشرين فالتغيرفي العلم وارد بل هو القاعدة ، فمن يؤكد لنا أن هذا العلم الذي نعرفه الآن لن يتغير في القرن القادم .. لذلك من الخطأ أن يندفع عالم من العلماء ليقول لنا لقد وصلت إلى فهم قاطع لبعض الآيات القرآنية من خلال تجاربي وبحوثي المعملية.. وإجمالاً من الخطأ أن يطرح العلم بديل للدين أو الدين بديل للعلم فالدين هو جوهر الإنسان ومرجعيته والعلم وسيلة من الوسائل لتطلعاته المستقبلية.. قالها وهو ينظر إلينا في سرور الذي يرى تصديقاً على ,وجوهنا في دهشة لا تخلو من الإعجاب الشديد .. ثم قال في حزم : - وماذا بقي ؟ فقلت بدون تردد : - أن يتوافق العلم مع الدين .. وهو الخيار الخامس .. الذي ذكرته حضرتكم في مستهل الحديث فقال في تؤده : نعم أن يتوافق العلم مع الدين وهو التوافق الرائع الذي يظهر جلياً في الإسلام وهو توافق أراه مطروحاً بشكل رائع على القرن القادم بقوة وأعتقد أنه سيكسب الجولة .. بل إنني متأكد من ذلك , لإن الإسلام هو( القومية ) التى وحدت الأرض والهدف واللسان " وبجانب الإسلام، فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقى عنده الأمة.. فلا الأرض...ولا اللغة، ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك .. ذلك أن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتداداً للإسلام .. فالإسلام هو نداء الشمول والتكامل الكوني". قال ذلك وهو يميل برأسه على كتفه , بينما كان شريط الكاست قد أنهى دورته الثانية.. ______________________ تُوُفِّي الدكتور رشدي فكار في 5 أغسطس 2000م بالمغرب إثر أزمة قلبية مفاجئة