رسالة الغفران الجزء الأول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وصول الرسالة
وقد وصلت الرسالة التي بحرها بالحكم مسجور ومن قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبُّل الشرع، وتعيب من ترك أصلاً إلى فرع. وغرقت في أمواج بدعها الزاخرة، وعجبت من اتسِّاق عقودها الفاخرة، ومثلها شفع ونفع، وقرّب عند الله ورفع. وألفيتها مفتحةً بتمجيدٍ، صدّر عن بليغٍ مجيد، وفي قدرة ربّنا، جلَّت عظمته، أن يجعل كلّ حرف منها شبح نورٍ، لا يمتزج بمقال الزُّور؛ يستغفر لمن أنشأها إلى يوم الدين، ويذكره ذكر محبٍ خدين. ولعلّه، سبحانه، قد نصب لسطورها المنجية من اللَّهب، معاريج من الفضة أو الّذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكشف سجوف الظلماء، بدليل الآية: إليه يصعد الكلم الطَّيب والعمل الصّالح يرفعه.
شجرة طيبة
وهذه الكلمة الطيبة كأنّها المعنيّة بقوله: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمّة طيّبةً كشجرةً طيّبةٍ، أصلها ثابت وفرعها في السّمّاء، تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربها. وفي تلك السطور كلم كثير، كلّه عند الباري، تقدّس، أثير. فقد غرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجر في الجنة لذيذ اجتناءً، كلُّ شجرةٍ منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظلٍّ غاطٍّ ليست في الأعين كذات أنواطٍ. وذات أنواطٍ، كما يعلم، شجرة كانوا يعظمونها في الجاهلية. وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ، وقال بعض الشعراء:
| ||
لنا المهيمن يكفينا أعادينا | كما رفضنا إليه ذات أنواط |
والولدان المخلّدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، وبالمغفرة نيلت السُّعود؛ يقولون، والله القادر على كلِّ شيء عزيز: نحن وهذه الشجر صلّة من الله لعليّ بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصُّور. وتجري في أصول ذلك الشجر، أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدُّها في كلّ أوانٍ؛ من شرب منها النُّغبة فلا موت، قد أمن هنالك الفوت. وسعد من اللبن متخرِّفات، لا تغيَّر بأن تطول الأوقات. وجعافر من الرحيق المختوم، عزَّ المقتدر على كلّ محتوم. تلك الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة، بل هي علقمة مفترياً، ولم يكن لعفوٍ مقترياً:
| ||
تشفي الصُّداع ولا يؤذيه صالبها | ولا يخالط منها الرأس تدويم |
ويعمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بديّ، ما حلم به أبو الهنديّ، رحمه الله، فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدّنية الدّانية. ولا ريب أنّه يروي ديوانه، وهو القائل:
| ||
سيغني أبا الهنديّ عن وطب سالمٍ | أباريق لم يعلق بها وضر الزُّبد | |
مفدمة قزّاً كأنّ رقابها | رقاب بنات الماء أفزعها الرعد |
هكذا ينشد على الإقواء وبعضهم ينشد:
| ||
رقاب بنات الماء ريعت من الرعد | ......................... |
والرواية الأولى إنشاد النحويين. وأبو الهندي إسلاميٌّ، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدُّوس، وهذان اسمان شرعيان، وما استشهد بهذا البيت إلا وقائله عند المستشهد فصيح، فإن كان أبو الهنديّ ممن كتب وعرف حروف المعجم فقد أساء في الإقواء، وإن كان بنى الأبيات على السكون، فقد صحَّ قول سعيد بن مسعدة، في أن الطويل من الشعر له أربعة أضرب. ولو رأى تلك الأباريق أبو زبيد لعلم أنّه كالعبد الماهن أو العبيد، وأنّه ما تشبّث بخيرٍ، ورضي بقليل المير وهزىء بقوله:
| ||
وأباريق مثل أعناق طير ال | ماء قد جيب فوقهن خنيف |
هيهات ! هذه أباريق، تحملها أباريق، كأنّها في الحسن الأباريق. فالأولى هي الأباريق المعروفة، والثانية من قولهم: جارية إبريق، إذا كانت تبرق من حسنها: قال الشاعر:
| ||
وغيداء إبريقٍ كأن رضابها | جنى النحل ممزوجاً بصهباء تاجر |
والثالثة، من قولهم: سيف إبريق، مأخوذ من البريق. قال ابن أحمر:
| ||
تقلدت إبريقاً، وعلقت جعبةً | لتهلك حيّاً ذا زهاءٍ وجامل |
ولو نظر إليها علقمة لبرق وفرق، وظنَّ أنه قد طرق، وأين يراها المسكين علقمة، ولعله في نار لا تغير، ماؤها للشارب وغيرٌ؟ ما ابن عبدة وما فريقه؟؟؟! خسر وكسر إبريقه! أليس هو القائل:
| ||
كأن إبريقهم ظبيٌ برابيةٍ | مجللٌ، بسبا الكتّان مفدوم | |
أبيض أبرزة للضَّحّ راقبه | مقلد قضب الرَّيحان، مفغوم |
نظرةٌ إلى تلك الأباريق، خيرٌ من بيت الكرمة العاجلية، ومن كل ريقٍ، ضمنته هذه الدار الخادعة، التي هي لكلَّ شممٍ جادعةٌ. ولو بصر بها عدي بن زيد، لشغل عن المدام والصَّيد، واعترف بأن أباريق مدامه، وما أدرك من شرب الحيرة وندامه، أمرٌ هينٌ، لا يعدل بنابتٍ من حمصيص، أو ما حقر من خربصيص. وكنت بمدينة السّلام، فشاهدت بعض الورّاقين يسأل عن قافية عدي ابن زيد التي أوّلها:
| ||
كر العاذلات في غلس الصُّب | ح يعاتبنه أما تستفيق؟ | |
ودعا بالصَّبوح فجراً، فجاءت | قينةٌ في يمينها إبريق |
وزعم الورَّاق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخٍ من ديوان عديّ فلم توجد. ثمّ سمعت بعد ذلك رجلاً من أهل أستراباذ، يقرأ هذه القافية في ديوان العباديّ، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم: فأمّا الأقَّيشر الأسديّ فإنه مني بقاشر، وشقي إلى يومٍ حاشر، قال ولعله سيندم، إذا تفرَّى الأدم:
| ||
أفنى تلاديّ، وما جمعت من نشبٍ | قرع القوازيز أفواه الأباريق |
ما هو وما شرابه؟ تقضَّت في الحانية آرابه. لو عاين تلك الأباريق لأيقن أنّه فتن بالغرور، وسرَّ بغير موجب للسّرور. وكذلك إياس بن الأرتّ، إن كان عجب لأباريق كإوزّ الطَّفّ فإن الحوادث بسطت له أقبض كفّ. فكأنه ما قال:
| ||
كأن أباريق المدامة بينهم | إوزٌّ بأعلى الطَّفّ، عوج الحناجر |
ورحم الله العجَّاج، فإنّه خلط في رجزه العلبط والسَّجاج، أين إبريقه الذي ذكر فقال:
| ||
قطَّف من أعنابها ما قطفَّا، | فغمَّها حولين، ثمّ استودفا | |
صهباء، خرطوماً، عقاراً، فرقفا، | فسنَّ في الإبريق منها نزفا |
من رصفٍ نازع سيلاً رصفا وكم على تلك الأنهار من آنية زبرجدٍ محفور، وياقوتٍ خلق على خلق الفور، من أصفر وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق، كما قال الصنوبريُّ: تخيَّله ساطعاً وهجه، ... فتأبى الدُّنو إلى وهجه وفي تلك الأنهار أوانٍ على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور الكراكي، وأخر تشاكل المكاكيّ، وعلى خلق طواويس وبطّ، فبعضٌ في الجارية وبعضٌ في الشَّطّ،
خمر الجنة
نبع من أفواهها شرابٌ، كأنه من الرَّقَّة سرابٌ، لو جرع جرعةً منه الحكميُّ لحكم أنّه الفوز القدميُّ. وشهد له كلُّ وصَّاف الخمر، من محدثٍ في الزمن وعتيق الأمر، أنّ أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية، كخمر عانة وأذرعات، وهي مظنَّةٌ للنُّعّات؛ وغزّة وبيت راس والفلسطية ذوات الأحراس؛ وما جلب من بصرى في الوسوق، تبغى به المرابحة عند سوق، وما ذخره ابن بجرة ب وجّ، واعتمد به أوقات الحجّ، قبل أن تحرَّم على الناس القهوات، وتحظر لخوف الله الشهوات. قال أبو ذؤيب:
| ||
ولو أنَّ ما عند ابن بجرة عندها | من الخمر، لم تبلل لهاتي بناطل |
وما اعتصر بصرخد أو أرض شبام لكلّ ملكٍ غير عبام؛ وما تردَّد ذكره من كميت بابل وصريفين واتُّخذ للأشراف المنيفين؛ وما عمل من أجناس المسكرات، مفوّقاتٍ للشارب وموكّرات، كالجعة والبتع والمزر والسُّكركة ذات الوزر؛ وما ولد من النخبل، لكريمٍ يعترف أو بخيل، وما صنع في أيَّام آدم وشيثٍ إلى يوم المبعث من معجَّلٍ أو مكيث إذ كانت تلك النُّطفة ملكةً، لا تصلح أن تكون برعاياها مشتبكة.
ويعارض تلك المدامة أنهارٌ من عسلٍ مصفَّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كن فكان، وبكرمه أعطي الإمكان. واهاً لذلك عسلاً لم يكن بالنار مبسلا لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قدر له عارض موم، ولا لبس ثوب المحموم؛ وذلك كلُّه بدليل قوله: مثل الجنة التي وعد المتُّقون، فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، وانهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفًّى، ولهم فيها من كلّ الثّمرات، فليت شعري عن النَّمر بن تولبٍ العكليّ، هل يقدر له أن يذوق ذلك الأري، فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس غليه وجد يشاكه الشَّري؛ وهو لمَّا وصف أمّ حصٍن وما رزقته في الدَّعة والأمن، ذكر حوّارى بسمن، وعسلٍ مصفًّى؛ فرحمه الخالق متوفّىً،فقد كان أسلم وروي حديثاً منفرداً، وحسبنا به للكلم مسردّاً. قال المسكين النمر:
| ||
ألمّ بصحبتي، وهم هجوعٌ، | خيالٌ طارقٌ من أمّ حصن | |
لها ما تشتهي: عسلاً مصًّفى، | إذا شاءت، وحوَّارى بسمن |
وهو، أدام الله تمكينه، يعرف حكاية خلفٍ الأحمر مع أصحابه في هذين البيتين، ومعناها أنّه قال لهم: لو كان موضع أمّ حصن أمُّ حفص، وما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: حوّاريّ بلمص، يعني الفالوذ ويفرّع على هذه الحكاية فيقال: لو كان مكان أمّ حصن أمُّ جزء وآخره همزةٌ،ما كان يقول في القافية الثانية؟ فإنّه يحتمل أن يقول: وحوارى بكشء،ٍ من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس، ويقال: كشأ الشواء إذا أكله. أو يقول بوزء، من قولهم: وزأت اللحم إذا شويته. ولو قال: حوَّارى بنسء، لجاز وأحسن ما يتأؤّل فيه، أن يكون من نسأ الله في أجله، أي لها خبزٌ مع طول حياة، وهذا أحسن من أن يحمل على أن النسء اللبن الكثير الماء، وقد قيل: إن النسء الخمر، وفسروا بيت عروة بن الورد على الوجهين:
| ||
سقوني النّسء ثم تكنَّفوني، | عداة الله من كذبٍ وزور |
ولو حمل حوّارى بنسء، على اللبن أو الخمر، لجاز،لأنّها تأكل الحوارى بذلك، أي لها الحوَّارى مع الخمر، وقد حدّث محدّثٌ أنه رأى بسيل ملك الروم وهو يغمس خبزاً في خمرٍ ويصيب منه، ولو قيل: حوَّارى بلزء، من قولهم: لزأ إذا أكل، لما بعد، وتكون الباء في بلزء بمعنى في. ولا يمكن أن يكون رويُّ هذا البيت ألفاً، لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الرويّ ها هنا ساكنٌ، فلا يجوز ذلك. فإن خرج إلى الباء: من أمّ حرب، جاز أن يقول: وحوَّارى بصرب، وهو اللبن الحامض، ويجوز بإرب، أي بعضوٍ من شواءٍ أو قديد، ويجوز بكشب وهو أكل الشواء. فإن قال: من أمّ صمت، جاز أن يقول: وحواري بكمت، يعني جمع تمرةٍ كميت، وذلك من صفات التمر، وينشد للأسود ابن يعفر:
| ||
وكنت إذا ما قرَّب الزاد مولعاً | بكلّ كميتٍ جلدةٍ لم توسَّف |
وقال الأخر:
| ||
ولست أبالي بعدما اكمتَّ مربدي | من التمر، أن لا يمطر الأرض كوكب |
ويجوز وحوَّارى بحمت، من قولهم: تمرٌ حمتٌ، أي شديد الحلاوة. فإن أخرجه إلى الثاء فقال: من أمّ شثّ، قال: وحوَّارى ببثّ، والبثُّ: تمرٌ لم يجد كنزه فهو متفرق. فإن أخرجه إلى الجيم فقال: أمّ لجّ، جاز أن يقول: وحوّارى بدجّ، والدُّجُّ: الفرُّوج، جاء به العمانيُّ في رجزه. فإن خرج إلى الحاء، فقال: من أمّ شحّ، جاز أن يقول: وحوارى بمحّ، وببحّ، وبرّح، وبجحّ، وبسحّ. فالمحُّ: محّ البيضة، وبحُّ: جمع أبحَّ، من قولهم: كسرٌ أبحُّ، أي كثير الدّسم، وقال:
| ||
وعاذلة هبَّت عليَّ تلومني، | وفي كفّها كسرٌ أبحٌ رذوم |
ويجوز أن يعنى بالبحّ القداح، أي هذه المرأة أهلها أيسار، كما قال السُّلميُّ:
| ||
قروا أضيافهم ربحاً ببحّ، | يعيش بفضلهنَّ الحيُّ، سمر |
ورحٌّ: جمع أرحَّ، وهو من صفات بقر الوحش، أي يصاد لهذه المرأة، ويقال لأظلاف البقر: رحٌّ، قال الشاعر الأعشى:
| ||
ورحٌّ بالزّماع مردَّفاتٌ، | بها تنضو الوغى وبها ترود |
والسحُّ: تمرٌ صغير يابس. والجحُّ: صغار البطيخ قبل أن ينضج. فإن قال: أمُّ دخّ، قال: حوَّارى بمخّ، ونحو ذلك. فإن قال: أمّ سعد، قال: حوَّارى بثعد، وهو الرُّطب الذي لان كلُّه. فإن قال: أمّ وقذ، قال:حوارى بشقذ، وهي فراخ الحجل. فإن قال: أمّ عمرو، فإنَّ أشبه ما يقول: حوّارى بتمر. فإن قال: أمّ كرز، فإن أشبه ما يقول: وحوَّارى بأرز، وفيه لغات ستّ: أرزٌ على وزن أشدّ، وأرزّ على صملّ، وأرزٌ على وزن شغل، وأرزٌ في وزن قفل، ورزّ مثل جدٍّ، ورنز، بنونٍ وهي رديئة. فإن قال: أمّ ضبس، قال: وحوّارى بدبس. والعرب تسمّي العسل دبساً. وكذلك فسروا قول أبي زبيد:
| ||
فنهزةٌ من لقوا حسبتهم | أشهى إليه من بارد الدبس |
حرَّك للضرورة. فإن قال: من أمّ قرشٍ، جاز أن يقول: حوَّارى بورش، والورش: ضربٌ من الجبن، ويجوز أن يكون مولَّداً، وبه سمّي ورشٌ الذي يروي عن نافع واسمه عثمان بن سعيد. والصاد قد مضت. فإن قال: أمّ غرض، جاز أن يقول: حوَّارى بفرض، والفرض: ضربٌ من التمر، قال الراجز:
| ||
إذا أكلت لبناً وفرضا | ذهبت طولاً وذهبت عرضاً |
وفي نصب طول وعرض اختلافٌ بين المبرّد وسيبويه. فإن قال: من أمّ حظّ، فإن الأطعمة تقلُّ فيها الظاء، كقلَّتها في غيرها، لأن الظاء قليلةٌ جدّاً، ويجوز أن يقول: حوَّارى بكظّ، أي يكظّها الشّبع، أو نحو ذلك من الأشياء التي تدخل على معنى الاحتيال. فإن قال: أمّ طلع، جاز أن يقول: حوَّارى بخلع، والخلع: هو اللحم الذي كان يطبح ويحملونه في القروف وهي أوعيةٌ من أدم، وينشد:
| ||
كلي اللحم الغريض، فإنَّ زادي | لمن خلعٍ تضمنَّه القروف |
فإن قال: أمّ فرع، جاز أن يقول: حوَّارى بضرع، لأن الضروع تطبخ، وربمّا تطرب إلى أكلها الملوك فإن قال: أمّ مبغ، قال: حوّارى بصبغ، والصبَّغ ما تغمس فيه اللقمة من مرقٍ أو زيت أو خلٍّ. فإن قال: أمّ نخف، قال: حوَّارى برخف، والرخف زبدٌ رقيق، والواحدة رخفة، قال الشاعر:
| ||
لنا غنمٌ يرضي النزيل حليبها، | وزحفٌ يغاديه لها وذبيح |
فإن قال: أمّ فرق، قال: حوّارى بعرقٍ، والعرق: عظمٌ عليه لحمٌ من شواءٍ أو قديد. فإن قال: أمّ سبك، جاز أن يقول: حوّارى بربك، أو بلبك، من قولهم: ربكت الطعام أو لبكته، إذا خلطته، وكان ذلك ممّا فيه رطوبةٌ، مثل أن يخالطه لبنٌ أو سمنٌ، أو نحو ذلك، ولا يقال: ربكت الشعير بالحنطة، إلاّ أن يستعار. فإن قال: أمّ تخل، قال: حوّارى برخل، يريد الأنثى من أولاد الضأن، وفيه أربع لغات: رَخِل ورَخْلٌ ورِخْلٌ ورِخِلٌ. فإن قال: أمّ صرم، قال: حوارى بطرم، والطرم: العسل، وقد يسمَّى السمن طرماً. وقد مضت النون في أمّ حصن. فإن قال: أم دوّ، قال: حو؟ّارى بجوّ، والحوُّ: الجدي، فيما حكى بعض أهل اللغة في قولهم: ما يعرف حوّاً من لوٍّ، أي جدياً من عناقٍ. فإن قال: أمّ كره، قال: حوّارى بوره، يريد جمع أوره، من قولهم: كبشٌ أوره، أي سمين. فإن قال: أمّ شري، قال: حوارى بأري، أي عسل. وهذا فصل يتّسع، وإنمّا عرض في قول تامٍ، كخيال طرق في المنام. ولو خالط منا من عسل الجنان، وما خلقه الله، سبحانه، في هذه الدار الخادعة، كالصاب، والمقر، والسَّلع، والجعدة، والشَّيح، والهبيد، لعاد ذلك كلُّه، وغيره من المعقبات، يعدُّ من اللذائذ المرتقيات، فآض ما كره من الصَّاب، كأنَّه المعتصر من المصاب، والمصاب: قصب السكر، وأمسى الحدج وكأنّه المتخذٌّ بالأهواز، إلاّ يكن السُّكرّ، فإنه موازٍ؛ ولصارت الراعية في الإبل، إذا وجدت الحنظلة أتحفت بها السيدة المحظلة، وهي التي تعظم عليها الغيرة، من قولهم: حظل نساءه، إذا أفرط في الغيرة عليهنَّ، قال الراجز:
| ||
ولا ترى بعلاً ولا حلائلا | كه، ولا كهنَّ إلا حاظلا |
وانقطعت معايش أرباب القصب في ساحل البحر، وصنع من المرّ الفالوذ المحكم بلا سحر أي بلا خدع. ولو أن الحارث بن كلدة طعم من ذلك الطّريم لعلم أن الذي وصفه يجري من هذا المنعوت، مجرى الدّفلى الشّاقة من الرّعديد، ومدوف، ما يكره من القنديد، وذكرت الحارث بقوله:
| ||
فما عسلٌ ببارد ماء مزنٍ | على ظماءٍ، لشاربه يشاب
بأشهى من لقيكم إلينا،|فكيف لنا به، ومتى الإياب}} |
كذلك السَّلوى التي ذكرها الهذلي هي عند عسل الجنّة كأنَّها قارٌ رمليَّ، والقار: شجرٌ مرّ ينبت بالرَّمل، قال: بشرٌ:
| ||
يرجون الصَّلاح بذات كهفٍ، | وما فيها لهم سلعٌ وقار |
وعنيت قول القائل:
| ||
فقاسمها بالله جهداً لأنتم | ألذُّ من السَّلوى إذا ما نشورها |
وإذا من الله تبارك اسمه بورود تلك النهار، صاد فيها الوارد سمك حلاوةٍ، لم ير مثله في ملاوة، لو بصر به أحمد بن الحسين لاحتقر الهدية التي أهديت إليه فقال فيها:
| ||
أقل ما في أقلّها سمكٌ، | يلعب في بركةٍ من العسل |
فأمَّا الأنهار الخمريّة، فتلعب أسماكٌ هي على صور السَّمك بحريَّةٌ ونهريّة، وما يسكن منه في العيون النَّبعية، ويظفر بضروب النَّبت المرّعية، إلاّ أنّه من الذَّهب والفضّة وصنوف الجواهر، المقابلة بالنُّور الباهر. فإذا مدّ المؤمن يده إلى واحدةٍ من ذلك السَّمك، شرب من فيها عذباً لو وقعت الجرعة منه في البحر الذي لا يستطيع ماءه الشارب، لحلت منه أسافل وغوارب؛ ولصار الصمَّر كأنَّه رائحة خزامى سهلٍ، طلتَّه الدَّاجنة بدهل، والدَّهل: الطائفة من اللَّيل، أو نشر مدامٍ خوَّارةٍ، سيَّارةٍ في القلل سوَّارة. وكأنّي به، أدام الله الجمّال ببقائه، إذا استحقَّ تلك الرُّتبة، ببقين التوبة، وقد اصطفى له نامى من أدباء الفردوس: كأخي ثمالة، وأخي دوسٍ، ويونس بن حبيب الضُّبيّ، وابن مسعدة المجاشعيّ، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين، لا يمسُّهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين " فصدر أحمد بن يحيى هنالك قد غسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان، كأنهّا ندمانا جذيمة: مالكٌ وعقيل، جمعها مبيتٌ ومقيل وأبو بشر، عمرو بن عثمان سيبويه، قد رحضت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه، لما فعلوا به في مجلس البرامكة. وأبو عبيدة صافي الطويّة لعبد الملك بن قريب، قد ارتفعت خلتَّهما عن الرَّيب، فهما كأربد ولبيد أخوان، أو ابني نويرة فيما سبق من الأوان، أو صخرٍ ومعاوية: ولدي عمرو، وقد أخمدا من الإحن كلّ جمر. والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار. وهو أيَّد الله العلم بحياته، معهم كما قال البكريُّ:
| ||
نازعتهم قضب الرّيحان مرتفقاً، | وقهوةً مزَّةً، راووقها خضل | |
لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ | إلا بهات، وإن علُّوا وإن نهلوا | |
يسعى بها ذو زجاجات له نطفٌ | مقلَّص أسفل السّربال، معتمل | |
ومستجيبٌ لصوت الصَّنج يسمعه | إذا ترجع فيه القنية الفضل |
وأبو عبيدة يذاكرهم بوقائع العرب ومقاتل الفرسان، والأصمعيُّ ينشدهم من الشعر ما أحسن قائله كلَّ الإحسان. وتهشّ نفوسهم للَّعب فيقذفون تلك الآنية في أنهار الرّحيق، ويصفقّها الماذي المعترض أي تصفيق، وتقترع تلك الآنية، فيسمع لها أصواتٌ، تبعث بمثلها الأموات. فيقول الشيخ، حسّن الله الأيّام بطول عمره: آه لمصرع الأعشى ميمون وكم أعمل من مطيَّةٍ أمون!!ولقد وددت أنَّه ما صدّته قريشٌ لمَّا نوجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما ذكرته الساعة لمّا تقارعت هذه الآنية بقوله في الحائيّة:
| ||
وشمول تحسب العين، إذا | صفّقت، جندعها نور الذُّبح | |
مثل ريح المسك ذاكٍ ريحها، | صبّها الساقي إذا قيل: توح | |
من زقاق التَّجر، في باطيةٍ | جونةٍ، حاريّةٍ ذات روح | |
ذات غورٍ، ما تبالي يومها، | غرف الإبريق منها والقدح | |
وإذا ما الرَّاح فيها أزبدت | أفل الإزباد عنها، فمصح | |
وإذا مكوكها صادمه | جانباها، كرَّ فيها فسبح | |
فترامت بزجاجٍ معملٍ | يخلف النَّازح منها ما نزح | |
وإذا غاضت رفعنا زقّنا | طلق الأوداج فيها فانسفح |
ولو أنَّه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، ممّا نظم في دار الأحزان، ويحدّثنا حديثه مع هوذة بني عليّ، وعامر بن الطُّفيل، ويزيد بن مسهر وعلقمة بن علائة، وسلامة بن ذي فائش، وغيرهم ممّن مدحه أو هجاه، وخافه في الزمن أو رجاه.
ثمّ إنّه، أدام الله تمكينه، يخطر له حديث شيءٍ كان يسمَّى النُّزهة في الدار الفانية، فيركب نجيباً من نجب الجنّة خلق من ياقوتٍ ودرٍّ، في سجسجٍ بعد عن الحرّ والقرّ، ومعه إناء فيهج، فيسير في الجنَّة على غير منهج، ومعه شيءٌ من طعام الخلود، ذخر لوالد سعد أو مولودٍ، فإذا رأى نجيبه يملع بين كثبان العنبر، وضيمرانٍ وصل بصعبرٍ، رفع صوته متمثَّلاً بقول البكريّ:
| ||
ليت شعري متى تخبُّ بنا النَّا | قة نحو العذيب فالصّيبون | |
محقباً زكرةً، وخبز رقاقٍ، | وحباقاً، وقطعةً من نون |
يعني بالحباق جرزة البقل. فيهتف هاتفٌ: أتشعر أيّها العبد المغفور له لمن هذا الشَّعر؟ فيقول الشيخ: نعم، حدّثنا أهل ثقتنا، عن أهل ثقتهم، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء، فيرويه لهم عن أشياخ العرب، حرشة الضَّباب في البلاد الكلدات وجناة الكمأة في مغاني البداة، الذين لم يأكلوا شيراز الألبان ولم يجعلوا الثمر في الثَّبان، أنَّ هذا الشّعر لميمون بن قيس ابن جندلٍ أخي بني ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائلٍ فيقول الهاتف: أنا ذلك الرَّجل، من الله عليَّ بعدما صرت من جهنّم على شفير، ويئست من المغفرة والتّكفير. فيلتفت إليه الشيخ هشّاً بشّاً مرتاحاً، فإذا هو بشابّ غرانق غبر في النّعيم المفانق، وقد صار عشاه حور معروفاً، وانحناء ظهره قواماً موصوفاً، فيقول: أخبرني كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت رجلاً في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والنّاس يهتفون به من كلّ أوبٍ: يا محمَّد يا محمّد، الشفاعة الشّفاعة! نمتُّ لكذا ونمتُّ بكذا. فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمّد أغثني فإنّ لي بك حرمةً! فقال: يا عليُّ بادره فانظر ما حرمته؟ فجاءني عليُّ بن أبي طالبٍ، صلوات الله عليه، وأنا أعتل كي ألقى في الدّرك الأسفل من النّار، فزجرهم عني، وقال: ما حرمتك؟ فقلت: أنا القائل:
| ||
ألا أيُّهذا السّائلي أين يمّمت، | فإنَّ لها في أهل يثرب موعدا | |
فآليت لا أرثي لها من كلالة، | ولا من حفىً، حتى تلاقي محمّدا | |
متى ما تناخي عند باب ابن هاشمٍ | تراحي، وتلقي من فواضله ندى | |
أجدَّك لم تسمع وصاة محمّدٍ | نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا | |
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُّقى | وأبصرت بعد الموت من قد تزودَّا | |
ندمت على أن لا تكون كمثله، | وأنّك لم ترصد لما كان أرصدا | |
فإيّاك والميتات لا تقربنّها! | ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا | |
ولا تقربنَّ جارةً إن سرَّها | عليك حرامٌ، فانكحن أو تأبّدا | |
نبيٌّ يرى مالا يرون، وذكره | أغار لعمري في البلاد وأنجدا |
وهو، أكمل الله زينة المحافل بحضوره، يعرف الأقوال في هذا البيت، وإنّما أذكرها لأنّه قد يجوز أن يقرأ هذا الهذيان ناشىءٌ لم يبلغه: حكى الفرّاء وحده أغار في معنى غار، إذا أتى الغور، وإذا صحّ هذا البيت للأعشى فلم يرد بالإغارة إلا ضدَّ الإنجاد. وروي عن الأصمعيّ روايتان: إحداهما أنَّ أغار في معنى عدا عدواً شديداً، وأنشد في كتاب الأجناس:
| ||
فعدّ طلابها وتسلَّ عنه | بناجيةٍ إذا زجرت تغير |
والأخرى أنّه كان يقدّم ويؤخَّر فيقول: لعمري غار في البلاد وأنجدا فيجيء به على الزّحاف. وكان سعيد بن مسعدة يقول: غار لعمري في البلاد وأنجدا فيخرمه في النصف الثاني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إيمان الأعشى
ويقول الأعشى: قلت لعلّيٍ: وقد كنت أومن بالله وبالحساب وأصدّق بالبعث وأنا في الجاهليّة الجهلاء، فمن ذلك قولي:
| ||
فما أيبلي على هيكلٍ، | بناه وصلَّب فيه وصارا | |
يراوح من صلوات المليك | طوراً سجوداً وطوراً جؤارا | |
بأعظم منك تقىً في الحساب | إذا النَّسمات نفضن الغبارا |
فذهب عليَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك، وشهد أنّك نبيٌّ مرسلٌ. فقال: هلاَّ جاءني في الدّار السَّابقة؟ قال: عليُّ: قد جاء، ولكن صدَّته قريشٌ وحبُّه للخمر. فشفع لي، فأدخلت الجنّة على أن لا أشرب فيها خمراً؛ فقرَّت عيناي بذلك، وإنَّ لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة، لم يسقها في الآخرة. وينظر الشيخ في رياض الجنَّة فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغنَّ هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصرلزهير بن أبي سلمى المزني وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسديّ فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهليّة، ولكّن رحمة ربنّا وسعت كلَّ شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرّجلين فأسألهما بم غفر لهما. فيبتدىء بزهير فيجده شابّاً كالزَّهرة الجنيَّة، قد وهب له قصرٌ من ونيَّة، كأنّه ما لبس جلباب هرمٍ، ولا تأفَّف من البرم. وكأنَّه لم يقل في الميمّية:
| ||
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش | ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم! |
ولم يقل في الأخرى:
| ||
ألم ترني عمَّرت تسعين حجّةً، | وعشراً تباعاً عشتها، وثمانيا؟ |
فيقول: جير جير! أنت أبو كعب وبجير؟ فيقول: نعم. فيقول، أدام الله عزّه: بم غفر لك وقد كنت في زمان الفترة والنَّاس هملٌ، لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النَّائم حبلاً نزل من السَّماء، فمن تعلق به من سكَّان الأرض سلم، فعلمت أنَّه أمرٌ من أمر الله، فأوصيت بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إن قام قائمٌ يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه. ولو أدركت محمّداً لكنت أوَّل المؤمنين. وقلت في الميميّة، والجاهليّة على السّكنة والسّفه ضاربٌ بالجران:
| ||
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم | ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم | |
يؤخّر، فيوضع في كتابٍ، فيدَّخر | ليوم الحساب، أو يعجَّل فينقم |
فيقول: ألست القائل:
| ||
وقد أغدو على ثبةٍ كرامٍ | نشاوى واجدين لما نشاء | |
يجرُّون البرود وقد تمشَّت | حميّا الكأس فيهم والغناء |
فأطلقت لك الخمر كغيرك من أصحاب الخلود؟ أم حرَّمت عليك مثلما حرّمت على أعشى قيس فيقول زهيرٌ: إن أخا بكرٍ أدرك محمّداً فوجبت عليه الحجَّة، لأنّه بعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجّة عليَّ. فيدعوه الشَّيخ إلى المنادمة؛ فيجد من ظراف النَّدماء، فيسأله عن أخبار القدماء. ومع المنصف باطيةٌ من الزُّمرُّد، فيها من الرَّحيق المختوم شيءٌ يمزج بزنجبيل، والماء أخذ من سلسبيل. فيقون، زاد الله في أنفاسه: أين هذه الباطية من التي ذكرها السّرويُّ في قوله:
| ||
ولنا باطيةٌ مملوءةٌ | جونةٌ، يتبعها برذينها | |
فإذا ما حاردت أو بكأت | فتَّ عن خاتم أخرى طينها |
ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسدٍ. فيقول:وعليك السلام، وأهل الجنّة أذكياء، لا يخالطهم الأغبياء، لعلَّك تريد أن تسألني بم غفر لي؟ فيقول: أجل، وإنّ في ذلك لعجباً! أألفيت حكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرَّحمة محجَّباً؟ فيقول عبيدٌ: أخبرك أنّي دخلت الهاوية، وكنت قلت في أيّام الحياة:
| ||
من يسأل الناس يحرموه | وسائل الله لا يخيب |
وسارهذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل ينشد ويخفُّ عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كرِّر إلى أن شملتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإنَّ ربّنا لغفور رحيم. فإذا سمع الشَّيخ، ثبّت الله وطأته، ما قال ذانك الرّجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء. فيقول لعبيدٍ: ألك علم بعديِّ بن زيدٍ العباديّ؟ فيقول: هذا منزله قريباً منك. فيقف عليه فيقول: كيف كانت سلامتك على الصَّراط ومخلصك من بعد الإفراط؟ فيقول: إنِّي كنت على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه، وإنّما التّبعة على من سجد للأصنام، وعدّ في الجهلة من الأنام. فيقول الشيخ: يا أبا سوادة، ألا تنشدني الصاديَّة، فإنها بديعة من أشعار العرب؟ فينبعث منشداً:
| ||
بلغ خليلي عبد هند فلا | زلت قريباً من سواد الخصوص | |
موازي القرّة، أو دونها، | غير بعيدٍ من غمير الُّلصوص | |
تجنى لك الكمأة ربعَّية، | بالخبِّ تندى في أصُّول القصيص | |
تقنصك الخيل، وتصطادك ال | طّير، ولا تنكع لهو القنيص | |
تأكل ما شئت، وتعتلُّها | حمراء ملحص كلون الفصوص | |
غيبت عنّي عبد في ساعة ال | شَّر وجنِّبت أوان العويص | |
لا تنسين ذكري على لذّة ال | الكأس وطوفٍ بالخذوف النَّحوص | |
إنَّك ذو عهد وذو مصدقٍ | مخالفاً هدي الكذوب اللَّموص | |
يا عبد هل تذكرني ساعةً | في موكب، أو رائداً للقنيص | |
يوماً مع الرّكب، إذا أوفضوا | نرفع فيهم من نجاء القلوص | |
قد يدرك المبطيء من حظّه، | والخير قد يسبق جهد الحريص | |
فلا يزل صدرك في ريبةٍ، | يذكر مني تلفي أو خلوص | |
يا نفس أبقي، واتَّقي شتم ذي ال | أعراض، إنَّ الحلم ما إن ينوص | |
يا ليت شعري وإن ذو عجةٍ | متى أرى شرباً حوالي أصيص | |
بيت جلوفٍ، باردٍ ظلُّه، | فيه ظباء، ودواخيل خوص | |
والرَّبرب، المكفوف أردانه | يمشي رويداً، كتوقيِّ الرَّهيص | |
ينفخ من أردانه المسك، وال | عنبر، والغلوى، ولبني قفوص | |
والمشرف المشمول نسقي به، | أخضر، مطموثاً بماء الخريص | |
ذلك خير من فيوجٍ على ال | باب، وقيدين، وغلّ قروص | |
أو مرتقى نيقٍ على نقنقٍ، | أدبر، عودٍ ذي إكافٍ قموص | |
لا يثمن البيع، ولا يحمل ال | رَّدف، ولا يعطى به قلب خوص | |
أو من نسورٍ حول موتى معاً، | يأكلن لحماً من طريّ الفريص |
فيقول الشيخ: أحسنت والله أحسنت، لو كنت الماء الراكد لما أسنت. وقد عمل أديب من أدباء الإسلام قصيدة على هذا الوزن، وهو المعروف بأبي بكر بن دريدٍ، قال:
| ||
يسعد ذو الجدِّ ويشقي الحريص، | ليس لخلقٍ عن قضاء محيص |
ويقول فيها:
| ||
أين ملوك الأرض من حميرٍ | أكرم من نصَّت إليهم فلوص | |
جيفر الوهَّاب أودى به، | دهر على هدم المعالي حريص |
إلاّ أنَّك يا أبا سوادة أحرزت فضيلة السَّبق. وما كنت أختار لك أن تقول:
| ||
يا ليت شعري وان ذو عجَّةٍ | ...................... |
لأنّك لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن تكون قد وصلت همزة القطع وذلك رديء، على أنّهم قد أنشدوا:
| ||
أن لن أقاتل، فألبسوني برقعاً، | وفتخاتٍ في اليدين أربعا |
يزيد ما فعلت من إسقاط الهمزة بعداً أنّك حذفت الألف التي بعد النون، فإذا حذفت الهمزة من أوّل الكلمة بقيت على حرفٍ واحدٍ، وذلك بها إخلال. وإمّا أن تكون حقَّقت الهمزة فجعلتها بين بين، ثم اجترأت على تصييرها ألفاً خالصةٍ، وحسك بهذا نقضاً للعادة، ومثل ذلك قول القائل:
| ||
يقولون: مهلاً ليس للشيخ عيَّلٌ | فها أنا قد أعيلت وان رقوب |
ولو قلت:
| ||
يا ليت شعري أنا ذو عجَّةٍ | ...................... |
فحذفت الواو، لكان عندي أحسن وأشبه. فيقول عديُّ ابن زيد: إنّما قلت كما سمعت أهل زمني يقولون، وحدثت لكم في الإسلام أشياء ليس لنا بها علم، فيقول الشيخ: لا أراك تفهم ما أريده من الأغراض، ولقد هممت أن أسألك عن بيتك الذي استشهد به سيبويه، وهو قولك:
| ||
أرواح مودع أم بكور، | أنت، فانظر لأيِّ حالٍ تصير [1] |
فإنه يزعم أنَّ أنت يجوز أن يرتفع بفعلٍ مضمرٍ يفسره قولك: فانظر، وأنا استبعد هذا المذهب ولا أظنُّك أردته. فيقول عديّ بن زيدٍ: عني من هذه الأباطيل، ولكني كنت في الدار الفانية صاحب قنص، ولعلَّه قد بلغك قولي:
| ||
ولقد أغدوا بطرفٍ زانه | وجه منزوفٍ وخدِّ كالمسن | |
ذي تليلٍ، مشنقٍ قائده، | يسر في الكفِّ، نهدٍ، ذي غسن | |
مدمجٍ كالقدح، لا عيب به، | فيرى فيه، ولا صدع أبن | |
رمَّه الباري، فسوّى درأه | غمز كفيّه، وتخليق السَّفن | |
أيُّ ثغرٍ ما يخف يندب له، | ومتى يخل من القود يصن | |
كربيب البيت يفري جلّه، | طاعة العضِّ، وتسحير اللَّبن | |
فبلغنا صنعه حتى شتا، | ناعم البال لجوجاً في السنن | |
فإذا جال حمار موحش، | ونعام نافر بعد عنن | |
شاءنا ذو ميعةٍ يبطرنا | خمر الأرض وتقديم الجنن | |
يدأب الشدَّ بسحٍّ مرسلٍ | كاحتفال الغيث بالمرِّ اليفن | |
أنسل الذِّرعان غرب خذم | وعلا الرَّبرب أزم لم يدن | |
فالذي يمسكه بحمده يحمده، | تثق كالسيِّد، ممتدُّ الرَّسن | |
وإذا نحن لدينا أربع | يهتدي السائل عنّا بالدَّخن |
وقولي في القافية:
| ||
ومجودٍ قد أسجهرَّ تناوي | كلون العهون في الأعلاق | |
عن خريف سقاه نوء من الدَّل | و تدلَّى، ولم توار العراقي | |
لم يعبه إلا الأداحيُّ فقد وب | ر بعض الرِّئال في الأفلاق | |
وإران الثِّيران حول نعاجٍ | مطفلاتٍ، يحمين بالأوراق | |
وتراهن كالأعزَّة في المح | فل، أو حين نعمةٍ وارتفاق | |
قد تبطَّنته بكفّيَّ خرَّا | ج من الخيل، فاضل في السَّباق | |
يسر في القياد نهد، ذقيف ال | عدو، عبل الشّوى أمين العراق | |
لم يقيَّل حرَّ المقيظ، ولم يل | جم لطوفٍ، ولا فساد نزاق | |
غير تيسيره لرغباء إن كا | نت، وحربٍ إن قلَّصت عن ساق | |
وله النَّعجة المريُّ تجاه ال | رَّكب، عدلاً بالنَّابىء المخراق | |
والخدبُّ العاري الزَّوائد ملحفا | ن، داني الدِّماغ للآماق |
فهل لك أن نركب فرسين من خيل الجنَّة فنبعثهما على صيرانها، وخيطان نعامها، وأسراب ظبائها، وعانات حمرها، فإن للقنيص لذّة قد تنغصت لك بها؟ فيقول الشيخ: إنّما أنا صاحب قلم وسلمٍ، ولم أكن صاحب خيل، ولا ممَّن يسحب طويل الَّليل، وزرتك إلى منزلك مهنئاً بسلامتك من الجحيم، وتنعمُّمك بعفو الرحيم. وما يؤمنني إذا ركبت طرفاً زعلاً رتع في رياض الجنَّة فآض من الأشر مستسعلاً، وأنا كما قال القائل:
| ||
لم يركبوا الخيل إلاّ بعدما كبروا | فهم ثقال على أكنافها عنف |
أن يلحقني ما لحق جلماً صاحب المتجرِّدة لمّا حمل على اليحموم، والتَّعرض لما لم تسبق بع العادة من الموم وقد بلغك ما لقي ولد رهيرٍ لمَّا وقص عن العتد ذي المير، فسلك في طريقٍ وعبٍ، وما انتفع ببكاء كعب؛ وكذلك ولدك علقمة، حلَّت في العاجلة به النقمة، لمَّا ركب للصَّيد فأصبح كجدَّه زيد، وقلت فيه:
| ||
أنعم صباحاً علقم بن عديّ | أثويت اليوم لم ترحل! |
وإنِّي لأحار يا معاشر العرب في هذه الأوزان التي نقلها عنكم الثّقات، وتداولتها الطبّقات؛ ومن كلمتك التي على الرَّاء، وأوّلها:
| ||
قد آن أن تصحو أو تقصر، | وقد أتى لما عهدت عصر | |
عن مبرقات بالبرين، وتب | دو بالأكف اللامعات سور | |
بيض عليهنَّ الدَّمقس وبال | أعناق من تحت الأكفة درّ |
ويجوز أن يقذفني السابح على صخور زمردٍ فيكسر لي عضداً أو ساقاً، فأصير ضحكةً في أهل الجنان. فيبتَّسم عديّ ويقول: ويحك! أما علمت أنَّ الجنة لا يرهب لديها السَّقم، تنزل بسكنها النَّقم؟ فيركبان سابحين من خيل الجنة، مركب كلِّ واحدٍ منهما لو عدل بممالك العاجلة الكائنة من أوَّلها إلى آخرها لرجح بها، وزاد في القيمة عليها. فإذا نظر إلى صوار ترتع في دقاري الفردوس، والدَّقاريُّ: الرياض، صوب مولاي الشيخ المطرد، وهو الرُّمح القصير، لأخنس ذيَّال قد رتع هناك طويل أيام وليال؛ فإذا لم يبق بين السنان وبينه إلا قيد ظفرٍ، قال: أمسك، رحمك الله، فإني لست من وحش الجنَّة التي أنشأها الله سبحانه ولم تكن في الدار الزائلة، ولكنيَّ كنت في محلة الغرور أرود في بعض القفار، فمرَّ بي ركب مؤمنون قي كري زادهم، فصرعوني واستعانوا بي على السَّفر، فعوضني الله، جلَّت كلمته، بأن أسكنني في الخلود. فيكفُّ عنه مولاي الشيخ الجليل.
ويعمد لعلجٍ وحشيٍّ، ما التلف عنده بمخشيّ، فإذا صار الخرص منه بقدر أنملة قال: أمسك يا عبد الله، فإن الله أنعم عليَّ ورفع عني البؤس، وذلك أنّي صادني صائد بمخلب، وكان إهابي له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، وصراه للسَّانية صارٍ، فاتُّخذ منه غربٌ، شفي بمائة الكرب، وتطَّهر بنزيعه الصَّالحون، فشملتني بركةٌ من أولئك، فدخلت الجنَّة أرزق فيها بغير حساب. فيقول الشيخ:ى فينبغي أن تتميزَّن، فما كان منكنَّ دخل الفانية فما يجب أن يختلط بوحوش الجنَّة. فيقول ذلك الوحشيُّ: لقد نصحتنا نصح الشقيق، وسوف نمتثل ما أمرت. وينصرف مولاي الشيخ الجليل وصاحبه عديّ فإذا هما برجلٍ يحتلب ناقةً في إناءٌ من ذهب، فيقولان: من الرَّجل؟ فيقول: أبو ذؤيب الهذليُّ. فيقولان: حييَّت وسعدت، لا شقيت في عيشك ولا بعدت، أتحتلب مع أنهار لبن؟ كأنَّ ذلك من الغبن. فيقول: لا بأس! إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنيص، وإني ذكرت قولي في الدّهر الأول:
| ||
وإنَّ حديثاً منك، لو تعلمينه، | جنى النّحل في ألبان عوذٍ مطافل | |
مطافيل أبكارٍ، حديث نتاجها | تشاب بماٍ مثل ماء المفاصل |
فقيَّض الله بقدرته لي هذه النّاقة عائذاً مطفلاً. وكان بالنَّعم متكفّلاً، فقمت أحتلب على العادة، وأريد أن أشوب ذلك بضّرب نحلٍ، تبعن في الجنّة طريقة الفحل. فإذا امتلأ إناؤه من الرَّسل، كوّن الباري، جلَّت عظمته، خليّةً من الجوهر، رتع ثولها في الزَّهر، فاجتنى ذلك أبو ذؤيب، ومزج حليبه بلا ريب، فيقولك ألا تشربان؟ فيجرعان من ذلك المحلب جرعاً لو فرَّقت على أهل سقر لفازوا بالخلد شرعاً. فيقول عديُّ: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربنا بالحقَّ. ونودوا أن تلكم الجنّة، أورثتموها بما كنتم تعملون. ويقول، أدام تمكينه، لعديّ: جئت بشيئين في شعرك، وددت أنَّك لم تأت بهما، أحدهما قولك:
| ||
فصاف، يفرّي جلَّه عن سراته | يبذُّ الرّهان فارهاً متشابعاً |
والآخر قولك:
| ||
فليت دفعت الهمَّ عنّي ساعة | فنمسي على ما خيَّلت ناعمي بال |
فيقول عديُّ بعباديته: يا مكبور، لقد رزقت ما يكب أن أن يشغلك عن القريض، إنما ينبغي أن تكون كما قيل لك: " كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون " قوله يامكبور، يريد: يامجبور، فجعل الجيم كافاً، وهي لغةٌ رديئةٌ يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث: أن الحارث بن هانىء بن أبي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط فنادى: يا حكر يا حكر، يريد: يا حجر بن عديَّ الأدبر. فعطف عليه فاستنفذه. ويكب: في معنى يجب. فيقول، زاد الله في أنفاسه: إنَّي سألت ربَّي عزَّ سلطانه، ألاّ يحرمني في الجنّة تلذُّذاً بأدبي الذي كنت أتلذّذ به في عاجلتي، فأجابني إلى ذلك، وله الحمد في السّموات والأرض وعشيًّا وحين تظهرون.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النابغتان
ويمضي في نزهته تلك بشابيَّن يتحادثان، كلُّ واحدٍ منهما على باب قصرٍ من درٍّ؛ قد أعفي من البؤّس والضُّرّ. فيسلّم عليهما ويقول: من أنتما رحمكما الله، وقد فعل؟ فيقولان: نحن النابغتان، نابغة بني جعدة ونابغة بني ذبيان. فيقول، ثبَّت الله وطأته: أمّا نابغة جعدة فقد أستوجب ما هو فيه بالحنيفيَّة، وأمّا أنت يا أبا أمامة فما أدري ما هيّانك؟ أي ما جهتك، فيقول الذُّبيانيُّ: إني كنت مقرّاً بالله، وحججت البيت في الجاهليَّة، ألم تسمع قولي:
| ||
فلا لعمر الذي قد زرته حججاً، | وما هريق على الأنصاب من جسد | |
والمؤمن العائذات الطير تمسحها | ركبان مكَّة بين الغيل والسَّند |
وقولي:
| ||
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً، | وهل يأثمن ذو إمَّةٍ وهو طائع | |
بمصطحباتٍ من لصافٍ وثبرةٍ، | يردن ألالاً، سيرهنّ تدافع |
ولم أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجّة عليَّ بخلافه. وإنَّ الله تقدَّست أسماؤه، عزَّ ملكاً وجلَّ، يغفر ما عظم بما قلَّ. فيقول، لا زال قوله عالياً: يا أبا سوادة، ويا أبا أمامة، ويا أبا ليلى، اجعلوها ساعة منادمةٍ، فإنَّ من قول شيخنا العباديّ:
| ||
أيُّها القلب تعلَّل بددن | إنَّ همَّي في سماعٍ وأذن | |
وشرابٍ خسروانّيٍ، إذا | ذاقه الشيخ تغنَّى وأرجحن |
وقال:
| ||
وسماعٍ يأذن الشّيخ له | وحديثٍ مثل ماذيٍّ مشار |
فكيف لنا بأبي بصير؟ فلا تتُّم الكلمة إلا وأبو بصيرٍ قد خمسهم، فيسبَّحون الله ويقدّسونه ويحمدونه على أن جمع بينهم، ويتلو، جمّل الله ببقائه، هذه الآية: " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " . فإذا أكلوا من طيّبات الجنَّة، وشربوا من شرابها الذي خزنه الله لعباده المتّقين قال، كتَّ الله أنف مبغضه: يا أبا أمامة إنَّك لحصيف الرأي لبيبٌ، فكيف حسَّن لك لبُّك أن تقول للنُّعمان بن المنذر:
| ||
زعم الهمام بأنَّ فاها باردٌ | عذبٌ. إذا ما ذقته قلت ازدد | |
زعم الهمام، ولم أذقه، بأنّه | يشفى ببرد لثاتها العطش الصدى |
ثمَّ استمرَّ بك القول، حتى أنكره عليك خاصَّةٌ وعامَّةٌ؟ فيقول النابغة بذكاءٍ وفهم: لقد ظلمني من عاب عليَّ، ولو أنصف لعلم أنَّني احترزت أشد احترازٍ. وذلك أنَّ النعمان كان مستهتراً بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، فأردت ذلك في خلدي فقلت: إن وصفتها وصفاً مطلقاً، جاز أن يكون بغيرها معلَّقاً. وخشيت أن أذكر اسمها في النَّظم، فلا يكون ذلك موافقاً للملك، لأنَّ الملوك يأنفون من تسمية نسائهم، فرأيت أن أسند الصَّفة إليه فأقول: زعم الهمام، إذ كنت لو تركت ذكره لظنَّ السَّامع أن صفتي على المشاهدة، والأبيات التي جاءت بعد، داخلةٌ في وصف الهمام، فمن تأمَّل المعنى وجده غير مختلٍّ. وكيف ينشدون: وإذا نظرت فرأيت أقمر مشرقاً وما بعده؟ فيقول، أرغم الله أنف شانئه: ننشد: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، على الخطاب. فيقول النابغة: قد يسوغ هذا، ولكنَّ الأجود أن تجعلوه إخباراً عن المكلّم، لأنّ قولي: زعم الهمام يؤدّي معنى قولنا: قال الهمام، فهذا أسلم، إذ كان الملك إنما يحكي عن نفسه. وإذا جعلتموه على الخطاب قبح: إن نسبتموه إليَّ فهو منديةٌ، وإن نسبتموه إلى النّعمان فهو إزراءٌ وتنقُّض. فيقول: أيدَّ الله الفضل بزيادة مدتّه: الله درُّك يا كوكب بني مرّة. ولقد صحف عليك أهل العلم من الرواة، وكيف لي بأبوي عمرو: المازنيّ والشّيبانيّ، وأبي عبيدة، وعبد الملك، وغيرهم من النّقلة لأسألهم: كيف يروون، وأنت شاهدٌ، لتعلم أني غير المتحرّض ولا الولاَّغ؟ فلا يقرُّ هذا القول في حذنَّة أبي أمامة إلاّ والرواة أجمعون قد أحضرهم الله القادر، من غير مشقّةٍ نالتهم، ولا كلفةٍ في ذلك أصابتهم، فيسلّمون بلطفٍ ورفقٍ. فيقول، أعلى الله قوله: من هذه الشّخوص الفردوسيَّة؟ فيقولون: نحن الرُّواة الذين شئت إحضارهم آنفاً فيقول: لا إله إلاّ الله مكونَّاً مدوّناً، وسبحان الله باعثاً وارثاً، وتبارك الله قادراً لا غادراً!! كيف تروون أيُّها المرحومون قول النابغة في الداليَّة: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، أبفتح التاء أم بضمّها؟ فيقولون: بفتحها. فيقول: هذا شيخنا أبو أمامة يختار الضَّمّ، ويخبر أنّه حكاه عن النَّعمان. فيقولون: هو كما جاء في الكتاب الكريم: " والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " فيقول، ثبّت الله كلمته على التوفيق: مضى الكلام في هذا يا أبا أمامة، فأنشدنا كلمتك التي أوّلها:
| ||
ألمَّا على المطمورة المتأبّدة | أقامت بها المربع المتجرّدة | |
مضمَّخة بالمسك مخضوبة الشَّوى | بدرٍ وياقوتٍ لها متقلّدة | |
كأنَّ ثناياها، وما ذقت طعمها | مجاجة نحلٍ في كميتٍ مبرَّده | |
ليقرر بها النّعمان عيناً فإنّها | له نعمةٌ، في كل يومٍ مجدده |
فيقول أبو أمامة: ما أذكر أنّي سلكت هذا القريَّ قطُّ. فيقول مولاي الشيخ، زيَّن الله أيّامه ببقائه: إن ذلك لعجبٌ، فمن الذي تطوَّع فنسبها إليك؟ فيقول: إنَّها لم تنسب إليَّ على سبيل التَّطوع، ولكن على معنى الغلط والتَّوهمُّ، ولعلَّها لرجل من بني ثعلبة بن سعد. فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شابٌّ في الجاهليّة ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنَّه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاةً من النُّعمان فلم يصل إليه. فيول نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون! ويقول الشيخ، كتب الله لو مثوبة المتقيّن، لنابغة بني جعدة: يا أبا ليلى ، أنشدنا كلمتك التي على الشين التي تقول فيها:
| ||
ولقد أغدو بشربٍ أنفٍ | قبل أن يظهر في الأرض ربش | |
معنا زقٌّ إلى سهمةٍ | تسق الآكال من رطبٍ وهشّ | |
فنزلنا بمليعٍ مقفرٍ | مسَّه طل من الدَّجن ورشّ | |
ولدينا قينةٌ مسمعةٌ | ضخمة الأرداف من غير نفش | |
وإذا نحن بإجل نافرٍ | ونعامٍ خيطه مثل الحبش | |
فحملنا ماهناً ينصفنا | فوق يعبوب من الخيل أجش | |
ثمّ قلنا: دونك الصَّيد به | تدرك المحبوب منَّا وتعش | |
فأتانا بشبوبٍ ناشط | وظليمٍ، ومعه أمُّ خشش | |
فاشتوينا من غريض طيّبٍ | غير ممنونٍ، وأبنا بغبش |
فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشّين قطُّ رويّاً، وفي هذا الشعر ألفاظٌ لم أسمع بها قطُّ: ربشٌ، وسهمة، وخششٌ. فيقول مولاي الشيخ الأديب المغرم بالعلم: يا أبا ليلى، لقد طال عهدك بألفاظ الفصحاء، وشغلك شرابٌ ما جاءتك بمثله بابل ولا أذرعات، وثنتك لحوم الطَّير الرّاتعة في رياض الجنَّة، فنسيت ما كنت عرفت، ولا ملامة إذا نسيت ذلك، " إنّ أصحاب الجنَّة اليوم في شغلٍ فاكهون، هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متَّكئون، لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدَّعون " . أما ربش، فمن قولهم: أرضٌ ربشاء إذا ظهرت فيها قطعٌ من النَّبات وكأنَّها مقلوبةٌ عن برشاء، وأمَّا السهمة فشبيهةٌ بالسُّفرة تتَّخذ من الخوص، وأمّا خشش فإنّ عمرو الشَّيبانيّ ذكر في كتاب الخاء أن الخشش ولد الظبَّية. فكيف تنشد قولك:
| ||
وليس بمعروف لنا أن نردّها | صحاحاً، ولا مستنكراً أن تعقَّرا |
أتقول: ولا مستنكراً، أم مستنكرٍ؟ فيقول الجعديُّ: بل مستنكراً. فيقول الشيخ: فإن أنشد منشدٌ: مستنكرٍ، ما تصنع به؟ فيقول: أزجره وأزبره، نطق بأمرٍ لا يخبره. فيقول الشيخ، طول الله له أمد البقاء: إنّا لله وإنَّا إليه راجعون، ما أرى سيبويه إلاَّ وهم في هذا البيت، لأنَّ أبا ليلى أدرك جاهليةً وإسلاماً، وغذي بالفصاحة غلاماً. وينثني إلى أعشى قيس فيقول: ... يا أبا بصيرٍ أنشدنا قولك:
| ||
أمن قتلة بالأنقا | ء دارٌ غير محلولة | |
كأن لم تصحب الحيَّ | بها بيضاء عطبوله | |
أناةٌ ينزل القوسيَّ | منها منظرٌ هوله | |
وما صهباء من عانة | في الذارع محموله | |
تولَّى كرمها أصه | ب يسقيه ويغدو له | |
ثوت في الخرس أعواماً | وجاءت، وهي مقتوله | |
بماء المزنة الغرّا | ء راحت، وهي مشموله | |
بأشهى منك للظّمآ | ن لو أنَّك مبذوله |
فيقول أعشى قيس: ما هذه ممّا صدر عنَّي، وإنَّك منذ اليوم لمولعٌ بالمنحولات. ويمرُّ رفٌ من إوزّ الجنَّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ، ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم، فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الرَّوضة فنغنّي لمن فيها من شربٍ. فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنَّة، وبأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي. فيعجب، وحقَّ له العجب، وليس ذلك ببديعٍ من قدوة الله جلَّت عظمته، وعزَّت كلمته، وسبغت على العالم نعمته، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمته، ووقعت بالكافر نقمته. فيقول لإحداهنَّ على سبيل الامتحان: اعملي قول أبي أمامة، وهو هذا القاعد:
| ||
أمن آل ميَّة رائحٌ أو مغتد | عجلان ذا زادٍ وغير مزوَّد؟ |
ثقيلاً أوَّل. فتصنعه، فتجيء به مطرباً، وفي أعضاء السامع متسربّاً. ولو نحت صنمٌ من أحجار، أو دفٌّ أشر عند النَّجَّار، ثمّ سمع ذلك الصوت لرقص، وإن كان متعالياً هبط ولم يراع أن يوقص. فيرد عليه، أورد الله قلبه المحابّ، زولٌ، تعجز عنه الحيل والحول، فيقول: هلمَّ خفيف الثَّقيل الأوَّل! فتنبعث فيه بنغمٍ لو سمعه الغريض، لأقرَّ أنَّ ما ترنَّم به مريضٌ. فإذا أجادته، وأعطته المهرة وزادته، قال: عليك بالثقيل الثاني، ما بين مثالثك والمثاني؛ فتأتي به على قريٍّ لو سمعه عبد الله بن جعفر لقرن أغانيَّ بديحٍ إلى هدير ذي المشفر. فإذا رأى ذلك قال: سبحان الله! كل ما كشفت القدرة بدت لها عجائب، لا تثبت لها النجائب؛ فصيري إلى خفيف الثقيل الثاني، فإنّك لمجيدةٌ محسنة، تطرد بغنائك السّنة. فإذا فعلت ما أمر به، أتت بالبرحين، وقالت للأنفس: ألا تمرحين؟ ثمَّ يقترح عليها: الرَّمل وخفيفه، وأخاه الهزج وذفيفة؛ وهذه ألألحان الثمانية، للأذن تمنيها المانية. فإذا تيقّن لها حذافةً، وعرف منها بالعود لباقةً، هلَّل وكبَّر، وأطال حمد ربَّه واعتبر. وقالك ويحك! ألم تكوني السّاعة إوزَّةً طائرة، والله خلقك مهديَّة لا حائرة؟ فمن أين لك هذا العلم، كأنّك لجذل النفس خلم؟ لو نشأت بين معبدٍ وابن سريج، لما هجت السامع بهذا الهيج، فكيف نفضت بله إوزّ، وهززت إلى الطَّرب أشدَّ الهزَّ؟ فتقول: وما الذي رأيت من قدرة بارئك؟ إنّك على سيف بحرٍ، لا يدرك له عبرٌ، سبحان من يحيي العظام وهي رميم.
لبيد
فبينا هم كذلك، إذ مرَّ شابٌ في يده محجن ياقوت، ملكه بالحكم الموقوت، فيسلّم عليهم فيقولون: من أنت؟ فيقول: أنا لبيد بن ربيعة بن كلاّب. فيقولون: أكرمت أكرمت! لو قلت: لبيدٌ وسكتّ، لشهرت باسمك وإن صمت. فما بالك في مغفرة ربَّك؟ فيقول: أنا بحمد الله في عيشٍ قصّر أن يصفه الواصفون، ولديَّ نواصف وناصفون، لا هرم ولا برم. فيقول الشيخ: تبارك الملك القدُّوس، ومن لا تدرك يقينه الحدوس، كأنَّك لم تقل في الدار الفانية:
| ||
ولقد سئمت من الحياة وطولها | وسؤال هذا النّاس: كيف لبيد |
ولم تفه بقولك:
| ||
فمتى أهلك فلا أحفله | بجلى الآن من العيش بجل! | |
من حياةٍ قد مللنا طولها | وجديرٌ طول عيشٍ أن يملّ؟ |
فأنشدنا ميميتَّك المعلَّقة. ... فيقول: هيهات! إنَّي تركت الشعر في الدار الخادعة، ولن أعود إليه في الدار الآخرة، وقد عوضّت ما هو خيرٌ وأبرّ. فيقول: أخبرني عن قولك:
| ||
ترَّاك أمكنةٍ، إذا لم أرضها | أو، يرتبط بعض النُّفوس حمامها |
هل أردت ببعض معنى كلٍّ؟ فيقول لبيدٌ: كلا، إنَّما أردت نفسي، وهذا كما تقول للرَّجل: إذا ذهب مالك، أعطاك بعض الناس مالاً، وأنت تعني نفسك في الحقيقة، وظاهر الكلام واقعٌ على كلّ إنسان، وعلى كلّ فرقة تكون بعضاً للناس..فيقول، لا فتىء خصمه مفحماً: أخبرني عن قولك: أو يرتبط، هل مقصدك: إذا لم أرضها أو يرتبط، فيكون: لم يرتبط؟ أم غرضك: أترك المنازل إذا لم أرضها، فيكون يرتبط كالمحمول على قولك: ترَّاك أمكنةٍ؟ فيقول لبيدٌ: الوجه الأوّل أردت. فيقول، أعظم الله حظّه في الثواب: فما مغزاك في قولك:
| ||
وصبوح صافيةٍ وجذب كرينة | بموتَّر تأتاله إبهامها؟ |
فإن الناس يروون في هذا البيت على وجهين: منهم من ينشده تأتاله، يجعله تفتعله، من آل الشيء يؤوله إذا ساسه، ومنهم من ينشد: تأتاله من الإتيان. فيقول لبيدٌ: كلا الوجهين يحتمله البيت، فيقول، أرغم الله حاسده: إنّ أبا عليّ الفارسيّ كان يدّعي، في هذا البيت، أنَّه مثل قولهم: استحى يستحي، على مذهب الخليل وسيبويه لأنهما يريان أنَّ قولهم: استحيت، إنما جاء على قولهم استحاي، كما أن استقمت على استقام، وهذا على مذهبٌ ظريفٌ، لأنّه يعتقد أنّ تأتى مأخوذةٌ من أوى، كأنّه بني منها افتعل، فقيل: ائتاي، فأعلّت الواو كما تعلُّ في قولنا: اعتان من العون، واقتال من القول. ثمّ قيل: ائتيت، فحذفت الألف، كما يقال: اقتلت. ثمّ قيل في المستقبل، بالحذف، كما قيل: يستحى. فيقول لبيدٌ: معترضٌ لعننٍ لم يعنه، الأمر أيسر ممّا ظنَّ هذا المتكلَّف. ويقول لبيدٌ: سبحان الله يا أبا بصير، بعد إقرارك بما تعلم، غفر لك وحصلت في جنّة عدن؟ فيقول مولاي الشيخ متكلّماً عن الأعشى: كأنّك يا أبا عقيلٍ تعني قوله:
| ||
وأشرب بالرّيف حتى يقا | ل: قد طال بالرّيف ما قد دجن | |
صريفيّةً طيّباً طعمها | تصفَّق ما بين كوبٍ ودنّ | |
وأقررت عيني من الغانيا | ت، إمَّا نكاحاً وإمّا أزنّ |
وقوله:
| ||
فبتُّ الخليفة من بعلها | وسيَّد تيّا ومستادها |
وقوله:
| ||
فظللت أرعاها، وظلَّ يحوطها | حتى دنوت إذ الظّلام دنا لها | |
فرميت غفلة عينه عن شاته | فأصبت حبَّة قلبها وطحالها |
ونحو ذلك ممّا روي عنه؛ فلا يخلو من أحد أمرين: إمَّا أن يكون قاله تحسيناً للكلام على مذهب الشُّعراء، وإمّا أن يكون فعله فغفر له. قل يا عبادي الذَّين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله، إنَّ الله يغفر الذُّنوب جميعاً، إنَّه هو الغفور الرَّحيم.. إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً. ويقول، رفع الله صوته، لنابغة بني جعدة: يا أبا ليلى، إنَّي لأستحسن قولك:
| ||
طيبّة النَّشر، والبداهة، وال | علاَّت، عند الرُّقاد والنَّسم | |
كأنَّ فاها، إذا تنبَّه، من | طيب مشيمٍّ وحسن مبتسم | |
يسنُّ بالضّرو من براقش، أو | هيلان، أو ضامرٍ من العتم | |
ركزّ في السام والزَّبيب، أقا | حيُّ كثيب، تعلُّ بالرّهم | |
بماء مزنٍ، من ماء دومة قد | جرّد في ليل شمال شبم | |
شجّت به قرقفٌ من الرّاح، إس | فنط عقارٍ، قليلة النَّدم | |
ألقي فيها فلجان من مسك دا | رين، وفلجٌ من فلفل ٍ ضرم | |
ردّت إلى أكلف المناكب، مر | سومٍ، مقيم في الطَّين؛ محتدم | |
جونٍ كجوز الحمار، جرَّدة ال | بيطار، لا ناقسٍ، ولا هزم | |
تهدر فيه، وساورنه كما | رجَّع هدرٌ من مصعبٍ قطم |
أين طيب هذه الموصوفة، من طيب من تشاهده من الأتراب العرب؟ كلاّ والله! أين الأهل من الغرب؟ وأين فوها المذكّر، من أفواهٍ ما ولب إليها المنكر؟ إنَّها لتفضل على تلك، فضل الدُّرة المختزنة على الحصاة الملقاة، والخيرات الملتمسة على الأعراض المتّقاة. ما سامك أيّها الرَّجل وزبيبك؟ ما حسن في العاجلة حبيبك. وإنَّ ثغراً يفتقر إلى قضيب البشام ليجشم حليفه بعض الإجشام! لولا أنَّه ضري بالحبر ما افتقر إلى ضرو مطلوب، أو غصنٍ من العتم مجلوب. وما الماء الذي وصفته من دومة، وغيره ينافي اللَّومة؟ أليس هو إن أقام أجن، ولا يدوم للماكث إذا دجن؟ وإن فقد برد الشَّمأل؛ رجع كغيره من السَّمل. تلقي الغسر فيه الهابة، وتشبُّه الغرَّاء الشابَّة. والغرَّاء: الهاجرة ذات السَّراب. وما قرقفك هذه المشجوجة، ولو أنّها للشّربة محجوبة؟ قربت من حاجتك فلا تنط، لا كانت الفيهج ولا الإسفنط؛ طالما ثملت في وفقتك فندمت، وأنفقت ما تملك فعدمت. ما عقارك وما فلجاك؟ زالت عن مقلتك دجاك ؟! ولو دخل مسك دارين، جنة ربّنا الموهوبة لغير الممارين، لعدَّ في ترابها الذَّفر كصيق المقتول، أو دنس قدمٍ مبتول. زعمت أنَّها تطيّب بالفلفل، وشبهَّها غيرك بنسيم القرنفل ! إنّ في هذه المنزلة لنشراً، لا يزيد على نشر الفانية عشراً، ولكن يشفُّ بعددٍ لا يدرك، ليس وراءه مترك. نزاهة لهذه القهوة أن تدَّخر في أكلف مناكب، من حفظه عدَّ النّاكب! أصبح بطينها مرسوماً، وضع في المتربص وسوماً، فهو جون كجوز الحمار، لا سلم ذخراً للخمَّار! ليس بناقسٍ ولكن منقوص، ذمّه المتحنّف ومن فناؤه القوس تهدر فيه الصهباء المعتصرة وهي قرب نتاج، كالسِّقاب الموضوعة بغير خداج. فإذا وصلت سنَّ البازل بطل الهدير، وأدارها في الكأس مدير. ويخطر له، جعل الله الإحسان إليه مربوباً، وودَّه في الأفئدة مشبوباً، غناء القيان بالفسطاط ومدينة السّلام. ويذكر ترجيعهنَّ ميميّة المخبَّل السّعدي فتندفع تلك الجواري التي نقلتهنّ القدرة من خلق الطَّير اللاقطة، إلى خلق حورٍ غير متساقطة، تلحِّن قول المخبَّل السَّعديّ:
| ||
ذكر الربَّاب وذكرها سقم | وصبا، وليس لمن صبا عزم | |
وإذا ألمَّ خيالها طرفت | عيني، فماء شؤونها سجم | |
كاللّؤلؤ المسجور توبع في | سلك النِّظام، فخانه النَّظم |
فلا يمرُّ حرف ولا حركة، إلاَّ ويوقع مسرّةً لو عدلت بمسرّات أهل العاجلة، منذ خلق الله آدم إلى أن طوى ذرِّيته من الأرض، لكانت الزائدة على ذلك، زيادة اللّج المتموج على دمعة الطّفل، والهضب الشامخ على الهباءة المنتفضة من الكفل. ويقول لندمائه: ألا تسمعون إلى قول السّعديّ:
| ||
وتقول عاذلتي، وليس لها | بغدٍ، ولا ما بعده علم | |
إنَّ الثوّاء هو الخلود، وإ | نَّ المرء، يكرب يومه العدم | |
ولئن بنيت لي المشقَّر في | عنقاء، تقصر دونها العصم | |
لتنقِّبن عني المنيَّة إ | نَّ الله ليس كحكمه حكم |
فيقول إنّه المسكين، قال هذه الأبيات، وبنو آدم في دار المحن والبلاء، يقبضون من الشّدائد على السُّلاّء؛ والوالدة تخاف المنيَّة على الولد، ولا يزال رعبها في الخلد؛ والفقر يرهب ويتَّقى، والمال يطلب ويستبقى؛ والسَّغب موجود والظَّماء، والكمه معروف والكماء؛ ولم يكفف للغير عنان، ولا سكنت بالعفو الجنان. فالحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن إنَّ ربَّنا لغفور شكور. الذي أحلَّنا دار المقامة من فضله، لا يمسُّنا فيها نصب ولا يمسُّنا فيها لغوب. فتبارك الله القدُّوس! نقل هؤلاء المسمعات من زيِّ ربَّات الأجنحة، إلى زيِّ ربات الأكفال المترجِّحة؛ ثمّ ألهمهنَّ بالحكمة حفظ أشعارٍ لم تمرر قبل بمسامعهنَّ، فجئن بها متقنةً، محمولة على الطَّرائق ملحَّنة، مصيبةً في لحن الغناء، منزّهةً عن لحن الهجناء. ولقد كانت الجارية في الدار العاجلة، إذا تفرِّست فيها النَّجابة، وأحضرت لها الملحِّنة لتلقي إليها ما تعرف من ثقيلٍ وخفيف، وتأخذها بمأخذٍ غير ذفيف؛ تقيم معها الشّهر كريتاً، قبل أن تلقَّن كذباً حنبريتاً: بيتاً من الغزل أو بتيتن، ثم تعطى المائة أو المائتين. فسبحان القادر على كل عزيز، والمميِّز لفضله كلَّ مزيز.
رباب
ويقول نابغة بني جعدة، وهو جالس يستمع: يا أبا بصير أهذه الربَّاب التي ذكرها السّعديُّ، هي ربابك التي ذكرتها في قولك:
| ||
بعاصي العواذل، طلق اليدي | ن يعطي الجزيل، ويرخي الإزارا | |
فما نطق الدِّيك حتى ملأ | ت كوب الزَّباب له فاستدارا | |
إذا انكبَّ أزهر بين السُّقا | ة تراموا به غرباً أو نضاراً |
فيقول أبو بصيرٍ: قد طال عمرك يا أبا ليلى، وأحسبك أصابك الفند، فبقيت على فندك إلى اليوم! أما علمت أنَّ اللواتي يسمَّين بالرَّباب أكثر من أن يحصين؟ أفتظن أنَّ الربّاب هذه، هي التي ذكرها القائل:
| ||
ما بال قومك يا رباب | خزراً كأنّهم غضاب | |
غاروا عليك، وكيف ذا | ك ودونك الخرق اليباب |
أو التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:
| ||
دار لهندٍ، والربَّاب، وفرتنى | ولميس، قبل حوادث الأيام |
لعلّ أمّها أمُّ الربّاب المذكورة في قوله:
| ||
وجارتها أمِّ الربّاب بمأسل | ..................... |
فيقول نابغة بني جعدة: أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة، وقد مُتَّ كافراً، وأقررت على نفسك بالفاحشة، وأنا لقيت النبيَّ، صلى الله عليه وسلّم، فأنشدته كلمتي التي أقول فيها:
| ||
بلغنا السّماء مجدنا وسناءنا | وإنّا لنبغي فوق ذلك مظهرا! |
فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقلت: إلى الجنّة بك يا رسول الله! فقال: لا يفضض الله فاك. أغرّك أن عدَّك بعض الجهَّال رابع الشُّعراء الأربعة؟ وكذب مفضِّلك، وإنِّي لأطول منك نفساً، وأكثر تصرُّفاً. ولقد بلغت بعدد البيوت ما لم يبلغه أحد من العرب قبلي، وأنت لاهٍ بعفارتك، تفتري على كرائم قومك. وإن صدقت فخزياً لك ولمقارّك! ولقد وفِّقت الهزّانيّة في تخليتك: عاشرت منك النّابح، عشي فطاف الأحوية على العظام المنتبذة، وحرص على انتباث الأجداث المنفردة. فيغضب أبو بصير فيقول: أتقول هذا وإنَّ بيتاً ممّا بنيت ليعدل بمائةٍ من بنائك؟ وإن أسهبت منطقك، فإنَّ المسهب كحاطب الليل. وإنّي لفي الجرثومة من ربعية الفرس، وإنّك لمن بني جعدة، وهل جعدة إلاّ رائدة ظليم نفور؟ أتعيِّرني في مدح الملوك؟ ولو قررت يا جاهل على ذلك لهجرت إليه أهلك وولدك، ولكنّك خلقت جباناً هداناً، لا تدلج في الظّلماء الدّاجية، ولا تهجَّر في الوديقة الصاخدة. وذكرت لي طلاق الهزّانية ولعلّها بانت عني مسرّة الكمد، والطّلاق ليس بمنكرٍ للسُّوق ولا للملوك. فيقول الجعديُّ: اسكت يا ضلَّ بني ضلّ، فأقسم أنّ دخولك الجنَّة من المنكرات، ولكنَّ الأقضية جرت كما شاء الله! لحقُّك أن تكون في الدّرك الأسفل من النّار، ولقد صلي بها من هو خير منك، ولو جاز الغلط على ربِّ العزّة، لقلت: إنَّك غلط بك! ألست القائل:
| ||
فدخلت إذ نام الرّقي | ب، فبتُّ دون ثيابها | |
حتى إذا ما استرسلت | للنّوم، بعد لعابها | |
قسَّمتها نصفين ك | لُّ مسوَّدٍ يرمى بها | |
فثنيت جيد غريرةٍ | ولمست بطن حقابها | |
كالحقَّة الصّفراء صا | ك عبيرها بملابها | |
وإذا لها تامورة | مرفوعة لشرابها |
واستقللت ببني جعدة، وليوم من أيَّامهم يرجح بمساعي قومك. وزعمتني جباناً وكذبت! لأنا أشجع منك ومن أبيك، وأصبر على إدلاج المظلمة ذات الأريز، وأشدُّ إيغالاً في الهاجرة أمِّ الصَّخدان. ويثب نابغة بني جعدة على أبي نصير فيضربه بكوز من ذهب. فيقول: أصلح الله به وعلى يديه: لا عربدة في الجنان، إنّما يعرف ذلك في الدار الفانية بين السَّفلة والهجاج، وإنّك يا أبا ليلى لمتنزِّع. وقد روى في الحديث، أنَّ رجلاً صاح بالبصرة: يا آل قيسٍ! فجاء النابغة الجعديُّ بعصيّةٍ له، فأخذه شرط ابي موسى الأشعريّ فجلده لأنَّ النبيَّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: من تعزىّ بعزاء الجاهليّة فليس منّا. ولو لا أنَّ في الكتاب الكريم: " لا يصدَّعون عنها ولا ينزفون " لظننَّاك أصابك نزف في عقلك. فأمّا أبو بصيرٍ فما شرب إلاّ اللَّبن والعسل، وإنَّه لوقور في المجلس، لا يخفُّ عند حلِّ الحبوة. وإنّما مثله معنا مثل أبي نواسٍ في قوله:
| ||
أيُّها العاذلان في الراح لوما | لا أذوق المدام إلاَّ شميما | |
نالني بالعتاب فيها إمام | لا أرى لي خلافه مستقيما | |
إنّ حظيَّ منها، إذا هي دارت | أن أراها، وأن أشمَّ النّسيما | |
فاصرفاها إلى سواي، فإنّي | لست إلا على الحديث نديما | |
فكأنّي وما أحسِّن منها | قعديُّ يحسِّن التَّحكيما | |
لم يطق حمله السّلاح إلى الحر | ب، فأوصى المطيق ألاّ يقيما |
فيقول نابغة بني جعدة قد كان النّاس في أيّام الخادعة يظهر عنهم السَّفه بشرب الّلبن، لا سيَّما إذا كانوا أرقَّاء لئاماً، كما قال الراجز:
| ||
يا ابن هشام أهلك النّاس اللَّبن | فكلُّهم يغدو بسيفٍ وقرن |
وقال آخر:
| ||
ما دهر ضبَّة، فاعلم، نحت أثلتنا | وإنّما هاج من جهَّالها اللَّبن |
وقيل لبعضهم: متى يخاف شرُّ بني فلانٍ؟ قال: إذا ألبنوا. فيريد، بلَّغه الله إرادته، أن يصلح بين النُّدماء، فيقول: يحب أن يحذر من ملكٍ يعبر فيرى هذا المجلس، فيرفع حديثه إلى الجبار الأعظم، فلا يجرُّ ذلك إلاَّ ما تكرهان، واستغنى ربُّنا أن ترفع الأخبار إليه، ولكن جرى مجرى الحفظة في الدار العاجلة، أما علمتما أنّ آدم خرج من الجنَّة بذنبٍ حقير، فغير آمنٍ من ولد أن يقدر له مثل ذلك. فسألتك يا أبا بصير بالله هل يهجس لك تمنَّي المدام؟ فيقول: كلا والله! إنها عندي لمثل المقر لا يخطر ذكرها بالخلد. فالحمد لله الذي سقاني عنها السُّلوانة، فما أحفل بأمِّ زنبقٍ أخرى الدهر. وينهض نابغة بني جعدة مغضباً، فيكره، جنَّبه الله المكاره، انصرافه على تلك الحال، فيقول: يا أبا ليلى، إنَّ الله، جلَّت قدرته، منَّ علينا بهؤلاء الحور العين اللواتي حوَّلهنَّ عن خلق الإوز، فاختر لك واحدة منهنَّ فلتذهب معك إلى منزلك، تلاحنك أرقَّ اللَّحان. وتسمعك ضروب الألحان. فيقول لبيد بن ربيعة: إن أخذ أبو ليلى قينةً، وأخذ غيره مثلها، أليس ينتشر خبرها في الجنَّة، فلا يؤمن أن يسمَّى فاعلو ذلك أزواج الإوزّ. فتضرب الجماعة عن اقتسام أولئك القيان.
حسان بن ثابت
ويمرُّ حسَّان بن ثابت فقولون: أهلاً أبا عبد الرحمن، ألا تحدَّث معنا ساعة؟ فإذا جلس إليهم قالوا: أين هذه المشروبة من سبيئتك التي ذكرتها في قولك:
| ||
كأن سبيئة من بيت رأس | يكون مزاجها عسل وماء | |
على أنيابها، أو طعم غضٍّ | من التُّفاح هصَّره اجتناء | |
على فيها، إذا ما اللّيل قلَّت | كواكبه، ومال بها الغطاء | |
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً | فهنَّ لطيِّب الرَّاح الفداء |
ويحك! ما استحييت أن تذكر مثل هذا في مدحتك رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: إنَّه كان أسحج خلقاً ممَّا تظنُّون، ولم أقل إلا خيراً، لم أذكر أنِّي شربت خمراً، ولا ركبت ممّا حظر أمراً، وإنّما وصفت ريق امرأةٍ، يجوز أن يكون حلاً لي، ويمكن أن أقوله على للظَّنِّ. وقد شفع صلى الله عليه وسلم في أبي بصيرٍ بعد ما تهكَّم في مواطن كثيرة، وزعم أنَّه مسترٍ، مفترياً أو ليس بمفترٍ. وما سمع بأكرم منه صلى الله عليه وسلم: لقد أفكت فجلدني مع مسطحٍ ثم وهب لي أخت مارية فولدت لي عبد الرحمن، وهي خالة ولده إبراهيم. وهو، زين الله الآداب ببقائه، يخطر في ضميره أشياء، يريد أن يذكرها لحسّان وغيره، ثم يخاف أن يكونوا لما طلب غير محسنين، فيضرب عنها إكراماً للجليس، مثل قول حسّان:
| ||
يكون مزاجها عسل وماء | .................... |
عرض له أن يقول: كيف قلت يا أبا عبد الرحمن: أيكون مزاجها عسل وماء، أم مزاجها عسلاً وماء، أم مزاجها عسل وماء على الابتداء والخبر؟ وقوله:
| ||
فمن يهجو رسول الله منكم | ويمدحه وينصره؛ سواء |
ذهب بعضهم إلى أنَّ من محذوفة من قولك: ويمدحه وينصره، على أن ما بعدها صلة لها. وقال قوم: حذفت على أنَّها نكرة، وجعل ما بعدها وصفاً لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. ويقول قائل من القوم: كيف جبنك يا أبا عبد الرَّحمن؟ فيقول: ألي يقال هذا وقومي أشجع العرب؟ ماذا اراد ستَّة منهم أن يميلوا على أهل الموسم بأسيافهم، وأجاروا النبيَّ، صلى الله عليه وسلّم، على أن يحاربوا معه كلَّ عنودٍ؛ فرمتهم ربيعة ومضر وجميع العرب عن قوس العداوة، وأضمروا لهم ضغن الشَّنآن. وإن ظهر منّي تحرُّز في بعض المواطن، فإنّما ذلك على طريقة الحزم، كما جاء في الكتاب الكريم: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرِّفاً لقتالٍ أو متحيّزاً إلى فئةٍ، فقد باء بغضبٍ من الله، ومأواه جهنَّم وبئس المصير.
عوران قيس
ويفترق أهل ذلك المجلس، بعد أن أقاموا فيه كعمر الدُّنيا أضعافاً كثيرةً، فبينا هو يطوف في رياض الجنَّة، لقيه خمسة نفرٍ على خمس أينق، فيقول: ما رأيت أحسن من عيونكم في أهل الجنان! فمن انتم خلد عليكم النّعيم؟ فيقولون: نحن عوران قيسٍ: تميم بن مقبلٍ العجلانيّ وعمرو بن أحمر الباهليُّ والشَّمّاخ، معقل بن ضرار، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وراعي الإبل، عبيد بن الحصين النُّميريّ، وحميد ابن ثور الهلاليِّ.
قصيدة الشماخ
فيقول للشَّمّاخ بن ضرارٍ: لقد كان في نفسي أشياء من قصيدتك التي على الزاي، وكلمتك التي على الجيم، فأنشدنيهما لا زلت مخلَّداً كريماً. فيقول: لقد شغلني عنهما النَّعيم الدائم فما أذكر منهما بيتاً واحداً. فيقول لفرط حبّه الأدب وإيثاره تشييد الفضل: لقد غفلت أيُّها المؤمن وأضعت! أما علمت أنَّ كلمتيك، أنفع لك من ابنتيك؟ ذكرت بهما الموطن، وشهرت عند راكب السَّفر والقاطن؛ وإنَّ القصيدة من قصائد النابغة، لأنفع له من ابنته عقرب، ولعل تلك شانته، وما زانته، وأصابها في الجاهلية سباء، وما وفر لأجلها الحباء. وإن شئت أن أنشدك قصيدتيك، فإن ذلك ليس بمتعذرٍ عليّ. فيقول: أنشدني، ضفت عليك نعمة الله، فينشده:
| ||
عفا من سليمى بطن قوٍ، فعالز | فذات الغضا، فالمشرفات النَّواشز |
فيجده بها غير عليم. ويسأله عن أشياء منها، فيصادفه بها غير بصير، فيقول: شغلتني لذائذ الخلود عن تعهُّد هذه المنكرات: " إن المتَّقين في ظلالٍ وعيونٍ، وفواكه ممَّا يشتهون، كلوا وأشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون " ، إنّما كنت أسق هذه الأمور، وأنا آمل أن أفقر بها ناقةً، أو أعطى كيل عيالي سنةً، كما قال الراجز:
| ||
لو شاك من رأسك عظم يابس | لآل منك جمل حمارس | |
سوى عليك الكيل شيخ بائس | مثل الحصى يعجب منه اللامس |
وأنا الان في تفضُّل الله، أغترف في مرافد العسجد من أنهار اللَّبن: فتارةً ألبان الإبل، وتارةً ألبان البقر، وإن شئت لبن الضأن فإنّه كثير جمٌّ، وكذلك لبن المعيز، وإن أحببت ورداً من رسل الأرواي، فربّ نهرٍ منه كأنه دجلة أو الفرات. ولقد أراني في دار الشّقوة أجهد أخلاف شياهٍ لجباتٍ، لا يمتلىء منهنَّ القعب. فيقول، لا زال مقولاً للخير: فأين عمرو بن أحمر؟ فيقول عمروٌ: ها أنا ذا. فيقول: أنشدني قولك:
| ||
بان الشّباب، وأخلف العمر | وتغيَّر الإخوان والدّهر |
وقد اختلف الناس في تفسير العمر، فقيل: إنّك أردت البقاء، وقيل: إنّك أردت الواحد من عمور الأسنان، وهو اللَّحم الذي بينها. فيقول عمرو متمثلاً:
| ||
خذا وجه هرشى أو كلاهما، فإنَّه | كلا جانبي هرشى لهنّ طريق |
ولم تترك فيَّ أهوال القيامة غبَّراً للانشاد، أما سمعت الآية: " يوم ترونها تذهل كلُّ مرضعةٍ عمَّا ارضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى النَّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد " وقد شهدت الموقف، فالعجب لك إذ بقي معك شيء من روايتك! فيقول الشيخ: إنّي كنت أخلص الدُّعاء في أعقاب الصلوات، قبل أن أنتقل من تلك الدار، أن يمتعني الله بأدبي في الدُّنيا والآخرة، فأجابني إلى ما سألت وهو الحميد المجيد: ولقد يعجبني قولك:
| ||
ولقد غدوت، وما يفزِّعني | خوف أحاذره ولا ذعر | |
رؤد الشَّباب، كأنّني غصن | بحرام مكّة، ناعم نضر | |
كشراب قيلٍ عن مطيَّته | وكلِّ أمرٍ واقعٍ قدر | |
مدّ النَّهار له، وطال علي | ه الليل واستنعت به الخمر | |
ومسفة دهماء داجنة | ركدت، وأسبل دونها السِّتر | |
وجرادتان تغنِّيانهم | وتلألأ المرجان والشَّذر | |
ومجلجل دانٍ زبرجده | حدب كما يتحدَّب الدَّبر | |
ونَّان حنَّانان، بينهما | وتر أجشُّ، غناؤه زمر | |
وبعيرهم ساجٍ بجرَّته | لم يؤذه غرث ولا نفر | |
فإذا تجرّد، شق بازله | وإذا أصاخ فإنّه بكر | |
خلّوا طريق الديدبون فقد | ولَّى الصَّبا وتفاوت النَّجر |
فما أردت بقولك: كشراب قيلٍ؟ الواحد من الأقيال؟ أم قيل ابن عتر من عاد؟ فيقول عمرو: الوجهين ليتصوّران. فيقول الشيخ، بلغه الله الأمانيَّ: ممّا يدل على أنَّ المراد قيل بن عتر، قولك: وجرادتان تغنيّانهم، لأن الجرادتين، فيما قيل، مغنِّيتان غنتا لوفد عادٍ عند الجرهميِّ بمكة، فشغلوا عن الطواف بالبيت وسؤال الله، سبحانه وتعالى، فيما قصدوا له فهلكت عاد وهم سامدون. ولقد وجدت في بعض كتب الأغاني صوتاً يقال غنَّته الجرادتان، فتفكّنت لذلك، والصوت:
| ||
قفر من أهله المصيف | فبطن عردة، فالغريف | |
هل تبلغنّي ديار قومي | مهريَّة، سيرها تلقيف | |
يا أمَّ عثمان نوِّليني | هل ينفع النّائل الطّفيف |
وهذا شعر على قريِّ: أقفر من أهله ملحوب ومن الذي نقل إلى المغنين في عصر هارون وبعده أنَّ هذا الشعر غنَّته الجرادتان؟ إنّ ذلك لبعيد في المعقول، وما أجدره أن يكون مكذوباً. وقولك: ومسفة دهماء داجنة، ما أردت به؟ وقولك: ومجلجل دانٍ زبرجده؟ فيقول ابن أحمر: أمّا ذكر الجرادتين فلا يدلَّ على أني خصصت قيل بن عترٍ وإن كان في الوفد الذي غنَّته الجرادتان، لأن العرب صارت تسمّي كلُّ قينةٍ جرادةً، حملاً على أنّ قينة في الدّهر الأول كانت تدعى الجرادة. قال الشاعر:
| ||
تغنِّينا الجراد، ونحن شرب | نعلُّ الرّاح خالطها المشور |
وأمّا المسفَّة الدَّهماء، فإنّها القدر. وأمّا المجلجل الداني زبرجده، فهو العود، وزبرجده ما حسن منه، أما تسمع القائل يسمّي ما تلوّن من السحاب زبرجاً؟ ومن روى: مجلجل، بكسر الجيم، أراد السحاب. فيعجب الشيخ من هذه المقالة، ويقول: كأنّك أيُّها الرجل وأنت عربي صميم يستشهد بألفاظك وقريضك، تزعم أن الزبرجد من الزِّبرج، فهذا يقوّي ما ادّعاه صاحب العين من أنّ الدال الزائدة في قولهم: صلخدم، وأهل البصرة ينفرون من ذلك. فيلهم الله القادر ابن أحمر علم التصريف، ليري الشيخ برهان القدرة، فيقول ابن أحمر: وماذا الذي أنكرت أن يكون الزبرج من لفظ الزَّبرجد؟ كأنّ فعلاً صرِّف من الزّبرجد، فلم يمكن أن يجاء بحروفه كلّها، إذا كانت الأفعال لا يكون فيها خمسة أحرفٍ من الأصول، فقيل: يزبرج، ثم بني من ذلك الفعل اسم فقيل: زبرج، ألا ترى أنَّهم إذا صغَّروا فرزدقاً قالوا: فريزد، وإذا جمعوه قالوا: قالوا: فرازد؟ وليس ذلك بدليل على أن القاف زائدة. فيقول، خلّد الله ألفاظه في ديوان الأدب: كأنّك زعمت أنّ فعلاً أخذ من الزَّبرجد، ثم بني منه الزَّبرج، فقد لزمك على هذا، أن تكون الأفعال قبل الأسماء. فيقول ابن أحمر: لا يلزمني ذلك، لأني جعلت زبرجداً أصلاً، فيجوز أن يحدث منه فروغ ليس حكمها كحكم الأصول. ألا ترى أنهم يقولون: إنّ الفعل مشتقٌّ من المصدر؟ فهذا أصل، ثم يقولون: الصِّفة الجارية على الفعل، يعنون: الضارب والكريم وما كان نحوهما، فليس قولهم هذه المقالة بدليلٍ على أنّ الصفة مشتقة من الفعل، إذا كانت اسماً، وحقٌّ الأسماء أن تكون قبل الأفعال، وإنِّما يراد أنَّه ينطق بالفعل منها كثيراً. ولمدَّعٍ أن يقول: الفعل مشتقٌّ من المصدر فهو فرع عليه، والصِّفة فرع آخر، فيجوز أن يتقدَّم أحد الفرعين على صاحبه. ثمَّ يذكر له أشياء من شعره، فيجده عن الجواب مستعجماً، إن نطق نطق محجماً.
تميم بن أبي
فيقول: أيكم تميم بن أبيّ؟ فيقول رجل منهم: ها أنا ذا. فيقول أخبرني عن قولك:
| ||
يا دار سلمى خلاءً لا أكلِّفها | إلاّ المرانة حتى تسأم الدنيا |
ما أردت بالمرانة؟ فقد قيل: إنّك أردت اسم امرأة، وقيل: هي اسم ناقةٍ، وقيل: العادة. فيقول تميم: والله ما دخلت من باب الفردوس ومعي كلمة من الشعر ولا الرَّجز، وذلك أنّي حوسبت حساباً شديداً، وقيل لي: كنت فيمن قاتل عليَّ بن أبي طالب. وانبرى لي النَّجاشي الحارثيّ، فما أفلتُّ من اللّهب حتى سفعني سفعات. وإن حفظك لمبقىً عليك، كأنّك لم تشهد أهوال الحساب، ومنادي الحشر يقول: أين فلان ابن فلان؟ والشّوس الجبابرة من الملوك تجذبهم الزّبانية إلى الجحيم، والنسِّوة ذوات التِّيجان يصرن بألسنة الوقود، فتأخذ في فروعهنَّ وأجسادهنَّ، فيصحن: هل من فداء؟ هل من عذرٍ يقام؟ والشباب من أولاد الأكاسرة يتضاغون في سلاسل النار ويقولون: نحن أصحاب الكنوز، نحن أرباب الفانية، ولقد كانت لنا إلى الناس صنائع وأيادٍ فلا فادي ولا معين! فهتف داعٍ من قبل العرش: " أولم نعمِّركم ما يتذكّر فيه من تذكَّر وجاءكم النّذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " لقد جاءتكم الرسل في زمانٍ بعد زمانٍ، وبذلت ما وكّد من الأمان، وقيل لكم في الكتاب: " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون " فكنتم في لذات السَّاخرة واغلين، وعن أعمال الآخرة متشاغلين، فالآن ظهر النبأ، لا ظلم اليوم إنَّ الله قد حكم بين العباد. فيقول، أنطقه الله بكل فضل، إن شاء ربُّه أن يقول: أنا أقص عليك قصّتي: لما نهضت أنتفض من الرّيم، وحضرت حرصات القيامة، والحرصات مثل العرصات، أبدلت الحاء بالعين ذكرت الآية: " تعرج الملائكة والرُّوح إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ، فاصبر صبراً جميلاً فطال علي الأمد، واشتد الظمأ والومد، والومد: شدَّة الحرِّ وسكوت الرّيح، كما قال أخوكم النّميري:
| ||
كأن بيض نعامٍ في ملاحفها | جلاه طلٌّ وقيظ ليله ومد |
وأنا رجل مهياف أي سريع العطش، فافتكرت فرأيت أمراً لا قوام لمثلي به. ولقيني الملك الحفيظ بما زبر من فعل الخير، وجدت حسناتي قليلة كالنُّفا في العام الأرمل والنفأ الرياض، والأرمل قليل المطر. إلا أن التوبة في آخرها كأنها مصباح أبيلٍ، رفع لسالك السبيل. فلمَّا أقمت في الموقف زهاء شهر أو شهرين، وخفت في العرق من الغرق، زينت لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتاً
مدح رضوان
في رضوان، خازن الجنان، عملتها في وزن: قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ووسمتها برضوان. ثمّ ضانكت الناس حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى، فما حفل بي، ولا أظنّه أبه لما أقول. فغبرت برهة، نحو عشرة أيام من أيّام الفانية، ثم عملت أبياتاً في وزن:
| ||
بان الخليط ولو طووعت ما بانا | وقطَّعوا من حبال الوصل أقرانا |
ووسمتها برضوان، ثمّ دنوت منه ففعلت كفعلي الأوَّل، فكأني أحرك ثبيراً، وألتمس من الغضرم عبيراً، والغضرم: تراب يشبه الجصَّ، فلم أزل أتتبع الأوزان التي يمكن أن يوسم بها رضوان حتى أفنيتها، وأنا لا أجد عنده مغوثةً، ولا ظننته فهم ما أقول، فلمّا استقصيت الغرض فما أنجحت، دعوت بأعلى صوتي: يا رضوان، يا أمين الجبَّار الأعظم على الفراديس، ألم تسمع ندائي بك واستغاثتي إليك؟ فقال: لقد سمعتك تذكر رضوان وما علمت ما مقصدك، فما الذي تطلب أيها المسكين؟ فأقول: أنا رجل لا صبر لي على اللواب أي العطش وقد استطلت مدة الحساب، ومعي صل بالتوبة، وهي للذنّوب كلّها ماحية، وقد مدحتك بأشعارٍ كثيرة ووسمتها باسمك. فقال: وما الأشعار؟ فإني لم أسمع بهذه الكلمة قطّ إلا الساعة. فقلت: الأشعار جمع شعرٍ، والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، إن زاد أو نقص أبانه الحسُّ، وكان أهل العاجلة يتقربّون به إلى الملوك والسادات، فجئت بشيء منه إليك لعلك تأذن لي بالدُّخول إلى الجنة في هذا الباب، فقد استطلت ما الناس فيه، وأنا ضعيف منين؛ ولا ريب أنّي ممن يرجو المغفرة، وتصحُّ له بمشيئة الله تعالى. فقال: إنك لغبين الرأي! أتأمل أن آذن لك بغير إذن من رب العزة؟ هيهات هيهات! وأنَّى لهم التناوش من مكان بعيد.
مدح زفر
فتركته وانصرفت بأملي إلى خازن آخر يقال له زفر، فعملت كلمةً ووسمتها باسمه في وزن قول لبيد:
| ||
تهنى ابنتاي أن يعيش أبوهما | وهل أنا إلاّ من ربيعة أو مضر |
وقربت منه فأنشدتها، فكأني إنّما أخاطب ركوداً صمّاء، لأستنزل أبوداً عصماء. ولم أترك وزناً مقيّداً ولا مطلقاً يجوز أن يوسم بزفر إلا وسمته به، فما نجع ولا غيَّر. فقلت: رحمك الله! كنَّا في الدار الذاهبة نتقرّب إلى الرئيس والملك بالبيتين أو الثلاثة، فنجد عنده ما نحب، وقد نظمت فيك ما لو جمع لكان ديواناً، وكأنّك ما سمعت لي زجمةً أي كلمة، فقال: لا أشعر بالذي حممت أي قصدت، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد، ولا ينفق على الملائكة، إنّما هو للجان وعلَّموه ولد آدم، فما بغيتك؟ فذكرت له ما أريد، فقال: والله ما أقدر على نفع ولا أملك لخلق من شفع، فمن أي الأمم أنت؟ فقلت: من أمة محمَّد بن عبد الله بن عبد المطَّلب. فقال: صدقت ذلك، نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأنّ إبليس اللعين نفثه في إقليم العرب فتعلَّمه نساء ورجال. وقد وجب عليّ نصحك، فعليك بصاحبك لعلّه يتوصّل إلى ما ابتغيت. فيئست ممّا عنده، فجعلت أتخلل العالم،
حمزة بن عبد المطلب
فإذا أنا برجل عليه نور يتلألأ، وحواليه رجال تأتلق منهم أنوار. فقلت: من هذا الرجل؟ فقيل: هذا حمزة بن عبد المطَّلب صريع وحشيٍّ، وهؤلاء الذين حوله من استشهد من المسلمين في أحدٍ. فقلت لنفسي الكذوب: الشّعر عند هذا أنفق منه خازن الجنان، لأنَّه شاعر، وإخوته شعراء، وكذلك أبوه وجدُّه، ولعلَّه ليس بينه وبين معدِّ بن عدنان إلا من قد نظم شيئاً من موزون، فعملت أبياتاً على منهج أبيات كعب بن مالكٍ التي رثى بها حمزة، وأوّلها:
| ||
صفية قومي ولا تعجزي | وبكّي النّساء على حمزة |
وجئت حتى وليت منه فناديت: يا سيّد الشهداء، يا عمَّ رسول الله صلَّى الله عليه سلّم، يا ابن عبد المطَّلب! فلّما أقبل عليّ بوجهه أنشدته الأبيات. فقال: ويحك! أفي مثل هذا الموطن تجيئني بالمديح؟ أما سمعت الآية: " لكلِّ امرىء ٍمنهم يومئذ شأنٌ يغنيه " فقلت: بلى قد سمعتها، وسمعت ما بعدها: " وجوهٌ يومئذ سفرةٌ، ضاحكةٌ مستبشرةٌ، ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ، ترهقها قترةٌ، أولئك هم الكفرة الفجرة " . فقال: إنَّي لا أقدر على ما تطلب. ولكني أنفذ معك توراً، أي رسولاً إلى ابن أخي عليّ بن أبي طالبٍ، ليخاطب النبيَّ، صلّى الله عليه وسلَّم، في أمرك. فبعث معي رجلاً، فلمّا قصَّ قصتّي على أمير المؤمنين، قال: أين بيَّنتك؟ يعني صحيفة حسناتي. وكنت قد رأيت في المحشر شيخًا لنا كان يدرِّس النحو في الدار العاجلة، يعرف بأبي عليّ الفارسيّ، وقد امترس به قومٌ يطالبونه، ويقولون: تأوَّلت علينا وظلمتنا. فلمّا رآني أشار إليّ بيده ، فجئته فإذا عنده طبقةٌ، منهم يزيد بن الحكم الكلابيُّ، وهو يقول: ويحك، أنشدت عني هذا البيت برفع الماء، يعني قوله:
| ||
يت كفافاً كان شرُّك كلُّه | وخيرك عني ارتوى الماء مرتوي |
ولم أقل إلاَّ الماء.وكذلك زعمت أنِّي فتحت الميم في قولي:
| ||
تبدَّل خليلاً بي، كشكلك شكله، | فإنّي خليلاً صالحا ًبك مقتوي |
وإنّما قلت: مقتوي بضمِّ الميم. وإذا هناك راجزٌ يقول: تأوّلت عليّ أنّي قلت:
| ||
يا إبلي ما ذنبه فتأبيه؟ | ماءٌ رواءٌ ونصيُّ حوليه |
فحرَّكت الياء في تأبيه ووالله ما فعلت ولا غيري من العرب وإذا رجلٌ آخر يقول: ادّعيت عليَ أن الهاء راجعةٌ على الدَّرس في قولي:
| ||
هذا سراقة للقرآن يدرسه، | والمرء عند الرَّشا إن يلقها ذيب |
فمجنونٌ أنا حتّى أعتقد ذلك؟
قاضي حلب
وإذا جماعةٌ من هذا الجنس كلُّهم يلومونه على تأويله. فقلت: يا قوم، إن هذه أمورٌ هيِّنةٌ،فلا تعتنوا هذا الشيخ، فإنّه يمتُّ بكتابه في القرآن المعروف بكتاب الحجَّة، وإنه ما سفك لكم دماً،ولا أحتجن عنكم مالاً، فتقرَّقوا عنه. وشغلت بخطابهم والنَّظر في حويرهم، فسقط منَّي الكتاب الذي فيه ذكر التَّوبة، فرجعت أطلبه فما وجدته، فأظهرت الوله والجزع، فقال أمير المؤمنين: لا عليك، ألك شاهدٌ بالتَّوبة؟ فقلت: نعم، قاضي حلب وعدولها. فقال: بمن يعرف ذلك الرجل؟ فأقول: بعبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب، حرسها الله، في أيَّام شبل الدَّولة، فأقام هاتفاً يهتف في الموقف: يا عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب في زمان شبل الدَّولة، هل معك علمٌ من توبة عليّ بن منصور بن طالب الحلبيِّ الأديب؟ فلم يجيبه أحد. فأخذني الهلع والقلُّ، أي الرعدة ثم هتف الثانية، فلم يجيبه مجيب، فليح بي عند ذلك أي صرعت إلى الأرض ثمّ نادى الثالثة، فأجابه قائل ٌيقول: نعم، قد شهدت توبة عليِّ بن منصور،
توبة علي بن منصور
وذلك بأخرةٍ من الوقت، وحضرت متابة عندي جماعةٌ من العدول، وأنا يومئذٍ قاضي حلب وأعمالها، والله المستعان. فعندها نهضت وقد أخذت الرَّمق، فذكرت لأمير المؤمنين، عليه السَّلام، ما ألتمس، فأعرض عنَّي وقال: إنَّك لتروم حدداً ممتنعاً، ولك أسوةٌ بولد أبيك آدم. وهمت بالحوض، فكدت لا أصل إليه، ثمّ نغبت منه نغباتٍ لا ظمأ بعدها؛وإذا الكفرة يحملون أنفسهم على الورد، فتذودهم الزَّبانية بعصيٍّ تضطرم ناراً، فيرجع أحدهم وقد احترق وجهه أو يده وهو يدعو بويلٍ وثبور. فطفت على العترة المنتجيبن فقلت: إنّي كنت في الدار الذاهبة إذا كتبت كتاباً وفرغت منه: قلت في آخره: وصَّلى الله على سيّدنا محمّد خاتم النَّبيِّين، وعلى عيرته الأخيار الطَّيبين. وهذه حرمةٌ لي ووسيلةٌ،
فاطمة بنت محمد
فقالوا:ما نصنع بك؟ فقلت: إنَّ مولاتنا فاطمة، عليها السلام، قد دخلت الجنَّة مذ دهرٍ، وإنَّها تخرج في كلِّ حينٍ مقداره أربع ٌوعشرون ساعةً من الدُّنيا الفانية فتسلَّم على أبيها، وهو قائمٌ لشهادة القضاء، ثمّ تعود إلى مستقرِّها من الجنان، فإذا هي خرجت كالعادة، فاسألوا في أمري بأجمعكم، فلعلّها تسأل أباها فيَّ فلمّا حان خروجها ونادى الهاتف: أن غضُّوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تعبر فاطمة بتت محمد، صلّى الله عليه وسلم، اجتمع من آل أبي طالبٍ خلقٌ كثيرٌ، من ذكورٍ وإناثٍ، ممّن لم يشرب خمراً، ولا عرف قطُّ منكراً. فلقوها في بعض السّبيل، فلّما رأتهم قالت: ما بال هذه الزَّرافة؟ ألكم حالٌ تذكر؟ فقالوا: نحن بخيرٍ، إنّا نلتذُّ بتحف أهل الجنّة، غير أنَّا محبوسون للكلمة السابقة، ولا نريد أن نتسرَّع إلى الجنّة من قبل الميقات،إذ كنّا آمنين ناعمين بدليل قوله: " إنَّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون. لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقَّاهم الملائكة: هذا يومكم الذي كنتم توعدون " وكان فيهم عليُّ بن الحسين وابناه محمّدٌ وزيدٌ، وغيرهم من الأبرار الصالحين. ومع فاطمة،عليها السّلام، امرأة أخرى جري مجراها في الشرف والجلالة، فقيل: من هذه؟ فقيل: خديجة ابنة خويلد ابن أسد بن بد العزَّى،ومعها شبابٌ على أفراسٍ من نورٍ. فقيل: عبد الله، والقاسم، والطَّيب، والطاهر، وإبراهيم: بنو محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم.
فقالت تلك الجماعة التي سألت: هذا وليٌّ من أوليائنا، قد صحّت توبته، ولا ريب أنَّه من أهل الجنَّة، وقد توسَّل بنا إليك، صلّى الله عليك، في أن يراح من أهوال لموقف، ويصير إلى الجنّة فيتعجلَّ الفوز. فقلت لأخيها إبراهيم، صلّى الله عليه: دونك الرجل. فقال لي: تعلَّق بركابي. وجعلت تلك الخيل تخلَّل الناس وتنكشف لها الأمم والأجيال،فلّما عظم الزَّحام طارت في الهواء، وأنا متعلّق بالرِّكاب، فوقفت عند محمّدٍ، صلّى الله عليه وسلم، فقال: من هذا الأتاويُّ؟ أي الغريب فقالت له: هذا رجلٌ سأل فلانٌ وفلانٌ - وسمِّت جماعةً من الأئمة الطاهرين - فقال: حتَّى ينظر في عمله. فسأل عن عملي فوجد في الدّيوان الأعظم وقد ختم بالتوبة، فشفع لي، فأذن لي في الدُّخول. ولمَّا انصرفت الزَّهراء، عليها السلام، تعلَّقت بركاب إبراهيم، صلّى الله عليه. فلمّا خلصت من تلك الطُّموش، قيل لي: هذا الصِّراط فاعبر عليه. فوجدته خالياً لا عريب عنده فبلوت نفسي في العبور، فوجدتني لا أستمسك. فقالت الزَّهراء، صلّى الله عليها، لجاريةٍ من جواريها: فلانة أجيزيه. فجعلت تمارسني وأنا أتساقط عن يمينٍ وشمالٍ، فقلت: يا هذه، إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدار العاجلة:
| ||
ستِّ إن أعيك أمري | فاحمليني زقفونه |
فقالت: وما زقفونه؟ قلت: أن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك الحامل بيديه، ويحمله وبطنه إلى ظهره، أما سمعت قول الجحجلول من أهل كفرطابٍ:
| ||
صلحت حالتي إلى الخلف حتى | صرت أمشي إلى الورى زقفونه |
فقالت: ما سمعت بزقفونه، ولا الجحجلول، ولا كفرطابٍ، إلاّ الساعة. فتحملني وتجوز كالبرق لخاطف. فلمّا جزت، قالت الزَّهراء، عليها السلام: قد وهبنا لك هذه الجارية فخذه كي تخدمك في الجنان. فلمّا صرت إلى باب الجنّة، قال لي رضوان: هل معك من جوازٍ؟ فقلت: لا. فقال لا سبيل لك إلى الدخول إلاَّ به فبعلت بالأمر، وعلى باب الجنَة من داخلٍ شجرة صفصافٍ، فقلت:أعطني ورقةً من هذه الصَّفصافة حتى أرجع إلى الموقف فآخذ عليها جوازاً، فقال: لا أخرج شيئاً من الجنَّة إلاّ بإذنٍ من العليِّ الأعلى، تقدَّس وتبارك. فلمّا دجرت بالنازلة، قلت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! لو أن للأمير أبي المرجّى خازناً مثلك، لما وصلت أنا ولا غيري إلى قرقوفٍ من خزانته. والقرقوف: الدِّرهم. والتفت إبراهيم، صلّى الله عليه، فرآني وقد تخلفت عنه، فرجع إليَّ فجذبني جذبة حصَّلني بها في الجنة. وكان مقامي في الموقف مدَّة ستَّة أشهرٍ من شهور العاجلة، فلذلك بقي عليَّ حفظي ما نزفته الأهوال، ولا نهكه تدقيق الحساب. فأيكم راعي الإبل؟ فيقولون: هذا. فيسلّم عليه الشيخ ويقول: أرجو أن لا أجدك مثل أصحابك صفراً حفظك وعربيتك. فيقول: أرجو ذلك، فاسألني ولا تطيلنَّ. فيقول: أحقّ ما روى عنك سيبويه في قصيدتك التي تمدح بها عبد الملك بن مروان من أنَّك تنصب الجماعة في قولك:
| ||
أيَّام قومي والجماعة كالّذي | لزم الرَّحالة أن تميل مميلا |
فيقول: حقٌّ ذلك.
حميد بن ثور
وينصرف عنه رشيداً إلى حميد بن ثور فيقول: إيه يا حميد! لقد أحسنت في قولك:
| ||
رى بصري قد رابني بعد صحَّة | وحسبك داءً أن تصح وتسلما | |
ولن يلبث العصران: يومٌ وليلةٌ | إذا طلبا، أن يدركا ما تيمما |
فكيف بصرك اليوم؟ فيقول: إنَّي لأكون في مغارب الجنَّة، فألمح الصَّديق من أصدقائي وهو بمشارقها، وبيني وبينه مسيرة ألوف أعوامٍ للشمس التي عرفت سرعة مسيرها في العاجلة! فتعالى الله القادر على كلّ بديع. فيقول: لقد أحسنت في الدالية التي أوَّلها:
| ||
جلبانةٌ ورهاء، تخصي حمارها | بفي من بغىخيراً لديها الجلامد | |
إزاء معاشٍ لا يزال نطاقها | شديداً، وفيها سورةٌ،وهي قاعد | |
تتابع أعوامٌ عليها هزلنها | وأقبل عامٌ ينعش النّاس واحد |
فيقول حميدٌ: لقد ذهلت عن كلّ ميمٍ ودال، وشغلت بملاعبة حورٍ خدال. فيقول: أمثل هذه الدالية ترفض وفيها:
| ||
عضمَّرةٌ فيها بقاءٌ وشدَّةٌ | ووالٍ لها، بادي النّصيحة جاهد | |
إذا ما دعا: أجياد؟؟؟؟! جاءت خناجرٌ | لهاميم، لا يمشي إليهنّ قائد | |
فجاءت بمعيوف الشّريعة مكلعٍ | أرشَّت عليه بالأكفِّ السّواعد |
وفيها الصّفة التي ظننت القطاميَّ أخذها منك، وقد يجوز أن يكون سبقك لأنّكما في عصرٍ واحد، وذلك قولك:
| ||
تأدَّبها، في ليل نحسٍ وقرِّةٍ | خليلي أبو الخشخاش، والليل بارد | |
فقام يصاديها، فقالت: تريدني | على الزَّاد؟ شكلٌ بيننا متباعد؟! | |
إذا قال: مهلاً، أسجحي، لمحت له | بزرقاء لم تدخل عليها المراود | |
كأنّ حجاجي رأسها في ملثَّمٍ | من الصخر، جونٍ أخلقته المراود |
هذه الصِّفة نحوٌ من قول القطاميِّ:
| ||
تلفِّعت في طلٍّ وريحٍ تلفُّني | وفي طرمساء غير ذات كواكب | |
إلى حيزبونٍ توقد النّار بعدما | تصوَّبت الجوزاء قصد المغارب | |
فما راعها إلاّ بغام مطيةٍ | تروح بمحصورٍ من الصوت لاغب | |
وجنَّت جنوناً من دلاثٍ مناخةٍ | ومن رجلٍ عاري الأشاجع شاحبٍ | |
تقول، وقد قرَّبت كوري وناقتي: | إليك! فلا تذعر عليَّ ركائبي |
والأبيات معروفةٌ، وقلت هذه القصيدة:
| ||
فجاء بذي أونين أعبر شأنه | وعمِّر حتى قيل: هل هو خالد؟؟! | |
فعزَّاه، حتى أسنداه كأنَّه | على القرو، علفوفٌ من التُّرك ساند |
وفيها ذكر الزُّبدة:
| ||
فلمّا تجلَّى اللَّيل عنها وأسفرت | وفي غلس الصُّبح الشُّخوص الأباعد | |
رمى عينه منها بصفراء جعدةٍ | عليها تعاينه، وعنها تراودٌ |
فيقول حميدٌ: لقد شغلت عن زبدٍ، وطرد النّافرة من الرُّبد، بما وهب ربَّي الكريم، ولا خوف عليَّ ولا حزن. ولقد كان الرجل منا يعمل فكره السَّنة أو الأشهر، في الرَّجل قد آتاه الله الشَّرف والمال، فربّما رجع بالخيبة، وإن أعطى فعطاءٌ زهيدٌ، ولكنَّ النّظم فضيلة العرب. ويعرض لهم لبيد بن ربيعة فيدعوهم إلى منزله بالقيسيَّة، ويقسم عليهم ليذهبنَّ معه، يتمشون قليلاً، فإذا هم بأبياتٍ ثلاثةٍ ليس في الجنَّة نظيرها بهاءً وحسناً، فيقول لبيدٌ: أتعرف أيُّها الأديب الحلبيٌّ هذه الأبيات؟ فيقول: لا والذي حجَّت القبائل كعبته! فيقول: أمَّا الأول فقولي:
| ||
إنّ تقوى ربِّنا خير نفل | وبإذن الله ريثى وعجل |
وأمّا الثاني فهو قولي:
| ||
أحمد الله، فلا ندّ له | بيديه الخير، ما شاء فعل |
وأمّا الثالث فقولي:
| ||
من هداه سبل الخير اهتدى | ناعم البال، ومن شاء أضلّ |
صيَّرها ربِّي اللّطيف الخبير أبياتاً في الجنَة، أسكنها أخرى الأبد وأنعم نعيم المخلَّد. فيعجب هو وأولئك القوم ويقولون: إنَّ الله قديرٌ على ما أراد. ويبدو له، أيَّد الله مجده بالتأييد، أن يصنع مأدبةً في الجنان، يجمع فيها من أمكن من شعراء الخضرمة والإسلام، والذين أصلّوا كلام العرب، وجعلوه محفوظاً في الكتب، وغيرهم ممّن يتأنس بقليل الأدب. فيخطر له أن تكون كمآدب الدار العاجلة، إذ كان البارىء، جلَّت عظمته، لا يعجزه أن يأتيهم بجميع الأغراض، من غير كلفةٍ ولا إبطاءٍ، فتنشأ أرحاءٌ على الكوثر، تجعجع لطحن برٍّ من برّ الجنّة، وإنَّه لأفضل من برِّ الهذليِّ الذي قال فيه:
| ||
لا درّ درِّي إن أطعمت رائدهم | قرف الحتيِّ وعندي البرُّ مكنوز |
بمقدارٍ تفضل به السموات والأرضين، فيقترح، أمضى القادر له اقتراحه، أن تحضر بين يديه جوارٍ من الحور العين، يعتملن بأرحاء اليد: فرحىً من درٍّ، ورحىً من عسجدٍ، وأرحاءٌ لم ير أهل العاجلة شيئاً من شكل جواهرهنّ. فإذا نظر إليهنّ، حمد الله سبحانه على ما منح، وذكر قول الرّاجز:
| ||
أعددت للضَّيف وللجيران | جريتين تتعاوران |
لا ترأمان وهما ظئران يصف رحى اليد. ويبتسم إليهنَّ ويقول: اطحنَّ شزراً وبتّاً. فيقلن: ما شزرٌ وما بتّ? فيقول: الشَّزر على أيمانكنَّ، والبتُّ على شمائلكنَّ، أما سمعتنَّ قول القائل:
| ||
ونصبح بالغداة أترَّ شيءٍ | ونمسي بالعشيِّ طلنفحينا | |
ونطحن بالرَّحى شزراً وبتّاً | ولو نعطى المغازل ما عيينا |
ويقال: إن هذا الشَّعر لرجل أسر فكتب إلى قومه بذلك. ويحبس في صدره، عمَّره الله بالسُّرور، أرحاءٌ تدور فيها البهائم، فيمثل بين يديه ما شاء الله من البيوت، فيها أحجارٌ من جواهر الجنّة، تدير بعضها جمالٌ تسوم في عضاه الفردوس، وأينقٌ لا تعطف على الحيران، وصنوفٌ من البغال والبقر وبنات صعدة، فإذا اجتمع من الطَّحن، ما يظنُّ أنَّه كافٍ للمأدبة، تفرَّق خدمه من الولدان المخلَّدين فجاؤوا بالعماريس، وهي الجداء وضروب الطّير التي جرت العادة بأكلها: كأبجاج العكارم، وجوازل الطّواويس، والسَّمين من دجاج الرَّحمة وفراريج الخلد، وسيقت البقر والغنم والإبل لتعتبط؛ فارتفع رغاء العكر ويعار المعز،وتؤاج الضأن، وصياح الدِّيكة، لعيان المدية. وذلك كلُّه، بحمد الله، لا ألم فيه، وإنَّما هو جدُّ مثل اللَّعب، فلا إله إلاّ بالله الذي ابتدع خلقه من غير رويّةٍ، وصوَّره بلا مثال.
فإذا حصلت النَّحوض فوق الأوفاض، والأوفاض مثل الأوضام بلغة طيّء قال، زاد الله أمره من النَّفاذ: أحضروا من في الجنَّة من الطُّهارة السّاكنين بحلب على ممرّ الأزمان، فتحضر جماعةٌ كثيرةٌ، فيأمرهم باتِّخاذ الأطعمة،وتلك لذِّةٌ يهبها الله، عزَّ سلطانه، بدليل قوله:"وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وأنتم فيها خالدون. وتلك الجنَّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. لكم فيها فاكهةٌ كثيرةٌ منها تأكلون". فإذا أتت الأطعمة، افترق غلمانه الّذين كأنَّهم اللّؤلؤ المكنون، لإحضار المدعوِّين، فلا يتركون في لجنَّة شاعراً إسلامياً، ولا مخضرماً، ولا عالماً بشيءٍ من أصناف العلوم، ولا متأدَّباً، إلاَّ أحضّروه. فيجتمع بجدٌ عظيمٌ والبجد: الخلق الكثير، قال الشاعر:
| ||
تطوف البجود بأبوابه | من الضُّر في أزمات السّنينا |
فتوضع الخون من الذهب، والفواثير من اللُجين، ويجلس عليها الآكلون، وتنقل إليهم الصَّحاف، فتقيم الصِّحفة لديهم وهم يصيون ممَّا ضمَنته كعمر كويّ وسريٍّ وهما النّسران من النّجوم. فإذا قضوا الأرب من الطّعام، جاءت السُّقاة بأصناف الأشربة، والمسمعات بالأصوات المطربة. ويقول، لا فتىء ناطقاً بالصواب: عليَ بمن في الجنة من المغنيِّن والمغنِّيات: ممّن كان في الدار العاجلة، فقضيت له التَّوبة. فتحضر جماعةٌ كثيرةٌ من رجالٍ ونساءٍ: فيهم الغريض، ومعبدٌ وابن مسجحٍ، وابن سريجٍ؛ إلى أن يحضر إبراهيم الموصليُّ وابنه إسحاق. فيقول قائلٌ من الجماعة، وقد رأى أسراب قيانٍ قد حضرن، مثل بصبص ودنانير وعنان: من العجب أن الجرادتين في أقاصي الجنَّة. فإذا سمع ذلك لا برح سمعه مطروقاً بما يبهجه، قال: لابدَّ من حضورهما. فيركب بعض الخدم ناقةً من نوق الجنَّة، ويذهب إليهما على بعد مكانهما فتقبلان على نجيبين أسرع البرق اللامع. فإذا حصلتا في المجلس، حيَاهما وبشَّ بهما وقال: كيف خلصتما إلى دار الرحمة بعدما خبطتما في الضلال? فتقولان: قدرت لنا التَّوبة ومتنا على دين الأنبياء المرسلين. فيقول: أحسن الله إليكما، أسمعانا شيئاً من التي تروى لعبيد مرة ولأوس أخرى وما سمعتا قطَ بعبيدٍ ولا أوسٍ، فتلهمان أن تغنيِّا بالمطلوب، فتلحِّنان:
| ||
ودع لميس وداع الوامق اللاحي | قد فنَّكت في فسادٍ بعد إصلاح | |
إذ تستبيك بمصقولٍ عوارضه | حمش اللِّثمات عذابٍ غير مملاح | |
كأنَّ ريقتها بعد الكرى اغتبقت | من ماء أدكن في الحانوت نضّاح | |
ومن مشعشعةٍ ورهاء نشوتها | ومن أنابيب رمَّانٍ وتفَّاح | |
هبَّت تلوم، وليست ساعة اللاحي | هلاَّ انتظرت بهذا اللَّوم إصباحي؟ | |
قاتلها الله، تلحاني، وقد علمت | أنَّي لنفسي إفسادي وإصلاحي! | |
إن أشرب الخمر، أو أرزأ لها ثمناً | فلا محالة يوماً أننّي صاح | |
ولا محالة من قبرٍ بمحنيةٍ | أو في مليعٍ كظهر التُّرس وضَّاح |
فتطربان من سمع، وتستفزَّان الأفئدة بالسُّرور، ويكثر حمد الله، سبحانه، كما أنعم على المؤمنين والتّائبين، وخلَّصهم من دار الشّقوة إلى محلِّ النَّعيم. ويعرض له، أدام الله الجمال ببقائه، الشَّوق إلى نظر كالسحابٍ كالساب الذي وصفه قائل هذه القصيدة في قوله:
| ||
ي أرقت، ولم تأرق معي صاح | لمستكفّ، بعيد النَّوم، لمَّاح | |
قد نمت عنّي وبات البرق يسهرني | كما استضاء يهوديُّ بمصباح | |
تهدي الجنوب بأولاه وناء به | عجاز مزنٍ، يسوق الماء دلاَّح | |
كأنّ ريَّقه، لَّما علا شطباً | أقراب أبلق ينفي الخيل رمَّاح | |
كأنّ فيه عشاراً جلَّةً شرفاً | عوذاً مطافيل، قد همَّت بإرشاح | |
دانٍ، مسفّ فويق الأرض هيدبه | يكاد يدفعه من قام بالرَّاح | |
فمن بنجوته كمن بعقوته | والمستكنُّ كمن يمشي بقرواح | |
وأصبح الرّوض والقيعان ممرعةً | ما بين منفتقٍ منه ومنصاح |
فينشىء الله، تعالت آلاؤه، سحابةً كأحسن ما يكون من السُّحب، من نظر إليها شهد أنَّه لم ير قطُّ شيئاً أحسن منها، محلاّةً بالبرق في وسطها وأطرافها، تمطر بماء ورد الجنَّة من طلٍّ وطشٍّ، وتنثر حصى الكافور كأنَّه صغار البرد، فعزَّ إلهنا القديم الذي لا بعجزه تصوير الأمانيّ وتكوين الهواجس من الظُنون،ويلتفت فإذا هو.
جران العود
بجران العود النُّميريّ، فيحييِّه ويرحِّب به، ويقول لبعض القيان : أسمعينا قول هذا المحسن:
| ||
حملن جران العود حتى وضعنه | بعلياء في أرجائها الجنُّ تعزف | |
وأحرزن منَّا كلِّ حجزة مئزرٍ | لهنَّ، وطاح النَّوفليٌّ المزخرف | |
وقلن: تمتّع ليلة النّأي هذه | فإنَّك مرجومٌ غداً أو مسيَّف |
وهذا البيت يروى لسحيم فتصيب تلك القينة وتجيد. فإذا عجبت الجماعة من إحسانها وإصابتها قالت: أتدرون من أنا؟ فيقولون: لا والله المحمود! فتقول: أنا أمُّ عمروٍ التي يقول فيها القائل:
| ||
صدُّ الكأس عنَّا أمُّ عمروٍ | وكان الكأس مجراها اليمينا | |
وما شرُّ الثَّلاثة أمَّ عمروٍ | بصاحبك الذي لا تصبحينا |
فيزدادون بها عجباً، ولا إكراماً، ويقولون: لمن هذا الشعر؟ ألعمرو بن عديِّ اللَّخمي؟ أم لعمرو بن كلثوم التغلبيِّ؟ فتقول: أنا شهدت ندماني جذيمة: مالكاً وعقيلاً، وصبحتهما الخمر المشعشعة، لمّا وجدا عمرو بن عديٍّ، فكنت أصرف الكأس عنه، فقال هذين البيتين، فلعلَّ عمرو بن كلثومٍ حسَّن بهما كلامه واستزادهما في أبياته. ويذكر، أذكره الله بالصّالحات، الأبيات التي تنسب إلى الخليل بن أحمد. والخليل يومئذٍ في الجماعة، وأنَها تصلح لأن يرقص عليها، فينشىء الله، القادر بلطف حكمته، شجرةً من غفرٍ والغفر الجوز فتونع لوقتها، ثمّ تنفض عدداً لا يحصيه إلاّ الله سبحانه، وتنشقُّ كلُّ واحدةٍ منه عن أربع جوارٍ يرقن الرائين، ممنّ قرب والنّائين،يرقصن على الأبيات المنسوبة إلى الخليل، وأوّلها:
| ||
إنَّ الخليط تصدَّع | فطر بدائك أوقع | |
لولا جوارٍ حسانٌ | مثل الجآذر أربع | |
أمُّ الرَّباب وأسما | ءُ والبغوم وبوزع | |
لقلت للظّاعن: اظعن | إذا بدا لك، أو دع! |
فتهتزّ أرجاء الجنَّة، ويقول، لا زال منطقاً بالسَّداد: لمن هذه الأبيات يا أبا عبد الرحمن؟ فيقول الخليل: لا أعلم. فيقول: إنّا كنّا في الدار العاجلة نروي هذه الأبيات لك. فيقول الخليل: لا أذكر شيئاً من ذلك، ويجوز أن يكون ما قيل حقَّاً. فيقول: أفنسيت يا أبا عبد الرحمن وأنت أذكر العرب في عصرك؟ فيقول الخليل: إنّ عبور السَّراط ينفض الخلد ممّا استودع. ويخطر له ذكر الفقَّاع الذي كان يعمل في الدار الخادعة، فيجري الله بقدرته أنهاراً من فقَّاعٍ، الجرعة منها لو عدلت بلذَّات الفانية، منذ خلق السموات والأرض إلى يومٍ تطوي الأمم الآخرة، لكانت أفضل وأشفَّ. فيقول في نفسه: قد علمت أنَّ الله قديرٌ، والذي أريد، نحو ما كنت أراه مع الطَّوَّافين في الدار الذاهبة. فلا تكمل هذه المقالة، حتى يجمع الله كلَّ فقَّاعيٍّ في الجنَّة من أهل العراق والشام وغيرهما من البلاد، بين أيديهم الولدان المخلَّدون يحملون السَّلال إلى أهل ذلك المجلس. فيقول، حفظ الله على أهل الأدب حوباءه، لمن حضره من أهل العلم: ما تسمَّى هذه السَّلال بالعربيَّة؟ فيرمُّون أي يسكتون ويقول بعضهم: هذه تسمَّى البواسن، واحدتها باسنةٌ، فيقول قائلٌ من الحاضرين: من ذكر هذا من أهل اللغة؟ فيقول، لا انفكَّت الفوائد واصلةً منه إلى الجلساء: قد ذكرها ابن درستويه، وهو يومئذٍ في الحضرة. فيقول له الخليل: من أين جئت بهذا الحرف؟ فيقول ابن درستوية: وجدته في كتب النضر بن شميل: فيقول الخليل: أتحقُّ هذا يا نضر، فأنت عندنا الثّقة؟ فيقول النَّضر: قد التبس عليَّ الأمر، ولم يحك الرجل، إن شاء الله، إلاَّ حقّاً. ويعبر بين تلك الأكراس أي الجماعات طاووسٌ من طواويس الجنَّة يروق من رآه حسناً، فيشتهيه أبو عبيدة مصوصاً، فيتكون ذلك في صفحةٍ من الذَّهب. فإذا قضي منه الوطر، انضمَّت عظامه بعضها إلى بعضٍ، ثمَّ تصير طاووساً كما بدأ. فتقول الجماعة: سبحان من يحيى العظام وهي رميم. هذا كما جاء في الكتاب الكريم: " وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى قال: فخذ أربعةً من الطيَّر فصرهنَّ إليك ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهنّ جزءاً، ثمّ ادعهنَّ يأتينك سعياً، واعلم أنَّ الله عزيزٌ حكيمٌ. ويقول هو، آنس الله بحياته، لمن حضر: ما موضع يطمئنّ؟ فيقولون: نصبٌ بلام كي. فيقول: هل يجوز غير ذلك؟ فيقولون لا يحضرنا شيءٌ. فيقول: يجوز أن يكون في موضع جزمٍ بلام الأمر، ويكون مخرج الدُّعاء، كما يقال: يا ربِّ أغفر لي، ولتغفر لي. وأمّا قوله الحكاية عن عازار: قال أعلم أنَّ الله على كلُّ شيء قديرٌ فقد قُرِىَء برفع الميم وسكونها، فالرفع على الخبر، والسكون على أنَّه أمرٌ من الله، جلَّ سلطانه. وأجاز أبو عليٍّ الفارسيُّ أن يكون أعلم مخاطبةً من عازر لنفسه، لأن مثل هذا معروفٌ. يقول القائل، وهو يعني نفسه: ويحك ما فعلت وما صنعت! ومنه قول الحادرة الذُّبيانيّ:
| ||
بكرت سميَّة غدوة فتمتَّع | وغدت غدوَّ مفارق لم يربع |
وتمرُّ إوزَّةٌ مثل البختية، فيتمنَّاها بعض القوم شواءً، فتتمثَّل على خوانٍ من الزُّمردُّ، فإذا قضيت منها الحاجة، عادت، بإذن الله إلى هيئة ذوات الجناح، ويختارها بعض الحاضرين كردناجاً، وبعضهم معمولةً بسمّاقٍ، وبعضهم معمولةً بلبنٍ وخلّ، وغير ذلك، وهي تكون على ما يريدون. فإذا تكرَّرت بينهم قال أبو عثمان المازنيُّ لعبد الملك بن قريب الأصمعيّ: يا أبا سعيدٍ، ما وزن إوزَّة؟ فيقول الأصمعيُّ: ألي تعرِّض بهذا يا فصعل، وطال ما جئت مجلسي بالبصرة وأنت لا يرفع بك رأسٌ؟! وزن إوزَّةٍ في الموجود إفعلةٌ، ووزنا في الأصل إفعلةٌ. فيقول المازنيَّ: ما الدَّليل على أنّ الهمزة فيها زائدةٌ، وأنّها ليست بأصليَّةٍ ووزنها ليس فعلَّةً؟ فيقول الأصمعيُّ: أمَّا زيادة الهمزة في أوَّلها، فيدلُّ عليه قولهم وزُّ. فيقول أبو عثمان: ليس ذلك بدليلٍ على أنّ الهمزة زائدةٌ، لأنَّهم قد قالوا ناسٌ، واصله أناٌس، وميهةٌ لجدريِّ الغنم، وإنَّما هو أميهةٌ، فيقول الأصمعيُّ: أليس أصحابك من أهل القياس يزعمون أنَّها إفعلةٌ، وإذا بنوا من أوى اسماً على وزن إوزَّةٍ قالوا: إيَّاه؟ ولو أنَّها فعلَّةٌ قالوا: إويَّةٌ، ولو جاؤوا بها على إفعلةٍ، بسكون العين، قالوا: إييَّةٌ، والياء التي بعد الهمزة، وهي همزة أوى، جعلت ياءً لاجتماع الهمزتين، ولأنَّ قبلها مكسوراً وهي مفتوحةٌ. وإذا خففَّت همزة مئزرٍ، جعلتها ياءً خالصةً. فيقول المازنيُّ: تأوُّل من أصحابنا وادِّعاءٌ، لأنِّ إوزة لم يثبت أنَّ الهمزة فيها زائدةٌ. فيقول الأصمعيُّ:
| ||
ريَّشت جرهم نبلاً فرمى | جر هماً منهنَّ فوقٌ وغرار |
تبعتهم مستفيداً، ثمّ طعنت فيما قالوه معيداً، ما مثلك ومثلهم إلاّ كما قال الأوَّل:
| ||
أعلمِّه الرِّماية كلِّ يومٍ | فلمَّا أستد ساعده رماني |
وينهض كالمغضب، ويفترق أهل ذلك المجلس وهم ناعمون. ويخلبو، لا أخلاه الله من الإحسان، بحوريّتين له من الحور العين، فإذا بهره ما يراه من الجمال قال: أعزز عليَّ بهلاك الكنديِّ، إنِّي لأذكر بكما قوله:
| ||
كدأبك من أمِّ الحويرث قبلها | وجارتها أمِّ الرَّباب بمأسل | |
إذا قامتا تضوَّع المسك منهما | نسيم الصّبا جاءت بريا القرنفل |
وقوله:
| ||
كعاطفتين من نعاج تبالةٍ | على جؤذرين، أو كبعض دمى هكر | |
إذا قامتا تضوَّع المسك منهما | وأصورةٌ من اللَّطيمة والقطر |
وأين صاحبتاه منكما لا كرامة لهما ولا نعمة عينٍ؟ لجلسةٌ معكما بمقدار دقيقةٍ من دقائق ساعات الدُّنيا، خيرٌ من ملك بني آكل المرار وبني نصر بالجيرة وآل جفنة ملوك الشَّام. ويقبل على كل ِّواحدةٍ منهما يترشَّف رضا بها ويقول: إنَّ امرأ القيس لمسكينٌ مسكينٌ! تحترق عظامه في السَّعير وأنا أتمثَّل بقوله:
| ||
كأنّ المدام وصوب الغمام | وريح الخزامى ونشر القطر | |
يعلُّ به برد أنيابها | إذا غرَّد الطَّائر المستحر |
وقوله:
| ||
يَّام فوها كلّما نبَّهتها | كالمسك بات وظلَّ في الفدَّام | |
أنفٌ كلون دم الغزال معتَّقٌ | من خمر عانة أو كروم شبام |
فتستغرب إحداهما ضحكاً. فيقول: ممَّ تضحكين! فتقول: فرحاً بتفضلُّ الله الذي وهب نعيماً، وكان بالمغفرة زعيماً، أتدري من أنا يا عليَّ بن منصور؟ فيقول: أنت من حور الجنان اللَّواتي خلقكن الله جزاءً للمتَّقين، وقال فيكنَّ: كأنَّهنّ الياقوت والمرجان فتقول: أنا كذلك بإنعام الله العظيم، على أنّي كنت في الدار العاجلة أعرف بحمدونة، وأسكن في باب العراق بحلب وأبي صاحب رحىً، وتزوَّجني رجلٌ يبيع السَّقط فطلَّقني لرائحةٍ كرهها من فيَّ، وكنت من أقبح نساء حلب، فلمَّا عرفت ذلك زهدت في الدنيا الغرَّارة، وتوفَّرت على العبادة، وأكلت من مغزلي ومردني، فصيَّرني ذلك إلى ما ترى. وتقول الأخرى: أتدري من أنا يا عليَّ بن منصور؟ أنا توفيق السَّوداء التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد على زمان أبي منصورٍ محمَّد بن عليٍّ الخازن وكنت أخرج الكتب إلى النُّساخ. فيقول: لا إله إلاّ الله، لقد كنت سوداء فصرت أنصع من الكافور، وإن شئت القافور. فتقول: أتعجب من هذا، والشاعر يقول لبعض المخلوقين:
| ||
لو أنَّ من نوره مثقال خردلةٍ | في السُّود كلِّهم، لأبيضّت السُّود |
ويمرُّ ملكٌ من الملائكة، فيقول: يا عبد الله، أخبرني عن الحور العين، أليس في الكتاب الكريم: " إنَّا أنشأناهنَّ إنشاءً، فجعلناهنَّ أبكاراً، عرباً أتراباً، لأصحاب اليمين " . فيقول الملك: هنَّ على ضربين: ضربٌ خلقه الله في الجنَّة لم يعرف غيرها، وضربٌ نقله الله من الدار العاجلة لمَّا عمل الأعمال الصالحة. فيقول، وقد فكر ممَّا سمع، أي عجب: فأين اللّواتي لم يكنَّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميَّزن من غيرهنَّ؟ فيقول الملك: قف أثري لترى البديء من قدره الله. فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهها إلاّ الله، فيقول الملك: خذ ثمرةً من هذا الثمر فاكسرها فإنَّ هذا الشجر يعرف بشجر الحور. فيأخذ سفرجلةً،أو رمَّانةً، أو تفَّاحةً، أو ما شاء الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوراء عيناء تبرق لحسنها حوريّات الجنان، فتقول: من أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا فلان بن فلانٍ. فتقول: إنَّي أمنَّى بلقائك قبل أن يخلق الله الدُّنيا بأربعة آلاف سنة. فعند ذلك يسجد إعظاماً لله القدير ويقول: هذا كما جاء في الحديث: أعددت لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، وبله ما أطلعتهم عليه وبل في معنى: دع وكيف. ويخطر في نفسه، وهو ساجدٌ، أنَّ تلك الجارية، على حسنها، ضاويةٌ، فيرفع رأسه من السُّجود وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالجٍ، وأنقاء الدَّهناء، وأرملة يبرين وبني سعدٍ، فيهال من قدرة اللّطيف الخبير ويقول: يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، ودعا إلى الحلم الجهَّال، أسألك أن تقصر بوص هذه الحوريَّة على ميلٍ في ميل، فقد جاز بها قدرك حدَّ التأميل. فيقال له: أنت مخيَّر في تكوين هذه الجارية كما تشاء. فيقتصر من ذلك على الإرادة.
ويبدو له أن يطَّلع إلى أهل النّار فينظر إلى ما هم فيه ليعظم شكره على النّعم، بدليل قوله تعالى: " قال قائلٌ منهم: إنّي كان لي قرينٌ، يقول أئنَّك لمن المصدِّقين، أئذا متنا وكنَّا ترباً وعظاماً أئنَّا لمدينون. قال هل أنتم مطَّلعون. فاطَّلع فرآه في سواء الجحيم، قال: تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة ربِّي لكنت من المحضرين " . فيركب بعض دوابِّ الجنَّة ويسير، فإذا هو بمدائن ليست كمدائن الجنَّة، ولا عليها النّور الشّعشعانيُّ، وهي ذات أدحالٍ وغماليل. فيقول لبعض الملائكة: ما هذه يا عبد الله؟ فيقول: هذه جنِّة العفاريت الذين آمنوا بمحمَّد، صلَّى الله عليه وسلَّم، وذكروا في الأقحاف، وفي سورة الجنَّ، وهم عددٌ كثيرٌ. فيقول: لأعدَّلنَّ إلى هؤلاء فلن أخلو لديهم من أعجوبةٍ. فيعوج عليهم، فإذا هو بشيخٍ جالسٍ على باب مغارةٍ، فيسلِّم عليه فيحسن الرَّدَّ ويقول: ما جاء بك يا إنسيُّ؟ إنَّك بخيرٍ لعسيّ، مالك من القوم سيّ! فيقول: سمعت أنَّكم جنٌّ مؤمنون فجئت ألتمس عندكم أخبار الجنَّان، وما لعلَّه لديكم من أشعار المردة. فيقول ذلك الشيخ: لقد أصبت العالم ببجدة الأمر، ومن هو منه كالقمر من الهالة لا كالحاقن من الإهالة، فسل عمّا بدا لك. فيقول: ما أسمك أيّها الشيخ؟ فيقول: أنا الخيثعرر أحد بني الشِّيصبان،ولسنا من ولد إبليس ولكنَّا من الجنّ الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم، صلّى الله عليه. فيقول: أخبرني عن أشعار الجنِّ، فقد جمع منها المعروف بالمرزبانيّ قطعةً صالحة. فيقول ذلك الشيخ: إنّما ذلك هذيانٌ لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النَّظيم إلاّ كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وإنَّما لهم خمسة عشر جنساً من الموزون قلَّ ما يعدوها القائلون، وإنَّ لنا لآلاف أوزانٍ ما سمع بها الإنس. وإنَّما كانت تخطر بهم أطيفالٌ منَّا عارمون فتنفث إليهم مقدار الضُّوازة من أراك نعمان. ولقد نظمت الرّجز والقصيد قبل أن يخلق الله آدم بكورٍ أن كورين. وقد بلغني أنّكم معشر الإنس تلهجون بقصيدة امريء القيس:
| ||
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل | .......................... |
آداب الجن
تحفِّظونها الحزاورة في المكاتب، وإن شئت أمليتك ألف كلمةٍ على هذا الوزن على مثل: منزل وحومل، وألفاً على ذلك القبريّ يجيء على منزل وحومل، وألفاً على منزلاً وحوملاً، وألفاً على: منزله وحومله، وألفاً على: منزله وحومله، وألفاً على: منزله وحومله. وكلُّ ذلك لشاعرٍ منَّا هلك وهو كافرٌ، وهو الآن يشتعل في أطباق الجحيم. فيقول، وصل الله أوقاته بالسعادة: أيُّها الشيخ، لقد بقي عليك حفظك! فيقول: لسنا مثلكم يا بني آدم يغلب علينا النِّسيان والرُّطوبة، لأنِّكم خلقتم من حماءٍ مسنونٍ، وخلقنا من مارجٍ من نار. فتحمله الرَّغبة في الأدب أن يقول لذلك الشّيخ: أفتملُّ عليَّ شيئاً من تلك الأشعار؟ فيقول الشيخ: فإذا شئت أمللتك ما لا تسقه الرِّكاب، ولا تسعه صحف دنياك. فيهمُّ الشّيخ، لا زالت همتَّه عاليةً، بأن يكتتب منه، ثمَّ يقول: لقد شقيت في الدار العاجلة بجمع الأدب، ولم أحظ منه بطائلٍ، وإنَّما كنت أتقرَّب به إلى الرؤساء، فأحتلب منهم درَّبكيء وأجهد أخلاف مصورٍ، ولست بموفَّقٍ إن تركت لذَّات الجنَّة وأقبلت أتنسخ آداب الجنَّ ومعي من الأدب ما هو كان لاسيما وقد شاع النسيان في أهل أدب الجنة، فصرت من أكثرهم رواية وأوسعهم حفظاً، ولله الحمد. ويقول لذلك الشيخ: ما كنيتك لأكرمك بالتَّكنية؟ فيقول: أبو هدرش، أولدت من الأولاد ما شاء الله، فهم قبائل: بعضهم في النّار الموقدةٍ، وبعضهم في الجنان. فيقول: يا أبا هدرش، مالي أراك أشيب وأهل الجنّة شبابٌ؟ فيقول: إنَّ الإنس أكرموا بذلك وأحرمناه، لأنّا أعطنا الحولة في الدار الماضية، فكان أحدنا إن شاء صار حيَّةً رقشاء، وإن شاء صار عصفوراً، وإن شاء صار حمامة، فمنعنا التصوَّر في الدار الآخرة، وتركنا على خلقنا لا نتغيَّر، وعوّض بنو آدم كونهم فيما حسن من الصور. وكان قائل الإنس يقول في الدار الذاهبة: أعطينا الحيلة، وأعطي الجنُّ الحولة.
ولقد لقيت من بني آدم شرّاً، ولقوا منّي كذلك، دخلت مرَةً دار أناسٍ أريد أن أصرع فتاةً لهم، فتصوَّرت في صورة عضلٍ أي جرذٍ فدعوا لي الضَّياون، فلمَّا أرهقتني تحوَّلت صلاً أرقم ودخلت في قطيلٍ هناك، فلمَّا علموا ذلك كشفوه عني، فلمَّا خفت القتل صرت ريحاً هفَّافةً فلحقت بالرَّوافد ونقضوا تلك الخشب والأجذال فلم يروا شيئاً. فجعلوا يتفكَّنون ويقولون: ليس هاهنا مكانٌ يمكن أن يستتر فيه. فبيناهم يتذاكرون ذلك عمدت لكعابهم في الكلَّة، فلمَّا رأتني أصابها الصَّرع، واجتمع أهلها من كلِّ أوبٍ، وجمعوا لها الرقاة، وجاؤوا بالأطبَّة وبذلوا المنفسات، فما ترك راقٍ رقيةً إلاَّ عرضها عليَّ وأنا لا أجيب، وغبرت الأساة تسقيها الأشفية وأنا سدكٌ بها لا أزول، فلمَّا أصابها الحمام طلبت لي سواها صاحبةً، ثمّ كذلك حتى رزق الله الإنابة وأثاب الجزيل،فلا أفتأ له من الحامدين:
| ||
حمدت من حطِّ أوزاري ومزَّقها | عنَّي، فأصبح ذنبي اليوم مغفوراً | |
وكنت آلف من أتراب قرطبة | خوداً، وبالصِّين أخرى بنت يغبورا | |
أزور تلك وهذي، غير مكترث | في ليلةٍ، قبل أن أستوضح النُّورا | |
ولا أمرُّ بوحشيٍّ ولا بشرٍ | إلاّ وغادرته ولهان مذعورا | |
أروِّع الزِّنج إلماماً بنسوتها | والرُّوم والتُّرك والسِّقلاب والغورا | |
وأركب الهيق في الظَّلماء معتسفاً | أولا، فذبَّ ريادٍ بات مقرورا | |
وأحضر الشَّرب أعروهم بآبدةٍ | يزجون عوداً ومزماراً وطنبوراً | |
فلا أفارقهم حتَّى يكون لهم | فعلٌ، يظلُّ به إبليس مسرورا | |
وأصرف العدل ختلاً عن أمانته | حتى يخون، وحتى يشهد الزُّورا | |
وكم صرعت عواناً في لظى لهبٍ | قامت تمارس للأطفال مسجوراً | |
وذادني المرء نوحٌ عن سفينته | ضرباً، إلى أن غدا الظُّنبوب مكسورا | |
وطرت في زمن الطُّوفان معتلياً | في الجوِّ حتى رأيت الماء محسورا | |
وقد عرضت لموسى في تفرُّده | بالشاء ينتج عمروساً وفرفورا | |
لم أخله من حديثٍ مَّا، ووسوسةِ | إذ دكَّ ربُّك في تكليمه الطُّورا | |
أضللت رأي أبي ساسان عن رشدٍ | وسرت مستخفياً في جيش سابورا | |
وساد بهرام جور وهو لي تبعٌ | أيَّام يبني على علاَّته جورا | |
فتارةً أنا صلُّ في نكارته | وربَّما أبصرتني العين عصفورا | |
تلوح لي الإنس عوراً أو ذوي حولاً | من بعد ما عشت بالعصيان مشهورا | |
حتى إذا انفضَّت الدُّنيا ونودي: إس | رافيل ويحك، هلاَّ تنفخ الصُّورا | |
أماتني الله شيئاً، ثمّ أيقظني | لمبعثي، فرزقت الخلد مبرورا |
فيقول: لله درُّك يا أبا هدرش؟ لقد كنت تمارس أوابد ومندياتٍ، فكيف ألسنتكم؟ أيكون فيكم عربٌ لا يفهمون عن الروم، ورومٌ لا يفهمون عن العرب، كما نجد في أجيال الإنس؟ فيقول: هيهات أيّها المرحوم؟ إنَّا أهل ذكاءٌ وفطنٍ، ولابدَّ لأحدنا أن يكون عارفاً بجميع الألسن الإنسيَّة، ولنا بعد ذلك لسانٌ لا يعرفه الأنيس. وانا الذي أنذرت الجنَّ بالكتاب المنزل: أدلجت في رفقةٍ من الخابل نريد اليمن، مررنا بيثرب في زمان المعو أي الرُّطب فسمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرُّشد فآمنَّا به ولن نشرك بربنا أحداً: وعدت إلى قومي فذكرت لهم ذلك، فتسرعت منهم طوائف إلى الإيمان، وحثَّهم على ما فعلوه أنّهم رجموا عن استراق السَّمع بكواكب محرقاتٍ. فيقول: يا أبا هدرش، أخبرني، وأنت الخبير، هل كان رجم النُّجوم في الجاهليَّة؟ فإنَّ بعض النَّاس يقول إنَّه حدث في الإسلام. فيقول: هيهات؟ أما سمعت قول الأوديِّ:
| ||
كشهاب القذف يرميكم به | فارسٌ، في كفِّه للحرب نار |
وقول ابن حجرٍ:
| ||
فانصاع كالدُّرِّيِّ يتبعه | نقعٌ يثور، تخاله طنبا |
ولكنَّ الرَجم زاد في أوان المبعث، وإنَّ التِّخرُّص لكثيرٌ في الإنس والجنِّ، وإنَّ الصِّدق لمعوزٌ قليلٌ، وهنيئاً في العاقبة للصَّادقين،وفي قصِة الرَّجم أقول:
| ||
مكَّة أقوت من بني الدَّردبيس | فما لجنِّيِّ بها من حسيس | |
وكسِّرت أصنامها عنوةً | فكلُّ جبتٍ بنصيلٍ رديس | |
وقام في الصَّفوة من هاشمٍ | أزهر لا يغفل حقَّ الجليس | |
يسمع ما أنزل من ربّه ال | قدُّوس وحياً مثل قرع الطَّسيس | |
يجلد في الخمر، ويشتدُّ في ال | أمر، ولا يطلق شرب الكسيس | |
ويرجم الزَّاني ذا العرس لا | يقبل فيه سؤلةً من رئيس | |
وكم عروسٍ بات حرَّاسها | كجرهمٍ في عزَّها أو جديس | |
زفَّت إلى زوجٍ لهاء سيّدٍ | ما هو بالنِّكس ولا بالضّبيس | |
غرت عليها، فتخلَّجتها | بواشك الصَّرعة قبل المسيس | |
وأسلك الغادة محجوبةً | في الخدر، أو بين جوارٍ تميس | |
لا أنتهي عن غرضي بالرُّقى | إذا انتهى الضَّيغم دون الفريس | |
وأدلج الظَّلماء في فتيةٍ | ملجنِّ فوق الماحل العربسيس | |
في طاسمٍ تعزف جنَّانه | أقفز إلاَّ من عفاريت ليس | |
بيضٍ، بها ليل، ثقالٍ، يعا | ليل، كرامٍ، ينطقون الهسيس | |
تحملنا في الجنح خيلٌ لها | أجنحةٌ، ليست كخيل الأنيس | |
وأينقٌ تسبق أبصاركم | مخلوقةٌ بين نعامٍ وعيس | |
تقطع من علوة في ليلها | إلى قرى شاسٍ بسيرٍ هميس | |
لا نسك في أيَّامنا عندنا | بل نكس الدَّين فما إن نكيس | |
فالأحد الأعظم، والسَّبت كال | إثنين، والجمعة مثل الخميس | |
لا مجسٌ نحن، ولا هوَّدٌ | ولا نصارى يبتغون الكنيس | |
نمزِّق التَّوراة من هونها | ونحطم الصُّلبان حطم اليبيس | |
نحارب الله جنوداً لإب | ليس أخي الرأي الغبين النَّجيس | |
نسلِّم الحكم إليه إذا | قاس، فنرضى بالضَّلال المقيس | |
نزين للشارخ والشيخ أن | يفرغ كيساً في الخنا بعد كي | |
ونفتري جنَّ سليمان كي | نطلق منها كلَّ غاوٍ حبيس | |
صيَّر في قارورةٍ رصِّصت | فلم تغادر منه غير النَّسيس | |
ونخرج الحسناء مطرودةً | من بيتها عن سوء ظنٍّ حديس | |
نقول: لا تقنع بتطليقةٍ | وأقبل نصيحاً لم يكن بالدَّسيس | |
حتى إذا صارت إلى غيره | عاد من الوجد بجدٍّ تعيس | |
نذكره منها، وقد زوِّجت | ثغراً كدرٍّ في مدامٍ غريس | |
ونخدع القسيِّيس في فصحه | من بعد ما ملِّىء بالأنقليس | |
أصبح مشتاق إلى لذّةٍ | معلَّلاً بالصِّرف أو بالخفيس | |
أقسم لا يشرب إلاّ دوي | ن السُّكر، والبازل تالي السَّديس | |
قلنا له: أزدد قدحاً واحداً | ما أنت أن تزداده بالوكيس | |
يحميك في هذا الشَّفيف الذي | يطفىء بالقرِّ التهاب الحميس | |
فعبّ فيها، فوهى لبُّه | وعُدَّ من آل اللَّعين الرّجيس | |
حتَّى يفيض الفم منه على | نمرقتيه بالشَّراب القليس | |
ونسخط الملك على المشفق ال | مفرط في النَّصح إذا الملك سيس | |
وأعجل السِّعلاة عن قوتهأ | في يدها كشح مهاةٍ نهيس | |
لا أتَّقي البرَّ لأهواله | وأركب البحر أوان القريس | |
نادمت قابيل وشيثاً وها | بيل على العاتقة الخندريس | |
وصاحبي لمك لدى المزهر ال | معملِ لم يعي بزيرٍ جسيس | |
ورهط لقمان وأيساره | عاشرت من بعد الشَّباب اللَّبيس | |
ثمَّت آمنت، ومن يرزق ال | إيمان يظفر بالخطير النّفيس | |
جاهدت في بدرٍ وحاميت في | أحدٍ وفي الخندق رعت الرّئيس | |
وراء جبريل وميكال نخ | لي الهام في الكبّة خلي اللِّسيس | |
حين جيوش النّصر في الجوَّ، وال | طاغوت كالزَّرع تناهى، فديس | |
عليهم في هبوات الوغى | عمائمٌ صفرٌ كلون الوريس | |
صهيل حيزوم إلى الآن في | سمعي أكرم بالحصان الرَّغيس | |
لا يتبع الصَّيد ولا يألف ال | قيد ولا يشكو الوجى والدَّخيس | |
فلم تهبني حرَّةٌ عانسٌ | ولا كعابٌ ذات حسنٍ رسيس | |
وأيقنت زيني منَّي الُّتقى | ولم تخف من سطواتي لميس | |
وقلت للجنِّ: ألا يا اسجدوا | لله، وانقادوا انقياد الخسيس | |
فإنَّ دنياكم لها مدَّةٌ | غادرةٌ بالسَّمح أو بالشَّكيس | |
بلقيس أودت ومضى ملكها | عنها، فما في الأذن من هلبسيس | |
وأسرة المنذر حاروا عن ال | حيرة كلٌّ في ترابٍ رميس | |
إنَا لمسنا بعدكم فاعلموا | برقع، فاهتاجت بشرٍّ بئيس | |
ترمي الشّياطين بنيرانها | حتى ترى مثل الرَّماد الدَّريس | |
فطاوعتني أمَّةٌ منهم | فازت، وأخرى لحقت الرَّكيس | |
وطار في اليرموك بي سابحٌ | والقوم في ضربٍ وطعنٍ خليس | |
حتَّى تجلَّت عنِّي الحرب كال | جمرة في وقدة ذاك الوطيس | |
والجمل الأنكد شاهدته | بئس نتيج النّاقة العنتريس | |
بين بني ضبَّة مستقدماً | والجهل في العالم داءٌ نجيس | |
وزرت صفِّين على شبطةٍ | جرداء، ما سائسها بالأريس | |
مجدِّلاً بالسَّيف أبطالها | وقاذفاً بالصَّخرة المرمريس | |
وسرت قدَّام عليٍّ غدا | ة النَّهر حتى فلّ غرب الخميس | |
صادف منَّي واعظٌ توبةً | فكانت اللَّقوة عند القبيس |
فيعجبٌ، لا زال في الغبطة والسُّرور، لما سمعه من ذلك الجنيِّ، ويكره الإطالة عنده فيودِّعه. ويحمُّ فإذا هو بأسدٍ يفترس من صيران الجنّة وحسيلها فلا تكفيه هنيدةٌ ولا هندٌ أي مائة ولا مائتان فيقول في نفسه: لقد كان الأسد يفترس الشاة العجفاء، فيقيم عليها الأيَّام لا يطعم سواها شيئاً. فيلهم الله الأسد أن يتكلّم، وقد عرف ما في نفسه، فيقول: يا عبد الله، أليس أحدكم في الجنَّة تقدَّم له الصِّحفة وفيها البهطُّ والطِّريم مع النَّهيدة، فيأكل منها مثل عمر السّموات والأرض، يلتذّ بما أصاب فلا هو مكتفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا افترس ما شاء الله، فلا تأذى الفريسة بظفرٍ ولا نابٍ، ولكن تجد من اللَّذة كم أجد بلطف ربِّها العزيز. أتدري من أنا أيُّها البزيع؟ أنا أسد القاصرة التي كانت في طريق مصر، فلمَّا سافر عتبة بن أبي لهبٍ يريد تلك الجهة، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " اللهمَّ سلَّط عليه كلباً من كلابك " ، ألهمت أن أتجوَّع له أيَّاماً، وجئت وهو نائمٌ بين الرُّفقة فتخللَّت الجماعة إليه، وأدخلت الجنَّة بما فعّلت.
ويمرُّ بذئبٍ يقتنص ظباءً فيفني السُّربة بعد السُّربة، وكلَّما فرغ من ظبيٍ أو ظبية، عادت بالقدرة إلى الحال المعهودة، فيعلم أنَّ خطبه كخطب الأسد، فيقول: ما خبرك با عبد الله؟ فيقول: أنا الذئب الذي كلَّم الأسلمي على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كنت أقيم عشر ليالٍ أو أكثر، لا أقدر على العكرشة ولا القواع، وكنت إذا همّمت بعجيّ المعيز، آسد الراعي عليَّ الكلاب، فرجعت إلى الصاحبة مخرَّق الإهاب. فتقول: لقد خطئت في أفكارك، ما خير لك في ابتكارك، وربمّا رميت بالسِّروة فنشبت في الأقراب، فأبيت ليلتي لما بي، حتى تنتزعها السِّلقة وأنا بآخر النَّسيس، فلحقتني بركة محمّد صلى الله عليه وسلم. فيذهب، عرِّفه الله الغبطة في كلّ ِسبيل، فإذا هو ببيتٍ في أقصى الجنة، كأنَّه حفش أمةٍ راعيةٍ، وفيه رجلٌ ليس عليه نور سكّان الجنّة، وعنده شجرةٌ قميئةٌ ثمرها ليس بزاكٍ. فيقول: يا عبد الله، لقد رضيت بحقيرٍ شقنٍ. فيقول: والله ما وصلت إليه إلاَّ بعد هياطٍ ومياطٍ وعرقٍ من شقاءٍ، وشفاعةٍ من قريشٍ وددت أنّها لم تكن: فيقول: من أنت؟ فيقول أنا الحطيئة العبسي فيقول: بم وصلت إلى الشّفاعة؟ فيقول بالصَّدق. فيقول: في أيِّ شيءٍ؟ فيقول: في قولي:
| ||
أبت شفتاي اليوم إلا تكلمُّماً | بهجرٍ، فما أدري لمن أنا قائله | |
أرى لي وجهاً شوَّه الله خلقه | فقبِّح من وجهٍ، وقبِّح حامله |
فيقول: ما بال قولك:
| ||
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه | لا يذهب العرف بين الله والنّاس |
م يغفر لك به؟ فيقول: سبقني إلى معناه الصّالحون، ونظمته ولم أعمل به، فحرمت الأجر عليه. فيقول: ما شأن الزبرقان ابن بدرٍ؟ فيقول الحطيئة: هو رئيسٌ في الدُّنيا والآخرة، انتفع بهجائي ولم ينتفع غيره بمديحي.
الخنساء السُّلميّة
فيخلِّفه ويمضي، فإذا هو بامرأة في أقصى الجنَّة، قريبةٍ من المطلَّ إلى النار. فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا الخنساء السُّلميّة، أحببت أن أنظر إلى صخرٍ فاطلَّعت فرأيته كالجبل الشّامخ والنار تضطرم في رأسه، فقال لي؟ لقد صحَّ مزعمك فيَّ؟ يعني قولي:
| ||
وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداة به | كأنَّه علمٌ في رأسه نار |
فيطلَّع فيرى إبليس، لعنه الله، وهو يضطرب في الأغلال والسّلاسل ومقامع الحديد تأخذه من أيدي الزَّبانية. فيقول: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله وعدوَّ أوليائه! لقد أهلكت من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلاّ الله. فيقول: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان ابن فلانٍ من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب، أتقرَّب به إلى الملوك. فيقول: بئس الصَّناعة؟ إنَّها تهب غفَّةً من العيش، لا يتَّسع بها العيال، وإنَّها لمزلَّةٌ بالقدم وكم أهلكت مثلك! فهنياً لك إذ نجوت، فأولى لك ثمَّ أولى؟! وإنَّ لي إليك لحاجةً، فإن قضيتها شكرتك يد المنون. فيقول: إنّي لا أقدر لك على نفعٍ، فإن الآية سبقت في أهل النَّار، أعني قوله تعالى: " ونادى أصحاب النَّار أصحاب الجنَّة أن أقبضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله، قالوا إنَّ الله حرَّمهما علىالكافرين " .
فيقول: إنِّي لاأسألك في شيءٍ من ذلك، ولكن أسألك عن خبرٍ تخبرينه: إنَّ الخمر حرِّمت عليكم في الدُّنيا وأحلَّت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنَّة بالولدان المخلَّدين فعل أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة؟! أما شغلك ما أنت فيه؟ أما سمعت قوله تعلى: " ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرةٌ وهم فيه خالدون " ؟ فيقول: وإنَّ في الجنَّة لأشربةً كثيرةً غير الخمر، فما فعل بشَّار بن بردٍ؟ فإنَّ له عندي يداً ليست لغيره من ولد آدم: كان يفضِّلني دون الشعراء، وهو القائل:
| ||
إبليس أفضل من أبيكم آدمٍ | فتبيَّنوا يا معشر الأشرار | |
النّار عنصره، وآدم طينةٌ | والطِّين لا يسمو سموَّ النّار |
لقد قال الحقَّ، ولم يزل قائله من الممقوتين. فلا يسكت من كلامه، إلاَّ ورجلٌ في أصناف العذاب يغمِّض عينيه حتى لا ينظر إلى ما نزل به من النِّقم، فيفتحها الزَّبانية بكلاليب من نارٍ، وإذا هو بشَّار بن بردٍ قد أعطي عينين بعد الكمه، لينظر إلى ما نزل به من النَّكال،فيقول له، أعلى الله درجته: يا أبا معاذٍ، لقد أحسنت في مقالك، وأسأت في معتقدك، ولقد كنت في الدّار العاجلة أذكر بعض قولك فأترحِّم عليك، ظنَّا نَّ التَوبة ستلحقك، مثل قولك:
| ||
ارجع إلى سكنٍ تعيش به | ذهب الزَّمان وأنت منفرد | |
ترجو غداً، وغدٌ كحاملةٍ | في الحيِّ لا يدرون ما تلد؟! |
وقولك:
| ||
واهاً لأسماء ابنة الأشدِّ | قامت تراءى إذ رأتني وحدي | |
كالشَّمس بين الزَّبرج المنقدِّ | ضنَّت بخدٍّ، وجلت عن خدِّ | |
ثمَّ انثنت كالنَّفس المرتدّ | ؛وصاحب كالدُّمَّل الممدِّ | |
أرقب منه مثل حمَّى الورد | حملته في رقعةٍ من جلدي | |
الحرُّ يلحى، والعصا للعبد | وليس للملحف مثل الرَّدِّ |
الآن وقع منك اليأس! وقلت في هذه القصيدة: السُّبد، في بعض قوافيها، فإن كنت أردت جمع سُبدٍ، وهو طائرٌ، فإنّ فعلاً لا يجمع على ذلك؛ وإن كنت سكنت الباء فقد أسأت، لأنَّ تسكين الفتحة غير معروفٍ، ولا حجَّة لك في قول الأخطل:
| ||
وما كلُّ مغبونٍ إذا سلف صفقةً | براجع ما قد فاته برداد |
ولا في قول الآخر:
| ||
وقالوا: ترابيُّ، فقلت: صدقتم | أبي من ترابٍ خلقه الله آدما |
لأنَّ هذه شواذٌّ، فأمَّا قول جميل:
| ||
وصاح ببينٍ من بثينة، والنَّوى | جميعٌ بذات الرَضم صردٌ محجَّل |
فإنَّ من أنشده بضمِّ الصَاد مخطىء، لأنَّه يذهب إلى أنَّه أراد الصُّرد فسكَّن الراء، وإنَّما هو صردٌ أي خالصٌ من قولهم: احبك حباً صرداً، أي خالصاً، يعني غراباً أسود ليس فيه بياضٌ، وقوله: محجَّلٌ أي مقيَّد، لأنَّ حلقة القيد تسمَّى حجلاً،قال عديُّ بن زيد:
| ||
أعاذل قد لاقيت ما بزع الفتى | وطابقت في الحجلين مشي المقيَّد |
والغراب يوصف بالتَّقييد لقصر نساه، قال الشاعر:
| ||
ومقيّدٍ بين الدِّيار كأنَّه | حبشيُّ داجنةٍ يخرُّ ويعتلي |
فيقول بشَّارٌ: يا هذا! دعني من أباطيلك فإنِّي لمشغولٌ عنك. ويسأل عن امرىء القيس بن حجر، فيقل: ها هو ذا بحيث يسمعك. فيقول: يا أبا هند إنَّ رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أوَّلها، أعني قولك:
| ||
وكأنَّ ذرى رأس المجيمر غدوةً | ....................... |
وكذلك:
| ||
وكأنَّ مكاكيَّ الجواء غُذيَّة | ...................... | |
وكأنَ السِّباع فيه غرقى عشية | ......................... |
فيقول: أبعد الله أولئك! لقد أساؤوا الرواية، وإذا فعلوا ذلك فأيُّ فرقٍ يقع بين النّظم والنّثر؟ وإنما ذلك شيءٌ فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنَّه المتأخِّرون أصلاً في المنظوم، وهيهات هيهات! فيقول: أخبرني عن قولك: كبكر المقاناة البياض بصفرةٍ ماذا أردت بالبكر؟ فقد اختلف المتأوِّلون في ذلك فقالوا: البيضة، وقالوا: الدُّرّة، وقالوا: الرّوضة، وقالوا الزّهرة، وقالوا: البرديّة. وكيف تنشد: البياضِ، أم البياضَ، أم البياضُ؟ فيقول: كلُّ ذلك حسنٌ، وأختار البياض، بالكسر، فيقول: فرَّغ الله ذهنه للآداب: لو شرحت لك ما قال النحويّون في ذلك لعجبت. وبعض المعلِّمين ينشد قولك:
| ||
من السِّيل والغثاء فلكة مغزل | .......................... |
فيشدِّد الثاءً. فيقول: إنّ هذا لجهولٌ. وهو نقيض الذين زادو الواو في أوائل الأبيات: أولئك أرادوا النَّسق، فأفسدوا الوزن: وهذا البائس أراد أن يصحِّح الزَّنة فأفسد اللّفظ. وكذلك قولي:
| ||
فجئت وفد نضَّت لنومٍ ثيابها | ........................ |
منهم من يشدِّد الضاد، ومنهم من ينشد بالتخفيف، والوجهان من قولك: نضوت الثّوب. إلاّ أنك إذا شددت الضاد، أشّبه الفعل من النّضيض، يقال: هذه نضيضةٌ من المطر أي قليلٌ، والتخفيف أحبُّ إليَّ، وإنما حملهم على التشديد كراهة الزَّحاف، وليس عندنا بمكروه.
فيقول: لا برح منطقياً بالحكم: فأخبرني عن كلمتك الصاديِّة والضاديّة والنُّونيّة التي أوَّلها:
| ||
لمن طللٌ أبصرته فشجاني | كخطِّ زبورٍ في عسيب يمان |
لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السَّمع، كقولك:
| ||
إن أمس مكروباً فيا ربَّ غارة | شهدت على أقبِّ رخو اللَّبان |
وكذلك قولك في الكلمة الصَّادية:
| ||
على نقنقٍ هيقٍ له ولعرسه | بمنقطع الوعساء بيضٌ رصيص |
وقولك:
| ||
فأسقي به أختي ضعيفة، إذ نأت | وإذ بعد المزداد غير القريض |
في أشباه لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحسُّ بهذه الزِّيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون بما يقع فيه؟ كما أنَّه لا ريب أنَّ زهيراً كان يعرف مكان الزِّحاف في قوله:
| ||
يطلب شأو امرأين قدِّما حسباً | نالا الملوك، وبذَّا هذه السُّوقا |
فإنَّ الغرائز تحسُّ بهذه المواضع، فتبارك الله أحسن الخالقين. فيقول امرؤ القيس: أدركنا الأوّلين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه، فأمَّا أنا وطبقتي فكنَّا نمرُّ في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فني أو قارب تبيَّن أمره للسامع. فيقول، ثبَّت الله تعالى الإحسان عليه: أخبرني عن قولك:
| ||
ألا ربَّ يومٍ منهنَّ صالحٍ | ولا سيما يومٌ بدارة جلجل |
أتنشده: لك منهنَّ صالحٍ فتزاحف الكفِّ؟ أم تنشده على الرواية الأخرى؟ فأمَّا يومٌ، فيجوز فيه النّصب والخفض والرفع فأما النصب فعلى ما يجب للمفعول من الظُّروف، والعامل في الظَّرف هاهنا فعلٌ مضمرٌ، وأمَّا الرفع فعلى أن تجعل ما كافَّةً، وما الكافَّة عند بعض البصريِّين نكرةٌ، وإذا كان الأمر كذلك فهو بعدها مضمرةٌ، وإذا خفض يومٌ، فما من الزَّيادات. ويشدَّد سيَّ ويخفَّف: فأمَّا التشديد فهو اللغة العالية، وبعض النَّاس يخفَّف، ويقال: إنَّ الفرزدق مرَّ وهو سكران على كلابٍ مجتمعةٍ. فسلَّم عليها فلمّا لم يسمع لجواب أنشأ يقول:
| ||
فما ردَّ السّلام شيوخ قومٍ | مررت بهم على سكك البريد | |
ولا سيَّما الذي كانت عليه | قطيفه أرجوانٍ في القعود |
فيقول امرؤ القيس: أمَّا أنا فما قلت في الجاهليّة إلاَّ بزحافٍ: لك منهَّن صالحٍ. وأمَّا المعلِّمون في الإسلام فغيَّروه على حسب ما يريدون، ولا بأس بالوجه الذي اختاروه. والوجوه في يوم متقاربةٌ، وسيَّ تشديدها أحسن وأعرف. فيقول: أجل، إذا خففِّت صارت على حرفين أحدهما حرف علِّةٍ. ويقول: أخبرني عن التَّسميط المنسوب إليك، أصحيحٌ هو عنك؟ وينشده الذي يرويه بعض النَّاس:
| ||
يا صحبنا عرَّجوا | تقف بكم أسج | |
مهريَّةٌ دلج | في سيرها معج | |
فعرَّجوا كلُّهم | والهمُّ يشغلهم | |
والعيس تحملهم | ليست تعلِّلهم | |
يا قوم إنَّ الهوى | إذا أصاب الفتى | |
في القلب ثمَّ ارتقى | فهدَّ بعض القوى |
فيقول: لا والله ما سمعت هذا قطُّ، وإنّه لقريُّ لم أسلكه، وإنَّ الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليَّ! أبعد كلمتي التي أوَّلها:
| ||
ألا أنعم صباحاً أيُّها الطَّلل البالي | وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟ | |
خليليَّ مرَّا بي على أمّ جندب | لأقضي حاجات الفؤاد المعذَّب |
يقال لي مثل ذلك؟ والرَّجز من أضعف الشَّعر، وهذا الوزن من أضعف الرَّجز. فيعجب، ملأ الله فؤاده بالسُّرور، لما سمعه من امرىء القيس ويقول:: كيف ينشد:
| ||
جالت لتصرعني فقلت لها: قرى | إنَّي امرؤ صرعى عليك حرام |
أتقول: حرام، فتقوي؟ أم تقول: حرام، فتخرجه مخرج حذام وقطام؟ وقد كان بعض علماء الدَّولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الإقواء، أما سمعت البيت في هذه القصيدة:
| ||
فكأنَّ بدراً واصلٌ بكتفةٍ | وكأنَّما من عاقلٍ إرمام |
فيقول: لقد صدقت يا أبا هند، لأنَّ إرماماً هاهنا، ليس واقعاً موقع الصِّفة فيحمل على المجاورة، لأنَّه محمول على كأنَّما، وإضافته إلى ياء النَّفس تضعِّف الغرض. وقد ذهب بعض الناس إلى الإضافة في قول الفرزدق:
| ||
فما تدري إذا قعدت عليه | أسعد الله أكثر أم جذام |
فقالوا: أضاف كما قال جريرٌ:
| ||
إن الذين ابتنوا مجداً ومكرمةً | تلكم قريشي والأنصار أنصاري |
وكذلك قوله:
| ||
وإذا غضبت رمت ورائي مازنٌ | أولاد جندلتي كخير الجندل |
وبعضهم يروي: أولاد جندلة كخير الجندل وجندلة هذه هي أمُّ مازن بن مالك بن عمرو بن تميم وهي من نساء قريش. وإنَّا لنروي لك بيتاً ما هو في كلَّ الرِّوايات، وأظنُّه مصنوعاً لأنَّ فيه ما لم تجر عادتك بمثله، وهو قولك:
| ||
وعمرو بن درماء الهمام إذا غدا | بصارمه، يمشي كمشية قسورا |
فيقول: أبعد الله الآخر، لقد اخترص، فما اترَّص! وإنَّ نسبة مثل هذا إليَّ لأعدُّه إحدى الوصمات،فإن كان من فعله جاهليّاً، فهو من الذين وجدوا في النَّار صليّاً، وإن كان من أهل الإسلام، فقد خبط في ظلام. وإنَّما أنكر حذف الهاء من قسورة، لأنَّه ليس بموضع الحذف، وقلَّ ما يصاب في أشعار العرب مثل ذلك. فأمَّا قول القائل:
| ||
إنَّ ابن حارث إن أشتق لرؤيته | أو أمتدحه، فإنّ النَّاس قد علموا |
فليس من هذا النَّحو، إذ كان التّغيير إلى الأسماء الموضوعة أسرع منه إلى الأسماء التي هي نكراتٌ، إذ كانت النَّكرة أصلاً في الباب.
عنترة العبسيُّ
وينظر فإذا عنترة العبسيُّ متلدَّدٌ في السَّعير، فيقول: ما لك يا أخا عبسٍ؟ كأنَّك لم تنطق بقولك:
| ||
ولقد شربت من المدامة بعدما | ركد الهواجر، بالمشوف المعلم | |
بزجاجةٍ صفراء ذات أسرَّةٍ | قرنت بأزهر في الشَّمال مفدَّم |
وإنِّي إذا ذكرت قولك: هل غادر الشُّعراء من متردَّم لأقول: إنَّما قيل ذلك وديوان الشِّعر قليلٌ محفوظٌ، فأمَّا الآن وقد كثرت على الصائد ضباب، وعرفت مكان الجهل الرِّباب. ولو سمعت ما قيل بعد مبعث النّبي، صلى الله عليه وسلّم، لعتبت نفسك على ما قلت، وعلمت أنّ الأمر كما قال حبيب بن أوسٍ:
| ||
فلو كان يفنى الشِّعر أفناه ما قرت | حياضك منه في العصور الذّواهب | |
ولكنَّه صوب العقول إذا انجلت | سحائب منه، أعقبت بسحائب |
فيقول: وما حبيبكم هذا؟ فيقول: شاعرٌ ظهر في الإسلام. وينشده شيئاً من نظمه: فيقول: أمّاالأصل فعربيٌّ، وأمّا الفرع فنطق به غبيٌّ، وليس هذا المذهب على ما تعرف قبائل العرب. فيقول، وهو ضاحكٌ مستبشرٌ: إنَّما ينكر عليه المستعار، وقد جاءت العارية في أشعار كثيرٍ من المتقدِّمين، إلا إنها لاتجتمع كاجتماعها فيما نظمه حبيب بن أوسٍ. فما أردت بالمشوف المعلم؟ الدِّينار أم الرِّداء؟ فيقول: أيُّ الوجهين أردت، فهو حسنٌ ولا ينتقض.
فيقول، جعل الله سمعه مستودعاً كل الصالحات: لقد شقَّ عليَّ دخول مثلك إلى الجحيم، وكأنَّ أذني مصغيةٌ إلى قينات الفسطاط وهي تغرِّد بقولك:
| ||
أمن سميَّة دمع العين تذريف؟ | لو أنَّ ذا منك قبل اليوم معروف | |
تجلِّلتني إذ أهوى العصا قبلي | كأنَّها رشأٌ في البيت مطروف | |
العبد عبدكم، والمال مالكم | فهل عذابك عنِّي اليوم مصروف |
وإنِّي لأتمثِّل بقولك:
| ||
ولقد نزلت، فلا تظنِّي غيره | منِّي بمنزلة المحبِّ المكرّم |
ولقد وفِّقت في قولك: المحبِّ، لأنَّك جئت باللَّفظ على ما يجب في أحببت، وعامّة الشُّعراء يقولون: أحببت، فإذا صاروا إلى المفعول قالوا: محبوبٌ. قال زهير بن مسعودٍ الضَّبِّيُّ:
| ||
واضحة الغرَّة محبوبةٌ | والفرس الصّالح محبوب |
وقال بعض العلماء: لم يسمع بمحبٍّ إلا في بيت عنترة. وإنَّ الذي قال: أحببت، ليجب عليه أن يقول: محبُّ، إلا أنَّ العرب اختارت: أحبَّ في الفعل، وقالت في المفعول: محبوب. وكان سيبويه ينشد هذا البيت بكسر الهمزة:
| ||
إحبُّ لحبِّها السودان حتى | إحبُّ لحبِّها سود الكلاب |
فهذا على رأي من قال: مغيرة، فكسر الميم على معنى الإتباع، وليس هو عنده على: حببت أحبُّ،وقد جاء حببت، قال الشاعر [2]:
| ||
ووالله لولا تمره ما حببته | ولا كان أدنى من عبيدٍ ومرشق |
ويقال: إنَّ أبا رجاءٍ العطارديَّ قرأ: فاتَّبعوني يحببكم الله بفتح الياء. والباب فيما كان مضاعفاً متعدِّياً أن يجيء بالضّمِّ، كقولك: عددت أعدُّ، ورددت أردُّ، وقد جاءت أشياء نوادر كقولهم: شددت الحبل أشد؟ وأشدُّ، ونممت الحديث أنمّ وأنمُّ، وعللت القول أعلُّ وأعلُّ. وإذا كان غير متعدٍّ فالباب الكسر، كقولهم: حلَّ عليه الدَّين يحلُّ، وجلَّ الأمر يجلُّ. والضمُّ في غير المتعديّ أكثر من الكسر فيما كان متعدّياً، كقولهم: شَحَّ يَشُحُّ وَيشِحُّ، وشبّ الفرس يَشُبُّ ويَشِبُّ، وصحّ الأمر يَصِحُّ ويَصُحُّ، وفحتِ الحيَّة تَفِحُّ وتفُحُّ، وجّمُّ الماء يَجِمُّ ويَجُمُّ، وجدَّ في الأمر يّجِدُّ ويَجُدُّ في حروفٍ كثيرةٍ. وينظر فإذا علقمة بن عبيدة فيقول: أعزز عليَّ بمكانك! ما أغنى عنك سمطا لؤلؤك. يعني قصيدته التي على الباء: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب والتي على الميم: هل ما علمت وما استودعت مكتوم فبالذي يقدر على تخليصك، ما أردت بقولك:
| ||
فلا تعدلي بيني وبيين مغمَّرٍ | سقتك روايا المزن حين تصوب | |
وما القلب، أم ماذكرها ربعيَّة | يخطُّ لها من ثرمداء قليب |
أعنيت بالقليب هذا الذي يورد، أم القبر؟ ولكلٍ وجهٌ حسنٌ. فيقول علقمة: إنَّك لتستضحك عابساً، وتريد أن تجني الثَّمر يابساً، فعليك شغلك أيُّها السَّليم! فيقول: لو شفعت لأحدٍ أبياتٌ صادقةٌ ليس فيها ذكر الله، سبحانه، لشفعت لك أبياتك في وصف النَّساء، أعني قولك:
| ||
فإن تسألوني بالنسِّاء فإننِّي | بصيرٌ بأدواء النِّساء طبيب | |
إذا شاب رأس المرء، أو قلّ ماله | فليس له في ودِّهنَّ نصيب | |
يردن ثراء المال حيث علمنه | وشرخ الشِّباب عندهنَّ عجيب |
ولو صادفت منك راحةً لسألتك عن قولك:
| ||
وفي كلِّ حيٍّ قد خبطَّ بنعمةٍ | فحُقّ لشاشٍ من نداك ذنوب |
أهكذ نطقت بها طاءً مشدّدةً، أم قالها كذلك عربيٌّ سواك؟ فقد يجوز أن يقول الشاعر الكلمة، فيغيِّرها عن تلك الحال الرواة،وإنَّ في نفسي لحاجةً من قولك:
| ||
كأس عزيزٌ من الأعناب عتَّقها | لبعض أربابها حانيَّةٌ حوم |
فقد اختلف النَّاس في قولك حوم، فقيل: أراد حُمَّاً، أي سوداً، فأبدل من إحدى الميمين واواً. وقيل: أراد حوماً أي كثيراً فضمَّ الحاء للضَّرورة، وقيل: حومٌ، يحام بها على الشِّرب أي يطاف،وكذلك قولك:
| ||
يهدي بها أكلف الخدَّين مختبرٌ | من الجمال كثيرٌ اللّحم عيثوم |
فروي: يهدي، بالدَّال غير معجمةٍ، ويهذي بذالٍ معجمةٍ. وقيل: مختبرٌ، من اختبار الحوائل من اللواقح، وقيل: هو من الخبير أي الزُّبد، وقيل: الخبير اللحم، وقيل: هو الوبر.
عمرو بن كلثوم
فليت شعري ما فعل عمرو بن كلثوم، فيقال: ها هوذا من تحتك، إن شئت أن تحاوره فحاوره. فيقول: كيف أنت أيُّها المصطبح بصن الغانية، والمغتبق من الدُّنيا الفانية؟ لوددت أنَّك لم تساند في قولك:
| ||
كأنَّ متونهنَّ متون غدرٍ | تصفِّقها الرَّياح إذا جرينا |
فيقول عمروٌ: إنك لقرير العين لا تشعر بما نحن فيه، فأشغل نفسك بتمجيد الله واترك ما ذهب فإنّه لا يعود. وأمّا ذكرك سنادي، فإنَّ الإخوة ليكونون ثلاثةً أو أربعةً، ويكون فيهم الأعرج أو الأبخق فلا يعابون بذلك، فكيف إذا بلغوا المائة في العدد، ورهاقها في المدد؟ فيقول:أعزز عليَّ بأنَّك قصرت على شرب حميم، وأخذت بعملك الذّميم، من بعد ماكانت تسبأ لك القهوة من خُصٍ أو غير خصّ، تقابلك بلون الحصّ.
وقالوا في قولك سخيناً قولين: أحدهما أنّه فعلنا من السّخاء والنون نون المتكلمين، والآخر أنّه من الماء السّخين لأنَّ لأندرين وقاصرين كانتا في ذلك الزمن للرُّوم، ومن شأنهم أن يشربوا الخمر بالماء السَّخين في صيفٍ وشتاءٍ،ولقد سئل بعض الأدباء بمدينة السِّلام عن قولك:
| ||
فما وجدت كوجدي أمُّ سقبٍ | أضلَّته فرجعت الحنينا | |
ولا شمطاء لم يترك شقاها | لها من تسعة إلاّ جنينا |
هل يجوز نصب شمطاء. فلم يجب بشيء، وذلك يجوز عندي من وجهين: أحدهما على إضمار فعلٍ دلَّ عليه السامع معرفته به، كأنَّك قلت: ولا أذكر شمطاء، اي إنَّ حنينها شديدٌ، ويجوز أن يكون على قولك: ولا تنسَ شمطاء، أو نحو ذلك من الأفعال، وهذا كقولك: إنَّ كعب بن مامة جوادٌ ولا حاتماً، أي ولا أذكر حاتماً، أي إنَّه جوادٌ عظيم الجود، قد استغنيت عن ذكره باشتهاره،والآخر، أن يكون من ولاه المطر إذا سقاه السَّقية الثانية، أي هذا الحنين اتَّفق مع حنيني، فكأنَّه قد صار له وليّاً، ويحتمل أن يكون من ولي يلي، وقلب الياء على اللغة الطائيّة.
وينظر فإذا الحارث اليشكريُ فيقول: لقد أتبعت الرُّواة في تفسير قولك:
| ||
زعموا أنَّ كلَّ من ضرب العي | ر موالٍ لنا، وأنَّا الولاء |
وما أحسبك أردت إلا العير الحمار. ولقد شنَّعت هذه الكلمة بالإقواء في ذلك البيت، ويجوز أن تكون لغتك أن تقف على آخرالبيت ساكناً، وإذا فعلت ذلك،اشتبه المطلق بالمقيَّد، وصارت هذه القصيدة مضافةً إلى قول الراجز:
| ||
دارٌ لظميا وأين ظميا | أهلكت أم هي بين الأحبا |
وبعض الناس من ينشد قولك:
| ||
فعشن بخيرٍ لا يضر | ك النُّوك ما أعطيت جدًّا |
فيجمع بين تحريك الشِّين وحذف الياء، من: عاش يعيش، وذلك رديٌ. ومنه قول الآخر:
| ||
متى تشئي يا أمَّ عثمان تصرمي | وأوذنك إيذان الخليط المزايل |
وإنّما الكلام: متى تشائي، لأنَّ هذا السّاكن إذا حُرُّك عاد الساكن المحذوف. ولقد أحسنت في قولك:
| ||
لا تكسع الشُّول بأغبارها | إنَّك لا تدري من النَّاتج |
وقد كانوا في الجاهليَّة يعكسون ناقة الميت على قبرة، ويزعمون أنَّه إذا نهض لحشره وجدها قد بعثت له فيركبها فليته لا يهص بثقله منكبها. وهيهات! بل حشروا عراةً حفاةً بهماً أي غرلاً وتلك البليَّة ذكرت في قولك:
| ||
أتلهَّى بها الهواجر إذ ك | لُّ ابن همٍّ بليَّةٌ عمياء |
طرفة بن العبد
ويعمد لسؤال طرفة بن العبد فيقول: يا ابن أخي يا طرفة خفَّف الله عنك، أتذكر قولك:
| ||
كريم يروِّي نفسه في حياته | ستعلم إن متنا غداً أيُّنا الصَّدي |
وقولك:
| ||
أرى قبر نحّامٍ بخيلٍ بما له | كقبر غويٍّ في البطالة مفسد |
وقولك:
| ||
متى تأتني، صبحك كأساً رويَّةً | وإن كنت عنها غانياً، فاغن وازدد |
فكيف صبوحك الآن وغبوقك؟ إنّي لأحسبهما حميماً، لا يفتأ من شربهما ذميماً. وهذا البيت يتنازع فيه: فينّسبه إليك قومٌ، وينسبه آخرون إلى عدىّ بن زيدٍ، وهو بكلامك أشبه، والبيت:
| ||
واصفر مضبوحٍ نظرت حويره | على النار، واستودعته كفَّ مجمد |
وأشدَّ ما اختلف النُّحاة في قولك:
| ||
أألاأيُّهاذا الزَّاجري أحضر الوغى | وأن أشهد اللَّذات، هل أنت مخلدي؟ |
وأمّا سيبويه فيكره نصب أحضر، لأنّه يعتقد أنَّ عوامل الأفعال لا تضمر. وكان الكوفيَّون ينصبون أحضر بالحرف المقدَّر، ويقوَّي ذلك: وأن أشهد اللَّذات، فجئت بأن، وليس هذا بأبعد من قوله:
| ||
مشائيم ليسوا مصلحين قبيلةً | ولا ناعبٍ إلاّ ببينٍ غرابها |
وقد حكى المازنيُّ عن عليّ بن قطربٍ أنَّه سمع أباء قطرباً، يحكي عن بعض العرب نصب أحضر. ولقد جئت بأعجوبةٍ في قولك:
| ||
لو كان في أملاكنا ملكٌ | يعصر فينا، كالّذي تعصر | |
لاجتبت صحني العراق على | حرفٍ أمونٍ، دفُّها أزور | |
متَّعني يوم الرّحيل بها | فرعٌ تنقَّاه القداح يسر |
ولكنّك سلكت مسالك العرب، فجئت بقريِّ كلمة المرقِّش:
| ||
هل بالدَّيار أن تجيب صمم؟ | لو كان حيّاً ناطقاً كلُّم |
وقول الأعشى: أقصر فكلُّ طالبٍ سيملّ على أنَّ مرقِّشاً خلط في كلمته فقال:
| ||
ماذا علينا أن غزا ملكٌ | من آل جفنة ظالمٌ مرغم |
وهذا خروجٌ عمَّا ذهب إليه الخليل. ولقد كثرت في أمرك أقاويل النَّاس: فمنهم من يزعم أنَّك في ملك النُّعمان اعتقلت، وقال قومٌ: بل الذي فعل بك ما فعل عمرو بن هندٍ. ولو لم يكن لك أثرٌ في العاجلة إلا قصيدتك التي على الدال، لكنت قد أبقيت أثراً حسناً. فيقول طرفة: وددت أنّي لم أنطق مصراعاً،وعدمت في الدار الزّائلة إمراعاً، ودخلت الجنَّة مع الهمج والطَّغام، ولم يعمد لمرسي بالإرغام،وكيف لي بهدءٍ وسكون، أركن إليه بعض الركون؟ " وأمّا القاسطون فكانوالجهنِّم حطباً " .
ويلفت عنقه يتأمّل، فإاذ هو بأوس بن حجر، فيقول: يا أوس، إنَّ أصحابك لا يجيبون السائل فهل لي عندك من جوابٍ؟ فإنِّي أريد أن أسألك عن هذا البيت:
| ||
وفارقت وهي لم تجرب، وباع لها | من الفصافص بالنُّمِّيِّ سفسير |
فإنّه في قصيدتك التي أوِّلها:
| ||
هل عاجلٌ من متاع الحيِّ منظور | أم بيت دومة بعد الوصل مهجور |
ويروي في قصيدة النَّابغة التي أوَّلها:
| ||
ودِّع أمامة والتّوديع تعذير | وماوداعك من قفَّت به العير |
وكذلك البيت الذي قبله:
| ||
قد عرِّيت نصف حولٍ اشهراً حدداً | يسفي على رحلها في الحيرة المور |
وكذلك قوله:
| ||
إنّ الرَّحيل إلى قومٍ، وإن بعدوا | أمسوا ومن دونهم ثهلان فالنِّير |
وكلاكما معدودٌ في الفحول، ايِّ شيءٍ يحمل ذلك؟ فلم تزل تعجبني لاميَّتك التي ذكرت فيها الجرجة وهي الخريطة من الأدم فقلت لمّا وصفت القوس:
| ||
فجئت ببيعتي مولياً لا أزيده | عليه بها، حتَى يؤوب المنخَّل | |
ثلاثة أبرادٍ جيادٍ، وجرجةٌ | وأدكن من أري الدَّبور معسَّل |
فيقول أوسٌ: قد بلغني أنَّ نابغة بني ذبيان في الجنَّة، فأسأله عمَا بدا لك فلعلَّه يخبرك، فإنَّه أجدر بأن يعي هذه الأشياء، فأمَّا أنا فقد ذهلت: نارٌ توقد، وبنانٌ يعقد؛ إذا غلب عليَّ الظَّمأ، رفع لي شيءٌ كالنّهر، فإذا اغترقت منه لأشرب، وجدته سعيراً مضطرماً، فليتني أصبحت درماً، وهو الذي يقال فيه: أودى درمٌ. وهو من بني دبِّ بن مرَّة بن ذهل بن شيبان ولقد دخل الجنَّة من هو شرَّ منِّي، ولكنَّ المغفرة أرزاقٌ، كأنَّها النَّشب في الدار العاجلة. فيقول، صار وليُّه من المتبوعين، وشانئه بالسفَّه من المسبوعين: إنّما أردت أن آخذ عنك هذه الألفاظ، فأتحف بها أهل الجنَّة فأقول: قال لي أوسٌ، وأخبرني أبو شريح. وكان في عزمي أن أسألك عمّا حكاه سيبويه في قولك:
| ||
تواهق رجلاها يداه، ورأسه | لها قتبٌ خلف الحقيبة رادف |
فإنَّي لا أختار أن ترفع الرِّجلان واليدان، ولم تدع إلى ذلك ضرورةٌ،لأنِّك لو قلت: تواهق رجليها يداه لم يزغ الوزن؛ ولعلَّك، إن صحَّ قولك لذلك، أن تكون طلبت المشاكهة، وهذا المذهب يقوى إذا روي: يداها بالإضافة إلى المؤنَّث، فأمَّ في حال الإضافة إلى ضمير المذكَّر فر قوَّة له.
وإنّي لكارهٌ قولك: والخيل خارجةٌ من القسطال أخرجت الاسم إلى مثالٍ قليلٍ، لأنَّ فعلاً لم يجيء في غير المضاعف، وقد حكي: ناقةٌ بها خزعالٌ أي بها ظلعٌ. ويرى رجلاً في النَّار لا يميّزه من غيره، فيقول: من أنت أيُّها الشَّقيُّ؟ فيقول: أنا أبو كبيرٍ الهذلي، عامر بن الحليس، فيقول: إنَّك لمن أعلام هذيلٍ، ولكني لم أوثر قولك:
| ||
أزهير هل عن شيبةٍ من معدل | أم لا سبيل إلى الشَّباب الأوَّل |
وقلت في الأخرى:
| ||
أزهير هل عن شيبةٍ من مصرف | أم لا خلود لعاجزٍ متكلِّف |
وقلت في الثّالثة: أزهير هل عن شيبةٍ من معكم أي من محبس فهذا يدلُّ على ضيق عطنك بالقريض، فهلاّ ابتدأت كلَّ قصيدة بفنٍّ؟ والأصمعيُّ لم يرو لك إلاَّ هذه القصائد الثلاث، وقد حُكي أنّه يروي عنك الرائية التي أوَّلها: أزهير هل عن شيبةٍ من مقصر وأحسن بقولك:
| ||
ولقد وردت الماء لم يشرب به | بين الشّتاء إلى شهور الصّيِّف | |
إلاّ عواسل كالمراط معيدةً | باللَّيل مورد أيِّمٍ متغضِّف | |
زقبٌ يظلُّ الذِّئب يتبع ظلِّه | فيه، فيستنُّ استنان الأخلف | |
فصددت عنه ظامئاً، وتركته | يهتزُّ غلفقه، كأن لم يكشف |
فيقول أبو كبيرٍ الهذليّ: كيف لي أن أقضم على جمراتٍ محرقاتٍ، لأرد عذاباً غدقاتٍ؟ وإنَّما كلام أهل سقر ويلٌ وعويلٌ، ليس لهم إلاّ ذلك حويلٌ، فاذهب لطيّتك، واحذر أن تشغل عن مطيَّتك. فيقول، بلَّغه الله أقاصي الأمل: كيف لا أجذل وقد ضمنت لي الرَّحمة الدائمة، ضمنها من يصدق ضمانه، ويعمُّ أهل الخيفة أمانة؟ فيقول: ما فعل صخر الغيِّ؟ فيقال: هاهو حيث تراه. فيقول: يا صخر الغىِّ ما فعلت دهماؤك؟ لا أرضك لها ولا سماؤك! كانت في عهدك وشبابها رؤدٌ، يأخذك من حبابها الزَّؤد، فلذلك قلت:
| ||
إنّي بدهماء عزِّ ما أجد | يعتادني من حبابها زؤد! |
وأين حصل تليدك؟ شغلك عنه تخليدك، وحقّ لك أن تنساه، كما ذهل وحشيُّ دمي نساه. وإذا هو برجلٍ يتضوّر، فيقول: من هذا؟ فيقال: الأخطل التَّغلبيّ، فيقول له: ما زالت صفتك للخمر، حتى غادرتك أكلاً للجمر، كم طربت السَّادات على قولك:
| ||
أناخوا فجرّوا شاصياتٍ كأنَّها | رجالٌ من السُّودان لم يتسربلوا | |
فقلت: اصبحوني، لا أبا لأبيكم | وما وضعوا الأثقال إلاّ ليفعلوا | |
فصبوا عقاراً في الإناء كأنَّها | إذا لمحوها، جذوةٌ تتأكّل | |
وجاؤوا ببيسانيَّةٍ هي، بعدما | يعلُّ بها السّاقي، ألذُّ وأسهل | |
تمرُ بها الأيدي سنيحاً وبارحاً | وتوضع باللَّهم حيَّ، وتحمل | |
فتوقف أحياناً، فيفصل بيننا | غناء مغنٍّ، أو شواءٌ مرعبل | |
فلذَّت لمرتاحٍ، وطابت لشاربٍ | وراجعني منها مراحٌ وأخيل | |
فما لبَّثتنا نشوةٌ لحقت بنا | توابعها ممّا نُعلّ وننّهل | |
تدبُّ دبيباً في العظام كأنَّه | دبيب نمالٍ في نقاً يتهيّل | |
ربت وربا في كرمها ابن مدينةٍ | مكبٌّ على مسحاته يتركَّل | |
إذا خاف من نجمٍ عليها ظماءةً | أدَّب إليها جدولاً يتسلسل | |
فقلت: اقتلوها عنكم بمزاجها | وحبَّ بها مقتولةً حين تقتل |
فقال التَّغلبيّ: إنّي جررت الذّارع، ولقيت الدَّارع، وهجرت الآبدة، ورجوت أن تدعى النَّفس العابدة، ولكن أبت الأقضية. فيقول، أحلَّ الله الهلكة بمبغضيه: أخطأت في أمرين، جاء الإسلام فعجزت أن تدخل فيه، ولزمت أخلاق السفيه؛ وعاشرت يزيد بن معاوية، وأطعت نفسك الغاوية؛ وآثرت ما فني على باقٍ، فكيف لك بالإباق؟ فيزفر الأخطل زفرةً تعجب لها الزَّبانية، ويقول: آه على أيّام يزيد أسوف عنده عنبرا، ولا أعدم لديه سيسنبرا؛ وأمزح معه مزح خليل، فيحتملني احتمال الجليل؛ وكم ألبسني من موشيّ، أسحبه في البكرة أو العشيّ، وكأنِّي بالقيان الصّدحة بين يديه تغنِّيه بقوله:
| ||
ولها بالماطرون إذا | أنفذ النّمل الذي جمعا | |
خلفةٌ حتى إذا ظهرت | سكنتت من جلِّقٍ بيعا | |
في قبابٍ حول دسكرةٍ | حولها الزّيتون قد ينعا | |
وقفت للبدر ترقبه | فإذا بالبدر قد طلعا |
ولقد فاكهته في بعض الأيَّام وأنا سكران ملتخٌّ فقلت:
| ||
اسلم سلمت أبا خالدٍ | وحيَّاك ربُّك بالعنقز | |
اكلت الدَّجاج فأفنيتها | فهل في الخنانيص من مغمز |
فما زادني عن ابتسام، واهنزَّ للصِّلة كاهتزاز الحسام فيقول، أدام الله تمكينه: من ثمَّ أتيت! أما علمت أنّ ذلك الرجل عاندٌ، وفي جبال المعصية ساندٌ؟ فعلام اطَّلعت من مذهبه: أكان موحِّداً، أم وجدته في النُّسك ملحداً؟ فيقول الأخطل: كانت تعجبه هذه الأبيات:
| ||
أخالد هاتي خبِّريني وأعلني | حديثك، إنَّي لا أسرُّ التنّاجيا | |
حديث أبي سفيان لمّا سما بها | إلى أحدٍ حتى أقام البواكيا | |
وكيف بغى أمراً عليَّ ففاته | وأورثه الجدُّ السَّعيد معاويا | |
وقومي فعلَّيني على ذاك قهوةً | تحلَّبها العيسيُّ كرماً شآميا | |
إذا ما نظرنا في أمورٍ قديمةٍ | وجدنا حلالاً شربها المتواليا | |
فلا خلف بين النَّاس أنَّ محمّداً | تبوّأ رمساً في المدينة ثاويا |
فيقول، جعل الله أوقاته كلَّها سعيدةً: عليك البهلة! قد ذهلت الشّعراء من أهل الجنّة والنَّار عن المدح والنَّسيب، وما شُدهت عن كفرك ولا إساءتك. وإبليس يسمع ذلك الخطاب كلُّه فيقول للزَّبيانية: ما رأيت أعجز منكم إخوان مالكٍ! فيقولون: كيف زعمت ذلك يا أبا مرّة؟ فيقول: ألا تسمعون هذا المتكلِّم بما لا يعنيه؟ قد شغلكم وشغل غيركم عمّا هو فيه! فلو أنَّ فيكم صاحب نحيزةٍ قويَّةٍ، لوثب وثبةً حتى يلحق به فيجذبه إلى سقر. فيقولون: لم تصنع شيئاً يا أبا زوبعة! ليس لنا على أهل الجنَّة سبيلٌ. فإذا سمع، أسمعه الله محاَّبه، ما يقول إبليس، أخذ في شتمه ولعنه وإظهار الشَّماتة به. فيقول، عليه اللَّعنة: ألم تنهوا عن الشَّمات يا بني آدم؟ ولكنَّكم، بحمد الله، ما زجرتم عن شيءٍ إلاّ وركبتموه. فيقول، واصل الله الإحسان إليه: أنت بدأت آدم بالشَّماتة، والبادىء أظلم: ثمَّ يعود إلى كلام الأخطل فيقول: أأنت القائل هذه الأبيات:
| ||
ولست بصائمٍ رمضان طوعاً | ولست بآكل لحم الأضاحي | |
ولست بقائمٍ كالعير أدعو | قبيل الصُّبح: حيَّ على الفلاح! | |
ولكنَّي سأشربها شمولاً | وأسجد عند منبلج الصِّباح! |
فيقول: أجلٌ، وإنَّي لنادمٌ سادمٌ، وهل أغنت النَّدامة عن أخي كسعٍ؟ ويملُّ من خطاب أهل النَّار، فينصرف إلى قصره المشيد، فإذا صار على ميلٍ أو ميلين، ذكر أنَّه ما سأل عن مهلهل التَّغلبيَّ ولا عن المرقِّشين وأنَّه أغفل الشَّنفرى وتأبَّط شرّاً، فيرجع على أدراجه، فيقف بذلك الموقف ينادي: أين عديُّ ابن ربيعة؟ فيقال: زد في البيان. فيقول: الذي يستشهد النُّحويُّون بقوله:
| ||
ضربت صدرها إليَّ وقالت: | يا عديّاً لقد وقتك الأواقي |
وقد استشهدوا له بأشياء كقوله:
| ||
ولقد خبطن بيوت يشكر خبطةً | أخوالنا، وهم بنو الأعمام |
وقوله:
الندامى
| ||
ما أرجِّي بالعيش بعد ندامى | كلُّهم قد سقوا بكأس حلاق |
فيقال: إنّك لتعرِّف صاحبك بأمرٍ لا معرفة عندنا به، ما النّحويّون؟ وما الاستشهاد؟ وما هذا الهذيان؟ نحن خزنة النَّار، فبيِّن غرضك تُجب إليه. فيقول: أريد المعروف بمهلهلٍ التَّغلبيِّ، أخي كُليب وائلٍ الذي كان يضرب به المثل. فيقال: ها هو ذا يسمع حوارك، فقل ماتشاء. فيقول: يا عديَّ بن ربيعة، أعزز عليَّ بولوجك هذا المؤلج! لو لم آسف عليك إلا لأجل قصيدتك التي أوَّلها:
| ||
أليلتنا بذي حسمٍ أنيري | إذا أنت انقضيت فلا تحوري |
لكانت جديرةً أن تطيل الأسف عليك، وقد كنت إذا أنشدت أبياتك في ابنتك المزوَّجة في جنب تغرورق من الحزن عيناي، فأخبرني لِمَ سُمَّيت مهلهلاً؟ فقد قيل: إنّك سُمَّيت بذلك لأنَّك أوَّل من هلهل الشِّعر أيّ رقَّقه. فيقول: إنَّ الكذب لكثيرٌ،وإنَّما كان لي أخٌ يقال له امرؤ القيس فأغار علينا زهيربن جنابٍ الكلبيُّ، فتبعه أخي في زرافةٍ من قومه، فقال في ذلك:
| ||
لما توقَّل في الكراع هجينهم | هلهلت أثار مالكاً أو صنبلا | |
وكأنَّه بازٌ علته كبرةٌ | يهدي بشكَّته الرَّعيل الأوَّلا |
هلهلت: أي قاربت، ويقال: توقَّفت، يعني بالهجين زهير بن جنابٍ. فسمَّي مهلهلاً فلمَّا هلك شبَّهت به فقيل لي: مهلهل. فيقول: الآن شفيت صدري بحقيقة اليقين. فأخبرني عن هذا البيت الذي يروى لك:
| ||
أرعدوا ساعة الهياج وأبرق | نا كما توعد الفحول الفحولا |
فإنَّ الأصمعيَّ كان ينكره ويقول: إنّه مولَّدٌ، وكان أبو زيدٍ يستشهد به ويثبته. فيقول: طال الأبد على لبدٍ! لقد نسيت ما قلت في الدار الفانية، فما الذي أنكر منه؟ فيقول: زعم الأصمعيُّ أنَّه لا يقال أرعد وأبرق في الوعيد ولا في السّحاب، فيقول: إنَّ ذلك لخطأٌ من القول، وإنَّ هذا البيت لم يقله إلاّ رجلٌ من جذم الفصاحة، إما أنا وإمَّا سواي، فخذ به وأعرض عن قول السُّفهاء.
ويسأل عن المرقِّش الأكبر، فإذا هو به في أطباق العذاب، فيقول: خفَّف الله عنك أيُّها الشَّاب المغتصب، فلم أزل في الدار العاجلة حزيناً لما أصابك به الرّجل الغفُليُّ، أحد بني غفيلة ابن قاسطٍ، فعليه بهلة الله! وإنّ قوماً من أهل الإسلام كانوا يستزرون بقصيدتك الميميَّة التي أوّلها:
| ||
هل بالدّيار أن تجيب صمم | لو كان حيّاً ناطقاً كلَّم |
وإنّها عندي لمن المفردات، وكان يعض الأدباء يرى أنَّها والميميَّة التي قالها المرقَّش الأصغر ناقصتان عن القصائد المُفضَّليَّات، ولقد وهم صاحب هذه المقالة،وبعض النّاس يروي هذا الشّعر لك:
| ||
تخيّرت من نعمان عود أراكةٍ | لهندٍ، ولكن من يبلغه هندا؟ | |
خليلي َّجوراً بارك الله فيكما | وإن لم تكن هندٌ لأرضكما قصدا | |
وقولا لها: ليس الضّلال أجارنا | ولكننَّا جُرنا لنلقاكم عمدا |
ولكننَّا جُرنا لنلقاكم عمدا ولم أجدها في ديوانك، فهل ما حُكي صحيحٌ عنك؟ فيقول: لقد قلت أشياء كثيرةً، منها ما نُقل إليكم ومنها ما لم يُنقل، وقد يجوز أن أكون قلت هذه الأبيات ولكني سرفتها لطول الأبد، ولعلَّك تنكر أنّها في هندٍ، وأنَّ صاحبتي أسماء، فلا تنفر من ذلك، فقد ينتقل المُشبِّب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عُمره مُستهتراً بشخصٍ من النّاس، ثمّ ينصرف إلى شخصٍ آخر، ألا تسمع إلى قولي:
| ||
سفهٌ تذكُّره خويلة بعدما | حالت ذُرا نجران دون لقائها |
وينعطف إلى المُرقِّش الأصغر فيسأله عن شأنه مع بنت المنذر وبنت عجلان فيجده غير خبيرٍ، قد نسي لترادف الأحقاب فيقول: ألا تذكر ما صنع بك جنابٌ الذي تقول فيه:
| ||
فآلى جنابٌ حلفةً فأطعته | فنفسك ولِّ اللَّوم إن كنت لائما |
فيقول: وما صنع جناب؟ لقد لقيت الأقورين، وسقيت الأمرَّين، وكيف لي بعذاب الدَّار العاجلة!. فإذا لم يجد عنده طائلاً تركه، وسأل عن الشَّنفرى الأزديِّ فألفاه قليل التِّشكِّي والتَّألّم لما هو فيه، فيقول: إنَّي لا أراك قلقاً مثل قلق أصحابك. فيقول: أجل، إنَّي قلت بيتاً في الدّار الخادعة فأنا أتأدَّب به حيريَّ الدهر، وذلك قولي:
| ||
غوى فغوت، ثم ارعوى بعد وارعوت | وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل |
وإذا هو قرينٌ مع تأبَّط شرّاً، كما كان في الدَّار الغرَّارة. فيقول، أسنى الله حظَّه من المغفرة، لتأبّط شرّاً: أحقُّ ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ فيقول: لقد كنَّا في الجاهليَّة نتقوَّل ونتخرَّض، فما جاءك عنَّا ممّا ينكره المعقول فإنّه من الأكاذيب، والزَّمن كلَّه على سجيَّةٍ واحدةٍ، فالذي شاهده معدُّ بن عدنان كالذي شاهد نضاضة ولد آدم. والنُّضاضة آخر ولد الرَّجل. فيقول، أجزل الله عطاءه من الغفران: نّقلت إلينا أبياتٌ تنُسب إليك:
| ||
أنا الذي نكح الغيلان في بلدٍ | ما طلَّ فيه سماكيُّ ولا جاد | |
في حيث لا يعمت الغادي عمايته | ولا الظَّليم به يبغي تهبّادا | |
وقد لهوت بمصقولٍ عوارضها | بكرٍ تُنازعني كأساً وعنقادا | |
ثمّ انقضى عصرها عنِّي وأعقبه | عصر المشيب، فقل في صالح: بادا |
فاستدللت على أنّها لك لمَّا قلت: تهبّادا، مصدر تهبَّد الظليم إذا أكل الهبيد، فقلت: هذا مثل قوله في القافيَّة:
| ||
طيف ابنة الحرِّ إذ كُنَّا نواصلها | ثمّ اجتننت بها بعد التِّفرّاق |
مصدر تفرَّقوا تفرّاقاً، وهذا مطَّردٌ في تفعَّل، وإن كان قليلاً في الشعر، كما قال أبو زبيدٍ:
| ||
فثار الزَّاجرون فزاد منهم | تقرّاباً، وصادفه ضبيس |
فلا يجيبه تأبَّط شراً بطائلٍ. فإذا رأى قلة الفوائد لديهم، تركهم في الشَّقاء السّرمد، وعمد لمحلِّه في الجنان، فيلقى آدم، عليه السّلام، في الطّريق فيقول: يا أبانا، صلَّى الله عليك، قد روي لنا عنك شعرٌ: منه قولك:
| ||
حن بنو الأرض وسكَّانها | منها خُلقنا، وإليها نعود | |
والسَّعد لا يبقى لأصحابه | والنَّحس تَّمحوه ليالي السُّعود |
فيقول: إنَّ هذا القول حقُّ، وما نطقه إلاّ بعض الحكماء، ولكنِّي لم أسمع به حتى السّاعة. فيقول: وفرّ الله قسمه في الثَّواب: فلعلَّك يا أبانا قُلته ثمَّ نسيت، فقد علمت أنَّ النِّسيان متسرّعٌ إليك، وحسبك شهيداً على ذلك الآية المتلوَّة في فرقان محمَّدٍ، صلّى الله عليه وسلم: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً " وقد زعم بعض العلماء أنّك إنّما سمِّيت إنساناً لنسيانك، واحتجَّ على ذلك بقولهم في التَّصغير: أنيسيان، وفي الجمع: أناسيّ، وقد روي أنَّ الإنسان من النَّسيان عن ابن عبَّاس، وقال الطائيّ:
| ||
لا تنسين تلك العهود وإنَّما | سُميِّيت إنساناً لأنّك ناس |
وقرأ بعضهم: " ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض النَّاس بكس السَّين، يريد النّاسي، فحذف الياء، كما حذفت في قوله: سواء العاكف فيه والباد. فأمّا البصريُّون فيعتقدون أنَّ الإنسان من الأنس، وأنَّ قولهم في التَّصغير: أنيسيان، شاذ، وقولهم في الجمع: أناسيُّ، أصله أناسين، فأبدلت الياء من النون. والقول الأوَّل أحسن.
آدم كان ينطق العربية في الجنة
فيقول آدم، صلَّى الله عليه: أبيتم إلاَّ عقوقاً وأذيَّةً، إنّما كنت أتكلَّم بالعربيَّة وأنا في الجنَّة، فلمّا هبطت إلى الأرض نُقل لساني إلى السُّريانيَّة، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلمَّا ردَّني الله، سبحانه وتعالى، عادت عليَّ العربيَّة، فأيُّ حينٍ نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة، ألا ترى قوله: منها خُلقنا وإليها نعود فكيف أقول هذا المقال ولساني سُريانيُّ؟ وأمَّا الجنّة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنّه ممّا حُكم على العباد، صُيِّر كأطواق حمام، وما رعى لأحدٍ من ذمامٍ، وأمّا بعد رجوعي إليها، فلا معنى لقولي: وإليها نعود، لأنَّه كذبٌ لا محالة، ونحن معاشر أهل الجنَّة خالدن مخلَّدون.
فيقول، قُضي له بالسَّعد المؤرَّب: إن بعض أهل السَّير يزعم أنَّ هذا الشّعر وجده يعرب في متقدم الصُّحف بالسُّريانيَّة، فنقله إلى لسانه، وهذا لا يمتنع أن يكون. وكذلك يروون لك، صلَّى الله عليك، لمّا قتل قابيل هابيل:
| ||
غيَّرت البلاد ومن عنيها | فوجه الأرض مغبرُّ قبيح | |
وأودى ربع أهلها، فبانوا | وغودر في الثَّرى الوجه المليح |
وبعضهم ينشد: وزال بشاشة الوجه المليح على الأقواء. وفي حكايةٍ، معناها على ما أذكر أنَّ رجلاً من بعض ولدك يعرف بإبن دريد أنشد هذا الشعر، وكانت روايته:وزال بشاشة الوجه المليح فقال: أوَّل ما قال: أقوى. وكان في المجلس أبو سعيد السِّيرافيُّ فقال: يجوز أن يكون : وزال بشاشة الوجه المليح بنصب بشاشة على التَّمييز، وبحذف التَّنوين لإلتقاء السّاكنين، كما قال:
| ||
عمرو الذي هشم الثَّريد لقومه | ورجال مكَّة مسنتون عجاف |
قلت أنا: هذا الوجه الذي قاله أبو سعيدٍ شرٌّ من إقواء عشر مراتٍ في القصيدة الواحدة.
فيقول آدم، صلّى الله عليه: أعزز عليَّ بكم معشر أبينيَّ! إنّكم في الضَّلالة متهوِّكون! آليت ما نطقت هذا النّظيم، ولا نطق في عصري، وإنَّما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله! كذبتم على خالقكم وربَّكم، ثمَّ على آدم أبيكم، ثمَّ على حوُّاء أمِّكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك الأرض.
ذات الصفا
ثمّ يضرب سائراً في الفردوس فإذا هو بروضة مؤنقةٍ، وإذا هو بحيَّاتٍ يلعبن ويتماقلن، يتخاففن ويتثاقلن، فيقول: لا إله إلاّ الله! وما تصنع حيّةٌ في الجنّة؟ فينطقها الله، جلَّت عظمته، بعدما ألهمها المعرفة بهاجس الخلد فتقول، أما سمعت في عمرك بذات الصَّفاء، الوافية لصاحبٍ ما وفى؟ كانت تنزل بواد خصيب، ما زمنها في العيشة بقصيب، وكانت تصنع إليه الجميل في ورد الظاهرة والغب، وليس من كفر للمؤمن بسبٍّ فلمّا ثمَّر بودِّها ماله، وأمل أن يجتذب آماله، ذكر عندها ثاره، وأراد أن يفتقر آثاره، وأكبّ على فآسٍ معملةٍ، يحدُّ غرابها للآملة، ووقف للسّاعية على صخرةٍ، وهمَّ أن ينتقم منها بأخرةٍ، وكان أخوه ممَّن قتلته، جاهرته في الحادثة أو قيل ختلته، فضربها ضربةً، وأهون بالمقر شربةً، إذا الرَّجل أحسَّ التَّلف، وفقد من الأنيس الخلف! فلمَّا وقيت ضربة فأسه، والحقد يمسك بأنفاسه، ندم على ما صنع أشدَّ النّدم، ومن له في الجدة بالعدم؟ فقال للحيّة مخادعاً، ولم يكن بما كتم صادعاً: هل لك أن نكون خلَّين، ونحفظ العهد إليَّن؟ ودعاها بالسفه إلى حلف، وقد سُقي من الغدر بخلف. فقالت: لا أفعل وإن طال الدَّهر، وكم قصم بالغير ظهرٌ! إنِّي أجدك فاجراً مسحوراً، لم تأل في خُلَّتك حوراً؛ تأبى لي صكَّةٌ فوق الرأس، مارستها أبأس مراسٍ، ويمنعك من أربك قبرٌ محفور، والأعمال الصّالحة لها وفور،وقد وصف ذلك نابغة بني ذبيان فقال:
| ||
وإنِّي لألقى من ذوي الضِّغن منهم | وما أصبحت تشكو من البثّ ساهره | |
كما لقيت ذات الصَّفا من خليلها | وكانت تديه المال غباً وظاهره | |
فلمّا رأى أن ثمر الله ماله | فأصبح مسروراً، وسدَّ مفاقره | |
أكبَّ على فأسٍ يحدُّ غرابها | مذكَّرةٍ، من المعاول، باترة | |
وقام على جحرٍ لها فوق صخرةٍ | ليقتلها، أو تخطىء الكفُّ بادره | |
فلمّا وقاها الله ضربة فأسه | وللبرِّ عينٌ لا تغمِّض ناظره | |
فقال: تعالي نجعل الله بيننا | على مالنا، أو تنجزي لي آخره | |
فقالت: معاذ الله أفعل إننّي | رأيتك مسحوراً يمينك فاجره | |
أبى لي قبرٌ لا يزال مقابلي | وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقر |
وتقول حيّةٌ أخرى: إنّي كنت أسكن في دار الحسن البصريِّ فيتلو القرآن ليلاً، فتلقَّيت منه الكتاب من أوَّله إلى آخره.
فيقول، لا زال الرُّشد قريناً لمحلِّه: فكيف سمعته يقرأ: فالق الإصباح؟ فإنَّه يروى عنه بفتح الهمزة كأنّه جمع صبحٍ، وكذلك: بالعشيِّ والإبكار كأنّه جمع بكرٍ، من قولهم: لقيته بكراً، وإذا قلنا: إنَّ أنعماً وأشدّاً جمع نعمة بكرةٍ، على طرح الهاء، فيجوز أن تكون الأبكار جمع بكرةٍ، فتكون على قولنا: بكرٌ وأبكارٌ، كما يقال جندٌ وأجناد. فتقول: لقد سمعته يقرأ هذه القراءة، وكنت عليها برهةً من الدَّهر، فلمّا توفَّي، رحمه الله، انتقلت إلى جدارٍ في دار أبي عمرو بن العلاء، فسمعته يقرأ، فرغبت عن حروفٍ من قراءة الحسن كهذين الحرفين، وكقوله: الأنجيل، بفتح الهمزة. فلمَّا توفِّي أبو عمرو كرهت المقام، فانتقلت إلى الكوفة، فأقمت في جوار حمزة بن حبيبٍ، فسمعته يقرأ بأشياء ينكره عليه أصحاب العربيَّة، كخفض الأرحام في قوله تعالى: " واتَّقوا الله الذّي تساءلون به والأرحام " وكسر الياء في قوله تعالى: " وما أنتم بمصرخيّ " وكذلك سكون الهمزة في قوله تعالى: " استكباراً في الأرض ومكر السّيء " وهذا إغلاقٌ لباب العربيَّة، لأنَّ الفرقان ليس بموضع ضرورةٍ، وإنّما حُكي مثل هذا في المنظوم. وقد روي أنَّ امرأ القيس قال:
| ||
فاليوم أشرب غير مستحقبٍ | إثماً من الله، ولا واغل |
وبعضهم يروي: فاليوم أسقى، وإذا روي: فاليوم أشرب، فيجوز أن يكون ثمَّ إشارةٌ إلى الضمَّ لا حكم لها في الوزن، فقد زعم سيبويه أنَّهم يفعلون ذلك في قول الراجز:
| ||
متى أنام لا يؤرِّقني الكرى | ليلاً ولا أسمع أصوات المطي |
وهذا يدل على أنَّهم لم يكونوا يحفلون بطرح الإعراب، فأمّا قول الرَّاجز:
| ||
إذا اعوججن قلت: صاحب قوِّم | في الدَّوِّ، أمثال السَّفين العوَّم |
فإنَّه من عجيب ما جاء، وقد بله قائله عن أن يقول: صاح قوِّم، فلا يكون بالوزن إخلالٌ، ولكنَّ الذين يحتجُّون له يزعمون أنَّه أراد أن يعادل بين الجزئين، لأنَّ قوله: حب قوِّم، في وزن قوله: نل عوَّم، وهذا يشبه ما ادَّعوه في قول الهذلي:
| ||
أبيت على معاري فاخرات | بهنَّ ملوَّب كدم العباط |
يزعم النّحويُّون أنَّ قوله: معاري، بفتح الياء، حمله عليه كراهه الزِّحاف، وهذا قولٌ ينتقض، لأنَّ في هذه الطائيَّة أبياتاً كثيرةً لا تخلو من زحافٍ، وكلُّ قصيدةٍ للعرب وغيرها على هذا القريِّ. وكذلك قوله:
| ||
عرفت بأجدثٍ فنعاف عرقٍ | علاماتٍ كتحبير النِّماط |
فيه زحافان من هذا الجنس، ثمَّ يجيء في كلِّ الأبيات إلا أن يندر شيءٌ. وقد روي عن الأصمعيِّ أنَّه لم يسمع العرب تنشد إلا: أبيت على معارٍ، بالتّنوين، وهذا لا ينقض مذهب أصحاب القياس، إذا كانوا يروون عن أهل الفصاحة خلافه. ويهكر، أزلفه الله مع الأبرار المتَّقين، لما سمع من تلك الحيَّة، فتقول هي: ألا تقيم عندنا برهةً من الدَّهر؟ فإنِّي إذا شئت انتفضث من إهابي فصرت مثل أحسن غواني الجنَّة، لو ترشَّفت رضابي لعلمت أنّه أفضل من الدِّرياقة التي ذكرها ابن مقبلٍ في قوله:
| ||
سقتني بصهباء درياقةٍ | متى ما تليِّن عظامي تلن |
ولو تنفَّست في وجهك لأعلمتك أنَّ صاحبة عنترة تفلةٌ صدوفٌ والصَّدوف: الكريهة رائحة الفم، وإنّما تعني قوله:
| ||
وكأنَّ فارة تاجرٍ بقسيمةٍ | سبقت عوارضها إليك من الفم |
ولو أدنيت وسادك إلى وسادي، لفضِّلتني على التي يقول فيها الأوَّل:
| ||
باتت رقوداً سار الرَّكب مدَّلجاً | وما الأوانس في فكرٍ لسارينا | |
كأنَّ ريقتها مسكٌ على ضربٍ | شيبت بأصهب من بيع الشآمينا | |
يا ربّ، لا تسلبني حبَّها أبداً | ويرحم الله عبداً قال: آمينا |
فيذعر منها، جعل الله أمنه متَّصلاً، والطّالب شأوه من تقصير منتصلاً، ويذهب مهرولاً في الجنَّة ويقول في نفسه: كيف يركن إلى حيَّةٍ شرفها السُّمُّ، ولها بالفتكة همّ؟ فتناديه: هلُمَّ إن شئت اللَّذَّة، فإنَّي لأفضل من حيَّة ابنة مالكٍ التي ذكرها العبسيُّ في قوله:
| ||
ما ولدتني حيَّة ابنة مالكٍ | سفاحاً، ولا قولي أحاديث كاذب |
وأحمد عشاراً من حيَّة ابنة أزهر التي يقول فيها القائل:
| ||
إذا ما شربنا ماء مزنٍ بقهوةٍ | ذكرنا عليها حيَّة ابنة أزهرا |
ولو أقمت عندنا إلى أن تخبر ودَّنا وإنصافنا، لندمت إن كنت في الدَّار العاجلة قتلت حّيةً أو عثماناً. فيقول وهو يسمع خطابها الرَّائق: لقد ضيّق الله عليَّ مراشف الحور الحسان، إن رضيت بترشُّف هذه الحيَّة. فإذا ضرب في غيطان الجنَّة، لقيته الجارية التي خرجت من تلك الثَّمرة فتقول: إنِّي لأنتظرك منذ حينٍ فما الذي شجنك عن المزار؟ ما طالت الإقامة معك، فأملَّ بالمحاورة مسمعك، قد كان يحقُّ لي أن أوثر لديك على حسب ما تنفرد به العروس، يخصُّها الرّجل بشيءٍ دون الأزواج. فيقول: كانت في نفسي مآرب من مخاطبة أهل النّار، فلمّا قضيت من ذلك وطراً عدت إليك، فاتبعيني بين كثب العنبر وأنقاء المسك. فيتخلّل بها أهاضيب الفردوس ورمال الجنان؛ فتقول: أيّها العبد المرحوم، أظنُّك تحتذي بي فعال الكنديّ في قوله:
| ||
فقمت بها أمشي، تجرُّ وراءنا | على إثرنا أذيال مرطٍ مرحَّل | |
فلمّا أجزنا ساحة الحيّ، وانتحى | بنا بطن خبثٍ ذي قفافٍ عقنقل | |
هصرت بفودي رأسها فتمايلت | عليَّ هضيم الكشح ريَّا المخلخل |
فيقول: العجب لقدرة الله! لقد أصبت ما خطر في السُّويداء، فمن أين لك علمٌ بالكنديّ وإنَّما نشأت في ثمرةٍ تبعدك من جنٍّ وأنيس؟ فيقول: إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ. ويعرض له حديث امرىء القيس في داره جلجلٍ، فينشىء الله، جلّت عظمته، حوراً عيناً يتماقلن في نهرٍ من أنهار الجنَّة، وفيهنَّ من تفضلهنّ كصاحبة امرىء القيس، فيترامين بالثَّرمد، وإنّما هو كأجلِّ طيب الجنَّة، ويعقر لهنَّ الرَّاحلة، فيأكل ويأكلن من بضيعها ما ليس تقع الصِّفة عليه من إمتاعٍ ولذاذةٍ. ويمرُّ بأبياتٍ ليس لها سموق أبيات الجنّة، فيسأل عنها فيقال: هذه جنِّة الرُّجز، يكون فيها: أغلب بني عجلٍ والعجَّاج ورؤبة وأبو النّجم وحميدٌ الأرقط وعذافر بن أوسٍ وأبو نخيلة وكلُّ من غفر له من الرُّجاز، فيقول: تبارك العزيز الوَّهاب! لقد صدق الحديث المرويُّ إنَّ الله يحبُّ معالي الأمور ويكره سفسافها؛ وإنَّ الرّجز لمن سفساف القريض، قصّرتم أيّها النَّفر فقصر بكم.
ويعرض له رؤبة فيقول: يا أبا الجحّاف، ما أكلفك بقوافٍ ليست بالمعجبة تصنع رجزاً على الغين ورجزً على الطاء وعلى الظاء، وعلى غير ذلك من الحروف النّافرة، ولم تكن صاحب مثلٍ مذكورٍ، ولا لفظٍ يستحسن عذبٍ. فيغضب رؤبة ويقول: ألي تقول هذا وعنِّي أخذ الخليل، وكذلك أبو عمرو بن العلاء، غبرت في الدّار السّالفة تفتخر بالَّلفظة تقع إليك ممّا نقله أولئك عنِّي وعن أشباهي؟ فإذا رأى، لا زال خصمه مغلَّباً، ما في رؤبة من الانتخاء قال: لو سبك رجزك ورجزاً أبيك، لم تخرج منه قصيدةٌ مستحسنةٌ، ولقد بلغني أنَّ أبا مسلم كلَّمك بكلامٍ فيه ابن ثأداء، فلم تعرفها حتى سألت عنها بالحيِّ، ولقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق، وإنّ غيرك أولى بالأعطية والصِّلات. فيقول رؤبة: أليس رئيسكم في القديم، والذي ضهلت إليه المقاييس، كان يستشهد بقولي ويجعلني له كالأمام؟ فيقول، وهو بالقول منطقٌ: لا فخر لك أن استشهد بكلامك، فقد وجدناهم يستشهدون بكلام أمةٍ وكعاء يحمل القطل إلى النّار الموقدة في السَّبرة التي نفض عليها الشَّبم ريشه، وهدم وأجلُّ أيامها أن تجني عساقل ومغروداً، وتتلو نعماً مطروداً، وإنَّ بعلها في المهنة لسَّيء العذير، غلظ عن الفطن والتَّحذير، وكم روى النُّحاة عن طفلٍ، ماله في الأدب من كفلٍ، وعن امرأةٍ، لم تعدّ يوماً الدّرأة. فيقول رؤبة: أجئت لخصامنا في هذا المنزل؟ فامض لطيّتك، فقد أخذت بكلامنا ما شاء الله. فيقول، أسكت الله مجادلة: أقسمت ما يصلح كلامكم للثنّاء، ولا يفضل عن الهناء، تصكُّون مسامع الممتدح بالجندل، وإنَّما يطرب إلى المندل ومتى خرجتم عن صفة جملٍ، ترثون له من طول العمر، إلى صفة فرسٍ سابحٍ، أو كلبٍ للقنص نابح، فإنًّكم غير الرّاشدين فيقول رؤبة: إنّ الله سبحانه وتعالى قال: " يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم، وإن كلامك لمن اللغو، ما أنت إلى النصغة بذي صغو.
العجّاج
فإذا طالت المخاطبة بينه وبين رؤبة، سمع العجّاج فجاء يسأل المحاجزة. ويذكر، أذكره الله بالصّالحات، ما كان يلحق أخا النِّدام، من فتور في الجسد من المدام، فيختار أن يعرض له ذلك من غير أن ينزف له لبُّ، ولا يتغير عليه خبَّ فإذا هو يخال في العظام النّاعمة دبيب نملٍ، أسرى في المقمرة على رملٍ،فيترنَّم بقول إياس بن الأرتِّ:
| ||
أعاذل لو شربت الخمر حتى | يظلَّ لكلِّ أنملةٍ دبيب | |
إذاً لعذرتني وعلمت أنِّي | لما أتلفت من مالي مُصيب |
ويتَّكىء على مفرشٍ من السُّندس، ويأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سريرٍ من سرر أهل الجنَّة، وإنَّما هو زبرجدٌ أو عسجدٌ، ويكوِّن البارىء فيه حلقاً من الذَّهب تطيف به من كلِّ الأشرار حتى يأخذ كلُّ واحدٍ من الغلمان، وكلُّ واحدةٍ من الجواري المشبَّهة بالجمان، واحدةً من تلك الحلق، فيُحل على تلك الحال إلى محلِّه المُشيَّد بدار الخلود، فكلَّما مرَّ بشجرةٍ نضخته أغصانها بماء الورد قد خلط بماء الكافور، وبمسكٍ ما جني من دماء الفور، بل هو بتقدير الله الكريم.
وتناديه الثَّمرات من كلِّ أوبٍ هو مستلقٍ على الظَّهر: هل لك يا أبا الحسن، هل لك؟ فإذا أراد عنقوداً من العنب أو غيره انقضب من الشَّجرة بمشيئة الله، وحملته القدرة إلى فيه، وأهل الجنَّة يلقونه بأصناف التَّحيَّة وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين، لا يزال كذلك أبداً سرمداً، ناعماً في الوقت المتطاول منعمَّاً، لا تجد الغير فيه مزعماً. وقد أطلت في هذا الفصل، ونعود الآن إلى الإجابة عن الرَّسالة. [[#fn_{{{1}}}_back|{{{1}}}]] قالب:ثبت المراجع
رسالة الغفران لأبي العلاء المعري | |
---|---|