رحلة عجيبة داخل الجسم البشري

رحلة عجيبة داخل الجسم البشري

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

د.إيهاب عبد الرحيم محمد

يتميز الجسم البشري بكونه قطعة فنية غاية في الروعة والإتقان . وبالإضافة إلى الجمال ، ظل غموضه يداعب خيال جميع محبي الجنس البشري ؛ فقام الفنانون برسم ونحت أعداد لا تحصى من الرسوم والتماثيل التي تصور الجسم البشري ؛ كما عكف العلماء على سبر أغوار تلك الآلية السحرية التي تنظم عمله. وتعرض الجسم البشري للتصوير الفوتوغرافي والإشعاعي ، كما خضع للمراقبة والتشريح … ولكن حتى وقت قريب لم يكن قد تم ترجمة جسد فعلي - من دم ولحم- إلى بيانات إلكترونية تجعله صالحا للاستخدام كموضوع فني وكمثال طبي في الوقت نفسه .

وفي هذا المقال ، سأصحبك - عزيزي القارئ- في رحلة عجيبة داخل الجسم البشري … نبدأها بالتعرف على مضيفنا ، وهو الدكتور ألكسندر تسياراس Tsiaras، وهو رئيس الفريق الذي استخدم أحدث تقنيات التصوير الطبي في تحويل الصور الفوتوغرافية إلى أشكال حاسوبية يمكن النظر إليها من أي زاوية وأي عمق - بمعنى كونها تماثيل افتراضية (Virtual sculptures). وسيؤدي هذا الأسلوب الجديد ، بالإضافة إلى التقنيات والأساليب التي يعكف على تطويرها حاليا فنانون وعلماء من جميع أنحاء العالم، إلى تغيير الصورة التي ننظر بها إلى أنفسنا - والطريقة التي يعالجنا بها الأطباء - إلى الأبد.

الرجل المرئي :

تضم المكتبة الوطنية الأمريكية للطب في ولاية ماريلاند ، أكبر مجموعة من المعارف الطبية في العالم . لكن المسؤولين فيها اكتشفوا في عام 1988 أن المكتبة على ضخامتها تفتقر إلى أداة مرجعية رئيسية : نموذج حاسوبي للجسم البشري . وبرغم توفر عدد من البرامج الحاسوبية التي تعلم طلاب الطب تشريح الأجزاء المختلفة للجسم - الركبة ، والمخ ، والكلية على سبيل المثال - إلا أن أحدها لايوفر "جثة" افتراضية كاملة . وهكذا ولد مشروع الإنسان المرئي Visible Human Project . وخلال الأشهر القليلة التالية ، تنافست مائة من كليات الطب الأمريكية على الفوز بالمنحة المخصصة لبناء هذا النموذج الحاسوبي الجديد. وقد أسندت إلى الكليات الثلاث التي وصلت إلى التصفيات النهائية ، مهمة تصوير بطن خنزير غيني (Guinea pig) . وذلك لتحديد الكلية الفائزة بالمنحة في نهاية المطاف ؛ وقد كانت الصور الفائزة من إنتاج كل من فيكتور سبيتزر وديفيد ويتلوك ، وهما أستاذان في قسم البيولوجية الخلوية والبنيوية بجامعة كولورادو ، وبذلك حصلا على المنحة التي تبلغ 1.4 مليون دولار في عام 1989، وكانت الفترة التقديرية للانتهاء من العمل هي نحو خمس سنوات. كانت أولى متطلبات العمل هي الحصول على جسم بشري ؛ وفي واقع الأمر ، كان المشروع بحاجة لأجساد ثلاثة رجال وثلاث نساء ، بحيث تقوم لجنة متخصصة باختيار أفضل الممثلين عن كل من الجنسين ، بحيث تكون الأجساد المعروضة على اللجنة لرجال ونساء أصحاء بين الحادية والعشرين والستين من العمر ، إضافة إلى أن الطول المطلوب هو أقل من ستة أقدام ، حتى يمكن الاستفادة من أجهزة المسح (التفريس Scanning) المقطعية في تصوير الجسم إلى الحد الأقصى . كانت المعضلة تتمثل في الحصول على جثة "طبيعية" ؛ والمشكلة هنا في أن الجثة لو ظلت طبييعية لما مات صاحبها!، كما أن أجساد ضحايا الحوادث تتعرض للتلف الجسيم ، وأجساد مدمني المخدرات الذين يتوفون نتيجة لجرعة من المخدر لسوء التغذية ، أما قلوب من يتوفون بفعل النوبات القلبية فتكون شديدة الاعتلال …وإذا حدث أن توفي أحد الأشخاص وهو يتمتع بصحة أقرب ما تكون إلى الطبيعي ؛ فهناك نحو 50,000 أمريكي يعانون من فشل مزمن في أحد الأعضاء القابلة للزرع - وهم في انتظار تلك الأعضاء على أحر من الجمر ! وقد حلت المشكلة من تلقاء نفسها في نهاية المطاف ، فنتيجة لدعوة أحد القساوسة العاملين في سجون ولاية تكساس ، تبرع العديد من المحكوم عليهم بالإعدام في الولاية ، والذين ينتظرون تنفيذ أحكام الإعدام، بأجسادهم لخدمة العلم … كان أولئك المحكومين صغار السن وأصحاء ، ونظرا لأن قوانين تلك الولاية توجب تنفيذ حكم الإعدام بالحقن بمادة سامة ، لا تصلح أجساد المحكومين لعمليات زراعة الأعضاء . كان المرشح المثالي رجل يدعى جوزيف جيرنيجان ، وقد اختلفت الآراء حول دافعه من التبرع بجسده للعلم ؛ فمن قائل لأنه "أراد أن يفعل شيئا نافعا " ، إلى القول بأن أسرته لم تكن راغبة في دفع تكاليف دفنه ، وفي جميع الأحوال ، لم يكن جيرنيجان على علم - بطبيعة الحال- بأن جسده سيتحول إلى كتاب دراسي طبي . أما المصاعب التي اكتنفت بداية المشروع ، فتمثلت في وجوب الحصول على الجثة بعد الوفاة بوقت قصير ، ثم القيام بتصوير كامل الجسم بالأشعة المقطعية قبل تجميد الجثة ، وذلك لأن التجميد يغير بصورة كبيرة من معالم الجسم البشري. بدأ فريق العمل المكون من خمسة عشر فردا في تجربة ملء شرايين جثث التجارب بمحلول أحمر ، وأوردتها بمحلول أزرق اللون ، بحيث تظهر في الصور المقطعية ، لكن السوائل المستخدمة تسربت من الأوعية الدموية المهترئة . وكان تخزين الجثة يمثل مشكلة أخرى ؛ كان مجمد الجثث النقال الذي تم شراؤه من كتالوج إحدى شركات تجهيز ودفن الموتى لايكفي سوى لجثتين فقط ، فاضطر رئيس الفريق لشراء خزانة لتجميد اللحوم من سوق مجاور ، ثم قام بتفكيكها وإعادة تركيبها في المختبر ، انتظارا لوصول ضيوفها من الجثث… عندما حانت لحظة تنفيذ الإعدام في جيرنيجان - وهو المتطوع الثالث- قررت أسرته أن تبقى بضع ساعات مع جثته بعد تنفيذ الحكم ، وبعدها تم شحن الجثة جوا من تكساس إلى كولورادو ، فوصلت إلى المختبر في أقل من ثماني ساعات . كان طول الرجل خمسة أقدام و11 بوصة ، ويزن 199 رطلا ، لذا فقد انحشر جسده بصعوبة داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي (Magnetic Resonance Imaging) ؛ ولذلك لم يظهر مرفقاه في الصور . تم إرسال الصور المقطعية لجثث الرجال الثلاثة إلى المكتبة لاختيار أنسبها ؛ وعلى الرغم من أن جثته كانت تنقص أحد الأسنان ، وإحدى الخصيتين ، بالإضافة إلى الزائدة الدودية ، فقد تم اختيار جثة جيرنيجان لتكون النموذج الرقمي (Digital model) لجميع الرجال. وعند هذه المرحلة ، يبدأ الجزء الأصعب من رحلتنا ؛ فقد كان من الضروري تقطيع الجثة إلى أجزاء ، ثم تشريحها إلى شرائح رقيقة مستوية حتى يمكن تصويرها في صورة قطاعات عرضية . وحتى يمكن المحافظة على الجثة في نفس الوضع طوال عملية التشريح والتصوير ، لجأ الفريق إلى تغطية كامل الجثة بأنبوب مطاطي تم تثبيته بمسامير سائلة تم شراؤها من متجر قريب. وحتى يمكن تقطيع الجثة في صورة شرائح مستوية ، تم تجميد الأنسجة لتصبح في مثل صلابة العظام - عند -94ْ فهرنهايت - لمدة يومين كاملين . وبمجرد تقسيم الجثة إلى أربعة أجزاء ، تم وضعها في كتل من الجيلاتين تم صبغها باللون الأزرق باستخدام أحد الأصباغ المستخدمة في صناعة الأغذية ، كما مُلئت تجاويف الجسم باللاتكس الأزرق من أجل المحافظة على شكلها الأصلي ، وفي نهاية الأمر - بدأت عملية تقطيع الجثة إلى شرائح في فبراير 1994. بدأ العمل على أقل أجزاء الجسم أهمية -وهي القوالب التي تحتوي على القدمين، وذلك حتى يكتسب أفراد الفريق الخبرة الكافية . وباستخدام منشار كهربائي دائري مثبت في سقف الغرفة ، وجهاز يسمى الكريوماكروتوم (Cryomacrotome؛ من اللاتينية بمعنى جهاز تقطيع الشرائح الكبيرة ) ، عكف اثنان من أفراد الفريق على تقطيع شرائح بسمك ملليمتر واحد من القالب ، كما قاما بفحص الشرائح بحثا عن الأنسجة التي لم يتم تقطيعها بصورة شرائح ملساء ، ثم نثر الكحول بين كل قطاع عرضي والذي يليه ، ولصق علامات لتحديد الألوان خوفا من تغير اللون عند تحميض الأفلام ، وأخيرا التقاط الصور باستخدام ثلاثة أجهزة تصوير . وبعد تقطيع كل شريحة ، كان المساعدان يقومان بتجميد الكتلة مرة أخرى باستخدام الثلج الجاف . كانت الفترة الزمنية التي تفصل بين تقطيع كل من الشرائح تتراوح بين أربعة وعشر دقائق ، كما كان أعضاء الفريق يعملون في نوبات متتالية لمدة 12 ساعة يوميا. كان حجم العمل هائلا ، لذلك كانت هناك مشكلات يومية تتمثل في تعطل الأجهزة المستخدمة عن العمل ؛ المنشار ، والحاسوب ، وأجهزة التصوير . وعندما وصل أفراد الفريق إلى الرأس ، كان الصيف قد حل ، ولما كان المختبر غير مجهز بالمكيفات ، فقد كانت الكتلة التي يعمل عليها الفريق تذوب سريعا ؛ لذا اقتصر العمل على ست ساعات يوميا ، وفي نهاية الأمر استغرق العمل نحو تسعة أشهر لالتقاط الصور المطلوبة لجميع الشرائح البالغ عددها 1878 شريحة . احتلت البيانات الخام - أي الصور الفوتوغرافية، والصور المقطعية ، وصور الرنين المغناطيسي- نحو 15 جيجا بايت من الذاكرة الحاسوبية . وعندما بدأ مشروع الإنسان المرئي ، كانت هذه البيانات كافية لملء نحو 15,000 قرص مرن (Floppy discs) ؛ أما اليوم ، فهي كافية لملء 23 قرص مكتنز للقراءة فقط (CD-ROM). وبحلول نوفمبر من عام 1994 ، بدأ ظهور جيرنيجان على شبكة الإنترنت . ويستغرق الأمر أسبوعين لتحميل البيانات من الإنترنت ، كما تقدم أكثر من 700 شخص وهيئة علمية بطلبات للاستخدام المجاني لتلك البيانات ، وتباينات الأغراض التي ستستخدم فيها بين تصميم الخوذات الواقية من الصدمات ، إلى تصميم العمليات الجراحية ، أما أغلبها فسيستخدم في تخليق صور للجسم البشري . واستغرق العمل 18 شهرا لمعالجة المعطيات الحاسوبية وتحويلها إلى الصور التي نرى بعضها على صفحات هذا المقال ؛ إذ كان من الضروري تكديس (Stacking) الصور الثنائية الأبعاد المأخوذة للشرائح فوق بعضها البعض ، وذلك حتى يتمكن الرائي من الحصول على صور ثلاثية الأبعاد لأي قطاع من الجسم ، وفي أي اتجاه ؛ ويعد هذا مفيدا بصورة خاصة لطلاب الطب الذين سيتمكنون من "تشريح" جثة لرجل صحيح البدن ، في أي وقت وفي جميع الاتجاهات ، ثم البدء مجددا من أية نقطة شاءوا، وباختصار … يتيح لنا البرنامج النهائي استكشاف جسد بشري حقيقي. • عندما تم الانتهاء من مشروع الرجل المرئي ، بدأ أعضاء الفريق مشروع المرأة المرئية ، وهي امرأة في التاسعة والخمسين توفيت في سبتمبر 1993 نتيجة لإصابتها بأزمة قلبية لم تؤثر على الشكل العام للجسم ؛ وتمكن الفريق من تشريح جسدها إلى عدد يبلغ نحو ثلاثة أضعاف العدد الذي حصلوا عليه من جيرنيجان ، أي 5189 شريحة . ويأمل رئيس الفريق في أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه الأطباء من فحص "مرضى افتراضيين" (Virtual patients) من أي عمر، أو جنس ، أو عرق ، أو نمط جسدي .

أسرار التشريح :

كان الفن يسبق العلم في عصر النهضة (Renaissance) ، فالسلطات الدينية كانت تتغاضى عن تشريح الجثث ، مشيرة إلى أن التصميم الذكي للجنس البشري (corpus humanum) يعد دليلا عمليا على عظمة الله تعالى - وتذكيرا واضحا بسرعة زوال الحياة . أجرى ليوناردو دا فنشي دراسات على العظام ، والعضلات، والعيون في المستشفيات الملحقة بالأديرة ؛ وذلك لاقتناعه بأن المرء لكي يرسم الجسم البشري ، عليه أن يتعرف على ما يخفيه الجلد عن العيان. وسرعان ما تبعه الأطباء في اهتمامه بالتشريح، فقد نشر أندرياس فيزاليوس (Vesalius) وهو جراح عسكري ، ومدرس وطبيب لأمراء أوروبا ، كتابه الكلاسيكي المكون من سبعة أجزاء بعنوان "عن صناعة الجسم البشري" (De humani corporis fabrica)، وذلك وهو في التاسعة والعشرين من عمره . كانت لوحاته الملونة ، والتي كانت تمثل طبقات متتالية لتشريح الجسم ، مثل الشرائح الشفافة التي نراها في الموسوعات المصورة اليوم، مبنية على عمليات التشريح العلنية ودروس التشريح التي كان يلقيها في بادوا . وفي مرات قليلة خلال أشهر الشتاء الباردة، كان النبلاء والقساوسة والمارة يتجمعون في بولونيا ليشاهدوا عمليات التشريح التي كان يقوم بها في مدرج مضاء بالمشاعل . كما توافد الناس على كلية الطب بباريس ليشاهدوا عمليات التشريح ، وكانت السيدات يحملن باقات الزهور وسلال البرتقال لكي يتمكن من احتمال الرائحة الكريهة المنبعثة من الجثث. وظهرت سوق سوداء للاتجار في جثث الغرباء ، والمشردين ، والفقراء ، كما كان طلبة الطب يسرقون الجثث من القبور ، وحتى من المواكب الجنائزية.

عصر التنوير :

عندما بدأ عصر التنوير (Enlightenment)، ساد تطبيق "الطريقة العلمية" . كان المشرحون يحفظون جثثهم بغمرها في النبيذ أو بصب الشمع السائل عليها ، ولذلك تمكنوا من دراسة أعضاء الجسم المنفردة ، وكذلك الشبكات المنتشرة في جميع أجزاء الجسم ؛ مثل الجهاز العصبي والجهاز التناسلي . وفي عام 1677، كان العالم الهولندي أنطون فان ليفنهوك (van Leeuwenhoek) هو أول من رأى الحيوانات المنوية عبر المجهر الذي صنعه بنفسه ، غير أن هناك من علماء عصره من ادعى رؤية إنسان مصغر لدى الفحص المجهري الدقيق لعينة من السائل المنوي! وبحلول عام 1845، تمكن ألفريد دون (Donne) من إنجاز صور دغرية (Daguerrotypes: طريقة قديمة للتصوير الفوتوغرافي على ألواح فضية)، لعينات من الأنسجة حسبما ترى من خلال المجهر - ومن خلال لوحات الحفر التي كان يرسمها بنفسه ، كان يُري الآخرين أشكال خلايا الجسم المختلفة . و أتاح التصوير الفوتوغرافي ، وهو أحدث تقنيات التصوير المتاحة وقتئذ، فرصة تسجيل الصور باستخدام الضوء بدلا من الاعتماد على العين واليد البشرية المدربة ؛ وهكذا تمكن العلماء من تصوير شبكية العين (1865) ، وداخل المعدة باستخدام منظار جوف البطن (Endoscope) في عام 1898. وفي عام 1895 ، اكتشف العالم الألماني فلهلم كونراد رونتجن (Roentgen) شعاعا من الطاقة ذا طول موجي أقصر من الضوء ، والذي يمكنه اختراق أنسجة الجسم ومن ثم الاحتفاظ به على فيلم . ومع بداية القرن العشرين، كانت "أشعة إكس" تستخدم في تشخيص الكسور - وفي دعاوى سوء التصرف المهني ضد الأطباء والجراحين.

أخريات القرن العشرين :

لم يكن بوسع أحد أن يفكر بإمكانية تصوير أنسجة الجسم الحية قبل حلول العصر الحديث . وقد بدأ عصر الأشعة المقطعية المحوسبة (CAT-Scanning) في عام 1973 ، وهي تقنية تعتمد على استخدام صور الأشعة السينية المأخوذة من زوايا مختلفة ، ثم يقوم حاسوب بمعالجتها بحيث يمكن رؤيتها كصورة واحدة ، فأتاحت للأطباء فرصة تحديد مواضع الأورام أو الأنسجة الميتة في الدماغ نتيجة للسكتات المخية (Strokes). وبعد ذلك اكتشف الأطباء أنه عند حقن الماء المشع في مجرى الدم ، يمكن باستخدام آلات تصوير معينة التقاط صور للعلميات الاستقلابية (Metabolic) المختلفة الدائرة في الدماغ ، وهي تقنية تعرف بالتصوير المقطعي بانبعاث البوزيترونات (PET) ؛ مما مكننا من اقتفاء الأنشطة العصبية في الدماغ - فأصبح بوسعنا تحديد تلك المناطق الدماغية التي تتحكم في عمليات الحديث أو الحركة أو الإحساس . وفي الثمانينات ، شاع استخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) ، وذلك لأنها لا تشتمل على استخدام مواد مشعة قد تضر بالجسم . أما اليوم، فنحن نستخدم مزيجا من جميع تقنيات التصوير المتاحة - بداية من صور المجهر الإلكتروني ، إلى تصوير الجينات - من أجل أن نرى ، وأن نعرف ، ومن ثم وأن نعالج أنفسنا بطرق لم يكن بالإمكان تخيلها منذ قرن واحد من الزمان.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الدماغ :

تتكون المادة المصنوع منها الدماغ البشري من 85% ماء ؛ فباستثناء الجمجمة الصلبة ، يبدو الدماغ ككتلة هلامية من الجيلي . كان المفكر اليوناني أرسطو يعتقد بأن وظيفة الدماغ تنحصر في قيامه بتبريد الدم . ويتلقى الدماغ بمفرده نحو عشرين بالمائة من الإمداد الدموي للجسم ، لكن الدماغ لا يمكنه "تبريد الدم" - في الواقع- سوى من خلال التفكير العقلاني المتزن. من بين أدمغة جميع الكائنات الحية ، لا يمكن سوى للدماغ البشري أن يفهم نفسه بنفسه - لكن ليس بصورة كافية حتى الآن. وباعتبار حجمه الضئيل (نحو ثلاثة أرطال) ، و استهلاكه الضئيل للطاقة (والذي يوازي ما يستهلكه مصباح كهربائي صغير بقدرة 20 واط) ، وسعة التخزين الهائلة التي يتمتع بها (100 ترليون بت (bit) من المعلومات) ، يمكن للدماغ البشري أن يعمل بصورة أكفأ من أي حاسوب تم اختراعه حتى الآن. ويتكون الدماغ البشري التام النمو من 100 بليون خلية عصبية ، أو عصبون (Neuron) ، مقارنة بالديدان الدنيا ، والتي لايزيد عدد الخلايا العصبية فيها عن 23! ومع ذلك، فليس عدد العصبونات مهما بالنسبة للذكاء بقدر أهمية الاتصالات الموجودة بينها . وتبدأ هذه الاتصالات في التكون بداية من الثلث الثالث للحمل ، وتستمر في تكوين شبكة متوسعة من الاتصالات حتى سن الثانية. وتتواصل العصبونات فيما بينها بواسطة الناقلات العصبية (Neurotransmitters) ، وكل منها عبارة عن رسول كيميائي ؛ فعندما يطلق عصبون ما إشارة عصبية ، يتم التقاطها بواسطة واحدة من الآلاف من نقاط الاستقبال التابعة لعصبون آخر ، والتي يمكنها أن توقف هذه الإشارة العصبية أو أن تنقلها لعصبون آخر . وعندما يكون هناك الكثير من الإشارات المنتقلة بين العصبونات المختلفة في وقت واحد، ينتج اضطراب في توصيل الإشارات العصبية ، والذي يعبر عنه في كثير من الأحيان في صورة نوبة صَرَعية (Seizure). ويعكف الباحثون حاليا على تطوير أدوية تحاكي تأثير الناقلات العصبية أو تثبطه ، بما فيها دواء جديد لعلاج الصرع ، وآخر لعلاج مرض ألزهايمر (الخرف الشيخوخي) ، بحيث يمكن الإبقاء على مخزون الدماغ من الناقل العصبي المسؤول عن الذاكرة - وهو الأستيل كولين (Acetylcholine). ليس الأكبر حجما هو الأفضل بالضرورة  ! فالدماغ البشري يمتلك من القدرة ما يزيد بكثير عن أقصى ما يمكن لنا الانتفاع به. ولذلك يمكننا أن نعيش بعد فقدان نصف الدماغ بالكامل نتيجة للجراحة أو بفعل السكتات المخية ؛ حيث يقوم النصف المتبقي بالتكيف على المتطلبات الجديدة لحياة صاحبه. يتصل نصفا الكرة المخيين (Cerebral hemispheres) بشريط سميك من الألياف العصبية ، أي الجسم الثفني (Corpus callosum) . وبعد عملية جراخية أجريت حديثا لمعالجة النوبات الصرعية الشديدة بقطع الاتصال بين نصفي المخ ، اكتشف الباحثون أن المنطقة المخية التي تتحكم في القدرة على الكلام ، وهي مهارة اكتسبها البشر منذ 100,000 سنة ، قد توجد في إحدى نصفي المخ ، بينما توجد المنطقة التي تتحكم في مهارة الكتابة ، والتي اكتسبها البشر منذ ما لا يزيد على 10,000 سنة ، في النصف الآخر. ويمكن للأدمغة البشرية أيضا أن تعيد تنظيم أنفسها لاكتساب مهارات جديدة في مراحل متأخرة من الحياة .وعلى سبيل المثال، تقوم أدمغة أغلب الناس بمعالجة الحروف والأرقام في مناطق مختلفة من الدماغ. لكن الباحثين اكتشفوا في دراسة أجريت على عمال البريد في كندا ، حيث تستخدم رموز بريدية تجمع بين الحروف والأرقام، أن مناطق التعرف على كل من الحروف والأرقام في أدمغة أولئك العمال قد أصبحت قريبة للغاية من بعضها البعض.

القلب :

في عام 1616 ، أعلن الطبيب البريطاني وليام هارفي عن "اكتشافه" لوظيفة القلب في الدورة الدموية - وهو ما سبقه إليه الطبيب المسلم ابن النفيس … كتب هارفي قائلا :" يتحرك الدم بصورة دائرية مستمرة ، وذلك بفضل انقباض القلب ." وتضخ هذه العضلة المجوفة كمية من الدم خلال فترة حياتية متوسطة تكفي لملء خزانات الوقود لستة وخمسين صاروخا معدة للانطلاق إلى القمر. وعلى عكس عضلات الجسم الأخرى، فانقباض عضلة القلب عملية لا إرادية ، تبدأ بعد تخصيب البويضة بأربعة أسابيع ، قبل أن تتكون الخلايا العصبية ، وتستمر في الانقباض حتى عندما تخرج من الجسم وتوضع في محلول ملحي . وتولد الخلايا العضلية (Myocytes) تيارا كهربيا كليا بقدرة 2 واط ، وهو كاف لحث الألياف العضلية على الانقباض . بعد الولادة بفترة قصيرة، تتوقف خلايا عضلة القلب عن الانقسام . وعندما يتعرض بعضها للتلف بفعل النوبات القلبية ، ليس هناك ثمة خلايا جديدة لتحل محلها . وتشير الدراسات الحديثة إلى أنه يمكن استخدام الجينات الورمية (Oncogenes) ، وهي نفس الجينات التي تسبب الانقسام المفرط للخلايا ، والذي يؤدي بدوره للسرطان ، لحث الخلايا العضلية على الانقسام من أجل إصلاح القلوب البشرية التالفة . تعد الأمراض القلبية الوعائية أكبر أسباب الوفاة في الولايات المتحدة ؛ إذ يموت بسببها شخص كل 33 ثانية ، كما بلغت تكلفتها الإجمالية على الميزانية الصحية هناك نحو 151 بليون دولار في عام 1996- ولذلك يقوم علماء البيولوجيا الجزيئية بدراسة الجينات الأخرى التي يمكن من خلالها التعرف على الأمراض القلبية المحتملة ، ومن ثم معالجتها. هناك حكمة قديمة ، لازالت تثبت صحتها حتى الآن ، تقول بأن :" القلب هو ينبوع الحياة ، وفي توقف نبضاته المستمرة تعريف الموت."

الرئتان :

تتسبب صدمة الميلاد في النَفَس الأول ؛ فتنقبض العضلات ، مما يؤدي لفتح الصدر وخفض ضغط الهواء داخله…يفتح الرضيع فمه محتجا ، فيندفع الهواء إلى داخل الصدر ، وهنا يبدأ الوليد في استنشاق الهواء بمعدل 60 مرة في الدقيقة ، مما يبدأ دورة الكفاح … والتنفس . اعتقد المشعوذون منذ القدم بأن برج السرطان هو البرج المتحكم في الرئتين . وفي العام الماضي ، توفي 158,700 شخص في الولايات المتحدة وحدها نتيجة للإصابة بسرطان الرئة - كان 40 % منهم من غير المدخنين . وفي حين يعد السرطان أكثر أمراض الرئة تسبيبا للوفاة ، هناك 16 مليون أمريكي يعانون من صعوبة التنفس نتيجة لإصابتهم بأمراض الرئة الانسدادية المزمنة (COPD) ، بما فيها التهاب القصبات (الشعب الهوائية) (Bronchitis) ، والنفاخ (Emphysema). وبدأ الأطباء مؤخرا في تقليل حجم الرئات المصابة بالانتفاخ - جراحيا- وذلك حتى يتمكنوا من تخفيف الضغط الواقع على الأجزاء غير المصابة بالمرض من الرئة . وهناك علاجات جديدة لمرضى الربو البالغ عددهم 1.6 مليون في الولايات المتحدة وحدها . والعلاج الشائع حاليا هو استخدام الأدوية الموسعة للشعب ،بعد الإصابة بنوبة للربو . واكتشف الباحثون أن استخدام جرعات معينة من مضادات الالتهاب الستيرويدية (مشتقات الكورتيزون) ، قد يقي من الإصابة بتلك النوبات، مما يتيح لمرضى الربو (Asthma) التنفس بصورة طبيعية ؛ ولكن ماذا نعني بقولنا "طبيعية"؟ … يعتمد هذا على كونك مستلقيا (حيث يبلغ مدخول الهواء نحو جالونين في الدقيقة) ، أو جالسا (أربعة جالونات) ، أو ماشيا (ستة جالونات) ، أو أنك تعدو (12.5 جالون).


الأحشاء :

كان المنجمون يستشيرون الأمعاء لاستقراء المستقبل ، كمان المحاربون البدائيون يلتهمون أكباد أعدائهم حتى يمتصوا قوتهم . ولا تزال مقولة أن الإنسان هو ما يتناوله من طعام محلا للخرافات والأساطير (والتي تنادي بأن النباتيين مسالمون ، بينما يكون آكلو اللحوم عدوانيين!) ، في حين أنها قد تكون صحيحة تماما من ناحية أخرى. يتكون الجهاز الهضمي من أنبوب طوله 30 قدما يبدأ من الفم وينتهي بالشرج ، وتتمثل وظيفته في تحطيم الطعام إلى جزيئات من الصغر بحيث تنساب من الأمعاء إلى مجرى الدم.وتوجه المغذيات بعد ذلك إلى أكبر غدد الجسم ، وهي الكبد الذي يزن ثلاثة أرطال ، والذي يقوم بتحويلها إلى مواد كيميائية نافعة للجسم ، كما يقوم بتخزينها حتى تبرز الحاجة إليها. كان الرومان يعتقدون بأن الرغبة الجنسية تنبع في الكبد أساسا ، وقد كانوا محقين - ولو جزئيا- في اعتقادهم هذا ؛ فمن بين وظائفه الشديدة التباين والتي تصل إلى الألف وظيفة، يقوم الكبد بتنظيم التوازن الهرموني ، وكذلك وظائف الكولستيرول، ويتحكم في عملية تجلط الدم وينقي الدم من السموم . والكبد هو العضو الوحيد في جسم الإنسان ،الذي يمتلك القدرة على تجديد خلاياه ؛ فيمكن للإنسان أن يعيش بصورة طبيعية حتى لو تم استئصال ثلثي كبده ، إذ سينمو الكبد مرة أخرى ليصل إلى حجمه السابق. لكن المواد السامة (مثل الكحول ، والملوثات ، والأدوية ) ، والأخماج (الالتهابات) مثل التهاب الكبد (Hepatitis) ، تتسبب في إتلاف الكبد حتى يصاب بالقصور الوظيفي - أي الفشل الكبدي، وفي غضون أيام من حدوث هذا الفشل ، تتعطل كافة أجهزة الجسم ، فتحدث الوفاة ما لم يعالج على وجه السرعة. ولحسن الحظ ، تعد جراحات زراعة الكبد من الجراحات الناجحة نسبيا ، حيث يبقى 73 % من المرضى على قيد الحياة بعد ثلاث سنوات من إجراء العملية. وبرغم أن الجراحون يجرون 4,000 عملية لزرع الكبد سنويا ، كما يقومون بزراعة أجزاء فحسب من الكبد ، انتظارا لنمو كبد كامل فيما بعد، لا تتوافر للأسف أعداد كبيرة من الأكباد القابلة للزرع . تمكن الباحثون مؤخرا من استنساخ الخلايا الكبدية في المختبر ، في حين يعكف آخرون على معالجة أعضاء الحيوانات - وخصوصا الخنزير- بتقنيات الهندسة الوراثية ، حتى يمكن استزراعها في بني البشر . ولكن هل سيتوافر أي منها للاستخدام على نطاق واسع في المستقبل القريب ؟ … عليك باستشارة أحشاءك !