دلائل الإعجاز - الجزء الرابع
فصل في ضرورة ربط اللفظ بالمعنى واعلم أني على طول ما عدت وأبدأت وقلت وشرحت في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث اللفظ لربما ظننت أني لم أصنع شيئا وذاك أنك ترى الناس كأنه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده على التقليد البحت وعلى التوهم والتخيل وإطلاق اللفظ من غير معرفة بالمعنى قد صار ذاك الدأب والديدن واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد وهذا الذي بيناه وأوضحناه كأنك ترى أبدا حجابا بينهم وبين أن يعرفوه وكأنك تسمعهم منه شيئا تلفظه أسماعهم وتنكره نفوسهم وحتى كأنه كلما كان الأمر أبين وكانوا عن العلم به أبعد وفي توهم خلافه اقعد وذاك لأن الاعتقاد الأول قد نشب في قلوبهم وتأشب فيها ودخل بعروقه في نواحيها وصار كالنبات السوء الذي كلما قلعته عاد فنبت والذي له صاروا كذلك أنهم حين رأوهم يفردون اللفظ عن المعنى ويجعلون له حسنا على حدة ورأوهم قد قسموا الشعر فقالوا إن منه ما حسن لفظه ومعناه ومنه ما حسن لفظه دون معناه ومنه ما حسن معناه دون لفظه ورأوهم يصفون اللفظ بأوصاف لا يصفون بها المعنى ظنوا أن للفظ من حيث هو لفظ حسنا ومزية ونبلا وشرفا وأن الأوصاف التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصحة وذهبوا عما قدمنا شرحه من أن لهم في ذلك رأيا وتدبيرا وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض وبين الصورة التي يخرج فيها فنسبوا ما كان من الحسن والمزية في صورة المعنى إلى اللفظ ووصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له كقولهم إنه حلي المعنى وإنه كالوشي عليه وإنه قد كسب المعنى دلا وشكلا وإنه رشيق أنيق وإنه متمكن وإنه على قدر المعنى لا فاضل ولا مقصر إلى أشباه ذلك مما لا يشك أنه لا يكون وصفا له من حيث هو لفظ وصدى صوت إلا أنهم كأنهم رأوا بسلا حراما أن يكون لهم في ذلك فكر وروية وأن يميزوا فيه قبيلا من دبير ومما الصفة فيه للمعنى وإن جرى في ظاهر المعاملة على اللفظ إلا أنه يبعد عند الناس كل البعد أن يكون الأمر فيه كذلك وأن لا يكون من صفة اللفظ بالصحة والحقيقة وصفنا اللفظ بأنه مجاز وذاك أن العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين الحقيقة والمجاز إن الحقيقة أن يقر اللفظ على أصله في اللغة والمجاز أن يزال عن موضعه ويستعمل في غير ما وضع له فيقال أسد ويراد شجاع وبحر ويراد جواد وهو وإن كان شيئا قد استحكم في النفوس حتى إنك ترى الخاصة فيه كالعامة فإن الأمر بعد فيه على خلافه وذاك أنا إذا حققنا لم نجد لفظ أسد قد استعمل على القطع والبت في غير ما وضع له ذاك لأنه لم يجعل في معنى شجاع على الإطلاق ولكن جعل الرجل بشجاعته أسدا فالتجوز في أن ادعيت للرجل أنه في معنى الأسد وأنه كأنه هو في قوة قلبه وشدة بطشه وفي أن الخوف لا يخامره والذعر لا يعرض له وهذا إن أنت حصلت تجوز منك في معنى اللفظ وإنما يكون اللفظ مزالا بالحقيقة عن موضعه ومنقولا عما وضع له أن لو كنت تجد عاقلا يقول هو أسد وهو لا يضمر في نفسه تشبيها له بالأسد ولا يريد إلا ما يريده إذا قال هو شجاع وذلك ما لا يشك في بطلانه وليس العجب إلا أنهم لا يذكرون شيئا من المجاز إلا قالوا إنه أبلغ من الحقيقة فليت شعري إن كان لفظ أسد قد نقل عما وضع له في اللغة وأزيل عنه وجعل يراد به الشجاع هكذا غفلا ساذجا فمن أين يجب أن يكون قولنا أسد أبلغ من قولنا شجاع وهكذا الحكم في الاستعارة هي وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة اللفظ وكنا نقول هذه لفظة مستعارة قد استعير له اسم الأسد إن مآل الأمر إلى أن القصد بها إلى المعنى يدلك على ذلك أنا نقول جعله أسدا وجعله بدرا وجعله بحرا فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى لم يكن لهذا الكلام وجه لأن جعل لا تصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء كقولنا جعلته أميرا وجعلته واحد دهره تريد أثبت له ذلك وحكم جعل إذا تعدى إلى مفعولين حكم صير فكما لا تقول صيرته أميرا إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة كذلك لا يصح أن تقول جعلته أسدا إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد ولا يقال جعلته زيدا بمعنى سميته زيدا ولا يقال للرجل اجعل ابنك زيدا بمعنى سمه زيدا وولد لفلان ابن فجعله زيدا وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصل فأما قوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها وذاك أن المعنى على أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث واعتقدوا وجودها فيهم وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم البنات وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث أو لفظ البنات اسما من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة هذا محال لا يقوله عاقل أما تسمع قول الله تعالى أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم فأي معنى لأن يقال اشهدوا خلقهم هذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ولم يزيدوا على أن وضعوه اسما لما استحقوا إلا اليسير من الذم ولما كان هذا القول منهم كفرا والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى وجملة الأمر أنه إن قيل إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط ومن قبيح التورط من الذهاب مع الظنون الفاسدة ما عرض لهم في هذا الشأن ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ويؤمنون به ويدينون بأن القرآن معجز ثم يصدون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله ويسلكون غير سبيله ولقد جنوا لو دروا ذاك عظيما فصل في تحليل بعض الشواهد على اللفظ والمعنى واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أن لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلف لما لا يحتاج إليه فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة يرى أنه يعرض للمسلم نفسه عند اعتراض الشك وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبه الكلم في ضم بعضها إلى بعض بضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ورأى أن الذي ينسج الديباج ويعمل النقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه شيئا غير أن يضم بعضه إلى بعض ويتخير للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة جرى في ظنه أن حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض وفي تخير المواقع لها حال خيوط الإبريسم سواء ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضم فيها ضما ولا الموقع موقعا حتى يكون قد توخى فيها معاني النحو وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضا من غير أن تتوخى فيها معاني النحو لم تكن صنعت شيئا تدعى به مؤلفا وتشبه معه بمن عمل نسجا أو صنع على الجملة صنيعا ولم يتصور أن تكون قد تخيرت لها المواقع وفساد هذا وشبيهه منا الظن وإن كان معلوما ظاهرا فإن هاهنا استدلالا لطيفا تكثر بسببه الفائدة وهو أنه يتصور أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصورة التي أرادها الناظم له ويفسدها عليه من غير أن يحول منه لفظا عن موضعه أو يبدله بغيره أو يغير شيئا من ظاهر أمره على حال مثال ذلك أنك إن قدرت في بيت أبي تمام الطويل لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأري الجنى اشتارته أيد عواسل أن لعاب الأفاعي مبتدأ ولعابه خبر كما يوهمه الظاهر أفسدت عليه كلامه وأبطلت الصورة التي أرادها فيه وذلك أن الغرض أن يشبه مدار قلمه بلعاب الأفاعي على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات وكذلك الغرض أن يشبه مداده بأري الجني على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصلات أوصل به إلى النفوس ما تحلو مذاقته عندها وأدخل السرور واللذة عليها وهذا المعنى إنما يكون إذا كان لعابه مبتدأ ولعاب الأفاعي خبرا فأما تقديرك أن يكون لعاب الأفاعي مبتدأ ولعابه خبرا فيبطل ذلك ويمنع منه البتة ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مرادا في مثل غرض أبي تمام وهو أن يكون أراد أن يشبه لعاب الأفاعي بالمداد ويشبه كذلك الأري به فلو كان حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم لكان ينبغي أن لا تتغير الصورة الحاصلة من نظم كلم حتى تزال عن مواضعها كما لا تتغير الصورة الحادثة عن ضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض حتى تزال الخيوط عن مواضعها واعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله لعاب الأفاعي القاتلات لعابه سبيل قولهم عتابك السيف وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك تشبه شيئا بشيء لجامع بينهما في وصف وليس المعنى في عتابك السيف على أنك تشبه عتابه بالسيف ولكن على أن تزعم أنه يجعل السيف بدلا من العتاب أفلا ترى أنه يصح أن تقول مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي ولا يصح أن تقول عتابك كالسيف اللهم إلا أن تخرج إلى باب آخر وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام فتريد أنه قد عاتب عتابا خشنا مظلما ثم إنك إن قلت السيف عتابك خرجت به إلى معنى ثالث وهو أن تزعم أن عتابه قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغا صار له السيف كأنه ليس بسيف واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه ظن لذلك أن المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها فإن هذا الذي بيناه يريه فساد هذا الظن وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعا للألفاظ في ترتيبها لكان محالا أن تتغير المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ وتزول عن أماكنها علمنا أن الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبرا ثم يقدم الذي هو الخبر إلا أشكل الأمر عليك فيه فلم تعلم أن المقدم خبر حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبر أنشد الشيخ أبو علي في التذكرة الخفيف نم وإن لم أنم كراي كراكا ثم قال ينبغي أن يكون كراي خبرا مقدما ويكون الأصل كراك كراي أي نم وإن لم أنم فنومك نومي كما تقول قم وإن جلست فقيامك قيامي هذا هو عرف الاستعمال في نحوه ثم قال وإذا كان كذلك فقد قدم الخبر وهو معرفة وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبرا قال فهو كبيت الحماسة الطويل بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فقدم خبر المبتدأ وهو معرفة وإنما دل على أنه ينوي التأخير المعنى ولولا ذلك لكانت المعرفة إذا قدمت هي المبتدأ لتقدمها فافهم ذلك هذا كله لفظه واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة من غير أن تغير من لفظه شيئا أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر وهو الذي وسع مجال التأويل والتفسير حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير وهو على ذاك الطريق المزلة الذي ورط كثيرا من الناس في الهلكة وهو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم وينكشف معه عوار الجاهل به ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصح إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلا بهذا العلم فيتسكع عند ذلك في العمى ويقع في الضلال مثال ذلك أن من نظر إلى قوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ثم لم يعلم أن ليس المعنى في ادعوا الدعاء ولكن الذكر بالاسم كقولك هو يدعى زيدا ويدعى الأمير وأن في الكلام محذوفا وأن التقدير قل أدعوه الله أو ادعوه الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى كان بعرض أن يقع في الشرك من حيث إنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره خرج ذلك به ولعياذ بالله تعالى إلى إثبات مدعوين تعالى عن أن يكون له شريك وذلك من حيث كان محالا أن تعمد إلى اسمين كلاهما اسم شيء واحد فتعطف أحدهما على الآخر فتقول مثلا ادع لي زيدا الأمير والأمير هو زيد وكذلك محال أن تقول أيا تدعو وليس هناك إلا مدعو واحد لأن من شأن أي أن تكون أبدا واحدا من اثنين أو جماعة ومن لم يكن له بد من الإضافة إما لفظا وإما تقديرا وهناك باب واسع من المشكل فيه قراءة من قرأ وقالت اليهود عزير ابن الله بغير تنوين وذلك أنهم قد حملوها على وجهين أحدهما أن يكون القارىء له أراد التنوين ثم حذفه لالتقاء الساكنين ولم يحركه كقراءة من قرأ قل هو الله أحد الله الصمد بترك التنوين من أحد وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ ولا الليل سابق النهار بالنصب فقيل له ما تريد فقال أريد سابق النهار قيل فهلا قلته فقال فلو قلته لكان أوزن وكما جاء في الشعر من قوله المتقارب فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا إلى نظائر ذلك فيكون المعنى في هذه القراءة مثله في القراءة الأخرى سواء والوجه الثاني أن يكون الابن صفة ويكون التنوين قد سقط على حد سقوطه في قولنا جاءني زيد بن عمرو ويكون في الكلام محذوف ثم اختلفوا في المحذوف فمنهم من جعله مبتدأ فقدر وقالت اليهود هو عزير ابن الله ومنهم من جعله خبرا فقدر وقالت اليهود عزير ابن الله معبودنا وفي هذا أمر عظيم وذلك أنك إذا حكيت عن قائل كلاما أنت تريد أن تكذبه فيه فإن التكذيب ينصرف إلى ما كان فيه خبرا دون ما كان صفة تفسير هذا أنك إذا حكيت عن إنسان أنه قال زيد بن عمرو سيد ثم كذبته فيه ولم تكن قد أنكرت بذلك أن يكون زيد بن عمرو ولكن أن يكون سيدا وكذلك إذا قال زيد الفقيه قد قدم فقلت له كذبت أو غلطت لم تكن قد أنكرت أن يكون زيد فقيها ولكن أن يكون قد قدم هذا ما لا شبهة فيه وذلك أنك إذا كذبت قائلا في كلام أو صدقته فإنما ينصرف التكذيب منك والتصديق إلى إثباته ونفيه والإثبات والنفي يتناولان الخبر دون الصفة يدلك على ذلك أنك تجد الصفة ثابتة في حال النفي كثبوتها في حال الإثبات فإذا قلت ما جاءني زيد الظريف كان الظرف ثابتا لزيد كثبوته إذا قلت جاءني زيد الظريف وذلك أن ليس ثبوت الصفة للذي هي صفة له بالمتكلم وبإثباته لها فتنتفي بنفيه وإنما ثبوتها بنفسها وبتقرر الوجود فيها عند المخاطب مثله عند المتكلم لأنه إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللبس على المخاطب تفسير ذلك أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف فإنك إنما تحتاج إلى أن تصفه بالظريف إذا كان فيمن يجيء إليك واحد آخر يسمى زيدا فأنت تخشى إن قلت جاءني زيد ولم تقل الظريف أن يلتبس على المخاطب فلا يدري أهذا عنيت أم ذاك وإذا كان الغرض من ذكر الصفة إزالة اللبس والتبيين كان محالا أن تكون غير معلومة عند المخاطب وغير ثابتة لأنه يؤدي إلى أن تروم تبيين الشيء للمخاطب بوصف هو لا يعلمه في ذلك الشيء وذلك ما لا غاية وراءه في الفساد وإذا كان الأمر كذلك كان جعل الابن صفة في الآية مؤديا إلى الأمر العظيم وهو إخراجه عن موضع النفي والإنكار إلى موضع الثبوت والاستقرار جل الله تعالى عن شبه المخلوقين وعن جميع ما يقول الظالمون علوا كبيرا فإن قيل إن هذه قراءة معروفة والقول بجواز الوصفية في الابن كذلك معروف ومدون في الكتب وذلك يقتضي أن يكونوا قد عرفوا في الآية تأويلا يدخل به الابن في الإنكار مع تقدير الوصفية فيه قيل إن القراءة كما ذكرت معروفة والقول بجواز أن يكون الابن صفة مثبت مسطور في الكتب كما قلت ولكن الأصل الذي قدمناه من أن الإنكار إذا لحق الخبر دون الصفة ليس بالشيء الذي يعترض فيه شك أو تتسلط عليه شبهة فليس يتجه أن يكون الابن صفة ثم يلحقه الإنكار مع ذلك إلا على تأويل غامض وهو أن يقال إن الغرض الدلالة على أن اليهود قد كان بلغ من جهلهم ورسوخهم في هذا الشرك أنهم كانوا يذكرون عزيرا هذا الذكر كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بأنهم قد استهلكوا في أمر صاحبهم وغلوا في تعظيمه إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما فهم يقولون أبدا زيد الأمير تريد أنه كذلك يكون ذكرهم إذا ذكروه إلا أنه إنما يستقيم هذا التأويل فيه إذا أنت لم تقدر له خبرا معينا ولكن تريد أنهم كانوا لا يخبرون عنه بخبر إلا كان ذكرهم له هكذا ومما هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم وذلك أنهم قد ذهبوا في رفع ثلاثة إلى أنها خبر مبتدأ محذوف وقالوا إن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وليس ذلك بمستقيم وذلك أنا إذا قلنا ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة كان ذلك والعياذ بالله شبه الإثبات أن هاهنا آلهة من حيث إنك إذا نفيت فإنما تنفي المعنى المستفاد من الخبر عن المبتدأ ولا تنفي معنى المبتدأ فإذا قلت ما زيد منطلقا كنت نفيت الانطلاق الذي هو معنى الخبر عن زيد ولم تنف معنى زيد ولم توجب عدمه وإذا كان ذلك كذلك فإذا قلنا ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة كنا قد نفينا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة ولم ننف أن تكون آلهة جل الله تعالى عن الشريك والنظير كما أنك إذا قلت ليس أمراؤنا ثلاثة كنت قد نفيت أن تكون عدة الأمراء ثلاثة ولم تنف أن يكون لكم أمراء هذا ما لا شبهة فيه وإذا إن أدى هذا التقدير إلى الفساد وجب أن يعدل عنه إلى غيره والوجه والله أعلم أن تكون ثلاثة صفة مبتدأ لا خبر مبتدأ ويكون التقدير ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة أو في الوجود آلهة ثلاثة ثم حذف الخبر الذي هو لنا أو في الوجود كما حذف من لا إله إلا الله و ما من إله إلا الله فبقي ولا تقولوا آلهة ثلاثة ثم حذف المصوف الذي هو آلهة فبقي ولا تقولوا ثلاثة وليس في حذف ما قدرنا حذفه ما يتوقف في صحته أما حذف الخبر الذي قلنا إنه لنا أو في الوجود فمطرد في كل ما معناه التوحيد ونفي أن يكون مع الله تعالى عن ذلك إله وأما حذف المصوف بالعدد فكذلك شائع وذلك أنه كما يسوغ أن تقول عندي ثلاثة وأنت تريد ثلاثة أثواب ثم تحذف لعلمك أن السامع يعلم ما تريد كذلك يسوغ أن تقول عندي ثلاثة وأنت تريد أثواب ثلاثة لأنه لا فصل بين أن تجعل المقصود بالعدد مميزا وبين أن تجعله موصوفا بالعدد في أنه يحسن حذفه إذا علم المراد ويبين ذلك أنك ترى المقصود بالعدد قد ترك ذكره ثم لا تستطيع أن تقدره إلا موصوفا وذلك في قولك عندي اثنان وعندي واحد يكون المحذوف هاهنا موصوفا لا محالة نحو عندي رجلان اثنان وعندي درهم واحد ولا يكون مميزا البتة من حيث كانوا قد رفضوا إضافة الواحد والاثنين إل الجنس فتركوا أن يقولوا واحد رجال واثنان رجال على حد ثلاثة رجال ولذلك كان قول الشاعر الرجز ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل شاذا هذا ولا يمتنع أن تجعل المحذوف من الآية في موضع التمييز دون موضع الموصوف فتجعل التقدير ولا تقولوا ثلاثة آلهة ثم يكون الحكم في الخبر على ما مضى ويكون المعنى والله أعلم ولا تقولوا لنا أو في الوجود ثلاثة آلهة فإن قلت فلم صار لا يلزم على هذا التقدير ما لزم على قول من قدر ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة فذاك لأنا إذا جعلنا التقدير ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة كنا قد نفينا الوجود عن الآلهة كما نفيناه في لا إله إلا الله و وما من إله إلا الله وإذا زعموا أن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة ولم ينفوا وجود الآلهة فإن قيل فإن يلزم على تقديرك الفساد من وجه آخر وذاك أنه يجوز إذا قلت ليس لنا أمراء ثلاثة أن يكون المعنى ليس لنا أمراء ثلاثة ولكن لنا أميران اثنان وإذا كان كذلك كان تقديرك وتقديرهم جميعا خطأ قيل إن هاهنا أمرا قد أغفلته وهو أن قولهم آلهتنا يوجب ثبوت آلهة جل الله تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقولنا ليس لنا آلهة لا يوجب ثبوت اثنين البتة فإن قلت إن كان لا يوجبه فإنه لا ينفيه فقيل ينفيه ما بعده من قوله تعالى إنما الله إله واحد فإن قيل فإنه كما ينفي الإلهين كذلك ينفي الآلهة وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديرهم صحيحا كتقديرك قيل هو كما قلت ينفي الآلهة ولكنهم إذا زعموا أن التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وكان ذلك والعياذ بالله من الشرك يقتضي إثبات آلهة كانوا قد دفعوا هذا النفي وخالفوه وأخرجوه إلى المناقضة فإذا كان كذلك كان محالا أن يكون للصحة سبيل إلى ما قالوه وليس كذلك الحال فيما قدرناه لأنا لم نقدر شيئا يقتضي إثبات إلهين تعالى الله حتى يكون حالنا حال من يدفع ما يوجبه هذا الكلام من نفيهما يبين لك ذلك أنه يصح لنا أن نتبع ما قدرناه نفي الاثنين ولا يصح لهم تفسير ذلك أنه يصح أن تقول ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان لأن ذلك يجري مجرى أن تقول ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان وهذا صحيح ولا يصح لهم أن يقولوا ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا إلهان لأن ذلك يجري مجرى أن يقولوا ولا تقولوا آلهتنا إلهان وذلك فاسد فاعرفه وأحسن تأمله ثم إن هاهنا طريقا آخر وهو أن تقدر ولا تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة أي نعبدهما كما نعبد الله يبين ذلك قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وقد استقر في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف وأن يجعلوهما شبيهين له قالوا هم ثلاثة كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه هما اثنان على هذا السبيل كأنهم يقولون هم يعدون معدا واحدا ويوجب لهم التساوي والتشارك في الصفة والرتبة وما شاكل ذلك واعلم أنه لا معنى لأن يقال إن القول حكاية وإنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة لأنه يجري مجرى أن تقول إن من دين الكفار أن يقولوا الآلهة ثلاثة وذلك لأن الخطاب في الآية للنصارى أنفسهم ألا ترى إلى قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم وإذا كان الخطاب للنصارى كان تقدير الحكاية محالا ف لا تقولوا إذا في معنى لا تعتقدوا وإذا كان في معنى الاعتقاد لزم إذا قدر ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ما قلنا إنه يلزم من إثبات الآلهة وذلك لأن الاعتقاد يتعلق بالخبر لا بالمخبر عنه فإذا قلت لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدة لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء هذا ما لا يشك فيه عاقل وإنما يكون النهي عن ذلك إذا قلت لا تعتقد أن هاهنا أمراء لأنك حينئذ تصير كأنك قلت لا تعتقد وجود أمراء هذا ولو كان الخطاب مع المؤمنين لكان تقدير الحكاية لا يصح أيضا ذاك لأنه لا يجوز أن يقال إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم ويخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت وكيت كيف وقد قال الله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ومن أين يصح النهي عن حكاية قول المبطل وفي ترك حكايته ترك له وكفر وامتناع من النفي عليه والإنكار لقوله والاحتجاج عليه وإقامة الدليل على بطلانه لأنه لا سبيل إلى شيء من ذلك إلا من بعد حكاية القول والإفصاح به فاعرفه بسم الله الرحمن الرحيم فصل في أن الفصاحة في اللفظ لا المعنى قد أردنا أن نستأنف تقريرا نزيد به الناس تبصيرا أنهم في عمياء من أمرهم حتى يسلكوا المسلك الذي سلكناه ويفرغوا خواطرهم لتأمل ما استخرجناه وأنهم ما لم يأخذوا أنفسهم بذلك ولم يجردوا عناياتهم له في غرور كمن يعد نفسه الري من السراب اللامع ويخادعها بأكاذيب المطامع يقال لهم إنكم تتلون قول الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله وقوله عز وجل قل فأتوا بعشر سور مثله وقوله بسورة من مثله فقالوا الآن أيجوز أن يكون تعالى قد أمر نبيه بأن يتحدى العرب إلى أن يعارضوا القرآن بمثله من غير أن يكونوا قد عرفوا الوصف الذي إذا أتوا بكلام على ذلك الوصف كانوا قد أتوا بمثله ولا بد منلا لأنهم إن قالوا يجوز أبطلوا التحدي من حيث إن التحدي كما لا يخفى مطالبة بأن يأتوا بكلام على وصف ولا تصح المطالبة بالإتيان به على وصف من غير أن يكون ذلك الوصف معلوما للمطالب ويبطل بذلك دعوى الإعجاز أيضا وذلك لأنه لا يتصور أن يقال إنه كان عجز حتى يثبت معجوز عنه معلوم فلا يقوم في عقل عاقل أن يقول لخصم له قد أعجزك أن تفعل مثل فعلي وهو لا يشير إلى وصف يعلمه في فعله ويراه قد وقع عليه أفلا ترى أنه لو قال رجل لآخر إني قد أحدثت في خاتم عملته صنعة أنت لا تستطيع مثلها لم تتجه له عليه حجة ولم يثبت به أنه قد أتى بما يعجزه إلا من بعد أن يريه الخاتم ويشير له إلى ما زعم أنه أبدعه فيه من الصنعة لأنه لا يصح وصف الإنسان بأنه قد عجز عن شيء حتى يريد ذلك الشيء ويقصد إليه ثم لا يتأتى له وليس يتصور أن يقصد إلى شيء لا يعلمه وأن تكون منه إرادة لأمر لم يعلمه في جملة ولا تفصيل ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفا قد تجدد بالقرآن وأمرا لم يوجد في غيره ولم يعرف قبل نزوله وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة لأن تقدير كونه فيها يؤدي إلى المحال وهو أن تكون الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة قد حدث في حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن ولا يجوز أن تكون في معاني الكلم المفردة التي هي لها بوضع اللغة لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى الحمد والرب ومعنى العالمين والملك واليوم والدين وهكذا وصف لم يكن قبل نزول القرآن وهذا ما لو كان هاهنا شيء أبعد من المحال وأشنع لكان إياه ولا يجوز أن يكون هذا الوصف في تركيب الحركات والسكنات حتى كأنهم تحدوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليها في زنة كلمات القرآن وحتى كأن الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر بعضها من بعض لأنه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر والطاحنات طحنا وكذلك الحكم إن زعم زاعم أن الوصف الذي تحدوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع وفواصل كالذي تراه في القرآن لأنه أيضا ليس بأكثر من التعويل على مراعاة وزن وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي لم يعوزهم ذلك ولم يتعذر عليهم وقد خيل إلى بعضهم إن كانت الحكاية صحيحة شيء من هذا حتى وضع على ما زعموا فصول كلام أواخرها كأواخر الآي مثل يعلمون ويؤمنون وأشباه ذلك ولا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان وجملة الأمر أنه لن يعرض هذا وشبهه من الظنون لمن يعرض له إلا من سوء المعرفة بهذا الشأن أو للخذلان أو لشهوة الإغراب في القول ومن هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أن البرهان الذي بان لهم والأمر الذي بهرهم والهيئة التي ملأت صدورهم والروعة التي دخلت عليهم وأزعجتهم حتى قالوا إن له لحلاوةوإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر إنما كان بشيء راعهم من مواقع حركاته ومن ترتيب بينها وبين سكناته أو لفواصل في أواخر آياته من أين تليق هذه الصفة وهذا التشبيه بذلك أم ترى أن ابن مسعود حين قال في صفة القرآن لا يتفه ولا يتشان وقال إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهم أي أتتبع محاسنهن قال ذلك من أجل أوزان الكلمات ومن أجل الفواصل في أواخر الآيات أم ترى أنهم لذلك قالوا لا تفنى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد أم ترى الجاحظ حين قال في كتاب النبوة ولو أن رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها ولو تحدي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها لغا ولغط انظر إلى مثل ذلك فليس كلامه هذا مما ذهبوا إليه في شيء وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي وبين ما قاله الناس في معناها كموازنتهم بين ولكم في القصاص حياة وبين قتل البعض إحياء للجميع خطأ منهم لأنا لا نعلم لحديث التحريك والتسكين وحديث الفاصلة مذهبا في هذه الموازنة ولا نعلمهم أرادوا غير ما يريده الناس إذا وازنوا بين كلام وكلام في الفصاحة والبلاغة ودقة النظم وزيادة الفائدة ولولا أن الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا وأنهم بترك النظر وإهمال التدبر وضعف النية وقصر الهمة وقد طرقوا له حتى جعل يلقي في نفوسهم كل محال وكل باطل وجعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظا من قبولهم ويبوؤنه مكانا من قلوبهم لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة أن تدخل في تصنيف ويعاد ويبدأ في تبيين لوجه الفساد فيها وتعريف ثم إن هذه الشناعات التي تقدم ذكرها تلزم أصحاب الصرفة أيضا وذاك أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله لأنه معجز في نفسه لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه وحيل بينه ويبن أمر قد كان يتسع له لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم ولا يكون ومنهم ما يدل على إكبارهم أمره وتعجبهم منه وعلى أنه قد بهرهم وعظم كل العظم عندهم ولكان التعجب للذي دخل من العجز عليهم ولما رأوه من تغير حالهم ومن أن حيل بينهم ويبن شيء قد كان عليهم سهلا وأن سد دونه باب كان لهم مفتوحا أرأيت لو أن نبيا قال لقومه إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رؤوسكم وكان الأمر كما قال كم يكون تعجب القوم أمن وضعه يده على رأسه أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رؤوسهم ونعود إلى النسق فنقول فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه لم يبق إلا أن يكون في الاستعارة ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة وإذا امتنع ذلك فيها لم يبق إلا أن يكون في النظم والتأليف لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا النظم وإذا ثبت أنه في النظم والتأليف وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم وأنا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها وجامعا يجمع شملها ويؤلفها ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها طلبنا ما كل محال دونه فقد بان وظهر أن المتعاطي القول في النظم والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها ولا يسلك إليك المسالك التي نهجناها في عمياء من أمره وفي غرور من نفسه وفي خداع من الأماني والأضاليل ذاك لأنه إذا كان لا يكون النظم شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم كان من أعجب العجب حين يزعم زاعم أنه يطلب المزية في النظم ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي النظم عبارة عن توخيها فيما بين الكلم فإن قيل قولك إلا النظم يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز وذلك ما لا مساغ له قيل ليس الأمر كما ظننت بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز وذلك لأن هذه المعاني التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم وعنها يحدث وبها يكون لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو فلا يتصور أن يكون هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره أفلا ترى أنه إن قدر في اشتعل من قوله تعالى واشتعل الرأس شيبا أن لا يكون الرأس فاعلا له ويكون شيبا منصوبا عنه على التمييز لم يتصور أن يكون مستعارا وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة فاعرف ذلك واعلم أن السبب في إن لم يقع النظر منهم موقعه أنهم حين قالوا نطلب المزية ظنوا أن موضعها اللفظ بناء على أن النظم نظم الألفاظ وأنه يلحقها دون المعاني وحين ظنوا أن موضعها ذلك واعتقدوه وقفوا على اللفظ وجعلوا لا يرمون بأوهامهم إلى شيء سواه إلا أنهم على ذاك لم يستطيعوا أن ينطقوا في تصحيح هذا الذي ظنوه بحرف بل لم يتكلموا بشيء إلا كان ذلك نقضا وإبطالا لأن يكون اللفظ من حيث هو لفظ موضعا للمزية وإلا رأيتهم قد اعترفوا من حيث لم يدروا بأن ليس للمزية التي طلبوها موضع ومكان تكون فيه إلا معاني النحو وأحكامه وذلك أنهم قالوا إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات وإنما تظهر بالضم على طريقة مخصوصة فقولهم بالنظم لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة من غير اتصال يكون بين معنييهما لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضم اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة لكان ينبغي إذا قيل ضحك خرج أن يحدث من ضم خرج إلى ضحك فصاحة وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما وقولهم على طريقة مخصوصة يوجب ذلك أيضا وذلك أنه لا يكون للطريقة إذا أنت أردت مجرد اللفظ معنى وهذا سبيل كل ما قالوه إذا أنت تأملته تراهم في الجميع قد دفعوا إلى جعل المزية في معاني النحو وأحكامه من حيث لم يشعروا ذلك لأنه أمر ضروري لا يمكن الخروج منه ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ وهذا كلام إذا تأملته لم تجد له معنى يصح عليه غير أن تجعل تزايد الألفاظ عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ونطق لسان محال ثم إنا نعلم أن المزية المطلوبة في هذا الباب مزية فيما طريقه الفكر والنظر من غير شبهة ومحال أن يكون اللفظ له صفة تستنبط بالفكر ويستعان عليها بالروية اللهم إلا أن تريد تأليف النغم وليس ذلك مما نحن فيه بسبيل ومن هاهنا لم يجز إذا عدت الوجوه التي تظهر بها المزية أن يعد فيها الإعراب وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلهم وليس هو مما يستنبط بالفكر ويستعان عليه بالروية فليس أحدهم بأن إعراب الفاعل يحتاجون فيه إلى حدة ذهن وقوة خاطر إنما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا كان إيجابها من طريق المجاز كقوله تعالى فما ربحت تجارتهم وكقول الفرزدق سقتها خروق في المسامع وأشباه ذلك مما يجعل الشيء فيه فاعلا على تأويل يدق ومن طريق تلطف وليس يكون هذا علما بالإعراب ولكن بالوصف الموجب للإعراب ومن ثم لا يجوز لنا أن نعتد في شأننا هذا بأن يكون المتكلم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال إنه أفصحهما وبأن يكون قد تحفظ مما تخطىء فيه العامة لا بأن يكون قد استعمل الغريب لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة بأنفس الكلم المفردة وبما طريقه الحفظ دون ما يستعان عليه بالنظر ويوصل إليه بإعمال الفكر ولئن كانت العامة وأشباه العامة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك فإن من ضعف النحيزة إخطار مثله في الفكر وإجراءه في الذكر وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز أترى أن العرب تحدوا أن يختاروا الفتح في الميم من الشمع والهاء من النهر على الإسكان وأن يتحفظوا من تخليط العامة في مثل هذا يسوى ألفا أو إلى أن يأتوا بالغريب الوحشي في الكلام معارضون به القرآن كيف وأنت تقرأ السورة من السور الطوال فلا تجد فيها من الغريب شيئا وتأمل ما جمعه العلماء في غريب القرآن فترى الغريب منه إلا في القليل إنما كان غريبا من أجل استعارة هي فيه كمثل وأشربوا في قلوبهم العجل ومثل خلصوا نجيا ومثل فاصدع بما تؤمر دون أن تكون اللفظة غريبة في نفسها إنما ترى ذلك في كلمات معدودة كمثل عجل لنا قطنا و ذات ألواح ودسر و جعل ربك تحتك سريا ثم إنه لو كان أكثر ألفاظ القرآن غريبا لكان محالا أن يدخل في الإعجاز وأن يصح التحدي به ذاك لأنه لا يخلو إذا وقع التحدي به من أن يتحدى من له علم بأمثاله من الغريب أو من لا علم له بذلك فلو تحدي به من يعلم أمثاله لم يتعذر عليه أن يعارضه بمثله ألا ترى أنه لا يتعذر عليك إذا أنت عرفت ما جاء من الغريب في معنى الطويل أن تعارض من يقول الشوقب بأن تقول أنت الشوذب وإذا قال الأمق أن تقول الأشق وعلى هذا السبيل ولو تحدي به من لا علم له بأمثال ما فيه من الغريب كان ذلك بمنزلة أن يتحدى العرب إلى أن يتكلموا بلسان الترك هذا وكيف بأن يدخل الغريب في باب الفضيلة وقد ثبت عنهم أنهم كانوا يرون الفضيلة في ترك استعماله وتجنبه أفلا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه في زهير إنه كان لا يعاظل بين القول ولا يتتبع حوشي الكلام فقرن تتبع الحوشي وهو الغريب من غير شبهة إلى المعاظلة التي هي التعقيد وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين ورأيت الناس يتداولون رسالة يحيى بن يعمر عن لسان يزيد بن المهلب إلى الحجاج إنا لقينا العدو فقتلنا طائفة ولحقت طائفة بعراعر الأودية وأهضام الغيطان وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه فقال الحجاج ما يزيد بأبي عذر هذا الكلام فحمل إليه فقال أين ولدت فقال بالأهواز فقال فأنى لك هذه الفصاحة قال أخذتها عن أبي قال ورأيتهم يديرون في كتبهم أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بن يعمر فانتهرها مرارا فقال له يحيى إن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها ثم قال وإن كانوا قد رووا هذا الكلام لكي يدل على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة واعلم أنك كلما نظرت وجدت سبب الفساد واحدا وهو ظنهم الذي ظنوه في اللفظ وجعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلها أوصافا له في نفسه ومن حيث هو لفظ وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفا له في نفسه ويبن ما كانوا قد أكسبوه إياه من أجل أمر عرض في معناه ولما كان هذا دأبهم ثم رأوا الناس وأظهر شيء عندهم في معنى الفصاحة تقويم الإعراب والتحفظ من اللحن لم يشكوا أنه ينبغي أن يعتد به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام وكلام في الفصاحة وذهب عنهم أن ليس هو من الفصاحة التي يعنينا أمرها في شيء وإن كلامنا في فصاحة تجب للفظ لا من أجل شيء يدخل في النطق ولكن من أجل لطائف تدرك بالفهم وإنا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر من بعد أن يكونا قد برئا من اللحن وسلما في ألفاظهما من الخطأ ومن العجب أنا إذا نظرنا في الإعراب وجدنا التفاضل فيه محالا لأنه لا يتصور أن يكون للرفع والنصب في كلام مزية عليهما في كلام آخر وإنما الذي يتصور أن يكون هاهنا كلامان قد وقع في إعرابهما خلل ثم كان أحدهما أكثر صوابا من الآخر وكلامان قد استمر أحدهما على الصواب ولم يستمر الآخر ولا يكون هذا تفاضلا في الإعراب ولكن تركا له في شيء واستعمالا له في آخر فاعرف ذلك وجملة الأمر أنك لا ترى ظنا هو أنأى بصاحبه عن أن يصح له كلام أو يستمر له نظام أو تثبت له قدم أو ينطق منه إلا بالمحال فم من ظنهم هذا الذي حام بهم حول اللفظ وجعلهم لا يعدونهولا يرون للمزية مكانا دونه واعلم أنه قد يجري في العبارة منا شيء هو يعيد الشبهة جذعة عليهم وهو أنه يقع في كلامنا أن الفصاحة تكون في المعنى دون اللفظ ونراها لا تدخل في صفة المعنى البتة لأنا نرى الناس قاطبة يقولون هذا لفظ فصيح وهذه ألفاظ فصيحة ولا نرى عاقلا يقول هذا معنى فصيح وهذه معان فصاح ولو كانت الفصاحة تكون في المعنى لكان ينبغي أن يقال ذاك كما أنه لما كان الحسن يكون فيه قيل هذا معنى حسن وهذه معان حسنة وهذا شيء يأخذ من الغر مأخذا والجواب عنه أن يقال إن غرضنا من قولنا إن الفصاحة تكون في المعنى أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح عائدة في الحقيقة إلى معناه ولو قيل إنها تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة إنها فصيحة أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها بكل حال ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك فإنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير وإنما كان كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث من بعد أن لا تكون وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم وهذا شيء إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا وإذا كان كذلك وجب أن يعلم قطعا وضرورة أن تلك المزية في المعنى دون اللفظ وعبارة أخرى في هذا بعينه وهي أن يقال قد علمنا علما لا تعترض معه شبهة أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم دون واضع اللغة وإذا كان كذلك فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئا ليس هو له في اللغة حتى يجعل ذلك من صنيعه مزية يعبر عنها بالفصاحة وإذا نظرنا وجدناه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئا أصلا ولا أن يحدث فيه وصفا كيف وهو إن فعل ذلك أفسد عل نفسه وابطل أن يكون متكلما لأنه لا يكون متكلما حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت هي عليه وإذا ثبت من حاله أنه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئا ليس هو لها في اللغة وكنا قد اجتمعنا على أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم البتة وجب أن نعلم قطعا وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا الفصاحة في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ فإنهم لم يجعلوها وصفا له في نفسه ومن حيث هو صدى صوت ونطق لسان ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم ولما لم تزد إفادته في اللفظ شيئا لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزية في المعنى وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها ومعلقا معناها بمعنى ما يليها فإذا قلنا في لفظة اشتعل من قوله تعالى واشتعل الرأس شيبا إنها في أعلى المرتبة من الفصاحة لم نوجب تلك الفصاحة لها وحدها ولكن موصولا بها الرأس معرفا بالألف واللام ومرونا إليها الشيب منكرا منصوبا هذا وإنما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له أعني أن توجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان استعارة فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ فلا يعرض توهم ذلك فيه لعاقل أصلا أفلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شيء إذا هو نظر إلى قوله عز وجل يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم وإلى إكبار الناس شأن هذه الآية في الفصاحة أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول إنها فصيحة كيف وسبب الفصاحة فيها أمور لا يشك عاقل في أنها معنوية أولها أن كانت على فيها متعلقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني والثاني أن كانت الجملة التي هي هم العدو بعدها عارية من حرف عطف والثالث التعريف في العدو وأن لم يقل هم عدو ولو أنك علقت على بظاهر وأدخلت على الجملة التي هي هم العدو حرف عطف وأسقطت الألف واللام من العدو فقلت يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وهم عدو لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها ولو أنك أخطرت ببالك أن يكون عليهم متعلقا بنفس الصيحة ويكون حاله معها كحاله إذا قلت صحت عليه لأخرجته عن أن يكون كلاما فضلا عن أن يكون فصيحا وهذا هو الفيصل لمن عقل ومن العجيب في هذا ما روي عن أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه أنه قال ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وسمعتها من رسول الله وسمعته يقول مات حتف أنفه وما سمعتها من عربي قبله لا شبهة في أن وصف اللفظ بالعربي في مثل هذا يكون في معنى الوصف بأنه فصيح وإذا كان الأمر كذلك فانظر هل يقع في وهم متوهم أن يكون رضي الله عنه قد جعلها عربية من أجل ألفاظها وإذا نظرت لم تشك في ذلك واعلم أنك تجد هؤلاء الذين يشكون فيما قلناه تجري على ألسنتهم ألفاظ وعبارات لا يصح لها معنى سوى توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم ثم تراهم لا يعلمون ذلك فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به وإذا رجعنا إلى أنفسنا لم نجد لذلك معنى سوى أنه يقصد إلى قولك ضرب فيجعله خبرا عن زيد ويجعل الضرب الذي أخبر بوقوعه منه واقعا عل عمرو ويجعل يوم الجمعة زمانه الذي وقع فيه ويجعل التأديب غرضه الذي فعل الضرب من أجله فيقول ضرب زيد عمرا يوم الجمعة تأديبا له وهذا كما ترى هو توخي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكلم ولو أنك فرضت أن لا تتوخى في ضرب أن تجعله خبرا عن زيد وفي عمرو أن تجعله مفعولا به لضرب وفي يوم الجمعة أن تجعله زمانا لهذا الضرب وفي التأديب أن تجعله غرض زيد من فعل الضرب ما تصور في عقل ولا وقع في وهم أن تكون مرتبا لهذه الكلم وإذ قد عرفت ذلك فهو العبرة في الكلام كله فمن ظن ظنا يؤدي إلى خلافه ظن ما يخرج به عن المعقول ومن ذلك إثباتهم التعلق والاتصال فيما بين الكلم وصواحبها تارة ونفيهم لهما أخرى ومعلوم علم الضرورة أن لن يتصور أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن تعتبر حال معنى هذه مع معنى تلك ويراعى هناك أمر يصل إحداهما بأخرى كمراعاة نبك جوابا للأمر في قوله قفا نبك وكيف بالشك في ذلك ولو كانت الألفاظ يتعلق بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ ومع اطراح النظر في معانيها لأدى ذلك إلى أن يكون الناس حين ضحكوا مما يصنعه المجان من قراء أنصاف الكتب ضحكوا عن جهالة وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال عذلا شبيها بالجنون كأنما قرأت به الورهاء شطر كتاب لأنهم لم يضحكوا إلا من عدم التعلق ولم يجعله أبو تمام جنونا إلا لذلك فانظر إلى ما يلزم هؤلاء القوم من طرائف الأمور فصل وهذا فن من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع أو تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب فمحال أن تكون صفة اللفظ محسوسة لأنها لو كانت كذلك لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا وإذا بطل أن تكون محسوسة وجب الحكم ضرورة بأنها صفة معقولة وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة فإنا لا نعرف للفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس إلا دلالته على معناه وإذا كان كذلك لزم منه العلم بأن وصفنا اللفظ بالفصاحة وصف له من جهة معناه لا من جهة نفسه وهذا ما لا يبقى لعاقل معه عذر في الشك والله الموفق للصواب فصل في أن الفصاحة في الكلمة لا في حروفها وبيان آخر وهو أن القارىء إذا قرأ قوله تعالى واشتعل الرأس شيبا فإنه لا يجد الفصاحة التي يجدها إلا من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره فلو كانت الفصاحة صفة للفظ اشتعل لكان ينبغي أن يحسها القارىء فهي حال نطقه به فمحال أن تكون للشيء صفة ثم لا يصح العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده حتى إذا عدم صارت موجودة فيه وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه بصفة شرط حصولها لموصوفها أن يعدم الموصوف فإن قالوا إن الفصاحة التي ادعيناها للفظ اشتعل تكون فيه في حال نطقنا به إلا أنا نعلم في تلك الحال أنها فيه فإذا بلغنا آخر الكلام علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين نطقنا قيل هذا فن آخر من العجب وهو أن تكون هاهنا صفة موجودة في شيء ثم لا يكون في الإمكان ولا يسع في الجواز أن نعلم وجود تلك الصفة في ذلك الشيء إلا بعد أن يعدم ويكون العلم بها وبكونها فيه محجوبا عنا حتى يعدم فإذا عدم علمنا أنها كانت فيه حين كان ثم إنه لا شبهة في أن هذه الفصاحة التي يدعونها للفظ هي مدعاة لمجموع الكلمة دون آحاد حروفها إذ ليس يبلغ بهم تهافت الرأي إلى أن يدعوا لكل واحد من حروف اشتعل فصاحة فيجعلوا الشين على حدته فصيحا وكذلك التاء والعين واللام وإذا كانت الفصاحة مدعاة لمجموع الكلمة لم يتصور حصولها لها إلا من بعد أن تعدم كلها وينقضي أمر النطق بها ذلك لأنه لا يتصور أن تدخل الحروف بجملتها في النطق دفعة واحدة حتى تجعل الفصاحة موجودة فيها في حال وجودها وما بعد هذا إلا أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق فقد بلغ الأمر في الشناعة إلى حد إذا انتبه العاقل لف رأسه حياء من العقل حين يراه قد قال قولا هذا مؤداه وسلك مسلكا إلى هذا مفضاه وما مثل من يزعم أن الفصاحة صفة اللفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان ثم يزعم أنه يدعيها لمجموع حروفه دون آحادها إلا مثل من يزعم أن هاهنا غزلا إذا نسج منه ثوب كان أحمر وإذا فرق ونظر إليه خيطا خيطا لم تكن فيه حمرة أصلا ومن طريف أمرهم أنك ترى كافتهم لا ينكرون أن اللفظ المستعار إذا كان فصيحا كانت فصاحته تلك من أجل استعارته ومن أجل لطف وغرابة كانا فيها وتراهم مع ذلك لا يشكون في أن الاستعارة لا تحدث في حروف اللفظ صفة ولا تغير أجراسها عما تكون عليه إذا لم يكن مستعارا وكان متروكا على حقيقته وأن التأثير من الاستعارة إنما يكون في المعنى كيف وهم يعتقدون أن اللفظ إذا استعير لشيء نقل عن معناه الذي وضع له بالكلية وإذا كان الأمر كذلك فلولا إهمالهم أنفسهم وتركهم النظر لقد كان يكون في هذا ما يوقظهم من غفلتهم ويكشف الغطاء عن أعينهم فصل علاقة الفكر بمعاني النحو ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادا ومجردة من معاني النحو فلا يقوم في وهم ولا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه وجعله فاعلا له أو مفعولا أو يريد منه حكما سوى ذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرا أو صفة أو حالا أو ما شاكل ذلك وإن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إلى أي كلام شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل من نبك قفا حبيب ذكرى منزل ثم انظر هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها واعلم أني لست أقول إن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم المفردة أصلا ولكني أقول إنه لا يتعلق بها مجردة من معاني النحو ومنطوقا بها على وجه لا يتأتى معه تقدير معاني النحو وتوخيها فيها كالذي أريتك وإلا فإنك إذا فكرت في الفعلين أو الاسمين تريد أن تخبر بأحدهما عن الشيء أيهما أولى أن تخبر به عنه وأشبه بغرضك مثل أن تنظر أيهما أمدح وأذم أو فكرت في الشيئين تريد أن تشبه الشيء بأحدهما أيهما أشبه به كنت قد فكرت في معاني أنفس الكلم إلا أن فكرك ذلك لم يكن إلا من بعد أن توخيت فيها من معاني النحو وهو أن أردت جعل الاسم الذي فكرت فيه خبرا عن شيء أردت فيه مدحا أو ذما أو تشبيها أو غير ذلك من الأغراض ولم تجىء إلى فعل أو اسم فكرت فيه فردا ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر فاعرف ذلك وإن أردت مثالا فخذ بيت بشار الطويل كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وانظر هل يتصور أن يكون بشار قد أخطر معاني هذا الكلم بباله أفرادا عارية من معاني النحو التي تراها فيها وأن يكون قد وقع كأن في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء وأن يكون فكر في مثار النقع من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني وفكر في فوق رؤوسنا من غير أن يكون قد أراد أن يضيف فوق إلى الرؤوس وفي الأسياف من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على مثار وفي الواو من دون أن يكون أراد العطف بها وأن يكون ذلك فكر في الليل من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا لكأن وفي تهاوى كواكبه من دون أن يكون أراد أن يجعل تهاوى فعلا للكواكب ثم يجعل الجملة صفة لليل ليتم الذي أراد من التشبيه أم لم تخطر هذه الأشياء بباله إلا مرادا فيه هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها وليت شعري كي يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها فلا تقول خرج زيد لتعلمه معنى خرج في اللغة ومعنى زيد كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلاما وكنت لو قلت خرج ولم تأت باسم ولا قدرت فيه ضمير الشيء أو قلت زيد ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك كان ذلك وصوتا تصوته سواء فاعرفه واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة وذلك أنك إذا قلت ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان كما يتوهمه الناس وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه والأحكام التي هي محصول التعلق وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من عمرو وكون يوم الجمعة زمانا للضرب وكون الضرب ضربا شديدا وكون التأديب علة للضرب أيتصور فيها أن تفرد عن المعنى الأول الذي هو أصل الفائدة وهو إسناد ضرب إلى زيد وإثبات الضرب به له حتى يعقل كون عمرو مفعولا به وكون يوم الجمعة مفعولا فيه وكون ضربا شديدا مصدرا وكون التأديب مفعولا له من غير أن يخطر ببالك كون زيد فاعلا للضرب وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصور لأن عمرا مفعول لضرب وقع من زيد عليه ويوم الجمعة زمان لضرب وقع من زيد وضربا شديدا بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته والأديب علة له وبيان أنه كان الغرض منه وإذا كان ذلك كذلك بان منه وثبت أن المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدة معان وهو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا وعلى صفة كذا ولغرض كذا ولهذا المعنى تقول إنه كلام واحد وإذ قد عرفت هذا فهو العبرة أبدا فبيت بشار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنعه الصانع حين يأخذ كسرا من الذهب فيذيبها ثم يصبها في قالب ويخرجها لك سوارا أو خلخالا وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار وذلك أنه لم يرد أن يشبه النقع بالليل على حدة والأسياف بالكواكب على حدة ولكنه أراد أن يشبه النقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر الكواكب وتتهاوى فيه فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد والبيت من أوله إلى آخره كلام واحد فانظر الآن ما تقول في اتحاد هذه الكلم التي هي أجزاء البيت أتقول إن ألفاظها اتحدت فصارت لفظة واحدة أم تقول إن معانيها اتحدت فصارت ألفاظ من أجل ذلك كأنها لفظة واحدة فإن كنت لا تشك أن الاتحاد الذي تراه هو في المعاني إذ كان من فساد العقل ومن الذهاب في الخبل أن يتوهم متوهم أن الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفظة واحدة فقد أراك ذلك إن لم تكابر عقلك أن النظم يكون في معاني الكلم دون ألفاظها وأن نظمها هو توخي معاني النحو فيها وذلك أنه إذا ثبت الاتحاد وثبت أنه في المعاني فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتحدت المعاني في بيت بشار وإذا نظرنا لم نجدها اتحدت إلا بأن جعل مثار النقع اسم كأن وجعل الظرف الذي هوفوق رؤوسنا معمولا لمثار ومعلقا به وأشرك الأسياف في كأن بعطفه لها على مثار ثم بأن قال ليل تهاوى كواكبه فأتى بالليل نكرة وجعل جملة قوله تهاوى كواكبه له صفة ثم جعل مجموع ليل تهاوى كواكبه خبرا لكأن فانظر هل ترى شيئا كان الاتحاد به غير ما عددناه وهل تعرف له موجبا سواه فلولا الإخلاد إلى الهوينا وترك النظر وغطاء ألقي على عيون أقوام لكان ينبغي أن يكون في هذا وحده الكفاية وما فوق الكفاية ونسأل الله تعالى التوفيق واعلم أن الذي هو آفة هؤلاء الذي لهجوا بالأباطيل في أمر اللفظ أنهم قوم قد أسلموا أنفسهم إلى التخيل وألقوا مقادتهم إلى ا لأوهام حتى عدلت بهم عن الصواب كل معدل ودخلت بهم من فحش الغلط في كل مدخل وتعسفت بهم في كل مجهل وجعلتهم يرتكبون في نصرة رأيهم الفاسد القول بكل محال ويقتحمون في كل جهالة حتى إنك لو قلت لهم إنه لا يتأتى للناظم نظمه إلا بالفكر والروية فإذا جعلتم النظم في الألفاظ لزمكم من ذلك أن تجعلوا فكر الإنسان إذا هو فكر في نظم الكلام فكرا في الألفاظ التي يريد أن ينطق بها دون المعاني لم يبالوا أن يرتكبوا ذلك وأن يتعلقوا فيه بما في العادة ومجرى الجبلة من أن الإنسان يخيل إليه إذا هو فكر أنه كان ينطق في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها حتى يرى أن يسمعها سماعه لها حين يخرجها من فيه وحين يجري بها اللسان وهذا تجاهل لأن سبيل ذلك سبيل إنسان يتخيل دائما في الشيء قد رآه وشاهده أنه كأنه يراه وينظر إليه وأن مثاله نصب عينيه فكما لا يوجب هذا أن يكون رائيا له وأن يكون الشيء موجودا في نفسه كذلك لا يكون تخيله أنه كان ينطق بالألفاظ موجبا أن يكون ناطقا بها وأن تكون موجودة في نفسه حتى يجعل ذلك سببا إلى جعل الفكر فيها ثم إنا نعلم أنه ينطق بالألفاظ في نفسه وأنه يجدها فيها على الحقيقة فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها أم ماذا يروم ليت شعري بذلك الفكر ومعلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء أو يصف شيئا بشيء أو يضيف شيئا إلى شيء أو يشرك شيئا في حكم شيء أو يخرج شيئا من حكم قد سبق منه لشيء أو يجعل وجود شيء شرطا في وجود شيء وعلى هذا السبيل وهذا كله فكر في أمور معلومة معقولة زائدة على اللفظ وإذا كان هذا كذلك لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكرا من أحد أمرين إما أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر ويجعل الفكر كله في الألفاظ وإما أن يجعل له فكرا في اللفظ مفردا عن الفكرة في هذه المعاني فإن ذهب إلى الأول لم يكلم وإن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلا في الألفاظ وذلك مما لا يخفى مكان الشنعة والفضيحة فيه وشبيه بهذا التوهم منهم أنك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع فإذا رأى المعاني لا تترتب في نفسه إلا بترتب الألفاظ في سمعه ظن عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ وأن الترتب فيها مكتسب من الألفاظ ومن ترتبها في نطق المتكلم وهذا ظن فاسد ممن يظنه فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلف له والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع وإذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون الترتب فيها تبعا لترتب الألفاظ ومكتسبا عنه لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني وأن تقع في نفس الإنسان أولا ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها بالعكس مما يعلمه كل عاقل إذا هو لم يأخذ عن نفسه ولم يضرب حجاب بينه وبين عقله وليت شعري هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني وهل هي إلا خدم لها ومصرفة على حكمها أو ليست هي سمات لها وأوضاعا قد وضعت لتدل عليها فكيف يتصور أن تسبق المعاني وأن تتقدمها في تصور النفس إن جاز ذلك جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن عرفت الأشياء وقيل أن كانت وما أدري ما أقول في شيء يجر الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المحال ورديء الأقوال وهذا سؤال لهم من جنس آخر في النظم قالوا لو كان النظم يكون في معاني النحو لكان البدوي الذي لم يسمع بالنحو قط ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئا مما يذكرونه لا يتأتى له نظم كلام وإنا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدم في علم النحو قيل هذه شبهة من جنس ما عرض للذين عابوا المتكلمين فقالوا إنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم والعلماء في الصدر الأول لم يكونوا يعرفون الجوهر والعرض وصفة النفس وصفة المعنى وسائر العبارات التي وضعتموها فإن كان لا تتم الدلالة على حدوث العالم والعلم بوحدانية الله إلا بمعرفة هذه الأشياء التي ابتدأتموها فينبغي لكم أن تدعوا أنكم قد علمتم في ذلك ما لم يعلموه وأن منزلتكم في العلم أعلى من منازلهم وجوابنا هو مثل جواب المتكلمين وهو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات لا بمعرفة العبارات فإذا عرف البدوي الفرق بين أن يقول جاءني زيد راكبا وبين قوله جاءني زيد الراكب لم يضره أن لا يعرف أنه إذا قال راكبا كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في راكب إنه حال وإذا قال الراكب إنه صفة جارية على زيد وإذا عرف في قوله زيد منطلق أن زيدا مخبر عنه ومنطلق خبر لم يضره أن لا يعلم أنا نسمي زيدا مبتدأ وإذا عرف في قولنا ضربته تأديبا له أن المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب وأن ضربه ليتأدب لم يضره أن لا يعلم أنا نسمي التأديب مفعولا له ولو كان عدم العلم بهذه العبارات يمنعه العلم بما وضعناها له وأردناه بها لكان ينبغي أن لا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه وأن لا يفصل فيما يتكلم به بين نفي وإثبات وبين ما إذا كان استفهاما وبينه إذا كان بمعنى الذيوإذا كان بمعنى المجازاة لأنه لم يسمع عباراتنا في الفرق بين هذه المعاني أترى الأعرابي حين سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله بالنصب فأنكر وقال صنع ماذا أنكر عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبرا ويجعله والأول في حكم اسم واحد وأنه إذا صار والأول في حكم اسم واحد احتيج إلى اسم آخر أو فعل حتى يكون كلاما وحتى يكون قد ذكر ما له فائدة إن كان لم يعلم ذلك فلماذا قال صنع ماذا فطلب ما يجعله خبرا ويكفيك أنه يلزم على ما قالوه أن يكون امرؤ القيس حين قال قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قاله وهو لا يعلم ما نعنيه بقولنا إن قفا أمر ونبك جواب الأمر وذكرى مضاف إلى حبيب ومنزل معطوف على الحبيب وأن تكون هذه الألفاظ قد رتبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني وذلك يوجب أن يكون قال نبك بالجزم من غير أن يكون عرف معنى يوجب الجزم وأتى به مؤخرا عن قفا من غير أن عرف لتأخيره موجبا سوى طلب الوزن ومن أفضت به الحال إلى أمثال هذه الشناعات ثم لم يرتدع ولم يتبين أنه على خطأ فليس إلا تركه والإعراض عنه ولولا أنا نحب أن لا ينبس أحد في معنى السؤال والاعتراض بحرف إلا أريناه الذي استهواه لكان ترك التشاغل بإيراد هذا وشبهه أولى ذاك لأنا قد علمنا علم ضرورة أنا لو بقينا الدهر الأطول نصعد ونصوب ونبحث وننقب نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها ولفظة قد انتظمت مع أختها من غير أن نتوخى فيما بينهما معنى من معاني النحو طلبنا ممتنعا وثنينا مطايا الفكر ظلعا فإن كان هاهنا من يشك في ذلك ويزعم أنه قد علم لاتصال الكلم بعضها ببعض وانتظام الألفاظ بعضها مع بعض معاني غير معاني النحو فإنا نقول هات فبين لنا تلك المعانيوأرنا مكانها واهدنا لها فلعلك قد أوتيت علما قد حجب عنا وفتح لك باب قد أغلق دوننا الوافر وذاك له إذا العنقاء صارت مرببة وشب ابن الخصي فصل في الفصاحة والتشبيه والاستعارة قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد ومعظم الآفة والذي صار حجازا يبن القوم وبين التأمل وأخذ بهم عن طريق النظر وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم وأن يفتحوا للذي تبين أعينهم وذلك قولهم إن العقلاء قد اتفقوا على أنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين ثم يكون أحدهما فصيحا والآخر غير فصيح وذلك قالوا يقتضي أن يكون للفظ نصيب في المزية لأنها لو كانت مقصورة على المعنى لكان محالا أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر مع أن المعبر عنه واحد وهذا شيء تراهم يعجبون به ويكثرون ترداده مع أنهم يؤكدونه فيقولون لولا أن الأمر كذلك لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل عل تفسير المفسر له لأنه إن كان اللفظ إنما يشرف من أجل معناه فإن لفظ المفسر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة إذ لو كان لا يؤديه لكان لا يكون تفسيرا له ثم يقولون وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشعر لزم مثله في الآية من القرآن وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع ظنوا أنهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام وأنه نقض ليس بعده إبرام وربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك والتعجب ممن يرى أن إلى الكلام عليه سبيلا وأن يستطيع أن يقيم على بطلان ما قالوه دليلا والجواب وبالله التوفيق أن يقال للمحتج بذلك قولك إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين يحتمل أمرين أحدهما أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة مثل الليث والأسد ومثل شحط وبعد وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى والثاني أن تريد كلامين فإن أردت الأول خرجت من المسألة لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث من بعد التأليف دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها وإن أردت الثاني ولا بد لك من أن تريده فإن هاهنا أصلا من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي كالخاتم والشنف والسوار فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلا ساذجا لم يعمل صانعه فيه شيئا أكثر من أن يأتي بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتما والشنف إن كان شنفا وأن يكون مصنوعا بديعا قد أغرب صانعه فيه كذلك سبيل المعاني أن ترى الواحد منها غفلا ساذجا عاميا موجودا في كلام الناس كلهم ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني فيصنع فيه ما يصنع الصنع الحاذق حتى يغرب في الصنعة ويدق في العمل ويبدع في الصياغة وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت وأمثلته نصب عينيك من أين نظرت تنظر إلى قول الناس الطبع لا يتغير ولست تستطيع أن تخرج الإنسان عما جبل عليه فترى معنى غفلا عاميا معروفا في كل جيل وأمة ثم تنظر إليه في قول المتنبي المتقارب يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل فتجده قد خرج في أحسن صورة وتراه قد تحول جوهرة بعد أن كان خرزة وصار أعجب شيء بعد أن لم يكن شيئا وإذ قد عرفت ذلك فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين ثم يكون أحدهما فصيحا والآخر غير فصيح كأنهم قالوا إنه يصح أن تكون هاهنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه وإحداث خصوصية فيه تأثير لا يكون للأخرى واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين حسن ومزية يكونان له في الأخرى وأن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك فإن أنكر لم يكلم لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله