دكان الحاج ابراهيم

من معرفة المصادر

دكان الحاج ابراهيم

قصة قصيرة بقلم: محمد همام فكري

( نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)


لماذا كلما شرعت في التفكير في القرية .. قريتنا النائمة في بطن الوادي في حضن غابة النخيل .. يقفز إلى ذهني دكان الحاج ابراهيم .. يختصر القرية بأكملها .. وكأن القرية على وسعها قد خلت الا منه .. يقفز قابعًا تحت النخلات الثلاث التي تظلل بسعفها المتمايل نصف الدكان وزير الماء .. ومصطبة الحاجة نفيسة ..وهي تستقبل الجهة البحرية بنسيمها البارد على رأس " درب البلدين " .. الذي يقسم قريتنا إلى نصفين .. قبلي وبحري ..يقفز دكان الحاج ابراهيم ويقفز معه الحاج ابراهيم في قعدته الاسطورية على طرف المصطبة .. تحت النخلة " الامهات " .. اختار النخلة الباسقة ليسند ظهره عليها .. فنحل بظهره المعقوف جذعها حتى بدت ناعمة ..كاسطوانة ملساء .. الأرض رطبتها قطرات الماء المتساقطة من تحت قعر الزير .. تتساقط دون انقطاع .. وكأنها تنظم إيقاع حركة " المنشــة " في يده اليمنى .. وتساقط حبات المسبحة من اصبع الابهام في اليد اليسرى .. كان الدكان أحد اهم معالم القرية .. له مكانة بين الناس .. لاينافسه فيها إلا دوّار العمدة .. وله في نفوسنا نحن مكانة لايعادلها سواه .. لانه كان يعترضنا في الذهاب والاياب .. نتواعد على اللقاء عنده ثم ننطلق إلى غاياتنا المختلفة شباب صحاب لايملون اللقاء .. ودائماً لايفوتنا أن نشرب من ماء الزير من كوزه الصدأ بعد أن نلقي سلامًا .. فيرد الحاج ابراهيم التحية .. بأحسن منها .. ثم سرعان مايتبعها بطائفة من الأسئلة تبدأ بـ - - من ؟ - ابن من ؟ من معك ؟ .. ومن أين .. والي أين ؟ .. وكثير من الأسئلة التي لاتنتهي إلا بفرارنا قبل أن يتطرق إلى مالانستطيع الإجابة عليه .. لأنه كان يسأل احياناً عن اشياء ليس لها جواب أو نجهلها نحن .. كأن يقول في استفسار : - جاموسة ابوك عمر الديب ولدت واشياء اخرى من هذا القبيل وكأنه غرس الزير أمام الدكان ليصطاد به عباد الله العطاش .. فيحاصرهم بالأسئلة حتى يعرف منهم حركة الحياه بمدها وجزرها .. ولاأدري لماذا كان يسأل دائما عن الحاج سليمان العمدة .. يتتبع اخباره في حذر وبصوت خفيض اكاد لا اسمعه يقول : - الحاج في الدّوار ؟ فارد بخبث - الحاج سليمان العمدة ؟ فيميل برأسه في عبّه .. - اي نعم بينما تزعق الحاجة نفيسة غاضبة .. - الحاج موجود ياابراهيم .. العمدة موجود ياحاج .. تقولها حتى يتحشرج صوتها الاجش.. تقولها وهي تفز من قعدتها بعصبية متظاهرة بقضاء بعض المهام .. بعدها تقذف ببعض الحصى على الفراخ الصغار المتناثرة هنا وهناك تلتقط بعض الحب .. ثم تعفر ورائها غاضبة لكن الحاج ابراهيم كان سرعان ما يعود إلى نفس السؤال .. وكأنه يريد أن يتحقق من القادم الجديد .. الرجل كبر .. وطلباته أسئلة كثيرًا ما كانت تتجاوز الحاجة نفيسة إلى عيّال الطريق أو بعض المارة .. يلتقط كلمة من هنا وكلمة من هناك .. فإذا وجب العصر يكون قد جمع محصولاً كافيًا لإثراء جلسة " العصــاري " عندما يتوافد الرجال على الدكان .. رهط من الرجال يجمعهم كل عصر .. وفي نفس الوقت يفترشون الأرض حوله .. يشربون الشاي الأخضر .. ويجترون كلامًا معادًا .. فالدكان إلى جانب كونه لبيع السكر والشاي والجاز والصابون والزيت وبعض الحاجات .. بالنقد والمقايضة ببيض الفراخ أو كيّلة قمح إلا أنه كان يجمع زمرة من الناس جمعت خصائص أهل القرية في نسيج ليس له مثيل .. كنا نراقبهم عندما تتداخل أصواتهم في عراك .. مناقشات .. معظمها عن الانتخابات .. أو خلاف على حادثة قديمة يحكيها دياب الحلاق أو اختلاف رأي في مشورة .. أو حل مشكلة وهى في طريقها إلى دوار العمدة .. لان الحاج ابراهيم لايرضى أن تتجاوزه مشكلة دون أن يكون له فيها رأي فصل من تتبع اخبار العباد .. لذلك كثيرًا ماكان يقع في خلاف يسمعه الداني والقاصي بين الحاج سليمان العمدة والحاج ابراهيم لتدخله في مشاكل الناس .. وكثيراً ما هدده العمدة بغلق الدكان لو تجاوز الحدود .. ويقسم برأس العمدة الكبير برقدته الطاهرة .. بتربة الشيخ " جعبوب " .. لو وضع أنفه مرة ثانية في مشكلة سيبلغ المأمور .. ويجرجره للمركز .. ويكفي العباد شره .. ويحفظ للطريق حقه .. لكنه لم يفعل وكان الحاج ابراهيم في كل مرة يلزم الصمت وينتهي الأمر بان يقذفه العمدة بسيل من الشتائم ينتهي بجملة تعجبشهيرة - مشاكل الناس لعبة ياناس .. يقولهاعدة مرات وهو يمسح بعينيه وجوه وعيون الذين سرعان ما يلتفون من حوله .. يمتصون غضبه في فضول طبيعي .. بينما يميل زيدان الخفير الذي يسير عادة في ذيل العمدة مع رهط من الخفر يميل على أذن الحاج ابراهيم يهمس بهمهمة لا يسمعها احد حتى الحاج ابراهيم ثم يتبعها بغمز موجه للحاجة نفيسة .. بعدها يطفق قائلا : - ابراهيم كبر وخرف .. يانفيســة .. و يرددها - اه والله الرجل .. خرّف يا ناس يقولها .. بعد أن يغممض عينه اليسرى.. ويعض بأسنانه على طرف شفته المتدلية إلى نصف ذقنه في حركة سريعة .. دأب على تسريبها من خلف ظهر العمــدة .. سرقه .. ويعيد - ابراهيم كبر وخرف ياناس .. والعمدة على حق .. سامحه كثيرًا على يدي .. لكنه ركب رأسه .. وعفا عنه كثيرا على يدي لكنه لايرجع .. ويزيد يطلب الصفح الجميل - عموما .. ( يقولها بسرعة ) - ابراهيم يقصد خدمتك ياعمدة .. وانت البركة ياعمدة العمد .. يقولها للعمدة الذي لزم الصمت أثناء مداخلة زيدان الخفير .. وكأنه كان ينتظرها وهو بعينيه الجاحظتين يتنقل في كبرياء بين وجوه وعيون الناس .. ثم يرتد لينظر إلى الحاج ابراهيم .. وزيدان والحاجة نفيسة .. والثلاث نخلات في آن واحد .. وبعد ان ينتهي زيدان تعقبته الحاجة نفيسة قبل أن ينتهي من كلامه .. وهي تحاول أن تلم الموضوع في حيّرة بادية ..موجهة كلامها إلى زيدان - الحاج والحاج اخوة .. اطلع منها انت يازيدان .. فيستشيط زيدان غضبًا .. وتخرج الكلمات متناثرة .. على غير انتظام في وجه نفيسة .. - اطلع منها ياعقربة في الآخر .. وأنا قصدي أحل المشكلة .. - عقربة .. يازيدان .. ياأبو وجهين .. - وجهين يانفيسة .. - تعض .. وتغمز .. وتقول عقربة ..