دعبل الخزاعي
دعبل بن علي بن رزين الخزاعي. وينتهي نسبه إلى عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي. (اسمه محمد، وكنيته أبو جعفر، ودعبل لقب لقب به). والدعبل يعني الناقة التي معها ولدها أو البعير المسنّ، أبو الشيء القديم.
النشأة في الكوفة
الطائر الحبيس
ولد دعبل في الكوفة عام 148 للهجرة، ونشأ فيها. والمعروف أن هذه المدينة كانت تتصف بميزتين: أولاهما ولاء معظم أبنائها لآل البيت، وثانيتهما كونها موطن الثورة الدائمة في العهد الأموي. أما في العصر العباسي فكانت، كما يقول الدكتور يوسف خليف: (أشبه شيء بالطائر الحبيس)، وذلك لأن الحكم العباسي، ولم يكن أقل جوراً وعسفاً من الحكم الأموي، وضعها (تحت رقابة صارمة وفرض عليها نوعاً من الحكم العرفي حال بين الطائر الحبيس والانطلاق، ولكن الكوفة ظلت على الرغم من ذلك وطن الثورة الروحي).
ويضيف الدكتور خليف أن الناس فجعوا فجيعة كبيرة بالإنقلاب العباسي، يصورها ذلك الثائر الذي خرج على أبي مسلم بخراسان في السنة الثانية من الحكم العباسي تصويراً رائعاً حيث يقول: (ما على هذا اتبعنا آل محمدا! على أن نسفك الدماء أو نعمل بغير الحق).
ولم يكن أمام (الطائر الحبيس)، الفتي، في (موطن الثورة الروحي)، سوى الخروج إلى الفضاء الرحب، ولهذا كثرت محاولات الخروج في العصر العباسي على النظام وتعددت أشكاله ومستوياته، وليس المجون الذي عرف به ذلك العصر سوى شكل من أشكال هذا الخروج الذي كان وليد خيبة الأمل بعد أن أدرك الناس أن (البلاء راكد) كما قال المستهل بن الكميت:
وكان الفتى النشائ دعبل الخزاعي واحداً من أولئك الراغبين في الإفلات من (حبس) السلطان، فروي أنه كان، وهو غلام يتشطَّر، ويصحب الشطَّار، (وكانت له شعرة جعدة، وكان يدهنها ويرجلها حتى تكاد تقطر دهناً).
وقد أدّت به صحبته للشطَّار واشتراكه في مغامراتهم إلى الخروج من الكوفة مطارداً، وهذا يشير إلى نزعة تمرد متأصلة فيه، سرعان ما وجدت في مذهب آل البيت ضالتها، وهذا أمر طبيعي فدعبل ابن الكوفة التي عرفنا تميزها قبل قليل، وينتمي إلى أسرة عرفت بالشرف والتقى والولاء لآل البيت.
في بيت شرف وتقى وولاء لآل البيت
ينتمي دعبل إلى أسرة دعا النبي (صلى الله عليه وآله) لجدها الأعلى بديل بن ورقاء بقوله: (زادك الله جمالاً وسؤدداً وأمتعك وولدك). وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء وأخواه عبد الرحمن ومحمد رُسُل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن، وكانوا هم وأخوهم عثمان من فرسان الإمام علي (عليه السلام) الشهداء في صفين، وأخوهم الخامس نافع بن بديل استشهد على عهد النبي، ورثاه عبد الله بن رواحة بقوله:
رحــــــم الله نــــــافع بــــن بـــديل رحمة المبــــــتغي ثـــــواب الجهاد
صابــــــراً صادق الحــــديث إذا ما أكثـــر القــــــوم قـــال قول السداد
ويعدُّ عبد الله بن بديل من دهاة العرب الخمسة، قال له الإمام علي يوم صفين: (احمل على القوم، فحمل، وهو ينشد:
لـــم يــــــبقَ غيــرُ الصبر والتوكل والتُـــــرسِ والرمح وسيفٍ صيقل
ثـــمَّ التمشــــي فــي الرعيل الأول مشــــي الجِمال في حياضِ المنهل
وقاتل إلى أن استشهد. وقال معاوية لما رآه: (هذا كبش القوم...) ثم أضاف: (إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني، فضلاً عن رجالها، لفعلت). وأوصى عبد الله، وفي آخر رمق من حياته، الأسود بن طهمان الخزاعي: (أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله...).
ينتمي دعبل إلى خزاعة التي أوضح معاوية موقفها، وإلى بيت منها قدم خمسة شهداء، وأوصى سيده هذه الوصية، إضافةً إلى أن هذه القبيلة، التي أقامت بمكة لولاية البيت، تميَّزت من القبائل العربية، بدخولها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سنة 8 هـ. ما يعني أن الولاء لآل البيت والقتال معهم (حتى يظهر الحق أو يلحق بالله) كان مكوّن شخصيته الأساس، ولعل شخصية جدة عبد الله بن بديل كانت رائدة، وهو يمضي في دروب الحياة متمسِّكاً بمذهبه، ينصره بمواقفه وشعره مهما كلَّفه ذلك من تضحيات.
هجاء الرشيد والمأمون
وقد يكون إقدام المأمون على مبايعة الإمام علي الرضا (عليه السلام) بولاية العهد من بعده، سنة 201 هـ، يعود إلى هذا التحرُّك الذي قاده العلويون، ومنهم اثنان من أخوة الإمام هما: إبراهيم وزيد.
وفي هذه الآونة قصد دعبل خراسان وأنشد تائيته بين يدي الإمام، وسمعها المأمون وتأثر بها أشدَّ التأثير.
ويبدو أن مجرى الأحداث تغير، فما إن استتبت الأمور للمأمون حتى أقبل من خراسان إلى بغداد سنة 204 هـ، وكان الإمام الرضا (عليه السلام) قد توفي مسموماً، واتهم المأمون بذلك. فعاد دعبل إلى صفوف المعارضة أشدّ عنفاً، فرثى الإمام الرضا (عليه السلام)، واستعاد سيرة الرشيد... وقد خاطب الشاعر المأمون فحكى ما يعرضه الخليفة عليه، ووصفه بالمساومة على (خطة عاجز)، وذكره بضمير الغائب، ومن طريق الاستفهام المتعجِّب، بقوة قومه، ثم انتقل إلى الخطاب المباشر، فأكد له صنيع خزاعة ودورها في إعلاء شأنه.ويبدو الشاعر قوياً متماسكاً يرفض ما يعرضه عليه المأمون ويهدده بمصير أخيه ويمدح في القصيدة الثانية أهل البيت ويصف مقاتلهم ويهجو خصومهم. ويقدم للقصيدة بحديث يجيب به عن تأسُّف جارته لميله عنها، فيذكرها بشيب ذوائبها، وبأنه لا يركن للدنيا وزينتها، ولو كان يفعل ذلك لبكى على الماضين من نفره الذين أخنى الزمان عليهم فصدعهم.
وينتهي إلى القول:
لــــولا تشاغل نفسي بالألى سلفوا مـــن أهـــل بيت رسول الله لم أقر
ويمضي، في قصيدته (يا أمَّة السوء...) التي لا يمكن تصنيفها في غرض واحد من أغراض الشعر المتداولة: رثاء، مدح، هجاء، لأنها شعر مختلف يمثِّل تجربةً مختلفةً قوامها الولاء لآل البيت، بصوفهم مثابة المرء المؤمن إلى الطمأنينة في هذه الحياة. وهذا نمط جديد من الشعر باستهلاله: التأمل الوجداني للحياة، المنشئ خطاباً يتضمّن رؤية إلى التاريخ، وموقفاً من أحداثه.
ويســـــومني المـــــأمون خـطة عاجزٍ أو مـــا رأى بـــــالأمس رأس محـــمد
إنــــي مـــــن القــــوم الــذين سيوفهم قـــــتلت أخــــــاك وشــــــرَّفتك بمقـعد
شــــــادوا بــــــذكرك بعد طول خموله واستنــــــقذوك مــن الحضيض الأوهد
إن التـــــرات مُســــــهدٌ طــــــــلابـــها فاكفــــــف لعـــــابك عن لعاب الأسود
يـــــا أمــة السوء ما جازيت أحمد في حُسنِ البـــــلاء علــى التنزيل والسورِ
وليــــــس حـــــيٌّ مـــن الأحياء نعلمُهُ من ذي يــــــمان ولا بــــكر ولا مضر
إلا وهُــــم شــــــركاءٌ فـــــي دمـــائهم كما تـــــشارك أيســـــارٌ عـــــلى جزر
قــــتلٌ وأســــرٌ وتحـــــريقٌ ومنـــــهبةٌ فـــــعل الغُزاة بـــأرض الرُّوم والخزر
أرى أميَّــــــة معـــــذورين إن قــــتلُوا ولا أرى لبـــــــني العــــباس من عُذُر
أبــــــناءُ حـــــربٍ ومــروانٍ وأسرتُهُم بـــــنو معـــــيطٍ ولاةُ الحــــقد والوغر
قــــــومٌ قــــــتلتُم عــلى الإسلام أولهم حتى إذا استـــمكنوا جـازوا على الكُفُر
أربــع بطوسٍ على القــبر الزكي كلهم إن كنـــــت تـــربعُ من دينٍ على وطرٍ
قـــــبرانِ في طوس: خيرُ الناس كلهم وقبرُ شــــــرِّهم، هــــــذا مـــــن العِبَر
ما ينـــفعُ الرجسُ من قرب الزكي ولا على الزَّكـــيِّ بقُرب الرِّجس من ضرر
هيـــــهات كلُّ امرئٍ رهـــنٌ بما كسبت لـــــه يــــداهُ فخـــذ مـــا شئت أو فذرِ
يقول بعض الباحثين: إن دعبلاً كافأ الرشيد على عطائه بأقبح مكافأة فهجاه بعد موته، والحقيقة أن هذه القصيدة تمثل رؤية للتاريخ الإسلامي، يخاطب فيها الشاعر الأمة، ويسميها (أمة السوء) ويبين هذا السوء الذي تشاركت فيه جميع الأحياء كما يتشارك لاعبو الميسر، ويعجب من مفارقة تاريخية، تتمثل في مشاركة بني العباس في قتل آل بيت النبوة، فإن كان الأمويون معذورين، وفي ذلك هجاء بالغ لهم، لأن عداوتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) تاريخية، فما عذر بني العباس؟ وقد كان الدعاة العلويون يرددون هذا القول، ومن هؤلاء محمد النفس الزكية، فقد قال لعمه حين خرج على المنصور: (.. والله يا عم لقد كنَّا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أقل خوفاً لله منهم، وإن الحجة على بني العباس لأوجب منا عليهم، ولقد كانت للقوم أخلاق ومكارم وفواضل ليست لأبي جعفر).
ويقود هذا التأمُّل التاريخي، المنطلق من منظور ديني، إلى تبين العبرة، فيقف بطوس، ويرى قبرين، فيكشف هذا المنظور الفارق الكبير بينهما أو يكشف التضادّ القائم بينهما: خير الناس كلهم = شر الناس كلهم، وينتهي إلى تقرير حقيقة مفادها أن كل امرئ رهن بما كسبت يداه. فدعبل هنا لا ينطلق من موقف شخصي تكسُّبي، وإلا لكان قبل ملازمة هارون الرشيد، وسبَّح بشكره كما كان يفعل الشعراء المتكسِّبون، وإنما رأى من منظور كوَّنه (التنزيل) فكشف وقائع التاريخ وخلص إلى حقائق خالدة، فهذا ليس هجاءً وإنما موقف ديني - سياسي، فالشاعر يعتقد كما يقول الشيخ الأميني (أن الولاية لا تكون خالصة إلا بالبراءة ممن يضادها ويعاندها كما تبرَّأ الله ورسوله من المشركين). وإن عرفنا أن هذه القصيدة أنشدت بعد أن جاء لدعبل خبر موت الرضا مسموماً أدركنا طبيعة التجربة التي أملت هذا الموقف.