خلف الضبع

من معرفة المصادر


خلف الضبع

قصة قصيرة بقلم :محمد همام فكري

( نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)


«.. اثر حادث أليم ، لقي المواطن المصري خلف شلبي الضبع ربه ..عن عمر يناهز الثلاثين عاما ، وقد تم دفن جثمانه الطاهر بمعرفة رابطة المغتربين بانجلترا ، وللفقيد الرحمة .. ولكم الصبر والسلوان .. »

(رابطة المغتربين بانجلترا.. لندن)

ويعلم الله أن خلف الضبع نفسه بشحمه ولحمه هو الذي خط بقلمه التليغراف .. ودفع به إلى عنوانه بمصر : كوم الطين . قبلي - قنا .. يصل ويسلم إلى يد الحاج شلبي الضبع بجوار مقام سيدي محجوب .. ودفع جنيها انجليزيا ..أحسّ لحظتها أنه دفعه لعمره الذي كان في كوم " الطين قبلي " .. بترابها ودوابها .. وزرعها .. وبيوتها .. وعيالها .. وناسها .. جميعا .. وذكريات كان يظنها حلوة.. وأشياء كثيرة كان يحسبها مهمة .. وبأنامل مرتعشة أعاد حافظة النقود إلى جيب بطلونه الأجرب .. وفرك كفيه .. محاولا السيطرة على قدميه لكنه لم يقدر إلا أنْ ينفجر في البكاء .. وكأنه أراد أن يبكي عمره الذي كان .. وقرية صغيرة تنام في العراء .. أخذ هواء الطريق كله في صدره .. أو كاد .. بعدها زفر ضحكة هستيرية مدوية ..لم يعبأ بها أحد من المارة المسرعين دائما إلى غاياتهم المختلفة .. ومضى يضحك .. ويضحك .. وتتلاشى صدى ضحكاته وهي تتصاعد في السماء تخترق الغيوم الرمادية المعلقة فوق البنايات الشاهقة .. أو تذوي تحت عجلات السيارات المسرعة علي الطريق الاسفلتي ..المندى برخات المطر.. المتقطع .. وبصوت مسموع أخذ يقول : " هنا كل شيء رائع .. حتى الموت ... وأنا الآن ابن حادث أليم في زمن جميل .. ويوم جديد ينبيء بعمر جديد .. وهواء جديد .. أنا ابن الزمن الحاضر والآتي .. ابن الحياة الصافية .. الدافئة كتدفق الدم في العروق ." وبتأني أستطرد يعدد لنفسه ألف سبب .. وسبب .. للموت ..وهو يعدو بخطوات واسعة .. - ترى هل يخسر الانسان نفسه حين يجدها ؟ .. الموت حيا هنا.. لاتعادله الحياه موتا هناك .. هنا فردوس الدنيا .. هنا .. هنا شيء آخر .. لا استطيع أن أصفه ياناس .. والحاج شلبي وأمي مبروكة .. وحميدة .. والعيال لهم الصبر والسلوان .. - الموت حق .. وقد عشت أكثر من نصف عمري لهم .. حقي أن أعيش العمر الباقي لي حتى لو دفعت موتي ثمنا له .. - نعم سيتلقي الحاج شلبي الخبر بالصبر الجميل الذي جبل عليه .. فكم كان يقولها لي .. وهو يحاول أن يمنحني العبرة .. - الصبر زاد الحياه ياخلف ياولدي .. عليه به الآن .. وأمي مبروكة تقدر عليه .. عرفته حين استشهد أخي في الحرب .. فاعتصر كبدها .. ولبست السواد .. وقالت للنساء : - الحياة بعده قبر .. فما الفرق .. قهر على قهر .. وحميدة ككل النساء اللاتي يترملن في كوم الطين .. سترتدي السواد .. وتقعد علي العيال دهر .. يأكلون من خير الأرض .. وتأكل منهم تزوجتها عندما بلغت ... حين قال لي الحاج شلبي : - حميـــدة لك .. فلزمت الصمت .. لكنه عاد وقال : - حميدة لك .. لحم ودم .. ابنة عمك .. تحفظ عرضك .. فلزمت الصمت .. لكنه عاد وقال لي في حزم : - حميدة لك يا خلف .. حميدة لك .. حميدة لك .. وتزوجت لكنني كنت أبحث عن روح .. لم يعرف أبي أنني أحب الروح .. وحسم الامر .. وهل أقدر أن أقول للحاج شلبي أنني أبحث عن روح ؟ وهل يعرف الحاج شلبي حب الروح ؟ سيتلقي الجميع الخبر في حزن وغم .. والعزاء في ساحة المقام .. مقام سيدي زقزوق .. بعد صلاة العشاء سيتوافد الجميع في حزن ثقيل أفواجا .. أفواجا .. ويقرأ الشيخ عبد الفتاح .. آيات .. .. من القرآن ..وينتهي الأمر بعد أن تتهاوى الاكف في انحناء .. وتلتقي العيون في إنكسار .. وتتمتم الشفاه في صبر .. يرحمه الله ..يا ابو خلف وسيحكي الرجال والنساء حكايتي .. ويمصمصون الشفاه .. ويتذكرني الصحاب .. يترحمون على .. وعلى الأيام التي تركناها خلف ظهورنا في الجرن .. والغيطان والطريق إلى القطار وليالي الصيف ..وحكايا الجسر في المساء .. وسيندم الذين حسدونني علي السفر .. لإنهم جميعا حين جاءوا يودعونني ..يوم نويت على السفر كان في عيونهم شىء غير السلام .. الآن سيكتمون في صدورهم فرحتهم بالحياه .. من أين جاءت فكــــــــرة الخــــلاص .. ؟ قالها وهو مستلقي على ظهره عندما حط بجسده في الحديقة الكبيرة .. بين الزهور الكثيرة .. رآها على الغيوم ..في السماء .. مكتوبة في حروف .. عبارة جيزة ..« اثر حادث أليم ..» وينتهي الأمر ... وكان التليغراف .. فكرة مجنونة .. كفكرة السفر .. يوم حزمت الحقيبة .. وقلت في فتور .. عزمت الرحيل .. بلاد بعيدة .. أبحث عن عمل .. فشهقت حميدة .. وضربت بكفها على صدرها .. وكأنها أحست مرارة الفراق .. قبل الفـــراق .. لكن الحاج شلبي قالها بصوت له عزم ..هو هكذا يتحدث في حزم : - دعيــــه ياحميدة .. دعيه ..يجرب السفر .. كثيرون غيره من الكوم والكوم جنبنا وبر مصر .. دفعتهم الحياة للرحيل .. وعادوا بالخير الكثير .. سيبني لك بيتا جديدًا .. و .. حياة جديدة .. دعيه ياحميــدة .. يجرب السفر .. السفرقدر .. - نعم ياحاج .. هذا قدر .. حياة جديدة .. كالشقراء التي رأيتها هنا .. فأحببتها لم أقدر إلا أن أحبها .. قدر .. لأنني حين رأيتها قلت في نفسي اموت من أجلها .. وتحزن حميدة .. وأمي مبروكة .. ويصبر أبي .. لإنها جميلة .. عرفتها هنا .. نسمة زكية .. تهب كل صباح .. كفراشة الحقول .. تشاركني العمل .. " ساره بل " .. حورية .. رقيقة .. تأتي في بكور .. وفي يدها حقيبة صغيرة .. تخرج منها كل صباح زهرة بيضاء .. تضعها بإعتناء في القنينة البللورية .. ثم تهديني أبتسامة جميلة .. وتدخل في العمل .. روح رقيقة .. ولحم ودم .. ودفء جميل .. يحتويني .. والمكـــان .. ثلاث سنوات .. أكثر أو أقل .. لا أدري .. لانني لم أحسب الوقت ..وهل يحسب الوقت الجميل ؟ .. في سحر عينيها شاهدت قوس قزح .. أحلى من قوس قزح .. وحديثها افق ليس له حدود .. مرتب بسيط .. يفيض بالود والصدق .. كأنه الهمس ..يشيع في روحي الدفء لكنني عندما قلت لها في خجل : - أنت لي .. قالت في هــدوء : - وأنت لست لي .. وراؤك زوجة .. وأنا لاأحب أن أكون سببًا للفراق .. نكون أصدقاء ..يا خلف تقولها الكاذبة .. لانني كنت أرى في عينيها .. حبا فطريا .. تخشى على منه .. فتهرب بعينيها الخضراوتين .. وتقول في أدب : - طيب أنت ياخلـــف .. تقولها « خلف » بلكنة "لذيــــذة " بطعم العنب .. فتضحك الدنيا على ثغرها .. وأضحك أنا لانني أكتشفت أن اسمي أحلى من ..خلف .. وأن الذين كانوا ينادونني " خلف " .. لم يعرفوا أن اسمي أجمل من خلف .. حتي حميدة .. التي كانت تنادي في خجل يا " خلف " .. وكأنها تذكرني بشيء قد وقع بيننا .. لم يكن في صوتها حلاوة الجرس .. لم يكن .. وأنا كنت أبحث عن حلاوة الجرس .. وهل يعرف الحاج شلبي حلاوة الجرس ؟ .. ثلاث سنوات .. أكثر أو أقل .. عرفتها .. أحببتها .. سارة بل .. أخذتني من يدي .. رأيت الحياة غير الذي رأيت .. عرفت الحياه غير التي عرفت .. كأنني ولدت مرتين.. وعندما كبرت .. قلت في جنون : - أحبك ياســــــــــاره بل .. لكنهــا تمادت في الهــدوء .. وقالت : - لقاؤنا مستحيل ..يا خلف .. لست لي .. ولست لك .. فصرخت .. باعلى صوت .. صرخت.... حتى قال الناس : - مجنون ساره بل وسقمت حتى قال الناس : - قتيل ســــاره بل .. ثلاث سنوات .. أكثر أو أقل حتي جاءتني رسالة حميدة الأخيرة .. كتبها لها ابن أختها تقول كلاما معاداً : بعد السلام .. وأخبار الأهل .. والجيران .. " ارجــع ياخلف .. نحن في انتظارك ..ارجع ياخلف .. " - .. هل يرجع العيار إذا انطلــــق ؟ ..