خطة تبريد الثورة
خطة تبريد الثورة، للكاتب والصحفي المصري مصباح قطب.
فى أعوام ما قبل ثورة يناير، كان كل شىء فى مصر يمضى عشوائيا، غير أن الأمر الوحيد الذى كان يتم بخطة واضحة هو مشروع التوريث. كان مروجوه يحسبونها باللفتة والكلمة وتشويحة الذراع ونظرة العين ونوع الـ«تى شيرت» الذى يرتديه جمال مبارك، وأوقات الاختفاء والظهور، وأدوار الوالدة وزكريا عزمى، وأحمد عز وشريف صبرى وروبى، إلخ.
ويقول خبراء تحدثت إليهم «المصرى اليوم» إن كل شىء بقيادة المجلس العسكرى يمضى بالبركة وبقوة الدفع، إلا مشروع تبريد الثورة الذى تعاونه فيه الأجهزة القومية لجمع وتحليل وتصنيف المعلومات وهو مشروع يكاد يصل من فرط همة العمل فيه إلى مستوى الدخول فى دائرة الانقلاب على الثورة لا مجرد تبريدها.
ويلاحظ الخبراء أن ثمة توجها بزغ تلقائيا منذ 28 يناير ليلا من أجهزة الدولة- أو ما بقى متماسكا منها- لتهدئة الثورة حرصا على الدولة أو بحجة الحرص عليها، غير أن خيوطه أخذت تتجمع فى النهاية، فى يد دوائر عليا عسكرية ومخابراتية ومعلوماتية، رغم ما بينها من تناقضات، وراحت تشكل مخططا متكاملا لتبريد الحدث الثورى خوفا على النظام الذى خططوا لإقامته ليرث نظام مبارك قبل أن يكون حرصا على الدولة أو ادعاء بالحرص عليها، وتحويله- أى الحدث- إلى مجرد مكعبات ثلج تستخدم كضمادات عند اللزوم.
كانت البداية التبريدية كما يرصد خبراء هى: قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء فى اجتماع نائب الرئيس عمر سليمان بأقطاب المعارضة والقوى السياسية والشباب، وهو الأمر الذى تكرر فى مجلس وزراء الفريق أحمد شفيق ثم تتويجه بمشهد أداء التحية العسكرية لأرواح الشهداء من اللواء الفنجرى. كان من الواضح أنها حركة امتصاص «تبريد» ولسبب بسيط فإن هؤلاء الثلاثة رجال دولة وأبناء تقليديون لنظام يوليو ولا يتفق عقلا القول بأنهم ممن يؤمن كلية بثورة شباب تطلب نظاماً جديداً.
ويرى هؤلاء الخبراء أنه اتساقا مع هدف تبريد الثورة لم يتم التحقيق فى محاولة اغتيال عمر سليمان مع أن هناك من ردد علنا أنها تمت على أيدى عناصر من «القصر» كانت تخاف مع تعيين سليمان، نائبا، أن يفلت منها كنز كان وشيكا، وأنه عن قصد تم دفن موضوع قناصة التحرير رغم أن هناك من زعم علنا أن أشقاء العناصر السابقة هم الذين شكلوها ولنفس الغرض. أيضا تم دفن ملفات حرق أقسام الشرطة واقتحام السجون مع أن هناك من قال ويقول علنا إن لدى جهات سيادية بالصوت والصورة ما يدين أطرافا- بعضها يتمسح بالدين- بأخطر الجرائم لتورطها فى تلك الأحداث، لكن الأجهزة ضربت صفحا عن ذلك بسبب توازنات اقتضتها الظروف العصيبة التى مرت بها البلاد من جهة، ووجود قوى دولية تدفع باتجاه أن يتولى الحكم إسلاميون- أصدقاء للناتو على درب قطر- من جهة أخرى، وكل ذلك جعل التحالف يتساهل مع تلك الأمور ويختار عدم الاصطدام من أجل إنجاح التبريد.
يهدف مخطط التبريد فى صورته الأولى كما يقول الخبراء إلى أن «تصفصف» الثورة فى أفضل السيناريوهات على:
1- إزاحة مبارك وولده، لأن التوريث خروج سافر على النظام الذى أرساه ثوار يوليو، وهو النظام الذى يعتمد على هيمنة الجيش على مقدرات القرار السياسى.
2- تعديلات مناسبة فى كامب ديفيد لأنها أرهقت القيادات العسكرية وطنياً ومهنياً بما فيها من قيود على السيادة وعلى حركة القوات فى سيناء، وكذا على القرار المصرى عموما.
3- إبعاد رجال الأعمال عن المحيط السياسى، لأن قيادة المجلس العسكرى كما هو معروف تعتبر أن ذلك كان خطيئة، وبالتوازى إدخال «الإسلاميين» إلى الساحة مجاراة لترتيبات دولية وإقليمية ولدواع محلية.
4- إضفاء لمسة تجديدية على نظام يوليو يسهل معها القول بأن هذا ما كان قد ورد أصلا فى المبدأ السادس «إقامة حياة ديمقراطية سليمة» عبر قبول تقييد مدة الرئيس وإجراء انتخابات تعددية.
هذا هو السقف الذى توافق عليه تحالف التبريد وهو فى حد ذاته معقول، وإن كان كما هو ظاهر يختلف عما يريده الثوار الباحثون عن نظام جديد وعصرى، يحترم الكفاءة والحرية والكرامة الإنسانية والمواطنة، وينظر إلى العدالة بمنظور مختلف.
كما أن تعقيدات خارجية وداخلية جعلت المشهد يتحول إلى الدراما الفاجعة التى نراها، بحيث اشتعلت خطة التبريد ذاتها وتلوثت أياد فى قياداتها بالدم والنار.
يقول الخبراء إن «الأعلى» ينكر دائما ارتكابه كل عنف وكل فعل يخاصم أو يعادى ثورة يناير، وهو فى ذلك يشبه «أبطال» معركة الجمل من الحزب الوطنى ونفيهم التهمة، ومبعث الاستغراب من النفى ليس أن هناك دليلا مخفيا على تورط هؤلاء، ولكن لأن العقل يقول إن أركان النظام السابق لابد أن تكون قد فكرت وخططت شيئا ما للدفاع عنه، حيث لا يتصور أحد أن يتأزم الموقف فى التحرير وميادين المحافظات مع المطالبة بسقوط النظام، وأن يقف فتحى سرور وأبوالعينين والشريف وعزمى وغيرهم ليتفرجوا، ومع الفارق فإن أى عاقل لابد أن يخمن أن فى دماغ الجيش والمؤسسات السيادية المهمة تصوراً محدداً للنظام الذى يريدونه، وبديهى أنه يختلف عن تصور الشباب، فخلفية كل طرف مختلفة.
وكما يشير من تحدثنا إليهم فإن ما زاد من سوء نتائج منهج العسكرى أن لديه مشكلة فى معسكره تتمثل فى أن القوتين الأمنيتين الرئيسيتين فى تحالف تبريد الثورة واللتين لهما خبرة بالعمل السياسى لا تعملان بالذمة الواجبة، رغم أن لهما مصالح مهنية واجتماعية مؤكدة فى التبريد.
أيضا كما يقول العارفون فإن مبارك حرص دوما- وكما روى مرة أحد رؤساء هيئة الاستعلامات- على «توقيع» قيادة الجيش فى قيادة الأمن القومى ليستريح هو فى مقعده، وأدى ذلك إلى نتيجة حالية هى عدم انخراط الأمن القومى بكل قوته فى العمل، كما أن الأمن الوطنى أمن الدولة سابقاً- لديه مرارة الشعور بأن اقتحامه كان يمكن ألا يتم لو حرص الجيش على ذلك، وفى ظل غياب العمل بالقوة الكاملة من تلك الجهتين، كثر الحديث عن مخططات خارجية- ولا يمكن نكران وجود مخططات بالفعل، فمصر ليست دولة مما تترك فى حالها- غير أن أحداً لم يقدم دليلا محترما على ذلك، ما جعل حديث المخططات مثيراً للسخرية.
وتقول مصادر مطلعة إن وثائق الأمن الوطنى كلها ترقد حاليا ومنذ اقتحام أمن الدولة لدى جهة سيادية خاصة، وفيها ملفات عن عسكريين وأحزاب ووسائل إعلام وقوى سياسية شرعية ومحظورة- باللغة القديمة- لكن الغريب أن تصرفات المجلس العسكرى لا يبين منها أن لديه معلومات كافية أو صحيحة فى أغلب ما يعالجه من ملفات أى أنه لم يستخدم ما لديه أو حتى يصوبه.
ولأن الجهتين المشار إليهما لا تشاركان بحماس فى الأنشطة الميدانية من خطة التبريد كما أوضحنا فقد استعان قادة فى «العسكرى» مع ذراعهم المعلوماتية والتحريات العسكرية، بخبراء مباحث جنائية كبديل- من هنا جاء اتهام «الأعلى» بالاستعانة ببلطجية، فالجنائيون هم من يعرفونهم جيداً- وزادت الاستعانة بالجنائيين كلما أخفق الأعلى فى معركة من المعارك، ونحن نعرف أن «الأعلى» فشل فى معركة الدفاع عن دور سياسى للجيش فى المستقبل، مع أن أغلبية الناس تقبل ذلك، وفشل فى تأمين السرية لجوانب من موازنته وغالبية الناس تقبل مناقشة ذلك، وفشل فى معركة مبادئ حاكمة للدستور مع منطقيتها، ومعركة معايير تشكيل جمعية تأسيسية مع ضرورتها، ومعركة حق المجلس وحده- باعتباره رئيس الدولة- فى تشكيل الحكومة بعد الانتخابات مع أن الإعلان الدستورى الذى باركه حلفاؤه الإسلاميون قبلا ينص على ذلك، وبعد كل فشل كان المجلس يضاعف من ارتباكه ما أوصلنا إلى الوضع المعقد الحالى، ووصل الارتباك حد ترويع البيوت والناس قبل الثوار من رقصة دم كبرى ستحدث يوم 25 يناير المقبل، فى نفس الوقت الذى كان فيه الجنزورى يستحث المستثمرين الأجانب على القدوم، حتى إن صحفيا أجنبيا قال له: من هو العاقل الذى يأتى إلى دولة يقول قادتها إنها ستحترق بعد أيام؟
يؤكد الخبراء أن أجهزة المعلومات راكمت على مدار 50 عاما تصورات ورؤى معينة عن الدولة وإدارتها وقواها وتوازناتها غير أن ما حدث منذ يناير جعلها تنسى ما كان بينها من تنافسات وتناقضات وتصطف- إلى حد ما- دفاعا عن الدولة التى تؤمن بها والتى شاركت هى فى صنعها وتستميت فى تبريد الموقف على الأقل، ريثما تتاح لها فرصة تغيير خططها، بحيث تضمن استمرار أدوارها ومكانتها، غير أن الملاحظ أنها تفاجأت بعامل لم يكن فى حسبان الجميع وهو أن تلك الأجهزة مهددة بأن تزاح كلية لتحل محلها أجهزة أخرى ذات طابع أيديولوجى، مختلفة عما هو قائم ويفترض أنه وطنى مهنى فقط، وذلك بسبب الصعود الصاروخى لقوى الإسلام السياسى والذى قد تغريه قوته بالسعى إلى تأسيس أجهزة تشبه نموذج حماس والسودان وربما جيش أيديولوجى أيضا. ومع ما مضى فإن الأجهزة والجيش لم تبذل أى جهد فى الدفاع عن طبيعتها الوطنية المهنية وكأن لديها جميعا ضمانات بأن الأمور لن تصل إلى هذا الحد أو كأن تعودها الانحراف- إلى حد ما- عن الطابع المهنى الوطنى والاقتراب من الحزب الوطنى فى السنوات الأخيرة أضعف مناعتها ضد «تحزيب» الأجهزة السيادية مع أن تلك مصيبة كبرى.
وحسب مصادر موثوقة، تمت مؤخراً الاستعانة بقيادات سابقة ذات ثقل كانت تعمل بأجهزة المعلومات لمواجهة الموقف الراهن، وبعضهم كان قد بادر من نفسه بدافع وطنى وبحكم الانتماء لتلك المؤسسات لتقديم النصح لمنع انهيار تلك الكيانات وخوفا من تعرض الدولة لهزات عنيفة. وساعد هؤلاء مؤخرا فى بلورة مشروع توجه يستوعب فوز الإسلاميين بالأغلبية البرلمانية من ناحية ويضمن أن يقوموا فقط بدور حزب حاكم وضابط فى الشارع وفى المواقع التنفيذية الخدمية، مع الدفاع عن النظام مقابل منافع مادية ومعنوية ولو فى شكل مختلف عما كان يحدث مع الحزب الوطنى الحاكم.
الخبراء السابقون هؤلاء بالذات- كما علمت- هم الذين اقترحوا أن يقوم المشير بدعوة البرلمان الجديد إلى الانعقاد يوم 23 يناير أى قبل 25 يناير بيومين ليكون النواب خط دفاع ضد أى أفعال عنف أو احتجاج محتدم من الثوار من ناحية، وليتذكر النواب الإسلاميون أيضا أنهم ليسوا الوحيدين فى الساحة حين يرون أن وجودهم فى البرلمان ليس هو مصدر القوة الوحيد فيخففوا ضغطهم على المجلس الأعلى من ناحية أخرى.
أخيرا فإن خطة التبريد هى التى أطلقت الدكتور كمال الجنزورى من مكمنه، وكان قد تم حجزه بعيدا عن الأضواء ليكون مرشح الجيش للرئاسة فى الوقت المناسب، وتم تقديمه تحت ضغط أحداث محمد محمود، ورهانا على قربه من الناس العادية، حيث يريد «الأعلى» أن يجتذب جماهير تسانده لينتفع بطاقتها إذا جاءت ساعة احتكاك خشن بالإخوان والسلفيين، كما أن مجىء المجلس الاستشارى- وهو محصلة عدة تفاعلات- ساعد هو الآخر على تهيئة ظرف أفضل لإنجاح خطة التبريد مع تنازلات من العسكرى الذى رأى بأم عينيه أن الدماء المهدرة فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء ستطيح بالخطة وبمخططيها تماما.
الحياة تسير وما زال المطبخ المعلوماتى يعمل، وما زالت مطالب الثورة بعيدة عن التحقق، ومازال الشباب يعلن التحدى.