خطبة السير پرسي في حفل كلية ڤكتوريا الإنگليزية
خطبة السير پرسي في حفل كلية ڤكتوريا الإنگليزية، مي زيادة، جريدة الأهرام، 15 ديسمبر 1930.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخطبة
هذه خطبة مشبعة على إيجازها، دبلوماتيكية بما أفرغت فيه من قالب الإرضاء في تحفُّظ، والصراحة في إبهام، وهي لا تخلو من المغزى، المقصود أو غير المقصود، لمن أراد أن يتعمد استخراج المغزى حتى من خطبة حفلة مدرسية.
فقد عرف فخامته أن يتحصن في موقف إسداء النصح، وهو الموقف الموفَّق في مثل هذه الحفلة، وآداب الفن الدبلوماتيكي تقضي دائمًا بأن يكون الموقف موقفًا منطقيًّا، وبخاصة إذا كان الخطيب هو المندوب السامي البريطاني في مصر.
وهاك ديباجة تلك النصائح:
بينما آباء كثيرون من الطلبة يهتمون في الخارج بالأمور السياسية، يجب على الطلبة هنا (في كلية فكتوريا) أن يهتموا بتثقيف عقولهم وإعداد أنفسهم للمستقبل، ولا شك بأن كثيرين منهم سيكونون في المستقبل ممن يهتمون بالسياسة. بلا شبه شك وبديهي أن ينصح للطلبة بأن ينصرفوا بكل قواهم إلى الدراسة والتحصيل، ليكونوا في المستقبل أوفر استعدادًا وأتمَّ كفاية لمعالجة ما يتخيرونه لأنفسهم من المهن والأعمال، بما فيها الاشتغال بالسياسة، ولكن علام ذكر السير برسي لورين للسياسة دون غيرها؟ صحيح أن في مصر الآن اهتمامًا خاصًّا بالشئون السياسية. إذًا …
ويستطرد في النصح ببساطة:
وأهم ما يجب عليهم (أيْ الطلبة) اقتباسه من الصفات الآن، ليتصفوا به متى صاروا رجالًا في المستقبل، هو (اسمعوا!) ضبط النفس. ضبط النفس هو آية آيات الخُلُق الإنجليزي، ومن أحوج ما تحتاج إليه الشعوب جميعًا، أفرادًا وجماعات، لا سيما الشعوب الشرقية، رغم كون حالتها السياسية تختلف عن حالة إنجلترا اختلافًا مبينًا، وقد رأيت — أو خيل إليَّ — أني رأيت من ضبط النفس مثالًا صغيرًا عند سير برسي لورين في العام الماضي.
كان ذلك في حفلة افتتاح البرلمان المصري في يناير ١٩٣٠، وقد تجلت قاعة البرلمان في أفخم مظاهرها، وجلس جلالة الملك جلسته البديعة على العرش، في حين وقف دولة النحاس باشا يتلو خطاب العرش وعلى وجهه علامات السرور والرضا، والسير برسي لورين في شرفته يصغي بلباقة دبلوماتيكية مناسبة، حتى وصل النحاس باشا إلى ذكر المعاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى، فما سمع السير برسي كلمة «بريطانيا العظمى»، حتى انحنى إلى الأمام مشرئبًّا وعلى وجهه إعراب بليغ عن اهتمام شديد، وكأنه — وهو لا يعرف اللغة العربية — أراد أن يستوحي من لهجة الكلام وصدى الصوت تأكيدًا لأمر لم يكن يجهله من رغبة مصر في الاتفاق على معاهدة شريفة كريمة، فإذا بالقاعة تدوي بالتصفيق، وسرعان ما خطر لفخامة المندوب السامي «واجب ضبط النفس»، فعدل جلوسه واستردَّ هيئته العادية، ورجع إلى الإصغاء بلياقة دبلوماتيكية مناسبة.
… ضبط النفس، والاعتماد عليها، واحترام الغير … إن من يستطيع ضبط نفسه يعتمد دائمًا على نفسه، ومن اعتاد احترام نفسه يحترم غيره أيضًا؛ لاعتقاده أن الغير يقدِّر هذه الفضائل ويمارسها من ناحيته، وهذه روح الحرية والثقافة في أتم معانيها.
… وإنماء روح الزمالة؛ ليظل الطلبة مرتبطين بروابط الإخاء والمحبة في مستقبل حياتهم، ويذكروا المعهد الذي اقتبسوا منه صحة المبادئ والأخلاق في عهد التلمذة. دعاية رشيقة إلى الإعجاب بهذه الفضائل الخلقية الإنجليزية، عن طريق حِفْظ الجميل للمعهد الدراسي، وأيُّ معهد أحق بالشكر والتَّحْنان من المدرسة التى فتَّحت العقول، وهذَّبت النفوس، وسلَّحت المرء بما يهيئه للفوز في معترَك الحياة؟
… ففتيان اليوم الذين يتصفون بهذه الأخلاق، يكونون رجالًا أقوياء وسياسيين نبهاء في المستقبل. كلام جميل رشيد، وواضح المعنى أيضًا، ولكن أَلَا يخطر لك كذلك أن تتساءل عن معنى «سياسيين نبهاء» بالضبط؟
وحَرِيَّة بالاهتمام الدقيق الفقرةُ التالية التى تحوي مَثَلين اثنين مما يجري في إنجلترا من الأمور الدالة على حرية الرأي، وفضيلة ضبط النفس، وتأثيرهما بين المتنافسين والخصوم السياسيين:
… إن بين المستر مكدونلد رئيس الوزارة البريطانية، والمستر بلدوين زعيم حزب المحافظين خصامًا سياسيًّا شديدًا، ولكن هذا الخصام لم يؤثِّر في علاقاتهما الشخصية مطلقًا، حتى إنهما ذهبَا مؤخرًا إلى ملعب رياضي، وجعلا يلعبان الجولف معًا. وحدث أثناء إضراب العمال مؤخرًا في لندن أن المضربين جعلوا يلعبون كرة القدم مع رجال البوليس المعيَّنين لحفظ النظام بينهم بسبب الإضراب، وأظن الفوز في اللعب كان للمضربين. هذه الجملة الأخيرة وإنْ هي رَمَتْ إلى تقرير الواقع في لهجة حادة، فهي نكتة على الطريقة الإنجليزية في التنكيت، ويصح التعليق السريع عليها بأنه طبيعي أن يفوز الذين لا هَمَّ لهم غير اللعب …
… فعليكم ما دمتم هنا في معهد التعليم أن تتعلموا ضبط النفس، وبذلك تصيرون في المستقبل رجالًا طيبين تنفعون أنفسكم ووطنكم.
وكوِّنوا أفكاركم لأنفسكم … أذكر أنَّ خير تعريف قرأته للرجل المثقف والرجل غير المثقف، هو أن الأول يفكر لنفسه قدر المستطاع، والآخَر يتولى التفكير عنه غيره، وما يكون هو سوى رَجْع الصدى.
ولا تخجلوا إذا رأيتم خطأ فيما تفعلون أنْ تبدلوا الخطأ بالصواب، وإذا لم يُرضِكم أمرٌ ترونه ناقصًا، فافعلوا ما ترونه لازمًا لإزالة نقصه. أعلن فريدريك الأول ملك بروسيا لمجلس الشيوخ يومًا بأنه خسر معركة، وأن ذلك نجم عن خطأ منه، فذكر جولدسمث هذه الحادثة وعلَّق عليها بأن فريدريك في هذا الاعتراف أعظم منه في جميع انتصاراته العظيمة؛ لأن أصعب ما يقال هو هذه الكلمات الثلاث «إني قد أخطأت»، ولا يقوى على الإقرار بالخطأ إلا العظيم. على أن إصلاح الخطأ بالفعل أعظم وأشرف من الاقتصار على الاعتراف به، ثم السر كل السر في المقدرة على اكتشاف الخطأ واستجلاء مراميه؛ فكم من «عنيد لا يمضي» في خطاه إلا لأنه مقتنع بأنه صواب، وكم من قوي يعلم أنه مخطئ ولكنه مع ذلك يتفنن في تبرير الخطأ وفي إظهاره بمظهر الصواب.
… كونوا شجعانًا، ولا تكونوا متطرفين. هذه كلمة أرستطالية؛ فالشجاعة غير التطرف حتمًا، والتطرف هو الاندفاع بغير تبصُّرٍ أو على ضلال، أما الشجاعة فهي السير مرة في اعتدال ومرة في اندفاع، ولكنها تتمتع دائمًا بالحكم الرشيد والنظر الصائب، وهي أعلى صفات الرجولة.
… ولا تبالوا إذا غلبتم (برفع الميم طبعًا) في الامتحان، أو في أيِّ أمر آخَر، ما دمتم تقومون بالواجب عليكم. نصيحة مفيدة للجميع، وبخاصة للذين يرشحون نفوسهم للانتحار إذا هم رسبوا في الامتحان.
ويقول مراسل الأهرام الإسكندري الذي وصف الحفلة، والذي ننقل عنه هذه الفقرات: إن الحاضرين صفَّقوا بعد الخطاب تصفيقًا طويلًا حادًّا.
أما نحن الذين لا يخيم علينا روح الحفلة لنصفق، بل نقرأ الخطبة في جو هادئ بعيد، يمكننا أن ننعت هذه الخطبة بالأخلاقية، ونعطيها من هذا الوجه علامة «جيد جدًّا».
فهي مفيدة رغم كونها وجيزة، دبلوماتيكية رشيقة في الإشارة إلى بعض النقائص بالكلام عما يقابلها من الفضائل، لَبِقة بالدعاية إلى الإعجاب بالصفات الإنجليزية، وهذا يدخل في خصائص وظيفة المندوب السامي، خاصة على الاعتراف بالجميل للمعاهد العلمية، وحِفْظ الولاء للرفاق والزملاء، منادية بحرية الرأي، حاثَّة على الإنصاف بالصفات الأدبية التي تتلخص فيها فضائل الثقافة والحرية والشجاعة. وسواء أرادت في بعض ألفاظها أن تدل على اتجاه معين أم لم تُرِدْ، فإنها مفيدة لطلبة كلية فيكتوريا ولسائر الطلبة، ولئن تعذَّر تطبيق بعض ما تحويه من التعاليم تطبيقًا عمليًّا في حالة الشرق الراهنة المختلفة عن حالة إنجلترا، وفي كل حالة سياسية حادة، فهي مجموعة نصائح رشيدة، ومبادئ أخلاقية نبيلة.