خصائص ابن جني - الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل القديم، وصلى الله على صفوته محمد وآله المنتخبين. وعليه وعليهم السلام أجمعين. هذا - أطال الله بقاء مولانا السيد المنصور المؤيد بهاء الدولة وضياء الملة وغياث الأمة وأدام ملكه ونصره وسلطانه ومجده وتأييده وسموه وكبت شانئه وعدوه - كتاب لم أزل على فارط الحال وتقادم الوقت ملاحظاً له عاكف الفكر عليه منجذب الرأي والروية إليه واداً أن أجد مهملاً أصله به أو خللاً أرتقه بعمله والوقت يزداد بنواديه ضيقاً ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقاً. هذا مع إعظامي له وإعصامي بالأسباب المنتاطة به واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب وأذهبه في طريق القياس والنظر وأعوده عليه بالحيطة والصون وآخذه له من حصة التوقير والأون وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة: من خصائص الحكمة ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة فكانت مسافر وجوهه ومحاسر أذرعه وسوقه تصف لي ما اشتملت عليه مشاعره وتحي إلي بما خيطت عليه أقرابه وشواكله وتريني أن تعريد كل من الفريقين: البصريين والكوفيين عنه وتحاميهم طريق الإلمام به والخوض في أدنى أوشاله وخلجه فضلاً عن اقتحام غماره ولججه إنما كان لامتناع جانبه الفصل بين الكلام والقول هذا باب القول على الفصل بين الكلام والقول ولنقدم أمام القول على فرق بينهما طرفاً من ذكر أحوال تصاريفهما واشتقاقهما مع تقلب حروفهما فإن هذا موضع يتجاوز قدر الاشتقاق ويعلوه إلى ما فوقه. وستراه فتجده طريقاً غريباً ومسلكاً من هذه اللغة الشريفة عجيباً. فأقول: إن معنى " ق و ل " أين وجدت وكيف وقعت من تقدم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه إنما هو للخفوف والحركة. وجهات تراكيبها الست مستعملة كلها لم يهمل شيء منها. وهي: " ق و ل " " ق ل و " " و ق ل " " و ل ق " " ل ق و " " ل و ق ". الأصل الأول " ق و ل " وهو القول. وذلك أن الفم واللسان يخفان له ويقلقان ويمذلان به. وهو بضد السكوت الذي هو داعية إلى السكون ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذاً في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركاً ولما كان الانتهاء أخذاً في السكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكناً. الأصل الثاني " ق ل و " منه القلو: حمار الوحش وذلك لخفته وإسراعه قال العجاج: ومنه قولهم " قلوت البسر والسويق فهما مقلوان " وذلك لأن الشيء إذا قلى جف وخف وكان أسرع إلى الحركة وألطف ومنه قولهم " اقلوليت يا رجل " قال: قد عجبت مني ومن يعيليا لما رأتني خلقاً مقلوليا أي خفيفاً للكبر وطائشاً وقال: وسرب كعين الرمل عوج إلى الصبا رواعف بالجادي حور المدامع سمعن غناء بعد ما نمن نومة من الليل فاقلولين فوق المضاجع أي خففن لذكره وقلقن فزال عنهن نومهن واستثقالهن على الأرض. وبهذا يعلم أن لام اقلوليت واو لا ياء. فأما لام اذلوليت فمشكوك فيها. ومن هذا الأصل أيضاً قوله: أقب كمقلاء الوليد خميص فهو مفعال من قلوت بالقلة ومذكرها القال قال الزاجر: وأنا في الضراب قيلان القلة فكأن القال مقلوب قلوت وياء القيلان مقلوبة عن واو وهي لام قلوت ومثال الكلمة فلعان. ونحوها عندي في القلب قولهم " باز " ومثاله فلع واللام منه واو لقولهم في تكسيره: ثلاثة أبواز ومثالها أفلاع. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه: من قلب هذه الكلمة قولهم فيها " البازي " وقالوا في تكسيرها " بزاة " و " بواز " أنشدنا أبو علي لذي الرمة: كأن على أنيابها كل سدفة صياح البوازي من صريف اللوائك وقال جرير: إذا اجتمعوا علي فحل عنهم وعن باز يصك حباريات فهذا فاعل لاطراد الإمالة في ألفه وهي في فاعل أكثر منها في نحو مال وباب. وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين قال: قال أبو سعيد الحسن بن الحسين " باز " وثلاثة " أبواز " فإن كثرت فهي " البيزان " فهذا فلع وثلاثة أفلاع وهي الفلعان. ويدل على أن تركيب هذه الكلمة من " ب ز و " أن الفعل منها عليه تصرف وهو قولهم " بزا يبزو " إذا غلب وعلا ومنه البازي - وهو في الأصل اسم الفاعل ثم استعمل استعمال الأسماء كصاحب ووالد - وبزاة وبواز يؤكد ذلك وعليه بقية الباب من أبزى وبزواء وقوله: فتبازت فتبازخت لها والبزا لأن ذلك كله شدة ومقاولة فاعرفه. فمقلاء من قلوت وذلك أن القال - وهو المقلاء - هو العصا التي يضرب بها القلة وهي الثالث " و ق ل " منه الوقل للوعل وذلك لحركته وقالوا: توقل في الجبل: إذا صعد فيه وذلك لا يكون إلا مع الحركة والاعتمال. قال ابن مقبل: عوداً أحم القرا إزمولة وقلا يأتي تراث أبيه يتبع القذفا الرابع " و ل ق " قالوا: ولق يلق: إذا أسرع. قال: جاءت به عنس من الشام تلق أي تخف وتسرع. وقرىء " إذ تلقونه بألسنتكم " أي تخفون وتسرعون. وعلى هذا فقد يمكن أن يكون الأولق فوعلاً من هذا اللفظ وأن يكون أيضاً أفعل منه. فإذا كان أفعل فأمره ظاهر وإن سميت به لم تصرفه معرفة وإن كان فوعلاً فأصله وولق فلما التقت الواوان في أول الكلمة أبدلت الأولى همزة لاستثقالها أولاً كقولك في تحقير واصل: أويصل. ولو سميت بأولق على هذا لصرفته. والذي حملته الجماعة عليه أنه فوعل من تألق البرق إذا خفق وذلك لأن الخفوق مما يصحبه الانزعاج والاضطراب. على أن أبا إسحاق قد كان يجيز فيه أن يكون أفعل من ولق يلق. والوجه فيه ما عليه الكافة: من كونه فوعلاً من " أ ل ق " وهو قولهم " ألق الرجل فهو مألوق " ألا ترى إلى إنشاد أبي زيد فيه: وقد قالوا منه: ناقة مسعورة أي مجنونة وقيل في قول الله سبحانه " إن المجرمين في ضلال وسعر ": إن السعر هو الجنون وشاهد هذا القول قول القطامي: يتبعن سامية العينين تحسبها مسعورة أو ترى ما لا ترى الإبل الخامس " ل و ق " جاء في الحديث " لا آكل من الطعام إلا ما لوق لي " أي ما خدم وأعملت اليد في تحريكه وتلبيقه حتى يطمئن وتتضام جهاته. ومنه اللوقة للزبدة وذلك لخفتها وإسراع حركتها وأنها ليست لها مسكة الجبن وثقل المصل ونحوهما. وتوهم قوم أن الألوقة - لما كانت هي اللوقة في المعنى وتقاربت حروفهما - من لفظها وذلك باطل لأنه لو كانت من هذا اللفظ لوجب تصحيح عينها إذ كانت الزيادة في أولها من زيادة الفعل والمثال مثاله فكان يجب على هذا أن تكون ألوقة كما قالوا في أثوب وأسوق وأعين وأنيب بالصحة ليفرق بذلك بين الاسم والفعل وهذا واضح. وإنما الألوقة فعولة من تألق البرق إذا لمع وبرق واضطرب وذلك لبريق الزبدة واضطرابها. السادس " ل ق و " منه اللقوة للعقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها قال: كأني بفتخاء الجناحين لقوة دفوف من العقبان طأطأت شملال ومنه اللقوة في الوجه. والتقاؤهما أن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش منه وكانت لقوة لاقت قبيسا واللقوة: الناقة السريعة اللقاح وذلك أنها أسرعت إلى ماء الفحل فقبلته ولم تنب عنه نبو العاقر. فهذه الطرائق التي نحن فيها حزنة المذاهب والتورد لها وعر المسلك ولا يجب مع هذا أن تستنكر ولا تستبعد فقد كان أبو علي رحمه الله يراها ويأخذ بها ألا تراه غلب كون لام أثفية - فيمن جعلها أفعولة - واواً على كونها باء - وإن كانوا قد قالوا " جاء يثفوه ويثفيه " - بقولهم " جاء يثفه " قال: فيثفه لا يكون إلا من الواو ولم يحفل بالحرف الشاذ من هذا وهو قولهم " يئس " مثل يعس لقلته. فلما وجد فاء وثف واواً قوي عنده في أثفية كون لامها واواً فتأنس للام بموضع الفاء على بعد بينهما. وشاهدته غير مرة إذا أشكل عليه الحرف: الفاء أو العين أو اللام استعان على علمه ومعرفته بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه. فهذا أغرب مأخذاً مما تقتضيه صناعة الاشتقاق لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرج واحد من تتالي الحروف من غير تقليب لها ولا تحريف. وقد كان الناس: أبو بكر رحمه الله وغيره من تلك الطبقة استسرفوا أبا إسحاق رحمه الله فيما تجشمه من قوة حشده وضمه شعاع ما انتشر من المثل المتباينة إلى أصله. فأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه موضع صاحبه فشيء لم يعرض له ولا تضمن عهدته. وقد قال أبو بكر: " من عرف أنس ومن جهل استوحش " وإذا قام الشاهد والدليل وضح المنهج والسبيل. وبعد فقد ترى ما قدمنا في هذا أنفاً وفيه كاف من غيره على أن هذا وإن لم يطرد وينقد في كل أصل فالعذر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد من غير تقليب لشيء من حروفه فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه ولامه أسهل والمعذرة فيه أوضح. وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته وتركت الضجر وتحاميته لم تكد تعدم قرب بعض من بعض وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله. وأما " ك ل م " فهذه أيضاً حالها وذلك أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على القوة والشدة. والمستعمل منها أصول خمسة وهي: " ك ل م " " ك م ل " " ل ك م " " م ك ل " " م ل ك " وأهملت منه " ل م ك " فلم تأت في ثبت. فمن ذلك الأصل الأول " ك ل م " منه الكلم للجرح. وذلك للشدة التي فيه وقالوا في قول الله سبحانه: " دابة من الأرض تكلمهم " قولين: أحدهما من الكَلام والآخر من الكِلام أي تجرحهم وتأكلهم وقالوا: الكُلام: ما غلظ من الأرض وذلك لشدته وقوته وقالوا: رجل كليم أي مجروح وجريح قال: عليها الشيخ كالأسد الكليم ويجوز الكليم بالجر والرفع فالرفع على قولك: عليها الشيخ الكليم كالأسد والجر على قولك: عليها الشيخ كالأسد الكليم إذا جرح فحمي أنَفاً وغضب فلا يقوم له شيء كما قال: كأن محرباً من أسد ترج ينازلهم لنابيه قبيب ومنه الكلام وذلك أنه سبب لكل شر وشدة في أكثر الأمر ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كفي مئونة لقلقه وقبقبه وذبذبه دخل الجنة ) فاللقلق: اللسان والقبقب: البطن والذبذب: الفرج. ومنه قول أبي بكر - رضي الله عنه - في لسانه: " هذا أوردني الموارد ". وقال: وجرح اللسان كجرح اليد وقال طرفة: فإن القوافي يتلجن موالجا تضايق عنها أن تولجها الإبر حتى اتقوني وهم مني على حذر والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر وجاء به الطائي الصغير فقال: عتاب بأطراف القوافي كأنه طعان بأطراف القنا المتكسر وهو باب واسع. فلما كان الكلام أكثره إلى الشر اشتق له من هذا الموضع. فهذا أصل. الثاني " ك م ل " من ذلك كمَل الشيء وكمُل وكمِل فهو كامل وكميل. وعليه بقية تصرفه. والتقاؤهما أن الشيء إذا تم وكمل كان حينئذ أقوى وأشد منه إذا كان ناقصاً غير كامل. الثالث " ل ك م " منه اللكم إذا وجأت الرجل ونحوه ولا شك في شدة ما هذه سبيله أنشد الأصمعي: كأن صوت جرعها تساجل هاتيك هاتا حتنى تكايل لدم العجى تلكمها الجنادل وقال: وخفان لكامان للقلع الكبد الرابع " م ك ل " منه بئر مكول إذا قل ماؤها قال القطامي: والتقاؤهما أن البئر موضوعة الأمر على جمتها بالماء فإذا قل ماؤها كره موردها وجفا جانبها. وتلك شدة ظاهرة. الخامس " م ل ك " من ذلك ملكت العجين إذا أنعمت عجنه فاشتد وقوي. ومنه ملك الإنسان ألا تراهم يقولون: قد اشتملت عليه يدي وذلك قوة وقدرة من المالك على ملكه ومنه الملك لما يعطى صاحبه من القوة والغلبة وأملكت الجارية لأن يد بعلها تقتدر عليها. فكذلك بقية الباب كله. فهذه أحكام هذين الأصلين على تصرفهما وتقلب حروفهما. فهذا أمر قدمناه أمام القول على الفرق بين الكلام والقول ليرى منه غور هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة ويعجب من وسيع مذاهبها وبديع ما أمد به واضعها ومبتدئها. وهذا أوان القول على الفصل. أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه. وهو الذي يسميه النحويين الجمل نحو زيد أخوك وقام محمد وضرب سعيد وفي الدار أبوك وصه ومه ورويد وحاء وعاء في الأصوات وحس ولب وأف وأوه فكل لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام. وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان تاماً كان أو ناقصاً. فالتام هو المفيد أعني الجملة وما كان في معناها من نحو صهٍ وإيهٍ. والناقص ما كان بضد ذلك نحو زيد ومحمد وإن وكان أخوك إذا كانت الزمانية لا الحدثية. فكل كلام قول وليس كل قول كلاماً. هذا أصله. ثم يتسع فيه فيوضع القول على الاعتقادات والآراء وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة ويذهب إلى قول مالك ونحو ذلك أي يعتقد ما كانا يريانه ويقولان به لا أنه يحكي لفظهما عينه من غير تغيير لشيء من حروفه ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عن علة رفع زيد من نحو قولنا: زيد قام أخوه فقال لك: ارتفع بالابتداء لقلت: هذا قول البصريين. ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره لقلت: هذا قول الكوفيين أي هذا رأي هؤلاء وهذا اعتقاد هؤلاء. ولا تقول: كلام البصريين ولا كلام الكوفيين إلا أن تضع الكلام موضع القول متجوزاً بذلك. وكذلك لو قلت: ارتفع لأن عليه عائداً من بعده أو ارتفع لأن عائداً عاد عليه أو لعود ما عاد من ذكره أو لأن ذكره أعيد عليه أو لأن ذكراً له عاد من بعده أو نحو ذلك لقلت في جميعه: هذا قول الكوفيين ولم تحفل باختلاف ألفاظه لأنك إنما تريد اعتقادهم لا نفس حروفهم. وكذلك يقول القائل: لأبي الحسن في هذه المسئلة قول حسن أو قول قبيح وهو كذا غير أني لا أضبط كلامه بعينه. ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله ولا يقال: القرآن قول الله وذلك أن هذا موضع ضيق متحجر لا يمكن تحريفه ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه. فعبر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتاً تامة مفيدة وعدل به عن القول الذي قد يكون أصواتاً غير مفيدة وآراء معتقدة. قال سيبويه: " واعلم أن " قلت " في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً ". ففرق بين الكلام والقول كما ترى. نعم وأخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقر في النفوس وزالت عنه عوارض الشكوك. ثم قال في التمثيل: " نحو قلت زيد منطلق ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد منطلق " فتمثيله بهذا يعلم منه أن الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائماً برأسه مستقلاً بمعناه وأن القول عنده بخلاف ذلك إذ لو كانت حال القول عنده حال الكلام لما قدم الفصل بينهما ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلة بأنفسها الغانية عن غيرها وأن القول لا يستحق هذه الصفة من حيث كانت الكلمة الواحدة قولاً وإن لم تكن كلاماً ومن حيث كان الاعتقاد والرأي قولاً وإن لم يكن كلاماً. فعلى هذا يكون قولنا قام زيد كلاماً فإن قلت شارطاً: إن قام زيد فزدت عليه " إن " رجع بالزيادة إلى النقصان فصار قولاً لا كلاماً ألا تراه ناقصاً ومنتظراً للتمام بجواب الشرط. وكذلك لو قلت في حكاية القسم: حلفت بالله أي كان قسمي هذا لكان كلاماً لكونه مستقلاً ولو أردت به صريح القسم لكان قولاً من حيث كان ناقصاً لاحتياجه إلى جوابه. فهذا ونحوه من البيان ما تراه. فأما تجوزهم في تسميتهم الاعتقادات والآراء قولاً فلأن الاعتقاد يخفى فلا يعرف إلا بالقول أو بما يقوم مقام القول: من شاهد الحال فلما كانت لا تظهر إلا بالقول سميت قولاً إذ كانت سبباً له وكان القول دليلاً عليها كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان ملابساً له. ومثله في الملابسة قول الله سبحانه " ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت " ومعناه - والله أعلم - أسباب الموت إذ لو جاءه الموت نفسه لمات به لا محالة. ومنه تسمية المزادة الراوية والنجو نفسه الغائط وهو كثير. فإن قيل: فكيف عبروا عن الاعتقادات والآراء بالقول ولم يعبروا عنها بالكلام ولو سووا بينهما أو قلبوا الاستعمال كان ماذا فالجواب أنهم إنما فعلوا ذلك من حيث كان القول بالاعتقاد أشبه منه بالكلام وذلك أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره وهو العبارة عنه كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره ألا ترى أنك إذا قلت: قام وأخليته من ضمير فإنه لا يتم معناه الذي وضع الكلام عليه وله لأنه إنما وضع على أن يفاد معناه مقترناً بما يسند إليه من الفاعل وقام هذه نفسها قول وهي ناقصة محتاجة إلى الفاعل كاحتياج الاعتقاد إلى العبارة عنه. فلما اشتبها من هنا عبر عن أحدهما بصاحبه. وليس كذلك الكلام لأنه وضع على الاستقلال والاستغناء عما سواه. والقول قد يكون من الفقر إلى غيره على ما قدمناه فكان إلى الاعتقاد المحتاج إلى البيان أقرب وبأن يعبر به عنه أليق. فاعرف ذلك. فإن قيل: ولم وضع الكلام على ما كان مستقلاً بنفسه البتة والقول على ما قد يستقل بنفسه وقد يحتاج إلى غيره ألاشتقاق قضى بذلك أم لغيره من سماع متلقى بالقبول والاتباع قيل: لا بل لاشتقاق قضى بذلك دون مجرد السماع. وذلك أنا قد قدمنا في أول القول من هذا الفصل أن الكلام إنما هو من الكَلم والكَلام والكُلوم وهي الجراح لما يدعو إليه ولما يجنيه في أكثر الأمر على المتكلمة وأنشدنا في ذلك قوله: وجرح اللسان كجرح اليد ومنه قوله: قوارص تأتيني ويحتقرونها وقد يملأ القطر الإناء فيفعم ونحو ذلك من الأبيات التي جئنا بها هناك وغيرها مما يطول به الكتاب وإنما ينقم من القول ويحقر ما ينثى ويؤثر وذلك ما كان منه تاماً غير ناقص ومفهوماً غير مستبهم وهذه صورة الجمل وهو ما كان من الألفاظ قائماً برأسه غير محتاج إلى متمم له فلهذا سموا ما كان من الألفاظ تاماً مفيداً كلاماً لأنه في غالب الأمر وأكثر الحال مضر بصاحبه وكالجارح له. فهو إذاً من الكلوم التي هي الجروح. وأما القول فليس في أصل اشتقاقه ما هذه سبيله ألا ترى أنا قد عقدنا تصرف " ق و ل " وما كان أيضاً من تقاليبها الستة فأرينا أن جميعها إنما هو للإسراع والخفة فلذلك سموا كل ما مذل به اللسان من الأصوات قولاً ناقصاً كان ذلك أو تاماً. وهذا واضح مع أدنى تأمل. واعلم أنه قد يوقع كل واحد من الكلام والقول موقع صاحبه وإن كان أصلهما قبل ما ذكرته ألا ترى إلى رؤبة كيف قال: لو أنني أوتيت علم الحكل علم سليمان كلام النمل يريد قول الله عز وجل " قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم " وعلى هذا اتسع فيهما جميعاً اتساعاً واحداً فقال أبو النجم: قالت له الطير تقدم راشداً إنك لا ترجع إلا حامداً وقال الآخر: وقالت له العينان: سمعاً وطاعة وأبدت كمثل الدر لما يثقب امتلأ الحوض وقال: قطني وقال الآخر: بينما نحن مرتعون بفلج قالت الدلح الرواء: إنيه إنيه: صوت رزمة السحاب وحنين الرعد وأنشدوا: قد قالت الأنساع للبطن الحق فهذا كله اتساع في القول. ومما جاء منه في الكلام قول الآخر: فصبحت والطير لم تكلم جابية طمت بسيل مفعم وكأن الأصل في هذا الاتساع إنما هو محمول على القول ألا ترى إلى قلة الكلام هنا وكثرة القول وسبب ذلك وعلته عندي ما قدمناه من سعة مذاهب القول وضيق مذاهب الكلام. وإذا جاز أن نسمي الرأي والاعتقاد قولاً وإن لم يكن صوتاً كانت تسمية ما هو أصوات قولاً أجدر بالجواز. ألا ترى أن الطير لها هدير والحوض له غطيط والأنساع لها أطيط والسحاب له دوي. فأما قوله: وقالت له العينان سمعاً وطاعة فإنه وإن لم يكن منهما صوت فإن الحال آذنت بأن لو كان لهما جارحة نطق لقالتا: سمعاً وطاعة. وقد حرر هذا الموضع وأوضحه لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان - لو علم الكلام - مكلمي وامتثله شاعرنا آخراً فقال: فلو قدر السنان على لسان لقال لك السنان كما أقول وقال أيضاً: لو تعقل الشجر التي قابلتها مدت محيية إليك الأغصنا ولا تستنكر ذكر هذا الرجل - وإن كان مولداً - في أثناء ما نحن عليه من هذا الموضع وغموضه ولطف متسربه فإن المعاني يتناهبها المولدون كما يتناهبها المتقدمون. وقد كان أبو العباس - وهو الكثير التعقب لجلة الناس - احتج بشيء من شعر حبيب بن أوس الطائي في كتابه في الاشتقاق لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه فأنشد فيه له: لو رأينا التوكيد خطة عجز ما شفعنا الأذان بالتثويب وإياك والحنبلية بحتاً فإنها خلق ذميم ومطعم على علاته وخيم. وقال سيبويه: " هذا باب علم ما الكلم من العربية " فاختار الكلم على الكلام وذلك أن الكلام اسم من كلم بمنزلة السلام من سلم وهما بمعنى التكليم والتسليم وهما المصدران الجاريان على كلم وسلم قال الله سبحانه {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقال - عز اسمه -: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فلما كان الكلام مصدراً يصلح لما يصلح له الجنس ولا يختص بالعدد دون غيره عدل عنه إلى الكلم الذي هو جمع كلمة بمنزلة سلمة وسلم ونبقة ونبق وثفنة وثفن. وذلك أنه أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة وهي الاسم والفعل والحرف فجاء بما يخص الجمع وهو الكلم وترك ما لا يخص الجمع وهو الكلام فكان ذلك أليق بمعناه وأوفق لمراده. فأما قول مزاحم العقيلي: لظل رهيناً خاشع الطرف حطه تخلب جدوى والكلام الطرائف فوصفه بالجمع فإنما ذلك وصف على المعنى كما حكى أبو الحسن عنهم من قولهم: " ذهب به الدينار الحمر والدرهم البيض " وكما قال: تراها الضبع أعظمهن رأسا فأعاد الضمير على معنى الجنسية لا على لفظ الواحد لما كانت الضبع هنا جنساً. وبنو تميم يقولون: كِلمة وكِلَم ككِسرة وكِسَر. فإن قلت: قدمت في أول كلامك أن الكلام واقع على الجمل دون الآحاد وأعطيت ههنا أنه اسم الجنس لأن المصدر كذلك حاله والمصدر يتناول الجنس وآحاده تناولاً واحداً. فقد أراك انصرفت عما عقدته على نفسك: من كون الكلام مختصاً بالجمل المركبة وأنه لا يقع على الآحاد المجردة وأن ذلك إنما هو القول لأنه فيما زعمت يصلح للآحاد والمفردات وللجمل المركبات. قيل: ما قدمناه صحيح وهذا الاعتراض ساقط عنه وذلك أنا نقول: لا محالة أن الكلام مختص بالجمل ونقول مع هذا: إنه جنس أي جنس للجمل كما أن الإنسان من قول الله سبحانه {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} جنس للناس فكذلك الكلام جنس للجمل فإذا قال: قام محمد فهو كلام وإذا قال: قام محمد وأخوك جعفر فهو أيضاً كلام كما كان لما وقع على الجملة الواحدة كلاماً وإذا قال: قام محمد وأخوك جعفر وفي الدار سعيد فهو أيضاً كلام كما كان لما وقع على الجملتين كلاماً. وهذا طريق المصدر لما كان جنساً لفعله ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوام: مفردها ومثناها ومجموعها كما أن القيام جنس للقومات: مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام الجملة الواحدة من الكلام. وهذا جلي. ومما يؤنسك بأن الكلام إنما هو للجمل التوام دون الآحاد أن العرب لما أرادت الواحد من ذلك خصته باسم له لا يقع إلا على الواحد وهو قولهم: " كلِمة " وهي حجازية و " كِلمة " وهي تميمية. ويزيدك في بيان ذلك قول كثير: ومعلوم أن الكلمة الواحدة لا تشجو ولا تحزن ولا تتملك قلب السامع إنما ذلك فيما طال من الكلام وأمتع سامعيه بعذوبة مستمعه ورقة حواشيه وقد قال سيبويه: " هذا باب أقل ما يكون عليه الكلم " فذكر هنالك حرف العطف وفاءه وهمزة الاستفهام ولام الابتداء وغير ذلك مما هو على حرف واحد وسمى كل واحد من ذلك كلمة. فليت شعري: كيف يستعذب قول القائل وإنما نطق بحرف واحد! لا بل كيف يمكنه أن يجرد للنطق حرفاً واحداً ألا تراه أن لو كان ساكناً لزمه أن يدخل عليه مكن أوله همزة الوصل ليجد سبيلاً إلى النطق به نحو " اِب اِص اِق " وكذلك إن كان متحركاً فأراد الابتداء به والوقوف عليه قال في النطق بالباء من بكر: بَه وفي الصاد من صلة: صِه وفي القاف من قدرة: قُه فقد علمت بذلك أن لاسبيل إلى النطق بالحرف الواحد مجرداً من غيره ساكناً كان أو متحركاً. فالكلام إذاً من بيت كثير إنما يعني به المفيد من هذه الألفاظ القائم برأسه المتجاوز لما لا يفيد ولا يقوم برأسه من جنسه ألا ترى إلى قول الآخر: ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح فقوله بأطراف الأحاديث يعلم منه أنه لا يكون إلا جملاً كثيرة فضلاً عن الجملة الواحدة فإن كأن لها في الأرض نسياً نقصه على أمها وإن تخاطبك تبلت أي تقطع كلامها ولا تكثره كما قال ذو الرمة: لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر فقوله: رخيم الحواشي: أي مختصر الأطراف وهذا ضد الهذر والإكثار وذاهب في التخفيف والإختصار قيل: فقد قال أيضاً: ولا نزر وأيضاً فلسنا ندفع أن الخفر يقل معه الكلام ويحذف فيه أحناء المقال إلا أنه على حال لا يكون ما يجري منه وإن قل ونزر أقل من الجمل التي هي قواعد الحديث الذي يشوق موقعه ويروق مستمعه. وقد أكثرت الشعراء في هذا الموضع حتى صار الدال عليه كالدال على المشاهد غير المشكوك فيه ألا ترى إلى قوله: وحديثها كالغيث يسمعه راعي سنين تتابعت جدبا! فأصاخ يرجو أن يكون حياً ويقول من فرح: هيا ربا! - يعني حنين السحاب وسجره وهذا لا يكون عن نبرة واحدة ولا رزمة مختلسة إنما يكون مع البدء فيه والرجع وتثنى الحنين على صفحات السمع - وقول ابن الرومي: وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز فذكر أنها تطيل تارة وتوجز أخرى والإطالة والإيجاز جميعاً إنما هما في كل كلام مفيد مستقل بنفسه ولو بلغ بها الإيجاز غايته لم يكن له بد من أن يعطيك تمامه وفائدته مع أنه لا بد فيه من تركيب الجملة فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب ألا ترى إلى قوله: قنا لها قفي لنا قالت قاف وأن هذا القدر من النطق لا يعذب ولا يجفو ولا يرق ولا ينبو وأنه إنما يكون استحسان القول واستقباحه فيما يحتمل ذينك ويؤديهما إلى السمع وهو أقل ما يكون جملة مركبة. وكذلك قول الآخر - فيما حكاه سيبويه -: " ألا تا " فيقول مجيبه: " بلى فا ". فهذا ونحوه مما يقل لفظه فلا يحمل حسناً ولا قبحاً ولا طيباً. ولا خبثاً. لكن قول الآخر " مالك بن أسماء ": أذكر من جارتي ومجلسها طرائفاً من حديثها الحسن ومن حديث يزيدني مقة ما لحديث الموموق من ثمن أدل شيء على أن هناك إطالة وتماماً وإن كان بغير حشو ولا خطل ألا ترى إلى قوله: " طرائفاً من حديثها الحسن " فذا لا يكون مع الحرف الواحد ولا الكلمة الواحدة بل لا يكون مع الجملة الواحدة دون أن يتردد الكلام وتتكرر فيه الجمل فيبين ما ضمنه من العذوبة وما في أعطافه وحوراء المدامع من معد كأن حديثها ثمر الجنان ومعلوم أن من حرف واحد بل كلمة واحدة بل جملة واحدة لا يجنى ثمر جنة واحدة فضلاً عن جنان كثيرة. وأيضاً فكما أن المرأة قد توصف بالحياء والخفر فكذلك أيضاً قد توصف بتغزلها ودماثة حديثها ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ} وأن العروب في التفسير هي المتحببة إلى زوجها المظهرة له ذلك بذلك فسره أبو عبيدة. وهذا لا يكون مع الصمت وحذف أطراف القول بل إنما يكون مع الفكاهة والمداعبة وعليه بيت الشماخ: ولو أني أشاء كننت جسمي إلى بيضاء بهكنة شموع قيل فيه: الشماعة هي المزح والمداعبة. وهذا باب طويل جداً وإنما أفضى بنا إليه ذرو من القول أحببنا استيفاءه تأنساً به وليكون هذا الكتاب ذاهباً في جهات النظر إذ ليس غرضنا فيه الرفع والنصب والجر والجزم لأن هذا أمر قد فرغ في أكثر الكتب المصنفة فيه منه. وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني وتقرير حال الأوضاع والمبادي وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي. فقد ثبت بما شرحناه وأوضحناه أن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برءوسها المستغنية عن غيرها وهي التي يسميها أهل هذه الصناعة الجمل على اختلاف تركيبها. وثبت أن القول عندها أوسع من الكلام تصرفاً وأنه قد يقع على الجزء الواحد وعلى الجملة وعلى ما هو اعتقاد ورأي لا لفظ وجرس. وقد علمت بذلك تعسف المتكلمين في هذا الموضع وضيق القول فيه عليهم حتى لم يكادوا يفصلون بينهما. والعجب ذهابهم عن نص سيبويه فيه وفصله بين الكلام والقول. ولكل قوم سنة وإمامها اللغة وما هي باب القول على اللغة وما هي أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. هذا حدها. وأما اختلافها فلما سنذكره في باب القول عليها: أمواضعة هي أم إلهام. وأما تصريفها ومعرفة حروفها فإنها فعلة من لغوت. أي تكلمت وأصلها لغوة ككرة وقلة وثبة كلها لاماتها واوات لقولهم. كروت بالكرة وقلوت بالقلة ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب. وقد دللت على ذلك وغيره من نحوه في كتابي في " سر الصناعة ". وقالوا فيها: لغات ولغون ككرات وكرون وقيل منها لغى يلغى إذا هذى ومصدره اللغا قال: ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم وكذلك اللغو قال الله سبحانه وتعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي بالباطل وفي الحديث: (من قال في الجمعة: صه فقد لغا) أي تكلم. وفي هذا كاف. النحو باب القول على النحو هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم وإن شد بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع أي نحوت نحواً كقولك: قصدت قصداً ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت الشيء أي عرفته ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم وكما أن بيت الله خص به الكعبة وإن كانت البيوت كلها لله. وله نظائر في قصر ما كان شائعاً في جنسه على أحد أنواعه. وقد استعملته العرب ظرفاً وأصله المصدر. أنشد أبو الحسن: ترمي الأماعيز بمجمرات بأرجل روح مجنبات يحدو بها كل فتى هيهات وهن نحو البيت عامدات الإعراب باب القول على الإعراب هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه وشكر سعيداً أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول ولو كان الكلام شرجاً واحداً لاستبهم أحدهما من صاحبه. فإن قلت: فقد تقول ضرب يحيى بشرى فلا تجد هناك إعراباً فاصلاً وكذلك نحوه قيل: إذا اتفق ما هذه سبيله مما يخفى في اللفظ حاله ألزم الكلام من تقديم الفاعل وتأخير المفعول ما يقوم مقام بيان الإعراب. فإن كانت هناك دلالة أخرى من قبل المعنى وقع التصرف فيه بالتقديم والتأخير نحو أكل يحيى كمثرى: لك أن تقدم وأن تؤخر كيف شئت وكذلك ضربت هذا هذه وكلم هذه هذا وكذلك إن وضح الغرض بالتثينة أو الجمع جاز لك التصرف نحو قولك أكرم اليحييان البشريين وضرب البشريين اليحيون وكذلك لو أومأت إلى رجل وفرس فقلت: كلم هذا هذا فلم يجبه لجعلت الفاعل والمفعول أيهما شئت لأن في الحال بياناً لما تعني. وكذلك قولك ولدت هذه هذه من حيث كانت حال الأم من البنت معروفة غير منكورة. وكذلك إن ألحقت الكلام ضرباً من الإتباع جاز لك التصرف لما تعقب من البيان نحو ضرب يحيى نفسه بشرى أو كلم بشرى العاقل معلى أو كلم هذا وزيداً يحيى. ومن أجاز قام وزيد عمرو لم يجز ذلك في نحو " كلم هذا وزيد يحيى " وهو يريد كلم هذا يحيى وزيد كما يجيز " ضرب زيداً وعمرو جعفر ". فهذا طرف من القول أدى إليه ذكر الإعراب. وأما لفظه فإنه مصدر أعربت عن الشيء إذا أوضحت عنه وفلان معرب عما في نفسه أي مبين له وموضح عنه ومنه عربت الفرس تعريباً إذا بزغته وذلك أن تنسف أسفل حافره ومعناه أنه قد بان بذلك ما كان خفياً من أمره لظهوره إلى مرآة العين بعد ما كان مستوراً وبذلك تعرف حاله: أصلب هو أم رخو و أصحيح هو أم سقيم وغير ذلك. وأصل هذا كله قولهم " العرب " وذلك لما يعزى إليها من الفصاحة والإعراب والبيان. ومنه قوله في الحديث " الثيب تعرب عن نفسها " والمعرب: صاحب الخيل العراب وعليه قول الشاعر: يصهل في مثل جوف الطوى صهيلاً يبين للمعرب أي إذا سمع صاحب الخيل العراب صوته علم أنه عربي. ومنه عندي عروبة والعروبة للجمعة وذلك أن يوم الجمعة أظهر أمراً من بقية أيام الأسبوع لما فيه من التأهب لها والتوجه إليها وقوة بوائم رهطاً للعروبة صيماً ولما كانت معاني المسمين مختلفة كان الإعراب الدال عليها مختلفاً أيضاً وكأنه من قولهم: عربت معدته أي فسدت كأنها استحالت من حال إلى حال كاستحالة الإعراب من صورة إلى صورة. وفي هذا كاف بإذن الله. البناء باب القول على البناء وهو لزوم آخر الكلمة ضرباً واحداً: من السكون أو الحركة لا لشيء أحدث ذلك من العوامل. وكأنهم إنما سموه بناء لأنه لما لزم ضرباً واحداً فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناء من حيث كان البناء لازماً موضعه لا يزول من مكان إلى غيره وليس كذلك سائر الآلآت المنقولة المبتذلة كالخيمة والمظلة والفسطاط والسرادق ونحو ذلك. وعلى أنه قد أوقع على هذا الضرب من المستعملات المزالة من مكان إلى مكان لفظ البناء تشبيهاً لذلك - من حيث كان مسكوناً وحاجزاً ومظلاً - بالبناء من الآجر والطين والجص ألا ترى إلى قول أبي مارد الشيباني: لو وصل الغيث أبنين امرأ كانت له قبة سحق بجاد أي لو اتصل الغيث لأكلأت الأرض وأعشبت فركب الناس خيلهم للغارات فأبدلت الخيل الغني الذي كان له قبة من قبته سحق بجاد فبناه بيتاً له بعد ما كان يبني لنفسه قبة. فنسب ذلك البناء إلى الخيل لما كانت هي الحاملة للغزاة الذين أغاروا على الملوك فأبدلوهم من قبابهم ونظير معنى هذا البيت ما أخبرنا به أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى من قول الشاعر: قد كنت تأمنني والجدب دونكم فكيف أنت إذا رقش الجراد نزا ومثله أيضاً ما رويناه عنه عنه أيضاً من قول الآخر: قوم إذا اخضرت نعالهم يتناهقون تناهق الحمر قالوا في تفسيره: إن النعال جمع نعل وهي الحرة أي إذا اخضرت الأرض بطروا وأشروا فنزا بعضهم على بعض. وبنحو من هذا فسر أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال ) أي إذا ابتلت الحرار. ومن هذا اللفظ والمعنى ما حكاه أبو زيد من قولهم: " المعزى تبهى ولا تبنى ". ف " تبهى " تفعل من البهو أي تتقافز على البيوت من الصوف فتخرقها فتتسع الفواصل من الشعر فيتباعد ما بينها حتى يكون في سعة البهو. " ولا تبنى " أي لا ثلة لها وهي الصوف فهي لا يجز منها الصوف ثم ينسجونه ثم يبنون منه بيتاً. هكذا فسره أبو زيد. قال: ويقال أبنيت الرجل بيتاً إذا أعطيته ما يبني منه بيتاً. ومن هذا قولهم: قد بنى فلان بأهله وذلك أن الرجل كان إذا أراد الدخول بأهله بنى بيتاً من أدم أو قبة أو نحو ذلك من غير الحجر والمدر ثم دخل بها فيه فقيل لكل داخل بأهله: هو بان بأهله وقد بنى بأهله. وابتنى بالمرأة هو افتعل من هذا اللفظ وأصل المعنى منه. فهذا كله على التشبيه لبيوت الأعراب ببيوت ذوي الأمصار. ونحو من هذه الاستعارة في هذه الصناعة استعارتهم ذلك في الشرف والمجد قال لبيد: فبنى لنا بيتاً رفيعاً سمكه فسما إليه كهلها وغلامها وقال غيره: بنى البناة لنا مجداً ومأثرة لا كالبناء من الآجر والطين وقال الآخر: لسنا وإن كرمت أوائلنا يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا ومن الضرب الأول قول المولد: وبيت قد بنينا فا رد كالكوكب الفرد بنيناه على أعم دة من قضب الذهب وهذا واسع غير أن الأصل فيه ما قدمناه.
باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح
هذا موضع محوج إلى فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظرعلى أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف. إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يوماً: هي من عند الله واحتج بقوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} وهذا لا يتناول موضع الخلاف. وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة. فإذا كان ذلك محتملاً غير مستنكر سقط الاستدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضاً قال به في بعض كلامه. وهذا أيضاً رأي أبي الحسن على أنه لم يمنع قول من قال: إنها تواضع منه. على أنه قد فسر هذا بأن قيل: إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعبرية والرومية وغير ذلك من سائر اللغات فكان آدم وولده يتكلمون بها ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهدهم بها. وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده والانطواء على القول به. فإن قيل: فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكلم المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها: مما ليس بأسماء فكيف خص الأسماء وحدها قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها. وهذا كقول المخزومي: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد أي فإذا كان الله يعلمه فلا أبالي بغيره سبحانه أذكرته واستشهدته أم لم أذكره ولم أستشهده. ولا يريد بذلك أن هذا أمر خفي فلا يعلمه إلا الله وحده بل إنما يحيل فيه على أمر واضح وحال مشهورة حينئذ متعالمة. وكذلك قول الآخر: الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى أحبابنا صور وليس بمدع أن هذا باب مستور ولا حديث غير مشهور حتى إنه لا يعرفه أحد إلا الله وحده وإنما العادة في أمثاله عموم معرفة الناس به لفشوه فيهم وكثرة جريانه على ألسنتهم. فإن قيل: فقد جاء عنهم في كتمان الحب وطيه وستره والبجح بذلك والادعاء له ما لا خفاء قيل: هذا وإن جاء عنهم فإن إظهاره أنسب عندهم وأعذب على مستمعهم ألا ترى أن فيه إيذاناً من صاحبه بعجزه عنه وعن ستر مثله ولو أمكنه إخفاؤه والتحامل به لكان مطيقاً له مقتدراً عليه وليس في هذا من التغزل ما في الاعتراف بالبعل به وخور الطبيعة عن الاستقلال بمثله ألا ترى إلى قول عمر بن أبي ربيعة: فقلت لها: ما بي من ترقب ولكن سري ليس يحمله مثلي وكذلك قول الأعشى: وهل تطيق وداعاً أيها الرجل وكذلك قول الآخر: ودعته بدموعي يوم فارقني ولم أطق جزعاً للبين مد يدي وأمر في هذا أظهر وشواهده أسير وأكثر. ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحياً. وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظاً إذا ذكر عرف به ما مسماه ليمتاز من غيره وليغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله. بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني وحال اجتماع الضدين على المحل الواحد كيف يكون ذلك لو جاز وغير هذا مما هو جار في الاستحالة والبعد مجراه فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم فأومئوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان فأي وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد عين رأس قدم أو نحو ذلك. فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيها وهلم جرا فيما سوى هذا من الأسماء والأفعال والحروف. ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه مرد والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سر وعلى هذا بقية الكلام. وكذلك لو بدئت اللغة الفارسية فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولد منها لغات كثيرة: من الرومية والزنجية وغيرهما. وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء: كالنجار والصائغ والحائك والبناء وكذلك الملاح. قالوا: ولكن لا بد لأولها من أن يكون متواضعاً بالمشاهدة والإيماء. قالوا: والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحداً من عباده على شيء إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه والمشار نحوه والقديم سبحانه لا جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه فبطل عنهم أن تصح المواضعة على اللغة منه تقست أسماؤه قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا والذي كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا وجواز هذا منه - سبحانه - كجوازه من عباده. ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال في حروف المعجم كالصورة التي توضع للمعميات والتراجم وعلى ذلك أيضاً اختلفت أقلام ذوي اللغات كما اختلفت أنفس الأصوات المرتبة على مذاهبهم في المواضعات. وهذا قول من الظهور على ما تراه. إلا أنني سألت يوماً بعض أهله فقلت: ما تنكر أن تصح المواضعة من الله تعالى وإن لم يكن ذا جارحة بأن يحدث في جسم من الأجسام خشبة أو غيرها إقبالاً على شخص من الأشخاص وتحريكاً لها نحوه ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتاً يضعه اسماً له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات مع أنه - عز اسمه - قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرة الواحدة فتقوم الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة وكما أن الإنسان أيضاً قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلاً فأحكيه عنه وهو عندي وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة غير ناقلة لساناً إلى لسان. فاعرف ذلك. وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل. واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول على فكري. وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه. ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه. وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل فقوى في نفسي اعتقاد كونها توفيقاً من الله سبحانه وأنها وحي. ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا وتنبهوا وتنبهنا على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا - وإن بعد مداه عنا - من كان ألطف منا أذهاناً وأسرع خواطر وأجرأ جناناً. فأقف بين تين الخلتين حسيراً وأكاثرهما فأنكفيء مكثوراً. وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به وبالله التوفيق. باب ذكر علل العربية أكلامية هي أم فقهية اعلم أن علل النحويين - وأعني بذلك حذاقهم المتقنين لا ألفافهم المستضعفين - أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين. وذلك أنهم إنما يحيلون على الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام ووجوه الحكمة فيها خفية عنا غير بادية الصفحة لنا ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج وفرائض الطهور والصلاة والطلاق وغير ذلك إنما يرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمساً دون غيرها من العدد ولا يعلم أيضاً حال الحكمة والمصلحة في عدد الركعات ولا في اختلاف ما فيها من التسبيح والتلاوات إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا تحلى النفس بمعرفة السبب الذي كان له ومن أجله وليس كذلك علل النحويين. وسأذكر طرفاً من ذلك لتصح الحال به. قال أبو إسحاق في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال فكانت فرقاً أيضاً قيل: الذي فعلوه أحزم وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعولات كثيرة فرفع الفاعل لقلته ونصب المفعول لكثرته وذلك ليقل في كلامهم ما يسثقلون ويكثر في كلامهم ما يستخفون. فجرى ذلك في وجوبه ووضوح أمره مجرىشكر المنعم وذم المسيء في انطواء الأنفس عليه وزوال اختلافها فيه ومجرى وجوب طاعة القديم سبحانه لما يعقبه من إنعامه وغفرانه. ومن ذلك قولهم: إن ياء نحو ميزان وميعاد انقلبت عن واو ساكنة لثقل الواو الساكنة بعد الكسرة. وهذا أمر لا لبس في معرفته ولا شك في قوة الكلفة في النطق به. وكذلك قلب الياء في موسر وموقن واواً لسكونها وانضمام ما قبلها. ولا توقف في ثقل الياء الساكنة بعد الضمة لأن حالها في ذلك حال الواو الساكنة بعد الكسرة وهذا - كما تراه - أمر يدعو الحس إليه ويحدو طلب الاستخفاف عليه. وإذا كانت الحال المأخوذ بها المصير بالقياس إليها حسية طبيعية فناهيك بها ولا معدل بك عنها. ومن ذلك قولهم في سيد وميت وطويت طياً وشويت شياً: إن الواو قلبت ياء لوقوع الياء الساكنة قبلها في سيد وميت ووقوع الواو الساكنة قبل الياء في شيا وطيا. فهذا أمر هذه سبيله أيضاً ألا ترى إلى ثقل اللفظ بسيود وميوت وطويا وشويا وأن سيدا وميتا وطيا وشيا أخف على ألسنتهم من اجتماع الياء والواو مع سكون الأول منهما. فإن قلت: فقد جاء عنهم نحو حيوة وضيون وعوى الكلب عوية فسنقول في هذا ونظائره في فإن قلت: فقد نجد أيضاً في علل الفقه ما يضح أمره وتعرف علته نحو رجم الزاني إذا كان محصناً وحده إذا كان غير محصن وذلك لتحصين الفروج وارتفاع الشك في الأولاد والنسل. وزيد في حد المحصن على غيره لتعاظم جرمه وجريرته على نفسه. وكذلك إفادة القاتل بمن قتله لحقن الدماء وكذلك إيجاب الله الحج على مستطيعه لما في ذلك من تكليف المشقة ليستحق عليها المثوبة وليكون أيضاً دربة للناس على الطاعة وليشتهر به أيضاً حال الإسلام ويدل به على ثباتها واستمرار العمل بها فيكون أرسخ له وأدعى إلى ضم نشر الدين وفثء كيد المشركين. وكذلك نظائر هذا كثيرة جداً. فقد ترى إلى معرفة أسبابه كمعرفة أسباب ما اشتملت عليه علل الإعراب فلم جعلت علل الفقه أخفض رتبة من علل النحو قيل له: ما كانت هذه حاله من علل الفقه فأمر لم يستفد من طريق الفقه ولا يخص حديث الفرض والشرع بل هو قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به ألا ترى أن الجاهلية الجهلاء كانت تحصن فروج مفارشها وإذا شك الرجل منهم في بعض ولده لم يلحقه به خلقاً قادت إليه الأنفة والطبيعة ولم يقتضه نص ولا شريعة. وكذلك قول الله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} قد كان هذا من أظهر شيء معهم وأكثره في استعمالهم أعني حفظهم للجار ومدافعتهم عن الذمار فكأن الشريعة إنما وردت فيما هذه حاله بما كان معلوماً معمولاً به حتى إنها لو لم ترد بإيجابه لما أخل ذلك بحاله لاستمرار الكافة على فعاله. فما هذه صورته من عللهم جار مجرى علل النحويين. ولكن ليت شعري من أين يعلم وجه المصلحة في جعل الفجر ركعتين والظهر والعصر أربعاً أربعاً والمغرب ثلاثاً والعشاء الآخرة أربعاً ومن أين يعلم علة ترتيب الأذان على ما هو عليه وكيف تعرف علة تنزيل مناسك الحج على صورتها ومطرد العمل بها ونحو هذا كثير جداً. ولست تجد شيئاً مما علل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله والحس منطو على الاعتراف به ألا ترى أن عوارض ما يوجد في هذه اللغة شيء سبق وقت الشرع وفزع إلى التحاكم فيه إلى بديهة الطبع فجميع علل النحو إذاً مواطئة للطباع وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا الانقياد. فهذا فرق. سؤال قوي: فإن قلت: فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير محصاة ولا محصلة لا نعرف لها سبباً ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهباً. فمن ذلك إهمال ما أهمل وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله وهذا أوسع من أن يحوج إلى ذكر طرف منه ومنه الاقتصار في بعض الأصول على بعض المثل ولا نعلم قياسا يدعو إلى تركه نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي بمثال فَعلُل أو فُعلِل أو فَعَل أو فِعِل أو فُعُل ونحو ذلك. وكذلك اقتصارهم في الخماسي على الأمثلة الأربعة دون غيرها مما تجوزه القسمة. ومنه أن عدلوا فُعَلا عن فاعل في أحرف محفوظة. وهي ثعل وزحل وغدر وعمر وزفر وجشم وقثم وما يقل تعداده. ولم يعدلوا في نحو مالك وحاتم وخالد وغير ذلك فيقولوا: مُلك ولا حُتم ولا خُلد. ولسنا نعرف سبباً أوجب هذا العدل في هذه الأسماء التي أريناكها دون غيرها فإن كنت تعرفه فهاته. فإن قلت: إن العدل ضرب من التصرف وفيه إخراج للأصل عن بابه إلى الفرع وما كانت هذه حاله أقنع منه البعض ولم يجب أن يشيع في الكل. قيل: فهبنا سلمنا ذلك لك تسليم نظر فمن لك بالإجابة عن قولنا: فهلا جاء هذا العدل في حاتم ومالك وخالد وصالح ونحوها دون ثاعل وزاحل وغادر وعامر وزافر وجاشم وقاثم ألك ههنا نفق فتسلكه أو مرتفق فتتوركه وهل غير أن تخلد إلى حيرة الإجبال وتخمد نار الفكر حالاً على حال! ولهذا ألف نظير بل ألوف كثيرة ندع الإطالة بأيسر اليسير منها. وبعد فقد صح ووضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئاً إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه وإن خفيت عنا أغراضه ومعانيه وليست كذلك حال هذه اللغة ألا ترى إلى قوة تنازع أهل الشريعة فيها وكثرة الخلاف في مباديها ولا تقطع فيها بيقين ولا من الواضع لها ولا كيف وجه الحكمة في كثير مما أريناه آنفاً من حالها وما هذه سبيله لا يبلغ شأو ما عرف الآمر به - سبحانه وجل جلاله - وشهدت النفوس واطردت المقاييس على أنه أحكم الحاكمين سبحانه. انقضى السؤال. قيل: لعمري إن هذه أسئلة تلزم من نصب نفسه لما نصبنا أنفسنا من هذا الموقف له. وههنا أيضاً من السؤالات أضعاف أضعافه غير أنه لا ينبغي أن يعطى فيها باليد. بل يجب أن ينعم الفكر فيها ويكاس في الإجابة عنها. فأول ذلك أنا لسنا ندعي أن علل أهل العربية في سمت العلل الكلامية البتة بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية وإذا حكمنا بديهة العقل وترافعنا إلى الطبيعة والحس فقد وفينا الصنعة حقها وربأنا بها أفرع مشارفها. وقد قال سيبويه: وليس شيء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً. وهذا أصل يدعو إلى البحث عن علل ما استكرهوا عليه نعم ويأخذ بيدك إلى ما وراء ذلك فتستضيء به وتستمد التنبه على الأسباب المطلوبات منه. ونحن نجيب عما مضى ونورد معه وفي أثنائه ما يستعان به ويفزع فيما يدخل من الشبه إليه بمشيئة الله وتوفيقه. أما إهمال ما أهمل مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول المتصورة أو المستعملة فأكثره متروك للاسثتقال وبقيته ملحقة به ومقفاة على إثره. فمن ذلك ما رفض استعماله لتقارب حروفه نحو سص وطس وظث وثظ وضش وشض وهذا حديث واضح لنفور الحس عنه والمشقة على النفس لتكلفه. وكذلك نحو قج وجق وكق وقك وكج وجك. وكذلك حروف الحلق: هي من الائتلاف أبعد لتقارب مخارجها عن معظم الحروف أعني حروف الفم. فإن جمع بين اثنين منها قدم الأقوى على الأضعف نحو أهل وأحد وأخ وعهد وعهر وكذلك متى تقارب الحرفان لم يجمع بينهما إلا بتقديم الأقوى منهما نحو أرل ووتد ووطد. يدل على أن الراء أقوى من اللام أن القطع عليها أقوى من القطع على اللام. وكأن ضعف اللام إنما أتاها لما تشربه من الغنة عند الوقوف عليها ولذلك لا تكاد تعتاص اللام وقد ترى إلى كثرة اللثغة في الراء في الكلام وكذلك الطاء والتاء هما أقوى من الدال وذاك لأن جرس الصوت بالتاء والطاء عند الوقوف عليهما أقوى منه وأظهر عند الوقوف على الدال. وأنا أرى أنهم إنما يقدمون الأقوى من المتقاربين من قبل أن جمع المتقاربين يثقل على النفس فلما اعتزموا النطق بهما قدموا أقواهما لأمرين: أحدهما أن رتبة الأقوى أبدا أسبق وأعلى والآخر أنهم إنما يقدمون الأثقل ويؤخرون الأخف من قبل أن المتكلم في أول نطقه أقوى نفساً وأظهر نشاطاً فقدم أثقل الحرفين وهو على أجمل الحالين كما رفعوا المبتدأ لتقدمه فأعربوه بأثقل الحركات وهي الضمة وكما رفعوا الفاعل لتقدمه ونصبوا المفعول لتأخره فإن هذا أحد ما يحتج به في المبتدأ والفاعل. فهذا واضح كما تراه. وأما ما رفض أن يستعمل وليس فيه إلا ما استعمل من أصله فعنه السؤال وبه الاشتغال. وإن أنصفت نفسك فيما يرد عليك فيه حليت به وأنقت له وإن تحاميت الإنصاف وسلكت سبيل الانحراف فذاك إليك ولكن جنايته عليك. " جواب قوي ": اعلم أن الجواب عن هذا الباب تابع لما قبله وكالمحمول على حكمه. وذلك أن الأصول ثلاثة: ثلاثي ورباعي وخماسي. فأكثرها استعمالاً وأعدلها تركيباً الثلاثي. وذلك لأنه حرف يبتدأ به وحرف يحشى به وحرف يوقف عليه. وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه لأنه أقل حروفاً وليس الأمر كذلك ألا ترى أن جميع ما جاء من ذوات الحرفين جزء لا قدر له فيما جاء من ذوات الثلاثة نحو من وفي وعن وهل وقد وبل وكم ومن وإذ وصه ومه. ولو شئت لأثبت جميع ذلك في هذه الورقة. والثلاثي عارياً من الزيادة وملتبساً بها مما يبعد تداركه وتتعب الإحاطة به. فإذا ثبت ذلك عرفت منه وبه أن ذوات الثلاثة لم تتمكن في الاستعمال لقلة عددها حسب ألا ترى إلى قلة الثنائي وأقل منه ما جاء على حرف واحد كحرف العطف وفائه وهمزة الاستفهام ولام الابتداء والجر والأمر وكاف رأيتك وهاء رأيته. وجميع ذلك دون باب كم وعن وصه. فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه لعمري ولشيء آخر وهو حجز الحشو الذي هو عينه بين فائه ولامه وذلك لتباينهما ولتعادي حاليهما ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا متحركاً وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكناً فلما تنافرت حالاهما وسطوا العين حاجزاً بينهما لئلا يفجئوا الحس بضد ما كان آخذاً فيه ومنصباً إليه. فإن قلت: فإن ذلك الحرف الفاصل لما ذكرت بين الأول والآخر - وهو العين - لا يخلو أن يكون ساكناً أو متحركاً. فإن كان ساكناً فقد فصلت عن حركة الفاء إلى سكونه وهذا هو الذي قدمت ذكر الكراهة له وإن كان متحركاً فقد فصلت عن حركته إلى سكون اللام الموقوف عليها وتلك حال ما قبله في انتفاض حال الأول بما يليه من بعده. فالجواب أن عين الثلاثي إذا كانت متحركة والفاء قبلها كذلك فتوالت الحركتان حدث هناك لتواليهما ضرب من الملال لهما فاستروح حينئذ إلى السكون فصار ما في الثنائي من سرعة الانتفاض معيفاً مأبياً في الثلاثي خفيفاً مرضياً وأيضاً فإن المتحرك حشوا ليس كالمتحرك أولاً أولا ترى إلى صحة جواز تخفيف الهمزة حشواً وامتناع جواز تخفيفها أولاً وإذا اختلفت أحوال الحروف حسن التأليف وأما إن كانت عين الثلاثي ساكنة فحديثها غير هذا. وذلك أن العين إذا كانت ساكنة فليس سكونها كسكون اللام. وسأوضح لك حقيقة ذلك لتعجب من لطف غموضه. وذلك أن الحرف الساكن ليست حاله إذا أدرجته إلى ما بعده كحاله لو وقفت عليه. وذلك لأن من الحروف حروفاً إذا وقفت عليها لحقها صويت ما من بعدها فإذا أدرجتها إلى ما بعدها ضعف ذلك الصويت وتضاءل للحس نحو قولك اِح اِص اِث اِف اِخ اِك. فإذا قلت: يحرد ويصبر ويسلم ويثرد ويفتح ويخرج خفى ذلك الصويت وقل وخف ما كان له من الجرس عند الوقوف عليه. وقد تقدم سيبويه في هذا المعنى بما هو معلوم واضح. وسبب ذلك عندي أنك إذا وقفت عليه ولم تتطاول إلى النطق بحرف آخر من بعده تلبثت عليه ولم تسرع الانتقال عنه فقدرت بتلك اللبثة على إتباع ذلك الصوت إياه. فأما إذا تأهبت للنطق بما بعده وتهيأت له ونشمت فيه فقد حال ذلك بينك وبين الوقفة التي يتمكن فيها من إشباع ذلك الصويت فيستهلك إدراجك إياه طرفاً من الصوت الذي كان الوقف يقره عليه ويسوغك إمدادك إياه به. ونحو من هذا ما يحكى أن رجلاً من العرب بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح فلما شرب بعضه كده الأمر فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا تنحنحت. فقال: من تنحنح فلا أفلح. فنطق بالحاءات كلها سواكن غير متحركة ليكون ما يتبعها من ذلك الصويت عوناً له على ما كده وتكاءده. فإذا ثبت بذلك أن الحرف الساكن حاله في إدراجه مخالفة لحاله في الوقوف عليه ضارع ذلك الساكن المحشو به المتحرك لما ذكرناه من إدراجه لأن أصل الإدراج للمتحرك إذ كانت الحركة سبباً له وعوناً عليه ألا ترى أن حركته تنتقصه ما يتبعه من ذلك الصويت نحو قولك صبر وسلم. فحركة الحرف تسلبه الصوت الذي يسعفه الوقف به كما أن تأهبك للنطق بما بعده يستهلك بعضه. فأقوى أحوال ذلك الصويت عندك أن تقف عليه فتقول: اص. فإن أنت أدرجته انتقصته بعضه فقلت: اصبر فإن أنت حركته اخترمت الصوت البتة وذلك قولك صبر. فحركة ذلك الحرف تسلبه ذلك الصوت البتة والوقوف عليه يمكنه فيه وإدراج الساكن يبقي عليه بعضه. فعلمت بذلك مفارقة حال الساكن المحشو به لحال أول الحرف وآخره فصار الساكن المتوسط لما ذكرنا كأنه لا ساكن ولا متحرك وتلك حال تخالف حالي ما قبله وما بعده وهو الغرض الذي أريد منه وجيء به من أجله لأنه لا يبلغ حركة ما قبله فيجفو تتابع المتحركين ولا سكون ما بعده فيفجأ بسكونه المتحرك الذي قبله فينقض عليه جهته وسمته. فتلك إذاً ثلاث أحوال متعادية لثلاثة أحرف متتالية فكما يحسن تألف الحروف المتفاوتة كذلك يحسن تتابع الأحوال المتغايرة على اعتدال وقرب لا على إيغال في البعد. لذلك كان مثال فعل أعدل الأبنية حتى كثر وشاع وانتشر. وذلك أن فتحة الفاء وسكون العين وإسكان اللام أحوال مع اختلافها متقاربة ألا ترى إلى مضارعة الفتحة للسكون في أشياء. منها أن كل واحد منهما يهرب إليه مما هو أثقل منه نحو قولك في جمع فُعلة وفِعلة: فعلات بضم العين نحو غرفات وفعلات بكسرها نحو كسرات ثم يسثقل توالي الضمتين والكسرتين فيهرب عنهما تارة إلى الفتح فتقول: غرَفات وكسَرات وأخرى إلى السكون فتقول: غُرفات وكِسرات. أفلا تراهم كيف سووا بين الفتحة والسكون في العدول عن الضمة والكسرة إليهما. ومنها أنهم يقولون في تكسير ما كان من فعل ساكن العين وهي واو على فعال بقلب الواو ياء نحو: حوض وحياض وثوب وثياب. فإذا كانت واو واحده متحركة صحت في هذا المثال من التكسير نحو: طويل وطوال. فإذا كانت العين من الواحد مفتوحة اعتلت في هذا المثال كاعتلال الساكن نحو: جواد وجياد. فجرت واو جواد مجرى واو ثوب. فقد ترى إلى مضارعة الساكن للمفتوح. وإذا كان الساكن من حيث أرينا كالمفتوح كان بالمسكن أشبه. فلذلك كان مثال فعل أخف وأكثر من غيره لأنه إذا كان مع تقارب أحواله مختلفها كان أمثل من التقارب بغير خلاف أو الاتفاق البتة والاشتباه. ومما يدلك على أن الساكن إذا أدرج ليست له حال الموقوف عليه أنك قد تجمع في الوقف بين الساكنين نحو: بكر وعمرو فلو كانت حال سكون كاف بكر كحال سكون رائه لما جاز أن تجمع بينهما من حيث كان الوقف للسكون على الكاف كحاله لو لم يكن بعده شيء. فكان يلزمك حينئذ أن تبتديء بالراء ساكنة والابتداء بالساكن ليس في هذه اللغة العربية. لا بل دل ذلك على أن كاف بكر لم تتمكن في السكون تمكن ما يوقف عليه ولا يتطاول إلى ما وراءه. ويزيد في بيان ذلك أنك تقول في الوقف النفس فتجد السين أتم صوتاً من الفاء فإن قلبت فقلت: النسف وجدت الفاء أتم صوتاً وليس هنا أمر يصرف هذا إليه ولا يجوز حمله عليه إلا زيادة الصوت عند الوقوف على الحرف البتة. وهذا برهان ملحق بالهندسي في الوضوح والبيان. فقد وضح إذاً بما أوردناه وجه خفة الثلاثي من الكلام وإذا كان كذلك فذوات الأربعة مستثقلة غير متمكنة تمكن الثلاثي لأنه إذا كان الثلاثي أخف وأمكن من الثنائي - على قلة حروفه - فلا محالة أنه أخف وأمكن من الرباعي لكثرة حروفه. ثم لا شك فيما بعد في ثقل الخماسي وقوة الكلفة به. فإذا كان كذلك ثقل عليهم مع تناهيه وطوله أن يستعملوا في الأصل الواحد جميع ما ينقسم إليه به جهات تركيبه. ذلك أن الثلاثي يتركب منه ستة أصول نحو: جعل جلع عجل علج لجع لعج. والرباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلاً وذلك أنك تضرب الأربعة في التراكيب التي خرجت عن الثلاثي وهي ستة فيكون ذلك أربعة وعشرين تركيباً المستعمل منها قليل وهي: عقرب وبرقع وعرقب وعبقر وإن جاء منه غير هذه الأحرف فعسى أن يكون ذلك والباقي كله مهمل. وإذا كان الرباعي مع قربه من الثلاثي إنما استعمل منه الأقل النزر فما ظنك بالخماسي على طوله وتقاصر الفعل الذي هو مئنة من التصريف والتنقل عنه. فلذلك قل الخماسي أصلاً. نعم ثم لا تجد أصلاً مما ركب منه قد تصرف فيه بتغيير نظمه ونضده كما تصرف في باب عقرب وبِرقِع وبُرقُع ألا ترى أنك لا تجد شيئاً من نحو سفرجل قالوا فيه سرفجل ولا نحو ذلك مع أن تقليبه يبلغ به مائة وعشرين أصلاً ثم لم يستعمل من جميع ذلك إلا سفرجل وحده. فأما قول بعضهم زبردج فقلب لحق الكلمة ضرورة في بعض الشعر ولا يقاس. فدل ذلك على استكراههم ذوات الخمسة لإفراط طولها فأوجبت الحال الإقلال منها وقبض اللسان عن النطق بها إلا فيما قل ونزر ولما كانت ذوات الأربعة تليها وتتجاوز أعدل الأصول - وهو الثلاثي - إليها مسها بقرباها منها قلة التصرف فيها غير أنها في ذلك أحسن حالاً من ذوات الخمسة لأنها أدنى إلى الثلاثة منها. فكان التصرف فيها دون تصرف الثلاثي وفوق تصرف الخماسي. ثم إنهم لما أمسوا الرباعي طرفاً صالحاً من إهمال أصوله وإعدام حال التمكن في تصرفه تخطوا بذلك إلى إهمال بعض الثلاثي لا من أجل إجفاء تركبه بتقاربه نحو سص وصس ولكن من قبل أنهم حذوه على الرباعي كما حذوا الرباعي على الخماسي ألا ترى أن لجع لم يترك استعماله لثقله من حيث كانت اللام أخت الراء والنون وقد قالوا نجع فيه ورجع عنه واللام أخت الحرفين وقد أهملت في باب اللجع فدل على أن ذلك ليس للاستثقال وثبت أنه لما ذكرناه من إخلالهم ببعض أصول الثلاثي لئلا يخلو هذا الأصل من ضرب من الإجماد له مع شياعه واطراده في الأصلين اللذين فوقه كما أنهم لم يخلو ذوات الخمسة من بعض التصرف فيها وذلك ما استعملوه من تحقيرها وتكسيرها وترخيمها نحو قولك في تحقير سفرجل: سفيرج وفي تكسيره: سفارج وفي ترخيمه - علما - يا سفرج أقبل وكما أنهم لما أعربوا المضارع لشبهه باسم الفاعل تخطوا ذاك أيضاً إلى أن شبهوا الماضي بالمضارع فبنوه على الحركة لتكون له مزية على ما لا نسبة بينه وبين المضارع أعني مثال أمر المواجه. فاسم الفاعل في هذه القضية كالخماسي والمضارع كالرباعي والماضي كالثلاثي. وكذلك أيضاً الحرف في استحقاقه البناء كالخماسي في استكرارهم إياه والمضمر في إلحاقهم إياه ببنائه كالرباعي في إقلالهم تصرفه والمنادي المفرد المعرفة في إلحاقه في البناء بالمضمر كالثلاثي في منع بعضه التصرف وإهماله البتة ولهذا التنزيل نظائر كثيرة. فأما قوله: مال إلى أرطاة حقف فالطجع فإنه ليس بأصل إنما أبدلت الضاد من اضطجع لاماً فاعرفه. فقد عرفت إذاً أن ما أهمل من الثلاثي لغير قبح التأليف نحو ضث وثض وثذ وذث إنما هو لأن محله من الرباعي محل الرباعي من الخماسي فأتاه ذلك القدر من الجمود من حيث ذكرنا كما أتى الخماسي ما فيه من التصرف في التكسير والتحقير والترخيم من حيث كان محله من الرباعي محل الرباعي من الثلاثي. وهذا عادة للعرب مألوفة وسنة مسلوكة: إذا أعطوا شيئاً من شيء حكماً ما قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكماً من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميماً للشبه الجامع لهما. وعليه باب ما لا ينصرف ألا تراهم لما شبهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه كذلك شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه. وإذ قد ثبت ما أردناه: من أن الثلاثي في الإهمال محمول على حكم الرباعي فيه لقربه من الخماسي بقي علينا أن نورد العلة التي لها استعمل بعض الأصول من الثلاثي والرباعي والخماسي دون بعض وقد كانت الحال في الجميع متساوية. والجواب عنه ما أذكره. اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها ورأى بعين تصوره وجوه جملها وتفاصيلها وعلم أنه لا بد من رفض ما شنع تألفه منها نحو هع وقج وكق فنفاه عن نفسه ولم يمرره بشيء من لفظه وعلم أيضاً أن ما طال وأمل بكثرة حروفه لا يمكن فيه من التصرف ما أمكن في أعدل الأصول وأخفها وهو الثلاثي. وذلك أن التصرف في الأصل وإن دعا إليه قياس - وهو الاتساع به في الأسماء والأفعال والحروف - فإن هناك من وجه آخر ناهياً عنه وموحشاً منه وهو أن في نقل الأصل إلى أصل آخر نحو صبر وبصر وصرب وربص صورة الإعلال نحو قولهم " ما أطيبه وأيطبه " " واضمحل وامضحل " " وقسي وأينق " وقوله: مروان مروان أخو اليوم اليمى وهذا كله إعلال لهذه الكلم وما جرى مجراها. فلما كان انتقالهم من أصل إلى أصل نحو صبر وبصر مشابهاً للإعلال من حيث ذكرنا كان من هذا الوجه كالعاذر لهم في الامتناع من استيفاء جميع ما تحتمله قسمة التركيب في الأصول. فلما كان الأمر كذلك واقتضت الصورة رفض البعض واستعمال البعض وكانت الأصول ومواد الكلم معرضة لهم وعارضة أنفسها على تخيرهم جرت لذلك عندهم مجرى مال ملقى بين يدي صاحبه وقد أجمع إنفاق بعضه دون بعضه فميز رديئه وزائفه فنفاه البتة كما نفوا عنهم تركيب ما قبح تأليفه ثم ضرب بيده إلى ما أطف له من عرض جيدة فتناوله للحاجة إليه وترك البعض لأنه لم يرد استيعاب جميع ما بين يديه منه لما قدمنا ذكره وهو يرى أنه لو أخذ ما ترك مكان أخذ ما أخذ لأغنى عن صاحبه ولأدى في الحاجة إليه تأديته ألا ترى أنهم لو استعملوا لجع مكان نجع لقام مقامه وأغنى مغناه. ثم لا أدفع أيضاً أن تكون في بعض ذلك أغراض لهم عدلوا إليه لها ومن أجلها فإن كثيراً من هذه اللغة وجدته مضاهياً بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها ألا تراهم قالوا قضم في اليابس وخضم في الرطب ذلك لقوة القاف وضعف الخاء فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للقعل الأضعف. وكذلك قالوا: صر الجندب فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته وقالوا: صرصر البازي فقطعوه لما هناك من تقطيع صوته وسموا الغراب غاق حكاية لصوته والبط بطاً حكاية لأصواتها وقالوا " قط الشيء " إذا قطعه عرضاً " وقده " إذا قطعه طولاً وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وكذلك قالوا " مد الحبل " " ومت إليه بقرابة " فجعلوا الدال - لأنها مهجورة - لما فيه علاج وجعلوا التاء - لأنها مهموسة - لما لا علاج فيه وقالوا: الخذأ - بالهمزة - في ضعف النفس والخذا - غير مهموز - في استرخاء الأذن يقال: أذن خذواء وآذان خذو ومعلوم أن الواو لا تبلغ قوة الهمزة. فجعلوا الواو - لضعفها - للعيب في الأذن والهمزة - لقوتها - للعيب في النفس من حيث كان عيب النفس أفحش من عيب الأذن. وسنستقصي هذا الموضع - فإنه عظيم شريف - في باب نفرده به. نعم وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا ألا ترى إلى قول سيبويه: " أو لعل الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر " يعني أن يكون الأول الحاضر شاهد الحال فعرف السبب الذي له ومن أجله ما وقعت عليه التسمية والآخر - لبعده عن الحال - لم يعرف السبب للتسمية ألا ترى إلى قولهم للإنسان إذا رفع صوته: قد رفع عقيرته فلو ذهبت تشتق هذا بأن تجمع بين معنى الصوت وبين معنى " ع ق ر " لبعد عنك وتعسفت. وأصله أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها الأخرى ثم صرخ بأرفع صوته فقال الناس: رفع عقيرته. وهذا مما ألزمه أبو بكر أبا إسحاق فقبله منه ولم يردده. والكلام هنا أطول من هذا لكن هذا مقاده فأعلق يدك بما ذكرناه: من أن سبب إهمال ما أهمل إنما هو لضرب من ضروب الاستخفاف لكن كيف ومن أين فقد تراه على ما أوضحناه. فهذا الجواب عن إهمالهم ما أهملوه من محتمل القسمة لوجوه التراكيب فاعرفه ولا تستطله فإن هذا الكتاب ليس مبنياً على حديث وجوه الإعراب وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام وكيف بديء وإلام نحي. وهو كتاب يتساهم ذوو النظر: من المتكلمين والفقهاء والمتفلسفين والنحاة والكتاب والمتأدبين التأمل له والبحث عن مستودعه فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده ويأنس به ليكون له سهم منه وحصة فيه! وأما ما أورده السائل في أول هذا السؤال الذي نحن منه على سمت الجواب من علة امتناعهم من تحميل الأصل الذي استعلموا بعض مثله ورفضهم بعضاً نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي بمثال فَعلُل وفَعلِل وفُعلَل - في غير قول أبي الحسن - فجوابه نحو من الذي قدمناه: من تحاميهم فيه الاستثقال وذلك أنهم كما حموا أنفسهم من استيعاب جميع ما تحتمله قسمة تراكيب الأصول من حيث قدمنا وأرينا كذلك أيضاً توقفوا عن استيفاء جميع تراكيب الأصول من حيث كان انتقالك في الأصل الواحد رباعياً كان أو خماسياً من مثال إلى مثال في النقص والاختلال كانتقالك في المادة الواحدة من تركيب إلى تركيب أعني به حال التقديم والتأخير لكن الثلاثي جاء فيه لخفته جميع ما تحتمله القسمة وهي الاثنا عشر مثالاً إلا مثالاً واحداً فإنه رفض أيضاً لما نحن عليه من حديث الاستثقال وهو فِعُل وذلك لخروجهم فيه من كسر إلى ضم. وكذلك ما امتنعوا من بنائه في الرباعي - وهو فِعلُل - هو لاستكراههم الخروج من كسر إلى ضم وإن كان بينهما حاجز لأنه ساكن فضعف لسكونه عن الاعتداد به حاجزاً على أن بعضهم حكى زئبر وضئبل وخرفع وحكيت عن بعض البصريين " إصبع " وهذه ألفاظ شاذة لا تعقد باباً ولا يتخذ مثلها قياساً. وحكى بعض الكوفيين ما رأيته مذست وهذا أسهل - وإن كان لا حاجز بين الكسر والضم - من حيث كانت الضمة غير لازمة لأن الوقف يستهلكها ولأنها أيضاً من الشذوذ بحيث لا يعقد عليها باب. فإن قلت: فما بالهم كثر عنهم باب فُعُل نحو عنق وطنب وقل عنهم باب فِعِل نحو إبل وإطل مع أن الضمة أثقل من الكسرة فالجواب عنه من موضعين: أحدهما أن سيبويه قال: " واعلم أنه قد يقل الشيء في كلامهم وغيره أثقل منه كل ذلك لئلا يكثر في كلامهم ما يستثقلون " فهذا قول والآخر أن الضمة وإن كانت أثقل من الكسرة فإنها أقوى منها وقد يحتمل للقوة ما لا يحتمل للضعف ألا ترى إلى احتمال الهمزة مع ثقلها للحركات وعجز الألف عن احتمالهن وإن كانت خفيفة لضعفها وقوة الهمزة. وإنما ضعفت الكسرة عن الضمة لقرب الياء من الألف وبعد الواو عنها. ومن حديث الاستثقال والاستخفاف أنك لا تجد في الثنائي - على قلة حروفه - ما أوله مضموم إلا القليل وإنما عامته على الفتح نحو هل وبل وقد وأن وعن وكم ومن وفي المعتل أو ولو وكي وأي أو على الكسر نحو إن ومن وإذ. وفي المعتل إي وفي وهي. ولا يعرف الضم في هذا النحو إلا قليلاً قالوا: هو وأما هم فمحذوفة من همو كما أن مذ محذوفة من منذ. وأما هو من نحو قولك: رأيتهو وكلمتهو فليس شيئاً لأن هذه ضمة مشبعة في الوصل ألا تراها يستهلكها الوقف وواو هو في الضمير المنفصل ثابتة في الوقف والوصل. فأما قوله: فبيناه يشري رحله قال قائل: لمن جمل رِخو الملاط نجيب فللضرورة والتشبيه للضمير المنفصل بالضمير المتصل في عصاه وقناه. فإن قلت: فقد قال: أعني على برق أريك وميضهو فوقف بالواو وليست اللفظة قافية وقد قدمت أن هذه المدة مستهلكة في حال الوقف قيل: هذه اللفظة وإن لم تكن قافية فيكون البيت بها مقفى أو مصرعاً فإن العرب قد تقف على العروض نحواً من وقوفها على الضرب أعني مخالفة ذلك لوقف الكلام المنثور غير الموزون ألا ترى إلى قوله أيضاً: فأضحى يسح الماء حول كتيفتن فوقف بالتنوين خلافاً على الوقف في غير الشعر. فإن قلت: فأقصى حال قومه " كتيفتن " - إذ ليست قافية - أن تجري مجرى القافية في الوقف عليها وأنت ترى الرواة أكثرهم على إطلاق هذه القصيدة ونحوها بحرف اللين للوصل نحو قوله: ومنزلي وحوملي وشمألي ومحملي فقوله " كتيفتن " ليس على وقف الكلام ولا وقف القافية قيل: الأمر على ما ذكرت من خلافه له غير أن هذا أيضاً أمر يخص المنظوم دون المنثور لاستمرار ذلك عنهم ألا ترى إلى قوله: أني اهتديت لتسليم على دِمنن بالغمز غيرهن الأعصر الأولو وقوله: كأن حدوج المالكية غُدوتن خلايا سفين بالنواصف من دَدي وقوله: وقوله: فوالله لا أنسى قتيلاً رزئتهو بجانب قوسي ما مشيت على الأرضي وفيها: ولم أدر من ألقى عليه رداءهو على أنه قد سل عن ماجد محضي وأمثاله كثير. كل ذلك الوقوف على عروضه مخالف للوقوف على ضربه ومخالف أيضاً لوقوف الكلام غير الشعر. ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا الموضع في علم القوافي. وقد كان يجب أن يذكر ولا يهمل. " رجع " وكذلك جميع ما جاء من الكلم على حرف واحد: عامته على الفتح إلا الأقل وذلك نحو همزة الاستفهام وواو العطف وفائه ولام الابتداء وكاف التشبيه وغير ذلك. وقليل منه مكسور كباء الإضافة ولامها ولام الأمر ولو عرى ذلك من المعنى الذي اضطره إلى الكسر لما كان مفتوحاً ولا نجد في الحروف المنفردة ذوات المعاني ما جاء مضموماً هرباً من ثقل الضمة. فأما نحو قولك: اقتل ادخل استقصي عليه فأمره غير معتد إذ كانت هذه الهمزة إنما يتبلغ بها في حال الابتداء ثم يسقطها الإدراج الذي عليه مدار الكلام ومتصرفه. فإن قلت: ومن أين يعلم أن العرب قد راعت هذا الأمر واستشفته وعنيت بأحواله وتتبعته حتى تحامت هذه المواضع التحامي الذي نسبته إليها وزعمته مراداً لها وما أنكرت أن يكون القوم أجفى طباعاً وأيبس طيناً من أن يصلوا من النظر إلى هذا القدر اللطيف الدقيق الذي لا يصح لذي الرقة والدقة منا أن يتصوره إلا بعد أن توضح له أنحاؤه بل أن تشرح له أعضاؤه قيل له: هيهات! ما أبعدك عن تصور أحوالهم وبعد أغراضهم ولطف أسرارهم حتى كأنك لم ترهم وقد ضايقوا أنفسهم وخففوا عن ألسنتهم بأن اختلسوا الحركات اختلاساً وأخفوها فلم يمكنوها في أماكن كثيرة ولم يشبعوها ألا ترى إلى قراءة أبي عمرو {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} مختلساً لا محققاً وكذلك قوله عز وجل: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} مخفي لا مستوفي وكذلك قوله عز وجل: {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ} مختلساً غير ممكن كسر الهمزة حتى دعا ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ إلى أن ادعى أن أبا عمرو كان يسكن الهمزة والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة لاحذفها البتة وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكناً. ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة لكن أتوا من ضعف دراية. وأبلغ من هذا في المعنى ما رواه من قول الراجز: متى أنام لا يؤرقني الكرى ليلاً ولا أسمع أجراس المطى بإشمام القاف من يؤرقني ومعلوم أن هذا الإشمام إنما هو للعين لا للأذن وليست هناك حركة البتة ولو كانت فيه حركة لكسرت الوزن ألا ترى أن الوزن من الرجز ولو اعتدت القاف متحركة لصار من الكامل. فإذا قنعوا من الحركة بأن يومئوا إليها بالآلة التي من عاداتها أن تستعمل في النطق بها من غير أن يخرجوا إلى حس السمع شيئاً من الحركة مشبعة ولا مختلسة أعني إعمالهم الشفتين للإشمام في المرفوع بغير صوت يسمع هناك لم يبق وراء ذلك شيء يستدل به على عنايتهم بهذا الأمر ألا ترى إلى مصارفتهم أنفسهم في الحركة على قلتها ولطفها حتى يخرجوها تارة مختلسة غير مشبعة وأخرى مشمة للعين لا للأذن. ومما أسكنوا فيه الحرف إسكاناً صريحاً ما أنشده من قوله: رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بدا هنك من المئزر بسكون النون البتة من " هنك ". وأنشدنا أبو علي رحمه الله لجرير: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ونهر تيرى فلا تعرفكم العرب بسكون فاء تعرفكم أنشدنا هذا بالموصل سنة إحدى وأربعين وقد سئل عن قول الشاعر: فلما تبين غب أمري وأمره وولت بأعجاز الأمور صدور وقال الراعي: وعلى هذا حملوا بيت لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها وبيت الكتاب: فاليوم أشرب غير مستحقب إثماً من الله ولا واغل وعليه ما أنشده من قوله: إذا اعوججن قلت صاحب قوم واعتراض أبي العباس في هذا الموضع ي هذا الموضع إنما هو رد للرواية وتحكم على السماع بالشهوة مجردة من النصفة ونفسه ظلم لا من جعله خصمه. وهذا واضح. ومنه إسكانهم نحو رسل وعجز وعضد وظرف وكرم وعلم وكتف وكبد وعصر. واستمرار ذلك في المضموم والمكسور دون المفتوح أدل دليل - بفصلهم بين الفتحة وأختيها - على ذوقهم الحركات واستثقالهم بعضها واستخفافهم الآخر. فهل هذا ونحو إلا لإنعامهم النظر في هذا القدر اليسير المحتقر من الأصوات فكيف بما فوقه من الحروف التوام بل الكلمة من جملة الكلام. وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني في كتابه الكبير في القراءات قال: قرأ علي أعرابي بالحرم: " طيبى لهم وحسن مآب " فقلت: طوبى فقال: طيبى فأعدت فقلت: طوبى فقال: طيبى فلما طال علي قلت: طوطو قال: طي طي. أفلا ترى إلى هذا الأعرابي وأنت تعتقده جافياً كراً لا دمثاً ولا طيعاً كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء فلم يؤثر فيه التلقين ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هز ولا تمرين وما ظنك به إذا خلي مع سومه وتساند إلى سليقيته ونجره. وسألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي الجوثي التميمي - تميم جوثة - فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك فقال أقول: ضربت أخاك. فأدرته على الرفع فأبى وقال: لا أقول: أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك فرفع. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبداً فقال: أيش هذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا إلا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام وإعطائهم إياه في كل موضع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة وأنه ليس استرسالاً ولا ترجيماً. ولو كان كما توهمه هذا السائل لكثر اختلافه وانتشرت جهاته ولم تنقد مقاييسه. وهذا موضع نفرد له باباً بإذن الله تعالى فيما بعد. وإنما أزيد في إيضاح هذه الفصول من هذا الكتاب لأنه موضع الغرض: فيه تقرير الأصول وإحكام معاقدها والتنبيه على شرف هذه اللغة وسداد مصادرها ومواردها وبه وبأمثاله تخرج أضغانها وتبعج أحضانها ولا سيما هذا السمت الذي نحن عليه ومرزون إليه فاعرفه فإن أحداً لم يتكلف الكلام على علة إهمال ما أهمل واستعمال ما استعمل. وجماع أمر القول فيه والاستعانة على إصابة غروره ومطاويه لزومك محجة القول بالاستثقال والاستخفاف ولكن كيف وعلام ومن أين فإنه باب يحتاج منك إلى تأن وفضل بيان وتأت. وقد دققت لك بابه بل خرقت بك حجابه. ولا تستطل كلامي في هذا الفصل أو ترين أن المقنع فيه كان دون هذا القدر فإنك إذا راجعته وأنعمت تأمله علمت أنه منبهة للحس مشجعة للنفس. وأما السؤال عن علة عدل عامر وجاشم وثاعل وتلك الأسماء المحفوظة إلى فُعل: عمر وجشم وثعل وزحل وغدر دون أن يكون هذا العدل في مالك وحاتم وخالد نحو ذلك فقد تقدم الجواب عنه فيما فرط: أنهم لم يخصوا ما هذه سبيله بالحكم دون غيره إلا لاعتراضهم طرفاً مما أطف لهم من جملة لغتهم كما عن وعلى ما اتجه لا لأمر خص هذا دون غيره مما هذه سبيله وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله ولكن لا ينبغي أن تخلد إليها إلا بعد السبر والتأمل والإنعام والتصفح فإن وجدت غدراً مقطوعاً به صرت إليه واعتمدته وإن تعذر ذلك جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال فإنك لا تعدم هناك مذهباً تسلكه ومأماً تتورده. فقد أريتك في ذلك أشياء: أحدها استثقالهم الحركة التي هي أقل من الحرف حتى أفضوا في ذلك إلى أن أضعفوها واختلسوها ثم تجاوزوا ذلك إلى أن انتهكوا حرمتها فحذفوها ثم ميلوا بين الحركات فأنحو على الضمة والكسرة لثقلهما وأجموا الفتحة في غالب الأمر لخفتها فهل هذا إلا لقوة نظرهم ولطف استشفافهم وتصفحهم. أنشدنا مرة أبو عبد الله الشجري شعراً لنفسه فيه بنو عوف فقال له بعض الحاضرين: أتقول: بنو عوف أم بني عوف شكاً من السائل في بني وبنو فلم يفهم الشجري ما أراده وكان في ثنايا السائل فضل فرق فأشبع الصويت الذي يتبع الفاء في الوقف فقال الشجري مستنكراً لذلك: لا أقوى في الكلام على هذا النفخ. وسألت غلاماً من آل المهيا فصيحاً عن لفظة من كلامه لا يحضرني الآن ذكرها فقلت: أكذا أم كذا فقال: " كذا بالنصب لأنه أخف " فجنح إلى الخفة وعجبت من هذا مع ذكره النصب بهذا اللفظ. وأظنه استعمل هذه اللفظة لأنها مذكورة عندهم في الإنشاد الذي يقال له النصب مما يتغنى به الركبان. وسنذكر فيما بعد باباً نفصل فيه بين ما يجوز السؤال عنه مما لا يجوز ذلك فيه بإذن الله. ومما يدلك على لطف القوم ورقتهم مع تبذلهم وبذاذة ظواهرهم مدحهم بالسباطة والرشاقة فتى قد السيف لا متآزف ولا رهل لباته وبآدله وقول جميل في خبر له: وقد رابني من جعفر أن جعفراً يبث هوى ليلى ويشكو هوى جمل فلو كنت عذري الصبابة لم تكن بطيناً وأنساك الهوى كثرة الأكل وقول عمر: قليلاً على ظهر المطية ظله سوى ما نفى عنه الرداء المحبر وإلى الأبيات المحفوظة في ذلك وهي قوله: ولقد سريت على الظلام بمغشم جلد من الفتيان غير مثقل وأظن هذا الموضع لو جمع لجاء مجلداً عظيماً. وحدثني أبو الحسن علي بن عمرو عقيب منصرفه من مصر هارباً متعسفاً قال: أذم لنا غلام - أحسبه قال من طيء - من بادية الشام وكان نجيباً متيقظاً يكنى أبا الحسين ويخاطب بالأمير فبعدنا عن الماء في بعض الوقت فأضر ذلك بنا قال فقال لنا ذلك الغلام: على رسلكم فإني أشم رائحة الماء. فأوقفنا بحيث كنا وأجرى فرسه فتشرف ههنا مستشفاً ثم عدل عن ذلك الموضع إلى آخر مستروحاً للماء ففعل ذلك دفعات ثم غاب عنا شيئاً وعاد إلينا فقال: النجاة والغنيمة سيروا على اسم الله تعالى فسرنا معه قدراً من الأرض صالحاً فأشرف بنا على بئر فاستقينا وأروينا. ويكفي من ذلك ما حكاه من قول بعضهم لصاحبه: ألا تا فيقول الآخر مجيباً له: بلى فا وقول الآخر: قلنا لها قفي لنا قالت قاف ثم تجاوزوا ذلك إلى أن قالوا: " رب إشارة أبلغ من عبارة " نعم وقد يحذفون بعض الكلم استخفافاً حذفاً يخل بالبقية ويعرض لها الشبه ألا ترى إلى قول علقمة: كأن إبريقهم ظبي على شرف مفدم بسبا الكتان ملثوم أراد: بسبائب. وقول لبيد: درس المنا بمتالع فأبان أراد المنازل. وقول الآخر: حين ألقت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل يريد عبد الأشهل من الأنصار وقول أبي داود: يذرين جندل حائر لجنوبها فكأنما تذكى سنابكها الحبا أي تصيب بالحصى في جريها جنوبها وأراد الحباحب وقال الأخطل: قالوا: يريد منازلها ويجوز أن يكون مناها قصدها. ودع هذا كله ألم تسمع إلى ما جاءوا به من الأسماء المستفهم بها والأسماء المشروط بها كيف أغنى الحرف الواحد عن الكلام الكثير المتناهي في الأبعاد والطول فمن ذلك قولك: كم مالك ألا ترى أنه قد أغناك ذلك عن قولك: أعشرة مالك أم عشرون أم ثلاثون أم مائة أم ألف فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ ذلك أبداً لأنه غير متناه فلما قلت: " كم " أغنتك هذه اللفظة الواحدة عن تلك الإطالة غير المحاط بآخرها ولا المستدركة. وكذلك أين بيتك قد أغنتك " أين " عن ذكر الأماكن كلها. وكذلك من عندك قد أغناك هذا عن ذكر الناس كلهم. وكذلك متى تقوم قد غنيت بذلك عن ذكر الأزمنة على بعدها. وعلى هذا بقية الأسماء من نحو: كيف وأي وأيان وأنى. وكذلك الشرط في قولك: من يقم أقم معه فقد كفاك ذلك من ذكر جميع الناس ولولا هو لاحتجت أن تقول: إن يقم زيد أو عمرو أو جعفر أو قاسم ونحو ذلك ثم تقف حسيراً مبهوراً ولما تجد إلى غرضك سبيلاً. وكذلك بقية أسماء العموم في غير الإيجاب: نحو أحد وديار وكتيع وأرم وبقية الباب. فإذا قلت: هل عندك أحد أغناك ذلك عن أن تقول: هل عندك زيد أو عمرو أو جعفر أو سعيد أو صالح فتطيل ثم تقصر إقصار المعترف الكليل وهذا وغيره أظهر أمراً وأبدى صفحة وعنواناً. فجميع ما مضى وما نحن بسبيله مما أحضرناه أو نبهنا عليه فتركناه شاهد بإيثار القوم قوة إيجازهم وحذف فضول كلامهم. هذا مع أنهم في بعض الأحوال قد يمكنون ويحتاطون وينحطون في الشق الذي يؤمون وذلك في التوكيد نحو جاء القوم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون وقد قال جرير: تزود مثل زاد أبيك فينا فنعم الزاد زاد أبيك زادا فزاد الزاد في آخر البيت توكيداً لا غير. وقيل لأبي عمرو: أكانت العرب تطيل فقال: نعم لتبلغ. قيل: أفكانت توجز قال: نعم ليحفظ عنها. واعلم أن العرب - مع ما ذكرنا - إلى الإيجاز أميل وعن الإكثار أبعد. ألا ترى أنها في حال إطالتها وتكريرها مؤذنة باستكراه تلك الحال وملالها ودالة على أنها إنما تجشمتها لما عناها هناك وأهمها فجعلوا ما في ذلك على العلم بقوة الكلفة فيه دليلاً على إحكام الأمر فيما هم عليه. ووجه ما ذكرناه من ملالتها الإطالة - مع مجيئها بها للضرورة الداعية إليها - أنهم لما أكدوا فقالوا: أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون لم يعيدوا أجمعون البتة فيكرروها فيقولوا: أجمعون أجمعون أجمعون أجمعون فعدلوا عن إعادة جميع الحروف إلى البعض تحامياً - فإن قيل: فلم اقتصروا على إعادة العين وحدها دون سائر حروف الكلمة قيل: لأنها أقوى في السجعة من الحرفين اللذين قبلها وذلك أنها لام فهي قافية لأنها آخر حروف الأصل فجيء بها لأنها مقطع الأصول والعمل في المبالغة والتكرير إنما هو على المقطع لا على المبدأ ولا المحشى. ألا ترى أن العناية في الشعر إنما هي بالقوافي لأنها المقاطع وفي السجع كمثل ذلك. نعم وآخر السجعة والقافية أشرف عندهم من أولها والعناية بها أمس والحشد عليها أوفى وأهم. وكذلك كلما تطرف الحرف في القافية ازدادوا عناية به ومحافظة على حكمه. ألا تعلم كيف استجاوزا الجمع بين الياء والواو ردفين نحو: سعيد وعمود. وكيف استكرهوا اجتماعهما وصلين نحو قوله: " الغراب الأسودو " مع قوله أو " مغتدى " وقوله في " غدى " وبقية قوافيها وعلة جواز اختلاف الردف وقبح اختلاف الوصل هو حديث التقدم والتأخر لا غير. وقد أحكمنا هذا الموضع في كتابنا المعرب - وهو تفسير قوافي أبي الحسن - بما أغنى عن إعادته هنا. فلذلك جاءوا لما كرهوا إعادة جميع حروف أجمعين بقافيتها وهي العين لأنها أشهر حروفها إذ كانت مقطعاً لها. فأما الواو والنون فزائدتان لا يعتدان لحذفهما في أجمع وجمع وأيضاً فلأن الواو قد تترك فيه إلى الياء نحو أجمعون وأجمعين. وأيضاً لثبات النون فإن قلت: إن هذه النون إنما تحذف مع الإضافة وهذه الأسماء التوابع نحو " أجمعين وبابه " مما لم تسمع إضافته فالنون فيها ثابتة على كل حال فهلا اقتصر عليها وقفيت الكلم كلها بها. قيل: إنها وإن لم يضف هذا الضرب من الأسماء فإن إضافة هذا القبيل من الكلم في غير هذا الموضع مطردة منقادة نحو: مسلموك وضاربو زيد وشاتمو جعفر فلما كان الأكثر فيما جمع بالواو والنون إنما هو جواز إضافته حمل الأقل في ذلك عليه وألحق في الحكم به. فأما قولهم: أخذ المال بأجمعه فليس أجمع هذا هو أجمع من قولهم: جاء الجيش أجمع وأكلت الرغيف أجمع من قبل أن أجمع هذا الذي يؤكد به لا يتنكر هو ولا ما يتبعه أبداً نحو أكتع وجميع هذا الباب وإذا لم يجز تنكيره كان من الإضافة أبعد إذ لا سبيل إلى إضافة اسم إلا بعد تنكيره وتصوره كذلك. ولهذا لم يأت عنهم شيء من إضافة أسماء الإشارة ولا الأسماء المضمرة إذ ليس فيها ما ينكر. ويؤكد ذلك عندك أنهم قد قالوا في هذا المعنى: جاء القوم بأجمعهم بضم الميم فكما أن هذه غير تلك لا محالة فكذلك المفتوحة الميم هي غير تلك. وهذا واضح. وينبغي أن تكون " أجمع " هذه المضمومة العين جمعاً مكسراً لا واحداً مفرداً من حيث كان هذا المثال مما يخص التكسير دون الإفراد وإذا كان كذلك فيجب أن يعرف خبر واحده ما هو. فأقرب ذلك إليه أن يكون جمع " جمع " من قول الله سبحانه {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. ويجوز عندي أيضاً أن يكون جمع أجمع على حذف الزيادة وعليه حمل أبو عبيدة قول الله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أنه جمع أشد على حذف الزيادة. قال: وربما استكرهوا على حذف هذه الزيادة في الواحد وأنشد بيت عنترة: عهدي به شد النهار أي أشد النهار ويعني أعلاه وأمتعه وذهب سيبويه في أشد هذه إلى أنها جمع شدة كنعمة وأنعم. وذهب أبو عثمان فيما رويناه عن أحمد بن يحيى عنه إلى أنه جمع لا واحد له. ثم لنعد فنقول: إنهم إذا كانوا في حال إكثارهم وتوكيدهم مستوحشين منه مصانعين عنه علم أنهم إلى الإيجاز أميل وبه أعنى وفيه أرغب ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام: من كثرة الحذوف كحذف المضاف وحذف الموصوف والاكتفاء بالقليل من الكثير كالواحد من الجماعة وكالتلويح من التصريح. فهذا ونحوه - مما يطول إيراده وشرحه - مما يزيل الشك عنك في رغبتهم فيما خف وأوجز عما طال وأمل وأنهم متى اضطروا إلى الإطالة لداعي حاجة أبانوا عن ثقلها عليهم واعتدوا بما كلفوه من ذلك أنفسهم وجعلوه كالمنبهة على فرط عنايتهم وتمكن الموضع عندهم وأنه ليس كغيره مما ليست له حرمته ولا النفس معنية به. نعم ولو لم يكن في الإطالة في بعض الأحوال إلا الخروج إليها عما قد ألف ومل من الإيجاز لكان مقنعاً. ألا ترى إلى كثرة غلبة الياء على الواو في عام الحال ثم مع هذا فقد ملوا ذلك إلى أن قلبوا الياء واواً قلباً ساذجاً أو كالساذج لا لشيء أكثر من الانتقال من حال إلى حال فإن المحبوب إذا كثر مل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا هريرة زر غباً تزدد حباً ) والطريق في هذا بحمد الله واضحة مهيع. وذلك الموضع الذي قلبت فيه الياء واواً على ما ذكرنا لام فعلى إذا كانت اسماً من نحو: الفتوى والرعوى والثنوى والبقوى والتقوى والشروى والعوى " لهذا النجم ". وعلى ذلك أو قريب منه قالوا: عوى الكلب عوة. وقالوا: الفتوة وهي من الياء وكذلك الندوة. وقالوا: هذا أمر ممضو عليه وهي المضواء وإنما هي من مضيت لا غير. وقد جاء عنهم: رجل مهوب وبر مكول ورجل مسور به. فقياس هذا كله على قول الخليل أن يكون مما قلبت فيه الياء واواً لأنه يعتقد أن المحذوف من هذا ونحوه إنما هو واو مفعول لا عينه وأنسه بذلك قولهم: قد هوب وسور به وكول. واعلم أنا - مع ما شرحنا وعنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه وإلحاقها بعلل الكلام - لا ندعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين ولا عليها براهين المهندسين غير أنا نقول: إن علل النحويين على ضربين: أحدهما واجب لا بد منه لأن النفس لا تطيق في معناه غيره. والآخر ما يمكن تحمله إلا أنه على تجشم واستكراه له. الأول - وهو ما لا بد للطبع منه -: قلب الألف واواً للضمة قبلها وياء للكسرة قبلها. أما الواو فنحو قولك في سائر: سويئر وفي ضارب: ضويرب. وأما الياء فنحو قولك في نحو تحقير قرطاس وتكسيره: قريطيس وقراطيس. فهذا ونحوه مما لا بد منه من نقبل أنه ليس في القوة ولا احتمال الطبيعة وقوع الألف المدة الساكنة بعد الكسرة ولا الضمة. فقلب الألف على هذا الحد علته الكسرة والضمة قبلها. فهذه علة برهانية ولا لبس فيها ولا توقف للنفس عنها. وليس كذلك قلب واو عصفور ونحوه ياء إذا انكسر ما قبلها نحو: عصيفير وعصافير ألا ترى أنه قد يمكنك تحمل المشقة في تصحيح هذه الواو بعد الكسرة وذلك بأن تقول عصيفور وعصافور. وكذلك نحو: موسر وموقن وميزان وميعاد لو أكرهت نفسك على تصحيح أصلها لأطاعتك عليه وأمكنتك منه وذلك قولك: موزان وموعاد وميسر وميقن. وكذلك ريح وقيل قد كنت قادراً أن تقول: قول وروح لكن مجيء الألف بعد الضمة أو الكسرة أو السكون محال ومنها لا يكون. ومن المستحيل جمعك بين الألفين المدتين نحو ما صار إليه قلب لام كساء ونحوه قبل إبدال الألف همزة وهو خطا كساا أو قضاا فهذا تتوهمه تقديراً ولا تلفظ به البتة. قال أبو إسحاق يوماً لخصم نازعه في جواز اجتماع الألفين المدتين - ومد الرجل الألف في نحو هذا وأطال - فقال له أبو إسحاق: لو مددتها إلى العصر ما كانت إلا ألفاً واحدة. وعلة امتناع ذلك عندي أنه قد ثبت أن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً فلو التقت ألفان مدتان لانتقضت القضية في ذلك ألا ترى أن الألف الأولى قبل الثانية ساكنة وإذا كان ما قبل الثانية ساكناً كان ذلك نقضاً في الشرط لا محالة. فأما قول أبي العباس في إنشاد سيبويه: دار لسعدى إذه من هواكا إنه خرج من باب الخطأ إلى باب الإحالة لأن الحرف الواحد لا يكون ساكناً متحركاً في حال فخطأ عندنا. وذلك أن الذي قال: " إذه من هواك " هو الذي يقول في الوصل: هي قامت فيسكن الياء وهي لغة معروفة فإذا حذفها في الوصل اضطراراً واحتاج إلى الوقف ردها حينئذ فقال: هي فصار الحرف المبدوء به غير الموقوف عليه فلم يجب من هذا أن يكون ساكناً متحركاً في حال وإنما كان قوله " إذه " على لغة من أسكن الياء لا لغة من حركها من قبل أن الحذف ضرب من الإعلال والإعلال إلى السواكن لضعفها أسبق منه إلى المتحركات لقوتها. وعلى هذا قبح قوله: لأنه موضع يتحرك فيه الحرف في نحو قولك: لم يكن الحق. وعلة جواز هذا البيت ونحوه مما حذف فيه ما يقوى بالحركة هي أن هذه الحركة إنما هي لالتقاء الساكنين وأحداث التقائهما ملغاة غير معتدة فكأن النون ساكنة وإن كانت لو أقرت لحركت فإن لم تقل بهذا لزمك أن تمتنع من إجماع العرب الحجازيين على قولهم: اردد الباب واصبب الماء واسلل السيف. وأن تحتج في دفع ذلك بأن تقول: لا أجمع بين مثلين متحركين. وهذا واضح. ومن طريف حديث اجتماع السواكن شيء وإن كان في لغة العجم فإن طريق الحس موضع تتلاقى عليه طباع البشر ويتحاكم إليه الأسود والأحمر وذلك قولهم: " آرد " للدقيق و " ماست " للبن فيجمعون بين ثلاثة سواكن. إلا أنني لم أر ذلك إلا فيما كان ساكنه الأول ألفاً وذلك أن الألف لما قاربت بضعفها وخفائها الحركة صارت " ماست " كأنها مست. فإن قلت: فأجز على هذا الجمع بين الألفين المدتين واعتقد أن الأولى منهما كالفتحة قبل الثانية. قيل: هذا فاسد وذلك أن الألف قبل السين في " ماست " إذا أنت استوفيتها أدتك إلى شيء آخر غيرها مخالف لها وتلك حال الحركة قبل الحرف: أن يكون بينهما فرق ما ولو تجشمت نحو ذلك في جمعك في اللفظ بين ألفين مدتين نحو كساا وحمراا لكان مضافاً إلى اجتماع ساكنين أنك خرجت من الألف إلى ألف مثلها وعلى سمتها والحركة لا بد لها أن تكون مخالفة للحرف بعدها هذا مع انتقاص القضية في سكون ما قبل الألف الثانية. ورأيت مع هذا أبا علي - رحمه الله - كغير المستوحش من الابتداء بالساكن في كلام العجم. ولعمري إنه لم يصرح بإجازته لكنه لم يتشدد فيه تشدده في إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن. قال: وذلك أن العرب قد امتنعت من الابتداء بما يقارب حال الساكن وإن كان في الحقيقة متحركاً يعني همزة بين بين. قال: فإذا كان بعض المتحرك لمضارعته الساكن لا يمكن الابتداء به فما الظن بالساكن نفسه! قال: وإنما خفى حال هذا في اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة يريد أنها لما كثر ذلك فيها ضعفت حركاتها وخفيت. وأما أنا فأسمعهم كثيراً إذا أرادوا المفتاح قالوا: " كليد " فإن لم تبلغ الكاف أن تكون ساكنة فإن حركتها جد مضعفة حتى إنها ليخفى حالها علي فلا أدري أفتحة هي أم كسرة وقد تأملت ذلك طويلاً فلم أحل منه بطائل. وحدثني أبو علي رحمه الله قال: دخلت " هيتا " وأنا أريد الانحدار منها إلى بغداد فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل فعجبت منها وأقمنا هناك أياماً إلى أن صلح الطريق للمسير فإذا أنني قد تكلمت مع القوم بها وأظنه قال لي: إنني لما بعدت عنهم أنسيتها. ومما نحن بسبيله مذهب يونس في إلحاقه النون الخفيفة للتوكيد في التثنية وجماعة النساء وجمعه بين ساكنين في الوصل نحو قوله: اضربان زيداً واضربنان عمراً وليس ذلك - وإن كان في الإدراج - بالممتنع في الحس وإن كان غيره أسوغ فيه منه من قبل أن الألف إذا أشبع مدها صار ذلك كالحركة فيها ألا ترى إلى اطراد نحو: شابة ودابة وادهامت والضالين. فإن قلت: فإن الحرف لما كان مدغماً خفى فنبا اللسان عنه وعن الآخر بعده نبوة واحدة فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد وليست كذلك نون اضربان زيداً وأكرمنان جعفراً قيل: فالنون الساكنة أيضاً حرف خفي فجرت لذلك نحواً من الحرف المدغم وقد قرأ نافع {مَحْيَايَ وَمَمَاتِي} بسكون الياء من " محياي " وذلك لما نحن عليه من حديث الخفاء والياء المتحركة إذا وقعت بعد الألف احتيج لها إلى فضل اعتماد وإبانة وذلك قول الله تعالى {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ولذلك يحض المبتدئون والمتلقنون على إبانة هذه الياء لوقوعها بعد الألف فإذا كانت من الخفاء على ما ذكرنا وهي متحركة ازدادت خفاء بالسكون نحو محياي فأشبهت حينئذ الحرف المدغم. ونحو من ذلك ما يحكى عنهم من قولهم: " التقت حلقتا البطان " بإثبات الألف ساكنة في اللفظ قبل اللام وكأن ذلك إنما جاز ههنا لمضارعة اللام النون ألا ترى أن في مقطع اللام غنة كالنون وهي أيضاً تقرب من الياء حتى يجعلها بعضهم في اللفظ ياء فحملت اللام في هذا على النون كما حملت أيضاً عليها في لعلي ألا تراهم كيف كرهوا النون من لعلني مع اللام كما كرهوا النون في إنني وعلى ذلك قالوا: هذا بلوسفر وبلىسفر فأبدلوا الواو ياء لضعف حجز اللام كما أبدلوها " في قنية " ياء لضعف حجز النون وكأن " قنية " - وهي عندنا من " قنوت " - و " بلياً " أشبه من عذى وصبيان لأنه لا غنة في الذال والباء. ومثل " بلى " قولهم: فلان من علية الناس وناقة عليان. فأما إبدال يونس هذه النون في الوقف ألفاً وجمعه بين ألفين في اضرباا واضربناا فهو الضعيف المستكره الذي أباه أبو إسحاق وقال فيه ما قال. ومن الأمر الطبيعي الذي لا بد منه ولا وعى عنه أن يلتقي الحرفان الصحيحان فيسكن الأول منهما في الإدراج فلا يكون حينئذ بد من الادغام متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو قولك: شد وصب وحل فالادغام واجب لا محالة ولا يوجدك اللفظ به بداً منه. والمنفصلان نحو قولك: خذ ذاك ودع عامرا. فإن قلت: فقد أقدر أن أقول: شدد وحلل فلا أدغم قيل: متى تجشمت ذلك وقفت على الحرف الأول وقفة ما وكلامنا إنما هو على الوصل. فأما قراءة عاصم: " وقيل من راق " ببيان النون من " من " فمعيب في الإعراب معيف في الأسماع وذلك أن النون الساكنة لا توقف في وجوب ادغامها في الراء نحو: من رأيت ومن رآك فإن كان ارتكب ذلك ووقف على النون صحيحة غير مدغمة لينبه به على انفصال المبتدأ من خبره فغير مرضي أيضاً ألا ترى إلى قول عدي: من رأيت المنون عرين أم من ذا عليه من أن يضام خفير بإدغام نون " من " في راء رأيت ويكفي من هذا إجماع الجماعة على ادغام " من راق " وغيره مما تلك سبيله. وعاصم في هذا مناقض لمن قرأ: " فإذا هيتلقف " بإدغام تاء تلقف. وهذا عندي يدل على شدة اتصال المبتدأ بخبره فإذا صارا معاً ههنا كالجزء الواحد فجرى " هيت " في اللفظ مجرى خدب وهجف ولولا أن الأمر كذلك للزمك أن تقدر الابتداء بالساكن أعني تاء المضارعة من " تتلقف ". فاعرف ذلك. وأما المعتلان فإن كانا مدين منفصلين فالبيان لا غير نحو: في يده وذو وفرة وإن كانا متصلين ادغما نحو: مرضية ومدعوة فإن كان الأول غير لازم فك في المتصل أيضاً نحو قوله: بان الخليط ولو طووعت ما بانا وقول العجاج: وفاحم دووى حتى اعلنكسا ألا ترى أن الأصل داويت وطاوعت فالحرف الأول إذاً ليس لازماً. فإن كانا بعد الفتحة ادغما لا غير متصلين ومنفصلين وذلك نحو: قو وجو وحي وعي ومصطفو واقد وغلامي ياسر وهذا ظاهر. فهذا ونحوه طريق ما لا بد منه وما لا يجري مجرى التحيز إليه والتخير له. وما منه بد هو الأكثر وعليه اعتماد القول وفيه يطول السؤال والخوض وقد تقدم صدر منه ونحن نغترق في آتي الأبواب جميعه ولا قوة إلا بالله فأما إن استوفينا في الباب الواحد كل ما يتصل به - على تزاحم هذا الشأن وتقاود بعضه مع بعض - اضطرت الحال إلى إعادة كثير منه وتكريره في الأبواب المضاهية لبابه وسترى ذلك مشروحاً بحسب ما يعين الله عليه وينهض به. باب القول على الاطراد والشذوذ أصل مواضع " ط ر د " في كلامهم التتابع والاستمرار. من ذلك طردت الطريدة إذ اتبعتها واستمرت بين يديك ومنه مطاردة الفرسان بعضهم بعضاً ألا ترى أن هناك كراً وفراً فكل يطرد صاحبه. ومنه المطرد: رمح قصير يطرد به الوحش واطرد الجدول إذا تتابع ماؤه بالريح. أنشدني بعض أصحابنا لأعرابي: مالك لا تذكر أو تزور بيضاء بين حاجبيها نور تمشي كما يطرد الغدير ومنه بيت الأنصاري: أتعرف رسماً كاطراد المذاهب أي كتتابع المذاهب وهي جمع مذهب وعليه قول الآخر: سيكفيك الإله ومسنمات كجندل لبن تطرد الصلالا أي تتابع إلى الأرضين الممطورة لتشرب منها فهي تسرع وتستمر إليها. وعليه بقية الباب. يتركن شذان الحصى جوافلا أي ما تطاير وتهافت منه. وشذ الشيء يشِذ ويشُذ شذوذاً وشذاً وأشذذته أنا وشذذته أيضاً أشذه بالضم لا غير وأباها الأصمعي وقال: لا أعرف إلا شاذاً أي متفرقاً. وجمع شاذ شذاذ قال: كبعض من مر من الشذاذ هذا أصل هذين الأصلين في اللغة. ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سمته وطريقه في غيرهما فجعل أهل علم العرب ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطرداً وجعلوا ما فارق ما عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذاً حملاً لهذين الموضعين على أحكام غيرهما. ثم اعلم من بعد هذا أن الكلام في الاطراد والشذوذ على أربعة أضرب: مطرد في القياس والاستعمال جميعاً وهذا هو الغاية المطلوبة والمثابة المنوبة وذلك نحو: قام زيد وضربت عمراً ومررت بسعيد. ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال. وذلك نحو الماضي من: يدر ويدع. وكذلك قولهم " مكان مبقل " هذا هو القياس والأكثر في السماع باقل والأول مسموع أيضاً قال أبو داود لابنه أعاشني بعدك واد مبقل آكل من حوذانه وأنسل وقد حكى أيضاً أبو زيد في كتاب حيلة ومحالة: مكان مبقل. ومما يقوى في القياس يضعف في الاستعمال مفعول عسى اسماً صريحاً نحو قولك: عسى زيد قائماً أو قياماً هذا هو القياس غير أن السماع ورد بحظره والاقتصار على ترك استعمال الاسم ههنا وذلك قولهم: عسى زيد أن يقوم و {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}. وقد جاء عنهم شيء من الأول أنشدنا أبو علي: أكثرت في العذل ملحاً دائماً لا تعذلا إني عسيت صائما ومنه المثل السائر: " عسى الغويرأ بؤساً ". والثالث المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس نحو قولهم: أخوص الرمث واستصوبت الأمر. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: يقال استصوبت الشيء ولا يقال: استصبت الشيء. ومنه استحوذ وأغيلت المرأة واستنوق الجمل واستتيست الشاة وقول زهير: هنالك إن يسخولوا المال يخولوا ومنه اسفيل الجمل قال أبو النجم: والرابع الشاذ في القياس والاستعمال جميعاً. وهو كتتميم مفعول فيما عينه واو نحو: ثوب مصوون ومسك مدووف. وحكى البغداديون: فرس مقوود ورجل معوود من مرضه. وكل ذلك شاذ في القياس والاستعمال. فلا يسوغ القياس عليه ولا رد غيره إليه. ولا يحسن أيضاً استعماله فيما استعملته فيه إلا على وجه الحكاية. واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس فلا بد من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه لكنه لا يتخذ أصلاً يقاس عليه غيره. ألا ترى أنك إذا سمعت: استحوذ واستصوب أديتهما بحالهما ولم تتجاوز ما ورد به السمع فيهما إلى غيرهما. ألا تراك لا تقول في استقام: استقوم ولا في استساغ: استسوغ ولا في استباع: استبيع ولا في أعاد: أعود لو لم تسمع شيئاً من ذلك قياساً على قولهم: أخوص الرمث. فإن كان الشيء شاذاً في السماع مطرداً في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله. من ذلك امتناعك من: وذر وودع لأنهم لم يقولوهما ولا غرو عليك أن تستعمل نظيرهما نحو: وزن ووعد لو لم تسمعهما. فأما قول أبي الأسود: ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه فشاذ. وكذلك قراءة بعضهم { ما وَدَعك ربك وما قلى }. فأما قولهم: ودع الشيء يدع - إذا وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف فمعنى " لم يدع " - بكسر الدال - أي لم يتدع ولم يثبت والجملة بعد " زمان " في موضع جر لكونها صفة له والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره: لم يدع فيه أو لأجله من المال إلا مسحت أو مجلف فيرتفع " مسحت " بفعله و " مجلف " عطف عليه وهذا أمر ظاهر ليس فيه من الاعتذار والاعتلال ما في الرواية الأخرى. ويحكى عن معاوية أنه قال: خير المجالس ما سافر فيه البصر واتدع فيه البدن. ومن ذلك استعمالك " أن " بعد كاد نحو: كاد زيد أن يقوم هو قليل شاذ في الاستعمال وإن لم يكن قبيحاً ولا مأبياً في القياس. ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم قاعدان هذا كلامها. قال أبو عثمان: والقياس يوجب أن تقول: أقائم أخواك أم قاعد هما إلا أن العرب لا تقوله إلا قاعدان فتصل الضمير والقياس يوجب فصله ليعادل الجملة الأولى.
باب في تقاود السماع وتقارع الانتزاع
هذا الموضع كأنه أصل الخلاف الشاجر بين النحويين. وسنفرد له باباً. غير أنا نقدم ها هنا ما كان لائقاً به ومقدمة للقول من بعده. وذلك على أضرب: فمنها أن يكثر الشيء فيسئل عن علته كرفع الفاعل ونصب المفعول فيذهب قوم إلى شيء ويذهب آخرون إلى غيره. فقد وجب إذاً تأمل القولين واعتماد أقواهما ورفض صاحبه. فإن تساويا في القوة لم ينكرا اعتقادهما جميعاً فقد يكون الحكم الواحد معلولاً بعلتين. وسنفرد لذلك باباً. وعلى هذا معظم قوانين العربية. وأمره واضح فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه. ومنها أن يسمع الشيء فيستدل به من وجه على تصحيح شيء أو إفساد غيره ويستدل به من وجه آخر على شيء غير الأول. وذلك كقولك: ضربتك وأكرمته ونحو ذلك مما يتصل فيه الضمير المنصوب بالضمير قبله المرفوع. فهذا موضع يمكن أن يستدل اتصال الفعل بفاعله. ووجه الدلالة منه على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الكاف في نحو ضربتك من الضمير المتصل كما أن الكاف في نحو ضربك زيد كذلك ونحن نرى الكاف في ضربتك لم تباشر نفس الفعل كما باشرته في نحو ضربك زيد وإنما باشرت الفاعل الذي هو التاء فلولا أن الفاعل قد مزج بالفعل وصيغ معه حتى صار جزءاً من جملته لما كانت الكاف من الضمير المتصل ولاعتدت لذلك منفصلة لا متصلة. لكنهم أجروا التاء التي هي ضمير الفاعل في نحو ضربتك - وإن لم تكن من نفس حروف الفعل - مجرى نون التوكيد التي يبنى الفعل عليها ويضم إليها في نحو لأضربنك. فكما أن الكاف في نحو هذا معتدة من الضمير المتصل وإن لم تل نفس الفعل كذلك الكاف في نحو ضربتك ضمير متصل وإن لم تل نفس الفعل. فهذا وجه الاستدلال بهذه المسألة ونحوها على شدة اتصال الفعل بفاعله وتصحيح القول بذلك. وأما وجه إفساده شيئاً آخر فمن قبل أن فيه رداً على من قال: إن المفعول إنما نصبه الفاعل وحده لا الفعل وحده ولا الفعل والفاعل جميعاً. وطريق الاستدلال بذلك أنا قد علمنا أنهم إنما يعنون بقولهم: الضمير المتصل: أنه متصل بالعامل فيه لا محالة ألا تراهم يقولون: إن الهاء في نحو مررت به ونزلت عليه ضمير متصل أي متصل بما عمل فيه وهو الجار وليس لك أن تقول: إنه متصل بالفعل لأن الباء كأنها جزء من الفعل من حيث كانت معاقبة لأحد أجزائه المصوغة فيه وهي همزة أفعل وذلك نحو أنزلته ونزلت به وأدخلته ودخلت به وأخرجته وخرجت به لأمرين: أحدهما أنك إن اعتددت الباء لما ذكرت كأنها بعض الفعل فإن هنا دليلاً آخر يدل على أنها كبعض الاسم ألا ترى أنك تحكم عليها وعلى ما جرته بأنهما جميعاً في موضع نصب بالفعل حتى إنك لتجيز العطف عليهما جميعاً بالنصب نحو قولك: مررت بك وزيداً ونزلت عليه وجعفراً فإذا كان هنا أمران أحدهما على حكم والآخر على ضده وتعارضا هذا التعارض ترافعا أحكامهما وثبت أن الكاف في نحو مررت بك متصلة بنفس الباء لأنها هي العاملة فيها. وكذلك الهاء في نحو إنه أخوك وكأنه صاحبك وكأنه جعفر: هي ضمير متصل أي متصل بالعامل فيه وهذا واضح. والآخر إطباق النحويين على أن يقولوا في نحو هذا: إن الضمير قد خرج عن الفعل وانفصل من الفعل وهذا تصريح منهم بأنه متصل أي متصل بالباء العاملة فيه فلو كانت التاء في ضربتك هي العاملة في الكاف لفسد ذلك من قبل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل وغيره من النواصب مشبه في ذلك بالفعل والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل من حيث كان الفعل موغلاً في التنكير والاسم المضمر متناه في التعريف. بل إذا لم يعمل الضمير في الظرف ولا في الحال - وهما مما تعمل فيه المعاني - كان الضمير من نصب المفعول به أبعد وفي التقصير عن الوصول إليه أفعد. وأيضاً فإنك تقول: زيد ضرب عمراً والفاعل مضمر في نفسك لا موجود وأما الاستدلال بنحو ضربتك على شيء غير الموضعين المتقدمين فأن يقول قائل: إن الكاف في نحو ضربتك منصوبة بالفعل والفاعل جميعاً ويقول: إنه متصل بهما كاتصاله بالعامل فيه في نحو إنك قائم ونظيره. وهذا أيضاً وإن كان قد ذهب إليه هشام فإنه عندنا فاسد من أوجه: أحدها أنه قد صح ووضح أن الفعل والفاعل قد تنزلا باثني عشر دليلاً منزلة الجزء الواحد فالعمل إذاً إنما هو للفعل وحده واتصل به الفاعل فصار جزءاً منه كما صارت النون في نحو لتضربن زيداً كالجزء منه حتى خلط بها وبنى معها. ومنها أن الفعل والفاعل إنما هو معنى والمعاني لا تعمل في المفعول به إنما تعمل في الظروف. ومن ذلك أن تستدل بقول ضيغم الأسدي: إذا هو لم يخفني في ابن عمي وإن لم ألقه الرجل الظلوم على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء ألا ترى أن " هو " من قوله " إذا هو لم يخفني " ضمير الشأن والحديث وأنه مرفوع لا محالة. فلا يخلو رفعه من أن يكون بالابتداء كما قلنا أو بفعل مضمر. فيفسد أن يكون مرفوعاً بفعل مضمر لأن ذلك المضمر لا دليل عليه ولا تفسير له وما كانت هذه سبيله لم يجز إضماره. فإن قلت: فلم لا يكون قوله " لم يخفني في ابن عمي الرجل الظلوم " تفسيراً للفعل الرافع ل " هو " كقولك: إذا زيد لم يلقني غلامه فعلت كذا فترفع زيداً بفعل مضمر يكون ما بعده تفسيراً له. قيل: هذا فاسد من موضعين: أحدهما أنا لم نر هذا الضمير على سريطة التفسير عاملاً فيه فعل محتاج إلى تفسير. فإذا أدى هذا القول إلى ما لا نظير له وجب رفضه واطراح الذهاب إليه. والآخر أن قولك " لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هو تفسير ل " هو " من حيث كان ضمير الشأن والقصة لا بد له أن تفسره الجملة نحو قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقولنا {اللَّهُ أَحَدٌ} تفسير ل " هو ". وكذلك قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فقولك: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} تفسير ل " ها " من قولك: فإنها من حيث كانت ضمير القصة. فكذلك قوله: " لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هذه الجملة تفسير ل " هو ". فإذا ثبت أن هذه الجملة إنما هي تفسير لنفس الاسم المضمر بقي ذلك الفعل المضمر لا دليل عليه وإذا لم يقم عليه دليل بطل إضماره لما في ذلك من تكليف علم الغيب. وليس كذلك " إذا زيد قام أكرمتك " ونحوه من قبل أن زيداً تام غير محتاج إلى تفسير. فإذا لم يكن محتاجاً إليه صارت الجملة بعده تفسيراً للفعل الرافع له لا له نفسه. فإذا ثبت بما أوردناه ما أردناه علمت وتحققت أن " هو " من قوله " إذا هو لم يخفني الرجل الظلوم " مرفوع بالابتداء لا بفعل مضمر. وفي هذا البيت تقوية لمذهب أبي الحسن في إجازته الرفع بعد إذا الزمانية بالابتداء في نحو قوله تعالى {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}. ومعنا ما يشهد لقوله هذا: شيء غير هذا غير أنه ليس ذلك غرضنا هنا إنما الغرض إعلامنا أن في البيت دلالة على صحة مذهب أبي الحسن هذا. فهذا وجه صحيح يمكن أن يستنبط من بيت ضيغم الذي أنشدناه. وفيه دليل آخر على جواز خلق الجملة الجارية خبراً عن المبتدأ من ضمير يعود إليه منها ألا ترى أن قوله " لم يخفني الرجل الظلوم " ليس فيه عائد على هو وكيف يكون الأمر إلا هكذا ألا تعلم أن هذا المضمر على شريطة التفسير لا يوصف ولا يؤكد ولا يعطف عليه ولا يبدل منه ولا يعود عائد ذكر عليه وذلك لضعفه من حيث كان مفتقراً إلى تفسيره. وعلى هذا ونحوه عامة ما يرد عليك من هذا الضرب ألا ترى أن قول الله عز وجل {اللَّهُ أَحَدٌ} لاضمير فيه يعود على " هو " من قبله. واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازاً صحيحاً أن يستدل به على أمر ما وأن يستدل به على ضده البتة. وذلك نحو مررت بزيد ورغبت في عمرو وعجبت من محمد وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجر. فأحد ما يدل عليه هذا الضرب من القول أن الجار معتد من جملة الفعل الواصل به ألا ترى أن الباء في نحو مررت بزيد معاقبة الهمزة لنقل في نحو أمررت زيداً وكذلك قولك أخرجته وخرجت به وأنزلته ونزلت به. فكما أن همزة أفعل مصوغة فيه كائنة من جملته فكذلك ما عاقبها من حروف الجر ينبغي أن يعتد أيضاً من جملة الفعل لمعاقبته ما هو من جملته. فهذا وجه. والآخر أن يدل ذلك على أن حرف الجر جار مجرى بعض ما جره ألا ترى أنك تحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب فيعطف عليه فينصب لذلك فنقول: مررت بزيد وعمراً وكذلك أيضاً لا يفصل بين الجار والمجرور لكونهما في كثير من المواضع بمنزلة الجزء الواحد. أفلا تراك كيف تقدر اللفظ الواحد تقديرين مختلفين وكل واحد منهما مقبول في القياس متلقى بالبشر والإيناس. ومن ذلك قول الآخر: زمان علي غراب غداف فطيره الشيب عني فطارا فهذا موضع يمكن أن يذهب ذاهب فيه إلى سقوط حكم ما تعلق به الظرف من الفعل ويمكن أيضاً أن يستدل به على ثباته وبقاء حكمه. وذلك أن الظرف الذي هو " علي " متعلق بمحذوف وتقديره غداة ثبت علي أو استقر علي غراب ثم حذف الفعل وأقيم الظرف مقامه. وقوله فطيره - كما ترى - معطوف. فأما من أثبت به حكم الفعل المحذوف فله أن يقول: إن طيره معطوف على ثبت أو استقر وجواز العطف عليه أدل دليل على اعتداده وبقاء حكمه وأن العقد عليه والمعاملة في هذا ونحوه إنما هي معه ألا ترى أن العطف نظير التثنية ومحال أن يثنى الشيء فيصير مع صاحبه شيئين إلا وحالهما في الثبات والاعتداد واحدة. فهذا وجه جواز الاستدلال به على بقاء حكم ما تعلق به الظرف وأنه ليس أصلاً متروكاً ولا شرعاً منسوخاً. وأما جواز اعتقاد سقوط حكم ما تعلق به الظرف من هذا البيت فلأنه قد عطف قوله " فطيره " على قوله " علي " وإذا جاز عطف الفعل على الظرف قوي حكم الظرف في قيامه مقام الفعل المتعلق هو به وإسقاطه حكمه وتوليه من العمل ما كان الفعل يتولاه وتناوله به ما كان متناولاً له. فهذان وجهان من الاستدلال بالشيء الواحد على الحكمين الضدين وإن كان وجه الدلالة به على قوة حكم الظرف وضعف حكم الفعل في هذا وما يجري مجراه هو الصواب عندنا وعليه اعتمادنا وعقدنا. وليس هذا موضع الانتصار لما نعتقده فيه وإنما الغرض منه أن نرى وجه ابتداء تفرع القول وكيف يأخذ بصاحبه ومن أين يقتاد الناظر فيه إلى أنحائه ومصارفه. ونظير هذا البيت في حديث الظرف والفعل من طريق العطف قول الله عز اسمه {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} أفلا تراه كيف عطف الظرف الذي هو {لَهُ مِن قُوَّةٍ} على قوله " تبلى " وهو فعل فالآية نظيرة البيت في العطف وإن اختلفا في تقدم الظرف تارة وتأخره أخرى. وهذا أمر فيه انتشار وامتداد وإنما أفرض منه ومما يجري مجراه ما يستدل به ويجعل عياراً على غيره. والأمر أوسع شقة وأظهر كلفة ومشقة ولكن إن طبنت له ورفقت به أولاك جانبه وأمطاك كاهله وغاربه وإن خبطته وتورطته كدك مهله وأوعرت بك سبله فرفقاً وتأملاً.
باب في مقاييس العربية
وهي ضربان: أحدهما معنوي والآخر لفظي. وهذان الضربان وإن عما وفشوا في هذه اللغة فإن أقواهما وأوسعهما هو القياس المعنوي ألا ترى أن الأسباب المانعة من الصرف تسعة: واحد منها لفظي وهو شبه الفعل لفظاً نحو أحمد ويرمع وتنضب وإثمد وأبلم وبقم وإستبرق والثمانية الباقية كلها معنوية كالتعريف والوصف والعدل والتأنيث وغير ذلك. فهذا دليل. ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول: رفعت هذا لأنه فاعل ونصبت هذا لأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوي لا لفظي. ولأجله ما كانت العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفراً فإن " ضرب " لم تعمل في الحقيقة شيئاً وهل تحصل من قولك ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل فهذا هو الصوت والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوباً إليه الفعل. وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك أن بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه كمررت بزيد وليت عمراً قائم وبعضه يأتي عارياً من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره. وإنما قالوا: لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ أو باشتمال المعنى على اللفظ. وهذا واضح. واعلم أن القياس اللفظي إذا تأملته عارياً من اشتمال المعنى عليه ألا ترى أنك إذا سئلت عن " إن " من قوله: ورج الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيراً لا يزال يزيد فإنك قائل: دخلت على " ما " - وإن كانت " ما " ههنا مصدرية - لشبهها لفظاً بما النافية التي تؤكد بإن من قوله: ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم تخالج الأمر إن الأمر مشترك وشبه اللفظ بينهما يصير " ما " المصدرية إلى أنها كأنها " ما " التي معناها النفي أفلا ترى أنك لو لم تجذب إحداهما إلى أنها كأنها بمعنى الأخرى لم يجز لك إلحاق " إن " بها. فالمعنى إذاً أشيع وأسير حكماً من اللفظ لأنك في اللفظي متصور لحال المعنوي ولست في المعنوي بمحتاج إلى تصور حكم اللفظي. فاعرف ذلك. واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل ما إذا تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن وأنه منها على أقوى بال ألا ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حده فأعطوا الرفع في التثنية الألف والرفع في الجمع الواو والجر فيهما الياء وبقي النصب لا حرف له فيماز به جذبوه إلى الجر فحملوه عليه دون الرفع لتلك الأسباب المعروفة هناك فلا حاجة بنا هنا إلى الإطالة بذكرها ففعلوا ذلك ضرورة ثم لما صاروا إلى جمع التأنيث حملوا النصب أيضاً على الجر فقالوا ضربت الهندات " كما قالوا مررت بالهندات " ولا ضرورة هنا لأنهم قد كانوا قادرين على أن يفتحوا التاء فيقولوا: رأيت الهندات فلم يفعلوا ذلك مع إمكانه وزوال الضرورة التي عارضت في المذكر عنه فدل دخولهم تحت هذا - مع أن الحال لا تضطر إليه - على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل وإن عرى من ضرورة الأصل. وهذا جلي كما ترى. ومن ذلك حملهم حروف المضارعة بعضها على حكم بعض في نحو حذفهم الهمزة في نكرم وتكرم ويكرم لحذفهم إياها في أكرم لما كان يكون هناك من الاستثقال لاجتماع الهمزتين في نحو أؤكرم وإن عريت بقية حروف المضارعة - لو لم تحذف - من اجتماع همزتين وحذفهم أيضاً الفاء من نحو وعد وورد في يعد ويرد لما كان يلزم - لو لم تحذف - من وقوع الواوين ياء وكسرة ثم حملوا على ذلك ما لو لم يحذفوه بين ياء وكسرة نحو أعد وتعد ونعد لا فإذا جاز أن يحمل حروف المضارعة بعضها على بعض - ومراتبها متساوية وليس بعضها أصلاً لبعض - كان حمل المؤنث على المذكر لأن المذكر أسبق رتبة من المؤنث أولى وأجدر. ومن ذلك مراعاتهم في الجمع حال الواحد لأنه أسبق من الجمع ألا تراهم لما أعلت الواو في الواحد أعلوها أيضاً في الجمع في نحو قيمة وقيم وديمة وديم لما صحت في الواحد صححوها في الجمع فقالوا: زوج وزوجة وثور وثورة. فأما ثيرة ففي إعلال واوه ثلاثة أقوال: أما صاحب الكتاب فحمله على الشذوذ وأما العباس فذكر أنهم أعلوه ليفصلوا بذلك بين الثور من الحيوان وبين الثور وهو القطعة من الأقط لأنهم لا يقولون فيه إلا ثِوَرة بالتصحيح لا غير. وأما أبو بكر فذهب في إعلال ثيَرة إلى أن ذلك لأنها منقوصة من ثيارة فتركوا الإعلال في العين أمارة لما نووه من الألف كما جعلوا تصحيح نحو اجتوروا واعتونوا دليلاً على أنه في معنى ما لابد من صحته وهو تجاوروا وتعاونوا. وقد قالوا أيضاً: ثيرة قال: صدر النهار يراعي ثيرةً رتعا وهذا لا نكير له في وجوبه لسكونه عينه. نعم وقد دعاهم إيثارهم لتشبيه الأشياء بعضها ببعض أن حملوا الأصل على الفرع ألا تراهم يعلون المصدر لإعلال فعله ويصححونه لصحته. وذلك نحو قولك: قمت قياماً وقاومت قواماً. فإذا حملوا الأصل الذي هو المصدر على الفرع الذي هو الفعل فهل بقي في وضوح الدلالة على إيثارهم تشبيه الأشياء المتقاربة بعضها ببعض شبهة! وعلى ذلك أيضاً عوضوا في المصدر ما حذفوه في الفعل فقالوا: أكرم يكرم فلما حذفوا الهمزة في المضارع أثبتوها في المصدر فقالوا: الإكرام فدل هذا على أن هذه المثل كلها جارية مجرى المثال الواحد ألا تراهم لما حذفوا ياء فرازين عوضوا منها الهاء في نفس المثال فقالوا فرازنة. وكذلك لما حذفوا فاء عدة عوضوا منها نفسها التاء. وكذلك أينق في أحد قولي سيبويه فيها: لما حذفوا عينها عوضوا منها الياء في نفس المثال. فدل هذا وغيره مما يطول تعداده على أن المثال والمصدر واسم الفاعل كل واحد منها يجري عندهم وفي محصول اعتدادهم مجرى الصورة الواحدة حتى إنه إذا لزم في بعضها شيء لعلة ما أوجبوه في الآخر وإن عرى في الظاهر من تلك العلة فأما في الحقيقة فكأنها فيه نفسه ألا ترى أنه إذا صح أن جميع هذه الأشياء على اختلاف أحوالها تجري عندهم مجرى المثال الواحد فإذا وجب في شيء منها حكم فإنه لذلك كأنه أمر لا يخصه من بقية الباب بل هو جار في الجميع مجرى واحداً لما قدمنا ذكره من الحال آنفاً. واعلم أن من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو عندهم من كلام العرب نحو قولك في قوله: كيف تبني من ضرب مثل جعفر: ضربب هذا من كلام العرب ولو بنيت مثله ضيرب أو ضورب أو ضروب أو نحو ذلك لم يعتقد من كلام العرب لأنه قياس على الأقل استعمالاً والأضعف قياساً. وسنفرد لهذا الفصل باباً فإن فيه نظراً صالحاً.
باب جواز القياس على ما يقل ورفضه فيما هو أكثر منه
هذا باب ظاهره - إلى أن تعرف صورته - ظاهر التناقض إلا أنه مع تأمله صحيح. وذلك أن يقل الشيء وهو قياس ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس بقياس. الأول قولهم في النسب إلى شنوءة: شنئي فلك - من بعد - أن تقول في الإضافة إلى قتوبة: قتبي وإلى ركوبة: ركبي وإلى حلوبة: حلبي قياساً على شنئي. وذلك أنهم أجروا فعولة مجرى فعيلة لمشابهتها إياها من عدة أوجه: أحدها أن كل واحدة من فعولة وفعيلة ثلاثي ثم إن ثالث كل واحدة منهما حرف لين يجري مجرى صاحبه ألا ترى إلى اجتماع الواو والياء ردفين وامتناع ذلك في الألف وإلى جواز حركة كل واحدة من الياء والواو مع امتناع ذلك في الألف إلى غير ذلك. ومنها أن في كل واحدة من فعولة وفعيلة تاء التأنيث. ومنها اصطحاب فعول وفعيل على الموضع الواحد نحو أثيم وأثوم ورحيم ورحوم ومشي ومشو ونهي عن الشيء ونهو. فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار جرت واو شنوءة مجرى ياء حنيفة فكما قال أبو الحسن: فإن قلت: إنما جاء هذا في حرف واحد - يعني شنوءة - قال: فإنه جميع ما جاء. وما ألطف هذا من القول من أبي الحسن! وتفسيره أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف والقياس قابله ولم يأت فيه شيء ينقضه. فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء وكان أيضاً صحيحاً في القياس مقبولاً فلا غرو ولا ملام. وأما ما هو أكثر من باب شنئي ولا يجوز القياس عليه لأنه لم يكن هو على قياس فقولهم في ثقيف: ثقفي وفي قريش: قرشي وفي سليم: سلمي فهذا وإن كان أكثر من شنئي فإنه عند سيبويه ضعيف في القياس. فلا يجيز على هذا في سعيد سعدي ولا في كريم كرمي. فقد برد في اليد من هذا الموضع قانون يحمل عليه ويرد غيره إليه. وإنما أذكر من هذا ونحوه رسوماً لتقتدى وأفرض منه آثاراً لتقتفى ولو التزمت الاستكثار منه لطال الكتاب به وأمل قارئه. واعلم أن من قال في حلوبة: حلبي قياساً على قولك في حنيفة: حنفي فإنه لا يجيز في النسب إلى حرورة حرري ولا في صرورة صرري ولا في قوولة قولي. وذلك أن فعولة في هذا محمولة على فعيلة وأنت لا تقول في الإضافة إلى فعيلة إذا كانت مضعفة أو معتلة العين إلا بالتصحيح نحو قولهم في شديد: شديدي وفي طويلة: طويلي استثقالاً لقولك: شددي وطولي. فإذا كانت فعولة محمولة على فعيلة وفعيلة لا تقول فيها مع التضعيف واعتلال العين إلا بالإتمام فما كان محمولاً عليها أولى بأن يصح ولا يعل. ومن قال في شنوءة: شنئي فأعل فإنه لا يقول في نحو جرادة وسعادة إلا بالإتمام: جرادي وسعادي. وذلك لبعد الألف عن الياء " و " لما فيها من الخفة. ولو جاز أن يقول في نحو جرادة: جردي لم يجز ذلك في نحو حمامة وعجاجة: حممي ولا عججي استكراهاً للتضعيف إلا أن يأنس بإظهار تضعيف فعل ولا في نحو سيابة وحوالة: سيبي ولا حولي استكراهاً لحركة المعتل في هذا الموضع. وعلة ذلك ثابتة في التصريف فغنينا عن ذكرها الآن. باب في تعارض السماع والقياس إذا تعارضا نطقت بالمسموع على ما جاء عليه ولم تقسه في غيره وذلك نحو قول الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فهذا ليس بقياس لكنه لا بد من قبوله لأنك إنما تنطق بلغتهم وتحتذي في جميع ذلك أمثلتهم. ثم إنك من بعد لا تقيس عليه غيره ألا تراك لا تقول في استقام: استقوم ولا في استباع: استبيع. فأما قولهم " استنوق الجمل " و " استتيست الشاة " و " استفيل الجمل " فكأنه أسهل من استحوذ وذلك أن استحوذ قد تقدمه الثلاثي معتلاً نحو قوله: يحوذهن وله حوذي كما يحوذ الفئة الكمي - يروى بالذال والزاي: يحوذهن و يحوزهن -. فلما كان استحوذ خارجاً عن معتل: أعني حاذ يحوذ وجب إعلاله إلحاقاً في الإعلال به. وكذلك باب أقام وأطال واستعاذ واستزاد مما يسكن ما قبل عينه في الأصل ألا ترى أن أصل أقام أقوم وأصل استعاذ استعوذ فلو أخلينا وهذا اللفظ لاقتضت الصورة تصحيح العين لسكون ما قبلها غير أنه لما كان منقولاً ومخرجاً من معتل - هو قام وعاذ - أجرى أيضاً في الإعلال عليه. وليس كذلك " استنوق الجمل " و " استتيست الشاة " لأن هذا ليس منه فعل معتل ألا تراك لا تقول: ناق ولا تاس إنما الناقة والتيس اسمان لجوهر لم يصرف منهما فعل معتل. فكان خروجهما على الصحة أمثل منه في باب استقام واستعاذ. وكذلك استفيل. ومع هذا أيضاً فإن استنوق واستتيس شاذ ألا تراك لو تكلفت أن تأتي باستفعل من الطود لما قلت: استطود ولا من الحوت استحوت ولا من الخوط استخوط ولكان القياس أن تقول: استطاد واستحات واستخاط. والعلة في وجوب إعلاله وإعلال استنوق واستفيل واستتيست أنا قد أحطنا علماً بأن الفعل إنما يشق من الحدث لا من الجوهر ألا ترى إلى قوله " وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء " فإذا كان كذلك وجب أن يكون استنوق مشتقاً من المصدر. وكان قياس مصدره أن يكون معتلاً فيقال: استناقة كاستعانة واستشارة. وذلك أنه وإن لم يكن تحته ثلاثي معتل كقام وباع فيلزم إجراؤه في الإعلال عليه فإن باب الفعل إذا كانت عينه أحد الحرفين أن يجيء معتلاً إلا ما يستثنى من ذلك نحو طاول وبايع وحول وعور واجتوروا واعتونوا لتلك العلل المذكورة هناك. وليس باب أفعل ولا استفعل منه. فلما كان الباب في الفعل ما ذكرناه من وجوب إعلاله وجب أيضاً أن يجيء استنوق ونحوه بالإعلال لاطراد ذلك في الفعل كما أن الاسم إذا كان على فاعل كالكاهل والغارب إلا أن عينه حرف علة لم يأت عنهم إلا مهموزاً وإن لم يجر على فعل ألا تراهم همزوا الحائش وهو اسم لا صفة ولا هو جار على فعل فأعلوا عينه وهي في الأصل واو من الحوش. فإن قلت: فلعله جار على حاش جريان قائم على قام قيل: لم نرهم أجروه صفة ولا أعملوه عمل الفعل وإنما الحائش: البستان بمنزلة الصور وبمنزلة الحديقة. فإن قلت: فإن فيه معنى الفعل لأنه يحوش ما فيه من النخل وغيره وهذا يؤكد كونه في الأصل صفة وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء كصاحب ووالد قيل: ما فيه من معنى الفعلية لا يوجب كونه صفة ألا ترى إلى قولهم: الكاهل والغارب وهما وإن كان فيهما معنى الاكتهال والغروب فإنهما اسمان. ولا يستنكر أن يكون في الأسماء غير الجارية على الأفعال معاني الأفعال. من ذلك قولهم: مفتاح ومنسج ومسعط ومنديل ودار ونحو ذلك تجد في كل واحد منها معنى الفعل وإن لم تكن جارية عليه. فمفتاح من الفتح ومنسج من النسج ومسعط من الإسعاط ومنديل من الندل وهو التناول على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلاً زريق المال ندل الثعالب وكذلك دار: من دار يدور لكثرة حركة الناس فيها وكذلك كثير من هذه المشتقات تجد فيها معاني الأفعال وإن لم تكن جارية عليها. فكذلك الحائش جاء مهموزاً وإن لم يكن اسم فاعل لا لشيء غير مجيئه على ما يلزم اعتلال عينه نحو قائم وبائع وصائم. فاعرف ذلك. وهو رأي أبي علي رحمه الله وعنه أخذته لفظاً ومراجعة وبحثاً. ومثله سواء الحائط: هو اسم بمنزلة الركن والسقف وإن كان فيه معنى الحوط. ومثله أيضاً العائر للرمد هو اسم مصدر بمنزلة الفالج والباطل والباغز وليس اسم فاعل ولا جارياً على معتل وهو كما تراه معتل. فإن قلت: فما تقول في استعان وقد أعل وليس تحته معتل ألا تراك لا تقول: عان يعون كقام يقوم قيل: هو وإن لم ينطق بثلاثيه فإنه في حكم المنطوق به وعليه جاء أعان يعين. وقد شاع الإعلال في هذا الأصل ألا تراهم قالوا: المعونة - فأعلوها كالمثوبة والمعوضة - والإعانة والاستعانة. فأما المعاونة فكالمعاودة: صحت لوقوع الألف قبلها. فلما اطرد الإعلال في جميع ذلك دل أن ثلاثيه وإن لم يكن مستعملاً فإنه في حكم ذلك. وليس هذا بأبعد من اعتقاد موضع " أن " لنصب الأفعال في تلك الأجوبة وهي الأمر والنهي وبقية ذلك وإن لم تستعمل قط. فإذا جاز اعتقاد ذلك وطرد المسائل عليه لدلالة الحال على ثبوته في النفس كان إعلال نحو أعان واستعان ومعين ومستعين والإعانة والاستعانة - لاعتقاد كون الثلاثي من ذلك في حكم الملفوظ به - أحرى وأولى. وأيضاً فقد نطقوا من ثلاثية بالعون وهو مصدر وإذا ثبت أمر المصدر الذي هو الأصل لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع قال لي أبو علي بالشام: إذا صحت الصفة فالفعل في الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة كان في المصدر أجدر لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة ألا ترى أن في الصفة " ما ليس بمشتق " نحو قولك: مررت بإبل مائة ومررت برجل أبي عشرة أبوه ومررت بقاع عرفج كله ومررت بصحيفة طين خاتمها ومررت بحية ذراع طولها وليس هذا مما يشاب به المصدر وإنما هو ذلك الحدث الصافي كالضرب والقتل والأكل والشرب. فإن قلت: ألا تعلم أن في الناقة معنى الفعل. وذلك أنها من التنوق في الشيء وتحسينه قال ذو الرمة: تنوقت به حضرميات الأكف الحوائك والتقاؤهما أن الناقة عندهم مما يتحسن به ويزدان بملكه وبالإبل يتباهون وعليها يحملون ويتحملون ولذلك قالوا لمذكرها: الجمل لأنه فَعَل من الجمال كما أن الناقة فعلة من التنوق. وعلى هذا قالوا: قد كثر عليه المشاء والفشاء والوشاء إذا تناسل عليه المال. فالوشاء فَعَال من الوشي كأن المال عندهم زينة وجمال لهم كما يلبس من الوشي للتحسن به. وعلى ذلك قالوا: ما بالدار دبيج فهو فِعيل من لفظ الديباج ومعناه. وذلك أن الناس هم الذين يشون الأرض وبهم تحسن وعلى أيديهم وبعمارتهم تجمل. وعليه قالوا: إنسان لأنه فعلان من الأنس. فقد ترى إلى توافي هذه الأشياء وتباين شعاعها وكونها عائدة إلى موضع واحد لأن التنوق والجمال والأنس والوشي والديباج مما يؤثر ويستحسن - وكنت عرضت هذا الموضع على أبي علي رحمه الله فرضيه وأحسن تقبله - فكذلك يكون استنوق من باب استحوذ من حاذ يحوذ من حيث كان في الناقة معنى الفعل من التنوق دون أن يكون بعيداً عنه كما رمت أنت في أول الفصل. انقضى السؤال. فالجواب أن استنوق أبعد عن الفعل من استحوذ على ما قدمنا. فأما ما في الناقة من معنى الفعلية والتنوق فليس بأكثر مما في الحجر من معنى الاستحجار والصلابة فكما أن استحجر الطين واستنسر البغاث من لفظ الحجر والنسر فكذلك استنوق من لفظ الناقة والجميع ناء عن الفعل وما فيه من معنى الفعلية إنما هو كما في مفتاح ومدق ومنديل ونحو ذلك منه. ومما ورد شاذاً عن القياس ومطرداً في الاستعمال قولهم: الحوكة والخونة. فهذا من الشذوذ عن القياس على ما ترى وهو في الاستعمال منقاد غير متأب ولا تقول على هذا في جمع قائم: قومة ولا في صائم: صومة ولو جاء على فعلة ما كان إلا معلا. وقد قالوا على القياس: خانة. ولا تكاد تجد شيئاً من تصحيح نحو مثل هذا في الياء: لم يأت عنهم في نحو بائع وسائر بيعة ولا سيرة. وإنما شذ من هذا مما عينه واو لا ياء نحو الحوكة والخونة والخول والدول. وعلته عندي قرب الألف من الياء وبعدها عن الواو فإذا صحت نحو الحوكة كان أسهل من تصحيح نحو البيعة. وذلك أن الألف لما قربت من الياء أسرع انقلاب الياء إليها فكان ذلك أسوغ من انقلاب الواو إليها لبعد الواو عنها ألا ترى إلى كثرة قلب الياء ألفاً استحساناً لا وجوباً نحو قولهم في طيء: طائي وفي الحيرة: حاري وقولهم في حيحيت وعيعيت وهيهيت: حاحيت وعاعيت وهاهيت. وقلما ترى في الواو مثل هذا. فإذا كان بين الألف والياء هذه الوصل والقرب كان تصحيح نحو بيعة وسيرة أشق عليهم من تصحيح نحو الحوكة والخونة لبعد الواو من الألف وبقدر بعدها عنها ما يقل انقلابها إليها. ولأجل هذا الذي ذكرناه عندي ما كثر عنهم نحو اجتوروا واعتونوا واهتوشوا. ولم يأت عنهم من هذا التصحيح شيء في الياء ألا تراهم لا يقولون: ابتيعوا ولا استيروا ولا نحو ذلك وإن كان في معنى تبايعوا وتسايروا. وعلى أنه قد جاء حرف واحد من الياء في هذا فلم يأت إلا معلاً وهو قولهم: استافوا في معنى تسايفوا ولم يقولوا استيفوا لما ذكرناه من جفاء ترك قلب الياء ألفاً في هذا الموضع الذي قد قويت فيه داعية القلب. وقد ذكرنا هذا في " كتابنا في شعر هذيل " بمقتضى الحال فيه. وإن شذ الشيء في الاستعمال وقوى في القياس كان استعمال ما كثر استعماله أولى وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله. من ذلك اللغة التميمية في " ما " هي أقوى قياساً وإن كانت الحجازية أسير استعمالاً. وإنما كانت التميمية أقوى قياساً من حيث كانت عندهم ك " هل " في دخولها على الكلام مباشرة كل واحد من صدري الجملتين: الفعل والمبتدأ كما أن " هل " كذلك. إلا أنك إذا استعملت أنت شيئاً من ذلك فالوجه أن تحمله على ما كثر استعماله وهو اللغة الحجازية ألا ترى أن القرآن بها نزل. وأيضاً فمتى رابك في الحجازية ريب من تقديم خبر أو نقض النفي فزعت إذ ذاك إلى التميمية فكأنك من الحجازية على حرد وإن كثرت في النظم والنثر. ويدلك على أن الفصيح من العرب قد يتكلم باللغة غيرها أقوى في القياس عنده منها ما حدثنا به أبو علي رحمه الله قال: عن أبي بكر عن أبي العباس أن عمارة كان يقرأ {ولا الليل سابق النهار} بالنصب قال أبو العباس: فقلت له: ما أردت فقال: أردت {سابقٌ النهار} قال فقلت له فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن. فقوله: أوزن أي أقوى وأمكن في النفس. أفلا تراه كيف جنح إلى لغة وغيرها أقوى في نفسه منها. ولهذا موضع نذكره فيه. واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه. فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته فأنت فيه مخير: تستعمل أيهما شئت. فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد أو لساجع أو لضرورة لأنه على قياس كلامهم. بذلك وصى أبو الحسن. وإذا فشا الشيء في الاستعمال وقوى في القياس فذلك ما لا غاية وراءه نحو منقاد اللغة من النصب بحروف النصب والجر بحروف الجر والجزم بحروف الجزم وغير ذلك مما هو فاش في الاستعمال قوي في القياس. وأما ضعف الشيء في القياس وقلته في الاستعمال فمرذول مطرح غير أنه قد يجيء منه اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس قالوا أراد: " اضربن عنك " فحذف نون التوكيد وهذا من الشذوذ في الاستعمال على ما تراه ومن الضعف في القياس على ما أذكره لك. وذلك أن الغرض في التوكيد إنما هو التحقيق والتسديد وهذا مما يليق به الإطناب والإسهاب وينتفي عنه الإيجاز والاختصار. ففي حذف هذه النون نقض الغرض. فجرى وجوب استقباح هذا في القياس مجرى امتناعهم من ادغام الملحق نحو مهدد وقردد وجلبب وشملل وسهلل وقفعدد في تسليمه وترك التعرض لما اجتمع فيه من توالي المثلين متحركين ليبلغ المثال الغرض المطلوب في حركاته وسكونه ولو ادغمت لنقضت الغرض الذي اعتزمت. ومثل امنتاعهم من نقض الغرض امتناع أبي الحسن من توكيد الضمير المحذوف المنصوب في نحو الذي ضربت زيد ألا ترى أنه منع أن تقول: الذي ضربت نفسه زيد على أن " نفسه " توكيد للهاء المحذوفة من الصلة. ومما ضعف في القياس والاستعمال جميعاً بيت الكتاب: له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير فقوله: " كأنه " - بحذف الواو وتبقية الضمة - ضعيف في القياس قليل في الاستعمال. ووجه ضعف قياسه أنه ليس على حد الوصل ولا على حد الوقف. وذلك أن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه كما تمكنت في قوله في أول البيت " لهو زجل " والوقف يجب أن تحذف الواو والضمة فيه جميعاً وتسكن الهاء فيقال: " كأنه " فضم الهاء بغير واو منزلة بين منزلتي الوصل والوقف. وهذا موضع ضيق ومقام زلخ لا يتقيك بإيناس ولا ترسو فيه قدم قياس. وقال أبو إسحاق في نحو هذا: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف وليس الأمر كذلك لما أريتك من أنه لا على حد الوصل ولا على حد الوقف. لكن ما أجري من نحو هذا في الوصل على حد الوقف قول الآخر: فظلت لدى البيت العتيق أخيله ومطواي مشتاقان له أرقان على أن أبا الحسن حكى أن سكون الهاء في هذا النحو لغة لأزد السراة. ومثل هذا البيت ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر: وأشرب الماء ما بي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها ورويناه أيضاً عن غيره: إن لنا لكنة مبقة مفنة متيحة معنة سمعنة نظرنة فقوله " تره " مما أجرى في الوصل مجراه في الوقف أراد: إلا تر ثم بين الحركة في الوقف بالهاء فقال " تره " ثم وصل ما كان وقف عليه. فأما قوله: أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاما ويروي: . . . . . . . . . . . . منون قالوا سراة الجن قلت عموا ظلاما فمن رواه هكذا فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف. فإن قلت: فإنه في الوقف إنما يكون " منون " ساكن النون وأنت في البيت قد حركته فهذا إذاً ليس على نية الوقف ولا على نية الوصل فالجواب أنه لما أجراه في الوصل على حده في الوقف فأثبت الواو والنون التقيا ساكنين فاضطر حينئذ إلى أن حرك النون لإقامة الوزن. فهذه الحركة إذاً إنما هي حركة مستحدثة لم تكن في الوقف وإنما اضطر إليها الوصل: وأما من رواه " منون أنتم " فأمره مشكل. وذلك أنه شبه من بأي فقال: " منون أنتم " على قوله: أيون أنتم وكما حمل ههنا أحدهما على الآخر كذلك جمع بينهما في أن جرد من الاستفهام كل منهما ألا ترى إلى حكاية يونس عنهم: ضرب من منا كقولك: ضرب رجل رجلاً. فنظير هذا في وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت إلي وأصحابي بأي وأينما فجعل " أي " اسماً للجهة فلما اجتمع فيها التعريف والتأنيث منعها الصرف. وأما قوله: " وأينما " ففيه نظر. وذلك أنه جرده أيضاً من الاستفهام كما جرد أي فإذا هو فعل ذلك احتمل هنا من بعد أمرين: أحدهما أن يكون جعل " أين " علماً أيضاً للبقعة فمنعها الصرف للتعريف والتأنيث كأي فتكون الفتحة في آخر " أين " على هذا فتحة الجر وإعراباً مثلها في مررت بأحمد. فتكون " ما " على هذا زائدة و " أين " وحدها هي الاسم كما كانت " أي " وحدها هي الاسم. والآخر أن يكون ركب " أين " مع " ما " فلما فعل ذلك فتح الأول منهما كفتحة الياء من حيهل لما ضم حي إلى هل فالفتحة في النون على هذا حادثة للتركيب وليست بالتي كانت في أين وهي استفهام لأن حركة التركيب خلفتها ونابت عنها. وإذا كانت فتحة التركيب تؤثر في حركة الإعراب فتزيلها إليها نحو قولك: هذه خمسة معرب ثم تقول في التركيب: هذه خمسة عشر فتخلف فتحة التركيب ضمة الإعراب على قوة حركة الإعراب كان إبدال حركة البناء من حركة البناء أحرى بالجواز وأقرب في القياس. وإن شئت قلت: إن فتحة النون في قوله: " بأي وأينما " هي الفتحة التي كانت في أين وهي استفهام من قبل تجريدها أقرها بحالها بعد التركيب على ما كانت عليه ولم يحدث خالفاً لها من فتحة التركيب واستدللت على ذلك بقولهم: قمت إذ قمت فالذال كما ترى ساكنة ثم لما ضم إليها " ما " وركبها معها أقرها على سكونها فقال: إذ ما أتيت على الرسول فقل له فكما لا يشك في أن هذا السكون في " إذ ما " هو السكون في ذال إذ فكذلك ينبغي أن تكون فتحة النون من " أينما " هي فتحة النون من " أين " وهي استفهام. والعلة في جواز بقاء الحال بعد التركيب على ما كانت عليه قبله عندي هي أن ما يحدثه التركيب من الحركة ليس بأقوى مما يحدثه العامل فيها ونحن نرى العامل غير مؤثر في المبني نحو " من أين أقبلت " و " إلى أين تذهب " فإذا كان حرف الجر على قوته لا يؤثر في حركة البناء فحدث التركيب - على تقصيره عن حدث الجار - أحرى بألا يؤثر في حركة البناء. فاعرف ذلك فرقاً وقس عليه تصب إن شاء الله. وفي ألف " ما " من " أينما " - على هذا القول - تقدير حركة إعراب: فتحة في موضع الجر لأنه لا ينصرف. وإن شئت كان تقديره " منون " كالقول الأول ثم قال: " أنتم " أي أنتم المقصودون بهذا الاستثبات كقوله: إذا أراد: أنت الهالك. وما يرد في هذه اللغة مما يضعف في القياس ويقل في الاستعمال كثير جداً وإن تقصيت بعضه طال ولكن أضع لك منه ومن غيره من أغراض كلامهم ما تستدل به وتستغني ببعضه من كله بإذن الله وطَوله.
باب في الاستحسان
وجماعه أن علته ضعيفة غير مستحكمة إلا أن فيه ضرباً من الاتساع والتصرف. من ذلك تركك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة نحو قولهم: الفتوى والبقوى والتقوى والشروى ونحو ذلك ألا ترى أنهم قلبوا الياء هنا واواً من غير استحكام علة أكثر من أنهم أرادوا الفرق بين الاسم والصفة. وهذه ليست علة معتدة ألا تعلم كيف يشارك الاسم الصفة في أشياء كثيرة لا يوجبون على أنفسهم الفرق بينهما فيها. من ذلك قولهم في تكسير حسن: حِسان فهذا كجبل وجبال وقالوا: فرس وَرد وخيل وُرد فهذا كسَقف وسُقف. وقالوا: رجل غفور وقوم غُفُر وفخور وفخر فهذا كعمود وعمد. وقالوا: جمل بازل وإبل بوازل وشغل شاغل وأشغال شواغل فهذا كغارب وغوارب وكاهل وكواهل. ولسنا ندفع أن يكونوا قد فصلوا بين الاسم والصفة في أشياء غير هذه إلا أن جميع ذلك إنما هو استحسان لا عن ضرورة علة وليس بجار مجرى رفع الفاعل ونصب المفعول ألا ترى أنه لو كان الفرق بينهما واجباً لجاء في جميع الباب كما أن رفع الفاعل ونصب المفعول منقاد في جميع الباب. حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا كأننا رعن قف يرفع الآلا فرفع المفعول ونصب الفاعل قيل لو لم يحتمل هذا البيت إلا ما ذكرته لقد كان على سمت من القياس ومطرب متورد بين الناس ألا ترى أنه على كل حال قد فرق فيه بين الفاعل والمفعول وإن اختلفت جهتا الفرق. كيف ووجهه في أن يكون الفاعل فيه مرفوعاً والمفعول منصوباً قائم صحيح مقول به. وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه الآل فرئي فيه ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهوراً لولا هذا الرعن لم يبن للعين فيه بيانه إذا كان فيه ألا تعلم أن الآل إذا برق للبصر رافعاً شخصاً كان أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصاً يزهاه فيزداد بالصورة التي حملها سفوراً وفي مسرح الطرف تجلياً وظهوراً. فإن قلت: فقد قال الأعشى: إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا فجعل الآل هو الفاعل والشخص هو المفعول قيل ليس في هذا أكثر من أن هذا جائز وليس فيه دليل على أن غيره غير جائز ألا ترى أنك إذا قلت ما جاءني غير زيد فإنما في هذا دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك فأما زيد نفسه فلم تعرض للإخبار بإثبات مجيء له أو نفيه عنه فقد يجوز أن يكون قد جاء وأن يكون أيضاً لم يجيء. فإن قلت: فهل تجد لبيت الجعدي على تفسيرك الذي حكيته ورأيته نظيراً قيل: لا ينكر وجود ذلك مع الاستقراء واعمل فيما بعد على أن لا نظير له ألا تعلم أن القياس إذا أجاز شيئاً وسمع ذلك الشيء عينه فقد ثبت قدمه وأخذ من الصحة والقوة مأخذه ثم لا يقدح فيه ألا يوجد له نظير لأن إيجاد النظير وإن كان مأنوساً به فليس في واجب النظر إيجاده ألا ترى أن قولهم: في شنوءة شنَئي لما قبله القياس لم يقدح فيه عدم نظيره نعم ولم يرض له أبو الحسن بهذا القدر من القوة حتى جعله أصلاً يرد إليه ويحمل غيره عليه. وسنورد فيما بعد باباً لما يسوغه القياس وإن لم يرد به السماع بإذن الله وحوله. ومن ذلك - أعني الاستحسان - أيضاً قول الشاعر: أريت إن جئت به أملودا مرجلاً ويلبس البرودا أقائلن أحضروا الشهودا فألحق نون التوكيد اسم الفاعل تشبيهاً له بالفعل المضارع. فهذا إذاً استحسان لا عن قوة علة ولا عن استمرار عادة ألا تراك لا تقول: أقائمن يا زيدون ولا أمنطلقن يا رجال إنما تقوله بحيث سمعته وتعتذر له وتنسبه إلى أنه استحسان منهم على ضعف منه واحتمال بالشبهة له. ومن الاستحسان قولهم: ِصبية وقِنية وعِذىُ وبِلىُسفر وناقة عليان ودبة مهيار. فهذا كله استحسان لا عن استحكام علة. وذلك أنهم لم يعتدوا الساكن حائلاً بين الكسرة والواو لضعفه وكله من الواو. وذلك أن " قنية " من قنوت ولم يثبت أصحابنا قنيت وإن كان البغداديون قد حكوها و " صبية " من صبوت و " علية " من علوت و " عذى " من قولهم أرضون عذوات و " بلى " سفر من قولهم في معناه: بِلوٌ أيضاً ومنه البلوى وإن لم يكن فيها دليل إلا أن الواو مطردة في هذا الأصل قال: فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو وهو راجع إلى معنى بلوسفر وقالوا: فلان مبلو بمحنة وغير ذلك والأمر فيه واضح وناقة " عليان " من علوت أيضاً كما قيل لها: ناقة سناد أي أعلاها متساند إلى أسفلها ومنه سندنا إلى الجبل أي علونا وقال الأصمعي قيل لأعرابي: ما الناقة القرواح فقال: التي كأنها تمشي على أرماح ودبة " مهيار " من قولهم هار يهور وتهور الليل على أن أبا الحسن قد حكى فيه هار يهير وجعل الياء فيه لغة وعلى قياس قول الخليل في طاح يطيح وتاه يتيه لا يكون في يهير دليل لأنه قد يمكن أن يكون: فَعِل يَفعِل مثلهما. وكله لا يقاس ألا تراك لا تقول في جرو: جِرى ولا في عِدوة الوادي: عِدية ولا نحو ذلك. ولا يجوز في قياس قول من قال عليان ومهيار أن تقول في قرواح ودرواس: قرياح ودرياس وذلك لئلا يلتبس مثال فعوال بفعيال فيصير قرياح ودرياس كسرياح وكرياس. وإنما يجوز هذا فيما كانت واوه أصلية لا زائدة وذلك أن الأصلي يحفظ نفسه بظهوره في تصرف أصله ألا تراك إذا قلت: علية ثم قلت: علوت وعلو وعلوة وعلاوة ويعلو ونحو ذلك دلك وجود الواو في تصرف هذا الأصل على أنها هي الأصلية وأن الياء في علية بدل منها وأن الكسرة هي التي عذرت بعض العذر في قلبها وليس كذلك الزائد ألا تراه لا يستمر في تصرف الأصل استمرار الأصلي فإذا عرض له عارض من بدل أو حذف لم يبق هناك في أكثر الأمر ما يدل عليه وما يشهد به ألا تراك لو حقرت قرياحاً بعد أن أبدلت واوه ياء على حذف زوائده لقلت: قريح فلم تجد للواو أثراً يدلك على أن ياء قرياح بدل من الواو كما دلك علوت وعلو ورجل معلو بالحجة ونحو ذلك على أن ياء " علية " بدل من الواو. فإن قلت: فقد قالوا في قرواح: قرياح أيضاً سمعاً جميعاً فإن هذا ليس على إبدال الياء من الواو لا بل كل واحد منها مثال برأسه مقصود قصده. فقرواح كقرواش وجلواخ وقرياح ككرياس وسرياح ألا ترى أن أحداً لا يقول: كرواس ولا سرواح ولا يقول أحد أيضاً في شرواط وهلواع: شرياط ولا هلياع. وهذا أحد ما يدلك على ضعف القلب فيما هذه صورته لأن القلب للكسرة مع الحاجز لو كان قوياً في القياس لجاء في الزائد مجيئه في الأصلي كأشياء كثيرة من ذلك. ومثل امتناعهم من قلب الواو في نحو هذا ياء من حيث كانت زائدة فلا عصمة لها ولا تلزم لزوم الأصلي فيعرف بذلك أصلها أن ترى الواو الزائدة مضمومة ضماً لازماً ثم لا ترى العرب أبدلتها همزة كما أبدلت الواو الأصلية نحو أُجوه وأُقٍتت. وذلك نحو الترهوك والتدهور والتسهوك: لا يقلب أحد هذه الواو - وإن انضمت ضماً لازماً - همزة من قبل أنها زائدة فلو قلبت فقيل: الترهؤك لم يؤمن أن يظن أنها همزة أصلية غير مبدلة من واو. فإن قلت: ما تنكر أن يكون تركهم قلب هذه الواو همزة مخافة أن تقع الهمزة بعد الهاء وهما حلقيان وشديدا التجاور قيل يفسد هذا أن هذين الحرفين قد تجاورا والهاء مقدمة على الهمزة نحو قولهم: هأهأت في الدعاء. فإن قلت: هذا إنما جاء في التكرير والتكرير قد يجوز فيه ما لولاه لم يجز ألا ترى أن الواو لا توجد منفردة في ذوات الأربعة إلا في ذلك الحرف وحده وهو " ورنتل " ثم إنها قد جاءت مع التكرير مجيئاً متعالماً نحو وحوح ووزوز ووكواك ووزاوزة وقوقيت وضوضيت وزوزيت وموماة ودوداة وشوشاة قيل: قد جاء امتناعهم من همز نظير هذه الواوات بحيث لا هاء. ألا تراهم قالوا: زحولته فتزحول تزحولاً وليس أحد يقول تزحؤلاً. وقد جمعوا بينهما متقدمة الحاء على الهمزة: نحو قولهم في الدعاء: حؤ حؤ. فإن قيل: فهذا أيضاً إنما جاء في الأصوات المكررة كما جاء في الأول أيضاً في الأصوات المكررة نحو هؤ هؤ وقد ثبت أن التكرير محتمل فيه ما لا يكون في غيره. قيل هذه مطاولة نحن فتحنا لك بابها وشرعنا منهجها ثم إنها مع ذلك لا تصحبك ولا تستمر بك ألا تراهم قد قالوا في " عنونت الكتاب ": إنه يجوز أن يكون فعولت من عن يعن ومطاوعه تعنون ومصدره التعنون وهذه الواو لا يجوز همزها لما قدمنا ذكره وأيضاً فقد قالوا في علونته: يجوز أن يكون فعولت من العلانية وحاله في ذلك حال عنونته على ما مضى. وقد قالوا أيضاً: سرولته تسرولاً ولم يهمزوا هذه الواو لما ذكرنا. فإن قيل: فلو همزوا فقالوا: التسرؤل لما خافوا لبساً لقولهم مع زوال الضمة عنها: تسرول وسرولته ومسرول كما أنهم لما قالوا: وقت وأوقات وموقت ووقًته أعلمهم ذلك أن همزة " أُقتت " إنما هي بدل من واو. فقد ترى الأصل والزائد جميعاً متساويين متساوقين في دلالة الحال بما يصحب كل واحد منهما من تصريفه وتحريفه وفي هذا نقض لما رمت به الفصل بين الزائد والأصل. قيل كيف تصرفت الحال فالأصل أحفظ لنفسه وأدل عليها من الزائد ألا ترى أنك لو حقرت تسرولاً - وقد همزته - تحقير الترخيم لقلت " سريل " فحذفت الزائد ولم يبق معك دليل عليه ولو حقرت نحو " أقتت " - وقد نقلتها إلى التسمية فصارت " أقتة " - تحقير الترخيم لقلت: وقيته وظهرت الواو التي هي فاء. فإن قلت: فقد تجيز ههنا أيضاً " أقيتة " قيل الهمز ههنا جائز لا واجب وحذف الزوائد من " تسرؤل " في تحقير الترخيم واجب لا جائز. فإن قلت: وكذلك همز الواو في " تسرؤل " إنما يكون جائزاً أيضاً لا واجباً قيل همز الواو حشواً أثبت قدماً من همزها مبتدأة أعني في بقائها وإن زالت الضمة عنها ألا ترى إلى قوله في تحقير قائم: قويئم وثبات الهمزة وإن زالت الألف الموجبة لها فجرت لذلك مجرى الهمزة الأصلية في نحو سائل وثائر من سأل وثأر - كذا قال - فلذلك اجتنبوا أن يهمزوا واو " تسرول " لئلا تثبت قدم الهمزة فيرى أنها ليست بدلاً وليس كذلك همزة " أقتت " ألا ترى تراها متى زالت الضمة عنها عادت واواً نحو موقت ومويقت. فإن قلت: فهلا أجازوا همز واو " تسرول " وأمنوا اللبس وإن قالوا في تحقير ترخيمه " سريل " من حيث كان وسط الكلمة ليس بموضع لزيادة الهمزة إنما هو موضع زيادة الواو نحو جدول وخِروع وعجوز وعمود. فإذا رأوا الهمزة موجودة في " تسرؤل " محذوفة من " سريل " علموا - بما فيها مكن الضمة - أنها بدل من واو زائدة فكان ذلك يكون أمناً من اللبس قيل: قد زادوا الهمزة وسطاً في أحرف صالحة. وهي شمأل وشأمل وجرائض وحطائط بطائط ونِئذلان وتأبل وخأتم وعألم وتأبلت القدر والرئبال. فلما جاء ذلك كرهوا أن يقربوا باب لبس. فإن قلت: فإن همزة تأبل وخأتم والعألم إنما هي بدل من الألف قيل: هي وإن كانت بدلاً فإنها بدل من الزائد والبدل من الزائد زائد وليس البدل من الأصل بأصل. فقد ترى أن حال البدل من الزائد أذهب به في حكم ما هو بدل منه من الأصل في ذلك. فاعرف هذا. ومن الاستحسان قولهم: رجل غديان وعشيان وقياسه: غدوان وعشوان لأنهما من غدوت وعشوت أنشدنا أبو علي: بات ابن أسماء يعشوه ويصبحه من هجمة كأشاء النخل درار ومثله أيضاً دامت السماء تديم ديماً وهو من الواو لاجتماع العرب طراً على " الدوام " و " هو أدوم من كذا ". ومن ذلك ما يخرج تنبيهاً على أصل بابه نحو استحوذ وأغيلت المرأة وصددت فأطولت الصدود. فإنه أهل لأن يؤكرما ونظائره كثيرة غير أن ذلك يخرج ليعلم به أن أصل استقام استقوم وأصل مقامة مقومة وأصل يحسن يؤحسن. ولا يقاس هذا ولا ما قبله لأنه لم تستحكم علته وإنما خرج تنبيهاً وتصرفاً واتساعاً.
باب في تخصيص العلل
اعلم أن محصول مذهب أصحابنا ومتصرف أقوالهم مبني على جواز تخصيص العلل. وذلك أنها وإن تقدمت علل الفقه فإنها أو أكثرها إنما تجري مجرى التخفيف والفرق ولو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكناً - وإن كان على غير قياس - ومستثقلاً ألا تراك لو تكلفت تصحيح فاء ميزان وميعاد لقدرت على ذلك فقلت: مِوزان وموعاد. وكذلك لو آثرت تصحيح فاء موسر وموقن لقدرت على ذلك فقلت: ميسر وميقن. وكذلك لو نصبت الفاعل ورفعت المفعول أو ألغيت العوامل: من الجوار والنواصب والجوازم لكنت مقتدراً على النطق بذلك وإن نفى القياس تلك الحال. وليست كذلك علل المتكلمين لأنها لا قدرة على غيرها ألا ترى أن اجتماع السواد والبياض في محل واحد ممتنع لا مستكره وكون الجسم متحركاً ساكناً في حال واحدة فاسد. لا طريق إلى ظهوره ولا إلى تصوره. وكذلك ما كان من هذا القبيل. فقد ثبت بذلك تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين وإن تقدمت علل المتفقهين. أحدهما ما لا بد منه فهو لاحق بعلل المتكلمين وهو قلب الألف واواً لانضمام ما قبلها وياء لانكسار ما قبلها نحو ضورب وقراطيس وقد تقدم ذكره. ومن ذلك امتناع الابتداء بالساكن وقد تقدم ما فيه. ثم يبقى النظر فيما بعد فنقول: إن هذه العلل التي يجوز تخصيصها كصحة الواو إذا اجتمعت مع الياء وسبقت الأولى منهما بالسكون نحو حيوة وعوى الكلب عوية ونحو صحة الواو والياء في نحو غزوا ورميا والنزوان والغليان وصحة الواو في نحو اجتوروا واعتونوا واهتوشوا إنما اضطر القائل بتخصيص العلة فيها وفي أشباهها لأنه لم يحتط في وصف العلة ولو قدم الاحتياط فيها لأمن الاعتذار بتخصيصها. وذلك أنه إذا عقد هذا الموضع قال في علة قلب الواو والياء ألفاً: إن الواو والياء متى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين نحو قام وباع وغزا ورمى وباب وعاب وعصا ورحى فإذا أدخل عليه فقيل له: قد صحتا في نحو غزوا ورميا وغزوان وصميان وصحت الواو خاصة في نحو اعتونوا واهتوشوا أخذ يتطلب ويتعذر فيقول: إنما صحتا في نحو رميا وغزوا مخافة أن تقلبا ألفين فتحذف إحداهما فيصير اللفظ بهما: غزا ورمى فتلتبس التثنية بالواحد. وكذلك لو قلبوهما ألفين في نحو نفيان ونزوان لحذفت إحداهما فصار اللفظ بهما نفان ونزان فالتبس فعلان مما لامه حرف علة بفعال مما لامه نون. وكذلك يقولون: صحت الواو في نحو اعتونوا واهتوشوا لأنهما في معنى ما لا بد من صحته أعني تعاونوا وتهاوشوا. وكذلك يقولون: صحتا في نحو عور وصيد لأنهما في معنى اعور واصيد وكذلك يقولون في نحو بيت الكتاب: وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حي أبوه يقاربه إنما جاز ما فيه من الفصل " بين ما لايحسن " فصله لضرورة الشعر. وكذلك ما جاء من قصر الممدود ومد المقصور وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر ومن وضع الكلام في غير موضعه يحتجون في ذلك وغيره بضرورة الشعر ويجنحون إليها مرسلة غير متحجرة وكذلك ما عدا هذا: يسوون بينه ولا يحتاطون فيه فيحرسوا أوائل التعليل له. وهذا هو الذي نتق عليهم هذا الموضع حتى اضطرهم إلى القول بتخصيص العلل وأصارهم إلى حيز التعذر والتمحل. وسأضع في ذلك رسماً يقتاس فينتفع به بإذن الله ومشيئته. وذلك أن نقول في علة قلب الواو والياء ألفاً: إنهما متى تحركتا حركة لازمة وانفتح ما قبلهما وعرى الموضع من اللبس أو أن يكون في معنى ما لا بد من صحة الواو والياء فيه أو أن يخرج على الصحة منبهة على أصل بابه فإنهما يقلبان ألفاً. ألا ترى أنك إذا احتطت في وصف العلة بما ذكرناه سقط عنك الاعتراض عليك بصحة الواو والياء في حوبة وجيل إذ كانت الحركة فيهما وكذلك يسقط عنك الإلزام لك بصحة الواو والياء في نحو قوله تعالى {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} وفي قولك في تفسير قوله عز وجل {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ}: معناه: أي امشوا. فتصح الياء والواو متحركتين مفتوحاً ما قبلهما من حيث كانت الحركة فيهما لالتقاء الساكنين فلم يعتد لذلك. وكذلك يسقط عنك الاعتراض بصحة الواو والياء في عور وصيد بأنهما في معنى ما لا بد فيه من صحة الواو والياء وهما اعور واصيد. وكذلك صحت في نحو اعتونوا وازدوجوا لما كان في معنى ما لا بد فيه من صحتها وهو تعاونوا وتزاوجوا. وكذلك صحتا في كروان وصميان مخافة أن يصيرا من مثال فعلان واللام معتلة إلى فعال واللام صحيحة وكذلك صحتا في رجل سميته بكروان وصميان ثم رخمته ترخيم قولك يا حار فقلت: يا كرو ويا صمى لأنك لو قلبتهما فيه فقلت: يا كرا ويا صما لالتبس فعلان بفعل ولأن الألف والنون فيهما مقدرتان أيضاً فصحتا كما صحتا وهما موجودتان. وكذلك صحت أيضاً الواو والياء في قوله عز اسمه {وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ} وقوله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} وقوله تعالى {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} من حيث كانت الحركة عارضة لالتقاء الساكنين غير لازمة. وكذلك صحتا في القود والحوكة والغيب تنبيهاً على أصل باب ودار وعاب. أفلا ترى إلى احتياطك في العلة كيف أسقط عنك هذه الالتزامات كلها ولو لم تقدم الأخذ بالحزم لاضطررت إلى تخصيص العلة وأن تقول: هذا من أمره. وهذا من حاله. والعذر في كذا وكذا. وفي كذا وكذا. وأنت إذا قدمت ذلك الاحتياط لم يتوجه عليك سؤال لأنه متى قال لك: فقد صحت الياء والواو في جيل وحوبة قلت: هذا سؤال يسقطه ما تقدم إذ كانت الحركة عارضة لا لازمة ولو لم تحتط بما قدمت لأجاءتك الحال إلى تمحل الاعتذار. وهذا عينه موجود في العلل الكلامية ألا ترى أنك تقول في إفساد اجتماع الحركة والسكون على المحل الواحد: لو اجتمعا لوجب أن يكون المحل الواحد ساكناً متحركاً في حال واحدة ولولا قولك: في حال واحدة لفسدت العلة ألا ترى أن المحل الواحد قد يكون ساكناً متحركاً في حالين اثنين. فقد علمت بهذا وغيره مما هو جار مجراه قوة الحاجة إلى الاحتياط في تخصيص العلة. فإن قلت: فأنت إذا حصل عليك هذا الموضع لم تلجأ في قلب الواو والياء إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما ألفين إلا إلى الهرب من اجتماع الأشباه وهي حرف العلة والحركتان اللتان اكتنفتاه وقد علم مضارعة الحركات لحروف اللين وهذا أمر موجود في قام وخاف وهاب كوجوده في حوِل وعوِر وصيِد وعيِن ألا ترى أن أصل خاف وهاب: خوِف وهيِب فهما في الأصل كحول وصيد وقد تجشمت في حول وصيد من الصحة ما تحاميته في خوف وهيب. فأما احتياطك بزعمك في العلة بقولك: إذا عرى الموضع من اللبس وقولك: إذا كان في معنى ما لا بد من صحته وقولك: وكانت الحركة غير لازمة فلم نرك أوردته إلا لتستثنى به ما يورده الخصم عليك: مما صح من الياء والواو وهو متحرك وقبله فتحة. وكأنك إنما جئت إلى هذه الشواذ التي تضطرك إلى القول بتخصيص العلل فحشوت بها حديث علتك لاغير وإلا فالذي أوجب القلب في خاف وهاب من استثقال حرفي اللين متحركين مفتوحاً ما قبلهما موجود البتة في حول وصيد وإذا كان الأمر كذلك دل على انتقاض العلة وفسادها. قيل: لعمري إن صورة حول وصيد لفظاً هي صورة خوف وهيب إلا أن هناك من بعد هذا فرقاً وإن صغر في نفسك وقل في تصورك وحسك فإنه معنى عند العرب مكين في أنفسها متقدم في إيجابه التأثير الظاهر عندها. وهو ما أوردناه وشرطناه: من كون الحركة غير لازمة وكون الكلمة في معنى ما لا بد من صحة حرف لينه ومن تخوفهم التباسه بغيره فإن العرب - فيما أخذناه عنها وعرفناه من تصرف مذاهبها - عنايتها بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها. وسنفرد لهذا باباً نتقصاه فيه بمعونة الله. أولا تعلم عاجلاً إلى أن تصير إلى ذلك الباب آجلاً أن سبب إصلاحها ألفاظها وطردها إياها على المثل والأحذية التي قننتها لها وقصرتها عليها إنما هو لتحصين المعنى وتشريفه والإبانة عنه وتصويره ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ونصب المفعول إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول وهذا الفرق أمر معنوي أصلح اللفظ له وقيد مقادة الأوفق من أجله. فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يقصد بها إلا تحصين المعاني وحياطتها. فالمعنى إذاً هو المكرم المخدوم واللفظ هو المبتذل الخادم. وبعد فإذا جرت العادة في معلولها واستتبت على منهجها وأمها قوى حكمها واحتمى جانبها ولم يسع أحداً أن يعرض لها إلا بإخراجه شيئاً إن قدر على إخراجه منها. فأما أن يفصلها ويقول: بعضها هكذا وبعضها هكذا فمردود عليه ومرذول عند أهل النظر فيما جاء به. وذلك أن مجموع ما يورده المعتل بها هو حدها ووصفها فإذا انقادت وأثرت وجرت في معلولاتها فاستمرت لم يبق على بادئها وناصب نفسه للمراماة عنها بقية فيطالب بها ولا قصمة سواك فيفك يد ذمته عنها. فإن قلت: فقد قال الهذلي: استاف فقد كنت قلت في هذه اللفظة في كتابي في ديوان هذيل: إنه إنما أعلت هذه العين هناك ولم تصح كما صحت عين اجتوروا واعتونوا من حيث كان ترك قلب الياء ألفاً أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفاً لبعد ما بين الألف والواو وقربها من الياء وكلما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى صاحبه وانجذابه نحوه وإذا تباعدا كانا بالصحة والظهور قمناً. وهذا - لعمري - جواب جرى هناك على مألوف العرف في تخصيص العلة. فأما هذا الموضع فمظنة من استمرار المحجة واحتماء العلة. وذلك أن يقال: إن استاف هنا لا يراد به تسايفوا أي تضاربوا بالسيوف فتلزم صحته كصحة عين تسايفوا كما لزمت صحة اجتوروا لما كان في معنى ما لا بد من صحة عينه وهو تجاوروا بل تكون استافوا هنا: تناولوا سيوفهم وجردوها. ثم يعلم أنهم تضاربوا مما دل عليه قولهم: استافوا فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبب كقوله: ذر الآكلين الماء ظلماً فما أرى ينالون خيراً بعد أكلهم الماء يريد قوماً كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه فاكتفى بكر الماء الذي هو سبب المأكول من ذكر المأكول. فأما تفسير أهل اللغة أن استاف القوم في معنى تسايفوا فتفسير على المعنى كعادتهم في أمثال ذلك ألا تراهم قالوا في قول الله عز وجل {مِن مَّاء دَافِقٍ}: إنه بمعنى مدفوق فهذا - لعمري - معناه غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق كما حكاه الأصمعي عنهم من قولهم: ناقة ضارب إذا ضربت وتفسيره أنها ذات ضرب أي ضربت. وكذلك قوله تعالى {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} أي لا ذا عصمة وذو العصمة يكون مفعولاً كما يكون فاعلاً فمن هنا قيل: إن معناه: لا معصوم. وكذلك قوله: لقد عيل الأيتام طعنة ناشره أناشر لا زالت يمينك آشره أي ذات أشر والأشر: الحز والقطع وذو الشيء قد يكون مفعولاً كما يكون فاعلاً وعلى ذلك عامة باب طاهر وطالق وحائض وطامث ألا ترى أن معناه: ذات طهر وذات طلاق وذات حيض وذات طمث. فهذه ألفاظ ليست جارية على الفعل لأنها لو جرت عليه للزم إلحاقها تاء التأنيث كما لحقت نفس الفعل. وعلى هذا قول الله تعالى {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي ذات رضا فمن هنا صارت بمعنى مرضية. ولو جاءت مذكرة لكانت كضارب وبازل كباب حائض وطاهر إذ الجميع غير جار على الفعل لكن قوله تعالى {رَّاضِيَةٍ} كقوله لا زالت يمينك آشرة. وينبغي أن يعلم أن هذه التاء في " راضية " و " آشرة " ليست التاء التي يخرج بها اسم الفاعل على التأنيث لتأنيث الفعل من لفظه لأنها لو كانت تلك لفسد القول ألا ترى أنه لا يقال: ضربت الناقة ولا رضيت العيشة. وإذا لم تكن إياها وجب أن تكون التي للمبالغة كفروقة وصرورة وداهية وراوية مما لحقته التاء للمبالغة والغاية. وحسن ذلك أيضاً شيء آخر. وهو جريانها صفة على مؤنث وهي بلفظ الجاري على الفعل فزاد ذلك فيما ذكرناه ألا ترى إلى همز حائض وإن لم يجر على الفعل إنما سببه أنه شابه في اللفظ ما اطرد همزه من الجاري على الفعل نحو قائم وصائم وأشباه ذلك. ويدلك على أن عين حائض همزة وليست ياء خالصة - كما لعله يظنه كذلك ظان - قولهم: امرأة زائر من زيارة النساء وهذا واضح ألا ترى أنه لو كانت العين صحيحة لوجب ظهورها واواً وأن يقال: زاور. وعليه قالوا: الحائش والعائر للرمد وإن لم يجريا على الفعل لما جاءا مجيء ما يجب همزه وإعلاله في غالب الأمر. نعم وإذا كانوا قد أنثوا المصدر لما جرى وصفاً على المؤنث نحو امرأة عدلة وفرس طوعة القياد وقول أمية: والحية الحتفة الرقشاء أخرجها من جحرها آمنات الله والكلم وإذا جاز دخول التاء على المصادر وليست على صورة اسم الفاعل ولا هي الفاعل في الحقيقة وإنما استهوى لذلك جريها وصفاً على المؤنث كان باب " عيشة راضية " و " يد آشرة " أحرى بجواز ذلك فيه وجريه عليه. فإن قلت: فقد قالوا في يوجل: ياجل وفي ييأس: ياءس وفي طيئي طائي وقالوا: حاحيت وعاعيت وهاهيت فقلبوا الياء والواو هنا ألفين وهما ساكنتان وفي هذا نقض لقولك ألا تراك إنما جعلت علة قلب الواو والياء ألفين تلك الأسباب التي أحدها كونهما متحركتين وأنت تجدهما ساكنتين ومع ذلك فقد تراهما منقلبتين. قيل: ليس هذا نقضاً ولا يراه أهل النظر قدحاً. وذلك أن الحكم الواحد قد يكون معلولاً بعلتين ثنتين في وقت واحد تارة وفي وقتين اثنين. وسنذكر ذلك في باب المعلول بعلتين. فإن قلت: فما شرطك واحتياطك في باب قلب الواو ياء إذا اجتمعت مع الياء في نحو سيد وهين وجيد وشويت شياً ولويت يده لياً وقد تراهم قالوا: حيوة وضيون وقالوا عوى الكلب عوية وقالوا في تحقير أسود وجدول: جديول وأسيود وأجازوا قياس ذلك فيما كان مثله: مما واوه عين متحركة أو زائدة قبل الطرف فالذي نقول في هذا ونحوه: أن الياء والواو متى اجتمعتا وسبقت الأولى بالسكون منهما ولم تكن الكلمة علماً ولا مراداً بصحة واوها التنبيه على أصول أمثالها ولا كانت تحقيراً محمولاً على تكسير فإن الواو منه تقلب ياء. فإذا فعلت هذا واحتطت للعلة به أسقطت تلك الإلزامات عنك ألا ترى أن " حيوة " علم والأعلام تأتي مخالفة للأجناس في كثير من الأحكام وأن " ضيون " إنما صح لأنه خرج على الصحة تنبيهاً على أن أصل سيد وميت: سيود وميوت. وكذلك " عوية " خرجت سالمة ليعلم بذلك أن أصل لية لوية وأن أصل طية طوية وليعلم أن هذا الضرب من التركيب وإن قل في الاستعمال فإنه مراد على كل حال. وكذلك أجازوا تصحيح نحو أسيود وجديول إرادة للتنبيه على أن التحقير والتكسير في هذا النحو من المثل من قبيل واحد. فإن قلت: فقد قالوا في العلم أسيد فأعلوا كما أعلوا في الجنس نحو قوله: أسيد ذو خريطة نهارا من المتلقطي قرد القمام فعن ذلك أجوبة. منها أن القلب الذي في أسيد قد كان سبق إليه وهو جنس كقولك: غليم أسيد ثم نقل إلى العملية بعد أن أسرع فيه القلب فبقي بحاله لا أن القلب إنما وجب فيه بعد العلمية وقد كان قبلها - وهو جنس نكرة - صحيحاً. ويؤنس بهذا أيضاً أن الإعلال في هذا النحو هو الاختيار في الأجناس. فلما سبق القلب الذي هو أقوى وأقيس القولين سمي به معلاً فبقي بعد النقل على صورته. ومثل ذلك ما نقوله في " عيينة " أنه إنما سمي به مصغراً فبقي بعد بحاله قبل ولو كان إنما حقر بعد أن سمي به لوجب ترك إلحاق علامة التأنيث به كما أنك لو سميت رجلاً هنداً ثم حقرت قلت: هنيد: ولو سميته بها محقرة قبل التسمية لوجب أن تقر التاء بحالها فتقول: هذا هنيدة مقبلاً. هذا مذهب الكتاب وإن كان يونس يقول بضده. ومنها أنا لسنا نقول: إن كل علم فلا بد من صحة واوه إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما فيلزمنا ما رمت إلزامنا وإنما قلنا: إذا اجتمعت الياء والواو وسبقت الأولى منهما بالسكون ولم يكن الاسم علماً ولا على تلك الأوصاف التي ذكرنا فإن الواو تقلب ياء وتدغم الياء في الياء. فهذه علة من علل قلب الواو ياء. فأما ألا تعتل الواو إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما إلا من هذا الوجه فلم نقل به. وكيف يمكن أن نقول به وقد قدمنا أن الحكم الواحد قد يكون معلولاً بعلتين وأكثر من ذلك وتضمنا أن نفرد لهذا الفصل باباً! فإن قلت: ألسنا إذا رافعناك في صحة " حيوة " إنما نفزع إلى أن نقول: إنما صحت لكونهما علماً والأعلام تأتي كثيراً أحكامها تخالف أحكام الأجناس وأنت تروم في اعتلالك هذا الثاني أن تسوي بين أحكامهما وتطرد على سمت واحد كلاً منهما. قيل: الجواب الأول قد استمر ولم تعرض له ولا سوغتك الحال الطعن فيه وإنما هذا الاعتراض على الجواب الثاني. والخطب فيه أيسر. وذلك أن لنا مذهباً سنوضحه في باب يلي هذا وهو حديث الفرق بين علة الجواز وعلة الوجوب. ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو سوط وثوب إذا كسرت فقلت: ثياب وسياط. وهذا حكم لا بد في تعليله من جمع خمسة أغراض فإن نقصت واحداً فسد الجواب وتوجه عليه الإلزام. والخمسة: أن ثياباً وسياطاً وحياضاً وبابه جمع والجمع أثقل من الواحد وأن عين واحده ضعيفة بالسكون وقد يراعى في الجمع حكم الوحد وأن قبل عينه كسرة وهي مجلبة في كثير من الأمر لقلب الواو ياء وأن بعدها ألفاً والألف شبيهة بالياء وأن لام سوط وثوب صحيحة. فتلك خمسة أوصاف لا غنى بك عن واحد منها. ألا ترى إلى صحة خوان وبوان وصوان لما كان مفرداً لا جمعاً. فهذا باب. ثم ألا ترى إلى صحة واو زوجة وعودة وهي جمع واحد ساكن العين وهو زوج وعود ولامه أيضاً صحيحه وقبلها في الجمع كسرة. ولكن بقي من مجموع العلة أنه لا ألف بعد عينه كألف حياض ورياض. وهذا باب أيضاً. ثم ألا ترى إلى صحة طوال وقوام وهما جمعان وقبل عينهما كسرة وبعدهما ألف ولاماهما صحيحتان. لكن بقي من مجموع العلة أن عينه في الواحد متحركة وهي في طويل وقويم. وهذا أيضاً باب. ثم ألا ترى إلى صحة طواء ورواء جمع طيان وريان فيه الجمعية وأن عين واحده ساكنة بل معتلة وقبل عينه كسرة وبعدها ألف. لكن بقي عليك أن لامه معتلة فكرهوا إعلال عينه وهذا الموضع مما يسترسل فيه المعتل لاعتلاله فلعله أن يذكر من الأوصاف الخمسة التي ذكرناها وصفين " أو أكثره " ثلاثة ويغفل الباقي فيدخل عليه الدخل منه فيرى أن ذلك نقض للعلة ويفزع إلى ما يفزع إليه من لا عصمة له ولا مسكة عنده. ولعمري إنه كسر لعلته هو لاعتلالها في نفسها. فأما مع إحكام علة الحكم فإن هذا ونحوه ساقط عنه. ومن ذلك ما يعتقده في علة الادغام. وهو أن يقال: إن الحرفين المثلين إذا كانا لازمين متحركين حركة لازمة ولم يكن هناك إلحاق ولا كانت الكلمة مخالفة لمثال فعِل وفعُل أو كانت فعَل فعلاً ولا خرجت منبهة على بقية بابها فإن الأول منها يسكن ويدغم في الثاني. وذلك نحو شد وشلت يده وحبذا زيد وما كان عارياً مما استثنيناه ألا ترى أن شد وإن كان فعَل فإنه فِعل وليس كطلل وشرر وجدد فيظهر. وكذلك شلت يده: فَعِلَت. وحبذا زيد أصله حبب ككرم وقضو الرجل. ومثله شر الرجل من الشر: هو فعل لقولهم: شررت يا رجل وعليه جاء رجل شرير كرديء. وعلى ذلك قالوا أجد في الأمر وأسر الحديث واستعد لخلوة مما شرطناه. فلو عارضك معارض بقولهم: اصبب الماء وامدد الحبل لقلت: ليست الحركتان لازمتين لأن الثانية لالتقاء الساكنين. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جلبب وشملل: وقعدد ورمدد قلت: وكذلك إن أدخل على قولك هما يضربانني ويكرمانني ويدخلاننا قلت: سبب ظهوره أن الحرفين ليسا لازمين ألا ترى أن الثاني من الحرفين ليس ملازماً لقولك: هما يضربان زيداً ويكرمانك ونحو ذلك. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جُدَد وقِدَد وسُرُر قلت: هذا مخالف لمثال فَعُل وفَعِل. فإن ألزمك نحو قول قعنب: مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي أني أجود لأقوام وإن ضننوا وقول العجاج: تشكو الوجى من أظلل وأظلل وقول الآخر: وإن رأيت الحجج الرواددا قواصراً بالعمر أو مواددا قلت: هذا ظهر على أصله منبهة على بقية بابه فتعلم به أن أصل الأصم أصمم وأصل صب صبِب وأصل الدواب والشواب الدوابب والشوابب على ما نقوله في نحو استصوب وبابه: إنما خرج على أصله إيذاناً بأصول ما كان مثله. فإن قيل: فكيف اختصت هذه الألفاظ ونحوها بإخراجها على أصولها دون غيرها قيل: رجع الكلام بنا وبك إلى ما كنا فرغنا منه معك في باب استعمال بعض الأصول وإهمال بعضها فارجع إليه تره إن شاء الله. وهذا الذي قدمناه آنفاً هو الذي عناه أبو بكر رحمه الله بقوله: قد تكون علة الشيء الواحد أشياء كثيرة فمتى عدم بعضها لم تكن علة. قال: ويكون أيضاً عكس هذا وهو أن تكون علة واحدة لأشياء كثيرة. أما الأول فإنه ما نحن بصدده من اجتماع أشياء تكون كلها علة وأماالثاني فمعظمه الجنوح إلى المستخف والعدول عن المستثقل. وهو أصل الأصول في هذا الحديث وقد مضى صدر منه. وسترى بإذن الله بقيته. واعلم أن هذه المواضع التي ضممتها وعقدت العلة على مجموعها قد أرادها أصحابنا وعنوها وإن لم يكونوا جاءوا بها مقدمة محروسة فإنهم لها أرادوا وإياها نووا ألا ترى أنهم إذا استرسلوا في وصف العلة وتحديدها قالوا: إن علة شد ومد ونحو ذلك في الادغام إنما هي اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد. فإذا قيل لهم: فقد قالوا: قعدد وجلبب واسحنك قالوا: هذا ملحق فلذلك ظهر. وإذا ألزموا نحو اردد الباب واصبب الماء قالوا: الحركة الثانية عارضة لالتقاء الساكنين وليست بلازمة. وإذا أدخل عليهم نحو جدد وقدد وخلل قالوا: هذا مخالف لبناء الفعل. وإذا عورضوا بنحو طلل ومدد فقيل لهم: هذا على وزن الفعل قالوا: هو كذلك إلا أن الفتحة خفيفة والاسم أخف من الفعل فظهر التضعيف في الاسم لخفته ولم يظهر في الفعل - نحو قص ونص - لثقله. وإذا قيل لهم: قالوا هما يضربانني وهم يحاجوننا قالوا: المثل الثاني ليس بلازم. وإذا أوجب عليهم نحو قوله " وإن ضننوا " ولححت عينه وضبب البلد وألل السقاء قالوا: خرج هذا شاذاً ليدل على أن أصل قرت عينه قررت وأن أصل حل الحبل ونحوه حلل. فهذا الذي يرجعون إليه فيما بعد متفرقاً قدمناه نحن مجتمعاً. وكذلك كتب محمد بن الحسن رحمه الله إنما ينتزع أصحابنا منها العلل لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه مستوفاة محررة. وهذا معروف من هذا الحديث عند الجماعة غير منكور. الآن قد أريتك بما مثلته لك من الاحتياط في وضع العلة كيف حاله والطريق إلى استعمال مثله فيما عدا ما أوردته وأن تستشف ذلك الموضع فتنظر إلى آخر ما يلزمك إياه الخصم فتدخل الاستظهار بذكره في أضعاف ما تنصبه من علته لتسقط عنك فيما بعد الأسولة والإلزامات التي يروم مراسلك الاعتراض بها عليك والإفساد لما قررته من عقد علتك. ولا سبيل إلى ذكر جميع ذلك لطوله ومخافة الإملال ببعضه. وإنما تراد المثل ليكفي قليلها من كثير غيرها ولا قوة إلا بالله.
باب ذكر الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة
اعلم أن أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها كنصب الفضلة أو ما شابه في اللفظ الفضلة ورفع المبتدأ والخبر والفاعل وجر المضاف إليه وغير ذلك. فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها غير مقتصر بها على تجويزها وعلى هذا مقاد كلام العرب. وضرب آخر يسمى علة وإنما هو في الحقيقة سبب يجوز ولا يوجب. من ذلك الأسباب الستة الداعية إلى الإمالة هي علة الجواز لا علة الوجوب ألا ترى أنه ليس في الدنيا أمر يوجب الإمالة لا بد منها وأن كل ممال لعلة من تلك الأسباب الستة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه. فهذه إذاً علة الجواز لا علة الوجوب. ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو " أقتت " همزة فتقول: علة ذلك أن الواو انضمت ضماً لازماً. وأنت مع هذا تجيز ظهورها واواً غير مبدلة فتقول: وقتت. فهذه علة الجواز إذاً لا علة الوجوب. وهذا وإن كان في ظاهر ما تراه فإنه معنى صحيح وذلك أن الجواز معنى تعقله النفس كما أن الوجوب كذلك فكما أن هنا علة للوجوب فكذلك هنا علة للجواز. هذا ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التي يتم الكلام بها وتلك النكرة هي المعرفة في المعنى فتكون حينئذ مخيراً في جعلك تلك النكرة - إن شئت - حالاً و - إن شئت - بدلاً فتقول على هذا: مررت بزيد رجل صالح على البدل وإن شئت قلت: مررت بزيد رجلاً صالحاً على الحال. أفلا ترى كيف كان وقوع النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علة لجواز كل واحد من الأمرين لاعلة لوجوبه. وكذلك كل ما جاز لك فيه من المسائل الجوابان والثلاثة وأكثر من ذلك على هذا الحد فوقوعه عليه علة لجواز ما جاز منه لا علة لوجوبه. فلا تستنكر هذا الموضع. فإن قلت: فهل تجيز أن يحل السواد محلاً ما فيكون ذلك علة لجواز اسوداده لا لوجوبه قيل: هذا في هذا ونحوه لا يجوز بل لا بد من اسوداده البتة وكذلك البياض والحركة والسكون ونحو ذلك متى حل شيء منها في محل لم يكن له بد من وجود حكمه فيه ووجوبه البتة له لأن هناك أمراً لا بد من ظهور أثره. وإذا تأملت ما قدمناه رأيته عائداً إلى هذا الموضع غير مخالف له ولا بعيد عنه وذلك أن وقوع النكرة تلية المعرفة - على ما شرحناه من تلك الصفة - سبب لجواز الحكمين اللذين جازا فيه فصار مجموع الأمرين في وجوب جوازهما كالمعنى المفرد الذي استبد به ما أريتناه: من تمسك بكل واحد من السواد والبياض والحركة والسكون. فقد زالت عنك إذاً شناعة هذا الظاهر وآلت بك الحال إلى صحة معنى ما قدمته: من كون الشيء علة للجواز لا للوجوب. فاعرف ذلك وقسه فإنه باب واسع.
باب في تعارض العلل
الكلام في هذا المعنى من موضعين: أحدهما الحكم الواحد تتجاذب كونه العلتان أو أكثر منهما. والآخر الحكمان في الشيء الواحد المختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان. الأول منهما كرفع المبتدأ فإننا نحن نعتل لرفعه بالابتداء على ما قد بيناه وأوضحناه من شرحه وتلخيص معناه. والكوفيون يرفعونه إما بالجزء الثاني الذي هو مرافعه عندهم وإما بما يعود عليه من ذكره على حسب مواقعه. وكذلك رفع الخبر ورفع الفاعل ورفع ما أقيم مقامه ورفع خبر إن وأخواتها. وكذلك نصب ما انتصب وجر ما انجر وجززم ما انجزم مما يتجاذب الخلاف في علله. فكل واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل على ما هو مشروح من حاله في أماكنه. وإنما غرضنا أن نرى هنا جملة لا أن نشرحه ولا أن نتكلم على تقوية ما قوي منه وإضعاف ما ضعف منه. الثاني منهما الحكمان في الشيء الواحد المختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان وذلك كإعمال أهل الحجاز ما النافية للحال وترك بني تميم إعمالها وإجرائهم إياها مجرى " هل " ونحوها مما لا يعمل فكأن أهل الحجاز لما رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول ليس عليهما ونافية للحال نفيها إياها أجروها في الرفع والنصب مجراها إذا اجتمع فيها الشبهان بها. وكأن بني تميم لما رأوها حرفاً داخلاً بمعناه على الجملة المستقلة بنفسها ومباشرة لكل واحد من جزأيها كقولك: ما زيد أخوك وما قام زيد أجروها مجرى " هل " ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفي دخول " هل " عليها للاستفهام ولذلك كانت عند سيبويه لغة التميميين أقوى قياساً من لغة الحجازيين. ومن ذلك " ليتما " ألا ترى أن بعضهم يركبهما جميعاً فيسلب بذلك " ليت " عملها وبعضهم يلغي " ما " عنها فيقر عملها عليها: فمن ضم " ما " إلى " ليت " وكفها بها عن عملها ألحقها بأخواتها: من " كأن " و " لعل " و " لكن " وقال أيضاً: لا تكون " ليت " في وجوب العمل بها أقوى من الفعل " و " قد نراه إذا كف ب " ما " زال عنه عمله وذلك كقولهم: قلما يقوم زيد ف " ما " دخلت على " قل " كافة لها عن عملها ومثله كَثُر ما وطالما فكما دخلت " ما " على الفعل نفسه فكفته عن عمله وهيأته لغير ما كان قبلها متقاضياً له كذلك تكون ما كافة ل " ليت " عن عملها ومصيرة لها إلى جواز وقوع الجملتين جميعاً بعدها ومن ألغى " ما " عنها وأقر عملها جعلها كحرف الجر في إلغاء " ما " معه نحو قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} و {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} ونحو ذلك وفصل بينها وبين " كأن " و " لعل " بأنها أشبه بالفعل منهما ألا تراها مفردة وهما مركبتان لأن الكاف زائدة واللام زائدة. هذا طريق اختلاف العلل لاختلاف الأحكام في الشيء الواحد فأما أيها أقوى وبأيها يجب أن يؤخذ فشيء آخر ليس هذا موضعه ولا وضع هذا الكتاب له. ومن ذلك اختلاف أهل الحجاز وبني تميم في هلم. فأهل الحجاز يجرونها مجرى صه ومه ورويداً ونحو ذلك مما سمي به الفعل وألزم طريقاً واحداً. وبنو تميم يلحقونها علم التثينة والتأنيث والجمع ويراعون أصل ما كانت عليه لم. وعلى هذا مساق جميع ما اختلفت العرب فيه. فالخلاف إذاً بين العلماء أعم منه بين العرب. وذلك أن العلماء اختلفوا في الاعتلال لما اتفقت العرب عليه كما اختلفوا أيضاً فيما اختفلت العرب فيه وكل ذهب مذهباً وإن كان بعضه قوياً وبعضه ضعيفاً. باب في أن العلة إذا لم تتعد لم تصح من ذلك قولهم من اعتل لبناء نحو كم ومن وما وإذ ونحو ذلك بأن هذه الأسماء لما كانت على حرفين شابهت بذلك ما جاء من الحروف على حرفين نحو هل وبل وقد. قال: فلما شابهت الحرف من هذا الموضع وجب بناؤها كما أن الحروف مبنية. وهذه علة غير متعدية وذلك أنه كان يجب على هذا أن يبنى ما كان من الأسماء أيضاً على حرفين نحو يد وأخ وأب ودم وفم وحِر وهَن ونحو ذلك. فإن قيل: هذه الأسماء لها أصل في الثلاثة وإنما حذف منها حرف فهو لذلك معتد فالجواب أن هذه زيادة في وصف العلة لم تأت بها في أول اعتلالك. وهبنا سامحناك بذلك قد كان يجب على هذا أن يبني باب يد وأخ وأب ونحو ذلك لأنه لما حذف فنقص شابه الحرف وإن كان أصله الثلاثة ألا ترى أن المنادى المفرد المعرفة قد كان أصله أن يعرب فلما دخله شبه الحرف لوقوعه موقع المضمر بني ولم يمنع من بنائه جريه معرباً قبل حال البناء. وهذا شبه معنوي كما ترى مؤثر داع إلى البناء والشبه اللفظي أقوى من الشبه المعنوي فقد كان يجب على هذا أن يبني ما جاء من الأسماء على حرفين وله أصل في الثلاثة وألا يمنع من بنائه كونه في الأصل ثلاثياً كما لم يمنع من بناء زيد في النداء كونه في الأصل معرباً بل إذا كانت صورة إعراب زيد قبل ندائه معلومة مشاهدة ثم لم يمنع ذاك من بنائه كان أن يبنى باب يد ودم وهن لنقصه ولأنه لم يأت تاماً على أصله إلا في أماكن شاذة أجدر. وعلى أن منها ما لم يأت على أصله البتة وهو معرب. وهو حر وسه وفم. فأما قوله: يا حبذا عينا سليمى والفما وقول الآخر: هما نفثا في فِيَ من فمويهما فإنه على كل حال لم يأت على أصله وإن كان قد زيد فيه ما ليس منه. فإن قلت: فقد ظهرت اللام في تكسير ذلك نحو أفواه وأستاه وأحراح قيل: قد ظهر أيضاً الإعراب في زيد نفسه لا في جمعه ولم يمنع ذلك من بنائه. وكذلك القول في تحقيره وتصريفه نحو فويه وأسته وحرح. ومن ذلك قول أبي إسحاق في التنوين اللاحق في مثال الجمع الأكبر نحو جوار وغواش: إنه عوض من ضمة الياء وهذه علة غير جارية ألا ترى أنها لو كانت متعدية لوجب أن تعوض من فإن قيل: الأفعال لا يدخلها التنوين ففي هذا جوابان: أحدهما أن يقال له: علتك ألزمتك إياه فلا تلم إلا نفسك والآخر أن يقال له: إن الأفعال إنما يمتنع منا التنوين اللاحق للصرف فأما التنوين غير ذاك فلا مانع له ألا ترى إلى تنوينهم الأفعال في القوافي لما لم يكن ذلك الذي هو علم للصرف كقول العجاج: من طلل كالأتحمي أنهجَن وقول جرير: وقولي إن أصبت: لقد أصابن ومع هذا فهل التنوين إلا نون وقد ألحقوا الفعل النونين: الخفيفة والثقيلة. وههنا إفساد لقول أبي إسحاق آخر وهو أن يقال له: إن هذه الأسماء قد عاقبت ياءاتها ضماتها ألا تراها لا تجتمع معها فلما عاقبتها جرت لذلك مجراها فكما أنك لا تعوض من الشيء وهو موجود فكذلك أيضاً يجب ألا تعوض منه وهناك ما يعاقبه ويجري مجراه. غير أن الغرض في هذا الكتاب إنما هو الإلزام الأول لأن به ما يصح تصور العلة وأنها غير متعدية. ومن ذلك قول الفراء في نحو لغة وثُبة ورئة ومئة: إن كان من ذلك المحذوف منه الواو فإنه يأتي مضموم الأول نحو لغة وبرة وثبة وكرة وقلة وما كان من الياء فإنه يأتي مكسور الأول نحو مئة ورئة. وهذا يفسده قولهم: سنة فيمن قال: سنوات وهي من الواو كما ترى وليست مضمومة الأول. وكذلك قولهم: عِضة محذوفها الواو لقولهم فيها: عضوات قال: هذا طريق يأزم المآزما وعضوات تقطع اللهازما وقالوا أيضاً: ضَعَة وهي من الواو مفتوحة الأول ألا تراه قال: متخذاً من ضَعَوات تَولَجا فهذا وجه فساد العلل إذا كانت واقفة غير متعدية. وهو كثير فطالب فيه بواجبه وتأمل ما يرد عليك من أمثاله.
باب في العلة وعلة العلة
ذكر أبو بكر في أول أصوله هذا ومثل منه برفع الفاعل. قال: فإذا سئلنا عن علة رفعه قلنا: ارتفع بفعله فإذا قيل: ولم صار الفاعل مرفوعاً فهذا سؤال عن علة العلة. وهذا موضع ينبغي أن تعلم منه أن هذا الذي سماه علة العلة إنما هو تجوز في اللفظ فأما في الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة ألا ترى أنه إذا قيل له: فلم ارتفع الفاعل قال: لإسناد الفعل إليه ولو شاء لابتدأ هذا فقال في جواب رفع زيد من قولنا قام زيد: إنما ارتفع لإسناد الفعل إليه فكان مغنياً عن قوله: إنما ارتفع بفعله حتى تسأله فيما بعد عن العلة التي ارتفع لها الفاعل. وهذا هو الذي أراده المجيب بقوله: ارتفع بفعله أي بإسناد الفعل إليه. نعم ولو شاء لماطله فقال له: ولم صار المسند إليه الفعل مرفوعاً فكان جوابه أن يقول: إن صاحب الحديث أقوى الأسماء والضمة أقوى الحركات فجعل الأقوى للأقوى. وكان يجب على ما رتبه أبو بكر أن تكون هنا علة وعلة العلة وعلة علة العلة. وأيضاً فقد كان له أن يتجاوز هذا الموضع إلى ما وراءه فيقول: وهلا عكسوا الأمر فأعطوا الاسم الأقوى الحركة الضعيفة لئلا يجمعوا بين ثقيلين. فإن تكلف متكلف جواباً عن هذا تصاعدت عدة العلل وأدى ذاك إلى هجنة القول وضعفة القائل به وكذلك لو قال لك قائل في قولك: قام القوم إلا زيداً: لم نصبت زيداً لقلت: لأنه مستثنى وله من بعد أن يقول: ولم نصبت المستثنى فيكون من جوابه لأنه فضلة ولو شئت أجبت مبتدئاً بهذا فقلت: إنما نصبت زيداً في قولك: قام القوم إلا زيداً لأنه فضلة. والباب واحد والمسائل كثيرة. فتأمل وقس. فقد ثبت بذلك أن هذا موضع تسمح " فيه أبو بكر " أو لم ينعم تأمله. ومن بعد فالعلة الحقيقية عند أهل النظر لا تكون معلولة ألا ترى أن السواد الذي هو علة لتسويد ما يحله إنما صار كذلك لنفسه لا لأن جاعلاً جعله على هذه القضية. وفي هذا بيان. فقد ثبت إذاً أن قوله: علة العلة إنما غرضه فيه أنه تتميم وشرح لهذه العلة المقدمة عليه. وإنما ذكرناه في جملة هذه الأبواب لأن أبا بكر - رحمه الله - ذكره فأحببنا أن نذكر ما عندنا فيه. وبالله التوفيق. حكم المعلول بعلتين باب في حكم المعلول بعلتين وهو على ضربين: أحدهما ما لا نظر فيه والآخر محتاج إلى النظر. الأول منهما نحو قولك: هذه عشري وهؤلاء مسلمي. فقياس هذا على قولك: عشروك ومسلموك أن يكون أصله عشروي ومسلموي فقلبت الواو ياء لأمرين كل واحد منهما موجب للقلب غير محتاج إلى صاحبه للاستعانة به على قلبه: أحدهما اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون والآخر أن ياء المتكلم أبداً تكسر الحرف الذي قبلها إذا كان صحيحاً نحو هذا غلامي ورأيت صاحبي وقد ثبت فيما قبل أن نظير الكسر في الصحيح الياء في هذه الأسماء نحو مررت بزيد ومررت بالزيدين ونظرت إلى العشرين. فقد وجب إذاً ألا يقال: هذه عشروي بالواو كما لا يقال: هذا غلامي بضم الميم. فهذه علة غير الأولى في وجوب قلب الواو ياء في عشروي وصالحوي ونحو ذلك وأن يقال عشري بالياء البتة كما يقال هذا غلامي بكسر الميم البتة. ويدل على وجوب قلب هذه الواو إلى الياء في هذا الموضع من هذا الوجه ولهذه العلة لا للطريق الأول - من استكراههم إظهار الواو ساكنة قبل الياء - أنهم لم يقولوا: رأيت فاي وإنما يقولون: رأيت في. هذا مع أن هذه الياء لا ينكر أن تأتي بعد الألف نحو رحاي وعصاي لخفة الألف فدل امتناعهم من إيقاع الألف قبل هذه الياء على أنه ليس طريقه طريق الاستخفاف والاستثقال وإنما هو لاعتزامهم ترك الألف والواو قبلها كتركهم الفتحة والضمة قبل الياء في الصحيح نحو غلامي وداري. فإن قيل: فأصل هذا إنما هو لاستثقالهم الياء بعد الضمة لو قالوا: هذا غلامي قيل: لو كان لهذا الموضع البتة لفتحوا ما قبلها لأن الفتحة على كل حال أخف قبل الياء من الكسرة فقالوا: رأيت غلامَى. فإن قيل: لما تركوا الضمة هنا وهي علم للرفع أتبعوها الفتحة ليكون العمل من موضع واحد كما أنهم لما استكرهوا الواو بعد الياء نحو يعد حذفوها أيضاً بعد الهمزة والنون والتاء في نحو أعد ونعد وتعد قيل: يفسد هذا من أوجه. وذلك أن حروف المضارعة تجري مجرى الحرف الواحد من حيث كانت كلها متساوية في جعلها الفعل صالحاً لزمانين: الحال والاستقبال فإذا وجب في أحدها شيء أتبعوه سائرها وليس كذلك علم الإعراب: ألا ترى أن موضوع الإعراب على مخالفة بعضه بعضاً من حيث كان إنما جيء به دالاً على اختلاف المعاني. فإن قلت: فحروف المضارعة أيضاً موضوعة على اختلاف معانيها لأن الهمزة للمتكلم والنون للمتكلم إذا كان معه غيره وكذلك بقيتها قيل: أجل إلا أنها كلها مع ذلك مجتمعة على معنى واحد وهو جعلها الفعل صالحاً للزمانين على ما مضى. فإن قلت: فالإعراب أيضاً كله مجتمع على جريانه على حرفه قيل: هذا عمل لفظي والمعاني أشرف من الألفاظ. وأيضاً فتركهم إظهار الألف قبل هذه الياء مع ما يعتقد من خفة الألف حتى إنه لم يسمع منهم نحو فاى ولا أباى ولا أخاى وإنما المسموع عنهم رأيت أبي وأخي وحكى سيبويه كَسَرت فِيَ أدل دليل على أنهم لم يراعوا حديث الاستخفاف والاستثقال حسب وأنه أمر غيرهما. وهو اعتزامهم ألا تجيء هذه الياء إلا بعد كسرة أو ياء أو ألف لا تكون علماً للنصب: نحو هذه عصاي وهذا مصلاي. وعلى أن بعضهم راعى هذا الموضع أيضاً فقلب هذه الألف ياء فقال: عصي ورحي ويا بشري " هذا غلام " وقال أبو داود: فأبلوني بليتكم لعلي أصالحكم وأستدرج نويا وروينا أيضاً عن قطرب: يطوف بي عكب في معد ويطعن بالصملة في قفيا وهو كثير. ومن قال هذا لم يقل في هذان غلاماي: " غلامَي " بقلب الألف ياء لئلا يذهب علم الرفع. ومن المعلول بعلتين قولهم: سيُ وريُ. وأصله سوي وروي فانقلبت الواو ياء - إن شئت - لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة و - إن شئت - لأنها ساكنة قبل الياء. فهاتان علتان إحداهما كعلة قلب ميزان والأخرى كعلة طيا وليا مصدري طويت ولويت وكل واحدة منهما مؤثرة. فهذا ونحوه أحد ضربي الحكم المعلول بعلتين الذي لا نظر فيه. والآخر منهما ما فيه النظر وهو باب ما لا ينصرف. وذلك أن علة امتناعه من الصرف إنما هي لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل. فأما السبب الواحد فيقل عن أن يتم علة بنفسه حتى ينضم إليه الشبه الآخر من الفعل. فإن قيل: فإذا كان في الاسم شبه واحد من أشباه الفعل أله فيه تأثير أم لا فإن كان له فيه تأثير فماذا التأثير وهل صرف زيد إلا كصرف كلب وكعب وإن لم يكن للسبب الواحد إذا حل الاسم تأثير فيه فما باله إذا انضم إليه سبب آخر أثرا فيه فمعناه الصرف وهلا إذا كان السبب الواحد لا تأثير له فيه لم يؤثر فيه الآخر كما لم يؤثر فيه الأول وما الفرق بين الأول فالجواب أن السبب الواحد وإن لم يقو حكمه إلى أن يمنع الصرف فإنه لا بد في حال انفراده من تأثير فيما حله وذلك التأثير الذي نوميء إليه وندعي حصوله هو تصويره الاسم الذي حله على صورة ما إذا انضم إليه سبب آخر اعتونا معاً على منع الصرف ألا ترى أن الأول لو لم تجعله على هذه الصفة التي قدمنا ذكرها لكان مجيء الثاني مضموماً إليه لايؤثر أيضاً كما لم يؤثر الأول ثم كذلك إلى أن تفنى أسباب منع الصرف فتجتمع كلها فيه وهو مع ذلك منصرف. لا بل دل تأثير الثاني على أن الأول قد كان شكل الاسم على صورة إذا انضم إليه سبب آخر انضم إليها مثلها وكان من مجموع الصورتين ما يوجب ترك الصرف. فإن قلت: ما تقول في اسم أعجمي علم في بابه مذكر متجاوز للثلاثة نحو يوسف وإبراهيم ونحن نعلم أنه الآن غير مصروف لاجتماع التعريف والعجمة عليه فلو سميت به من بعد مؤثناً ألست قد جمعت فيه بعد ما كان عليه - من التعريف والعجمة - التأنيث فليت شعري أبالأسباب الثلاثة منعته الصرف أم باثنتين منها فإن كان بالثلاثة كلها فما الذي زاد فيه التأنيث الطاريء عليه فإن كان لم يزد فيه شيئاً فقد رأيت أحد أشباه الفعل غير مؤثر وليس هذا من قولك. وإن كان أثر فيه التأنيث الطاريء عليه شيئاً فعرفنا ما ذلك المعنى. فالجواب هو أنه جعله على صورة ما إذا حذف منه سبب من أسباب الفعل بقي بعد ذلك غير مصروف أيضاً ألا تراك لو حذفت من يوسف اسم امرأةٍ التأنيث فأعدته إلى التذكير لأقررته أيضاً على ما كان عليه من ترك الصرف وليس كذلك امرأة سميتها بجعفر ومالك ألا تراك لو نزعت عن الاسم تأنيثه لصرفته لأنك لم تبق فيه بعد إلا شبهاً واحداً من أشباه الفعل. فقد صار إذاً المعنى الثالث مؤثراً أثراً ما كما كان السبب الواحد مؤثراً أثراً ما على ما قدمنا ذكره فاعرف ذلك. وأيضاً فإن " يوسف " اسم امرأة أثقل منه اسم رجل كما أن " عقرب " اسم امرأة أثقل من " هند " ألا تراك تجيز صرفها ولا تجيز صرف " عقرب " علماً. فهذا إذاً معنى حصل ليوسف عند تسمية المؤنث به وهو معنى زائد بالشبه الثالث. فأما قول من قال: إن الاسم الذي اجتمع فيه سببان من أسباب منع الصرف فمنعه إذا انضم إلى ذلك ثالث امتنع من الإعراب أصلاً ففاسد عندنا من أوجه: أحدها أن سبب البناء في الاسم ليس طريقه طريق حديث الصرف وترك الصرف إنما سببه مشابهة الاسم للحرف لا غير. وأما تمثيله ذلك بمنع إعراب حذام وقطام وبقوله فيه: إنه لما كان معدولاً عن حاذمة وقاطمة وقد كانتا معرفتين لا ينصرفان وليس بعد منع الصرف إلا ترك الإعراب البتة فلاحق في الفساد بما قبله لأنه منه وعليه حذاه. وذلك أن علة منع هذه الإعراب إنما هو شيء أتاها من باب دراك ونزال ثم شبهت حذام وقطام ورقاش بالمثال والتعريف والتأنيث بباب دراك ونزال على " ما بيناه " هناك. فأما أنه لأنه ليس بعد منع الصرف إلا رفع الإعراب أصلاً فلا. ومما يفسد قول من قال: إن الاسم إذا منعه السببان الصرف فإن اجتماع الثلاثة فيه ترفع عنه الإعراب أنا نجد في كلامهم من الأسماء ما يجتمع فيه خمسة أسباب من موانع الصرف وهو مع ذلك معرب غير مبني. وذلك كامرأة سميتها " بأذربيجان " فهذا اسم قد اجتمعت فيه خمسة موانع: وهو التعريف والتأنيث والعجمة والتركيب والألف والنون وكذلك إن عنيت " بأذربيجان " البلدة والمدينة لأن البلد فيه الأسباب الخمسة وهو مع ذلك معرب كما ترى. فإذا كانت الأسباب الخمسة لا ترفع الإعراب فالثلاثة أحجى بألا ترفعه وهذا بيان. ولتحامي الإطالة ما أحذف أطرافاً من القول على أن فيما يخرج إلى الظاهر كافياً بإذن الله.
باب في إدراج العلة واختصارها
هذا موضع يستمر " النحويون عليه " فيفتق عليهم ما يتعبون بتداركه والتعذر منه. وذلك كسائل سأل عن قولهم: آسيت الرجل فأنا أواسيه وآخيته فأنا أواخيه فقال: وما أصله فقلت: أؤاسيه وأؤاخيه - وكذلك نقول - فيقول لك: فما علته في التغيير فنقول: اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واواً لانضمام ما قبلها. وفي ذلك شيئان: أحدهما أنك لم تستوف ذكر الأصل والآخر أنك لم تتقص شرح العلة. أما إخلالك بذكر حقيقية الأصل فلأن أصله " أؤاسوك " لأنه أفاعلك من الأسوة فقلبت الواو ياء لوقوعها طرفاً بعد الكسرة وكذلك أؤاخيك أصله " أؤاخوك " لأنه من الأخوة فانقلبت اللام لما ذكرنا كما تنقلب في نحو أعطِى واستقصِى. وأما تقصي علة تغيير الهمزة بقلبها واواً فالقول فيه أنه اجتمع في كلمة واحدة همزتان غير عينين " الأولى منهما مضمومة والثانية مفتوحة " و " هي " حشو غير طرف فاستثقل ذلك فقلبت الثانية على حركة ما قبلها - وهي الضمة - واواً. ولا بد من ذكر جميع ذلك وإلا أخللت ألا ترى أنك قد تجمع في الكلمة الواحدة بين همزتين فتكونان عينين فلا تغير ذلك وذلك نحو سآل ورآس وكبنائك من سألت نحو تبع فتقول: " سؤل " فتصحان لأنهما عينان ألا ترى أن لو بنيت من قرأت مثل " جرشع " لقلت " قرء " وأصله قرؤؤ فقلبت الثانية ياء وإن كانت قبلها همزة مضمومة وكانتا في كلمة واحدة لما كانت الثانية منهما طرفاً لا حشواً. وكذلك أيضاً ذكرك كونهما في كلمة واحدة ألا ترى أن من العرب من يحقق الهمزتين إذا كانتا من كلمتين نحو قول الله تعالى {السُّفَهَاء أَلا} فإذا كانتا في كلمة واحدة فكلهم يقلب نحو جاء وشاء ونحو خطايا وزوايا في قول الكافة غير الخليل. فأما ما يحكى عن بعضهم من تحقيقهما في الكلمة الواحدة نحو أئمة وخطائيء " مثل خطاعع " وجائيء فشاذ لا يجوز أن يعقد عليه باب. ولو اقتصرت في تعليل التغيير في " أؤاسيك " ونحوه على أن تقول: اجتمعت الهمزتان في كلمة واحدة فقلبت الثانية واواً لوجب عليك أن تقلب الهمزة الثانية في نحو سأآل ورأآس واواً وأن تقلب همزة أأدم وأأمن واواً وأن تقلب الهمزة الثانية في خطائيء واواً. ونحو ذلك كثير لا يحصى وإنما أذكر من كل نبذاً لئلا يطول الكتاب جداً.
باب في دور الاعتلال هذا موضع طريف.
ذهب محمد بن يزيد في وجوب إسكان اللام في نحو ضربن وضربت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير: يعني مع الحركتين قبل. وذهب أيضاً في حركة الضمير من نحو هذا أنها إنما وجبت لسكون ما قبله. فتارة اعتل لهذا بهذا ثم دار تارة أخرى فاعتل لهذا بهذا. وفي ظاهر ذلك اعتراف بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه وإنما استقر على ما استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه. ومثله ما أجازه سيبويه في جر " الوجه " من قولك: هذا الحسن الوجه. وذلك أنه أجاز فيه الجر من وجهين: أحدهما طريق الإضافة الظاهرة والآخر تشبيهه بالضارب الرجل. " وقد أحطنا علماً بأن الجر إنما جاز في الضارب الرجل " ونحوه مما كان الثاني منهما منصوباً لتشبيههم إياه بالحسن الوجه أفلا ترى كيف صار كل واحد من الموضعين علة لصاحبه في الحكم الواحد الجاري عليهما جميعاً. وهذا من طريف أمر هذه اللغة وشدة تداخلها وتزاحم الألفاظ والأغراض على جهاتها. والعذر أن الجر لما فشا واتسع في نحو الضارب الرجل والشاتم الغلام والقاتل البطل صار - لتمكنه فيه وشياعه في استعماله - كأنه أصل في بابه وإن كان إنما سرى إليه لتشبيهه بالحسن الوجه. فلما كان كذلك قوي في بابه حتى صار لقوته قياساً وسماعاً كأنه أصل للحر في " هذا الحسن الوجه " وسنأتي على بقية هذا الموضع في باب نفرده له بإذن الله. لكن ما أجازه أبو العباس وذهب إليه في باب ضربن وضربت من تسكين اللام لحركة الضمير وتحريك الضمير لسكون اللام شنيع الظاهر والعذر فيه أضعف منه في مسئلة الكتاب ألا ترى أن الشيء لا يكون علة نفسه وإذا لم يكن كذلك كان من أن يكون علة علته أبعد وليس كذلك قول سيبويه وذلك أن الفروع إذا تمكنت " قويت قوة تسوغ " حمل الأصول عليها. وذلك لإرادتهم تثبيت الفرع والشهادة له بقوة الحكم.
باب في الرد على من اعتقد فساد علل النحويين لضعفه هو في نفسه عن إحكام العلة
اعلم أن هذا الموضع هو الذي يتعسف بأكثر من ترى. وذلك أنه لا يعرف أغراض القوم فيرى لذلك أن ما أوردوه من العلة ضعيف واه ساقط غير متعال. وهذا كقولهم: يقول النحويون إن الفاعل رفع والمفعول به نصب وقد ترى الأمر بضد ذلك ألا ترانا نقول: ضرب زيد فنرفعه وإن كان مفعولاً به ونقول: إن زيداً قام فننصبه وإن كان فاعلاً ونقول: عجبت من قيام زيد فنجره وإن كان فاعلاً ونقول أيضاً: قد قال الله عز وجل {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} فرفع " حيث " وإن كان بعد حرف الخفض. ومثله عندهم في الشناعة قوله - عز وجل - {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} وما يجري هذا المجرى. ومثل هذا يتعب مع هذه الطائفة لا سيما إذا كان السائل عنه من يلزم الصبر عليه. ولو بدأ الأمر بإحكام الأصل لسقط عنه هذا الهوس وذا اللغو ألا ترى أنه لو عرف أن الفاعل عند أهل العربية ليس كل من كان فاعلاً في المعنى وأن الفاعل عندهم إنما هو كل اسم ذكرته بعد الفعل وأسندت ونسبت ذلك الفعل إلى ذلك الاسم وأن الفعل الواجب وغير الواجب في ذلك سواء لسقط صداع هذا المضعوف السؤال. وكذلك القول على المفعول أنه إنما ينصب إذا أسند الفعل إلى الفاعل فجاء هو فضلة وكذلك لو عرف أن الضمة في نحو حيث وقبل وبعد ليست إعراباً وإنما هي بناء. وإنما ذكرت هذا الظاهر الواضح ليقع الاحتياط في المشكل الغامض. وكذلك ما يحكى عن الجاحظ من أنه قال: قال النحويون: إن أفعل الذي مؤنثه فُعلى لا يجتمع فيه الألف واللام ومن وإنما هو بمن أو بالألف واللام نحو قولك: الأفضل وأفضل منك والأحسن وأحسن من جعفر ثم قال: وقد قال الأعشى: فلست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر ورحم الله أبا عثمان أما إنه لو علم أن " من " في هذا البيت ليست التي تصحب أفعل للمبالغة نحو أحسن منك وأكرم منك لضرب عن هذا القول إلى غيره مما يعلو فيه قوله ويعنو لسداده وصحته خصمه. وذلك أن " من " في بيت الأعشى إنما هي كالتي في قولنا: أنت من الناس حر وهذا الفرس من الخيل كريم. فكأنه قال: لست من بينهم بالكثير الحصى ولست الاعتلال بالأفعال باب في الاعتلال لهم بأفعالهم ظاهر هذا الحديث طريف ومحصوله صحيح وذلك إذا كان الأول المردود إليه الثاني جارياً على " صحة علة ". من ذلك أن يقول قائل: إذا كان الفعل قد حذف في الموضع الذي لو ظهر فيه لما أفسد معنى كان ترك إظهاره في الموضع الذي لو ظهر فيه لأحال المعنى وأفسده أولى وأحجى ألا ترى أنهم يقولون: الذي في الدار زيد وأصله الذي استقر أو ثبت في الدار زيد ولو أظهروا هذا الفعل هنا لما أحال معنى ولا أزال غرضاً فكيف بهم في ترك إظهاره في النداء ألا ترى أنه لو تجشم إظهاره فقيل: أدعو زيداً وأنادي زيداً لاستحال أمر النداء فصار إلى لفظ الخبر المحتمل للصدق والكذب والنداء مما لا يصح فيه تصديق ولا تكذيب. ومن الاعتلال بأفعالهم أن تقول: إذا كان اسم الفاعل - على قوة تحمله للضمير - متى جرى على غير من هو له - صفة أو صلة أو حالاً أو خبراً - لم يحتمل الضمير كما يحتمله الفعل فما ظنك بالصفة المشبهة باسم الفاعل نحو قولك: زيد هند شديد عليها هو إذا أجريت " شديداً " خبراً عن " هند " وكذلك قولك: أخواك زيد حسن في عينه هما والزيدون هند ظريف في نفسها هم وما ظنك أيضاً بالشفة المشبهة " بالصفة المشبهة " باسم الفاعل نحو قولك: أخوك جاريتك أكرم عليها من عمرو هو وغلاماك أبوك أحسن عنده من جعفر هما والحجر الحية أشد عليها من العصا هو. ومن قال: مررت برجل أبي عشرة أبوه قال: أخواك جاريتهما أبو عشرة عندها هما فأظهرت الضمير. وكان ذلك أحسن من رفعه الظاهر لأن هذا الضمير وإن كان منفصلاً ومشبهاً للظاهر بانفصاله فإنه على كل حال ضمير. وإنما وحدت فقلت: أبو عشرة عندها هما ولم تثنه فتقول: أبوا عشرة من قبل أنه قد رفع ضميراً منفصلاً مشابهاً للظاهر فجرى مجرى قولك: مررت برجل أبي عشرة أبواه. فلما رفع الظاهر وما يجري مجرى الظاهر شبهه بالفعل فوحد البتة. ومن قال: مررت برجل قائمين أخواه فأجراه مجرى قاما أخواه فإنه يقول: مررت برجل أبوي عشرة أبواه. والتثنية في " أبوي عشرة " من وجه تقوى ومن آخر تضعف. أما وجه القوة فلأنها بعيدة عن اسم الفاعل الجاري مجرى الفعل فالتثنية فيه - لأنه اسم - حسنة وأما وجه الضعف فلأنه على كل حال قد أعمل في الظاهر ولم يعمل إلا لشبهه بالفعل وإذا كان كذلك وجب له أن يقوى شبه الفعل ليقوم العذر بذلك في إعماله عمله ألا ترى أنهم لما شبهوا الفعل باسم الفاعل فأعربوه كنفوا هذا المعنى بينهما وأيدوه بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه. وهذا في معناه واضح سديد كما تراه. وأمثال هذا في الاحتجاج لهم بأفعالهم كثيرة وإنما أضع من كل شيء رسماً ما ليحتذى. فأما الإطالة والاستيعاب فلا.
باب في الاحتجاج بقول المخالف
اعلم أن هذا - على ما في ظاهره - صحيح ومستقيم. وذلك أن ينبغ من أصحابه نابغ فينشيء خلافاً ما على أهل مذهبه فإذا سمع خصمه به وأجلب عليه قال: هذا لا يقول به أحد من الفريقين فيخرجه مخرج التقبيح له والتشنيع عليه. وذلك كإنكار أبي العباس جواز تقديم خبر ليس عليها فأحد ما يحتج به عليه أن يقال له: إجازة هذا مذهب سيبويه وأبي الحسن وكافة أصحابنا والكوفيون أيضاً معنا. فإذا كانت إجازة ذلك مذهباً للكافة من البلدين وجب عليك - يا أبا العباس - أن تنفر عن خلافه وتستوحش منه ولا تأنس بأول خاطر يبدو لك فيه. ولعمري إن هذا ليس بموضع قطع على الخصم إلا أن فيه تشنيعاً عليه وإهابة به إلى تركه وإضافة لعذره في استمراره عليه وتهالكه فيه من غير إحكامه وإنعام الفحص عنه. وإنما لم يكن فيه قطع لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ما لم يلو بنص أو ينتهك حرمة شرع. فقس على ما ترى فإنني إنما أضع من كل شيء مثالاً موجزاً.
باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة
اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص. والمقيس على النصوص فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ( أمتي لا تجتمع على ضلالة ) وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة. فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره. إلا أننا - مع هذا الذي رأيناه وسوغناه مرتكبة - لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها وتقدم نظرها وتتالت أواخر على أوائل وأعجازاً على كلاكل والقوم الذين لا نشك في أن الله - سبحانه وتقدست أسماؤه - قد هداهم لهذا العلم الكريم وأراهم وجه الحكمة في الترجيب له والتعظيم وجعله ببركاتهم وعلى أيدي طاعاتهم خادماً للكتاب المنزل وكلام نبيه المرسل وعوناً على فهمهما ومعرفة ما أمر به أو نهي عنه الثقلان منهما إلا بعد أن يناهضه إتقاناً ويثابته عرفاناً ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره. فإذا هو حذا على هذا المثال وباشر بإنعام تصفحه أحناء الحال أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معاز به ولا غاض من السلف - رحمهم الله - في شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه. وشيع خاطره وكان بالصواب مئنة ومن التوفيق مظنة وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: ما على الناس شيء أضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئاً. وقال أبو عثمان المازني: " وإذا قال العالم قولاً متقدماً فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له والاحتجاج لخلافه إن وجد إلى ذلك سبيلاً " وقال الطائي الكبير: يقول من تطرق أسماعه كم ترك الأول للآخر! فمما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بديء هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ما رأيته أنا في قولهم: هذا جحر ضب خرب. فهذا يتناوله آخر عن أول وتال عن ماض على أنه غلط من العرب لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه وأنه من الشاذ الذي لا يحمل عليه ولا يجوز رد غيره إليه. وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفاً على ألف موضع. وذلك أنه على حذف المضاف لا غير. فإذا حملته على هذا الذي هو حشو الكلام من القرآن والشعر ساغ وسلس وشاع وقبل. وتلخيص هذا أن أصله: هذا جحر ضب خربٍ جحره فيجري " خرب " وصفاً على " ضب " وإن كان في الحقيقة للجحر. كما تقول مررت برجل قائم أبوه فتجري " قائماً وصفاً على " رجل " وإن كان القيام للأب لا للرجل لما ضمن من ذكره. والأمر في هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له أو شاهد عليه. فلما كان أصله كذلك حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس " خرب " فجرى وصفاً على ضب - وإن كان الخراب للجحر لا للضب - على تقدير حذف المضاف على ما أرينا. وقلت آية تخلو من حذف المضاف نعم وربما كان في الآية الواحدة من ذلك عدة مواضع. وعلى نحو من هذا حمل أبو علي رحمه الله: كبير أناس في بجاد مزمل ولم يحمله على الغلط قال: لأنه أراد: مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول. فإذا أمكن ما قلنا ولم يكن أكثر من حذف المضاف الذي قد شاع واطرد كان حمله عليه أولى من حمله على الغلط الذي لا يحمل غيره عليه ولا يقاس به. أو مذهب جدد على ألواحه الناطق المبروز والمختوم أي المبروز به ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول. وعليه قول الآخر: إلى غير موثوق من الأرض تذهب أي موثوق به ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول.
باب في الزيادة في صفة العلة لضرب من الاحتياط
قد يفعل أصحابنا ذلك إذا كانت الزيادة مثبتة لحال المزيد عليه. وذلك كقولك في همز " أوائل ": أصله " أواول " فلما اكتنفت الألف واوان وقربت الثانية منهما من الطرف ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل تنبيهاً على غيره من المغيرات في معناه ولا هناك ياء قبل الطرف منوية مقدرة وكانت الكلمة جمعاً ثقل ذلك فأبدلت الواو همزة فصار أوائل. فجميع ما أوردته محتاج إليه إلا ما استظهرت به من قولك: وكانت الكلمة جمعاً فإنك لو لم تذكره لم يخلل ذلك بالعلة ألا ترى أنك لو بنيت من قلت وبعت واحداً على فواعل كعوارض أو أفاعل " من أول أو يوم أو ويح " كأباتر لهمزت كما تهمز في الجمع. فذكرك الجمع في أثناء الحديث إنما زدت الحال به أنساً من حيث كان الجمع في غير هذا مما يدعو إلى قلب الواو ياء في نحو حقي ودلي فذكرته هنا تأكيداً لا وجوباً. وذكراك أنهم لم يؤثروا في هذا إخراج الحرف على أصله دلالة على أصل ما غير من غيره في نحوه لئلا يدخل عليك أن يقال لك: قد قال الراجز: تسمع من شدانها عواولا وذكرت أيضاً قولك: ولم يكن هناك ياء قبل الطرف مقدرة لئلا يلزمك قوله: وكحل العينين بالعواور ألا ترى أن أصله عواوير من حيث كان جمع عوار. والاستظهار في هذين الموضعين أعني حديث عواول وعواور أسهل احتمالاً من دخولك تحت الإفساد عليك بهما واعتذارك من بعد بما قدمته في صدر العلة. فإذا كان لا بد من إيراده فيما بعد إذا لم تحتط بذكره فيما قبل كان الرأي تقديم ذكره والاستراحة من التعقب عليك به. فهذا ضرب. ولو استظهرت بذكر ما لا يؤثر في الحكم لكان ذلك منك خطلاً ولغواً من القول ألا ترى أنك لو سئلت عن رفع طلحة من قولك: جاءني طلحة فقلت: ارتفع لإسناد الفعل إليه ولأنه مؤنث أو لأنه علم لم يكن ذكرك التأنيث والعلمية إلا كقولك: ولأنه مفتوح الطاء أو لأنه ساكن عين الفعل ونحو ذلك مما لا يؤثر في الحال. فاعرف بذلك موضع ما يمكن الاحتياط به للحكم مما فإن قيل: هلا كان ذكرك أنت أيضاً هنا الفعل لا وجه له ألا ترى أنه إنما ارتفع بإسناد غيره إليه فاعلاً كان أو مبتدأ. والعلة في رفع الفاعل هي العلة في رفع المبتدأ وإن اختلفا من جهة التقديم والتأخير قلنا: لا لسنا نقول هكذا مجرداً وإنما نقول في رفع المبتدأ: إنه إنما وجب ذلك له من حيث كان مسنداً إليه عارياً من العوامل اللفظية قبله فيه وليس كذلك الفاعل لأنه وإن كان مسنداً إليه فإن قبله عاملاً لفظياً قد عمل فيه وهو الفعل وليس كذلك قولنا: زيد قام لأن هذا لم يرتفع لإسناد الفعل إليه حسب دون أن انضم إلى ذلك تعريه من العوامل اللفظية من قبله. فلهذا قلنا: ارتفع الفاعل بإسناد الفعل إليه ولم نحتج فيما بعد إلى شيء نذكره كما احتجنا إلى ذلك في باب المبتدأ ألا تراك تقول: إن زيداً قام فتنصبه - وإن كان الفعل مسنداً إليه - لما لم يعر من العامل اللفظي الناصبه. فقد وضح بذلك فرق ما بين حالي المبتدأ والفاعل في وصف تعليل ارتفاعهما وأنهما وإن اشتركا في كون كل واحد منهما مسنداً إليه فإن هناك فرقاً من حيث أرينا. ومن ذلك قولك في جواب من سألك عن علة انتصاب زيد من قولك: ضربت زيداً: إنه إنما انتصب لأنه فضلة ومفعول به فالجواب قد استقل بقولك: لأنه فضلة وقولك من بعد: " ومفعول به " تأنيس وتأييد لا ضرورة بك إليه ألا ترى أنك تقول في نصب " نفس " من قولك: طبت به نفساً: إنما انتصب لأنه فضلة وإن كانت النفس هنا فاعلة في المعنى. فقد علمت بذلك أن قولك: ومفعول به زيادة على العلة تطوعت بها. غير أنه في ذكرك كونه مفعولاً معنى ما وإن كان صغيراً. وذلك أنه قد ثبت وشاع في الكلام أن الفاعل رفع والمفعول به نصب وكأنك أنست بذلك شيئاً. وأيضاً فإن فيه ضرباً من الشرح. وذلك أن كون الشيء فضلة لا يدل على أنه لا بد من أن يكون مفعولاً به ألا ترى أن الفضلات كثيرة كالمفعول به والظرف والمفعول له والمفعول معه والمصدر والحال والتمييز والاستثناء. فلما قلت: ومفعول به ميزت أي الفضلات هو. فاعرف ذلك وقسه.
باب في عدم النظير
أما إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير. وذلك مذهب الكتاب فإنه حكى فيما جاء على فِعِلٍ " إبلا " وحدها ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه. فأما إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير ألا ترى إلى عِزويت لما لم يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجت إلى التعلل بالنظير فمنعت من أن يكون فِعويلا لما لم تجد له نظيراً وحملته على فِعليت لوجود النظير وهو عفريت ونفريت. وكذلك قال أبو عثمان في الرد على من ادعى أن السين وسوف ترفعان الأفعال المضارعة: لم نر عاملاً في الفعل تدخل عليه اللام وقد قال سبحانه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. فجعل عدم النظير رداً على من أنكر قوله. وأما إن لم يقم الدليل ولم يوجد النظير فإنك تحكم مع عدم النظير. وذلك كقولك في الهمزة والنون من أندلس: إنهما زائدتان وإن وزن الكلمة بهما " أنفعُل " وإن كان مثالاً لا نظير له. وذلك أن النون لا محالة زائدة لأنه ليس في ذوات الخمسة شيء على " فعلَلُل " فتكون النون فيه أصلاً لوقوعها موقع العين وإذا ثبت أن النون زائدة فقد برد في يدك ثلاثة أحرف أصول وهي الدال واللام والسين وفي أول الكلمة همزة ومتى وقع ذلك حكمت بكون الهمزة زائدة ولا تكون النون أصلاً والهمزة زائدة لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزوائد من أوائلها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج وبابه. فقد وجب إذاً أن الهمزة والنون زائدتان وأن الكلمة بهما على أنفعل وإن كان هذا مثالاً لا نظير له. فإن ضام الدليل النظير فلا مذهب بك عن ذلك وهذا كنون عنتر. فالدليل يقضي بكونها أصلاً لأنها مقابلة لعين جعفر والمثال أيضاً معك وهو " فعلَل " وكذلك القول على بابه. فاعرف ذلك وقس.
باب في إسقاط الدليل
وذلك كقول أبي عثمان: لا تكون الصفة غير مفيدة فلذلك قلت: مررت برجل أفعل. فصرف أفعل هذه لما لم تكن الصفة مفيدة. وإسقاط هذا أن يقال له: قد جاءت الصفة غير مفيدة. وذلك كقولك في جواب من قال رأيت زيداً: آلمنيّ يا فتى فالمنيّ صفة وغير مفيدة. ومن ذلك قول البغداديين: إن الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذكره نحو زيد مررت به وأخوك أكرمته. فارتفاعه عندهم إنما هو لأن عائداً عاد عليه فارتفع بذلك العائد. وإسقاط هذا الدليل أن يقال لهم: فنحن نقول: زيد هل ضربته وأخوك متى كلمته ومعلوم أن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله فكما اعتبر أبو عثمان أن كل صفة فينبغي أن تكون مفيدة فأوجد أن من الصفات ما لا يفيد وكان ذلك كسراً لقوله كذلك قول هؤلاء: إن كل عائد على اسم عار من العوامل يرفعه يفسده وجود عائد على اسم عار من العوامل وهو غير رافع له فهذا طريق هذا.
باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين
وذلك عندنا على أوجه: احدها أن يكون أحدهما مرسلاً والآخر معللاً. فإذا اتفق ذلك كان المذهب الأخذ بالمعلل ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل. وذلك كقول صاحب الكتاب - في غير موضع - في التاء من " بنت وأخت ": إنها للتأنيث وقال أيضاً مع ذلك في باب ما ينصرف وما لا ينصرف: إنها ليست للتأنيث. واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكناً إلا أن يكون ألفاً كقناة وفتاة وحصاة والباقي كله مفتوح كرطبة وعنبة وعلامة ونسابة. قال: ولو سميت رجلاً ببنت وأخت لصرفته. وهذا واضح. فإذا ثبت هذا القول الثاني بما ذكرناه وكانت التاء فيه إنما هي عنده على ما قاله بمنزلة تاء " عفريت " و " ملكوت " وجب أن يحمل قوله فيها: إنها للتأنيث على المجاز وأن يتأول ولا يحمل القولان على التضاد. ووجه الجمع بين القولين أن هذه التاء وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لما لم توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث استجاز أن يقول فيها: إنها للتأنيث ألا ترى أنك إذا ذكرت قلت " ابن " فزالت التاء كما تزول التاء من قولك: ابنة. فلما ساوقت تاء بنت تاء ابنة وكانت تاء ابنة للتأنيث قال في تاء بنت ما قال في تاء ابنة. وهذا من أقرب ما يتسمح به في هذه الصناعة ألا ترى أنه قال في عدة مواضع في نحو " حمراء " و " أصدقاء " و " عشراء " وبابها: إن الألفين للتأنيث وإنما صاحبة التأنيث منهما الأخيرة التي قلبت همزة لا الأولى وإنما الأولى زيادة لحقت قبل الثانية التي هي كألف " سكرى " و " عطشى " فلما التقت الألفان وتحركت الثانية قلبت همزة. ويدل على أن الثانية للتأنيث وأن الأولى ليست له أنك لو اعتزمت إزالة العلامة للتأنيث في هذا الضرب من الأسماء غيرت الثانية وحدها ولم تعرض للأولى. وذلك قولهم " حمراوان " و " عشراوات " و " صحراوي ". وهذا واضح. قال أبو علي رحمه الله: ليس بنت من ابن كصعبة من صعب إنما تأنيث ابن على لفظه ابنة. والأمر على ما ذكر. فإن قلت: فهل في بنت وأخت علم تأنيث أو لا قيل: بل فيهما علم تأنيث. فإن قيل: وما ذلك العلم قيل: الصيغة " فيهما علامة تأنيثهما " وذلك أن أصل هذين الاسمين عندنا فعل: بنو وأخو بدلالة تكسيرهم إياهما على أفعال في قولهم: أبناء وآخاء. قال بشر بن المهلب: فلما عدلاعن فَعل إلى فِعل وفُعل وأبدلت لاماهما تاء فصارتا بنتا وأختا كان هذا العمل وهذه الصيغة علماً لتأنيثهما ألا تراك إذا فارقت هذا الموضع من التأنيث رفضت هذه الصيغة البتة فقلت في الإضافة إليهما: بنوي وأخوي كما أنك إذا أضفت إلى ما فيه علامة تأنيث أزلتها البتة نحو حمراوي وطلحي وحبلوي. فأما قول يونس: بنتي وأختي فمردود عند سيبويه. وليس هذا الموضع موضوعاً للحكم بينهما وإن كان لقول يونس أصول تجتذبه وتسوغه. وكذلك إن قلت: إذا كان سيبويه لا يجمع بين ياءي الإضافة وبين صيغة بنت وأخت من حيث كانت الصيغة علماً لتأنيثهما فلم صرفهما علمين لمذكر وقد أثبت فيهما علامة تأنيث بفكها ونقضها مع ما لا يجامع علامة التأنيث: من ياءي الإضافة في بنوي وأخوي فإذا أثبت في الاسمين بها علامة للتأنيث فهلا منع الاسمين الصرف بها مع التعريف كما تمنع الصرف باجتماع التأنيث إلى التعريف في نحو طلحة وحمزة وبابهما فإن هذا أيضاً مما قد أجبنا عنه في موضع آخر. وكذلك القول في تاء ثنتان وتاء ذيت وكيت وكلتى: التاء في جميع ذلك بدل من حرف علة كتاء بنت وأخت وليست للتأنيث. إنما التاء في ذية وكية واثنتان وابنتان للتأنيث. فإن قلت: فمن أين لنا في علامات التأنيث ما يكون معنى لا لفظاً قيل: إذا قام الدليل لم يلزم النظير. وأيضاً فإن التاء في هذا وإن لم تكن للتأنيث فإنها بدل خص التأنيث والبدل وإن كان كالأصل لأنه بدل منه فإن له أيضاً شبهاً بالزائد من موضع آخر وهو كونه غير أصل كما أن الزائد غير أصل ألا ترى إلى ما حكاه عن أبي الخطاب من قول بعضهم في راية: راءة بالهمز كيف شبه ألف راية - وإن كانت بدلاً من العين - بالألف الزائدة فهمز اللام بعدها كما يهمزها بعد الزائدة في نحو سقاء وقضاء. وأما قول أبي عمر: إن التاء في كلتى زائدة وإن مثال الكلمة بها " فِعتل " فمردود عند أصحابنا لما قد ذكر في معناه من قولهم: إن التاء لا تزاد حشواً إلا في " افتعل " وما تصرف منه " و " لغير ذلك غير أني قد وجدت لهذا القول نحواً ونظيراً. وذلك فيما حكاه الأصمعي من قولهم للرجل القواد: الكلتبان وقال مع ذلك: هو من الكَلَب وهو القيادة. فقد ترى التاء على هذا زائدة حشواً ووزنه فعتلان. ففي هذا شيئان: أحدهما التسديد من قول أبي عمر والآخر إثبات مثال فائت للكتاب. وأمثل ما يصرف إليه ذلك أن يكون الكلب ثلاثياً والكلتبان رباعياً كزرم وازرأم وضفد واضفأد وكزغَّب الفرخ وازلَغب ونحو ذلك من الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين. وهذا غور عرض فقلنا فيه ولنعد. ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين على غير هذا الوجه. وهو أن يحكم في شيء بحكم ما ثم يحكم فيه نفسه بضده غير أنه لم يعلل أحد القولين. فينبغي حينئذ أن ينظر إلى الأليق بالمذهب والأجرى على قوانينه فيجعل هو المراد المعتزم منهما ويتأول الآخر إن أمكن. وذلك كقوله: حتى الناصبة للفعل وقد تكرر من قوله أنها حرف من حروف الجر وهذا ناف لكونها ناصبة له من حيث كانت عوامل الأسماء لا تباشر الأفعال فضلاً عن أن تعمل فيها. وقد استقر من قوله في غير مكان ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل وليست فيها حتى. فعلم بذلك وبنصه عليه في غير هذا الموضع أن " أن " مضمرة عنده بعد حتى كما تضمر مع اللام الجارة في نحو قوله سبحانه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ونحو ذلك. فالمذهب إذاً هو هذا. ووجه القول في الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لما انتصب بعد حتى ولم تظهر هناك " أن " وصارت حتى عوضاً منها ونائبة عنها نسب النصب إلى " حتى " وإن كان في الحقيقة ل " أن ". ومثله معنى لا إعراباً قول الله سبحانه: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فظاهر هذا تناف بين الحالتين لأنه أثبت في أحد القولين ما نفاه قبله: وهو قوله ما رميت إذ رميت. ووجه الجمع بينهما أنه لما كان الله أقدره على الرمي ومكنه منه وسدده له وأمره به فأطاعه في فعله نسب الرمي إلى الله وإن كان مكتسباً للنبي صلى الله عليه وسلم مشاهداً منه. ومثله معنىً قولهم: أذن ولم يؤذن وصلى ولم يصل ليس أن الثاني ناف للأول لكنه لما لم يعتقد الأول مجزئاً لم يثبته صلاة ولا أذاناً. وكلام العرب لمن عرفه وتدرب بطريقها فيه جار مجرى السحر لطفاً وإن جسا عنه أكثر من ترى وجفا. ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين غير أنه قد نص في أحدهما على الرجوع عن القول الآخر فيعلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفه وأن القول الآخر مطرح من رأيه. فإن تعارض القولان مرسلين غير مبان أحدهما من صاحبه بقاطع يحكم عليه به بحث عن تاريخهما فعلم أن الثاني هو ما اعتزمه وأن قوله به انصراف منه عن القول الأول إذ لم يوجد في أحدهما ما يماز به عن صاحبه. فإن استبهم الأمر فلم يعرف التاريخ وجب سبر المذهبين وإنعام الفحص عن حال القولين. فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه وجب إحسان الظن بذلك العالم وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله الثاني الذي به يقول وله يعتقد وأن الأضعف منهما هو الأول منهما الذي تركه إلى الثاني. فإن تساوى القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له فإن الدواعي إلى تساوي القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له فإن الدواعي إلى تساويهما فيهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلاً منهما. هذا بمقتضى العرف وعلى إحسان الظن فأما القطع البات فعند الله علمه. وعليه طريق الشافعي في قوله بالقولين فصاعداً. وقد كان أبو الحسن ركاباً لهذا الثبج آخذاً به غير محتشم منه وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه. " وكنت إذا ألزمت عند أبي علي - رحمه الله - قولاً لأبي الحسن شيئاً لا بد للنظر من إلزامه إياه يقول لي: مذاهب أبي الحسن كثيرة ". ومن الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبع به كلام سيبويه وسماه مسائل الغلط. فحدثني أبو علي عن أبي بكر أن أبا العباس كان يعتذر منه ويقول: هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة فأما الآن فلا. وحدثنا أبو علي قال: كان أبو يوسف إذا أفتى بشيء أو أمل شيئاً فقيل له: قد قلت في موضع كذا غير هذا يقول: هذا يعرفه من يعرفه أي إذا أنعم النظر في القولين وجدا مذهباً واحداً. وكان أبو علي - رحمه الله - يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل كصه ومه وأفتى مرة أخرى بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال. وقال مرة أخرى: إنها وإن كانت ظرفاً فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسماً سمي به الفعل كعندك ودونك. وكان إذا سمع شيئاً من كلام أبي الحسن يخالف قوله يقول: عكر الشيخ. وهذا ونحوه من خلاج الخاطر وتعادي المناظر هو الذي دعا اقواماً إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلة واحتملوا أثقال الصغار والذلة. وحدثني أبو علي: قال: قلت لأبي عبد الله البصري: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه اخرى. وهذا يدل على أنه من عند الله. فقال: نعم هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر ألا ترى أن حامداً البقال لا يخطر له. ومن طريف حديث هذا الخاطر أنني كنت منذ زمان طويل رأيت رأياً جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر: وكنت أمشي على رجلين معتدلا فصرت أمشي على أخرى من الشجر ولم أثبت حينئذ شرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ثم إني الآن - وقد مضى له سنون - أعان الخاطر وأستثمده وأفانيه وأتودده على أن يسمح لي بما كان أرانيه من الجمع بين معنى الآية والبيت وهو معتاص متأب وضنين به غير معط. وكنت وأنا أنسخ التذكرة لأبي علي إذا مر بي شيء قد كنت رأيت طرفاً منه أو ألممت به فيما قبل أقول له: قد كنت شارفت هذا الموضع وتلوح لي بعضه ولم أنته إلى آخره وأراك أنت قد جئت به واستوفيته وتمكنت فيه فيبتسم - رحمه الله - له ويتطلق إليه سروراً وقلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي - رحمه الله - وقد أفضنا في ذكر أبي علي ونبل قدره ونباوة محله: أحسب أن أبا علي قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول عليه. وإنما تبسطت في هذا الحديث ليكون باعثاً على إرهاف الفكر واستحضار الخاطر والتطاول إلى ما أوفى نهده وأوعر سمته وبالله سبحانه الثقة.
باب في الدور والوقوف منه على أول رتبة
هذا موضع كان أبو حنيفة - رحمه الله - يراه ويأخذ به. وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما مثله مما يقتضي التغيير فإن أنت غيرت صرت أيضاً إلى مراجعة مثل ما منه هربت. فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أول رتبة ولا تتكلف عناء ولا مشقة. وأنشدنا أبو علي - رحمه الله - غير دفعة بيتاً مبني معناه على هذا وهو: رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولا وذلك كأن تبني من قويت مثل رسالة فتقول على التذكير: قواءة وعلى التأنيث: قواوة ثم تكسرها على حد قول الشاعر: موالي حلف لا موالي قرابة ولكن قطينا يحلبون الأتاويا - جمع إتاوة - فيلزمك أن تقول حينئذ: قواوٍ فتجمع بين واوين مكتنفتي ألف التكسير ولا حاجز بين الأخيرة منهما وبين الطرف. ووجه ذلك أن الذي قال " الأتاويا " إنما أراد جمع إتاوة وكان قياسه أن يقول: أتاوى كقوله في علاوة وهراوة: علاوى وهراوى غير أن هذا الشاعر سلك طريقاً أخرى غير هذه. وذلك أنه لما كسر إتاوة حدث في مثال التكسير همزة بعد ألفه بدلاً من ألف فعالة كهمزة رسائل وكنائن فصار التقدير به إلى أتاء ثم تبدل من كسرة الهمزة فتحة لأنها عارضة في الجمع واللام معتلة كباب مطايا وعطايا فتصير حينئذ إلى أتاءى ثم تبدل من الياء ألفاً فتصير إلى أتاءا ثم تبدل من الهمزة واواً لظهورها لاماً في الواحد فتقول: أتاوى كعلاوى. وكذا تقول العرب في تكسير إتاوة: أتاوى. غير أن هذا الشاعر لو فعل ذلك لأفسد قافيته فاحتاج إلى قرار الكسرة بحالها لتصح بعدها الياء التي هي روي القافية كما معها من القوافي التي هي " الروابيا " و " الأدانيا " ونحو ذلك فلم يستجز أن يقر الهمزة العارضة في الجمع بحالها إذ كانت العادة في هذه الهمزة أن تعل وتغير إذا كانت اللام معتلة فرأى إبدال همزة أتاء واواً ليزول لفظ الهمزة التي من عادتها في هذا الموضع أن تعل ولا تصح لما ذكرنا فصار " الأتاويا ". وكذلك قياس فعالة من القوة إذا كسرت أن تصير بها الصنعة إلى قواء ثم تبدل من الهمزة الواو كما فعل من قال " الأتاويا " فيصير اللفظ إلى قواو. فإن أنت استوحشت من اكتناف الواوين لألف التكسير على هذا الحد وقلت: أهمز كما همزت في أوائل لزمك أن تقول: قواء ثم يلزمك ثانياً أن تبدل من هذه الهمزة الواو على ما مضى من حديث " الأتاويا " فتعاود أيضاً قواو ثم لا تزال بك قوانين الصنعة إلى أن تبدل من الهمزة الواو ثم من الواو الهمزة ثم كذلك ثم كذلك إلى ما لا غاية. فإن أدت الصنعة إلى هذا ونحوه وجبت الإقامة على أول رتبة منه وألا تتجاوز إلى أمر ترد بعد إليها ولا توجد سبيلاً ولا منصرفاً عنها. فإن قلت: إن بين المسألتين فرقاً. وذلك أن الذي قال " الأتاويا " إنما دخل تحت هذه الكلفة والتزم ما فيها من المشقة وهي ضرورة واحدة وأنت إذا قلت في تكسير مثال فعالة من القوة: قواو قد التزمت ضرورتين: إحداهما إبدالك الهمزة الحادثة في هذا المثال واواً على ضرورة " الأتاويا " والأخرى كنفك الألف بالواوين مجاوراً آخرهما الطرف فتانك ضرورتان وإنما هي في " الأتاويا " واحدة. وهذا فرق يقود إلى اعتذار وترك. قيل: هذا ساقط وذلك أن نفس السؤال قد كان ضمن ما يلغي هذا الاعتراض ألا ترى أنه كان: كيف يكسر مثال فعالة من القوة على قول من قال " الأتاويا " والذي قال ذلك كان قد أبدل من الهمزة العارضة في الجمع واواً فكذلك فأبدلها أنت أيضاً في مسألتك. فأما كون ما قبل الألف واواً أو غير ذلك من الحروف فلم يتضمن السؤال ذكراً له ولا عيجاً به فلا يغني إذاً ذكره ولا الاعتراض على ما مضى بحديثه أفلا ترى أن هذا الشاعر لو كان يسمح نفساً بأن يقر هذه الهمزة العارضة في أتاء مكسورة بحالها كما أقرها الآخر في قوله: وكان أبو علي ينشدنا: . . . فوق ست سمائيا لقال " الأتائيا " كقوله " سمائيا ". فقد علمت بذلك شدة نفوره عن إقرار الهمزة العارضة في هذا الجمع مكسورة. وإنما اشتد ذلك عليه ونبا عنه لأمر ليس موجوداً في واحد " سمائيا " الذي هو سماء. وذلك أن في إتاوة واواً ظاهرة فكما أبدل غيره منها الواو مفتوحة في قوله " الأتاوى " كالعلاوى والهراوى تنبيهاً على كون الواو ظاهرة في واحدة - أعني إتاوة - كوجودها في هراوة وعلاوة كذلك أبدل منها الواو في أتاو وإن كانت مكسورة شحاً على الدلالة على حال الواحد وليس كذلك قوله: . . . فوق سبع سمائيا ألا ترى أن لام واحدة ليست واواً في اللفظ فتراعى في تكسيره كما روعيت في تكسير هراوة وعلاوة. فهذا فرق - كم تراه - واضح. نعم وقد يلتزم الشاعر لإصلاح البيت ما تتجمع فيه أشياء مستكرهة لا شيئان اثنان: وذلك أكثر من أن يحاط به. فإذا كان كذلك لزم ما رمناه وصح به ما قدمناه. فهذا طريق ما يجيء عليه فقس ما يرد عليك به.
باب في الحمل على أحسن الأقبحين
اعلم أن هذا موضع من مواضع الضرورة المميلة. وذلك أن تحضرك الحال ضرورتين لا بد من ارتكاب إحداهما فينبغي حينئذ أن تتحمل الأمر على أقربهما وأقلهما فحشاً. وذلك كواو " ورنتل " أنت فيها بين ضرورتين: إحداهما أن تدعي كونها اصلاً في ذوات الأربعة غير مكررة والواو لا توج في ذوات الأربعة إلا مع التكرير نحو الوصوصة والوحوحة وضوضيت وقوقيت. والآخر أن تجعلها زائدة أولاً والواو لا تزاد أولاً. فإذا كان كذلك كان أن تجعلها أصلاً أولى من أن تجعلها زائدة وذلك أن الواو قد تكون أصلاً في ذوات الأربعة على وجه من الوجوه أعني في حال التضعيف. فأما أن تزاد أولاً فإن هذا أمر لم يوجد على حال. فإذا كان كذلك رفضته ولم تحمل الكلمة عليه. ومثل ذلك قولك: فيها قائماً رجل. لما كنت بين أن ترفع قائماً فتقدم الصفة على الموصوف - وهذا لا يكون - وبين أن تنصب الحال من النكرة - وهذا على قلته جائز - حملت المسئلة على الحال فنصبت. وكذلك ما قام إلا زيداً أحد عدلت إلى النصب لأنك إن رفعت لم تجد قبله ما تبدله منه وإن نصبت دخلت تحت تقديم المستثنى على ما استثني منه. وهذا وإن كان ليس في قوة تأخيره عنه فقد جاء على كل حال. فاعرف ذلك أصلاً في العربية تحمل عليه غيره.
باب في حمل الشيء على الشيء من غير الوجه الذي أعطى الأول ذلك الحكم
اعلم أن هذا باب طريقه الشبه اللفظي وذلك كقولنا في الإضافة إلى ما فيه التأنيث بالواو وذلك نحو حمراوي وصفراوي وعشراوي. وإنما قلبت الهمزة فيه ولم تقر بحالها لئلا تقع علامة التأنيث حشواً. فمضى هذا على هذا لا يختلف. ثم إنهم قالوا في الإضافة إلى عِلباء: علباوي وإلى حِرباء: حرباوي فأبدلوا هذه الهمزة وإن لم تكن للتأنيث لكنها لما شابهت همزة حمراء وبابها بالزيادة حملوا عليها همزة علباء. ونحن نعلم أن همزة حمراء لم تقلب في حمراوي لكونها زائدة فتشبه بها همزة علباء من حيث كانت زائدة مثلها لكن لما اتفقتا في الزيادة حملت همزة علباء على همزة حمراء. ثم إنهم تجاوزوا هذا إلى أن قالوا في كساء وقضاء: كساوي وقضاوي فأبدلوا الهمزة واواً حملاً لها على همزة علباء من حيث كانت همزة كساء وقضاء مبدلة من حرف ليس للتأنيث فهذه علة غير الأولى ألا تراك لم تبدل همزة علباء واواً في علباوي لأنها ليست للتأنيث فتحمل عليها همزة كساء وقضاء من حيث كانتا لغير التأنيث. ثم إنهم قالوا من بعد في قراء: قراوي فشبهوا همزة قراء بهمزة كساء من حيث كانتا أصلاً غير زائدة كما أن همزة كساء غير زائدة. وأنت لم تكن أبدلت همزة كساء في كساوي من حيث كانت غير زائدة لكن هذه أشباه لفظية يحمل أحدها على ما قبله تشبثاً به وتصوراً له. وإليه وإلى نحوه أومأ سيبويه بقوله: وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً. وعلى ذلك قالوا: صحراوات فأبدلوا الهمزة واواً لئلا يجمعوا بين علمي تأنيث ثم حملوا التثنية عليه من حيث كان هذا الجمع على طريق التثنية ثم قالوا: علباوان حملاً بالزيادة على حمراوان ثم قالوا: كساوان تشبيهاً له بعلباوان ثم قالوا: قُرّاوان حملاً له على كساوان على ما تقدم. وسبب هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها والتركح في أثنائها لما يلابسونه ويكثرون استعماله من الكلام المنثور والشعر الموزون والخطب والسجوع ولقوة إحساسهم في كل شيء شيئاً وتخيلهم ما لا يكاد يشعر به من لم يألف مذاهبهم. وعلى هذا ما منع الصرف من الأسماء للشبه اللفظي نحو أحمر وأصفر وأصرم وأحمد وتألب وتنضب علمين لما في ذلك من شبه لفظ الفعل فحذفوا التنوين من الاسم لمشابهته ما لا حصة له في التنوين وهو الفعل. والشبه اللفظي كثير. وهذا كاف.
باب في الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني
اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها. وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يؤنقك ويذهب في الاستحسان له كل مذهب بك. وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها. فأول ذلك عنايتها بألفاظها. فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها ورتبوها وبالغوا في تحبيرها وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظه كان جديراً باستعماله ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس به ولا أنقت لمستمعه وإذا كان كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيء به من أجله. وقال لنا أبو علي يوماً: قال لنا أبو بكر: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه. وكذلك الشعر: النفس له أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعياً جلفاً أو عبداً عسيفاً تنبو صورته وتمج جملته فيقول ما يقوله من الشعر فلأجل قبوله وما يورده عليه من طلاوته وعذوبة مستمعه ما يصير قوله حكماً يرجع إليه ويقتاس به ألا ترى إلى قول العبد الأسود: إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً أو أسود اللون إني أبيض الخلق وقول نصيب: سودت فلم أملك سوادي وتحته قميص من القوهي بيض بنائقه وقول الآخر: إني وإن كنت صغيراً سني وكان في العين نبوٌ عني فإن شيطاني أمير الجن يذهب بي في الشعر كل فن حتى يزيل عني التظني فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته وتقديسه وإنما المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى عليه وجواره بما يعطر بشره ولا يعر جوهره كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه ويغض منه كدرة لفظه وسوء العبارة عنه. فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشوه ودبجوه ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً بل لا نجد قصداً ولا مقارباً ألا ترى إلى قوله: ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه وصقاله وتلامح أنحائه ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه: إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها مشروفة المعاني خفيضتها. قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه ولا رأى ما أراه القوم منه وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر وخفاء غرض الناطق. وذلك أن في قوله " كل حاجة " ما يفيد منه أهل النسيب والرقة وذوو الأهواء والمقة ما لا يفيده غيرهم ولا يشاركهم فيه من ليس منهم ألا ترى أن من حوائج منى أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه والمعتاد فيه سواها لأن منها التلاقي ومنها التشاكي ومنها التخلي إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت: ومسح بالأركان من هو ماسح أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي أنضيناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القربة من الله مجراه أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح. وأما البيت الثاني فإن فيه: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وفي هذا ما أذكره لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب وتعنو له ميعة الماضي الصليب. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين والفكاهة بجمع شمل المتواصلين ألا ترى إلى قول الهذلي: وإن حديثاً منك لو تعلمينه جنى النخل في ألبان عوذ مطافل وحديثها كالغيث يسمعه راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو أن يكون حياً ويقول من فرح هيا ربا وقال الآخر: وحدثتني يا سعد عنها فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد وقال المولد: وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجن قتل المسلم المتحرز الأبيات الثلاثة. فإذا كان قدر الحديث - مرسلاً - عندهم هذا على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله " بأطراف الأحاديث ". وذلك أن قوله " أطراف الأحاديث " وحياً خفياً ورمزاً حلواً ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأدمث وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفاً ومصارحة وجهراً وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما وإن عذب موقعه وأنق له مستمعه. نعم وفي قوله: فكأن العرب إنما تحلى ألفاظها وتدبجها وتشيها وتزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من الشعر لحكماً وإن من البيان لسحراً ). فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد هذا في ألفاظ هؤلاء القوم التي جعلت مصايد وأشراكاً للقلوب وسبباً وسلماً إلى تحصيل المطلوب عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني والمخدوم - لا شك - أشرف من الخادم. والأخبار في التلطف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها أو يتجشم للحال نعت لها ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة فقال المسئول: إن علي يميناً ألا أفعل هذا. فقال له السائل: إن كنت - أيدك الله - لم تحلف يميناً قط على أمر فرأيت غيره خيراً منه فكفرت عنها له وأمضيته فما أحب أن أحنثك وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلني أدون الرجلين عندك. فقال له: سحرتني وقضى حاجته. وندع هذا ونحوه لوضوحه ولنأخذ لما كنا عليه فنقول: مما يدل عىل اهتمام العرب بمعانيها وتقدمها في أنفسها على ألفاظها أنهم قالوا في شمللت وصعررت وبيطرت وحوقلت ودهورت وسلقيت وجعبيت: إنها ملحقة بباب دحرجت. وذلك أنهم وجدوها على سمتها: عدد حروف وموافقة بالحركة والسكون فكانت هذه صناعة لفظية ليس فيها أكثر من إلحاقها ببنائها واتساع العرب بها في محاوراتها وطرق كلامها. والدليل على أن فعللت وفعيلت وفوعلت وفعليت ملحقة بباب دحرجت مجيء مصادرها على مثل مصادر باب دحرجت. وذلك قولهم: الشمللة والبيطرة والحوقلة والدهورة والسلقاة والجعباة. فهذا ونحوه كالدحرجة والهملجة والقوقاة والزوزاة. فلما جاءت مصادرها الرباعية والمصادر أصول للأفعال حكم بإلحاقها بها ولذلك استمرت في تصريفها استمرار ذوات الأربعة. فقولك: بيطر يبيطر بيطرة كدحرج يدحرج دحرجة ومبيطر كمدحرج. وكذلك شملل يشملل شمللة وهو مشملل. فظهور تضعيفه على هذا الوجه أوضح دليل على إرادة إلحاقه. ثم إنهم قالوا: قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة وأكرم يكرم إكراماً وقطع يقطع تقطيعاً فجاءوا بأفعل وفاعل وفعل غير ملحقة بدحرج وإن كانت على سمته وبوزنه كما كانت فعلل وفيعل وفوعل وفعول وفعلى على سمته ووزنه ملحقة. والدليل على أن فاعل وأفعل وفعل غير ملحقة بدحرج وبابه امتناع مصادرها أن تأتي على مثال الفعللة ألا تراهم لا يقولون: ضارب ضاربة ولا أكرم أكرمة ولا قطع قطعة فلما امتنع فيها هذا - وهو العبرة في صحة الإلحاق - علم أنها ليست ملحقة بباب دحرج. فإذا قيل: فقد تجيء مصادرها من غير هذا الوجه على مثال مصادر ذوات الأربعة ألا تراهم يقولون: قاتل قيتالاً وأكرم إكراماً {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} فهذا بوزن الدحراج والسرهاف والزلزال والقلقال قال: سرهفته ما شئت من سرهاف قيل: الاعتبار بالإلحاق بها ليس إلا من جهة الفعللة دون الفعلال وبه كان يعتبر سيبويه. ويدل على صحة ذلك أن مثال الفعللة لا زيادة فيه فهو بفعلل أشبه من مثال الفعلال والاعتبار بأصول أشبه منه وأوكد منه بالفروع. فإن قلت: ففي الفعللة الهاء زائدة قيل: الهاء في غالب أمرها وأكثر أحوالها غير معتدة من حيث كانت في تقدير المنفصلة. فإن قيل: فقد صح إذاً أن فاعل وأفعل وفعّل - وإن كانت بوزن دحرج - غير ملحقة به فلم لم تلحق به قيل: العلة في ذلك أن كل واحد من هذه المثل جاء بمعنى. فأفعل للنقل وجعل الفاعل مفعولاً نحو دخل وأدخلته وخرج وأخرجته. ويكون أيضاً للبلوغ نحو أحصد الزرع وأركب المهر وأقطف الزرع ولغير ذلك من المعاني. وأما فاعل فلكونه من اثنين فصاعداً نحو ضارب زيد عمراً وشاتم جعفر بشراً. وأما فعّل فللتكثير نحو غلّق الأبواب وقطّع الحبال وكسّر الجرار. فلما كانت هذه الزوائد في هذه المثل إنما جيء بها للمعاني خشوا إن هم جعلوها ملحقة بذوات الأربعة أن يقدر أن غرضهم فيها إنما هو إلحاق اللفظ باللفظ نحو شملل وجهور وبيطر فتنكبوا إلحاقها بها صوناً للمعنى وذباً عنه أن يستهلك ويسقط حكمه فأخلوا بالإلحاق لما كان صناعة لفظية ووقروا المعنى ورجبوه لشرفه عندهم وتقدمه في أنفسهم. فرأوا الإخلال باللفظ في جنب الإخلال بالمعنى يسيراً سهلاً وحجماً محتقراً. وهذا الشمس إنارة مع أدنى تأمل. ومن ذلك أيضاً أنهم لا يلحقون الكلمة من أولها إلا أن يكون مع الحرف الأول غيره ألا ترى أن " مَفعلاً " لما كانت زيادته في أوله لم يكن ملحقاً بها نحو: مَضرب ومَقتل. وكذلك " مِفعل " نحو: مِقطع ومِنسج وإن كان مَفعل بوزن جعفر ومِفعل بوزن هِجرع. يدل على أنهما ليسا ملحقين بهما ما نشاهده من ادغامهما نحو مسد ومرد ومتل ومشل. ولو كانا ملحقين لكانا حري أن يخرجا على أصولهما كما خرج شملل وصعرر على أصله. فأما محبب فعلم خرج شاذاً كتهلل ومكوزة ونحو ذلك مما احتمل لعلميته. وسبب امتناع مَفعل ومِفعل أن يكونا ملحقين - وإن كانا على وزن جعفر وهِجرع - أن الحرف الزائد في أولهما وهو لمعنى وذلك أن مَفعلاً يأتي للمصادر نحو ذهب مذهباً ودخل مدخلاً وخرج مخرجاً. ومِفعلاً يأتي للآلات والمستعملات نحو مِطرق ومِروح ومِخصف ومئزر. فلما كانت الميمان ذواتى معنى خشوا إن هم ألحقوا بهما أن يتوهم أن الغرض فيهما إنما هو الإلحاق حسب فيستهلك المعنى المقصود بهما فتحاموا الإلحاق بهما ليكون ذلك موفراً على المعنى لهما. ويدلك على تمكن المعنى في أنفسهم وتقدمه للفظ عندهم تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة وذلك لقوة العناية به فقدموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكنه عندهم. وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل إذ كن دلائل على الفاعلين: من هم وما هم وكم عدتهم نحو أفعل ونفعل وتفعل ويفعل وحكموا بضد " هذا لِلّفظ " ألا ترى إلى ما قاله أبو عثمان في الإلحاق: إن أقيَسه أن يكون بتكرير اللام فقال: باب شمللت وصعررت أقيس من باب حوقلت وبيطرت وجهورت. أفلا ترى إلى حروف المعاني: كيف بابها التقدم وإلى حروف الإلحاق والصناعة: كيف بابها التأخر. فلو لم يعرف سبق المعنى عندهم وعلوه في تصورهم إلا بتقديم دليله وتأخر دليل نقيضه لكان مغنياً من غيره كافياً. وعلى هذا حشوا بحروف المعاني فحصنوها بكونها حشواً وأمنوا عليها ما لا يؤمن على الأطراف المعرضة للحذف والإجحاف. وذلك كألف التكسير وياء التصغير نحو دارهم ودريهم وقماطر وقميطر. فجرت في ذلك - لكونها حشواً - مجرى عين الفعل المحصنة في غالب الأمر المرفوعة عن حال الطرفين من الحذف ألا ترى إلى كثرة باب عدة وزنة وناس والله في أظهر قولي سيبويه وما حكاه أبو زيد من قولهم لاب لك وويلِمّهِ ويا با المغيرة وكثرة باب يد ودم وأخ وأب وغَد وهَن وحِر واست وباب ثُبة وقُلة وعِزَة وقلة باب مُذ وسَه: إنما هما هذان الحرفان بلا خلاف. وأما ثُبة ولِثة فعلى الخلاف. فهذا يدلك على ضنهم بحروف المعاني وشحهم عليها: حتى قدموها عناية بها أو وسطوها تحصيناً لها. فإن قلت: فقد نجد حرف المعنى آخراً كما نجده أولاً ووسطاً. وذلك تاء التأنيث وألف التثنية وواو الجمع على حده والألف والتاء في المؤنث وألفا التأنيث في حمراء وبابها وسكرى وبابها وياء الإضافة كهني فما ذلك قيل: ليس شيء مما تأخرت فيه علامة معناه إلا لعاذر مقنع. وذلك أن تاء التأنيث إنما جاءت في طلحة وبابها آخراً من قبل أنهم أرادوا أن يعرفونا تأنيث ما هو وما مذكره فجاءوا بصورة المذكر كاملة مصححة ثم ألحقوها تاء التأنيث ليعلموا حال صورة التذكير وأنه قد استحال بما لحقه إلى التأنيث فجمعوا بين الأمرين ودلوا على الغرضين. ولو جاءوا بعلم التأنيث حشواً لانكسر المثال ولم يعلم تأنيث أي شيء هو. فإن قلت: فإن ألف التكسير وياء التحقير قد تكسران مثال الواحد والمكبر وتخترمان صورتيهما لأنهما حشو لا آخر. وذلك قولك دفاتر ودفيتر وكذلك كليب وحجير ونحو ذلك قيل: أما التحقير فإنه أحفظ للصورة من التكسير ألا تراك تقول في تحقير حبلى: حبيلى وفي صحراء: صحيراء فتقر ألف التأنيث بحالها فإذا كسرت قلت: حبالى وصحارى وأصل حبالى حبال كدعاو وتكسير دعوى فتغير علم التأنيث. وإنما كان الأمر كذلك من حيث كان تحقير الاسم لا يخرجه عن رتبته الأولى - أعني الإفراد - فأقر بعض لفظه لذلك وأما التكسير فيبعده عن الواحد الذي هو الأصل فيحتمل التغيير لا سيما مع اختلاف معاني الجمع فوجب اختلاف اللفظ. وأما ألف التأنيث المقصورة والممدودة فمحمولتان على تاء التأنيث وكذلك علم التثنية والجمع على حده لاحق بالهاء أيضاً. وكذلك ياء النسب. وإذا كان الزائد غير ذي المعنى قد قوي سببه حتى لحق بالأصول عندهم فما ظنك بالزائد ذي المعنى وذلك قولهم في اشتقاق الفعل من قلنسوة تارة: تقلنس وأخرى: تقلسى فأقروا النون وإن كانت زائدة وأقروا أيضاً الواو حتى قلبوها ياء في تقلسيت. وكذلك قالوا: قَرنُوة فلما اشتقوا الفعل منها قالوا قرنيت السقاء فأثبتوا الواو كما أثبتوا بقية حروف الأصل: من القاف والراء والنون ثم قلبوها ياء في قرنيت. هذا مع أن الواو في قرنوة زائدة للتكثير والصيغة لا للإلحاق ولا للمعنى وكذلك الواو في قلنسوة للزيادة غير الإلحاق وغير المعنى. وقالوا في نحوه: تعفرت الرجل إذا صار عفريتاً فهذا تفعلت وعليه جاء تمسكن وتمدرع وتمنطق وتمندل ومخرق وكان يسمى محمداً ثم تمسلم أي صار يسمى مسلماً و " مرحبك الله ومسهلك " فتحملوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل في حال الاشتقاق كل ذلك توفية للمعنى وحراسة له ودلالة عليه. ألا تراهم إذ قالوا: تدرع وتسكن وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا فقد عرضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم: أمن الدرع والسكون أم من المدرعة والمسكنة وكذلك بقية الباب. ففي هذا شيئان: أحدهما حرمة الزائد في الكلمة عندهم حتى أقروه إقرار الأصول. والآخر ما يوجبه ويقضى به: من ضعف تحقير الترخيم وتكسيره عندهم لما يقضى به ويفضي بك إليه: من حذف الزوائد على معرفتك بحرمتها عندهم. فإن قلت: فإذا كان الزائد إذا وقع أولاً للإلحاق فكيف ألحقوا بالهمزة في ألَندد وألَنجج والياء في يلَندد ويلَنجج والدليل على الإلحاق ظهور التضعيف قيل: قد قلنا قبل: إنهم لا يلحقون الزائد من أول الكلمة إلا أن يكون معه زائد آخر فلذلك جاز الإلحاق بالهمزة والياء في ألندد ويلندد لما انضم إلى الهمزة والياء والنون. وكذلك ما جاء عنهم من إنقحل - في قول صاحب الكتاب - ينبغي أن تكون الهمزة في أوله للإلحاق - بما اقترن بها من النون - بباب جِردَحل. ومثله ما رويناه عنهم من قولهم: رجل إنزَهوٌ وامرأة إنزَهوة ورجال إنزهوون ونساء إنزهوات إذا كان ذا زهو فهذا إذاً إنفعل. ولم يحك سيبويه من هذا الوزن إلا إنقحلا وحده وأنشد الأصمعي - رحمه الله -: لما رأتني خَلَقاً إنقَحلا ويجوز عندي في إنزهوٍ غير هذا وهو أن تكون همزته بدلاً من عين فيكون أصله عِنزَهو: فِنعلو من العزهاة وهو الذي لا يقرب النساء. والتقاؤهما أن فيه انقباضاً وإعراضاً وذلك طرف من أطراف الزهو قال: إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا وإذا حملته على هذا لحق بباب أوسع من إنقحل وهو باب قِندأو وسِندأو وحِنطأو وكِنتأو. فإن قيل: ولم لما كان مع الحرف الزائد إذا وقع أولاً زائد ثان غيره صارا جميعاً للإلحاق وإذا انفرد الأول لم يكن له قيل: لما كنا عليه من غلبة المعاني للألفاظ على ما تقدم. وذلك أن أصل الزيادة في أول الكلمة إنما هو للفعل. وتلك حروف المضارعة في أفعلُ ونفعلُ وتفعلُ ويفعلُ وكل واحد من أدلة المضارعة إنما هو حرف واحد فلما انضم إليه حرف آخر فارق بذلك طريقه في باب الدلالة على المعنى فلم ينكر أن يصار به حينئذ إلى صنعة اللفظ وهي الإلحاق. ويدلك على تمكن الزيادة إذا وقعت أولاً في الدلالة على المعنى تركهم صرف أحمد وأرمل وأزمل وتنضب ونرجس معرفة لأن هذه الزوائد في أوائل الأسماء وقعت موقع ما هو أقعد منها في ذلك الموضع وهي حروف المضارعة. فضارع أحمد أركب وتنضب تقتل ونرجس نضرب فحمل زوائد الأسماء في هذا على أحكام زوائد الأفعال دلالة على أن الزيادة في أوئل الكلم إنما بابها الفعل. فإن قلت: فقد نجدها للمعنى ومعها زائد آخر غيرها وذلك نحو ينطلق وأنطلق وأحرنجم ويخرنطم ويقعنسس. قيل: المزيد للمضارعة هو حرفها وحده فأما النون فمصوغة في حشو الكلمة في الماضي نحو احرنجم ولم تجتمع مع حرف المضارعة في وقت واحد كما التقت الهمزة والياء مع النون في ألنجج ويلندد في وقت واحد. فإن قلت: فقد تقول: رجل ألد ثم تلحق النون فيما بعد فتقول: ألندد فقد رأيت الهمزة والنون غير مصطحبتين. قيل: هاتان حالان متعاديتان وذلك أن ألد ليس من صيغة ألندد في وأما ألندد فهمزته مرتجلة مع النون في حال واحدة ولا يمكنك أن تدعي أن احرنجم لما صرت إلى مضارعه فككت يده عما كان فيها من الزوائد ثم ارتجلت له زوائد غيرها ألا ترى أن المضارع مبناه على أن ينتظم جميع حروف الماضي من أصل أو زائد كبيطر ويبيطر وحوقل ويحوقل وجهور ويجهور وسلقى ويسلقي وقطع ويقطع وتكسر ويتكسر وضارب ويضارب. فأما أكرم يكرم فلولا ما كره من التقاء الهمزتين في أؤكرم لو جيء به على أصله للزم أن يؤتى بزيادته فيه كما جيء بالزيادة في نحو يتدحرج وينطلق. وأما همزة انطلق فإنما حذفت في ينطلق للاستغناء عنها بل قد كانت في حال ثباتها في حكم الساقط أصلاً فهذا واضح. ولأجل ما قلناه: من أن الحرف المفرد في أول الكلمة لا يكون للإلحاق ما حمل أصحابنا تهلل على أن ظهور تضعيفه إنما جاز لأنه عَلَم والأعلام تغير كثيراً. ومثله عندهم محبب لما ذكرناه. وسألت يوماً أبا علي - رحمه الله - عن تجفاف: أتاؤه للإلحاق بباب قرطاس فقال: نعم واحتج في ذلك بما انضاف إليها من زيادة الألف معها. فعلى هذا يجوز أن يكون ما جاء عنهم من باب أُملود وأُظفور ملحقاً بباب عُسلوج ودُملوج وأن يكون إطريح وإسليح ملحقاً بباب شِنظيز وخنزير. ويبعد هذا عندي لأنه يلزم منه أن يكون باب إعصار وإسنام ملحقاً بباب حِدبار وهِلقام وباب إفعال لا يكون ملحقاً ألا ترى أنه في الأصل للمصدر نحو إكرام وإحسان وإجمال وإنعام وهذا مصدر فعل غير ملحق فيجب أن يكون المصدر في ذلك على سمت فعله غير مخالف له. وكأن هذا ونحوه إنما لا يجوز أن يكون ملحقاً من قبل أن ما زيد على الزيادة الأولى في أوله إنما هو حرف لين وحرف اللين لا يكون للإلحاق إنما جيء به لمعنى وهو امتداد الصوت به وهذا حديث غير حديث الإلحاق ألا ترى انك إنما تقابل بالملحق الأصل وباب المد إنما هو الزيادة أبداً فالأمران على ما ترى في البعد غايتان. فإن قلت على هذا: فما تقول في باب إزمَول وإدرَون أملحق هو أم غير ملحق وفيه - كما ترى - مع الهمزة الزائدة الواو زائدة قيل: لا بل هو ملحق بباب جردحل وحنزقر. وذلك أن الواو التي فيه ليست مداً لأنها مفتوح ما قبلها فشابهت الأصول بذلك فألحقت بها. فإن قلت: فقد قال في طومار: إنه ملحق بقسطاس والواو كما ترى بعد الضمة أفلا تراه كيف ألحق بها مضموماً ما قبلها. قيل: الأمر كذلك وذلك أن موضع المد إنما هو قبيل الطرف مجاوراً له كألف عماد وياء سعيد وواو عمود. فأما واو طومار وياء ديماس فيمن قال دياميس فليستا للمد لأنهما لم تجاورا الطرف. وعلى ذلك قال في طومار: إنه ملحق لما فلو بنيت على هذا من " سألت " مثل طومار وديماس لقلت: سوءال وسيئال. فإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الحرفين قبلها ولم تحتشم ذلك فقلت: سوال وسيال ولم تجرهما مجرى واو مقروءة وياء خطيئة في إبدالك الهمزة بعدهما إلى لفظهما وادغامك إياهما فيها في نحو مقروة وخطية. فلذلك لم يقل في تخفيف سوءال وسيئال: سُوّال ولا سِيّال. فاعرفه. فإن قيل: ولم لم يتمكن حال المد إلا أن يجاور الطرف قيل: إنما جيء بالمد في هذه المواضع لنعمته وللين الصوت به. وذلك أن آخر الكلمة موضع الوقف ومكان الاستراحة والأون فقدموا أمام الحرف الموقوف عليه ما يؤذن بسكونه وما يخفض من غلواء الناطق واستمراره على سنن جريه وتتابع نطقه. ولذلك كثرت حروف المد قبل حرف الرويّ - كالتأسيس والردف - ليكون ذلك مؤذناً بالوقوف ومؤدياً إلى الراحة والسكون. وكلما جاور حرف المد الروي كان آنس به وأشد إنعاماً لمستمعه. نعم وقد نجد حرف اللين في القافية عوضاً عن حرف متحرك أوزنة حرف متحرك حذف من آخر البيت في أتم أبيات ذلك البحر كثالث الطويل وثاني البسيط والكامل. فلذلك كان موضع حرف اللين إنما هو لما جاور الطرف. فأما ألف فاعل وفاعال وفاعول ونحو ذلك فإنها وإن كانت راسخة في اللين وعريقة في المد فليس ذلك لاعتزامهم المد بها بل المد فيها - أين وقعت - شيء يرجع إليها في ذوقها وحسن النطق بها ألا تراها دخولها في " فاعل " لتجعل الفعل من اثنين فصاعداً نحو ضارب وشاتم فهذا معنى غير معنى المد وحديث غير حديثه. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح تصريف أبي عثمان وغيره من كتبي وما خرج من كلامي. فإن قلت: فإذا كان الأمر كذا فهلا زيدت المدات في أواخر الكلم للمد فإن ذلك أنأى لهن وأشد تمادياً بهن قيل: يفسد ذاك من حيث كان مؤدياً إلى نقض الغرض وذلك أنهن لو تطرفن لتسلط الحذف عليهن فكان يكون ما أرادوه من زيادة الصوت بهن داعياً إلى استهلاكه بحذفهن ألا ترى أن ما جاء في آخره الياء والواو قد حفظن عليه وارتبطن له بما زيد عليهن من التاء من بعدهن وذلك كعفرية وحدرية وعفارية وقراسية وعلانية ورفاهية وبُلهنية وسُحفنية وكذلك عرقوة وترقوة وقلنسوة وقمحدوة. فأما رباع وثمان وشناح فإنما احتمل ذلك فيه للفرق بين المذكر والمؤنث في رباعية وثمانية وشناحية. وأيضاً فلو زادوا الواو طرفاً لوجب قلبها ياء ألا تراها لما حذفت التاء عنها في الجمع قلبوها ياء قال: أهل الرياط البيض والقلنسي وقال المجنون: وبيض القلنسي من رجال أطاول حتى تقُضّي عرقي الدُلي وأيضاً فلو زيدت هذه الحروف طرفاً للمد بها لانتقض الغرض من موضع آخر. وذلك أن الوقف على حرف اللين ينقصه ويستهلك بعض مده ولذلك احتاجوا لهن إلى الهاء في الوقف ليبين بها حرف المد. وذلك قولك: وازيداه وواغلامهموا وواغلام غلامهيه. وهذا شيء اعترض فقلنا فيه ولنعد. فإن قيل زيادة على مضى: إذا كان موضع زيادة الفعل أوله بما قدمته وبدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه نحو استفعل وباب زيادة الاسم آخراً بدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه نحو عِنظيان وخِنذيان وخُنزوان وعُنفوان فما بالهم جعلوا الميم - وهي من زوائد الأسماء - مخصوصاً بها أول المثال نحو مفعل ومفعول ومِفعال ومُفعِل وذلك الباب على طوله. قيل: لما جاءت لمعنى ضارعت بذلك حروف المضارعة فقدمت وجعل ذلك عوضاً من غلبة زيادة الفعل على أول الجزء كما جعل قلب الياء واواً في التقوى والبقوى عوضاً من كثرة دخول الواو على الياء. وعلى الجملة فالاسم أحمل للزيادة في آخره من الفعل وذلك لقوة الاسم وخفته فاحتمل سحب الزيادة من آخره. والفعل - لضعفه وثقله - لا يتحامل بما يتحامل به الاسم من ذلك لقوته. ويدلك على ثقل الزيادة في آخر الكلمة أنك لا تجد في ذوات الخمسة ما زيد فيه من آخره إلا الألف لخفتها وذلك قبعثرى وضبغطرى وإنما ذلك لطول ذوات الخمسة فلا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت لطولها. فلم يجمعوا على آخرها تماديه وتحميله الزيادة عليه. فإنما زيادتها في حشوها نحو عضرفوط وقرطبوس ويستعور وصهصليق وجعفليق وعندليب وحنبريت. وذلك أنهم لما أرادوا ألا يخلوا ذوات الخمسة من الزيادة كما لم يخلوا منها الأصلين اللذين قبلها حشوا بالزيادة تقديماً لها كراهية أن ينتهي إلى آخر الكلمة على طولها ثم يتجشموا حينئذ زيادة هناك فيثقل أمرها ويتشنع عليهم تحملها. فقد رأيت - بما أوردناه - غلبة المعنى للفظ وكون اللفظ خادماً له مشيداً به وأنه إنما جيء به له ومن أجله. وأما غير هذه الطريق: من الحمل على المعنى وترك اللفظ - كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه وحذف الحروف والأجزاء التوام والجمل وغير ذلك حملاً عليه وتصوراً له وغير ذلك مما يطول ذكره ويمل أيسره - فأمر مستقر ومذهب غير مستنكر. باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة وللنفس به مسكة وعصمة لأن فيه تصحيح ما ندعيه على العرب: من أنها أرادت كذا لكذا وفعلت كذا لكذا. وهو أحزم لها وأجمل بها وأدل على الحكمة المنسوبة إليها من أن تكون تكلفت ما تكلفته: من استمرارها على وتيرة واحدة وتقريها منهجاً واحداً تراعيه وتلاحظه وتتحمل لذلك مشاقه وكلفه وتعتذر من تقصير إن جرى وقتاً منها في شيء منه. وليس يجوز أن يكون ذلك كله في كل لغة لهم وعند كل قوم منهم حتى لا يختلف ولا ينتقض ولا يتهاجر على كثرتهم وسعة بلادهم وطول عهد زمان هذه اللغة لهم وتصرفها على ألسنتهم اتفاقاً وقع حتى لم يختلف فيه اثنان ولا تنازعه فريقان إلا وهم له مريدون وبسياقه على أوضاعهم فيه معنيون ألا ترى إلى اطراد رفع الفاعل ونصب المفعول والجر بحروف الجر والنصب بحروفه والجزم بحروفه وغير ذلك من حديث التثنية والجمع والإضافة والنسب والتحقير وما يطول شرحه فهل يحسن بذي لب أن يعتقد أن هذا كله اتفاق وقع وتوارد اتجه!. فإن قلت " فما تنكر " أن يكون ذلك شيئاً طبعوا عليه وأجيئوا إليه من غير اعتقاد منهم لعلله ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه بل لأن آخراً منهم حذا على ما نهج الأول فقال به وقام الأول للثاني في كونه إماماً له فيه مقام من هدى الأول إليه وبعثه عليه ملكاً كان أو خاطراً قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبراً روسلوا به أو تيقظاً نبهوا على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحياً أو ما يجري مجراه فهو أنبه له وأذهب في شرف الحال به لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك ووقفهم عليه لأن في طباعهم قبولاً له وانطواء على صحة الوضع فيه لأنهم مع ما قدمناه من ذكر كونهم عليه في أول الكتاب من لطف الحس وصفائه ونصاعة جوهر الفكر ونقائه لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة المنقادة الكريمة إلا ونفوسهم قابلة لها محسة لقوة الصنعة فيها معترفة بقدر النعمة عليهم بما وهب لهم منها ألا ترى إلى قول أبي مهدية: يقولون لي: شنبِذ ولست مشنبِذا طوال الليالي ما أقام ثبير ولا تاركاً لحني لأحسن لحنهم ولو دار صرف الدهر حيث يدور وحدثني المتنبي شاعرنا - وما عرفته إلا صادقاً - قال: كنت عند منصرفي من مصر في جماعة من العرب وأحدهم يتحدث. فذكر في كلامه فلاة واسعة فقال: يحير فيها الطرف قال: وآخر منهم يلقنه سراً من الجماعة بينه وبينه فيقول له: يحار يحار. أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض وتنبيهه إياه على الصواب. وقال عمار الكلبي - وقد عيب عليه بيت من شعره فامتعض لذلك -: ماذا لقينا من المستعربين ومن قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا إن قلت قافية بكراً يكون بها بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا قالوا لحنت وهذا ليس منتصباً وذاك خفض وهذا ليس يرتفع وحرضوا بين عبد الله من حمق وبين زيد فطال الضرب والوجع كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم وبين قوم على إعرابهم طبعوا ما كل قولي مشروحاً لكم فخذوا ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا لأن أرضي أرض لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى بها البيع والخبر المشهور في هذا للنابغة وقد عيب عليه قوله في الدالية المجرورة: فلما لم يفهمه أتى بمغنية فغنته: من آل مية رائح أو مغتد عجلان ذا زاد وغير مزود ومدت الوصل وأشبعته ثم قالت: وبذاك خبرنا الغراب الأسود ومطلت واو الوصل فلما أحسه عرفه واعتذر منه وغيره - فيما يقال - إلى قوله: وبذاك تنعاب الغراب الأسود وقال دخلت يثرب وفي شعري صنعة ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب. كذا الرواية. وأما أبو الحسن فكان يرى ويعتقد أن العرب لا تستنكر الإقواء. ويقول: قلت قصيدة إلا وفيها الإقواء. ويعتل لذلك بأن يقول: إن كل بيت منها شعر قائم برأسه. وهذا الاعتلال منه يضعف ويقبح التضمين في الشعر. وأنشدنا أبو عبد الله الشجري يوماً لنفسه شعراً مرفوعاً وهو قوله: نظرت بسنجار كنظرة ذي هوى رأى وطناً فانهل بالماء غالبه لأونس من أبناء سعد ظعائنا يزن الذي من نحوهن مناسبه يقول فيها يصف البعير: فقلت: يا أبا عبد الله: أتقول " دوينة حاجبه " مع قولك " مناسبه " و " أشانبه "! فلم يفهم ما أردت فقال: فكيف أصنع أليس ههنا تضع الجرير على القِرمة على الجِرفة وأمأ إلى أنفه فقلت: صدقت غير أنك قلت " أشانبه " و " غالبه " فلم يفهم وأعاد اعتذاره الأول. فلما طال هذا قلت له: أيحسن أن يقول الشاعر: آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ يُمَل منه الثواء ومطلت الصوت ومكنته ثم يقول مع ذلك: ملك المنذر بن ماء السمائي فأحس حينئذ وقال: أهذا! أين هذا من ذاك! إن هذا طويل وذاك قصير. فاستروح إلى قصر الحركة في " حاجبه " وأنها أقل من الحرف في " أسماء " و " السماء ". وسألته يوماً فقلت له: كيف تجمع " دكاناً " فقال: دكاكين قلت: فسرحاناً قال: سراحين قلت: فقرطاناً قال: قراطين قلت: فعثمان قال: عثمانون. فقلت له: هلا قلت أيضاً عثامين قال: أيش عثامين! أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته والله لا أقولها أبداً. والمروي عنهم في شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو فإن قلت: فإن العجم أيضاً بلغتهم مشغوفون ولها مؤثرون ولأن يدخلها شيء من العربي كارهون ألا ترى أنهم إذا أورد الشاعر منهم شعراً فيه ألفاظ من العربي عيب به وطعن لأجل ذلك عليه. فقد تساوت حال اللغتين في ذلك. فأية فضيلة للعربية على العجمية قيل: لو أحست العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللغة وما فيها من الغموض والرقة والدقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها فضلاً عن التقديم لها والتنويه منها. فإن قيل: لا بل لو عرفت العرب مذاهب العجم في حسن لغتها وسداد تصرفها وعذوبة طرائقها لم تبء بلغتها ولا رفعت من رءوسها باستحسانها وتقديمها. قيل: قد اعتبرنا ما تقوله فوجدنا الأمر فيه بضده. وذلك أنا نسأل علماء العربية مما أصله عجمي وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين فلا يجمع بينهما بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك لبعده في نفسه وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه. سألت غير مرة أبا علي - رضي الله عنه - عن ذلك فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته. فإن قلت: ما تنكر أن يكون ذلك لأنه كان عالماً بالعربية ولم يكن عالماً باللغة العجمية ولعله لو كان عالماً بها لأجاب بغير ما أجاب به. قيل: نحن قد قطعنا بيقين وأنت إنما عارضت بشك ولعل هذا ليس قطعاً كقطعنا ولا يقيناً كيقيننا. وأيضاً فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم في العربية تؤيد معرفتهم بالعجمية وتؤنسهم بها وتزيد في تنبيههم على أحوالها لاشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها. ولم نر أحداً من أشياخنا فيها - كأبي حاتم وبندار وأبي علي وفلان وفلان - يسوون بينهما ولا يقربون بين حاليهما. وكأن هذا موضع ليس للخلاف فيه مجال لوضوحه عند الكافة. وإنما أوردنا منه هذا القدر احتياطاً به واستظهاراً على مورد له عسى أن يورده. فإن قلت: زعمت أن العرب تجتمع على لغتها فلا تختلف فيها وقد نراها ظاهرة الخلاف ألا ترى إلى الخلاف في " ما " الحجازية والتميمية وإلى الحكاية في الاستفهام عن الأعلام في الحجازية وترك ذلك في التميمية إلى غير ذلك قيل: هذا القدر من الخلاف لقلته ونزارته محتقر غير محتفل به ولا معيج عليه وإنما هو في شيء من الفروع يسير. فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلاف فيه ولا مذهب للطاعن به. وأيضاً فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير وخلق " من الله " عظيم وكل واحد منهم محافظ على لغته لا يخالف شيئاً منها ولا يوجد عنده تعاد فيها. فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرطون ولا يخلطون. ومع هذا فليس شيء مما يختلفون فيه - على قلته وخفته - إلا له من القياس وجه يؤخذ به. ولو كانت هذه اللغة حشواً مكيلاً وحثواً مهيلاً لكثر خلافها وتعادت أوصافها: فجاء عنهم جر الفاعل ورفع المضاف إليه والمفعول به والجزم بحروف النصب والنصب بحروف الجزم بل جاء عنهم الكلام سدى غير محصل وغفلاً من الإعراب ولاستغنى بإرساله وإهماله عن إقامة إعرابه والكلف الظاهرة بالمحاماة على طرد أحكامه. هذا كله وما أكني عنه من مثله - تحامياً للإطالة به - إن كانت هذه اللغة شيئاً خوطبوا به وأخذوا باستعماله. وإن كانت شيئاً اصطلحوا عليه وترافدوا بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله وترتيبه وقسمة أنحائه وتقديمهم أصوله وإتباعهم إياها فروعه - وكذا ينبغي أن يعتقد ذلك منهم لما نذكره آنفاً - فهو مفخر لهم ومعلم من معالم السداد دل على فضيلتهم. والذي يدل على أنهم قد أحسوا ما أحسسنا وأرادوا وقصدوا ما نسبنا إليهم إرادته وقصده شيئان: أحدهما حاضر معنا والآخر غائب عنا إلا أنه مع أدنى تأمل في حكم الحاضر معنا. فالغائب ما كانت الجماعة من علمائنا تشاهده من احوال العرب ووجوهها وتضطر إلى معرفته من أغراضها وقصودها: من استخفافها شيئاً أو استثقاله وتقبله أو إنكاره والأنس به أو الاستيحاش منه والرضا به أو التعجب من قائله وغير ذلك من الأحوال الشاهدة بالقصود بل الحالفة على ما في النفوس ألا ترى إلى قوله: تقول - وصكت وجهها بيمينها - أبعلي هذا بالرحى المتقاعس! فلو قال حاكياً عنها: أبعلي هذا بالرحى المتقاعس - من غير أن يذكر صك الوجه - لأعلمنا بذلك أنها كانت متعجبة منكرة لكنه لما حكى الحال فقال: " وصكت وجهها " علم بذلك قوة إنكارها وتعاظم الصورة لها. هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها ولو شاهدتها لكنت بها أعرف ولعظم الحال في نفس تلك المرأة أبين وقد قيل " ليس المخبر كالمعاين " ولو لم ينقل إلينا هذا الشاعر حال هذه المرأة بقوله: وصكت وجهها لم نعرف به حقيقة تعاظم الأمر لها. وليست كل حكاية تروى لنا ولا كل خبر ينقل إلينا يشفع به شرح الأحوال التابعة له المقترنة - كانت - به. نعم ولو نقلت إلينا لم نفد بسماعها ما كنا نفيده لو حضرناها. وكذلك قول الآخر: قلنا لها قفي لنا قالت قاف لو نقل إلينا هذا الشاعر شيئاً آخر من جملة الحال فقال مع قوله " قالت قاف ": " وأمسكت بزمام بعيرها " أو " وعاجته علينا " لكان أبين لما كانوا عليه وأدل على أنها أرادت: وقفت أو توقفت دون أن يظن أنها أرادت: قفي لنا! أي يقول لي: قفي لنا! متعجبة منه. وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن قولها قاف إجابة له لا رد لقوله وتعجب منه في قوله " قفي لنا ". وبعد فالحمالون والحماميون والساسة والوقادون ومن يليهم ويعتد منهم يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصله أبو عمرو من شعر الفرزدق إذا أخبر به عنه ولم يحضره ينشده. أولا تعلم أن الإنسان إذا عناه أمر فأراد أن يخاطب به صاحبه وينعم تصويره له في نفسه استعطفه ليقبل عليه فيقول له: يا فلان أين أنت أرني وجهك أقبل علي أحدثك أما أنت حاضر يا هناه. فإذا أقبل عليه وأصغى إليه اندفع يحدثه أو يأمره أو ينهاه أو نحو ذلك. فلو كان استماع الأذن مغنياً عن مقابلة العين مجزئاً عنه لما تكلف القائل ولا كلف صاحبه الإقبال عليه والإصغاء إليه. وعلى ذلك قال: العين تبدي الذي في نفس صاحبها من العداوة أو ود إذا كانا وقال الهذلي: رفوني وقالوا: يا خويلد لا ترع فقلت - وأنكرت الوجوه -: هم هم أفلا ترى إلى اعتباره بمشاهدة الوجوه وجعلها دليلاً على ما في النفوس. وعلى ذلك قالوا: " رب إشارة أبلغ من عبارة " وحكاية الكتاب من هذا الحديث وهي قوله: " ألا تا " و " بلى فا ". وقال لي بعض مشايخنا رحمه الله: أنا لا أحسن أن أكلم إنساناً في الظلمة. ولهذا الموضع نفسه ما توقف أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ولم ندر ما حديثها ومثل له بقولهم " فرع عقيرته " إذا رفع صوته. قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم " ع ق ر " من معنى الصوت لبعد الأمر جداً وإنما هو أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى ثم نادى وصرخ بأعلى صوته فقال الناس: رفع عقيرته أي رجله المعقورة. قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق: لست أدفع هذا. ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر يعني ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل. فليت شعري إذا شاهد أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويونس وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه وأبو الحسن وأبو زيد وخلف الأحمر والأصمعي ومن في الطبقة والوقت من علماء البلدين وجوه العرب فيما تتعاطاه من كلامها وتقصد له من أغراضها ألا تستفيد بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤديه الحكايات ولا تضبطه الروايات فتضطر إلى قصود العرب وغوامض ما في أنفسها حتى لو حلف منهم حالف على غرض دلته عليه إشارة لا عبارة لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقاً فيه غير متهم الرأي والنحيزة والعقل. فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا وكأنه حاضر معنا مناج لنا. وأما ما روي لنا فكثير. منه ما حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلاً من اليمن يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت له: أتقول جاءته كتابي! قال: نعم أليس بصحيفة. أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته وقد نظروا وتدربوا وقاسوا وتصرفوا أن يسمعوا أعرابياً جافياً غفلاً يعلل هذا الموضع بهذه العلة ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره فلا " يهتاجواهم " لمثله ولا يسلكوا فيه طريقته فيقولوا: فعلوا كذا لكذا وصنعوا كذا لكذا وقد شرع لهم العربي ذلك ووقفهم على سمته وأمه. وحدثنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس أنه قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فقلت له ما تريد قال: أردت: سابقٌ النهار. فقلت له: فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن. ففي هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها: أحدها تصحيح قولنا: إن أصل كذا كذا والآخر قولنا: إنها فعلت كذا لكذا ألا تراه إنما طلب الخفة يدل عليه قوله: لكان أوزن: أي أثقل في النفس وأقوى من قولهم: هذا درهم وازن: أي ثقيل له وزن. والثالث أنها قد تنطق بالشيء غيره في أنفسها أقوى منه لإيثارها التخفيف. وقال سيبويه حدثنا من نثق به أن بعض العرب قيل له أما بمكان كذا وكذا وجذ فقال: بلى وِجاذاً أي أعرف بها وِجاذاً وقال أيضاً: وسمعنا بعضهم يدعو على غنم رجل فقال: اللهم ضبعاً وذئباً فقلنا: له ما أردت فقال: أردت: اللهم اجمع فيها ضبعاً وذئباً كلهم يفسر ما ينوي. فهذا تصريح منهم بما ندعيه عليهم وننسبه إليهم. وسألت الشجري يوماً فقلت: يا أبا عبد الله كيف تقول ضربت أخاك فقال: كذاك. فقلت: أفتقول: ضربت أخوك فقال: لا أقول: أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك فقال: كذاك. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبداً فقال أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا في معناه إلا كقولنا نحن: صار المفعول فاعلاً وإن لم يكن بهذا اللفظ البتة فإنه هو لا محالة. ومن ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً من العرب أتوه فقال لهم: من أنتم فقالوا: نحن بنو غيان فقال: بل أنتم بنو رشدان. فهل هذا إلا كقول أهل الصناعة: إن الألف والنون زائدتان وإن كان - عليه السلام - لم يتفوه بذلك غير أن اشتقاقه إياه من الغي بمنزلة قولنا نحن: إن الألف والنون فيه زائدتان. وهذا واضح. وكذلك قولهم: إنما سميت هانئاً لتهنأ قد عرفنا منه أنهم كأنهم قد قالوا: إن الألف في هانيء زائدة وكذلك قولهم: فجاء يدرم من تحتها - أي يقارب خطاه لثقل الخريطة بما فيها فسمي دارماً - قد أفادنا اعتقادهم زيادة الحمل على الظاهر باب في الحمل على الظاهر وإن أمكن أن يكون المراد غيره اعلم أن المذهب هو هذا الذي ذكرناه والعمل عليه والوصية به. فإذا شاهدت ظاهراً يكون مثله أصلاً أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله وإن أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه ألا ترى أن سيبويه حمل سيداً على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سييد كديك ودييك وفيل وفييل. وذلك أن عين الفعل لا ينكر أن تكون ياء وقد وجدت في سيد ياء فهي في ظاهر أمرها إلى أن يرد ما يستنزل عن بادي حالها. فإن قلت: فإنا لا نعرف في الكلام تركيب " س ي د " فهلا لما لم يجد ذلك حمل الكلمة على ما في الكلام مثله وهو ما عينه من هذا اللفظ واو وهو السواد والسودد ونحو ذلك قيل: هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم وأنه إذا كان مما تحتمله القسمة وتنتظمه القضية حكم به وصار أصلاً على بابه. وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يحكم به حتى يوجد له نظير. وذلك أن النظير - لعمري - مما يؤنس به فأما ألا تثبت الأحكام إلا به فلا ألا ترى أنه قد أثبت في الكلام فعُلت تفعَل وهو كدت تكاد وإن لم يوجدنا غيره وأثبت بإنقحل باب " إنفعل " وإن لم يحك هو غيره وأثبت بسخاخين " فُعاعِيلا " وإن لم يأت بغيره. فإن قلت: فإن " سيداً " مما يمكن أن يكون من باب ريح وديمة فهلا توقف عن الحكم بكون عينه ياء لأنه لا يأمن أن تكون واواً قيل: هذا الذي تقوله إنما تدعي فيه ألا يؤمن أن يكون من الواو وأما الظاهر فهو ما تراه. ولسنا ندع حاضراً له وجه من القياس لغائب مجوز ليس عليه دليل. فإن قيل: كثرة عين الفعل واواً تقود إلى الحكم بذاك قيل: إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر فأما والظاهر معك فلا معدل عنه بك. لكن - لعمري - إن لم يكن معك ظاهراً احتجت إلى التعديل والحكم بالأليق والحمل على الأكثر. وذلك إذا كانت العين ألفاً مجهولة فحينئذ ما تحتاج إلى تعديل الأمر فتحمل على الأكثر. فلذلك قال في ألف " آءة ": إنها بدل من واو. وكذلك ينبغي أن تكون ألف " الراء " لضرب من النبت وكذلك ألف " الصاب " لضرب من الشجر. فأما ألا يجيء من ذلك اللفظ نظير فتعلل بغير نافع ولا مجد ألا ترى أنك تجد من الأصول ما لم يتجاوز به موضع واحد كثيراً. من ذلك في الثلاثي حوشب وكوكب ودودري وأبنبم. فهذه ونحوها لا تفارق موضعاً واحداً ومع ذلك فالزوائد فيها لا تفارقها. وعلى نحو مما جئنا به في " سيد " حمل سيبويه عيَّناً فأثبت به " فيعلاً " مما عينه ياء وقد كان يمكن أن يكون " فوعلاً " و " فعولاً " من لفظ العين ومعناها ولو حكم بأحد هذين المثالين لحمل على مألوف غير منكور " ألا ترى أن فوعلاً وفعولاً " لا مانع لكل واحد منهما أن يكون في المعتل كما يكون في الصحيح وأما " فيعل " - بفتح العين - مما عينه معتلة فعزيز ثم لم يمنعه عزه ذلك أن حكم به على " عين " وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه في المعتل العين كونه في الصحيحها. وهذا أيضاً مما يبصرك بقوة الأخذ بالظاهر عندهم وأنه مكين القدم راسيها في أنفسهم. وكذلك يوجب القياس فيما جاء من الممدود لا يعرف له تصرف ولا مانع من الحكم بجعل همزته أصلاً فينبغي حينئذ أن يعتقد فيها أنها أصلية. وكذلك همزة " قساء " فالقياس يقتضي اعتقاد كونها أصلاً اللهم إلا أن يكون " قساء " هو " قسى " في قوله: بجو من قسىً ذفر الخزامى تداعى الجِربياء به الحنينا فإن كان كذلك وجب أن يحكم بكون همزة " قساء " أنها بدل من حرف العلة الذي أبدلت منه ألف " قسى ". وأن يكون ياء أولى من أن يكون واواً لما ذكرناه في كتابنا في شرح المقصور والممدود ليعقوب بن السكيت. فإن قلت: فلعل " قسى " هذا مبدل من " قساء " والهمزة فيه هي الأصل. قيل: هذا حمل على الشذوذ لأن إبدال الهمز شاذ والأول أقوى لأن إبدال حرف العلة همزة إذا وقع طرفاً بعد ألف زائدة هو الباب. وذكر محمد بن الحسن " أروى " في باب " أرو " فقلت لأبي علي: من أين له أن اللام واو وما يؤمنه أن تكون ياء فتكون من باب التقوى والرعوى فجنح إلى ما نحن عليه: من الأخذ بالظاهر وهو القول. فاعرف بما ذكرته قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر ما لم يمنع منه مانع. وأما حيوة والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر أنا لا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو فلا بد أن تكون الواو بدلاً من ياء لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف في الياء ولمعنى العلمية في حيوة. وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير في حاحيت وهاهيت وعاعيت كان إبدال اللام في الحيوان - ليختلف الحرفان - أولى وأحجى. فإن قلت: فهلا حملت الحيوان على ظاهره وإن لم يكن له نظير كما حملت سيداً على ظاهره وإن لم تعرف تركيب " س ي د " قيل: ما عينه ياء كثر وما عينه ياء ولامه واو مفقود أصلاً من الكلام. فلهذا أثبتنا سيداً ونفينا " ظاهر أمر " الحيوان. وكذلك القول في نون عنتر وعنبر: ينبغي أن تكون أصلاً وإن كان قد جاء عنهم نحو عنبس وعنسل لأن أذنيك أخرجهما الاشتقاق. وأما عنتر وعنبر وخَنشَلت وحِنزَقر وحِنبَتر ونحو ذلك فلا اشتقاق يحكم له بكون شيء منه زائداً فلا بد من القضية بكونه كله أصلاً. فاعرف ذلك واكتف به بإذن الله تعالى.
باب في مراتب الأشياء وتنزيلها تقديراً وحكماً لا زماناً ووقتاً
هذا الموضع كثير الإيهام لأكثر من يسمعه لا حقيقة تحته. وذلك كقولنا: الأصل في قام قوم وفي باع بيع وفي طال طول وفي خاف ونام وهاب: خوف ونوم وهيب وفي شد شدد وفي استقام استقوم وفي يستعين يستعون وفي يستعد يستعدد. فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها - مما يدعي أن له أصلاً يخالف ظاهر لفظه - قد كان مرة يقال حتى إنهم كانوا يقولون في موضع قام زيد: قوَم زيد وكذلك نوِم جعفر وطَوُلَ محمد وشدَد أخوك يده واستعدد الأمير لعدوه وليس الأمر كذلك بل بضده. وذلك أنه لم يكن قط مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه. وإنما معنى قولنا: إنه كان أصله كذا: أنه لو جاء مجيء الصحيح ولم يعلل لوجب أن يكون مجيئه " على ما ذكرنا ". فأما أن يكون استعمل وقتاً من الزمان كذلك ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر. ويدل على أن ذلك عند العرب معتقد - كما أنه عندنا مراد معتقد - إخراجها بعض ذلك مع صددت فأطولت الصدود وقلما وصال على طول الصدود يدوم هذا يدلك على أن أصل أقام أقوم وهو الذي نوميء نحن إليه ونتخيله فرب حرف يخرج هكذا منبهة على أصل بابه ولعله إنما أخرج على أصله فتُجشم ذلك فيه لما يعقب من الدلالة على أولية أحوال أمثاله. وكذلك قوله: أني أجود لأقوام وإن ضننوا فأنت تعلم بهذا أن أصل شلت يده شلِلَت: أي لو جاء مجيء الصحيح لوجب فيه إظهار تضعيفه. وقد قال الفرزدق: ولو رضيت يداي بها وضنت لكان علي في القدر الخيار فأصل ضنت إذاً ضنِنَت بدلالة قوله: ضننوا. وكذلك قوله: تراه - وقد فات الرماة - كأنه أمام الكلاب مُصغِيُ الخد أصلم تعلم منه أن أصل قولك: هذا معطي زيد: معطيُ زيد. ومن أدل الدليل على أن هذه الأشياء التي ندعي أنها أصول مرفوضة لا يعتقد أنها قد كانت مرة مستعملة ثم صارت من بعد مهملة ما تعرضه الصنعة فيها من تقدير ما لا يطوع النطق به لتعذره. وذلك كقولنا في شرح حال الممدود غير المهموز الأصل نحو سماء وقضاء. ألا ترى أن الأصل سماوٌ وقضايٌ فلما وقعت الواو والياء طرفاً بعد ألف زائدة قلبتا ألفين فصار التقدير بهما إلى سماا وقضاا فلما التقت الألفان تحركت الثانية منهما فانقلبت همزة فصار ذلك إلى سماء وقضاء. أفلا تعلم أن أحد ما قدرته - وهو التقاء الألفين - لا قدرة لأحد على النطق به. وكذلك ما نتصوره وننبه عليه أبداً من تقدير مفعول مما عينه أحد حرفي العلة وذلك نحو مبيع ومكيل ومقول ومصوغ ألا تعلم أن الأصل مبيوع ومكيول ومقوول ومصووغ فنقلت الضمة من العين إلى الفاء فسكنت وواو مفعول بعدها ساكنة فحذفت إحداهما - على الخلاف فيهما - لالتقاء الساكنين. فهذا جمع لهما تقديراً وحكماً. فأما أن يمكن النطق بهما على حال فلا. واعلم مع هذا أن بعض ما ندعي أصليته من هذا الفن قد ينطق به على ما ندعيه من حاله - وهو أقوى الأدلة على صحة ما نعتقده من تصور الأحوال الأول - وذلك اللغتان تختلف فيهما القبيلتان كالحجازية والتميمية ألا ترى أنا نقول في الأمر من المضاعف في التميمية - نحو شُدّ وضَنّ وفِرّ واستَعِدّ واصطبّ يا رجل واطمئنّ يا غلام -: إن الأصل اشدُد واضنَن وافرِر واستعدِد واصطبِب واطمأنِن ومع هذا فهكذا لغة أهل الحجاز وهي اللغة الفصحى القدمى. ويؤكد ذلك قول الله سبحانه: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} أصله استطاعوا فحذفت التاء لكثرة الاستعمال ولقرب التاء من الطاء وهذا الأصل مستعمل ألا ترى أن عقيبه قوله تعالى {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}. وفيه لغة أخرى وهي: استعت بحذف الطاء كحذف التاء ولغة ثالثة: أسطعت بقطع الهمزة مفتوحة ولغة رابعة: أستعت مقطوعة الهمزة مفتوحة أيضاً. فتلك خمس لغات: استطعت واسطعت واستعت وأسطعت وأستعت. وروينا بيت الجران: وفيك إذا لاقيتنا عجرفية مراراً فما نستيع من يتعجرف بضم حرف المضارعة وبالتاء. ومن ذلك اسم المفعول من الثلاثي المعتل العين نحو مبيع ومخيط ورجل مدين من الدين. فهذا كله مغير. وأصله مبيوع ومديون ومخيوط فغير على ما مضى. ومع ذلك فبنو تميم - على ما حكاه أبو عثمان عن الأصمعي - يتمون مفعولاً من الياء فيقولون: مخيوط ومكيول قد كان قومك يزعمونك سيداً وإخال أنك سيد معيون وأنشد أبو عمرو بن العلاء: وكأنها تفاحة مطيوبة وقال علقمة بن عبدة: يوم رذاذٍ عليه الدجن مغيوم ويروي: يومٌ رذاذٌ. وربما تخطوا الياء في هذه إلى الواو وأخرجوا مفعولاً منها على أصله وإن كان - أثقل منه من - الياء. وذلك قول بعضهم: ثوب مصوون وفرس مقوود ورجل معوود من مرضه. وأنشدوا فيه: والمسك في عنبره مدووف ولهذا نظائر كثيرة إلا أن هذا سمتها وطريقها. فقد ثبت بذلك أن هذه الأصول المومأ إليها على أضرب: منها ما لا يمكن النطق به أصلاً نحو ما اجتمع فيه ساكنان كسماء ومبيع ومصوغ ونحو ذلك. ومنها ما يمكن النطق به غير أن فيه من الاستثقال ما دعا إلى رفضه واطراحه إلا أن يشذ الشيء القليل منه فيخرج على أصله منبهة ودليلاً على أولية حاله كقولهم: لححت عينه وألِل السقاء إذا تغيرت ريحه وكقوله: لا بارك الله في الغواني هل يصبحن إلا لهن مطَّلب ومن ذلك امتناعهم من تصحيح الياء في نحو موسر وموقن والواو في نحو ميزان وميعاد وامتناعهم من إخراج افتعل وما تصرف منه إذا كانت فاؤه صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء أو دالاً أو ذالاً أو زاياً على أصله وامتناعهم من تصحيح الياء والواو إذا وقعتا طرفين بعد ألف زائدة وامتناعهم من جمع الهمزتين في كلمة واحدة ملتقيتين غير عينين. فكل هذا وغيره مما يكثر تعداده يمتنع منه استكراهاً للكلفة فيه وإن كان النطق به ممكناً غير متعذر. وحدثنا أبو علي رحمه الله فيما حكاه - أظنه - عن خلف الأحمر: قال: يقال التقطت النوى واشتقطته واضتقطته. فصحح تاء افتعل وفاؤه ضاد ونظائره - مما يمكن النطق به إلا أنه رفض استثقالاً له - كثيرة. قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون الضاد في اضتقطت بدلاً من شين اشتقطت فلذلك ظهرت كما تصح التاء مع الشين. ونظيره قوله: مال إلى أرطاة حقف فالطجع ومنها ما يمكن النطق به إلا أنه لم يستعمل لا لثقله لكن لغير ذلك: من التعويض منه أو لأن الصنعة أدت إلى رفضه. وذلك نحو " أن " مع الفعل إذا كان جواباً للأمر والنهي وتلك الأماكن السبعة نحو اذهب فيذهب معك {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وذلك أنهم عوضوا من " أن " الناصبة حرف العطف وكذلك قولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك وقوله: . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا صارت أو - والواو - فيه عوضاً من " أن " وكذلك الواو التي تحذف " معها رب " في أكثر الأمر نحو قوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق غير أن الحر لرب لا للواو كما أن النصب في الفعل إنما هو لأن المضمرة لا للفاء ولا للواو ولا " لأو ". ومن ذلك ما حذف من الأفعال وأنيب عنه غيره مصدراً كان أو غيره نحو ضرباً زيداً وشتماً عمراً. وكذلك دونك زيداً وعندك جعفراً ونحو ذلك: من الأسماء المسمى بها الفعل. فالعمل الآن إنما هو لهذه الظواهر المقامات مقام الفعل الناصب. ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة نحو قولك إذا رأيت قادماً: خير مقدم أي قدمت خير مقدم. فنابت الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب. وكذلك قولك للرجل يهوي بالسيف ليضرب به: عمراً وللرامي للهدف إذا أرسل النزع فسمعت صوتاً القرطاس والله: أي اضرب عمراً وأصاب القرطاس. فهذا ونحوه لم يرفض ناصبه لثقله بل لأن ما ناب عنه جار عندهم مجراه ومؤد تأديته. وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم " بالتعاقب " من هذا النحو ما فيه كاف بإذن الله تعالى.