خبرة تركيا مع العلمانية والقانون والدين

من معرفة المصادر

خبرة تركيا مع العلمانية والقانون والدين طالب كوجوكشان TALIP KUCUKCAN**، مجلة شرق نامه العدد السابع، يناير 2011.


تأسست تركيا الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، التى كانت دولة إسلامية تتعدد فيها الثقافات والديانات والبنى الاجتماعية واللغوية، وتمكنت الإمبراطورية العثمانية من حكم مثل هذا التعدد والتنوع من خلال طرق ووسائل ووكالات مختلفة حتى ظهور ما يسمى بالدول القومية. وأدى انحلال الإمبراطورية العثمانية إلى ظهور أكثر من 30 دولة قومية فى منطقة البلقان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهى المناطق التى كانت تحكمها الإمبراطورية لعدة قرون. تعتبر الجمهورية التركية الحديثة إحدى الدول القومية الأساسية التي خلفت الإمبراطورية العثمانية، وبحكم طبيعة الدولة القومية كنظام حديث للمؤسسات السياسية ، فإن هذه الدول حافظت على مسافة مع ماضيها القريب، بهدف خلق مجتمعات سياسية متجانسة، وشعور بالولاء للأمة يقوم على قاعدة الهوية المشتركة والثقافة والأساطير والميراث المشترك. قام تشكيل الدول القومية على خطاب ومفردات علمانية أكثر منها دينية، حيث سعت هذه الدول إلى تحرير مجتمعاتها من التحالفات الدينية، وإلى تكريس الولاء للمجتمع السياسي المدني (العلماني) وللدولة، وليس للمؤسسة الدينية. واعتماداً على التاريخ والثقاقة السياسية لتلك الدول، فإن نشأة الدول القومية قدم نماذج مختلفة لعلاقة الدولة بالدين والترتيبات القانونية المتعلقة بإدارة الشئون الدينية. بصفة عامة يمكن الإشارة إلى أربعة نماذج:

1. نموذج الإنفصال التام: يضمن هذا النظام وجود انفصال تام بين الدين والدولة، فالدولة لا تفضل أى دين، ولا تضع أي قوانين لصالح جماعة دينية بعينها، ومن الأمثلة المعروفة على هذا النظام فرنسا والولايات المتحدة، مع بعض الاختلافات فى تطبيق العلمانية كمبادئ قانونية؛ فالعلمانية الأمريكية يمكن أن ترتبط بحرية العقيدة والتنوع والاختلاف، بينما العلمانية الفرنسية تترجم كأداة لدولة قائمة قانونياً على المذهب الجمهوري الفرنسي. وتكمن الاختلافات الرئيسية بين التطبيقين فى المسار التاريخي الذى يوضح أن العلمانية الفرنسية تنمو فى إتجاه ضد سيطرة الدين وتعتمد على أيديولوجية مقاومة لتدخل رجال الدين، بينما العلمانية الأمريكية تسير فى إتجاه الاعتراف بمساهمة الجمعيات الدينية فى المجتمع الأمريكى وتسمح له بالإزدهار فى المجتمع.

2. نموذج الإنفصال الدستورى مع تنظيم خاص: يعتمد هذا النموذج على إنفصال قانونى لشؤون دين الدولة مع بعض بعض الترتيبات القانونية الخاصة التي تعترف بامتيازات لديانات معينة. فنظم الاتفاقيات البابوية (وهى إتفاقيات كانت توضع بين البابا وبين الملك أو الحكومة المدنية لتنظيم شئون الكنيسة) فى كل من إيطاليا وأسبانيا تعتبر مثاليين للعلمانية مع وجود ترتيبات خاصة تصبح جزءاً من النظام القانونى. تعد ألمانيا أيضاً مثالاً لهذا النموذج، حيث تتمتع فيها كنائس الكاثيوليك والبروتستانت بإمتيازات عديدة على أساس ما لها من منزلة رفيعة رغم عدم وجود إتفاقية بابوية فى هذا البلد.

3. نموذج دولة الكنيسة العامة: يعترف هذا النموذج بالكنيسة أو الدولة الدينية مثل اليونان والدنمارك والنرويج وأرمينيا والأرجنتين التى تعترف بأن يكون للكنائس حقوق خاصة وثابتة يحكمها القانون والعرف رغم أن مصدر التشريع لم يعد دينياً . وتشير هذه الأشكال إلى أن هناك الكثير من نماذج العلاقة بين الدولة والدين يناء على مسارات مختلفة نحو الحداثة والعلمانية.

4. نموذج الدولة الدينية: نجد أمثلة له في بلاد مثل السعودية والبحرين وعمان وإيران، حيث يكون الدين جزئيا أو كلياً، مصدر التشريع. فى مثل هذه الدول تعرف الدولة نفسها بوصفها دولة دينية، وفى هذه الحالة فإن الإسلام والنصوص الدينية تشكل المصدر الرئيسى فى وضع القانون .

تطور النموذج التركي لعلاقة الدولة بالدين على مدار السنين؛ من اعتبار الإسلام كدين للدولة فى أول دستور إلى دولة علمانية على مدى السنين. وتهدف هذه الورقة إلى بحث تطور العلاقة بين الدولة والدين وبين القانون فى تركيا من ناحية، ومن ناحية أخرى تحليل المسارات الأيديولوجية والدينية والقانونية فى دولة علمانية تقطنها أغلبية مسلمة. تقدم لنا حالة تركيا فرصة لأن نرى كيف أن الدول ذات الأغلبية السكانية المسلمة أيضاً يمكن أن تتخذ أشكالاً مختلفة فى إدارة الشؤون الدينية مقارنة بنظرائها فى أوروبا؛ وترجع رحلة تركيا صوب النظام العلمانى إلى السياسة العثمانية في التحديث وهو ما سنناقشه بإيجاز.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

جذور العلمانية التركية والتحديث العثمانى

كانت الإمبراطورية العثمانية دولة إسلامية، ينظر لرئيسها على أنه الخليفة الذى يتولى السلطة الدنيوية والروحية. استمرت الثقافة السياسة التقليدية للإمبراطورية ومنظومتها الإدارية كما هى، مع بعض التغيير والتعديل البسيط، طالما ظلت تحافظ على قوتها العسكرية والإقتصادية. ومع ذلك، فبداية من أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر دخلت الإمبراطورية العثمانية فترة تراجع اقتصادى وعسكرى أدى إلى ظهور أفكار جديدة تدور حول ضرورة إجراء إصلاحات فى المجالات السياسية والإقتصادية والعسكرية بالإضافة إلى التعليم . وأصبح الحديث حول أهمية التحديث والتغريب والعلمنة فى الإمبراطورية الحديثة ملحوظاً بشكل واضح فى فترات عديدة فى صورة إرهاصات ذات دلالة، مثل جهود التحديث المبكرة والتأثيرات الغربية التى يمكن تعقب أثارها فى الثورة الفرنسية عام 1789، وذلك فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر حيث بدأت الإمبراطورية العثمانية تفقد سيطرتها على أطراف الإمبراطورية، وبالإضافة إلى ذلك فإن الهزائم العسكرية وفقد العديد من المناطق التى كانت تسيطر عليها وضعف تأثيرها فى السياسة الدولية فى القرنين الآخيرين... كانت كلها أسباب هامة لظهور المطالبة بالإصلاح. بدأت الموجة الأولى من الإصلاحات التى جاءت لإنقاذ الإمبراطورية من الإضمحلال أثناء حكم السلطان سليم الثالث (1789- 1807)، الذى كان وصوله إلى السلطة متزامناً مع الثورة الفرنسية التى قامت على فكرة الحرية والمساواة والإخاء، حيث قدم ما يعرف ب "النظام الجديد" (new order) كمحاولة منه لتقوية الدولة المركزية ضد التهديدات الداخلية والخارجية . دعى السلطان سليم الثالث الخبراء والمدرسين الفرنسيين لتدريب وحدة قوية من العسكريين كانت قد أُسُست حديثاً وقوامها ثلاثون ألف شخص. لم يبدأ تدفق الأفكار الغربية فقط بوصول المدربين الفرنسيين، ولكن أيضاً من خلال السفارات الدائمة التى افتتحتها الإمبراطورية فى كل من لندن وفيينا وباريس . وبعد سقوط السلطان سليم الثالث، جاء السلطان محمود الثانى إلى السلطة لتبدأ إصلاحاته منذ عام 1826 فصاعدا ، وهى إصلاحات فتحت طريق الإصلاحات الكبرى التالية فى الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة. نجح السلطان محمود الثانى فى تقليص سلطة النخبة التقليدية المثقفة المعروفة بإسم العلماء ، وقدم تعليماً علمانياً من خلال إنشاء مدارس جديدة مثل المدرسة الطبية العسكرية عام 1827 ومدرسة الموسيقى العسكرية عام 1831 والأكاديمية العسكرية 1834، وهى مدارس قدمت موضوعات دنيوية (علمانية) استحثت الطلاب على التفكير العقلاني الإيجابي. وبعد وفاة السلطان محمود الثانى عام 1939 جاءت فترة جديدة من الإصلاحات عُرفت بإسم "عصر التنظيمات" تحت حكم السلطان عبد المجيد (1839- 1861)، الذى أعلن مرسوم الحديقة الوردية عام 1856، ذلك الذى تضمن إصلاحات فى الجيش والبيروقراطية المركزية والإجراءات القضائية والتى كانت مقدمة للقوانين العلمانية والتعليم بالإضافة إلى التحول في الحياة الثقافية فى الإمبراطورية. كانت معظم الإصلاحات تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، ذلك أن الإصلاحات التحديثية غيرت الطابع الإسلامى لبنية الدولة، بالإضافة إلى النظام القانونى والمؤسسات التعليمية والثقافة السياسية فى تركيا العثمانية. قام النظام القانونى العثمانى على النظام القانونى الإسلامى أى "الشريعة"، وكجزء هام من عملية التحديث والتغريب، فقد قدمت قوانين علمانية؛ رغم إن الإطار الرئيسى للشريعة كان يحظى بالتقنين وبالحماية. بدأت علمنة القوانين قبل نشأة جمهورية العلمانية في تركيا، فقد طبقت نظم تجارية فرنسية عام 1850، كما طبق قانون التجارة البحرية عام 1863، وأنشئت محاكم جديدة أطلق عليها (النظامية) عام 1869. على الناحية الأخرى تسربت العلمانية إلى التعليم والحكومة عام 1859، حيث غزت العلمنة عقول الدارسين فى كليات التعليم المتخصص للجيش والحكومة. أما مدارس التعليم المدنى والتى كان يطلق عليها (mektebi mulkiei) فقد افتتحت عام 1859، حيث مثلت قوانين التعليم العام سنة 1869 ذروة الإصلاحات. وأدت نظم الحكومة والنظام القضائى إلى إعلان دستور 1876 فى تركيا، وهى خطوة جديدة نحو نظام ليبرالى، وفي الحقيقة فإن الفترة بين 1839 -1876 وضعت أسس التحديث الذى ورثته تركيا الحديثة من الماضى . مثلت الحرب العالمية الأولى النهاية لتركيا العثمانية، وذلك حتى إعلان الجمهورية التركية تحت زعامة مصطفى كامل أتاتورك فى 29 أكتوبر 1923، والتى افتتحت فصلاً جديداً أمام الشعب التركى، بالإضافة إلى الأقليات غير المسلمة، من خلال إنشاء جمهورية تركيا العلمانية الحديثة والتى تم الاعتراف بها فى إتفاقية لوزان فى 24 يوليو عام 1923 ، وهى إتفاقية هامة حملت إعترافاً بحقوق وحرية مجتمعات الأقليات الدينية فى تركيا الحديثة.


العلمانية: الدولة والدين فى تركيا الحديثة

بلور إنشاء دولة قوية حديثة فى تركيا التوجه الأيديولوجى للنخبة الجمهورية بهدف إعادة تشكيل الدولة ومؤسساتها على أسس النموذج العلمانى الذى تم استلهامه من الغرب. وتأثرت التطورات السياسية والإجتماعية والدينية فى تركيا الحديثة بأفكار التحديث والعلمنة، وترى نيلوفر جول أن النخبة السياسية فى تركيا منذ تأسيسها، حاولت بشكل طوعى تقديم اصيغة العلمانية الأكثر راديكالية فى الدول الإسلامية. وكان مبدأ الديمقراطية يعد مبدأ ثانوياً مقارنة بمبدأ علمانية الدولة . وتشير هذه الملاحظة إلى أن العلمانية أصبحت مقبولة كأيديولوجية للدولة بشكل يسبق أي توجه آخر، وهو الأمر الذي جاء على حساب الحريات كما أثبتت التجربة، مثلما حدث أثناء حكم الفرد الواحد فى الدولة حتى عام 1950. ونتيجة للتأثر الشديد بمبادئ التحديث والتغييرات الكاسحة التى قدمت للمجتمع التركى، فإن الإصلاحات العلمانية اتخذت طريقها أثناء العشر سنوات الأولى من الجمهورية الجديدة، بهدف تقليل دور الدين فى كل خطوة فى المجتمع التركى، مثلما كان الهدف من وراء برنامج العلمنة تقليل دور الدين في كل خطوة يخطوها المجتمع التركى. وكان الدافع وراء برنامج العلمنة الحد من الدلالة المجتمعية للقيم الدينية، وفى الواقع سحب الاعتراف بالمؤسسات السياسية والثقافية التى تتخذ الإسلام شعاراً لها في نهاية المطاف. كان الهدف من الإصلاحات خلال الفترة التكوينية للجمهورية هو تقويض تركة النفوذ العثمانى الاجتماعى والسياسى والثقافى لتأسيس إطار حديث وعلمانى ملائم للتعريف الجديد للأمة التركية، في محاولة "للقضاء على كل الرموز التي كان لها علاقة مع التراث العثمانى الإسلامى" وبشكل جذرى "القطيعة مع العهد العثمانى" . تضمنت الإصلاحات المبكرة إلغاء الخلافة 1924، وإغلاق المزارات الدينية (türbes)، وتكايا الدراويش 1925، وإلغاء وزارة الشؤون الدينية 1924، وإلغاء المادة التى كانت تنص على أن الإسلام هو دين الدولة من الدستور 1928، "تتريك" آذان الصلاة 1932 والتحول من الأبجدية العربية إلى اللاتينية ابتداء من عام 1928، وهو ما كان يعنى الانفصال التام عن المنتجات الثقافية والأدبية التى تنتمى للماضى العثمانى .

تعرضت اللغة التركية التى يستخدمها مثقفى الدولة إلى عملية تنقية أيضاً، بهدف التخلص من التأثيرات العربية والإسلامية عليها، وبدأت عملية غرس المفاهيم العلمانية فى العقول من خلال الأدب والتعليم ووسائل الإعلام، وهو ما تزامن مع دخول حروف الأبجدية اللاتينية فى الكتب والمجلات والجرائد والوثائق الرسمية. أما الإصلاحات الكبرى فقد جاءت فى الفترة من 1924- 1935 وتضمنت قبول الأسلوب الغربى فى الملابس والتقويم الجريجورى 1926 ودخول الموسيقى الغربية إلى المدارس وتغيير الإجازة الأسبوعية من الجمعة إلى الأحد، وتطبيق قوانين العقوبات الإيطالية والسويسرية وتطبيق القوانين التى تلائم توحيد التعليم عام 1924.

الدين والعلمانية والدستور

الدستور

كما أشرنا سابقاً أن النظام التركى تطور بالتدريج ليتحرك بسرعة من دولة إسلامية دستورياً إلى دولة علمانية، حيث تم تكريس العلمانية كأساس للدولة فى الدستور، فدستور تركيا عام 1924 تضمن النص على أن دين الجمهورية التركية هو الإسلام ، ولكن الوضع تغير مع دستور عام 1928 حيث تم حذف هذا النص من الدستور، واضيفت العلمانية كمبدأ دستوري إلى دستور عام 1937 . ورغم أن الدولة التركية تم تعريفها آنذاك باعتبارها دولة علمانية؛ إلا أن الدين تم إدماجه ضمن الجهاز البيروقراطى للدولة من خلال إنشاء مديرية الشئون الدينية، وهى هيئة دستورية عامة مفوضة لإدارة الشئون الدينية ، تم تأسيسها عام 1924 وهو نفس العام الذى ألغيت فيه وزارة شؤون الأديان والأوقاف.

مديرية الشؤون الدينية

نظم دستور 1961 عمل مديرية الشؤون الدينية كمؤسسة دستورية لديها تفويض لتقوم بمجموعة من الواجبات والمسؤوليات ، ويرى البعض أن النخبة الجمهورية حافظت على إرث عثمانى وإن يكن بأشكال ووظائف مختلفة ، وثمة رؤية معارضة تنظر للمديرية باعتبارها "أداة حكومية تنشر الأيديولوجية الرسمية" ، فيما يتعلق بالإسلام وذلك فى غياب كيان منظم من رجال الدين ومنظمة مركزية يديرها مسلمون. اعترف دستور 1982 الذى وُضع بعد الإنقلاب العسكرى عام 1980 أيضاً بالمكانة الدستورية للمديرية، حيث تنص المادة 136 من مواد الدستور الحالى "أن مديرية الشؤون الدينية تقوم بإداء واجباتها وفقاً لقانونها الخاص، طبقا للمبادئ العلمانية، على أن تخلو من أى أفكار وآراء سياسية وتستهدف التضامن القومى والوحدة" . ويفسر القانون الخاص بالمديرية والذى وضُع عام 1956 أهداف المديرية ومجال أنشطتها ومسؤولياتها كالتالى: "إنجاز المهام التى تتعلق بالمعتقدات والعبادة وأخلاقيات الإسلام وتقوم بمهمة التنوير بالنسبة للشعب فيما يتعلق بديانتهم وتشرف على أماكن العبادة" . وعلى مدى سنوات فإن التفويضات الدستورية زادت من قوة المديرية كمؤسسة عامة تتلقى ميزانية خاصة بها من الدولة وتوظف حوالى 80 ألف شخص فى جميع أنحاء تركيا. حيث تقوم المديرية بالإدارة والإشراف على المساجد فى تركيا وتدريب الأئمة وتنظيم دورات دينية للكبار والصغار أثناء الإجازات الصيفية. تثير حقيقة كون المديرية جزء من نظام الدولة والنص على تقديم أنشطتها للغالبية من مسلمى تركيا، تساؤلات حول وضع تركيا كدولة علمانية وما إذا كان وجود المديرية مناسب للعلمانية. كما أثار قضية آخرى تخضع لنقاش حاد فى تركيا وهو سيطرة السنة الذين يرسمون الأنشطة الأساسية للمديرية واستبعاد مذاهب إسلامية الأخرى، خاصة العلويين. وبصفة عامة فإن هناك ثلاثة مواقف متعارضة حول الطبيعة العلمانية للدولة، ومكانة مديرية الشؤون الدينية في تركيا: الأول يرى بعض العلمانيين والليبراليين وبعض الجماعات الدينية –لأسباب مختلفة– أن وجود المديرية كمؤسسة عامة يمثل وضع مخالف لكل مبادئ العلمانية، التى من المفترض أن تكون محايدة تجاه كل الأديان والمعتقدات . فبعض الجماعات الدينية على سبيل المثال تفضل حل المديرية من أجل أن يكون لديها حرية واستقلال أكثر بعيداً عن سيطرة الدولة، ويطالبون بأن تبتعد الحكومة العلمانية عن الأنشطة الدينية وألا تكون المديرية إدارة حكومية، فى حين يطالب بعض العلمانيين بألا تقدم الدولة المال من ميزانيتها إلى المديرية لأن المديرية فى هذه الحالة يتم تمويلها من المسلمين وغير المسلمين. يعارض العلويون بشدة وجود المديرية وتمويلها من ميزانية الدولة، وتقول أن المديرية تخدم المسلمين السنة ولا تخدم الطوائف الإسلامية الأخرى. الثانى: يؤيد البعض مساندة الدستور للمديرية ويرون أن عملها بهذا الشكل يجعل الدولة تسيطر على الأنشطة الدينية، وأن الأنشطة الدينية يجب أن تكون محل مراقبة، وأن مجال حرية العبادة يجب أن يُدار بواسطة الدولة حتى تحمى وتحافظ على طبيعتها العلمانية ،وهذا الرأى يسانده الكماليون والعلمانيون المحافظون والمؤسسة العسكرية . الثالث: لا يرى البعض الآخر أى تعارض بين الدولة العلمانية ووجود المديرية، ويفضلون أن يكون لها نشاط أوسع نطاقا يُوصف بالتعددية والتنوع ويطالبون بتقليل رقابة الدولة على الشؤون الدينية.

التعليم الدينى

يعد التعليم الدينى إلزامياً فى كل المدارس الإبتدائية والثانوية -بنص الدستور-، وهو قضية محل نزاع فى تركيا؛ فحتى عام 1980 كان التعليم الدينى إنتقائياً، لكن دستور عام 1982 والذى وضع بعد إنقلاب عام 1980 نص على أن يكون التعليم الدينى إلزامياً بالنسبة لأطفال المسلمين بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية ، على أن يُعفى أطفال غير المسلمين من الحصول على هذا التعليم. ومن المثير للسخرية أن جنرالات الإنقلاب العسكرى الملتزمين للغاية بمبادئ العلمانية والذين يعتبرون أنفسهم حماة علمانية تركيا هم الذين فرضوا إلزامية التعليم الدينى؛ فهناك رأى يقول أن هدف الجنرالات الذين تزعموا الإنقلاب من ذلك كان السيطرة على مناهج الدراسة ومراقبة ما يتم غرسه فى عقول الصغار عن قرب بدلاً من ترك مثل هذا النشاط لجماعات دينية مستقلة أو يتم دفع التعليم الدينى إلى أشكال سرية بعيداً عن سيطرة الدولة. وقد يرى البعض أن الهدف من التعليم الدينى الإلزامى فيما يخص الشباب أن يلعب دوراً موحداً للشعب التركى بعد فترة من التوتر السياسى، والتى أدت إلى مظاهرات عنيفة فى الشوارع بعد إنقلاب 1980 ، حيث وافق الجنرالات العسكرييين على التعليم الدينى الإلزامى مستبعدين طائفة العلويين والجماعات الليبرالية. يظهر في تركيا، عندما نأتى لطبيعة مناهج الدراسة ومحتوى المواد التعليمية، جدل كبير من نوع آخر، فهناك عوامل داخلية وخارجية مثل سعى تركيا للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبى وقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بالتعليم الدينى للطوائف الآخرى، وهو ما نتج عنه إجراء بعض التعديلات فى مناهج الدراسة عام 2008 . وهناك من يرفض التعليم الدينى الإلزامى تماماً ويرى أنه لا طائل منه وأن هناك حاجة ملحة لتعديلات جديدة تتطلب تغيير دستورى وهو أمر ليس محتملاً -فى الشكل السياسى الحالى للدولة–، ولذلك فقد أصبح المحتوى العقائدى لمناهج الدراسة فى الآونة الأخيرة هدفاً لانتقاد البعض وعلى الأخص جماعة العلويين الذين يقولون أن مناهج الدراسة الدينية الإلزامية تمثل المسلمين السنة فقط ولا تتضمن أى تعليم أو معتقدات للعلويين . ناضل العلويين ضد هذه السياسة باعتبارها نوعاً من التمييز أمام المحاكم ؛ فهناك 4000 قضية مرفوعة أمام تلك المحاكم التركية ؛ فعلى سبيل المثال فقد رفع والدى طالب من العلويين قضية أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية عام 2007 حكمت بعده أن المحتوى الغالب لمنهج الدراسة يميل للمسلمين السنة وحثت الحكومة التركية على إجراء تعديلات تتضمن مناهج تعليمية مختلفة تتناول معتقدات العلويين . والجدير بالملاحظة أن حكم محكمة حقوق الإنسان فى هذا الشأن لم يأت ضد التعليم الإلزامى الدينى فى حد ذاته فى تركيا، بل تعلق بمحتوى منهج الدراسة الذى يُقدم حالياً عندما أشار إلى أن العلويين يخضعون للتفسير السنى للإسلام وأن محتوى الدورات الدينية لا يلتزم بمقياس المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بالموضوعية والتعددية . وبعد هذا القرار قامت وزارة التعليم التركية بإجراء بعض التغييرات الفعلية فى التعليم الدينى ففى مارس عام 2009 أصدرت محكمة تركيا فى أنطاليا (جنوب تركيا) حكماً لصالح فتاة من العلويين طالب والديها بإعفائها من حضور حصص التعليم الدينى فى المدرسة .

مسألة الزى والحجاب

بدأ منع إرتداء الحجاب فى الجامعات منذ عام 1989 فى أعقاب حكم أصدرته المحكمة الدستورية العليا ، وعلى الرغم من عدم وجود قانون يمنع الفتيات من الحضور إلى الجامعة مرتديات الحجاب، بل مجرد تعليمات من مجلس التعليم العالى التركى صدرت عام 1982 بمنع إرتداء الحجاب فى الجامعات، إلا أنه أصبح بمثابة قانون من الصعب تغييره. ومنذ ذلك الحين فشلت كل محاولات رفع هذا الحظر؛ ففى التاسع من فبراير عام 2008 أصدر البرلمان تعديلاً دستورياً بغالبية 411 صوتاً مقابل 103 صوتاً كان الهدف منه إلغاء الحظر الطويل على إرتداء الحجاب الإسلامى فى الجامعات. وفى 22 فبراير 2008 وافق عبد الله جول الرئيس التركى على هذه التعديلات. والجدير بالذكر أن المطالبة بتعديل الدستور جاءت من خلال مبدأ المساواة وحرية التعليم للجميع ولم تذكر صراحة رفع الحظر عن الحجاب، ومع أن هذا القرار سانده حزب "العدالة والتنمية" الحاكم وأيده الحزب القومى التركى والذى يعتبر ثانى أكبر حزب للمعارضة فى البرلمان، إلا أنه نتيجة للضغوط القوية من دوائر العلمانيين المؤثرة والمؤسسة العسكرية فقد رفضت المحكمة الدستورية – التى تُوصف بانها حامية العلمانية– هذه التعديلات. وقالت المحكمة فى قرارها فى 5 يونيو من العام نفسه أن البرلمان التركى "أنتهك مبادئ الدستورية العلمانية" عندما وضع وأوصى بإجراء تعديلات تهدف لرفع الحظرعن الحجاب . هذه المحاولة الفاشلة جعلت حزب الشعب الجمهورى –وهو الحزب المعارض الأول فى البرلمان– يتهم حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بأن لديه أجندة سرية ويسعى لأسلمة تركيا .

المسلمين غير التقليديين والجماعات الغير مسلمة

1- العلويون

العلويون هم جماعة مسلمة غير تقليدية فى تركيا، ورغم أن العلوية محل نزاع بين العلويين أنفسهم إلا أن مطالبهم تنحصر فى الإعتراف بهويتهم وبأن تكون لهم مؤسسات تمثلهم ، ومطالب أخرى تنحصر فى تخصيص أماكن للعبادة، وإلغاء المقررات الدينية الرسمية السنية ووقف سياسة بناء المساجد فى القرى العلوية، وإلغاء مديرية الشئون الدينية وتخصيص ميزانية لبناء دور العبادة الخاصة بهم. ومن مطالبهم أيضاً إلغاء خانة الديانة فى بطاقة الهوية، وتقديم برامج إذاعية ثقافية عن ثقافة العلويين وطقوسهم فى الراديو والتليفزيون، وأن تتواجد آلة الساز وهى آلة موسيقية خاصة بهم فى المدارس الثانوية، وأن يتم توفير وظائف لهم فى دوائر الحكومة، وأن يحصلوا على الماء والكهرباء والأرض لأماكن عبادتهم مجاناً . ثمة مؤشرات جيدة على وجود تطور إيجابي تجاه تلك المطالب القلقة للعلويين مثل اعتراف نائب مديرية الشؤون الدينية أن الهيئة تجاهلت العلويين قديماً حتى الآن ، وبعد هذا الإعتراف عُقدت إجتماعات من ممثلين لمنظمات علوية ومسؤولين من مديرية الشؤون الدينية لمناقشة آرائهم وإرسال توقعاتهم. من المهم أن نشير أن الطوائف العلوية تختلف فيما بينها حول تعريف العلوية وأيضاً علاقاتها مع الإسلام ، فبعض العلويين يقدمون تأويلاً للعلوية، بمضمون تقدمى وليبرالى للإسلام. والبعض يرى أنها دليل على الإنسانية فيما ترفض الجماعات الأخرى أى علاقة لها بالإسلام وتقول إن العلوية نظرة عالمية بفلسفتها وطقوسها الخاصة . وتعتقد هذه المجموعات أن وجود مديرية الشؤون الدينية هو تقويض للعلمانية ولذلك يرفضون التعامل معها، أما جماعات العلويين التى ترى أن العلوية تقع تحت عباءة الإسلام فتشترك فى حوار مع الدولة بصفة عامة ومع رئاسة الشؤون الدينية بصفة خاصة فى محاولة لتحصل على الإعتراف وحقوق التمثيل . بدأت الحكومة الحالية للمرة الأولى فى الإتصال المباشر بطائقة العلويين، وعين أردوغان رئيس الوزراء نائباً للعلويين فى البرلمان من حزب "العدالة والتنمية" كمبعوث ليجتمع مع كل الأطراف على مائدة واحدة ، والأكثر من ذلك وكعلامة على الإعتراف بالعلويين فقد تشارك أردوغان مع زعماء العلويين عشاء تم تنظيمه فى أحد أيام احتفالاتهم . والأكثر من ذلك أن الحكومة نظمت مؤخراً سلسلة خاصة من ورش العمل العلوية للاستماع إلى العلويين وغير العلويين لتحديد مشاكلهم ومطالبهم وإعداد خريطة طريق لإيجاد الحلول لها . وفى نفس وقت كتابة هذا المقال عقدت سبع ورش عمل فى الفترة من 2009 إلى 2010 تحت رعاية وزارة الدولة المسؤولة عن رئاسة الشؤون الدينية. جمعت أول ورشة عمل معاً كل زعماء طائفة العلويين، أما الخمس ورش التى تلتها فقد دعت منها المثقفين وقادة الرأى من كل الخلفيات السياسة وباحثين ورجال تاريخ فضلاً عن ممثلين لمنظمات للمجتمع المدنى ووسائل الإعلام ، أما آخر ورشة عمل فقد جمعت معاً خليط من المشاركين فى الاجتماعات لوضع التوصيات للحكومة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

2- الجماعات الغير مسلمة

تبلغ نسبة المسلمين فى تركيا 8ر98 بالمئة من السكان ، ويوجد أيضاً عدد من المجموعات الدينية الغير مسلمة فى تركيا ورثتهم عن الدولة العثمانية يقطن معظمهم أسطنبول ومعظم المدن الكبرى. ونظرا لأن نتائج الإحصاءات العامة لا تتضمن أى معلومات عن الإنتماءات الدينية للمواطنين الأتراك فإن الأرقام الفعلية للمجموعات الغير مسلمة غير متوافرة . طبقاً لمعاهدة لوزان 1923 التى تشكلت على أساسها جمهورية تركيا والتى تعترف بوجود أقليات دينية، فقد نصت على إشارة محددة لحماية كل الأقليات غير المسلمة ؛ فالمادة 39 من الإتفاقية تقر المساواة بين كل المواطنين الأتراك بغض النظر عن ديانتهم، وتنص على "أن القوميات التركية التى تنتمى إلى أقليات غير مسلمة سوف تتمتع بنفس الحقوق السياسية مثل المسلمين، وكل سكان تركيا بدون تمييز فى الدين سوف يكونوا متساوين أمام القانون". وتنص المادة 40 من إتفاقية لوزان أيضاً على "أن كل القوميات التى تنتمى إلى أقليات غير مسلمة سوف تتمتع بنفس الحماية والأمن... كمثل باقي القوميات التركية الأخرى وبصفة خاصة يكون لديهم حقوق متساوية فى إنشاء وإدارة والسيطرة على أموالهم وأن أي مؤسسات خيرية أو اجتماعية أو دينية أو أى مدارس أو منشآت أخرى للتعليم أو التدريس، ولديها الحق فى إستخدام لغتها الخاصة وأن تمارس ديانتها بحرية. وتعيد المادة 42 من الإتفاقية التأكيد على أن الحكومة التركية تضمن توفير كل الحماية للكنائس والمعابد أو أى منشأت دينية أخرى تخص الأقليات وتقدم التسهيلات الضرورية لمؤسسات الأوقاف والمؤسسات الدينية والخيرية للأقليات فى تركيا وألا ترفض إنشاء أي مؤسسات خيرية أو دينية لهم.

واجهت الأقليات الغير مسلمة فى تركيا –رغم كل هذه النصوص- مشاكل تتعلق بالإعتراف بحقوق الملكية منذ عام 1936، وأخرى تتعلق بتجديد أو توسيع أماكن العبادة والمؤسسات الأخرى. وينظم مكتب المؤسسات بعض أنشطة الجماعات الغير مسلمة مثل الكنائس والأديرة والمدارس الدينية والملكيات التابعة لها، وهناك 160 مؤسسة للأقليات معترف بها من قبل المكتب ، من بينها مؤسسات اليونانيين الأرثوذكس (70موقعاً تقريباً) والأرمن الأرثوذكس (50 موقعاً تقريباً) واليهود (20 موقعاً تقريباً)، بالإضافة إلى مؤسسات المسيحيين الأشوريين والكلدان والبلغار الأرثوذكس والمؤسسات الجورجية والمارونية. وفى 2 يناير عام 2003 أصدر البرلمان التركى تعديلاً يتعلق بملكية مؤسسات المجموعات الغير مسلمة، حيث تم رفع القيود الشديدة التي كانت مفروضة عليها، وتم إعطاؤها المزيد من الحرية في حفظ وصيانة وشراء المبانى . وبموجب قانون 2003 الذى مرره البرلمان، أصبحت الأقليات مؤهلة لشراء ملكيات جديدة لتوظيفها فى الأعمال الدينية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، وأيضا تقديم خدمات صحية بعد الحصول على إذن من مكتب المؤسسات بموجب شروط يسيرة . وصوت البرلمان أيضاً لصالح قانون أوقاف جديد فى فبراير عام 2008 يوسع حريات مؤسسات الأقليات وافق عليها الرئيس جول . تسير سياسة تركيا تجاه أمور غير المسلمين في الاتجاه الصحيح بموجب سياسات تعزز وتوسع الحقوق والحريات التى لم يتم الحصول عليها بالكامل تحت حكم الكمالية، والتى كانت تسير فى صالح القوميين وأصحاب التفسير الإقصائى للعلمانية. وتقدم انجازات الحكومة التركية الحالية بزعامة "حزب العدالة والتنمية" منذ عام 2002 إشارات ايجابية للتفاؤل بالمستقبل، ليس فقط على طريق الاعتراف والمصالحة والتى بدأت مع هذه الاقليات، ولكن أيضاً بحصول هذه الأقليات علي امتيازات قانونية مثل منحها الحق فى وضع عبارة "أماكن للعبادة" علي الكنائس والأديرة عام 2003، وافتتاح كنيسة بروتستانتية جديدة عام 2006 ، وهى أمور زادت من التفاؤل والتوقعات لدي الأقليات. وبعد هذه التطورات أقر البرلمان تعديلاً يمكن الكنائس والاديرة من أن يكون لديها الحق فى الحصول على الماء والكهرباء بشكل مجانى مثل وضع المساجد في تركيا . ولاتزال مشكلة افتتاح معهد (halki) اللاهوتى الذى أغلق عام 1971 قائمة دون حل، على الرغم من التصريحات الإيجابية التى أدلى بها الوزراء والسياسيين بصدد هذه المشكلة.

إستنتاجات

نظام الدولة التركية هو نظام علمانى، على الرغم أن غالبية سكانها من المسلمين، فهناك فصل واضح بين الدين والدولة، ولهذا السبب فإن الدين والمؤسسات والمجموعات الدينية ليس لها تأثير على التشريع الذى يعتمد فقط على إجراءات مدنية علمانية. فالدين ليس مصدراً للقانون فى دولة تطمح لأن تكون عضواً كاملاً بالاتحاد الأوروبى. ولتحقيق هذا الهدف فقد قدمت تركيا عدداً من التعديلات المتكاملة، بحيث يصبح النظام القضائى التركى متوافقا مع معايير الإتحاد الأوروبى، وأسهمت هذه الإصلاحات إيجابياً فى توسيع الحرية الدينية لكل من الأغلبية المسلمة، بما فيها المجموعات غير السنية، وكذلك بالنسبة للأقليات غير المسلمة. ويمهد الاتجاه السياسى للحكومة الحالية الطريق لظهور آراء تقدمية وليبرالية تدفع لدرء الخطر عن العقيدة وعودة الحريات وكل الحقوق للجماعات الدينية. وبالرغم من التطورات الواعدة بخصوص العديد من المسائل مثل حرية الدين وإعادة الحقوق للمتدينين من كل الأطياف، فما زالت هناك مشكلات تحتاج أن تناقش بشكل عاجل مثل رفع الحظر على ارتداء الحجاب فى الجامعات والسماح للآباء بأن يحصلوا على التعليم الدينى الرسمى الذى يريدونه لأبنائهم فى أى سن صغير بدلا من الانتظار حتى يكملوا سن ثمانى سنوات. كما يعتبر التعليم الإلزامى الأولى من بين هذه المشكلات ، وكذلك مشكلة وضع نظام يسمح بهوية شخصية قانونية للأغلبية المسلمة ولجماعات الأقليات غير المسلمة، فى ضوء إشارة "لجنة البندقية" إلى أن النظام القانونى التركى ليس لديه أداة تستطيع بها "المجموعات الدينية أن تسجل نفسها وتحصل على هوية قانونية" . والأكثر من ذلك فلابد من الإستجابة لبعض مطالب الطائفة العلوية على أساس الوصول لنوع من الإجماع والفهم المشترك الذى يجب أن تصل إليه الحكومة. وكذلك يجب أن يبدأ فتح نقاش واسع حول فتح المعبد اللاهوتى (Halki) وأن يتم إشراك اليونانيين الأرثوذكس فى هذه المناقشات، كما يجب أن تتواصل الحكومة مع الأرمن الأرثوذكس لمعرفة ما إذا كان هناك مجال لتحقيق بعض التحسن فيما يتعلق بتساؤلاتهم ومطالبهم.

    • أستاذ علم الإجتماع والدين بجامعة مرمرة، إسطنبول – تركيا.


مجلة شرق نامه