حياة دزرائيلي

"إن الحياة لقصيرة فيجب ألا تكون ضئيلة" .. دزرائيلى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1- عهدان

في سنة 1290 وفي يوم عيد جميع القديسين طرد الملك ادوارد الأول يهود إنجلترا بعد أن ظلوا محتملين فيها إلى ذاك التاريخ , كان ذلك عهد الحروب الصليبية فأخذ الرهبان فى جميع القرى يحملون في عظاتهم على الكفرة , وطالب الشعب بإثارة الحرب الصليبية في داخل البلاد , فنزح عن إنجلترا نحو ستة عشر ألفا منهم , وأصر الملك على أن يخرجوا في سلام فلا يتعرض لهم أحد , وأطيع أمره على وجه التقريب , فلم يحدث من الحوادث غير أن أحد رؤساء السفن أنزل ركاب السفينة منهم إلى نتوء من الرمال تحيط به الأموج , وقال لهم : " لتدعون موسى" , ثم أقلع بسفينة فغرق منهم بضع عشرات وجوزى هذا الرجل بالشنق . وجد الذين نجوا من البحر ومن البحارة مأوى لهم فى فرنسا , على أ، إقامتهم لم تطل , ففى سنة 1306 شعر الملك فيليب الجميل بحاجته إلى المال , فقرر أن يستخلص مال اليهود ويخرجهم إلى اسبانيا , وعرفوا السلام فيها مدة قرنين , ثم أوقدت لهم النيران , وبدا كأن الشعب التعس لا يستطيع الهجرة إلى أبعد من ذلك فهو أخيراً على وشك الانقراض , ولكن تنظيم الاضطهادات كان غير محكم . وفى الوقت الذى أخذت فيه أسبانيا تقفل أبوابها فى وجه اليهود شرعت جمهورية البندقية وجمهورية أمستردام ومملكة فرنسا تفتح أبوابها لهم , وفى إنجلترا نفسها أدت حركة الإصلاح الدينى إلى قراءة الكتاب المقدس , فتولد من العناية بأمرهم ما يشبه العطف , واتخذ الغلاة من البروتستانت أسماء يهودية وأخذوا فى البحث عن القبائل التائهة . وفى سنة 1649 قد لورد فرفاكس اقتارحا بعودة بنى إسرائيل وأظهر كرومويل إلى هذا الرأى , ثم أيده شارل الثانى . وهكذا تجمعت فى لندن فى أواخر القرن السابع عشر هيئة قليلة العدد من يهود البرتغال وأسبانيا , وقد ارتقى الكثيرون من هذه العائلات أمثال عائلات فلاريال ومدينا ولارا إلى مصاف النبلاء فى عهد الممالك العربية , فكان هؤلاء يحتقرون يهود بولونيا ولتوانيا الذين أخذوا ينزحون إلى الغرب فى ذلك العصر على أثر ثورة القوازق , ويأبون أن يقبلوا هؤلاء الغام فى بيعهم . فى سنة 1748 وفد على يهود لندن إيطالى شاب هو بنيامين إسرائيى أو دزرائيلى , نشأ ببلدة شنتو من أعمال فرارا , وبحث من قبل عن الثروة فى البندقية "فينزيا" , ثم أعتقد أنه قد يكون أكثر توفيقا فى بلد أحدث وأكثر رخاء , وكانت خطواته الأولى فى الحياة صعبة , ضارب فخسر , وكأنه قد حاق به الخراب , ولكنه تزوج لمرة الثانية من امرأة حملت إليه دم فلاريال وبائنة مناسبة فدخل بورصة الأوراق المالية وكون ثروة ليست بالقليلة . كان رجلا سمح الأخلاق مرحا , أنشأ فى إحدى ضواحى لندن حديقة على الطراز الإيطالى يقدم فيها لضيوفه المكرونة الفاخرة , ثم بعد الأكل يتناول الماندولين وينشد بعض الأغانى الإيطالية , وكان يتكلم اللغة الإنجليزية مشوبة بلكنة خفيفة فينيزية تجعل للهجته طلاوة خاصة , فإذا ما تكلم كأنك تستشف من وراء الضبابا الأصفر فى حى المال بلندن بريق ذهب سان مارك والأوتاد المتعددة الألوان التى تشد إليها القوارب الفينيزية أمام القصور الوردية . فى خارج الأعمال كان مستر دزرائيلى لا يخالط اليهود أبداً , وليس ذلك عن عمد , فهوبسيط طيب القلب يخشى أن يسئ أحداً , ولكن امراته كانت تتجنبهم , فلو أنها مسيحية لصار لها بفضل وجمالها مركز من أكبر المراكز فى الهيئة الاجتماعية , فهى تتألم إذ ولدت يهودية وإذ تحمل بزواجها اسما ينم عن يهوديتها , وحاول زوجها عبثا أن يهدئ من سورة نفسها بالهدايا , ولكنها ظلت متألمة مريرة النفس محتقرة لجنسها , ولكن يرضيها (وكذلك لعدم اهتمامه بطبيعته) كان لا يذهب قط إلى البيعة , على أن اسمه ظل مقيداً بين أعضاء اليهود البرتغاليين , وكان دائما كريما وحذراً فكان ينفق من حين لآخر بضعة جنيهات فى سبيل مرضاة إسرائيل . ولد لبنيامين وسارة ابن سمياه إسحاق أثار عجبهما , فقد عقدا الآمال على أن يصير رجلا كبيراً من رجال الأعمال , ولكن ابنهما كطان باهت اللون خجولا , لا يمشى إلا والكتاب فى يده , ويكره كراهية ععجيبة أى نوع من أنواع النشاط العملى , كان هذا الكسل يوقظ فى نفس مسز دزرائيلى رغبة فى التهكم عليه , فيهدئ ىالأب من المشاحنات بأن يقدم هدايا للأم والأبن , وفى رايه أن الولد التعس هو الولد الذى يرغب فى لعبة , وعندما فر ابنه ذات يوم من المنزل ووجده نائما فوق قبر قبله ووهبه مهراً . فى الثالثة عشر من عمره نظم الغلام شعراً , وانزعج مستر دزرائيلى على الرغم من تساهله وتفاؤله , فإن لديه صورة من رسم هوجارت تمثل شاعراً يموت جوعا فى غرفة حقيرة بأعلى المنزل . وأرسل إسحاق فى أول باخرة إلى أحد مراسلى أبيه فى الخارج حيث قضى الغلام أربع سنوات فى هولندا وفرنسا تحت رقابة مرب صادف أن كان حر الفكر ومن تلاميذ الفلاسفة الفرنسيين , ثم عاد الشاب دزرائيلى وقد غذى بآراء فولتير , وصار من المعجبين بروسو , ودخل منزل أبويه وهو فى الثامنة عشر من عمره فى زى غريب وشعر مرسل , وعند ما حذا حذو "أميل" وارتمى فى أحضان أمه وهو يرويها بدموعه تراجعت , ثم قدمت له خدها فى استياء ظاهر . ظل بنيامين دزرائيلى وقتاً ما يتعلق بشئ من الآمال , ولكنه عرف موضوع القصيدة الطويلة التى كان ابنه ينظمها , وهو مناهضة التجارة لأن فيها فسادأً لبنى الإنسان , فعدل عن استخدامه فى الأعمال وقرر أن يتركه حراً يعيش لميوله , وحينئذ اتخذ إسحاق دزرائيلى فى حياته نظاماً لم يغيره حتى الموت , فكان يمضى نهاره فى مكتبة المتحف البريطانى , وهو مكان لذيذ لا يرى فيه عندئذ أكثر من ستة أو سبعة من القراء , وهناك يخط مذكرات على الأوراق التى تملأ دائماً جيوبه , وقد أراد فى مبدأ الأمر أن يكتب للأدب الإنجليزى , غير أنه ما لبث أن غاص فى بحر من القصاصات المتجمعة , فاكتفى بدور صغير وإنما باعث على التسلية , هو دور الجامع , فنشر باسمه "عجائب الأدب" , وهى مجموعة من النوادر نجحت نجاحا كبيراً وقررت مجرى حياته . وفى الخامسة والثلاثين من عمره تزوج امرأة حلوة الطباع بسيطة تنتمى مثله إلى اليهود الإيطاليين , كان يحبها حباً خالصاً , ولا يرغب منها فى شئ إلا أن تنقذه من جميع المتاعب العائلية , وان تمكنه أن يهب حياته للقراءة وتدوين المذكرات . وتبين له أن هذا النظام يلائم شريكة حياته , ومن تلك اللحظة صارت حياة إسحاق دزرائيلى خاضعة لنظام لا يتبدل , فبعد الإفطار يقصد إلى مكتبته ويغلقها على نفسه إلى موعد الغذاء وهو يقرأ ويكتب المذكرات , وبعد تناول الغذاء يقصد إلى المتحف البريطانى ليقرا ويكتب المذكرات , وفى العودة يقف لدى جميع بائعى الكتب فى طريقه , ويعود إلى داره محملا بالكتب ليشرب الشاى , ثم يغلق على نفسه باب مكتبته حتى وقت العشاء مع الكتب التى اشتراها فى نهاره وهو يقرا دائماً ويكتب المذكرات , وإذا قصد إلى النادى فإنما يفعل ذلك لينقل مكتبته على قصاصات من الورق , فهو يحب الكتب كما يحب غيره من الناس النساء والأفيون والدخان , والكتب لديه مخدر عذب يجعله ينسى الحياة , وكان محترما فى الأوساط الأدبية , وله أصدقاء ممتازون , ويحبه الناس لطيب معشره وبعده عن الغرور . وكان بيرون يقرا فى سرور مجموعات دزرائيلى الصغيرة حيث يجد فى حياة عظماء الرجال ومتاعبهم قصصاً تهدئ بعض مخاوفه , وكان اسم بيرون أيضاً محترماً فى ذلك البيت , إذ أن إسحاق دزرائيلى على مذهب فولتير فيما يتعلق بالدين , وكان فى السياسة محافظاً , ولكنه يرى نظام صالحاً ما دام يمكن الرجل ذا الثروة المتوسطة من أن يستمر فى جمع النوادر الأدبية من غير أن يشغله شاغل .


2- المدارس

سمى الابن الأكبر لإسحاق دزرائيلى باسم جده بنيامين , وولدت قبله ابنة سميت سارة , وكان الأخ والأخت منذ الطفولة متآلفين تآلفاً كبيراً , واقتصر مستر دزرائيلى فى دور الوالد , على أنه بين الحين وآخر يشد أذن ابنه مداعباً ومظهراً فى ذلك عدم التوفيق الذى يصاحب رجال المكتبات , أما مسز دزرائيلى وهى بطبيعتها امرأة سريعة الاندهاش والارتباك فكانت تصغى فى احترام مشوب بالخوف إلى الآراء غير المفهومة لديها التى يلقيها هذان الطفلان الناميان قبل أوانهما , وتحاول بنجاح ان تجعل من خصلات شعرهما حلقات , وكان الطفلان يحبانها حب العبادة على أنهما لا يبوحان بحقيقة ما يكنانه فى قلبيهما , وهما يعجبان بوالدهما كثيراً ويعتقدان أنه كاتب كبير جدا ويحبان وجهه الجميل , ولكنهما فهما أن لا فائدة من أن ينتظرا منه الاهتمام بشأنهما , فهما يريانه فى ساعة الغذاء وقدلبس طاقية من المخمل فوق شعره الرمادى وهو مشرد الفكر وصامت , ويعرفان أن أمنيته الوحيدة هى أن يعود إلى كتبه , فإذا احتجوه أحد أو قطع عليه عمله أدبا كبيراً يشعر بأنه متضايق , وإذا تكلم إلى ولديه لم يذكر الحياة اليومية , وإنما يتكلم عن أعماله وأبحاثه , وقد أخذ فى كتابه مؤلف عن حياة شارل ستيوارت , فهو يحب أن يفسر لهما أنه أبعد الناس عن الطاغية , وأن ذلك الملك الفارس الجميل هو ملك شهيد , وصار حب أسرة ستيوارت وكراهية المطهرين هو الدين الوحيد فى ذلك البيت . فى أيام الآحاد تذهب الأسرة على الأقدام إلى منزل الجد والجدة دزرائيلى فيسيرون فى طريق طويلة مملة يجدون فى نهايتها الجدة السيئة الطباع التى تقرص خدود الأطفال وتنتقد سلوكهم فى شدة ولا تقدم لهم فطائر , غير أن الجد يهبهم قطع النقود ويعزف لهم على الماندولين , ويحدثهم عن إيطاليا . كان بنيامين الصغير يحب هذه الأحاديث لا سيما ما كان منها عن فينيزيا , ويحب أن يتخيل تلك المدينة حيث المنازل من أحجار موشاة كالدنتلة والأسقف مكسوة بالذهب , ويروى الجد أن العائلة أقامت طويلاً فى إيطاليا , وكانت من قل فى عهد فرديناند وإيزابلا تقيم فى أسبانيا , وتختلط مع إيطاليا ذكريات الأتراك ومع أسبانيا ذكريات العرب فإذا فكر بنيامين الصغير فى الماندولين والمكرونة لدى جده توهم أيضاً منظر العمائم والصدار المزركش بالألوان الزاهية فى بلاد الترف والشمس , وكان أحياناً ينام تحت شجرة فى الحديقة المنظمة على الطراز الإيطالى , ويحلم فيخلق لنفسه مناظر عجيبة خلابة يقابل فيها مخلوقات كاملة الحسن كفارس إنجليزى شاب نجاه من الموت , وأميرة وهب لها حياته , وأنهم الثلاثة تاهوا فى غابة وجن عليه الليل وغشى رفقاءه الخوف , وحينئذ تولى بنيامين الزعامة لأنه كان دائماً هو الذى يدبر وينتصر فى أحلامه . أرسل بنيامين وهو لا يزال صغير السن جدا إلى مدرسة مس روبر , ثم إلى مدرسة القس بوتيكانى , وهى دار محترمة كانت فيها ابنة القس تتولى تدريس الأخلاق وغسيل الملابس , وهنالك تبين له أمر عجيب هو أنه لم يكن من دين زملائه ولا من جنسهم , وأشكل عليه فهم ذلك الأمر , فإن منزلهم المشيد بالطوب الأحمر (بمدخله الإغريقى ودرجاته وسوره من قوائم الحديد أمام الرصيف) إنما هو منزل إنجليزى حقا , وأبوه ذو الطاقية من المخمل الأسود والوجه الوردى الحليق بعناية ولغته الجميلة المختارة هو كاتب إنجليزى , وقد تعلم "بن" القراءة فى كتب إنجليزية , والغانى التى كانت تدفعه إلى النوم فى المهد هى أغانى إنجليزية , ولكن فى هذه المدرسة دفعوه إلى الشعور بأنه ليس كالآخرين , فهو يهودى بينما جميع زملائه إلا واحداً من غير اليهود , استغلق عليه هذا الأمر الغامض , فاليهود مهم الشعب الذى يتحدث عنه الكتاب المقدس , والذى عبر البحر وعاش فى بابل فى الأسر وبنى المعبد فى أورشاليم , فما هى علاقته بهم ؟ فى الصباح إذا ما ركع جميع طلبة الفصل للصلاة جماعة يجب عليه هو واليهودى الصغير الآخر المسمى سرجيوس أن يبتعدا ويظلا واقفين , ويأتى إليهما فى الأسبوع مرة كاهن إسرائيلى يعلمهما العبرية وهى لغة غير مفهومة تكتب من اليمين فى حروف مثل رؤوس المسامير . وعرف دزرائيلى الصغير أن هذه النظم تباعد بينه وبين أسرار الاشتراك , ولها فى أعين أستاذه وزملائه طابعا مضحكا بعض الشئ فتألم لذلك , فهو متكبر ويود لو أعجب به كل الأمور , وإذا لعب التلاميذ لعبة الجياد يأبى أن يكمم . وقد تألم بنوع خاص لأنه لا يحب سرجيوس , ومن المكروه لديه أن يشد هكذا إلى مخلوق قليل الشأن . أما الغلمان الذين اتصل بهم "ن" فلهم شعور شقر وعيون زرقاء , وكانت بديهيتهم أقل سرعة من بديهيته , ولكنه كان يحبهم بمجامع قلبه ويظهر معهم صبراً عجيباً , فمنهم جونز الصغير ابن الطبيب وكان يروى له فى أثناء النزهة بين الدروس قصصاً عن اللصوص والمغاور ويصحبها فى الوقت ذاته برسوم مخطوطة بقلم الرصاص , وإذا أتى بكتاب جديد جلس جونز الصغير إلى جانبه يقرآن معاً , ويبلغ جونز منتصف الصفحة يقرؤها "بن" بنظرة سريعة وقد استعد لتقليبها . ولقد قرأ من قبل فى الكتب كثيراً وسمع عن الكتب من أبيه كثيراً حتى أن علمه بالكلمات صار واسعاً فلا يقف أمام النصوص الصعبة , أما جونز الصغير فيتنهد ويسرع فى التلاوة , فيحرز "بن" متاعب صديقه فيبتسم قليلاً له فى رقة كبيرة : "إنى أستطيع أن يحرز" .

فى المساء فى غرفة المذاكرة يتحدث "بن" وسارة كثيراً فى شأن تلك المشكلة الغريبة بين اليهود والمسيحيين , فلماذا يأخذ الناس عليهما مولدأ لم يختاراه وليس لهما عليه من سلطان , وإذا سألهما أباهما إسحاق دزرائيلى تفسير هذا الأمر هز كتفيه وهو الفيلسوف الذى يعتنق مذهب فولتير , فما لذلك معنى وإن هى إلا خرافات , وهو لا يخجل قط من يهوديته بل هو على العكس يتحدث فى فخر كبير عن تاريخ جنسه , ولكنه يرى من المضحك حقاً أن يحتفظ فى عصر العقل بمراسيم وعقائد وضعت لحاجات وذكاء قبيلة من العرب الرحل منذ بضعة آلاف مضت من الأعوام , وقد حذا حذو أبيه , وفى سبيل مرضاته ظل اسمه مقيدأ فى بيعة اليهود وهو يدفع الرسوم المقررة , وسمح كى لا يدخل فى مناقشة تضيع عليه ساعات من قراءاته بأن يأتى ذلك الكاهن ليلقن ابنه اللغة العبرية , ولكنه لا يعتقد فىأى مذهب ولا يقوم بأية طقوس . على الرغم من من موقفه هذا , بل ربما بسبب موقفه , علم ذات يوم فى سنة 1813 أن يهود لندن الفخورين بمكانته الأدبية اختاروه رئيسا لهيئتهم , فغضب لذلك وكتب لساعته إليهم رسالة شديدة اللهجة قال فيها : "إن رجلا عاش بعيداً عن أوساطكم فى حياة العزلة ولا يستطيع أن يشترك فى صلواتكم لأنها فى حالتها الحاضرة تقضى على الشعور الدينى بدلا من أن تذكيه , وقد اكتفى بأن يحتمل قسطأ من مراسمكم وهو على استعداد للتساهل الكبير فى أمور ليست هامة لديه – رجلا مثل هذا لا يمكن أن تقبل وظائف هامة بينكم لو أن لديه ذرة من العقل والشرف ".

فحكمت هيئة اليهود على ذلك الرئيس برغمه غرامة قدرها أربعون جنيهاً رفض إسحاق دزرائيلى دفعها فتركوه مدة ثلاث سنوات , ثم عادت هيئة اليهود لمطالبته بدفع غرامة , ومات فى هذه الأثناء الجد بعد أن احتفظ تسعين سنة بهدوئه وظرفه على الرغم من زوجة مؤلمة وابن خاب أمله فيه , وبموته قطعت الصلة التى كانت تربط هذه العائلة باليهودية العاملة , لذلك رد مستر دزرائيلى على مجلس اليهود طالباً رفع اسمه من قائمة المؤمنين , فإن هذا الرجل السهل قد ينقلب عنيفاً إذا ما هوجم فى هدوئه .

لم يعد ذلك يهودياً ولكنه لم يصر مسيحياً , وظل فى ارتياح تام لتلك الحالة الوسط , ولكن أحد أصدقائه وهو المؤرخ شرون ترنر لاحظ لديه أن صالح أولاده فى أن يتبعوا دين الغالبية من الإنجليز , فالأبناء خاصة سيجدون الكثير من الأعمال مغلقة أمامهم إذا لم يعمدوا , حيث إن اليهود مثل الكاثوليك محرومون من الحقوق المدنية . كان مستر دزرائيلى كبير الاحترام لأنه أول من درس المخطوطات الأنجلوسكسونية فى المتحف البريطانى , كذلك ألحت عليه الجدة الجميلة الجافة التى لا زالت تحتفظ بذكرى ما قاسته فى شبابها فى أن يخلص أحفادها من علاقة كثيراً ما تألمت لها . اقتنع إسحاق دزرائيلى أخيراً وظهرت كتب العقائد والصلوات المسيحية فى البيت , وذهب الواحد بعد الاخر من أولاده إلى كنيسة سانت أندرو حيث تم تعميدهم .

بلغ بنيامين عندئذ الثالثة عشر من عمره , ورؤى من المستحسن أن يصحب تغيير المدرسة , فإلى أين يرسل ؟ مال أبوه إلى مدرسة إيتون , وخشيت أمه ألا يكون فيها سعيداً , ومن المحقق أن مقابلة إيتون لليهودى الصغير الذى أبدل دينه لا تبعث على الاطمئنان , وأراد "بن" أن يجرب حظه , لكن الحذر تغلب على الوالدين . وحدث أن مستر دزرائيلى كان كثيرأً ما يقابل لدى باعة الكتب القس كوجان وهو يشترى الطبعات النادرة وعرف بأنه الراعى الوحيد من غير أبناء الكنيسة الرسمية الذى يعرف اليونانية , فرحل مثل هذا دائب القراءة لهو رجل كامل , وعلى ذلك تقرر أن يعهد إليه فى "بن" وتربيته .

مدرسة الدكتور كوجان بيت قديم غطته أغصان اللبلاب , وتوجد على حوائط الفصول العارية التى تحوط المقاعد من البلوط لوحات كبيرة كتب عليها "أنا الطريق والحق والحياة" . تجمع حول الكالب الجديد جمهور متطلع وناقد مؤلف من سبعين تلميذاً , فإن ملابسه كانت بادية الأناقة , وقد أثار دهشتهم حسن هندامه الزائد على الحد , ولون بشرته الخالى من البريق مع ميل إلى الاخضرار ووجهه الجميل الأجنبى , نظر إليه هؤلاء الزملاء الجديدون نظرة الاهتمام يخالطها شئ من السخرية , وتطلع هو إليهم أيضاً فى جرأة وقابل هذه النظرة بالنظرة , وتقرر لديه أن يواجههم جميعاً وأن يقابل السخرية بالصفاقة عند الحاجة , وكان يكرر لنفسه إذا غلبه التاثير :"إنهم لا شئ غير بضعة أطفال مماثلين لى فيجب أن أتغلب عليهم" .

أظهرت الدروس الأولى ما فى تربيته من حسنات ونقائص , فكان طلبة المدرسة أقوياء جداً فى اللاتينية واليونانية ويتفوقون فيهما كثيراً على "بن" , وكن إذا ماأخذوا فى الإنشاء والتحرير رأى الكثيرون من الغلمان أنه يفتح أمامهم عالما جديداً من العواطف والآراء , وصار زملاؤه يكررون ألفاظه وعباراته وينقلون أشعاره ليطلعوا عليها أخواتهم وبنات أعمامهم , ونشأت حوله عصبة من المجددين , وعلى الرغم من كراهيته للحركات العنيفة تغلبت على سجيته الأطماع , وعمد بنظام إلى رياضة نفسه للتفوق فى الألعاب الجسدية , فاشتهر بين زملائه , وتبوأ سريعاً مركز منهم مركز الزعيم منهعم مما أسكره , وكان إذا خلا لنفسه أحب أن يصور نفسه فى مركز رئيس حكومة أو قائد جيش , ولابد أن فى ذلك لذة . ولكى يوطد من سلطانه ألف على الرغم من نظم المدرسة فرقة تمثيلية , فهو يحب المسرح حباً شديداً , وعندما أخذه والده إليه للمرة الأولى , وعندما أصغى إلى تلك الأحاديث المتقنة ورأى تلك الحوادث المدهشة تملكته لذة كبرى , فقد وجد أخيراً عالما مؤلفا من مخلوقات توافق مزاجه تقوم بأعمال عظيمة , وتتكلم كما يتكلم أبطال أحلامه . . . ألف فرقة , وكان فيها مديراً ومنظما وممثلا أول , ومضى الأسبوع , وأخذ ينعم بهذه الحياة الجديدة , ويتمتع بسلطته وقد بلغ السعادة الكاملة .

تلك هى حاله فلم ير تجمع العاصفة , وجد فى النجاح لذة ظن فى سذاجة أن غيره يشاركه فيها , ولم يكن حذراً فى إظهار احتقاره لكل بطء فى الفهم , وكأنه على الرغم من مياه التعميد لا تزال بذرة الكفر . وكان ألد أعدائه زعماء الفصول من الطلبة الذين ظلوا يحكمون بلا شريك إلى ساعة وصول هذا الطالب ذى الشعر المرسل فى حلقات سوداء , تضايقوا لسلطانه السحرى القائم على اللذة والذى نما إلى جانب سلطانهم , فافشوا للسيد كوجان أمر مدير الفرقة التمثيلية والتدريبات فى الخفاء . غضب القس كوجان غضباً شديداً , فدخل الفصل وألقى خطبة عن تلك العادات الجديدة الفاضحة , وقال : "لم أر قط فى تلك العائلة التى نؤلفها هنا ما يماثل هذا الأمر , فهى بلا ريب روح غريبة ثائرة لا تستطيع اكتساب عقلية هذه المدرسة وهى التى دبرت هذه الأمور " .

طربت المعارضة والتقطت هذه العبارة , وفى فترة النزهة التى تلت الخطبة هزأ جماعة من الطلبة وهى تمر بجانب دزرائيلى الصغير وصفر أحدهم , فالتفت دزرائيلى وقال فى هدوء : "من الذى صفر؟" . تقدم إليه أكبر زعماء الطلبة وهو يقول : "يكفى ما لاقيناه من قيادة الأجنبى" , فلطمه دزرائيلى بقبضته على وجهه , والتف الطلبة فى دائرة حول المتلاكمين .

كان دزرائيلى أصغر جسما وأقل قوة , ولكنه سريعاً كثير النشاط على قدميه , ولاكم فى فن كبير وفى شجاعة جريئة , ولم يلبث أن أسال دم غريمه , وما كان أشد دهشة طلبة المدرسة عند رؤيتهم زعميهم الشرعى وقد بدا يفقد رشده , وأخيراً سقط , وقابلوه سقوط هذا النظام فى صمت . ربما كان تلاميذ القس كوجان لا يدهشون كثيراص لو أنهم علموا ان المنتصر يتلقى سرا دروساً فى الملاكمة منذ ثلاث سنوات .

3- برومل والقديس أجناس

طلب الدكتور كوجان إلى مستر دزرائيلى أن يسحب ابنه فى أقرب وقت , فعاد "بن" إلى منزله وإلى غرفته وإلى العطف المستمر من أهله , لم يشعر قط غلام مثل شعوره بالوحدة , بأنه سيد على حياته . كان أبوه أكثر رفقاً به , ولكنه كذلك أكثر بعدأ عن الحقائق من ذى قبل , وأمه التى فاقها بمراحل تعجب به فى هدوء وصمت , فلم يجد غير سارة يتحدث إليها عن المستقبل . بلغ الخامسة عشر من عمره , وبرهنت الحوادث أن المدرسة خطرة عليه , وأنه إذا ذهب إلى الجامعة يجد مثل هذا الاضطهاد وهذه الكراهية فماذا يفعل ؟ ولكن قبل ذلك ماذا يرغب ؟ بعد اضطرابات العالم المدراسى الصغير , وذكريات تلك الدسائس والنجاح والحروب المصغرة تبددت الغيوم , وتكشفت له مناظر ملونة وواضحة , وتميز من بعيد مطامع واسعة كما يتميز القادم إلى المدينة من بعيد أبراجها العالية التى تتسلط عليها , شعر ان الحياة لا تطاق إذا لم يصر أكبر الرجال , لا أحد كبار الرجال , وإنما أكبر الرجال فعلا , فالنفس الجريحة لا تطمئن إلى غير الانتصار , إن عليه ثأراً وهو يشعر بانه قادر على أن يثأره , لكن من يفسر له الحياة , وفى أى طريق يسير ؟ هل يكتب ؟ إنه يعرف الإخلاص العميق الذى يكنه جميع الناس لبيرون , لكن الكثيرين من كبار الشعراء بل أكبرهم لم يشتهروا إلا بعد الموت , ولا يحفل "بن" كثيراً بالنجاح الذى ياتى بعد انتهاء الحياة , إنه يريد أن يلمس المجد "فمن يتردد فى أن يصير هوميروس أو الإسكندر" . كان له أخوان أصغر منه سنا , وكانت أمه تقيم الحفلات تجمع فيها الأطفال من سنهما , ويرى فى هذه الحفلات اسكندر المستقبل وهو يمشى ذهابا وجيئة , وقد وضع يديه فى جيوب سرواله الشديد الضيق , وهوباهت اللون حزين عليه مظهر الأسى والقلق فكأنه "جاليفر" بين الأقزام "الليلوبتين" .

النتيجة الاولى التى وصل إليها إذ أخذ فى فحص نفسه فحصاً لا شفقة فيه أثناء الأسابيع الأولى من عودته أن ثبت لديه أنه على جهل تام , وخيل إليه أن من الواجب أن ينشئ عقله من جديد مبتدئاً بالأساس , فوضع خطة كبيرة للعمل , وقرر الاعتزال سنة للتزود من الدراسات . كان أبوه يراه كل صباح بعين شفقة والشك , وهو يدخل إلى المكتبة ويعود محملا بالكتب , وفى كل مساء يخط فى مذكراته بيان ما قرأه : "يوم الجمعة 2 يونيه – لوسيان – تيرانس – الأدلف – ويظهر أنها شيقة – الهنرياد – فرجيل : الكتاب الثانى من القصائد الجيورجية , وهى تبتدئ بابتهال فخم إلى باخوس , ثم تنتقل مع الأسف إلى حديث يبعث على النوم عن تطعيم الأشجار – تحضير اللغة اليونانية – الأجرومية" , وفى يوم آخر : "لا أحب ديموستين على الرغم من أن خطبه مليئة بالفضيلة والوطنية والشجاعة , فالتاريخ يروى لى أنه كان رجلا مخادعا ومتحزبا وجباناً" .

كان هذا الغلام الكبير يتنقل فى سائر غرف البيت وهو يحتذى حذاء المنزل حاملا أكواماً من القواميس , ورجاه بلا جدوى مستر دزرائيلى الذى ألف النظام بان يتخذ مكانا خاصاً لعمله قائلا : "إنى أرجوك يا ولدى العزيز أن تنظم أوراقك بعض النظام" . وإن مما لا يرتاح له مؤلف "عجائب الأدب" أن يرى ابنه وهو ينكب فى شغف على دراسة تاريخ الدسائس فى فينيزيا وتاريخ الأنظمة الدينية الكبرى , فهذا الغلام يسر لكل ما عليه مسحة من الأسرار , وهو دائب البحث فى التفصيلات الجديدة عن الجمعيات السرية وتاريخ "الفهم" ومجلس العشرة واليسوعيين , قرأ مراراً حياة القديس أجناس دى لويولا وأعجب بشجاعته , وكان سؤال أجناس لنفسه : "ماذا أفعل لو صرت قديساً حتى أتفوق فى القداسة على دومنيك وفرنسوا ؟" هو السؤال الذى يسالأه لنفسه عن دبموستين وسيشرون و "بيت" , وأحب الحكمة الاقائلة : "نم نفسك لا من أجل التمتع بل من أجل العمل" . ودرس بنوع خاص كيف جند القديس أجناس تلاميذه وكيف جمعهم حوله . وكان نظام الكنيسة الكاثوليكية يملؤه إعجابا فيقول : "ما أعظم الجمع بين السلطة الروحية والسلطة الدنيوية . . ! أن يكون الإنسان البيرونى أو ريشيليه . . . تلك هى الحظوظ الكاملة" .

حزن مستر إسحاق دزرائيلى لهذه الآراء , كيف ؟ ألهذا وصل ذلك التلميذ الذى غذاه بأفكار فولتير العزيز لديه ؟ وهل يخرج العالم الجاحد عالماً متصوفاً ؟ وهو مع ذلك غريب فى تصوفه لا ينجذب نحو هذه المذاهب فى بساطة واندفاع , بل قد يقال إن العقل هو الذى دفعه إلى الفرار من العقل , هذا ماأثار قلق مستر دزرائيلى , ورأى من الضرورى على الرغم من كراهيته لأى مجهود أن يتدخل وهو يأمل فى أن يوجه ابنه إلى أغراض أبسط وأجدى من الوجهة العملية . وقد عرض عليه مستر ميبلز أحد أصدقائه , وهو محام من المشتغلين بالعقود , أن يتخذ ممن بنيامين كاتماً لسره , وكان للمستر ميبلز ابنة فكر أبواها فى مستقبلها . وانكمشت نفس بنيامين لمجرد تفكيره فى فى أن يدفن فى مكتب محام , وكان يقول : "المحاماة ! ما أسخف هذا ! نصوص القوانين ونكات سمجة إلى الأربعين من العمر , وينتهى المرء إذا صارت الأمور ميسرة إلى الإصابة بالنقرس والإنعام بلقب وراثى , ومع كل النجاح فى هذه المهنة يتوقف على الاطلاع الواسع فى القوانين , ولكى يصير الرجل قانونياً كبيراً يجب أن يتنزل عن فكرة أن يصير رجلا عظيما" , فقال له مستر دزرائيلى : حذار يا ولدى العزيز من محاولة أن تكون رجلا عظيما فى أسرع وقت , إن شبان اليوم لا يريدون ا، يمروا فى مهن بطيئة وشريفة , وإنى لخائف جداً عليهم وعليك " , وقال أيضا : إنه يأسف إذ يرى ولده وقد كون مطمحا بعيدا كهذا لأن نشأته وجنسه يقفلان فى وجهه طرقا عديدة , وإذا فرض أنه على حق فى أن يرتفع فى الطموح إلى مستقبل باهر , فلماذا لا يبتدئ بمشاهدة الناس من ذلك المرصد الجيد الذى هو مكتب المحامى الكبير , وليس هنالك ما يحول دون أن يتخذ فيما بعد طريقاً آخر.

تأثر بنيامين بهذه الفكرة الأخيرة , فهو حقا لا يعرف الرجال , وهو يرغب فى أن يعرفهم , وقذ تعلم من قراءاته أن الكثيرين من أقوياء العقول فشلوا لأنهم أرادوا أن يفكروا وحدهم وتجاهلوا دراسة الجمهور , فمن الواجب أن يختلط الإنسان بالجمهور ويقف على مشاعر هذا الجمهور ومواضع الضعف فيه , ووجد فى خرافة جوبتير الذى تنكر فى زى حيوان لكى ينجح فى بعض أعماله على الأرض مثلا صالحا لهذه الفكرة . دخل مكتب المحامى فى ساحة فردريك , ورأى فى غرفة موكباً من رجال السياسة والمال والتجارة , واستمر فى المساء على قراءاته فى مكتبة والده , وأحيانا يدعوه رئيسه إلى داره فيقابل زوجات صغيرات السن وفتيات . وكان منظره سارا , فله عينان ناعستان وأنفه مستقيم , وله فم عصبى , ولون بشرته ممتقع عجيب وإذا خاطب النساء أو تكلم عنهن يدعى الجرأة وعدم المبالة , وهو ادعاء معقد ناشئ من خوفه من أن يكون مخدوعاً , ومن الحياء الكامن فيه وعدم خصب خياله , ثم عن عمد الظهور بهذا المظهر . وقد قرأ بنيامين قصيدة دون جوان وكان يعتبر بيرون إلها ولا يعرف عن الشاعر غير ذلك الجانب الذى يريد الشاعر أن يظهره . وكان برومل فى ذلك الوقت حديث الناس مع تصنعه وصلفه العجيب , وهو مثال الرجل الذى نشأ فى وسط حقير , فهو حفيد بائع حلوى , ومع ذلك صار ذا تأثير على جميع أبناء الأعيان فى لندن بمجرد الزهو والاحتقار . ولقد عرفنا كبرياء العظماء والأقوياء والعلماء المزهوين , ولكن هذا الرجل المتجمل كان يمثل الكبرياء الطبيعية التى تستمد قوتها من نفسها . وهنالك أمثلة شهيرة تدل على نجاح هذه الطريقة , وأراد دزرائيلى أن يحاول ذلك فى عالم رجال القانون من الطبقة الوسطى فأخذ يسرف فى أناقة الملبس , فثيابه من المخمل الأسود , وأكمام قميصه من الدنتلا , وجواربه من الحرير الأسود برباط أحمر , وأخذ يحدج النساء بعين وقحة ويجيب الرجال وهو يرمقهم من طرف طتفه , واعتقد فى الحال أنه أخذ يرى النتائج السعيدة لهذا المظهر , فأن نساء متزوجات وأحيانا جميلات كن ينظرن إليه فى ابتسامات يحسده عليها بحق من بلغوا الشهرة من الرجل .

كان أبوه كثيراً ما يصحبه لدى جون مرى ناشر الكتب , وهنالك يلتقى بالكتاب المعروفين ويستمع لأحاديث ممتعة لديه , ورأى هنالك صموئيل روجرزوتوم مور صديق بيرون الذى وصل من إيطاليا بعد أن قابل الشاعر , وسأله مستر دزرائيلى : "قل لى هل تغير بيرون كثيراً؟" . فأجاب : "نعم . انتفخ وجهه وتضخم جسمه وشاب شعره . وفقد مظهر النشاط الروحى الذى كان له , وتعطبت أسنانه وقد أبدى أنه يجب أن يأتى إلى انجلترا لاستشارة طبيب عنها" .وأخذ الشاب بنيامين يصغى إلى الحديث بكلتا فإذا ما عاد فى الليل شرع يدون ما سمع . راقب الناس وفى الوقت ذاته راقب نفسه بعين ناقدة , فرأى أن بعض أصدقاء أبيه يسرون لسرعة خاطره وسداد ردوده , ولبعض يستاء لتطاوله , ويراه الكثيرون متصنعا لا يطاق . وحيث إنه لا يستطيع أن يكون مخلصا فى أقواله خوفا من أن يبدو مضحكا فقد أخذ يحيى أحاديثه بالنكات الدائمة , وإذا حاول أن يقلل من القول اللاذع جاءته ذكرى الإهانتات التى تعرض لها فى المدرسة كشيطان يتملكه فيرى أن التهجم خير من الخنوع , فإذا ما جعلت منه مهارته الكبرى فى تصيد سخافات الناس عدواً خطراً أنب نفسه وفرض عليها رياضات روحية كما فعل "لويولا" , وكتب فى مذكراته : "قرار . . أن أكون دائماً مخلصا صريحا ً مع السيدة . . . ولا أقول لها قط غير ما أفكر فيه – ولا سخرية أمامها وإن كانت تعتقد بتفوقى فى السخرية". أخذ يممل مكتب عمله فى ساحة فريدريك , وقالت له الفتاة التى أعدت للزواج منه : "لا . لا . إن لك من العبقرية ما لا يصلح لتلك المهنة وهذا العمل مستحيل عليك " , فأسرع إلى النجاة وكتب يقول :" إن النجاح المتأخر ليس بنجاح , إذ معناه أن يصل الإنسان فى وقت واحد إلى الخلود وإلى الموت , فلنتصور قيصر الشاب وهو يرى ذهاب شبابه فيبكى إذا ما قرأ حروب إسكندر المقدونى وليس انتصار "فرساله" تعويضا كافياً لهذه الآلام , ولنتصور بونابارت وهو رجل مجهول يموت جوعا فى شوارع باريس , فما عذاب سانت هيلانة إلى جانب مرارة مثل تلك الحياة ؟ إن ذكرى العظمة الغابرة قد تضئ أكثر السجون ظلاماً . أما العيش فى خوف من رؤية نشاط خارق للطييعة يضيع تدريجياً دون أن ياتى بالمعجزات , فإن شد المرء إلى عجلة لتعذيبه أو سوقه إلى النطع لا يعادل ما يناله منعذاب مثل هذا الشك " .

قام برحلة إلى ألمانيا ملتمسا الراحة , وقوت هذه الرحلة من عزيمته , إذ شاهد مع والده القصور الصغيرة لأمراء أمانيا , وتلك الجماعات الخلابة السعيدة والمسارح الجميلة حيث يقود الجراند الأمانى جوقة الموسيقى بنفسه من مقصورته , وقوبل بالترحاب , وكانت موسيقى الجند تعزف أثناء الطعام . وطن الناس أن مستر دزرائيلى العجوز ذا الوجه النضر والشعور البيضاء قائد إنجليزى , وسر ابنه فى باطن نفسه فإن الحياة لجمالا وتنوعا لا يسمح بتمضية الشباب فى مراجعة الملفات . وقرر وهو يمخر نازلا فى المياه العظيمة لنهر الرين ويمر أمام تلك القمم العجيبة التى تتوجها أبراج مغطاة بالأشجار المتسلقة أن يهجر تلك الطلاسم عند عودته .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4- أعمال

رأى دزرائيلى فى الأشهر الأخيرة من حياته بساحة فردريك أن الكثيرين من عملاء المكتب يحرزون ثروة سريعة بالمضاربة على مناجم أمريكا الجنوبية . كانت المستعمرات الأسبانية والبرتغالية عندئذ وهى : المكسيك وبولفيا وبيرووالبرازيل على أبواب الثورة , وأيدها الوزير كاننج باسم المبادئ الحرة , وحصل أرباب المال من الإنجيز على امتيازات فى مناجم تلك البلاد , وسر الشعب الإنجليزى لأنه استطاع أن يجمع بين خدمة المبادئ والمصالح , وأقبل على أسهم تلك الشركات فارتفعت ارتفاعاً فاحشاً . وقرر دزرائيلى مع زميل لله أكبر منه سناً أن يضارب علىالنزول إذ رأى ان الارتفاع مبالغ فيه , وضارب الشابان فى مبدأ الأمر بعدد قليل من الأسهم , فلما خسروا زادا من الأسهم واستمر الارتفاع فوجدا أن خسارتهما بلغت نحو ألف من الجنيهات الإنجليزية , فقررا لجرأتهما أن يديرا المدافع وأن يضاربا على الارتفاع .

اتصل دزرائيلى فى أثناء هذه المعاملات بجون وستون باولز أحد أصحاب الأموال المسيطيرين على سوق الأسهم فى أمريكا الجنوبية , فتعجب بالولز كثيراً لذكاء هذا الشاب وهو فى العشرين من عمره وأظهر اهتماماً له , وسر دزرائيلى لوصوله إلى عالم المال فى طبقاته العليا , فالمال قوة حقيقية لأسرارها دائماً سحر فى لبه . ورأى باولز فى مبدأ الأمر أن يعهد إليه فى وضع نشرة عن شركات المناجم الأمريكية وطبعها لفائدة الجمهور , وكان دزرائيلى على جهل عميق بأمور المناجم ولكنه كبير الثقة بنفسه , فما لبث أن جمع المعلومات فى بضعة أيام ووضع مجلداً صغيراً لذيذاً فى القراءة تدل لهجته على الجد العجيب , وحمل الناشر مرى صديق والده على أن يتولى نشره على نفقات باولز . وعجب مرى أيضاً لثبات هذا الشاب الجميل وقوته فى الإقناع , وكان قد رآه فى حفلات عشائه دون أن يهتم له , وما لبث أن اندفع معه فى الحديث , وتكلم إليه فى ود كبير عن مستقبل عمله التجارى , وكان مرى يصدر مجلة هامة "ذى كوارترلى ريفيو" , وأخذ يفكر فى إنشاء جريدة يومية على مثال "التميس" , ورحب دزرائيلى بالفكرة إلا أن مرى بطبيعته رجل متردد حذر , فما لبث أن تراجع فى فكرته , على أنه كان أمام شخص أشد عزيمة منه . ومثل هذه الجريدة هى أقصى ما يتمناه الشاب دزرائيلى , ففيها القوة تحت رداء خفى , فلا بد إذن من إنشاء جريدة كبيرة محافظة , ويدفع رأس مالها ثلاثة : مرى وباولز ودزرائيلى نفسه , أما كيف يسدد هذا الأخير نصيبه فذلك ما لم يفكر فيه وتدبير المال أمر سهل , فما يتبقى ؟ مدير للجريدة ؟ عرضت لدزرائيلى فكرة هى أن يدعى لهذا المنصب لوكهارت زوج ابنة سير ولتر سكوت , ولكنه يعيش فى إسكوتلاندا فليحمل على القدوم إلى لندن . وذهب دزرائيلى ليراه ويقنعه , ولكن الجريدة فى حاجة إلى مراسلين ومطبعة ومكان , كل ذلك يدبره دزرائيلى .

حوصر مرى بالبراهين من كل جانب فلم يستطع المقاومة طويلاً , وتم التعاقد على إنشاء جريدة يومية نصف رأس مالها لمرى والربع لبولز وربع لدزرائيلى . وسافر دزرائيلى على أثر ذلك موفداً إلى اسكوتلاندا , وفى العربة التى حملته قرأ تاريخ فرواسار وشعر بسعادة تامة , وفكر فى غبطة أن المغامرات تأتى لفائدة المغامرين .


أظهر عناية كبيرة فى الاستعداد لهذا المشروع , وانتفع بذكرياته للوسائل التى استخدمتها الجمعيات السرية لديه , وترك لمرى اصطلاحات سرية تمكنه من الكتابة دون أن يذكر الأسماء , فسير ولترسكوت هو "الفارس" . ولوكهارت هو "ميم" والوزير كاننج هو "سين" , ومرى نفسه "الامبراطور" . وما أن وصل إلى أدنبره حتى حمل رسائل اعتماده إلى لوكهارت الذى كان يسكن منزلاً صغيراً بابتسفورد فى الضيعة العظيمة التى يمتلكها حموه , فدعى لمقابلته فى اليوم التالى , ودهش الكاتب حين رأى الداخل إليه غلاماً , فعندما قرأ اسم دزرائيلى كان من الطبيعى أن يفكر فى الأب الذى قابله فيما مضى بلندن . وكان لوكهارت رجلاً جامداً ساخراً يحب التظاهر بعلمه شيئاً ما , ويتباهى بأهمية حمية , فرأى فى كل هذا الششباب إهانة , وقابله مقابلة فى منتهى البرود . شعر دزرائيلى أن شجاعته تخونه , ولكن من طبيعته إذا ما داخلته الرهبة زاد ظهوراً بعدم المبالة , فجلس فى تؤدة وعظمة زادت من عمره نحو عشر سنوات وبدأ يشرح فى هدوء ووضوح تلك الفكرة التى أسماها فكرة جون مرى وهى فى الحقيقة فكرة بنيامين دزرائيلى , ولكنه يعلم جيداً أن رأى شاب فى العشرين من عمره قلما يجد أذناً صاغية , لذلك كان من عادته أن يبتدع الحكم ويعزو إلى الكتاب المعروفين أفكاراً لا يجرؤ أن يعبر عنها بنفسه . وكانت العبارات تتضخم فى فمه , فهو يرى لوجود باولز فى هذه الشركة أنها مؤيدة من جميع رجال المال وجميع ذوى المصلحة فى المناجم وجميع رجالات أمريكا . ومرى اجتذب إليه كما أن الوزارة تسنده , وبالجملة فالصحيفة الجديدة التى اقترح أن تسمى "النائب" هى أكبر مشروعات ذلك الوقت , وحملته رغبته الشديدة فى أن يرى الحياة قصة مغامرات على أن يرسمها بألوان زاهية أكثر مما يجب , حتى إن لوكهارت علىالرغم من قلة ثقته دهش لهذه الحماسة , وفى اليوم التالى قدم هذا الرسول الشاب إلى حميه . كان سير ولترسكوت فى ذلك العهد من أشهر رجال عصره , تحج قوافل الأمريكيين إلى ابتسفورد فيجدون فيه رحابة مؤثرة , وينزهم فى حدائقه الجميلة أو يأخذهم لصيد السمك فى نهر تويد وكلابه إلى جانبه , وقدنما البيت الذى رغب فى مبدأ الأمر أن يكون عشاً صغيراً واخذ يكبر من رواية إلى رواية حتى صار صورة لقصر بارون من أشراف إسكوتلاندا , وهذا الأسلوب من الحياة كبير النفقات جداً , حتى إن ناشرى كتب سير ولتر بدأوا ينوءون تحت ثقل مطالب المقاولين على الرغم من شهرته الواسعة . وقوبل الإسرائيلى الشاب الذى حمل إلى زوج ابنته عرض مركز عظيم مقابلة فخمة من هذا السيد , ففى مكتبته الجميلة وحوله بضعة عشر من كلاب الصيد راقدة على حجره أو مستندة إلى أكتافه , أخذ يصغى فى عطف إلى شرح هذا الشاب الذى أعجبته حماسته وخياله , وكان هو نفسه يحب الأعمال فوافق على الفكرة , ولكنه أصر على أن يكون لزوج ابنته مقعد فى البرلمان , إذ يجب على مدير جريدة عظيمة أن يكون عضواً فيه , فوعد بنيامين بهذا المقعد .

أقام ثلاثة أسابيع لدى لوكهارت , وهو يتعشى لدى سكوت كل ليلة تقريباً , ولاءمته هذه الحياة كل الملاءمة , ففى المساء تغنى آن سكوت بعض أغان عامة وهى تعزف على "الهارب" , أو يروى سيرولتر قصصاً جميلة , وقد سحرهم بنيامين جميعاً وكتب أبوه إلى مرى : "لا يوجد حقاً ما يعاب عليه إلا شبابه , وهو عيب تصلحه تجارب بضع سنين . . . ومشروعاته واسعة , ولكنها قائمة على العقل , وهو إذا انكب على عمل كان جادا فيه " , وكتب مرى إلى لوكهارت : "تركت صديقى الصغير دزرائيلى يسلك طريقه إليك , وأنا على ثقة من أنك ستكشف قيمته سريعاً . . .

وأستطيع أن أقول صراحة إنى لم أقابل شابا تعلق الآمال على مستقبله أكثر منه , فمعرفته بالطبيعة البشرية والجانب العملى لجميع آرائه كثيراً ما يبعثنى على الدهشة من شاب لم يكد يعدو العشرين من عمره . . . وإنى أوكد لك أنه دير بكل ثقة , لأن الكتمان من صفاته , وإذا تحققت فكرتنا العظيمة فسوف نجد فيه صديقاً لا يقدر . . . "

عاد دزرائيلى حاملا موافقة لوكهارت على أن يدير مجلة كوارترلى والجريدة , وأن يمنح مرتبا قدره ألفان وألفان وخمسمائة جنيه فى السنة . وما عاد حتى استأجر مكاتب للعمل ومطبعة , وعين أحد الألمان الذين عرفهم فى كوبلنتس مراسلا , واكد له أن هذه الجريدة ستكون مركز الأخبار فى العالم جميعه , وحصل على مراسلين فى الكثير من عواصم أوربا وأمريكا الجنوبية والولايات المتحدة , وأخيرا اعتقد أن كل شئ يسير فى أحسن حال , وأن ليس ما يحول دون ظهور الجريدة حين هبت على رأس بنيامين أشد العواصف. لم يكن دزرائيلى يعرف ما وراء الستار فى محل مرى , وأهمل الوقوف على وصفه أو استطلاع ما فيه بنفسه , ولم يكن يتصور أن دخول رجل فى مكانة لوكهارت يحدث شيئا من الضجة , على أن جون ولسن كروكر , وهو كاتب وسياسى معروف ووكيل لوزارة الحرب (1), ومن أشهر الأدباء المساهمين فى المجلة ولكنه رجل حرون وذو روح شريرة , (وكان ما كولى يقول : إنه يكره كروكر كما يكره مسلوق العجل وهو بارد ) , غضب غضبا شديدياً عندما علم بلمشروعات التى دبرها ناشره فى خفيه عنه مع صبى فى العشرين من عمره , ونعارك عراكاً شديداً مع مرى , وهذا ألقى اللوم على دزرائيلى واتهمه بأن ثرثرته كشفت عن مشروعات كان يجب أن تكون سرا . وفى اليوم نفسه تقريباً هبطت أسعار الأسهم الأمريكية فى سوق الأوراق المالية هبوطا هائلا , وكانت فكرة الشابين الأولى سليمة , ولكنها سابقة لأوانها , والآن عندما ضاربا على ارتفاع الأسعار حدث النزول الهائل وحاق الخراب بباولز الشهيير فى بضعة أيام , وخسر دزرائيلى وصديقه إفانز سبعة آلاف من الجنيهات . . على ذلك صار دزرائيلى التعس غير قادر الاشتراك فى إصدار الجريدة بصفته من مموليها , ووجد أنه فى العشرين من عمره محمل بديون لا يعلم كيف يفيها , فخسر فى الوقت ذاته أصدقاءه وماله ومركزه , وكان من المستطاع أن يظل على صلة بالمشروع , وهو أمر طبيعى إذ هو محرك الفكرة , ولكن كروكر يمقته , وكان يدهش لو علم الحقيقة هى أن لوكهارت يمقته كذلك , فقد احتمله إذ رأى فيه النفع , ولكنه اعتبر مجرد مغامر , وعلى ذلك أخرج فى بضعة أيام من هذه الشركة التى أنشأها . وكانت حيرته شديدة , فقد عاش شهرين فى جو من النجاح والثناء , وعامله مرى وسكوت ولوكهارت وأبوه جميعا على أنه غلام خارق للطبيعة وظن نفسه معبوداً , وظن ذلك فى سهولة بلا ريب , إذ نشأ فى أسرة تحنو عليه وتعجب به , ولكن نسى هذا الأمر فجأة , وصار الجميع ينظرون إليه فى غضب واحتقار , وكأن الكارثة قد حلت على أثر الانتصار . فالعالم أصعب قياداً مما ظن فى بادىْ الأمر .

عاد إلى داره حزيناً فاقد الشجاعة , وكأن الروابط التى تحرك عقله قد انحلت , على أن والده الذى لم يعرف أسوأ ما فى مغامراته وهو دين سبعة آلاف الجنيه , أكد له أن من المضحك ممن لا يزال فى سنه أن يقول (كما قال) بأن الحياة لعبة خاسرة . وظل بنيامين عدة أيام لا يستطيع أن يأتى عملا غير التفكير فى فشله . ولكن بعد أسبوع قضاه فى راحة وتفكير ومحاولة أن يفهم أين أخطأ , دهش لنفسه إذ شعر برغبة ملحة فى الكتابة أو على الأصح كتابة رواية , فهذه التجربة الأولى للعالم , وهذه الموقعة وهذا الفشل , إن هى إلا مأساة شعر فجأة إلى تصويرها وأن يخلق بطلا يتخذ اسمه كى نفسه لنفسه .

وهو غلام لا يتردد فى التنفيذ ولا يقل فى عجلته لإنهاء الكتاب عن عجلته فى بلوغ المجد السياسى . وكان القناع الذى تقنع به شفاف , وفيفيان جراى بطل روايته هو مثله ابن لكاتب ذاهل عن أمور الحياة يقضى أوقاته بين الكتب , وهو مثله طرد من المدرسة , ومثله الطمع السياسى , وهو كثير الحركة فى غرفته قلق لرغبته فى أن يصير خطيباً كبيراً . وكان المنطق السياسى الأول لفيفيان جراى ما يأتى :"فى هذه اللحظة كم من نبيل رفيع النشأة يباعد بينه وبين الوزارة حاجته إلى الذكاء , وماذا ينقص فيفيان جراى كى يبلغ هذا المرمى ؟ نفوذ ذلك النبيل ؟ فإذا كان شخصان يتمم أحدهما الآخر على هذه الصورة فلم لا يتحدان ؟ أخذ يبحث عمداً عن قوى وغبى , ثم عمل علىالتسلط عليه بالمداهنة , ووجد هذا القوى الغبى فى شخص المركيز دى كراباس , وتمكن فيفيان من إقناعه بأن يؤلف حزبا له ويتولى رياسة الوزارة , وكان فيفيان لا يشك فى النجاح لأن من أول مبادئ مستر فيفيان جراى أن كل شئ ممكن . عنم ! قد يفشل رجال فى الحياة ولكن السبب فى هذا الفشل هو نقص الشجاعة الأدبية والجسدية , ولكن فيفيان جراى يعلم أن فى العالم شخصاً واحدا على الأقل لا يعرف الخوف فى جسده أو فى عقله , ولذلك وصل إلى نتيجة ارتاح لها , هى أن حظه من الحياة لن يكون إلا عظيما" , وبعد أن اتخذ لنفسه نموذجا لبطله جعله دزرائيلى فى شئ من الشدة الواضحة يفشل ضحية الدسائس والأخطاء , ثم أرسله جريحا إلى رحلة فى الخارج محاولا النسيان .

انتهى الكتاب فىأربعة أشهر قبل أن يبلغ المؤلف إحدى وعشرين سنة من عمره , وعلى غير علم من أهله , ولم يكن الكتاب خالياً من الميزات , فكل ما استطاع دزرائيلى أن يلاحظه بنفسه كشباب فيفيان وأبيه والمدرسة كان حياً وحقيقياً , وقد اتخذ فى كتابه لهجة السخرية , ويجد الناقد الفاحص تأثير فولتير وسويفت , وقد صاغ الحوار مما سمعه لدى مرى وسير ولتر سكوت . أما القسم الذى اخترعه المؤلف ففيه شئ من مظاهر الطفولة . كان لعلئلة دزرائيلى جار اسمه محام مستر أوستين متزوج من سيدة ظريفة ذكية وجميلة جداً تحب التصوير , ولها خبرة بالموسيقى , واشتهرت بذوقها الأدبى وقد اهتمت من زمن بعيد ببنيامين , وتحب إذا ما زالت مسز دزرائيلى أن تقابل ذلك الشاب الجميل الذى تراه يوماً وهو راقد علىبساط بهو الاستقبال بين أكوام الكتب , وتراه فى اليوم التالى وقد نزل من غرفته وفى يديه قفازا الملاكمة وهما يغطيان أكمام قميصه المصنوعة من الدنتلا , وفهمت لأول وهلة أن مظهر الخفة فيه لم يكن إلا تصنعاً , وكانت تثق به وهو يثق بها , ويخلع أمامها المظهر الذى اتخذه , فيضع الخوذة والدرع جانباً , ويقلع عن مظهر عدم الاكتراث ويعود بسيطا ومخلصا يبوح بمخاوفه وفشله وغائبه , وعرف فيها الإخلاص , وذلك مايعجبه إذ هو يخشى الحب , فالإسكندر وقيصر لم يبكيا قط راكعين أمام امرأة , والعجيب أنه ظل فى الوقت ذاته عاطفياً , واستمر يبحث (كما فعل فىأحلام الطفولة) عن امرأة عجيبة يقدم لها إخلاصه , وأوجدت لديه مسز أوستين العاطفة النبيلة التى تنشأ من صحبة النساء دون أن تقيد بالقيود التى توجد من العلاقة مع النساء , وهذا حسن جداً .

أسر إليها أنه يعمل فى تأليف رواية فعرضت عليه أن تقرأها وهى مخطوطة بمجرد انتهائه منها , فإذا رأت فيهاالنجاح قدمتها إلى صديقها كولبرن وهو فى ذلك الوقت أكثر الناشرين إقداماً , فأرسل دزرائيلى المسودة إلى جارته الجميلة , وفى اليوم التالى وصلته منها رسالة حماسية , واتفقا لكى يثيرا فضول كولبرن على أن تقدم إليه الرواية من غير اسم المؤلف ولا يعرف هذا الاسم غيرها ودزرائيلى , وزيادة فى الحيطة نقلت الكتاب مرة ثانية بخطها .

كان كولبرن أستاذاً فى فن الإعلان فرأى لساعته ما يمكن أن ينتفع به من مثل هذا الكتاب اللاذع إذا نشر من غير اسم المؤلف , فظهرت فى جميع الصحف والمجلات إعلانات صغيرة تنبئ عن قرب نشر رواية عن حياة المجتمع وضعها مؤلف لا يريد أن يكشف عن نفسه لأسباب ظاهرة , وذكر أن الكتاب يحتوى على نقد لاذع , وأنه مجموعة صور حية يتألف منها متحف أهلى , وأنه يماثل قصيدة بيرون عن دون جوان إلا أنها كتبت نثراً . أعدت هذه الجملة الجهور فكان نجاح رواية فيفيان جراى عظيما , وبيعت نشرات قيل إنها مفتاح لأسماء الكبراء الذين أتخذوا نموذجا فى وصف شخصيات الرواية , وذكر اسم عدد من الرجال الشهيرين على أنهم مؤلفو الكتاب , وصار الكتاب موضوع حديث المجتمعات , وسر دزرائيلى وشريكتها الجميلة سروراً كبيراً .

ولكن حدث فجأة أن اكتشف السر إذ باح به أحد الأتباع , فغضب رجال المجتمعات غضباً شديداً عندما علموا أن المؤلف المجهول الذى امتدحوا منذ شهر ذكاءه ومعرفته بالحياة الاجتماعية الإنجليزية لم يكن غير فتى فى العشرين من عمره بعيد عن هذه الحياة الاجتماعية – واتفق الجميع على أنه كان من السخافة عدم شكهم فى صغر نشأة المؤلف لما يتبين من لهجة الكتاب نفسه , وكل أولئك الذين ظنوا فى أنفسهم أنهم إحدى الصور التى أتخذها المؤلف موضوعا لسخريته وجدوا سروراً فى أن يردوا إليه السخرية مضاعفة مائة مرة . أما الذين اتخذهم المؤلف نماذج حقا فقد اشتد سخطهم , وقد رأى مرى أن المركيز دى كراباس قام فى علاقته بفيفيان جراى فى الرواية بدور يشبه دوره فغضب قلطع فى قسوة عائلة دزرائيلى بأجمعها , ولاحظ أحد النقاد أن "طبقة المؤلف تنم عليها طريقته فى الإصرار على موضوعات ينبو عن ملاحظتها رجل الأوساط الاجتماعية" , وتكلم ناقد آخر عن "الخدعة المخجلة التى كان لها الفضل فى انتشار الكتاب" , واتهم ناقد ثالث المؤلف بأنه حصل على جمهور باحقر الطرق وأكثرها إيذاءً للنفس وسخر طويلا من ذلك الزعم المضحك الذى ينتحله المؤلف ليظهر فى مركز ليس له . . . لما قرأ دزرائيلى هذا الحكم القاسى افلتت الجريدة من يده وغاب فى ذهول محزن , فقد رأى نفسه موضوعا للسخرية وهذا أشد ما كان يخشاه فى العالم , السخرية ؟ . . . لم يبقى أمامه غير الموت . . . حاول أن يضحك فلم يستطع إلا الابتسام فى مرارة شديدة – ما أشد وقاحة هؤلاء الناس . . . أغمض عينيه وبذل مجهوداً كى يخترق وطأة العاطفة الحالية ويصل إلى منطقة التفكير العادل البعيد عن التحيز , هل هو حقا كما زعموا غير قادر على الكتابة وغير جدير بها ؟ فكان جوابه مخلصاً لا – حقيقة إن كتابه متوسط ولكن الخلق الأدبى ضرورى لوجوده , فخيالات طفولته من ملوك وحكام ونساء مؤثرات وجميلات فى مظاهر الترف والنور لا زالت دائماً تملأ نفسه وتريد أن تظهر فى الحياة , وإلى جانب مثل هذه الأحلام كانت سخرية الأغبياء حقيرة الشأن , فأقسم لنفسه أنه على الرغم من سائر العقبات سيكون مؤلفا وأكبر المؤلفين .

عاش منذ سنين تحت تأثير عواطف شديدة , وهو رجل عصبى فتأثرت صحته , ورأته عائلة أوستين مهموما فنصحوه بأن يحقق فى الحياة الفصول الأخيرة من روايته فيفيان جراى فيرافقهم إلى إيطاليا , وقبل ذلك فى سرور كبير . لم يمضى شهر حتى كان قاربه يسير على ضوء القمر فى القناة الكبرى بفنيزيا بينما يرسل القمر أمواجا من الضوء الفضى على تلك البيوت الشرقية المظهر, وتتطاير فى الهواء الساخن نتف خافتة من أناشيد الغرام , وتعزف الموسيقى النمساوية فى ساحة سان مارك , وتخفق ثلاث رايات كبيرة منصوبة على الأعمدة الملونة , وسر دزرائيلى لأن أرض غرفته من الرخام , والستائر من الحرير الأحمر , والكراسى مذهبة , والأسقف مغطاة بصور من رسم تنتوريتو , والفندق نفسه كان فى الزمن الخالى قصراً لعائلة بريبونى التى تولى عدة أفراد منها مركز الرياسة فى جمهورية فنيزيا.

5- العزلة

هدات السياحة من نفسه ولكن الجسد ظل عليلا , فهو يصاب بصداع مستمر يجعل العمل مستحيلا عليه , وتكلم الأطباء عن التهاب فى أعصاب المخ , وقرر أبوه عندئذ ترك لندن واشترى فى بادنهام وسط غابات باكنجهام مشير بيتا ريفياً كبيراً , فبحث الفتى المريض عن العزلة فيه , وفى أبهائه المجهولة وهو جالس أمام المدخنة العالية بين الأثاث وعدد لا يحصى من دواليب الكتب أخذ هو وأخته سارة يتبين موقفه فى وضوح . غلب مرتين على أمره , والعالم الذى أراد أن يقبض عليه بكلتا يديه أفلت مرتين من بين أصابعه , وقد أضاف "شبحاً آخر إلى مملكة الأشباح التى تنشأ من النضوج الخطر قبل الأوان " , ولكن لماذا ؟ إذا كان قد قبل الهزيمة فإنه أراد أن يستخلص العظة منها .

فأولا كان متصنعاً كبيراً محباً لنفسه كثير الخيلاء فى الحياة وفى كتبه . أجل ! ولكن هل هذا خطأ حقا ؟ كل إنسان له الحق فى أن يكون متصنعاً إلى أن ينجح فى الحياة , وكان بيرون متصنعاً أكثر منه , ثم تغلب – ولكن بيرون هو بيرون ويغتفر التكبر فى شاعر كبير المولد – على أن ذلك منطق معكوس , فالتكبر ضرورى كلما كان المولد وضيعا . وعلى الرغم من هزيمته ظل يعتقد أن خيالاته الجريئة خير من الكمال لدى الكتاب المحدثين العاديين والسادة المسندين كالأخشاب , والتجمل الظاهر لديه المسلك الوحيد الجرئ فى الهزيمة أكثر من أى وقت آخر , على أن من المستطاع جعله أكثر إتقانا , فعدم المبالاة المتعمد هو أحسن مظهراً من التصنع الخشن , فالمسألة هى تغيير فى درجة اللون لا فى اللون نفسه .

خطأ أهم من ذلك : لقد أراد أن يتعجل الحياة ويقتطف النجاح اقتطافا, وصدق أبوه إذ قال له : إن العظمة لا تنال فى يوم , ومهما كانت مواهبة عظيمة فهو يتعرف بأنه ليس إلا غلاما فى اللحظة التى أراد فيها أن يعمل كقائد , وهو لم يكن قادراً على أن يدبر الأمور بنفسه , فكان عليه أن يختار زملاء له , وقد أخطأ فى اختيارهم فيجب عليه أن يتعلم معرفة الرجال , ولاسيما كيف يتخلص منهم , ولكن يجب لهذا الغرض الانتظار , فالصبر هو أول فضيلة ينبغى اكتسابها , ومن طبيعته الصبر فى المور الصغيرة , ولكن يجب عليه أن يحول الدقائق إلى سنوات , قد يكون ذلك ثقيلا عليه ولكنه ضرورى له . . . ثم ماذا ؟ إنه أطلق لسانه كثيراً ولفت أنظار خصومه قبل الأوان , فيجب عليه أن يتعلم الهدوء والكتمان والتجلد , وأن يكتسب نوعا من الترفع الجميل المهذب وهو أمر صعب , ولكنه يقف فى سبيل الفضوليين , وإلى ان يتيسر ذلك يستطيع أن يحتفظ لوقت ما بمظهر الخفة على أنه قناع مؤقت , وليقرأ رتز وروشفوكول اللذين هما خير أساتذة هذه الأمور , وليقرأ ويعيد قراءة كل ما يختص بنابليون , ويجب ألا يفضى بسره لأحد حتى أعز الأصدقاء . فإذا انتقل من هذا الحساب الأخلاقى إلى الحساب المالى ظهرت حالة أسوأ من قبل , فقد ربح من فيفيان جراى مائتى جنيه , ولكنه استعملها فى سداد ثمن نشرات المناجم التى طبعها مرى لباولز ولم يعد هذا قادراً عل دفعها بعد أن أفلس , وليس هذا المبلغ دينا عليه ولكنه وهو خال من المال وجد لذة فى أن يكون كريماً , وسدد بعض دون البورصة بما اقتصده شريكه إفانس , ولكن أكثرها سدد بنقود اقترضها من مرابين , وأخذ هؤلاء يرهقونه بالطلب كلما مر بلندن , ولكنه كان لا يخشاهم , بل على العكس يحب أن يدخل عيهم وفى وجهه الفتى الذكى نظرة البراءة , ويجاذبهم الحديث بعبارات تدل على بساطة متناهية ثم ينجو منهم بحيلة عجيبة , والواقع أنه يعرتف بفضل هذه الديون التى توجد نوعا من الحركة فى حياة راكدة , إلا أنه عقد العزم على ان يدفع هذه الديون إلى آخر فلس منها , لكن كيف ؟ لايعرف ذلك على أنه لا يشك فى النجاح , وساعدته سارة على الاحتفاظ بهذه الثة فى نفسه , وأمامها كان يجرؤ على النطق بعبارات لو سمعها آخر لما احتمل ما تنطوى عليه من كبرياء صريحة وحشية , أما سارة فتتلقاها فى هدوء وتقبلها على أنها عقائد . وجد لذة فى التجول معها فى البلاد الجميلة التى تحوط منزلها الجديد , أما حديقة برادنها فهو مسحور بجمالها , وتطل نوافذ غرفته على أراض واسعة مغطاة بالحشائش الناعمة تحدها أشجار الزان , فهذا البيت الكبير وذلك الكبير وذلك المدخل الفخم يرضيان حاجة فى نفسه .

كان فى ذلك الوقت إذا ما عاد إلى لندن رأى بعض الأصدقاء , فقد تعرف بالمراسلة إلى أديب شاب فى مثل سنه , وهو ادوارد ليتون باور , الذى نشر أول رواية له , واسمها بلهام , بعد فيفيان جراى بزمن قليل , ونال نجاحا أكبر من نجاح زميله , وكان بلوار يعيش كدزرائيلى عيشة المترف المتجمل , وقد تزوج من امرأة جميلة جدا, وعاش عيشة فخمة بلا مال , وجمع الأصدقاء فى داره الجميلة بشارع هرتفورد . دعا دزرائيلى , فذهب فى بنطلون من القطيفة الخضراء , وصدار أصغر اللون , وحذاء عليه حلية , واكمام من الدنتلا , وأثار مظهره قلقاً فى بادئ الأمر , ولكن ما انتهى الطعام حتى تحدث الحاضرون , بأن أحسن المتكلمين وأذكاهك هو الرجل ذو الصدار الأصفر . وقد تقدم بنيامين كثيرا فى احديث الاجتماعى منذ عهده بموائد العشاء لدى مرى , وكان يدون على طريقته ملاحاظاته "لا تتكلم كثيرا فى مبدأ الأمر, ولكن إذا عمدت إلى الكلام , كن مالكا لنفسك . وتكلم فى صوت غير مرتفع , وأنت تنظر دائما إلى الشخص الذى تخاطبه , وقبل أن تنجح فى الحديث , ينبغى أن تلم بعض الإلمام بموضوعات تجمع بين التفاهة والتلسية , وهذا سهل بالسماع والملاحظة , ولا تناقش قط , فإن لم يوافقك مخاطبك على رأيك , فلتنحن , وتكلم فى أمر آخر , ففى الحياة الاجتماعية . امتنع عن التفكير , وكن يقظا دائما , وإلا ضاعت عليك فرص عديدة , أو نطقت بما لا محل له . وتكلم مع النساء ما وجدت إلى ذلك سبيلا , فإن هذا خير مدرسة لذلاقة اللسان , إذ تكون فى غير حاجة للانتباه إلى ما تقول . . . . ولا شئ أكثر فائدة للشاب الذى يدخل إلى الحياة , ومن أن ينقده النساء شيئا ما . . . " .

فى بيت بلوار تلقى يعض دروس فى حياة الأديب المتزوج , فقد كان بلوار عندما خطب زوجته عاشقاً متيما , على أنه صار زوجا عنيدا , يغضب بمجرد أن تدخل زوجته مغارة أوراقه , والسيدة بلوار الجميلة امرأة فقيرة , فالزوجان يعيشان من أرباح الروائى , لذلك كان الزوج يؤلف كثيرا ويعمل أكثر مما تحتمله قواه , فصار عصبياً سريع الغضب لا سيما مع امرأته , ولكى يريح نفسه , ولكى يجدد عقله , صار فى حاجة لأن يرى زملاءه وأصدقاءه فى المساء , فهو يدعوهم لديه أو يخرج لرؤيتهم , وكانت مسز بلوار تقول : "من العجيب حقاً أن المؤلفين يبعثون فى نفسى الملل" , وهى لا تحب غير الكلاب , وتسمى زوجها "الجرو" , وهو يدعو الكلبة , ومثل هذا لا يملأ الحياة . ولاحظ بنيامين دزرائيلى , وهو رجل خيالى ولكنه منظم الفكر, أن الزوج الناشئ عن الحب قد يصبح خطرا على الحب .

أما الريف فهو يكتب ويقسم وقته بين الغابات والغرفة , وألف قصتين نقديتين على مثال سويفت أو لوسيان , ورواية عن الحياة الاجتماعية هى "الدوق الصغير" ولم يرض أبوه مستر دزرائيلى عن هذا العنوان وقال لسارة : "الدوق الصغير وماذا يعرف بن عن حياة الدوقات" , وضربت سارة صفحا عن كلام أبيها , والحقيقة أن "بن" لا يعرف عن حياة الدوقات شيئا , إنما يجد لذة فى وصف الاستقبالات فى فخامة ملكية وفرق الخدم فى الملابس القرمزية المحلاة بالفضة , والموائد تغطيها الآنية من الذهب , وأنهار الماس فى أعناق النساء , والمرجان والياقوت يرسل ناراً قاتمة والمأكولات اللذيذة والعربات محملة بالبرتقال والأناناس تصل من مرابى الثمار للدوق الصغير , والسمان – لا سيما السمان – فإن ذلك العصفور والصغير النادر حمل "بن" على كتابة قصيدة من النثر "تلك النكهة العجيبة المقدسة – هذه أخرى ؟ فلتحتذون حذوى – أرجوك : إن الجنة تفتح أبوابها ! آه لو أموت وأنا آكل السمان على نغمات الموسيقى الحلوة " – ومن اللئق أن يكون الشاب الأنيق المتجمل على شئ من النهم وهذا أيضا نوع من الخفة المتصنعة .

اشترى الناشر كولبرن هذا الكتاب بخمسمائة من الجنيهات , فهدأت من ثائرة المرابين وقتا ما . ولم يكن نجاح الكتاب كبيرا ولكن سارة كتبت إليه تقول : "إن القراءة كتابك عوض على شهور الانتظار , وهذا كل ما أقوله , وإنك لتعلم أن قلبى معلق على شهرتك وأينما نذهب نجد كتابك فى الأيدى ويكيل له الناس المدائح ولكنى أعلم أنك لا تهتم كثيرا للنجاح فى العائلة ! . . ." . والواقع أن من الا كتشافات الحديثة لبنيامين أن النجاح العائلى الا قيمة له مطلقا , ولكنه يقبل هذا النجاح إذا لم يجد غيره . كان أحيانا يذهب إلى البرلمان ويصغى للخطباء ويصدر أحكاما فى غير شفقة فيقول : "إن بيل يتقدم فى الخطابة ولكنه من غير أسلوب . . . وسمعت كاننج وهوخطيب عظيم ولكن يظهر لى فى أقواله دائما شئ عادى , وفى مجلس اللوردات أعجب بالدوق فإن فى كلانه نوعا من البساطة الخشنة على مثال "منتانى" مما يجعله غريبا وجديدا ومؤثرا . . . . ويتضح لى شئ واحد أسلوبين مختلفين فى مجلس العموم ومجلس اللوردات , وإنى عازم لو امتد بى الأجل على أن أضرب مثالا للنوعين ففى مجلس الأدنى أتخذ قصيدة دون جوان نموذجا لى , وفى المجلس الأعلى أتخذ قصيدة الفردوس المفقود " .

وعندما يخرج من الشرفات متأثرا حالماً يحاول أن يتخيل كيف تكون يوما ما فصاحته وحجته التى لا تدفع , وعرضه الواضح للوقائع ولا سيما نغمة صوته , نغمة فيها من السخرية والخشونة ما يمزق كالأعاصير , ومن أضواء البديهية ما يلمع فجأة كالسيف القاطع , وفيها موجات من النكات تغرق وتذيب تلك الخطب اللزجة السمينة التى يلقيها السادة الريفيون – وأخيرا تأتى خاتمة الخطبة التى لا تدفع بين التصفيق الشديد من جميع الأحزاب . ويعود إلى نفسه فى شارع من الشوارع الغاصة بالنا , فيه الجياد تسير فى خيلاء على الأرصفة , والمارة يحتكون به غير مكترثين , فإن اسم دزرائيلى لدى كل هؤلاء الانجليز الذين يملؤن الطريق هو اسم غريب لمجهول .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6- الحج

ليست العزلة فى الخامسة والعشرين من العمر مما يمكن الاستمرار فيه , وتجب العودة بطريقة جذابة إلى الحياة الاجتماعية فى لندن , ولكن كيف ؟ فكر دزرائيلى فى ذلك كثيراً , ثم لديه أنه يجب تسبق هذه المحاولة سياحة طويلة فى خارج البلاد , وذلك لأسباب عدة : إن الناس ينسون سريعاً فى المدن الكبرى , فعذة شهور كافية لتمحو من الذاكرة فشل الجريدة أو فضيحة الرواية , ومرى نفسه يكون قد هدأ , وأوجد اللورد بيرون فى الناس ميلا للقصائد التى تصف الرحلات , وتقع حوادثها مطابقة لتنقلات المؤلف وهذا مثل يجب اتباعه , ويستفيد الكاتب من شهرة البلاد التى يمر بها , ثم إنه شعر بالحاجة إلى الطواف بالبلاد التى رأت نشأة أسلافه , ونشأته اليهودية من العقبات الكبرى فى طريقه ولكنها منبع قوة كذلك , ومن الضرورى على أى حال أن يفهم معنى هذا الأمر , لذلك رأى ألا يتبع الطريق العادى للسياحات الكبرى , وهو طريق فرنسا وسويسرا واإيطاليا , بل يذهب مباشرة إلى أسبانيا التى عاش أجداده فيها طويلا , ثم يسافر فى البحر الأبيض المتوسط إلى اليونان وإلى تركيا ويحج إلى أورشاليم . كان وجه الصعوبة فى الحصول على موافقة أبيه الذى ذعر لرحلة تستمر سنتين , ولكن الرجل الكهل هوجم من جميع النواحى , وقد خطبت سارة إلى شاب إنجليزى صديق لأخيها هو وليم مريديث , فأراد أن يرافق بنيامين ويقوم برحلته الكبرى قبل الزواج , على مستر دزرائيلى يؤثر السلم دائماً على الانتصار فلم يلبث أن سلم . وسافر الشابان فى آخر شهر يونيو من سنة 1830 , وتأثر دزرائيلى لسفره , فهو يحب برادنهام وسيدها العجوز فى طاقيته من القطيفة , ويحب ثرثرة أمه والأحاديث الطويلة التى يسرها لسارة وإعجاب أخويه الصغيرين "رالف" "جيم" به وكانا يحترمانه , فلماذا يترك مأوى مثل هذا محبوبا ؟ وكيف يقابله العالم المتسع الأرجاء , وإنجليز جبل طارق ومالطة المتعصبون لجنسهم أكثر من إنجليز لندن أنفسهم ؟ وهو يعرف فى نفسه الحساسية وشدة الكبرياء , ولكنه هز كتفيه وقال : "إن المغامرات من نصيب المغامرين" . وصل إلى جبل طارق وهى المرحلة الأولى فى سياحته , فادهش شبان الضباط لتنوع أزرار صداره ومبالغاته فى الحديث عن عمد , وهو أول سائح يفخر بأن له عصاً فى الصباح وعصاً فى المساء , فإذا ما دقت الساعة لانتصاف النهار غير عصاه , يفعل ذلك عامداً وهو يسخر من نفسه . وقد أعجبته أسبانيا وبيوتها البيضاء ونوافذها الخضراء , وفى كل شئ مثل "لفيجارو" , وفى كل شرفة مثل لروزينا , وعندما زار قصر الحمراء جلس على عرش بنى سريج واتخذ هيئة بعثت الحارسة العجوز إلى أن تسأله : هل هو من نسل عرب أسبانيا ؟ فأجاب قائلا : "هذا قصر" وكأنه يعتقد ما يقول .

وفى مالطة وهى المرحلة الثانية من الرحلة , وجد له منافساً وهو انجليزى اسمه جيمس كلاى رجال الحامية فى لعبة الراكيت , وغلب البرنس بنياتللى فى البيارد , ورجال المفوضية الروسية فى لعبة الإيكارتيه , وكان رجلا يسترعى النظر ولكن يمكن مقاتلته بأسلحة أخرى . وكتب بنيامين إلى أبيه يقول : "لكى يسيطر المرء على الرجال يجب عليه إما أن يتغلب عليهم فيما هم مهرة فيه أو يحتقرهم , و "كلاى" يسلك الطريقة الأولى , وأنا أسلك الطريقة الثانية , وصرنا بذلك معروفين لدى الجميع , وقد نجح التصنع أكثر من ذكاء البديهية , ففى أمس بينما أ،ا أتفرج على لعب الراكيت إذا بالكرة تسقط لدى قدمى فالتقطتها , ورأيت ضابطا شابا فى جلسته جمود فسألته فى خضوع أن يتفضل بإيصالها للاعبين حيث إنى لم أقذف كرة فى حياتى , فصار هذا العمل منى موضوع الحديث اليوم فى نوادى الضباط" . وكان مستر دزرائيلى يهز رأسه ويتساءل لماذا يتخذ ابنه مظهر الخيلاء أمام الناس وهو طبيعى وبسيط فى المنزل ؟ الواقع أن بنيامين حمل الناس على كراهيته فى مالطة حتى أن الضباط عدلوا عن أن يدعوا إلى ناديهم "ذلك اليهودى الصغير اللعين المتبجح " . أما هو فلم يهتم لذلك , وقام بزيارات عديدة للأكابر وهو لابس سترة أندلسية مزركشة وبنطلونا أبيض , وحزاما فيه جميع ألوان قوس المطر, وتبعه نصف السكان , وتوقفت الأعمال فى ذلك اليوم , وجرؤ على أن يزور الحاكم العام فى هذه الملابس وهو رجل جامد قليل الاختلاط , فما أن رآه حتى أخذ فى الضحك وتعلق به , ذلك أن أشد الإنجليز جداً هم الذين يحبون المبالغات , لأنها تبعدهم عن الملل الذى يتغلب على نفوسهم .

ترك مالطة فى زة القراصان اليونانيين , وقميص أحمر بلون الدم , وأزرار من الفضة كبيرة كقطعة الشلن , وحزام حشى بالخناجر والمسدسات , وطاقية حمراء , وسروال أزرق كالسماء مزدان بالأشرطة , وكان يرافقه جيمس كلاى المشهور , وهذا نصر له جديد , ويرافقهما كخادم تيتا الذى قاد قارب اللورد بيرون فى فنيزيا , وهو رجل عجيب من أهلها , قتل بالخنجر رجلين أو ثلاثة , وكان يقنع الفتيات الجميلات ليستسلمن للشاعر, وبعد وفاة بيرون حارب فى صف الينوانيين على رأس فرقة ألبانية , ثم وصل بعد ذلك إلى مالطة لسبب ما , وهو فى بؤس شديد .

احب دزرائيلى الأتراك حب العبادة , فأخذ يلبس العمامة , ويدخن فى غليون طوله ستة أقدام , ويمضى أياما وهو ممد فوق الإيوان , وكانت عاداتهم فى ميلهم للكسل والترف مما يتفق مع جانب التراخى والانقباض فى طبيعته التى طغى عليها النشاط الغربى , وإن لم يقض عليه نهائيا . وقد قال له محمد باشا : إنه ليس انجليزى حقيقيا , لأنه لا يستطيع السير فى هذدوء . وأحب حركة الشوارع الشرقية , وتنوع الملابس والأشخاص , وبهجة الألوان , ودعاء المؤذن للصلاة , والطبل الوحشى الذى يعلن وصول القافلة , والجمل الوقور المزدان الذى يتبعه إطار من الأعراب , وفى مثل هذا المنظر تهدأ المطامع , ويتخذ العالم فجأة مظهراً أكثر عمقا وبعدا عن الحقيقة , وكأننا نعيش فى قصة من قصص الجن , أو إحدى قصص ألف ليلة وليلة . صار المنظر جديا وعبوسا بعد أن اخترق سوريا متجهاً نحو بيت المقدس , وتلونت روحه دون عناء بما يوافق الأ{اضى القاحلة المحرقة , وتعرف إلى بعض القبائل الرحالة , فيجب به شيوخها , وأضافوه فى مضاربهم , وسحرهم ببساطتهم النبيلة , وكما سلوكهم ورقتهم الطبيعة , ووجد لذة كبرى فى التفكير بأن أسلافه منذ ثلاثة آلاف أو ستة آلاف سنة كانوا سادة للصحراء مثل هؤلاء السادة , لإأية عائلة إنجليزية تستطيع أن تفتخر بمثل هذا الماضى العريق فى المدنية ؟

قطع واديا قحلا ليس فيه منابع ولا نبات ولا طير , وفى كل حين يتبين شبح شجرة متعرجة من أشجار الزيتون أمام السماء الزرقاء المحرقة , وعلى حين فجأة , وجد نفسه على حافة هاوية عميقة , ورأى فى أعلى الهضبة المقابلة مدينة حجرية جرداء تحوطها أسوار مسننة , وتشرف عليها بين مكان وآخر أبراج عالية , وكان المنظر شديدا فى خشونته , وهذه المدينة هى أورشاليم , والمرتفع الذى وقف عليه هو جبل الزيتون . أمضى فى أورشاليم أسبوعا , وهو أكثر أيام حياته تأثيراً فى نفسه , وكان تأثره بالغاً , وذهب ليركع أمام القبر المقدس , وأحب أن يفكر فى المسيح على أنه أمير غسرائيلى شاب , ولم يفهم كيف لا يكون اليهودى مسيحياً , واعتبر ذلك وقفة فى منصف الطريق , ونزولا عن مجد الجنس الذى أخرج رباً لهذا العالم . ووقف على قبور ملوك إسرائيل وهو فى حلم , وقد أحب وهو طفل قصة شاب يهودى , وهو دافيد ألروى الذى أراد فى القرن الثالث عشر أن ينقذ أبناء جلدته من تسلط الأتراك , وكان اليهود فى ذلك العصر , على أنهم شعب خاضع , يختارون زعيما بلقب حزين , وهو أمير الأسر , وألروى هو أحد هؤلاء الأمراء , كما أن بنيامين دزرائيلى هو أحد أبناء هذا الشعب , وهو منفى فى بلاد محبوبة لديه , فهلا يكون هو أمير الأسر أيضا ؟ فى هذه الساحة الضيقة المحفورة فى الصخر , وامام هذه القبور التى تكاد مفتوحة , قرر أن يكتب قصة ألروى , وبدأها منذ الغد .

ترك فلسطين إلى مصر حيث قابلل خطيب أخته الذى سبقه إليها , وما وصل إلأآ مصر حتى أصيب مرديث بالجدرى وتوفى بعد بضعة أيام , وأظلم جو العودة بتفكيره فيما أصاب سارة من الحزن , وأقفل الباب على نفسه فى الباخرة وظل يكتب , وعاد محملا بمسودات كتابين أحدهما قصة "ألروى" اليهودية والأخرى "كونتارينى فلمننج" وهى كفيفيان جراى قصة شاب . وقد عبر فى فيفيان جراى عن الطمع السياسى لؤلفها , أما "كونتارينى فلمنج" فهى صورة الشاعر الشاب الذى ود دزرائيلى لو يكونه , وارتاح دزرائيلى لكتابه وكتب يقول : "سأعتبر هذا الكتاب على أنه مثال الكمال فى النثر الإنجليزى وأنه مؤلف فذ" .

على أن الكتاب ليس فذا فإنه كفيفيان جراى يبتدئ ببداية بديعة ثم يضيع بين الرمال , وحيث إن دزرائيلى كثير التفكير فى مغامراته فهو يفشل فى رواياته فى المكان الذى يفشل فيه فى حياته , ولكن كونتارينى مثله يحتفظ بثقته فى نفسه وهو يقبل : "إنى أعتقد فى القدر الذى تنحنى أمامه القدماء , فالفلسفة الحديثة باكتشافتها السطحية خلقت فى قلب الإنسان روح الشك , ولكننى أعتقد أنه قبل زمن بعيد سيعود العلم خيالا , وكلما صرنا أكثر عمقا نصبح أسهل تصديقا , فالقدر هو رغبتنا , ورغبتنا هى الطبيعة . . . كل شئ سر ولكن لا يأبى النضال من أجل رفع الحجاب عن هذا السر إلا الذليل" . هذه هى صورة العالم التى أتى بها دزرائيلى من سياحته فى المشرق , إذ رأى اختلاط الشعوب وتضارب المصالح , وفهم صعوبة المعرفة والتنبؤ والحكمة : كل شئ سر , ولكنه اعتقد على الرغم من تلاطم الأمواج بأن اليد القوية تستطيع أن تتسلط وان بنيامين دزرائيلى بعد رحلة شاقة سيسير بفلكه إلى الشاطئ الذى يقصده بشرط أن يكون قويا شديد المراس . وصل إلى بردانهام فى أكتوبر , وقد سقطت أوراق أشجار البلوط , وظهرت الكهولة على مستر دزرائيلى , وتعب بصره من القراءة فأخذ يتضاءل وكأن عينيه الحالمتين قد أظلمتا , وسارة فى شدة الحزن وهى تقول لأخيها إنها لن تتزوج وستقف عليه حياتها . وخفف وجود تيتا العجيب شيئا من آلام هذه العودة , وحار دزرائيلى الذى أتى به بعض الشئ فى أمره , ولكن أباه لم يكن الرجل الذى يترك بحار اللورد بيرون فى فاقة , لذلك أوجد له عملا لديه غير محدود , ووجد هذا الرجل من أهل فينيزيا ذو الشوارب الطويلة الذى بلل فم الشاعر وهو يموت , وأصغى إلى كلماته "أوجستا . . . أداء . . ." مأوى هادئا , وعاش هذا العملاق الجنوبى فى ظلال السماء الإنجليزية .

7- مذاهب

"كان جديرا أن تصور مدخنة آلة بخارية بدلا من صورة الملكة فيكتوريا على النقود التى ضربت فى عصرها" أوزبرت سيتويل فكر دزرائيلى (وقد قرر أن يكتب اسمه على هذه الصورة من غير علامة تفصل بين الدال وبقية الاسم مما يجعل مظهر الاسم اجنبياً) أثناء رحلته الطويلة فى الحياة وفى تجاربه الماضية وفى مستقبله , وكلما أطال التفكير شعر بأن حياة السياسى هى الحياة التى يجد فيها سعادته الحقيقية . وكان فيما مضى إذا فكر فى الطريق التى يسلكها ردد متسائلا : الكتابة ؟ أم العمل ؟ أما الآن فقد عرف أن المجد الأدبى لا يروى غلته , وصار يقول : "إن الشعر هو صمامة الأمان لمطامعى ولكننى أرغب فى أن أعمل ما أكتبه" , لذلك لم يكن من وجه للتردد فى الطريقة التى يتبعها , ويجب إذن دخول البرلمان , وهذه المهمة صعبة المنال , فنظام الانتخاب الذى وضع فىالماضى لفائدة الطبقة الأرستقراطية يسمح لفتى العريق المولد بأن يصير عضوا فى البرلمان من يوم بلوغه الرشد , لكن يظهر أنه وضع خصيصا لكى يحول دون أولئك الذين ابتدأوا بداية غير نظامية أمثال بنيامين دزرائيلى , وإليك الموقف فى شهر أكتوبر سنة 1831 أمام هذا الشاب المتعجل. يجب أولا التمييز بين نواب المقاطعات ونواب المدن , فنواب المقاطعات ينتخبهم واضعوا اليد المتصرفون , وهو ملاك الأراضى التى يبلغ دخلها أربعين شلنا على الأقل , وذلك فى دائرة انتخاب واحدة فى كل مقاطعة , فلم يكن المرشح يشترى أصوات الناخبين فقط كما يفعل المرشحون فى كل مكان , بل يقوم بنقلهم وإطعامهم وإيولئهم , ومن الملائم أيضا إرهاب الناخبين المعادين له بأن يحضر عصابات مسلحة تمنعهم من الاقتراب من المنصة التى يعطى عليها الناخبون أصواتهم فى هدوء , وكل هذا يكلف نفقات كثيرة , وقد بلغت الانتخابات فى سنة 1827 لمقعدين فى البرلمان عن يوركشير خمسمائة ألف جنيه . ودزرائيلى وهو ليس غنيا إلا بديونه لا يستطيع أن يدفع النفقات الواجبة لشرف النيابة عن مقاطعته , فهذه المقاعد كانت كلها لسراة الملاك الذين يصير لهم الحق في لبس المهماز فى قاعة الجلسات , وزى الركوب الأنيق الذى يوده ليس فى متناوله ويا للأسف ويجب ألا يفكر فيه .

أما أن يصير نائبا عن مدينه فليس أسهل من ذلك كثيراً على الشاب المبتدئ الذى لا يتمتع بصلات قوية , وليست جميع المدن فى البلاد ممثلة , والتى لها حق التمثيل اختيرت بطريقة نظامية قط , ففى عهد عائلة تيودور منح التاج حق الانتخاب للمدن التى يعرف فيها الإخلاص , وفى عهد عائلة ستيوارت ألغى هذا الحق , حتى إن قائمة هذه المدن وقفت فجأة , وهكذا صارت بعض المدن الكبرى التى ازدهرت أخيرا غير ممثلة , بينما انحطت مدن حتى تكاد تمحى من الوجود , وهى التى عرفت باسم "القرى العفنة" كان لها حق التمثيل , وتوجد مدن حق الانتخاب فيها قاصر على ملاك منازل معينة , فإذا ما اشترى سيد الجهة هذه المنازل ضم إليه هذه الأصوات , وفى غيرها كان حق الانتخاب "لأصحاب الغلايات" , أى لأولئك الذين يستطعيون أن يغلوا إناءهم على النار , وفى أماكن أخرى نجد الناخب هو العمدة وطوائف المهن , وهؤلاء لا يزيدون على خمسة عشر أو عشرين ناخباً على الأكثر , ةفى أدنبرة المدينة الكبيرة لا يزيد عدد الناخبين على أحد وثلاثين ناخباً . وذكر شريدان فى مذكراته , وهو مرشح عن ستافورد بيان نفقاته : "248 ناخبا لكل منهم 5 جنيهات و 5 شلنات = 1302 جنيها" , وكان الرجل الذى يثرى فى الهند يحارب صاحب الأملاك المحلى , ويضع الجنيه أمام الجنيه . وقال لورد لانسدوان : "هل يكال اللوم لنحاس له سبعة أطفال , ويعرض عليه نظير صوته ستمائة جنيه ؟" . وامتهن بعض محامى العقود منهة إنشاء النقابات من الناخبين , ثم يذهبون بهم إلى لندن ليبيعوا المقعد إلى الحزب الذى يدفع أكثر من غيره . والمدن التى تعرف بالمدن "المفتوحة" لم تكن مفتوحة إلا للنقود , أما المدن "المقفلة" قاصرة على المقاطعة , ولا أمل للنضال فيها , وصاحب الملك يتصرف فيها لابن أو قريب . وتحتفظ العائلات الكبيرة من المحافظين والأحرار ببضع "مدن فى الجيب" تمنحها للشبان ذوى الذكاء من أعضاء الحزب الذين ترى أن تمهد لهم البداية . وأخيراً كان للوزارة عدد من الدوائر فى أملاك الحكومة , وحق الانتخاب فيها قاصر على رجال مشايعين لها , ودوائر أخرى اشترت فيها الناخبين بالمنح والمناصب , فإذا أضفنا هذه المدن التى عرفت بمدن الخزينة إلى مدن السادة المحافظين تبين لنا أن فى الانتخابات العامة يكون ثلثا أعضاء مجلس العموم معينين دون نضال بواسطة الوزارة , فليس من العجيب إن ظل حزب المحافظين فى الحمك أربعين سنة , وليس من السهل تصور إبعاده عن الحكم . ولكن البلاد أخذت منذ سنة 1815 تتذمر , فإن السلم الذى فتح أبواب إنجلترا لتجارة الول الأوروبية أحدث أزمة صناعية أدت إلى خراب أصحاب المصانع ونزول الأجور , وقوانين الحماية التى وضعت على القمح فرضتها حكومة المحافظين وهى حكومة صغار الملاك فى الرفي , واعتبرها سكان المدن سببا فى ارتفاع الأسعار , وعزى سوء الحال فى البلاد على الأكثر إلى نظام الانتخاب , وأظهر الأحرار مهارة فى اتخاذ هذه الانتقادا أساساً لحملتهم الانتخابية , ووضعوا أنفسهم على رأس حركة يراد بها التوسع فى حق الانتخاب , وقد يقال لهم إنهم وجدوا تلك المدن المتعفنة ومدن الجيوب نظاما حسناً جداً عندما كان يستفيد منها , ولكن الصرخة الحديثة هى المناداة بإصلاح نظام الانتخاب فهو الذى يعالج جميع الأمراض . وقد قال سدنى سميث : "يعتقد جميع الفتيات أنه بمجرد صدور هذا القانون سيجدون أزواجا , ويعتقد لاطلاب المدارس أن الأفعال اللاتينية ستلغى وتصير أسعار الفطائر رخيصة , ويثق جاويش الجيش والأونباشى أن الأجور ستدفع لهم مضاعفة , وينتظر صغار الشعراء ستقرأ , وستتيدد أوهام هؤلاء الأغبياء من بعد , كما تتبدد دائماً . . . . ".

وفى اللحظة التى عاد فيها دزرائيلى من رحلته بلغت الحركة من أجل الإصلاح حد الاضطراب , وصار من السهل التنبؤ بأن الحكومة ستضطر إلى إجراء انتخابات , وهذا هو الوقت الملائم للحصول على مقعد , ولكن كيف ؟ وأين ؟ إن قرية ويكومب مجاورة لبرادنهام وفيها أصدقاء للعائلة وعملاء لها ولكن ويكومب مدينة "جيب" للورد كارنتجون وهو لا ينتظر أن يميل كثيراً لهذا التدخل , ثم فى أى لون سياسى يتقدم المرشح إليها ؟ درس دزرائيلى دراسة طويلة أثناء قراءاته فى شبابه أصل الحزبين الكبيرين اللذي يتنازعان الحكم , ففى سنة 1668 سنة الثورة التى أبعدت عائلة ستيوارت عن الحكم أطلق اسم "الهويج" على أعداء العرش من كبار السادة الذين كانوا يغارون من العرش ومن الاسكتلنديين المتشددين فى تطهير الدين من خصوم الكنيسة القائمة , وهو اختصار من كلمة "هويجامور" وهو اسم جماعة الفلاحين الذين ثاروا فى غرب اسكتلاندا , فكان معنى الاسم يدل على العداء للملك , وأطلق هؤلاء على خصومهم من أنصار الملك اسم "تورى" وهو اسم يطلق على قطاع الطرق فى ارلندا , وذلك لكى يدل على أن خصومهم ليسوا إلا أتباعا للبابا , وأنهم لا يقلون حقارة عن الإرلنديين – وكما يحدث كثيراً قابل الذين أطلقت عليهم هذه الأسماء بالفخر , وصارت نداء حرب لهم .

انتهى ما كان يفصل حقيقة بين الحزبين بانتهاء حكم آل ستيورات , ولكن الأحزاب تعيش بعد موت المبدأ الذى تخدمه , وظلت بعض العائلات الكبرى من نسل الثائرين تتوارث تقاليد "الهويج" , وهى تقاليد الاستقلال والمناهضة للتاج والتحالف مع رجال المذاهب الدينية المعارضة , وكثيراً ما اعتنق هؤلاء مبادئ حرة خالصة , وفى الوقت ذاته ظل السواد الأكبر من صغار السادة فى القرى وأصحاب الزراعات محافظين من "التورى" مخلصين للملك والكنيسة القائمة .

جاءت الثورة الفرنسية وبعدها حروب نابليون , فارتبطت فكرة الحرية بالمقصلة ارتباطا وثيقاً فى عقل الشعب الإنجليزى , وأدى ذلك إلى أن تولى المحافظون السلطة مدة طويلة , وظل الأحرار مكتسحين إلى سنة 1815 . حتى إذا أعاد السلم حب الانتقاد إلى النفوس وحدثت الأومة الصناعية واشتد القلق نما الحزب الذى ينادى بالإصلاح , وترعرعت قوة الأحرار إلى سنة 1830 فى انتظام , وصارت على أثر ثورة يوليو الفرنسية قوة لا تدفع , فالدوق ولنتجون زعيم المحافظين وأحب الناس إلى الشعب فى إنجلترا بعد معركة واترلو , رأى الغوغاء فى لندن تقذف بيته بالأحجار , وتقول الناس على هذا الجندى القديم بأنه على اتفاق مع بوليناك , واتهموه بأنه يرغب فى قلب نظام الحكم , ورفع العلم المثلث الألوان فى لندن وفى برمنجهام , وأحرق الفلاحون فى الريف أكوام سادة القرى من الهشيم , وحاصر عشرة آلاف من العمال قصر سان جيمس , وصفر الجمهور فى الشوارع استهزاء بالأساقفة الإنجليز الذين قاوموا الإصلاح الانتخابى بأصواتهم فى مجلس اللوردات , فصار الأساقفة لا يجرؤون على الظهور فى الشوارع .

صار اللورد جون رسل الضئيل الجسم , وزعيم الأحرار الإصلاحيين , معبوداً للشعب , وكان الناس يعجبون بإحدى عبارته ويتناقلونها , وهى قوله :"إذا ما سئلت , هل الشعب جدير بالحرية ؟ أجيب سائلا , هل هنالك رجل جدير بأن يكون مستبد ؟ !" , وكان إذا مر فى الطريق اصطف أهل القرى للهتاف له . وبالجلة , إذا حلل المرء الأمور فى سنة 1831 , بدا له من صالح من يتصدى للترشيح أن ينضم للأحرار , ولكن عائلة دزرائيلى من المحافظين , والمحافظون فى التاريخ من أنصار عائلة ستيوارت , التى شفغ بها مستر إسحاق دزرائيلى , وكان دائما يعلم ابنه أن الأحرار جماعة من الثوار انتقضوا على ملك شهيد , ثم إن دزرائيلى رفض أن يبدى تحمسا مناسبا لمبادئ الأحرار ورأى أن القانون الانتخابى الجديد وضع بعناية طبقة من التجار ورجال الصناعة , وهم قوم قليلو التأثر , يحسبون لكل شئ حسابا , وهم بطبيعتهم مؤيدون للأحرار أما الزراع المحافظين , وليس الغرض قط هو سماع صوت الشعب الحقيقى , فهو لا يحب ذلك الخلف بين أولئك السادة الكبار من أصحاب الأملاك الذين لا يتورعون وبين كبار رجال صناعة القطن الجشعين .

فالنظرية السائدة فى ذلك الوقت بين "الهويج" وحلفائهم , هى النفعية التى ولدت نتيجة اندفاع مقاوم للروح الخيالية بين الطبقات المتوسطة , فقد رأى هؤلاء اى طريق يؤدى الشعر وتؤدى العواطف , وأية اضطرابات نشأت فى فرنسا من تعاليم روسو , وأية فضائح نشأت عن قصائد بيرون , وادى بهم اكتشاف الآلات المسيطرة بالبخار والآلات الميكانيكية وتقدم السكك الحديدية , تقدما عجيبا , ونمو المناجكم الإنجليزية , إلى الثقة الشديدة فى التقدم المادى , ولقنهم الاقتصاد السياسى , وهو العلم الجديد , أن العلاقات بين الناس ليست أدبية , وليست واجبات , وإنما تحكمها قوانين لا تقل ثباتاً واستمراراً عن قانون سقوط الأجسام وحركة النجوم , فصار قانون العرض والطلب إنجيلا لهم , والآلات المتحركة معبودا , وصارت مانشستر مدينتهم المقدسة .

ودزرائيلى واصف الغابات الواسعة والحدائق المزهرة والدور الفخمة يكره رائحة الفحم هذه , ويضايقه الاقتصاد السياسى , ويأبى أن يصدق أن رجالا من لحم ذوى وجوه حية , ومنهم الأبطال لديه من أمثال رتز ونابليون ولويولا , محكوم عليهم بأن يتشاركوا كالذرات الحقيرة لكى ينتجوا أرخص أنواع المنسوجات القطنية فى عالم على أكبر ما يكون من الغنى .

ثم هل رحب به "الهويج" إن آراءهم فى الحرية لا تمتد إلى انتخاب أصدقائهم , وحب الحرية لديهم قاصر على جماعتهم , وقد يصير المرء عند الحاجة محافظا ولكن يجب أن يولد من "الهويج" , ورأى دزرائيلى وهو مشبع يقراءاته عن فينزيا أن المملكة إذا حكمها "الهويج" انقلب الملك إلى "دوج" وإلى جانبه مجلس العشرة . إذن هل يجب أن يتقدم للتورى" ؟ إن معنى ذلك يتبع وهو فى سن العشرين آراء عتيقة , وأن يكون تحت لواء زعماء يصغر لهم الجمهور فى الشوارع , وأن يقبل ثقل الأخطاء التى ارتكبت فى خمسين عاما , وأن يحكم على نفسه برفض أى نوع من الإصلاح ولو كان معقولا . أليس من الأصلح أن يحذو حذو بلوار وينضم إلى "الراديكاليين" فيكون مقاربا "الهويج" ويحاربهم بسلاحهم ؟ "الهويج" أم "التورى" أم "الراديكاليون" ؟ إن الاختيار لصعب , وأسهل طريق أن يحصل على دائرة قروية لسيد كبير وكريم , وهذا ليس مستحيلا , ولكن من الضرورى أن يعرف بين أولئك الذين فى مقدورهم هذه الهبة , ومن الضرورى قبل كل شئ أن يدخل عالم السياسة , وكان عالم السياسة فى إنجلترا سنة 1831 لا يختف عن العالم الاجتماعى . ودخول البرلمان هو حديث المجالس , وفى هذه المجالس يجب أن يظهر ويجب أن يتناول عشاءه لدى الدوق أوف ولنتجون , ومع سير روبرت بيل وزعماء حزب "التورى" ومع لورد ملبورن ولورد جون رسل وغيرهم من كبار "الهويج" , ومع اللورد درهام كبير الراديكاليين , فحول المائدة ببلورها الذى يعكس ضوء الأنوار وحولها النساء الجميلات يوزعن بين المفاوضات ابتساماتهن , هنالك يتقابل الذين فى أيديهم توزيع السلطان . إذن فليتمسك إلى حين بمظهر الهزل كى يحصل على الحق فى أن يكون جاداً .

8- فتح لندن

"وظهر أن ساقاً جميلة جداً ولم أكن أعرف ذلك من قبل" ... من رسالة دزرائيلى

كان لغيابه نتيجة منتظرة , فلم تعد لندن تعرف شيئاً عن دزرائيلى الفتى إلا أنه أديب من ذوى المواهب , فتى جميل جداً يرتدى ملابس تلفت النظر , وأنه عاد من الشرق وفى حقيبته عدد من القصص التى يلذ سماعها , وأنه لا ينتظر غير دعوة ليطرح ما يهم سماعه , وجاءت هذه الدعوة بطبيعة الحال من أدوارد بلوار . ولبلوار مطامع كبيرة كدزرائيلى وهو أكثر حظاً من جهة المولد , لذلك تقدم على صديقه كثيراً فى هاتين السنتين الأخيرتين , وفى الزمن الذى نشر فيه دزرائيلى رواية "فيفان جراى" نشر بلوار رواية "بلهام" . ومن المستطاع ان نقول إنهما ابتدآ السباق من خط واحد , ولكن بلوار أحسن العمل لشهرته فى الشباب أكثر من دزرائيلى , وفى أبريل سنة 1831 انتخب عضواً فى البرلمان وجلس بين الراديكاليين المتطرفين , وأوجدت له كتبه جمهوراً وصار مديراً لمجلة معروفة . على ان هذا البناء الظاهر الفخامة يخفى تحته صعوبات منزلية خطيرة , فهذه النتائج المثمرة لم يصل إليها إلا بعمل متواصل ضحى فى سبيله كل شئ , ولا سيما بمسز بلوار , وشعرت المسكينة أنها فقدت زوجها للأبد , وكانت إذا رأته على انفراد (وقلما يحدث ذلك) تشكو إليه حالها , أما أمام الناس فيظهران بمظهر الوئام التام . تسلم دزرائيلى بعد أسبوعين من عودته رسالة من بلوار يقول فيها : "عزيزيى دزرائيلى . . . إذا لم أكن بين أوائل الذين يهنئونك على عودتك سالماً فاسمح لى بألا أكون آخرهم , وإنى لم أعهد بهذه العودة إلا من كولبرن صديقنا وناشرنا المشترك إذ قال لى : إن مستر دزرائيلى قد عاد يا سيدى إلى المدينة – أقصد مستر دزرائيلى الشاب , فهل لا يستطيع أن يكتب لنا مقالا طريفاً عن رحلته ؟ وسأتكلم معك فى دارك . . . وقد وهبتنى مسز بلوار فى هذا الصباح ولداً كما يقول الناس اللبقون وهذا عذر لى فى قصر رسالتى , ولكن اكتب إلى وأخبرنى كيف حالك . . . " .

بعد بضعة أسابيع استأجر دزرائيلى شقة منفصلة فى منزل بشارع ديوك , وكانت سارة تعف أن أخاها يشعر بضيق إذا حرم من الأزهار فأرسلت إليه بضعة أصص من أزهار العطر اعتنى بها اعتناء المحب , وعلى أثر ذلك ذهب للعشاء عند آل بلوار , وكان البيت والمائدة مزينتين زينة زائدة عن الحد , وجلست مسز بلوار وهى فى غاية الجمال والأناقة فى حجرها كلب "ليس أكبر من عصفور الجنة ولا يقل عنه بريقاً" , وقدمت الشمبانيا فى أكواب ولم ير دزرائيلى مثل ذلك من قبل , فظهر له هذا العمل نهاية فى الأناقة , وكان الحاضرون جديرين بما حولهم وهم من ذوى الأسماء الكبيرة والجمال الكبير والعقول الراجحة , واسترعت نظره بوجه خاص مسز نوروتون الجميلة وهى إحدى حفيدات شريدان والكونت الفريد دورسيه , الذى وصل لندن أخيراً واحتل مركز الصدر بين ذوى الأناقة فى تلك العاصمة وهو مالم يفعله فرنسى من قبل .

طلب الكثير من النساء أن يتعرفن إلى مؤلف "فيفان جراى" و "الوق الصغير" , وأصرت مسز زندهام لويس زوجة أحد أعضاء البرلمان على ذلك , وكتب دزرائيلى فى رسالة إلى أخته يصفها بقوله : "هى امرأة جميلة ضئيلة الجسم محبة للغزل , تتكلم كثيراً ولها فى الكلام سرعة لا أعتقد لها مثيلا ولا أستطيع أن أعطيك فكرة عنها , وقد قالت لى إنها تحب الرجال الصموتين الميالين للتفكير الحزين , وأجبتها أنى لا أشك فى ذلك" . دعته مسز نورتون إلى منزلها فقدسرها , على أنه لم يتكلم إلا قليلا , ولكن كلامه استرعى الأنظار وهى فى حاجة لمن يحسن الحديث , وكان من عادة الإنحليز فى ذلك الزمن أن يستعيضوا عن ذكر اللفظ الدال على الفعل فى عباراتهم بحركة أو إشارة , أما هذا الفتى صاحب العبارات القليلة التامة فقد قضى على هذه العادة السائرة فى الحديث .

ذهب إلى كارولين نورتون فى سترة من القطيفة السوداء وبنطلون أصفر مزركش بالذهب , وصدار أحمر , وخواتم براقة لبسها فوق قفاز من جلد الماعز الأبيض .

ويسكن آل نورتون شقة فى "ستورى جيت" بلغ من ضيقها أن الأريكة الكبيرة فى غرفة الاستقبال ملأتها , وغطيت النوافذ بستائر من الموسلين الأبيض وهى تؤدى إلى شرفة غطيت بالأزهار , ومن هذه الشرفة كانت مسز نورتون تطل فى كل صباح لتحى صديقها الشهير اللورد ملبورن وهو مار فى طرقه إلى البرلمان , ويروى أن نورتون احتمل هذه الصداقة العاطفية لأنه وجد فيها نفعا .

كانت هذه الغرفة الصغيرة غاصة بجمهور من رجال السياسة ومشاهير الأدباء , ومزدانة فعلا بجمال عائلة شريدان الباهر , وعلى مقعد جلست الأم التى قيل عنها إنها ظلت ذات جمال لا يضارعه جمال أية امراءة فى العالم عدا بناتها الثلاث وهن مسز نورتون ربة المنزل , ومسز بلاكوود , وأجمل الثلاث جورجينا لادى سيمور , ويتضاءل جمال أخواتها أمام جمالها . ولمسز نورتون شعر أسود تعقده فى جدائل حول رأسها ولها ملامح يونانية جميلة , ويحمر وجهها أحياناً بطريقة بديعة جداً , فإذا مستها عبارة من عبارات الحديث اصطبغ وجهها فجأة بلون وردى يمتزج بلونها العادى الذى فيه شئ من خضرة الزيتون , ويظل هذا الاحمرار لحظة ثم يختفى , وفى عينها وفى فمها من البريق , حتى كأنها صنعت من الأحجار الكريمة من الماس أو الزمرد أو الياقوت – أما لادى سيمور فتختلف عن ذلك كل الاختلافات , فهى شاحبة اللون , رقيقة , بعينيها بريق حلو يجعلهما مثل النوافير فى ضوء القمر , وإذا ما أشار أحد الناس فى حديثه مع مسز نورتون إلى العاطفة التى نشأت عن مجموعة هذا الحسن الكثير نظرت إلى غرفتها الصغيرة ثم إلى عائلتها البديعة وقالت فى ابتسامة الرضا : "أجل إننا القوم على شئ من الجمال" . كان حديث مسز نورتون كالسحر لدى دزرائيلى , وطريقتها بديعة فى إلقاء القصص الخارجة , إذ تخفض حياء تلك الجفون بأهداب طويلة كثيفة , وكتب دزرئيلى إلى سارة يقول : "تعشيت أمس لدى آل نورتون بمناسبة ذكرى مولد أخيها الكبير الذى تقول عنه إنه الشخص الوحيد الجدير بالاحترام بين أفراد العائلة إذ هو يشكو مرضاً فى الكبد . . ." , وأختها مسز بلاكوود جميلة جدا وخليقة بجدها شريدان , وقد أخبرتنى أنه لا خير فيها قائلة : "إنك ترى أن جورجى أجملنا وأن كارى أذكانا , وكان يجب أن أكون أكثر الجميع طيبة , ولكنى لست كذلك " , وأنا كبير الميل إليها وهى فضلا عن ذلك تعرف مؤلفاتى عن ظهر قلب , وتحفظ صفحات كاملة من روايات فيفان جراى , وكونتارينى فلمنج , والدوق الصغير . . . " .

ما لبث أن صار للجميلات الثلاث حفيدات شريدان دور هام فى حياة الؤلف الشاب , فهن الثلاث مرحات , وسرت مسز نورتون للتخلص نت زوج لا يحتمل , وكانت تحب أن يلازمها دزرائيلى فى الذهاب إلى المسرح أو المرقص وهو يلذ له أن يظهر فى صحبتها .

كان للندن فى تلك الأيام سحر مثل الذى نجده فى صور "واتو" فهى لا تخلو من حفلات العشاء والرقص والنزهة النهرية , واشترك دزرائيلى فى كل شئ , فهو مسل وهو يصحب جميلات وقد عاد حديثاً من رحلة فى الخارج , فكان أصحاب هذه الحفلات بيحثون عنه , وكتب يقول : "إننى اخترق طريقى بسهولة إلى أعلى المجتمعات حيث لا حسد ولا ضغينة ولا غيرهما , وحيث يعجبون ويتسلون . . ." . وكانت منضدة "ديزى" (كما أحب أهل حى مايفر أن يلقبوه) مغطاة بدعوات الوجهاء , وكان يقبلها مسرورا. وفى هذا العالم الخلاب الذكى الودود , شعر أنه فى المحيط الظرف الطلق الجرئ فى هاته الفتيات وهؤلاء النبلاء , ووجد أصدقاء أحلامه فى أولئك الشبان ذوى الشعور الشقراء , وهؤلاء الإنجليز المرنين الفخمين , وهاته الإنجليزيات الجميلات من أصل عريق , وتمتع بترف هذه المنازل وجمال الأزهار وبريق النساء , وذاب تكبره على الأقل سطحياً , واكتسب ثقة فى نفسه , وعاش فى حمى اللذة , فكتب إليه والده يقول : "أود لو أن طبيعتك تسمح لك بكتابة رسائلك فى هدوء أكثر مما تفعل " , ولكن "بن" كان غير قادر على كتابة رسالة هادئة مطلقاً فهو ثمل بجمال الحياة .

دفعه شغفه الكبير بالتاريخ إلى البحث عن الكهول فصار من أقرب صديقاته إليه لادى كورك العجوز , وكانت على الرغم من بلوغها سبعاً وثمانين سنة تدعو لديها ضيوفاً فى كل مساء , وهى اجمل العجائز وأكثرهن تسلية , وقد اختفى لأبطال وبطلات شبابها ونضوجها وكهولتها من الأحباء ورجال الجيش والشعراء , ورأت الثورات فى كل بلد فى العالم , وهى تتذكر برايتون عندما كانت ميناء صيد , ومانشستر عندما كانت قرية , ولكنها ظلت على عادتها نشيطة ومرحة ومتعطشة للتسلية ولمت هو جديد , ووجدت فى هذا الشاب ذكاء وحباً للاستطلاع فوهبته حمياتها وهى حماية قوية فى عالم الاجتماع .

كتب إلى رسالة يقول : "من القصص الجيدة الطريفة أن أقام لورد كارانتجون فى يوم الاثنين بزيارة للادى مورك (وجرى بينهما هذا الحديث) :

- لادى كورك : أتعرف دزرائيلى الشاب ؟

- لورد كارنتجون : آه ! أظن ! لماذا !

- لادى كورك : أليس جاراً لك ؟

- لورد كارنتجون : أبوه جارى .

- لادى كورك : أعرف ذلك فإن أباه من أعز أصدقائى . وإنى شديدة التعلق بعائلة دزرائليى .

- لورد كارنتجون : إن الشاب شخص شاذ , أما الأب فأميل إليه لأنه شديد الهدوء ووقور .

- لادى كورك : لماذا ترى أن الشاب شخص شاذ , إنى على كل حال لا أنتظر أن مثلك يستسغيه .

- لورد كارنتجون : إنه كثير الحركة ولكنه لا يتعبنا الآن كثيراص , فإنى أعتقد أنه سافر الآن إلى الخارج .

- لادى كورك : (حرفياً) إنك عجوز أبله , لقد أرسل لى فى الصباح هذا الكتاب ولا حاجة بك إلى النظر فإنك لا تفهمه , وهو خير ما أخرج من الكتب . أتظن حقاً أنه سافر إلى الخارج ! إنه فى أحسن المراكز فى لندن ولا تستغنى عنه حفلة من الحفلات , وتقول الدوقة هاملتون إنه ليس له مثيل , واللادى لونسديل على استعداد لتقديم رأسها وأكتافها من أجله , وهو لن يتعشى لديك لو دعوته , فهو لا يهتم للناس لأنهم من اللوردات , بل لا بد من الأناقة أو الجمال أو الذكاء أو ما ماثله , وإنك لرجل طيب جداً ولكنك لست أكثر من ذلك . وقابل اللورد كلامها مقابلة حسنة وضحك منه . وقد قرأت لادى كورك كل سطر فى كتابى الجديد , ولا أشك فى إخلاصها فى الإعجاب به , لأنها أنفقت سبعة عشر شلناً فى شراء قطيفة حمراء وخادمتها تقوم بتجليده . . . ". وهى قصة لتلسيلة سارة بلا شك ومن عدم الحكمة تصديق كل كلمة فيها . وكانت العائلة فيما يتعلق بنجاح بنيامين تحتمكل عادة الصورة القوية الألوان , وهو يعرف جيدأ أن سارة وهى تقرأ هذه العبارات تحسب حساب "بن" فى قوة تصوراته على ان تأكيد النجاح يطمئنه .

وكان جميع أفراد الأرستقراطية الإنجليزية يجتمعون ليلا فى محل "الماك" وه تاد خاص للرقص ترعاه أكبر السيدات مقاماً وتنفذ فيه أدق القوانين , فلا يدخل إليه إلا فى بنطلون قصير وجوارب من حرير , وحاول الدوق أوف ولنجتون مرة أن يدخل وهو فى زى آخر ولكن البواب تقدم إليه وقال : "لا يمكن دخول سموك بالبنطلون العادى" , وعلى ذلك سلك الوق مسلك الجندى الذى اعتاد النظام وعاد من غير شكاية . وصار دزرائيلى دائم التردد على "الماك" الذى ترتب فيه الكثير من الزيجات واقترحت عليه عقود زواج مغرية فيكتب يقول : "خبرينى هل ترضين بلادى . . . زوجة لأخيك ؟ هى ذكية جداً ومعها 25 ألف جنيه وهى من اللاتى يألفن البيت . أما الحب فكل أصدقائى الذين تزوجوا للحب أو الجمال إما يضربون زوجاتهم أو ينفصلون عنهن , وهذا هو الواقع حرفياص , إننى أرتكب أعمالا جنونية كثيرة فى حياتى , ولكنى , لا أتزوج من أجل الحب فإنى أرى فيه ضماناً للتعاسة" .

أدى رضاء النساء عن دزرائيلى إلى رضاء الرجال , ودعاه البعض منهم إلأى حفلات غذاء سياسية وذلك أقصى أمانيه . وفى ذات مساء فى دار اللورد اليوت وجد نفسه جالساً إلى جانب سير روبرت بيل الزعيم العظيم لحزب المحافظين , وكأن جميع الجالسين على المائدة قد أصابهم الذعر , وفحص دزرايلى فى فضول النهم ذلك الرجل الشديد القوى الذى أغدق عليه الحظ منذ صباه كل ما يطمع فيه دزرائيلى . فهو ابن لأحد كبار الصناعة وأحد السبعة الذين يمتلكون أكبر ثروة فى إنجلترا , لذلك ربى منذ طفولته على أن يصير رئيس وزارة , ففى سن الخامسة كان يرفع ليقف فوق المائدة ويكرر خطباً , وعاد من جامعة أكسفورد وهو الأول مرتين فى الآداب القديمة وفى الرياضيات , وذلك مالا يحدث إلا نادراً – وفى الواحد والعشرين من عمره اشترى له أبوه مقعداً فى البرلمان , وفى الثالثة والعشرين من عمره صار وزيراً وظل الناس وقتاً ما يلومونه على إنكار لجميل كاننج حيث حاربه بشدة حتى الموت بعد أن كان له صديقاً , ولكن عالم السياسة نسى ذلك , والآن وهو فى الثالثة والأربعين من العمر صارت له مكانة عجيبة حتى بين خصومه , وصار رمز المانة والصلابة الإنجليزية , واستحسن الناس طول قامته والشدة الرومانية فى ملامحه , وقبلوا تكبره وبرود معاملته , ولكن دزرائيلى فاجأ فيه حركات عصبية ناشئة عن حساسية تبلغ حد المرض ولكنها طبيعية فى رجل اعتاد السلطة , وتحقق لدى دزرائيلى أن من الصعب المعيشة مع هذا الوزير , ولكن فى ذلك المساء قرر يبل ان يتظرف مع الناس وعامل الأديب الشاب ببساطة فيها شئ من التنازل , ولم يتصور أن هذا الجار الحقير كان يقيس الرجل العظيم . وأخذ دزرائيلى يفكر أحياناً : "هل من الضرورى حقيقة دخول البرلمان ؟ إن هذه الحياة بين اللذة والكسل والعمل الأدبى لهى حياة سارة , وإننى لفى قرارة نفسى ميال للكسل كجميع الرجال من ذوى الخيال العالى . . . وأحب أكون كسولا , وأن أتمتع بنفسى , وأن أفكر فى الماضى العصيب , وأبتسم للحاضر الهادئ , ولكننى ويا للأسف أناضل من أجل ما بى من تكبر , أجل ! إن الكبر هو الذى يدفعنى للطوح , ولا يجب أن يقولوا إنى فشلت" . وفى ذات يوم أعرب عن هذه المشاعر لبلوار , فالتفت صديقه نحوه وتأبط ذراعه وقال له مخلصاً : "هذا حقيقى يا صديقى , إننا نضحى شبابنا وهو وقت السرور والموسم البهج للتمتع – ولكننا مرغمون على التقدم – مرغمون لأن أعداءنا ينتصرون إذا انسحبنا من المسرح" .

نعم بلا شك يجب أن يستمر , ولكن أحياناً وهو فى حفلة مسائية ساحرة , وعندما يرى بريق لندن فى الليل من خلال الضباب وهو خارج من حفلة راقصة , وعندما تتلكأ امرأة جميلة وهى تضغط على يده فى تحية الوداع , وكان يخاطب نفسه بأن الطوح جنون باطل , وأن ذلك الطيش الذى تظاهر به هو طبيعته الحقيقية , وهو من الحكمة أيضاً , وأن من الاللذة أن يعيش للأبد تحت أقدام الحفيدات الثلاث لشريدان وهو تابع لهن محب وكسول .

9- مستقل

"إلى الملتقى أيهاالسيد العزيز , لقد أريتنى أجمل منظر يشاهد فى هذه الجزيرة منظر سيد عظيم يعيش فى داره وبين أهله" وافق مجلس اللوردات فى يونيه سنة 1832 على الإصلاح الانتخابى وذلك بعد أن حاول المجلس إلى اللحظة الأخيرة أن يعارض هذا المشروع , وأقدم فى بطولة على قلب وزارة "الهويج" . ولكن ما حاول ولنجتون أن يؤلف وزارة حتى ثارت البلاد , وقرعت الكنائس أجراس الثورة , ووقف العمل فى كل مكان , وهب لورد ستانلى أظهر الشبان من رجال "الهويج" إلى منضدة وأعلن قائلا : "إذا قاوم اللوردات فإن جلالة الملك يستطيع أن يضع تيجان النبل على رأس فرقة من جنوده" , وعلقت على الحوائط إعلانات تدعو الإنجليز إلى سحب أموالهم من بنك إنجلترا . كان بنك إنجلترا هو المعهد الوطنى الوحيد الذى يحترمه الدوق , فثورة المودعين هى التى قضت على معارضة النبلاء , ولم يبق أمام دوق ولنجتون إلا أن يلأمر اللوردات : "سادتى اللوردات دوروا إلى اليمين ثم سيروا" . وتغلب فريق الإصلاح , ومن الطبيعى أن الانتخابات التى تسير على النظام الجديد تسجل نجاح هذا الفريق وصار فشل حزب "التورى" مؤكداً .

نستطيع أن نتصور كيف تتبع دزرائيلى هذه الحوادث الخطيرة بالاهتمام الكبير , ورأى أن مثل هذه الحركة الكبيرة هى الوقت المناسب للاستيلاء على مقعد فى البرلمان , فما ا، تمت الموافقة على الإصلاح حتى سافر إلى ويكومب وهى الدائرة المجاورة لأملاك أبيه , وبدأ فى زيارة الناخبين , وهذه الدائرة للهويج , ولكن دزرائيلى اتظر أن يتقدم إليها على أنه من الريكادليين , إلا أنه فى أعماق قلبه أخذ يزداد تعلقاً بالتورى إذ وجد أن الحزب القديم المؤلف من كبار الفلاحين وأصحاب المزارع فيه من الجمال مالا يماثله غيره , وهو على اتصال ببعض هؤلاء السادة , ففى مقاطعة بكس كان على علاقة حسنة بدوق باكنجهام , وبنوع خاص بابنه لورد شاندوس وكلاهما سيد كبير يلائم نفسه , وهما مشهوران بالسخاء الذى يبلغ حد السفه , فإن الدوق العجوز جر إلى نفسه الخراب بأن احتفى بالعائلة المالكة الفرنسية احتفاء عظيما , فاضطر للعيش منذ سنين على ظهر سفينته كى يقتصد فى نفقاته , وهذه الصفات تعجب دزرائيلى .

والواقع أنه كلما وجد بين جماعة من السادة الزراع سر ذلك . وكان يقول بأنهم "حمير فخمون" , يردد مثل هذا القول دون أن يشوب قوله شائبة من الاحتقار , وقد أعجب بقوته وهدوئهم , ولكنه لم يجرؤ على أن يستند إليهم , فإن مبادئهم صارت خلقة ولم يعد الشعب يرغب فيها , فماذا يفعل ؟ تقدم على العكس مسلحاً برسائل التأييد من رجال عامليت على التقدم من أمثال : هيوم , وأوكونل الأرلندى المخيف , وحصل على هذه الرسائل عن طريق بلوار , وبدل بلوار جهودا كى لا يرشح أحد أمام صديقه , ولكنه فشل فى ذلك لأن كبار "الهويج" لا يحبون الشاب الغريب الأطوار الكثير الصخب , الذى اشتهر بلون صداره أكثر مما أشتهر بحبه للإصلاح . أما "التورى" فأحسن استقباله فى المقاطعةلأنهم أولا لم تكن لديهم فرصة لاحتلال المقعد , ففضلوا أن يكون العضو مستقلا , ثم لأن عواطف أبيه إسحاق دزرائيلى نحو "التورى" معروفة , حتى قال منافسو بنيامين : إنه ليس إلا رجلا مقنعاً من "التورى" , وكان يرد على هذا القول با، ليس أقرب شبها إلى "التورى" المقنع من رجل من "الهويج" بلغ مرتبة الحكم .

وقد موعد الانتخاب بضعة أسابيع بسبب استقالة غير منتظرة , فأدى ذلك إلى إجراء هذا الانتخاب على قواعد قانون الانتخاب القديم , وفى هذه الحالة لم يعد فى الدائرة أكثر من بضعة وثلاثين ناخباً , وتقدمت الوزارة بمرشح رسمى هو الكولونيل جراى ابن رئيس الوزراء . وكتب دإلى مسز أوستين : "أرسلت خزينة الحكومة الكولونيل جراى فى رهط من المأجورين , وجوقة موسيقية , ولم تشهد الدائرة مثل هذا الفشل الكبير , فبعد أن مر موكبه فى المدينة بين تصفيق المأجورين وقف فى عربته وخطب الناس فى تعلثم مدة عشر دقائق , واجتمع عليه أهل ويكومب جميعاً فشعرت أن اللحظة حاسمة , وهرعت إلى باب فندق الأسد الأحمر وخطبت الناس لمدة ساعة وربع الساعة . ولا أستطيع أن أصف لك ما كان لى نت تأثير , فقد لعبت بعقولهم لعبا وبكى الكثير منهم , وانضم إلى النساء وصرن فى صفى , وهن يتزين بشعارى من اللونين الوردى والأبيض , فاحملى هذه الألوان أيضا" . لما رأى أهل ويكومب هذا الاشب ذا السحنة الممتقعة , وخصائل الشعر السوداء , والأكمام المصنوعة من الدنتلة , يظهر فى فندق الأسد الأحمر وهو يحمل عصا ذات قبضة من الذهب , ويسوى خصائل شعره بعناية قبل أن يتكلم , انتظروا أن يسمعوا خطبة فارغة , ولكن عندما ارتفع صوت ذو قوة عجيبة حتى ملأ الشارع بفصاحته الساحرة , وعندما هاجم هذا الصوت رجال "هويج" فى مرارة شديدة , استسلم أهل ويكومب واندفعوا فى حماسة قلقة . أما دزرائيلى فإنه شعر لأول مرة بلذة جديدة حين وجد نفسه سيدأً لهذا الجمهور وسمع صوت نفسه وعجب من عباراته المتناسقة القوية التى كان يمليها على الخطيب إله داخلى , واختتم خطابه وهويشير إلى عجز الأسد الذى يزين باب الفندق , "عندما تعلن نتيجة الانتخاب سيكون خصمى هنا , بينما أنا (وأشار إلى الرأس) ساكون هنا" ولم ير أهل ويكومب فى حياتهم أسدهم القديم يرصع فى مثل هذه العبارة العجيبة . فى يوم الانتخاب ألقى دزرائيلى خطبة أخرى قال فيها إنه لا يحمل شعار أى حزب , فإذا كان "التورى" قد آزاره فإن الشعب أزاره من قبل , وهو يعمل على تحسين حال الفقراء (وهى عبارة نادرة فى التصريحات الانتخابية فى زمن لم يكن للفقراء أصوات فيه) لانه خرج من الشعب وليس فى عروقه دم من أسرة تيودور أو من أسرة بلانتاجنيت .

ثم ارتقى الاثنان وثلاثون ناخبا منصة الانتخاب واحداً بعد آخر , وأعربوا عن أصواتهم علناً , وأعلنت النتيجة , لإغذا الكولونيل الخجول العي يحرز عشرين صوتا ,وإذا الخطيب المفوه فى فندق الأسد الأحمر يحرز اثنى عشر صوتا فهو لم يكن فى رأس الأسد . وارتقى المنصة مرة أخرى وقال : "ليكن ذلك ! غلبتى الهويج ولكنهم سيأسفون" , على أنه كان حزيناً شاعراً بالخيبة .

ما جاء شهر أكتوبر حتىأعلنت الانتخابات العامة بعد التوسع فى حقوق الانتخاب , وعاد دزرائيلى إلى ويكومب , وفى هذه المرة أيضاً تقدم على أنه مستقل قائلا : "إننى لست تابعاً لحزب ولا أشتغل وقتى بالأحزاب , أيها الإنجليز أنقذوا أنفسكم من هذه العجمة السياسية ومن لهجة الحزبية المستهجنة , "فالهويج" و "التورى" هما اسمان ليس لهما إلا معنى واحد , ولا يستخدمان إلا للتضليل بكم , وللتحدوا كى تنشئوا حزبا كبيراً وطنياً لا يستطيع غيره أن ينقذ البلاد من دمار عاجل . . ". انبع المحافظون نحو نصيحة صديقه لورد شاندوس , فلزموا خطة الحياد المشرب بالعطف , وأخذ على المرشح الإصلاح موقف المحافظين نحو فقال : "إنى محافظ كى أنقذ ما هو حسن فى دستورنا , وإنى من الريدكال كى أقضى على ما هو سيئ فيه", وأعلن أنه سعيد إذ يرى فى هذه الدائرة على الأقل أن "التورى" عادزا إلى تقاليد الحزب العظيمة التى عرفها فى الماضى حين حصل بقيادة رجال من أمثال بولنجبرك على تأييد الشعب . وحاول البعض أن ينتزع منه تصريحات ثورية فيما يتعلق بالرسوم المضروبة على القمح , ولكنه حافظ على موقف معقول قائلا : " إننا إذا لجأنا إلى تغيير فجائى فى النظام الحالى فسلام على مقاطعتنا الجميلة . . وقد تسألون هل يظل إذن ثمن الخبر مرتفعا ؟ فأجيب من الخير أن يظل الخبز مرنفع الثمن على ألا يوجد خبز" . ولكن لم يجد هذا القول الحكيم ما يستحقه من جائزة , ونال جراى 140 صوتاً , ونال دزرائيلى 119 صوتاً , وانتصر "الهويج" انتصاراً عظيما فى انجلترا بأجمعها , وعادوا إلى البرلمان فى أغلبية تضمن لهم السلطة زمناً طويلا . وحيث فاتته هذه الفرصة فلا بد أن ينتظر فرصة أخرى بعد زمن طويل .

عندما اجتمع البرلمان بعد ذلك ذهب مرة لسماع صديقه بلوار الذى أعيد انتخابه , وفى ذلك المساء كتب إلى سارة يقول : "تكلم بلوار وهو لم يخلق لأن يكون خطيباً ولن ينجح فى الخطابة أبداً على الرغم من مجهوداته . . . أما ماكولى فهو جدير بالإعجاب . . . ولكن أقول لك فيما بيننا إننى أبزهم جميعاً . . . لا أقول هذا القول إلا لك وحدك , وإنى لا أثق فى شئ مثل ثقتى فى أنى أستطيع أن أتغلب على كل شئ فى هذه المجلس وسيأتى الزمن" . وكتب فى مذكراته : "يرى الناس أنى كثير الاعتداد بالنفس , والناس على خطأ , فإن جميع الأغلاط التى ارتكبتها نشأت من تضحية آرائى فى سبيل آراء الناس , وفى الوقت نفسه الذى يعتقدون فيه أنى كثير الاعتداد بنفسى أرانى شديد الاضطراب ولا أثق فى نفسى إلا لحظات . وقد عولت فى المستقبل على أن عمل بما تمليه على نفسى , فإن لى غريزة لا تخطئ , وأستطيع قراءة الخلاق فى نظرة , وقليل من الرجال من أخدع فيه , وعقلى هو عقل القارة الأوربية وهو غقل ثورى , وإننى لا أكون عظيما حقاً إلا فى العمل وسأبرهن على ذلك , وأستطيع أن أسود مجلس النواب على الرغم من أنى أقابل فى مبدأ الأمر بالكراهية" . كما حدث أنه بعد فشله الصحفى شعر برغبة فى كتابة قصة , إذا به بعد فشله السياسى مرتين يشعر بالرغبة فى نظم قصيدة , وذهب إلى برادنهام ليعتزل العالم وعاش فى عزلة غرفته , وكان يتريض بالسير تحت أشجار الحديقة وهويفكر فى موضوع عظيم – فكر فيه لأول مرة أثناء سياحته فى الشرق وهو يتأمل وادى طراودة , إذ قال لنفسه : "هوميروس ! لماذا لا يكتب الناس الآن قصائد عظيمة كمنظومات هوميروس ؟ " ولم يكن أمامه إلا أن يجد موضوعا لقصيدة حديثة .

تبين له أن نابليون موضوع واضح , وفى مبدأ القصيدة تمثل روح النظام الإقطاعى وروح النظام الديمقراطى بين يدى الله , وكل منهما يدافع فى ذلاقة عن حقه فىحكم الناس , لأن دزرائيلى إذا أعجب بالنظام الإقطاعى فى الماضى فإنه يرى أ، النظام الديمقراطى لا بد منه فى المستقبل , فالنشيد الأول إذن هو دزرائيلى ودزرائيلى , ولكن الصعوبة فىحمل الإله على الاختيار بين الروحين , ولكن الإله القدير أبدى فى حذر أن رجلا خاراقاً للعادة ولد , وأن النظام الذى يختاره هذا العبقرى هو الذى يسود , وهذا الرجل هو نابليون . ورأى ا، تكون حملة إيطايل موضوع النشيد الثانى , وكتب إلىمسز أوستين يسألها " مارأيك ؟ إن الفكرة تبدو لى عظيمة " .

انتهى النشيد الأول فذهب ليقرأه لها فى المساء , وكان لديها بعض الأصدقاء وقد رأوا أن هذا المنظر مضحك جداً , فهذا الشاب الطويل المستند إلى المدفأة وهو يعبث بخصائل شعره , وينظر نظرة الارتياح إلىالأشرطة الحمراء التى زين بها نعليه , والذى يعلن عن نفسه بأنه شاعر زمانه مثل دانتى وهوميروس , أثار ضحكا لا يكاد يكتم , ولم يلبث النشيدان أن نشرا , واستقبلهما الجمهور استقبالا فاتراً , ولم يكن دزرائيلى شديد التعلق بأن يبلغ مبلغ هوميروس , وبدأ يمل هذه القصيدة , فألقى بها أحد الأركان ولم يعد يفكر فيها .

10- النساء

تقدم الدنيا لذى المطامع التى لم تتحقق تعويضات أكيدة ولذيذة , وكثيراً ما تعامله إذا ظل رحب الصدر خيراً من معاملة الفاتح الكبير أو من الوزير , ففراغ الرجل الذى لا يجد له مجالا هو من الصفات المستحبة لدى النساء , لأن هذا الفراغ يضعه فى خدمتهن , وخضع دزرائيلى راضياً لهذه العبودية الجميلة , وشعر بالسعادة إذ رد إلى الأخوات الثلاث من آل شريدان , واتسعت دائرة صديقاته من النساء الجميلات , واصطحبه أختان من جارته فى برندهام وهما اللدى شستر فيلد ومسز أنسون إلى أفخم مرقص مقنع , وكانت لادى شستر فيلد زى سلطانة ومسز أنسون فى زى سيدة يونانية أرسلت شعرها حتى بلغ منكبيها , وطلبت مركيزه لوند ندرى , وهى فى زى كليوبتره يضئ عليها الماس والزمرد , أن يقدم إليها دزرائيلى . شعر لحظة بالسعادة فى هذا البيت الجميل الذى أضيئت جولنبه , وسبح فى بحر من الجواهر الكريمة والوجوه الحسنة . كانت له خليلة يحبها وكتب فى سبيلها رواية غرام هى "هنريل تمبل" , ثم ألحقها سريعاً برواية عن حياة بيرون وشلى اسمها "فينتيا" , وكانت هنريت الحقيقية متزوجة , ولكنها طليقة فى سيرها , هى من ضمن الجماعة الصغيرة البراقة التى يحبها دزرائيلى , فصار من السهل معليهما أن يجمعما خير الرفاق فى لندن. فى كل يوم كانا يدعوان إلى حفلة على النهر أو فى حديقة بها الأدغال خليقة بريشة المصور "فيرونيزى" وهى ملأى بالأزهار والنوافير والببغاء , أو إلى عشاء لذيذ بعد الأوبرا , وفى بعض الأحيان يركب وحوله كلاب الصيد يمتطى مهراً عربيا تملكه حليلته ويقفز به على الحواجز جميعا فيكسب احترام أمهر الفرسان , ولم يكن ميالا لهذا النوع من الرياضة ولكنه لا يرضى بأن يقف دونه حائل , وهذا جزء من برنامجه . قدمه بلوار فى منزل جديد هو منزل لادى بلسنجتون , وقد سمع دزرائيلى من قبل قصصاً عديدة عن حياة مضيفته , ومرجريت لادى بلسنجتون هى ابنة قاض أرلندى صغير الشأن أجبر ابنته وهى فى الخامسة عشر من عمرها علىالزواج فى سبيل المال من مجنون , وكان لورد بلسنجتون سيدا كبيرا ومالكا كبيرا , وهو رجل غريب الأطوار , أرمل وأب لبنتين , ويبلغ إيراده ثلاثين ألفاً من الجنيهات , وقد اكتشفت ذها الجمال الدفين , وعرض عليها أن يحملها إلى انجلترا , وأن يعمل على طلاقها من زوجها ثم يتزوجها . وقد سافر لورد ولادى بلسنجتون إلى إيطاليا فى صحبة شاب فرنسى هو الكونت دورسي نموذج فى جماله وبريقه وثقافته , ولم يكن أحد يرتاب فى أنه خليل لادى بلسنجتون , ولا ريب فى أن الحقيقة هى ذلك , وكان لورد بلسنجتون قد أولع بالفريد دورسيه , وتعلق به تعلقاً لا يصدق , فكتب وصية يترك له فيها الجزءالأكبر من أمواله , بشرط أن يتزوج من إحدى بنتى الموصى , وكانت البنتان اللتان ربطتا بهذا العقد القانونى فى الحادية عشرة والثانية عشرة من عمرها . وفى سنة 1847 , بعد أربع سنوات من الوصية , تزوج الكونت دورسيه وفاء بتوقيعه من اللادى هاؤيت أصغر البنتين , وهما عندئذ فتاة ممتقعة اللون فى الخامسة عشر من عمرها , انقطعت عن المدرسة من أجل الزواج , وتحدث الناس بأن الفريد دورسيه وعد لادى بلسنجتون بأل يجعل من اللادى هاريت زوجة بمعنى الكلمة , وأنه بر بوعده . ثم مات لورد بلسنجتون فجأة , وعاد دورسيه وزوجته العذراء لكى يستوليا على الميراث وفى صحبتهما لادى بلسنجتون وقد كبرت التلميذة وصارت بارعة الجمال , وأخذت تتألم للاحتقار المؤدب من زوجها ولوجود امرأة أبيها , فتركت دارها فى ساحة سيمور على ألا تعود . هذه هى القصة التى قبلها أهل لندن , ولكن بلوار عندما اصطحب دزرائيلى لزيارة لادى بلسنجتون أضاف إلى الصورة لوناً خاصاً بقوله : "سترى أنها جذابة وفيها رحابة الأرلنديين , وفيها ظرف خاص لا تجده فى غيرها , وهى شفيقة وكريمة وتعلم صعوبة موقفها فلا تحاول أن تفرض نفسها على النساء , وهى لا تخلو من العيوب , على أن الكثير مما يقال عنها ليس صحيحاً , وقد اتهمت بأنها هى التى عملت على الزواج ابنة زوجها من الكونت دورسيه وهذا غير حقيقى وكانت مقاومة لهذا الزواج , ولكن لورد بلسنجتون هوالذى أرغم الجميع , وإذا اعتدنا بالمظاهر نجد أن الحب الذى تحمله لدورسيه هو حب الأم للطفل المدلل, وإنى لأعتقد أنه منذ زواجه لم يكن بينهما شئ , وعلى كل فهى ليست من النوع المتقد العواطف بل هى صديقة ودودة مخلصة , وقد فقدت الشئ الكثير ولا يزال لها وجه صبوح وعينان جميلتان , ويمكن أن ترى أنها ظلت ممتشقة القوام إلى أن مالت للبدانة" . سر دزرائيلى سروراً عظيما بهذه الدار . ويخترق زائروها بهواً فرش بالأثاث الأحمر المحلى بالذهب , هو ملئ بأوان جميلة من الكهرمان كانت للإمبراطورة جوزفين , ثم يصل الزائرون إلى مكتبة ضيقة طويلة ذات حوائط بيضاء مذهبة صفت فيها قماطر الكتب بين المرايا , ومن خلال النافذة الطويلة فى آخر المكتبة تلوح أشجار هايدبارك , وحول الغرفة تجد سرراً ومقاعد ومناضد عليها التحف الصغيرة , وعلى مقعد كبير من الحرير الأصفر تجلس لادى بلسنجتون فى ثوب من الحرير الأزرق يكشف كثيراً عن صدرها , وأعجب دزرائيلى بأكتافها الجميلة وبالإنحناء الثابت الملئ لنهديها , وأحب ذلك الشعر المصفف إلأى خلف بعد أن مشط إلى الجانبين , وتلك الحلية من الزبرجد على الجبين , وما تكلمت حتى صار لها أسيراً . لما راد معرفة بذلك الزوج الجميل الذى يتألف منها ومن دورسيه , وخبر ودهما المتبادل وذلك المرح اذلى يشبه مرح الأطفال يستخلصه الاثنان من تلك النكات الصغيرة التى يظهرانها من تقاليد تلك الدار , نسى إلى الأبد لادى هاريت واللورد العجوز والكثير من القصص المظلمة , وتمتع دون تردد بصداقة هذين الشخصين الظريفين . أما لادى بلسنجتون فوجدته نابغاً وفصيحاً وفطناً , فهو فى الواقع كبير الشبه بفيفان جراى فى روايته . وكان النساء لا يستقبلنها فصارت تقابل الزائرين فى كل الليالى , وصار من عادة دزرئايلى أن يزوها فى كل يوم , وكثيراً ما بقى صامتاً يتمتع فقط بلذة الوجود فى ذلك البهو الذى يحبه وهو واقف بجانب النافذة يطل على المماشى الجرداء فى هايدبارك , وقد لمعت أشعة الشمس الأخيرة على الأزهار المذهبة فى صدارة وفى يداه عصا بيضاء وجيوبه مليئة بسلاسل الذهب , فإذا كان الموضوع يهمه يقترب من المتحدثين ويشترك فى الحديث , وحينئذ يدهش الحاضرين بسهولة عبارته وقوة تهكمه , وإذا تكلم كان شبيهاً بجواد السباق وهو على مقربة من الهذف فتتحرك جميع عضلاته ويضع فى كل عبارة قوة عجيبة , ومن فنه فى الكلام أن يقارب بين الكلمات المتباعدة فتكسبها هذه المجاورة قوة وحشية مقلقة , وفى الإصغاء إليه ولكنها لذة مضنية . وفى منتصف الليل بعد جلسات البرلمان يصل بلوار فيصير الحوار بين الصديقان خلابا . ولكن دزرائيلى يحب أكثر من ذلك أن يرى لادى بلسنجتون وحيدة , فقد صارت مستودع أسراره وصاحبة الرأى عنده فى مغامراته الغرامية , فهو يروى لها كل شئ : كيف أحب هنريت وكيف قدمها لوالديها فى برادنهام وهما لبساطتهما لم يريا بأساً فى ذلك شعر بشئ من تأنيب الضمير , وكيف حملته بعض الديون لتعلقهما بالمجتمعات وحفلات العشاء , وكيف أن هذه العلاقة كادت تهدد مستقبله , لتعلقها بالمجتمعات وحفلات العشاء , وكيف أن هذه العلاقة كادت تهدد مستقبله , وكيف أن الطوح لديه عاطفة أقوى من الحب , وروى لهما فيما بعد لاكيف قطع هذه العلاقة وكانت تفهم كل ذلك . وكلما عن برادنهام ومستر دزرائيلى العجوز وأمه , وكشف لها عما فى نفسه من حزن يخفيه وراء مظهر المرح والطيش , وكان فى مثل هذه الأحاديث الطليقة خلاباً , فبقدر مكا يبدو لمن لا يعرفه متصنعاً مستهتراً بقدر ما يبدو لصديقة مثل لادى بلسنجتون طبيعياً ورقيق القلب , وكان يسألها الرأى أحيانا فى مسائل صغيرة جداً , ويطلب إليها أن تفسر له الرجال , ويستعلم منها عن أحدث الكتب الفرنسية ويسألها النصيحة عما يقرؤه : "ما الرأى فى بلزاك وهل هو خبر من سو وجورج ساند دوديفان , هل هذان الأخيران أقل شأنا من هوجو ؟ " , وكان يعترف لها بخجله وضعف أعصابه : "لست أعلم كيف حالى , ولكن الواقع أنى لا أكون قوياً إلا وأنا فى حركة , وحينئذ أشعر مخلد . وإنى لأخجل من ضعف أعصابى والتخمة كثراً ما تجعلنى أرغب فى حرب أهلية . . . وغنى لأكاد أموت شوقاً إلى الحركة , وأصدأ كيف من سيوف دمشق فى غمد رعديد . . ." . وأحيانا فى غرف استقبال صديقاته يقابل بعض الساسة اذين فى الحكم فيخلع قناع الخنوثة ويتكلم فى حماسة عن شئون الدولة , وكم كان يحسدهم على مناصبهم حييث تنقلب الأقوال إلى أفعال . وقدم ذات مساء عند كارولين نورتون للورد ملبورن الوزير الكبير من الأحرار , هو من الدائبين على زيارتها حيث يجلس على مقعدها متمدداً فى غير عناية , ويتكلم قليلا ولكنه يصغى فى سرور . وقد سحر ملبورن بىراء الشاب الطريفة وفصاحته الجريئة , وفجأة فى طيبته الخشنة عرض عليه المساعدة سائلا : "قل لى ماذا تتمنى ؟ " , فأجابه "ـن أكون رئيس وزارة" , فرفع ملبورن كتفيه وقال فى لهجة الجد العميق : "لا ! لا ! هذا ليس ممكنا فى زمننا , فإن كل ذلك مدبر وسيكون الوزير القادم ستانلى , وهو كالنسر الصغير بين منافسيه . . . لا ! فلتمتهن السياسة فإن لك الحق فى ذلك لأنك ذكى وستصل بلا شك , ولكن يجب أن تقلع عن هذه الأفكار السخيفة" . الإقلاع كلمة سهلة بالنسبة لمن هو مثل لورد لمبورن عرف كل شئ وذاق كل شئ , ولكن دزرائيلى هذا يريد أن يعيش ولا يتصور الحياة بلا مجد , وأمامه تتناقش الأخوات الثلاث الجميلات من عائلة شريدان باهتمام فى الخير الأعلى ويتساءلن : "ما هى الحياة المرغوبة ؟ " , ويستولى الجد فجأة على ديزى الشاب ويجيب من أعماق مقعده بحماسته : "موكب عظيم مستمر من الصبا إلى القبر" .

11- الانضمام إلى حزب

"أفضل الحرية التى نتمتع بها على مبادئ الأحرار التى يعدوننا بها , وأفضل على حقوق الإنسان حقوق الإنجليز" . دزرائيلى كان انتصار حزب "هويج" فى سنة 1833 هائلا حتى ظن أنهم سيحكمون البلاد نصف قرن , ولكن الطمأنينة تقضى على كل شئ حتى على المحالفات التى يظن أنها لا تفصم . بين الأحرار المنتصرين إذا كان هنالك أناس ميالون حقا إلى الإصلاح من أمثال لورد جون راسل , أو من هم أكثر جرأة منه مثل لورد درهام , فإن منمهم محافظين بفطرتهم أمثال ستانلى الذى رأى فيه لورد ملبورن رئيس وزارة المستقبل , ولم يلبثوا أن حدث شقاق فى صفوفهم وخرج ستانلى وأصدقاؤه على الحزب وارتفع فجأة ميزان المحافظين . ومما يدعو للتسلية ان صفوف المحافظين كانت تقاتل أيضاً بقيادة زعيم دائم التطلع إلى خصومه ويفضل إرضائهم على إرضاء أعوانه , فإن سير روبرت بيل يطمع فى التسلط على جميع الأحزاب , وهذا هو المطمع الوحيد الذى بقى لرجل تسلط على حزبه , وتحت إدارته خلع الحزب اسم "التورى" القديم واتخذ اسم المحافظين , واعتبرت هذه الكلمة مناقضة لكلمة الرجعيين , وهكذا تقارب ستانلى الحر المحافظ من بيل المحافظ الحر , حتى لم يعد من السهل تمييز الواحد عن الآخر . ومما لا شك فيه أن المحافظ كان أقرب إلى الحرية من زميله . مثل هذه التغيرات جعلت من السهل جداً تطور دزرائيلى فى حياته السياسية الشخصية , فهذه العودة إلى التقاليد الجريئة والمحبوبة للتورى القدماء هى كل ما تمناه منذ بدء حياته السياسية , وقد رأى بوضوح أنه يجب عليه أن ينتهى إلى الاتصال بأحد الأحزاب القائمة بعد أن حاول أن يناضل مستقلا فهزم مرة بعد مرة . فى البلد الذى تسود فيه تقاليد برلمانية قديمة لا سيما بلد مثل إنجلترا فيه يحترم الإخلاص وتحتقر النظم , ويكاد يكون من المستحيل الانزلاق بين الأحزاب . أما من داخل الحزب فإنه يمكن إنشاء خلية جديدة , ولا يمكن فرض الآراء إلا تحت شعار معروف , وقد حان الوقت لأن يختار دزرائيلى وأن يقدم طاعته . وإذا ظل متردداً فى التقدم إلى حزب المحافظين فذلك لأن المسألة لديه صارت مسألة أشخاص , فإن دزرائيلى المحب للشخصيات الخلابة والصفات الجميلة لم يجد ميلا نحو سير روبرت بيل وبروده . أجل إن الدوق حقاً أجمل منظراً فى صراحته المفاجئة , ولكن الدوق أهين كثيراً فى لحظة الإصلاح ولم يكن يحب ان يتعرض للجماهير , ففضل أن يختاغر دوراً هو أكثر ملاءمة له وهو دور البطل الوطنى القديم , ففى النوادى كان الشبان يطلبون منه أن يقص عليهمك قصص معاركة فيقول : "كنت فى سلامنكه راكعاً وراء حائط صغير عندما رأيت الجناح اليسر للجيش الفرنسى ينثنى , فقلت والله إن هذا لكاف فلأهاجمهم فى الحال" , وصار إذا مر فى الشوارع حياه الجمهور فقنع بذلك , وقرر ألا يشتبك فى معارك لا تعود عليه بالمجد . فى نحو ذلك الوقت تعشى دزرائيلى ليلة إلى جانب لورد لندهرست رئيس القضاة من المحافظين , ويروى أن وال لندهرست قال له ذات يوم : "إنك يا جاك ستظل صبياً طول حياتك" , وهى نبوءة تحققت , فقد حافظ وهو فى الستين من عمره على جنوحه للخيال فى الأعمال البشرية , وكان يتسلى بنقائص أمثاله أكثر مما يتضايق منها , واعتاد أن يحفظ القصائد عن ظهر قلب لتدريب ذكراته , وقد سحرت دزرائيلى رحابة صدره التى تضايق منها رجال المتشددون , ووجد فيه أخيراً رجلا يتكلم فى السياسة والأحزاب كما يراها هو نفسه , أى أنها ليست دينا وإنما هى فن . لم يمل قط من سماع الحوادث الكبيرة فى ذلك القرن لا سيما تلك التفصيلات الصغيرة الثمينة التى تبث حياة فى التاريخ , فمثلا أن فى الليلة السابقة لوفاة كاننج كانت السماء زرقاء ولكن الريح باردة , وأراد كاننج أن يتعشى فى الخارج ورآه لندهرست يرتعد . وقد شمل الوزير أيضاً دزرائيلى الشاب بصداقته وكان يسدى إليه التصائح . وفى ذات يوم دعاه للعشاء مع وكيل للوزارة صغير السن جداً اسمه وليم جلادستون وأخذ يلقى عليهما دروساً حكيمة : "لا تدافعا أبداً عن نفسيكما أمام المجالس النيابية إلا بالرد على الهجوم , فإن السامعين فى اللذة التى يشعرون بها بسبب الهجوم الجديد ينسون الحملة السابقة" . وكان هذا الشاب جلادستون رجل جد من نوع بيل ولا يمكن أن يسر كثيراً أمثال دزرائيلى ولندهرست , فكان العشاء حزيناً , على أنه قدمت لهم بجعة بيضاء جداً طرية اللحم محشوة حشواً جيدأ وفى ذلك خير رفيق . بفضل لندهرست أخذ دزرائيلى ينفذ إلى خبايا الالم الساياسى , وظل وقتا ما يغازل لورد درهام ومستقليه , وأخذ الحزبان المتطرفان يبحثان له عن دائرة فتركهما وشأنهما , ولكن هذه المغازلات عرفت فى لندن فلم يرتح لها الناس وقالوا : "أمن درهام إلى ولنجتون ؟ عجباً إن دزرائيلى هذا يجب أن يكون ذا عقل غير متحيز" , وأضاف جريفل الحرون : "إنه مثال الصديق الذى ينتظر من لندهرست" . أدى فشله فى الانتخاب مرة أخرى إلى أن يبرأ من علته واكتفى بالدروس الثلاثة القاسية , ففكرة الاستقلال عن الأحزاب مقضى عليها بالفشل . وعمل دزرائيلى على أن ينتخب عضواً فى نادى كارلتون معقل المحافظين , وقرر أن يتقدم للانتخاب بعد ذلك على أنه من المحافظين , وأخيراً ارتدى الزى الحزبى . إن الرجل يحسن دائماً تعليل تقلباته , وإن دزرئيلى على أنه كان مستقلا ثم صار محافظا يفخر بثباته على عقيدته , على أن هذا الثبات أقل وضوحا للملاحظ من الخارج . وعندما قضت ضرورات الحملة السياسية على المحافظ الجديد بأن يهاجم أوكونيل بعد أن التمس من قبل خطاب توصية منه غضب الزعيم الأرلندى غضباً شديداً . وبعد أيام تكلم فى اجتماع بدبلن عن هذا الهجوم وعن هذا الخطاب , واختتم خطبته وسط الضحك والهتاف بقوله : "إن اليهود كانوا فى وقت ما شعب الله المختار على أنه بينهم جماعة من الأشرار , ولابد أن دزرائيلى من نسل هؤلاء , وأن فيه حقاً صفات ذلك اللص الشرير والذى مات الصليب , وإنى لأعتقد حقاً أن اسمه كان دزرائيلى , ولا يبعد أن يكون دزرائيلى الحالى من أحفاد ذلك الشخص الذى ذكرت مقامه الرفيع" . نشرت جميع صحف لندن هذه الخطبة الطريفة وتسلى بها كثير من الناس الذين يتضايقون من دزرائيلى . أما هو فتغلبت عليه عواطف نسيها منذ الصغر عندما قرأ هذه العبارات المؤلمة حقا ! أية رغبة شعر بها لضرب هذا الرجل كما فعل فيما مضى بالطالب الذى أهانه بالمدرسة ! جرى إلى دورسيه وطلب إليه أن يتفق علىالمبارزة . ولكن أوكونيل قتل من قبل رجلا فى مبارزة فأقسم ألا يبارز أحداً . وحاول دزرائيلى أن يدفع ابنه مورجان أوكونيل للمبارزة , ولكن هذا أجاب بأنه يقبل أن ينتقم للإهانات التى توجه لأبيه , ولكنه لا يتحمل مسئولية كل ما يقوله هذا الأب , وعندئذ كتب دزرائيلى إلى أوكونيل رسالة عنيفة يقول فيها : "على الرغم من أنك وضعت نفسك من زمن بعيد خارج العالم المتمدين فإنى لا أرضى بأن أهان من أحد حتى ولو كان وحشاً فى صورة آدمى دون أن أؤدبه" , ثم حمل بشدة على رفض الأب ثم الابن مبارزتتته واختم الرسالة بقوله :"سنتقابل فى فيليبى , وكن واثقاً من أنى سأنتهز الفرصة الأولى كى أودبك تأديباً يذكرك الإهانات التى وجهتها لى ويحملك علىالأسف عليها" . بنيامين دزرائيلى . وبعد هذه الرسالة عاد إلى الهدوء وإلى رضاه عن نفسه , وارتدى أظهر ملابسه وأكثر صدارية زخرفة , وقصد دار الأوبرا وهنأه أكبر معارفه على شجاعته . وكتبت له سارة وكتب له إسحاق العجوز بأنهما لا يحبان هذه الضجة الكريهة حول اسمهما , وأنهما لا يوافقان على مثل هذه الشدة . فرد عليهما بنيامين مستنكراً وهو يقول : "إن من رأى جميع الأحزاب هنا أنى سحقته , وأنه من السهل عليكما أن تنتقد مسلكى , ولكنى لا آسف على هذه الرسالة ولا يمكن إرضاء الناس جميعاً , وقد قال لى "و" إن رسالتى الأخيرة كانت أبدع ما كتب باللغة الإنجليزية , وهنالك أناس لم يحبوا استعمال كلمة "الوحش" ووجدوا فيها خشونة , وأخرون يجدونها خليقة بسويفت , وعلى كل فالمهم رأى المجموع , وهذا الرأى هو أن الناس جميعاً يرون أ،ى أظهرت شجاعة" . وهذا حقيقى فإن أصدقاء أوكونيل ورجال الهيئة الاجتماعية لم يوافقوا على المستوى الدنئ لحملته , واعتقدوا فعلاً أن دزرائيلى أظهر شجاعة , ولكن هؤلاء الناس لا يؤلفون الرأى العام . وفى انجلترا الرأى ذو القيمة هو رأى التجار من وراء مكاتب حساباتهم ورأى القس فى قراهم , ورأى ذلك المجموع العظيم الشديد الحذر البعيد عن الخيال الذى هو الشعب الإنجليزى , والصورة التى بدأت تتكون لدى هذه المجموع عن هذا المؤلف السياسى عن طريق الصحف هى صورة يكرها العقل الإنجليزى أشد الكراهية , وهى صورة شخص كثير الضجيج والتظاهر خال من العقيدة السياسية مضحك ووقح . مما لا شك فيه أن أوكونيل كان قاسياً ولكن كما قالت السبكاتور مثلا : "إن دزرائيلى رغب فى أن يبدأ حرب الشتائم مع أكبر زعيم للشتائم , فلما جرح بدأ فى الشكوى فهو يذكرنا بالكلب الصغير الذى يضربه الجواد بحافره بعد أن ظل أميالا ينبح ويعض حوافر هذا الجواد" . وهذه الصورة السيئة لم تكن بعد إلا شبحاً ضعيفاً غير واضح , ولكن إذا أضيفت إلى اسم يكاد يكون غير معروف , فإنها تصير صورة خطيرة وهى "شخصية" لشخص خيالى , ولكنها قد تثبت على أنها حقيقة أكثر من الرجل الحقيقى , وإذا ما تكونت حفظ الرأى العام ما يتلاءم معها من الوقائع وأهمل غيرها . ولو أن الشاب دزرائيلى قابل شخصينه كما يتوهما الإنجليزى من رجال الأعمال لدهش وأطرحها بعيداً عنه مستفظعاً محتقراً , وكان لا يشك فىأنه قابل ألد عدو تجب عليه محاربته .

12- عضو فى البرلمان

عاد موسم المراقص وعادت مسز أنسون بشعورها المسترسلة كأجمل الجوارى ومسز نوتون بجمالها اليونانى البديع , وعاد بنيامين دزرائيلى الشاب المتأنق الطائش الخلاب الذى يتبين شبحع المحمل بالسلاسل الذهبية من خلال نوافذ لادى بلسنجنون , ولكنه أحيانا يشتد به الضيق لهذا القناع ويتألم كثيراً لأن يكون دزرائيلى , وزادت لديه لحظات الصمت وصارت أكثر وقوعا وهى مثقلة بالأفكار الحزينة , ثم يقطعها فجأة بالسخرية اللذعة , وتتابعت السنوات وبلغ الثانية والثلاثين من عمره وهو سن الكهولة - بالنسبة لتابع . لم يكن يقارب بينه وبين السلطة قليلا إلا صداقة لورد لندهرست , فهذا العجوز الظريف المستهتر يسأله كأنه ند له . وقد اتفقنا فى الأسف على الاتجاه المنحرف الذى يسير فيه بيل بالحزب , فصار حزب المحافظين تحت أوامره جيشاً بلا إيمان لأن الزعيم نفسه من غير المؤمنين , ورأى بيل من الوجهة العملية مطالب بالدفاع عن المنشآت التقليدية فى البلاد , وهى الملوكية ومجلس اللوردات والكنيسة الإنجليكانية , بينما هو يميل من الوجهة النظرية إلى الاعتقاد بأنها مما لا يدافع عنه . وكان حزب المحافظين غنياً ويعد بين مناصريه أصحاب الغابات والقصور الريفية والمصانع ولكن ليس فيه النبوغ والمبدأ , وتكلم بيل كثيراً عن مذهب المحافظين ولكنه لم يكن يعرف ما يريد أن يحتفظ به . أم دزرائيلى فهو على العكس كلما فكر فى الحياة السياسية بانجلترا كلما بدا له من الواجب أن يواجه الأمور بشجاعة , فالمحافظ فى نظره ليس معناه أن يؤيد فى ابتسام الاعتذار دستوراً خلقا , وإنما هو موقف شريف وخيالى , وهو الموقف الوحيد المعقول الوحيد الذى يحسب حساب إنجلترا الحقيقية وتلك القرى القائمة حول قصر السيد , وهذا الجنس النشيط العنيد من صغار السادة الملاك , وهذه الأرستقراطية القديمة المحتد , وفى الوقت ذاته ميسرة للكثيرين , بل يحسب حساب التاريخ نفسه "فالاحترام للسوابق وهو ما تسخر به العقول المغرورة السطحية يبدو لى أن أاساه فى الخبرة العميقة للطبيعة البشرية , وما يجب عمله هو أن يقام المبدأ الواقعى فى وجه المبدأ النظرى للأحرار والنفعيين" . فكان الجدل السياسى الحديث عنده قائماً على الفرق بين المدرسة التاريخية والمدرسة الفلسفية , واختار هو التاريخ , فالبلد ليست كائناً فرضياً يمكن استنتاج حقوقه بمجرد

التفكير العقلى , والمة هى عمل فنى صاغه الزمن ولها مزاج كما للشخص مزاج , وعظمة إنجلترا بوجه خاص ليست ناشئة عن مواردها الطبيعية وهى متوسطة , وكنها من أثر منشآتها وحقوق الإنجليز سابقة لإعلان حقوق الإنسان بخمسة قرون .

هذه هى الآراء التى كانت تدور عادة فى خلد صاحب المذهب الشاب , وفى سنة 1835 نشر كتابه فى "الدفاع عن الدستور الإنجليزى" فى شكل رسالة إلى لورد نبيل , وهو كتاب فى الفلسفة السياسية رأى فيه خير النقاد كمال الأسلوب ونضوج الفكرة , فقد يظهر مجلس اللوردات سخيفاً لمن لا يعترف بالتمثيل من غير انتخاب , ولكن دزرائيلى أوضح ا، هناك ما هو أخطر من ذلك الانتخاب من غير تمثيل , فقد تستطيع عصبة من الممتهنين السياسيين أن تحمل الناس على انتخابها ثم يحكمون البلاد دون أن يكونوا صورة لإرادتها . أما مجلس اللوردات فإنه على العكس من ذلك يمثل قوات حقيقية , فهو يمثل الكنيسة فى شخص لوردات الأساقفة , والقانون فى شخص "اللورد شانسلور" والمقاطعات فى شخص "اللورد لفتنات" والأرض فى شخص الملاك الوارثين . أما عن مجلس النواب فهو يود على العكس لوأنه أوسع تمثيلا مما جاء فى الإصلاح المقيد اذلى وضعه الأحرار سنة 1832 , وقد تبين له أن واجب زعيم المحافظين هو أن تتوفر لديه الشجاعة فى الدفاع عن الماضى فى كل ما هو حى أو جدير بالحياة , ولكن عليه أيضاً أن يخلص الحزب من جميع الأوهام والمبادئ التى صارت بالية , ثم يسير به فى جزء جرأة نحو سياسة كريمة مشربة بحب العامة نم الشعب وقادرة على التسلط عليهم . نجح الكتاب نجاحاً عظيما , وهمهم الدوق قائلا : "يجب إيجاد مقعد فى البرلمان لهذا الشاب" , وكتب بيل إليه رسالة تكاد تكون ودية . أما إسحاق دزرائيلى المحافظ القديم فقد سر كثيراً وكتل إليه : "لقد حصلت الآن على ما لم يكن لك منذ عشرة أيام , اسم فى عالم السياسة , لم ينقصك الذكاء ولكنه يطغى أحياناً لكثرته , ولقد نبذت الأسلوب القصير الرنان الذى يدل على الجهد المتواصل , وأسلوبك الآن نهر مستمر يجمع بين الفكرة والتعبير , فيه الرجولة وفيه الرقة" , وكتب لندهرست : "إنه ليكون من المخجل لو لم يجد له الحزب مركزاً يسمح بالنتفاع بكامل مواهبه ونشاطه وحماسته" . نضجت الفاكهة فى ذلك الوقت ولا تلبث أن تتساقط , والواقع أن الوقت حان إذ أخذ الدائنون يضايقونه أكثر من قبل , وصار المحضرون يصلون حتى أبواب بردنهام , فإن تقدمه للانتخاب أربه مرات , واتخاذه خليلة مسرفة , وتأنقه باللباس الغالى زاد ديونه ثلاثة أمثالها , وكان يقرض أصدقاءه عن طيب خاطر نقوداً اقترضها لهم ولا يردونها , وفى مرة واحدة فقط فى ساعة ضيق طالب دورسيه بدين عليه فأجاب : "أقسم بالله لدى فى المصرف فلس واحد" , وقد قال الصدق . مات الملك وليم الرابع فى مساء ذكرى واترلو كما يموت الأسد العجوز , وتولت العرش ملكة صغيرة فى الثامنة عشر من عمرها , وفى الساعة الحادية عشر صباحا جمعت فيكتوريا مجلس وزرائها لأول مرة , ورافق دزرائيلى حتى القصر اللورد لندهرست الذى ذهب ليقدم الطاعة لملكته , وعند العودة وصف لندهرست وهو متأثر جداً هذا الاجتماع الذى ضم أشهر رجال إنجلترا , فوصف ذلك البحر من الريش البيض والأوسمة والملابس العسكرية فإذا فتح الباب على مصراعيه ساد سكون عميق كسكون الغابة , وتقدمت الفتاة إلى عرشها وسط ذلك الجمع من كبراء الكنيسة والقواد ورجال السيساسة , وقد سحر دزرائيلى بهذا الوصف , ووجد فيه كل ما يحب من عظمة الحفلات وذلك الوقار البراق , وروح الفروسية فى خضوع كل ما فى انجلترا من قوة أما امرأة , وكم ود لو أنه أيضاً أمام ملككته ليقبل يدها الفتية , ولكنه ليس شيئاً مذكوراً . وتمر السنون . أدت تولية ملكة جديدة إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات عامة , وفى هذه المرة عرض على دزرائيلى بتأييد لندهرست أن يرشح فى دوائر عدة مضمونة , ومن بين ما عرض عليه أن وندهام لويس زوج تلك السيدة الشابة الثرثارة الغزلة التى عرفها لدى أسرة بلوار سأله إذا كان يحب أن يكون له زميلا فى مايدلستون , وهى دائرة لها مقعدان فى البرلمان مضمونان للمحافظين , والفضل فى هذا العرض لمسز وندهام , وقد ظل وقتاً طويلا يستثقلها جداً . وفى أحد الأيام دعى إلى وليمة لدى آل روتشيلد , وسألته ربة البيت : "هل تصطحب يا مستر دزرائيلى اليسدة وندهام لويس إلى المائدة ؟ " فأجاب : "أى شئ خير من تلك المرأة التى لا تطاق , ومع ذلك فالله قدير" , ثم وضع يده فى جيب صداره كعادته ومشى نحو العذاب . لكن بعد مقابلات عدة عدل عن رأيه فيها , فهى لم تكن ذكية ولا مثقفة , ولكنها تتكلم عن الأمور فى حكمة , وآراؤها عن رجال السياسة ليست طائشة , ورأى أكثر من مرة أن نصائحها سليمة , وانتهى به الأمر إلى أن صار يدعى كثيراً للعشاء فى المنزل الكبير الذى يملكه وندهام لويس فى لندن أمام هايدبارك ومنم الواضح أن مسز وندهام كانت تهتم له وتعجب به وقد تستطيع نفعه , وهذا مزيج يستلذه النساء فى الصداقة , وكان يغازلها مغازلة فيها شئ من الجد وشئ من المزاح , مما يسلى هذا الجمال الذى نضج من زمن . فى أثناء المعركة قامت نحوه بدور الأم فى التعميد , وكتب دزرائيلى لها رسائل رقيقة يعبر بها عن سروره , إذ يرى اسميهما مقرونين فى إعلان واحد , وقد نسى تماماً كراهيته الأولى , ولم يعد أحد يمتدحه – ولا سارة – كما تفعل هذه السيدة , ومن كتاباتها عنه : "تذكر نبؤتى , سيصير مستر دزرائيلى بعد سنوات قليلة من أعظم رجال هذا الزمن , لأن مواهبه وتأييد أصدقاء مثل لورد لندهرست ولورد شاندوس وقوة زوجى على إبقائه فى البرلمان سيضمن له النجاح ويدعوه الناس محسوبى البرلمان" . ويشاركها فى رأيها الحسن عن هذا المرشح على الأقل رجل واحد , هوالمرشح نفسه , فقد قال لناخبيه فى مايدستون : "عندما أعود هنا وأنا نائب عنكم فلن ينظر إلى أحد منكم إلا بشئ من الارتياح وربمممما بشئ من الفخر" . تم الانتخاب فى 27 يوليه وانتخب لويس ودزرائيلى , وهكذا حصل دون نضال يذكر , وفى بضعة أيام , على المقعد الذى رغب فيه طويلاً , فالحياة عجيبة ! لقد هزم دائماً فى وايكومب حيث اعتقد أنه معروف ومحترم , وهو ينتصر فجأة فى مايدستون التى لم يرها قط قبل أسبوع و فأية طريقة ملتوية سار فيها الحظ إلى أن وصل به غايته , والفضل فى مقعده لعناية الأم التى حاطته بها امرأة ضئيلة الجسم ثرثارة , والفضل فى مقابلته لمسز وندهام لويس عائد إلى صداقته لبلوار , وهذه الصداقة نشأت من فيفيان جراى , ولم يكتب فيفيان جراى إلا لفشله فى جريدة"مرى" وفى مضارباته على أسهم أمريكا الجنوبية , ودخل هذه المضاربات على أثر إقامته فى مكتب ساحة فردريك , وأرسل لهذا المكتب , لأن اضطهاداته فى مدرسة كوجان دلت أباه علىأنه من المستحيل أن يتربى تربية جامعية , وهكذا انتقل خطوة بعد خطوة , فإذا عاد إلى الطفولة وجد سلسلة متصلة من الظروفحيث الحادث السيئ يصير سبباً فى حوادث سعيدة , والحوادث السعيدة تسب الكوارث والفشل . وإنه لمن الصعب أن يستخلص المرء فى هذا الترتيب الكامل الخفى قاعدة أو قانوناً , فكل هذا من الأسرار . صار يعتقد الحياة معجزة مستمرة , وفى داخل تلك الغابة المظلمة خيط "أريانه" اللامع وهو إرادة بنيامين دزرائيلى , فقد يخطئ فى طرائق أعمالها ونتائجها , بل هو أخطأ دائماً , ولكنه لم يفقد قط الغاية الواضحة ولا العزيمة الصادقة للوصول إليها . ربما هذا يكفى . . بل هو يكفى بلاشك لأن قدميه وضعتا فى الركاب , فهو بنيامين دزرائيلى عضو البرلمان , عنوانجميل ومغامرة جميلة , وبعد بضعة أشهر تصغى هذه الجماعة فى إعجاب إلى جمله الرنانة وعباراته المليئة والتزاوج العجيب فيها بين الصفة النادرة والاسم القوى , وبعد بضع سنواتت يصل العضو المحترم بنيامين دزرائيلى إلى حكم المستعمرات أو الأمور المالية فى تلك الإمبراطورية العظيمة , ثم بعد ذلك . . .

رسالى إلى سارة دزرائيلى

           مايدستون فى 27 يونيه سنة 1837 الساعة 11 

"عزيزتى : نال لويس 707 أصوات , ونلت 616 صوتاً ونال الكولونيل تومسون 414 صوتاً , وكاد يتم الانتخاب فأرسلت هذه الكلمة على عجل" .

                                        ديزى
     وإلى مسز وندهام لويس
                             برادنهام فى 30 يونيه

"نرجو جميعاً أن تزورينا أنت ومستر وندهام هنا بين أحراش الزان , ولا نستطيع أن نقدم لكما غير ملذات بسيطة : مناظر طبيعية برية وقلب ودود ! وإليك وإلى زوجك احترامى" .

من مسز وندهام لويس إلى ماجور إيفانز (شقيق زوجها) .

"زرت عائلة مستر دزرائيلى وهم يسكنون داراً كبيرة على مقربة من وايكومب , وأكثر غرف هذه الدار طولها ثلاثون وأربعون قدماً , ولديهم عدد كبير من الخدم والخيل والكلاب , ولديهم مكتبة غاصة بأندر الكتب . وكيف أصف الأب ؟ إنه أحب وأكمل سيد كهل قابلته فى حياته , والآنسة دزرائيلى جميلة وذكية , وله أخوان , أما أكبر الإخوة وهو صديقنا السياسى الذى يدعى عادة ديزى , فإنك ستراه كثراً لأنك تعلم أن وندهام عمل على انتخابه معه فى مايدستون" .

                  ومن دزرائيلى إلى مسز ادوارد بلوار ليتون

"من العجيب أن أختتم نضالى فى الانتخاب بأن أصير نائباً عن مايدستون إننا أطفال الآلهة , ولا نكون عبيداً للظروف أكثر منا فى الساعة التى نعتقد فيها أننا أسياد لها , فماذا يكون المنظر التالى فى مهزلة الحياة الخلابة ؟ الأقدار وحدها تعلم ذلك" .

                                                   دزرائيلى
   ومن دورسيه إلى دزرائيلى

"ولتتجنب الحب والدسائس ولك مقعدك الآن فلا تخاطر بشئ , وإذا وجدت أرملة فتزوج" .

أمضى فى بردنهام الأشهر الثلاثة بين الانتخاب وانعقاد البرلمان وهو فى حاجة للتفكير فى الماضى والاستعداد للمستقبل , وكثيراً ما قام بنزهة طويلة سيراً على الأقدام فى تلك الحقول البديعة إما منفرداً وإما مع سارة . وقد ظل الفصل جميلا مشمساً , والهواء وعطراً بعبيق الأزهار يرن بأزيز النحل ويهزه طيران الفراش الأبيض . وكثيراً ما اخترق ممراً ضيقاً فوجد فجأة أمامه مراعى مغطاة بالحشائش فى ضوء الشمس , ومجموعة من الأشجار الضخمة وبيتاً ريفياً قديماً مغطى باللبلاب أو الأعناب المتسلقة , فهو يحب كثيراً بانجلترا من أجل هذه المناظر , وفى كل من هذه البيوت سيد ضخم ذو وجه أحمر وابن له عينان رائقتان وبنات عجيبات وطاهرات , هنا المنابع التى تستمد منها لندن قواها , ومن هنا يأتى الرجال الذين يصنون للملكة امبراطوريتها , وهذه العظمة وذلك الجمال هما اللذان يجب فهمها كى يصير المرء جديراً بحكم هذا البلد . وكان بنيامين دزرائيلى وهو يتنقل بين الأشجار والأزهار يقول لنفسه , ربما لأنه من جنس أقدم وأكثر مقاساة أحب هؤلاء الإنجليز أكثر قليلاً مما يستطيعون أن يحبوا أنفسهم . ولكنه سوف يتألم ينتزع نفسه من هذا الملجأ , فإنه يشعر وهو وحيد بين أهله وأخته بأنه بلغ نتهى القوة وله الحق فى أن يكشف عن نفسه , ومهما قال يقابل قوله بالإعجاب ولا يضايقه عقل ضئيل ولا منافس حسود , قد احتفظ منذ عهد المدرسة بشئ من الخوف لابتداء موسم جديد , فالموسم الجديد يقترن بفكرة معركة تنشب ودور يمثل وخطر يقابله , وكان جسده العصبى يطلب الرحمة , فقد دفعه للتغلب على العقبات بغمز المهماز , وهو لا يخلو من قلق أو تعب . وهذه المرة خاصة وهو يسهر على اسلحته البرلمانية ساءل نفسه : ماذا تكون عليه هذه المدرسة الجديدة وهؤلاء الرفقاء المهابون , أى بحر يواجهه بعد الخروج من هذه الميناء الهادئة ؟ القسم الثانى لأن يصبح الرجل ملكا او سائلا له دائماً تلك العينان السوداوان أو الرمديتان , وذلك الفم الحذر أو الفضاح , تلك اليد نفسها , فبين هذا الإصرار من الطبيعة فى كل منا , وبين هذه المصادفات المختلفة فى غير ما تناسب , يمر تاريخنا كأنه صفحة بين أسطوانتى مطبعة تتلقى الحروف فى كل لحظة من الجانبين . . . وهكذا ولو أننا لا نستطيع تغيير الطبائع كما لا نستطيع تقويم الشعور المجعدة , إلا أنه يمكننا الاعتماد على الطبائع , بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول : بما أننا لا نستطيع تغيير الطبائع فإنا نستطيع الوثوق بها , ومن ينحدر إلى عمقها يلمس الصخر , فقوة قيصر أو الاسكندر مثلا قامت بلا شك خاصة من ميلهما للاختلاقات , وأنهما لم يلوما شجرة الكمثرى أن لم تخرج برقوقا .

                                                                             "ألان" .

1- خطبة الاستهلال

من المحتمل أن يعتقد أهل بردانهمام أن إنجلترا بأسرها تتكلم فى دخول بنيامين دزرائيلى إلى البرلمان , وأما لندن فالحديث فيها يدور عادة حول الملكة الفيتة وحذقها فى التصرف وذكائها , والود الذى تحبو به لورد ملبورن رئيس وزرائها , ويتحدث الكثير من الناس عند عودتهم من إجازتهم عن سفرهم الأول فى السكك الحديدية وشعورهم بحاسة الخطر , ثم تناسيهم هذا الشعور ز عاد دزرائيلى على الأثر إلى آل وندهام لويس "زملائه" , ودعته مسز وندهام الفخورة بحمايتها له إلى شرفة دافئة فى المسرح لرؤية كين , وذهب إلى لندهرست ليتلقى تهنئته ثم ليهنئه بدوره , فإن هذا العجوز المتين تزوج من فتاة صغيرة وصار لا يتكلم إلا عن رغبته فى ولد , ثم أخذه وندهام لويس إلى البرلمان . لما كان قصر وستمنستر القديم قد احترق جزئياً عقد اللوردات والنواب اجتماعاتهم فى قاعات مؤقتة وهى تضيق بهم شيئاً ما , ولكن دزرائيلى استطاع أن يحجز لنفسه مقعداً خلف زعيمه سير روبرت بيل مباشرة , وأظهر له سير روبرت الود , ودعا العضو الجديد إلى الاشتراك فى ذغاء صغير يوم الخميس التالى بنادى كارلتون "وهو غذاء قاصر على أعضاء مجلس النواب وحدهم , ولا ننتهى منه حتى نكون نحن قد عرفنا شيئاً عن نفسيتة هذا المجلس" , ولا وقت "نحن" هذه قبولا , وقال وندهام لويس لزوجته عند عودته : "لقد أمسك بيل بيد دزرائيلى فى أوضح مظاهر الود" . صار من الواضح إذ أخذت الأصوات لأول مرة أن وزارة لورد ملبورن من "الهويج" ستبقى فى الحكم بتأييد الأرلنديين لها , وظل دزرائيلى أسبوعين يتفرج على المناقاشات ولا ينطق , وبه رغبة شديدة إلى الكلام إلا أن الخوف الشديد استولى عليه وحوله رجال عظماء , ففى مواجهته على مقعد الزراء وأمام الصندوق الأحمر الرسمى يجلس لورد جون رسل زعيم ""الهويج" , وهو يبدو ضئيلا جداً فى ثوب الريدنجوت الأسود القديم الزى , وقد اختفى نصف وجهه تحت قبعة ذات إطار عريض , وله مظهر حزين , ولورد جون هو الرمز الحقيقى لحزبه , وهو يقدم أجرأ الآراء فى أسلوب من أقدم الأساليب , ويلفظ كلمة الديمقراطية بصوت فيه نغمة الأرستقراطية . وعلى مقربة من لورد جون يجلس لورد بلمرستون وزير الخارجية وقد غطى جانب خديه بشعر بعد أن صبغه ومشطه بعناية , وهو بلمرستون الذى وصفه جرانفيل بقوله : "إنه يشبه جارف النقود وقد هرم واعتزل العمل من أماكن القمار ببادن" , ويرى "هويج" أنه غير مهذب لأنه لا يظهر الاحترام للتاج وهو مظهر حافظ عليه "هويج" دائماً حتى وهم يعزلون ملوكا عن عرشهم . وأقرب إليه بعد المنضدة الضخمة التى تفصل بين الوزراء والمعارضة يرى سير روبرت بيل بجثته العظيمة , ويرى جانباً من وجه لورد ستانلى بأنفه الدقيق المقوس وفمه الحساس وشعره المجعد بعض الشئ , وهو ذلك اللورد الأبى الذكى الذى يلبس ثيابه فى إهمال متعمد يصح أن يتلقن منه ديزى درساً , وعند مدخل البا بين المستقلين يجلس صديقه بلوار , وفى وسط عصبة الأرلنديين يجلس عدوه اللدود أوكونيل . بعث فيه الاضطراب أيضا ذلك المزيج فى هذه الجمعية بين عظمة طقوسها وإهمال قواعد اللياقة فيها , فلا أحد فيها يصغى واللغط كثير أثناء الخطب , ويدخل النواب ويخرجون بلا انقطاع , ولكن رئيس المجلس يلبس الرداء والشعر المستعار , والحجاب يدخلون وهم يرفعون عصا السلطة , ولا يشير أحد إلى زميل إلا بقوله السيد المحترم , وكل هذه التفصيلات الصغيرة سر لها كثراً ذها الحدث الذى ظل طويلا يلاحظها من الخارج , وكان على ثقة بأنه فى اليوم اذى يبدأ فيه الكلام لن يرتكب خطأ , ويوجه الكلام لرئيس المجلس وحده حسب الاصطلاح المتبع فى ذاك المكان , ويدعو كل نائب من المحامين "السيد المحترم العالم" , وكل نائب من الضباط "اليسد المحترم الجرئ" , وسير روبرت بيل "البارونيت المحترم" , ولورد جون "اللورد النبيل المعارض" , ومن ذلك العهد صبت أفكاره فى قالب التعبيرات البرلمانية , وإذا ما صار وزيراً قرع الصندوق الأحمر بقبضته فى عظمة وفى آخر الخطبة من خطبه التى تقابل بالتصفيق يتهالك فى غير عناية على مقعد الخزينة ويمسح شفتيه بمنديل من التيل الفاخر , ولكن منذ قاس عن قرب ذلك الركود القوى فى هذا الجسد الكبير امتزج تعجله بشئ من القلق . فى معرض إثبات نيابة أعضاء المجلس ثارت مناقشة فى شأن اكتتاب افتتحه رجل يدعى مستر سبوتسوود يرمى به إلى إمداد المرشحين البروتستانت بالأموال اللازمة لمقاومة الكاثوليك فى إرلندا , ولم يقتصر الاستياء من هذا الاكتتاب على الإرلنديين وحدهم بل شاركهم فى ذلك الأحرار الذين رأوا أنه يتعارض مع حرية الناخبين , تكلم أوكونيل فى حماسة عن هذا الموضوع فما انتهى حتى وقف دزرائيلى فى مكانه , كان من المتفق عليه أن يرد لورد ستانلى نيابة عن المحافظين , ولكن دزرائيلى ذهب إليه وسأله أن يسمح له بالكلام قبله , دهش ستانلى ولكنه لم يهتم كثيراً وسمح له بذلك . تطلع الأرلنديون والأحرار فى فضول للخطيب الجديد الذى وقف أمامهم , وقد سمع الكثيرون منهم أنه أفاق , وأنه من المستقلين , ثم تحول محافظا , وأنه ملفق روايات وخطيب مزخرف العبارة , ومن المعروف انه حدثت بينه وبين أوكونيل مشادة عنيفة من قبل , فتجمعت عصبة قوية من أصدقاء أوكونيل بمجرد أن وقف دزرائيلى , وفى مقاعد المحافظين فحص السادة الريفيون بشئ من القلق هذا الوجه الذى هو بلا شك غير إنجليزى السحنة , وتضايقوا لمنظر لفائف شعره وملابسه , وقد ارتدت سترة خضراء فاقعة وصداراً أبيض مغطى بالسلاسل الذهبية , (وقال له بلوار ذات مرة لم تكثر من السلاسل يا ديزى , هل تتمرن على أن تكون محافظا لمدينة لندن أم ماذا ؟) , وفى عنقه رباط كبير أسود يزيد فى امتقاع لونه , وكان شديد الانفعال , فهى لحظة خطيرة وهو يلعب دوراً كبيراً , وعليه أن يظهر للأحرار خسارتهم له , ويظهر للمحافظين أن بينهم زعيما من زعماء المستقبل , ويظهر لأوكونيل أنه حل وقت التكفير عن خطيئته , ولديه ما يبعثه على الثقة فى نفسه , فإن خطبته أعدت بعناية , وهى تحتوى على عذذ من العبارت ذات تأثير مؤكد ومن تقاليد البرلمان أن تقابل خطب المبتدئين بالرفق , ويقال عادة للمبتدئ إن خطبته "هى خير خطبة استهلاكية منذ خطبة بيت" , فمثلا جلادستون الشاب الذى وجده دزرائيلى فى مقاعد النواب عندما تكلم لأول مرة منذ خمس سنوات بين العطف العام كتب فى مذكراته اليومية : "تكلمت لأول مرة مذة خمسين دقيقة وأصغى إلى المجلس فى عطف شديد , ورضى أصدقائى عنى , ثم أخذت للشاى فى نادى كارلتون" , لكن جلادستون خريج إيتون وأكسفورد , له وجه جميل إنجليزى السحنة , ذو ملامح بارزة ومألوفة وثياب داكنة وحركات وقورة . أحدث صوت دزرائيلى المتصنع دهشة مشوبة بعدم الارتياح , حاول دزرائيلى أن يثبت أن الأرلنديين وأوكونيل بوجه خاص استفادوا هم أنفسهم من اكتتابات مماثلة , أو على قوله : "من هذه الشحاذة الفخمة" . كان المجلس يمقت العبارات الرناناة , سمع ضحك مكتوم , فاستمر فى خطبته قائلا : لا أزعم با،ى غير شاعر بصعوبة موقفى (يتجدد الضحك) , ولكنى واثق من السادة المحترمين (ضحك وأصوات تقول إلى الموضوع !) أؤكد لهم أنهم إذا لم يريدوا سماعى فإنى سأجلس من غير تململ" , (تصفيق وضحك) . وبعد لحظة من هدوء نسبى جاءت فى خطبته عبارة جمعت فيها الألفاظ جمعاً يبعث على الدهشة , فثارت العاصفة وارتفع الصفير من جماعة الأرلنديين , وأخذوا يضربون الأرض بأقدامهم , ويقلدون أصوات الحيوانات . حافظ دزرائيلى على هدوئه واستمر , "إنى أريد حقا أن أحمل المجلس على أن يمنحنى خمس دقائق أخرى (ضحك شديد) , فإنى أقف الليلة هنا يا سيدى لا بصفة رسمية , وإنما بصفة واقعية لحد ما , ممثلا لعدد كبير من أعضاء البرمان (ضحك جنونى عام) , ولم تبتسمون ؟ (ضحك) لماذا تحسدوننى ؟ (ضحك صاخب وعام) " . من هذه اللحظة بلغت الضجة حداً كبيراً حتى لم تسمع غير بضع عبارات "سيدى . فى اللحظة التى أعلن فيها ناقوس كنيستنا الكبرى خبر وفاة الملك , (صياح . . أوه ؟ وضحك كثير) , قرأنا عنئذ يا سيدى (ضجيج وصيحات . أوه ! أوه . . !) إذا كان السادة المحترمون يرون من العدالة مقاطعتى فإنى أسلم لهم (ضحك شديد جدا) , إنى لن أسلك مثل هذا المسلك نحو أحد , هذا كل ما أستطيع قوله , (ضحك) كنى أريد ببساطة أن أسأل . . (ضحك) ليس شئ أسهل من الضحك (ضحك شديد) عندما نذكر أناشيد الغرام (ضحك شديد) ذكر الغرام القديم والجديد الذى تبادله اللورد النبيل "تيتروس" مقاعد الوزراء . . . (ضحك شديد) , وعندما نذكر فى الوقت ذاته أنه بين إرلندة المتحررة وإنجلترا المتعبدة يجلس هذا اللورد النبيل فى هدوئه فوق منصة السلطة وهو يستطيع أن يمسك فى أحد يديه مفاتيح القديس بطرس ويحرك فى الأخرى . . (هنا قواطع النائب المحترم بضحك شديد مستمر حتى صار من المستحيل معرفة كيف أتم هذه العبارة) . عندما سكت الضحك استمر قائلا . . نرى هنا يا سيدى الرئيس التعصبات الفسفية للناس (ضحك وتصفيق) إنى أحترم التصفيق حتى ولو جاء من الخصوم (ضحك) وإنى لأعتقد يا سيدى (صياح إلى الموضوع) إنى لا أعجب يا سيدى للمقابلة التى قوبلت بها (ضحك) فكثيراً ما أعدت من جديد أشياء (ضحك) وكثيراً ما أنتهيت إلى النجاح (صياح : حقا !) , ثم فى صوت شديد وهو ينظر فى غضب نحو مقاطعيه , وقد رفع يده وفتح فاه على سعته , وصاح وقد انقلب مرعبا وتغلب فجأة على الضجيج "إنى أجلس الآن وسيأتى الزمن الذى تصغون فيه إلى" . سكت وخصومه لا يزالون يضحكون وأصدقاؤه ينظرون إليه فى دهشة وحزن , وفى أثناء هذا العذاب كله أيده رجل واحد فى ثبات , وهو البارونيت المحترم سير روبرت بيل , وليس من عادة روبرت أن يجهر بتأييد خطباء حزبه , فهو يصغى أليهم فى سكوت يكاد يكون عدائياً , ولكنه فى كل هذه الفرصة تلفت عدة مرات نحو الخطيب الشاب وهو يقول : اسمعوا ! اسمعوا ! فى صوت قوى , وعندما التفت نحو القاعة إلا أن يبتسم قليلا . وقف لورد ستانلى محتقراً ما حدث , ولم يقل كلمة واحدة عن هذه المقابلة الغريبة التى قوبل بها زميل له , بل تناول الكلام عن الموضوع فى جد وأصغى إليه المجلس فى احترام , وأسند دزرائيلى رأسه إلى يده وهو صامت وحزين , فهذا هو الفشل مرة أخرى , وهذا هو الحجيم , لم يحدث قط منذ تتبع مناقشات مجلس النواب أن رأى مثل هذا المنظر غير المشرف , هل يبتدئ من جديد فى البرلمان حياة مثل حياته فى مدرسة كوجان ؟ وهل يجب عليه هنا أن يناضل أيضا ويعادى وهو يرغب كثيراً فى أن يحب ويحب ؟ لماذا تتعقد له الأمور أكثر مما تتعقد لللآخرين ؟ ولكن لماذا تحدى فى خطبته الأولى أوكونيل وعصابته ! يصعب عليه الآن أن يسبح مقاوماً التيار . ولكن هل يستطيع ذلك أبداً ؟ لقد فقد مكانته كلها فى هذا المجلس , استعاد فى مرارة الصورة التى رسمها عن هذه البداية , فقد تخيل مجلساً أسر بعبارته وسحر بخيالاته وخلب بلواذع نكاته , ثم التصفيق المستمر والنجاح التام لساعته . . . . وهذه الصيحات المهينة . . . . والفشل . . . . آه لو يلجأ إلى أشجار برادنهام . اضطره إعطاء الأصوات لأن يقف ولم يصغ إلى المناقشة , وسعى إليه لورد شاندوس الطيب القلب يحمل التهانى , فإجابه أن ليس هنالك موضع للتهنئة , وتمتم قائلا : "إنه لفشل" , ولكن لورد شاندوس قال : "كلا ! مطقا ! إنك مخطئ , لقد رأيت بيل الآن وسألته : أصدقنى الآن ما رأيك فى دزرائيلى . فأجابنى , إن بعض أصدقائى شعروا بخيبة وهم يتكلمون فى فشله , ولكنى أقول عكس ذلك تماما , فإنه فعل كل ما يمكن فعله فى مثله هذه الظروف , فإنا أقول كل شئ إلا أنه فشل , ويجب أن يشق طريقه " . استوقفه النائب العام من الأحرار فى طرقات البرلمان وسأله فى ود . . والآن يا مسر دزرائيلى هل تستطيع أن تخبرنى كيف أتممت إحدى عباراتك فى خطبتك فإنا نود أن نعرف تكملة قولك : فى يد مفاتيح القديس بطرس وفى الأخرى . . ؟" . فأجاب : "وفى الأخرى قبعة الحرية يا سير جون . . " , فابتسم محدثة وقال : "صورة جميلة" , فأجاب دزرائليى فى شئ من المرارة : "نعم ! ولكن أصدقاءك لا يسمحون لى بإتمام صورى" , فقال النائب العام : "ولكننى أؤكد لك أن رغبتنا فى الإصغاء إليك كانت شديدة جدا , وإنما هى ضجة فئة صغيرة عند الحاجز لا سلطان لنا عليها , ولكن ليس هنالك ما تخشاه" . ما هذا ! إذن أثر الفشل الذى لا مرد له لم يكن قويا كما هو لديه ؟ ومثل الكثيرين من الرجال الخاضعين لأعصابهم استرد دزرائيلى ثقته بنفسه فى السرعة التى فقد بها هذه الثقة , وأخذت سحابة اليأس تنقشع عن نفسه , وفى اليوم التالى وهو يكتب إلى سارة عن الكارثة أخذ يحد من اتساعها "حيث أريد أن أعطيك فكرة صادقة عما حدث , فأقول لأول وهلة إن بدايتى كانت فشلا حتى أنى لم أنجح فى أن أجد فرصة لقول ما أردت قوله , لم يتسبب هذا الفشل عن انهيارى أو عجزى , وإنما عن مجرد القوة العملية لخصومى , لا أستطيع أن أصف لك الحد الذى وصلوا إليه , كانوا شديدى الوطأة متحزبين وظالمين , وقاتلت هنا وهناك عند ما يسود الصمت , وانتهيت بحماسة عندما تبين لى أنه لم يبق ما أفعله" , ووقع على هذه الرسالة "اخوك د. وهو رضى النفس" . فىاليوم التالى عندما دخل بلوار إلى نادى أثينيوم رأى"شيل" الكهل والنائب الأرلندى الشهير ومساعد أوكونيل يحيط به جماعة من الشبان الراديكاليين , وهم مسرورون لما حدث لدزرائيلى , واقترب منهم بلوار وظل صامتاً , وعلى حين فجأة رمى "شيل" جريدته وقال لهم فى صوته النافذ : "الآن أيها السادة سمعت كل ما قلتموه , وفوق ذلك سمعت خطبة دزرائليى , وأقول لكم هذا : إذا كانت روح الخطابة موجودة فى رجل فهى فى هذا الرجل , وليس هنالك ما يحول دون أن يكون من خيرة الخطباء فى مجلس النواب , إنى أعرف الكثير من أمر هذا المجلس , وأقول لكم أيضا إنه من غير هذه المقاطعة قد يفشل مستر دزرائيلى , وإنى لا أسمى حادث الأمس فشلا , وإنما هو صدمة . وإن خطبتى الأولى تعتبر فشلا , لأن الأعضاء أصغوا إليها , ولكننى عوملت بازدراء فى حين أنه قوطع مقاطعة شريرة , ويجب أن تكون خطبة البداية مملة , فمجلس النواب لا يسمح للرجل أن يظهر الذكاء وقوة الخطابة فى آن واحد دون أن يترك للمجلس فضل اكتشاف هذا الأمر" . أحدثت هذه الخطبة القصيرة من خصم دهشة , وتفرق الشبان فى شئ من الخجل , واقت رب بلوار وقال لشيل : "سيتعشى دزرايلى معى فى هذا امساء , فهل تحب أن تقابله ؟" , فقال شيل : "إنى شديد الرغبة فى رؤيته بالرغم من إصابتى بالنقرس لكى أخبره برأيى فيه" , وكان شيل فى وقت العشاء ساحراً وانتحى بدزرائيلى جانبا وأخبره أن هذه المقابلة الصاخبة هى فرصة عظيمة له , وقال : لو أنهم أصغووا إليك فما هى النتيجة ؟ إنك تلقى أحسن خطة فى حياتك وتقابل برود فتيأس من نفسك , ولكنك على العكس أظهرت للمجلس أن لك صوتاً جميلا , وذلاقة فى القول , وشجاعة وشخصية وحياة , والآن عليك أن تتخلص مدة دورة برلمانية من نبوغك , ووتكلم فى فرص كثيرة , إذ يجب ألا تظهر بمظهر الخائف , ولكن تكلم فى اختصار , وكن هادئا دا , وحاول أن تكون مملا , وناقش الأمور مناقشة غير كافية , لأنك إذا ناقشتها بدقة ظنوا أنك تحاول إظهار الذكاء , واعمل على إثارة دهشتهم بأن تتكلم فى المسائل التفصيلية , واذكر الأرقام والتواريخ , فلا يمضى وقت حتى يتنهد المجلس على الذكاء والفصاحة التى يعرفون أنك تملكها ويشجعونك على استعمالها , وحينئذ تتملك آذان هذا المجلس وتصير محبوبا لديه" . هذا الحديث الذكى يدل على معرفة عميقة بالإنجليز أضاء المستقبل لدزرائيلى , وليس هنالك من يقدر مثله على فهم هذه النصيحة واتباعها , فهو يكيف نفسه كالتحفة الغنية , وهو دائما على استعداد لأن يعدل من صورة نفسه , وقد ارتكب مرة أخرى الخطأ الذى أنبه عليه , وهو التع8جل والرغبة فى الشهرة السريعة , ولكن يجب أن يعرف كيف يتقدم فى بطء . بعد ثمانية أيام من ذلك اليوم , وقف وسط مناقشة عن حقوق المؤلفين , وقد استعد جميع الأعضاء لمقابلته مقابلة حسنة , واتفق المحافظون والأحرار على فكرة واحدة , هى ان ذلك الرجل عومل معاملة ظالمة , وليس ذلك مما يروق لديهم , فهم رجال صيد وقنصص , ويحبون أن تتاح الفرصة للخطيب كما تتاح للفريسة , وظل عالقاً فى أذهانهم من تلك الجلسة الفظيعة شعور الجل , وصاروا ميالين لتأييد هذا الاب الغريب الأطوار إذا جرؤ على محاولة أخرى , وسيحتملون حتى عباراته المنمقة جداً وخيالاته العجيبة . ولكن مما أثار الدهشة العامة أنه لم يقل غير الشئ العادى الواضح عن موضوع يعرفه جيداً , وجلس بين الرضاء العام . وأجاب صاحب المشروع بأنه سيحسب حسابا كبيراً للملاحظات القيمة جدا التى أبداها نائب مايدستون المحترم , وهو من خيرة الأزاهير التى يتحلى بها الأدب الحديث , وأبدى سير روبرت بيل رضاه الشديد بقوله : "اسمعوا ! اسمعوا ! " , وهنأ كثيرون من الأعضاء دزرائيلى , وجاء كولونيل قديم من المحافظين , وقال له بعد همهمة ودية : "لقد عدت إلى الجلوس ثانية على ركابك , والان تستطيع أن تستمر فى السير" . وكتب دزرائيلى إلىسارة يقول : "فى المرة القادمة سأجلس بين التصفيق الشديد" . بدلا من أن تكون تلك البداية المحزنة مضرة به , فإنها جعلت له مكانة الضحية , وفى ثلاثة أسابيع حصل فى ذلك المجلس الصعب على نووع من الشهرة , فهو شجاع حسن الحديث , ويظهر أنه على معرفة تامة بالموضوعات التى يعالجها , وكان السادة الإنجليز يفكرون "ولم لا ؟" .

2- زيجات

صار نجاح دزرائيلى مؤكداً فى المجلس منذ يناير , وقد أمضى فترة الانتظار والمحافظة على الجد الممل التى وصفها شيل , وكم ا تنبأ هذا ود الجميع لو يعود خلاباً , وروى أخوه عند عودته إلى برادنهام , بعد أن إحدى جلسات المجلس كيف أنه بمجرد وقوف "بن" عاد النواب مسرعين إلى مقاعدهم وكيف ساد الصمت العميق لسماعه , وأصغى إسحاق العجوز إلى هذه القصة فى تأثر, وتمتمت سارة : "ليباركك الله أيها العزيز" , فإنها اعتقدت دائما أن أخاها رجل عظيم . حملت السياسة دزرائيلى على تخفيض قسطه من الحياة الاجتماعية, ولقد تغيرت على كل حال الكثيرين من أصدقائه , فعائلة بلوار البراقة والهشة تكسرت , إذ ذهب بلوار بزوجته إلى إيطاليا محاولا التقارب بينهما , ولكن فى نابولى فكر فى موضوع رواية هى : "آخر أيام بومبى" , وأخذ فى كتابتها , وأهمل روزينا كما كان يفعل فى لندن , ووجدت المسكينة نفسها مهجورة فى هذه البلدة الغريبة ,ومحرومة حتى من كلابها المحبوبة , فسمحت لأمير إيطالى بالتودد إليها , ةهب بلوار من أحلامه إلى الغضب لهذه الحقيقة , وبعد حادثين مؤلمين أو ثلاثة اضطر للانفصال , ولم تعد روزينا المسكينة المتألمة ترى أصدقاء زوجها إلا للشكوى منه , شعر بلوار بتأنيب الضمير ولم يعد سعيداً , ووجد دزرائيلى فى ذلك حججاً لتأييد عدم إيمانه بالزواج عن حب . وفقدت كارولين نورتون الجميلة مرحها أيضاً , فإن زوجها البغيض بعد أن استفاد من صداقة لورد ملبورن لزوجته , أقام عليهما قضية متهماً لهما بالزنا واستطاعت زوجته أن تثبت أنه قادها بنفسه مئات المرات حتى باب الوزير , وبرأهما المحلفون , ولكن نورتون مع ذلك هجر زوجته وأخذ معه أطفاله , ولا يسمح القانون الإنجليزى لمسز نورتون بحضانتهم , فأخذتهم ترجو صديقها بلوار ودزرائيلى فى أن يعملا على تعديل القانون وفى الشقة الصغيرة فى "ستورى جيت" لم تعد الشرفة ذات الأزهار والستائر من الموسلين تسمع غير الشكوى والرجاء فقل عدد الزائرين . ولا زال دزرائيلى يتردد على لادى بلسنجتون فى بعض الليالى التى لا يجتمع فيها البرلمان , وفى ذلك البيت أيضا أظلمت الصورة , فإن دورسيه زاد فى الترف وبالغ فى الإنفاق والقمار حتى أعوزته النقود و كثيرا ما يقابل الزائرون دائنيه أمام الباب , والبيت الوحيد الذى ظل دائما يرحب بضيوفه , هو بيت وندهام لويس , وليس لمسز لويس رقة الأخوات حفيدات شريدان وذكاؤهن , ولكن ربما أن عضواً شابا فى البرلمان كبير المطامع شديد الحساسية يكون فى حاجة أكبر إلى العطف منه إلى الرقة , فهذه الصديقة ثمينة لدزرائيلى . فى ذات صباح بعدنحو ستة أشهر من دخوله إلى البرلمان , جاءه الخبر بوفاة زميله فجأة فأسرع إلى الأرملة ووجدها فى أشد التأثر . رسالة من دزرائيلى إلى مسز وندهام لويس . "من الطبيعى بعد الامتحان الذى مررت به أخيراً , أن تستلمى لعواطف الوحدة والحزن , هذا طبيعى ولا بد منه , ولكن يجب ألا ترضخى لهذه العواطف , ويجب أن تحاولى الابتعاد عن التفكير دائما فى الماضى , فقد يكون المستقبل مليئاً لك بالسعادة والأمل . . . . أما من جهتى فإنى أقول إن الآلام التىمرت بك والصفات الممتازة التى احتملم بها هذه الآلام , واعتلاف لك بأنى لم أكن أتوقعها , وثباتك وطيب خلقك , ستجعل منى صديقاً وفيا لك , ويمكنك أن تعتمدى علىبقدر ما تنفع نصائحى وتأييدى وصحبتى لك فى تعزيتك" . والواقع أنه استمر على التردد عليها فى إخلاص , وأخذت روزينا بلوار صديقه هذا البيت تتبع فى احتقار وقلق تلك الزيارات المتكررة من صديق الزوج السابق , واعترفت مارى آن لها بأن دزرائيلى يميل إليها ميلا أكبر من مجرد الصداقة , وقد تعلمت روزينا الارتياب فى رجال الأدب , فنصحت لها بأن تكون على أشد الحذر . وعند تتويج الملكة أهدى كل نائب نوطا من الذهب على سبيل التذكار , فا÷دى دزرائيلى نوطه لمسز وندهام لا لسارة . أخذت العبارات التى يخختم بها رسائله تزداد اشتعالا فمن "صديقات الودود" انتقل إلى "أستودعك الله وإنى لسعيد لو تكونين كذلك" , ومما هو جدير بالاعتبار أنه بدأ يشركها مع سارة فى تلك القصص ذات الفخر المكشوف عن نجاحه , وأمامها يرفع النقاب ويلقى الترس "جميع صحف المحافظين والأحرار فى لندن تكلمت عن خطبتى الأخيرة وامتدحتها كثيرا" . . . "يقيم لورد شاندوس وليمة كبيرة لدوق أوف ولنجتون وجميع المدعوين هم على الأقل وزراء , وأظنك تتعجبين عندما تعلمين أنى دعيت معهم , لكن شاندوس صديق وفى , وهو يفخر بنجاحى فى البرلمان . . . ". "تقيم عائلة لندندرى وليمة دعت إليها مائة وخمسين من نخبة أهل لندن "فانى" وفية فدعتنى ولذلك ترين اسمى فى "المورننج بوست" . . . وهذا عمل من أرق ما يكون , لأنه لم يك منظور بأى حال . . " , وأرسل وصف الغرف المزدانة بأشجار البرتقال والموائد المغطاة بالبلور الفاخر , وسمك السلمون المقدد والبطارخ والكبد السمين , لكل من سارة ومسز وندهام لويس و وقد بدأت تؤلف جزءاً من العائلة . هل بدأ يفكر فى الزواج ؟ إنه لم ينس نصيحة الكونت دوسيه : "إذا وجدت أرملة فتزوج . . . " , ولكن لم يكن ليتجاهل الاعتراضات , فهو فى الخامسة والثلاثين من عمره , وهى فى الخامسة والأربعين , وليس لها مركز فى الهيئة الاجتماعية كبير كمركزه , وربات البيوت اللتى تتنازعن دزرائيلى لا يتحمسن لمارى آن , وفيما يتعلق بالثروة ؟ ترك وندهام لويس لامرأته حق استعمال منزله فى "جروفنرجيت" لمدة الحياة , ودخلا يبلغ نحو أربعة آلف جنيه , وهو كاف للمعيشة وللقيام بواجبات الضيافة ولكنه ليس بالثروة الكبيرة , ولم يكن هنالك رأس مال آخر يفى بديون دزرائيلى وهذه الثروة فوق ذلك لا تورث , وبما أن مسز وندهام هى أكبر الاثنين سناً , فإن دزرائيلى معرض جداً لأن يجد نفسه فى منتصف مجرى حياته مضطراً لهجر بيته وطريقة معيشته , ثم إن مارى آن ليست بالمرأة المثقفة , والناس يرونها مضحكة شيئاً ما , ويقال إنها لا تتذكر قط ايهما ظهر قبل الآخر : اليونان أم الرومان , وبعد حديث أمامها عن "سويفت" , سألت عن عنوانه كى تدعوه للعشاء , ويرى النساء الأخريات أنها غبية طائشة تتكلم كثيرا وفى ضجة مخيفة , وهى صريحة إلى درجة الحماقة , وذوقها فيما يتعلق بالأثاث والملابس عجيب وكريه , ومن المستطاع لدى أديب شاب ووزير من وزراء المستقبل أن يجد أصلح منها . لكن دزرائيلى لا يرى هذا , فهو على غير ما يراه أهل المجتمعات لا يراها غبية حقيقية هى جاهلة ولكن ماذا يهم ذلك ؟ لقد رىها وهى تعمل أثناء انتخابات عدة , وهى تفهم الرجال وحكمها سليم , وتعمل عملها كاملا وعلى خير وجه , فهى عدة , وهى تفهم الرجال وحكمها سليم , وتعمل عملها كاملا وعلى خير وجه , فهى رفيق ناصح , وأحاديثها الطائشة تسلى دزرائيلى زتريحه . فله صديقات كثيرات من البارزات , ولا يرغب فى أن يرى نفسه فى بيته مضطراً لتحمل هجمة من هجمات الذكاء , ومارى آن تعجب به , وقد شعر بأنها لا تعيش إلا من أجله , وفى لحظات الانقباض وهى كثيرة لديه يكون فى حاجة إلى من يعزيه فقد تألم من بداية حياته الصعبة أكثر مما ينم عليه مسلكه وبروده شيئا ما . وقد رغب منذ أمد بعيد فى أن يجد سارة أخرى تكون له زوجة فضلا عن أخت , ويشعر بعض الرجال بالحاجة إلى الاحتفاظ باستقلالهم من أجل المغامرات الخيالية , أما دزرائيلى فحاول الغرام للحال أنه يتعارض مع الطموح وأن ملجأ العاطفة المستمرة أكثر إغراء . كان دائما سريع الاندفاع , فبمجرد أن وجد فى مارى آن الزوجة التى يرغب فيها قال لها ذلك , ولم يقابل هذا الإعلان منه مقابلة سيئة , فهى تحترم مواهبه أكبر الاحترام , ولها كل الثقة فى مستقبل حياته , ولكنها رغبت إليه فى هدوء وفى اعتدال أن تتاح لها فرصة التفكير , وطلبت منه سنة لتدرس أخلاقه . كان البرلمان فى عطلة , وبرادنهام هادئة مزدهرة , ودزرائيلى عاشقاً , فأخذ فى تأليف مأساة , وصار يخبر مارى آن يوماً فيوما بما يتم فى أمر مؤلفه وفى أمر حبه : "إنى أتقدم سريعاً ظاهراً , وإنك لتعلمين أنى لا أطمئن لنفسى فى سهولة , وليس من عادتى أن اـكلم عن مؤلفاتى فى رضا , فتستطعين أن تصدقينى بأن عملى الحالى يتجاوز كثيراً ما كنت أنتظره . . . لم يبق هنا إلا القليل من الأزهار , ولكنى أرسل لك بعض أزهار البسلة" . كتب بعد أربعة أيام : "أكتب إليك وأنا فى صحة جيدة ونفس راضية , والعمل يسير سيراً حسناً , وإنى مرتاح لك قمت به , أنظر إلى ماألفته فأجده جيداً , فالصحة والعقل الرائق وحبك الغالى لدى – إنى لأشعر بأنى أستطيع افتتاح العالم" . بعد ستة أيام :"لا أستطيع الجمع بين فكرة الحب وفكرة الفراق , ففكرتى عن الحب هى أن أنعم دائماً بصحبة المرأة الساحرة التى أنا مخلص لها , وأن أشاطرها أفكارى وخيالاتى وسعادتى ومتاعبى جميعاً . . . فكل ماأريده أن أكون معك وأعيش معك , وألا أنفصل عنك أبداً , ثم لا يهمنى إن كنت فى السماء أو فى الأرض أو ربما فى قاع المياه" . لكن ما لبث أن قلت الردود على رسائلى دزرائيلى , وصار فى لهجتها شئ من الجفاء , وعقب ذلك صمت طويل وغريب أقلقه على عواطفه مارى آن , فماذا يمر بخاطرها ؟ لقد طلبت منه سنة كى تدرس أخلاقه , وربما أن الحكم النهائى لا يرضيه ؟ طلب منها المقابلة ومنحته إياها , وجرى بينهما حديث مؤلم , فحول مسز وندهام الأصدقاء لا يوافقون على زواجهما , ومن المعروف أن دزرائيلى الشاب مثقل بالديون , وكيف يمكن تصديق أنه يحب امرأة أكبر منه باثنتى عشر سنة ؟ فهو إذن لم يتقدم إليها ليهدئ من ثورة الدائنين بنبأ هذا الزواج . وتكلمت روزينا بلوار كثيرا عن حب ديزى لأربعة آلاف الجنيه , وهى مدخل مارى آن , وهذا آخر لون أعطى لصورة ذلك المغامر الجميل الجرئ , فلقد تملق جميع الأحزاب ليحصل على مقعد فى البرلمان , وهو ينتهى من الزواج من امرأة عجوز ليحصل على دارها ودخلها . ووصلت هذه الإشاعات إلى مارى آن نفسها , وقلقت لها , فهى امرأة تميل إلى النظام وتحسب حسابها جيدا , وهى تحب , ولكنها لا ترغب فى أن تخدع , وأفصحت عن ذلك فى خشونة , فكتب إليها يقول بعد خروجه من منزلها : " . . . أقسم لك فيما يتعلق بالمصالح المادية أن هذا الزواج لن يكون له اية فائدة , فإنى حاصل على كل ما يستطيع العالم أن يهبه , وليس تملك دخل ظاهرى هو الذى يزيد فى مركزه الرجل , لأنى أستطيع أن أعيش , كما أعيش من غير ما يمس الشرف , إلى أن يؤدى سير الحوادث الطبيعى إلى الاستقلال الذى أرغب فيه , وإنى لا أخوض فى هذه التفصيلات الكريهة إلا أن لأنك عزوت إلى أن لى صالحا , لا , إنى لا أتنازل بأن أكون خليل أميرة , ولا يمكن لكل ذهب "أوفير" أن يدفعنى إلى المذبح , وإن الصفات التى أرغب فى أن تكون للشخص المحبوب الذى يقاسمنى الحياة لهى صفات تختلف عن ذلك كل الاختلافات وتتطلب دائما أن تكون حياتى حباً دائما . . . " . "وادعا . . . إنى لاأزعم بأنى أتمنى لك السعادة , فليس من طبيعتك أن تحصلى عليها , وقد تمضين سنوات قليلة وأنت تجولين فى دائرة واهية , ولكن سيأتى الوقت الذى تتنهدين فيه رغبة فى قلب محب , وتيأسين من أن تجدى وفيه وهذه ساعة العقاب , وحينئذ تفكرين فى مع الندم والإعجاب واليأس ,وتذكرين القلب المدلل الذى فقدته والنبوغ الذى خنته" . من مسز وندهام لويس إلى دزرائيلى : "بحق الله , احضر فإنى مريضة وأكاد أصل إلى الجنون , وسأجيب عن كل أسئلتك , وإنى لم أرغب قط فى أن أراك تهجر دارى , ولم أرغب قط فى الكلام فى مسائل المال . . . لم يمض عام على ترملى , وكثيراً ما يحدث لى أن أشعر بعدم اللياقة الظاهرة فى مسلكى , وإنى لك لمخلصة" . فى 28 أغسطس سنة 1839 , عقد زواجهما فى كنيسة سان جورج , وكتبت مارى آن فى دفتر حسابها : "قفاز بمبلغ شلنين ونصف شلن , وفى الصندوق 300 جنيه , تزوجت فى 28 أغسطس سنة 1839 , وصار ديزى العزيز زوجاً لى" . كتب إليها قبل ذلك ببضعة أيام :"إنى لأعلم أنه لم يتح لشخصين ما أتيح لنا من فرصة السعادة الدائمة الكاملة , وإنى أتطلع إلى يوم اجتماعنا على أنه العهد من حياتى الذى يتقرر فيه مستقبلى , وليس ما يحدث بعد ذلك على ما أعتقد يحرك من نفسى , إذ أجد لى دائماً ملجأ فى قلبك من أحزانى أو من خيبة الآمال , وقوتك الحكيمة والسريعة تقودنى فى السعادة وفى النصر" . وذلك فعلا ما ينتظره من الزواج . فى السنة ذاتها تزوج عضو آخر من أعضاء البرلمان أصغر سنا ,’ وإن لم يكن أقل بروزاً , هو وليم جلادستون , الذى تعشى معه دزرائيلى عند لندهرست عندما قدمت بجعة محشوة , والزواج فى هذه الحالة يختلف كل الاختلاف , وليس من العبث أن نذكر الظرف فى اختصار , فغقد قابل جلادستون خطيبته أثناء سياحته فى إيطاليا , وهى ابنة لادى جلين , وقد سافرت بصحبة أمها وأختها وحاشية فى مركبة سفر كبيرة , وفى فلورنس حياهن شاب ذو ملامح منتظمة وقوية , وسألت كاترين جلين : "من يكون هذا ؟ , فأجيبت : ألا تعرفينه ؟ إنه الشاب جلاسدتون , الرجل الذى يعتقد جميع الناس أنه يجب أن يصير رئيس وزارة انجلترا" . توثقت السياسى الشاب الذى يقضى إجازته بهذه الفتاة الجميلة التقية , وتحادث معها طويلا فى كنيسة سانتا ماريا ماجورى , وتكلما فى الفرق بين بخل الإنجليز فى زخرفة كنائسهم وترفهم فى حياتهم الخاصة , وسألته : "هل تعتقد بأنا على حق فى أن نعيش هكذا ؟ " , وكتب فى مذكراته اليومية : "إنى أحببتها من أجل هذا السؤال , ما أجمل التفكير فى أن قلبها وإرادتها هما فى يدى الله , وإنى لأرجو أن يكون عونها فى كل شئ . . " . طلب يدها فى الكوليزيوم تحت ضوء القمر كما يسطع فى روما فترددت , ولكنه رآها فى انجلترا مرة ثانية وكيف رغب فى أن يكون قساً , وكيف اعترض والده , ثم كيف استسلم للسيساة , وفهم أن السياسى قد يستعمل سلطته فى سبيل مجد الكنيسة , وقبلت وهى متأثرة أن تكون زوجة له . قال لها عنئذ سنتخذ شعاراً لحياتنا قول دانتى : "فى إرادته سلام لنا " . وتزوجا فى قرية مزدانة بالأزهار نسقها أهل القرية الذين يحترمونهما , وقد ألقوا بطنافسهم البسيطة فى طريق الموكب . وفى نحو الساعة الخامسة من بعد ظهر ذلك اليوم قرآ فى التوراة معاً : "وهذا العمل اليومى آمل أن يدوم ما دامت حياتنا مشتركة" . أدخلت مسز جلادستون شيئاً من الخيال فى حياة زوجها الجافة , فهو مثال النظام والدقة , أما هى فحصيفة بالفطرة وميالة للفكاهة , وهو يرتب شئ ويبوبه , وهى تضيع كل شئ , وهى تداعبه قائلة : إنه من الخير أن تكون زوجته بعيدة عن النظام , لأن ذلك يجعله أقرب للإنسان , وهو من جهته علمها كيف تحلل عواطفها , وتسهر على نفسها , وتدون مكرات يومية , نقرا فيها عل سبيل المثال : "استخدمنا طاهية بعد حديث طويل فى المسائل الدينية , لا سيما بينها وبين وليم" . كانت كاترين جلادستون ظريفة حقاً . . .

3- مارى آن

"كان يجب أن يكون الرجل دائما من المرأة : رقيقا جدا , وإنما هو لها دليل" دزرائيلى صار رجلا متزوجا يسكن بيتاً جميلا فى بارك لين , ويدعو زملاءه إلى مائدة عشاء عليها أربعون صفحة , ونقصت السلاسل قليلا , ونقصت الدنتلة بعض الشئ . تغير دزرائيلى كثيراً فى بضعة أشهر , وقد يرى الآخرون فى مارى آن آلاف العيوب , ولكنها المرأة التى يحتاج إليها هذا الرجل المتكبر الحساس , فقد جعلته يعيش فى جنة من العبادة مضحكة بعض الشئ , ولكن ما فيها من أمن يهدئ القلق الطويل المؤلم . رسم صورة للزوجين بعد زواجهما بوقت قصير :

هو : هادئ جداً وهى : فوارة جداً

   مسلكة جدى يكاد يكون حزينا               مرحة وسعيدة عندما يتكلم
   قلما يغضب                                  سريعة الغضب
  ضيق النفس                                 راضية النفس

حار فى الحب وبارد فى الصداقة باردة فى الحب وحارة فى الصداقة

صبور جداً لا صبر لها

مكب على العمل كسول جداً

كريم جداً كريمة فقط مع لمن تحبه

كثيراً ما يقول ما لا يعتقد لا تقول قط إلا ما تعتقد

من المستحيل أن يعرف ما يحب تختلف كل الاختلافات وتظهر

ومالا يحب , فهو لا يظهر عواطفه عواطفها لمن تحبها

راض عن نفسه غير راضية عن نفسها

غير أنانى أنانية جداً

لا يجد تسلية إلا فى القليل من الأشياء تتسلى بكل شئ

هو نابغ وهى غبية

يعتمد عليه إلى حد لا يعتمد عليها

يقف نفسه على السياسة والطموح ليست طموحا وتكره السياسة

تقول روزينا بلوار أحيانا فى حدة وحسد إذ لم تعد بعد خسارة زوجها تحتمل أن ترى غيرها من النساء يجدن زوجا : "إننى قبيحة وغبية مثل مسز دزرائيلى" على مقارنة صورتيهما تنبئ عن ذكاء فى مسز ديزى أكثر مما تعترف به روزينا , فهى وحدها التى فهمت فى ذلك الحين الحزن العميق المختفى وراء السخرية الدزرائيلية , وعدم وجود المرح الحقيقى , والتضاد بين مسلك الطيش والسخرية لذلك الرجل المتجمل قديماً , وبين العواطف الحزينة التى تغلى تحت هذه القشرة الرقيقة .

صارت ترافقه فى كل مكان , وعبدتها عائلته فى برادنهام , فهى تحمل المرح إلى دار هاجمتها الشيخوخة , وقد صار مستر دزرائيلى كفيفاً , وهذا أمر شديد على رجل يجد فى القراءة حياته , وأخذت سارة تقيد له المذكرات فى كل يوم فتسمح له بالاستمرار فى عمله , وقد اتفقت الأخت وزوجة الأخ فى الإعجاب بمواهب "ديزى" . كثيراً ما يذهب دزرائيلى وزوجته لقضاء بعض الأيام فى الريف فى دور النبلاء حيث تلقى مسز دزرائيلى نجاحا كبيراً , ففى ذات مرة قالت لسيدات يتناقشن فى جمال بعض التماثيل اليونانية : "آه لو رأيتن زوجى ديزى وهو فى الحمام !" , وقالت لسيدة إن دارك مليئة بالصور غير اللائقة , ولدينا صورة فظيعة فى غرفتنا يقول ديزى إنها صورة (فينوس وأودنيس) , وقد ظللت مرة مستيقظة حتى منصف الليلة كى أمنعه من النظر إليها" . وفى ذات صباح بع أن أمضى الزوجان ليلتهما فى غرفة مجاورة للورد هاردنج قالت للورد عن الفطور : "إنى يا لورد هاردنج أعد نفسى أسعد النساء , فقد قات لنفسى عندما استيقظت فى هذا الصباح ما أسعد حظى , نمت بين أكبر الخطباء وأكبر المقاتلين فى هذا العصر" ـ بضحك الناس كثيراً , ولكنهم يضحكون فى حذر إذا ما أدار الزوج ظهره , لأن دزرائيلى على شدة شعوره بما هو مضحك يدافع عن امرأته بولاء شديد ولا يلومها على شئ مطلقاً . فى ذات يوم وهما فى زيارة لبلوار الذى سكن عندئذ على ضفة التاميز , ركب الزوجان فى قارب يقوده البرنس لويس نابليون المطالب بعرش الإمبراطورية الفرنسية , وأحد المهاجرين المحبوبين فى انجلترا , وفى وسط النهر عجز الأمير عن القيادة فى موقف الخطر , وغضبت مارى آن لذلك وعاملت نابليون معاملة البحار الذى لا يحسن عمله لا معاملة إمبراطور فرنسا فى المستقبل , وصاحت به : "يجب ألا تتولى أعمالا لا تقدر عليها , إنك لمغامر أكثر مما يجب " , وضحك الأمير ضحكا عالياً , أما دزرائيلى فقد لزم الصمت وعليه علائم الجد وإن تسلى بذلك . عندما ينجح عضو البرلمان لا يفكر إلا فى أن يكون وزيراً , ولديزى كل الحق فى أن يظل ذلك قريباً , فقد فشل الأحرار إذ قيل للشعب إن الإصلاح الانتخابى هو نهاية كل الآلام , ففرض الشعب هذا الإصلاح على مجلس اللوردات ومع ذلك صارت الحال إلى أسوا مما كانت , ففى كل مكان حلت الآلات محل العامل , وصار الغزالون اليدويون يموتون جوعا , وزاد عدد المعوزين , وصارت الجماهير التى تأثرت بالبطالة تلقى اللوم على النظام السياسى , قيل لهم إن الإصلاح ليس كافياً , وإنه لم يزد على أن أبدل سادة الأرض بسادة الأقطان والحوانيت , وإن منح الأصوات للجميع هو وحده الذى يضمن السعادة للفقراء . وتكون حزب كامل يطالب بوثيقة الانتخاب العام , وكان هؤلاء المطالبون (الشارتست) فظيعين حقاً , إذ لم يقتصروا على المطالبة بحق الانتخاب العام , بل طالبوا بالاقتراع السرى ودفع المرتبات للنواب وتساوى الدوائر , وبدأ الكثيرون من الموسرين يتخوفون , فكر البعض الآخر "لن يحدث شئ , ففى هذه البلاد لا يحدث شئ مطلقاً" . والتمس الفريق الأول من الوزراء أن يتخذوا تدابير لمقاومة المطالبين بهذه الوثيقة , والتمس الآخر اتخاذ مثل هذه التدابير لمقاومة رجال الصناعة وصارت وزارة الأحرار فى أحرج المواقف , فهى قد تولت السلطة بفضل ائتلاف أصحاب النظريات وأرباب الصناعة ورجال الأحرار التقليدين , فلم تكن تستطيع إرضاء الفقراء دون أن تغضب حلفاءها . وكانت فكرتها الوحيدة لتخفيف وطأة الفاقة هى قانون الفقراء الجديد الذى ينشئ الملاجئ (بيوت العمل) حيث يطعم المعوزون , ولكنهم يحجزون ويتبعون نظاما شديداً , وصارت هذه السجون التى يفصل فيها بين الزوج وزوجته , ولا يستطيع الأب أن يضم أطفاله إلى صدره مكروهة جداً للحال لدى الجمهور , ورسم لها ديكنز فى رواية أوليفر تويست صورة فظيعة وحقيقية , وقد بلغت كراهية الناس لهذه الملاجئ مبلغاً عظيما حتى كانوا يفضلون عليها سكنى الغرف الحقيرة بلا أثاث ولا نار , ورفض الفقير قطعياً أن يجد مأوى فى ذلك "الباستيل" للفقراء . وأمام ذلك استفاد حزب المحافظين من كراهية الشعب لخصومه , وقد يصعب على بيل وهو ابن أحد أصحاب امصانع , وهو الذى وافق على قانون الفقراء أن يستغل هذا الموقف فى البرلمان , ولكن دزرائيلى لم يتصور ما هو أكثر ملاءمة لآرائه , فهذا الأسف على الماضى الذى يشعر به التعساء , وهذا الحزن على أن حل الإحسان الإدارى الشديد محل الإعانات الودية للكنيسة أو القصر ليس إلا حب المحافظة على القديم التى نادى بها أبداً , وقد تحول إلى عاطفة بسيطة , فمن أين يأتى الشر فى رأيه ؟ من أن تولى السلطة الوضيعون الذين ألقوا على عاتق الحكومة الإنجليزية برغم كل تقاليد الإنجليزية تلك الواجبات التى هى واجبات طبقتهم . فعندما جاء الشارتست ليقدموا إلى البرلمان عريضتهم الموقع عليها من اثنى عشر ألف اسم , وعندما رفض الحزبان أن ينظرا فيها , وعندما أحال لورد جون رسل أبو الإصلاح ألئك الرجال من أبناء الإصلاح إلى المحاكمة تكلم دزرائيلى وحده تقريباً مدافعاً عنهم , ولم يشاطرهم الرأى فى فضائل العلاج بحق الانتخاب العام , ولكنه يعتقد أن الداء الاجتماعى لا يعالج إلا بعلاج اجتماعى , وأعلن عن عطفه على تعاستهم واستغرابه لتهجم لورد جون رسل عليهم بعد أن كان مثلا لهم , وقال فى مرارة : "سيحين الوقت الذى يكتشف فيه الشاؤتست أنه فى البلاد الأرستقراطية مثل انجلترا لا تنجح الخيانة نفسها إلا من النبلاء , سيكتشفون هذه الحقيقة العظيمة , وإذا ما وجدوا سيداً كبيراً متحمساً يقودهم فإنهم يصلون إلى غرضهم , فحيث فشل وات تيلر تمكن هنرى بولنجبروك من أن يسقط أسرة حاكمة , وحيث شنق جاك سترو فقد يصير لورد جون سترو وزيراً للدولة" . تحدث الناس : "هذه خطبة جميلة , ولكن ماذا يريد ؟ ـ "أظن أنه ينقلب مستقلا" ـ "ولكن الخطبة تعارض مبادئ الراديكاليين" ـ "إذن سيصير من الأحرار" ـ "إنه متطرف فى كراهيته للأحرار" ـ "إذن ماذا يكون ؟"ـ "إنه مجنون" ـ "ماذا يريد بقوله يصلون بغير العريضة إلى ما يرغبون فيه ؟" ـ "أظنه يريد أنيقول إننا إذا رغبنا فى الاحتفاظ بالسلطة لا نستطيع ذلك إلا إذا ضمنا السعادة للأمة" ـ "فماذا قلت لك إذن ؟ أليس ذلك من مبادئ المستقلين الصرفة ؟ " ـ "الزعم بأن الشعب يكون أسعد مما هو الآن ليس إلا من آراء المستقلين لا غيرهم" . شعر الأحرار بأنهم مهددون فحالوا إحباط هذا التهديد , ووجد المحافظون فى الصناعة المتسعة المدى موضعاً لغضبهم , وفى قانون الفقراء مارداً مخيفاً لهم , ففكر الأحرار فى الانتقام من كبار الزراعيين بمناهضة قانون القمح , وقد زاد فى الأسعار تتابع أربعة محصولات سيئة , فلماذا لا يفترض أن البطالة ناشئة عن ارتفاع أسعار امعيشة ؟ وإذا اتبعت سياسة التعامل الحر فإن ذلك يرضى العمال وأصحاب الأ‘مال معاً . نعم إن الزراع يتضايقون , ولكن بما أنهم جميعاً على وجه التقريب من المحافظين فليس لذلك أهمية فى الانتخاب . أما دزرائيلى فأيد فى ثبات نظرية "الحماية" ,فمن الذى يستفيد من إلغاء الرسوم ؟ الفقراء ؟ لا , بل أرباب الصناعات لأن الأجور تنخفض مع هبوط أسعار المعيشة , إذن لماذا نضحى بإنجلترا الزراعية من أجل إنجلترا الصناعية ؟ لماذا يعمل على عدم تشجيع الزراع وعلى خرابهم ؟ يقول أصحاب نظرية حرية التعامل : "نستورد طعامنا ونصير مصنعاً للعالم " , ولكن منذ يستطيع التنبؤ بالمستقبل ؟ وإذا تغير العالم وصار جميعه مصنعاً فمن يغذى إنجلترا عندئذ ؟ . تزعزع الأحرار على أنهم ظلوا أقوياء فى ضعفهم , وإن صارت هزيمتهم محققة , ورفض الدوق السلطة وصار صموتا جداً , يذهب إلى الأندية فيقابل كالملوك , ولكنه يمر بها من غير أن يفوه بكلمة , وإذا وجه إليه الحديث لا يجيب إلا بقوله :"ها !" . إذن فالوزارة يؤلفها بيل , ومن الطبيعى أن يكون لأفصح خطباء احزب مكان فيها , وإذا ما قيل هذا القول لمسز ديزى احمر وجهها كأنها فتاة صغيرة .

4- السيد المحترم

فى 30 أغسطس سنة 1841 ذهب سير روبرت بيل إلى قصر وندسور ليقبل يد الملكة , التى كانت فى بداية أمرها وطيشها تكره هذا الرجل الجدى الخجول المختلف كل الاختلافات عن لورد ملبورن الساحر الذى جعلاها تعيش كملكة من ملوك القرن الثامن عشر , ولكنها الآن تزوجت من الأمير الجميل البرت دى ساكس ـ كوبورج , والبرت رجل ذو خلق جدى , فهو يحب سير روبرت ويحترمه , وكل ما يحبه البرت محبوب لدى الملكة . وقابلت الملكة هذه المرة زعيم المحافظين وهى تثق فيه . وذكرت منذ أيام قوائم غير رسمية بأسماء الوزراء وفيها جميعاً اسم دزرائيلى , ولكن بيل لم يدعه لمقابلته بعد . ما لب دزرائيلى ان علم بأن صديقه لندهرست سيعين رئيساً للقضاة , ولورد ستانلى للمستعمرات , ودوق أوف بكنجهام حامل الختم الخاص , وجلادستون الشاب للتجارة , ثم ملئت جميع المناصب شيئاً فشيئاً , فلا يرى فى نادى كارلتون غير جماعات يهنئ بعضها بعضا , وظل دزرائيلى وحده لا يأتيه نبأ من رئيس الوزارة , فهل يهمل سير روبرت رجلا من خيرة أعوانه ؟ إن ذلك يكاد يكون مستحيلا , ولكن إذا حدث لسوء حظه فأية خيبة وأية كارثة ! سيظل المحافظون مدة طويلة فى الحكم , وإذا ما أهمل هذه المرة فإن ذلك معناه البقاء بعيدأً فترة حياة البرلمان أو مدة فترتين ! فالعمل الذى قام به فى صبر مدة أربع سنوات فى البرلمان ينهار , وصار يخيل إليه الآن فى النادى أن الظرات سخرية مسلية , وأن بعض الأحاديث تنقطع عند اقترابه , ودفع اليأس فى آخر الأسبوع إى الكتابة لبيل : ـ

عزيزى سير روبرت لقد آليت على نفسى فى مثل هذه اللحظة ألا أثل عليك بشخصى , وكنت أستمر على ذلك لو وجدت أحداً يعبر عن مشاعرى , فأنا لا أود أن أرهقك بمطالب لابد بمثلها , ولا أقول إنى منذ سنة 1814 ناضلت فى أربع مواقع من أجل حزبك , وأنفقت مبالغ كبيرة , واستعملت ذكائى بقدر ما أستطيع لدعايتك السياسية , ولكن فى حالتى مظهر خاص يحول دون السكوت عليها فإنى قاومت عاصفة من الكراهية والعداء السياسى لم يقابل بمثلها غير القليل من الرجال منذ اللحظة التى تطوعت فيها تحت لوائك بتحريض أحد رجال زارتك , ولم أكن مؤيداً فى تلك التجارب إلا بعقيدتى فى أنه سيأتى اليوم الذى يعترف فيه علانية أشهر رجل فى بلادى ببعض الاحترام لكفاياتى ولخلقى . وإنى أعترف بأن إهمالك لى فى هذه اللحظة فيه القضاء على , وإنى لأتوجه إلى قلبك وإلى عدالتك وإلى كرم سجيتك وهى الصفات التى أشعر بها فيك لتنجينى من تحقير لا يحتمل , وأعتقد أنى سير روبرت خادمك الأمين.

ب . دزرائيلى

وفى الليلة السابقة لم تعد مسز دزرائيلى تستطيع احتمال أحزان زوجها , فكتبت إلى رئيس الوزراء من غير علمه :

"عزيزى سير روبرت أرجو ألا تستاْ من تدخلى , ولكنى شديدة القلق لأن مستقبل زوجى السياسى ينهار للأبد , إذا كنت لا تدعوه . . فلا تحطم كل آماله , ولا تدعه يشعر بأن حياته كلها كانت خطأ . فهل تستطيع أن أذكرك بنشاطى الوضيع والحماسى , قد قمت به فيما مضى خدمة للحزب أو على الأصح خدمة للزعيم العظيم ؟ ولو سألت مايدستون لقيل لك إنى أنفقت نحو أربعين ألف جنيه . أرجو ألا ترد على هذه الرسالة فإنى لا أريد أن يعرف مخلوق بأنى كتبت إليك هذا الالتماس الوضيع . وإنى يا سير روبرت العزيز خادمتك الأمينة إلى الأبد . مارى آن دزرائيلى " رد بيل على دزرائيلى فى رسالة جافة أصر فيها بوجه خاص على عبارة من رسالته لا أهمية لها , هى قوله : "وقد تطوعت تحت لوائك بتحريض أحد أعضاء وزارتك" , فلاحظ بيل فى غضب أنه لم يكلف أحدا من أعضاء وزارته بمثل هذه المهمة (ولم يذكر دزرائيلى شيئاً عن مهمة , وكل ما أراد فقط أن بقوله هو أن اتصل بحزب المحافظين بنفوذ لندهرست عضو وزارة بيل) . وأضاف بيل إلى ذلك أن المناصب لديه قليلة , حتى أنها لا تكفى لمن خدموا من قبل تحت لوائه , وقد ظن أن قلة الوسائل لديه مفهومة لدى رجال كان يفخر باشتراكهم معه وهو لا يناقش فى ميزاتهم . الحقيقة أن بيل ود أن يعطى دزرائيلى منصباً , ولكن حوله زملاء لا يرغبون فى هذا "المغامر" مثل كروكر ذلك الرجل الكريه اذلى عرف دزرائيلى فى زمن إنشاء الجريدة وسبب فشله , ومثل لورد ستانلى المتكبر والمتواضع معاً وقد أعلن أنه "إذا دخلها هذا الأفاق فهو ينسحب" . على أن بيل لم يدافع عن دزرائيلى فى حمية , والرجلان يختالفان كل الاختلافات فقد جمع بيل حول مهده البرلمانى الثروة والأخلاق والاحترام , فى حين أنه تحوم بلا شك حول دخول دزرائليى متأخراً إلى حظيرة السياسة أشباح الديون والاستهتار وشذوذ الخيال . وأسرة بيل معروفة بالذوق السليم , ودارهم فى لندن ساحرة تطل شرفاتها المزدانة بالأزهار على النهر , وبهوها الجميل محلى بصور من رسم أساتذة الفن الهولنديين , وقد قال لهم بعض زائريهم من الفرنسيين : "إن العشاء عندكم للذيذ" . وكانت لادى بيل جميلة وحلوة الشمائل , والصورة التى رسمها لها المصور لورانس وحذا فيها حذو روبنز فى صورته "قبعة القش" يعتبرها الكثيرون من الهواة با،ها خير صور الرسام , وكل ما يحوط بيل يمثل فكرة الصلابة الفلمنكية , وجمال الفضيلة , وكل ما يحوط "ديزى" يبدو فى بهرج زائف . وتضئ الجواهر إذا ما ازدانت بها لادى بيل فى نار مظلمة , أما مسز "ديزى" فتبدو عليها أجمل الأحجار الكريمة كأنها من الزجاج . ومنزل مارى آن فى ساحة جروفنر مزدان سيئ وصارخ , وأثاث المنزل مخيف و ثيابها مضحكة , وهذه تفصيلات ضئيلة , ولكنها تضاف إلى عدم ثقة رئيس الوزراء . ثم إن الرئيس لا يحب مبدأ الرجل كما لا يحب الرجل نفسه , فإن بيل بحكم نشأته أقرب إلى المصنع منه إلى القصر أو الكوخ الريفى , وأقرب إلى متشددى البروتستانت منه إلأى الفرسان , فهو فى الواقع رجل من كبار الطبقة المتوسطة , وهو بقلبه وعقله مع كوبدن ومع برايت أى مع خصومه , وهو يتأثر بنظريات الاقتصاديين وبمظهر الأمانة , وبخشونة برايت فى حذائه الغليظ أكثر مما يتأثر بلواذع الخطيب , فهو يميل بمجامع قلبه لمثل جلادستون , وهو مثله عليه مسحة أكسفورد فى الظاهر وأهل ليفربول فى الباطن , وهو مثله صار عضواً فى البرلمان فى الواحد والعشرين من عمره , ووكيل وزارة فى الخامسة والعشرين , وهو يحب جلادستون الذى يتلو الصلاة قبل أن يبتدئ الكلام , ويعرف كيف يضع على المسألة البسيطة غلافا من العبارات الطويلة الغامضة , وقد نزل دزرائيلى بنفسه إلى درجة التماس المنصب , أما جلادستون فعندما عرضت عليه الوزراة سأل نفسه فى قلق عما إذا كانت السياسة الدينية للوزراة تسمح بقبوله المنصب . وإنه لما ترتاح إليه نفس بسيطة وخجولة كنفس بيل أن يجد المطامع مقنعة تحت آراء مناسبة , وعندما قبل جلادستون المنصب أخيراً , هز يبل يد الزير الشاب بقوة وقال : "ليباركك الله" فكيف يستطيع أن يعامل دزرائيلى المستهتر هذه المعاملة ؟ إن ستانلى لعلى حق فهذا الرجل لا يطاق . ما تألفت الوزارة حتى اجتمع البرلمان وذهب إليه دزرائيلى وهو خائف جداً فقد صار موقفه صعباً , كان الحزب وهو فى المعارضة سعيداً بأن يستعمله ضد الخصوم , ولكن منذ الآن سيصير هذا المحافظ التعس الذى لم يشتغل منصباً حيوناً منفرداً , فمشروعات الققوانين يدافع عنها الوزراء , ولا يراد منه إلا أن يعطى صوته , وهو دور مؤلم للعقل المبتكر , وقد سر أعداؤه لما حل به وأخذوا يترقبون مسلكه فى فضول الشماتة , وصاروا ينظرون أن ينقلب على الزعيم الذى أهمله , وشجعه على ذلك الكثيرون من نصحاء السوء , وتودد إليه المستقلون . فهم الخطر ونفسه تجيش بعواطف عنيفة نحو بيل , وليس فى رفض منحه منصباً ما يعاب , ولكن نغمكة الرفض غير حكيمة , وإذا ما نظر دزرائيلى إلى مقاعد الوزراء , وإذا ما شاهد الوجوه الراضية لهؤلاء الرجال متوسطى الذكاء الذين احتقروه , شعر برغية قوية إلى الهجوم , ولكنه كان يلجم هذه النفس الثائرة , إنه لفى حاجة ألأى الصبر أكثر منه فى اى وقت آخر , وهذا رأى مارى آن أيضاً , وكانت بديعة فى شفقتها فى هذه الظروف السيئة . دهش المجلس إذ رأى دزرائيلى ياحفظ على حضور الجلسات , ويعطى صوته عن رضاء كامل فى صف الحكومة . وكان بلي شديد الرغبة فى إرضاء أصحاب مذهب حرية التعامل فألغى رسوم الجمارك على أكثر من سبعمائة مادة , وعوض خسارة الميزانية من هذا الإيراد بطريقة عجيبة مبتكرة هى ضريبة الدخل , لكن دزرائليى الذى يعتقد فى الحماية لم تخر عزيمته , بل اكتفى بأن ألقى خطبة هامة فى موضوع فنى وغير مثير للمناقشة عن موظفى القنصليات , هى خطبة دقيقة مليئة بالأرقام والنوادر , لكنها شائقة إلى حد حمل المجلس على الإصغاء إليه فى سكون مدة ثلاث ساعات , مع ان المجلس كان فى مبدأ الأمر ثائراً , شك الكثيرون فى ذكائه من قبل عندما راوا إهمال بيل له , فكانت عودته باهرة تسترعى النظر لا سيما أن الموضوع ذاته لا يساعده . كان من أشد المتحمسين فى تهنئته جماعة من الشبان تخرجوا حديثاً فى كمبردج وأرسلتهم الانتخابات الأخيرة إلى البرلمان , سحرتهم هذه الفصاحة الحديثة الخالية من العبارات المألوفة , وقال له الاشب سميث : "إنك تتكلم كأنك فى نادى كارلتون , أو على مائدتك , فالصوت غير متصنع , وإلقاؤك ممتاز مع شئ من عدم المبالة , وصبغة بسيطة من السخرية " . وأظهرت هذه الجماعة المؤلفة من هذا الشاب سميث ولورد جون مانرز ومن يحوطهم تلطفا كبيراً معه , وهم ينتمون إلى عائلات قديمة جداً وشهيرة جداً , ويمتلكون القصور الشبيهة بقصور الأحلام معلقة فوق الربى فى الضباب , أو مخبأة بين الحدائق الواسعة فى وسط الأشجار , وقد ثقفوا فى أيتون وكمبردج حيث نشأت بينهم صداقة وعواطف نبيلة , وألفوا معاً نظرية سياسية تقوم على إحياء النظم القدمية , على الوئام بين عامة الشعب وبين أرستقراطية عارفة بواجباتها , وتلك هى مبادئ "ديزى" فى أجل مظاهرها. فالحركة الصناعية التى جذبت إليها الرجال الناضجين لم ترض هؤلاء الشبان الناشئين ولم يستطيعوا اتخاذها ديناً , فهم فى حاجة دائمة إلى الحماسة التى لا يجدونها فى دين تجار الأقمشة القطنية حين يقولون : "اشتروا فى أرخص الأسواق وبيعوا فى أعلاها" , ولم يقنعوا بمثل هذا الإنجيل . وبعد انتشار الآراء المجردة من الخيال فى سنة 1820 عاد الناس فاستولى عليهم الخيال . فكر هؤلاء الشبان من الإنجليز تفكيراً جديا فى إحياء الفروسية وقانونها القائم على الشرف واحترامها الدينى للمرأة , وربما فات زمن النظام الإقطاعى , ولكن الروح الإقطاعية التى تعتبر الناس مرتبطين فيما بينهم بواجبات كتبادلة ظلت أكبر ما يرجى , وأسفوا على الزمن الذى كانت فيه قاعدة الحياة : "إن الشرف يقضى بذلك" وقد يكون من المستطاع إحياء النار الخابية . فى سنة 1839 نظم اللورد إجلنتون مبارة فى الفروسية على أراضيه , فحضر إليها جميع أشراف انجلترا , وهم يلبسون دروع أجدادهم , ونصبت اللادى سيمور إحدى صديقات "دزى" ملكة للجمال فيها , ولكن لسوء الحظ هطلت الأمطار بشدتها المعروفة فى مانشستر , فأغرقت الحماسة وفتحت فوق ثياب القرون الوسطى آلاف من المظلات , وصار فارس الأسد وفارس البرج الأبيض وفارس المرآة جميعاً فرسان الوجه الحزين , كأن الآلهة انقلبت مؤيدة لعصر فيكتوريا , على أن الشبان يقاوم الآلهة . واتخذت الحركة مظاهر أخرى من غير أن تموت , ففى أكسفورد اتخذت مظهر التجديد الدينى , وبدأ صوت نيومان بما فيه من "حنان عجيب" يخلب النفوس , وحاول بعض الشبان من رجال الدين أن يقاربوا بين الكنيسة الإنجليزية وبين الكاثوليكية , وقد ظلت الكنيسة مدة أربعين سنة تخشى من الإيمان أكثر مما تخشى من عدم الاهتمام بالدين , ومل هؤلاء الشبان تلك الكنائس المغلقة والصلوات الباردة , وتحول البعض منهم حتى اتصل بروما , وحاول البعض الآخر أن يدلوا إلى كنيستهم طقوساً أكثر حرارة , وفى كمبردج اتفق أصدقاء دزرائيلى الحديثون وهم : لورد جون مانرز , وجورج سميث , وكروكران على أن يتعرفوا آلام الشعب ويحاولوا علاجها . كانوا كشأن جميع الأصدقاء الحقيقين لا يتشابهون فيما بينهم إلا قليلا , فلورد جون مانرز رجل جد متدين ونفس طاهرة , وهو كالفارس "لانسلوت" , إلا أنه قد ضل الطريق فى عالم الآلات , وهو يأسف بمجامع قلبه على الزمن الذى كان فيه الملك يركع أمام القديس ويرى الشعب فى ملكهم أنه المختار من الرب , ويرى فى الشريف زعيما وحامياً , ونظم فى هذه الموضوعات شعراً رديئاً لا يخلو من البساطة :

فليذهب المال والتجا والنظم      لكن ليبقى لنا الإعراق فى النسب

اما جورج سميث فشاب ناشئ ذكى ومراء فاجر ولكنه ذو عاطفة , مستهتر ولكنه خيالى , على استعداد للتضحية بآرائه لاعتبارات دنيوية , وعلى استعداد فى الوقت ذاته لأن يهجر الدنيا فجأة للسير وراء نزعة صوفية . وجورج رجل عجيب حقا , فهو فى سن العشرين قد جرب الحياة وكشف خداعها كالحكيم الكهل , وفى الخامسة والعشرين جن بالحياة اكثر من الطفل , وهو شاعر من غير زهد الشاعر , وباحث عن العروس ذات المهر الغالى من غير جب للمال , وقد كتب فى مذكراته : "إذا أردت أن تتذوق الحياة فيجب أن تشربها فى جرعات صغيرة" وكان هو يشربها فى جرعة واحدة . أعجب دزرائيلى إعجاباً شديداً بجورج سميث وهو الرجل الوحيد الذى لم يمل منه قط , وكان يحب صداقة سميث لمانرز , وعقيدة مانرز فى مواهب شميث , وتواضع سميث وبدا متعجرفا إذا ما قورن بمانرز , وكان إذا ما رآهما واقفين على عتبة الحياة تخيل فارسين يسيران وأسلحتهما تضئ فى الشمس . خدع بيل هذه الشبيبة إذ ينقصه النبوغ , وهم يملون أقواله المألوفة حتى يكاد يدفع بهم الملل إلى الموت , بينما هم يسكرون بفصاحة دزرائيلى , ووجد سميث فى "دزى" عقلا ملائماً لعقله , أما لورد جون فكان أكثر تحفظاً , وقال بعد المقابلة الأولى : "لقد أجاد دزرائيلى فى القول ولكنه أجاد فيه أكثر مما يجب" , وكان ينزعج من دزى فى لحظات صراحته , فهو يدهش ويتألم من دزى الذى تمتم عند خروجه من جلسة دافع فيها عن الكنيسة : "من العجب يا والبول أننا أنا وأنت أصواتنا فى صف عقيدة ميتة" , ويندهش بعض الشئ عندما أعلن دزرائيلى لهولاء الأشراف أنه لا يوجد أشراف إنجليز وقال لهم : "إن أشراف الإنجليز نشأوا من أصول ثلاثة : نهب الكنيسة , وبيع الرتب بواسطة الملوك الأول من أسرة ستيورات , وبيع الدوائر الانتخابية فى الأزمنة الحديثة , فجميع أشرافكم من أصل حديث . وعندما جمع هنرى السابع برلمانه الأول لم يكن عدد الأشراف المدنيين إلا تسعة وعشرين , ومن هذه العائلات لم يبق غير خمس" , وشرح لهم بعد ذلك أن الأصل الوحيد الذى ظل محافظاً على الثقافة القديمة هو بيت إسرائيل , وأن أسرته هى أقدم من أسرهم , فضحك سميث وأصغى جون مانرز فى جد كجد الملائكة . من اللذيذ أن يكون محوطاً بتلاميذ , ولكن الوقت يمر ولا يعوض , وبيل متربع فى السلطة وهو أقوى مما كان فى أى وقت , وظل كل الطريق إلى العمل النافع مغلقاً أمامه , قال دزرائليى لزوجه : "أعتقد أنه يجب تقليد تاليران العجوز فى هذه اللحظة , إذ كان يلازم الفراش إذا لم يتبين ما يفعله" , وقرر أن يذهب لقضاء فصل شتاء فى باريس , وزار ناخبيه قبل سفره وفسر لهم مسلكه , فهو سيستمر على تأييد بيل بصوته مراعاة للنظام الحزبى إلا إذا أقدم رئيس الوزراء على خيانة الزراعين . نزل مع مارى آن فى فندق أوروبا بشارع ريفولى , وقد أوصى دورسيه به أخته دوقة جرامونت خيراً , فقابلته هو وزوجه خير مقابلة , وكانت تستقبل ضيوفها ثلاث مرات فى الأسبوع فى دار صغيرة بفوبور سان أونريه غاصة بالأثاث القديم والصور , وقابلا لديها أوجين سو ذكر دزرائليى أنه : "الكاتب الوحيد الذى يقبل يقبل فى الأوساط الاجتماعية" , وأمضى الآنسات دى جرامونت جميلات أوائل السهرة مع الضيوف , ولكنهن فى الساعة العاشرة قبلن أمهن وانصرفن لفراشهن . دعى دزرائيلى وزوجه على أثر ذلك لدى مدام بودران زوجة الجنرال بودران ياور الملك , وهى إنجليزية بديعة الجمال , وصغيرة السن حتى لتصح أن تكون ابنة لزوجها , وقابلا هنالك العائلات التى قامت على التزواج بين الفرنسيين والإنجليز مثل عائلات لامرتين وأوديلون ـ باور , وتوكفيل . وتعهد الجنرال بوردان بأن يخبر الملك ا، مستر دزرائليى عضو البرلمان يود أن يعرض على جلالته بعض الآراء عن حالة الأحزاب فى إنجلترا , وهى آراء إذا قدرت قدرها قد يكون لها تأثير هام فى سياسة البلدين . قابله الملك فى سان كلو , وثار فضوله لهذا الوجه الرومانى الحزين الذكى المحاط بالجدائل السوداء , واهتم لدزرائيلى ومال إليه و ودعاه إلى العودة , وصار من المعروفين فى القصر , وكانت الملكة ومدام أدليد والدوقة دى نيمور يجلسن حول مائدة وهن يشتغلن , بينما الخدم يدورون بالمثلجات , وياخذ الملك دزرائيلى إلى غرفة مجاورة للتحدث إليه تارة عن السياسة وتارة عن شبابه ومغامراته العجيبة وحياته المثقلة التى عاشها , ويقول له بالإنجليزية : "أجل يا مستر دزرائليى ! إن فى حياتى تقلبات كبيرة" , وهو يحب كثيراً أ، يتكلم الإنجليزية , وكانت لغته مشوبة بلهجة خفيفة أمريكية . وقال لدزرائيلى إنه هو وحده الذى يعرف كيف يحكم الفرنسيين , وإن السبيل الوحيد لقيادة هذا الشعب هو أن تطلق يدك له كلية , وتعرف جيداً متى يراد إيقافه . وطرب دزرائيلى لهذه العلاقة الويقة مع ملك له هذا الذكاء الكامل , فقد تحقق أحد أحلامه صباه , وشاطر فوق ذلك الجنرال بوردان فى الرأى بأن الملك أكثر بساطة مما يجب , ففى حفلات العشاء الكبرى فى قاعة ديانه كان لويس فيليب يأتى بقطعة من لحم الخنزير ويقطعها قطعاً رقيقة كالورق , ويرسلها لضيوفه الذين اصطفاهم , ويفخر بهذه المقدرة , وقد أخبر دزرائيلى أنه تعلم وهو طريد بلاده من خادم فى مطعم إنجليزى كان يتعشى فيه بتسعة بنسات , والمولك فى روايات دزرائيلى يميلون إلى الأبهة من ذلك .

5- إنجلترا الشباب

"وماذا تعمل بالقدح المقدس إذا وجدته ؟ فحص مانرز وسميث الموقف السياسى فحصاً دقيقاً , فتبين لهما أن الوسيلة الوحيدة للبقاء مخلصين لأنفسهما هى تأليف حزب مهما كان صغيراً , ولكن يجب أن يكون لهذا الحزب زعيم مجرب , ولماذا لا يكون دزرائيلى وهو أمامهم ؟ سافر سميث وصديقه كوكران (المعروف بينهم باسم كوك) إلى باريس لمقالبة ديزى فوجداه فيها بارزاً يتمتع كالطفل بنجاحه , وبغرفة انتظاره المليئة بالوزراء , فهو قد أشرف على الأربعين من عمره , ولكنه ظل محتفظاً بموهبة التمتع بعظمته . وكتب سميث إلى مانرز يقول : "غنه وهو على إنفراد مع لويس فيليب فى سان كلو , يتخيل نفسه مؤسساً لأسرة مالكة جديدة , وقد نقشت جدائل شعره التى تشبه جدائل منفريد على نقود المملكة" . قابلهما فى حماسة , فإن الاتفاق السرى بين هؤلاء إذ تعهدوا بأن يكونوا على رأى واحد عند إعطاء الأصوات وأن يقلبوا قرارات الأغلبية منهم , لمما يوافق هواه فى الدسائس , رأى على أثر ذلك اتساع هذه الجماعة وبلوغها خمسين أو ستين عضواً , ويبل وقد نوهض وقلق وغلب على أمره . تعشى الجماعة معاً فى مطعم روشيه دى كنكال بوادى مونسو , ثم عادوا إلى باريس , وظلوا يتناقشون طويلا وهم يتمشون حول الساحة فاندوم , ثم الاتفاق بينهم . كان كوك أقل ارتياحا إلى ديزى من سميث , فقد رأى أنه كثير الحيطة كبير المطامع , وأخذ عليه حدة الذكاء , وضعف حاسة الفكاهة التى هى استعمال الذكاء فى نقد النفس , وعندما اطلع مانرز كذلك على مجرى الأمور قلق بعق القلق , فهل هم جميعاً يقصدون غرضاً واحداً ؟ إن دزرائيلى يفكر بوجه خاص فى مناهضة الحكومة , والتلاميذ لا يفكرون إلا فى ربط أصدقاء برباط عاطفى , ويرون فى مشروعات ديزى نوعا من الجنون . وهل يمكن إسقاط بيل ؟ إن ذلك أمر مستحيل , فإن وراء رئيس الوزارة أغلبية عظيمة , وهل ذلك مرغوب فيه ؟ فى اللحظة التى تصل فيها هذه الجماعة إلى أن تكون حزبا حقيقيا مضطر إلى تضحية مثله العليا فى سبيل الدسائس السياسية لا بد أن يفرق الحسد بينهم , وتتحطم تلك الألعوبة الجميلة , وقد كتب مانرز يقول : "لو كنت على يقين من أن دزرائيلى يعتقد فيما يقوله لشعرت بالسعادة أكثر منى الآن , فآراؤه التاريخية هى آرائى , ولكن هل يعتقد فيها ؟ ". كان مانرز فيما يتعلق بالدين متشدداً , فهو مؤمن بدينه , ولكن تبين بعد بضع محادثات مع دزرائليى أن دزرائيلى ميال ميلا كبيراً إلى مبادئ أكسفورد المعتدلة التى تسبغ على كنيسة انجلترا روحا خيالية من غير أن تصير كالكنيسة الرومانية . وكان سميث المستهتر يجد تسلية فى الإصغاء إلى الأحاديث الدينية لهذين الصديقين , وقد اختلفت وجهة نظرهما إلى حد أنهما عجزا عن رؤية هذا الخلاف , فكنيسة إنجلرا بالنسبة لديزى هى قوة تاريخية كبرى يجب احترامها وتأييدها , ولكن لم تمر بخلده لحظة فكرة تعليق أية أهمية على نصوص آرائها , أما بالنسبة لجون مانرز فالإيمان ضرورة واضحة حتى أنه من المستطاع أ، يعيش الإنسان بغير التحقق من جميع مسائل المذهب . وكتب سميث وكان بعيد النظر جداً  : "إن ميل دزرائليى إلى مذهب أكسفورد فى اعتدال , لهو مثل ميل بونابرت إلى الإسلام فى اعتدال" . ماعاد ديزى إلى لندن حتى أخذت الجماعة فى العمل وجلس الزعماء الأ{بعة معاً لاخلف بيل , وأخذوا يتبادلون آراءهم عن الجلسات , ولا يترددون فى إعطاء أصواتهم ضد الوزارة إذا كان موقفهم معارضاً لمذهب انجلترا الشباب , وهكذا أعطوا أصواتهم فى صف المستقلين تأييداً للقانون الخاص بحماية الأطفال (الذين كانوا عندئذ يشتغلون فى المصانع أحياناً اثنتى عشرة ساعة فى اليوم) , ورفضوا ا، يعطوا أصواتهم بالموافقة على إجراءات القمع فى أرلنده , وفى هذه الحالات كانوا يبدون فى جد عدم موافقتهم للحزب , ويأخذ أحدهم فى شرح مذهبهم كمحافظين يخدمون صالح الشعب . لا شئ يضايق بيل مثل هذه الثورة المنظمة التى تستند إلى مذهب خاص , فهو رجل شديد السيطرة اعتاد أ، يطاع طاعة عمياء , واعتاد أن يعامل أنصاره فى شئ من البرود مع عدم الصبر , وإذا ما جاء أحدهم يقول له فى خجل : "أظن أنه يجب أن أتكلم . . . " : يجيبه فى خشونة : "أتظن ذلك ؟ حتى فى مجلس الوزراء إذا سمح أحد أعضائه لنفسه أن يكون على غير آرائه كان يتناول صحيفة ويتلوها غاضباً , وقد قال عنه أحد ىوزرائه : "إنه يطردنى إذا جرؤت على الكلام" , وقد تضايق من معارضة هؤلاء الأطفال الثلاثة , وذلك الروائى , ومن الطبيعى أن يعزو المؤامرة بأكملها إلى دزرائليى , وأخذ يعامله كما يعامل الكلب أثناء انعقاد الجلسة , فإذا ما وجه إليه دزرائليى أبسط الأسئلة فى الجلسة أجابه فى اختصار قاطع , وكان دزرائليى يزيد هذا المظهر وضوحا كأن يقول : "إن السيد المحترم بتلك الرقة التى يختص بها أصدقاءه . . ." , فيضحك الحافظون الذين كثيراً ما يساء إليهم بعد أن يخفوا فمهم بأيديهم , ويخفضوا من أنظارهم . كتب السير جيمس جراهما أحد الوزراء إلى كروكر يقول : "أما عن شباب إنجلترا فإن دزرائيلى هو أقدرهم وهو الذى يحرك العرائس , وفى رأيى أنه رجل لا مبدأ له , وأنه ليأسه عمد إلى الإرهاب , واعتقد معك أنهم سيرجعون جميعاً إلى مطمعهم بعد أن يجروا قليلا , وبعد أن يقفزوا قفزات الخراف , ولكن فرقعة أو فرقعتين من سوط إذا ما وضعت فى محلها كافية لللإسراع بهم وتأكيد عودتهم , ودزرائليى وحده هو الشرير ومعه لا أرغب فى أى نوع من الاتفاق , وإذا طرد إلى صف أعدائنا , السافرين فإن ذلك من صالح الحزب " . كتبت الملكة نفسها إلى عمها ملك البلجيك , وقد صارت كبيرة الميل إلى سير روبرت : "إنه بسبب جماعة من الشبان المتهوسين" كادت تحرم من وزيرها . وقذ انضم بيل إلى رأى جراهام وكوركر , وقرر أن يخرج دزرائيلى من الحزب فإذا فصل منه خسر مقعده فى الانتخابات القادمة وتخلص منه الحزب , فلم يدع فى الاجتماعات العامة للمحافظين , وسأل دزرائليى الوزير عما إذا كان ذلك نسياناً أو حرماناً , فأجيب أن إهماله كان متعمداً , وأن السبب هو موقفه فى بضعة الشهور الأخيرة . بدأ الجمهور يعترف بوجود شباب إنجلترا , فتلك العصبة من صغار السادة فى صداريهم البيضاء الذين يكتبون الأشعار الرديئة ويتكلمون عن فرسان العصور الماضية وأشرافها , ويزعمون أنهم يتسلطون على العمال بالمواكب على مثال ما كان فى زمن الإقاعيات , كانت موضع تسلية جون بول كثيراً , ونشرت جريدة "بنش" أشعارا موجهة إلى قاض من محكوم عليه من شباب إنجلترا وهو يطلب أن يربط خلف عربة نقل ويجلد كى يحيى عقوبة أنجليزية مفيدة . لكن كا الناس لا يضحكون , فقد قام الأصدقاء الأربعة بسياحة إلى مانشستر وقوبلوا حسنة من جميع العمال وخطبوا فيهم , وتكلم مانرز وسميث طويلا إلى جماعة من أصحاب المصانع , واعترفوا بأنه إذا كان منهم القساة والجشعون , فإن الكثيرين منهم رقيقوا القلوب , وفى ذلك عناصر نظام الإقطاع المجدد لو عرف المسيطرن فيه واجباتهم , وليس من الحكمة مناهضة الصناعة , ويجب اكتساب الشباب الصناعى إلى صف المحافظين الشعبين . فى أثناء العطلة كانوا يجتمعون جميعاً فى بيت من البيوت العظيمة لأحدهم , ويحب دزرائيلى هذه الاجتماعات ويصير فهمه لهؤلاء الشبان أمتن منه فى أى وقت آخر , فإن بينه وبينهم رابطة قوية هو الحب المشترك لكل ما يصدر عن الخيال واعتقادهم أن الحياة ليست مجرد نضال منحط على المصالح والحاجيات , بل فيها مجال للصداقات المتأججة , وللإخلاص السخيف والنبيل معاً , وللشعور بالجمال , وقد صار جون مانرز بعد أن عرف فى دزرائيلى هذه العواطف وشعر بصفائها أكثر تعلقاً به الاثنين الآخرين , وصار الثلاثة يكتبون إليه قائلين : "أيها السيد والقائد العزيز" , أما هو فيشعر بعودة شبابه بينهم , ويشعر بحرية ناشئة عن مركزهم الاجتماعى لم يعرفها قط من قبل , وسقط عنه ذلك الاستهتار السطحى الذى فرضته عليه صعوبة الحياة , ويشعر بفضل أصدقائه إذ يراهم مماثلين لأحلامه . دفعته العاطفة القوية مرة أخرى للرغبة فى الكتابة , وأخذ يفكر فى رواية أبطالها سميث ومانرز وأصدقاؤهما , وتعرب فى الوقت ذاته عن إيمانه السياسى , وتظهر ضعف الأحزاب القائمة والدور الذى قد تلعبه عقيدة المحافظين , وقد تكلم فى هذه الموضوعات تحت ظلال أشجار الحدائق العظيمة مع حلفائه , ونجح فى أن يتصور وجود تحالف بين الأقسام الثلاثة لانجلترا الحديثة : الأرستقراطية والشعب والكنيسة . وغلب عليه الخيال , وابتعدت السياسة الحقيقية , فلم برادنهام , وأخذ فى العمل , وقد صار الآن على علم بتردد طبيعته فقال :" أريد أن أخلص مكتبى من الأوراق فى يناير إذا كان ذلك مستطاعا , لأن العمل والخيال لن يمتزجا" . نشر دزرائيلى فى مرتين متتابعتين فى سنتى 1844 و 1845 المجلدين الأولين من المجلدات الثلاثة التى وضعها عن شباب إنجلترا هما روايتا : "كوننجسبى" و "سيبيل" . ورواية كوننجسبى أو الجيل الجديد هى فى الوقت ذاته قصة أصدقائه , ونقد لعالم السياسة , ووسيلة اتخذها دزرائيلى كى يحدد مذهبه عن طريق الخيال , وقد اتخذ سميث نموذجا لبطله كوننسجبى , وصور مانرز وكوكران إلى جانبه , وأظهرهم أولا فى أيتون وفى كمبردج متذمرين من سخافة الآراء فى زمنهم , ومحتقرين للسياسيين من الأحرار وللسياسيين من المحافظين , المحافظين الذين لا يريدون أن يحافظوا على شئ , والأحرار الذين يكرهون الحرية "أهى حكومة محافظة ؟ أى نعم ! أفعال الهويج ومبادئ "التورى" وكوننجسبى وهو يبحث عن مذهب جديد قابل شخصاً عجيبا اسمه سيدونيا فسر له العالم أخيراًؤ , وسيدونيا يهودى من أصل أسبانى ذو ثروة طائلة , وهو خليط من دزرائيلى وروتشيلد أو هو على الأصح ما تمنى دزرائيلى أن يكون أو ما تمنى روتشيلد أن يكون , وهو ذو عبارة قصيرة وفصاحة كاملة , ويظهر أنه فكر فى كل الموضوعات وهو يحل أصعب المشاكل بضع كلمات وفى هدوء يكاد فوق طاقة البشر , وإذا كان فيه عيب فهو أنه ينقصه الحب , فأشد خطبه خطراً فيها شئ من روح السخرية الخفيفة , وهو يمر من الجد العميق إلى نوع من السخرية المؤلمة , ولكن هذا الاستهزاء السطحى يخفى عقلا متطرفا من الحرية وربما هو نتيجة له . ما لقنه سيدونيا لكوننجسبى هو الإيمان فى الفرد النابغ , ويسأل كوننجسبى وما قيمة الفرد أمام الرأى العام ؟ فيجيبه سيدونيا : قيمة قدسية ـ وما الغرض الذى يجب أن يرمى إليه الشباب ؟ ـ يجب أن يبحث عن نوع من الحكومة يكون محبوبا لا محتملا فقط , وأن يكون لديه مطمع فى البطولة , فإن أية دولة لا تكون قوية بغير هذه العاطفة , وبغيرها تكون الحياة السياسية كطعام من غير ملح , والتاج زينة , والكنيسة إدارة , والدستور حلما . وينتهى الكتاب عند دخول كوننجسبى إلى البرلمان . وقد أعهجب شباب إنجلترا بالكتاب إعجابا كبيراً وصار ملحمة لهم . ولم تكن رواية سيبيل أو الأمتان أقل قيمة منه , والأمتان هم الأغنياء والفقراء والكتاب يظهر للإنجليز ما يجب أن تكون عليه حياة الفقراء , وقد صور فيه دزرائليى تعاسة القرى وتعاسة مدن العمال , وتعاسة المنالجم , وموضوع الرواية مما يؤثر بسهولة , ولكن صور حياة الشعب حقيقية ومؤثرة من غير مبالغة , ويمكن الشعور بأنها بأنها صورت فى عطف , ولكن فى أمانة. ولم يتخذ دزرائيلى لهجة الجد فى كتاب من كتبه مثل ما فعل فى هذا الكتاب , فهو يترك السخرية فى كلامه عن الشعب , واختتم كتابه فى نوع من الحماسة الحقيقية والإعراب عن عقيدة هى بأن يعهد إلى نخبة الشباب بالبحث عن علاج لمثل هذه الأنواع الكثيرة من التعاسات , حيث أن الشعب لا يستطيع شيئاً إن لم يقاتل تحت زعمائه الطبيعيين , وهو يقول : "ودعائى أن نعيش حتى نرى لانجلترا مرة أخرى ملكا حرا وشعباً سعيداً , وفى اعتقادى أنه لا يمكن الوصول إل هذه النتائج العظيمة إلا بنشاط شبيبتنا وإخلاصهم , فنحن نعيش فى عصر لا يمكن أن تكون فيه عبارة الشباب مرادفة لعدم الاهتمام , ويجب أن نعد أنفسنا للساعة القادمة . . . " . تقرأ على الصفحة الأولى لسيبيل ههذ الكلمات : "أريد أن أهدى هذاالمجلد إلى امرأة تحملها نفسها الجميلة وطبيعتها النبيلة دائماً على العطف على اللذين يتألمون , إمرأة كان صوتها الحلو تشجيعاً , وذوقها ودقة حكمها دليلا للمؤلف فى هذه الصفحات ـ إلى أشد النقاد ـ وأكمل الزوجات " .

6- البلوط والقصة

من عادة دزرائيلى أن يقول إنه كلما نشر مؤلف من مؤلفاته قفز عقله دائما إلى الأمام , والرواية لديه هى دائما وسيلة للتحليل موقف , والتمرين على سياسة يتبعها , فهو يقول : "إن الشعر هو صمامة الأمان فى عقلى , ولكنى أرغب فى عمل ما أتخيله" . فبعد أن أعرب فى كوننجسبى وفى سيبيل عن المثل الأعلى فى سياسته عاد إلى العمل فى سرور , لكن من سوء الحظ أن فكرة شباب انجلترا لم تكن إلا عاطفة لا برنامجاً , فلم ينظر السادة ذوو اللون الشديد الحمرة واللحوم المكتنزة نظرة جدية قط إلى هذا المذهب بأجمعه , فيجب تعرف موقف سفينته والسفر بها فى الحقيقة , فأين انجلترا السياسية الآن ؟ كان مجلس النواب تحت سيطرة روبرت بيل أكثر منه فى أى وقت , وكان سير روبرت راغباً فى التخلص من الحكومة الحزبية , وقد اعتاد بقوته فصار يعتق أنه يستطيع أن يفرض الإعجاب به على خصومه كما يفعل مع أصدقائه , وقد وثق بما فيه من فضائل , فصار يرى فى معارضته إثماً , واصيب بأخطر الأمراض السياسية وهو الطمع فى مظهر الإخلاص , وهو من الأمراض التى لا تعفو , وكان يحلو لدزرائيلى فى ذلك الوقت أن يكرر قولا مأثوراً للكردينال دى رتز : "ليس فى العالم شئ إلا له وقت محتوم , و خير المسالك هو أن يعرف المرء ذلك الوقت ويختاره" . فبعد تحليل دقيق للجو البرلمانى فكر فى أن اللحظة الحاسمة قد حانت , وبعد ملاحظات طويلة وصبر وضحت له علة بيل , فإن بيل كجميع الرجال الأذكياء الذين لا يبتكرون , به ميل خطر لانتحال ما يخلقه الآخرون وهو غير قادر على خلق سياسة , ولكنه يقع فى نهم على ما يجده من هذه السياسات , ويطبقها فى شدة أكثر من مخترعيها , وهكذا لأمر عجيب , وبسبب ثبات آرائه صار أقل الزعماء ثباتاً , فهو يدافع عن سياسة ما من بعد اللحظة التى يكون من الحكمة المدافعة فيها , ثم إذا ما ما فهم فجأة اعتراضات خصومه صار من أشد المدافعين عن السياسة المعارضة , هكذا بعد أن حارب "كاننج" شضدة قاسية عندما أراد أن يحرر الكاثوليك صار بعد وفاة كاننج هو محرر الكاثوليك , وهكذا بعد أن انتخبه سادة الريف للدفاع عن سياسة الحماية التجارية إذا به يندفع اندفاعا فى سياسة حرية التبادل , وهكذا دائماً فى اللحظة التى يكون فيها شديد الإيمان بإخلاصه وشجاعته العقلية يبدو لللآخرين متقلباً , ولاحظ دزرائيلى الجهة التى يحسن أن يبدأ فيها الهجوم , وبدأ فيه فى حزم وثبات .

قامت المناوشة الأولى على أثر أحد ردود بيل , فقد اختتم دزرائيلى بضع ملاحظات بأن ناشد الزير بألا يرى فيها عملا عدائياً بل على العكس صراحة الصديق , فوقف بيل والتفت إلى دزرائليى وأنشد فى اختصار قاطع أبياتاً من الشعر نظمها كاننج سلفه الشهير وهى :

أحب الخصم يظهر لى جهاراً يناضلنى بأسلحة الرجال

وأما الويل صبته سماء ولأنكى ما يحل من النكال

بل الطاعون يدخل فى خفاء فيجتاح العباد بلا قتال

فذلك صاحب قد شب حربا يسميها الصراحة فى المقال

اقتباس غير موفق من رجل مثل مع كاننج دور ذلك الصديق الخطر , أو على قول بعض دور الصديق الخائن . تبادل النواب النظرات وأخذوا يرمقون دزرائيلى ولكنه لم يجب . وبعد أيام قلائل وقف دزرائيلى مرة ثانية ليعارض فى النظام الذى يقضى بتذكير المحافظين بولائهم كى يوافقوا على قوانين توافق مبادئ الأحرار فقال : "إن السيد المحترم داهم الأحرار وهم فى الحمام , فخرج بثيابهم وترك لهم حق التمتع الكامل بموقفهم الحر , وهو المتشدد فى المحافظة على ثيابهم" .

فضحك النواب جميعاً , وصفقوا له , واستمر دزرائيلى فى لهجة الجد يقول : "إذا كان السيد المحترم يرى بعض الأحيان نم خير أن يؤنب أنصاره , فقد نكون جديرين بهذا التأنيب , وأقول عن نفسى إنى مستعد للانحناء تحت عصاه ولكن حقا إن السيد المحترم إذا لجأ للاقتباسات بدلا من التأنيب فقد يكون ذلك أمضى الأسلحة لأنه السلاح الذى يتناوله بيد أستاذ , وعندما يستعين بمصدر من المصادر إما نثراً وإما شعرا فهو واثق أبدا من النجاح , لأنه أولا لا يقتبس أبداً عبارة لم يوافق عليها قيمة إقحام اسم عظيم فى المناقشة , وكيف يكون تأثيره عظيما , فهويسرى كالكهرباء , وهولا يذكر أبداً إلا مؤلفاً عظيما , مؤلفاً محبوباً كاسم كاننج مثلا , فهو اسم لن يذكر فى مجلس النواب على ما أثق إلا ويحدث فى النفوس أثراً , فنحن جميعاً نعجب بنبوغه ونأسف جميعاً أو الغالبية فينا على نهايته قبل الأوان , ونعطف جميعاً معه فى نضاله مع التعصب القائم وتسلط الآراء العادية ومع الأعداء السافرين والأصدقاء المخلصين , ولكن السيد المحترم مقتنعاً أن الاقتباس من ذلك المؤلف يحدث تأثيره كبضعة أبيات مثلا نظمها كاننج عن الصداقة اقتبسها السيد المحترم , فالموضوع والشاعر والخطيب , أى اتفاق سعيد ! الصداقة اقتبسها السيد المحترم , فالموضوع والشاعر والخطيب , أى اتفاق سعيد ! (تصفيق طويل وشديد) فتأثيرها فى المناقشة لا بد أن يكون حاسماً , وإنى لواثق أنه إذا الاقتباس موجها إلى فلم يبق لى أن أهنئ السيد المحترم علنا لا على ذاكرته الوقادة وحدها , وإنما على شجاعة ضميره أيضاً" . رشقت هذه العبارة الرقيقة والمسمومة فى فن عظيم , فقد ألقيت فى مبدأ الأمر بتواضع متصنع , وفى صوت منخفض ومتماثل , وفى استعداد بطئ , ثم فجأة نطق بعبارة "كاننج مثلا . . . " فأوجد عند السامعين جميعاً لذة توقع الهجوم مما زاد فى قوة الهجوم حتى صار لا يقوام , وهو مقتنع فى كمال النطق والحلاوة الأخاذة لصوت , وكان تأثير كبيراً والحماسة شديدة حتى إن أحد الوزراء قام ليرد فاضطر إلى التزام الوقوف صامتاً فترة طويلة , وخفض بيل رأسه وامتقع لونه وصار يتنفس بصعوبة , وبقى دزرائيلى وحده بعيداً عن الاهتمام , وكأن المؤثرات البشرية تمر به من غير أن تترك أثرأً فيه . وكتب سميث إلىمارى آن يقول : "إن المنظر كان يحمل على البكاء سروراً" . وصار والده العجوز الأعمى فى برادنهام يكرر وهو جالس إلى جانب سارة : "الموضوع والشاعر والخطيب , أى اتفاق سعيد !" . شعر بيل بمرور العاصفة فوقه , وهو رجل رقيق الإحساس تعود الاحترام ووجد صعوبة كبرى فى كبح مشاعره , كيف رضى المجلس أن يعامل أكبر رجال البرلمان هذه المعاملة من رجل متبجح ؟ وأى ظلم . . . كاننج ؟ . نعم إنه أحب كاننج , وكانت الظروف معقدة والأخطاء من الجانبين كما يحدث أبدأً , حاول أن يفسر موقفه , لكنه شعر بعداوة جمهوره له فتحول غضبه تحولا دقيقاً إلى عداوة شديدة نحو المصالح الزراعية التى رفعته إلىالسلطة , وقد زادت إيرادات الميزانية على النفقات , فطلب الكثيرون من المحافظين أن تستعمل هذه الزيادة لإعانة الزراعين , وطلب بيل رفض هذا الاقتراح بواسطة أحد زرائه دون أن يكلف نفسه عناء الكلام , وانتظر المجلس وهو نافذ الصبر , بين القلق واللذة , من دزرائيلى أن يتكلم , ومن المحزن أن ترى ملامح روبرت النبيلة وقد ارتعشت وامتقع لونه , ولكنه منظر مرغوب فيه , وهكذا يحدث عندما يدخل حيوان جميل من حيوانات القتال إلى الساحة وشعره يبرق من القوة والصحة , فإن الجمهور يتألم مقدما , ويشعر بلذة وهو يرى الملوحين بالقماش الأحمر يثيرون من غضبه . وجه دزرائيلى الخطاب فى هذه المرة إلى أصدقائه من أصحاب مبدأ الحماية , وأخذ يعتب عليهم فى سخرية , لم هذه الشكايات غير المعقولة من مسلك رئيس الوزراء ؟ "بلا ريب أن هنالك اختلافا بين موقف السيد المحترم كزعيم المعارضة وكوزير للتاج , لكن هى القصة الأبدية , فيجب ألا نغرب فى المقابلة بين ساعات التودد والغرام القصيرة والسنوات الطويلة بعد الوصال والامتلاك , ليس إلا حقا أن السيد المحترم جداً قد تغير , إنى أتذكر خطبه عن الحماية , وهى خير ما سمعت من خطب , وكان عظيما أ ن نسمع السيد وهو يقول : "إنى لأفضل أن أكون زعيم السادة الإنجليز على أن أكتسب ثقة الملوك . ." . كان هذا القول عظيما , نحن الآن لا نسمع كثيراً عن السادة الإنجليز ولكن ماذا ؟ لم تزل لهم متعة الذكر وجمال التفكير فى الماضى , هم غرامه الأول , وإذا كان لا يركع أمامهم الآن كما فعل فى ساعات ولهه , فإنهم يستطيعون أن يتذكروا الماضى , ليس أقل فائدة وأتعس من مناظر الاتهام والعتاب , فنحن نعرف فى مثل هذه الحالات أنه إذا سحر المحبوب لم يبق فائدة من الالتجاء للعواطف , إنكم تعلمون أن ما أقوله صدق , وكل رجل وأكثر الرجال قد مر بهذا الدور , فأصدقائى المحترمون يشكون من السيد المحترم , وعمل السيد المحترم ما يستطيعه لكى يظلوا هادئين , فهو أحياناً يلتجئ إلى صمت المتكبر , وهو أحياناً يعاملهم فى برود العنيد , ولو عرفوا الطبيعة البشرية لفهموا ولزموا الصمت , ولكنهم يرفضون أن يسكنوا . وماذا يحدث ؟ ماذا يحدث دائما فى مثل هذه الظروف ؟ إن السيد المحترم جداً وهو مرغم على العمل يرسل لهم تابعه ليقول فى رقة : "إننا لا نستطيع أن نسمع هذه التأوهات أمام بابنا" , هذه يا سيدى تماماً حالة الزراعة تلك الحسناء التى شغفت الناس بها وخانها عاشق" . من المستحيل أن ننقل صورة عن تأثير هذا الكلام , ف، نغمة الإلقاء كان لها أثر كبير , وقد قيل كل هذا فى صوت منخفض متماثل ينقطع عندما يعلو التصفيق والضحك , ثم يعود متماثلا دون مجهود ظاهر كمجرى مستمر من الفكاهة والتأنيب يتساقط قطرة قطرة على الوزير فى هيكله الكبير , وكان المجلس فى الوقت ذاته تحت تأثير اللذة والخجل , وقد تخوف من قوة ذلك الرجل الذى جرؤ على مجابهته , كانوا يصفقون دون ا، ينظروا إليه , وقد جذب بيل قبعته فوق عينيه ولم يستطع أن يخفى حركاته العصبية , وتمتم لورد جون رسل : "كل هذا حق " , وضحك "أليس" الفظيع نفسه , وظهرت علائم السرور على "ماكولى" جاءت العطلة البرلمانية لحسن الحظ بشئ من الهدوء لسير روبرت وشعر براحة إذ ذهب إلى عائلته فى الريف , فقد كان هذا الوزير الشديد أرق الأزواج والآباء , ولا ريب فى أن دزرائليى نفسه وهو شديد التأثر بالعواطف المنزلية كان يشفق عليه لو قرأ الرسائل التى يرسلها سير روبرت إلى لادى بيل : حبيبتى العزيزة : لا أستطيع تحمل فراقنا أكثر من ذلك , فإن نوعا من التعب والشوق يطغى على هنا , وإن العودة فى نحو الساعة الثانية أو الثالثة من الصباح إلى بيت مهجور وأن أجد غرفتنا فيها منضدة زينتك وقوارريك وغرفة الأطفال مهجورة , وجميع الغرف ساكنة وغير مأهولة مما لا أستطيع احتماله أحيانا . خبرى جوليا الصغيرة أنى محتفظ بساعتها , وأنى أملؤها فى كل مساء أو أراقبها . لكن الوجوه الحقيقية للرجال تبقى دائماً تقريباً مختفية أمام اللذين لا يعرفونها إلا فى الحياة العامة , فبيل ودزرائيلى يقفان وجهاً لوجه , وكل منهما ظالم للآخر وكل منهما جدير بالاحترام , وكل منهما مغلق , فهما فارسان وضعا الخوذة فوق رأسيهما يتقاتلان , ورماحهما لا تقابل غير الحديد , ولم يرفع قط أحدهما قناع الآخر عن وجهه . ما بعد بيل عن البرلمان حتى استرد ثقته , فقد وجد على مقربة من زوجته الظريفة وقصره الجميل فى درايتون عالماً متلائماً هو سيده المطلق , وجواً من الثقة والمديح أحيا فيه الأمل , وعلى كل فقد انتهى دور الانعقاد من غير هزيمة وهو لا يزال قويا كما هو دائما , وليس للأحرار غالبية توصلهم إلى الحكم فمن صالحهم تأييده , ولا ريب فى أن سادة الريف صاروا يكرهونه الآن , لكنهم سيظلون يخشونه ويخدمونه كالخراف , فهو قد خسر قلبهم ولكنه لم يخسر صوتهم , ولم يزل كوبدن يقول : "لا خليفة الأتراك ولا قيصر الروس له من دزرائيلى الصغير بدا له دزرائيلى كالذبابة . مع ذلك كان شهر يوليو كثير المطر , وهذا المطر الذى أغرق مبارة الفروسية فى إجلنتون نشأ عنه السيل الذى سوف يجرف بيل .

جلس بين سكوت عميق ولم يصفق له عضو واحد من حزبه ، والتفت لورد جون رسل نحو جار له فى مقاعد المعارضة ، وقال فى إعجاب : "لا بد أن تتوافر الشجاعة الكبيرة لدى زعيم حزب كى يدافع هكذا عن آراء يمقتها أصدقاؤه" . أعلن الحزب لبنتنك أنه لا يقر مسلكه فى مسألة روتشيلد ، فأستقال من الزعامة ، ووجد بعد وقت قصير ميتاً فى أحد الحقول وقد ارتمى على وجهه ، قال الطباء إنه توفى بسكتة قلبية ولم يكن معتادا الاعمال العقلية ، فرض على نفسه تغيير عاداته ، وحرم نفسه من تمريناته العادية فقضى ذلك على صحته ، وأصابه فضلاً عن ذلك حزن كبير إذ كان مطمحه الوحيد دائماً أن يربح الدربى ولم ينجح قط فى ذلك ، لكن أحد الجياد التى باعها عندما قصر وقته على السياسة وهو "سوبليس" ربح ذلك السباق وجاء الأول فكان فى ذلك ضربة كبرى لآماله . على أن لورد جورج لم يأسف قط على ما فعله فى سبيل الواجب , وفى أيامه الأخيرة إذا ما ألح عليه أصدقاؤه فى الراحة قليلاً كان من عادته أن يجيبهم  :"إن من يطلب النجاة لنفسه لا بد أن يفقد الحياة " . حزن دزرائيلى حزناً شديداً لوفاته ، فقد تعلق بهذا الصديق الخشن والوفى أيضاً ، وقد قال بنتنك أكثر من مرة لأولئك الذين يشكون فى مساعده : "إننى لا أدعى معرفة الكثير من الأمور ، لكنى على خبرة بالرجال والجياد" . ذهب بنتنك ففقد دزرائيلى فيه أكبر عضد له ، وعندما تكلم رجال الحزب فى انتخاب زعيم جديد ذكرت عدة أسماء ولم يذكره اسمه ، وكتب إليه ستانلى رسالة مؤدبة فى الظاهر لكنها مهينة فى الباطن ، يعرض عليه فيها أن يعمل تحت لواء زعيم اسمى ، وأن يقوم دزرائيلى بالعمل الحقيقى على أن يحمل الآخر لقب الزعيم ، لكن دزرائيلى أبى أن يتحمل جميع المخاطر دون الشرف ، وقد ترك خروج بيل وأصدقائه أصحاب الحماية بلا خطيب ، بينما حزب المحافظين القديم غنى بجلادستون وبعدد من الخطباء ، كان عليه أن ينتظر طويلاً ، طويلاً جداً ، لولا أن ادى انقسام الحزب إلى أن صار فى الطليعة ، سواء رضى رجال حزبه أم لم يرضوا ، قاوم ستانلى بقدر المستطاع ، وأخيراً اقترج بأن يدير الحزب فى مجلس النواب ثلاثة : جرانتى وهريس ودزرائيلى . وقال وزير قديم عندما سمع الخبر "هم سيبيس وروجيه دوكو ونابليون بونابرت" . لم يمضى ثلاثة أسابيع حتى اخن فى ذكر الزميلين الأخيرين وصار دزرائيلى فى أعين الجميع الزعيم الرسمى للمعارضة ، وكان لورد ملبورن لا يزال حياً ، وتذكر ذلك الشاب ذا الشعر المجعد الذى أجابه لدى كارولين نورتون : "أريد أن أكون رئيس الوزراء" . فقال : "والله ليفعلنها هذا الغلام" . لا شك فى أنه خطا خطوة كبيرة فى الطريق السلطة ، إذ اصبح الزعيم المعترف به لحزب كبير فى مجلس النواب ، وقد اتضحت له فكرة جديدة وأخذت تزداد وضوحا ، هى أنه فى انجلترا وفى بعض الجماعات السياسية لا يكون الرجل شيئاً مذكورا إذا لم يمتلك أرضاً ، ولم يجد هذه النزعة مستغربة ، فإن صاحب الأرض وهو يمشى فى أملاكه ويكلم رجال زراعته قف على الحالة الحقيقية للعواطف ولحاجيات ، يصغى إلى شكايات الزراعيين وقف على تأثير القوانين التى أيدها بصوته ، أما ساكن لندن الذى يمضى حياته بين غرف الاستقبال وفى المجلس فلن يكون إلا من ذوى النظريات ، العقل فى حاجة إلى الاتصال بالأرض فى مرات متقاربة وبعد قضاء موسم فى حياة المدن يخفف هدوء الطبيعة النباتية وجمالها منذ زمن بعيد أن يمتلك بيتاً كبيراً فى كونتيه "بكس" التى تعلق بها . كانت هنالك أرض معروضة للبيع لا تبعد كثيرا عن برادنهام هى ضيعة هوجندن ، وكان دزرائيلى وإخوته يذهبون إليها كثيراً فى طفولتهم للعب ثم للغزل ، وهم يعرفون تلك الحديقة الجميلة والغابات الواسعة من الزان والبلوط ، والأراضى المتموجة المزروعة بالحشيش ، والنهر الصغير فى الوادى وأسماكه المختفية والشرفة الكبيرة التى كانت فيها "برجولا" مزهرة . وقد سمعوا مئات المرات قصة هذه الضيعة التى منحها وليم الفاتح لأودو أسقف بايو ، وسكن فيها رتشارد دى مونفورت والكونت شسترفيلد الشهير . ليس شئ أحب لدى دزرائيلى من أن يصير سيد هوجندن ، لكن يعوزه المال فقد زادت ديونه بالفوائد التى أصر عليها المرابون ، وديون اصدقائه الذين ضمنهم ، فبلغت عشرين الف جنيه ، ونصيبه فى ميراث والده يبلغ عشرين آلاف جنيه ، وكان مستر إسحاق دزرائليى على استعداد من ذلك الوقت لأن يضع هذا المال فى شراء أرض ، لكن ثمن القصر والغابة كان خمسة وثلاثين ألفاً من الجنيهات فأين يجدها ! عندما كان لورد جورج بنتنك لا يزال حياً أسر إليه دزرائيلى رغبته ، ورأى لورد جورج من المرغوب فيه أن يكون أحد زعماء الحزب الزراعى من سادة الريف , فعرض أن يتعاون مع إخوته على إقراضه هذا المبلغ ، ولما تم الاتفاق مبدئياً اشترى إسحاق دزرائيلى هوجندن لابنه ، ومات بعد ذلك بزمن قصير ، وقد بلغ الواحدة والثمانين من العمر , ولم يكد يشعر باقتراب الموت إذ لم ينقطع حتى الساعة الأخيرة عن سماع قراءة سارة . فى تلك السنة وقبل أن يدفع ثمن الضيعة توفى لورد جورج بنتنك ، لكن دزرائيلى وجد فى سخاء أخوى اللورد ما وجده فى الصديق ، وشرح لهما فى صراحة فيها بساطة وفيها إقدام أن الحياة تكون من غير لذة له ومن غير فائدة للحزب إذا لم يظهر فى مظهر كبير ، وهما من الرجال الذين يفهمون استحالة الحياة من غير هذا المظهر ، واستطاع ديزى أن يكتب إلى مارى آن ويقول : "لقد تم كل شئ ، وها أنت صاحبة قصر هوجندن" . انتقد بعض العقلاء هذا الشراء بحق ، لكن هل يستطيع دزرائيلى أن يترك من أجل بضع قطع صغيرة من الذهب لذة امتلاك قصر يكاد يكون مماثلا لما وصفه فى رواياته : كنيسة صغيرة وسط الحديقة ، وبيت صغير للقس ن ونهر وأراض ومماش طويلة مغطاة بشجر الزان تؤلف قصراً طبيعياً تتشابك فيه الأوراق فوق سجاد من الحشائش الناعمة ! . .لقد أخذت مارى آن ، وهى ربة بيت كاملة من سيدات القصور تفتح طرقا فى غابة البلوط التى سمتها الغابة الألمانية وتضع مقاعد ريفية . وصار دزرائيلى يمشى طويلا متنزها على قدميه وامرأته تلازمه فى عربة صغيرة يجرها مهر صغير . فى شهر اكتوبر ارتدت الغابة ثياب الخريف ، ولا زالت أشجار الزيزفون والصنوبر تكتسى أوراقها المصفرة ، وأشجار الزان النحاسية تلمع فى الشمس ، وهنا وهنالك تجد إحدى أشجار البلوط والدردار لا تزال خضراء كما فى صيف ، وسيد هوجندن وسيدتها يعودان فى هدوء نحو قصرهما , هو فى الخامسة والأربعين من عمره وهى فى السباعة والخمسين ، ولكنه يحدب عليها فى حنو وهى تحدب عليه فى تدله ، وعلى الشرفة الطواويس تنشر ذيلوها فى بهاء وعظمة وهى تقول عن هذه الطواويس لزائريها : "يا سيدتى العزيزة ما فائدة الشرفة إذا لم يكن فيها طواويس" .

8- مصاعب

"والله ليفعلنها هذا الغلام" . هكذا قال لورد ملبورن متفائلا أكثر من دزرائيلى الذى رأى أنه لا يزال بينه وبين السلطة طريق وعرة تكتنفها مصاعب كبيرة . الحاجز الأول : إنه زعيم حزب فى مجلس النواب ، لكنه لم يشعر بأنه محترم ، فحزب المحافظين هو فاوست ، ودزرائيلى مفستوفوليس الذى قال له : "إنى أهبك القوة والشباب ، لكن بشرط أن أبقى دائماً إلى جانبك" , فصار فوست يحتمل مفستوفوليس ولكنه لا يحبه . يعترف الجميع بأن الزعيم الجديد يحسن عمله ، وهو فى غير المجلس يقرأ الكتب الزرقاء ويدون الملاحظات ويعد الخطب تاركا مارى آن وحدها للاتصال بالناس . أخذ ديزى أخيراً يظهر ذلك الاحتقار الكبير للمظاهر بعد أن ظل يخفيه تحت رغبته فى إرضاء الآخرين ، وكثيراً عند زيارة الأصدقاء تمر عشية بأكملها دون أ، ينطق بكلمة وهو غارق فى الأفكار ، فلا يجرؤ أحد أن يكلمه. لكن مراقبى المجلس كانوا يرسلون عنه إلى ستانلى تقارير كالتقارير التى يرسلها موظف من موظفى المستعمرات إلى الحاكم عن زعيم من الأهالى خضع له حديثاً : "إنى أشعر بأنه قد ارتبط نهائيا ، وأنه سيظل مخلصا" . وفى أثناء العطلات البرلمانية يراقبون حتى وجهه : "علمت أن دزرائيلى قد أطلق شاربيه ، وهذا مما يؤسف له جدا إذ يجب ألا يلفت الأنظار بمظهر أو بثياب خارجة ، وإنما بمواهبه ، آمل ألا يتخذ هذه الهيئة فى غير الريف ، وفى غاباته ببكنجهامشير وأن يظهر إلى الناس فى مظهر أليق بالبشر فى شهر يناير" . هى مخاوف ظالمة ، فملبسه لا يمكن انتقاده ، وقد اختفت السلاسل والخواتم وثيابه فى الشتاء والصيف غير زاهية ، كانت حركاته عصبية فى أيامه الأولى تضايق المجلس ، لكن يجب على المجلس أن يرتاح إلى ثباته ، فهو يلزم مقعده أثناء الجلسات رافعاً الرأس فى جمود ، وقد شبك ذراعيه على صدره وعيناه فى نصف إقفال ، ولا يمكن النظر إليه من غير تفكير فى الصور الحجرية لمصر القديمة ، فإذا اشتدت الحملة عليه ادعى النوم ، وإذا أصاب اهجوم منه مكانا حساساً وجه نظرة خفيفة إلى طرف أحد قدميه أو جذب قليلا كم قميصه ، وهى العلامة الوحيدة للحياة التى لا يكتشفها إلا أدق الملاحظين ، وفى مماشى البرمان يسير من غير ضجة كالشبح ، كأنه لا يشعر بوجود الأشياء الخارجية عنه ، ويخطب من غير إشارات ومن غير الالتجاء إلى التأثير بتنوع الصوت ، غير أنه فى اللحظة التى ينطق فيها بملاحظة فكاهية كان ينزع منديله من جيب فى اليسار وينقله إلى يده اليمنى ويسعل سعالا خفيفاً ـ احم ـ ويمر بالمنديل تحت انفه ، ثم ينطق بالعبارة ثم يعيد المنديل إلى يده اليسرى ، هكذا كانت سيطرته على جسده مما نظم العقل ، فصار دزرائيلى هادئا تماما فى الظاهر بعد أن كان عصبياً فى الماضى ، وإذا عورض قال : "ربما . ." ثم غير الموضوع فى الحال . الحاجز الثانى : لم يكن لحزب الحماية مبدأ خاص ، ولو سئل ستانلى لقال : "كيف والحماية ؟ !" ، لكن الحماية لا تؤلف برنامجا لحزب كبير , إذ يجب أن يكون للحزب عقيدة ، ولا يمكن إشباع خيال الناس بالقوانين الجمركية ، والخيال وحده هو الذى يقود الرجال ، وأظهرت الحوادث أن جريمة بيل كانت أقل مما ظن ، وقد قال دزرائيلى : "لماذا عارضنا بيل ؟ لأن حرية التعامل تخرب الزارعين ، ولا تخفض أسعار المعيشة" , لكن أسعار المعيشة انخفضت وظل الزارعون على حالهم فىزمن قانون الغلال ، وربما ذلك لمجرد الصدفة ، فللجو وللحاصلات دخل فى هذا الأمر ، وربما ينقلب فى المستقبل جو آخر فتحين نهاية الحماية . لكن دزرائيلى كان واقعيا وهو يقبل الحوادث على علاتها ، فالزراعة لم تخرب ، والعودة إلى قوانين الغلال فكرة جنونية لأنها تثير البلاد وتقضى على الحزب ، فالحماية لم تمت فقط بل قضى عليها تماما . ضايق هذا الموقف جميع الناس ، فقد تمنى الأحرار أن يتشبث خصومهم مدة قرن بالسياسة المقضى عليها ، وتساءل لورد ستانلى سؤلا معقولا فى ظاهره : "ما معنى الحملة الشديدة على سير وربرت بيل إذا كنا نعود إلى تقليده ؟ ". لم يكن لدى ستانلى الوقت والرغبة فى أن يفكر فى القيمة الحقيقية لحرية التعامل ، فلديه الجياد ، وهو مرتبط بسياسة الحماية ولتكن النتائج ما تكون . ويرى جون مانرز المخلص أيضا أن الشرف يقضى بأن يصيح "لتسقط ضريبة الدخل ، ولتحى الرسوم الجكمركية" . وبدأت الأساطير القديمة عن الخيانة السياسية تظهر من جديد ، ورسمت بنش دزرائيلى فى صور هزلية تمثله أحيانا كتلك النار الوهمية يتبعها الزارعون المخدوعون بلا جدوى ، وأحيانا كالحرباء ، وقد وضعها جون بول على منضدته وهو يتأملها فى تعجب ، وأحيانا كأحد شبان القرى الذين يخدعون الفتيات ، وقد أراه أب شديد ابنته "الزراعة" وهو يسأله : "ما هى أغراضك ؟ " . الحاجز الثالث : ما دام سير روبرت بيل حياً فمن المستحيل اتحاد فريقى حزب المحافظين بدونه ومن المستحيل الاتحاد وهو فيه ، وجد دزرائليى فى مبدأ الأمر صعوبة فى الجلوس على مقعد واحد مع الرجل الذى حطم حياته لا يفصل بينهما غير جلادستون . وقد شعر بالعطف على سير روبرت بعد أن غلبه فلا يتحدث إلا ليمتدحه ، وإذا غاب جلادستون وأدى ذلك إلى جلوس أحدهما إلى جانب الآخر ، دعا دزرائيلى صديقاً وسأله أن يجلس بينهما كى يوفر على سير روبرت تلك الحيرة المؤلمة لنفسه ، لكن بيل كان ينظر إليه بلا غضب ويلاحظه فى جد ، وقد أرضى كبرياءه نجاح سياسته بعد سقوطه ، عاد الهدوء إلى وجهه بل كادت تظهر عليه علامات السعادة . وفى ذات ليلة إذ جلس دزرائيلى بعد أن ألقى خطبة جميلة سمع جلادستون بيل المجاور له يظهر فى هدوء رضاه . فى تلك الليلة ظلت الجلسة منعقدة إلى الساعة الخامسة صباحا ، وعندما عاد دزرائيلى إلى داره وجد البيت مضيئا بالأنوار كالعادة ، فذهب إلى مرقده ونام جيداً واستيقظ متأخراً جداً , وأقنعته زوجته بأن يتنزه فى عربة معها ، وبينهما هما يخترقان ريجنت بارك أوقف فارسان أجنبيان عربتهما وقالا له : "قد يهمك يا مستر دزرائيلى أن تعلم أن سير روبرت بيل سقط من جواده ، وأنه حمل إلأى منزله فى حال خطرة" . فقال دزرائيلى : "خطرة ! أرجو ألا يكون ذلك ، فإن فقده خسارة كبيرة للبلاد" , ظهرت الدهشة على الفارسين وابتعدا . كان الخبر صحيحاً فقد خرج بيل على فرسه فى الصباح وهو متعب من جلسة الليل وجمح جواده ورماه إلى الأرض ، كانت آلامه شديدة بحيث لم يستطع الأطباء أن يقفوا على مدى جراحه ، وجزعت لادى بيل جزاعاً شديداً حتى أنها منعت من دخول غرفة المريض إذ يسبب له منظر حزنها تشنجات حقيقية ، وأحاط الجمهور المتأثر بالبيت ينتظر الأخبار . بعد ظهر ذلك اليوم كان آل لندندرى يقيون حفلة ريفية كبرى فى دار ريفية مزينة بالورود على ضفاف التامز , وقدمت لادى لندندرى الشاى لضيوفها فى أكواب من الذهب المصبوب ،هزت رب الدار يد دزرائيلى فى قلق وحب ثم اختفى ، وعندما عاد بعد وقت طويل تمتم قائلا : "ليس هناك أى أمل" ، فقد امتطى جواداً إلى دار بيل ، بينما الكمنجات تعزف ومدعووه يأكلون المثلجات . وفى اليوم التالى قال جلادستون فى نادى كارلتون : "مات بيل فى سلام مع جميع الناس حتى مع دزرائيلى" . كانت راشيل تمثل فى ذلك المساء بالفرنسية رواية "بيازيد" , وحضر تمثيلها أهل لندن جميعاً ، وكان التفكير فى أن سير روبرت بيل لن يشغل مقعده من بعد غريباً ، قال بلوار لدزرائيلى : "لقد أتم عمله ولا يعيش إنسان قط بعد أن يتم عمله " لماذا ؟ لقد أخذ بلوار يميل إلى إيجاز القول . أسف دزرائيلى حقا على جاره . قد يكون من السهل ضم أنصار بيل بعد وفاته إلى الحزب ، لكن أنصار بيل كانوا متألمين ورأوا أنه مما لا يليق بإخلاصهم لذكرى بيل أن ينضموا فى الحال إلى أعدائه وهم لا يريدون أن يعملوا نحن لواء دزرائيلى وهم خصومه القدماء . وقد اشتدت دهشتهم عندما علموا ا، ديزى على استعداد لترك الزعامة فى مجلس النواب لأحد الأعضاء اقدماء من أنصار بيل ، عجبوا أن يصل فى إنكار الذات إلى حد لا يصدق ، فهذا لا يتفق مع شخصينه كما يتصورونه ، لكن ما لبثت الفرصة أن أتاحت لهم اختبار إخلاصه ، فقد قدم لورد جون رسل استقالته ، ودعى لورد ستانلى لمقابلة الملكة ، وقابلته فى شئ من القلق لأن البيت الملكى يعقد بحرية التعامل ، وقال ستانلى للملكة فى صراحة ظريفة : إن حزبه لا يضم رجلا من ذوى المواهب إلا القليلين ، وإنه لا يرى الطريق لإيجاد العناصر التى تتألف منها وزارة , واجتمع بدزرائيلى وسأله : "هل تستطيع أن تجد من غير معونة أنصار بيل ستة أو سبعة من المحافظين فى مجلس النواب علىشئ من الذكاء ؟ " ، وكان ستانلى لا يعتقد فى ذلك ، فقال دزرائيلى : إنه إذا استطاع الحزب أن يحصل على تأييد جلادستون وأصدقائه بتضحيته كزعيم فإنه على استعداد للتضحية ، ثم اقترح بضعة أسماء أحدهم المستر هنلى مثلا ، ورفع لورد ستانلى كتفيه ولكنه لم يعترض وهذه طريقته . فى اليوم التالى نحو الظهر قام ستانلى بزيارة لدزرائيلى فى جروفنرجيت ، وصعد إلى الطابق الأول فى الغرفة الزرقاء ووجهه مضئ وعيناه فرحتان , وقد رفعأهدابه الساخرة كما يفعل عادة وقال : "لقد أنزلنا السفينة إلى الماء" ، ثم عاد إلى الجد وقال : "لقد وعدت الملكة أن أحاول تأليف الوزارة" . وسألته إلى من ينوى أن يعهد فى إدارة مجلس النواب فسمى لها دزرائليى ، وقاطعته الملكة قائلة : "لست حسنة الظن بمستر دزرائليى ، لم أحب قط مسلكه نحو سير روبرت بيل المسكين ، ووفاة سير روبرت لا تنقص من هذه العاطفة" ، أجاب لورد ستانلى : "سيدتى ! على مستر دزرائيلى أن يوطد مركزه وأن يقيم شهرته ، لكنه خطيب كبير ، والرجال الذين عليهم أن ينشئوا لأنفسهم مركزاً يأتون أعمالا يمكن أن يتجنبها أولئك الذين وجدوا الحياة ممهدة أمامهم ، ولم يستفد أحد من مدرسة البرلمان كما استفاد مستر دزرائليى وقد تغيرت نغمته كلية" . فقالت الملكة : "هذا حق لكن أرجوا وقد بلغ هذا المركز العظيم أن يلجأ منذ الآن للاعتدال ، وإنى أقبله على ضمانتك" . قال لورد ستانلى لدزرائيلى الذى تأثره بهذه القصة : "الآن أريد أن أكتب إلىجلادستون كى يأتى لمقابلتى" . فشلت مقابلة جلادستون فشلاً تاماً ، فقد اشترط أنصار بيل للدخول فى الوزارة العدول رسمياً عن سياسة الحماية كنوع من الترضية السريعة ، وهذا ما لا يرضاه ستانلى الأبى ، وعلى الرغم من كل ذلك ظل محافظاً على مرحه ودعا إليه فى اليوم التالى أصدقاءه فى مجلس اللوردات وأعضاء مجلس النواب الذين سماهم دزرائيلى ، ولكن عندما رأى دزرائيلى الأعضاء وقد دزرائيلى الأعضاء وقد اجتمعوا فى قاعة الطعام الفخمة فى منزل ستانلى أخذ يفقد الأمل ، فذها مستر هنلى الذى يمتدحه وقد جلس على كرسى ويداه على عصا غليظة وتقطب حاجباه خاليتان من كل تفكير وعليه مسحة السجان الذى ينتظر التأنيب لخشونته ، والآخرون لا يفضلونه ، وحين تكلموا تبادل لورد ستانلى نظرة مع دزرائيلى وفهم هذا ما يجول فى خاطر رئيسه ، فإن هذا الرجل الفكه الرقيق لم يعد يحتمل هذا المنظر طويلاً ، وقرر أن يقذف بهم إلى الشيطان ، وكان دزرائيلى قد ابتدأ يفكر ببرنامج واسع ويتخيل وزارة طويلة الأجل وانتخابات ملائمة ، ولكن المغامرة انتهت قبل أن تبتدئ ، ولو أن دزرائليى كان هو الرئيس فأى صبر يحاول به تكوين زملائه تدريجياً ، لكنه ليس رئيساً ويجب أن يخضع لأهواء هذا السيد الذى نفذت مقاومته ، وكاد يصل إلى المرمى الذى أراده فإذا يه يتراجع وقد لا يصل إليه أبداً .

أشار لورد ستانلى لدزرائيلى بالقيام وأخذه إلى نهاية الغرفة وقال له :

ـ إن الأمور بهذه الحالة لن تكون . فأجابه :

ـ قد لا تكون الحالة بهيجة ولكن لا تستعجل كثيراً .

عاد ستانلى إلى المائدة وقال : إن واجبه أن يرفض تأليف الوزراة لا سيما أنه ليس لديه أعضاء صالحون فى مجلس النواب ، وقفز مستر بيرسفورد أحد المراقبين وأكد للورد ستانلى أن نادى كارلتون عدداً من الرجال ذوى الجدارة ينتظرون أن يدعوا . سأله ستانلى بنفاذ صبر : "ومن فى كارلتون ؟ " فقال بيرسفورد : "ديدز" . فأجاب ستانلى : "أوه . هذه أسماء لا استطيع رفعها إلى الملكة . حسنماً أيها اللوردات والسادة . إنى شاكرلكم تفضلكم بالحضور , ولكن الأمر انتهى" . تفرق الجميع فى اضطراب كبير ، وظل هنلى صامتاً مقطباً ، وكان مظهر بيرسفورد كمن فقد ثروته على مائدة الميسر ، ظل يعلن أن ديدز من الطبقة الأولى بين الرجال . عندما أعلن ستانلى فى مجلس اللوردات رفضه تأليف الوزراة أسهب فى المقارنة بين عدم وجود البارزين فى حزبه وغنى الجماعة الصغيرة من أنصار بيل فى المواهب ، إنه لمن غير السهل دائماً لأن يعمل المرء أن يعمل تحت راية لورد ستانلى .

9- واجب قاس على مستر جلادستون

كما يحدث أحيانا فى لعبة الرجبى أن لاعباً ماهراً من خط الدفاع فى حماسته ، بالرغم من خيبة الآمال ، يناول الكرة عشرين مرة للاعبين الكسالى فى خط الهجوم فلا يحاولون الهجوم بها ، كذلك كان دزرائليى يسدد السلطة إلى يدى ستانلى المهملتين ، كان واجبه الأكبر هو تربية الحزب وأن يخرجه من فكرة الحماية ويسمو به من العاطفة الحزبية إلى العاطفة الوطنية ، ويعلمه السهر على الراحة العامة وتضامن الإمبراطورية . واقترح بدلاً من الحماية برنامجا جريئا هو الإصلاح الإمبراطورى للبرلمان واشتراك المستعمرات فى إدارة الإمبراطورية ليوازن بأصواتها الديمقراطية للمدن ، وهكذا تدخل عناصر جديدة وتنتهى المناقاشات التى لا معنى لها بين المدن والريف وبين الصناعة والزراعة ، وفكر لورد ستانلى أن هذه "نصورات الخيال" وعاد إلى ملاذه . لكن قذفت إليه الكرة مرة أخرى وطلبته الملكة فى وندسور , وقد صار منذ عدة شهور لورد دربى بعد وفاة والده ، وعاد مرة أخرى إلى جروفنرجيت وأدخل إلى الغرفة الزرقاء ، وفى هذه المرة قال لدزرائيلى : ستكون وزيراً للمالية . فقال دزرائيلى : ولكنى لا أعلم شيئاً عن الأمور المالية . فأجابه : إنك تعرف عنها بمقدار ما كان يعرف كاننج ، وسيمدك المظوفون بالأرقام . تألفت الوزارة فى اليوم ذاته وبلغ من فقر الحزب فى الرجال أنه لم يتول الوزراة من قبل غير ثلاثة فقط , وفى رأى الملكة أن الوزراة مؤلفة من لورد دربى وحده ، ولما سئل هذا عن أخباره أجاب : "إنى فى صحة جيدة وأطفالى كذلك" . وطلب دوق ولنجتون إلأى أحدهم أن يذكر له أسماء الوزارة ، ولما كان الدوق عجوزاً جداً ومصابا بالصمم والأسماء جديدة عليه ، فقد أخذ يقاطع المتكلم متسائلاً : "من ؟ . من ؟ " . واستولت الصحف على هذه الكلمة ، وعرفت هذه الوزارة بوزارة " من ؟ من ؟ " واعتبر اختيار دزرائليى كوزير للمالية أكبر سخرية . لكن ماذا يهمه ؟ فهو كالفتاة الصغيرة فى يوم أول مرقص تحضره ، وذكره لندهرست العجوز بأحاديث الشباب عندما أعرب عن رغباته وهو عندئذ بعيدة وقد تحققت الآن . ورأت سارة نفسها فى وحدتها الريفية وقد حوصرت بأهل البلاد يطلبون منها التوصية بهم ، فساعى البريد يريد أن ينقل إلى المدينة وخاطب الآنسة دزرائيلى فى صوت خجول مرتعش . وذهب ديزى ليبحث عن الرداء الخاص بوزير المالية وهو رداء الحرير الأسود المزركش بالقصب المذهب وقد ورثه رأساً عن الزير "بيت" العظيم ، وقال له القاضى الذى استقبله : "ستجده ثقيلا جداً" وأجاب : "إنى أجده خفيفاً لدرجة لا تصدق" . لم تكن البداية سيئة ، فقد وجدت الملكة نفسها تسلية فى التقرير التى من واجب زعيم مجلس النواب أن يرفعها كل ليلة عن الجلسة . وقالت : طإن مست ردزرائليى يكتب تقارير عجيبة جداً مماثلة تماماً لأسلوبه فى كتبه" . وارتاح دربى من جماعة المبتدئين ، وكان المجلس فى انتظار الانتخابات فإذا انتهت , وكانت غير ملائمة ، تحقق لدى الوزير التعس أنه سوف لا يترك طويلا يتذوق هذا الدور الذى يجد فيه سروراً كبيراً ، وكان جلادستون يراقبه بنوع خاص . اتخذت الحياة السياسية تدريجيا مظهر المبارزة بين هذين الرجلين , وإن لم يرغب أحد الاثنين فى ذلك ، وكانا فى الظاهر صديقين وزوجتهما يتزاوران ، وأحياناً يوزر جلادستون مارى آن بعد جلسة محتدمة ليديها تحية المساء ، والرجلان من الوجهة النظرية من المحافظين , وكان جلادستون فى حبه للفروق الدقيقة التى لا تكاد تحدد يقول : إنه يفضل أن يكون فى الجانب الحر من حزب المحافظين على أ، يكون فى الجانب المحافظ من حزب الأحرار" , ولكن طبيعتهما تتصادم ، ومسلكهما فى الحياة يتقاطع ، فلولا دزرائليى لصار جلادستون الخلف الطبيعى لبيل , وهذا رأى بيل فقد قال قبل وفاته بزمن ما : سيكون جلادستون رئيس وزارة محافظاً" . وعندما سئل عن دزرائيلى ، أجاب : "سنعينه حاكما عاما للهند" . كان كل من الرجلين شديد الحكم على الآخر . يرى جلادستون أن دزرائيلى رجل لا دين له ولا عقيدة سياسية ، ويرى دزرايلى أن جلادستون رجل يدعى الورع ويخفى تحت قناع التردد المصطنع سعة حيلته . عاش جلادستون كل حياته حياة الطفل فى مدرسة الأحد ، كان فى إيتون يصلى صباحا ومساء ، وفى أكسفورد صار الشبان سنة 1840 أقل إقبالا على الخمر لأن جلادستون كلن بها فى سنة 1830 ، وفى البرلمان صار هو التلميذ المجتهد والمحبوب لدى بيل ، وعاش دزرائيلى عيشة التشرد فى المدرسة وفى السياسة ، وعرف مقر المرابين قبل أن يعرف مقر الوزراة والأساقفة . يقول خصوم دزرائيلى إنه ليس رجلا أمينا ، ويقول خصوم جلادستون إنه رجل أمين بأسوا معنى الكلمة ، يقول خصوم دزرائيلى إنه ليس مسيحياً ، ويقول خصوم جلادستون إنه ربما كان مسيحيا متمسكا ، لكنه بلا شك وثنى كريه . تعلم دزرائليى القراءة فى موليير وفى فولتير ، ويرى جلادستون أن ترتوف مهزلة من الطبقة الثالثة . وقد تمتم دزرائيلى المستهتر إلى مستر برايت العجوز ، وليس يساعده على ارتداء معطفه : "مع كل يا مستر برايت نحن الاثنان نعرف جيداً ما الذى أتى بنا إلى هنا ، المطامع" . ويطمئن جلادستون نفسه ، وهو غير شاعر : "مع كل لا أعتقد أنى استطيع أن أتهم نفسى بأنى عمدت إلى العمل سعييا وراء المطامع" . يقال عن جلادستون إنه يستطيع أن يقنع الآخرين بأشياء كثيرة ويقنع نفسه بأى شئ . أما دزرائيلى فيعرف كيف يقنع الآخرين وليس له أى سلطان على نفسه . يجب جلادستون أن يختار مبدأ نظريا ومنه يتبين استنتاجه ، وفيه ميل للاعتقاد بأن رغباته هى رغبات القوى الأعلى ، وليس يلام على إخفاء الورقة الرابحة دائماً فى كم قميصه ، وإنما يلام على زعمه بأ، الله هو الذى وضعها هناك ، أما دزرائيلى فيمقت المبادئ النظرية ويحب بعض الآراء لأنها ترضى خياله ، ثم يترك العمل تحقيقها ، وعندما يغير دزرائيلى من رأيه ، كما فعل فى مسألة الحماية ، يعترف ويظهر بمظهر المتقلب ، أما جلادستون فيستند فى ثيابه إلى نتف من القش وهو يعتقد أنها قضبان من الخشب . وقد تأكد دزرائيلى من أن جلادستون لم يكن قديسا ، لكن جلادستون لم يتأكد لديه أن دزرائيلى ليس هو الشيطان. أخطأ كل منهما فى شأن الآخر فصدق جلادستون ما فاه به دزرائليى من الآراء المستهترة على سبيل التحدى ، ورأى دزرائيلى الخداع فى جميع العبارات التى يخدع بها جلادستون نفسه عن حسن نية ، كان دزرائيلى وهو من أرباب النظريات يفخر بأنه ممن يقتنصون الفرص ، وجلادستون وهو ممن يقتنصون الفرص يفخر بأنه من أرباب النظريات ، يظهر دزرائيلى احتقاره للمنطق ولكنه منطقى ، بينما يعتقد جلادستون أنه يستند إلى المنطق دائما مع أنه لا يسير إلا وراء عواطفه ، حافظ جلادستون وهو واسع الثروة على نفقاته اليومية بينما دزرائيلى بديونه الكبيرة يصرف النقود بلا حساب ، يحب الاثنان دانتى ، لكن دزرائليى يقرأ على الأخص "الحجيم" ويقرأ جلادستون "النعيم" ، ودزرائيلى على شهرته بالطيش صموت أمام الناس ، وجلادستون على شهرته بالرزانة ساحر فى أحاديثه حتى تجنب خصومه مقابلته كى يستمروا فى كراهيته ، لا يهتم جلادستون إلا لشيئين الدين والأمور المالية ، ويهتم دزرائيلى لآلاف الأشياء ومنها الدين والأمور المالية ، لا يعتقد أحدهما فى صدق عقيدة الآخر ، وهما فى ذلك مخطئان أيضا ، وأخيراً كان دزرائيلى يندهش لو علم أن مستر جلادستون وزوجته إذا ما وجدا من الأسباب ما يبعث الفرح الكثير فى نفسيهما وقفا أمام الموقد متخاصرين ورقصا وهما يغنيان : زوجة غره وزوج مرح نقطع العمر بصدر منشرح وقف المتنافسان بعد الآخر فى يوم مظلم جداً من أيام ديسمبر سنة 1852 لمناقشة الميزانية ، وكأن قوتين خارقتين للطبيعة تتعارضان ، وكأن جلادستون بجانب وجهه المنتظم وعينيه اللامعتين كالحجر الكريم ورأسه ذى الشعور السوداء ألقيت إلى الوراء فى حركة قوية ، هو روح المحيط ، وكأن دزرائيلى فى خصائله اللامعة وجسمه المنحنى قليلا ويديه الطويلتين المتحركتين ، هو روح النار . ما تكلما حتى ظهر من البين أن دزرائيلى أكثرهما نبوغا ، ولكن جلادستون اتخذ نغمة التفوق الأخلاق الذى يرضى المجلس أكثر من عبارات الأول . لم تهاجم ميزانية قط فى البرلمان كما هوجمت ميزانية دزرائيلى . وقد قبض ثمن هجماته على بيل ، ظل خصومه مدة أسبوع يهزأون به ليلة بعد ليلة يناقضونه ويسخرون منه . وقد شرح جميع الاقتصاديين البارزين واحداً بعد الآخر جهله وجنونه ، وكلهم أبدوا فى سخرية تركه لمبدأ الحماية . جلس لا يتحرك ، أشبك ذراعيه وركبتيه وأطبق عينيه نصف إطباق وأسدل على وجهه الممتقع قناعا من السكون ، وربما أخذ يفكر فى عبارات السخرية التى قذف بها بيل فى الماضى حين قال : "لا نسمع الآن كلاماً كثيراً عن سادة الريف" فله الآن : "لا نسمع الآن كثيراً عن الحماية المشهورة" ، وكأنه لا يصغى ولا يشعر ، فما تكلم فى النهاية حتى تبين من العنف المكتوم فى تهكماته أن سهام النقد قد أصابته ، فرض على نفسه نغمة هادئة مستمرة ، لكنه مكن وقت إلى آخر تصدر منه عبارات التهكم فى مرارة تدل على شديد الألم ، كانت بداية كلامه : "إنى لم أولد وزيراً للمالية , لكننى أنتمى إلى طغمة البرلمان" ، رنين عجيب من ورسو لا ينتظر عن زعيم حزب المحافظين . استمرت العاصفة عنيفة طول مدة خطبته الطويلة ، وكان خطف البرق القصير وهزيم الرعد الذى أحاط به مناسباً لهذا الشخص الشيطانى كما رآه خصومه ، فإذا نهض جلادستون بدا الارتياح وهدأت العاصفة ، كان لعباراته المتزنة الأخلاقية وقع لذيذ فى النفوس وفى اعتدال اللهجة شعور بالراحة . إن فى الميزانية الإنجليزية شعراً دقيقاً ربما جعلها أعسر الفنون على سيئى الحظ من أمثال دزرائيلى الذين لم يربوا منذ الطفولة فى أحضان وستمنستر ، ففى قوانينها العجيبة الصلبة ما يجعل لزيادة درهم واحد على السكر نغما متنافراً مخيفاً ، وتصطك أسنان قدماء السامعين وهم ينظرون فى شفقة إلى قائد الأوركستره الجديد ، بينما زيادة درهم على الجعة ربما خلق لآذانهم ألذ توافق فى النغمات ، والضرائب على الخميرة والاقتصاد فى النفقات البحرية يتمشى مع بعضه تمشياً صعباً ورصيناً ، ولا شك أن الغريزةى تهدى أولئك الذين ولدوا وزراء للمالية ، وتمكن جلادستون فى سهولة ، وهو أستاذ طبيعى فى ذلك الفن السامى والعظيم , من أن يفضح أخطاء ذلك المبتدئ .

أصغى دزرائيلى وزراعاه متشبكان ادائماً وعيناه متعبتان محداً ، كان ينظر من وقت إلى آخر نحو ساعة الحائط ، وجلس دربى فى إحدى الشرفات ينتظر الصوت الذى يقرر مصير الوزراة وهو يصغى باهتمام إلى جلادستون بضع دقائق ، ثم وضع رأسه بين ذراعيه وهو يقول ببساطة "همل" . فى الساعة الرابعة صباحا سقطت الوزراة بثلاثمائة وخمسة أصوات أمام مائتين وستة وثمانين صوتا ، كان مروره فى السلطة قصيراً . ولا شئ يصور حقاً رقة دزرائيلى فى وداعه ، فلم يظهر عليه أى حزن ، لكنه سأل الصفح من المجلس على الحرارة غير العادية فى خطيبته ، وهنأه لورد جون على الشاجعة التى ناضل بها ، وأسدلت الستار . وفى المساء قيد جلادستون فى مذكراته أن يعلم أن الله يعلم أسفه على أنه كان الآلة المختارة لإسقاط دزرائيلى فإن ذلك الرجل ذو مواهب كبيرة ، "وأرجو الله كثيراً أن يستعملها فى الخير" . فى وزارة الأحرار التى تألفت بعئذ قطع جلادستون أخيراً الصلة بينه وبين ماضيه , واشترك فيها مع بعض أنصار بيل ، وكانت هذه الوزارة بارزة حتى أنها لقبت على سبيل معارضة "من ؟ . . من ؟ ." بوزراة "جميع الكفايات" .

10- ظلال

خمسون سنة . . . سنة بعد الخمسين . . .خمسة وخمسون سنة . . أخذ الزمن يجعد قسمات هذا الوجه , وامتد غضنان من جانبى الأنف واتصلا بطرفى الفم , وصار الجلد تحت العينين أكثر سواداً , وتدلت الشفة السفلى كثيراً ، وقد تأثر تقم السن فى هذا البدوى الذى اتخذ وطناً آخر أكثر مما يؤثر فى الانجليزى ذى اللون الرائق صارت الفتيات اللاتى لم يعرفنه زمن الصدارى المزركشة والسلاسل الذهبية وجدائل الشعر يجدنه قبيحاً ، لكن مارى آن لم تكن من هذا الرأى . قال لها أحدهم : "إن مستر دزرائيلى تكلم فى فصاحة كبيرة بالمجلس فى هذا المساء وكان منظره رائقاً فى تلك اللحظة" . فأجابت : "آه . أليس ذلك حقاً ؟ هل وجدت منظره رائقاً ؟ يظن الناس أنه قبيح المنظر لكنه كذلك , فهو جميل وإنى لأود لو رأوه وهو نائم" . صار الرجل أكثر صمتا مما كان , ولم يره أحد من الناس فى لندن وهو يبتسم غير اثنين ، وظل محتفظا بميله للمخاطرة ، لكن هل يكسب أبدأً ؟ بدأ يشك فقد ألقى مائة مرة خطباً قيل لها عنها إنها أجمل ما سمع فى البرلمان ، وهاجم عشر مرات فيها المقاعد المقابلة له ، فإما أن يهرب الزعيم عند العقبة الأخيرة ، وإما أن تسقط الوزارة التى تألفت بعد بضعة شهور . ثم فرضت حرب القرم نوعا من الاتحاد المقدس مدة طويلة ، لم يرتق الخرق الذى وجد على أثره انشقاق أنصار بيل ، وظل الحزب ضعيفاً . قد صار لورد دربى صديقاً ، فعندما يسأل الآن القديم : "لماذا لا يثق أحد فى مستر دزرائيلى ؟ " , "أنا أثق فيه" ، لكن اللورد دربى ثقلت عليه وطأة النقرس ولا يحب عند اشتداد المرض أن يخاطب فى أمور الدولة , فإذا ذهب دزرائيلى ليحادثه فى شأن الإصلاح قرأ له ترجمة قصيدة فرنسية ليلفوا عن سقوط أوراق الشجر : هذه الغابات فى صفرتها مثل حظى فى خريف العمر إن لورد دربى مرتاح لهذين الشطرين فما رأى "ديزى العزيز" وقد كان شاعراً من قبل ؟ يتنهد "ديزى العزيز" ويتسلح بالشجاعة . وهذا الاستسلام المؤلم والشفاف يسلى هذا النبيل العجوز ، فماذا يهمه من الوزارة ؟ لا شئ يحول دون أن يكون الكونت الرابع عشر من آل دربى , وتجد ذكر أولهم فى شكسبير ، والثانى عشر هو الذى أسس سباق الدربى ، وعندما دخل عليه ابنه ستانلى بعد رفضه السلطة قال له : "مرحى يا ستانلى ، أية ريح سعيدة جاءت بك ؟ هل قطع ديزى عنق نفسه أو أنك عزمت على الزواج ؟ " , لكن إذا ما اقترح أحدهم إبدال ديزى بستانلى فى مجلس النواب غضب دربى لذلك ، فالقائد ليس أقل إخلاصاً من مساعده . وجدت جماعة عدائية اعتبرت القائد ومساعده مسئولين عن ورطة المحافظين الطويلة ، وأخذ بعض هؤلاء الثائرين يلقبونهما "اليهودى والمسابق" . أخذ دزرائيلى يشعر أنه متعب فهو يعلم أنه بذل كل مجهود ، وكان وفياً ، وقد وهب حياته لحزبه ، وهل من ذوى المطامع ؟ نعم لقد كان ، وهو لا يزال يعتقد أن حب امجد هو الذى يدفع الرجال إلى الأعمال العظيمة ، وهل هو مستهتر ؟ بلا شك لكن أية روح خيالية قوية تختفى وراء هذا الاستهتار ، لقد أخضع الطمع والاستهتار فى أكثرمن فرصة للأخلاص ، وكتب لجلادستون نفسه رسالة نبيلة يدعوه إلى الائتلاف وهى خطوة خطرة ، لأنها تعيد المنافس الوحيد له إلى الحزب ، لكن جلادستون رد رداً بارداً ، ووجد أسبابا خلقية يبرر بها انفصاله عن المحافظين ، ولا يلبث بلا أن يصير رئيساً لوزراة من الأحرار ، ومع ذلك يعتقد الناس أن جلادستون قديس وأن دزرائيلى مارد . كان ديزى يعتقد أنه مكروه جداً لدى الجماهير أكثر من الحقيقة ، وقد جرح فى طفولته فبقى حساساً , وكتب إلى لادى دورودثى نيفيل يقول : "آه . عزيزتى دورودثى ! إنهم لا يكرهون سياستى ، وإنما يكرهون شخصى" .

اختفى أصدقاؤه القدماء فماتت لادى بلسنجتون فى باريس سنة 1851 ، حيث اضطرت للهرب من لندن مع دورسيه ، بعد أن بددت آخر فلس فى يدها ، واستطاعت قبل موتها أن ترسل كلمة تهنئة للزعيم الجديد الذى كانت تعطف عليه ، ثم صار رجلا عظيما ، ولم يعش دورسيه بعدها طويلا ، وهما فى رقدتهما الأخيرة معاً فى شامبورسى على مقربة من مانت تحت هرم واحد من الجرانيت . ومات معدما سميث الظريف المستهتر الذى اتخذه نموذجا لكوننجسبى ، والذى اخترع انجلترا الشباب ، وقد ترك لديزى أبياتاً من الشعر معناها : "ما الحياة ؟ إنها لنضال صغير ، لا فائدة فيه من الانتصارات ، فأولئك الذين ينتصرون لا يكسبون شيئاً ولا ربح للكاسبين" . كثيراً ما يردد ديزى قوله : "ما الحياة ؟" ثم مات الدوق أخيراً ، وهو الرجل الحديدى الذى خيل للناس أنه مخلد , فاصطفت الجنود فى جنازته حتى سان بول , سمع لها صوت كأنه الرياح ، وأقى دزرائيلى خطبة ، وأخطأ فى نقلها من تييرس وعرف ذلك عنه وانتقد ، لا يزال لندهرست العجوز حيا فى الثامنة والثمانين من عمره , وقد فقد بصره ولكن العقل بقى سليما كعادته . ولما كان لا يستطيع القراءة فقد حفظ قصائد الشعراء الذين يفضلهم , وكتاب الصلوات ، وكانت حفيدته الصغيرة التى تتجاوز ثمان سنوات تطلب أن تعيد دروسها أمامه . تغير بلوار كثيراً ، وصار محافظاً ، ولكنه رفيق لا يعتمد عليه كثيراً ، وعاش فى خوف من روزينا المجنونة التى تتبعه بكراهية لا معنى لها ، وجعله هذا الحقد من المهزومين فى الحياة ، فلم يحلم إلا بلقب وبمجلس اللوردات وبالثروة والراحة . لا تزال كارلين نورتون جميلة , وكتل الشعر التى تحوط جبينها ذات لون أسود بنفسجى جميل , لكنها صارت نحيلة , ولادى سيمور ملكة الجمال فيما مضى صار لها ولد فى الثلاثين من عمره , وتضطر إذا قامت من المائدة إلى طلب المساعدة من جارها . وكان موت سارة الأمينة فى سنة 1859 خسارة كبيرة ، فلم تبق له دار العائلة ملجأ السلامة ومركز الحنان . صارت مارى آن الآن زوجا وأما وأختا ، وهى تقوم بهذه الأدوار أحسن قيام , وهى دائما تفهم زوجها ولا تضايقه قط , وتعتقد أنه أنبغ رجال العالم فى سائر الأزمان ، وتحتفظ فىعناية بأقل الأوراق شأناً إذا كتب فيها كلمة , وتمسك بيده أحياناً حتى فى المجتمعات العامة ، وتقبلها فى خضوع ، وهى لا تزال تفوه بعبارات غير لائقة ، ففى وندسور قالت الأميرة من العائلة المالكة : "لكن ربما يا عزيزتى أنك لا تعلمين قيمة الزوج المحب" , وتشجع جورج سميث الجرئ الخشن ذات يوم وسأل دزرائيلى عما إذا كان لا يخجل من أحاديث زوجته فأجاب : "لا ! إنى أخجل منها قط" . فقال له الآخر : "ولكنك ياديزى لا بد أن تكون ذا صفات خارقة للعادة" , فأجابه : "كلا , ليس غير صفة تعوز أكثر الرجال ، هى : الاعتراف بالجميل" وقال لآخر "إنها اعتقدت بى حين احتقرنى الناس" فكان يكتب لها كل سنة فى ذكرى زواجهما قصيدة قصيرة . ظهر فىحياتهما شخص عجيب ، فقد أخذ دزرائيى يتسلم منذ مدة رسائل الإعجاب من سيدة مجهولة هى مسز بريدج وليمز تقطن بتوركية ، وهى تقول إنها نثله مسيحية من أصل يهودى ، وسأل أصدقاءه "هل تعرفون عجوزا معتوهة فى توركية؟" , فى ذات يوم طلبت إليه مسز بريدج وليمز أن يتولى تنفيذ وصيتها ، وأن يقبل جزءاً هاما من الوصية ، فذهب ليراها ومعه مارى آن ، فوجد سيدة فى الخامسة والسبعين من عمرها ضخمة الجثة ، مضحكة ظرييفة . صار الزوجان والسيدةالعجوز أصدقاء ، فهوجندن ترسل إلى توركية أزهار البنفسج ، وترسل توركية أزهار الورد إلى هوجندن ، وحلت الرسالة اليومية إلى مسز بريدج وليمز محل رسالته إلى سارة ، فهو يقول لها : "إن أكبر ما فرحت به هذه السنة الورود التى جاءت منك . فقد عاشت فى غرفتى وفوق منضدتى أكثر من أسبوع ، وأعتقد أنى لم أر وروداً مثلها جميلة فى شكلها ، بديعة فى لونها ، زكية فى رائحتها . . . أنى أعتقد حقا أن ورودك لا بد أن تكون جاءت من بلاد كشمير . . . من أين جئت "بالهومار" البحرى الذى وصل هذا الصباح لأجل الغذاء ؟ هل هو من مغاور أمفتريون ؟ فلقد كان جيدأً ، وإن فى طعمه حلاوة المحيط لا ملوحته . . . ". زينت صاقاته مع نساء أخريات حياته الكئيبة ، فمنهن لادى لندندرى ، ولادى دورودثى نفيل : "عزيزتى دورودثى ، كانالشليك الذى أرسلته جيدا ولذيذ مثلك ، وقد وصل فى وقت مناسب فى لحظة كنت متعباً ومحموماً" , وهو يذكر حفلة راقصة إذ رآها فيها لأول مرة وسأل : "أرجوك من هذه الفتاة التى كأنها خرجت من صورة من عهد جورج الثانى ؟ " ، فالنساء عندئذ كن على كثير من الظرف والعقل ! ولآن فى سنة 1860 ليس للفتيات من مطمع إلا أن يظن أنهن غادات الكميليا ، فيتنزهن فى ثياب قصيرة إلىالركبة ليظهرن أرجلهن الجميلة ، ويدعون الرجال توم وجون أو ديك ، ويناقشن الشباب فىآخر الفضائح التى اخترعت لدى "هوايت" . تغير الملوك كذلك ، فلويس فيليب الحكيم الذى كان يرسل إلى دزرائيلى فى قصر التويلرى قطعاً من لحم الخنزير قطعت خير قطع ، رآه دزرائيلى يبكى وهو جالس فوق سريره فى غرفة المنفى ، وأمام ذلك قابل فى القصر نفسه امبراطوراً كان فى الماضى ينزهه فى قاربه علىالتاميز . جلست مارى آن على يمين نابليون ليوم تذكره بفشله عندئذ ، وكيف أ،ه يتولى دائما أشياء لا يحسن عملها ، وضحك الإمبراطور وقالت الإمبراطورة : "إن فى ذلك خير وصف له" . وقد تحقق حب ديزى لكتاب ألف ليلة وليلة ، ووصف ما يماثل أوصافه فى باريس فى عهد الإمبراطورية الثانية , ووصف ما رآه قائلا :" وحول عنقها الذى يشبه عنق البجعة ، حملت الإمبراطورة عقدأ من الزمرد والماس مما يوجد مثله فى مغاور علاء الدين" . ظل مخلصاً فى حبه لفرنسا ، وكثيراً ما يرسل للإمبراطور نصائح رشيدة على يد رسل سربين , لكن للأسف كثيرا ما تهمل هذه النصائح . صارت الملكة الصغيرة , التى صحب ديزى فى الماضى صديقه لندهرست إليها ، ملكة كبيرة قوية ، بدأت تدريجياً تألف دزرائيلى وتعامله هو وامرأته معاملة حسنة ، ومات البرنس ألبرت فى السنة السابقة . مما جعل دزرائليى يفكر بأنه لم يضع حياته عبثا إعجاب الشبانبه ، فإن فى تصورات سياسته شيئا يجذبهم . واتصل به سكرتير شاب متحمس هو مونتاجو كورى , وأظهر له إخلاصاً مؤثراً ، وصارستانلى ابن دربى تلميذاً له . وهو تلميذ كثير الحذر لكنه يعترف بالجميل ، وكان دزرائيلى يقول له : "إنكم يا معشر آل دربى ينقصكم الخيال" . وفى ذات يوم عرض اليونانيون العرش على ستانلى فى بحثهم عن ملك , ورفض ستانلى الذى لم يرقه هذا العرض . آه لو أن عرش اليونان عرض على ديزى . فى سنة 1853 ذهب إلى اكسفورد لكى يهدى لقب الدكتوراةالفخرية, ولميصل هنالك من غير قلق , فهو يعلم أن الطلبة يحبون السخرية ، وأنهم قابلوا بعض العظماء أحيانأً بالصفير . لكن لم يقابل أحد بعد الدوق ولنجتون بمثل تلك الحماسة، سار ممتقع اللون هادئاً نحو مدير الجامعة بينما المدرج يرن بالتصفيق , وسأل المدير باللاتينية : "أترحبون به أيها السادة ؟ " , صاح الطلبة : "بأكبر الرضاء ! رضاء عظيم" حينئذ ظهرت معالم الحياة قليلا على هذا الوجه الصامت وبحث بنظارته ذات العين الواحدة عن شرفة السيدات فإذا اكتشف مارى آن أرسل لها بيده قبلة لا تكاد ترى . ستون سنة . . . إحدى وستون . . . السنون تمر قصيرة أم طويلة وتسير نظم أدوار الجلسات التى وضعها البشر وفاقا لنظام الفصول الإلهى ، وهو بلا شك لن يكون أبداً رئيساً للوزارة ، سوف يعمل مرةأو مرتين تحت رياسة دربى ثم يأتى دور ستانلى ، فاعائلات الكبيرة لها امتيازات وهو ما يدعو للأسف ، فهو تواق إلى السلطة . لكن يجب أن يترك العقل يفكر كثيراً فيما ليس له , وما وصل إليه ليس حقيراً إذا نظرنا إلى وضاعة الابتداء . كان فى تلك الأيام يتمثل بالمثل اللاتينى : "لا يصعب شئ على الشجعان" , وهو مثل يصلح للأطفال فكل شئ صعب ، وقد اتخذ أخيراً مثلا آخر : "لا تفسر قط ولا تشكو قط" إذ يجب اجتناب الكلمات التى لا فائدة فيها . ماتت مسز بريدج وليمز تاركة ثلاثين ألفا من الجنيهات لصديقيها الكهلين فتمكن بالمبلغ من سداد جزء من الديون , ولم يعد الباقى ثقيلا بفضل رجل متواضع وكريم هو أندرو مونتاجو أحد كبار أصحاب الأملاك ببوركشير ، فقد اشترى لإعجابه بدزرائيلى جميع الديون من المرابين وهى نحو 75 ألفا من الجنيهات ، وفرض عليها فائدة متعادلة هى ثلاثة فى المائة . أوصت السيدة العجوز بأن تدفن فى مدافن هوجندن وهى ترقد هنالك على مقربة من الكنيسة الصغيرة وقد يذهب دزرائيلى فى القريب العاجل ، فهو لم يكن قط قوى البنية وأمضى حياة مضنية . وقد صارت الحديقة مكانا ساحراً ، فإن مارى آن أتت بالأعاجيب ، فعلى الشرفة أوانى بيضاء من فلورانس غرس فى إحداها الأقحوان الأحمر ، وفى التى تليها زهر أفريقى أزرق ، وأعيد البيت إلى حالته فى زمن حكم آل ستيوارات ، وفى الحديقة المنظمة حيث تماثيل للآلهات تحرس مماشى الحديقة يتصور المرء فرساناً يتنزهون مع عشيقاتهم , وفيما عدا بعض الزيارات من الأصدقاء كانت حياتهما وحيدة , وتسير على وتيرة ، ويأتى يوم الأحد فيغير الذهاب إلى الكنيسة من نظامها . يحلم دزرائيلى وهو جالس فى مقعد آل هوجندن وينظر القس المحترم "كلب" فى قلق أثناء الصلاة إلى الرجل القوى الذى قد يعين الأساقفة فى يوم ما , وهو يتلو المزمور 102 "أيها الرب اسمع دعائى وليرتفع صوتى إليك . . لأن أيامى ارتفعت كالدخان ، وعظامى نشفت وصرت مثل الغراب الذى يعيش فى وحدة . وصرت مثل البومة التى تأوى إلى البيوت . . لقد سهرت وكنت كالعصفور الذى يقف وحيداً فوق السطوح , كان خصومى يؤنبوننى , وأولئك الذين يمتدحوننى يأتمرون بى . ذهبت أيامى كالخيال ، وصرت جامداً كالشجرة ، لكنك أيها الرب تبقى خالداً ، ذكر اسمك يمتد إلى جميع الأجناس" . يعود ماشياً على قدميه إلى جانب العربة الصغيرة التى تركبها مارى آن , وبينما هى تسوق مهرها إذا بها تتحمس وهى تشير إلى أعمالها وهى تتكلم . وما أقدر مارى آن على الكلام ! لقد وضعت فى البحيرة الصغيرة بجعتبن جميلتين أطلق عليهما ديزى اسم هيرو ولياندر , وهى لا تفهم جيدأً لماذا اختار هذين الاسمين ، وهى فى تحويلها الحديقة قد ضايقت البوم الذى يسكن فى شجر السنط القديم ، لكن ديزى قال إن البوم طائر منيرفا ، واعتنى به اعتناء دينياً ، وفى المساء يأتى البوم فيقرع النوافذ بمنقاره المقوس وتلمع عيونه المستديرة فى الظلام.

11- فى أعلى العمود المنزلق

"كيف نعتبر عصرنا زمنا نفعيا ؟ إنه عصر ملئ بالحوادث الروائية التى لا تنتهى فالعروش تتزعزع والتيجان تعرض كما يحدث فى الأساطير ، وأقوى مخلوقات العالم رجلا ونساء لم يكونوا منذ بضع سنوات إلا مغامرين ومنفيين" .

دزرائيلى رسمت مجلة بنش فى سنة 1859 صورة أسد يحاول كل من برايت ودزرائيلى ورسل أن يوقظه بأن يخزه بقضبان من الحديد المحمى , وكتب على كل من هذه القضبان كلمة الإصلاح ، وهذه الصورة رمز صحيح ، منذ الإصلاح الناقص فى سنة 1832 الذى منح حق الانتخاب لعدد محدود من الناخبين حاولت الأحزاب الواحد بعد الآخر أن تحمل الأسد البريطانى على الاهتمام بخطوة جديدة , لكن الأسد الذى أكل كثيراً استمر فى نومه , وكانت المقبرة البرلمانية مليئة بأشباح مشروعات الإصلاح التى ولدت ميتة . أحيانا تقترح حكومة من المحافظين أن تعطى حق الانتخاب لكل ناخب يدفع إيجاراً أكثر من عشرة جنيهات ، فتصيح المعارضة من الأحرار بأن هذا العمل مخجل , وأن ثمانية جنيهات هى الحد المعقول لحقوق الإنسان ، ويقترح أحيانا برلمان غالبيته من الأحرار أن يمنح حق الانتخاب لمن يدفع سبعة جنيهات ، فيؤكد دربى نبيه دزرائيلى أن فى ذلك تسليم إنجلترا للغوغاء ، والأمر فى الحقيقة متوقف على معرفة أى الحزبين الكبيرين يستفيد بالناخبين الجدد , لكن جلادستون تكلم حانقاً على أولئك الذين يستشيرون الإحصاءات الانتخابية على هذا النحو ، ويقيسون قوى الشعب كما يفعولن بجيش من الغزاة ، وقال : طإن الناس الذين تنطبق عليهم هذه الملاحظات هم إخوننا وهم مثلنا مسيحيون ، هم لحمنا ودمنا" . فسأله عنئذ أحد المحافظين لماذا يقف لحمنا ودمنا لدى سبعة جنيهات من الإيجار ؟ ورأى بعض الأحرار أيضا أن مثل هذه العبارات العاطفية لا توافق ذوقهم فانسحبوا من الحزب وسماهم برايت "العدلميين" لأن "الملك داود عندما ألتجأ إلى مغاور عدلام اجتمع حوله جميع الذين كانت عليهم ديون أو كانوا غير راضين" , حينئذ تمكن دزرائيلى بمعاونة العدلميين من إسقاط حكومة لورد جون الحزين وجلادستون المتحمس . وبعد أن قبل دربى يد الملكة تولى الحكم مع دزرائليى , ومرة أخرى تولت هذه الوزراة الحكم مستندة إلى أقلية , وبإرادة تحالف أدت إليه الصدمة ، وظهر فى هذه المرة أيضا أن وزارتهما ستكون قصيرة الأجل . منذ بداية حكم دربى استيقظ الأسد البريطانىى فجأة لأمر غير معروف وهو فى غضب , وكسر حواجز قفصه ممثلة فى القضبان المحيطة بهايدبارك , وتجمعت الجماهير مدة ثلاثة أيام متتالية وهى تنادى طالبة الإصلاح حتى اضطرت الحكومة إلى استدعاء الجنود ، وبكى وزير الداخلية جزعاً ، وراقبت مارى آن المتظاهرين من نافذة بيتها فوجدت أن مظهرها يدل على أنهم يتلهون فصارت تعطف عليهم , وطلبت الملكة دربى إلى قصر بلمورال , وقالت له إن هذه المسألة ظلت حتى الآن ثلاثين سنة وهى تشغل البلاد , وإنه يجب أن تحل يوما ما , وغنه من الخير أن تحل بواسطة وزارة من المحافظين ، وعلى حين فجأة رأى دزرائليى فرصة نادرة للعب . فهو فى أعماق نفسه كان دائماً من أنصار التوسع فى حق الانتخاب المنزلى فيكون لكل بيت صوت مهما كان إيجاره مع تقييدات مناسبة فى الزمن والإقامة فهذا على الأقل مبدأ تمكن المدافعة عنه ، ويتمشى مع مبادئ المحافظين , فقد تستطيع أن تقول إن أرباب الدور لهم صالح دائماً فى سعادة البلاد , بينما أن تلك الحدود المصطنعة التى تقف عند عشرة جنيهات أو خمسة جنيهات أو ستة جنيهات هى سخيفة ولا يمكن الدفاع عنها . ثم إن الحزب يمنح حق الانتخاب لهؤلاء الناخبين الجدد يكون له بعض الفرصة فى ضمهم إليه لا سيما أن الأحرار يعقدون أهم جزء من برنامجهم يجد تأييدأً من الرأى العام . حقيقة إن الفرصة جديرة بالمحاولة لكن هل الحزب يقبل ذلك ؟ أظهر الحزب ذكاء كدهشاً , لم يكن لدى المحافظين من سبب للدفاع عن نظام الناخبين فى سنة 1832 الذى وضعه خصومهم وحرمهم من السلطة ثلاثين سنة , وقد بهرتهم فكرة احتجاز خير ورقة فى برنامج الأحرار ، وبالرغم من بعض المعارضين قبل السواد الأعظم منهم مشروع الحملة ، وشعروا أنهم فى فجر انتصار عظيم , ورأى الكثيرون من الأحرار ، وقد أخذوا على غرة ، أنه إذا كان المحافظون يسيرون على سياسة الأحرار فلا يسعهم إلا أن يؤيدوهم بأصواتهم , رأى جلادستون نفسه أمام اندحار منكر , وكان المسلك الحكيم الوحيد له هو أن يظهر انتصاره لكنه حنق أشد الحنق إذ رأى روح الشر يحمل علم الملائكة , فهجم بعنف عجيب على خصمه الشيطانى ، وعنى هذا باظهار وعدم المبالاة كى يزيد من وضوح الغضب الجنونى الذى ظهر على جلادستون فكان يقول : "إن السيد المحترم كلمنى فى لهجة يجب أن أقول إنها قلما تستعمل هنا ، ليس ذلك لأنى أعلق أية أهمية على الحرارة التى يظهرها ، لكن حقاً إن مسلكه أحياناً يبلغ درجة من الحمية , وأشاراته تبعث على القلق حتى تجدنى أشعر بارتياح عندما أتذكر أن أعضاء الأحزاب المتعارضة فى هذا المجلس الجالسين إلى جانبى هذه المنضدة تفصلهما مثل هذه القطعة من الأثاث الكبيرة الصلبة" . عندما أخذت الأصوات تغلبت الوزارة بأحد وعشرين صوتاً , وتمكن دزرائيلى فى هذا البرلمان المعادى من أن يسير القانون بعد أن حاولت حكومات الأحرار منذ ثلاثين سنة عبثاً أن تحصل على الموافقة عليه , وهو نصر برلمانى عظيم شعر به جلادستون ، فقيد فى مذكراته : "هى هزيمة منكرة لا مثيل لها" , واشتد به السخط لذلك . وكتب أحد الملاحظين يقول : "لقد قابلت جلادستون عند الإفطار ، ويظهر أنه قد خشع لمهارة ديزى الشيطانية" . أما دربى فكان سروره عظيما ، واعترف بأن هذه الخطوات إن هى إلا قفزة فى عالم مجهول , لكنه أضاف إلى ذلك قوله , وهو يفرك يديه : "ألا ترى أننا نضع الأحرار فى مأزق عجيب" . بعد أخذ الأصوات كان تصفيق المحافظين لديزى شديداً وطويلا ، وأراد الجميع أن يصافحوه , وعند خروجه من وستمنستر اجتمع الكثيرون منهم فى نادى كارلتون , وأرادوا أن يقيموا فى الحال مأدبة عشاء , دخل دزرائيلى فى طريق عودته إلى نادى كارلتون ، وقوبل مرة أخرى بتصفيق شديد لا نهاية له , وطلب أصدقاؤه إليه أن يتعشى معهم , لكنه يعلم أن مارى آن تنتظره ، وأنها ايضاً أعدت عشاء ، ولم يد أن يخيب أملها . وفى اليوم التالى روت فى حماسة لصديقة لها : "إن ديزى عاد تواً إلى البيت , وقد أعدت فطيرة لحم وزجاجة من الشمبانيا , فأكل نصف الفطيرة وشرب الشمبانيا كلها وقال لى : "يا عزيزتى , أنت لى عشيقة أكثر منك زوجة" , وهى عندئذ فى السابعة والسبعين من عمرها . غير أن هذا النجاح كثيراً من موقف دزرائيلى فى البرمان , فهزيمة جلادستون لم يكن فيها ما يؤلم مثل هزيمة بيل ، وهى تبعث على التسلية وفيها ما يدهش ، فإن زعيمين من زعماء الأحزاب ، ومن أكبر من عرفهم مجلس النواب أرادا فى فترة عشرين سنة أن يقاتلا ديزى فصرعهما ، وهذا الرجل الذى كثيراً ما تكلم عن الأسرار الأسيوية ، ألم يكن رجلا من رجال الأسرار ؟ فماذا يرغب ؟ وما هى مراميه ؟ ماذا كان يصغى بوجه المقنع الذى لا يتغير إلى لعنات جلادستون , ماذا كان يدور بخلده ؟ لقد تكون شخص جديد فى نظر الرأى العام , نشرت مجلة بنش الثانية صورة : "إسرائيل فى انتصاره" وهى صورة أبى الهول من الحجر له وجه ديزى , وقد سحب إلى معبد الإصلاح بجمهور من العبيد العاريين عن الثياب منهم جلادستون بينما دربى يحثهم بالسوط . لم يكن أحد من الذين يقابلونه عندئذ يتخلص من أثر هذا المزيج المركب من القوة والسحر بالوجه قد اكتسب صمت الصخور , وصار الفرق بينه وبين الذين يحوطونه عميقا . كتب أحد معاصريه يقول : "قد يكون أقرب إلى مخيلتى أنى جالس إلى هاملت أو لير أو اليهودى التائه" , وأضاف إلى ذلك : "يقول الكثيرون : أى ممثل هذا الرجل ! . ومع ذلك فإن الأثر الأخير الذى بتركه هو الإخلاص الكامل , يعتبره بعض الناس أجنبياً ، ويقولون ما شأن إنجلترا لديه وما شأنه لدى إنجلترا ، وهم فى هذا مخطئون ، قد يكون الأحرار والمستقلون والمحافظون لديه سواء فى الواقع ، لكن قوة فنيزيا تلك الجمهورية ذات الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس صورة خيالية تجتذبه , أو أكون مخطئاً كثيراً ، وإنجلترا هى أرض إسرائيل كما يتخيلها , وسيكون رئيس الوزارة الإمبراطورى قبل وفاته إذا سنحت له الفرصة" . كانت الفرصة قريبة على غير ما تنتظره فقد زادت هجمات النقرس على دربى وأصبح من النادر أن يقوم بأعمال مركزه حتى بدأ يرى من واجبه اعتزال الأعمال ألح عليد دزرائيلى فى البقاء متعهداً بالقيام بالعمل الحقيقى . بينما يحتفظ دربى باللقب ، لكن دربى أخبره أنه سيكتب للملكة معلناً استقالته , وأنه يامل أن جلالتها تطلب إلى دزرائيلى أن يحل محله , ,أنه سيظل فى عزلته يناصر دزرائيلى ويؤيده بكل ما لاسمه من سلطة . قال له : "لا أستطيع أن أبلغك هذا الأمر دون أن أعترف بفضل مساعدتك الودية والمخلصة فى هذه الطويلة وأشكرك عليها" . ومما زاد فى قدر دزرائيلى أنه رجا رئيسه فى البقاء ، وهو عالم أن الملكة تدعوه إذا استقال دربى وقد صارحته الملكة بذلك . فى يوم استقالة زعيمه نهائياً جاءه يدعوه لمقابلة الملكة فى أزبورن ، لم يفت الساحر الذى يعتقد بعض الشئ فى سحره ملاحظة أن هذا الرسول وهو الجنرال جراى لم يكن إلا الكولونيل جراى خصمه الألكن والسعيد فى ويكومب عند أول حملة انتخابية له , وجاءته أول رسالة تهنئة من لورد دربى : "لقد بلغت أعلى درج فى السلم السياسى بغخلاصك وجدارتك ,وأرجو أن تتمكن من البقاء فى هذا المركز طويلا" . فى اليوم التالى قابلته الملكة فى أزبورن وعليها علائم السرور , ومدت إليه يدها وقالت : "عليك أن تقبل هذه اليد" , فركع على إحدى ركبتيه وفى إيمان عميق قبل هذه اليد البضة وهو سعيد حقا , كانت الشمس فى الخارج ساطعة لامعة , وعلى كل فالحياة جديرة بأن يعيشها المرء ، ومن أوائل اعضاء البرلمان الذين قابلوه جيمس كلاى الذى ضايقه فى مالطة زمن الشباب لمهارته فى البليارد وقال له كلاى : "والآن يا دزرائيلى عندما سافرنا أنا وأنت معاً منذ أربعين سنة من كان يظن بانك ستصير رئيساً للوزارة ؟ " . فأجاب : "هذا حقيقى يا كلاى , وكما نقول فى الشرق (الله أكبر) , وهو الآن أكبر من أى وقت آخر" . قوبل عند تعيينه على العموم مقابلة حسنة , وقال حتى خصومه : "إنه انتصار للعمل والشجاعة والصبر" . وعندما دخل لأول مرة مجلس النواب كرئيس وزارة غصت طرقات المجلس بالسادة الذين جاءوا للترحيب ، واضطر جون ستيوارت ميل الذى كان يتكلم إلى أن يوقف خطبته بضع دقائق . بعد شهر من ذلك التاريخ أقامت مارى آن زوجة رئيس الوزارة حفلة استقبال كبيرة فى قاعات وزارة الخارجية إذ سمح بها لورد ستانلى فى ذلك المساء , كان الجو مكفهراً وهبت على لندن عاصفة من المطر والريح , ومع ذلك حضر الحفلة اكثر الناس وجميع المحافظين وبعض الأحرار ومنهم جلادستون وزوجته والكثيرون من الصدقاء , وقاد ديزى , وهو ترتكن إلى ذراع الأمير علائم الكهولة والمرض , فهى منذ شهر تعرف أنها مصابة بالسرطان , لكنها لم ترد أن تخبر زوجها , فهذا المزيج من المجد والاضمحلال اضاف لوناً قاتما إلى حفلة الانتصار , وقد صار هذان الكهلان محبوبين بعد نضال طويل , وقبلهما الناس , وليس هناك غرفة استقبال فى لندن لا يقال فيها "مارى آن" فقط عند الكلام على وجة رئيس الوزراء , كان دزرائيلى نفسه يعرف مقدار البهلوانية العجيبة التى أدت إلى صعوده , وقال للذين يهنئونه : "إننى تسلقت حتى قمة العامود المنزلق" وقال له صديقه سير فيليب روز  :"لوأن أختك كانت حية واستطاعت أن ترى هذا الانتصار كم تكون إن سعيدة ! " فقال : "مسكينة سارة ! مسكينة سارة ! نعم لقد خسرنا جمهورنا" .

القسم الثالث

أصبح إلى عصف الرياح

وامتلاء الجو يتطاير ورق الأشجار

نعمنا بأيام الصيف فى المساء

والآن حل الخريف

تتمايل أشجار الزان العظيمة

وتخلع أثوابها كالغطاس

فلنقنع بملازمة النار

ولنهجر ذكرى البحار

حيث تجرى سفن الشباب

تقتفى أثر الرياح

أمامهم مغامرات الحياة

لا يتخلف غير العجوز

همبرت ولف


1- الملكة

تم اختيار وزير جديد للمالية , وكتب رئيس الوزارة فى هذا الشأن للملكة : "يريد مستر دزرائيلى أن يلاحظ لجلالتك أن المنظر الخارجى للمستر واردهنت يسترعى النظر , لكنه ليس بالمنظر الكريه ، فطوله أكثر من ستة أقدام , غير أنه يظهر أقل طولا لأن ضخامته متناسبة , فهو مثل كنيسة القديس بطرس بروما لا يستطيع المرء فى أول الأمر تقدير ضخامتها , على أن فيه حكمة الفيل كما له نصيب من شكله" , وهى نغمة عجيبة فى خفتها فى الكتابة إلى ملكة , لكنها كانت تسر لها كثيراً . أغضب دزرائيلى فى مجرى حياته رجالا كثيرين , على أنه وجد فى النساء تسامحاً معه فكراهيته للجدل المنطقى وأدبه الزائد , وميله الخفى إلى الاستهتار مما تنم عليه عباراته المزخرفة عمداً ـ كل هذا فيه ما يجذب النساء ـ وهن يوقظن فيه عاطفة ليست هى الحب الجنسى ، وإنما هى نوع من الحنان فيه سمة وتواضع وأخوته حلوة وغامضة , فهو يحب عنادها وجهلهن وبساطتهن , وكانت امرأة ـ مسز وستن ـ هى التى وجدت ناشرأ لفيفيان جراى , ونساء ـ ىل شريدان , ثم لادى كورك , ثم لادى لندرى ـ هن اللاتى فرضنه على الهيئة الاجتماعية , وامرأة ـ مارى آن ـ هى التى مكنته من مقعده فى البرلمان , وفى كل شعبة من شعب ذكرياته وجد أحد هذه الوجوه تحنو ساهرة على متاعبه وآلامه . وقد نظر بعين الخبير إلى هذه الأرملة ذات المركز السامى فى قبعتها من قماش النول الأبيض وهى فى أعلى سلم الشرف فشعر بالارتياح إليها , وهذا شعور لذيذ . كانت الملكة تعيش منذ وفاة زوجها المحبوب وحدة العظمة , وقد نذرت بأن تخدم جميع رغبات البرت وعاداته , تنتقل وهى فى أثواب الحداد من قصر إلى قصر , فمن وندسور إلى أوزبورن , ومن أوزبورن إلى بلمورال , شكا الجمهور من عزلتها , وصارت تتألم إذ تشعر بأنها ليست محبوبة , فلا أحد يفهمها ولا أحد كان يفهم البرت الذى تتألم لذلك أيضاً , لا أحد يفهمها غير مستر دزرائيلى وأدهشها هذا الأمر لأنها تذكر عدم ثقتها به وزوجها أيام سقوط سير روبرت المسكين , قال البرت فى تلك الأيام : إن دزرائيلى هذا ليس فيه ذرة من عنصر الرجل النبيل . ومع ذلك وجد الأمير فى الأيام الأخيرة من حياته فى شئ من التردد لذة فى الحديث أحيانا مع زعيم المعارضة , ووجده مثقفاً وأكثر علما بتاريخ إنجلترا من أى رجل من رجال السياسة , واعترف بأن موقفه نحو العرش لا غبار عليه . لكن ظهرت نفسية مستر دزرائيلى بنوع خاص عند وفاة البرت , فلم يكتب أحد إلى الملكة رسالة أجمل من رسالته , ولم يتكلم أحد فى مجلس النواب عن الأمير بأحسن مما قاله , صارت الملكة تعتقد أنه الشخص الوحيد الذى قدر الأمير حق قدره , فكافأته بأن أهدت إليه خطب البرت مجلدة بجلد مراكشى أبيض , وكتبت إليه : "إن الملكة لا تستطيع أن تقاوم الرغبة فى التعبير شخصياً للمستر دزرائيلى عن شكرها العميق لإطرائه ذكرى زوجها العظيم والمعبود والمحبوب . قرأت كلامه فذرفت عيناها بالدموع , لكن مثل هذا الحكم الصائب على أخلاقه الطاهرة كان له تأثير حسن على قلبها المنكسر" . إذن كان شبح البرت راضياً , لكن بين الملكة والزير روابط أخرى أكثر من مجرد الذكرى , فإنه على اختلاف عقليتها فى الظاهر كان بينهما تشابه دقيق , فالاثنان ينظران فى فخر ساذج إلى الأمبراطورية الشرقية العظيمة التى تحكمها من جزيرة شمالية تلك المرأة الصغيرة البدينة القوية الإرادة وذلك الوزير المقوس الظهر , وكل منهما بنوع خاص بعيد عن التفاهة , فقد تجد بعض تصرفات الملكة مضحكة , والكثير من تصرفات دزرائيلى متصنعة , لكن فى الاثنين شجاعة وعظمة , وهى تتذوق عن طرقه لذة الملك أكثر مما تتذوقها عن طريق آخر , وقد وضعها وهو قرير العين على رأس الموكب الفخم لهذه الحياة , كان إذا كلمها فىأمر البلاد التى تحكمها تشعر بالقوة والؤدد , وعاد للأعمال العامة ما كان لها من بهجة زمن البرت مع هذا الوزير الذى يصف جلسات مجلس الوزراء وكأنه يصف مناظر رواية , والذى يجد السياسة لديه قصة مغامرات شخصية تكاد تكون عاطفية . كان دزرائيلى يعلم أن رسائله تسليها , فوجد لذة فى كتابة رسائل إليها ناقدة وبديعة فهل هى تفهمها دائماً ؟ إنها تفهم أكثر كثيراً مما تظن بطانتها , وهى تجد لذة فى أن تترك الساحر يقوم بحيله الناجحة , ثم تعود ىبقوة إدراكها للحقائق فتقوده بيد ثابتة إلى طريق العمل المرغوب . فإذا رغب رئيس الوزارة فى أن يزور ولى العهد ارلنده كى يهدئ اضطرابها ولو قليلا فإنه يكتب للملكة : "غن مستر دزرائليى يستأذن فى القول بأنه فى مدى قرينن لم تتجاوز إقامة ملوك إنجلترا أحدى وعشرين يوماً فى أرض ارلنده ويستطيع سموه الملكى أن يذهب إليها للصيد . وهذا مما يجمع بين الواجب العام والرياضة , وهذا الجمع خليق بالأمراء " . وافقت الملكةى "على أن يكون من المفهوم أن تتحمل الحكومة نفقات هذه الزيارات الملكية إذ هى تفرضها على الملكة فليست ارلنده بالبلد الذى يخترا لمن ينشد الصحة أو الراحة" . وكثيراً ما كان الوزير يدافع عن نفسه , فإذا ما سئل عن سر نجاحه مع الملكة أجاب : "إنى لا أرفض أبداً ولا أعترض أبداً وأنسى أحيانا" , وفى هذه العبارة تضحية من أجل تعلقه بالعبارات المأثورة , فهو كثيراً ما يعترض . عندما مات رئيس أساقفة كنتربرى وأصرت الملكة على تعيين "تيت" أسقف لندن بدله أبدى دزرائيلى اعتراضات جدية , وكتب يقول : "ممايلاحظ على أسقف لندن بالرغم من عبوسه فى الظاهر أن تكوينه الذاتى كمية عجيبة من التحمس , وهى صفة لا يجب أن تكون فى رئيس أساقفة كنترىبرى ولا فى رئيس وزارة إنجلترا" , أصرت الملكة فهى تعرف جدأً أن الأسقف "تيت" خال من أى نوع من أنواع الحماسة , لكن هل هذا قول ينطبق على رئيس وزارة إنجلترا ؟ فى ذات يوم تسلمت مارى آن من وندسور صندوقا يحتوى أزهاراً جديدة من ورود الربيع , ومعها رسالة من الأميرة كريستيان : "عهدت إلى والدتى بأن أرسل إليك هذه الزهور باسمها لمستر دزرائليى , فقد سمعته ذات يوم يقول : إنه يحب كثيراً شهر مايو وجميع زهور الربيع الجميلة , لذلك أقدمت على إرسال هذه الزهور إليه كى تزدان بها غرفته" , وأجابت مارى آن بعبارة من الجلى أن ديزى أملاها عليها  :"قمت بأسعد الواجبات عندما أطعت أمر جلالة الملكة ومستر دزرائيلى مغرم بالأزهار , لقد زادت بهجة هذه الأزهار , ورائحتها بفضل هذه اليد المتنازلة التى نثرت عليه جميع خزائن الربيع ". قدم الوزير إلى الملكة جميع رواياته , وأهدت الملكة إلى الوزير مؤلفها عن "ذكريات حياتنا فى اسكوتلانده" , وكثيراً ما قال لها رئيس الوزارة بع ذلك : "نحن المؤلفون يا سيدتى" , فيبتسم ذلك الفم الصغير المتكبر , وفى كل أسبوع تصل ورود الربيع من وندسور , ويصل البنفسج من أوزوبورن إلى "جروفنر جيت" فى الصناديق , وقد وضعت الحشائشض حول الزهور , وصارت المراسلات الرسمية مزيجاً عجيباً من الشعر الريفى والسياسة الواقعية . كان فى انجلترا رجل ولحد على الأقل يرى فى سمو مركز دزرائليى , وتوثق العلاقة بين العرش وبين هذا الدجال العبرى فضيحة لا تحتمل , هذا الرجل هو جلادستون . وقد نشرت مجلة بنش فى 24 مارس سنة 1868 رسما يمثل غرفة الملابس فى مسرح , وأمام المرآة وقف مستر ديزى وهو ممثل كوميدى هزيل فى فى ثياب هاملت يكرر فى رضا : "يكون . . أولا يكون . . هذه هىالمسألة ! إهم !" , وفى آخر الغرفة وقف مستر جلادستون الممثل التراجيدى فى ثياب عادية ينظر إليه فى حسد واحتقار ويقول : "الدور الأول له . . . وهو لا ينفع إلا للأدوار الثانوية , إن المدير لمجنون . . . لكن سيأتى الوقت" . كانت هذه العاطفة أكثر تعقيداً من مجرد غيرة بين الممثلين فإن جلادستون يحتمل بلا شك نجاح ستانلى مثلا فى امتثال وتواضع , لكن الشهوات كالآلهة تتقمص أشخاصاً كى تعمل , والطمع لكى يغريه اتخذ شكل الكراهية القائمة على الفضيلة , فمنذ عشرين سنة بينما هو يرتفع بين غمغمة الإعجاب وسط أمثاله المحترمين رأى شكلا عدائياً وعجيباً يرتفع أمامه , ولم يكد يجد غيره فى المنطقة العالية التى تكاد تكون مهجورة والتى رفعته مواهبه إليها , فاتخذوه بالرغم منه مقياساً لنجاحه , واعتقد أن الجميع يفوقونه إذا فاقه دزرائيلى , "وأن أشد الألغاز التى صادفت الملك داود وبعثت فى نفسه الألم رخاء الأشرار . . . فإن يقبض كاتب القصص الفارغة عن فيفيان جراى وكوننجسبى على الصولجان مثل الكاتب الذى كتب أشياء جميلة عن المسيح , وأن يصل الرجل ذو العبارات اللاذعة والبراقة والمتكبرة قبل الرجل الذى لم يرتكب قط كتابة عبارة لاذعة , الذى يلزم الجد دائما ويفضل الموت على أن يعترف بأنه يمتلك ذرة من الذكاء أكثر من خادمه , أليس هذا كافياً لأن يؤدى بالرجل الشريف إلى تمزيق معطفه وحلق شعره , ثم يجلس بلا عزاء فى الرماد !" . لكن جلادستون لم يكن الرجل اذلى يجلس فى الرماد , فهو قد ينشد فى الواقع : "إلى متى تتركنى أيها الرب ؟ إلى متى يرفع عدوى فوقى ؟" إلا أنه يضيف كما فعل الملك داود : "أضئ عينى كى لا أنام أبدا نومة المةت خشية أن يقول عدوى لقد تغلبت عليه" , لم يستطع كتمان حقده حتى أنه على غير العادات البرلمانية حاول فى الأسبوع الأول من حكومة دزرائيلى أن يتعارك معها , وكا دزرائيلى بإتمامه الإصلاح الانتخابى قد نزع من حزب الأحرار أحد أسلحته , لكن لحسن الحظ بقيت أشياء كثيرة للإصلاح إذ يمكن إصلاح مجلس اللوردات والكنيسة والتاج والجيش والتربية , وكان جلادستون يفضل إصلاح النظام الشمسى على ترك دزرائيلى ينعم فى سلام بثروة غير جدير بها , لكنه لشعوره الدقيق جداً بما يشغل الأذهان من وجهة السياسة اختار مسألة الكنيسة لا سيما الكنيسة الإرلندية , فما لا شك فيه أنه مما يتعارض مع حرية الدين أن يضطر كاثوليك إرلنده إلى إعانة الكنيسة البروتستانتية الحكومية , وكانت إرلندة عندئذ فى اضطراب شديد , فالجرائم والاعتداءات ترتكب بالمائات , ومن غير المستطاع معاقبة المذنبين لأن الجزيرة بأجمعها مشتركة معهم , وصار جلادستون يؤكد أنه لو فصلت الكنيسة عن الدولة , ولم تعد الكنيسة البروتستانتية هى المعترف بها رسمياً فإن ذلك يقضى على أحد أسباب الاستياء , وربما كان هذا السبب أخطرها وفهم دزرائيلى أن منافسه قرر أن تكون المسألة الدينية هى محور الانتخابات . لم يكن دزرائيلى فى رأى من آرائه أكثر ثباتاً منه فى هذه المسألة . هل كان من ذوى الإيمان الدينى ؟ قد لا يتعمق , مثلا جلادستون , فى الجدل اليدنى بحماسة وكان يرى أن فيضانات من التفكير الدينى تطغى فى فترات منتظمة على العقول , وأن هذه العواصف قليلة الأهمية , لأن المياه فى انحسارها تسمح برؤية السفينة الثابتة على قمة الجبل , وهذه السفينة هى الوحى السامى والمسيحى أى التوراة متممة بالأماجيل , وهى أيضاً حاسة السعور بالأسرار , ويعتقد دزرائليى بمجامع قلبه أن العالم إلهى , ويرى أن الوجود (لاسيما وجوده هو نفسه) معجزة وهو يتضايق من علوم الحياة التى رفع علمها فى ذلك الوقت كل من هكسلى ودارون , فهى تحاول أن تجعل مجرد تعادل بسيط , وهو يجهل هذه العلوم ويحتقرها بنسبة جهاه , وقد دافع عن الكنيسة أمام اللحدين منذ بضع سنوات فى اكسفورد فى خطبة شهيرة , وقال : "سادتى . . إن الإنسان ولد ليعتقد , وإذا لم تتقدم إليه أية كنيسة لتقوده بما لديها من مستندات الحقائق معتمدة على تقاليد العصور المقدسة , وإيمان أجيال لا حصر لها فإنه يخلق مذابح ومعبودات فى قلبه وفى خياله . . يقولون لنا إن اكتشافات العلم لا تتفق الآن مع تعاليم الكنيسة والمسألة هى : هل الإنسان قرد أم ملك ؟ . إنى يا سادتى فى صف الملائكة" ضج المدرج بالضحك . . هل مستر دزرائيلى حقاً فى صف الملائكة ؟ . كان الناس فى إنجلترا بأجمعها لا يتمالكون أنفسهم من الضحك , ولم يفت مجلة "بنش" هذه الفرصة الجميلة فرسمت ديزى فى صورة القرد , وهو فى ثياب بيضاء , وله جناحان كبيران . على على أن دزرائيلى كان جاداً حقيقة فى قوله , فهو يعتقد أن الإنسان ليس مجرد آلة عاملة , وأنه فضلا عن المادة الخاضعة للتفاعلات الطبيعية والكيمائية فيه عنصر مختلف قد يسمى الروح واللإلهام والنبوغ , وهو عنصر ملائكى كله . أما عن الحقيقة الحرفية لهذا الدين أو ذاك , فمن المرجح أنه لم يكن يفكلا فيها , لكن له مع ذلك فى هذا الموضوع آراء يتمسك بها . أولها : أنه من الضرورى لسلام العقول والدول أن تثبت العقيدة , فهو لا يثق أية ثقة بما يسمى الدين الأخلاقى أو دين الجمال الفنى , ويقول : "إن كل دين قائم على الجمال الفنى ينتهى إلى التهتك" وقال يوما فى سخرية للعميد ستانلى من أصحاب فكرة الكنيسة الواسعة أى تفسير النصوص الدينية تفسيراً حراً : "إذا لم يكن هنالك مذهب فليس هنالك عميد يا سيدى العميد" , وقد أعجب منذ الصبا الأول بثبات كنيسة روما , وفيما عدا روما , كان يجد فى كنيسة انجلترا لضمان الوحيد للسلامة الروحية فى البلاد . وفكرته الثانية : ضرورة وجود رابطة بين الحكومة والدين, ومن هذه الجهة كانت الحالة فى إنجلترا موفقة جداً , فالملك هو رئيس الكنيسة , وهو الذى يعين بنفسه رؤساءها , فالكنيسة بدلا من أن تكون دولة داخل الدولة "أمبريوم إن إمبريوم" فإنها تزيد سلطة الدولة , وهى علاقة لا يجب قطعها , وقد يكون فصل كنيسة أرلنده أجراء عادلا , ولكن دزرائيلى يرى أنها الخطوة الأولى فى طريق خطر وفيها قلب للدستور , لذلك استعد لأن يخوض النضال الانتخابى على الأرض التى أختارها جلادستون , وسيقف أمامه على أنه المناضل المتناقض عن الكنيسة .

2- حداد

بلغ مستر جلادستون الستين على أن نشاطه الحيوى العجيب بالرغم من ذلك مازال يتطلب منه أعمال الجبابرة , فهو فى انتظار نتيجة الانتخابات فى الريف فى هاواردن يقطع أحيانا ثلاثة وثلاثين ميلا فى يومه , ثم يعود فى المساء متعطشا إلى عمل مجهود آخر , وهو فى أغلب أيامه يشتغل بقطع الأشجار وتلك لذته المحبوبة, فهو ينزل ضرباته على تلك الجذور كما لو كانت مساوئ قديمة . فى أول ديسمبر سنة 1868 , كان فى قميصه وقد رفع فأس الحطاب عندما جاءته رسالة برقية من الملكة تعلن زيارة جنرال جراى . فقال جلادستون لرفيقه : "إن لذلك معنى كبيراً" واستأنف عمله , وبعد بضع دقائق سكنت ضربات الفأس وقال فى لهجة جدية عميقة : "إن رسالتى هى تهدئة أرلندة" وكتب فى مذكراته : "يظهر أن العى الأعلى يؤيدنى ويحفظنى لحكمة عظيمة أرى أننى غير أهل لها , المد لاسمه" هكذا شعر بأنه لن يغلب وهو مؤيد بالعناية الآلهية , ومعضد فى مجلس النواب بأغلبية عظيمة وشاعر بجسد كجسد الرياضى , وعقل من الحديد , وستسقط تحت قرعات فأسه التشريعية بعض أشجار البلوط من أقدمها عهداً فى الغابة , لكن الهواء والضوء سوف ينفذان فى حرية إلى النباتات الصغيرة فى الأرجاء . وكتب فى مذكراته : "هواردن فى 13 يناير أعددت مشروع إجراءاتى عن الكنيسة فى أرلندة ـ وعملت فى ترجمة هوميروس حتى الليل" , وأحيانا يسجل أنه كان مضطرباً فى يومه كالبحر , بينما دزرائيلى وهو مصاب بداء المفاصل وضيق التنفس يتدفأ فى حرارة الشمس على شرفة هوجندن وينظر إلى الطيور والأزهر ويفكر فى رواية جديدة . عندما علم بنتيجة الانتخابات وبهزيمته فكر أولا فى اعتزال الحياة السياسية ويسمح له العرف عندئذ بأن يلتمس الإنعام عليه بلقب من ألقاب الشرف , ويجد فى مجلس اللوردات عزلة شريفة , لكن بعد تفكير لم يستحسن أن يترك حزبه وهو مغلوب ويهجر مركز النضال فى مجلس النواب , ولما أبدت الملكة رغبة فى مكافأته على خدماته طلب أن ترفع مارى آن إلى مرتبة الأشراف , وأن يظل هو مستر دزرائيلى , وتفضلت الملكة بإقرار هذا الاقتراح فاختار لزوجته اسم بكونسفيلد وهو اسم بلدة صغيرة فى باكنجهامشير , ويعلم دزرائيلى أن بيرك العظيم لو أنه عاش طويلا لود أن يصير لورد بكونسفيلد , وهو نفسه خلق لورداً بهذا الاسم فى رواية فيفان جراى وهو يحب دائماً أن ينقل رواياته إلى الحياة , وصارت مارى فيكونته بكونسفيلد , وبقى ديزى على حاله . أولئك الذين عقدوا الآمال بين أصدقاء دزرائيلى , على أن يروا هجمات عنيفة على حكومة الأحرار أخطأوا التقدير , فقد ظنوا أن وصول المنافس إلى منصة الحكم سيدفع بزعيمهم إلى مضاعفة مجهوداته , لكنه لم يكن فى أطوار حياته أكثر هدوءاً وأكثر كسلا وصمتاً , فكانت خطبته عن الكنيسة فى أرلندة , وهى خطبة فارغرة سطحية مثل "جونيله كولومبين كلها من التل والشرائط" وتساءل حزب المحافظين مرة أخرى وهو مندهش إلى أين يريد أن يسير هذا الرجل وهو سر من الأسرار , فهل يكفيه تذوق السلطة العليا مرة ؟ وهل يترك جنوده فى الميدان ؟ لكن من خلف قناعة الحزين الذى لا يحترق , كله عقله اليقظ يسهر ويتسلى , هل يناضل هذه الأغلبية وهى جديدة . هل يناضل جلادستون ذلك الحيوان الفخم من حيوانات القتال , وأنفه لا يزال بالدخان ؟ هذا جنون , إنه يعرف هذه الأغلبيات والممرن يطلق العنان للجواد الفتى فيصير التغلب عليه أسهل عن ذى قبل ! هل لجلادستون قوات ؟ فليستعملها إذن , ليحاول تهدئة أرلندة بضربات القوانين , فإن أرلندة استعملت ما هو أحد وأفعل , ولتنزل فأسه على أمور المال والتربية والجيش , فسيأتى وقت المقاومة له والانقضاض من حوله والسيوف الكليلة , حينئذ تكون اللحظة لقلب الصنم الذى يهتز على قاعدته , فالصبر إلى ذلك الحين ! ليندهش الناس من هدوئنا , ففى ذلك وجه للمقارنة المفيدة لنا بجانب هذا الاضطراب . كان التأثير التمثيلى لمثل هذا النوع من المعارضة كبيراً حتى كأن البطلين نفسيهما يسران له , وكانت الرواية التمثيلية البرلمانية تذهب أحياناً إلى حد المهازل ففى ذات يوم وقف جلادستون وهو على مقعد الزوار وقفة جديرة بالإعجاب , وهو يرعد بالقول وانهال على منافسه بنعوت تزداد شدة , وأمام كل نعت يحنى دزرائيلى رأسه ثم يحنيها , وبعد أن وصلت ذقنه إلى صدره أخذ ظهره ينحنى , وكأنه تحطم فعلا تحت الضربات الهائلة لصوت جلادستون , وأخيراً انتهى هذا من خطبته بضربة عظيمة من قبضته على المنضدة الكبيرة التى تفصل بينهما , فطارت الأوراق والأقلام وتبعثرت , ثم جلس وتساءل المجلس لحظة وهو صامت لا يتحرك عما إذا كان ديزى سيستطيع أن يرفع رأسه , وأخيراً رأوا هذا الجسد المنحنى تعود إليه الحياة فى هدوء , وتحرك الرأس أولا ثم الجسم , وأخيراً وقف دزرائيلى وقال فى صوت لا يكاد يسمع : "إن السيد المحترم تكلم فى كثير من الحماسة , وكثير من الفصاحة , وكثير من العنف (وهنا فترة سكوت . فترة طويلة) , ولكن الضرر يمكن إصلاحه" وأحنى جسده بصعوبة وجمع الأشياء التى تاناثرت على أثر عنف جلادستون الواحدة بعد الأخرى وأعادها بنظام إلى أماكنها المعتادة فوق المائدة المقددسة , ونظر فى رضا إلى النظام الذى أعاده , ثم أخذ بعد ذلك يرد بصوته الجميل , وقد لاقت هذه القطعة من التمثيل الرمزى ما تستحق من نجاح . لكن مثل هذه المناظر كانت نادرة , فقد كان من البين أن دزرائيلى لا يريد فى ذلك الوقت قلب جلادستون , وظلت عباراته المأثورة فى حدود المجاملة . وفى ذات مرة وقف جلادستون فى منتصف عباراته برقة قائلا : "أتريد كلمتك الأخيرة . . إنها الثروة" . وسألته إحدى بنات منافسه فى حفلة عشاء عن رأيه فى وزير أجنبى فأجاب : "إنه أخطر رجل فى أوروبا ـ فيما عداى ـ فى رأى أبيك , وفيما عدا أبيك فى رأيى . ." . كان عقله طليقاً حتى إنه انتقل مرة أخرى من العمل إلى التأليف الأدبى , وأخذ يعمل فى رواية "لوثير" . ولوثير هو نبيل انجليزى صغير وارث دزرائيلية أى ليس لها حد , تتقاسم عقله ثلاث قوات ممثلة فى ثلاث نساء , وهى كنيسة روما والثورة الدولية والتقاليد البريطانية . ومن الطبيعى أن تتغلب لادى كوريساند المدافعة عن كنيسة انجلترا , وكان الموضوع خطراً , وتحقيق الفكرة موفقاً , وقد صور شخصيات من قساوسة روما والثوريين والسياسيين الانجليز بإتقان مدهش , ونجح الكتاب نجاحاً باهراً جداً , ولم يحدث من قبل أ، باعت المكتبات البريطانية رواية لرئيس وزارة سابق , فلم يعد للمجالس حديث غير رواية لوثير , وأطلقت أسماء لوثير وكوريساند على الجياد والقوارب والأطفال والروائح , ووصل الجنون بلوثير إلى أمريكا , ولم يبق معادياً غير البرلمان , فقد شعر حزب المحافظين بالخجل إذ يرى أن زعيمه روائى وذو مواهب . اششتدت وطأة المرض فى هذه الأثناء على مارى آن , فقد أصيبت منذ سنة 1866 بسرطان المعدة , وهى تعرف ذلك وتحاول إخفاء مرضها عن ديزى , وهو يعتقد أنها تجهل هذا المرض فيتكلم عن هذا المرض باستخفاف , وظلت هى فى شجاعة تعيش متصلة بالحياة الاجتماعية , وفى سنة 1872 رأى المتولى أعمال سفارة فرنسا الشاب فى إحدى الزيارات مخلوقات عجيباً مزيناً كأنه صنم هندى حتى لقد ظنه مهراجا عجوزا , وهى مارى آن وخلفها ديزى وهو متعب حزين , تدلت على جبينه العارى عن الشعر آخر خصلة خضبت بالسواد وجعدت فوق الجبين , وحملت مارى آن على صدرها إطاراً مستديراً فيه صورة زوجها , وكأنها تحمل نوطاً أو وساماً , وهى عندئذ فى الثمانين من عمرها , وهو فى الثامنة والستين , وكان منظر الزوجين مضحكا ومؤلماً . صار من الصعب عليهما أن يعنى الواحد منهما بالآخر , وأحياناً يمرض الاثنان فيتراسلان من غرفة , يكتب مستر ديزى : "إنى مستلق على ظهرى فمعذرة لكتابتى بقلم الرصاص , إنك أرسلت لى ألذ وأرق رسالة جاءتنى فى حياتى , وإنك لتفوقين هوراس والبول ودام دى سفينه , صار جروفنرجيت مستشفى , لكن المستشفى معك خير من قصر مع أخرى . زوجك د." . كانت تقول لأصدقائها : "بفضل هذه الطيبة لم تك حياتى إلا فصلا طويلا من السعادة " , وهو يقول : "لقد تزوجتها منذ ثلاثين سنة , ولم أشعر قط بملل" صارت مارى آن عاجزة تقريباً عن تناول أى طعام . وفى ذات مساء بينما هى عند بعض الأصدقاء أخذتها نوبة ألم شديد , حتى إنها لم تتمكن من إخفائه , وعدلت بعد ذلك عن الخروج , واضطر زوجها بعد ذلك إلى تركها أحياناً , لكنه لا يفعل مهما كان غيابه قصيراً من غير أن يكتب لها رسائل عديدة . من ديزى إلى مسز ديزى : "ليس لدى ما أقوله لك غير أنى أحبك , وهو قول أخشى أن تجديه عادياً بعض الشئ" . من مسز ديزى إلى ديزى :"أعز الناس لدى . إنى أشعر كثيراً ببعدك وإنى مدينة لك على رقتك وطيبتك الدائمتين" . حيث إنها لم تعد تحتمل السفر , فقد أمضيا الصيف معاً فى لندن يخرجان فى عربة ويزوران الأحياء غير المعروفة لديهما ويحاولان أن ينسيا أن الحديقة الممتدة أمام نوافذهما اسمها هايد . ثم انتقلت حالتها من سيئ إلى أسوأ , فظنت أن هوجندن قد تفيدها , على أنه لم يبق سبيل لعلاجها ورفضت معدتها أى غذاء , وبالرغم من أنها كانت تموت فعلا من الجوع فإنها ظلت تدعو بعض الأصدقاء بطيبة خاطر وتتنزه معهم فى عربة صغيرة يجرها جواد ضئيل هرم , وبمجرد أن يترك الغرفة يتكلم دزرائيلى عن آلام زوجته , ويرى زائروه هذا الوجه الذى عرفوه لا يتغير وقد عبثت به العواطف , ولما صار من البين أنها لن تقوم من علتها أرسل برقية إلى منتاجو كورى يدعوه فيها للحضور , إذ شعر با،ه لا يستطيع وحده احتمال الصدمة . وماتت فى 15 ديسمبر سنة 1872 ووجد بين أوراقها الرسالة التالية : "زوجى العزيز ديزى : إذا تركت هذه الحياة قبلك فمر بأن ندفن فى قبر واحد , وىلآن ليباركك الله أيها الزوج الطيب القلب العزيز , كنت لى زوجاً كاملا , وداعاً يا ديزى العزيز . لا تعشش وحدك أيها العزيز , فإنى أرجو من أعماق قلبى أن توفق إلى من توفق إلى من تكون متعلقة بك بقدر ما كنت زوجتك المخلصة مارى آن" . إن أقل النفوس اكتراثاً وربما أشدها صلابة يشعر بالقيمة البشرية فى وطأة حزن حقيقى , لذلك عطف الجميع أشد العطف , ونسى جلادستون كل حقد سياسى فكتب رسالة مؤثرة : "أظن أننا تزوجنا فى سنة واحدة , وكان من حظنا نحن الاثنين أن نتمتع مدة ثلاث قرن بسعادة لا تقدر , وأنا الذى نجوت من الضربة التى أصابتك أستطيع أن تصور أثرها عليك , وما يكون أثرها لدى" . ثم أكد له أنه فى ساعة هذه المحنة يتألم ألماً عميقاً معه ومن اجله , وكان مخلصاً , ومما لا شك فيه أن كلا م المتنافسين ظهر للآخر بمظهره الحقيقى غير مشوه بالشهوات , وهكذا يحدث أحياناً أن المجنون يجد بضع لحظات من الهدوء تتبدد فيها الأشباح , ثم تتجمع الشهوات وتتعقد الملامح ويعود المرض وحشاً كاسراً . كانت مارى آن تفخر فى حياتها بحق بأنها توفر على ديزى جميع المتاعب الصغيرة التى ترهق عقله , وصار بيته وخدمه منذ زواجه آلات كاملة لا يحتاج إلى التفكير فيها ," فلم يكن هنالك شاغل لا يستطيع القضاء عليه , أو صعوبة لا تستطيع مواجهتها فكانت أشجع امرأة عرفتها وأكثرهن مساعدة ". وبموت مارى آن لم يجد رجلها العظيم من يدافع عنه , كانت ثروتها مؤقتة بحياتها , والبيت نفسه ذهب إلى ورثة , واضطر ديزى إلى تركه والانتقال إلى فندق , كان تركه لجروفنرجيت بعد أن أمضى ثلاثاً وثلاثين سنة سعيدة فى تلك الدرا هو تركه لمارى آن مرة أخرى , ففى هذه الدار انتظرته ليلة بعد ليلة عند العودة من مجل سالنواب , والدار مضاءة دائماً حتى تبدو له ببريقها فى الضباب عندما يعود بعد جلسة حادة , وهذه الدار هى ملجؤه والمكان الذى يترك فيه النفس والجسد لحريتهما , وفيها ينقلب مديحاً , والتأنيب تدليها , لا ريب فى أنه سوف لا يعرف بعد الآن لذة المأوى الحقيقى , فتكون حياته بعد الآن فى لندن هى وحدة الفندق ـ وهى أسوأ أنواع الوحدة ـ بأثاثه السخيف وطعامه على انفراد والجيران المجهولين . فعندما يقول لسائق عربته : ""إلى البيت" يتذكر فجأة أن لا بيت له , وتترقرق عيناه بالدموع , ولولا مونتاجو كورى سكرتير الذى سهر عليه كما يسهر الابن على أبيه , ولولا الأصدقاء من أمثال عائلتى مانرز وروتشيلد الذين يرحبون به لصار حطاماً , لكن الصداقات مهما كانت رقيقة لا تحل محل عطف امرأة . وفى سكون غرفة الفندق كان يعتز بالذكرى الشاردة لصوت فرح . خشى أصدقاؤه السياسيون أن يتخذ من الحداد حجة للاعتزال النهائى , لكن حدث غير ذلك فإذا لم يجد فى نفسه غير الأفكار المحزنة اتجه إلى النشاط واستأنف النضال لكى لا يفكر . زجد الوقت ملائماً وخطة الانتظار أحدثت أثراً حسناً , فقد مد الحبل لجلادستون , ونشط جلادستون فى آلاف النواحى , ولم يبق غير الاستفادة من الأخطاء التى تتولد بالضرورة عن كل نشاط . فقد قال خطاب هواردن وهو مرتكن على فأسه القوية : "إن رسالتى هى تهدئة إرلنده" , ولكى يؤديها ألغى الكنيسة البروتستانتية فى إرلنده , وعمل على إصدار سلسلة من القوانين يقصد بها حماية الزراع من كبار المالكي , لكن إرلنده كانت أقل هدوءاً منها فى أى وقت آخر , يضرب الموظفون بالعصا من رجال مقنعين , ويطعن رجال الشرطة بالخناجر , وتنسف البيوت , واحتمل العامل على التهدئة هذه الاعتداءات مدة طويلة , فإذا فقد الأمن التجأ إلى الجنود , ولاحظ دزرائيلى فى لهجة السخرية : "إنى لأذكر أنى سمعت أحد وزارء جلالتها يقول فى السنة الماضية كل شخص يستطيع أن يحكم بالجنود والمدافع ـ نعم كل شخص فى الواقع حتى السيد المحترم " . وفى السياسة الخارجية قبل جلادستون مبدأ التحكيم فى جميع المسائل المرتبطة بانجلترا , لكن يظهر أن التحكيم كان دائماً فى غير صالحها , وقد طعنت الكرامة الوطنية , وفى أحد المسارح مثل جلادستون وهو يستقبل رسل سفارة من الصين يطلبون إليه اسكوتلانده , وفكر رئيس الوزارة ووجد ثلاث إجابات ممكنة , التنازل فى الحال عن اسكوتلانده , أو الانتظار قليلاً ثم الانتهاء بالتنازل , أو تعيين محكمين , ووجد الجمهور أن الصورة صحيحة , وكانت الملكة مع الجمهور فهى لم تألف جلادستون وتخفيها الأشجار الضخمة التى تتساقط فى كل مكان , وهى محبة للغابات وعقلها البسيط والمباشر لا يفهم طرق هذا العقل المعقد , وهى تعود إلى تلاوة مشروعات القوانين بلا جدوى , وإذا أرسل معها مذكرات تفسيرية وجدت التفسير أكثر غموضاً من المشروع , فبعد مستر دزرائيلى المرن الذى يقول : "يجب قبل كل شئ أن تحقق رغبات صاحبة الجلالة" لم تستطع احتمال ذلك الأسكوتلندى الجاف الذى يرفض فى احترام لا حد له ما تطلب , وهى تتمسك بفكرة مالانجلترا من مكانة , وتعتقد أنه قضى عليها , وهى ملكة بروتستانتية , وقد قضى جلادستون على البروتستانت الارلنديين , وهى تحترم الدستور احتراماً كبيراً فلا تعترض أصوات البرلمان , لكنها صارت تتمنى من أعماق قلبها سقوط الوزارة . منذ سنة 1873 , صار من المستطاع التنبؤ بأن هذا الحادث ليس بعيداً فقد جاءت جميع الانتخابات الفرعية ملائمة للمحافظين , وأعد دزرائيلى الحملة الانتخابية فى دقة , ورشح فى كل دائرة أحد المحافظين قبل ابتداء الحملة بزمن طويل وأنشئ فى هوايتهول مكتب مركزى للمحافظين , فيه مدير دائم وأركان حرب يقيدون اسماء المرشحين فى الدوائر والدائرة التى يجب الترشيح فيها , وأقام فى كل مدينة جمعية من المحافظين يمثل فيها جميع طبقات الهيئة الاجتماعية وتسعى بنوع خاص إلى أن تنال تأييد العمال , وسهر دزرائيلى نفسه على هذا العمل فى كل مكان لكنه كان يدعو أنصاره إلى الصبر , فهو لا يريد أن يتولى السلطة قبل أن يؤدى نشاط جلادستون إلى فشل جديد , فقد علمته التجارب سرعة سقوط الوزارة التى لا تستند إلى أغلبية قوية , على أن جميع العلئم دلت على الانهيار , وفى خطبة ألقاها فى مانشسنر وصف اللحظات الأخيرة للوزارة وهى فى النزع : "إن هذا النشاط غير العادى بعد أن بلغ نهايته انتهى بالخمود , فالبعض يجدون ملجأ فى الحزن وزعيمهم البارز يتراوح بين التهديد والتنهد , أما أنا الذى أجلس أمام مقعدهم فإن الوزراء يذكروننى بأحد المناظر فيما تحت سطح البحر التى تقابلها أحياناً فى شواطئ أمريكا الجنوبية , فإنك تتأمل صفاً من البراكين الساكنة ولا تجد لهباً واحداً يتردد على هذه الفوهات الممتقعة , لكن المركز ما زال خطراً والأرض تتزلزل قليلاً , ومن وقت إلى آخر تسمع الزئير المظلم للبحر" .

3- بين الجدات

كان الشتاء الذى تبع وفاة مارى آن مفعما بالحزن المخيف بالرغم من النجاح السياسى المستمر , ليس ذلك فقط لأن ديزى فقد فيها المخلوق الذى يحبه أكثر من أى إنسان فى العالم , بل كان معدة كبيرة لا تجد ما يملؤها من العطف , وكان ابو الهول قد كشف عن سره لمارى آن , وهذا السر هو التهيب , تولد هذا الإحساس فى الطفولة من الاضطهادات المدرسية , غذى (تحت قناع الجرأة الظاهرة) بعدواة نظرائه , ثم هدأ فى السن الناضجة بصداقات لا مثيل لها , ثم عولج أخيراً بالوصول إلى السلطة , لكن هذه الصفة كونت من أخلاقه وتغلبت على كل عناصره وقد منعته بصفة خاصة من أن يجد سروراً حقيقياً فى عشرة الرجال فهو فى حاجة لأن يكون رئيسهم حتى أنه مساو لهم , وكان كا انجليزى غيره يلجأ فى الوحدة لحياة النوادى , لكنه يكره هذه الحياة , وقد قال : "إن فى الحياة أشياء كثيرة مخيفة والعشاء مع الرجال هو أسوأ الجميع" . كتب لمارى آن من زمن بعيد "إنى فى حاجة لأن تكون حياتى حباً دائماً" وقد تضاعفت أرقام عمره , لكن الحاجة ظلت قائمة فهو يكتب الآن . "إنى فى حاجة إلى الوحدة التامة وإما إلى العطف التام" , وهذا مطلب الرجل الجريح . ظل عدة أشهر لا يزور إلا عدداً قليلا من الأصدقاء ذوى الصلة الوثيقة به , ويمضى جميع العطلات البرلمانية فى هوجندن حيث يرتب أوراق زوجته فتتبادر إلى عينيه الدموع تأثراً إذا ما رأى احتفاظها بأصغر ورقة خط عليها ثلاث كلمات وهو شاعر بوحدته حتى إن الرسالة التى يجد فيها شبئاً من العطف تظهر له كأنها شراع السفينة لدى رجل تحطمت سفينته وقذفت به الأمواج إلى جزيرة مهجورة , ماتت هذه المراسلات النسائية وماتت معها بهجة , وجمال الآلاف من الحوادث الصغيرة التى تتوقف على وجود الشريك , وهى وحدها تجعل الحياة محتملة . وفى الربيع كان فى زيارة فأدت به الصدف إلى مقابلة صديقتين من صديقات شبابه , هما لادى شسترفيلد , ولادى برادفورد , كانت آن كونتة شسترفيلد فى السبعين من عمرها , وسلينا كونتة برادفورد فى الخامسة والخمسين والاثنتان جدتان , ذكرهما دزرائيلى بطفولتهما على مقربة منه فى الطفولة (إذ كانت تقطنان على مقربة من برادنهام) , وتلك الحفلة الراقصة التنكرية العيمة التى ارتدت فيها لادى شسترفلد زى سلطانة , ولبست اختها الجميلة مسز أنسو زى جارية يونانية محلولة الشعر , ولادى لندندرى زى كليوبترة وهى مجملة باليواقت , ماتت مسز أنسون , وماتت فانى لندندرى , لكن لادى شستر فيلد ولادى برادفور احتفظنا بالكثير من ميزات جمالها , وكانت هذه المقابلة محببة لديهم وتواعدوا على الكتابة وأن يتزاوروا , وما جاء الصيف حتى دعى دزرائيلى لتمضية بضعة أيام عند إحدى الأختين ثم عند الأخرى وتلاه الشتاء وهو لا يعيش إلا "للذة معاشرة هذين الشخصين اللذين أحبهما أكثر من أى شئ فى العالم" . كانت كل منهما تختلف عن الأخرى اختلافاً كبيراً فلادى شستر فيلد أكبر سناً وأكثر جداً وعطفاً , ولادى برادفورد أكثر ميلا للتصابى , وقد قرأت لادى شستر فيلد جميع رويات دزرائيلى , لكن لادى برادفورد ابتدأتها وهى تتثائب وتخاط بين أشخاص الرواية , ولادى شسترفيلد متزنة دائماً فهى خير صديقة فى حين أن لادى برادفورد أكثر تقلباً ولا يعتمد عليها كثيراً لكن التعلق بها أكبر ز كتب دزرائيلى للأختين فى لهجة الحب الوثيق , كانت لادى شسترفيلد وهى أرملة وفى السبعين تقرأ رسائله فى ابتسام , أما لادى برادفورد ولها زوج من أحسن الأزواج وبنات فى سن الزواج فانها احتجت وهددت مرات عديدة بألا تستمر فى المراسلة إذا ظلت اللهجة فى مثل هذه الحماسة الكبيرة , ولم يكن دزرائيلى من الذين يحتملون فراق الذين يحبونهم ولو لبضعة أيام , فاقترح على لادى شسترفيلد أن يتزوجها لكى يستوثق من العشرة الدائمة للأختين , فرفضت أولا لأنها وجدت أن الزواج فى سنها مضحك بعض الشئ , ثم لأن دزرائليى يحب أختها بنوع خاص وصارت موضع سرهما . وجد زعيم المعارضة فى كل يوم وقتاً لتحرير رسائل قصيرة للواحدة والأخرى من الأختين الثمينتين لديه . "إن أسحر النساء لم تكن أبداً ألذ منها بعد ظهر هذا اليوم , وقد وددت لو أستطيع أن أجلس هناك إلى البد أراقب حركاتها التى لم تكن إلا الظرف نفسه , وأصغى إلى تلك الكلمات الخلابة لكن للأسف كان يمر بخاطرى من وقت إلى آخر فكرة فظيعة ـ إن هذه الزيارة زيارة وداع . . فهل ساعات الفراق لا تقضى أبداً ؟ . . . إنى واثق من أن أكبر التعاسة أن يكون للمرء قلب لا يرغب فى الكهولة" . الرجل كهل قوى السلطان مثقل بالواجبات ومسئول عن حياة إمبراطورية كبيرة , لكنه يشعر بأه لا يختلف عما كان فى شبابه , وربما كان العجوز أمعن فى الخيال و فكثيراً ما انتصر الطومح فى الشباب على الحب ، "لقد عشت حتى أرى ان للحب بعد غروب زمنه غناه وجماله , وربما كان لدى الكهول تهافت أكبر على السعادة" . اندهش لاكتشافه أنه لا يزال يرغب فى رؤية امرأة , وأنه يجد لذة فى النظر إلى امرأة فى حياتها , وإنه ليشعر فى الوقت ذاته بجمال الأيام التى يمضيها بالقرب منها , والعدد الصغير من الأيام التى لا تزال باقية له , فلم يكن يسمح بالافتراق عن صديقته , "إن رؤيتك أو على الأقل سماع أخبارك فى كل يوم أمر ضرورى جداً لوجودى , فإن لرؤيتك فى المجتمعات لذة خاصة , ولكنها تختلف عن لذة رؤيتك على انفراد , واللذتان ساحرتان كضوء القمر وسطوع الشمس" , كان يود لو يزورها فى كل يوم , لكن لادى برادفورد لديها آلاف المشاغل وترتب زياراته فى تعقل , ثلاث مرات فى الأسبوع هذا قليل جدا" .ودعى الوزير إلى حفلة راقصة تنكرية , وأراد العجوز أن يذهب وهو فى ثياب "روميو" , ولما طلب من سلينا أن تختار له علامة لتعرفه بها نصحته فى لهجة جافة بألا يذهب , فاستاء قليلا وشكا إلى لادى شسترفيلد صديقته العزيزة , وعلمتا أنه تعيس فوصلته رسالة أكثر رقة , "رفعها إلى شفتيه" , وهكذا كان يلعب "السست" العجوز "بسليمين" الرقيقة الناضجة . لكنه لم ينس مارى آن , ظلت رسائله طول حياته حتى رسائل حبه محاطة بالسواد وفى ذلك رمز حقيقى . وفى ذات يوم بعد ذلك الزمن وصلت إلى لادى برادفورد بطريق المصادفة رسالة على ورق أبيض , وكتبت إليه تعرب عن ارتياحها , فكتب : "تقولين إنك ارتحت لرؤية االورق الأبيض فى اليوم الاخر ومن الغريب أنى كنت أفكر فى الماضى أن الملكة بالاستمرار على حدادها تتنزل لعاطفة مريضة , لكنى الآن أشعر مثلها وسأستمر على الغالب مثلها" . انتهى من تنظيم الأوراق فى هوجندن , ووجد فيها ذكريات لا حصر لها تدل على ذلك الحب الدقيق , فقد ظلت مارى آن فى كل خمسة عشر يوماً مدة ثلاثين سنة تقص شعر زوجها , وفى كل مرة تجمع الشعر فى ربطة صغيرة مختومة ووجد منها المئات , واكتشف كذلك الآلاف من الرسائل . جميع رسائل بلوار ورسائل الفرد دورسيه ورسائل سميث المسكين , والرسالة الأخيرة للادى بلسنجتون , كم من الأشباح تنتظره الان ! أخيراً أجرى جادستون الانتخابات وتغيرت عاطفة الجمهور حتى صار دزرائيلى يأمل فى تغيير الأصوات وربما فى الحصول على أغلبية للمحافظين , وصار فى أثناء الانتخابات يكتب كل يوم رسائل إلى لادى برادفورد , وبعد وقت قصير أمكنه أن يعلن أن حزبه ربح عشرة مقاعد , ثم عشرين , ثم أربعين , ثم هزم جلادستون نهائيا , فقد حصل المحافظون على أغلبية خمسين صوتاً على جميع الأحزاب مجتمعة , وأكثر من مائة صوت على الأحرار وحدهم , وثبت أخيراً أن الرأى العام قد يصير مؤيداً للمحافظين كما نادى بذلك دزرائيلى , ونسى جميع المتذمرين القدماء من الحزب عدن ثقتهم الماضية ,وامتلأ نادى كارلتون بجمهور متأثر ينادى بالزعيم كما ينبح كلاب الصيد حول الصياد فى اليوم التالى لصيده ز قرر جلادستون الاستقالة قبل أن ينتظر اجتماع البرلمان , وأعلن أنه سوف لا يبقى زعيما للحزب , وأراد أن يكون نائباص بسيطاً , وألا يحضر الجلسات بانتظام , وقد بلغ الخامسة والستين من عمره , وهو سن ختم فيه كبار ساسة ذلك العصر حياتهم السياسية من وقت بعيد , وكان يأمل بنوع خاص أن يعنى بالمسائل الدينية ويستعد للموت , وأعرب للملكة عن قراره ووافقته جلالتها فى حماسة فيها شئ من عدم اللياقة , ودعت مستر دزرائيلى , وكان من أوائل ما اهتم به الوزير الجديد أن يحصل على مركز هام لعزيزته سلينا فى بلاط الملكة . فى عودة البرلمان ألقى دزرائيلى بضع كلمات تدل على العطف نحو جلادستون واعترف هذا بأن هذا المسلك كريم , وأن الرجل يعرف كيف يكسب كما يعرف كيف يخسر , ومع ذلك فى كل مرة يفكر جلادستون فيه , كان يشعر بروح الاستياء ويطغى على نفسه "غضب أخيل الذى لا يهدأ" .

4- الزعيم

صار المحافظون من تلك اللحظة يدعون دزرائليى بالزعيم , وفى هذه الكلمة دليل على تغيير كبير , فالمغامر النابغ الذى احتمله البعض ونازع فى سلطته البعض الآخر ودعوه جميعاً "ديزى" فى تبسط يدل أحياناً على الحب وأحيناً على الاحتقار , قد صار موضع احترام الجميع , وساعدت السن على ذلك , فكانت الكهولة فى كل بلد فضيلة رجل السياسة , فإن ذلك ينطبق على إنجلترا أكثر من غيرها , فليس من شعب الإنجليز يشعر بما يسبغه مرور الزمن على الأشياء من جمال , وهو يحب السياسة الذين خبرهم , وصقلهم النضال كما يصقل الجلد القديم والخشب القديم , لم يفهم المحافظون دائماً سياسة زعيمهم , لكنه قادهم إلى أغرب انتصار أحرزه الحزب , فتعاويذه إذن فعالة وإن لم تكن مفهومة . عرفه جميع رجال الحزب فيما عدا بعض الكهول رئيساً لهم دائماً وهو إلى جانب اللورد دربى ثم وحده , ولا يزال كليرون منهم يقرنون اسمه بفكرة غير واضحة عن السر الشرقى , لكن ذلك لم يعد يخيفهم , فكما أن الباب من الصناعة العربية يأتى به أحد كهول المستعمرين إلى وطنه حجرأً فحجراً , ويعيد بناءه فى بستان من الحشيش المعتنى به وتغطية الأشجار والورود المتسلقة فيكتسب تدريجيا رقة انجليزية , ويختلط برفق مع ما يحوطه من خضرة متناسبة , كذلك دزرئايى العجوز وهو محمل بالفضائل وبالنزوات الطيبة والعوائد البريطاينة , وقد صار زينة طبيعية فى البرلمان وفى المجتمعات , وإذا كان أحياناً أحد المارة الناقدين يتبين من تحت الأغصان المظلمة انحناء مدهشاً فى قوس الباب أو الخطوط العجيبة فى النقش العربى , فليس من شأن عدم التناسب البسيط إلا أن يضيف إلى جمال هذا الأثر النبيل لوناً لا يكاد يرى من الشعر والقوة . من ذلك الوقت اختلطت باحترام الحزب له محبة ظاهرة , وصار من النادر أن تجد من يعلن عداءه , ويعترف الجميع تقريبا بإخلاص الزعيم وحسن إرادته . وعرف خصومه أنفسهم أنه إذا كان ينزل الضربات القوية بالخصم اللائق به فإنه يبقى دائماً على الخطيب الضعيف , وإن مثل بيل ومثل جلادستون يدلان على أنه لا يهاجم أبدأً رجلا وهو أعزل . وفى أثناء المدة القصيرة التى تولى فيها السلطة سنة 1868 منح مرتباً لأطفال ليتش مصور مجلة بنش الذى ظل يحاربه بلا شفقة مدة ثلاثين سنة , والآن فى سنة 1870 كان اول عملب له أن عرض أكبر وسام يستطيع منحه على كارليل وهو الرجل الذى تساءل فيما مضى : "إلى متى يحتمل جون بول أن يرقص هذا القرد السخيف على بطنه" . ولما اندهش أحد الأنصار المحبين للانتقام من تساهله قال له : "إنى لا أفكر أبدا فى الانتقام , ولكن عندما يؤلمنى شخص أكتب اسمه على رقعة من الورق ثم أحجزها فى درج من أدراج مكتبى , وإنه لعجيب أن أرى بأية سرعة تسقط هذه الأسماء التىأقيدها هكذا فى زوايا النسيان" . كان هو يعتمد على أغلبية قوية وهو مؤيد من الملكة التى قابلت عودته بفرح ظاهر , قد بلغ أخيراً كل ما رغب فيه أثناء حياته وهو السلطة وانمحت ذكرى جروح الشباب , وقال للادى دوروثى نفيل التىلا أسر إليها بآلامه فيما مضى : "كل شئ حسن الان وأصبح مركزى ثابتأً" , أوجد الوثوق بالانتصار نوعاً من التريث , فلم يكن الرجل فى حياته قط طبيعياً مثله فى ذلك الوقت , وعرف أخيراً أنه الآن يقبل على علاته فأطلق طبيعته على سجيتها , وصار أقل خشونة , ويذكر ماضيأً قد عوض عنه . فذات مرة وهو يتنزه مع لادى دربى بين أشجاره , ويريها برادنهام قال لها فجأة : "فى هذا المكان أمضيت شبابى التعس" , فسألته "كيف ؟ تعس ! لقد كنت بلاش ك سعيدأً هنا" فقال : "لم أكن سعيدأً فى ذلك الوقت , إذ كنت فريسة لطمع لا يقاوم , وليس لدى أية فرصة لإرضاء هذا الطمع" . لم تعد المراكز تهمه الآن , فعندما حاول أحد الدوقات أن يخيفه قال "الدوقات ! إنى لا أهتم لهم" وهذا حقيقى , لقد بعد الزمن الذى قال فيه اسحق دزرائيلى : "وماذا يعرف عن الدوقات ؟" , ولم تكن إحدى الأميرات من العائلة المالكة لديه إلا فتاة صغيرة يرفض أن يقلق نفسه فى الصباح من أجلها , وكانت الملكة شخصيا عادية وصديقة قديمة عنيدة بعض الشئ لكنه يحبها , فهو فى هذه المرة قد بلغ حقيقة القمة , فلا يشعر فى نفسه بتلك الحاجة الملحة إلى الارتفاع أعلى من ذلك وإلى التغلب , ويجب أخيراً أن يكون سعيداً. لكنه قال لصديق هنأه : "إن ذلك الأمر جاءنى متأخرا عشرين سنة , فأعطنى عمرك وصحتك" , وسمع وهو يتمتم : "السلطة ! إنها جاءت متأخرة ! كان زمن إذا ما استيقظت فيه أشعر أنى قادر على قلب العروش والحكومات , وقد انقضى هذا الزمن" . كان دائما شديد الإعجاب بالشباب , على أنه أضاع شبابه , لأن النقطة التى ابتدأ منها واطئة , واحتاج الأمر إلى أربعين سنة كى يصل إلى المستوى الذى ابتدأ منه بيل وجلادستون أو مانرز , وهذا سوء حظه فى نشأته وهو أصعب أنواع سوء الحظ لأنه أبعدها عن العدالة , والآن قد جاء هذا الأمر متنأخراً , ولم يكد يصل إلى الوزارة حتى أخذ جسده العتيق من نواحى مختلفة , فقد جاء النقرس فهو يذهب إلى البرلمان فى نعله المنزلى , وحل به ضيق التنفس فهو لا يتكلم إلا بصعوبة , ولم يبق حوله من يعنى به غير كورى مونتاجو الوفى , وليس للمجد من قيمة إلا أن يقدمه قربانا لمن يحبه , فما يعمل به , وهعو فى غير وقته , "ربما كان الراجح أن أكون سعيدأً , لكنى لا أستطيع إلا أن أقول لك الحقيقة . . . إنى متعب حتى أكاد أموت وإنى أتعس حقا . . . ولا أعتقد أن هناك مخلوقاً فى العالم أكثر تعاسة منى , إن الثروة والنجاح والمجد , بل السلطة قد تزيد من السعادة لكنها لا تستطيع خلفها , فالحب وحده هو الذى يخلق السعادة , وإنى وحيد وليس لدى ما يؤازرنى إلا أحيانأً القليل من العطف المسجل على الورق , وذلك مع الشح , فتلك حياة فظيعة تكاد لا تحتمل" . فما هى اللذة الإيجابية التى قد تمنحها السلطة ؟ هنالك نوع واحد هو أن كثرة الأعمال تسمح بالنسيان , لكن أية مضايقات أيضاً ! إذا سافر فى السكة الحديدية وجد فى كل محطة جمهوراً متحمساً يصيح : "هذا هو" , والأطفال الصغار الذين يمرون خلفه ويقفون وأفواههم مفتوحة أمام المكان المخصص له , والفتيات اللاتى تطلبن توقيعات , وجمعيات الموسيقى على أبواب الفندق . . آه ! حقا إن دزرائليى لم يخلق لمثل هذه الشهرة الشعبية . ففى ذات يوم بينما هو ينتظر القطار فى سويندون وهو يمشى جيئة وذهابا على الرصيف فى بطء تقدم إليه أحد السمافرين من رجال التجارة , وفى لهجة الود قال له فجأة : "لقد ظللت عشرين سنة أعطيك صوتى يا مستر دزرائليى وأحب أن أصافح يدك" , فرفع دزرائليى عينيه المتعبتين وهز رأسه قائلا : "إنى لا أعرفك" واستأنف المسير , لو كان مستر جلادستون فى مثل هذه المقابلة لضغط على يدى الرجل وقيد الحادث فى مذكراته , لكن فى مستر جلادستون حماسة الحطاب القوى , وهذا الكهل المريض متعب , ولا يزال النماس يرددون عباراته , لكن لهجتها تغيرت , ولا تكاد تتبين فيها رائحة التهكم , وهو مغمور فى بحر من الحزن , فقد سئل ذات مرة : "هل أنت فى صحة تامة يا مستر دزرائيلى" , فأجاب لن تجد أحدأً فى صحة تامة . . ." وإذا سألته ربة بيت عما يجب أن تفعله للترفيه عنه أجاب : "دعينى أعيش" . لم تبق فى هذا الجسد الهزيم غير شهوة واحدة هى حبه لما هو ضرب من الخيال , فعندما يكون وحيدأص مرغماً بآلامه على السكوت وعدم الحركة وغير قادر حتى على القراءة يفكر فى لذة الفنان فى مغامراته العجيبة , فهل فى قصص ألم يحقق حتى فى التفاصيل أحلام ذلك الطفل الصغير الذى كان يتمدد تحت الأشجار فى الحديقة الإيطالية , وقد حافظ على ميله إلى قصص الفروسية وعوائدها , كانت اجلترا الشباب لا تزال تحيا فى هذا القلب العجوز . ففى وسط هذه الجدات , كما قال سفير روسيا على سبيل السخرية كان يعتقد أنه فى محكمة ملكة الجمال , وقد ضم صاحباته فى محفل ويمنح التى تنتخب فيه دبوساً فى شكل نحلة . حقيقة إن هذا المحفل مؤلف أكثره من الجدات مثل لادى شسترفيلد ولادى برادفورد , لكن انضمت إليه بعض الفتيات أمثال الأميرة بياترس بعد استئذان الملكة , ولا شك أن الرئيسة العظمى لهذا المحفل هى الملكة , ولم يكن يدعوها بلقب الملكة وإنما بلقب الملاك . فى أوزبورن نرى الظلال الخضراء تريح العيون بعد ضياء السفر , فمن القصر يرى الخليج الأزرق تظهر فيه الشراع البيضاء , لا يكاد يجد الزائر العجوز لحظة للجلوس فى غرفته حتى تطلبه سيدة المكان العظيمة فينزل إليها وتقابله فى فرح كبير , حتىلا ليخيل إليه لحظة أنها ستعانقه , وقد افتر ثغرها بالابتسام حتى لتظهر كأنها شابة يكاد يعود إليها الجمال وهى تتناغى وتنتقل فى الغرفة كالعصفور , وهى سعيدة إذ عاد إليها وزيرها وهو الوحيد الذى يبعث الثقة فى نفسها , فقد عاشت الملكة حياة صعبة , فكانت مكروهة , مكروهة جداً , ورأت أهل لندن يديرون ظهورهم إلى عربتها فى الشوارع , وذلك أولا بسبب لورد ملبورن , ثم من بعد بسبب البرت المسكين الذى لم يغتفر له الشعب جنسيته الألمانية , ثم صار الناس ينتقونها لحدادها , ولم يدافع عنها أحد وزرائها , فإن جميع هؤلاء الأحرار يغارون من العرش و لكن مستر دزرائليى يرى رأى الملكة فى الملوكية , وهو بلا ريب لا يرغب فى أن تعارض الملكة إرادة البرلمان , لكنه يرى أن حكمة شاهد دائم غير متحيز وتجاربه توجد تواناً ثميناً فى سفينة الإمبراطورية , ويحسن مستر دزرائليى الإعراب عن تلك الآراء التى تشعر بها الملكة دائما ! "فكر فى أنك مصاب بالنقرس , ولابد أنك تتألم فلا يجب أن تظل واقفاً , اجلس على كرس" . ظل مستر دزرائيلى مأخوذاً بهذا التعطف الذى لم يسبق له مثيل , فلم يجلس أحد فى حضرة الملكة من قبل , وقد قص له لورد دربى فيما مضى كبرهان على شفقتها الكبيرة أن الملكة رأته ذات مرة فى شدة المرض فقالت له : "إنى آسفة حقاً بأن الرسوم لا تسمح لى بأن أطلب منك الجلوس" . تذكر مستر دزرائيلى هذه الأمور وتنهد تنهد الارتياح لكنه رفض , فهو يستطيع أن يظل واقفاً وتزداد الملكة عطفاً , فهى تفتح له قلبها فى جميع الموضوعات , وحيث إنها تعرف فيه الفضول فهى تطلعه على رسائلها السرية جدا . وتكلمت بلا توقف فهى تتكلم كمارى آن وكما تستطيع النساء أن يتكلمن , لكنها قد ارتفعت كثيراً فىة نظر دزرائيلى من الوجهة العقلية , فهى حقاً عاقلة وتحكم حكما صائباً دزرائيلى أن يكون لإنجلترا ملكة لا ملك , كان الحديث فى العشاء لذيذاً وحياً , ولم يشعر دزرائيلى فى حياته بأنه أقل خجلاً منه الآن وهو يقول ما يجب أن يقال فى أحسن عبارة , واعتقدت الملكة أنها لم تر مخلوقاً مسلياً مثله , وقد سحرت بالبساطة الجريئة عندما سألها وهى جالسة إلى المائدة : طأحقاً يا سيدتى أن لورد ملبورن كان يقول لك افعلى هذا ولا تفعلى ذاك ؟ " , وأحياناً عندما يكونان على انفراد تصير مدائح الوزير منمقة وتكاد وتكاد تكون مباشرة , لكن الملكة تلتمس له العذر إذ تذكر فيه الدم الشرقى , والملكة تحب الشرق وتسر إذ ترى خلف مقعدها خادما هنديا وعلى رأس أملاكها هذا الوزير الأعظم الذكى الفؤاد الفياض العاطفة . صرت تدعوه فى كل مكان , وطلبت إليه أن يزورها فى قصر بلمورال باسكوتلنده حيث المعيشة أكثر بساطة وأقرب إلى الطبيعة و لكن للأسف كثيراً ما يكون الضيف مريضاً والرحلا الطويلة تتعبه , فترسل الملكة طبيبها سير وليم جنر إلى غرفة مستر دزرائيلى , ويصير ويليم على أن يلازم الوزير الفراش , وتذهب الملكة فى الصباح لتراه , ويكتب للادى شستر فيلد : ماذا ترين فى وزير يقابل مليكته فى نعل منزلى وفى معطف البيت" , وعندما تراه فى هذا الضعف تأخذها عاطفة الأمومة , وصارت العلاقات بينهما إنسانية , فهى تتكلم عن ألبرت وهو يتكلم عن مارى آن , فالوزير والملكة وجدا فيما مضى سعادة فى الزواج , وهذه أربطة أخرى تربطهمما , فإذا ما عاد إلى لندن جاءه صندوق مملوء بالأزهار : "يقدم مستر دزرائيلى فروض التحية لجلالتك . لقد وصله أمس فى هوايتهول صندوق ذو منظر رائق , فلما فتحه ظن فى مبدأ الأمر أن جلالتك أهديت إليه أوسمة , وقد استولى عليه هذا الخيال حتى إنه كان مدعواً فى المساء إلى حفلة يحمل فيها الناس الأوسمة والشرائط , فلم يستطع أن يقاوم الإغراء بأن يضع بضعة من الزهور البيضاء على قلبه ليظهر أنه أيضاً قد زينت صدره ملكة كريمة . "ثم منتصف الليل تسلطت على عقله الفكرة بأن هذا سحر , وأن تلك هبة من عالم آخر جاءت من ملك آخر , وأن تيتانا ملكة الجن جمعت أزهاراً هى وأهل حاشيتها فى جزيرة رائعة الحسن , وأنها ترسل تلك الأزهار السحرية التى على ما يقال تسلب عقول أولئك الذين يتسلمونها" .

5- العمل

"إن التفكير سهل , لكن العمل صعب , والعمل وفاقا للتفكير هو أصعب الأمور فى العال" "جوته" فى البلاد القوية التنظيم ذات الثقافة القديمة السليمة لا يقبض الرجل على السلطة , بل تقبض عليه السلطة , فرجل مثل بونابرت وجد الميدان خالياً بعد الثورة , يستطيع أن يفرض نوعاً من العقلية على أمته مدة قرن كامل , لكن رجلا مثل دزرائيلى رئيس وزارة انجلترا لا يتحرك إلا فى حدود ضيقة , وتفرض الحوادث أعملا يومية , وكثيراً ما تكون هذه الأعمال غير مرغوب فيها , ثم تمر الأيام فى إصلاح اخطاء أحد الأغبياء أو النضال مع صديق عنيد , وليس ثمة فائئدة من وضع مشروع واسع , وقد عاش الرجل وقتا كافياً لكى لا يتجاهل هذه الحقيقة. فمنذ الأيام الولى لوزارته اضطر الأساقفة والملكة أن يدافع عن مشروع قانون للقضاء على "الريتواليزم" أى القضاء على اقتباس الطقوس الدينية لكنيسة روما فى الكنيسة الانجليكانية , فيحاكم رجال الدين إذا آلم بريق ثيابهم الدينية أو زينة مذابحهم أعين البروتستانت , ويجزع دزرائيلى جزعاً شديداً من التشريعات الخاصة بالكنائس , فهو كبير العلم بما تثيره من المنازعات القوية , ففى دائرة هوجندن الدينية على صغرها حرب أهلية بين أولئك الذين هم أنصار جمع ما يجود به المصلون من النقود على صفحة غير مغطاة , وأنصار جمعها فى صندوق "فصديقى راعى الكنيسة يعمل ما أسميه أنا جمعاً للإحسانات وما يسميه هو قربنا ويضع ما يجمعه على ما يسميه مذبحاً وما يسميه المترددون على الكنيسة مائدة" لكن الأساقفة يصرون وتتدخل الملكة , "وإن رغبتها القوية هى أن يذهب مستر دزرائيلى إلى أبعد ما يستطيعه دون أن يضع حكومته فىمصاعب . . ." فكان على رئيس الوزارة أن يمضى الأسابيع الأولى من حكمه فى تعديل مشروع يراه غير مناسب ثم الدفاع عنه و ومع ذلك كانت هذه الإجراءات التى لا يوافق عليها مما زاد فى محبة الجمهور له , حقاً إن الحياة لجنون . لكنه لم يكن يرغب فى أن يقرن اسمه بإجراءات المنع , بل هو يريد على العكس من ذلك أن يكون وصول حزب المحافظين إلى الحكم مقترنا بسياسة كريمة , فالآن قد حان لنقل آراء كوننجسبى وسبيل إلى أعماله , وتتابعت القوانين : المساواة فى الواجبات بين أصحاب العمل والعمال, والتوسع فى حقوق نقابات العمال , وتخفيض ساعات العمل إلى ست وخمسين ساعة فى الأسبوع , والعطلة من ظهر يوم السبت , ثم عدة من القوانين الصحية , فكان يقول : "إن شعار الحزب يجب أن يكون سلامة الجسد ونفاذ البصيرة نحو الأشياء جميعها" . وكان خصومه يقولون : "تلك سياسة رجل المجارى" . قامت لدى رئيس الوزارة منذ شبابه فكرة أخرى لازمته حتى تولى الحكم هى فكرة الإمبراطورية , أن إنجلترا لا يمكن اعتبارها بعيدة عن مستعمراتها , وقد اقترح منذ عشرين سنة على دربى أن يوجد نواباً عن المستعمرات , ويخلق البرلمان الإمبراطورى , وتغنى فى شعره منذ أربعين سنة بأن السلطة الاتحادية هى روح المستقبل , ففى كل مرة يقول فيها أحد النفعيين : إن المستعمرات ولا سيما الهند هى حلى غالية الثمن للتاج , وإنه من المأمول فيه التنازل عنها , كان يقف ليذكره بأن إنجلترا ليست شيئاً مذكوراً إن لم تكن مركزاً لإمبراطورية عظيمة استعمارية , وأن المقاومين للاستعمار وهم لا ينظرون لغير النتائج المالية يهملون الاعتبارات السياسية التى تجعل وحدها الأمم عظيمة . كان لديه برنامج لتنظيم هذه الإمبراطورية وهو الاستقلال الذاتى للمستعمرات مصحوباً بتوحيد الرسوم الجمركية للإمبراطورية , وهذه السياسة جديدة جداً , وفيها جرأة كبيرة حتى إنه ليس من الممكن تنفيذها , لكنه ينتهز فرصة ليشرح شعوره والأهمية التى يعلقها على الطرق الإمبراطورية . فى 15 نوفمبر سنة 1875 جاء صحفى اسمه فردريك جرينوود ليقابل لورد دربى فى وزراة الخارجية , وكان قد تعشى فى اليوم السابق مع أحد رجال المال الذبن يعرفون مصر جيداً , وعلم أن الخديوى يريد أن يرهن المائة والسبعة والسبعين سهما التى يمتلكها من أسهم قناة السويس لاحتياجه إلى المال , وأسهم قناة السويس جميعها تبلغ أربعمائة ألف أكثرها فى أيدى رجال المال من الفرنسيينكان جرينوود يرى أنه من صالح إنجلترا أن نحصل على نصيب الخديوى , لأن القناة هى طريق الهند , ولم يظهر دربى تحمساً كبيراً , فهو يخشى المشروعات الكبيرة واشتعل الخيال فى رأس دزرائيلى فأرسل برقية إلى الممثل الإنجليزى فى مصر , ومنه علم أن الخديوى قد وعد بالبيع جماعة من الفرنسيين لقاء مبلغ اثنين وتسعين مليونا من الفرنكات , وحدد للصفقة يوم الثلاثاء التالى , والخديوى يرغب فىأن تكون الصفقة لإنجلترا , لكنه فى حاجة إلى المال فى الحال . وكان البرلمان الإنجليزى فى غير دور الانعقاد , وليست أربعة ملايين من الجنيهات بالمبلغ الذى يمكن أخذه من الميزانية بدون موافقة , وكتب دزرائيلى للملكة يقول : "ليس لدينا الوقت للتنفس , لكن يجب اقيام بهذا العمل" . لم تقم الحكومة الفرنسية عراقيل بل العكس من ذلك كان الدوق ديكاز يأمل كثيراً فى تأييد دزرائيلى لمقاومة بسمارك , ولم يشجع المصارف الفرنسية فتنازلت عن حقها فى الشراء , لكن من الواجب تدبير الملايين الأربعة من الجنيهات , ففى اليوم الذى تناقش فيه مجلس الوزراء كان مونتاجو كورى ينتظر فى الغرفة الخارجية , وأخرج الزعيم بعد أن فتح الباب قليلا وقال كلمة "نعم" , وبعد عشر دقائق كان كورى لدى روتشيلد فوجده على مائدة الطعام , فقال له : "إن دزرائيلى فى حاجة إلى أربعة ملايين فى اليوم التالى" . كان روتشيلد على وشك أن يأكل عنباً فالتقط واحدة وتفل القشرة , وسألى : "ما ضمانتك ؟" فقال : "الحكومة البريطانية" فقال روتشيلد : "ستكون لديك" . مستر دزرائيلى يقدم أكبر واجبات الخضوع لجلالتك . . . لقد تم هذا العمل , وصارت لديك يا سيدتى أربعة ملايين من الجنيهات ! وفى الحال ! لم يكن هنالك إلا محل واحد يستطيع هذا العمل هو مصرف روتشيلد , لقد سلكوا خير مسلك فقدموا المال بفائدة بسيطة جداً , وصار نصيب الخديوى فى يديك يا سيدتى" . سرت الملكة سروراً عظيما , فلم يرها دزرائيلى فى حياته فرحة مثلها فى هذا اليوم , واحتجزته للعشء , وأظهرت له الآلاف من علائم الرضا والرعاية , ومما فرحت له بنوع خاص تفكيرها فى غضب بسمارك الذى أعلن قبل أيام فى عجرفة أن إنجلترا لم تعد قوة سياسية . فلامتناع إنجلترا فى عهد جلادستون وهزيمة فرنسا فى الحرب اعتاد المستشار الألمانى أن يمثل دور السيد فى أوروبا , وعادت لإنجلترا من جديد مع دزرائيلى سياسة خارجية , ورغبات يجب أن تحترم . وفى سنة 1875 عندما هدد بسمارك البلجيك ثم حذر فرنسا كتب دزرائيلى إلى لادى شسترفيلد يقول : "إن بسمارك هو فى الحقيقة بونابرت عجوز آخر , ويجب أن يلجم" , وتكلم عن ذلك مع الملكة التى وافقته وعرضت عليه أن تكتب لإمبراطور روسيا , وعملت إنجلترا وروسيا فى برلين معاً , وتراجع بسمارك , وصادفت عودة إنجلترا للاهتمام بالشئون الأوربية نجاحا , وست الملكة سروراً عظيما , فهى تشعر أنها قوية جداً إذا كان دزرائيلى على رأس الحكومة . على حين فجأة طلبت لقب إمبراطورة الهند , أثيرت هذه المسالة من قبل سنة 1858 عندما ضمت الهند إلى التاج بعد تمرد الجنود الهندية , وكان دزرائيلى من أنصار الفكرة من حيث المبدأ , لكن سنة 1875 لم يكن الوقت ملائماً ويعرف دزرايلى أنه ستنسب هذه الفكرة البعيدة عن الآراء الإنجليزية إلى ذوق رئيس الوزارة وميله إلى البريق الشرقى , وقام بمحاولات عديدة كى تصبر الملكة بضع سنوات , لكن عبثاً يحاول , واضطر لتقديم مشروع قانون . كانت ضجة الرأى العام كبيرة فالإنجليز لا يحبون التغيير , والملكة هى دائماً الملكة لديهم , فلماذا لا تستمر كذلك ؟ قال المطهرون إن لقب الامبلراطور يذكرهم بصور الفتوحات والاضطهادات , بل الفسق , ووزعت نشرات منها واحدة بعنوان : "كيف أن "بن" صاحب الفندق استبدل اسم فندق الملكة بفندق الامبراطورة شركة محدودة , وماذا كانت النتيجة ؟ " وأخرى بعنوان ديزى بن ديزى ـ أو يتيم بغداد" . ووجدت السفارات هذه القصة مضكحة , وكتب القائم بأعمال سفارة فرنسا : "إن هى إلا خيال الفنان , ورغبة منشئ الملوك لدى ديزى , ونزعة الدعى لدى الملكة فهى تعتقد أن مكانتها تزيد ,وأن اطفالها يبلغون مركزاً أكبر باللقب الامبراطورى , لكن فى رأيى أن من الخطأ الكبير رفع الستار الذى يجب أن يظل مسدلا على أصل نشأة التاج , وهذه الأمور يجب أن تبقى بعيدة عن العبث , فقد يولد الشخص إمبراطموراً وملكاً , لكن من الخطر أن يصير كذلك" . كان على دزرائيلى ان يبعث الثقة فى نفوس جميع الناس , ولاحظ فيما يتعلق بالذكريات السيئة التى يوحيها لقب الإمبراطور أن العصر الذهبى للإنسانية كان عصر آل أنطونيوس , وسيحتفظ بلقب الملكة فى إنجلترا وفى جكيع الوثائق التى تتعلق بأوروبا , وفقط فى الوثائق التى تتعلق بالهند وفى أوامر ترقية الضباط الذين قد يدعون إلى الخدمة فى الهند . يضاف بعد "حامية العقيدة" لقب "إمبراطورة الهند" , كانت الملكة متألمة جداً للمعارضة التى يلقاها قانونها , وبخاصة للحملات الشخصية على عزيزها مستر دزرائيلى بسبب رغباتها , لكن ذلك لم يزدها إلا تعلقاً به . ولما حصلت أخيراً على لقبها كتبت إليه رسالة شكر وقعتها :"فيكتوريا الملكة والامبراطورة" وهى فرحة كالأطفال , ثم قامت الإمبراطورة الجديدة حفلة عشاء ظهرت فيها على غير عاداتها مزدانة بالحلى الشرقية التى أهداها إليها أمراء الهند , وفى آخر العشاء خرق دزرائيلى حرمة التقاليد عمداً بأن وقف ليشرب نخب إمبراطورة الهند فى خطاب قصير منمق كقصيدة فارسية , وبلدلا من أن تندهش الملكة أجابت بإحناء رأسها قليلا مع الابتسام , وكأنها تنحنى له احتراما . هكذا سارت السفينة السياسية وهى تهتز على أمواج الأقدار والجو , ورضاء مجلس النواب , ونزعات الملكة , وهى تقاوم البحر , لكن ربان السفينة مريض جداً , ساءت صحته حتى إنه أعرب الملكة عدة مرات عن أمله فى ترك الحياة السياسية , وذلك ملا ترغب فيه بأى ثمن , واقترحت عليه أنه من السهل أن ترفع رئيس الوزارة إلى مجلس اللوردات "حيث المجهود أقل , ويستطيع أن يدبر كل شئ" , وقبل فى هذه المرة واتخذ الاسم الذى أعطاه من قبل لمارى آن , وهو اسم بكونسفيلد , ولكنها كانت فيكونتة أما هو فصار فيكونت هوجندن دى هوجندن وأيرل بكونسفيلد , وقال جلادستون فى سخرية عندما سمع بتلك الطفرة لشيطان السوء : "لا أعفو عنه إذا لم يطلب لقب دوق" . تجنب منظر وداع قد يكون مؤثراً , لكنه بعد عن حسن الذوق , تكلم فى مجلس النواب فى الليلة السابق لإعلان القرار , وكتم السر جيداً , ولم يفكر النواب بأنهم لن يسمعوا زعيمهم بعد الآن , وعندما انتهت الجلة قطع القاعة فى تمهل وذهب إلى نهايتها نحو الحاجز , وهنالك استدار قليلا وظل قليلا يرقب المقاعد والشرفات والمكان الذى ألقى منه خطبته الأولى , ومقعد الوزارة حيث كان يرى جسد بيل الضخم ووجهه الجميل , ومقعد المعارضة الذى كثيراً ما احتله هو نفسه طويلا , ثم عاد ومر أمام مقعد رئيس المجلس , ثم خرج وهو ملتحف معطفه الكبير الأبيض , ومستند إلى ذراع سكرتيره , وقد مر به شاب فرأى الدموع في عينيه دون أن يفهم السبب . وفى اليوم التالى عندما بلغ النواب الخبر لدى افتتاح الجلسة تألفت منهم جماعات صغيرة وهى متأثرة , وكان الجالسون على المقاعد يتكلمون فى صوت منخفض كأن فى القاعة نعشاً , وكتب إليه وليم هارت دايك يقول : "لا أستطيع أن أتصور إلى أى حد سيكون التغيير عظيما فكأنه غادرته الفروسية وما فى السياسة من لذة , ولم يبق إلا العمل على زتيرة واحدة" , وهذا شعور المجلس بأكمله فإن تلك اللذة التى يجدها هذا الكهل فى لعبة الحياة تصور بكل الذين من حوله ولا يعرف الانسان معه ما يأتى به الغد , لكنه يثق على الأقل بأنه لا يكون مملا "فهو قد اصلح ما فى الحياة السياسية من ملل عظيم" , وأدى وجود هذا الفنان الكبير فى الحياة إلى أن صارت المساجلات السياسية فناً , فهو لم يك وحده ذكيا بل يجعل الآخرين أذكياء" , ومنذ تولى السلطة فرض المجاملة على الجميع واحترام الشكليات , فكان إذا قطعه أحد من أنصاره التفت نحوه ونظر إليه نظرة تدل على عدم ارتياحه , ويرى فى مناقشته للمسائل المالية نوعاً من المبارة ويحمل الآخرين على أن يروا ذلك . كتب إليه مانرز : "إن رحيلك هو عندى نهاية كل اهتمام شخصى بالحياة فى مجلس النواب" . وكتب سير وليم هاركوت : "بعد الآن سيصير اللعب كالشطرنج إذا مافقد الوزير فهو نضال حقير بين الجنود" وقد تمثل بكلمة مترنيخ عند وفاة نابليون فى ختام رسالته : "ربما تظنون أنى سعيد لعلمى بموت أكبر خصم لسياستى , إنى لأشعر بعكس ذلك فقد شعرت بالأسف , إذ لن أتصل أبداً بهذا الذكاء العظيم" . وكتب آخر إليه : "واأسفاه ! . وا أسفاه ! . لن ترى أبداً لك مثيلا , لقد انتهت أيام الجبابرة" . ما افتتحت الملكة دور الانعقاد البرلمانى بعد ذلك بقليل رؤى إلى جانبها شخص غريب وهو لا يتحرك , وهو فى ثياب قرمزية مجللة بفرو "الأرمين" ذلك هو اللورد بكونسفيلد الجديد , وجاءت أجمل النبيلات لرؤيته وهو يتخذ مقعدع , كان دربى وبرادفورد هما اللذان تقديمه , وفى هدوء كامل انحنى وشبك يديه ورفع قبعته كما تقضى المراسيم بذلك , وحيث إنه صار زعيما لمجلس اللورات فى اليوم ذاته الذى دخل فيه هذا المجلس فإنه اضطر للكلام فى جسته الأولى , وكان قد كتب فى سن الخامسة والعشرين فى رواية الدوق الصغير يقول : "شئ واحد لا شك فيه , هو أن هناك أسلوبين مختلفين فى مجلس النواب ومجلس اللوردات , وإذا أتيح لى الوقت فى حياتى سأعطى نموذجا من الأسلوبين , ففى المجلس الأدنى يجب أن اتخذ قصيدة دون جوان نموذجا , وفى المجلس الأعلى أتخذ قصيدة الفردوس المفقودة" أخطأ فى التشبيهي , وقد مر بعض الوقت فى مجلس النواب قبل عدوله عن طريقة بيرون , إلا أنه بعد خبرته لم يتبع أسلوب ملتون قط فى كجلس اللوردات وهناك فارق حقا , لكنه دقيق لا يمكن التعبير عنه بسهولة كما ظن فى شبابه , على أنه عبر عن هذا الفارق بفن تام حين قال عند خروجه من أول جلسة : "لقد مت حقاً لكننى لا أزال شبحاً فى مرتع الأرواح" .

6- فظائع

"إنك تذكرنى ببعض الانجليز تحررت أفكارهم كلما ازدادوا تمسكا بقواعد الأخلاق" "جيد" فى يوليه سنة 1875 ثار بعض الفلاحينفى البوسنة والهرسك على الأتراك الذين عاملوا رعاياهم من غير المؤمنين معاملة الكلاب , كان الحادث فيما يظهر بسيطاً لكنه تضخم , وعجب الناس لضعف الباب العالى , وكأن جمع ألفين من الرجال وإرسالهم إلى البوسنة يحتاج إلى رجل حربى ذى مواهب وهو غير موجود بينهم , ثم إن الأموال شحيحة , وأمام سكون الأتراك نهض النشاط الروسى وتألفت فى جميع القرى البلقانية عصابات سرية لمقاومة الأتراك نظمتها الأخوة الروسية الأرثوذكسية لسيريل وميتود , وتدفع الروس قوتان إحداهما عاطفية , فهم إخوان فى الجنس ولحد كبير فى الديانة للبغار والصرب والرومانيين , والأخرى سياسية , فهم فى حاجة إلى منفذ للبحر الأبيض , ويأملون فى ذلك إما بالاستيلاء على القسطنطينية والمضايق , وإما بتحرير البلغار والصرب الذين يؤلفون عندئذ إمارات تحت حماية الفرس . لم يكن دزرائيلى يخشى شيئاً فى العالم خشيته من وصول الروس إلى البحر الأبيض . فالقاعدة الأولى فى السياسة الإنجليزية لديه هى المحافظة على حرية المواصلات مع الهند واستراليا , وهذه المواصلات لا تحقق أرضاً إلا عن طريق تركيا الصديقة , وفى البحر عن طريق قناة السويس , وهى طريق من السهل مهاجمتها إذا صارت الولايات التركية فى آسيا فى يد دولة معادية , ودور الروس فى هذه المسألة يبدو مريباً جداً , وقد تكون لهم أغراض واسعة وخطرة , فمن الواجب السهر منذ البداية , ويذكر دزرائيلى جيداً ابتداء حرب القوم , وكيف أن رجلا مسالماً هو اللورد ابردين انساق إلى الحرب بسبب خوفه من الحرب . فالطريقة الحقيقية لضمان السلم هى الدقة فى تحديد خط لا يمكن التراجع بعده . فعندما ثارت بلغاريا بعد البوسنة , وعندما طلبت روسيا وألمانيا والنمسا إلى انجلترا أن توقع معهن مذكرة شديدة اللهجة إلى تركيا , رفض رئيس الوزارء هذا الطلب , إذ كيف تساعد اجلترا فى القضاء على دولة لإنجلترا صالح فى بقائها وتتعاون مع جورتشاكوف العدو الاسفر وبسمارك الصديق الذى لا يعتمد عليه ؟ إن الخطة الصريحة هى خير ما يتبع وكتب إلى لادى برادفورد : "مهما يكن الامر فإنا لن نساق إلى الحرب فى هذه المرة , وإذا خضنا حرباً فذلك بغرادتنا وأن لنا غرضاً نرمى إليه , لكننى أرجو أن تتذرع روسيا بالحكمة وهى العامل المحرك وهى العامل المحرك لهذا الحادث وأن يسود السلم" . وجدت السياسة الحازمة التى اتبعتها الحكومة تأييداً من الرأى العام , ولزمت المعارضة نفسها من الأحرار الصمت , وإذا بجريدة "الدبلى نيوز" وهى جريدة تتحرى الأخبار جيدأً , وهى مخلصة لجلادستون , تنشر مقالا مليئاً كله بتفصيلات عن فظائع ارتكبها الأتراكفى بلغاريا : أطفال ذبحوا , ونساء هتك أعراضهن , وفتيات بعن بيع الرقيق , وعشرة آلاف مسيحى سجنوا , وهذا ما عمله أصدقاء رئيس اوزراء وحلفاؤه . قرأ دزرائيلى هذه القصة المؤلمة فى سخرية وعدم ثقة بها , ولم يكن قد تسلم أى تقرير من سفيره , ورأى مصلحة جلادستون وأصدقائه فى المبالغة فى الوقائع , وهو مبدئيا لا يصدق هذه الفظائع ,وحدث من قبل فى أثناء ثورة الجنود الهندية أنه أظهر شجاعة كبيرة فى الوجه الرأى العام , إذ ناشد الناس بأن ينقدوا الأخبار , ورفض أن يغضب قبل التحقق , وهو رجل لين ليست له شهوات قوية غير الطموح , فهو لا يصدق بسهولة القسوة المتعمدة وشهوة ارتكاب الشرور , وفى أثناء سياحته فى تركيا تعشى مع البشوات ودخن معهم النرجيلة , ولم يشاهد هؤلاء الرجال الوادعين يقتلون الأطفال , ومن المحتمل أن ترتكب بعض العصابات غير النظامية فظائع , لكن الثائرين أنفسهم ليسوا رفقاء جداً وهو شديد الكراهية "لحركات الرأى العام" , فكان مجرد الكلام عن الشعوب المضطهدة يشعره بالرياء , ويرى نفسه هو مضهداً . عندما أثيرت هذه المسألة فى مجلس النواب أجاب بأنه يرجو حفظاً لكرامة الطبيعة البشرية أن تأتيه أنباء يستطاع الوثوق بها تدل على المبالغة فى هذه الأخبار , "إنى لا أشك فى أن فظائع ارتكبت فى بلغاريا , لكنى أشك فى أن الفتيات بيعت كالرقيق , وأن أكثر من عشرة آلاف شخص ألقوا فى السجون الواقع أنى لا أعتقد أنه يوجد أماكن فى السجون التركية لمثل هذا العدد , ولا أظن أن التعذيب استعمل استعمالا كبيراص لدى شعب شرقى يقضى على علاقاته مع المذنبين دائماً بطريقة أسرع من ذلك" . لكن تجارب ديزى كانت فى هذه المرة لأسف خاطئة والقصة حقيقية , واستيقظ السفير فجأة على الضجة التى قامت فى إنجلترا فاستعلم عن الوقائع وأيدها وهاج الرأى العام , فهل يقبل بأن يبعد رئيس الوزارة أشباح هذه الضحايا بعبارات الاستخفاف ؟ لعن دزرائيلى وزارة الخارجية التى أمدته بمعلومات خاطئة , وأمل فى أن تهدأ العاصفة , فما يدعو للأأسف الشديد أن تحرق القرى البلغارية وتنتهك حرمةالفتيات , لكن هل هذا سبب للعدول عن سياسة قديمة وحكيمة ؟ كان جلادستون فى ذلك الوقت فى هاواردن , وقد كتب من قبل إلى صديقه جرانفيل وهو فى سن السبعين أنه بعد خمسين سنة قضاها فى الخدمة العامة له الحق الآن فى اعتزال الخدمة , لكنه منذ ذلك الحين "كثيراً ما عاد من جزيرة "إلبا" ويجده دزرائيلى أمامه فى كل طريق منتصباًَ كمارد يقذف النار من فيه , ليس ذلك لأنه لم يكن مخلصاً فى رغبته فى الراحة لكن الشرير السلطة يدعوه إلى العودة بالرغم منه , وحاول عبثاً أن يبعد أفكاره عن تلك الفضيحة التى لا تحتملها دراساته الدينية والهومرية ,وكلما زاد تفكيراً كلما بدا له أن شر مساوئ هذا الزمن هو فقد الشعور بالخطيئة , فهو يقول فى بطء : "نعم . إن الشعور بالخطيئة هو ما ينقص الحياة الحديثة" , وقد عاد لتلاوته مؤلفات بعض الكتاب عندئذ فلم يجد بينهم واحداً أعرب بقوة كافية عن كراهيته للرذيلة , فولتر سكوت مثلا صديق لبيرون . وقد لاحظ زائر من الشبان فى تردد أن الروائى بالمهنة يجب أن يفهم كل شئ , وإذ ذكره بكلمة مدام دى ستيل "إن فهم كل شئ يؤدى إلى العفو عن كل شئ" هز جلادستون رأسه وقال : "لا تضعف شعورك بالخطيئة" . كان شعوره بها حاداً لم يثلم , فما وجد قصة الفظائع فى بلغاريا بين يديه حتى شعر فى سورة الغضب التى طغت عليه ضد الأتراك والانكشاريه واللورد بكونسفيلد الجديد أن ذلك من أصلح الموضوعات لإبداء الاستياء الشديد القائم علىالحق , فأى موضوع أصلح من ذلك للإيحاء إليه ؟ شعوب فى الأغلال , ومساجين فريسة للكفار , ومن وراء هذه الظلمات ذلك الكافر الكبير والممثل المحزن المضحك , هذا الرجل الذى سمم الرأى العام ونشط من غير مبالاة الأنانية الوطنية كى يرضى أنانية نفسه , كان البرلمان فى عطلة وقد أصيب جلادستون بعرق النسا فلزم الفراش وظلت فأسه بلا عمل ترتاح فى ساحة البيت , فأخذ يؤلف رسالة وكان عنفها فى العبارة بارزاً : "تلك الوحشية والشيطانية . . . الأتراك نوع من أ،واع البشرية عديم الإنسانية . . . لا يستطيع مجرم من سجوننا أو أحد أكلة اللحوم الآدميين من بحار الجنوب ن يسمع هذه القصة بلا غضب . . . العلاج هو إرغام الأتراك على أن يخلصونا من مساوئهم بالطريقة الوحيد الممكنة , وهى أن يخلصونا من أنفسهم , وإنى لأرجو أن ضباطهم ومديريهم وبمباشياتهم ويزباشياتهم والقائمين مقامهم وباشواتهم كل هؤلاء وأحمالهم يرحلن عن الولايات التى خربوها ودنسوها"

نجحت هذه الرسالة نجاحا عظيما وبيع منها أربعون ألف نسخة فى بضعة أيام وعقدت اجتماعات فى جميع أنحاء إنجلترا طلب فيها طرد الأتراك وفتحت اكتتابات لمساعدة تلك الحملة الصليبية , وفى ليفربول مثلت رواية عطيل فلما قيلت العبارة "لقد غرق الأتراك" وقف الحضور وصفقوا طويلا , وعصف على إنجلترا إعصار من الفضيلة , وجلادستون فى كل مكان يخطب ويكتب ويتهم الحكومة بالرغبة فى ضم مصر ويقول : "إن ديزى يؤيد تركيا الهرمة لأنه يظن أنها سوف تموت وأسطوله فى خليج بشقة , وأكاد أكون مؤقناً أنه على استعداد للاستيلاء على مصر فى أول فرصة , وقد نراه بعد ذلك دوقا لمنفيس" ولم يعد جلادستون يفكر فر غير البلغار , وصار كثيرون من الزائرون المعادين للأتراك يحجون إلى هواردن فيجدونه خلع سترته ويقدمون له الهدايا التىأحضروها : عصا ريفية أو قبضة فأس منقوشة ويحاثدهم جلادستون عن البلغار , ويغادرونه متحمسين : لا إن إنجلترا لا تقاتل فى صف المذنبين : "فليداعب رئيس الوزارة قبضة سيفه ما شاء فإن الأمة ساهرة على ألا يترك هذا السيف غمده" . قرأ بكونسفيلد هذه الرسالة , وكان رأيه فيها أنها شديدة فيها نزعة الانتقام وأسلوبها سيئ "وهذا طبعى" , وأنها شر من فظائع البلغار , وكثيراً ما يسمى جلادستون فى رسائله إلى لادى برادفورد باسم ترتوف , "فهو الضحية المتطوعة لكل أكذوبة قد توصله إلى الحكم" , وكتب إلى اللورد دربى : "ستحكم الأجيال القادمة على هذا المعتوه الذى لا مبادئ له , وهذا المزيج العجيب من الحسد والحقد الخديعة والتأثر بالأوهام , وإنه ليتميز بصفة ثابتة سواء أكان رئيساً للوزراء أم زعيما للمعارضة , وسواء أكان يعظ أم يصلى أم يخطب أم يكتب , وهى أنه بعيد عن التهذيب" . كان اللورد بكونسفيلد مصراً على أنه فى كل الأحوال لن يسلم الرأى العام , وسوف تمر الأزمة ويعود الناس إلى العقل , ومع كل فإلى أين يريد أن يصل هذا المسالم المجاهد , هل يريد إعلان الحرب على الأتراك ؟ أو الانتقام للفظائع البلغارية بمذبحة عالمية ؟ إن كراهية الجريمة ليست وقفاً على حزب واحد , وإن السماع صيحات المستائين لبيعث على الاعتقاد بأن لورد بكونسفيلد هو السلطان واللورد دربى هو الوزير الأكبر , والواقع أنه لم يشعر بأية مسئولية , فهو يستفظع المذابح ولا يؤيد الأتراك , ويود أن يراهم جميعاً فى أعماق البحر الأسود , وكل ما كان يرجوه هو أن يؤمن وحدة الإمبراطورية ومستقبل انجلترا . لم يظهر ديزى قط كراهيته للرياء كما فعل الآن , فهو يعلم أن بضع عبارات منه تدل على العطف على البلغار تخفف عبء واجبه كثيراً , لكن على العكس تتأثر بضغط الرأى العام , فقد تعمل ما يرغبونه لكنهم لا يحترمونك من أجل ذلك" , وفى يوم آخر : "لا بد من الثبات كل الثبات , فإن ما تطلبه جميع الاجتماعات العامة هو العبث لا السياسة وهو شئ غامض ونظرى ولا عملى , وبالرغم منأن انجلترا ترمى فى سياستها إلى السلم إلا أنها أكثر الأمم استعداداً للحرب فإذا خاضت الحرب فلسبب عادل , وإذا كان النضال من أجل حريتها واستقلالها وإمبراطوريتها فإنى أشعر بأنمواردهالا تفنى , فهى ليست بلاداً إذا خاضت الحرب تتساءل هل يحتمل غارة ثانية أو ثالثة , فهى تبتدى نضالاً لا تنهيه قبل أن يسود الحق" .

7- حرب ؟

رسمت مجلة بنش بريطانيا يقودها دليل ذو وجه كوجه دزرائيلى إلى حافة هاوية تقرأ فى أعماقها كلمة الحرب , ويقول الدليل : "خطوة صغيرة أخرى قريباً من الحافة" وتجيب بريطانيا التى يظهر عليها الخوف وعدم الارتياح : "لن أتقدم خطوة أخرى فإنى قريبة جداً" , كانت بريطانيا حقاً شديدة الخوف من السقوط وكانت سياسة لورد بكونسفيلد هى أن يخيف روسيا بتهديدها بحرب لا يريدها , لكن قد نضع أنفسنا تحت رحمة حجر ينزلق , بالتنزه كثيراً على حافة الهاوية . هكذا رأى لورد دربى الشاب اذلى كان يتولى وزارة الخارجية فهو يختلف كل الاختلاف عن أبيه , وهو رجل خجول وعاقل , وجموده نافع فى لحظة الخطر لكنه لم يخلق "لهذا النوع من الرقص السياسى" , وهو يكره الخيال والمواقف المسرحية , ولا يرى أى سبب لتهديد روسيا , ليس ذلك لكراهته الأتراك كجلادستون فتلك قصة أخرى لا يحبها أيضاً , ولكنه لا يعترف بأن الإمبراطورية البريطانية تصير فى خطر إذا جلس الروس على القسطنطينية , بل هو لا يعترف فى أعماق نفسه بأن الإمبراطورية البريطانية تتعرض لأى خطر قط . ليقل الزعيم : "إن ذلك نقص فى الخيال" , ليكن تجردأً عن الخيال فهو لا ييد أن يكون الخيال من صفاته , ولن يوافق على إطلاق شر قائم ومؤكد لتجنب شر المستقبل وغير مؤكد فكان يقابل جميع الإجراءات التى يقترحها بكونسفيلد بالعداء وعدم الارتياح , ولما كان اسمه كبيراً وله شهرة حقيقية بأصالة الرأى فإنه ضم إليه فى رأيه عدداً من زملائه . بينما مجلس الوزراء يحاول إيقاف المجلة إذا العجلة بالملكة تدفعها إلى الأمام فهى لا تحب روسيا قط , وكان ألبرت يقول دائماً إن الخطر يأتى من تلك الناحية وهى تعتبر نفسها مسئولة عن أمن الإمبراطورية وسلامة الطريق إلىالهند وتلقى اللوم على عاتق جلادستون ودربى , ولا تفهم ضعف الكثيرين من الرجال بينما وهى امراة على استعداد للزحف على العدو , حاصرت رئيس وزرائها بالرسائل الحربية فمن الواجب معاقبة منظمى الاجتماعات المؤيدة للروس وماذا ينتظر لتسليح الأمة ؟ "إن الملكة قلقة جداً خشية أن هذا التمهل يؤدى إلى تأخيرنا حتى نفقد مكانتنا إلى الأبد , وهذه الفكرة تقلقها نهاراً وليلا" ـ الملكة تناشد تلك العاطفة الوطنية التى تعرف أنها تملأ صدر حكومتها و وهى واثقة من أن كل عضو فى الحكومة يشعر بالضرورة الملحة لإظهار جبهة متحدة قوية أمام العدو فى داخل البلاد وخارجها , ليس الغرض تأييد تركيا , إنما المسألة تتعلق بتفوق الروس أو البريطانيين فى العالم" . وتدخلت الأميرات أنفسهن , فقد حدث أن كان رئيس الوزارة جالساً إلى جانب الأميرة مارى أوف كامبردج , فقالت له : "لا أستطيع أن أتصور ماذا تنتظر ؟ " فأجاب لورد بكونسفيلد : "ننتظر البطاطس فى هذه اللحظة يا سيدتى" استطاع حتى تلك اللحظة أن يتحرك بلا حادث فى المضيق الذى يفصل بين الملكة ولورد دربى , وهل يستطيع ذلك دائماً ؟ هل يتجنب أيضاً العقبة الثالثة وهى الأحرار الذين يكرهون عبارة "مصالح انجلترا" ويقولون : "هذه سياسة الأنانية" , فيجيبهم ذلك العجوز المستهتر : طإن فيها من الأنانية ما فى الشعور الوطنى ", ثم يقيس بنظره فى هدوء كبير عمق الهاوية , ويشعر فى ارتياح بأن الدوار لم يأخذه . أعلنت روسيا الحرب على تركيا , وأوفد القيصر الجنرال إيجناتيف فى بعثة خاصة إلى انجلترا كى يحاول الحصول على عدم باالتزام الحياد , , وكان أهل لندن جميعاً يدعون آل إيجناتيف للعشاء لديهم , فزوجة الجنرال شقراء الشعر وجميلة , وتشرب الخمر صرفاً ولاقت نجاحاً هائلا , وقد تبارت المركيزة لوندندرى وزوجة الجنرال فى الماس وغلبت الانجليزية , وحذر لورد بكونسفيلد بأنه لا يلتزم الحياد إذا لم يحترم القيصر المسائل الثلاث الضرورية للمحافظة على الامبراطورية , وهى قناة السويس والدردنيل والقسطنطينية , ووعد جوربتشاوف بذلك فماذا يخسر ؟ لقد طأنه مخبروه , فالرأى العام بعيد عن الاتحاد فى تأييد بكونسفيلد , ورسمت بنش صورة "بنيامين المشاكس" وفيها الأسد البريطانى يقول لأبى الهول : إصغ إلى جيداً , إنى لا أفهمك , لكن يجب أن تفهمى أنت , لكن يجب أن تفهمنى أنت , فأنا لا أقاتل من أجل هؤلاء القوم . وشوفالوف السفير الماهر الذى عرف كيف يدعى باسم شو من ذوى المكانة من لندن , وفهم أنه يجد مفتاح العالم السياسى فى الهيئة الاجتماعية كان على علم بالأمور , حتى إنه أرسل برقية إلى بطرسبرج بأسماء الوزراء الانجليز المعارضين لفكرة رئيس الوزارة , أما جورتشاكوف , وقد وصلت إليه المعلومات الصحيصة , فهو يقوم بدورين فيؤكد للانجليز : "نحن نعترف بأن مسألة القسطنطينية لا يمكن أن تحل إلا باتفاق الدول العظمى" , ويكتب إلى الدوق نقولا رئيس الجيش أمراً : "ليكن غرضك القسطنطينية" , فالنصر يسوى كل شئ وإذا ما احتلت الجيوش المدينة فمن يخرجك منها ؟ دخل الغراندوق أرض بلغاريا , وزاد قلق الملكة فقد تنبأ البرت دائماً بما يحدث الآن , فهل تكون مثل كساندرا المسكينة العديمة الحول ترى خراب امبراطوريتها ؟ أخذت الملكة تكتب كل يوم وترسل برقيات كل ساعة , فهى لا تصدق الوعود الروسية وتطلب الحصول على ضمانات , وأن يعمل شئ ما يدل كل حال , "إن التقارير التى اطلعت عليها الملكة أمس تبعث على القلق الشديد , ولا يمكن أن يتجاهل لورد درى مثل هذه الاخطار , ويصلنا الآن التحذير بعد التحذير , وكأنه يسجل كل شئ دون أن يقول كلمة , حقاً إن الملكة لم تر أبداً مثل هذا الوزير للأمور الخارجية ! " ـ "سيكون الروس أمام القسطنطينية بعد وقت قصير , وحينئذ يكال اللوم للحكومة , والملكة فى مركز مهين حتى لتظن أنها تتنازل عن العرش فى الحال , فلتكونوا شجعانا" ـ "إذا لم تنتهوا إلى العمل ستكون المعارضة أول من يتغلب عليكم , فإن التأخير بضعة أسابيع أو بضعة أيام قد يكون خطيراً" ـ "إن الملكة حزينة إذ ترى عدم الإقدام على شئ , فقد قال لها لورد بكونسفيلد يوم الثلاثاء إن خمسة آلاف من الرجال يمكن إرسالهم لزيادة الحاميات , لكنها لا تسمع كلمة عن أية حركة للجنود , وقد زاد قلقها"ـ "إن الملكة تشعر دائماً بالشجاعة كلما رأت بكونسفيلد , لكن لهذا السبب أو ذاك لا شئ يعمل" ـ "وتلك اللغة , اللغة المهينة التى يوجهها لنا الروس فأين مشاعر أكثر رجال هذه البلا ؟ " . تهدد الملكة بلا انقطاع بأن تترك هذا التاج المصنوع من الأشواك , ودربى من جهة أخرى يعرض الاستقالة فى كل فرصة . أما الوزير الكهل فهو يشعر بضيق التنفس , آلام النقرس , ويحزنه أيضاً أنه لم ير عيزته لادى برادوفورد وعينيها البرتقاليتين فيكتب إليها "إننى مريض حقاً , ولو أن لدى من الشجاعة ما أقابل به المنظر الذى لابد أن يحدث فى المركز الرئيسى حين أقدم استقالتى لفعلت فى الحال , لكنى لا أحتمل المناظر قط" . أحيث مقاومة الأتراك الآمال إلى حين , وكان الجيش فى حالة جيدة , وخطب السلطان جنوده قائلا : "إن سيف المؤمن يفتح له طريق الجنة" .وعلم أن الجيش الروسى أوقف أمام بلفنا وخسر ألف قتيل , وثلاثين ألف جريح يموتون على الغالب لعدم العناية فى المستشفيات المؤقتة . وفى شهر أغسطس تولد الاعتقاد بهزيمة الروس , واعتقد المرشال دى مولتكه ذلك وانجلترا تحب الشعوب القوية , واتجه الرأى العام إى العطف على الأتراك , وصار الناس يتغنون فى الشوارع "لسنا نريد الحرب ولا نريد القتال . . . ولكن إذا خضناها . . . الح" وصار من عادة الناس أن يذهبوا فى يوم الأحد ليصفروا استهزاءاً أمام منزلف جلادستون ويرشقوا زجاج النوافذ بالأحجار , ومن قبل فعل أجداد هؤلاء المتظاهرين مثل ذلك بنوافذ دوق ولنجتون .حلت عطلة البرلمان وذهب بكونسفيلد للراحة فى هوجندن وهو يتنفس فى صعوبة ولا يستطيع المشى قط , ولكى يذهب إلى الكنيسة يركب عربة مارى آن الصغيرة وتضايقه الطواويس حتى قال : "إنى لأكاد أدفع إلى ارتكاب نوع من الفظائع وأذبح هذه الطواويس" , وعند عودته إلى لندن رأى طبيباً امتدحه البعض لديه , وهو الدكتور كيدمن الذى يعتقدون بمداوة الأمراض بعقاقير تظهر علامات المرض , وفحص الدكتور كيد هذا الجسد العتيق وقد عراه , كما يفحص بالمجند , فوجده مرضاً بضيق التنفس وبنزلة شعبية وبمرض برايت ـ حقا إنه جسد يصلح لسد الطريق دون الهند ! !

إن الخداع فى اللعب لا يحتاج لغير برودة فى الدم لا تتزعزع , وهو الصفة البارزة فى رئيس الوزراء , لكن كيف يمكن الخداع و للاعب شريكان أحدهما يعلن الخدعة فى كل حركة والآخر يكره اللعب حتى إنه فى كل خطوة يصر على إلقاء ورقة ؟ كانت الملكة بنوع خاص فظيعة , فهى تحب وزيرها أكثر مما يجب ولا تعتمد إلا عليه , وهو وحده مثلها ولو لأسباب مختلفة , فيه تلك الوطنية الضيقة التى تقضى على كل عاطفة أخرى , وهى تتمسك به وتود أن تغدق عليه علامات الشرف , وعرضت أن يجعله من فرسان ربطة الساق , لكنه رفض إذ وجد الوقت غير ملائم , وذهبت لزيارته فى داره بهوجندن , وهو شرف لم تفعله لأحد غير لورد ملبورن , وسمحت له إذا ما كاتبها بنبذ التقاليد الرسمية , وله أن يبتدئ الرسالة بقوله : "سيدتى ومليكتى المحبوبة" , وهى نفسها تجيبه : "عزيزتى لورد بكونسفيلد" , وتختم رسالتها : "وثق أنى لم أكن لك أكبر الاعتبار والود ـ فيكتوريا م . ا ." . مع ذلك ضايقته حقاً بعنادها الشديد , وبينهما , فارق هو أن بكونسفيلد مصر على تنجنب الحرب ويكاد يكون متأكداً من تجنبها , فى حين أن الملكة وهى أكثر تحمساً صارت تتمناها , وعندما استولى الروس أخيراً على بلفنا ووصلوا إلى مرتفعات القسطنطينية ذكرته فى بساطة بالوعود الماضية , فهل لم يقل اللورد بكونسفيلد إنه فى مثل هذه الحالة يعلن الحرب ؟ فماذا ينتظر ؟ إن الروس دون أن يستشيروا أوروبا يفاوضون الأتراك فى عقد معاهدة سرية , ولا تلبث أوروبا أن تصير أمام أمر واقع , فلورد بكونسفيلد ليس خيراً من الآخرين , وكل الرجال جبناء , وهى وحدها المرأة المسكينة عليها أن تبعث الحياة فى كل شئ , وكان لورد بكونسفيلد يزيد انحناء امامها , ويحاول أ، ينال العفو عن عدم طاعتها بأن يبالغ إخلاصه : "إن لورد بكونسفيلد يذكر جلالتك بوعدها ألا تكتب فى المساء أو على الأقل لا تكتب كثيراً فهو لا يعيش إلا لها ولا يعمل الا لها وبغيرها يخسر كل شئ . . . " ومع ذلك كان يراقب اللعب .

كان هنالك لاعب كبير اقتصر حتى تلك اللحظة على التفرج , لكنه ينتظر الفرصة ليشترك , هو الأمير فون بسمارك , فجأة فى 19 فبراير رمى ورقة فى خطبة كبير "بالريشستاج" وهى خطبة غامضة عن عمد , لذلك كانت واضحة جداً ! فبسمارك الذى كان عليه أن يختار بين النمسا وروسيا وامتلأ صدره حقداً على جوتشاكوف منذ حوادث سنة 1875 انضم إلى خصومه الروس , وأعلن أن لا مصلحة له , فالمسألة الشرقية لا تهمه كثيراً , والقسطنطينية لا توازى عظام جندى من جنود بومرانيا , والذى تريده ألمانيا هو أن تتجنب النضال وسيكون دورها بين المصالح المتضاربة دور الوسيط الشريف , فمن الطبيعى أن تعرض المعاهدة التى أخذ فى عقدها الأتراك والروس لموافقة الدول الأوروبية الأخرى فى مؤتمر أو مجلس يعقد ـ إذا أريد ذلك ـ فى برلين , وقيل كل ذلك فى مجاملة كبير وترفع فى التفكير , لكن بسمارك هدم فى ساعتين كل العمل الذى بناه جوتشاكوف فى سنوات عديدة , فلم تستطع روسيا وهى مهددة من انجلترا أ، تتحدى ألمانيا فقبلت فى الحال مبدأ المؤتمر , لكنها قبلته فى عبارة تدل على أنها تقصد منه إبلاغ المعاهدة للدول لاعراضهم عليهم . أخيراً نشرت هذه المعاهدة وقرأها الشعب الإنجليزى فى دهشة عظيمة , وقد احترم جوتشاكوف فى الظاهر الوعود التى قطعها , فظلت القسطنطينية والسويس والدردنيل حرة , لكن تغيرت اوضاعها جميعها , فتركيا خسرت جميع ولاياتها الأوروبية , وأنشأ الروس دولة بلغارية تكون تابعة لهم وتوجد لهم منفذا إلى البحر الأبيض , وفى أرمينيا يحتلون قارص وباطوم , بذلك يتقدمون نحو الهند ويحيطون بالأتراك من الخلف . وقد صارت انجلترا بأجمعها خلفف رئيس الوزراة بحركة من تلك الحركات الجميلة فى الرأى العام الذى يتحد وقت الخطر , فهى لن تذهب إلى المؤتمر للمناقشة فى مثل هذه الوثيقة .

ظل لورد بكونسفيلد هادئاً جداً , وكان فى رأيه أن المعاهدة لا يمكن قبولها وأخبر شوفالوف أنه لا يذهب إلى المؤتمر إلا بعد اتفاق مباشر بين روسيا وتركيا على المسائل اشديدة الخطرة , وهذه المسائل هى : (أ)ألا تنشأ دولة بلغارية كبيرة . (ب)ألا تنشأ دولة أرمينية روسية . وقفز السفير : "إذن تريدون حرمان روسيا من جميع ثمار الحرب . . " ربما . وعلى كل حال أفهمه رئيس الوزراء أن انجلترا روسيا من الأقاليم المتنازع بشأنها بالقوة إذا لم تجد ترضية , وخرج شوفالوف قلقاً لكنه غير مصدق , فلورد بكونسفيلد ليس انجلترا . وعقد مجلس الوزراء ورغب رئيس الوزراة فى الاستعداد للحرب وهو يقول : "إذا أصررنا على الثبات والعزيمة فإن ذلك يؤدى للسلم ونملى شروطنا على أوروبا" , لكن يجب الاستعداد , وهو يقترح دعوة الجنود الاحتياطيين والموافقة على اعتمادات وإرسال الأسطول إلى القسطنطينية , حيث أن المسألة تتعلق بالدفاع عن الهند فهو يأمل بنوع خاص أن تشترك الإمبراطورية نفسها فى الدفاع عن نفسها , وأن ترسل جنوداً من جيش الهند لاحتلال المراكز التى تتلسط على المواصلات الروسية أى لاحتلالى قبرص والاسكندرونة , ووافق المجلس رئيسه فيما عدا لورد دربى الذى قدم استقالته وهو يعتقد أن هذه الإجراءات تؤدى إلى الحرب ورفض مسئوليتها , وشعر لورد بكونسفيلد بشئ من الأسف لفراق صديق قديم وأحد أفراد عائلة دربى لكنه قبل الاستقالة .

فى هذه المرة استولى الخوف على شوفالوف , فإن فى استقالة دربى علامة , ولم تكن روسيا تريد الحرب بأى ثمن مع انجلترا , فقد ضعفت بسبب حملاتها الحربية وليس لها أسطول , وهى تفضل التفاهم مع بكونسفيلد على التفاهم مع بسمارك , وعاد السفير متساهلا فتنازل جوتشاكوف عن إنشاء بلغاريا عظمىلا وستصير نصف ما اقترح ومن غير منفذ إلى البحر , لكنه محتفظ بأرمينيا الروسية . على أن بكونسفيلد لا يتزعزع , إذن هى الحرب إن لم تعط لانجلترا ضماناً فى شرق البحر الأبيض , مثل جبل طارق فى غربه , وفى هذه اللحظة يذيع الخبر بأن الجنود الذين أرسلوا سرأً من الهند قد بدأوا ينزلون إلى البر , وكانت الضربة هى القاضية , وقبلت روسيا كل شئ , ووقع اتفاق سرى مع السلطان قبل فيه التنازل عن قبرص لانجلترا امام نعهد إنجلترا بالدفاع عنه فى حالة تقدم الروس بعد قارص وباطوم , ورضى جورتشاكوف بأن يذهب إلى برلين ليناقش المعاهدة بعد أن أبدلت على هذا الأساس , وظلت تركيا دولة أوربية وأوقف تقدم السلاف , وربح اللعب كله دون أن يخسر رجلا واحدا , ودون أن يطلق رصاصة , وعاد الدليل بالسائحين إلى البر سالمين سعداء وإن كانوا متعبين شيئا ما , وقالت بريطانيا : "إنه لدليل حسن لكنه محب للمخاطر" .

أما بالنسبة لبكونسفيلد لإإن أكبر ما سر به هو الحصول على قبرص , فإنه أعلن عن ذلك قبل ثلاثين سنة سنة فى رواية تانكريد , ويلذ له أن ينقل رواياته وخيالاته هكذا إلى التاريخ , ثم إن قبرص هى جزيرة فينوس , وقد منحها ريتشارد قلب الأسد إلى لوزينيان ملك القدس فصار كونت بافوس , والآن ضمت مدينة افروديت ومملكة الصليبين الخالدة إلأى جبل طارق ومالطة لتتم البحر الأبيض الإنجليزى إنه ليوم عظيم حقاً لدى هذا الفنان العجوز الذى يجده لذة فى هذه الألعاب الدنيوية .

8- مؤتمر برلين

المؤتمر الدولى هو أكبر سوق للزهو والخيلاء , فهو أولا يقضى فى داخل كل بلد على الزهو القومى , يعتقد كل رئيس أنه هو وحده القادر على تمثيل سيلسة بلاده , ويعتقد كل وزير خارجية أن الرئيس لا يعرف شيئاً عن السياسة ويظن كل سفير مثل ذلك فى وزير الخارجية , فإذا اجتمع المؤتمر وجلس العظماء وجها لوجه , فهو جوقة موسيقية مؤلفة من العازفين على الكمان !

كان البرنس بسمارك يأمل ألا يأتى كبار الممثلين , وانتظر أن يأتى من روسيا شولوف الذى كان يحبه , وقد نظم معه قسما من البرنامج , لكن جورتشاكوف رأى أنه لا يستطيع أن يضع ثقته فى أحد , وتمكن من إقناع إمبراطوره , وعزم بسمارك على أنه يحمله على دفع الحساب الماضى قائلا : "لن يتسلق مرة ثانية على أكتافى لكى يتخذ منها قاعدة لتمثاله" . ومن إنجلترا أيضاً ينتظر حضور رئيس وزارتها فمن غيره يفهم الشرق ؟ عين كل من لورد بكونسفيلد ولورد سالسبرى مندوبين , وتحركت القطارات الخاصة , وفكر بسمارك : "إن المؤتمر هو أنا" , وشعر الكهلان الضعيفان المتمددان على مخدات عربة القطار , وهى تتجه من بروكسل ومن بطرسبرج نحو برلين , وهما بكونسفيلد وجوتشاكوف , بمثل شعور بسمارك .


فى هذا المؤتمر الذى أريد به مناقشة المعاهدة فى حرية وصلت جميع الدول وهى عاقدة اتفاقات سرية , فقد عقدت إنجلترا مع روسيا اتفاق لندن , ويعرف الأتراك أنهم تنازلوا عن قبرص لكنهم يجهلون الاتفاق الإنجليزى الروسى , ووعدت النمسا من كل من إنجلترا وألمانيا والبوسنة والهرسك , وأعطيت إياهما دون أن تضرب ضربة واحدة , وضمن لفرنسا أن تبعد مسائل مصر وسوريا عن المناقشة , ولم يتصور الجمهور الإنجليزى وهو يتخيل فى خوف ممزوج بالإعجاب , مواجهة لورد بكونسفيلد للذئب الروسى , إلى أى حد كان المنظر محضراً . لما وصل بكونسفيلد إلى فندق قيصر هوف الذى نزل فيه وجد المائدة فى قاعة الاستقبال مغطاة بأكملها بسبت من الزهور , وصندوق كبير من الشليك الذيذ ووضعت حوله أزهار البرتقال والورود , وهى هدية الترحيب من ولية عهد ألمانيا , وهى ابنة الملكة فكتوريا .

كتب فى رسالة إلى الملكة : "إن الأمير والأميرة يغدقان على لورد بكونسفيلد هداياهما , وهى هدايا محببة تزداد قيمتها لديه , إذ يشعر بأن الفضل الأكبر فيها لشحصين يدين له اللورد بكل شئ" , وزارة سكرتير بسمارك وقال : "إن المستشار يود أن يرى اللورد بكونسفيلد فى أقرب فرصة" . تعارف الرجلان وعرف كل منهما قدر الآخر , وقد تقابلا قبل ذلك بعشر سنين فحذر كل منهما ما فى الاخر منذكاء وإرادة , ووجد بكونسفيلد أن بسمارك تغير كثيرا , فذلك عرفه فى سنة 1862 ممتقع اللون فى نحافة الزنبور صار ضخما , وأرسل لحية بيضاء على وجه خشن , لكنه وجد فيه اللون الذى أحبه , وهو البساطة مع شعوره بالحقائق , وشئ من الخشونة والصرامة الوحشية , وهو يصرح بأشياء فظيعة فى صرت حلو يدهش لخروجه من هذا الجسد الكبير , وقد قال له بسمارك إنه ينوى أن يسير ب المؤتمر على قرع الطبول , لكنه يرى أن يخصص الأيام الأولى والعقول لا تزال يقظة للمسائل الكبرى التى قد تسبب عنها الحرب , وعلى ذلك يجب الابتداء ببلغاريا . فى اليوم التالى , وفى الساعة الثانية , اجتمع المؤتمر للمرة الأولى فى قاعة ذات منظر فخم يتفق مع الثياب الرسمية المركشة بالذهب للسياسيين ووسامتهم وأوشحتهم , ومر كل منهم قبل الجلسة بمقصف ليشرب كأساً من نبيذ بورتو ويقضم قطعة من الفطير , وطلب بكونسفيلد أن يتعرف إلى أعضاء المؤتمر الدولى , وكان العضو التركى كارثيا دورى باشا , وهو صغير السن , أسود اللحية , رقيق الحاشية , وتعرف إلى جوتشاكوف العجوز المتهدم , وإلأى كورتى العضو الإيطالى ذى الوجه الذى يشبه وجه اليابيين , وإلى وادنجتون المندوب الفرنسى , وهو نصف انجليزى بنشأته , وإلى اندراسى النمساوى . . . نعم كل شئ يسير على أحسن وجه , فليس من عمالقة بين المندوبين غيره وبسمارك . سار بسمارك بالمؤتمر فى دقة حربية , وتم الاتفاق فى الحال وبلا مناقشة على تقسيم بلغاريا إلى قسمين يفصل بينهما خط البلقان , وبعد ذلك سارت كل الأمور على غير ما يرام , فقد منح الروس للأتراك حدود البلقان , وأرادوا أن يحرموهم حق الدفاع عنها أو إبقاء جنود فى ذلك القسم من بلغاريا الذى ترك لهم , ومعنى ذلك القضاء على جميع نتائج مؤتمر لندن بطريقة غير مباشرة , فإن بلغاريا غير المحتلة مرة أخرى تحت رحمة روسيا , ويكون لروسيا منفذ إلى البحر الأبيض المتوسط . أرعد بكونسفيلد , إذ يجب على حكومة بطرسبرج أن تتنازل عن وهميتها بأنها تستطيع مجاوزة رغبات إنجلترا . وغضب جوتشاكوف وصار عنيدا , وأعلن لورد بكونسفيلد رسولا صراحة أن النصوص الإنجليزية تنطوى على إنذار , وأرسل الروس فى دهشتهم رسولا خاصا إلى قيصر روسيا , وكتب بكونسفيلد إلأى الملكة  :"إنى لا أخشى النتيجة حيث أنى أخبرت ذوى الشأن المؤتمر إذا لم تتبع آراء إنجلترا" . فى صباح اليوم التالى الذى ينتهى فيه أجل الإنذار , وطلب بكونسفيلد من كورى وهو يتنزه على ذراعه فى شارع أونتر در لندن , أن يجهز قطارا خاصا لنقل الوفد البريطانى إلى كاليه , وأبلغ كورى هذا الأمر إلى مصلحة السكك الحديدية الألمانية , وكانت نتيجة سريعة , فقد أـى الأمير بسمارك فى الساعة الثالثة وخمس وأربعين دقيقة إلى قصر هوف وقال لكورى : "خذنى إلى لورد بكونسفيلد ونبهنى فى الساعة الثالثة وخمس وخمسين دقيقة , فإنى على موعد" . وسأل عما إذا كان من الممكن إيجاد حل يرضى الفريقيين ؟ فأجيب : "لقد وجد اغلحل عندما عقد اتفاق لندن . ولم يبق سبيل للرجوع فيه" , فسأل : "هل يعتبر هذا إنذاراً" فأجيب "نعم" . فقال إننى مضطر لمقابلة ولى العهد الآن , ويجب أن تتكلم فى هذا الأمر , أين تتعشى ؟ ـ "فى السفارة البريطانية" . "أحب أن تتعشى عندى , وسأكون بمفردى فى الساعة السادسة" . كتب بكونسفيلد للملكة  : "قبلت دعوته , وبعد العشاء ذهبنا إلى غرفة أخرى وأشعل سيجارة وحذوت حذوه . . . وأظن أننى أصبت صحتى بالضربة الأخيرة , لكنى رأيت ذلك الأمر لازماً , ففى تلك الأحوال يكون للرجل الذى لا يدخن مظهر التجسس على كلمات الآخر . . . وأمضيت ساعة ونصف ساعة عبثا فى حديث من أهم ما يكون , كله سياسى , وقد أعتقد أن الإنذار لم يكت عبثا , وعلمت فى ارتياح قبل ذهابى للفراش أن حكومة بطرسبرج سلمت" . استطاع أن يرسل فى اليوم التالى برقية لندن : "قبلت روسيا الاقتراح الإنجليزى فيما يتعلق بالحدود الأوروبية لللإمبراطورية التركية , والحقوق العسكرية والسياسية للسلطان" . قال بسمارك : "لا تزال تركيا مرة أخرى فى أوروبا" , وقال جوتشاكوف متنهداً : "لقد ضحينا بمائة ألف جندى ومائة مليون جنيه للاشئ" . ورفع هذا الحادث من قدر بكونسفيلد فى عينى بسمارك , فكان يقول  : "إن الرجل عندى هو ذلك اليهودى العغجوز" , وتوطدت الصداقة بينهما , وصار يجدان لذة غريبة فى أن يتكلما معاً فى أمور المنهة , ويحبان أن يتباحثا فى علاقات الأمراء والوزراء والبرلمانات , ومن النادر أن يجد الإنسان رفيقاً له فى العمل عندما يكون رئيسا لوزارة , ومن الطبيعى أن يشعر بالعطف عليه . وكان بسمارك يرى نفسه أنه أعلى من الآخر , لأنه أقل أغراضاً وأكثر استهتارا . أما لورد بكونسفيلد ففيه مواضع الضعف وفى درعه منافذ . وهولا يقاوم كثيراً إذا ما هوجم ببعض الآراء . ولاحظ بسمارك مواضع ضعفه , ولذ له أن يعارضها ويستغلها , وكان بكونسفيلد من جهته قد اكتشف الغرض البعيد الذى يرمى إليه المستشار , وكانا ذات مرة واقفين أمام خريطة وهما يتناقشان فى مسألة الاستعمار , ورأى بسمارك من حست السياسة أن يظهر المعارضة للفكرة , ومر بكونسفيلد بإصبعه على بلاد البلقان وتساءل : "ألا تظن أن هنا ميداناً صالحا للاستعمار أيضاً ؟ فنظر إليه بسمارك ولم يجب . صار عمل المؤتمر بعد ذلك عادياً وشبيهاً بالحياة البرلمانية وإن فاقها لذة , ولو لم يكن لورد بكونسفيلد مصاباً فى ذلك الوقت بالنقرس لسر لهذه الحياة , لم يحب بسمارك وحده بل صار لجورتشاكوف صديقاً , وقال عنه إنه جم الأدب ورقيق , وإنه لمما يؤلمنى أن أسبب له مضايقات كثيرة وكان الجو مثله فى أحلا ليلة منتضف الصيف ويمضون لياليهم فى بوتسدام عاصمة المملكة الصغيرة , وفى ليلة أخرى يتعشون لدى السفارة التركية فيأكلون ألذ طعام ومنه (البيلاف) , وهو الأرز العجيب المصنوع على الطريقة التركية , وتناول منه مسيو وادنجتون مرتين , أو يتعشون عند الممول بلايشرودر , حيث لا تعزف غير موسيقى فاجنر وإذا سار لورد بكونسفيلد فى الشارع التفت الناس إليه , وأرلس بائعو الكتب برقيات إلى انجلترا يطلبون نسخاً جديدة من رواياته , واشترت مكتبات الشعب مجموعات كاملة من مؤلفاته فى طبعة تاوشنتز. فى الأسبوع الثالث انفجرت قنبلة , إذ وقفت إحدى الصحف الانجليزية وهى "الجلوب" على سر الاتفاق مع شوفالوف على أرمينيا , وقد اشترته من كاتب على الآلة الكاتبة بوزارة الخارجية , وكان تأثيره على شعور الإنجليز عظيما , وكان الاستيلاء على قبرص لا يزال سراً , وليس من تعويض ظاهر يوازن الفتوحات الروسية فى آسيا , وقامت ضجة شديدة فى الصحف , حتى إن المندوبين الإنجليز حاولوا الرجوع فى اتفاقهم . "وكان بسمارك يوجد الحوادث لمجرد اللذة فى تسويتهم" فكانت مشاحنات هؤلاء الكهول الذين فات زمنهم مضحك أمام عقله المجدد الدقيق الواقف على الأمور تماماً . ولم يكن كل من جوتشلكوف وبكونسفيلد جغرافيا , ويجيب جورتشاكوف على قوله بان يلقى نظرة إجمالية على الحوادث , لكن أمام الخريطة لا يستطيع أن يشير إلى باطوم , وانزعج شوفالوف عند ما أخبره رئيسه أنه يحتفظ لنفسه بمسألة الحدود الأسيوية , وأنه يتفاوض مباشرة بشأنها مع لورد بكونسفيلد . لما أخبره شوفالوف اللورد سالسبورى بهذا الخبر قال : كيف يا سيدى ! إن لورد بكونسفيلد لا يستطيع المفاوضة , فإنه لم ير قط خريطة آسيا الصغرى" . بعد بضع ساعات علم المؤتمر فى ارتياح أنه تم الاتفاق على الحدود . وعقد البرنس بسمارك جلسة عامة , وجلس بكونسفيلد وجورتشاكوف إلى جانب بعضهما , وطلب منهما أن يشرحا نصوص الاتفاق , وعرض كل منهما خريطة بالحدود الجديدة , لم يعلم أحد ماذا حدث , وقد ادعى شوفالوف أن جورتشاكوف وصله بيان من أركان الحرب الروسى فيه الحدود المرغوب فيها , وآخر فيه الحد الأقصى الذى يصل إليه فى التساهل , فبلغ ه الإهمال أن قدم البيان الأخير للورد بكونسفيلد , ومهما يكن الأمر فإن الكهلين المريضين أخذا يتراشقان بالكلام فى عنف مضحك حتى قرر بسمارك فى لهجة السخرية إيقاف الجلسة نصف ساعة . وفى هذه الفترة بين فصلين حاول شوفالوف وسالسبورى وبرنس هوهنلوه أن يجدوا حلا للمسألة , وتم ذلك واتفقوا على حل وسط . فى اليوم التالى أعلن الإنجليز بقبرص ,وفى هذه المرة تحمس الجمهور الإنجليزى وسر سروراً عظيماً بهذا الموقع العسكرى فى الشرق الأدنى وبالبحر الأبيض الانجليزى , بل لاقت هذه الجرأة الدزرائيلية ثناء حتى فى الخارج وقالت جريدة "اليبا" الفرنسية : "إن تقاليد إنجلترا لم تمت تماماً فهى تعيش فى قلب امرأ’ وسياسى عجوز" . أعد الانجليز العدة للاحتفال الفخم بعودة المندوبين إلأى لندن , وزينت محطة شيرنج كروس برايات جميع الدول المشتركة فى المؤتمر , وبأوراق النخل وباقات الزهر , وربطت الورود حول الأعمدة , ووقف جمهور عظيم ينتظر , وعندما نزل رئيس الوزراء من عربة القطار حياء دوق نورثمبرلند , ودوق سثرلند , ودوق أبركورن , ودوق بدوفورد , ومحافظ لندن , وأعضاء مجلس المدينة , وكان جون مانرز بين المستقلين , وسير روبرت بيل نجل الوزير العظيم , ومر الرجل الكهل بصعوبة وهو متكئ على ساعد لورد سالسبورى بين صفين من النبلاء والنبيلات وأعضاء البرلمان . ما خرج من المحطة حتى ارتفع الهتاف العظيم , كان ميدان ترافلجار سجاداً من الرؤس , وكان الجمهور يلوح بالقبعات والمناديل , وتقذف النساء بالأزهار وعندما إلى مبانى الوزارة بداوننج ستريت , وكانت مغطاة بالألوان الحمراء , وجد باقة هائلة من الأزهار مرسلة من الملكة , وعندما استمر الهتاف ظهر فى الشرفة مع لورد سالسبورى وقال للجمهور : "أظن أننا جئنا لكم بالسلم مع الشرف" . بعد بضعة أيام كان راكعاً أمام الملكة فى أوزبورن وهى تنعم عليه بالوشاح الأزرق لربطة الساق , وقد كتبت له من قبل : "إن البلاد بأسرها من الكبير إلى الصغير فى ابتهاج ماعدا مستر جلادستون الذى بلغ غضبه حد الجنون" .

9- أفغان وزولو وفيضانات

لو أن لورد بكونسفيلد أجرى الانتخابات على أثره مؤتمر برلين لضمن السلطة ست سنوات أخرى , على أن أجل البرلمان لا ينتهى قبل سنتين , وهو برلمان مخلص , فقرر مجلس الوزراء أن يتركه فى الحياة إلى نهاية أجله ثم يموت موتاً طبيعياً , وفى ذلك ثقة أكثر مما يجب بالأقدار , ومن شأن البلاد أن تمل سريعاً عظمة الذين رفعتهم إلى المجد , ويجب أن يسألها المرء فى الوقت الذى يكون فيه موضع الإعجاب . فما مضت أسابيع على هذا الانتصار حتى غامت السماء من بعيد , فقد أخذ الروس منذ زمن يتوددون إلى أمير الأفغان الذى تسلط أراضيه الجبلية على أبواب الهند , وأرسلوا بعثة إلى عاصمته بالاتفاق التام مع الأمير , فأثار هذا النجاح غيرة لورد ليتون حاكم الهند , وكان رئيس الوزراء قد اختار ابن صديقه بلوار لهذا المنصب , إذ عرف أنه واسع الخيال كثير الطومح وقوى الإرادة , وأثبتت الحوادث أنه على قسط أكبر مما يجب من كل هذه الصفات , نصحه رئيسه بأن يصل إلى سحب البعثة بالمفاوضات الودية مع الروس , لكن الحاكم عمل على غير هذه النصيحة , وأرسل تحت مسئوليته بعثة إنجليزية إلأى كابول , فأوقف أمير الأفغان مندوبى لورد ليتون لدى الحدود الهندية , ووجد بكونسفيلد نفسه مضطراً فجأة إما إلأى الخضوع الذليل لرغبة زعيم وحشى , وإما إلى الدخول فى حرب خطيرة , فغضب غضباً شديداً وكتب يقول : "عندما يخالف حاكم أو نائب الملك أمراً يجب على الأقل أن يكون واثقاً من النجاح" وجدد جلادستون وأنصاره الصيحة منددين بالحرب الظالمة , ومحتجين على سياسة الاعتداء التى يسلكها بكونسفيلد عامداً , وأخبره العقلاء أن البلاد تردد صيحتهم فى هذه المرة فهل يتخلى عن ليتون ويثبت براءة الحكومة على حساب مرءوس إن ذلك مما لا يتفق مع مبادئ رئيس الوزارة الذى عنف ليتون ولكنه أيده فى موقفه , وقد هزم الجنرال روبرتس جنود الأمير وألجأهم إلى الفرار فاختفت المعارضة كما تفعل دائماً فى ساعة الانتصار وعادت البلاد إلى ثقتها به . لكن عندما يستيقظ الحسد فى نفوس الآلهة لا تهدأ سريعاً , فقد كانت الصناعة منذ سنوات فى رخاء , وقد حدثت بها أزمة من الأزمات الدورية بسبب سوء الحاصلات عدة سنوات , ويجب أن تلام الحكومة على لذك , شكت المعارضة من أن الحكومة لا تعمل شيئاً , وكتب لورد بكونسفيلد إلى لادى برادفورد يقول : "لك الحق فى أن تظنى أن الشئ الذى يستغرق اكثر وقتى فى هذه الأيام هو الأزمة العامة , لكن لا يدرى أحد ماذا نفعل , فهنالك مشروعات عديدة ومقترحات , وهنالك أسباب كثيرة لعدم قبول هذه المشروعات والمقترحات , وكل ما أخشاه أن المعارضة التى لا تتورع عن شئ تتخذ هذا الموضوع لغاية حزيبة , وإذا لم نؤيد مقترحاتهم اتهمونا بقلة الوطنية , وإذا أيدناها كان لهم فخرها" . كان فى ساعات وحدته يفكر عندئذ فى بطاطس سير بيل . من سوء الطالع فى إرادة هذه الامبراطورية العظيمة أن تحدث حوادث مفاجئة وخطيرة فى أبعد نواحى العالم , كان الدخان لا يزال يتصاعد فى بلاده الأفغان , وإذا النار تشب فى جنو بأفريقيا , فقد عاشت فى تلك الجهات منذ مدة بعيدة ثلاث سلطات متعادية جنباً إلى جنب , وهى الانجليز فى الكاب و والبوير الهولنديون فى الترانسفال , والسود فى أرض الزولو , وقد نجح لورد كارنارفون وزير المستعمرات فى كندا من قبل , إذ تمكن من التوفيق بين الولايات المتنافسة وأف منها إقليما واحدا , فظن كسائر الرجال الذين يلاقون نجاحا خاصا أن وصفته تصلح لعلاج سائر الأمراض , واعتقد أنه يستطيع التوفيق بين العالم أجمعه , وعمد إلى العمل لتأليف اتحاد فى أفريقيا الجنوبية . فبدأ بضم الترانسال , وقضى ضم هذه البلاد على الخصم الطبيعى للزولو فاتجهوا نحو الانجليز , وأخطأ لورد شلمسفورد قائد الجيوش فى الثقة بالأحوال , وإذا بالجمهور يسمع فجأة وهو على غير استعداد بوقوع كارثة , وأن السواد أحاطوا بمركز أركان حرب الجنرال شلمسفورد وقتلوا أو أسروا نحو ألف جندى وخمسمائة , غضبت البلاد فى هذه المرة, فجون بول يصفق ما دامت وزارة المحافظين تحصل على السلم , لكنه عندما رلأى نفسه مشتبكا فى حروب مضحكة فى اجهات الأربع من العالم , بدأ يقول لنفسه . ربما لم يخطئ جلادستون إذ تكلم عن أخطار المستعمرات , وعن الجنون السياسى لمنافسه . مما زاد الحالة سوءا أن الأمير الفرنسى الشاب ابن نابليون الثالث أراد الذهاب للقتال فى جنوب أفريقيا , حاول بكونسفيلد بجميع الوسائل أن يحول دون هذا السفر , لكن الملكة والإمبراطورة أوجينى أصرتا على سفره فأذعن الوزير "وماذا يفعل أمام امرأتين عنيدتين" . وفى أوائل يونه سنة 1879 قتل الزولو الأمير فى إحدى المناوشات الأولى , حزنت الملكة حزناً شديدأً وهى تحبه كثيرا , وشعرت بأنها مسئولة بعض الشئ عن وفاته , فأرادت أ، تخفف الوطأة على ضميرها با، يكون الاحتفال بجنازة الشاب القتيل رسمياً , واحتج رئيس الوزارة , فماذا تقول حكومة فرنس الجمهويرة إذا احتفل بأحد أفراد عائلة بونابرت احتفالا لا يجوز لغير الملوك ؟ غضبت الملكة , ورأت أن الأمور تسير سيراً سيئاً , ولعن بكونسفيلد عروس الجن , ولعن لورد شلمسفورد وأقوام الزولو قائلا عنهم فى مرارة : "إن هذا الشعب جدير بالإعجاب , فهو يهزم قوادنا , ويغير من عقيدة أساقفتنا , ويختم نهائياً تاريخ أسرة فرنسية كانت حاكمة" , حاول أن يبتسم , لكن الملكة حانقة وهى لا تقابله إلا فى فتور رسمى , وتألم لذلك وكتب إلى المركيزة دلى رسالة يقول فيها : إن طبيعتى تتطلب إما الوحدة التامة , وإما العطف الكامل , وهى رسالة فيها جرأة وإخلاص , وعرف أ، الملكة ستطلع عليها , وفيها "إنه لمما يؤلمنى كثيراً أن أفكر أن كلماتى أو تصرفاتى لا ترضى جلالتها فإنى أحب الملكة , ولعلها الشخص الوحيد فى العالم الذى بقى لى كى أحبه , لذلك تستطيعين أن تفهمى كيف أن عدم رضاها يتعبنى ويقلق نفسى حين أشعر بسحابة بيننا , لعل فى ذلك نوعا من البساطة من جهتى لكن قلبى للأسف لم تبلغه الكهولة كلما بلغت جسدى , وإذا تأثر قلبى تألمت كما كنت أفعل منذ خمسين سنة" . جاءته برقية تدعوه إلى وندسور , وكانت عروس الجن رقيقة معه , ولم تتكلم عن شكاياتها , ومن الواضح أنها قرأت الرسالة , لا تخلو إذن مهنة الروائى من الفائدة , وفى الحق أنه كان يحب الملكة .

أخيراً فى نحو شهر أغسطس سنة 1879 هدأت الأمور فى الظاهر ولم يبق جندى روسى واحد فى أراضى السلطان , وفى الهند قبلت البعثة الإنجليزية فى كابول وفى أفريقيا الجنوبية أسر ولسلى زعماء الزولو , وظل سوء الجوهر الخطر الوحيد الذى يهدد الوزارة , وهذا لا يقهره روبرتس ولا ولسلى , وابتداء محصول ردئ خامس , وأمطرت السماء فى هوجندن ليل نهار , وصار بكونسفيلد يتنزه تحت الفيضان وهو يتعثر فى الأوحال السميكة ويسائل مزارعيه هل تركت الحمامة السفينة , وفقد الطواويس أكثر ريشها , ومع ذلك استمرت تمشى مزهوة معجبة بجمال زائل . هنالك بلغ رئيس الوزراة خبر فظيع هو مقتل جميع أعضاء البعثة الإنجليزية فى كابول , و الحقيقة أن الأقدار كانت تعاكسه . مرة أخرى كان فى انجلترا على الأقل رجل يعتقد با، هذه المذابح وهذا الفشل المتكرر وهذا الفيضان ليست موجة من ومجات الزمن , وإنما هى عقاب أوقعه رب الجيوش لأن شعبه أثار غضبه بالتضحية لإله أجنبى . ومذهب بكونسفيلد فى رأى جلادستون هو عقيدة ملحة دنست نفسية الشعب الإنجليزى وحملته على محاربة جميع أمم الأرض وجرت عليه انتقاما عادلا . بدأت البلاد تفهم الآن أنا انقادت لنبى كاذب , وتبعث العلامات الكثيرة على الأمل بأنه سوف يندم على عقيدته فى الانتخابات المقبلة, فهل لا يكون واجب جلادستون عندئذ أن يتولى مقاليد الحكم لكى يحول مجرى السفينة ؟ أعرب مراسلوه العديدون عن رغبتهم فى ذلك , ونقل له أحد الأساتذة الاسكوتلنديين بعض المثل من جيته "كيف يستطيع الإنسان أن يصل إلى معرفة نفسه ؟ بالتفكير ؟ من المؤكد أن لا لكن بالعمل فحاول أن تقوم بواجبك وعندئذ تعلم لماذا خلقت , لكن ما هو واجبك ؟ ما تتطلبه الساعة" وكتب إليه آخر يقول : إن أولاده يسمون جلادستون القديس وليم . نعم إنه يشعر حقاً بأن رسالته فى أن يصير مرة أخرى رئيس وزارة , لكن كيف ؟ فقد أ‘لن فى كل مكان أنه يترك قيادة الحزب , وارنكب حماقة بأن أخبر الملكة بذلك وكرر القول , وهى تتذكر بلاشك هذا القول , وترك هارتنجتون وجرانفيل يحتلان المكان الأول , فكيف يطردهما ساعة النجاح من غير سخرية , ثم هل هو يريد ذلك ؟ ألم يتمن اعتزال العمل استعداداً للموت ؟ لكن ضميره القل المتشعب وجد طرقا متشعبة وأكيده .

اختار التقدم للانتخابات فى دائرة اسكوتلندية هى مدلوثيان , وقام فيها برحلة انتخابية بالرغم من عدم إعلان الانتخابات , وقوبل مقابلة الظافر , فى المحطات التى وقف فيها القطار هرع الألاف من سكان القرى البعيدة لرؤية الكهل الكبير ورؤيت جيوضش السامعين تتحرك على القمم المغطاة بالثلوج , وفى المدن كانت القاعات التى تتسع لستمائة شخص يطلب الدخول إليها خمسون ألفاً , صار جلادستون يلقى ثلاث خطب أو أربعاً أ, خمساً فى اليوم , وكان فى ذلك السيل المستمر من العبارات الطويلة الغامضة والرنانة ينصب بلا انقطاع من الصباح إلى المساء , وأصغت الجموع وهى مسحورة , قال لهم إن المسألة ليست تتعلق بالموافقة على هذا الإجراء اللسياسى أو ذاك , وإنما هى الاختيار بين مذهبين خلقيين , فمنذ خمس سنوات لم نسمع كلاما إلا عن صالح الامبراطورية , والحدود العلمية , وإيجاد جبل طارق حديث , وماذا مانت النتيجة ؟ أن زادت مساحة روسيا وصارت دولة معادية , واضطربت أوروبا ووقعت الحرب فى الهند , وصارت أفريقيا لطخة من الدماء لماذا ؟ لأن فى العالم شيئاً آخر غير الضروريات السياسية , ففيه الضرورات الخلقية "تذكروا أن قداسة الحياة فى قرى أفغانستان الواقعة بين ثلوةج الشتاء هى فى أعين القادر ذات حرمة لا تقل عن الحياة فى مدننا" . هذا الوجه الجميل كوجه الطير الكاسر , وهاتان العينان النافذتان الحادتان وهذا الصوت الذى تبدو قوته المستمرة كمعجزة , وهذه النزعة الخلقية الدينية السامية أثارت إعجابا مشوبا بالقلق الأسكوتلندية لا سيما لدى الرجال , فكأنهم يسممون الكلمة المقدسة وينظرون إلى نبى .

اهتزت البلاد بأسرها لتلك الحملة فى مدلوثيان وملئت أعمدة الصحف وتتبعت انجلترا المعروفة بغلوها الدينى هذا الحج الحماسى وكأن المنافسة صارت بين مدلوثيان ومكيافللى , وبين جلادستون والشيطان , وسخر المحافظون وحسب أحدهم أن جلادستون نطق بخمسة وثمانين ألفا ومائة وأربعين كلمة , أما الشيطان فكان يقوم فى صعوبة بعملة اليومى كرئيس للوزراة فى لندن , وقد انكمش فى نفسه لشدة ضبابها وثلوجها , تعب بكونسفيلد من كل هذه الضجة التى قام بها جلادستون وتصنعه الغيرة على الأخلاق , وتلك الدعوى الفاسدة الخاطئة بأنه يمثل الإرادة الإلهية , وضايقته تلك الصحة البدنية التى يتمتع بها منافسه , وتلك القوة الغاشمة فى ذلك الصوت , فإذا انتهت الضجة كتب إلى أحد وزرائه يقول "انتهى ذلك السيل من الخطابة أخيراً وإنه لراحة بلاشك , لكنى لم أقرأها كلمة واحدة" , ثم باللاتينية "فيه الكثير من الفصاحة والقليل من الحكمة" . عندما جاءته الفرصة ليتكلم فى وليمة سنوية لدى المحافظ , حيث يحتفظ تجار المدينة من عهد بعيد بحق سماع تصريحات رئيس الوزارة بعد شرب حساء الترسة , أكد الرئيس حسن السياسة التى سار عليها وقال : "ما دام الشعور يقوة انجلترا قائماً فى مجالس أوروبا فإنى أعتقد أن السلم سيسود ويسود لمدة طويلة , أما إذا ابتعدنا فالحرب لا بد منها , وهو موضوع أتكلم عنه فى ثقة لأهل لندن لأنى أعرف أنهم لا يخجلون من الإمبراطورية التى أنشأها أجدادهم , ولا يخجلون من عاطفة هى نبيلة , لكن الفلاسفة ينددون بها الآن , وهى عاطفة الوطنية , لأنى أعرف أنهم لا يعتقدون بأن بقاء إمبراطوريتهم فيه خطر على حريتهم , سئل رجل من أ‘اظم الرومان عن سياسته فأجاب . الإمبراطورية والحرية, وليس ذلك بالبرنامج السيئ لوزير بريطانى , وهو برنامج لا يتردد أمامه جميع مستشارى جلالة الملكة" .

10- العالم الخارجي

كتب بكونسفيلد فى أحد الأيام إلأى الملكة : "ليس كل ماله مظهر الجد هو حق دائماً" , وكان يستطيع أن يضيف إلى ذلك سهولة : "وماله مظهر الأخلاق ليس دائماً من الأخلاق" لكن الناخب الانجليزى فيه نزعة الجد ونزعة الأخلاق , ومن يعرف كيف يعرض عليه الوقائع على أنها مما يمس الضمير يحصل على صوته على الأقل فى غير المدن . لم تكن الانتخابات سوى مبارزة ين بكونسفيلد وجلاسدتون , كان بكونسفيلد فى لندن أحب الشخصين إلى الشعب , فالمحافظون والكثيرون الأحرار المعتدلين أيضاً يضعون ثقتهم فيه ويكرهون جلاسدتون , صار لدى جمهور العاصمة نوعا من المعاهد الوطنية , فإذا ركب عربة قال له السائق : إنى أعرف من أ،ت يا سيدى , وقد قرأت كتيك جميعها" , وعندما يعود من مجلس اللوردات وهو ملتحف بمعطفه المبطن بفرو الاستراخان , وقد اتسع على جسده الناحل وهو متكئ على ذراع كورى الأمين , فيقف قليلا ليتنفس وهو يقطع الحديقة العامة , كان المارة يعرفونه ويعجبونه بشجاعة هذا الرجل الذى كاد يدركه الموت ولا يزال يجيل عينيه الحزينتين اللتين تنمان عن طيبة النفس فى جوانب الحياة , وأحيانا تتقدم إليه العاهرات الصغيرات وهن يصدن الرجال فى الضباب المذهب وقد جذبتهن إليه ياقته من الفرو الثمين , ثم يتمتمن عارضات بضاعتهن الحقيرة المحزنة , فيرفع الوزير الكهل يده بصعوبة نحو قبعته ويجيب فى أدب كبير "فى غير هذه الليلة يا عزيزتى ! فى غير هذه الليلة ! ط كانت جميع النساء من جميع الطبقات تقريباً فى صفه . وفى حفلة عشاء جمعت راقصات الملاهى ألقى سؤال هو : "من تودين أن تتزوجى جلاسدتون أم دزرائيلى ؟ " فاختارت جميع الفتيات الجميلات دزرئيلى ما عدا واحدة قالت "جلادستون" , وعندما لمنها على ذلك قالت "إنتظرن إنى أود أن أتزوج جلادستون لكى أهرب مع دزرائيلى ثم أرى كيف يكون وجه جلادستون عندئذ" , روى هذه القصة لدزرائيلى لورد شاب حضر هذه الحفلة وهنأه على اتساع دائرة حب الجمهور له وقال له : "لتغتبط فقد رأيت الملكة أمس وهى تعتبرك أعظم رجل فى دولتها وهؤلاء الراقصات يعبدنك" , أضاء ذلك الوجه الصامت قليلا , وقال بالطبع أنا راض فإنك تعرف عواطفى الرقيقة نحو النساء جميعاً , لكنه عندما روى هذه القصة فى نهاية انعقاد مجلس الوزراء ظل الوزراء غير آبيهين وتناظروا فيما بينهم .

وجد الحزب فى هذا النضال أن عدم مبالاة الرئيس عجيب , فهو يخاطب عضوا شابا انتخب حديثاً فيكلمه عن اليهودى التائه وعن بيرون وزهما يسميه النفس الأدبية , وعن كلاب لادى برادفورد , وهو يتكلم إلى سير افلين بارنج وقد عاد من مصر فيمتدح اليسوعيين ويسأل تفصيلات عن طير أبى قردان فى النيل , وهو حتى فى مراسلاته مع الملكة يذهب نحو الفن "عاد لورد بكونسفيلد إلى قراءة بعض رويات شكسبير التمثيلية كى يشغل ليله , ومنها حلم ليلة فى منتصف الصيف ولم يقرأ شيئاً من هذه الروايات منذ ربع قرن , وما لاحظه هو أ، جميع حوادث هذه الرواية فى ليلة من شهر مايو , فمن أين يأتى هذا العنوان الذى لا يلتئم معها ؟ إن لجلالتك الكثير من الذوق الشعرى والثقافة , وربما أنك تستطيعين يا سيدتى التفكير فى هذا السر وتفسيره . . ." . لكن الملكة والراقصة لم يكونا الناخبين , ولم يتردد الرجال فى مدن اسكوتلنده بين نبى مدلوثيان وبين ساحر دوننج ستريت , وظهر من النتالئج الأولى أن هزيمة المحافظين ستكون أشد من هزيمة الأحرار قبل ذلك بست سنوات , فالبلاد تتألم وهى تجتاز أزمة زراعية ومالية , وهى كشأن المرضى تتقلب إلى الجانب الآخر علها تجد شيئاً من الراحة . هزم المحافظون هزيمة منكرة , وكتب جلادستون : "إن روءسنا متعبة من الحوادث الجسيمة التى حدثت فى الأسبوعين الأخيرين , وكانت على ما أعتقد باعثة على السرور فى الأغلبية العظمى من العالم المتمدين" , سيستأصل الخطاب تلك النباتات الغريبة المضرة التى نمت فى ست سنوات , ومدت ظلالها المميتة على الحقول الإنجليزية الطاهرة , وأخذ يحسر أكمام قميصه من ذرايعه القويتين . قبل بكونسفيلد الهزيمة فى صفاء النفس , فهو سيرتاح قليلا بين الأشجار والكتب قبل الموت ,وهو يأسف فقط على تركه للأمور الخارجية فى ساعة صعبة ثم على تركه الملكة بصفة خاصة . كانت عروس الجن فى بادن ولم تصدق الأنباء فإذا بلغتها النتيجة الأكيدة للانتخابات أرسلت إليه برقية تقول : "لن تكن الحياة لى من بعد إلا مضايقات ومحن , وإنى أعتبر هذه النتيجة محنة عامة" , رد بكونسفيلد معربا أيضا عما يتحمله من الحرمان من تلك المحادثات , عندما كانت جلالتها تتنازل بأن تخلط الأحاديث المنزلية بالأحاديث الإمبراطورية , ولهذه الأحاديث عنده سحر لا يقدر وأخذت جلالتها منه وعدا بألا يتركها , وأن يستمر على أنيشير عليها فى امورها الخاصة , وفى الأمرو العامة أيضا بالرغم من الجميع وأن يسشهر فى المعارضة على مستقبل انجلترا . ظنت الملكة وظن الوزير فى بساطة أنهما يستطيعان تجنب جلادستون , فجرانفيل وهارتنجتون هما الزعيمان الرسميان للحزب , ومن المنطقى أن تدعو الملكة أحدهما وهى تفضل "هارت تارتى" الذى كان مثال اللياقة فى المعارضة , وكان دزرائيلى يحب هارتنجتون منذ رآه وهونائب يتثاءب أثناء إلقاء خطبته الأولى لكن جلادستون قضى على هذه الأمرو البسيطة فى تواضع لبا يتزعزع , فقد فهم جرانفيل وهارتنجتون بعد حديث غامض لكنه واضح الدلالة تماما أنه يحارب كل وزارة لا يكون رئيسها واضطرت الملكة للخضوع . انتهت تلك العلاقة السياسية الوثيقة والجميلة , وكان استقبال الوداع محزناً , أهدت الملكة إلى صديقها القديم تمثالا صغيراً لها من البرونز وتمثالا من الجبس لمهرها الصغير , وقطعت عليه عهداً بأن يكتب إليها كثيراً وأن يأتى لزيارتها , وودت لأن تظهر عطفها بعلامة دائمة وأ، تنعم عليه بلقب الدوق , لكنه رأى أن ذلك يمون خطأ بعد فشله أمام الأمة ولم يلتمس غير مطلب واحد هوأن يرفع كورى إلى مصاف النبلاء , فصار بذلك لورد روتون وهو شرف لم يسبق له مثيل لسكرتير خاص , قال الحساد : "لم يحدث ما يماثل ذلك منذ رفع الإمبراطور كاليجولا جواده إلى مرتبة القنصل" . أنجز بيكونسفيلد وعده فكان يذهب لزيارة الملكة أحياناً , وفى أول مرة تعشى فيها فى قصر وندسور بعد بضعة أسابيع من تركه مقاليد السلطة قالت له :"إنى مغتبطة هذه الليلة حتى أن كل ما حدث يبدو لى حلماً مزعجاً ووجدها فرحة ممتلئة حياة وظريفة بل جميلة , واعترف لنفسه مرة أخرى أنه يحبها كثيراً واستمرت تكتب إليه لتقول له كلمة رقيق فقط" إنى أفكر فيك ـ وأفكر دائما . وإنى مرتاحة لأن أرى صورتك فى الحائط تنظر إلى بعد العشاء" وأحياناً تخاطبه فى شئون البلاد بالرغم من النظام الدستورى , وكان شديد التكتم فى هذا الباب , ولم يسبب للملكة متاعب من هذه الناحية . كان طول حياته ينتقل فى فترات منتظمة من العمل إلى التأليف , وهذه المرة أيضاً عمد إلى التألأيف بالرغم منسنه : "إنى إذا ما شعرت بالرغبة فى قراءة وراية أعمد إلى تأليف رواية" , فمن يستطيع فى الواقع أن يكتب له الرويات التى يحبها , ومرة أخرى صار البطل الطوح رئيسا للوزراة فى آخر صفحة من رواياته بعد أن عملت عوامل خفية وملكية فى صالحه , ورواية "أندميون" هى قصة سياسى شاب يقوم نجاحه على الصداقات النسائية , وتظهر من الصفحات الأولى فى الرواية أخت كاملة تعيد شبح سارة المسكينة , ويمر فى الرواية جميعها موكب من النساء الجميلات اللاتى يدبرن الدسائس , ويعملن على زج أندميون الضعيف نحو دوننج ستريت , ولم يكن الكتاب خالياً من العيوب , لكن الظريف فيه هو أن عنود فنجد حب هذا الكهل للشاب لا يزال سليما . أخذ لورد روتون على عاتقه بيع حقوق التأليف وحصل على عشرة آلاف جنيه , أنفقها فى شراء أثاث منزل جديد فى لندن للورد بكونسفيلد الذى استأجره لمدة تسع سنوات وهو يقول : "إن هذا الإيجار يكفينى إلى حين الخروج" , قابل الناس هذه الرواية فى شوق , لكنها لم تنجح نجاح لوثير , وقال الناشر للورد بكونسفيلد إنه خسر نقودا فيها , فعرض عليه للحال عرضاً كريما , هو إلغاء العقد , لكن لونجمان الناشر رفض ذلك , وأصدر طبعة رخيصة للجمهور عوضت عليه الذى ينقصه . بلغ بكونسفيلد السادسة والسبعين من عمره , وقد فقد قوة حبه للسلطة وصار لا يعتقد فيها , قال : "عرفت فى حياتتى قليلا ما هو العمل , وهو عبارة عن آمال لا تتحقق ونشاط يبدد" , وإذا كان قد ترك نفسه تتمشى فى حقول الذكرى , فهو يستطيع أن يحصد حصادا جيدا من دروس التواضع , فقد رأى الأحرار وهو يتمكسون بإحداث إصلاح انتخابى تكون أول نتيجة له أن يبعدهم عن السلطة , ويعتبر المحافظون تنفيذ هذا الإصلاح البغيض نصرا لهم , ورأى بيل يحرر الكاثويلك بعد أن قضى على كاننج , ودزرائيلى يترك الحماية بعد أن قلب بيل , وهو يرى جلادستون يهدد روسيا بعد أن صب اللعنات على بكونسفيلد , ورأى الجمهور يهتف لولنجتون ثم يصفر له , ويتهف لجلادستون ثم يصفر , ثم يعيده من جديد , ورأى أكبر الوزراء دعاية للسلم يسلك سياسة من أشدها مغامرة , وأكثر الملوك حبا فى الشعب الألمانى تجد لذة فى مقاومة بسمارك , وماذا تكون النتائج سياسته فى برلين بعد خمسين سنة ؟ أما هو فقد أظهر إخلاصاً غريباً لآراء الشباب , قد يكون برنامجه فى سنة 1880 موقعاً عليه من كننجسبى , وعلى أنه كان فى زمن كوننجسبى يعتقد فى القوة التى لا حد لها فى الرجل العبقرى , لكنه يعترف الآن بالقوة العظيمة للعالم الخارجى , وهو لم تخنه الشجاعة, وهو لا يثنى من عزيمة الناس , لكنه صار متواضعاً إلى أقصى حد , لقد فكر سمث وديزى فى ظلال ديبدين أن الرجل العظيم المؤيد من الكنيسة ومن الشبان الأشراف يستطيع أن يقلب النظام فى انجلترا , لم بكونسفيلد الكهل يرى لا سيما فى الكنيسة مجموعة من العظماء الحسودين ومن المتطلعين إلى الأسقفية ومن المذاهب المتنافسة , وإذا كان قد وجد بين الشبان الأشراف أصدقاء مخلصين فإنه لم يجد أبدا تلك المدرسة العظيمة من الزعماء الطبيعين التى وصفها فى شغف , وأراد أن يضرب لأمته مثلا خيالياً ففشل فعلا لأنه أرستقراطى العقل , والطباع السائدة فى انجلترا هى نزعات طبقاتها المتوسطة . لكن الهزيمة كانت نسبية ولم يكن يستاء لشئ مثل أن تفسر بأنها كارثة عقلية مؤلمة , فقد قطع شوطاً كبيراًَ فى تبديل الأمور , وأوجد التوازن بين القوى التاريخية والقوى التويلية , وله الفضل فى أن عرفت انجلترا النظام الحكيم فى تتابع أنواع الحكم , فحياته لم تكن عبثاً غير أنه أخذ يزداد ريبة فى قيمة الكلمات , ويبحث عن الحقيقة فيما وراءها فلا يجدها إلا فى الأشخاص وفى الدرجة العليا من الأمم التى تقدمت فى التطور حتى صارت أشخاصاً , زعم بعض الفلاسفة السياسيين أنه فى نهاية حياته صار من الأخرار ومن أشدهم حرية والحقيقة أنه لم يبق ثابتلً فى حزبه إلا بالولاء , ولو سأله سائل كما سألأ سولون : "أى النظم تفضل ؟" لأجاب إجابته : "لمن ؟ وفى أى لحظة ؟ " . حافظ مع ذلك على حبه الكامل لمغامرة الحياة العجيبة , فهو لم يزل يعتقد فى فائدة العمل , لكنه يطلب أن يكون العمل متزناً ومحدوداً , فهو لم يزل يفقد ثقته إلا فى المشروعات العظيمة وحدها , وهو الآن يمثل ظاهرة غريبة , لكنها محبوبة , يمثل رجلا خيالياً قديماً لم يعد مخدوعاً بالأوهام الخيالية , ولا يزال مع ذلك يعلل النفس بأنه مستهتر ومتحمس , وكانت كهولته فى بعض النواحى أسعد من شبابه , "فكل شئ يظهر فى الشباب خطير لا دواء له , لكن فى الكهولة كل شئ يتدبر بخير أو بشر" , ظلفضولياً ويحب أن يحيط به رجال حديثون , وبذل جهداً كبيراً كى يدخل الشبان المثقفون فى الحزب , كان يقول إن الحزب يقضى عليه إذا لم يستمر على إدخال عناصر من الشباب النشيط . فى سنة 1881 طلب مستر هندمان من أوائل الاشتراكيين الإنجليز أن يقابل لورد بكونسفيلد , ومن العجيب أنه كان يأمل التأثير عليه , وأن يحصل بواسطته على تأييد المحافظين لبعض قوانين العمال , وقد قرأ "سيبيل" وشعر بميل إلى الزعيم الكهل للعطف الذى أظهره هذا الزعيم على عامة الشعب , فأستقيل وأدخل إلى غرفة حوائطها طليت باللون الأحمر والذهب , كانت المقاعد المذهبة فى كثرةى مكسوة بالحرير الأحكر , وانتظر هندمان قليلا , ثم فتح الباب وظهر شبح غريب : عجوز فى رداء منزلى طويل أحمر , وعلى رأسه طربوش أحمر , وقد تساقط رأسه على صدره , وأغمض عيناً ولم يفتح الثانية إلا قليلا , وتظهر من تحت الطربوش آخر خصلة من شعره مصبوغة بالسواد ولامعة , كان منظر الدمار والتعب كبيراً حتى يئس الشاب فى مبدأ الأمر وفكر "أجل ! إنى أتيت متأخراً , فهل أستطيع أن أرفع تلك الجفون , وهل يجيبننى بغير عبارة تدل على السخرية والإنهاك" . جلس العجوز وظل ساكناً لا يتحرك وانتظر , ومن الصعب أن يخاطب الإنسان تمثالا , قال هندمان فى خجل : "يا لورد بكونسفيلد إن السلم مع الشرف كلمة قضى عليها , ولكن السلم مع الراحة هو ما يود أن يسمعه الشعب" ورفع العجوز أحد حاجبيه وقال : "أظن يا مستر هندمان أن لديك بعض الآراء وهذه المسألة فماذا تعنى بالراحة ؟" , فأجاب الاخر : "أن يأكل الناس كثيراً ويشربوا ما فيه الكفاية , ويكون لديهم منزل صالح وتربية كاملة , ووقت فراغ كاف للجميع" . فقال لورد بكونسفيلد : "أى أن يتحقق ما هو فى حكم الأحلام ؟ إنه لحلم جميل حقاً . . . وأنت تعتقد أن أمامك فرصة لتحقيق هذا الحلم ؟ أؤكد أن ذلك لن يكون عن طريق حزب المحافظين , فإنك فى اللحظة التى تريد أن تعمل فيها تجد نفسك محاطاً بكوكبة من العائلات الكبيرة رجالا ونساء على الأخص يرغمونك على الفرار فى كل لحظة . . .إن انجلترا يا مستر هندمان بلد يصعب تحريكه . . . بلد يجب أن تنتظر فيه الفشل أكثر مما تنتظر النجاح , فقد تستطيع أن تدفع انجلترا إلى عمل هذا , (وكان لورد بكونسفيلد ضاماً يديه فأبعدهما مقدار نصف قبضة , وكأن الوزير الكهل يرفع ثقل العالم كى يفصلهما) ثم هكذا أيضاً , (وفتح يديه مقدار نصف قبضة) ولكن يستحيل هذا . . ." . حاولت المومياء عبثا أن تفتح ذراعيها المتقلصتين ثم سقطتا على ركبتيها.

11- زهرته المحبوبة

هو بين هوجندن والوحدة والكتب والذكريات , كتب إلى دوقة "رتلند" : "لم أخاطب مخلوقا منذ أسبوعين" , وهو يجد فى ذلك راحة , "ولم أكد أبادل أحدا كلمة منذ ثلاثة أسابيع , لكن لذائذ العيش فى الريف أثناء الصيف هى لذائذ متحددة أبدا , فالطواويس تقف فى غير حراك لتستدفئ بالشمس على حشيش كالقطيفة , وهى لا تنطق فضلا عن أيها لا تتحرك , وهذه فضيلة فيها , أما فى الصباح فهى تنشر ذيولها وتصيح وتتغازل أو تتقاتل" , وهو أيضاً يحب أن يدفئ أعضاءه العجوزة فى الشمس , وأن يتنزه فى الليل تحت النجوم فى الساعة التى وصفها شكسبير حين تبدأ الخفافيش رقصها المتموج الرمادى , وهو لا يزال يحيط نفسه بالزهور من البنفسج وأزهار الربيع إلى الجردينيا والأرشيدة , ويفضل بعد الزهرو الوجوه الجميلة , والأصوات الموسيقية , وتلك الرقة الوحشية غير الحقيقية التى نجدها أحياناً فى الأطفال والنساء . قد تمنى فى صباه أن تكون الحياة موكباً طويلا فخما , فكانت , وهو الآن وقد تعب من هذا الموكب الفخم لا يتمنى إلا الدفء فى غير حراك , فإذا دعته مناقشة هامة فى مجلس اللوردات ركب قطار الليل وكتب يقول : "إنى لا استطيع أن أقاوم سحر الموسيقى الغليظة فى صوت اللقلق وحفيف الأشجار ولون الزهر الأحمر" . أمضى فى سنة 1880 عيد الميلاد بهنوجندن وحيدا , وحمل إلى المائدة كتابا صار يقرأ فيه عشر دقائق بين كل صنف من الطعام وآخر , وكان كثيراً ما يقرأ تاريخ جمهورية فينزيا ,وهو موضوع يلذ له منذ ستين سنة , وأحياناً يقرأ لكاتب قديم مثل لوسيان أو هوراس أو تيوكريت أو فرجيل الذى زاد شغفه به , وأمامه فى غرفة المائدة المصنوعة من البلوط صورة الملكة كما رسمها فون أنجلى , وفيها تظهر الملكة جافة الملامح شديدة بعض الشئ , ثم قام ليجلس إلى جانب النار فى المكتبة وقرأ قليلا ثم أغمض عينيه وظل يحلم , ونعقت بومة فى الخرائب فذكرته مارى آن وملامحها العزيزة المتعبة الضامرة , وخيل إليه أنه يسمع الثرثرة المرحة التى حافظت عليها فى شجاعة حتى النهاية , وانزلقت قطعة من الحطب فتطاير الشرر حول الرجل العجوز , وإنها لمثل قصير وبراق للحياة, فمنذ خمسين سنة فى غرفة حوله من عائلة شريدان . . . كارولين نورتون . . . ما أجملها فى جدائل شعرها السوداء وعينيها البنفسجتين , لقد حافظت على هذا الجمال حتى النهاية , كانت تقول : "نعم سأظل جميلة حتى فى النعش" , وهى الآن فى ذلك النعش منذ ثلاث سنوات بعد حياة صعبة , وقالت فى نهاية حياتها : "الحب , الحب فى الحياة , ذلك يذكرنى دائما بعجوز تمتلك منزلا فى برايتون قالت لى إنك تعلمين أنك تسكنين منزلى وكل ما خلا ذلك زائد ـ أجل ! إن الحب زائد فى الحياة , ويجب أن ندفع من أجله ثمنا" . إن السيدات فى الكهولة يرين الحقيقة , حتى الملكة , فهى تقول : "إنى كلما زدت شيخوخة كلما قل فهمى للعالم . . .لا أستطيع أن أفهم ما فيه من صغائر . . . وعندما أرى طيش الناس يخيل إلى أنا جميعا مخبولون بعض الشئ" . . إنا جميعاً مخبولون بعض الشئ . . . فهو مثلا قد أمضى حياته فى البحث . . . عم يبحث ؟ وما الذى وجد فيه السعادة الحقة ؟ بعض نظرات الاعتراف بالجميل من مارى آن وصداقاته الجميلة لمانرز وبنتنك , وثقة دربى فى شيخوخته , وثقة الملكة وبعض الابتسامات من لادى برادفورد . . . باغته سكرتير شاب وهو يسعل ويتنفس فى صعوبة ويتمتم فى صوت منخفض لنفسه أحلام . . .أحلام . صعد إلى غرفة نومه وقد أحب أن يزين البهو والسلم بصور أولئك الذين زينوا حياته , وهو يسميها متحف الصداقة , وكان هو يصعد فى بطء وفى صعوبة يستطيع أن يقف أمام كل صورة . . . فهذه هى جدائل الشعر الطويلة للادى برادفورد . . . أسعدت مساء يا سيلينا الطائشة الظريفة . . . وهذه عينا لويس نابيلون الحالمتان ووجهه الضخم . . . وهذا بيرون الذى لم يعرفه ديزى , لكنه كون ديزى . . . وهذا تيتا بشاربيه الطويلين كأحد أقوام الغولوا . . . وهذا لاندهرست بملامحه الدقيقة , وقد صوره دورسيه . . . وهذا دورسيه نفسه تحيط بوجهه لحية سوداء "ها ! ها ! يا صديقى" . . . ثم برادفورد . . . ومارى دربى فى الخطوة الأخيرة . فى 31 ديسمبر عاد إلى لندن قائلا : "أريد أن أرى الناس وأعتاد الصوت البشرى المقدس , وليس من السهل أن أخرج من الوحدة العميقة التى أعيش فيها إلى مجلس اللوردات وألقى خطبة عن امبراطورية تنهار" , كان يجد صعوبة فى الكلام لا سيما أن ضيق التنفس لا يفارق , دهش لورد جرانفيل زعيم المجلس من الأحرار إذ رآه وهو المشهور بالصبر يطلب الكلام فى إصرار عنيف و ورده فى شئ من الخشونة , وقبل لورد بكونسفيلد هذا الرد فى سكون , لكن اورد روتون أخبر لورد جرانفيل فيما بعد أن المريض العجوز لا يجد الراحة الضرورية للكلام إلا باستعمال دواء لا يستمر تأثيره أكثر من ساعة واحدة فقط . فقال جرانفيل فى خجل : لكنه كان يجب أن يفصح عن ذلك , على أ، لورد بكونسفيلد لا يفسر مواقفه قط . ما تحسنت صحته قليل حتى أخذ يتردد على المجتمعات , كان أحياناً يسحر الحاضرين بحزن عباراته القصيرة القديمة , وظرف آدابه العتيقة واشتهر بقصر عباراته بقدر ما اشتهر فى شبابه ببريقها , ورأى مرة فتاة مدت ذراعها العارية فتمتم فى بساطة اسم "كانوفا ". وفى بعض الأيام يظل صامتاً أثناء الطعام لا يتحرك جسده ولا وجهه مطلقاً حتى يقال إنه مومياء فرعون محنطة بأيد تقية وضعت وسط الأشياء التى يحبها من بلر وفضة وأزهار . احتفظ لورد بكونسفيلد بمكانته بالرغم من الفشل الانتخابى , وقد نرى صورته فى موضع الشرف بنادى المحافظين وهى تلفت أنظار الجميع بنظراتها الثابتة الفظيعة , وكتب على الأطار بيت من شعر هوميروس : "هو وحده الحكيم , أما الآخرون فأشباح زائلة ". كان فى أعماق نفسه من الذين لا يحملون ضغينة ولا يأسفون , زار سير جون ميليت مرة فظل ينظر طويلا إلى صورة تخطيطية تمثل جلادستون , فقال له الرسام : هل تحب أن تأخذها فإنى لم أجرؤ على تقديمها إليك" فأجاب : "إنى أكون مسروراً جدا لو أعطيتها , فلا تتصور أنى أكره وليم جلادستون أبدا , ولا  ! إن الصعوبة بينى وبينه هى أنى لا أستطيع فهمه" . كان شهر يناير من سنة 1881 شديد البرد , وتأثر لورد بكونسفيلد بالبرد , فصار فى نوع من الخمول , يمضى أياما عديدة وهو ممد على مقعد , وفى تلك الأيام يكون شعاع قصير من الشمس أثمن لديه من قلادة ربطة الساق , وهو لا يصحو إلا ليطتب رسالة للادى برادفورد , أو لادى شستر فيلد , وفى شهر فبراير وفى مبدأ شهر مارس استطاع الخروج قليلا , والكلام فى مجلس اللوردات والعشاء لدى ولى العهد ولادى هاركورت , وكان يتمنى عودة الربيع فى قلق , لكن الربيع لم يأت , وفى نحو آخر شهر مارس أصابه برد ولازم الفراش وكان يتنفس بصعوبة , وعند ما تسلمت الملكة رسائله مكتوبة بقلم الرصاص قلقت وسألأت عمن يعالجه , فكان الدكتور كيد أيضاً الطبيب الذى يعالج إظهار أعراض المرض , واقترحت الملكة اجتماع طبيبها بطبيبه , لكن نظم الأطباء تحول دون الاتصال بطبيب من هذا النوع . أخيراً تغلبت إرادة الملكة على عداوات المنهة ووصف مرضه بأنه نزلة شعبية مع ضيق فى التنفس . كان الأطباء فى مبدأ الأمر يأملون شفاءه لكن المريض قال : "لن أبرأ من هذا المرض , إنى أشعر بأن ذلك مستحيل" وقد كتب من قبل : "يجب الذهاب فى شجاعة إلى الموت" , كان يسأل فى إصرار أن يخبروه عما إذا كان يموت قائلا : "إنى أفضل الحياة لكنى لا أخشى الموت" وهو ينظر إلى ساعاته الأخيرة نظرة الفنان الذى لا يهمه غير المظهر الفنى , لم يظهر من الصبر فى حياته ما أظهر فى مرضه , وسحر جميع الذين اقتربوا منه , وأصلح تجارب خطبته الأخيرة فى صعوبة وهو فى فراشه قائلا : "لا أريد أن اشتهر فى المستقبل بأنى لا أحسن قواعد الكتابة" ,وظل حتى آخر لحظة كارهاً لوسائل الراحة العادية , فقد وضعت ممرضة وسادة ممتلئة بالهواء تحته لتريحه فتمتم قائلا : "ارفعى ! ارفعى هذه ! فهى رمز الفناء" . تتبعت الملكة مرض صديقها القديم فى قلق , وعرضت عدة مرات أن تذهب لتراه , لكن الأطباء خشوا أن يضطرب المريض أكثر مما يجب لهذه الزيارة , وكانت ترسل البرقيات كل يوم من وندسور لتقف على اخباره : "إنى أرسل إليك بعض زهور الربيع من أوزبورن , أحببت أن أوزرك زيارة قصيرة , لكنى فكرت أنه خيرلك أن تبقى هادئاً ولا تتكلم , وإنى أطلب إليك أن تظل حكيما , وأن تحترم إرادة الأطباء , وألا تتهور فى شئ" . كانت غرفته بعنايتها غاصة دائما بأزهار الربيع والبنفسج , وكانت أعين المريض تقع فى سرور على هذه الكتل الجميلة ذات الألوان الصافية , وعندما اضطرت فيكتوريا للسفر إلى جزيرة وايت أرسلت رسولا معه أزهار أيضا ورسالة , وبلغ بكونسفيلد من الضعف حدا لا يستطيع معه قراءة الرسالة بنفسه , فأخذ يقلبها فى يده حائراً , ثم قال بعد تفكير : "يجب أن يقرأ لى هذه الرسالة لورد بارنجتون أحد المستشارين الخاصين" , فهو يحب دائما االمحافظة على التقاليد , وجا ءالمستشار الخاص وقرأ : "عزيزى لورد بكونسفيلد , أرسل إليك بعض أزهار الربيع المحبوبة لديك" . كان هذا المزيج من الحزن والشعر الريفى فى الرسالة ملائما لدزرائيلى وهو على سرير الموت . ظل الجمهور فى الخارج ينتظر الأخبار , وتقدم سيد باذلا دمه , ومن الصعب أن يتصور الجمهور أن ذلك الساحر الذى صار من المنشئات الوطنية يختفى كما يختفى الرجل افانى , انتظر الناس ما لا ينتظر حتى الموت , وسرت بين الجمهور روايات غريبة , فقيل إنه دعا للاعتراف قسا من اليسوعيين , لكن الحقيقة أن لورد بكونسفيلد لم يكن سرا , بل هو كجميع الناس , يسير فى هدوء نحو نهاية أجله , وفى نحو الساعة الثانية من صباح يوم الاثنين 19 أبريل فهم الدكتور كيد أن النهاية تقترب , وكان لورد روتون حاضرا وهو ممسك باليد اليمنى لهذا الجسد الساكن , وعلى حين فجأة اعتدل هذا الجسد فى بطء بأن ألقى كتفيه إلى الخلف , وعرف الذين من حوله وهو فى عجب حركته المألوفة عند ما يقف للكلام فى المجلس , وتحركت شفتاه , لكن أصدقاءه الذين بادروا للاقتراب منه لم يسمعوا كلمة واحدة , ثم عاد فسقط جسده إلى الخلف ,ولم يستيقظ من نومته . عرض جلادستون باسم الحكومة أن تكون الجنازة رسمية , وأن يدفن فى قبر بكنيسة وستمنستر , لكن الذين أقامهم على تنفيذ وصيته راوا أن لورد بكونسفيلد كان يود أن يدفن فى هوجندن على مقربة من زوجته فى المقبرة الصغيرة بجوار الكنيسة فى هوجندن , لذلك تم الدفن فى حدائقه ببساطة كبيرة ,وبحضور ولى العهد وبعض الأصدقاء , وكان على النعش إكليلان من الملكة أحدهما من أزهار الربيع الطبيعية كتب عليه : "أزهاره المحبوبة" , وكتبت الملكة على الاخر بيدها : "دليل الحب الخالص والصداقة والاحترام" , كانت الملكة فى تلك اللحظة بعيدة فى أوزبورن , بحيث لا تستطيع حضور الجنازة , لكنها ما عادت حتى زارت القبر ماشية على قدميها من القصر . رأى فى لطريق الذى اخترقه موكب الجنازة , أقامت فى الكنيسة نصبا تذكاريا على نفقتها , ونرى هنالك تحت الرموز الخاصة بمرتبته كشريف صورة جانبية لوجهه من الرخام , ونقرأ تحت ذلك :

إلى

الذكرى الشريفة العزيزة

لبنيامين إرل بكونسفيلد

أقيم هذا النصب التذكارى بواسطة

ملكته المعترفة بفضله وصديقته

"مرضاة الملوك شفتا حق"

أمثال 16 – 13

أثارت الكتابة الملكية على أزهار الربيع "أزهاره المحبوب" لغطا كثيرا فإن بساطة هذا الاختيار ضايقت منافسيه الدائمين , وقال جلادستون للادى دورثى نفيل وو جالس إلى جانبها على مائدة الطعام إنه لا يشك فى ميل لورد بكونسفيلد لهذه الزهار ,وسألها: "قولى بشرفك يا لادى دورثى هل سمعت قط لورد بكونسفيلد يعرب عن إعجاب بأزهار الربيع ؟ إنى أعتقد أنه كان يفضل النبق الجميل" . لكن فى السنة التالية , عندما اقترب يوم 19 أبريل ذكرى وفاته سأل كثيرون من تلاميذ وأصدقائه بائعى الأزهار فى لندن بأن يعدوا باقات صغيرة من أزهار الربيع العزيزة لدى لورد بكونسفيلد , وعندما جاء اليوم مشى على أرصفة وست إند كثيرون من المارة, وقد زينوا بها صدورهم , وامتدت العادة من سنة إلى سنة , وأنشات جمعية كبيرة من المحافظين سميت جمعية أزهار الربيع , وفى ساحة البرلمان الصغيرة فى كل ربيع يزور تمثال دزرائليى عدد لا يحصى من المخلصين لذكراه , ويجيئون ليزينوا تمثاله بزهرته المحبوبة. بعد مرور بضع سنوات على وفاة دزرائيلى و اقترب دكتور "بل" من لورد استاس سل فى نادى كارلتون وقال : ألا تزال تذكر الأحاديث التى كانت تجرى بيننا هناك فى المكتبة عادة حين كنا غاضبين على زعمائنا ونلقبهم "الجوكى واليهودى" والآن فى هذا الصباح نفسه عندما كنت ماراً أمام وستمنستر , رأيت تمثال مستر دزرائيلى مغطى كله بالأزهار . . . أى نعم . . . إنهم الآن جعلوه قديساً" . قديس ؟ لا ! إن دزرائيلى بعيد عن أن يكون قديساً , لكن ربما اعتبروه روحاً قديمة للربيع , تهرم دائماً , ثم تحيا دائما من جديد , وهو رمز لما يستطيع القلب الذى احتفظ بشبابه طويلا أن يفعل فى عالم يعاديه .










المراجع Bagehot (W.) : Essays on Parliamentary Reform, 1888. Barling (E.) : Disraeli, 1912. Berkely (Grantley) : Life and Recollections. Brands : Lord Beaconsfield (Bentley). Barry O'Brien " John (Smith Elder.) Pref. d'Augustine Birrel. Bryce : Studies in Contemporary (Biography (Macmillan). Buchan : Eglinton tournament. Buckle and Monypenny : Life of Disraeli 6. Vol. R. Bulwer : unpublished letters. Cazamain : Le Romam Social en Angleterre, 1903. Contades (G. de) : Le Comte d'Orsay 1892. Clayden (P. W.) : England under Lord Beaconsfield 1890. Cucheval-Clarigny : Lord Beaconsfield et son temps 1870. Devy (L.) : Life of Lady Lytton 1887. Clarke (Sir Edward.) : Benjamin Disraeli (John Murray). Dictionary of National Biography. Disraeli (Isaac) : The Works with a memoir by his son 1959. Disraeli (Isaac) : Commentaries 1851. Drew : Catherine Gladstone (Nisbet). Escott (T. H.) : Edward Bulwer. Escot (T. H.) : Great Victorians, 1916. Eglinton Castle (Tournament at) 1839. Fitzgerald : lives of the Sheridants. Francis (C. H.) : The Late Sir Robert Peel 1852. Froude : Life of Lord Beaconsfield. Garnett (R.) : Shelley & Lord Beaconsfield. Greville : Journal. Gronow (R. H.) : Reminiscence. Hanotaux (Gabriel.) : Histoire de la France Contemporanie (Le Congres de Berlin). Halevy (Elie.) : Histoire du people Anglais au XIX siècle. Hardy Gathorne : A memoir (Longman). Hydman (H. M.) : The record of an adventurous Life. 1911. Hyamson (A.M.) : History of the Jews in England 1908. Hector (A. F.) : Mrs . Northern. 1897. Jerrold (Walter B.) : A day with Disraeali, 1872. Kebbel : Speeches of Lord Beaconsfield, 1881. Kebbel (T. E.) : Life of Beaconsfield, 1888. Kent (John) : Racing life of George Bentinch (Blackwood). Lake (Henry.) : Personal Reminiscences, 1891. Lee (EI.) : Wives of Prime Ministers, 1918. Legouis & Cazamin : Histoire de la literature Anglaise. Lockhart (J. G.) : Theodore Hook, a sketch 1975. Lytton (The earl of) Vie d'Edward Bulwer (Macmillan 1913). Madden (R. R.) : Literary Life of lady Blessington, 1855. Martin : Life of the Prince Consort, 1880. Martin (Sir Th.) : A life of Lord Lyndthurst, 1883. Meynell (W.) : Benjamin Disraeli. 1903. Mac Carthy (J.) : Sir Robert Peel (Prime Minsiters of Queen Victoria) 1906. Montefiore : Dairy, 1890. Morley (Lord.) : Life of Galdstone (Macmillan) 2 Vol. Nevill (R. H.) : The world of fashion. Nevill (Lady) : Reminiscences (Arnold). O'Connor (T. P.) : Life of lord beaconsfield (Fisher). Peel (Gorge) : Privet Letters of Sir Robert Peel (Murray). Perkins (Jane G.) : The life of Ms. Norton 1909. Reymond, The Alien Patriot. Rumbold (Sir H.) : Recollections of a diplomatist. Spear (Morris-Edumnd) The Political Noval, (Un. Of Maryland Baltimore). Somervell : Disraeli et Gladstone. Trevelyan : Life 7 Letters of Lord Macaulay. Stachey (Lytton) : Queen Victoria. Strachey (Lytton) : Eminent Victoria. Tollemache (Hon. Lionel A.) : Talks with Mr. Gadstone (Arnold). Queen Victoria (The letters of). West : A history of the Chartist movment. Whibley : Political Portaits (Macmillan). Whibley : Life of John Manners, 1925. Zangwill : Dreamers of the Ghetto.