حرب المياه .. في حوض النيل
حرب المياه .. في حوض النيل
في يناير 1997 وكنت رئيسا لتحرير مجلة «اليسار» الشهرية، دعوت سبعة خبراء من المهتمين بنهر النيل من جوانبه المختلفة.. الفنية والعلمية والسياسية والاستراتيجية والتاريخية، لمناقشة ورقة أعددتها حول «المشاكل الجوهرية المحلية والإقليمية التي تمس هذا الشريان الحيوي للمصريين وتعرض حياتهم ومستقبلهم للخطر» ونشرت الندوة - التي أدارها عبدالغفار شكر وشارك فيها «د. لواء أحمد عبدالحليم ود. البهي العيسوي وحلمي شعراوي ود. رشدي سعيد ود. عبدالملك عودة ود. علي النويجي والسفير وفاء حجازي» وأعدها للنشر عماد فؤاد - في عدد فبراير 1997 من مجلة اليسار تحت عنوان «سبعة خبراء يحذرون.. النيل في خطر».
واليوم وبعد 13 عاما أجدني مضطرا للتحذير بأعلي صوت.. «النيل في خطر داهم.. ومصر في خطر». وليس في الأمر أي نوع من الإثارة، فما جري في اجتماع وزراء مياه دول حوض النيل التسعة - غير العادي - والذي عقد أخيرا في مدينة «شرم الشيخ» المصرية، وأنهي أعماله فجر يوم 14 أبريل بعد مناقشات ساخنة استمرت أكثر من 17 ساعة.. يفتح الباب أمام صدام بين دولتي المصب والممر «مصر والسودان» ودول المنبع السبع «بورندي - الكونغو - إثيوبيا - كينيا - رواندا - تنزانيا - أوغندا».
خلال الاجتماع بدا واضحا أن دول المنبع السبع تغلق باب المفاوضات نهائيا، وتتحرك بسرعة لإعلان موقف حاسم دون أي اعتبار للموقف «المصري - السوداني» ويصف د. محمد نصرالدين علام وزير الموارد المائية والري المصري ما حدث في الاجتماع قائلا إن الأمر كان هادئا، وقدم وزراء دول حوض النيل الشكر لمصر علي ما تقدمه من معونات لهذه الدول «وظل الأمر هكذا حتي جاء الدور في الكلمات علي الوزير التنزاني الذي تحدث قائلا: نحن مجموعة الـ «G7» أو دول المنبع السبع، وأنا المتحدث الرسمي لهم.. فتوجهت إلي الدول بالسؤال حول مدي صحة هذا الكلام وسألت بورندي: موافق؟ ولم يرد، وبإعادة السؤال علي الكونغو، هل أنت موافق؟ لم يرد، وكرر المسئول التنزاني.. أنا المتحدث الرسمي، وقال: قررنا أن نفتح باب التوقيع في 14 مايو علي اتفاقية «الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة حوض النيل»، بعده قال المسئول الأثيوبي: سنترك الباب مفتوحا لمن يرغب في التوقيع، وسنعطي مهلة سنة للتوقيع، وبعد التوقيع يفتح باب التفاوض حول النقاط المعلقة «أي النقاط الثلاث الجوهرية التي طالبت مصر والسودان بالنص عليها في الاتفاقية ورفضت دول المنبع السبع»، وأضاف الوزير الأثيوبي قائلا: نناشد مصر والسودان الانضمام لهذه الاتفاقية، بعد ذلك طلب الوفد المصري وقتا للتباحث، وأعد الوفد المصري الرد القانوني، فكانت أول مرة في تاريخ المفاوضات تذكر الحقوق التاريخية والاتفاقات السابقة، ويذكر فيها أن كل هذه الأعمال باطلة لأنها خارج المبادرة، ولم تحظ بالتوافق، وتم إعداد مذكرة من 4 صفحات قانونية شارك في صياغتها خبراء دوليون وعرضت علي الدول المشاركة في المؤتمر، فطلبت الدول السبع وقتا للتشاور أيضا، واستمروا في اجتماعهم لمدة ساعتين». وانتهي الأمر إلي تمسك دول المنبع بموقفها، وأصدرت بيانا ختاميا لاجتماع شرم الشيخ الذي رأسه وزير الموارد المائية والري المصري، أعلن السير قدما في توقيع الاتفاقية الإطارية اعتبارا من 14 مايو الحالي ولمدة عام، وأكد البيان أن اجتماعات شرم الشيخ تعد آخر سلسلة من المفاوضات حول الاتفاقية الإطارية والتي بدأت عام 1995، وأنه لن تكون هناك مفاوضات أخري في أديس أبابا في يوليو المقبل، ورفضت مصر والسودان موقف دول المنبع، وأعلنتا موقفهما الموحد وبرفض التوقيع ما لم تتضمن الاتفاقية ثلاثة بنود:
1- استمرار العمل بالاتفاقيات السابقة التي تضمن حقوق مصر في مياه النيل «بروتوكول روما في 15 أبريل 1891 بين بريطانيا وإيطاليا، اتفاقية أديس أبابا في 15 مايو 1902 بين بريطانيا وأثيوبيا، معاهدة لندن في 9 مايو 1906 بين بريطانيا وبلجيكا «نيابة عن الكونغو»، اتفاقية 1925 بين بريطانيا وإيطاليا، اتفاقية 1929 بين مصر وبريطانيا «نيابة عن أوغندا وكينيا وتنجانيقا»، اتفاقية 1932 بين مصر وبريطانيا، الاتفاقية المصرية السودانية عام 1959، اتفاقية 1953 بين الحكومتين المصرية والأوغندية، اتفاقية منظمة دول حوض نهر النيل «أندوجو» عام 1983 بين ثماني دول وأثيوبيا كمراقب، اتفاقيات تفاهم أعوام 1991 و1992 و1993 بين السودان وأثيوبيا، اتفاقية 1993 بين مصر وأثيوبيا».
2- ضرورة قيام دول منابع النيل بالإخطار المسبق لدولتي المصب والحصول علي موافقتهما قبل تنفيذ أي مشروعات في أعالي النهر.
3- أن ينص نظام التصويت في حالة إنشاء مفوضية لدول حوض نهر النيل علي الأغلبية المشروطة بمشاركة دولتي المصب «مصر والسودان» في الموافقة علي القرار، أي منحهما حق الفيتو.
وكرد فعل علي الموقف المصري السوداني الموحد، والرسائل التي بعث بها الرئيسان حسني مبارك وعمر البشير إلي رؤساء دول المنبع، قال «شامليس كيمال» المتحدث باسم الحكومة الأثيوبية «إن الاتفاقية الإطارية قائمة علي أساس القانون الدولي والاستخدام العادل لمياه النيل، لكن مصر تتلكأ، وقد رفضت البلدان السبعة جميعا الاتفاق السابق بين مصر وبريطانيا الاستعمارية».
وقال الرئيس الأوغندي «يوري موسيفين» إنه لم يعد ممكنا أن تستمر مصر في احتكار استخدام مياه النيل «لا أحد يريد أن تتضور مصر جوعا، لكن هذا الموقف الأناني من استخدام مياه النيل لابد من وضع حد له». قرارات شرم الشيخ
وفي قراءة لقرار مؤتمر شرم الشيخ قال «هاني رسلان» خبير الشئون السودانية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية «إن قرار دول المنبع يمثل خطورة كبيرة بالنسبة لها ولمصر أيضا في المستقبل».
وقالت صحيفة «جيما تايمز» الأثيوبية إن الكينيين يطالبون بالتعامل مع مياه النيل كما تتعامل الدول مع البترول الذي يتم استخراجه من أراضيها «وبالتالي يجب أن تشتري مصر ما تحتاج إليه من المياه من دول المنبع علي اعتبار أن كلا من البترول والمياه مصادر طبيعية للدول»!.
ورغم ذلك اتسم الموقف المصري بتفاؤل غير مبرر ولا مفهوم.
في تصريح للدكتور محمود أبوزيد وزير الموارد المائية والري السابق قبل تركه الوزارة بيوم واحد قال إنه لا توجد أي مشاكل مع دول حوض النيل تتعلق بحصة مصر من مياه النيل «والعلاقات بين مصر ودول الحوض طيبة وأفضل ما يمكن الآن في ظل توجه عدد كبير من الاستثمارات المصرية لهذه الدول حيث تم إبرام عدد من الاتفاقات لإنشاء مشروعات مختلفة في هذه الدول».
وعقب اجتماع شرم الشيخ قال د. محمد نصرالدين علام الوزير الحالي أن نتائج هذه الجولة لا تشكل أي مشكلة بالنسبة لمصر، وأن علاقات مصر مع دول المنبع لن تتأثر بما حدث في شرم الشيخ، فهي علاقات «أزلية»، وأعرب المهندس كمال علي وزير الري السوداني عن تفاؤله بشأن التوصل بمشاركة دول حوض النيل إلي اتفاقية تلبي رغبات جميع دول الحوض.
وعبر د. أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية عن تعجبه من «نغمة التفاؤل وتبسيط الأمور التي سادت تصريحات الجانب المصري أثناء جولات المفاوضات رغم وضوح المشكلة في ذهن المفاوض المصري، ففي جولة كينشاسا كانت هناك سعادة كبيرة بإجماع وزراء الموارد المائية والري في دول الحوض علي أهمية رئاسة مصر للاجتماع الوزاري في الإسكندرية في يوليو 2009، وقبل جولة الإسكندرية أكد مصدر رفيع المستوي بوزارة الموارد المائية والري أن هذه الجولة لن تشهد أي مفاوضات حول النقاط المعلقة للاتفاقية الإطارية(!)، ولكن البدائل الأخري ستتم دراستها وصولا إلي صيغ مقبولة من الجميع بما يضمن عدم المساس بالمقترحات المصرية - السودانية، وفي صحيفة الأهرام بتاريخ 28 يوليو وصفت إضافة بند مناقشة «الاتفاقية الإطارية» إلي جدول أعمال المجلس بأنها تطور مهم(!)، والواقع أن هذه المسألة تحتاج وقفة، فكيف نتصور انعقاد جولة الإسكندرية دون مناقشة الخلافات حول الاتفاقية الإطارية؟.. والسؤال هنا: لماذا كل هذا التبسيط للمشاكل علي الرغم من وجود مؤشرات قاطعة علي وعي المفاوض المصري بحقيقة الخلاف مع دول المنبع؟، ويعقب هذا السؤال سؤال آخر عن المسئول عن هذا التفاؤل وتبسيط الأمور: أهي الدوائر المسئولة عن الملف أم الدوائر الإعلامية المصرية أو كلاهما معا؟ وأغلب الظن أن الإجابة الأخيرة هي الصحيحة.
ويبدو موقف التفاؤل الرسمي المصري أقرب ما يكون نوعا من الخداع للرأي العام وتضليله، فالجهات المسئولة عن ملف مياه النيل وهي «وزارة الموارد المائية والري، ووزارة الخارجية، وجهاز الأمن القومي» تعرف بالتفصيل الدقيق مواقف دول حوض نهر النيل منذ نصف قرن علي الأقل.
فعقب توقيع مصر اتفاق 1959 أعلنت تنجانيقا وكينيا وأوغندا المستعمرات البريطانية السابقة مطالبتها بتخصيص خمسة مليارات متر مكعب من مياه النيل سنويا لمواجهة احتياجاتها التنموية، «وعدم التزامها بالمعاهدات والاتفاقات المعقودة أيام الاستعمار البريطاني»، ثم وقعت تنزانيا «تنجانيقا سابقا» مع رواندا وبورندي اتفاقية نهر كاجيرا عام 1977 والتي تتضمن بدورها عدم الاعتراف باتفاقيات 1929.
وأعلنت أثيوبيا رفضها لاتفاقيتي 1929 و1959 علي امتداد جميع عهودها السياسية منذ حكم الإمبراطور هيلا سلاسي ثم نظام «منجستو» وصولا إلي النظام الحالي، وأكدت أثيوبيا عام 1956 - 1957 أن من حقها تطوير مشاريع مائية علي مجري النيل الأزرق داخل أراضيها، وأنها لن تضمن الماء للدول أسفل مجري النهر «دول المصب» إذا كان ذلك يتعارض مع مصالحها ومتطلبات سكانها، ثم قررت إنشاء خزانين علي النيل الأزرق ونهر عطبرة لأغراض الري وتوليد الكهرباء «وهو ما اعتبر بمثابة إعلان رسمي عن بدء المرحلة الأولي من المواجهة بين السياسة المائية الأثيوبية والسياسة المائية المصرية، وتم هذا الإعلان بعد موافقة البرلمان الفيدرالي الأثيوبي وقبول البنك الدولي ومؤسسات دولية أخري دراسات الجدوي والتمويل من دون اشتراط القبول المسبق من دول الحوض الأخري بما فيها دولتي المصب، وهو ما اعتبرته أثيوبيا ورقة مهمة جديدة في يدها، وسعت عام 1981 لاستصلاح 227 ألف فدان في حوض النيل الأزرق بمقولة عدم وجود اتفاقات بينها وبين الدول النيلية الأخري، وقامت عام 1984 بتنفيذ مشروع سد «يشا» - أحد روافد النيل الأزرق - بتمويل من بنك التنمية الأفريقي «وهو مشروع يؤثر علي حصة مصر من مياه النيل بحوالي نصف مليار متر مكعب، وتدرس الآن ثلاثة مشروعات أخري يفترض أنها سوف تؤثر علي حصة مصر بمقدار 7 مليارات متر مكعب سنويا» كما قال د. وجيه دكروري الخبير الاقتصادي والاستراتيجي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قحط.. وفقر مائي
وبعيدا عما يقال بحق من أن نقص المياه في العالم والذي يتفاقم باستمرار في الكرة الأرضية قد يؤدي إلي نزاعات وحروب بين الدول، وأن حروب المياه ستحل محل الحروب من أجل البترول، وأن «أكثر من نصف سكان العالم مهددة بعدم الاستقرار السياسي وحتي بنزاعات عميقة بسبب التغير المناخي والشح في المياه» كما قال بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة.. فمن المؤكد أن مصر مهددة بالدخول في مصاف الدول التي تعاني من فقر مائي شديد، إن لم تكن تعاني منه الآن بالفعل.
فطبقا لبيانات وزارة الموارد المائية والري والبنك الدولي، فقد كان استهلاك مصر من المياه 63 مليار متر مكعب عام 1997 ارتفع عام 2000 إلي 72 مليار متر مكعب، وطبقا لاتفاقية السد العالي فإمكانياتنا الحالية من المياه تتلخص في التالي:
- 5.55 مليار متر مكعب هي حصة مصر من مياه نهر النيل.
- 4.1 مليار متر مكعب من الأمطار في الساحل الشمالي.
- 6.4 مليار متر مكعب من إعادة استخدام مياه الصرف لأغراض الري (ارتفعت إلي 6.7 مليار متر مكعب).
أي أن مصر تعتمد بنسبة 5.97% علي مياه نهر النيل، وهو ما يؤكد مقولة هيرودوت «مصر هبة النيل». فإذا أخذنا في الاعتبار أن حوض نهر النيل مستودع مائي يغطي 3 ملايين كيلو متر مربع ويعد أطول نهر في العالم فهو يمتد إلي مسافة 6825 كيلومترا طولا ويمر بتسع دول أفريقية، وتأتي مياه النيل من عدة روافد في هضبتين أساسيتين، الهضبة الأثيوبية وروافدها «النيل الأزرق والسوباط وعطبرة»، وهضبة البحيرات وأهم روافدها النيل الأبيض، وأن الهضبة الأثيوبية تشكل المصدر الرئيسي لمياه نهر النيل بنسبة 85% مقابل 15% من هضبة البحيرات.. لأدركنا صعوبة المشكلة، إضافة إلي أن مناخ سبع من دول حوض نهر النيل رطب معتدل حيث يبلغ معدل هطول الأمطار ما بين 1000 و1500 ملم/سنة، بينما مناخ مصر وشمال السودان قاري لا تتعدي نسبة هطول الأمطار فيهما 20 ملم/سنة، ولكن الأمطار التي تهطل علي الهضبة الأثيوبية والتي تصل إلي حدود 480 مليار متر مكعب سنويا يذهب معظمها إلي البحر أو إلي باطن الأرض، وكذلك الحال في الهضبة الاستوائية «هضبة البحيرات» التي يبلغ حجم الأمطار التي تهبط فوقها ما يزيد علي 1660 مليار متر مكعب من المياه سنويا، يصل منها إلي نهر النيل ما لا يزيد علي 5% أما الباقي فيضيع في المستنقعات أو في البحر أو يتسرب إلي باطن الأرض، ولذلك يعتبر نهر النيل «نهر شحيح موارد المياه» وأقل الأنهار عطاء، كما يقول د. محمد عبدالفتاح القصاص، فبينما يصب مجري النيل عند أسوان 84 مليار متر مكعب، نجد أن نهر الكونغو يصب عند نهاية مجراه في المحيط الأطلسي 1244 مليار متر مكعب، ونهر النيجر يصب 192 مليار متر مكعب. وعند قياس نصيب الفرد من المياه فسنجد أن نصيب الفرد في حوض نهر النيل 800 متر مكعب مياه، بينما نصيب الفرد في حوض نهر الكونغو 30 ألف متر مكعب مياه وفي حوض نهر النيجر 4600 متر مكعب مياه، إضافة إلي أن هناك مخاطر نقص الإيراد الطبيعي لمياه النيل بسبب موجات الجفاف المتسارعة في منابع النيل والتغييرات المناخية.
وفي ضوء هذه الحقائق تبدو مشكلة المياه في ارتباطها بنهر النيل مشكلة مركبة ومعقدة تهدد الحياة في مصر، فحصة مصر من مياه النيل كما سبق الإشارة 5.55 مليار متر مكعب طبقا لاتفاق مياه النيل بين مصر والسودان عام 1959، وكان سكان مصر في ذلك الحين 22 مليون نسمة، ارتفع في الوقت الحاضر إلي ما يقرب أو يزيد علي 80 مليون نسمة، وزاد الطلب علي المياه 6 أمثال مع التوسع الزراعي والصناعي، وقد تراجع نصيب الفرد من المياه المتاحة في مصر - طبقا لتقرير مركز معلومات مجلس الوزراء - من نحو 2604 أمتار مكعب سنويا عام 1947 إلي 860 مترا مكعبا بنسبة انخفاض 67% ثم إلي 750 مترا مكعبا عام 2008، أي أقل من خط الفقر المائي المحدد بـ 1000 متر مكعب سنويا بـ 250 مترا مكعبا، وتوقع التقرير أن يصل متوسط نصيب الفرد من المياه إلي 582 مترا مكعبا سنويا عام 2025 لتدخل مصر مرحلة قحط ومجاعة مائية.
تلويث النيل
ولا تقف المشاكل عند هذا الحد الخطر، بل تزداد صعوبة وتعقيدا نتيجة لتجمع مجموعة من العوامل السلبية فتفقد مصر سنويا كميات كبيرة من مياه النيل تقدر بحوالي 35% من المياه المنصرفة عند أسوان نتيجة مجموعة من الظواهر والممارسات، منها ضياع 8.1 مليار متر مكعب من مياه النيل في البحر المتوسط، و11 مليار متر مكعب من مياه الصرف في الزراعة تصرف في البحر، إضافة إلي ما يفقد بالبخر والرشح.
وتفقد مصر ما يقرب من نصف مواردها المائية «حيث لا تزيد كفاءة الري المفتوح والمعروف بالغمر عن 50% بما يؤدي إلي فقداننا نصف مواردنا المائية المحدودة ويضيف أعباء كثيرة علي شبكة الصرف الزراعي وطلمبات الرفع» كما يقول د. نادر نورالدين الأستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة.
ويعاني نهر النيل من ظاهرة التلوث، فكما يقول العالم المصري د. رشدي سعيد «فكما أن هذا النهر شريان يزود مصر بالمياه فهو أيضا وريد يستقبل كل مخلفات النشاط الزراعي والصناعي وبقايا الصرف الصحي في مصر.. تصور نهر النيل بأن عليه أن يؤدي وظيفة مزدوجة، وهي إمداد مصر بـ 90% من احتياجاتها من الماء العذب ونقل أكثر من ثلاثة أرباع نفاياتها.. وتدل القياسات المتاحة علي أن النهر قد بلغ حدا خطيرا من التلوث، حيث تلقي الملوثات علي مساره حتي يصبح عفنا وعليلا عندما يبلغ البحر عند المصب، فإضافة إلي كميات غير محدودة من نفايات الصرف الصحي للمدن علي شاطئيه، يحمل النيل ما يقرب من 18 مليار متر مكعب من مياه الصرف والنفايات الصناعية سنويا، وبهذا أصبح نهر النيل قناة الصرف الرئيسية، ويحتوي علي كل ما يمكن التفكير فيه من ملوثات وبكميات تتعدي بكثير الحدود المسموح بها لضمان حياة صحية، حيث يدخل نهر النيل سنويا ما يزيد علي 500 مليون متر مكعب من عوادم المصانع الحاملة للسموم والكثير من المعادن الثقيلة التي تأتي مع هذه النفايات والتي تترسب في الأراضي التي نأكل مما ينبت عليها، وتصل هذه النفايات إلي البحيرات والبرك التي نصيد منها أسماكنا، ولهذا أثره في إفساد حياتنا وزيادة تعرضنا للأمراض الخبيثة والمزمنة التي تزايدت في السنوات الأخيرة». وأدي إلغاء الدورة الزراعية والتركيب المحصولي واستنباط أصناف جديدة من المحاصيل لها مواعيد زراعة مختلفة إلي استهلاك غير منضبط للمياه في الزراعة، وكمثال فالتوسع في زراعة الأرز أدي إلي حدوث أزمة في مياه الري.. لأن الترع والمجاري المائية في مصر ليست مصممة لري مساحة 2 مليون فدان مزروعة بالأرز، والمفروض ألا تتجاوز مساحة الأرض المزروعة بالأرز مليونا و100 ألف فدان.
الجفاف والتصحر يهدد دول المنبع
وبالعودة لمشكلة العلاقات مع دول حوض النيل السبعة فسنجد أن السياسة المائية لمصر تقوم علي مجموعة من الافتراضات والأسس التي تحتاج إلي مناقشة وإعادة نظر.
- أولي تلك الحجج التمسك بـ «الحقوق التاريخية المكتسبة» والقول بأن الموقف المصري «يتماشي مع قواعد القانون الدولي وأعرافه، خاصة قاعدة منع الأضرار التي تمنع إقامة مشروعات تضر الدول الأخري علي مصب الأنهار»، وطبقا لما قاله د. محمد نصرالدين علام «فلدي مصر اتفاقيات سابقة، وعلي سبيل المثال لدينا اتفاقية مع إمبراطور أثيوبيا «منليك» وهي موقعة عام 1902، وهذه الاتفاقية سارية لمنع القيام بأي أعمال علي النيل الأزرق إلا بعد استشارة مصر.. ونفس الوضع ينطبق علي اتفاقية 1929 مع دول الهضبة واتفاقية 1949 مع أوغندا و1991 مع الرئيس موسيفني»، ويؤكد السفير رضا بيبرس المتحدث الرسمي باسم مصر في مؤتمر شرم الشيخ فإن الموقف المصري «يقوم علي أسس قانونية قوية تستمد صلابتها من الاتفاقيات القائمة السارية النفاذ التي تتفق مع قواعد القانون الدولي».
وترفض دول حوض النيل السبع الاعتراف بالاتفاقيات الموقعة في ظل الاستعمار، وهو ما أعلنته بوضوح في اجتماع شرم الشيخ، مؤكدة أن اتفاقية «الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة حوض النيل» والتي سيتم التوقيع عليها في 14 مايو دون البنود الثلاثة التي طالبت مصر بتضمينها في الاتفاقية، تلغي هذه الاتفاقيات، وعقد في العام الماضي 11 برلمانيا من بلدان حوض النيل لدراسة اتخاذ إجراءات قانونية أمام محكمة العدل الدولية ضد بريطانيا ومصر ومطالبة الدولتين بالتعويض عن «الخسائر» التي تكبدتها دول الحوض - حسب قولهم - بسبب الاتفاقية الاستعمارية الموقعة بين مصر وبريطانيا «نيابة عن دول شرق أفريقيا الخاضعة للاستعمار البريطاني في ذلك الوقت» عام 1929.
ويقول د. عبدالملك عودة أستاذ الدراسات الأفريقية «تستند مصر دائما إلي ما يسمي بـ «الحقوق التاريخية المكتسبة»، وهي قاعدة أصبح مشكوكا فيها الآن للأسباب التالية:
أولا: عدم اعتراف الدول الخارجية بهذه المعاهدات.
ثانيا: القانون الدولي حمال أوجه، بمعني أن هناك دائما رأيا يؤيدك وآخر يعارضك. وهذا يتضح من المعاهدة أو الاتفاقية التي تناقش فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تقضي مبادئ «هلسنكي» التي شغلت مجموعة القانون الدولي لمدة 20 عاما. وتسعي هذه الاتفاقية إلي تنظيم المياه في الانهار متعددة الملكية، وانتهت الجمعية العامة عام 1997 لصياغة قانون للأنهار رفضت اغلب دول الانهار توقيعه،
وحاولت مصر في مناقشات الجمعية العامة أن تدخل مبدأ احترام الحقوق التاريخية المكتسبة فلم تجد من يناصرها من الدول الأخري سواء في إفريقيا أو دول المصب في أماكن أخري من العالم.
- ثاني تلك الحجج التي تركز عليها السياسة المصرية، أن دول حوض النيل السبعة دول مدارية واستوائية مطيرة، وبالتالي فهي ليست في حاجة إلي مياه النيل. وتتجاهل السياسة المصرية بذلك اصابة هذه الدول بالجفاف والتصحر خلال القرن الماضي. وكمثال فقد تعرضت اثيوبيا بسكانها الـ 67 مليون نسمة لواحدة من اسوأ موجات القحط منذ سنوات، وهي من أشد بلاد العالم فقرا، وقد أقامت اثيوبيا عدة سدود علي عدة انهار داخل اثيوبيا منها سدود علي النيل الأرزق، لتطوير نظم الري وانتاج المحاصيل وتوليد الكهرباء، وحصلت علي تمويل من قوي دولية، وآخر سد اقامته اثيوبيا يحجز 9 مليارات متر مكعب سنويا، وقد اقامته بالتعاون مع الصين.
إسرائيل وأمريكا.. وتهديد مصر
-المشكلة الثالثة تتعلق بدور القوي الدولية والإقليمية- خاصة اسرائيل- في اذكاء الصراع علي مياه النيل، مثل التنافس الفرنسي الأمريكي في هضبة البحيرات والقرن الافريقي، ودعوة السياسة الايطالية للمنطقة ونشاطها المتنوع، والسياسات الإسرائيلية والايرانية والصينية واليابانية والجنوب افريقية.
وفي تقرير للادارة العسكرية في الجامعة العربية اشارة إلي «محاولات اسرائيل لاختراق أمن مصر والسودان بمحاصرة مياه النيل في حوضه الاعلي طبقا لاستراتجييتها الافريقية، وقد خططت اسرائيل لمساعدة اثيوبيا علي بناء مشروعات سدود علي النيل الازرق، تؤدي إلي انقاص حصة كل من السودان ومصر، كما خططت في الوقت نفسه لدعم «حركات التمرد» في جنوب السودان من أجل بث الاضطراب في حوض نهرالنيل».
ويتحدث د. محمود ابو زيد في تصريح ادلي به منذ ايام لصحيفة نهضة مصر عن «مخطط اسرائيلي- امريكي للضغط علي دول حوض النيل وخصوصا مصر لمد اسرائيل بحصة من مياه النيل من خلال طرح فكرة تدويل نهرالنيل!» وأن رفض مصر هذه الفكرة «دفع اسرائيل إلي اللعب علي وتر الاقتصاد وضخ استثمارات لدول المنبع الفقيرة التي من السهل أن تفرط في حصة من المياه مقابل العملة الصعبة»0 وأشار د. وجيه دكروري في نفس اليوم في صحيفة الاهرام (24 ابريل) إلي محاولات اسرائيل المتكررة للحصول علي حصة من مياه النيل عام 1974 وعام 1994 . وتحدث عن التوغل الاسرائيلي في دول الحوض للاضرار بحقوق مصر، والدراسات التي قدمتها اوائل عام 2009 إلي كل من الكونغو الديمقراطية ورواندا لبناء ثلاثة سدود، والاهتمام الإسرائيلي الخاص بنهر كاجيرا عليلحدود رواندا وبورندي، وتفعيلها للاتفاقية الموقعة بين اسرائيل واوغندا عام 2000 لاقامة مشاريع للري في 10 مقاطعات أوغندا متضررة من الجفاف، واستخدام المياه المتدفقة من بحيرة فيكتوريا لاقامة هذه المشاريع «وهو ما يؤدي إلي نقص المياه الواردة الي النيل الأبيض، أحد أهم الروافد المغذية لنهر النيل في مصر»، وأشار كذلك إلي الدور الإسرائيلي في اثيوبيا وجولة وزير الخارجية الإسرائيلية ليبرمان الافريقية في سبتمبر 2009 وشمولها بعض دول منابع النيل».. ويري بعض الخبراء أن الدور الإسرائيلي- رغم خطورته- ليس هو الاساس في تهديد المصالح المصرية وانما الاخطر هو الدور الأمريكي، يقول د. عبد الملك عودة «أعتقد أن كل ما يقال عن دور إسرائيل وأنها تتآمر علي المنطقة فيه تضخيم كبير، اسرائيل موجودة منذ أيام الحرب الباردة، وكانت تعمل تحت مظلة حلف الاطلنطي. ومنذ انتهاء الحرب الباردة أصبحت تعمل في دائرة السياسة الأمريكية، ولكنها تتجنب الاصطدام مع فرنسا وغيرها بشكل واضح كما تصطدم السياسة الأمريكية»، ويطرح د. عبد الملك عودة تساؤلا مهما عن السياسة المصرية في هذا النطاق قائلا 00 « إذا كانت الحكومة المصرية صديقة ( حليفة علي الأصح) للولايات المتحدة- وبصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا لهذه الصداقة- وكذلك هناك صداقة بين اثيوبيا وأغندا والولايات المتحدة.. فلماذا تنجح أثيوبيا واوغندا في الاستفادة من صداقتهما مع الولايات المتحدة بشأن مصالحهما في حوض نهر النيل، والحصول علي دعم عسكري ودعم تفاوضي، ونحن نفشل في ذلك ؟!.. هذه علامة استفهام يجب أن نبحث عن اجابة لها».
غياب مصري عن إفريقيا!
المشكلة الرابعة هو الغياب المصري عن الساحة الإفريقية «وانشاء العديد من الدول، مثل إسرائيل وأمريكا والصين مشروعات ضخمة داخل دول الحوض»، يقول د. مغاوري دياب رئيس الجمعية العربية للمياه إلي أن المشكلة الحقيقية التي أدت إلي فشل التفاوض وصولا إلي قرار دول حوض النيل السبع توقيع اتفاقية الإطار بدون (مصر والسودان).. «هو غياب الدورالمصري الذي كان لابد أن يكون اقوي من ذلك منذ عشر سنوات والذي ترك المجال مفتوحا علي مصراعيه لبعض الدول التي تعاني من نقص المياه وعلي رأسهم إسرائيل لتغري دول الحوض بالمال مقابل المياه، مما أثر علي العلاقة الجيدة بمصر»، ويقول حلمي شعراوي مدير مركز البحوث العربية والافريقية وأحد خبراء الشئون الافريقية القلائل في مصر» لابد للمنفعلين بأمر «الموقف الإفريقي»- ونحن كلنا بالمناسبة افارقة- أن يسألوا المسئولين المصريين عن مصير وزن مصر في أي تنظيم إقليمي بالقارة في عصر التنظميات الإقليمية ، حيث لا أجد فشلا يصارع وهن مشاركتنا مع بلدان الشمال الافريقي كله في التنظيم الاقليمي بالقارة، مع الاعتذار للمباريات الإعلامية هنا وهناك، أو هرج الزيارات الدبلوماسية ، والعمل التجاري الطارئ أو محدود القيمة».. وهناك مشكلات أخري تتعلق بفكرة خاطئة في السياسة المصرية تقوم علي «عدم تسييس مياه النيل» أي فصل موضوع المياه عن مجمل العلاقات المصرية مع الدول الإفريقية (!)، وضرورة ترشيد استخدام لمياه حيث يبلغ الفاقد منها 35%، والاهتمام بموضوع المياه الجوفية وتنظيم إدارتها وحمايتها من التلوث، ووضع خطة استراتيجية لمساهمة مصر في مشروعات أعالي النيل والاستثمارات بإفريقيا.. إن ما حدث في اجتماع شرم الشيخ وتوابعه في الأيام القادمة، ليس أكثر من جرس إنذار. وما لم تتحرك كل الجهات المسئولة الرسمية والشعبية لوضع استراتيجية حقيقية للعلاقات المصرية الإفريقية ووسائل تنفيذها.. فالخطر علي مياه النيل وعلي الحياة في مصر قادم بأسرع مما قد يتصور البعض.