حجر الفلاسفة
قصــــــــــةحـجـــــــــر الفـلاســـــــفة
كتبها: هانز كريستيان أندرسون فى عام 1859
ترجمة واعداد: غادة عبد المنعم عام 2007
شجرة الشمس
بعيدا .. بعيدا، فى الشرق البعيد، فى الهند. زمان.. زمان.. عندما كانت الهند كأنها فى آخر الدنيا. هناك.. تقف فى شموخ شجرة الشمس ، الشجرة التى لن ترى فى حياتك كلها شجرة نبيلة وشامخة مثلها. قمة شجرة الشمس وحدها تمتد أمامك لأميال وكأنها غابة كاملة، شجرة الشمس تضم آلاف الفروع التى تمثل آلاف الأنواع من الأشجار المنتشرة فى العالم كله، كل فرع فيها هو وحده شجرة مستقلة، قد يكون نخلة، أو شجرة خوخ أو أناناس. هنا فى شجرة الشمس توجد أيضا فروع صغيرة مدببة الرأس، وأخرى أكبر بعقد ومنحنيات تتخذ شكل الوديان والهضاب، مغطاة بالزهور فى جميع أنحائها كأنها مرج متفتح، أو حديقة رائعة، عليها تنمو أعشاب صغيرة فتبدو كأنها مكسوة بقطيفة خضراء. هنا فى جوار شجرة الشمس، وفوقها، توجد طيور من أرجاء العالم، تجتمع جميعها سويا، طيور قادمة من غابات أمريكا البدائية وأخرى من حدائق دمشق المزهرة، وثالثة من صحراء أفريقيا. هناك؛ حيث يتفاخر الأسد والفيل، كلاهما، بأنهما الحاكمان المطلقان لغابات أفريقيا الشاسعة. هنا أيضا طيور جاءت طائرة من المناطق القطبية. وبالطبع هنا تعيش أيضا طيور اللقلق والسنونو وتعيش الظبيان والسناجب والأيول، بالإضافة إلى مئات من الطيور والحيوانات الجميلة الرشيقة الأخرى التى وجدت فى شجرة الشمس وطنا لها. قمة الشجرة حديقة واسعة جدا، فى وسطها تماما فرع على هيئة تل، فوقه تنتصب قلعة من الكريستال، حيث يمكنك مشاهدة أركان السماء الأربعة، من فوق أربعة أبراج من السوسن منتصبة أعلى القلعة، فى مؤخرة كل برج منها سلالم لولبية تلتف حوله، عن طريقها يمكنك الصعود لقمة البرج والخروج لشرفة من الأوراق وتويجات الزهور لها شكل أجمل ما يكون، حيث عدد من النوافذ الدائرية مزينة بزينات براقة فى أعلاها. هذه الأبراج المنتصبة فوق قلعة الكريستال بأعلى قمة شجرة الشمس، هى أكثر مبانى العالم ارتفاعا، حيث لا يوجد أى مبنى على وجه الأرض شاهق هكذا، ولا أى مبنى يقترب لهذه الدرجة من السماء الزرقاء بشمسها ونجمها. تظهر على الجانب الآخر، تحت الأبراج، ردهات القلعة، متسعة رحيبة، بحوائطها الرائعة التى تعكس صور العالم، حيث مشاهد متنوعة، كثيرة جدا، لكل شىء يحدث تحت الشمس، لذلك تستخدم هذه الحوائط، لقراءة أخبار العالم، لذا فلا داعى لقراءة الجرائد هنا، فى قلعة الكريستال، ومن يقرأ الجرائد وهو يرى أمامه كل ما يحدث فى العالم؟! يكفيك أن تقف فى أى مكان داخل قلعة الكريستال، فتستعرض لك حوائط القلعة البلورية كل ما ترغب فى رؤيته من أحداث، هذه الحوائط تظهر المزيد من الأخبار والأحداث والمعارف، للشخص الأكثر حكمة فى العالم، هذا الشخص الذى يعيش هنا بالفعل، اسمه صعب النطق ومركب جدا حتى أنك لا تستطيع نطقه، لذا فقد اختفى اسمه من الوجود، ببساطة هكذا تم حذفه. أحكم الناس هذا، يعرف كل شىء، كل ما يمكن للبشر على الأرض معرفته أو تخيله، كل اختراع موجود بالفعل، أو لم يتم اختراعه بعد، كل هذا وأكثر، حتى أن النبى سليمان الحكيم، نفسه، كما يقولون، لم يكن فى نصف معرفة هذا الرجل . ما يشغل بال الحكيم
أحكم الناس كان يستطيع التحكم فى قوى الطبيعة، ويمكنه التلاعب بأقوى الأرواح، حتى الموت نفسه كان ملتزماً بأن يعطيه كل صباح قائمة بأسماء من سيموتون فى ذاك النهار، فى كل صباح كان يعطيه القائمة، حتى فى اليوم الذى مات فيه النبى سليمان نفسه، كان أحكم الناس قد تسلم قائمة بمن سيموتون متضمنة اسم النبى سليمان، والذى كان مجبرا كما نعلم، رغم كل سلطانه، على أن يموت فى النهاية.
وهذه الحقيقة، حقيقة أن الموت الذى استسلم له النبى سليمان، تستسلم له كل المخلوقات، كانت كثيرا ما تشغل تفكير أحكم الناس، الرجل الكبير فى قلعة الكريستال، التى تنتصب فوق قمة شجرة الشمس. أحكم الناس كان يعلم أنه هو أيضا، ومهما بلغت حكمته، ومعرفته، حتى لو كان أعلى من باقى البشر فى الحكمة، حتى لو كان بالنسبة لهم كبرج عال لا يمكنهم مطاولته، حتى هو، لا بد سيأتي يوم يموت فيه. كان يعلم أن أبناءه أيضا سيذوون، كأوراق الشجر التى تتحول إلى تراب. لقد شاهد بشر يذوون ويذبلون، يتساقطون ويأفلون كأوراق الأشجار، وشاهد بشراً آخرين يأتون ليأخذوا أماكنهم. فأوراق الشجر التى تسقط لا يمكن لها أن تنبت من جديد، بل تتحول إلى تراب تمتصه نباتات أخرى، وتنبت بدلا منها أوراق جديدة. لذا، فإن كبير القلعة الحكيم كان كثيرا ما يتساءل "ما الذى يحدث للإنسان؟ ماذا يحدث عندما يمسه ملاك الموت؟ ما هو الموت؟ ما هى كينونته؟ الجسد يتحلل، والروح ..؟ نعم الروح ماذا يحدث لها.. هل تتلاشى هى الأخرى؟" أحكم الناس سمع صوت الدين المريح يقول له "لا.. بل تذهب الروح للحياة الأبدية، للخلود". "ولكن هل يمكن معرفة كيفية التغير الذى سيحدث لنا ؟ أين وكيف سوف نكون بعد الموت؟" رد عليه الصوت الورع : "فى أعلى، فى الجنة، هناك نأمل أن نذهب." ردد الحكيم " أعلى !". ركز عينيه على القمر والنجوم أعلى منه. شاهد النطاق الأرضى أعلاه وأسفله، حيث يستمر التغير فى الأرض باستمرار، وحيث يتنوع بتنوع المكان الذى يوجد فيه الإنسان. حتى إذا صعدت إلى أعلى قمة فى الأرض، فإن الهواء الذى يبدو لنا نقياً وشفافاً هنا، سيبدو لك هناك مظلماً وممتلئاً بالسحب؛ والشمس هناك تضطر لإبعاد أشعتها المتألقة، وتتراجع مجبرة عن إرسال ضوئها. آه.. كم هى ضيقة الحدود التى تحجب الجسد عن الرؤية؟! وكم تبدو ضئيلة رؤية الإنسان ! إذا قارناها بالرؤية بعين الروح .ثم كم هو قليل ما يعرفه أحكم البشر، على كثرة ما يعرف، مقارنة بما يجب علينا جميعا أن نعرفه. كتاب الحقيقة فى أكثر الحجرات سرية بالقلعة، يوجد أعظم كنز فى الأرض – كتاب الحقيقة والمعرفة. الحكيم تعود أن يقرأ فيه، صفحة صفحة. وكل إنسان يمكنه أن يقرأ فى هذا الكتاب، ولكن ما قد يقرأه أى شخص عادى، ليس أكثر من مجرد شذرات. فبالنسبة لعيون الكثيرين تظهر العديد من السطور مختلطة، مضببة وغير واضحة، لأن كلمات الكتاب يمكن ألا تتضح فى صفحات معينة، حيث الكتابة قد تبدو باهتة وكأن غشاوة تغطيها، أو قد تتحول الصفحات لصفحات فارغة. ولكن كلما كان الشخص أكثر حكمة، كلما تمكن من القراءة فى كتاب المعرفة. وهؤلاء الأكثر حكمة يتمكنون من قراءة معظم الكتاب. الحكيم، الذى هو أكثر الناس حكمة، ويسكن هنا قلعة الكريستال، يستطيع توحيد ضوء القمر والشمس مع ضوء المنطق وقوى الطبيعة الخفية. ومن خلال كل تلك القوى تتضح له الكثير من الكلمات والمعانى والأشياء فى صفحات الكتاب، إلا تلك التى فى القسم الخاص بالحياة بعد الموت، حيث لم يستطع رؤية ولا حتى نقطة وحيدة بوضوح كاف. وهذا ما آلمه كثيرا. كان يتساءل: ألن يستطيع أبدا، هنا، فى هذه الأرض، أن يحصد التنوير الذى يمكنه من الإلمام بكل ما كُتِبَ فى كتاب الحقيقة حتى يصبح كله واضحا له؟ إن النبى سليمان كان قد استطاع فهم لغة الحيوانات وترجمة كلامهم لنشيد؛ لكن هذا لم يجعل منه الأكثر حكمة. هو أيضا تمكن من معرفة طبيعة النباتات والمعادن وقوة كل منها، والقدرة المخبأة فيها على الشفاء من الأمراض؛ وهكذا تمكن من إبعاد الموت الوشيك. لكنه لم يتمكن من تدميره. أحكم الناس كان يبحث، فى كل المخلوقات التى عرفها، عن الضوء الذى يشرق، فيُظهر له يقين أبديه الحياة، لكنه لم يجده. كتاب الحقيقة مفتوح أمامه، لكن صفحاته كانت تبدو له فارغة. الدين، أمامه فى الكتاب السماوى يعد بحياة أبدية، لكنه يرغب فى قراءة هذا الوعد فى كتابه، كتاب الحقيقة والمعرفة. للأسف، لم يظهر له فى الكتاب ولا حتى حرف واحد. الوعد كان لديه خمسة أبناء؛ أربعة أولاد تعلموا وتربوا كما يجب أن يتعلم أبناء هذا الأب الحكيم، أما الابنة فكانت جميلة لطيفة وذكية، ولكنها كانت عمياء، وهذا الحرمان من البصر، لم يكن يمثل لها شيئا. فوالدها وإخوتها كانوا لها عيونا على العالم الخارجى، وخيالها الحى الخصب جعل كل شىء واضحا لبصيرتها الذهنية. الأبناء لم يخرجوا بعيدا عن قلعة أبيهم من قبل، إلا فى حدود تطاول أفرع الشجرة، والأخت لم تبتعد وتغادر بيت أبيها أبدا. لقد قضوا طفولة سعيدة فى وطن نشأتهم، مستمتعين بجمال وعطر شجرة الشمس، وككل الأطفال أحبوا سماع القصص وتعلقوا بها. أخبرهم والدهم أشياء كثيرة، أشياء ما كان ليفهمها غيرهم من الأطفال؛ ولكنهم كانوا فى مهارة وذكاء الكبار الناضجين. شرح لهم والدهم ما يشاهدونه فى صور الحياة على حوائط القلعة البلورية - أفعال البشر - وتطور الأحداث فى كل بلدان الأرض. الأبناء كانوا غالبا ما يبدون رغبتهم فى الرحيل والطواف بهذا العالم المتنوع، والاستمتاع بكل ما فيه من هبات عظيمة، لكن والدهم كثيرا ما أخبرهم أن العالم ليس به سوى الكدح: التعب والصعوبات. وصعوبات العالم وتعبه ليست فى حقيقتها كما تظهر لهم عندما يشاهدونها من وطنهم الساكن الجميل، على حوائط البلور، لكنها أشد وأصعب بكثير . أخبرهم والدهم أن هناك ثلاث جواهرعظيمة موجودة فى هذا العالم، وهى الحقيقة والجمال والخير. وقال لهم إنه باتحاد هذه الجواهر الثلاث تتبلور جوهرة ثمينة، أغلى من الماس– جوهرة فى عظمة وقيمة البصيرة نفسها، فى ضيائها كل شىء يعتم . هذه الجوهرة تسمى حجر الفلاسفة. أخبرهم أيضا أنه بالبحث عن هذه الجوهرة يكتسب الإنسان معرفة بوجود الله. وكل من يكتشف هذه الجوهرة التى هى حجر الفلاسفة تتحقق له البصيرة. هذه المعلومات كانت أكبر من إدراك الأطفال؛ لكن أبناء الحكيم أدركوها، كما أن غيرهم من الأطفال سوف يتعلمون فهمها بمرور الزمن. الأبناء سألوا والدهم عن الحقيقة والجمال والخير. والدهم شرح لهم بكثير من الطرق. قال لهم إن الله، عندما خلق الإنسان من تراب الأرض، لمسه خمس مرات، تاركا فيه خمس قنوات قوية للشعور، والتى سميت فيما بعد بالحواس الخمس. عن طريق الخير والجمال والحقيقة، يمكننا الرؤية والفهم والإدراك، ويمكننا أن نقدِّر ونحمى ونشجع الحواس الخمس. وبتلك الطريقة تشرق علينا حواسنا، فتتحقق لنا بصيرة عقلية وجسدية، داخلية وخارجية، وتعمل حواسنا للجسم والعقل معا. الأبناء فكروا بعمق فى كل هذه الأمور، وتأملوها ليل نهار. إلى أن حلم أكبرهم بحلم بديع، غريب فى حكيه، وهو الحلم نفسه الذى حلم به الثانى والثالث والرابع أيضاً. الإخوة جميعا شاهدوا الحلم نفسه فى نومهم، حيث كان كل منهم قد خرج مسافرا فى العالم باحثا عن حجر الفلاسفة. وفى كل حلم كان كل منهم يجده، ثم يعود مسرعا على حصانه، فى بزوغ الشمس، عبر مروج من القطيفة الخضراء، إلى وطنه، حيث قلعة والده، والحجر يتلألأ على جبينه كضوء وضاح، وبهذا الضوء المشع كانت تتضح الكلمات فى كتاب الحقيقة، حيث أضيئت كل كلمة قيلت فيه عن الحياة خلف القبر. الإخوة الذكور وحدهم هم من حلموا بالرحيل، لكن الأخت لم تحلم أبدا بالسفر فى العالم الخارجى، هذا ما لم يرد لذهنها؛ فعالمها كله كان بيت والدها. البصر يحارب فى العالم قال أكبرهم "سوف أرتحل للعالم الخارجى، علىَّ أن أختلط بالناس، وأعرف ما هى الحياة هناك. سوف أفعل الخير وأنتهج الحقيقة وأحمى الجمال. ستتغير الحياة والأحوال أينما أحل إلى الأفضل." ثم قال لنفسه: "أليست هذه أفكار عظيمة وجريئة، كحال تفكيرنا بشكل عام هنا فى هذا البيت؟" . هكذا فُتِحَ باب سفر الإخوة للعالم ومواجهتهم لعواصفه واغواءاته، لأشواكه وجروحه. كان الأخ الأكبر، مثله مثل بقية إخوته الخمسة، لديه حواس مشحوذة جيدا ومثقفة، من الداخل والخارج. وكبقيتهم كان يملك حاسة واحدة حادة جدا، ومتطورة، متفوقة على الحواس الأربع الأخرى لديه. بالنسبة للكبير، كان البصر هو حاسته الرفيعة المتفوقة، تلك التى كان يأمل أن يستخدمها بشكل خاص فى خدمة البشرية، والخير والحق والجمال. كانت لديه عيون قد تكتشف ما فى أعماق الأرض من كنوز مخفية، ويمكنها النظر فى قلوب البشر وأفكارهم حتى يصيروا كأنهم لوح من زجاج أمامه؛ عيون تختبر الناس والأشياء، حتى يمكنه أن يقرأ فى كل شخص أكثر كثيرا مما يظهر عليه، فهو يرى كل شىء، يرى الخد عندما يتورد أو يشحب، والعيون عندما تتجلى فيها البسمات. الظبى رافق الأخ الأكبر حتى الحدود الشرقية لبلاده. وهناك وجد البجعة البرية، فتبعها، حتى وجد نفسه بعيدا فى الشمال، بعيدا جدا عن أرض والده، حيث التوسع الشرقى لنهاية الأرض. هناك، فتح عينيه بدهشة، قائلاً : كم من الأشياء التى يمكنك رؤيتها هنا! .. إنها مختلفة جدا عن الصور المجردة التى كنت أشاهدها فى المرايا البلورية ببيت أبى. فى البداية، زاغ بصره من الاستغراب لقبح القمامة التى وجدها حوله فى كل مكان، وما تمثله من سخرية من الجمال؛ لكنه جاهد للحفاظ على عينيه، حاول العثور لهما على عمل، تمنى أن يذهب ذهنيا وبكل إخلاص للسعى لفهم الحقيقة والجمال والخير، لكى يساعد فى اظهارها وسيادتها فى العالم. لكنه لاحظ ان إكليل الورد الذى في منتهى الجمال يعتقد الناس أنه بشع المظهر، وأن الخير الصافى لا يلحظه أحد، فى أغلب الأحوال، بينما المستوى المتوسط من الجمال والخير يتعرف عليه الناس، يستحسنونه، ويصفقون له، وهو ما كان يستحق الاستهجان منهم، لا المدح. لقد أدرك أن الناس ينظرون للرداء، لا لمن يرتديه !! ومن خلال الاسم لا الفعل، يتعرفون على ما حولهم، يمنحون الثقة للسمعة لا للخدمات الحقيقية. لللأسف فى كل مكان، فى الأرض، يحدث الشىء نفسه. قال لنفسه "أعتقد أننى يجب أن أقوم بهجمة نظامية على هذه الأشياء". لم يوفر جهده. لكنه بينما كان يبحث عن الحقيقة جاء الشر ليعترضه، بسرور كاد الشيطان يسلبه عين الرائى، البصير. لكن هذا قل أن يحدث لمن يسلك الطريق المستقيم الذى اتخذه، لقد عمل بكثير من الدهاء والمثابرة ما سمح له أن يبحث عن الخير، ويكتشف الجمال. ولكن بينما كان يتأملهما؛ اذا بروح الشر تُطَّيْر غبارة، استقرت فى إحدى عينيه، ثم واحدة أخرى، استقرت فى عينه الأخرى. نفخ الشاب التراب الذى توهج ألما من عينيه، لكن نظره القوى كان قد تأذى بالفعل، لقد اختفى نقاء ووضوح نظره، والرائى صار كالأعمى فى هذا العالم، لم يعد لديه المزيد من الإيمان ولا التصديق فيما تراه عيونه. لقد فقد رأيه الصائب، وكذلك فقد نفسه، ويئس من كليهما. وعندما ييأس الإنسان من نفسه والعالم، كل شىء ينتهى بالنسبة له. السمع يحاول لم تكن أخبارا جيدة تلك التى يحملانها للوطن. فقد قالت البجعة البرية، وهى تطفو على البحر فى اتجاه الشرق "انتهى كل شيء!!". وغرد السنونو الذى طار تجاه الشرق حتى شجرة الشمس " انتهى كل شيء!!". قال الابن الثانى "أعتقد أن الرائى لم يعد يحاول، لكن السامع قد يكون أكثر نجاحا." كانت حاسة السمع لدى الابن الثانى حادة لأقصى درجة، حتى يمكنك أن تصفه بأنه يستطيع سماع الأعشاب وهى تنمو. وقع السامع فى هوى الرحيل، وهاهو ينوي أن تكون لديه قدرة وعزم أصيلين، ها هو فى النهاية، يركب بعيدا. السنونو رافقه والبجعة تبعته، حتى وجد نفسه خارج بلاده، فى العالم الواسع، بعيدا جدا عن بيته . اكتشف سريعا جدا أنه من الجيد للغاية أن يكون لدى المرء سمع حاد. فهو لا يمكنه فقط سماع الأعشاب وهى تنمو، ولكن بإمكانه أيضا سماع قلب كل إنسان وهو يخفق، فى الأسى أو الفرح. العالم كله بالنسبة له كان أشبه بورشة كبيرة لصانع ساعات، فيها كل الساعات تدق "تيك.. تيك"، ولكل ساعة دقة مميزة، وعندما تتغير الدقة من " تيك.. تيك" وتصبح "دينج، دونج" فهذه إشارة دقيقة على وجود خطأ، إشارة لا يمكن بالنسبة له تجاهلها أو تحملها لوقت طويل. لم تتمكن أذنه من تحمل كل الدقات المختلة "دينج.. دونج.. دونج.. دونج .. كاك.."، لم يتمكن من تحمل كل تلك الضجة، وكل هذا الخلل. وفى النهاية أصبحت الضجة والاضطراب أكبر كثيرا من قدرته على الاحتمال. لم يحتمل سماع ذاك الشاب الوغد الذى كان فى السادسة عشرة من عمره وما زال يتصرف بصبيانية ومراهقة ويثير الكثير من الاضطراب أينما حل، الذى تتسع ضحكته العالية المزعجة، ويتبعه التصفيق والإستحسان عبر كل شارع وبيت، حتى أن صدى التصفيق كان يسمع فى بيوت القرى كلها. بينما كل ما كان يفعله هذا الشاب ليس إلا مقالب قميئة مزعجة، وكل ما كان يقوله ليس إلا سخرية قاسية جارحة لغيره، لا ذوق فيها ولا مراعاة، ها هى الحماقة تثق فى نفسها والناس تنافق؛ والشاب الأحمق يسخر ويملأ العالم حوله بالضوضاء. وليت الضوضاء انتهت عند هذا الأحمق، وما يصدر عنه، لكنها كانت تعلو فى كل مكان حتى صارت لا تطاق. السامع وثق فى أصابعه. وضعها فى أذنه، حتى لا يسمع المزيد من التعليقات الكاذبة المزيد من الأيمان والأقسام الكاذبة. وثق فى أصابعه أكثر فأكثر، وأدخلها أكثر فأكثر داخل أذنيه، حتى.. انفجرت فى النهاية طبلة أذنه. والآن، لم يعد باستطاعته الإمساك بشىء، لا من الحقيقة ولا من الجمال ولا من الخير. فقد كان السمع هو الوسيلة التى يرجو أن يحقق بها معرفته. أصبح الآن صامتا وشكاكاً. وفى النهاية لم يعد يثق بأحد، ولا حتى بنفسه. ولم يعد لديه أى أمل فى أن يجد أو يحضر لوطنه الجوهرة الثمينة. لقد تخلى عنها كما يئس من نفسه أيضا. هذا اليأس الأخير، من نفسه، كان أسوأ ما حدث له. ها هو طائر السنونو يسعى فى طيرانه تجاه الشرق، حاملا الأنباء السيئة، حتى وصل القلعة فى شجرة الشمس. الشاعر يتغير الأخ الثالث قال: "سوف أحاول الآن" لدى أنف قاطع"، هذا ليس تعبيرا مناسبا، ولكنها كانت طريقته، وعلينا أن نتبع رغبته، فهو شخص مرح، وعلاوة على ذلك شاعر حقيقى؛ يستطيع تحويل أشياء كثيرة عادية بالطريقة التى يتكلم بها عنها لتبدو شاعرية، كما أن الأفكار ترد له قبل أن تطرأ على أذهان الآخرين. قال الشاعر "يمكننى أن أشم" ووصف حاسة الشم الفائقة لديه على أنها ذات قوة هائلة فى مجال الجمال. قال "يمكننى الشم.. والعديد من الأماكن لها شذاها أو جميلة طبقا لاختبار متكرر. المرء يشعر انه فى بيته فى جو الفندق، في توهج شمعة من الشحم، عندما يشم رائحة خليط من جواهر الدخان والتوباكو السىء. الآخر يفضل الجلوس ضائعا متضوعا بقوة عطر الياسمين أو رائحته عطر زيت الزيتون. وذاك الآخر يبحث عن نسمة البحر العليلة، بينما هناك رجل يتسلق قمة الجبل البعيدة ، لكى ينظر من أعلى للحياة الممتلئة بالمشاغل مصغرة أسفله" عندما تكلم فى تلك اللحظة، بدا كأنه قد خرج بالفعل للعالم الخارجى، كأنه بالفعل يعرف ويرافق هذا الشخص. ولكن هذه الخبرة، كانت حدسية – كانت شاعرية من اختلاقه، منحة من السماء وهبت له منذ كان فى المهد. طلب الدعاء بالسلامة من أهل بيت والده فى شجرة الشمس ورحل على قدميه، مبتعدا عن المشهد السعيد الذى يحيط ببيته. وصل إلى حدوده محمولاً على ظهر نعامته، التى تجرى أسرع من الحصان، وفيما بعد عندما شعر أنه بصحبة البجعة البرية ركن إليها لأنه يحب التغيير، ثم بعيدا طفا حتى عبر البحر إلى أرض بعيدة، حيث كانت هناك غابات كثيفة، وبرك ماء عميقة، وجبال عالية، ومدن كريمة. أينما حل، بدا كأن أشعة الشمس تسافر معه عبر الحقول، إلى كل زهرة، وكل دغل وشجرة، مطلقة ومجددة الشذا، كما لو أن الوعى والادراك كانا يرتحلان بالقرب منه، حاميين وصديقين للشخص الذى يمكنه تقدير قيمتهما وفهمهما. أينما ارتحل كنت تلاحظ تورد الورد فاضا أوراقه وموجها الورود الأكثر جمالا فى اتجاهه؛ وحتى جذع الشجرة الخشبى الملطخ بالوحل وجد الشاعر فيه جمالا. قالت بزاقة الخشب السوداء "سوف ألطخ الوردة المبهجة بأوساخى، سوف أجرجر ذيلى الموحل عليها، لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك، ولكن ذلك سيكفى لأجبر الشاعر على رؤية القبح". رأى الشاعر ما تفعل بزاقة الخشب وقال لنفسه "آه .. هذا ما يدفع الجمال للرحيل من هذا العالم"، ثم ألَّف أغنية عما حدث، أغنية تحض الناس على حب الجمال، غناها بعدما ألفها، لكن لم يستمع إليه أحد. فأعطى عازف الدرامز جنيهين وقلماً، لحَّن العازف الأغنية وعزفها فى طرقات المدينة، وعندما استمع إليها الناس قالوا "هذه المقطوعة جميلة"، الشاعر كتب الكثير من الأغانى، عن الحقيقة والجمال والخير. أغانيه سمعها المسافرون فى الخان والشموع توقد الليل، وفى الحقول التى تضوع برائحة القرنفل الطازجة وفى أعالى البحار وفى الغابة ؛ هاهو هذا الأخ، يبدوأكثر حظا من الآخرين. لكن لا، فروح الشر كانت غاضبة لهذا النجاح، لذا، خلطت السخام بالعطر لتربك الشاعر. الشيطان عرف كيف يرتب كل شىء، فقد أحاط الشاعر برائحة عطر تفقد الانسان وعيه، وتنسيه مهمته ووطنه، حتى يفقد فى النهاية نفسه ويتلاشى فى الدخان. عندما سمعت الطيور بما حدث ، حزنت لثلاث أيام، وانقطعت عن التغريد والغناء لثلاث أيام اعلنت الطيور الحداد، بزاقة الخشب السوداء صارت أكثر سوادا ليس من الحزن ولكن من الحسد، فقد وجدت الحداد على الشاعر مبالغا فيه، ورددت بحسد "يجب أن يقدموا لى العطر، لأننى من منحته فكرة أكثر أغانيه شهرة، أنا من لطخت الوردة ببيضى؛ يمكننى أحضار شاهد على تلك الحقيقة". تلك الأنباء لم تصل موطن الشاعرفى الهند؛ فالطيور كلها ظلت صامتة لثلاثة أيام، وكم كان حزنها عميقا طوال فترة الحداد، لكنها نسيت بعدها؛ فهكذا تسير الحياة. العَالِم يسعى قال الأخ الرابع بمرح"الآن على أن اخرج للعالم، وأختفى كالباقين". كان مرح المزاج مثل الثالث، لكنه ليس شاعرا سريع الخاطر. الأخوان الأكبر رحلا، وكانا يملآن القلعة بهجة، فالرؤية والسمع يعتبران دائما من أكرم حواس الإنسان، وهما ما كان يؤمل منهما الحفاظ على بقية الحواس التى ينظر لها باعتبارها أقل أهمية. لكن الأخ الأصغر كان له رأى مختلف؛ كان يؤمن من خلال ما حصله بتجربته أن ما يمر بالفم يحكم ما يظهر بالعقل، وبناء على ذلك فإن هذا الأخ أخذ على عاتقه أن يختبر كل شىء بنفسه، كل ما كان مخزنا حوله فى الزجاجات والبرطمانات؛ كان يتذوقه وكان هذا الجزء هو الأشد قسوة فى عمله. عقل كل شخص كان بالنسبة له كالوعاء يتلون بما يصله؛ فلكل بلد مطبخ ولكل بلد طريقة فى التفكير، مطبخ ذهنى. الأصغرقال لنفسه "لايوجد ما هو لذيذ هنا" وتمنى أن يخرج للعالم ليجد شيئا لذيذا يلائم مذاقه. "ربما يكون الحظ أكثر محاباة لى أكثر مما كان لإخوتى. سوف أبدأ فى ترحالى، لكن أى طريقة للترحال سأختار؟"، ثم سأل والده ماذا يستخدم فى السفر، والده يعلم أى من الاختراعات تم اختراعها بالفعل، وأي على وشك الاختراع، بالون الهواء لم يتم اختراعه بعد ولا السفن البخارية ولا القطارات. قال "فليكن، إذن، سوف أختار بالون الهواء؛ والدى يعلم ما الذى اخترعوه وقد أرشدنى، قال لى إنه لم يتم اختراع أى من تلك الاختراعات بعد، والناس ستشاهد البالون فى السماء فتعتقد أنه شبح يطفو فى الهواء، ليس إبلاً، ثم حمل معه حاجياته، خاصة الثقاب الميكانيكى والذى لم يكن قد اخترع بعد هو الآخر، أخذه معه لكى يشعل به البالون. ركب البالون، ولمسافة أطول من بقية إخوته رافقته الطيور، كان يملأهم الفضول لمعرفة كيف ستنتهى هذه الرحلة. كثير منهم جاء للمشاهدة، وبعضهم جاء لنيل فريسته من الطيور المسالمة؛ كلهم كانوا يعتقدون أنه قد ظهر طائر جديد عملاق، وأنه فى طريقه لاكتساب صحبة طيبة من الرفقاء. جاءوا من كل مكان حتى ازدحمت بهم السماء وصارت مغطاة بغيمة كبيرة. ها هو الشاب الآن فى العالم الكبير خارج موطنه، حيث نزل البالون على مدينة كبيرة، هبط فى أعلى نقطة بها، أعلى برج كنيسة. كان البالون يهبط ويعلو ثانية فى الهواء وهو ما لم يكن مفروضا أن يحدث، ولكن كيف لأى شخص أن يعرف ما سيحدث مع شىء جديد، فى تجربة شيء لم يتم حتى اختراعه بعد. الطيور لم تعد تحوم حوله فقد تعبت من ملاحقته، وكان الفتى قد تعب منهم هو الآخر. كل مداخن المدينة كانت تدخن. عزى الشاب نفسه قائلا "يبدو أن هناك احتفالا يقام على شرفى"، قال هذا لنفسه وهو يتسلى بمتابعة الناس التى تسير فى الشارع من مكانه أعلى برج الكنيسة. هناك شخص يمشى فخور بما يحمله من مال؛ وآخر فخور بمفاتيح بيوته وخزائنه التى يحملها، وثالث كان يتيه كبرا بمعطفه البالى، ورابع بجسده الفانى. قال الشاب فى حنق "كلهم كبرياء وغرور، سوف أنزل، أتذوق وأختبر وألمس، لكننى أولا سوف أبقى هنا لأستريح قليلا، فالهواء يداعب ظهرى بلطف، سأبقى هنا طالما أنه يهب، آه إنه من اللطيف أن ينام المرء متأخرا فى الصباح، بعدما يكون قد بذل مجهودا كبيرا، سأبقى فى مكانى والهواء يهب بلطف فهو يسعدنى". وهناك بقى الشاب، دون أن يدرك أنه يجلس على عمود الريح الذى يدور من تلقاء نفسه، مخلفا احساسا كاذبا بأن الهواء يتحرك، فتخيل الشاب أنه ما زال بإمكانه استخدام البالون للنزول، وهو مالم يكن حقيقيا، فالهواء كان ساكنا والبالون لا يمكنه الطيران. رحلة العمياء فى الهند فى القلعة أعلى شجرة الشمس، كان الجميع يشعرون بالوحدة منذ رحيل الإخوة، واحدا وراء الآخر. قال الأب "لا شىء يسير معهم على ما يرام، لن يحضروا الجوهرة المتألقة للوطن أبدا، الجوهرة لم تخلق لى؛ جميعهم ذهبوا واختفوا"، ثم انكفأ على كتاب الحقيقة، وتمعن فى الصفحة التى من المفروض أن يجد فيها ما يقرأه عن الحياة بعد الموت، ولكن بالنسبة له لم يكن هناك ما يمكن قراءته أو تعلمه منها. ابنته كانت تمثل عزاءه ومتعته الوحيدة، كانت ملتصقة به بعاطفة مخلصة، ولأجل سعادته وسلامه النفسى تمنت لو أن الجوهرة الغالية يمكن العثور عليها واحضارها للبيت. وبمحبة كبيرة كانت تفكر فى اخوتها، أين هم؟ كيف يعيشون الآن؟ كم تمنت لو تستطع رؤيتهم فى الحلم؛ لكنها – لغرابة الأمر - لم تستطع الاقتراب منهم حتى فى الأحلام، ثم أخيرا فى ليلة ما حلمت انها سمعت أصواتهم تناديها من العالم البعيد ولم تستطع أن تناديهم بدورها، لكنها بدلا من ذلك خرجت لهم، ولم يتراءوا فى حلمها، هل كانت لا تزال باقية فى بيت والدها؟ فى حلمها لم تر إخوتها، لكنها شعرت كأن حريقا يشتعل فى كفها، لم يكن يؤذيها، فقد كانت الجوهرة فى كفها وكانت قد أحضرتها لوالدها. عندما استيقظت شعرت للحظة أنها ما زالت ممسكة بالجوهرة، لكنها كانت ممسكة فقط بخيط مغزلها. أثناء الليل الطويل، ظلت تغزل بلا توقف، وحول المغزل يمتد خيط منسوج أرق من خيوط شبكة العنكبوت، بحيث كان من المستحيل لعيون البشر اكتشافه أو فصله عما حوله. بللت الخيوط بدموعها، وجدلتها بحيث صارت أقوى من الأسلاك، وكانت مؤمنة أن حلمها لابد وأنه حقيقة وأن ما شاهدته فيه لابد وأن يتحقق. كان الوقت مازال ليلا، ووالدها نائم؛ طبعت قبلة على كفه ثم أخذت غزلها وربطت نهاية الخيط لبيت والدها. فلأنها عمياء كانت تخاف ألا تستطيع العودة مرة أخرى، وكان عليها أن تمسك بطرف هذا الخيط وتثق فيه وحده، لا فى الآخرين، ولا حتى بنفسها. ومن شجرة الشمس وقبل أن تغادر، قطعت أربعة أوراق، راجية أن الريح قد ترسلها لإخوتها محملة بالكلمات ومشاعر الحب، فى حالة أنها لم تجدهم بنفسها فى العالم الكبير الموحش. مسكينة تلك الفتاة، ما الذى قد يحدث لها فى تلك الأماكن البعيدة؟ لم يكن لها غير طرف خيط غير مرئى، تمسك به بثبات؛ وموهبة لديها، موهبة يفتقر لها الباقون، موهبة الاصرار والتفانى، سمة إلقاء نفسها بالكامل فى أي شىء تفعله أو تلتزم به، هذا ما دفعها للشعور بأنها تملك عيوناً حتى فى أطراف أصابعها، وأن سمعها يصل إلى أعماق قلبها. بهدوء ذهبت، مشت للامام، حيث العالم بضوضائه ونشاطه وروعته، وأينما ذهبت تألقت السماء بالضوء، وشعرت بدفء تألق الشمس، وقوس قزح فوقها فى السماء الزرقاء يتراءى من مسافة، للعالم المظلم. سمعت غناء الطيور، واستنشقت رائحة عبير بساتين البرتقال وحدائق التفاح، وكلما كانت تخبر العالم كانت نغمات ناعمة وأغانى ساحرة تصل لأذنيها، وكذلك كانت أصوات مزعجة وكلمات قاسية – أراء وأفكار، يعارض بعضها بعضا بغرابة، تخترق أصداء أفكارها تعرض على قلبها يثبت ما يثبت ويرتد ما يرتد. سمعت الكلمات التالية تتردد بحزن "الحياة ظل يهرب بعيدا فى ظلمة الليل ومحنته. ثم فيما بعد، طفت أفكار أكثر اشراقا، وصلتها، أفكار تقول "الحياة لها عطر الورود الحلو وشروق الشمس، والضوء والفرح". ثم كان هناك مقطع موسيقى حزين ومؤلم يردد "كل انسان فان يدرك أنه وحيد، أتظهر لنا الحقيقة بوضوح؟". على الجانب الآخر تأتيها الإجابة "الحب قوة كالسيل، تملأ كل قلب بوميضها المشع"، ثم سمعت صوت يقول "كل شىء فى الحياة ليس الا مسرحية تافهة"، ثم جاءتها كلمات مريحة "كثير من الخير يحدث للمرء من قبل أشخاص حتى ما كان ليعرفهم"، وفى أحيان أخرى كان يصلها صوت ساخر "لماذا لا تصرخين ساخرة من كل تلك الهبات السماوية؟"، وفى قلب الفتاة العمياء صوت قوى كان يردد "لتثقى فى نفسك، وأن الله سوف يحقق لك الخير، فى ملكوت الله الأبدى ستحصدين الراحة". روح الشر لم تتمكن من رؤية قلب الفتاة، ولا فهم ما يحتويه من رضا. روح الشر كانت أكثر مهارة من عشرة آلاف شخص، حيث وجدت الوسائل التى تتمكن بها من كتابة النهاية. ذهبت للمستنقع وجمعت بعض الفقاعات الصغيرة من الماء الراكد. ثم رددت فوقها بعض الكلمات المقفاة التى قد تكون قوية الأثر. خلطت الأغانى والمديح مع القصائد التى وضعتها، وخلطتها بدموع ذرفها الحسد، وأضافت فوقها القليل من اللون الأحمر الذى كشطته من خدود ذابلة، ومن كل هذا شكَّلت تمثالا يشبه فى الشكل والمظهر الأخت العمياء. ها هى مكيدة الشيطان تنجح. فقد اختلط الأمر على الناس، ولم يعرف أحد أيهما الحقيقية، وكيف لهم أن يعلموا. لذا، فبينما كانوا يحاولون مساعدة الفتاة، كانوا فى الحقيقة يتعاملون مع تمثال الشيطان، وبينما كانوا يبعدون التمثال كانوا فى الحقيقة يؤذون الفتاة. "ثقتى فى نفسى وربى وكل ما عدى ذلك يتحقق طبقا لإرادة الله".. هكذا كانت تغنى الأخت العمياء، وبإيمان عميق. قذفت بالأوراق الخضراء الأربع التى قطفتها من شجرة الشمس للريح، وكانها أربعة خطابات حب لإخوتها الأربع، كانت ممتلئة ثقة أن أوراق الشجر لا بد ستصل لكل منهم، كانت ممتلئة بالإيمان أن الجوهرة التى تشرق كل العظمة على العالم أجمع سوف تظهر، وسوف تزين جبين البشرية، حتى أنها فى قلعة والدها رددت لنفسها "نعم، حتى أنها فى بيت والدى، نعم، بيت والدى هو المكان الذى ستوجد فيه هذه الجوهرة فى الأرض، وسوف أحضر أكثر من مجرد وعد بها، سوف أحضرها هى نفسها معى، أشعر بها تتألق وتكبر أكثر فأكثر فى كفى المغلقة، كل ذرة، كل حبة، من الحقيقة، حملتها الرياح القاطعة، ودارت بها تجاهى، أمسكت بها وادخرتها، سمحتُ لها أن تختلط بعطر الجمال، الموجود منه الكثير فى هذا العالم، الجمال الموجود والمحسوس حتى بالنسبة للأعمى، حتى بالنسبة لى، ها هى ضربات قلبى المرتجف خوفا على إخوتى، وحباً لهم، أضيفها للخير، ثم أربطها بالطيبة، ثم أضيف كل ذلك للكنز الذى ادخرته. كل هذا معى الآن، لكن الرماد.. ليس معى، أعرف أنه جزء من الجوهرة، إنه جزء من الجوهرة التى نبحث عنها، ويوجد منه الكثير، نعم .. يدى ممتلئة به تماما الآن". وجدت نفسها سريعا فى البيت، مرة أخرى. حملها الى هناك طيران الأفكار دون أن تفقد أبدا خيطها غير المرئى، الذى تقبض عليه مثبتا ببيت والدها، يبقيها على اتصال به ويشدها له باستمرار. ما أن مدت يدها ليد والدها المرفوعة بالسلام حتى تحطمت قوى الشر، واهتاج اعصار حول شجرة الشمس؛ قرقع هجوم الريح على الأبواب، وعلى المحراب حيث يوجد كتاب الحقيقة. الاب قال "هناك تراب يهب مع الريح"، وأمسك اليد المفتوحة التى مدتها تجاهه. كررت البنت بثقة هادئة "والدى لا، ليست رياحاً مدمرة، أشعر بضياء يدفئ روحى للغاية". شاهد والدها شعلة رائعة تومض من صفحة بيضاء بالكتاب، صفحة فيها يبرق التراب الذى تساقط من كفها. شعلة ضوء تثبت اليقين بخلود الحياة، حيث تألقت فى الكتاب كلمة واحدة مشرقة، كلمة واحدة فقط، كلمة "الإيمان". فى لحظة واحدة حضر الإخوة الأربعة، فى اللحظة التى طرحت فيها على صدر كل منهم ورقة خضراء من الوطن، ورقة خضراء وصلت لكل منهم عبر الريح، ووجهتهم لما رغبوه طويلا، للعودة، فى تلك اللحظة. مرة أخرى، اجتمعوا مع والدهم وأختهم، وصلوا بمرافقة الظبى وطيور الطريق السنونو والبجعة، وكل مخلوقات الغابة التى رغبت فى أن تكون جزءا من احتفالهم بالعودة. عندما تتدفق أشعة الشمس، من شقوق الأبواب في الحجرات المغبرة، غالبا ما نرى عامودا من التراب يبدو كأنه يدور ويدور. هذا التراب ليس مجرد شيء تافه، إنه التراب نفسه الذى أحضرته الفتاة معها؛ وحتى قوس القزح الملون، فإن جماله يخفت عندما يقارن بذاك التراب الذى هبط على صفحة الكتاب، فأضيئت الصفحة بكلمة "الإيمان".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
روابط خارجية
- صفحة غادة عبد المنعم على موقع