حتى لا تنهار العلاقة بيننا

من معرفة المصادر

حتي لاتنهار العلاقة بيننا

قصة قصيرة بقلم :محمد همام فكري

(نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)


لم يكن السيد سعيد أميا بالمعني الاصطلاحي .. لأنني كنت أشك في ذلك .. فهو يجيد الحديث والنقاش في أمور شتى .. ويبدي آرءه بطريقة معينة عندما يؤكد مايقول مستعينًا بحركات يديه .. وحاجبيه .. وصوته الجهوري ومنطقه الخاص جدا .. ويتظاهر بمتابعة الأحداث ...عندما يحرص على شراء الجريدة اليومية قبل انطلاقنا في الصباح إلى " ورشة النجارة " التي جمعتنا معا وبعض من الزملاء .. كان نجارًا ماهرًا .. وكنت أنا دخيلاً على النجارة .. وكان هو يعرف ذلك .. منذ أن حكيت له حكايتي .. ونحن في الطائرة التي حملتنا وآمالنا إلى الخليج نطلب الرزق .. وعدني أن يكون سندا لي في الغربة .. والمهنة .. ونصحني أن أكتم هذا عن الجميع .. فلا فرق أن تكون نجارًا أو حدادًا .. المهم أن تكون رجلاً .. فشكرت له شهامته .. وهأنذا أستطيع أن أنجز " طاولة " بمفـــردي .. لكنه لايزال يذكرني بالذي جرى في الطائرة بين الحين والاخر .. خاصة عندما يجرفنا الحديث .. ويكون لي رأيا آخر .. وتبدو حقيقتي .. متعلم قطع شوطا في التعليم .. فسرعان ماينقلب حاله .. ويبدأ في ممارسة تفوقه المهني على .. ويذكرني بمواقفه معي .. خاصة عندما أقسم لصاحب الورشة أننا عملنا معا أكثر من عشر سنين في أكبر محلات النجارة .. قبل أن نأتي إلى هنا .. وأنه ( يقصدني ) .. لايقل براعة عن - أكبرها نجار - بالعكس..ولا أدرى ماذا تعني عنده ..لأنه كان يقولها بين الكلام دائماً وكانت عين الرجل اقصد ( الكفيل ) تتابع حركة يديه .. واهتزاز كتفيه معا في شك واضح .. فأميل أنا بنظري إلى الأرض وكأنني غير الذي يتحدث عنه السيد سعيد .. فيبتسم الرجل .. عندما يلاحظ ارتباكي .. وفي ذكاء طيب يربت على كتفي .. وينصرف ..بعد ان يهدينا نظرة مجاملة ذكية ... وكلما حاولت أن ألفت نظر السيد سعيد إلى انه لا داعي للمبالغة في تأكيد مهارتي كنجار خشية أن يفقد الرجل الثقة فيه وفي معًا .. أخشى أن تنهار العلاقة بيننا .. وأسكت .. لأنه بحكم سفره عدة مرات إلى العديد من البلدان العربية وغير العربية على حد قوله .. كان يمارس علينا نوعا من الزعامة وكثيرا من الوصايـــة .. بل وكثيرا مايقولها صريحـة : - - ياابني ( يقصــدني ) .. أنت لازلت خاماً .. غشيماً .. والحياة ليست كما تراها .. والعمل نصفه برواز .. وأنت بدون برواز .. ( يقصد اطــار ) .. فأمضغ كلماته وأنصرف .. وأنا أبتسم في داخلي .. إلى أن أجد زاوية بعيدة عن السيد سعيد لاقهقه عاليًا .. لكن الذي أثار حيرتي حقا هو حرص السيد سعيد على شراء الجريدة يوميا عندما نقترب من مفترق الطرق الذي يقف عنده بائع الجرائد الاسيوي الطيب .. الذي يناديه من بعد .. وبصوت مسموع يسمعه القاصي والداني .. - يارفيق .. الجريــــدة .. الجريدة يا رفيق ويمد يده اليمني بابتسامة ود دافئة .. بثمن الجريدة التي يتسلمها في فرح وثقة .. ثم يطويها ليضعها تحت ابطه .. ويفتح مجالاً آخر للحديث .. وكلما هممت أن أسأله عن سبب شراءه الجريدة .. أخشي أن تنهار العلاقة بيننا .. فأسكت .. إلى أن تجمعنا حلقة الغذاء .. مع الشاي .. وينطلق السيد سعيد يحكي لنا نوادره مع الحياه .. في الغربـــة .. هنا وهناك .. والتي هي من وجهــة نظره .. سلسلة من البطولات .. والمواقف المشهودة ..ولانها كانت لاتخلو من الحبكة المصنوعة في ابراز قدرته العجيبة على مواجهة المواقف ومعالجتها بشجاعة وحكمة .. غريبتين .. كنت لا أجد بدا من الانصراف بلباقة إلى الجريدة التي لاتزال بطيها .. فأستأذنه .. فيسمح لي في تحفظ بادي .. فلا أعبأ وألقي بنفسي بين سطور الجريدة إلى أن تبدأ فترة العمل المسائية .. عندما يصفق السيد سعيد في عصبية واضحــة .. - الشغل يا أسطي .. يقولها بنبرة تحدي .. وكأنه يدعوني إلى منازلة .. هو الرابح فيها .. فأعيد إليه الجريدة .. مبتسمًا .. محاولاً تفادي غضبه وانا..أقول له : - الجرنال اليوم مليء بالحوادث ..يا اسطى.. الهنود الحمر قتلوا .. فسرعان ما يرد في اهمال متعمد قائلاً: - قرأته ياسيدي .. قرأته ... المهم الشغل الآن ..لسنا في مدرسة يا اسطى ولولا خوفي أن تنهار العلاقة بيننا .. لسألته .. متي ؟ ... لكني وكما قلت .. " كنت أخشى أن تنهار العلاقة بيننـــا .. "