جواز السفر

من معرفة المصادر

جواز السفر

قصة قصيرة بقلم: محمد همام فكري

( نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)


مع حركة كوابح العربة وارتجاج المقعد .. وصوت انفتاح الباب واندفاع الركاب في عجل .. فتح شعبان ابو الخير عينيه على المدينة الكبيرة .. هاهى المدينة الكبيرة التي طالما سمع عنها .. وطالما اشتاق لرؤيتها ها هى .. حقيقة ..لا تستطيع العين أن تراها. كل شيء فيها يتحرك بسرعة لاتلاحقها الرؤس .. الشوارع .. الأرصفة .. وجدران المباني الشاهقة.. كأنها تسير مع عجلات السيارات وخطوات المارة .. وهرولة الراكضين خلف السيارات ورائحة الأسفلت في قيظ الظهيرة له عبق آخر غير رائحة تراب القرية حين يختلط بروث الماشية .. كل شيء يمر أمام عينيه كأنه يطير بلا أجنحة .. أو كان يراها كذلك.. أشياء تلاحق أشياء .. وأصوات تنطلق من كل جهة .. والسماء تحجبها الأبنية الضخمة.. ولوحات الاعلانات.. والألوان .. والدخان .. والغبار ..واصوات الناس استطاع أن يميز كل ذلك قبل أن يمد يده إلى جيبه .. ليدفع الأجرة للسائق الذي هنأه على قدومه إلى المدينة قائلاً - مبروك يا شعبان ..مصر نورت لم يرد عليه واكتفي بدفع الأجرة وهو يسأله عن " لوكاندة الامانة " .. أجابه السائق وهو يرتب حصاد ما جمع .. دون أن ينظر إليه .. - قدام خلف المطعم .. بجوار دكان الأحذية ..على يدك اليمين يا شعبان ..اليمين .. لم يعبأ بالكلمة الأخيرة وما يقصده السائق ومضى يحدث نفسه : نعم لوكاندة الأمانة .. فهي كما قال محمد أفندي.. البريمو .. ورخيصة .. وهذا هو المهم .. ياشعبان وقف على الرصيف .. يتأمل حركة الشوارع واندفاع السيارات .. والمباني العالية ..ووجوه الناس وبحرس شديد أعاد حافظة نقوده إلى جيبه .. ودس معها غطاء الرأس .. وأخذ يعد طوابق العمارات .. ولايدري كم مر عليه من الوقت .. لان الوقت هنا يمر بداخلنا تذكر فجأة أنه جاء من البلد لاستخراج جواز السفر .. وأخذ يحدث نفسه ..حديث الذي يسدي حكمه - ياعم لف .. لفه في مصر .. ياعالم .. وبكرة يحلها ألف حلال .. الأوراق .. وكلها تمام .. شهادة المعافاة .. والصور والختم كل شيء في جيبي نعم في جيبي .. والفلوس تكفي والبركة في أم العيال .. باعت مصاغها عندما أخبرتها بفكرة السفر .. كأنها تستعجل خير السفر .. نعم فكل من سافر في البلد ربنا أكرمه .. ولقد تعبت من الركض في الغيطان ويكفي ما أخذته الأرض من عافيتي .. كسرت ظهري .. مشي يجر قدميه ..في تكاسل شديد وعينيه معلقتين على كل ما يراه تلاحق الأشياء في فضول فطري جميل تلاحقها ..وتركض معها وعندما يعترضه شارع ينظر يمينًا ويسارًا ثم يمينًا ويسارًاعدة مرات وبعدها يهرول إلى الجانب الاخر من الشارع .. استوقفته عيناه عند واجهات الدكاكين .. وهو يتطلع إلى الأشياء المعروضة بكل الألوان الأقمشة كثيرة الزرقشة.. لعب الأطفال والأحذية ..أشياء ليس لها مثيل .. تشع جمالاً واناقة اقترب من واجهة محل الأحذية وأخذ يتفرسها حتى وقعت عيناه على حذاء أبيض ..ناصع البياض والبريق يشع منه ..في كل الأتجاهات قارن بينه وبين حذاء العمدة .. -لافرق .. حدثته نفسه أن يشتريه .. تردد لكنه أمهل نفسه .. حتي يرتب أمر المبيت قائلاً: - لا تتعجل الخير يا شعبان .. بكرة الدنيا تفتح لك زراعيها .. استوقف أحد المارة يسأله عن لوكاندة الأمانة .. لكنه لم يرد عليه .. ومضي في طريقه .. وهو يمط شفتيه .. مستغربًا .. -الناس هنا لا تلقي بالاً بالغريب .. تابع سيره مترنحًا .. لاتهدأ عيناه من التطلع في كل الاتجاهات..في دهشة فطرية ..لها متعة خاصة .. ورائحة المشويات تداعب أنفه المفتوحة .. تضرب في نافوخه .. كالمسمار لم يستطع أن يقاوم هذه الرائحة .. حتى وجد نفسه دون أن يشعر يدخل المحل ويدفع ثلث مامعه من نقود في أكلة واحدة ألتهمها بخواء الجوعان .. كان الطعام له طعم لم يذقه من قبل لكنه سرعان ما عاتب نفسه بقسوة ..وكأنه أثم في حق نفسه والعيال .. وبعد شدة تأنيب .. أكمل عملته بكوب من عصير القصب الذي أخذ عقله .. حين رآه يدخل أعوادًا في ماكينة ليخرج عصيرًا من الجانب الاخر ..عصيراً رقراقاً ابتسم وهو يتذكر ليالي الصبا .. أيام كان يكسب حزمة كاملة حين يجهز على خمسة أعواد مرة واحدة .. بكلوة يده اليمني .. أيام .. تذكر ذلك وهو ينظر إلى حركة الحياة في الميدان .. والناس لاتهدأ .. من الذهاب والاياب .. والدوار في كل الأتجاهات .. وهم لايعيرون بالاً.. لاندفاع السيارات .. ولا السيارات.. أشعل سيجارتة الأولى.. وهو يسند ظهره إلى أحد الجدران العالية .. وطنين أجهزة التكييف يذكره بصوت ماكينة المياه .. في عزبة الحاج مبروك ..في أرض الجبل .. والحذاء الزبيض لايفارق مخيلته .. قعد على نعله المترب .. المتآكل .. يكمل تدخين السيجارة ..بامعان حتى فرغ منها .. ودهسها تحت كعبه ثم هب واقفًا يسأل عن العنوان .. - اين لوكاندة الأمانه يااستاذ.. أجابه مار - لوكاندة الامانة تلك التي تقف أمامها يا مولانا ..قالها بلغة ابناء المدينة فرد عليه في عرفان طيب - تلك ؟ - نعم يا مولانا .. فرح .. وبحذر هم بالدخول بعد أن طرق الباب ..عدة طرقات خفيفة وألقى التحية .. وسأل أول ما سأل - كم أجرة المبيت .. - جنيه يا عمدة سره أنها مناسبة ..وقال في نفسه -جنيه بسيطة يا شعبان صعد وراء الرجل الذي ساقه إلى الطرقة الطويلة .... ثم إلى الغرفة الصغيرة .. وحياه في أدب جم وتركه دون ان يرد شعبان .ألقي بجسده على السرير .. وعيناه لاتفارقهما صورة الحذاء الأبيض .. يتقلب على اليمين على اليسار وفي عينيه الحذاء انتفض فجأة بعدها قرر في حزم أن يذهب ليشتري الحذاء .. - مهما كان الثمن .. نعم الأشياء التي تفوت لن تعود وما معي من نقود يكفي ويزيد .. والحمد لله .. وعليك أن تغتنم الفرصة يا شعبان قبل فوات الآوان فربما يأخذه غيري وينطلق .. هبط السلم مسرعًا .. وفي عجل قصد دكان الأحذية .. وعند واجهة الدكان الزجاجية وقف يستوضح ثمن الحذاء .. لف يمينًا ويسارًا ..ثم يميناً ويساراً ..مال برأسة تارة وتراجع أخرى ثم أقترب وتراجع عدة مرات لكنه لم يقدر أن يتبين شيئًا ..الكتابة صغيرة وصعبة القراءة أمال برأسه ثانية إلى الأمام .. فاصطدم بالزجاج الناصع البياض .. ولم يشعر بنفسه إلا وهو أمام ضابط المخفر .. يخيّره بين أثنتين السجن أو دفع ثمن الزجاج ؟؟ فرضــي بالثانيــة ...