جند من السماء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إهــــــــــداء
بسم الله الرحمن الرحيم فليُقاتل في سَبيل الله الذين يَشرُونَ الحياةَ الدُنيا بالآخرةِ ، ومَن يُقاتِل في سَبيل الله فـُيقتَل أو يَغلِب فسَوف نؤتيـه أجراً عظيماً. (74) النساء (صدق الله العظيم)
إلي المصريين حقاً . الذين أدوا واجبهم ثم انصرفوا في صمت وأولهم الشهداء ..الذين قدموا أرواحهم ، ودمـاءهم ، وعرقهم فداء لتراب هذا الوطن . لا أجد ما أقوله لكم إلا قول عظيم من أحد أبناء مصر البسطاء:
هَـديل حَمَـام الحِمـا.... ترَاتيل أسـاميكـم ياننـّي عـين الوطـن ... قلبي يناديـــكم صلـّي الحَمَام وانجلا... صلـّي الحَمَام وانجلاالله يجازيكم
(كابتن غزالي)
شكـــر وتقـديـــر
أصدق آيـات الشكر والتقدير أقدمها ، لكل من ساهم في ظهور هذا الكتاب .. بداية من القادة الذين كانوا في مواقع تتيح لهم معرفة الكثير.. وقد حظيت منهم بشرف اللقاء مرات عديدة. وقراءة وثائقهم ، مما أتاح لي الوصول إلى حقيقة ما جري من أحداث . أيضا الزملاء من الضباط والصف رجال الصاعقة ، والمشاة ، والبحرية ، والمدفعية ، والطيارين الذين اشتركوا وساهموا في صناعة الأحداث، ومنهم عرفت أكبر قدر من الحقيقة التي أسعى لتقديمها للقارئ الكريم. والشكر واجب للمؤسسات التي قدمت المعلومات والوثائق التي أفادت الكتاب وهي
- أكاديمية ناصر العسكرية - الهيئة العامة للاستعلامات وأشكر الأستاذة/ سمر محمود حسن. والسيد/ أكرم حنفي محمود . وحمدي عبد الحميد. والسيد/محمد حسان، لما قاموا به من جهد في الإعداد والتنسيق والتصحيح. وأدعو الله سبحانه وتعالي أن يكون علما ينتفع به. وفقنا الله جميعا لخدمة مصر دائما مقدمــة
"إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" كانت هذه الكلمات هي الصيحة التي أطلقها الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة يونيو 67. فكانت خير تعبير عن خطة مصر المستقبلية والتي تحولت إلى جهد وعرق استمر لسنوات، دفع فيه آلاف من شباب مصر أرواحهم ودماءهم رخيصة في قتال شرس مع العدو الصهيوني حتى تحقق لهم النصر. وثبت للعالم كله وأولهم العدو الإسرائيلي أن في مصر رجال لديهم من العزم والإصرار ما يجعلهم قادرين على حماية مصر ضد أي عدو.
ولأن النصر الإسرائيلي في حرب 67 كان أكبر بكثير مما يتوقعون، ولأن النصر
لم يكن نتيجة جهد إسرائيل فقط، بل كان الجزء الأكبر منه تقصير وإهمال
مصري، فقد صدقت إسرائيل كلها قادة وشعباً أن مصر لم تعد تقدر على فعل
شيء سوى الاستسلام. كان انتصارهم كبيراً فحجب عن أعينهم حقيقة مصر
وشعب مصر.
أفاق الرئيس عبد الناصر من الوهم الذي كان يعيشه كما قال هو. اكتشف حقائق
بديهية كان أهمها وأولها أن القيادة السياسية لابد وأن تعمل بتنسيق وتناغم مع
القوات المسلحة .. وأن السياسة عليها أن تحدد الأهداف بوضوح تام وتخطط
استراتيجيا لها، ثم توفر للقوات المسلحة ما يجعلها تحقق هذه الأهداف بأعلى قدر
من الكفاءة .. كما تيقن الرئيس عبد الناصر أن القوات المسلحة جزء من
الشعب وأداة من أدوات الدولة وليست كيان مستقل عنها.
سنعرض في الكتاب ماذا حدث خلال أعظم وأروع ست سنوات في تاريخ مصر (1967- 1973) .. وسنعرض كيف استطاعت مصر أن تحقق خلال السنوات الست خلاف ما كان العالم كله يجمع عليه وهو أنه لن تقوم لمصر قائمة إلا بعد 20-30 عام. فمن بقايا قوات مسلحة مهزومة في نظر العالم أجمع تمكنت مصر بعد أيام فقط أن تواجه العدو الإسرائيلي في رأس العش جنوب بورفؤاد. وكانت هذه المعركة هي أول شمعة تضئ الظلام الذي حل على مصر منذ الخامس من يونيو. وتوالت بعدها شموع كثيرة ومعارك شرسة ظهر فيها المقاتل المصري بحق.
إن حرب الاستنزاف 1969 وقد استمرت أكثر من 500 يوم أصبحت في التاريخ
صفحات مضيئة. تشهد على أن شعب مصر يمكن أن يقهر المستحيل فعلاً
وليس مجازاً. فقد بدأت بمعارك المدفعية ثم تطورت إلى عمليات عبور لقناة
السويس ومهاجمة العدو الإسرائيلي في خط بارليف، ثم مهاجمته في أعماق بعيدة
عند إيلات والعريش. ثم لما ألقت إسرائيل بقواتها الجوية في حرب الاستنزاف
لكسر إرادة مصر، تصدت لها القوات الجوية المصرية وهي مازالت في طور
البناء فأوقعت بها خسائر لا يستهان بها، ثم جاءت قوات الدفاع الجوي في نهاية
حرب الاستنزاف لتؤكد لإسرائيل أن قواتها الجوية التي تلقب بالذراع الطويلة
يُمكن أن تقطع هذه الذراع فوق السماء المصريـة.
سنرى في مرحلة حرب الاستنزاف الدور الرائع الذي قامت به القيادة السياسية
المصرية لدعم القوات المسلحة والجهد الخارق الذي بذلته لتوفير احتياجات القتال
اللازم لها.
وسنرى دور العسكرية المصرية الحقيقي حين أصبح الهدف واضحاً. فبعد قتال
شرس وعنيف مع العدو الإسرائيلي لأكثر من عام براً وبحراً وجواً، تم إجبار
إسرائيل على أن تطلب من أمريكا الحليف التاريخي لها أن تقوم بمبادرة لوقف
إطلاق النار والتي عرفت باسم مبادرة روجرز في أغسطس 1970.
ثم نتعرض لفترة التحضير لحرب أكتوبر 1973 وسنعرف أن وصف "أحد أهم
المعارك في التاريخ" لم يطلق عليها من فراغ .. وأن مصر طوال ست
سنوات كانت تدافع وتبنى قواتها المسلحة، وتخطط لاسترداد سيناء في وقت واحد
.. وكانت إسرائيل تزيد الأمر صعوبة كل يوم حتى يدب اليأس في قلب
مصر. فقناة السويس عسكرياً من أصعب الموانع المائية في العالم، فأنشأت
الساتر الترابي على شرق القناة لتزيد صعوبة العبور ثم أنشأت النقاط الحصينة
التي عرفت باسم خط بارليف الشهير. والتي كانت تدعى أنه غير قابل
للاختراق. ثم أضافت مواسير نابالم لتحول سطح مياه القناة إلى نيران لا
تنطفئ. لكن مصر لم تتردد في التجهيز للحرب، فكانت تنام وتصحو على أن
النصر آت ولا ريب. وتحقق هذا فعلاً وسقط الخط الشهير بحصونه وجنوده في
أيد جنود مصر الذين كانوا يملكون مع السلاح الإيمان والعزم والإصرار على قهر
العدو الإسرائيلي.
ثم نعرض لملحمة التخطيط للعبور وكيف تم تدريب وحدات القوات المسلحة عليها
؟ وكيف تمت دراسة أدق التفاصيل التي تتعلق بعملية العبور؟ وكيف تم التغلب
على صعوبات عديدة ؟ وكيف دارت المعارك بين قوات مصر المسلحة والعدو
الإسرائيلي ؟ وسيتأكد لنا دور الطائرة والقوات الجوية في حروب مصر وإسرائيل
التي بلغت خمس جولات، وأنها السلاح الحاسم الذي يرجح النصر بصورة كبيرة،
لمن يستطيع أن يستخدم قواته الجوية بالصورة الصحيحة. سنشهد كيف تم بناء
القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي وسط أصعب الظروف، وكيف شارك أبناء
مصر جميعاً في بناء هذه القوات، حتى العمال والفلاحين الذين كان دورهم عظيماً
ولا يقل عن دور الجنود. شاركوا في مرحلة البناء بالجهد والعرق بل واستشهد
منهم الكثير جنباً إلى جنب مع الجنود المقاتلين في مرحلة بناء حائط الصواريخ في
منطقة قناة السويس. كما شارك المدنيون في القتال أثناء حرب 1973 حين
قاموا بالدفاع عن مدينة السويس وأجبروا العدو على الانسحاب منها واستشهد
العديد من أفراد المقاومة المدنيين حتى لا تقع مدينة السويس في أيد العدو.
وسنعرض خلال فترة التحضير للمعركة وفترة القتال دور القيادة السياسية التي
تولاها الرئيس أنور السادات بعد رحيل الرئيس عبد الناصر. كيف خطط
للمعركة مصريا وعربياً ؟. كيف تعامل مع الاتحاد السوفيتي الحليف الأهم قبل
وأثناء المعركة ؟ كيف شارك في خطة الخداع الرائعة التي أذهلت إسرائيل ؟ ثم
كيف تدخل في مرحلة القتال؟ وبماذا انعكس دور القيادة السياسية إيجاباً وسلباً على
حرب أكتوبر1973 ؟
كانت حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر تختلف تماماً عن الجولات الثلاثة السابقة
بين مصر وإسرائيل (1948-1956-1967). حيث كانت القوات
المسلحة المصرية تجد نفسها مدفوعة إلى قتال مع العدو الإسرائيلي دون إعداد أو
تخطيط، وإنما تنفيذاً لقرار سياسي لا يتوافق مع قدرة وكفاءة القوات المسلحة.
فكان الطبيعي أن تنتصر إسرائيل في الجولات الثلاثة. لكن الموقف اختلف تماماً
في حربي الاستنزاف وأكتوبر73 بما سمح بظهور قدرة القوات المسلحة. وهذا
سيجعلنا نستعرض الصورة بشكل أكبر بما يوضح دور المقاتل المصري في
مختلف الأسلحة (مشاة - بحرية - صاعقة - مهندسين ...الخ) في
كافة المواقع وعلى مدار سنوات امتدت من يونيو67 وحتى أكتوبر1973.
وإن كنا سنعرض لبعض الأحداث والمواقف في مراحل القتال المختلفة بالتفصيل
وبأسماء أصحابها من الشهداء والأبطال، فإننا لا ننسب الفضل لهؤلاء وإنما هم
نموذج فقط يعبر عن مئات الآلاف من شعب مصر الذين قاتلوا وحاربوا وهزموا
العدو الإسرائيلي بعد ست سنوات فقط وليس 20 عاماً كما كان يقول الجميع.
وسنعرض للمواقف المضيئة خلال حرب أكتوبر 1973 والتي رغم كل ما كتب
عنها لم تنـل حقها من الدراسة والتحليل بالصورة الكافية خاصة في مصر.
وأرجو أن يكون ما كتبته في هذا الكتاب جزء بسيط يساهم في إظهار الحقيقة التي
تستحقها "أحد أهم المعارك في التاريخ" حرب أكتوبر 1973.
الفصـل الأول شمعة أضاءت مصر كلها
دفعت مصر قيادة وشعباً ثمناً غالياً نتيجة لهزيمة 67. لكن ما أن صمتت المدافع وتوقفت النيران حتى فوجئ العالم كله بأغرب موقف في التاريخ.. أعلن الرئيس عبد الناصر تنحيه عن الحكم كرئيس للجمهورية وانسحابه من كافة المواقع التي يشغلها، وهذا أمر طبيعي من أي رئيس أو قائد ُهزم في معركة مع العدو. لكن الشعب المصري كان له رأى وفكر آخر لم يخطر على بال أحد.
ففي مشهد مثير ومذهل اندفعت الجماهير المصرية إلى الشوارع بعد الخطاب مباشرة تطالب الرئيس عبد الناصر بالبقاء كرئيس لمصر.. وشاهد العالم كله أغرب موقف في التاريخ حيث يتمسك شعب ويصر على بقاء قائد مهزوم !!! انتفضت أغلبية شعب مصر شباب ونساء وشيوخ، مؤيدين ورافضين، مساء التاسع وصباح العاشر من يونيو يعلنون رفضهم للهزيمة. كان الكل يشعر في قرارة نفسه أن تنحى عبد الناصر هو إثبات لهزيمة مصر، وهم جميعاً غير مصدقين أو مقتنعين أن مصر قد ُهزمت.. اندفعت الأسئلة، الكل يريد أن يعرف كيف ولماذا ُهزمنا ؟؟ كانت الصدمة كبيرة وقاسية، والانكسار هائلاً. لكن ظهر شيء عجيب ومحيّر في هذا الشعب. فمن جراحه التي مازالت تنزف انفجرت إرادة غير متوقعة ترفض الهزيمة أو تقبل الاستسلام. لم يسأل أحد عن مصير الأخ أو الزوج أو الأب الذي مازال في سيناء تحت رحمة النيران الإسرائيلية.
كان الموقف مذهل للجميع، وكان أول وأكثر من ُذهل هو الرئيس عبد الناصر الذي توقع أن يفعل به الشعب أي شيء.. إلا أن يتمسك به قائدا.. وبعيداً عن الذهول والعجب كان موقف الشعب المصري عبقرياً وبسيطاً في نفس الوقت. فالهزيمة الحقيقية أن نستسلم للعدو الإسرائيلي، والكارثة أن تسقط مصر الوطن. ولأن الشعب كله يرفض هذا فلم يجد في هذه اللحظة تعبيراً أوضح من تمسكه بقائده حتى ولو كان مهزوماً في تلك المعركة.
خرجت مصر بعد هزيمة 1967 تلملم أشلاءها وتمسح أحزانها، أصابع الاتهام عالمياً وعربياً تشير إليها بأنها أشعلت الحرب ونالت من إسرائيل ما تستحقه من هزيمة.. وانفجر شلال هادر من الحرب النفسية في الإعلام الغربي والإسرائيلي. حملة مكثفة مليئة بالسخرية والمهانة لمصر وجيش مصر.. أصبحت أحاديث وصور قادة إسرائيل تتصدر كل وسائل الإعلام في العالم. شرح مستفيض عن كيف كان إعداد الجيش الإسرائيلي ؟ وكيف كان التخطيط العبقري للحرب ؟ وكيف أنهم كانوا واثقين من النصر ؟ وكيف قاتلوا بشراسة ؟ - وهذا لم يحدث فلم يكن هناك معارك حقيقية - إضافة إلى صور وأحاديث للأسرى المصريين. كانت تلك الحملة المليئة بالإذلال تهدف إلى سحق الإرادة المصرية والخضوع أمام قوة العدو الإسرائيلي الذي ظهر أمام العالم أنه قوة لا تقهر.
وتحمل الرئيس جمال عبد الناصر عبء كبير من هذه الحملة، فقد تناسى الجميع أن الأزمة بدأت من سوريا بتلك المعلومات الكاذبة عن الحشود الإسرائيلية، وأن سوريا والأردن تخليا عن مصر أثناء القتال ولم يقدما إلا أقل القليل مما كان يجب أن يقدم.. كانت الشعوب العربية كلها تقريباً تقول إن الرئيس عبد الناصر أضاع الأمة العربية كلها. كان هذا الاتهام الظالم هو قدر مصر الذي لا مفر منه ، وأسقط العرب عجزهم وتقصيرهم على مصر . فالمغرب والكويت واليمن على بعد آلاف الأميال من أرض المعركة لكنهم جميعاً ُهزموا حين ُهزمت مصر رغم أنهم لم يشاركوا في قتال أو معركة مع العدو الإسرائيلي.
وبنظرة غير منحازة نجد أن الصراع العربي- الإسرائيلي كان محكوماً لصالح إسرائيل دون منازع حتى قبل أن تقوم الحرب في يونيو1967. فمنذ الجولة الأولى في الصراع عام 1948 قبل عشرين عاماً والفكر العربي لم يتغير ولو أقل القليل. فكر سياسي محدود، تغلب عليه المصالح الذاتية والنجاحات الشخصية، دون اعتبار للمصالح القومية أو للخطر الإسرائيلي الذي يهدد الجميع. فالاجتماعات التي تمت في مؤتمرات القمة بين القادة والرؤساء العرب لم تسفر عن أي تعاون حقيقي، والقيادة العسكرية العربية الموحدة التي أنشئت بقرار من الملوك والرؤساء العرب ولدت ميتة. فلم تفعل أي شيء يذكر لها خلال ثلاث سنوات قبل حرب 1967.
بل إن التقسيم الذي طغى على الدول العربية وجعل مجموعة منها تسمى بالدول الرجعية وأخرى تسمى بالدول التقدمية، جعل الاتهامات بخيانة قضية فلسطين هو الشغل الشاغل بينهم. وامتد الأمر إلى تدبير المؤامرات ضد بعضهم البعض وكانت أوضح صورها مؤامرة انفصال الوحدة المصرية السورية عام 1961. وإذا ما عدنا إلى كتاب المؤلف(صراع في السماء) عن تحليل حرب 1948 والموقف العربي فيها نجد أنه ينطبق تماماً على ما حدث في حرب1967. مع اختلاف الملوك والرؤساء في الحربين.
في المقابل كانت إسرائيل تعرف طريقها تماماً. الأهداف الصهيونية واضحة، تنفيذها يتوالى بصبر، جيل يسلم جيل، ويبنى فوق بناء السابقين. قيادات واعية بالعمل الجماعي الفرد يكمل بعمله الآخر. بعيداً عن التناحر والسقوط في شرك المصالح الشخصية الضيقة.
وإن كانت الحرب حدثاً مكروهاً ملئً بالأحزان والخسائر، تضيع فيه أرواح، وتهدر أموال. لكن "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" النساء- 19 أشرقت شمس 11 /6 /1967 على مصر بحال غير الحال. فالإرادة التي غابت طويلاً وتوارت ظهرت. والنظرة للأحداث والأمور اختلفت. وصوت الأفعال أصبح أعلى من صوت الكلمات والشعارات. أصبح الجميع على قلب رجل واحد. الهدف ساطع وهو استرداد سيناء وهزيمة الجيش الإسرائيلي. والوسيلة لتحقيق الهدف واضحة هي القتال، والقتال ، ثم القتال. الكل يفنى في العمل من أجل الوصول إلى الهدف. تقهقر أهل الثقة بل نقول فروا مذعورين، وتقدم أهل الكفاءة من رجال مصر، معاهدين أنفسهم على تحقيق النصر ومحو تلك الهزيمة أياً كانت تكاليف هذا النصر.
وكما قلنا أن الهزيمة كان لها فوائد، فقد تحولت نظرة معظم الملوك والرؤساء العرب للعدو الإسرائيلي. وتأكد لهم أن الشعارات والكلمات الرنانة عن عدم اعترافهم بإسرائيل، وأنها عصابات صهيونية لم يمنع إسرائيل أو يعطلها عن تحقيق أهدافها خططها. وحدث تحول في مواقف الدول العربية نحو الحرب التي لابد ستقع مع إسرائيل. وهو وإن كان تحول بقدر غير كافي، فالمعركة تحتاج الكثير، لكنه كان خطوة إلى الأمام بدلاً من الوقوف في نفس المكان.
كانت الفترة من1967 وحتى أكتوبر 1973 مليئة ومشحونة بأحداث جسام وجهود عظيمة. فلا نستطيع أن نتحدث عن حرب أكتوبر 73 مباشرة لأن حرب الاستنزاف 1969 كان لها فضل كبير وأثر بالغ في انتصار أكتوبر.. كما وأننا لو قفزنا إلى حرب الاستنزاف مباشرة سنخفى ونهمل أدواراً بطولية قام بها أبناء مصر جميعاً. لذا سنعرض للأحداث بداية من اليوم التالي لتنحي الرئيس عبد الناصر وتمسك الشعب به قائداً.
نوبـة صحيـان
بدأ الرئيس جمال عبد الناصر يوم 11 يونيو بإعادة تنظيم وبناء القوات المسلحة، واتخذ في سبيل تحقيق ذلك عدة قرارات، فقام بإعفاء المشير عبد الحكيم عامر من منصبه وتعيين الفريق أول/ محمد فوزي قائداً عاماً للقوات المسلحة والفريق/ عبد المنعم رياض رئيساً للأركان، وقام بإعفاء قادة القوات الجوية والبحرية والبرية وبعض قادة آخرين. وكان هذا الاختيار موفقاً تماماً في ذلك التوقيت وتلك الظروف.
فالفريق أول/ محمد فوزي كان شخصية جادة لا يتهاون في العمل ومعروف بين الضباط بالشدة والانضباط العسكري وقد يصل إلى حد القسوة، وكان هذا مطلوباً بشدة بعد سريان الاستهتار وعدم الالتزام في القوات المسلحة التي قاربت علي الانهيار نتيجة لحرب اليمن، ولتوزيع بعض الضباط في أعمال مدنية وفى جهات خارج القوات المسلحة، ونتيجة لسياسة المشير/ عامر ورجال مكتبه المقربين.. كما أن الفريق/ عبد المنعم رياض كان من الضباط ذوى الثقافة والاطلاع، واسع الأفق وله نظرة علمية في تحليل المواقف، وهو ما كان يكمل به الفريق أول/ فوزي في أعمال التخطيط والتدريب والعمليات.
وتم تعيين الفريق طيار/ مدكور أبو العز قائداً للقوات الجوية بعد أن أودعت القيادة السابقة في السجن تمهيداً للمحاكمة العسكرية. وكان الفريق/ مدكور هو الرجل الثاني في القوات الجوية حتى عام 1963 ثم أصبح محافظاً لأسوان حتى عاد إلى القوات الجوية مرة أخرى قائداً لها في 11 يونيو 1967.
وجاءت القيادة الجديدة وأمام عينيها هدفان رئيسيان :- الأول : لم شمل القوات المبعثرة ومحاولة تجميعها في وحدات منتظمة وتمركزها في أماكن محددة، حتى يمكنها الدفاع كحد أدنى عن الضفة الغربية لقناة السويس على أن يتم هذا بأسرع ما يمكن. ويذكر للقيادة الجديدة أنها نجحت في هذا أيما نجاح. فمن قوات مبعثرة إلى فرق وألوية كاملة التنظيم والإعداد ولم يستغرق هذا إلا شهور.
الثاني : بث وإعادة الثقة للجندي والضابط والطيار المصري، بعد أن تحمل وحده عبء الهزيمة المعنوي، رغم أنه كان ضحية قرارات سياسية وعسكرية عشوائية مرتبكة وغير مدروسة. ولما وقعت الهزيمة نالت القوات المسلحة خاصة القوات الجوية القدر الأكبر من السخرية والانتقاد رغم بطولات الطيارين التي ذكرناها في (صراع في السماء) لكن الهزيمة وحجمها كانت لا تسمح بظهور تلك البطولات.
وقد نجح الفريق/ مدكور أبو العز في إعادة الثقة إلى الطيارين حيث كان
شخصية محبوبة للطيارين رغم جديته الشديدة في العمل وعدم تهاونه مع
المخطئ. والأهم أنه كان يتمتع بمصداقية عالية بين الطيارين، وقدرة فائقة على
بذل الجهد في العمل. فكان خير نموذجا للطيارين على اختلاف مستوياتهم.
كانت حرب67 مرآة واضحة لعدم تقدير المسئولية واللامبالاة في إعداد القوات المسلحة للحرب. فقد تراجعت أجهزة في الدولة عن أداء دورها مثل مجلس الدفاع الوطني، وانحرفت أخرى مثل المخابرات الحربية عن مهامها، كما أن سلطة المشير/عامر وقراراته كانت أعلى من أي أجهزة في الدولة حتى لو لم تكن تحت قيادته. فكان لزام إصدار قوانين جديدة وإلغاء قوانين قديمة وهذا ما تم فوراً.
وضحت وتحددت المسئوليات والصلاحيات لإعداد الدولة للحرب فمارس مجلس الوزراء مهامه، وظهر دور واختصاصات مجلس الدفاع الوطني، وتحددت قيادة القوات المسلحة ومنصب وزير الحربية والقائد العام.. كما تم إلغاء قيادة القوات البرية، وتم فصل القوات الجوية عن قوات الدفاع الجوي التي أصبح لها قيادة مستقلة، على أن تساهم وتشارك مع القوات الجوية في التصدي للعدو الإسرائيلي المتفوق جوياً بصورة كبيرة. وقد أعطى هذا القرار الفرصة للقوات الجوية كي تسرع في إعادة البناء ورفع الكفاءة القتالية لها.
كما عادت المخابرات الحربية إلى ممارسة مهمتها الطبيعية وأصبح واجبها الأول هو جمع وتحليل المعلومات عن العدو، وتأمين القوات المسلحة ضد أعمال التجسس التي يمارسها العدو على قواتنا حتى أدق وأصغر التفاصيل كما وضح أثناء حرب67. كما تراجعت موضوعات الأمن إلى حجمها الطبيعي بعد أن كان هدفها الأول هو الإيقاع بأكبر عدد من الضباط تحت ستار أنهم من أعداء الثورة ونظام الحكم.
وكان طبيعياً أن يعود الضباط والجنود المنتشرين في أجهزة الدولة المدنية إلى القوات المسلحة لأداء دورهم الطبيعي. وعادت أجهزة وهيئات إلى أماكنها بعد أن كانت تتبع للقوات المسلحة مثل الجمارك التي عادت إلى وزارة المالية ووحدات الزراعة في مديرية التحرير والتي عادت إلى وزارة الزراعة.
أصبحت القوات المسلحة على بداية الطريق الصحيح الذي لابد وأن يُمهد بجهد وعرق الرجال، وكان رجال القوات المسلحة على قدر المسئولية تماماً فلم يكتفوا بتقديم العرق والجهد، وإنما بذلوا الأرواح والدماء طوال ست سنوات، فكان لابد وأن يدين النصر لهم.
في أول اجتماع بين الرئيس عبد الناصر والفريق أول/ فوزي بعد أن أصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة وكان موعد هذا الاجتماع مساء 11 يونيو، طرح الرئيس فكره السياسي ونظرته للأمور المستقبلية بصورة شديدة العمق والوضوح. وكانت في شكل توجيهات سياسية وعسكرية لقائد القوات المسلحة المصرية وهي
1- "ضرورة الصمود العسكري بسرعة أمام العدو.
2- السرعة في تماسك الشعب والحكومة مع القوات المسلحة وهنا بين الرئيس نيته في تولى رئاسة مجلس الوزراء، واللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي حتى يباشر أمور الدولة والشعب معا. وأنه سوف يركز مجهوده على إعادة بناء القوات المسلحة على أسس جديدة.
3- قال أنه سوف يسير مع الاقتراحات الدبلوماسية طالما أنها تسعى إلى انسحاب إسرائيل عن الأراضي العربية، كأسلوب زمني يتفق مع أمور تكتيكية. منها أننا لا نستطيع مواجهة العدو عسكرياً الآن. وأظهر الرئيس قناعته بأن استرداد الأرض لا يتم إلا بالقوة. والقوة تحتاج إلى سلاح حديث، وإلى تنظيم وتدريب متواصل عنيف. ومن هنا جاءت الحاجة إلى الدعم الروسي.
4- بالنسبة للوطن العربي أبدى الرئيس ضرورة التعاون والارتباط الوثيق بالدول العربية جميعاً، وقال أن الصراع العربي الإسرائيلي لا يصح أن تكون مصر هي الطرف الوحيد فيه.
5- أما من ناحية الاتحاد السوفيتي فيجب توطيد الصداقة والتعاون معه، كما يجب إشعاره بأنه شريك في الهزيمة حتى يتحمل عبء دعمنا بالأسلحة والمعدات والخبراء والمدربين. ثم استطرد الرئيس قائلاً : ليس أمامي باب مفتوح في هذا الشأن سوى باب الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية معه، ويجب علينا أن نفتح هذا الباب على مصراعيه كي يفتح لنا هو ترسانة أسلحته الحديثة إذ يجب أن تكون نوعية وحجم الدعم مختلفاً عما كان عليه الحال قبل 1967.
6- وعن الواجب العسكري للقوات المسلحة قال الرئيس عبد الناصر طالما أن الشعب رفض الهزيمة، فقد أصبح لزاماً أن نسترد الأرض والسيادة بالقوة وتحرير الأرض، ثم أضاف : من الضروري الدخول مع إسرائيل في صراع سياسي وعسكري عربي حسب قدرتنا، صحيح أنها سوف تستغل تفوقها بأن تقوم هي بالفعل بينما نكتفي نحن برد الفعل، لكن هذا لن يستمر إلا لحين. نبدأ بإعادة مقدرتنا الدفاعية وبالتدريج نقوم نحن بالعمل ضدها أولاً وننتظر ردا للفعل".
كانت توجيهات الرئيس عبد الناصر إلى الفريق أول/ فوزي بمثابة استراتيجية محددة للعمل في الأيام القادمة. موضحاً دور القوات المسلحة بمهمة تحرير الأرض، ثم الدور الدبلوماسي المصري، والتعاون المصري- السوفيتي ثم المصري- العربي. وكان على مصر أن تخطط وتعمل في ظل أوضاع جديدة أصبحت أمراً واقعاً وحقائق قائمة.
أولها : كان احتلال إسرائيل لسيناء والجولان والضفة الغربية، يجعلها تتحدث من مركز القوة ولابد وأن تجني ثمار النصر العسكري. ورسخ في فكر إسرائيل أنه طالما هي الطرف الأقوى فهي التي تملي الشروط على العرب، وليس أمامهم إلا قبول هذه الشروط أو العودة للحرب. وهم غير قادرين عليها الآن أو في المستقبل القريب.
ثانيهما : أن الدعم الأمريكي سياسياً وعسكرياً لإسرائيل قد أصبح سافراً وبحدود عالية لضمان تفوق إسرائيل في مواجهة كل العرب، وأنه لا يبدو في الأفق أي مؤشر على تقليل أو تحجيم هذا الدعم لإسرائيل.
وعلى الفور نزل هذا الفكر السياسي والتوجيهات الاستراتيجية والعسكرية إلى أرض الواقع لكي يتحول إلى دراسة للعدو، وتقدير موقف، وخطط عمل من مستوى قيادة القوات المسلحة حتى مستوى الجندي المقاتل.
كان أول خطوة يجب أن تقوم بها مصر في أسرع وقت، هو كيف سيتم إعادة تسليح القوات المسلحة المصرية ؟ ولم يكن هناك خيار سوى الاتجاه إلى روسيا، وإن كان هذا سيجعل مصر أكثر خضوعاً لها. لكن لم يكن هناك مخرج آخر في هذا الموقف.
ودون تردد تحركت القيادة السياسية المصرية فوصل إلى مصر وفد سوفيتي برئاسة الرئيس بودجورنى ومعه خبراء عسكريون سوفيت على رأسهم المارشال زخاروف رئيس أركان حرب القوات المسلحة السوفيتية في 21/6/1967، وبدأت المباحثات في اليوم التالي مباشرة وضمت القيادة السياسية والعسكرية المصرية مع الوفد السوفيتي.
كانت هذه المباحثات هي الركيزة الأولى التي قام عليها التعاون المصري - السوفيتي لإعادة بناء وتسليح القوات المسلحة المصرية. "وأهمية تلك الجلسة الأولى من المباحثات الرسمية ترجع إلى أنها كانت بداية مرحلة جديدة في العلاقات المصرية السوفيتية، أدت بالتالي إلى تغير تدريجي في سياسة مصر بالنسبة لعدم الانحياز وكان التواجد السوفيتي يزداد كلما ازداد الدعم الأمريكي للاحتلال العسكري الإسرائيلي.
وخلال مباحثات عبد الناصر - بودجورنى يومي 22 ، 23 يونية طلب الرئيس عبد الناصر تحقيق التوازن العسكري بين مصر وإسرائيل، مما يستلزم دعم قواتنا بالأسلحة والخبراء السوفيت وخاصة في مجال الدفاع الجوي. وأوضح للجانب السوفيتي أن ضربة العدو في حرب يونيو قد أثرت على معنويات قواتنا المسلحة بدرجة كبيرة. لذلك فإن الإسراع في تعويض الأسلحة التي فقدناها أمر حيوي تماما.ً سيؤثر كثيراً وبشكل إيجابي على معنويات ضباط وجنود الجيش - عند هذه النقطة علق زخاروف بكلمات موجعة ومهينة لكن الرئيس عبد الناصر لم يعلق -.
وبالنسبة للقوات الجوية أبرز عبد الناصر للجانب السوفيتي، أنه وصل إلى مصر بعد المعركة مباشرة 25 طائرة ميج21 ، 93 طائرة ميج17، وتم الاتفاق على إرسال 40 طائرة ميج21. ومن الناحية الفنية فإن طائرات الميج مداها قصير إذا ما قورنت بطائرات الميراج والمستير التي تملكها إسرائيل والتي يمكن أن تصل إلى العمق المصري، بينما طائراتنا لا تستطيع الوصول إلى عمق إسرائيل. لذلك طلب عبد الناصر نوعاً جديداً من الطائرات المقاتلة القاذفة بعيدة المدى حتى لا تبقى إسرائيل متفوقة وقادرة على ضربنا بينما نحن لا نستطيع الرد عليها - لم يتحقق هذا الطلب حتى انتهاء حرب 1973 رغم تكرار طلبه في كل اجتماع مع السوفيت - وطلب عبد الناصر أيضاً تزويد مصر بصفة عاجلة وبطريق الجو وليس البحر بعدد من طائرات الميج21 لكي تشترك فوراً في الدفاع الجوي عن الجمهورية حيث يوجد لدينا طيارون بدون طائرات.
ولابد في هذه اللحظة أن نتحدث عن مشروع إنتاج طائرة مقاتلة مصرية بالاشتراك مع الهند. فمنذ عام 1964 شرعت مصر والهند في إنتاج الطائرة (حلوان- 300) كمقاتلة أسرع من الصوت, وبدأ العمل في مصانع الطائرات المصرية بحلوان. وظل المشروع يتقدم بنجاح مطرد في الدراسات والتصميم، حتى تم إنتاج النموذج الكامل في عام 1966.
وبدأ تجربة الطائرة في الجو بسرعات متوسطة، ثم تطورت حتى وصلت الطائرة إلى سرعة الصوت. وكان هذا نجاحا مذهلا، كان يمكن أن يكون بداية لتحقيق سياسة مختلفة في التسليح المصري. لكن بعد يونيو67 وبضغط من روسيا، تم تصفية المشروع وتحولت مصانع الطائرات المصرية إلى الإنتاج المدني ( غسالات ملابس وثلاجات).
وعن الدفاع الجوي في مرحلة إعادة البناء، كان الرئيس عبد الناصر يفضل أن يكون ذلك في إطار دفاع مشترك أي مصري/سوفيتي، وبذلك يشترك ضباطنا وجنودنا في الدفاع الجوي مما يكسبهم الخبرة من الكوادر السوفيتية، وكان رأى بودجورنى أنه من الأنسب أن يكون الدفاع الجوي مصرياً على أن تقدم له مساعدات سوفيتية.
واستمر عبد الناصر في حديثه قائلاً : "إننا إذا كنا نطلب منكم أن تكونوا معنا في وقت الحرب. فيجب أن نكون نحن معكم في وقت الحرب ووقت السلم. وأمامنا الآن أيام صعبة يتعذر أن نتغلب عليها وحدنا.. ولأن النضال يستهدف هذه المرة تحرير أراضينا بقوة السلاح، فإنه يتحتم علينا أن نتفق مع الاتحاد السوفيتي. ونحن على استعداد لتقديم تسهيلات لسفن أسطولكم من بورسعيد إلى السلوم. وبالطبع فإننا سوف نستمع إلى أشخاص هنا في مصر يقولوا لنا: أنتم أخرجتم الإنجليز من الباب وأدخلتم السوفيت من النافذة. ولكن كل هذا يهون ويمكن تحمله في سبيل تحرير أرضنا".
أقف عند كلمات الماريشال/ زخاروف والتي لم يرد عليها الرئيس عبد الناصر والذي كان أهم سمة في شخصيته هي الاعتزاز بالنفس أمام الأجانب. كان يمكنه الرد بأن القوات الألمانية وصلت حتى موسكو في الحرب العالمية الثانية وُهزم الجيش السوفيتي، لكن نهاية الحرب كانت النصر السوفيتي على ألمانيا. لكن الرئيس عبد الناصر ابتلع كلمات زخاروف وآثر عدم الرد عليها. فمصر وجيش مصر أكبر بكثير من كلمات زخاروف. ويوضح هذا الموقف التحول الكبير في فكر الرئيس عبد الناصر ونظرته الشاملة للأمور.
كانت روسيا تجنى ثمار ما قامت به بدفع مصر إلى الحرب، فالمطالب السوفيتية تم الاستجابة لها، وأهم هذه المطالب كان تواجد الخبراء السوفيت في الوحدات المصرية واستخدام السفن السوفيتية للموانئ المصرية. كان الرئيس عبد الناصر واضحاً ومحدداً في حواره مع السوفيت وبنظرة محايدة في كلمات عبد الناصر نرى أنه لم يكن أمام عينيه سوى شيء واحد.. استرداد الأرض وهزيمة العدو الإسرائيلي، مستعداً في سبيل تحقيق هذا إلى التحالف مع الشيطان كما قالها تشرشل في الحرب العالمية الثانية. كان يوظف السياسة لصالح الجانب العسكري حتى لو أدى ذلك إلى تحول عن مبدأ عدم الانحياز الذي ناضل عبد الناصر من أجله كثيراً. لم يكن أمام عبد الناصر أي منفذ أو مصدر يحصل منه على السلاح سوى روسيا.
كان الرئيس عبد الناصر مقتنعاً تماماً أن إسرائيل لن تتنازل عن شبر واحد من الأراضي التي احتلتها في 67 إلا بالقوة المسلحة، أو يستسلم العرب لشروط إسرائيل المستحيلة.وفى حوار دار بين الرئيس عبد الناصر مع الفريق/ رياض بعد أيام من انتهاء الحرب طلب فيه الأخير أن لا يقبل حتى عودة الأراضي كلها بالجهود الدبلوماسية دون معركة مثل ما حدث في عام 1956. حتى لا تحرم القوات المسلحة المصرية من رد اعتبارها.
فرد عليه الرئيس: "لو عرضوا على كل الأراضي حا أوافق يا عبد المنعم. لكن ما تخافش ما حدش حيعرض علينا أي أرض. وأنا متأكد إن مفيش عمل سياسي حايحقق نتيجة بدون عمل عسكري".. عاد الرئيس عبد الناصر وأكد هذا في اجتماع مع قادة القوات المسلحة يوم 25/11 / 1967 "دعوني أقول لكم بعض الحقائق. فإذا نظرتم إلى ما يفعله الإسرائيليون في المناطق المحتلة سيتضح لكم أنهم لا يعتزمون الجلاء عن هذه المناطق إلا إذا أرغموا على ذلك، وأرجوكم أن تتذكروا ما سبق أن قلته : إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وليس هذا بلاغة قول لكني أعنيه تماماً ثم اسمعوا هذا : لقد طلبت من روسيا أن تزودنا بمعدات العبور، وقلت إني أريدها كقرض أو صفقة، والواقع أنني لو كنت مكان أشكول أو دايان لفعلت مثل ما يفعلان، أنهما يريدان التوسع، ويظنان أن الفرصة مواتية للتوسع، بل أرى أنهما لا يستطيعان الانسحاب حتى لو أرادا ذلك لأنهما غذيا شعبهما بآمال ووعود كثيرة. وما يقولانه الآن سيتحول لا محالة إلى سياسة رسمية وسيجدان نفسيهما ملتزمين بها، فلستم بحاجة إلى توجيه أي اهتمام لأي شيء يمكن أن أقوله في البحث عن الحل السلمي".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إسرائيل ونشوة الانتصار
بذلت إسرائيل الكثير ولسنوات عديدة في التخطيط والإعداد لحرب 67 حتى حققت انتصارها المدوي على ثلاث دول عربية محيطة بها. لكن الجهد والإعداد من جانب إسرائيل لم يكن يعطيها النصر بهذا الحجم إلا بالتقصير والإهمال والتفكك العربي سياسياً وعسكرياً. وقد حجب دوى هذا النصر الكثير عن فكر وأعين قادة إسرائيل خاصة العسكريين، الذين أصبحوا نجوم في كافة وسائل إعلام إسرائيل وأمريكيا وأوروبا.
اقتنعت إسرائيل شعباً وجيشاً وصدقت أنها خاضت معارك رهيبة وشرسة حتى استطاعت أن تقضى على جيوش ثلاث دول عربية وتحتل أراضي تبلغ مساحتها ثلاث أضعاف مساحة إسرائيل. وأغفلوا تماماً أن هذه الجيوش كانت شديدة التواضع من ناحية القدرة القتالية. كما أغفلوا أن الفرقة والتشتت كانت هي الغالبة بين الجيوش الثلاثة فلم يدعم أو يساعد أحدها الآخر طوال القتال، فانهزموا بسهولة واضحة للجميع.
كما أغفلوا دور تدمير الطائرات المصرية من اللحظات الأولى للمعركة، وأثر هذا على المعارك التي دارت بين القوات البرية المصرية والإسرائيلية.. لقد قاتلت بعض الوحدات المصرية قتال تعطيلي للعدو، وفور حدوث خسائر في القوات الإسرائيلية يتم دفع الطيران الإسرائيلي لمهاجمة تلك الوحدات المصرية، حتى يسهل تقدم القوات الإسرائيلية.. ثم اشتطت في مبالغتها فادعت بأن مدرعاتها الرهيبة قد أرست قواعد وتكتيكات جديدة ستغير في العلم العسكري وفى التكتيكات الكبرى لاستخدام المدرعات التي كانت سائدة منذ الحرب العالمية الثانية.
وكانت إسرائيل من فرط نشوة الانتصار غير الطبيعي الذي تحقق على مصر بصفة خاصة متأكدة بأن نظام الرئيس عبد الناصر سوف يسقط، وإذا لم يسقط فهو لا يستطيع الدخول في مواجهة عسكرية معها إلا بعد 20 عاماً. ونتيجة للإلحاح الإعلامي المستمر عن قدرة جيش إسرائيل، فقد صدق كثير من المحللين العسكريين مقولات القادة الإسرائيليين، حتى أن الجنرال الفرنسي اندريه بوفر صرح وتنبأ بأن أمام العرب جيل كامل حتى يفيقوا من الهزيمة.
كان الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه إسرائيل حكومة وشعباً، جيشاً وقادة، هو أنها صدقت بأن النصر الذي أحرزته في يونيو67 يعود إلى تفوق الجندي والضابط الإسرائيلي كنوعية بشرية على الجندي والضابط المصري.. وهذا ما ركز عليه الإعلام الإسرائيلي محاولاً ترسيخه لدى مصر شعباً وجيشاً كي نقتنع بأننا لا نقدر على التصدي لجيش إسرائيل، مهما كان لدينا من سلاح. لهذا كان الحوار مع الأسرى المصريين يتم صنعه إعلامياً بمهارة وحرفية حتى يتأكد لمـن يشاهده أن جندي إسرائيل (سوبرمان ) لا يستطيع أحد التصدي له. وأغفل قادة إسرائيل رغم الوضوح الشديد كيف أثرت عوامل كثيرة على أداء الجندي والضابط المصري فظهر بهذا القدر من التواضع في القدرة القتالية.
تناسوا أن القوات المسلحة المصرية لم يكن لديها هدف واضح ومحدد. وأن 40% من حجم القوات المصرية كان في اليمن، وأن حرب اليمن طوال خمس سنوات سابقة قد أنهكت تلك القوات. وأن قيادة القوات المسلحة التي كانت تدير المعركة كانت أبعد ما تكون عن العلم العسكري تخطيطاً وإعداداً لتلك القوات. وتناسوا تماماً الخطأ الكارثة ألا وهو أمر الانسحاب العشوائي للقوات المصرية والذي صدر مساء يوم 6 يونيو من المشير عامر فتحولت تلك القوات إلى كتلة من الفوضى والشراذم تحاول النجاة بنفسها. وعلى هذا لم يقع قتال حقيقي بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية حتى تدعى إسرائيل أن جيشها يتفوق في الكيف والنوعية على جيش مصر.
وكان هذا هو الخطأ الأفدح أثراً على إسرائيل. فهي في خضم نشوة الانتصار لم تتنازل عن هذا التفوق الوهمي رغم القتال الذي تجدد بعد أيام بين الجندي المصري والإسرائيلي واستمر سنوات طوال حرب الاستنزاف واستمر عشرين يوماً في حرب أكتوبر 73.
وقد وضح هذا الوهم في الطريقة التي تعاملت بها إسرائيل مع مؤشرات حرب أكتوبر. فقد تواترت عند إسرائيل معلومات وشواهد كثيرة عن أن مصر ستقوم بالهجوم على الجيش الإسرائيلي، لكن وحتى يوم 5 أكتوبر. كانت حكومة إسرائيل وقادة الجيش مقتنعين تماماً بأن مصر لن تقوم بالهجوم، لأنها تعرف جيداً أن جيش إسرائيل يتفوق على قواتها المسلحة في المعدات والسلاح، والأهم في نوعية الفرد. بل أرجح أن قادة الجيش الإسرائيلي كانوا يرحبون بالهجوم المصري لأنه سيكون فرصة سانحة لتلقين جيش مصر درسا أشد قسوة من درس عام 1967. وكان هذا اعتقاد صحيح من ناحية المعدات والسلاح أما نوعية الفرد فقد دفعت إسرائيل ثمناً غاليا.ً حيث أثبت الجندي والضابط المصري أنه بمعدات وسلاح أقل بكثير مما لدى إسرائيل يستطيع أن يهزم جيشها الذي أقنعت العالم كله بأنه جيش لا يقهر.
كانت أهم المكاسب التي حصلت عليها إسرائيل من حرب67 هو الحدود الجديدة التي أصبحت عليها، والعمق الاستراتيجي الذي لم تكن تحلم به أبداً.. فأمام مصر وهي العدو الرئيسي والأهم لها أصبحت حدودها معها تستند على مانع مائي (قناة السويس) يصعب عبوره، كما يوفر 200 كيلو متر وهي عرض سيناء كعمق جغرافي قبل أن تصل أي قوات إلى المناطق الإسرائيلية الأهلة بالسكان.
واختفى التهديد السوري من فوق هضبة الجولان والتي ترتفع 150 - 800 متر فوق المناطق السكانية الإسرائيلية. كما أن احتلال الضفة الغربية أزال الخطر الذي كان يؤرق إسرائيل فقد كان عرض وسط إسرائيل من حدودها مع الضفة الغربية وحتى شاطئ البحر 14كم فقط، مما كان يجعل أي قصف مدفعي يطول اللحم الإسرائيلي وأكثر المناطق السكانية كثافة.
وكان توحيد القدس الشرقية والقدس الغربية حلماً توراتياً ألهب المشاعر الدينية عند كل يهود العالم.. وخرج قادة إسرائيل وهم في نشوة النصر ليقولوا بأنهم لن يتخلوا عن هذه الأراضي تحت أي ظرف بادعاءات وشعارات متكررة..(سيناء أرض محررة)..(إسرائيل الكبرى)..(أرض الأجداد)....الخ. ورتبت حكومة إسرائيل نفسها على هذا المفهوم، فأصبح هدفها الأول عرقلة أي حل سياسي وإفشال أى مبادرة تقدمها القوى الدولية.
وتحت دعاوى الأمن الإسرائيلي والحدود الآمنة بدأت إسرائيل في التعامل مع الأراضي المحتلة على أنها لن تعود أبداً، إلا من بعض المعتدلين الذين كانوا يعلنون أنهم على استعداد لعودة جزء من هذه الأراضي تنازلاً بشرط الموافقة على شروط إسرائيل.
وكان ايجال الون نائب رئيس وزراء إسرائيل واضحاً حين نشر عام 1968 مقال في جريدة معاريف يوضح المفهوم الإسرائيلي للحدود الآمنة ونظرية الأمن "إن الحدود الآمنة هي تلك الحدود السياسية التي ترتكز على عمق إقليمي .. وموانع طبيعية.. مثل المياه والجبال والصحراء والممرات الضيقة التي تحول دون تقدم جيوش برية مزودة بالمدرعات ..وهي الحدود التي تمكن من اتخاذ وسائل الإنذار الفعالة ضد اقتراب الطائرات المعادية من ناحية.. ومن ناحية أخرى، فإنها الحدود التي يمكن أن تستخدم كقواعد مناسبة للقيام بهجوم مضاد".
وهكذا فرضت إسرائيل بقوتها على العرب أنه ليس هناك حل إلا الحرب، لهدم نظرية الأمن الإسرائيلي التي تقوم على الردع النفسي أولا ثم الردع المادي ثانياً...كانت كل التحركات والخطط والأحلام والآمال التي تعيشها إسرائيل بعد النصر تحظى بتشجيع أمريكي سافر.
فقد تأكد لأمريكا أنها تستطيع تأديب أي دولة في المنطقة العربية تخرج عن الطوع الأمريكي بواسطة العصا الإسرائيلية. كما أنها أحرزت هدفاً في المرمى الروسي، العدو الأول لها في الصراع على منطقة الشرق الأوسط. استغلت أمريكا الانكماش والتردد السوفيتي في منطقة الصراع وألقت بثقلها كاملاً خلف إسرائيل المنتصرة. فتحولت إلى المورد الأول للسلاح لها، ووقفت معها في المحافل الدولية تؤيدها بشدة في رفض نداء السلام. ولم يتواري الموقف الأمريكي تحت أي ستار من الدبلوماسية أو الصمت، وقد اعترف سيسكو وكيل وزارة الخارجية الأمريكية بذلك ضمناً في إحدى برقياته التي بعث بها إلى محمود رياض وزير الخارجية وقال فيها "إنكم لا تستطيعون أن تصّروا على جميع الأراضي وتتوقعوا أن تحصلوا على السلام".
وكان الموقف الأمريكي الركيزة الأساسية التي تجعل إسرائيل لا تقدم أو توافق على أي مبادرة للسلام. بل إن مناحم بيجن جاوز به الخيال حد بعيد فصرح في مايو 1968 "أن الأراضي العربية المحتلة هي أرض إسرائيلية حررتها إسرائيل من الحكم الأجنبي غير الشرعي! وأنها أرض الأجداد التي ُطرد منها الشعب اليهودي قبل 1898 سنة !!".
كان العقل الجمعي الإسرائيلي يتصرف ويخطط وكأن الرب قد حقق كلامه في التوراة حين قال "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام (إبراهيم) ميثاقاً قائلاً. لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات".
وكانوا يتصورون أن يونيو67 هو مرحلة للوصول إلى ميثاق الرب وتحقيق إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.. لكن القيادة العسكرية المصرية الجديدة وعلى رأسها الفريق أول/ محمد فوزي ومعه القادة الجدد من أهل الكفاءة كان لهم قول وفعل أخر سنتعرف عليه في الصفحات التالية. فجر العروبة يبزغ : كما قال الله سبحانه وتعالى "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" صدق الله العظيم. جاءت هزيمة1967 لتضع العرب حكاماً وشعوباً أمام مسئولياتهم. فبعد أن كان الواقع العربي هو التشتت والانقسام.. ودول رجعية ودول تقدمية، وخديعة وتآمر بين الأشقاء. انقلب الحال بين لحظة وضحاها فسارع الملوك والرؤساء العرب إلى تقديم التأييد والدعم لمصر كل بما يملك. وكل بما يتصور. وإن اختلفت وجهات النظر لكن الجميع كان متفق على أن تظل مصر صامدة حتى تبقى الأمة العربية كلها صامدة.
وبدءً من الأسبوع الأول من شهر يوليو67 وصل إلى القاهرة رؤساء وملوك كل من سوريا والعراق والجزائر والأردن.. تم عقد جلسات ثنائية وثلاثية ودارت فيها حوارات كثيرة، كان أبرز ما فيها هو تشكك الرئيس الجزائري هواري بومدين في موقف الملك حسين، وأيضاً تشكك الملك حسين في موقف سوريا أثناء الحرب.. لكن الرئيس عبد الناصر استطاع تهدئة هذه الشكوك وطالب الملك حسين بشدة أن يسارع باسترجاع الضفة الغربية بكل الطرق السياسية وأن عليه أن يحاول مع أمريكا بكل الوسائل لإرجاع الضفة الغربية، لأن إسرائيل يمكن أن تلتهمها لو طال الوقت، عكس سيناء التي يمكن أن تنتظر حتى نستعد ونستردها بالقوة.
ثم طرح على مائدة الحوار الموقف السوفيتي وحاجتنا إليه خصوصاً أن إسرائيل لن تتراجع إلا بالقوة ولهذا نحتاج إلى دعم كبير بالأسلحة السوفيتية حتى نجهز للحرب. لكن كان واضحاً أمام الرؤساء وقد اتفقوا جميعاً على أن روسيا حريصة بشدة ولا تريد التورط أمام أمريكا وفى نفس الوقت لا تريد التخلي عن مصالحها في الشرق الأوسط. وانتهت المناقشات باقتراح أن يتوجه الرئيس بومدين ومعه الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف إلى موسكو لمقابلة الزعماء السوفيت وشرح وجهة النظر العربية خاصة وأن يونيو67 جعل الأحداث أكثر سخونة عما قبل بكثير.
وتوجه الرئيسان على طائرة واحدة في 17 يوليو إلى موسكو، وفى الطريق التقيا بالرئيس اليوغسلافي تيتو. وفى مساء 18 يوليو عادا إلى القاهرة والتقيا بالرئيس عبد الناصر لإبلاغه بما تم. فقال بومدين : "إن الرئيس تيتو نصحنا بأن نتكلم بشدة مع القيادة السوفيتية دون أن نيأس من ردود فعلهم المباشرة. فهم سوف يدرسون ما نقوله لهم ويبحثون مع رفاقهم بعد أن نمشى، وسوف يتفهمون ما قلناه ولكن ببطء، وهذه عادتهم. ثم قال لنا تيتو أنه لا ينبغي لنا أن ننسى أن الروس لم يدخلوا منذ قرون معارك بالمبادأة، وأنه تاريخياً لم تدخل روسيا إلا حروباً دفاعية".
وقال الرئيس بومدين إنه والرئيس عارف بدءا اجتماعهما مع بريجنيف بأن قالا له إنهم يريدان مناقشة صريحة بحيث يتمكن الطرف العربي المصمم على تحرير أراضيه من بناء موقفه السياسي والعسكري، وهم لا يتحدثون عن الموقف العسكري لمجرد الحرب، وإنما هم يعتقدون أن الموقف العسكري مقدمه لا يمكن تجاوزها لبناء موقف سياسي.. ثم قال بومدين إنه بعد هذه المقدمة وجه لبريجنيف سؤالاً قال فيه إنه "يريد أن يسأل الرفيق بريجنيف عن الطرف الذي هُزم في 5 يونيو" وتردد بريجنيف في الإجابة والغالب أنه احتار. قلت له : إنني سأجاوب عنه هذا السؤال وقلت له : نحن هُزمنا بالجملة. هزمنا هزيمة جماعية نحن وأنتم معا. لا تقل لي إننـا نحن المسئولون، لا أريد أن أسمع هذا الكلام. وأود أن أطرح عليك فرضية أخرى لو أن إسرائيل كانت هي في موقف العرب الآن بعد المعركة، هل تعتقد أن أمريكا كانت ستتصرف كما تتصرف روسيا الآن ؟. هل تتصور أنهم كانوا سيذهبون إلى الأمم المتحدة ويخطبوا في الجمعية العامة وفى مجلس الأمن ويشغلوا أنفسهم بصياغة قرارات ؟ أم أنهم كانوا سيتصرفون على نحو آخر ؟
ثم قال بومدين : أنا التفت إلى جريتشكو وهو جالس بملابسه العسكرية وكوم من النياشين فوقها، وقلت له يا رفيقنا المارشال حدثنا عن تأثير معركة سيناء على البحر الأبيض المتوسط. نحن أخطأنا، أنتم أخطأتم هذه مسألة للتاريخ. الآن البحر الأبيض في خطر. إذا كان الأسطول الأمريكي السادس يستطيع أن يفعل ما فعل في مصر فما الذي يمنعه أن يكرر نفس الشيء باكر أو بعد باكر مع الجزائر ؟ أنا لست في حاجة إلى أن الفت نظرك إلى أن الذي يملك البحر الأبيض بمفرده اليوم سوف ينفرد غدا بالسيادة على أوروبا والشرق الأوسط كله وآسيا وأفريقيا أيضاً. وفى هذا الموضع دخل كوسيجين على الخط وقال عبارة فيها اسم إسرائيل، ولم انتظر الترجمة وإنما قلت له : لا تذكر اسم إسرائيل فإسرائيل دورها ثانوي في كل ما حدث، وسوف أقول لك التعبير الذي جاءني مكتوباً من الجنرال ديجول رئيس فرنسا "المعركة أمريكية والأداء إسرائيلي".
ثم قال الرئيس بومدين إنه أكمل محادثاته في موسكو ولم ينتظر منهم جواب فقد خشي إذا ألح عليهم في جواب سريع ألا يكونوا مستعدين بعد ويكون ردهم سلبياً. ولذلك أخذ بنصيحة تيتو ولم يضغط أو ينتظر رد عاجل، وإنما قال إنه ينصح بدعوة بعض القياديين السياسيين والعسكريين السوفييت بعد فترة. لمواصلة الضغط عليهم بعد إعطائهم فرصة يستوعبون فيها الحقائق الجديدة".
كان هذا الموقف العظيم للرئيس هوارى بومدين استكمالاً لدوره الرائع حين أرسل طائراته المقاتلة والقاذفة من الجزائر لتشارك في الحرب الدائرة بداية من يوم 8 يونيو 1967.
وأسفرت جهود وإلحاح الرئيس السوداني إسماعيل الأزهري عن عقد مؤتمر قمة عربي حضره معظم الرؤساء والملوك العرب في 28 أغسطس 1967 ورفض البعض الآخر كل من وجهة نظره. وكان المؤتمر ناجحاً بكل المقاييس، فبعد مناقشات ومزايدات في الحوار كالعادة تمكن الرؤساء من تحقيق نجاح كبير كان أهم ما فيه هو :
• الإتفاق على أنه لا اعتراف ولا تفاوض ولا صلح مع إسرائيل.
• توقف حرب اليمن وانسحاب القوات المصرية من اليمن.
• تقرير دعم مادي بقيمة 90 مليون دولار لمصر و30 مليون دولار للأردن سنوياً تعويضاً عن الخسائر التي أسفرت عنها حرب يونيو للبلدين.
كان هذا الموقف بداية فجر جديد يشرق على الأمة العربية بحال غير الحال قبل يونيو67.
فالموقف العربي أصبح متماسكاً بدرجة كبيرة عما كان قبل الحرب. والاستراتيجية أصبح متفقاً عليها بتلك اللاءات الثلاث، والقناعة العربية أصبحت واضحة بأن قضية فلسطين قضية عربية، وأن استرداد الأرض لن يكون إلا بالقوة وبالقتال. وتقرر الدعم المادي لمصر وللأردن، لأن موقفهما الاقتصادي سيتأثر بإغلاق قناة السويس واقتطاع الضفة الغربية كما وأن الإعداد للحرب سيحتاج إلى نفقات وتكاليف.
ولتدبير هذا الدعم الذي تقرر كان من الضروري إلغاء قرارات حظر البترول حتى يتوفر عائد مادي عند الدول الداعمة، كما تفهم الجميع موقف الضفة الغربية ووافق على دعم الملك حسين بكل السبل لمحاولة استردادها سريعاً.
لكن الأهم من كل هذه القرارات السابقة كان هو اتفاق العرب على رفض الهزيمة وعلى العمل لاسترجاع الأرض بالقتال المسلح، وكان هذا الاتفاق العربي بمثابة الثمرة الأولى التي حُرمت إسرائيل من قطفها نتيجة حرب يونيو67. وأول رد عملي على مقولة دايان الشهيرة بأنه ينتظر بجوار التليفون ليسمع من العرب عرض بالصلح والاستسلام. وقد طال انتظار دايان طويلاً حتى وصل إلى أكتوبر 73 وهو ينتظر ثم في 8 أكتوبر 1973 كان له كلام آخر.
شمعة أضاءت مصر كلها
بدأت مصر بعد وقف إطلاق النار مباشرة وعلى الفور، في محاولة إنشاء خط دفاعي متماسك على الضفة الغربية لقناة السويس، بما توفر لها من بقايا وحدات ومعدات وأسلحة وذخيرة. فتم تجميع هذه الوحدات وإعادة تنظيمها، ثم توزيعها في مواقع متناثرة في محاولة لتشكيل خط دفاعي مناسب يمتد من بورسعيد شمالاً وحتى السويس جنوباً بطول 150كم. وكان الاعتماد في هذا الخط الدفاعي على وحدات المشاة والصاعقة وبدعم من المدفعية، ثم تم توفير بعض الألوية من المدرعات تمركزت في العمق.
وقد تطلب هذا الخط جهداً غير عادي من الأفراد لتجهيز المواقع الدفاعية، خاصة أعمال الحفر وإقامة الموانع وحقول الألغام والتجهيزات الهندسية. لكن في خلال 40يوماً استطاعت مصر أن تلتقط أنفاسها وأصبح هناك دفاع متماسك على الضفة الغربية للقناة. وتعين اللواء/ أحمد إسماعيل قائداً للجبهة ومعه العميد/ محمد الجمسى رئيساً للأركان. وعملا ليل نهار حتى أصبح النطاق الدفاعي مكتملاً بداية من عام 1968.
في المقابل على الضفة الشرقية للقناة احتلت إسرائيل سيناء بالكامل عدا جزء صغير شرق وجنوب مدينة بور فؤاد. وبدأت في إنشاء الخط الدفاعي الإسرائيلي مرتكزة على ناتج الرمل من أعمال تطهير قناة السويس وكان ارتفاعه 4-6 متر. فقامت بإنشاء نقط دفاعية على طول القناة في كل منها فصيلة (30فرد) بفواصل 7-10كم بين النقاط. ثم بدأت هذه النقاط في تحصين مواقعها بالموانع والأسلاك الشائكة وحقول الألغام.. وفي تعلية الساتر الترابي حتى وصل إلى ارتفاع 20متر وعرض القمة 2-3 متر. واكتمل1970. وتم بناء الحصون والدشم التي تمركزت فيها القوات الإسرائيلية وهو ما عرف باسم (خط بارليف). ثم تمركز خلف هذا الخط احتياطيات بوحدات مكونة من سرايا وكتائب مشاة ومدرعات على أعماق مختلفة ويدعمها كتائب مدفعية ثقيلة وهاون.
كانت التوجيهات السياسية والعسكرية المصرية للقوات المسلحة بالالتزام بوقف إطلاق النار، إلا إذا حاول العدو القيام بأي أعمال عدوانية. لكن العدو الإسرائيلي بما كان فيه من صلف وغرور، بدأ منذ الأسبوع الأول في محاولة لاستفزاز القوات المصرية، لزرع اليأس في الضباط والجنود المصريين.. خاصة وقد أصبحت المسافة الفاصلة بين جيش مصر وجيش إسرائيل 200 متر هي عرض قناة السويس. فحاول بعض أفراد العدو النزول إلى مياه القناة للاستحمام لكن الوحدات المصرية بادرتهم على الفور بإطلاق النيران فلم تتكرر محاولتهم مرة ثانية.
كما وضعوا على الساتر الترابي مكبرات صوت كانت تذيع أغاني مستفزة وخطب تم إذاعتها قبل يونيو67، مع توجيه الشتائم والبذاءات إلى جنودنا باللغة العربية. وفى المساء يقومون بوضع مشاعل مضيئة على الساتر بشكل (48-56- 67). وأحيانا كان الجنود المصريون يقومون بإطلاق النيران عليهم فيتوقف الاستفزاز لفترة ثم يعود مرة أخرى. وهكذا أصبح القرار 234 الصادر من مجلس الأمن في 8 يونيو1967 الخاص بإيقاف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل غير ساري، لأن مصر قررت أنها ستقاتل.
نشطت أعمال الاستطلاع المصري فور توقف القتال مع العدو، حتى تتبين القيادة العسكرية المصرية ما هو حجم قوات العدو المواجهة ؟ تشكيلها ؟ أماكن تمركزها ؟. فأرسلت بدوريات خلف خطوط العدو قام بها ضباط وجنود عظماء كل ما يميزهم أنهم مصريون حقا.(*) شأنهم شأن آخرين سنذكرهم لاحقاً من مختلف أسلحة القوات المسلحة (بحرية - جوية - مشاة - مهندسين عسكريين - مدرعات - دفاع جوي) بل سينضم إليهم مدنيون قاتلوا بالسلاح، وآخرون أعطوا في موقعهم بإخلاص لتحقيق النصر.
كانت الكتيبة 103 صاعقة تتمركز في بورسعيد لحماية مطار الجميل ضد أي إسقاط إسرائيلي على المطار أو على بورسعيد.. وفى 14 يونيو تم دفع دورية 2 فرد وقيادة الملازم/عبد الوهاب الزهيرى إلى بحيرة البردويل بواسطة لنش صيد. على أن يعود سيراً على الأقدام من طريق العريش – القنطرة، لاستطلاع قوات العدو على المحور الشمالي. واستغرقت المهمة ثلاثة أيام وتم اكتشافه في اليوم الثالث من العدو الإسرائيلي لكنه استطاع العودة بالدورية سالماً ومعه المعلومات التي تحصل عليها.
وبعده بيوم واحد تم دفع الملازم أول/رفعت الزعفراني من الكتيبة إلى البردويل لتجميع الشاردين من قواتنا المسلحة وإعادتهم إلى مصر بواسطة اللنشات البحرية. وأمضى هناك 13 يوماً ثم عاد إلى الكتيبة بمحصول وافر من المعلومات.. ونحن لا نروى هذه الوقائع على سبيل الحكي، وإنما لنثبت قولنا بأن مصر بعد 10 يونيو قد أصبحت على حال غير الحال.. فبعد 4 أيام فقط من الهزيمة نرسل بدورية لجمع المعلومات واستطلاع أماكن العدو !!! ونحن الذين قضينا سنوات قبلها لم نرسل فيها دورية واحدة. لقد دقت ساعة العمل الوطني وهبّ المصريون وكلهم أمل في النصر وسنرى ويثبت ذلك فيما هو قادم من أحداث ومواقف.
توقف الجيش الإسرائيلي بعد حرب67 عند مدينة القنطرة شرق. لكن وبعد عدة أيام بدأ في استطلاع الطريق شرق القناة المؤدي إلى مدينة بورفؤاد، وكان طريق ضيق محدود من الغرب بقناة السويس ومن الشرق بأرض سبخيه تعرف باسم سهل الطينة، ولكن عناصر الاستطلاع المصري كانت تراقب وتتابع أعمال العدو من الضفة الغربية. وضحت نية العدو في أنه يجهز للتقدم للاستيلاء على مدينة بورفؤاد وبذلك تصبح بورسعيد أيضاً في مرمى نيرانه. وفى صباح 30 يونيو تم تكليف فصيلة (30 فرد) من الكتيبة 43 صاعقة، بقيادة الملازم أول/ فتحي عبد الله ومعه الملازم أول/ محمد جابر الجزار باحتلال موقع شرق القناة جنوب مدينة بورفؤاد يعرف باسم رأس العش. ويعاونه من الغرب سرية هاون (6 مدفع) بقيادة الملازم أول/ نادر عبد الله. كما تم تكليف الكتيبة 103 صاعقة بعمل كمائن من الضفة الغربية في المنطقة بين رأس العش والكاب والتينه لتدمير العدو ومهاجمته من الغرب..
تقدم العدو على الطريق شرق القناة قبل غروب شمس 30 يونيو بقوة قدرها سرية دبابات (10 دبابات) مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية في عربات نصف جنزير، بغرض الاشتباك ليلاً مع قواتنا اعتماداً على أنها أفضل وأكفأ في القتال الليلي.. وبدأ الاشتباك مع موقع الفصيلة المصرية في رأس العش في السابعة مساء بقصف من الدبابات ومدفعية الهاون الإسرائيلية، واستمر هذا القصف لمدة ساعتين. ولم يحقق أي خسائر في قواتنا، بفضل الحفر البرميلية التي قام بحفرها أفراد الفصيلة فور وصولهم إلى شرق القناة. وفى العاشرة مساءًً تقدم العدو نحو مواجهة الفصيلة التي التزم أفرادها بحبس النيران حتى وصل العدو إلى مسافة 200 – 300 متر . وفى تلك اللحظة انطلق رقيب الفصيلة البطل/ حسنى سلامه بالقاذف أر.بي.جى. مدمرا الدبابة الأولى وموجها تعليماته لباقي أفراد الفصيلة.
واستمر القتال حتى الرابعة فجرا، حاول العدو خلالها الهجوم أكثر من مره بالمواجهة أو الالتفاف من يسار الفصيلة، لكن باءت جميع هجماته بالفشل. وذلك لأنه لم يستطيع المناورة بالدبابات والعربات نصف جنزير، لأن الأرض السبخية عن يمينه والقناة عن يساره بأمتار قليلة. كما وأن أفراد الصاعقة كانت تحتل مواقعها الدفاعية بصورة جيدة. فأمكنها التشبث بالأرض وإيقاع خسائر كبيرة في الأفراد، بلغت 40 قتيل ومثلهم من الجرحى وتدمير 5 دبابات و3 عربات مجنزرة. فلم يكن أمام العدو الإسرائيلي إلا الانسحاب. وقد استشهد من القوات المصرية الملازم أول/ محمد جابر الجزار ومعه 10 شهداء من أفراد الفصيلة بعد أداء بطولي رائع.
ومن الضفة الغربية وعلى بعد 200 متر من العدو كانت الكمائن تستكمل ملحمة القتال ضد العدو الإسرائيلي. كان هناك أربعة نقاط في المسافة بين رأس العش وحتى القنطرة. كان كل كمين في تلك النقاط الأربعة يتكون من ضابط ومعه 3-4 فرد صاعقة بتسليح رشاش + قنابل يدوية + ألغام + قاذف أر. بي.جى مضاد للدبابات. كان قادة هذه الكمائن هم :
1- نقيب/ محيي نوح
2- ملازم أول/ رفعت الزعفراني
3- ملازم/ عبد الوهاب الزهيرى
4- ملازم/ خليل جمعه
استمر قتال هذه الكمائن ضد العدو الإسرائيلي من ليلة بدء المعركة 30يونيو/1 يوليو وحتى 4 يوليو. حاول العدو خلالها أكثر من مرة أن يتقدم ولكن هذه الكمائن أوقعت خسائر عالية فيه. ففي الثالثة صباح يوم 1 يوليو تمكن كمين الملازم/ عبدالوهاب الزهيرى من تدمير عربة منسحبة بالقاذف أر.بي.جى. ثم العودة إلى الغرب، ثم تمكن هذا الكمين من تدمير 3 عربات أخرى بنفس الأسلوب كانت متقدمة إلى رأس العش.
أما كمائن الملازم أول/ رفعت الزعفراني والملازم/ خليل جمعة فكانت تتبع أسلوب آخر. فقامت بزرع الألغام على طريق تقدم العدو ومراقبة تحركه من الضفة الغربية. وأسفر هذا عن تدمير ثلاث عربات ثم مهاجمة الناجين من العربات من الضفة الغربية. وتم الحصول على رشاشات وأجهزة لاسلكية ووثائق من تلك العربات، كان من بينها أوراق بها عناوين في كفر الدوار والإسماعيلية, تسلمتها المخابرات الحربية المصرية وكانت خيطا هاما للوصول إلى بعض عملاء لإسرائيل.
أما الكمين الرابع فقد تمركز النقيب/ محيي نوح فوق صهريج للمياه مما أتاح له فرصة كشف العدو واستطاع تدمير أربع عربات وإيقاع خسائر كبيرة في الأفراد. وإن كان قادة الكمائن هم الذين هاجموا العدو الإسرائيلي من الشرق ومن الغرب إلا أن أفراد كل كمين كانوا خير سند ومعين لضباطهم مثال الجندي فكري طاحون الذي أصيب أثناء المعركة لكنه أصر على البقاء مع قائده قائلاً "أنا جيت مع سيادتك وحافضل هنا لغاية ما نخلص المهمة" والعريف حلمي عبد الجليل الذي أصيب أيضا والجندي محمود سعد الجلاد.
لم يجد العدو مخرج من هذا المأزق إلا أن يدفع بطائراته التي قامت بمهاجمة المنطقة من القنطرة وحتى بورسعيد بكثافة وعشوائية رداً على الخسائر العالية التي وقعت في أفراده ومعداته فهاجم صهريج المياه وفندق في بورسعيد وجامع وأتوبيس ركاب مدني على الطريق. وللأسف كانت الخسائر كلها في الأفراد المدنيين من ركاب الأتوبيس، حيث استطاع أفراد الكمائن استغلال الأرض بصورة رائعة في الحماية من الهجمات الجوية.
وعن هذه المعركة يقول إسحاق رابين "وفى قطاع الساحل الضيق أقام المصريون موقعاً على بعد 10-12كم من بورفؤاد ودعوا المراقبين الدوليين ليروا ويشاهدوا بأن هذه المنطقة واقعة تحت سيطرتهم. وقد خاضت وحدات استطلاع إسرائيلية قتالاً مريراً في المنطقة التي تدعى "الرش" - يقصد رأس العش - في الوقت الذي كانوا فيه مكشوفين للجانب الآخر من القناة والواقع تحت السيطرة المصرية. وقررت رغم صعوبة الظروف تعديل الخط ليصل حتى مداخل بورفؤاد.. وفى شهر تموز 1967 وفى إحدى المعارك الضارية في هذه الواجهة تورطت قواتنا في وضع خطير، وأردت استخدام سلاح الجو. فبحثت عن وزير الدفاع وكان مشغولاً بحفريات أثرية ولم أستطع العثور عليه. وكان الوقت ضيقاً، وزاد وضع قواتنا خطورة فأمرت سلاح الجو أن يقوم بإسكات المواقع المصرية في الجانب الغربي للقناة التي كانت تطلق نيران مكثفة.
وانتهت معركة رأس العش ولم يحاول العدو أن يتقدم إليها مرة أخرى. وظلت هذه المنطقة وحتى مدينة بورفؤاد أرض مصرية. ولكن كان لهذه المعركة آثار كبيرة ودروس مستفادة لابد وأن نقف عند بعض منها.
كانت هذه المعركة هي المواجهة الأولى والحقيقية بعد يونيو67 بين الضابط والجندي المصري والعدو الإسرائيلي.. فقد كان هناك آلاف من الضباط والجنود المصريين منهم الذين قاموا بمعركة رأس العش، قامت حرب يونيو وانتهت وهم لم يقاتلوا أو يشاهدوا إسرائيلي واحد، ورغم ذلك كان محسوب عليهم أنهم جيش مهزوم.. لهذا كان أثر هذه المعركة على مصر عظيماً وعلى الضباط والجنود أعظم.
ثبت من هذه المعركة أن الحرب الإعلامية والنفسية التي كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية تشنها على مصر بغية ترسيخ الاستسلام واليأس على الجانب المصري كانت تقوم على أكذوبة ووهم. وأن الجندي الإسرائيلي ليس هو ( السوبرمان) وأن الجيش الإسرائيلي ليس هو (الجيش الذي لا يقهر).
أوضحت هذه المعركة أن استخدام الأرض وتجهيز المواقع الدفاعية جيداً يمكن أن يكون عاملاً حيوياً في صمود القوات ضد العدو الذي يفوقها عدداً وعدة. فقد خطط قائد الفصيلة دفاعه بحيث استطاعت فصيلة المشاة التصدي لهجوم سرية الدبابات المدعمة بمشاة ميكانيكي على عربات نصف جنزير رغم فارق الإمكانيات والقدرات القتالية بين الدبابة وفرد المشاة.
كان في معركة رأس العش درس واضح تماماً لكن إسرائيل - ولحسن حظنا - لم تتوقف أمامه أو تتنبه له، وكان هذا الدرس هو أحد أسباب انتصار مصر الكبير في حرب 1973. فبعد حرب يونيو67 وقعت إسرائيل كلها في وهم الاعتقاد بأن الجندي الإسرائيلي كنوعية بشر أفضل من الجندي المصري ويتفوق عليه في كل شيء خاصة في القتال الليلي.. ورغم أن هذا الوهم قد سقط في معركة رأس العش وفى معارك بعدها إلا أن إسرائيل ظلت تتمسك بهذا الوهم حتى حرب أكتوبر1973 التي قال قادتها بعدها إن أكبر مفاجأة لهم كانت هي الجندي المصري.
أثبتت معركة رأس العش أن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح.. فبمقارنة بسيطة بين القوات المصرية والإسرائيلية نجد هذه المقولة واضحة تماماً. فالدبابة الإسرائيلية التي كانت تهاجم لديها مدفع رئيسي يقذف الدانة من على بعد 1.5-2كم. ولديها رشاش يطلق نيرانه من على بعد 2000 متر من الهدف، إضافة إلى الدرع الذي يحمى طاقم الدبابة.. يقابله المقاتل المصري في العراء بسلاحه الشخصي وبقنبلة يدوية وقاذف صاروخي مضاد للدبابات أر. بي.جي يطلق طلقة واحدة من على بعد 300-500 متر. لهذا فلابد وأن يكون الفرد الذي يتصدى للدبابة والعربة المدرعة متمركزاً في الأرض بصورة جيدة وعلى قدر كبير من الكفاءة القتالية والثقة بالنفس والإصرار وهذا ما كان عليه ضباط وجنود مصر.
هذه مقارنة بقدرات المعدات والأسلحة.. وبنظرة أخرى على حجم القوات التي تصدت للعدو نجد أن مجموع من شارك في هذه المعركة من القوات المصرية هو 7 ضابط وما لا يزيد عن 60 جندي. تمكنت هذه القوة من إيقاف تقدم العدو إلى مدينة بورفؤاد من الفترة مساء 30 يونيو وحتى4 يوليو1967. برغم مدرعاته المدعمة بالطيران، والتي حاولت أكثر من مرة لكن الفشل كان نصيبها في كل مرة.
كان لمعركة رأس العش أثر غريب مر كأمر عادي لكنه بالغ الدلالة.. فقد كانت الكمائن التي تعمل في الضفة الغربية تهاجم العدو الإسرائيلي في الشرق وحولها قرى ريفية وفلاحين مصريين، كانوا يتابعون الكمائن المصرية وهي تدمر مدرعات ومجنزرات العدو الإسرائيلي بالهتاف والتصفيق. وما أن انتهت المعركة حتى خرج المئات من الأهالي على طول القناة، يحملون أفراد الكمائن ويهتفون لهم ويتسابق الجميع في تقديم كل ما لديهم من مأكولات ومشروبات وحلوى احتفالاً وتقديراً لضباط وجنود مصر.
حقاً إنها معركة بطولية تسجل في تاريخ القوات المسلحة المصرية قام بها أفراد قال لهم اللواء/ أحمد إسماعيل قائد الجبهة بعد المعركة "إن مصر كلها مدينة لكم بالكثير".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثاني الهزيمة أكبر مُعلم
هناك قول مأثور متواتر يقول "يندر أن يتعلم المنتصر من انتصاره، أما المهزوم فهو أكبر المتعلمين من الهزيمة" وقد تطابق هذا القول مع ما حدث بعد حرب 67. فقد عاشت إسرائيل نشوة الانتصار بصورة تفوق حجم الانتصار. فوقعت في فخ الاستهانة بمصر وجيش مصر فوقعت في أخطاء جسيمة سنعرض لها لاحقا.. بينما في مصر المهزومة كان الموقف يختلف تماماً. وسنرى مصر أخرى غير مصر التي ُهزمت.
استوعبت مصر قيادة وجيشاً وشعباً درس الهزيمة جيداً. فبدأت على الفور وبصورة لم تكن متوقعة في نسج ملحمة الانتصار القادم لا محالة. وكان أهم ما انتهت إليه القيادة السياسية والعسكرية المصرية أنها كانت تجهل العدو الإسرائيلي جهلاً تاماً. وأن القصور والنقص في المعلومات قد أوقعنا في أخطاء فادحة كلفتنا كثير من الأرواح والدماء. فكان طبيعياً أن يأخذ استطلاع العدو اهتماماً كبيراً من فكر وتخطيط القيادة العسكرية. فاندفعت أجهزة المخابرات الحربية والاستطلاع في كل اتجاه وبوسائل متنوعة بغية الحصول على أي معلومة عن العدو الإسرائيلي، خاصة في سيناء، لأنها مسرح العمليات في الحرب المقبلة. وتركيزاً على حجم وتمركز وأنواع الوحدات الإسرائيلية في سيناء بدءً من شاطئ القناة وحتى عمق سيناء التي تتمركز فيها الوحدات والاحتياطيات الإسرائيلية.
بدأت المخابرات الحربية المصرية بعد أيام من توقف القتال في دفع دوريات خلف خطوط العدو بواسطة ضابط من الصاعقة ومعه 2 فرد ولمدة 5 أيام ثم العودة، ثم تطورت هذه الدوريات وأصبحت ضابط بمفرده يتسلمه عند القناة بعض من أفراد سيناء الذين ساهموا بجهد رائع في نجاح تلك الدوريات. كان الضابط يعيش معهم كأنه من أهل سيناء ولمدة شهر كامل يقوم فيه بجمع وتصوير المعلومات والمواقع المكلف بها. وكان دور أهل سيناء هو توفير الحماية لهذا الضابط وتأمين تحركاته من مكان لآخر، وتوصيل المعلومات إلى القيادة في مصر إذا استدعى الأمر. ونجح هذا الأسلوب نجاحاً باهراً فلم تكتشف إسرائيل أي من تلك الدوريات رغم تكرارها على مدى سنوات.
وبدأت المخابرات الحربية المصرية في تغيير صورتها التي كانت عليها قبل حرب 67. فلم تكتف بالحصول على المعلومات عن العدو الإسرائيلي بل اندفعت فى محاولة تحسب لها هي مهاجمة العدو وتكبيده أكبر خسائر ممكنة. بدأت بفكرة من اللواء/ محمد صادق مدير المخابرات الحربية بضرورة تدمير موقع إسرائيلي عبارة عن مخزن ضخم تم فيه تجميع وتشوين الذخيرة والأسلحة التي تم الاستيلاء عليها بعد انسحاب القوات المصرية. وكان الأمر يتطلب موافقة الرئيس عبد الناصر الذي تخوف في بادئ الأمر من أي آثار للعملية، خاصة وأن مصر قبلت وقف إطلاق النار. لكن اللواء/ محمد صادق كان عنده الأسباب والرد المقنع. فشرح للرئيس أن العملية تهدف إلى عدة أشياء :-
أولاً: سحب مكسب ضخم من العدو الإسرائيلي بمنعه وحرمانه من استخدام هذا الحجم من الذخيرة التي استولى عليها.
ثانياً: العملية ستغير فكر الضباط والجنود المصريين عن الجيش الإسرائيلي والصورة التي تقول أنه الجيش الذي لا يقهر .
ثالثاً: رسالة إلى إسرائيل بأن مصر مازال لديها رجال مقاتلون يستطيعون الوصول إليها والنيل منها في أي مكان.
رابعاً: سنعلن أن الذين قاموا بها من أبناء سيناء الذين شكلوا تنظيماً باسم منظمة سيناء العربية. وبهذا فلا خوف علي وقف إطلاق النار.
ووافق الرئيس عبد الناصر وتم تكليف المقدم/ إبراهيم الرفاعى ومعه مجموعة من الضباط والصف والجنود يعملون معه في المخابرات الحربية بتدمير هذا الموقع. وفى مساء يوم 4/7/1967 تم تنفيذ المهمة وسُمع دوى انفجار مخزن الذخيرة لمسافات بعيدة. ونجحت العملية أيما نجاح حيث تم التخطيط والإعداد لها بدرجة عالية من الدقة، وفى مرحلة التنفيذ وضحت الكفاءة القتالية العالية التي تتمتع بها هذه المجموعة.
وقد تطور تفكير اللواء/ صادق لهذه المجموعة فتم دعمها بضباط وأفراد من الصاعقة تحت قيادة المقدم/ إبراهيم الرفاعى الذي قام بإعداد خطط وبرامج تدريبية للمجموعة، أسفرت عن إنشاء وحدة خاصة على مستوى عالي من التدريب والكفاءة القتالية أطلق عليها اسم المجموعة 39 قتال. ونتيجة لهذا المستوى العالي لأفراد المجموعـة أمكـن استخدامها في مهاجمة العدو الإسرائيلي لأكثر من خمسين مـرة كانت كلها ناجحة إلا من 4-5 عمليات فقط هي التي فشلت. وسنتحدث عن المجموعة 39 قتال وعن بعض عملياتها بالتفصيل لاحقاً في فترة حرب الاستنزاف.
وكان لابد للقوات الجوية المصرية من أن تساهم في جهود الاستطلاع والحصول على المعلومات عن العدو وقواته فى سيناء. ولم تكن مصر في تلك الفترة تمتلك طائرات استطلاع، لكن تم التغلب على هذا النقص بالروح المصرية وبالتفكير المبتكر. فقد كانت الطلعات تتم بواسطة الطائرة المقاتلة القاذفة سوخوى-7 وطائرات الهليكوبتر وهما غير مجهزتان بكاميرا تصوير. لكن طيار السوخوى-7 كان يقوم بالطيران فوق المواقع المطلوب استطلاعها ومعه في الطائرة جهاز تسجيل (ريكوردر) وما أن يعبر القناة إلى سيناء حتى يبدأ بشرح ووصف كل ما هو موجود على الأرض تحت الطائرة وعن يمينها وشمالها، فيتم تسجيل هذا الوصف على جهاز التسجيل وبعد الهبوط يتم تفريغ الشريط وكتابة المعلومات ودراستها وتحليلها.
أما طيار الهليكوبتر فقد كان يطير على ارتفاع منخفض جداً وعند الموقع المراد تصويره يقوم بالارتفاع ويقوم فرد من طاقم الطائرة عند الباب الجانبي للطائرة المفتوح بالتصوير بواسطة كاميرا في يديه، ثم يعاود الطيار الانخفاض بسرعة إلى ارتفاع منخفض جداً حتى لا يتعرض إلى وسائل الدفاع الجوي الإسرائيلي.
كان هذا أسلوبا بدائياً وشديد الخطورة، لكن الطيار المصري نجح وأثبت انه قادر على قهر أي صعاب. وتم الحصول على حجم ضخم من المعلومات عن العدو وقواته، أفاد القيادة العامة فائدة كبيرة في التخطيط للعمليات . لكن الأمر لم يخل من خسائر فتم إسقاط طائرة سوخوى-7 فوق مطار المليز واستشهد الرائد طيار/ توفيق وليّ الدين، كما أسقطت طائرة سوخوى-7 ثانية لكن الرائد طيار/ محمد عبد الرحمن استطاع القفز بالمظلة في منطقة سهل الطينة شرق القناة وطاردته الطائرات الهليكوبتر الإسرائيلية لساعات لكنه استطاع الهرب منها رغم إصابته أثناء القفز وعبر القناة سباحة حتى وصل إلى الضفة الغربية في صباح اليوم التالي. وجدير بالذكر أن أول من قابله على الضفة الغربية كان أحد الفلاحين ما أن تأكد أنه مصري حتى قام بخلع جلبابه وأعطاه له بدلاً من ملابسه المبتلة والممزقة.
وكان لابد من تنفيذ الاستطلاع بأسلوب علمي، وخطة مستمرة. فبدأت قيادة القوات الجوية في إنشاء رف(4طائرة) استطلاع من طائرات ميج21 بقيادة الرائد طيار/ حسين عزت ورف استطلاع سوخوى-7 بقيادة نقيب طيار/ سيد كامل ورف استطلاع اليوشن- 28 بقيادة الرائد طيار/ عز الدين سعيد.. كان الطيارون جميعاً يدركون جيداً أنه لابد وأن نُعيد إعداد أنفسنا بأنفسنا. وتشّبع الجميع بهذا الإحساس فأصبح العمل يتم تنفيذه بإخلاص وتفاني دون توجيه أو أوامر. وفى أكتوبر1967 بدأ الإعداد النظري للطيارين بمدرسة المخابرات الحربية، ثم تلاها فترة طيران تدريبي. وفى بداية عام 1968 أصبحت هذه الأرفف جاهزة وتشارك في استطلاع العدو. ثم تطورت الأرفف إلى سربين ميج21، سوخوى-7، ثم تشكل منهما لواء جوي للاستطلاع.
بذل الطيارون جهداً خارقاً خاصة نواة الأرفف الأولى، فقد كانت مهامهم متعددة. كان هناك خطة شهرية لاستطلاع الثلاث محاور الرئيسية في سيناء (المحور الشمالي والأوسط والجنوبي) حتى عمق 30كم داخل سيناء، وكذا استطلاع النقط الحصينة في خط بارليف من بورسعيد شمالاً حتى السويس جنوباً بالإضافة على استطلاع الشاطئ الشرقي لخليج السويس. كان هذا الاستطلاع يتم بصورة دورية متلاحقة حتى تقف القيادة العسكرية على آخر موقف لحجم وتشكيلات ومواقع العدو أول بأول.
كان تنفيذ هذه الطلعات يستلزم تدريباً خاصاً لطياري الاستطلاع، ثم أثناء التنفيذ كان التصوير الجوي يتم والطائرة تطير على ارتفاع متوسط (3-4 كم) وهي أنسب ارتفاع لتوجيه طائرات العدو عليه لاعتراضه أو لإسقاطه بواسطة الصواريخ أرض/جو الهوك
الذي كان في هذه الآونة يمثل قمة تكنولوجيا الصواريخ م/ط ، وكان يشكل تهديداً كبيرا للطيارين لأن إمكاناته على الارتفاع المنخفض عاليه. وعند تنفيذ الاستطلاع على ارتفاع منخفض بالنظر كانت الطائرة تتعرض للمدفعية م/ط ( المضادة للطائرات) الرادارية.. لكل هذه المخاطر التي تهدد تنفيذ الطلعة، كان يتم في التدريب التعاون بين طائرات الاستطلاع ووحدات أخرى من القوات الجوية أو الدفاع الجوي، للخروج بأفضل أسلوب لخداع الدفاع الجوي الإسرائيلي وتجنب تأثيره.
كما إن الطائرات السوفيتية بتجهيزاتها المحدودة كانت لا تسمح للطيار بجمع معلومات وفيرة في الطلعة الواحدة، وكذا الكاميرات السوفيتية كانت تحد من مناورة الطائرة بصورة كبيرة. فكان لزاماً التغلب على هذه العوائق. ووافقت روسيا بعد ضغوط متكررة على توريد طائرات (ميج21ر) مجهزة بمستودعات تصوير، وتم تدريب الطيارون عليها وتبين أن مستودع التصوير كبير الحجم وثقيل الوزن ويتطلب حوالي ساعتين لتركيبهً.
واهتدى المهندسون المصريون إلى كاميرا إنجليزية ذات بعد بؤري مناسب، وبمجهود المهندسين في ورش الطائرات وبعيداً عن أعين المستشارين السوفيت تم تركيب الكاميرا داخل مقدمة الطائرة بدلاً من جهاز الرادار، ونجحت التجربة في التركيب بعد عملية شاقة ومعقدة ذهنياً وبدنياً. وكانت الخطوة التالية هي تجربة الكاميرا والطائرة في الجو، وكان لزاماً إخطار المستشارين السوفيت الذين أبدوا اقتناعهم بالتعديل، واقترحوا أن يتم تنفيذ التعديل في طائرة سوفيتية في روسيا وإعطائها لنا كهدية. ووصلت الطائرة المعدلة في مصانع طائرات الاتحاد السوفيتي، لكن اكتشف أن الكاميرا التي تم تركيبها كانت عمودية على محور الطائرة الطولي، أي أن الطائرة تطير إلى الأمام في حين أن فيلم كاميرات التصوير يدور عرضياً وليس طولياً مع اتجاه الطيران ..!! وهو خطأ لا يمكن أن يقع فيه السوفيت عن سهو. ولهذا قررت قيادة القوات الجوية استكمال تعديل الطائرات في ورش الطائرات المصرية.
لقد حقق طياري الاستطلاع نجاحاً كبيراً في عملهم، فقد تمكنوا من عمل خريطة كاملة لموقف العدو من شاطئ القناة وحتى عمق 30كم في سيناء.. شملت كافة مواقع العدو وأسلحته وتجهيزاته وتوزيع قواته. وكان النجاح الأكبر هو تصوير خط بارليف الشهير بأدق التفاصيل التي فيه مما ساعد كثيراً في أعمال الكمائن والغارات التي تمت خلال حرب الاستنزاف، وساعدت بصورة أكبر في عملية العبور يوم 6 أكتوبر فقد تدرب الضباط والجنود المصريون على مواقع مطابقة تماماً لما هو موجود في الصور. فبمجرد عبور القناة كان كل فرد يعرف طريقه الذي سيتجه إليه لتنفيذ مهمته.
وجاء يومي 14-15 يوليو1967 بأحداث متعددة أضافت زخماً كبيراً إلى الضباط والجنود المصريين الذين كانوا يتلهفون على إثبات ذاتهم وكفاءتهم. فمنذ انتهاء حرب يونيو والطيران الإسرائيلي لا يكف عن استطلاع الجبهة المصرية حتى أصبح وكأنه مسح جوي بالصور لمواقعنا غرب القناة. وكان هذا يكشف تجهيزاتنا الدفاعية وأماكن تمركز الوحدات والأسلحة خاصة المدفعية الثقيلة ومراكز القيادة ومناطق تشوين الذخيرة....الخ. وكان لابد من منع العدو من هذه الطلعات والتصدي لها. وفى يوم 14 يوليو حاول العدو الإسرائيلي إنزال لنشات وقوارب في قناة السويس عند مناطق القنطرة وكبريت والشط وبورتوفيق. وعلى الفور قامت القوات البرية بالتصدي له بالمدفعية والرشاشات.
وكانت فرصة سانحـة فقام الفريق طيار/مدكور أبوالعز قائد القـوات الجويـة بدفـع 20طائرة ميج17 وفى حماية 12 طائرة ميج21 بالهجوم على مواقع العدو في شرق القناة وأحدثت به خسائر كبيرة. ثم تكرر هذا في اليوم التالي 15 يوليو.
وكان هذا إعلان بأن مصر لن تستسلم، وأن قواتها الجوية ستعود مرة أخرى وستقاتل القوات الجوية الإسرائيلية، رغم فارق الإمكانات الشاسع. وأسفرت معارك اليومين عن خسائر للعدو الإسرائيلي (3طائرة - 8 لنشن بحري وزورق - تدمير وإصابة 19 دبابة - 18 عربة مدرعة - 27 لوري) علاوة على خسائر كبيرة في الأرواح. بينما كانت خسائرنا (3 طائرة - 2 لنش بحري) علاوة على 25 شهيد - 108 جريح.
كانت الهجمات الجوية التي تمت على العدو الإسرائيلي يومي 14 ، 15 يوليو تأكيداً لمعركة رأس العش التي وقعت قبل أيام. وكان لها تأثير معنوي هائل على ضباطنا وجنودنا في منطقة القناة بعد أن شاهدوا بأعينهم الوحدات الإسرائيلية المتمركزة على الشاطئ الشرقي للقناة تنسحب في ذعر مهرولة إلى داخل عمق سيناء حتى تبتعد عن مرمى الطيران المصري المؤثر، كما شاهدوا بأعينهم طائرات مصرية تقصف وتدمر مواقع إسرائيلية، وتشتبك في قتال جوي مع طائرات إسرائيلية وتسقطها... وبدأ المقاتل المصري يشعر ويتأكد بأن ما دار في 5 يونيو1967 ليس هو الانتصار الكبير الذي حاولت إسرائيل ترويجه، وأننا قادرون على توجيه ضربات للعدو الإسرائيلي، وأنه ليس الجيش الذي لا يقهر. وكان هذا هو الكسب الكبير الذي حصلت عليه مصر من معارك يومي 14 ، 15 يوليو، ألا وهو زرع وتأكيد الثقة في المقاتل المصري بأنه يستطيع أن يواجه ويقاتل الجندي الإسرائيلي.
كان الدفاع الجوي المصري يعاني من نقص كبير في الكفاءة القتالية نتيجة تدمير جزء كبير منه في حرب يونيو ولضعف إمكانيات الصواريخ (سام -2). وكذا ضعف الكشف الراداري خاصة على الارتفاع المنخفض. فكان لزاماً أن يقع العبء الأكبر في حماية القوات في منطقة القناة والأهداف الحيوية للدولة على عاتق القوات الجوية المصرية.
ورغم أن مهام القوات الجوية في هذه المرحلة، هي إعادة البناء ورفع الكفاءة القتالية وتجهيز وتطوير القواعد والمطارات، إلا أنها قامت بتنفيذ واجب الدفاع الجوي الذي كلفت به بأقصى ما تستطيع، وبجهد يفوق الخيال. كانت القوات الجوية قد بدأت في إعادة تشكيل أسراب المقاتلات من طائرات (ميج21) والمقاتلات القاذفة من طائرات ( سوخوي-7 + ميج17) والتي تمركزت فى مطارات قويسنا - ألماظة - أنشاص - بني سويف- غرب القاهرة . ثم بعد أشهر انضم إليها مطارات المنصورة – بلبيس ، لتصبح طائرات القوات الجوية أكثر قربا من خط الجبهة.
كان الواجب الملقى على عاتق القوات الجوية هو تغطية الفترة من أول ضوء وحتى آخر ضوء (14ساعة) يومياً بمظلات جوية من كل مطار بعدد 2 طائرة + 2 طائرة أخرى على الأرض في حالة الاستعداد الأولى (الطيارون داخل كابينة الطائرة). على أن تقلع في خلال 3 دقيقة في حالة أي اشتباك جوي مع طائرات العدو. كان الطيار في هذه الفترة ينفذ يومياً 2-3 طلعة مظلة جوية بالإضافة إلى 1 –2 مرّّّّّّّّّّّّّّّه في حالة الاستعداد الأولى. وفي الغالب تقلع الحالة الأولى لمرة أو مرتين كل يوم. كان العدو يتابع راداريا المظلات الجوية المصرية ويقوم باختراق الجبهة بطائراته وما أن تقلع الحالة الأولى لدعم المظلة الجوية التي تتأهب للاشتباك حتى يعود مرة أخرى إلى الشرق مبتعداً.
كان العدو يهدف إلى إنهاك وتشتيت المجهود الجوي المصري وقد نجح في هذا أول الأمر. وقد تنبهت قيادة القوات الجوية إلى أن هذا الجهد الضخم الذي يُبذل في طلعات المظلات، يتم على حساب تدريب الطيارين ورفع كفاءتهم القتالية. فبعد هذا الجهد لا يمكن للطيار أن يمارس مهام تدريبية. كما جاءً هذا الجهد على حساب الحالة الفنية للطائرات واستهلاك عمر المحركات. فتم تخفيض عدد المظلات وأصبحت بالتناوب بين القواعد والمطارات، واعتماداً أكبر على حالات الاستعداد الأولى على الأرض. كما أن كتائب صواريخ الدفاع الجوي كانت قد بدأت في استعادة كفاءتها بصورة مقبولة.
جاء شهر سبتمبر 67 والمواقع الدفاعية في الجبهة تتحسن، والوحدات المتمركزة غرب القناة تستكمل تدريجياً. لكن كان لزاما أن تظل الجبهة ساخنة حتى لا يتجمد الموقف ويظن العدو الإسرائيلي بأن المعارك السابقة في يوليو كانت مجرد فلتات.. فأصدرت القيادة العامة أوامرها لوحدات المدفعية والأسلحة البرية الأخرى في قطاع الإسماعيلية يوم 20 سبتمبر بقصف وتدمير مواقع العدو الإسرائيلي في شرق القناة، واستمر القصف مستمراً لمدة أكثر من ساعة.. تحققت فيها خسائر كبيرة في الأفراد بين قتيل وجريح خلاف إصابة عدد من الدبابات وعربات اللاسلكي. ولما كانت الخسائر موجعة للعدو الإسرائيلي فقد كان الرد على قصفة المدفعية المصرية هو توجيه نيران المدفعية الإسرائيلية إلى مدينة الإسماعيلية فتم تدمير عدد من المنازل وسقوط عدد من القتلى والجرحى المدنيين. وكان هذا هو أسلوب العدو الإسرائيلي الرخيص والذي سنري أنه عقيدة مستمرة لديه، تهدف إلي زرع الخوف والرهبة في نفوسنا.
اصطياد القرش الإسرائيلي
انحسر ظلام يونيو67 في معركة رأس العش التي بزغ منها الأمل، ثم وضح في معارك الطيران المصري يومي 14 ، 15 يوليو. ثم تلألأ هذا الأمل ساطعاً في يوم 21أكتوبر 1967 والذي أصبح يوماً مشهوداً في تاريخ مصر والبحرية المصرية. ففي هذا اليوم اكتملت ثلاثية مهاجمة العدو الإسرائيلي براً وجواً وبحراً.
في صباح هذا اليوم كان العميد بحري/ محمود فهمي رئيس عمليات البحرية وهو أحد الرجال المصريين حقا، وسنعرف قدره بما سنسرد من أحداث بطولية رائعة قامت بها القوات البحرية تحت قيادته. كان الرجل يمارس مهامه اليومية في مركز عمليات القوات البحرية. كانت تقارير الاستطلاع لأيام ثلاثة سابقة تقول بأن أحد المدمرات الإسرائيلية تقوم بالمرور فى المنطقة شرق بورسعيد ولكن خارج المياه الإقليمية. وصباح يوم 21أكتوبر أبلغ أحد قباطنة السفن التجارية (ضابط بحري سابق) بأنه رأى 2 مدمرة إسرائيلية شمال شرق بورسعيد. وفى العاشرة صباحاً اتصل قائد قاعدة بورسعيد وأبلغ مركز العمليات بأن إحدى المدمرات الإسرائيلية تمر شمال بورسعيد على مسافة 15 ميل أي خارج المياه الإقليمية بثلاثة أميال.
كان المرور بهذه الطريقة يحمل استفزازاً إسرائيلياً لقواتنا البحرية. فهي وإن كانت خارج المياه الإقليمية إلا أن المرور بهذه الطريقة يعني التحرش وتكراره اليومي يعني الإهانة. ولم يتوان العميد/ محمود فهمي فدخل إلى قائد القوات البحرية في مكتبه ومعه خريطة الموقف في منطقة بورسعيد طالباً الأمر بإغراق هذه المدمرة حيث لدينا في قاعدة بورسعيد البحرية لنشات صواريخ طراز( 183ر) يحمل كل منها صاروخين قادرين على إغراق هذه المدمرة. لكن رد قائد القوات البحرية على حماس العميد/ محمود فهمي مذكراً له بأن أوامر القيادة العامة هو ألا تشتبك مع العدو إلا إذا بدأ هو أو بأذن من القيادة العامة. فطلب منه الأذن بأن يتصل هو بالقيادة العامة فوافق له .
وعلى الفور اتصل بهيئة عمليات القوات المسلحة التي قامت بإبلاغ القائد العام وبعد ساعة جاء الرد بأن الفريق أول/محمد فوزي صدق على مهاجمة المدمرة إذا دخلت المياه الإقليمية المصرية. فما كان منه إلا أن جمع معاونيه لدراسة الموقف وتجهيز الخطة. كان لزاما أن تكون المدمرة الإسرائيلية داخل المياه الإقليمية حسب أوامر القائد العام. ولم يكن صعباً عمل خطة خداع بمثابة الطعم الذي سيجذب المدمرة إلى مياهنا الإقليمية. فتم إرسال إشارة عاجلة ومفتوحة أي غير مشفرة باللاسلكي إلى قائد قاعدة بورسعيد البحرية بالا يشتبك مع المدمرة الإسرائيلية الموجودة أمام بورسعيد.
وكان من المعروف أن أجهزة التنصت الإسرائيلية سوف تلتقط الإشارة فيسـود لديهم الشعور بالاطمئنان وأنهم حتى لو دخلوا للمياه الإقليمية المصرية فلن يتصدى لهم أحد. وفى نفس الوقت تم إرسال الأوامر بالشفرة إلى قائد قاعدة بورسعيد البحرية بأن تستعد لنشات الصواريخ للخروج من القاعدة لمهاجمة المدمرة الإسرائيلية.
كان مركز عمليات القوات البحرية وعلى رأسه العميد/ محمود فهمي يخيم عليه توتر وقلق شديدين، فما أصعب لحظات الانتظار. وفى الخامسة إلا ربع مساءً انفتح باب الأمل على مصراعيه فقد التقطت المدمرة الإسرائيلية الطعم وبدأت في الاقتراب من المياه الإقليمية المصرية وعلى الفور صدرت الأوامر بخروج 2 لنش صواريخ ومهاجمة المدمرة بلنش واحد وإذا لم تغرق يتم إغراقها بواسطة الثاني. وخرج لنشا الصواريخ الأول بقيادة النقيب/ شاكر عبد الواحد والثاني بقيادة النقيب/ لطفي جاد الله.
"وفى تمام الخامسة وعشرين دقيقة مساء 21 أكتوبر 1967 انطلق أول صاروخ في التاريخ ليصيب وحدة بحرية معادية أثناء الحرب.. وانتقلت إلى مكتب العقيد/ عادل هاشم حيث البلاغات من قاعدة بورسعيد كانت متلاحقة تنساب كما تنساب الأنغام العذبة فى سيمفونية جميلة.. صاروخ نمرة واحد طلع .. نمرة واحد أصاب الهدف.. صاروخ نمرة اثنين طلع.. نمرة اثنين أصاب الهدف ..الهدف تحطم.. هكذا وفى دقائق معدودة تحطمت أكبر وحدة بحرية إسرائيلية، لقد غرقت مدمرتهم الكبيرة إيلات، لقد أهنا كبرياءهم وجدعنا أنفهم. وعلى الفور أمرت بعودة اللنشين إلى القاعدة. الأول بعد أن أطلق صواريخه والثاني محمل بالصواريخ. وعاد اللنشان بعد أن استقبلا استقبالاً حماسياً رائعاً من أهالي بورسعيد. كانوا يهللون ويمجدون أبطال البحرية المصرية الشجعان، فقد رأوا كل ما حدث رؤية العين، فلم يكن الظلام قد أقبل إلا بعد أن دخلت اللنشات رصيف القاعدة.
وانتقلت أنا وقائد القوات البحرية إلى مكتبه، حيث أخذ كل منا يهنئ الآخر. كما كنا نتقبل التهاني من كل قريب وبعيد عما أحرزته البحرية المصرية من انتصار عظيم فى دقائق محدودة.. غير أنه كان يدق في رأسي الهدف الثاني الذي أبلغنا به صباح اليوم. مدمرة إسرائيل الثانية، والتي بسببها استبقيت صواريخ اللنش الثاني بدون إطلاق. كنت أتوقع أن تهم المدمرة الثانية لمحاولة إنقاذ من تبقى على قيد الحياة من أفراد مدمرتهم الأولى.
وحوالي السابعة إلا عشر دقائق هرع إلى العقيد/ عادل هاشم وقال ظهر هدف على شاشة الرادار في نفس مكان غرق المدمرة إيلات أو بجواره قليلاً. فأصدرت الأمر على الفور بخروج اللنش الثاني بقيادة النقيب/ لطفي جاد الله. وبعد أقل من عشرين دقيقة، أسرعت إلى القائد في مكتبه وأخطرته بأننا أغرقنا مدمرة إسرائيل الثانية.
وفى صباح اليوم التالي، عقدت مؤتمراً صحفياً بناء على تعليمات من القائد العام للقوات المسلحة وفى مكتبه بالقاهرة، حضره جميع مراسلي الصحف المصرية فقط وعلى رأسهم الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام في هذا الوقت وسردت القصة كاملة. غير أن الذي ظهر في الصحف لم يكن على الصورة الكاملة التي ذكرتها الآن.
لكن الذي يحيرني ويشغل بالي، هو هل غرقت المدمرة الإسرائيلية الثانية "حيفا" ؟ أم أنها لم تكن في مسرح العمليات أصلاً ؟. وهل ما ظهر على شاشة الرادار بعد ضرب "إيلات" بأكثر من ساعة ونصف هو صدى المدمرة إيلات نفسها بعد أن انقلبت رأساً على عقب ؟ كما زعمت بعض الكتب التي تمثل وجهة النظر الإسرائيلية. فقد أنكرت جميع المصادر الإسرائيلية غرق المدمرة "حيفا" غير أنه لم تقدم إلى العالم دليل على ذلك. وليس ذلك من طبع الإسرائيليين، فقد كان بإمكانهم عقد مؤتمر صحفي على ظهرها كما فعلوا في مناسبات أخرى. ولكن الثابت أن تلك المدمرة لم تظهر بعد ذلك وحتى الآن في الموانئ الإسرائيلية أو غير الإسرائيلية".
وعن نفس المعركة تقول وثائق القوات المسلحة المصرية "ثم على الفور تحرك سرب لنشات الصواريخ من لنشين واتخذ خط سير الإطلاق، وفى تمام الخامسة وخمسة وعشرين دقيقة من مساء 21 أكتوبر 1967 أطلق اللنش الأول صواريخه على المدمرة وبعد لحظات كان الهدف مشتعلاً بالنيران.. وفى حوالي الساعة السابعة إلا عشر دقائق ظهر هدف على شاشة الرادار فصدرت التعليمات بتوجيه ضربة بالصواريخ لتدميره وإغراقه، وبعد دقائق أمكن إصابته بإصابة مباشرة، وانفجرت المدمرة بدوي هائل وانبعث منها وهج شديد أضاء الأفق ثم هوت المدمرة إلى قاع البحر بعد سبعة دقائق من إصابتها".
وعن واقعة تدمير وإغراق المدمرة الثانية "حيفا" يبدو أن القيادة المصرية سياسياً وعسكرياً كانت مازالت تعاني من عقدة ذنب البلاغات العسكرية والبيانات غير الحقيقية التي صدرت في يونيو67. فلم تعلن في الصحف إلا عن إغراق المدمرة "إيلات" لأن إسرائيل اعترفت بإغراقها. لكن واقعة تالية ترجح ما يقوله اللواء/ محمود فهمي، ففي يناير 68 تمكنت البحرية المصرية من إغراق الغواصة الإسرائيلية "داكار" أمام ميناء الإسكندرية. ولم تعلن إسرائيل غرقها ولم تعلن مصر أيضا عنها.. وفى عام 1980 بعد توقيع معاهدة السلام تقدمت إسرائيل بطلب إلى مصر بالسماح لها بالبحث عن جثث طاقم الغواصة من الضباط والجنود الإسرائيليين الغرقى في الغواصة.
وجاء رد الفعل الإسرائيلي على الهجوم البحري المصري بصورة تتوافق مع
العقيدة والفكر الإسرائيلي، الذي يعتمد في أهم جوانبه على إثارة الذعر والخوف
من القوة الإسرائيلية.. ففي مساء 21 أكتوبر وبعد ساعة من الهجوم البحري
المصري تمسحت إسرائيل في العوامل الإنسانية والناحية الأخلاقية وأرسلت إلى
مصر عن طريق مراقبي الأمم المتحدة طلب بعدم التعرض بالنيران لأعمال إنقاذ
ضحايا المدمرة إيلات. بل وزادت بأن طلبت من مصر المساعدة في إنقاذهم أن
أمكن !!. ومضت ثلاثة أيام وجاء الرد الإسرائيلي ضد أهداف مدنية.
وتناست الأخلاق والإنسانية فقامت بقصف معامل تكرير البترول في الزيتية
بالسويس. مما أدى إلى تدمير جزء من تلك المعامل واشتعلت النيران في
الصهاريج لمدة ثلاثة أيام.
كانت هذه هي المرة الثانية التي تهاجم فيها إسرائيل أهداف مدنية على قناة السويس، ردا على العمليات العسكرية التي تقوم بها قواتنا. وبعد المرة الثانية هذه استوعبت القيادة المصرية الرسالة جيداً. وأصبح إلحاق أي هزيمة أو خسائر عسكرية من جانبنا في الجيش الإسرائيلي، سيكون الرد بمهاجمة وقصف الأهداف والسكان المدنيين الموجودين في بورسعيد - الإسماعيلية - السويس.. فأصبحت هذه المدن بسكانها تمثل عبئاً وقيداً على عمل القوات المسلحة في جهة القناة. فلم يكن هناك من حل إلا تهجير سكان المدن الثلاث إلى داخل الوادي ومدن الدلتا. ورغم صعوبة القرار على المواطنين، ورغم تحول المدن الثلاث إلى مدن أشباح لا يوجد فيها إلا عشرات الأفراد. إلا أن الجميع ارتضى هذا الأمر ونفذ القرار بنجاح تام.. وبتمام تهجير السكان المدنيين أصبحت للقوات المسلحة المصرية حرية الحركة التي تجعلها تهاجم العدو الإسرائيلي دون خشية من رد فعله الدنيء. وكان قرار التهجير رسالة إلى إسرائيل من القيادة المصرية بأننا لن نستسلم ونجهز أنفسنا لحرب قادمة لا شك ومستعدون لدفع تكاليف هذه الحرب.
القرار 242 : أصدر مجلس الأمن في نوفمبر 1967 القرار 242 الخاص
بالنزاع العربي الإسرائيلي. وفورصدوره أثار القرار جدلاً شديدا. فقد قام
بصياغته البريطاني لورد كاردون فوضع في مقدمة القرار مبدأ هام وهو عدم جواز
احتلال أراضي الغير بالقوة. ثم جاء في بنود القرار أنه يتعين على إسرائيل أن
تنسحب من (أراضي) احتلتها أثناء حرب يونيو1967، ثم يتحدث عن سلام
بين دول المنطقة وحدود معترف بها.
وتلقفت إسرائيل هذه الثغرة وقالت في كل وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية إن القرار ينص على الانسحاب من (أراضي) وليس (الأراضي). وأصبحت (أل) هذه هي الحجة التي تستند عليها إسرائيل في إفشال أي جهود تبذل في سبيل تنفيذ هذا القرار.
كانت إسرائيل في هذا التوقيت هي الأقوى عسكرياً وسياسياً علاوة على الدعم الأمريكي لها. فهي منتصرة في حرب ضد ثلاثة دول وتحتل أراضي بآلاف الكيلو مترات وتريد أن تجني ثمرة الانتصار. فمن اللحظة الأولى بعد صدور القرار اتخذت إسرائيل موقفاً متعنتاً صلباً. أوضحت أن حل الأزمة لابد وأن يتم بالمفاوضات المباشرة مع العرب، وأنها لن تنسحب من أي أراضي تحتلها إلا بعد الوصول إلى حل تقبله إسرائيل. وبذلك تبين لمصر أن إسرائيل تتكلم من مركز القوة لذا فهي تريد فرض إرادتها على العرب.
وكان قبول مصر بهذا القرار نابعاً من موقفها العسكري الذي لم يكتمل بعد، وحتى يتاح الوقت للقيادة العسكرية لبناء واستكمال القدرة العسكرية للوحدات المصرية.. كما أن قبول مصر بهذا القرار كان يظهر المرونة السياسية لمصر وأنها تسعى إلى السلام. عكس الدعاية الصهيونية التي ركزت على أن العرب يريدون القضاء عليها بالحرب. كما أن تعيين السفير جونار يارنج ممثلا للأمم المتحدة في تنفيذ القرار كان يحرم إسرائيل من المفاوضات المباشرة بينها وبين العرب الذي هو أول خطوات الاعتراف بها.
وفى أعقاب صدور هذا القرار قام وزير الخارجية محمود رياض بشرح الموقف سياسياً وبشرح أبعاد القرار 242 أمام مجلس الوزراء. وعلق الرئيس عبد الناصر أمام المجلس "إننا سوف نتعاون مع يارنج برغم إيماننا من الآن بفشله في مهمته وسنستمع إلى أمريكا برغم أنها تريد الآن أن تجعلنا ندخل غرفة مظلمة اسمها التفاوض بشأن القرار 242. إننا سوف نتعاون مع الشيطان نفسه ولو لمجرد إثبات حسن النية..ولكننا نعرف من البداية أننا نحن الذين سنحرر أراضينا بقوة السلاح. وهي اللغة الوحيدة التي سوف تفهمها إسرائيل. فلتساند أمريكا إسرائيل في غزواتها، ولتحاول كلتاهما أن تصفي القضية الفلسطينية، ولكنهما تعرفان جيداً أننا لم ننهزم في الحرب، طالما أننا لم نتفاوض مع إسرائيل ، ولم نوقع صلحاً معها ، ولم نقبل تصفية القضية الفلسطينية".
وهكذا مضى عام 1967 واستطاعت مصر في خلال الشهور الست الأخيرة التالية للهزيمة أن تحقق نجاحاً مطرداً في نواحي عديدة. فالقيادة السياسية وضحت أمامها الرؤية الاستراتيجية والتي تبلورت في :
- الصمود العسكري بسرعة بهدف منع إسرائيل من استغلال نجاحها العسكري، وبانتهاء الصمود نتحول إلى مرحلة أخرى من الدفاع النشط.
- السير مع المقترحات السياسية والدبلوماسية لكسب الوقت طالما أنها تسعى إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية.
- أن استرداد الأرض لن يتم إلا بالقوة. والقوة تحتاج إلى سلاح متطور حديث، وإلى تنظيم وتدريب عالي ومتواصل ولهذا تتفرغ القوات المسلحة للدفاع عن تراب مصر.
- يتم تعبئة الجبهة الداخلية في شتى المجالات حتى تحمى ظهر القوات المسلحة وتقدم الدعم المادي والمساندة المعنوية في معركة تحرير الأرض.
وتم إعادة تنظيم الدولة بما فيها القوات المسلحة. والأهم هو أن أهل الكفاءة
وليس أهل الثقة أصبحوا هم المسئولون عن تنفيذ استراتيجية الدولة.. والقوات
المسلحة وقفت على قدميها بأسرع مما كان أحد يتوقع. وحققت انتصارات على
العدو براً وجواً وبحراً فعادت الثقة إليها، وعرفت وتأكدت مصر كلها أن جنودها
قادرين على مواجهة هذا العدو وأن النصر قادم ولا شك.. وبنهاية العام ولرفع
كفاءة القيادة والسيطرة في الجبهة، صدر الأمر بإنشاء الجيش الثاني في المنطقة
من بورسعيد إلى الإسماعيلية جنوباً والجيش الثالث من جنوب الإسماعيلية وحتى
السويس، على أن تصبح منطقة البحر الأحمر تحت قيادة عسكرية مستقلة. كما
تغيرت قيادة القوات الجوية وأصبح العميد طيار/ مصطفى الحناوى قائدا
للقوات، وكان يسبقه في كشف الأقدمية الكثير، فتم إحالة عديد من الضباط إلى
التقاعد نتيجة لهذا. وتولى العميد طيار/ حسنى مبارك قيادة الكلية الجوية.
حيث وقع عليه عبء تزويد الأسراب الجوية بالطيارين بأسرع وقت، حتى تتمكن
هذه الأسراب خاصة المقاتلات والمقاتلات القاذفة من رفع كفاءتها القتالية.
وقد صادف هذا الاختيار أهله، فقد كان العميد طيار/ حسنى مبارك مدرسا في
الكلية لفترة طويلة في خدمته. وكانت الكلية تعمل من ثلاث مطارات في العمق
حتى تتفرغ للتدريب بعيدا عن مجريات الحرب ( مرسى مطروح _ المنيا _
إمبابه) ، ورغم هذا الانتشار الجغرافي ، كانت المتابعة يوميه. وكان تحقيق
الهدف شاقا ومرهقا للجميع قائدا ومدرسين، لكن مدرسي الكلية كانوا قدر
المسئولية فبذلوا جهدا خارقا متصل، حتى بلغ معدل الطيار 4-5 طلعات تدريس
يوميا. فنجحت الكلية الجوية في مهمتها بصورة رائعة، انعكست على أعداد
الطيارين فى أسراب المقاتلات والمقاتلات القاذفة . لقد كانت الكلية الجوية قيادة
ومدرسين حقا هي الجندي المجهول الذي ساهم طوال فترة الحرب (1967
–1973 ) بجهد فائق من وراء ستار الحرب
خط بارليف : فوجئت إسرائيل بعد يونيو67 بأن جيشها أصبح يدافع عن الدولة
في ظل عاملين أساسيين هما :-
• الجيش الإسرائيلي يدافع وهو على بعد 200 كيلو متر من المناطق السكانية الإسرائيلية التي كانت تمثل لهم الفزع الأكبر أثناء الحروب.
• أن الجيش الإسرائيلي أصبح يدافع وهو يرتكز على الضفة الشرقية للممر المائي العالمي قناة السويس.
كان العامل الأول : يعني أن المدرعات الإسرائيلية يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في مواجهة أي قوات مصرية تستطيع العبور إلى الشرق. فالمساحات الشاسعة في صحراء سيناء، ومحاور الاقتراب إلى وسط سيناء المعروفة (الجنوبي - الأوسط - الشمالي)، إضافة إلى تفوق الجيش الإسرائيلي في حروب الحركة. يجعل إسرائيل لديها تفوق كبير في الحرب القادمة خاصة أن المسرح الذي ستجرى عليه المعارك مناسب تماماً لقتال المدرعات والتي يساندها الطيران. وهو ما تتفوق فيه إسرائيل عن مصر كثيراً.
وكان العامل الثاني : يمثل ورقة سياسية لا تستطيع إسرائيل إغفالها. فارتكاز القوات الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة يعني خلق حقيقة ملموسة واضحة لمصر وللعالم أن قناة السويس لن تعود الملاحة إليها إلا بموافقة إسرائيلية وبشرط استخدام إسرائيل لهذا الممر المائي الدولي.
كانت القوات الإسرائيلية على الضفة الشرقية للقناة، قد بدأت بعد يونيو67 بإنشاء حفر وخنادق يوضع حولها شكاير رمل بغرض الوقاية الفردية أثناء الاشتباكات، ثم تم إنشاء ملاجئ ميدانية لوقاية نقط الملاحظة التي انتشرت على المواجهة. ثم قامت بتعلية السواتر الترابية. لكن كل هذه الترتيبات لم تكن تمنع الخسائر البشرية التي تتكبدها نتيجة القصف المدفعي المصري من الضفة الغربية للقناة. فتم تعميق الخنادق وأقيمت تحصينات أخذت تتطور بغرض حماية الجنود الإسرائيليين المتمركزين على طول القناة.
ومنذ اللحظة التي اتضح فيها دون شك أن المصريين لن يتوقفوا عن القتال، أصبح لزاماً على القيادة العسكرية الإسرائيلية ورئيس الأركان حاييم بارليف اتخاذ قرار بشأن شكل الدفاع عن سيناء أمام القوات المسلحة المصرية. وعقدت اجتماعات عديدة في هيئة الأركان الإسرائيلية نتج عنها في نهاية الأمر القرار بإنشاء خط التحصينات على خط مياه قناة السويس، وقد اتخذ هذا القرار الذي يتعارض مع الفكر العسكري الإسرائيلي لأن إسرائيل على المستوى السياسي والعسكري كانت مطمئنة من ناحية. ومن ناحية أخرى كان هذا الخط يحقق لها :-
أولاً: التمسك بالأراضي التي احتلتها وتعتبر "توراتيا" أرض محررة.
ثانياً: فرض الأمر الواقع على الأراضي الجديدة وتغيير معالمها الديموجرافية مستقبلاً.
ثالثاً: إقناع المجتمع الدولي بأن العرب ومصر لن تقوم لها قائمة في المستقبل القريب.
رابعاً: تأثير نفسي عنيف على العرب، خاصة مصر وتذكيرها بالهزيمة صباحاً ومساءً.
كان هناك معارضين لقرار بارليف بإنشاء خط الدفاع على حافة القناة، أولهم كان الجنرال يسرائيل طال وأريل شارون. كان انتقادهما عنيفاً فكانا يقولان " بضرورة السيطرة على المجال الذي يتصل ببناء خط دفاعي متحرك. كان شارون وطال ومجموعة من الجنرالات يأخذون على خط بارليف نقاط الضعف الآتية :-
- أن مواقعه الحصينة كانت في متناول المدافع المصرية : علماً بأن المدفعية هي أقوى الأسلحة لدى المصريين.
- أن وجود خط بارليف نفسه يشكل بالنسبة للمصريين إغراء دائماً للعودة إلى فتح النيران وتوجيه عمليات الفدائيين ضده.
- لإسكات المدفعية المصرية ينبغي استخدام الطيران مما قد يؤدي إلى تصاعد القتال.
وكان للجنرال ماتيتياهوبيليد رأى يقول : إن المسئولين السياسيين في إسرائيل بدلاً من أن يضعوا أمن البلاد في قدرة الجيش على الحركة في التكتيك الدفاعي، فإنهم قد نقلوا إلى الحدود البعيدة على ضفاف قناة السويس ما كانوا قد رفضوه للحدود القريبة، على حدود إسرائيل نفسها. ألا وهي حرب الخنادق والتحصينات". وكان هذا أحد أخطاء إسرائيل التي لم تتعلم من انتصارها. وفي قول إسرائيلي أخر.
"كان خط بارليف يشغل مكاناً بارزاً في إطار نظرية الحدود الآمنة والردع. فقد كان بمثابة جوهرة التاج. وكان يمثل علاوة على ذلك رمز استقرار إسرائيل في مواجهة أعدائها. وهو رمز لا شك في أنه يكلف الكثير. إذ أنفقت إسرائيل من أجل بناؤه نحو 400 مليون دولار. وكانت القناة قد أصبحت من وجهة نظر المصريين منذ تأميمها عام 1956، رمز استقلالهم الوطني، بيد أن الإسرائيليين كانوا يسخرون بصورة سافرة من هذا الممر المائي الشهير ويطلقون عليه أسماء مثل (أفضل خندق مضاد للدبابات في العالم) ويصفونه بأنه (الفاصل الاستراتيجي الذي سيتحول إلى قناة من الدماء إذا حاول المصريون عبورها) وقد صرح الجنرال بارليف نفسه حين كان يشغل منصب رئيس الأركان : لا أعتقد أن المصريين يستطيعون مهاجمة أحد حصوننا والاستيلاء عليه، ولا أعتقد أنهم يستطيعون عبور القناة ومع هذا ففي وسعهم التسلل بين الحصون وزرع الألغام. فهم يستطيعون أن يفعلوا هذا فقط.
وهكذا فإن كل القادة الإسرائيليين وعلى رأسهم موشيه دايان وزير الدفاع وحاييم بارليف رئيس الأركان في ذلك الوقت، وضعوا ثقتهم الكاملة في خط بارليف، ووصفوه بأنه صـورة النجـاح الإسرائيلـي.. وكان راديو إسرائيل يذيع حتى حرب1973 أغنية شعبية تشيد بتحصينات خط بارليف. وكان الصحفيـون والممولـون الأغنياء في منظمة النداء اليهودي الموحد 000الخ يقومون بزيارات دورية لخط بارليف. كما أن المجموعة الحاكمة قد جعلت من خط بارليف أحد شعاراتها الرئيسية خلال الفترة الانتخابية، ووصفته بأنه نموذج لنجاح سياسة الردع التي تنتهجها الحكومة".
تم بناء خط بارليف على مراحل. في البداية تم إنشاء دشم قوية حول المحاور التي تبدأ من عند القناة إلى داخل سيناء في اتجاه المحاور الرئيسية الثلاثة. فأقيمت المواقع الرئيسية فى بورتوفيق أمام السويس، وهي المنطقة التي تؤدى إلى المحور الجنوبي(ممر متلا والجدي). وأمام الإسماعيلية وهي تؤدي إلى المحور الأوسط. وأمام القنطرة وهي المنطقة المؤدية إلى المحور الشمالي. طريق القنطرة ـ العريش.
لكن المواقع في المرحلة الأولى وحتى نهاية عام 1968 لم تكن تصمد لقوة نيران المدفعية المصرية. وكان وضع جنود إسرائيل بمثابة انتحار لهم. فلم يكن هناك مخرج من هذا المأزق إلا أن تدعم الدولة هذا الخط.. فتم دفع عشرات الجرارات والبلدوزرات وجاءت آلاف سيارات النقل المحملة بالأحجار لكي تفرغ حمولتها على شاطئ القناة. علاوة على استخدام قضبان سكة حديد خط القنطرة - العريش في زيادة تحصين هذه المواقع.
وانتهـى الأمر قبل حرب 1973 بأن أصبح الخط يتكون من 22 موقع دفاعي، تشمـل 36 نقطة حصينة تسيطر على المواجهة والأجناب والمنطقة الخلفية. كما أقيمت في الفواصل بين النقاط الحصينة مرابض للدبابات بفاصل 100 متر بين مربض وآخر. وقد اختيرت أماكن هذه النقط والمسافات بينها لتغطي كافة اتجاهات العبور المحتملة، وتتبادل المعاونة فيما بينها بالنيران أو مع الدبابات الموجودة في الفواصل التي بين النقط .
وتم تعلية الساتر الترابي حتى وصل ارتفاعه إلى 20 متر كما تم إزاحته غرباً حتى لامس حافة القناة. وزادت إسرائيل على هذا كله بأن وضعت مواسير نابالم فى النقط الحصينة تصب عند سطح القناة فتحيل القناة إلى شعلة من النيران. وتم إجراء تجارب أثناء فترة توقف إطلاق النار، وكان الغرض من التجارب هو بث الرعب في قواتنا وإحباط أي نية للهجوم المصري.
كانت كل نقطة حصينة أشبه بقلعة خرسانية. فمن شمال وجنوب النقطة 15 نطاق من الأسلاك الشائكة بينها حقول الغام ، وفى غرب النقطة المواجه لقواتنا 8 نطاق من الأسلاك الشائكة والألغام، والنقطة مزوده بأجهزة إنذار لكشف أي تسلل.. وبكل نقطه ملاجئ ودشم للأسلحة الصغيرة والرشاشات بأنواعها في جسم الساتر الترابي، عددها 24 ملجأ للأفراد والمعدات، 26 دشمة للرشاشات، 4 دشمة للأسلحة م/ط ،عدد من مصاطب الدبابات.. ومغطاة بشكائر الرمال وقضبان السكة الحديد وردم بِِسُمك 3 متر، ثم 7 صف بلاط خرساني..علاوة على شبكات حديدية وضع بداخلها الأحجار وتم رصها فوق سقف الدشم الخرسانية طبقات متعددة للحماية من القصف المدفعي المصري.. كان يشغل كل نقطة 30-35 فرد فقط. لكن تم تزويد كل نقطه بقوة كبيرة من النيران تمكنها من قتال قوات تتفوق عليها حتى تصل إليهم الاحتياطيات القريبة، والتي على بعد 500 متر من الخط الأول. ثم احتياطي أكبر من المدرعات على بعد 3-5 كم.. كان التخطيط أن كل نقطة حصينة يمكنها صد وقتال كتيبة كاملة (300 فرد) لمدة أسبوع.
ولم يغفل حاييم بارليف عن أماكن إعاشة الأفراد في النقط الحصينة، فكانت أماكن الإقامة قمة في الرفاهية والراحة. فمطبخ على مستوى عالي وآلة عرض سينمائي وهاتف مباشر للاتصال بالأهل في إسرائيل علاوة على ملاعب رياضية وأماكن للحفلات..
وبدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية في نسج أسطورة دعائية عن خط بارليف، بهدف إحباط المصريين وزرع اليأس في النفوس، حتى يصبح اقتناعهم كاملاً بأن عبور قناة السويس شيء مستحيل بسبب خط بارليف.. وكانت هذه أقوال القادة الإسرائيليين وسنرى فى أكتوبر ماذا قال هؤلاء القادة عن هذا الخط.
قال حاييم بارليف "لقد كلفنا خط بارليف خمسمائة مليون من الدولارات ووضعنا فيه خبرة ثلاثين خبيراً عسكرياً من إسرائيل وأمريكا وألمانيا، وضعناه ليكون حاجز أمن وخطاً دفاعياً دائماً ورادعاً لمصر".
وقال موشى دايان وزير الدفاع الإسرائيلي "يلزم مصر كي تحقق عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف، يلزمها سلاح المهندسين الأمريكي والروسي معا".
وقال دافيد اليعازر رئيس أركان حرب الجيش في حرب 1973 "لن يكون من المنطقي من جانب المصريين أن يبدءوا بفتح النيران لأن اندلاع الحرب سوف يعود بأخطار جسيمة عليهم".
وقال خبراء عسكريون أمريكيون وأوربيون في الصحف العالمية "خط بارليف غير قابل للتدمير حتى بالقنبلة الذرية".
هم يبنون بارليف ونحن نبني حائط الصواريخ
لم تكن إسرائيل فقط هي التي تقيم خط دفاعها الشهير، لكن على الجانب الآخر من القناة كانت مصر تعمل بجهد يفوق الخيال طوال الليل والنهار. وسنرى أن هذا ليس من قبيل البلاغة أو التهويل. القوات البرية (مشاة - مدفعية - مهندسين 000الخ) تدعم وتستكمل الخط الدفاعي على قناة السويس، إضافة إلى التدريب المستمر لرفع الكفاءة القتالية. والقوات الجوية وخاصة الكلية الجوية أصبحت في سباق مع الوقت لإمداد الأسراب الجوية بأكبر عدد ممكن من طياري القتال.
وفـى بدايـة عام 1968 بدأت أحد ملاحم القوات المسلحة المصرية، فقد صـدر القـرار الجمهوري بإنشـاء قوات الدفاع الجوي وتعين قائداً لها اللواء/ محمد على فهمي. كانت مهمة هذه القوات هو الدفاع عن وحماية مسرح عمليات الجبهة والأهداف الحيوية في عمق الدولة ضد أي هجوم جوي معادي.
أي أنها ستواجه القوات الجوية الإسرائيلية المزهوة بانتصارها الخاطف في يونيو67. كانت المهمة بالغة الصعوبة خاصة وأن وسائل الدفاع الجوي التي تملكها مصر في هذا الوقت (صواريخ - رشاشات) كانت ضعيفة الإمكانيات ومحدودة الكفاءة.
وبدأت الدراسة والإعداد والتجهيز لعمل منظومة متكاملة.. فبداية لابد من توافر حقل رادارى يغطي سماء مصر لكشف الطائرات المعادية وهي مازلت على مسافة بعيدة من الهدف، ثم يتم التعامل معها بطائرات المقاتلات الاعتراضية وهي على المدى البعيد، ثم بالصواريخ أرض/جو وهي مقتربة من الهدف، ثم بالمدفعية م/ط (المضادة للطائرات) إذا تمكنت من الوصول إلى الهدف. ولتنفيذ هذه المنظومة كان لابد من وجود رادارات الإنذار التي تغطي طرق اقتراب طائرات العدو، وبكفاءة تمكنها من تغطية الارتفاع المنخفض. وإنشاء مواقع لكتائب الصواريخ أرض/جو. وكذا عمل خطة تعاون محكمة مع القوات الجوية لتغطية سماء مصر ضد أي هجمات جوية.
على الواقع كانت الصورة قاتمة للغاية، فالأسلحة والأجهزة والمعدات المتوفرة لا تكفي لوضع أي خطة فعالة. وإمكانيات الصد للأسلحة أقل كثيراً مما يجب، وعدد أجهزة الرادار لا يحقق بناء أي حقل إنذاري.. وكان هذا من حيث الكم، أما من حيث النوعية فقد كان هناك نقاط ضعف عديدة. فالصواريخ سام 2 سلاح فعال به مزايا جيدة لكن عيبه الخطير كان الارتفاع المؤثر له في الاشتباك، فهو يستطيع الاشتباك وتدمير طائرة على ارتفاع 2كم أو أعلى بدرجة إصابة عالية. لكن تقل نسبة الإصابة بصورة كبيرة تحت هذا الارتفاع. وكان الطيران الإسرائيلي من دروس حرب 67 يعلم هذا العيب تماماً وقد استغله في بداية الأمر بصورة جيدة.
والمدفعية م/ط كانت أنواع قديمة، وبصفة عامة كانت غير قادرة على إسقاط أو إصابة الطائرات المعادية، وإنما أقصى ما تستطيعه هو تشتيت هذه الطائرات أثناء الهجوم. أما الرادارات فكانت من الأنواع القديمة، يسهل إعاقتها إلكترونياً والتشويش عليها، فكان هذا يعطي لطائرات العدو إمكانية تفادي الكشف الرادارى والوصول إلى أهدافها بأمان تام.
كان الموقف صعباً حقيقة، لكن إرادة التحدي والعزم والإصرار كانت كفيلة بقهر هذه المصاعب والتغلب عليها. وكان البناء يقوم على دعامتين أساسيتين :
- زيادة عدد الوحدات وكم الأسلحة والمعدات وبأنواع متطورة لمواجهة العدو الجوى.
- الاستفادة بأقصى ما يمكن مما لدينا. ومحاولة تطويرها سواء بإدخال تعديلات فنية على الأسلحة والمعدات، أو رفع مستوى الاستخدام وابتكار أساليب جديدة.
وتصدت القيادة السياسية المصرية لتنفيذ دورها في هذا المخطط. فبذلت كل جهودها للحصول على الأسلحة والمعدات من روسيا أساساً أو من دول أخرى مثل المجر ويوغسلافيا.. لكن كانت حصيلة هذا الجهد محدودة للغاية. مما آثار الرئيس عبد الناصر من القيادة السوفيتية لكن لم يكن أمامه سوى أن يكظم غيظه. ونقف هنا لحظة.
قبل شهور قليلة وافق الرئيس عبد الناصر على تقديم خدمات الصيانة والإعاشة للأسطول السوفيتي في الموانئ المصرية، مما سهل تواجد الأسطول السوفيتي في البحر الأبيض وهي خطوة هائلة للسوفيت على المستوى الاستراتيجي.. فقد أصبح الأسطول السوفيتي مشاركاً للأسطول السادس الأمريكي في البحر الأبيض.
كما وافق الرئيس عبد الناصر أيضاً على تواجد الخبراء السوفيت في وحدات القوات المسلحة المصرية، كدعم في أعمال التجهيز والتدريب والتخطيط.. وأصبح لكل مستوى قيادي بدءاً من الوزير وحتى مستوى قائد الكتيبة وقائد السرب خبير سوفيتي ملازم له. لكن مجريات العمل اليومي أثبتت أن كفاءة القائد المصري لا تقل عن الخبير السوفيتي، إن لم تتفوق عليها في كثير من المواقف.. وأصبح الاحتكاك مستمراً بين القائد المصري والخبير السوفيتي، وانتهى الوضع بعد تكرار المشاكل بتدخل وزير الدفاع، وأصبح الخبير السوفيتي في معظم مواقع القيادة خاصة الصغيرة مجرد ملاحظ للقائد المصري.
كان موقف الاتحاد السوفيتي المتخاذل صادماً للجميع، وتكرر هذا الموقف مرات عديدة لاحقاً، لكن لم يكن أمامنا إلا أن نضغط بكل الوسائل حتى نحصل على أي قدر من الأسلحة والمعدات التي تغطى مطالبنا.
نجحت الجهود التي بذلت في تطوير الصاروخ سام 2. وأصبح قادر على الاشتباك مع الطائرات على ارتفاع 200 متر بكفاءة عالية. وكان هذا مفاجأ للطيران الإسرائيلي القادم مطمئنا على ارتفاع منخفض، فإذا به يواجه صواريخنا المؤثرة. وكان هذا يعني حرمان طيران العدو من حرية الطيران على الارتفاعات المنخفضة كما أصبحت قدرته على المناورة عالية بحيث أصبح قادراً على ملاحقة أحدث الطائرات الإسرائيلية.
وعن خطة التعاون بين القوات الجوية والدفاع الجوي، كانت المشكلة هي عدم قدرة كتائب الصواريخ سام 2 على تمييز الطائرات الصديقة من الطائرات المعادية. مما يحد كثيراً من إمكانية التعاون بين المقاتلات الاعتراضية المصرية وبين كتائب الصواريخ أثناء صد الهجوم الجوي المعادي. كما كان هذا النقص يعرض طائراتنا للإصابة بنيران صواريخنا، وحدث هذا مراراً في يونيو67. لكن أمكن الحصول على أجهزة التمييز والتي تعرف باسم (أجهزة التعارف) وبهذا تم حل إشكالية كبيرة وأصبح التعاون بين المقاتلات المصرية وكتائب صواريخ سام 2 على درجة عالية من الكفاءة.
ولما كان حقل الرادار المصري به ثغرات رهيبة تسمح بدخول الطائرات الإسرائيلية دون أي إنذار، فكان لزاماً تغطية هذه الثغرات. خاصة وأن روسيا مازالت متباطئة في إمدادنا بالرادارات المطلوبة. فكان الابتكار المصري هو إنشاء وحدات المراقبة بالنظر.. كانت هذه الوحدات تتكون من 2-3 فرد تم تدريبهم على التمييز بين أنواع الطائرات بالنظر وخاصة الإسرائيلية. وتم توزيع هذه الوحدات على مناطق عديدة على ساحل البحر الأبيض وخليج السويس وفى الصحراء الشرقية، وهي طرق الاقتراب المنتظرة للطائرات الإسرائيلية. وبواسطة جهاز لاسلكي يتم الإبلاغ عن أي أهداف جوية تعبر فوق أو حول النقطة. وفى لحظات تصل المعلومة إلى مركز العمليات الرئيسي، فيتولى اعتراض تلك الأهداف إما بواسطة المقاتلات أو بالصواريخ.
وبهذا تم حل جزء من مشكلة النقص الكبير في أجهزة الرادار. لكن لابد وأن نذكر بالفضل والعرفان جنود وصف ضباط وحدات المراقبة بالنظر. فيكفي أن نتخيّل تحملهم وَجلَدِهم على المعيشة القاسية، إما في منطقة صحراوية نائية أو منطقة ساحلية مهجورة بعيداً عن أي عمران أو أي مظاهر للحياة. وكان لإبلاغهم عن الطائرات الإسرائيلية فضل كبير في نجاح عمليات الاعتراض والتصدي لهجمات العدو. وكان 1968 بداية الملحمة ولكي لا نسبق الأحداث، فسنعرف كيف استطاعت مصر بناء حائط للصواريخ على ضفة قناة السويس حين نصل إلى أعوام 1969-1970 حيث حرب الاستنزاف.
وانتصف عام 1968 وساد جبهة قناة السويس هدوء نسبي. فالقوات المسلحة المصرية منهمكة في التخطيط لأعمال القتال الذي يسير بخطى ثابتة تتمشى مع نمو قدرات الوحدات والتشكيلات. والقيادة السياسية تدعم القوات المسلحة فيجتمع الرئيس عبد الناصر مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لضمان العمل الجماعي ووحدة الفكر، والتوجه نحو تحقيق هدف مصر كلها بقهر العدو الإسرائيلي واستعادة سيناء المحتلة. كان نشاط العدو في سيناء وتحركاته ونواياه هي الشاغل الأول للقيادة العسكرية علي كل مستوى. وفى المقابل كان تدريب القوات اليومي مستمر، علاوة على التخطيط والتجهيز لأعمال الدفاع أو الاشتباك مع العدو. كانت فترة الهدوء هذه فرصة عظيمة للقيادة المصرية وللوحدات المقاتلة. فكان التخطيط والإعداد والتجهيز يتم بعيداً عن ضغط العدو. كما قطعت الوحدات المقاتلة شوطاً كبيراً في رفع الكفاءة القتالية لها. وتم استكمال نسبة كبيرة من الأسلحة والمعدات التي أعطت صلابة وقـوة لجبهـة قناة السويس. لكن النسبة كانت أقـل بصورة واضحة في القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي.
وخلال فترة الهدوء الذي ساد النصف الأول من عام 1968، وقعت معركة كبيرة في 21 مارس.. حاولت إسرائيل التوغل في الأراضي الأردنية بغية احتلال مناطق معينة (مرتفعات البلقاء) حتى تصبح وسيلة ضغط للتخلص من الفدائيين الفلسطينيين. بدأت المعركة في الفجر بحشد15 ألف جندي إسرائيلي من المدرعات والمشاة المحمولة بالمجنزرات والمظليين إضافة إلى الدعم الجوي.. إلا أن تصدى الجيش الأردني متلاحماً مع قوات المقاومة الفلسطينية أوقعا بإسرائيل هزيمة نكراء.. حاولت أن تخفيها لكنها لم تفلح. فحين ارتفعت خسائر القوات الإسرائيلية قامت بالانسحاب في الساعة الخامسة مساء دون أن تحقق هدفها. وبلغت خسائرها 700 فرد بين قتيل وجريح وأكثر من 150 دبابة ومركبة . مقابل خسائر أردنية قدرها 170 فرد بين قتيل وجريح وحوالي 60 مركبة.
وفى منتصف عام 1968 كانت الظروف قد أصبحت مهيأة أمام مصر لبدء استنزاف العدو ووضعه تحت ضغط نيراني من قواتنا، والانتقال من مرحلة رد الفعل إلى الفعل على أن يكون هذا بهدف.
أولاً: إيقاع أكبر خسائر بجنود العدو ومعداته والحصول على أسرى ووثائق ومعلومات.
ثانياً: تطعيم الوحدات المصرية للمعركة المقبلة من الخبرات المكتسبة من القتال الحقيقي.
ثالثاً: اختبار كفاءة الأسلحة وكذا أساليب القتال واختيار الأنسب منها وتطويره للخروج بعقيدة قتال وخبرات قتالية مصرية خالصة.
رابعاً: فرض حالة من الاستنزاف الاقتصادي على إسرائيل من خلال إجبارها على الاحتفاظ بنسبة عالية من قواتها في حالة تعبئة مستمرة.
واستقر الرأي في يوليو 1968 على أن يبدأ الاشتباك مع العدو بطاقة متدرجة. وعلى المسرح البري في المرحلة الأولى ، حيث التفوق المصري في القوات خاصة في مجال المدفعية، التي ستشكل عنصراً حاسماً في استنزاف العدو. وبدأ بحث وترتيب أولويات الأهداف التي يشكل تدميرها للعدو خسائر كبيرة. وعكفت القيادات المنفذة في سرية تامة على الدراسة واختيار العناصر القائمة بالتنفيذ وتدريبها في مناطق منعزلة. وتم رفع الأمر للقيادة العامة لتحديد توقيت الهجوم. وبنهاية أغسطس 1968 كانت الرؤية واضحة تماماً أمام القيادة العامة للقوات المسلحة لتنشيط الجبهة طبقاً لخطة مدروسة وليست رد فعل.
كان يوم 8 سبتمبر نقطة تحول رئيسية في تنشيط الجبهة. فقد أرادت مصر أن تعلن عن نفسها بقوة، وتصيب إسرائيل بخسائر كبيرة في قواتها المتمركزة على القناة. فصدرت الأوامر بتنفيذ قصفه مدفعية وتحت سترها يتم دفع دوريات قتال على طول الجبهة. شملت القصفة الأهداف شرق القناة وحتى عمق 20 كيلو متر شرقاً. اشترك في القصفة 38 كتيبة مدفعية من مختلف الأعيرة لمدة ثلاث ساعات متواصلة. وإلى جانب المدفعية قامت جميع الأسلحة المضادة للدبابات بإطلاق نيرانها من الضفة الغربية على الأهداف المرئية على الضفة الأخرى. وقامت الدوريات برص الألغام على الطرق الرئيسية والفرعية.
وحققت القصفة أهدافها فتم تدمير 19 دبابة وثمانية مواقع صواريخ وعشرات الدشم ومناطق الشئون الإدارية والعربات. ويومها أذاعت إسرائيل بيان عسكري يقول بأن خسائرها من هذه القصفة فرد واحد جريح، وبعد سنوات ظهر في الكتب الإسرائيلية أن الخسائر في هذا اليوم كانت 28 فرد بين قتيل وجريح. ولم تجد إسرائيل رداً على هذا القصف إلا اللجوء إلى أسلوبها الدنيء فقامت بتوجيه نيرانها إلى مدن القناة والتي كان بعض سكانها مازالوا متمسكين بالبقاء فيها، فأوقعت خسائر فيهم.
وفى أكتوبر 1968 تلاحقت الخسائر على العدو الإسرائيلي، فقد نشطت الطائرات الإسرائيلية لاستطلاع الجبهة. فاتخذ اللواء طيار/ مصطفى الحناوى قائد القوات الجوية القرار بمواجهة هذا النشاط حتى يتوقف العدو عن استباحة الجبهة واستطلاع قواتنا. وفى 23/10/1968 خطط العقيد طيار/ ممدوح طليبة قائد اللواء لمعركة جوية محدودة مع العدو الإسرائيلي بطريقة الصيد الحر. كانت الطائرات الإسرائيلية تخترق الجبهة من فوق مدينة الإسماعيلية على ارتفاع 2-3كم ثم تتوجه إلى الأهداف المطلوب استطلاعها وهي مطمئنة إلى أنه لن يتم اعتراضها بالطائرات أو بالصواريخ أرض/جو.
كانت الخطة المصرية المقابلة هي أن يتم دفع تشكيل من طائرتان ميج21 على ارتفاع منخفض غير مكتشف رادارياً، وخلفهم بمسافة 5-6 كيلو متر تشكيل آخر من أربع طائرات ميج21. ولعجز إمكانات الرادار المصري تم تنفيذ الطلعة بالحسابات الملاحية (وهي طريقة بدائية). وتم ارتفاع ودفع التشكيل الأول (2 طائرة) ليكون طعم فاتجت إليه طائرات العدو، وبعدها تم دفع التشكيل الثاني (4 طائرة) خلف الطائرات الإسرائيلية ومهاجمتها. وتم التنفيذ بدقة متناهية وأسقطت طائراتنا أربع طائرات ميراج إسرائيلية. كان المشتركون في هذه المعركة :
- ملازم طيار/ مدحت زكي (أسقط طائرة)
- رائد طيار/ على ماسخ (أسقط طائرة)
- ملازم طيار/ عبد الحميد طلعت
- رائد طيار/ فوزي سلامة (أسقط طائرة)
- ملازم طيار/ رضا العراقي
- نقيب طيار/ أحمد أنور (أسقط طائرة)
كان لهذا الاشتباك فرحة خاصة ومردود هائل على طياري القوات الجوية، فقد أزاح جزء كبير من عدم الثقة في أنفسهم، حتى أن الرئيس عبد الناصر وهو يستقبل أفراد التشكيل في منزله للتهنئة بالنصر قال لهم "أظن دى أول مرة طيار مصري يضرب طيار يهودي". فانبرى له قائد اللواء شارحاً له بأنه كانت هناك سوابق عديدة في يونيو67 لكن الهزيمة لم تسمح بظهورها، فهز الرئيس عبد الناصر رأسه بين مصدق ومندهش وغير متأكد.
وفى 26 أكتوبر 1968 تكررت قصفة المدفعية المركزة حيث اشتركت 32 كتيبة مدفعية في قصف العدو لمدة سبعون دقيقة، استهدفت بالدرجة الأولى مواقع الصواريخ. إضافة إلى دوريات عبرت تحت ستر نيران المدفعية، قامت باصطياد بعض الدبابات والمركبات التي كانت تحاول الهرب أثناء القصف. واعترف العدو بعد سنوات أيضاً أن خسائره في هذا اليوم كانت 49 فرد (قتيل وجريح).
وكان على إسرائيل أن ترد على قواتنا بعد أن تلاحقت عليها الخسائر في جبهة القناة، بعد أن وضح التفوق المصري على القناة الذي يزداد يوماً بعد يوم. فلجأت إلى أسلوب مختلف تماماً في الرد. فدفعت ليلة 31 أكتوبر/1 نوفمبر 1968 (2 طائرة) هليكوبتر محملة بقوة من المظليين الذين يتكلمون العربية إلى منطقة نجع حمادى في صعيد مصر. مخترقة الحدود المصرية من المنطقة جنوب الغردقة. حيث لا توجد دفاعات أرضية أو أجهزة إنذار رادارية أو دفاع جوي سواء في منطقة البحر الأحمر أو في منطقة الصعيد. وقامت مجموعة من المظليين بعد الهبوط بتدمير 6 محولات للكهرباء، فانقطع التيار الكهربائي عن المحطة التي تمد الوادي شمالاً والقاهرة بنسبة من كهرباء السد العالي. وقامت مجموعة أخرى بتدمير جزء بسيط من قناطر نجع حمادى وكوبري قنا.
كان اختيار إسرائيل منطقة نجع حمادى للهجوم عليها عودة إلى أعمال الردع العسكري الذي تكرر من إسرائيل مراراً. فقد اختارت هدفاً ذو ثقل معنوي وتأثير سياسي وفى منطقة منعزلة حتى يتم مهاجمته بأقل حجم من القوات وبأقل خسائر في حالة الاشتباك. وكان لهذه العملية هدفان : أولاً: إجبار القيادة العسكرية المصرية على نشر قواتها حتى الغردقة فتصل المواجهة إلى 1000 كيلو متر مما يقلل ويخفف من التفوق المصري على جبهة قناة السويس. ثانياً: إحراج القيادة السياسية المصرية وإثارة القلق والبلبلة بين أفراد الشعب المصري بعد أن اخترقت إسرائيل عمق مصر ودمرت أهداف حيوية دون أي اعتراض أو مقاومة،خاصة وأنها لم تكتشف .
لكن تنفيذ العملية لم يؤت ثماره، فعلى المستوى السياسي كان التأثير ضعيفاً لأن الشعب المصري بفطرته أدرك أن للحرب تكاليف، وأن العدو سيوقع بنا خسائر كما نوقع نحن به. خاصة وأن الأجهزة المسئولة استطاعت إصلاح المحولات بأسرع ما يمكن واستأنفت دفع التيار الكهربائي. أما على الجانب العسكري فكان درساً مفيداً للقيادة العامة، فقد أعيد النظر في الخطط العسكرية وتهدئة الأوضاع على الجبهة، إلا من اشتباكات بالأسلحة الصغيرة والقناصة ودوريات الاستطلاع.. وصدرت الأوامر والتكليفات لاستكمال شبكة الإنذار الجوي جنوباً (المراقبة بالنظر) حتى وصلت إلى آخر موقع على الحدود الشرقية مع السودان. وإنشاء نسق ثان للمراقبة بالنظر بطول الحافة الشرقية لوادي النيل. كما تم إنشاء قوات الدفاع الشعبي، ووزعت عليها الأسلحة والذخيرة وأجهزة المواصلات. وتم تكليف سرب مقاتلات ميج21 بقيادة النقيب طيار/ سمير عبد الله بمهام القتال الليلي.
وكان ختام عام 1968 مثيراً للغاية حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعلان موافقتها على تزويد إسرائيل ولأول مرة بخمسين طائرة من طراز فانتوم ف-4. لتثبت مساندتها الكاملة لإسرائيل. وكانت الطائرة الفانتوم فى هذا الوقت من أحدث طائرات الترسانة الأمريكية .
المجموعة 39 قتال : بزغت فكرة هذه المجموعة بعد أن قام المقدم/ إبراهيم الرفاعى بتفجير مخازن ذخيرة العدو في 4 يوليو 1967. فقد كلفه اللواء/ محمد صادق مدير المخابرات الحربية بتشكيل مجموعة للعمل خلف خطوط العدو، وتعمل تحت قيادته شخصياً. وتكونت المجموعة في أول الأمر من عدد محدود من الضباط والصف والجنود وكانت تعمل تحت اسم منظمة سيناء العربية، ثم تم دعمها بعد أن أثبتت نجاحاً ملموساً في عملياتها ضد العدو، ثم أطلق عليها اسم المجموعة 39 قتال في بداية عام 1969. كان المقدم إبراهيم الرفاعى ضابطاً يتحلى بقدر كبير من الوطنية والإخلاص والشجاعة، وانعكس هذا كله على كل من كان معه في المجموعة فتميزت بروح قتالية وكفاءة عالية. فتحقق الهدف من إنشائها وأوقعت في العدو خسائر ملموسة، كما كانت مصدر هام للاستطلاع والحصول على معلومات عن العدو في سيناء.
قامت المجموعة حتى بداية 1969 بتنفيذ 10 عمليات استطلاع للعدو، في المناطق من بورسعيد إلى السويس وحتى شرق ممر متلا. لكن أصعب هذه العمليات كانت عملية استطلاع مطار رأس نصراني في جنوب سيناء وقام بتنفيذ العملية الرائد/ أحمد رجائي عطية بمرافقة كل من سليمان عبد الله وسالم جبلي من أبناء سيناء. وقد استغرقت المهمة خمسة أيام قطعوا خلالها مئات الكيلومترات دون أن يكتشفهم العدو.
وقامت بعمل كمين للعدو في منطقة جبل مريم جنوب الإسماعيلية، بقوة ضمت ثمانية ضباط بقيادة الرفاعى ومساعده الرائد/ عصام الدالي + 23 صف وجندي. وأسفر الكمين الذي تنفذ من العاشرة مساء وحتى السابعة صباحاً عن تدمير عربة وقتل 2 جندي وأسر ثالث بدرجة عريف يدعى ياكوف رونيه.
وسنجد أن هذه المجموعة في استعراضنا للأحداث وحتى حرب 1973، قد قامت بأعمال بطولية من استطلاع خلف خطوط العدو إلى كمائن إلى غارات على مواقع للعدو. وفى أماكن لم يتوقعها العدو في سيناء على الساحل الشرقي لخليج السويس . وقد حققت نسبة نجاح كبيرة في معظم عملياتها. وإن تقلص دورها بعد إقالة الفريق/ محمد صادق فلم تكلف بمهام تناسب إمكانياتها إلا في مقاومة قوات العدو في ثغرة الدفرسوار قبل انتهاء حرب أكتوبر بأيام قليلة.
الفصل الثالث حرب الاستنزاف 500 يوم قتال
استمرت حرب الاستنزاف من 8 مارس 1969 وحتى 8 أغسطس 1970. دار خلالها العديد من المواقف والأحداث وحفلت بالبطولة والتضحيات.. دماء وشهداء.. جهد يفوق الخيال.. قتال يومي.. ضرب للعدو وتلقى ضربات.. ينبت لمصر مخالب وأنياب تنهش بهما لحم العدو الإسرائيلي.. ورغم هذا تسقط هذه الحرب في كهف النسيان ولا يُذكر عنها إلا القليل حتى تكاد تسقط من ذاكرة الوطن.. علماً بأن هذه هي المرة الأولى التي تنتصر فيها مصر على إسرائيل.
نصر ولا ريب : اطمأنت القيادة العسكرية المصرية لموقف قواتـها في الجبهة، بعد ما دار في الفترة السابقة من أعمال قتال ودروس مستفادة.. فكان لابد وأن تستأنف قتال العدو بصورة أكبر. فصدرت الأوامر بتوجيه قصفة مدفعية مركزة على طول الجبهة يوم 8 مارس 1969 بحشد نيراني بلغ 24 كتيبة مدفعية، علاوة على أسلحة الضرب المباشر. واستمرت القصفة خمسة ساعات متواصلة وأحدثت خسائر شديدة في دشم بارليف وبطاريات المدفعية الإسرائيلية ومناطق الشئون الإدارية.
ولأن مصر كما قلنا ُولدت من جديد في 11 يونيو 67، فقد ذهب الفريق/ عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة ومعه اللواء/عدلي سعيد قائد الجيش الثاني واللواء/ عبد التواب هديب مدير المدفعية لتفقد وحدات المدفعية في صباح اليوم التالي. وتفقدوا قطاع القنطرة واطمأنوا على الروح المعنوية، ثم طلب الفريق رياض تفقد موقع النقطة نمرة 6 شرق الإسماعيلية حيث كانت تتميز بتحصين إسرائيلي كبير. وبعد إتمام المشاهدة ولحظة خروجه من الموقع انطلقت مدفعية العدو وسقطت دانه بالقرب منهم وأصيب القادة الثلاثة، لكن الفريق/ رياض استشهد بعد لحظات. وكان لاستشهاد الفريق رياض وقع شديد على مصر كلها تجلى في جنازته التي احتشد فيها الآلاف من المدنيين يودعون ابن من أبناء مصر المخلصين.
كانت جنازة الفريق/ رياض إعلان ثان بعد 10،9 يونيو67 من الشعب المصري بأننا سنقاتل. وأن مصر لن تركع أو تستسلم مهما كانت التضحيات. فرغم إن الفريق رياض لم يكن ذو شهرة على المستوى الشعبي بحكم منصبه الذي يجعل وقته وجهده داخل القوات المسلحة. لكن ما أن استشهد حتى أصبح حديث كل بيت وكل تجمع وترددت بطولته حتى على لسان رجل الشارع البسيط.
اشتعلت الجبهة حماساً لاستشهاد الفريق رياض، فنشطت الدوريات بمختلف
أنواعها علي طول الجبهة بمهاجمة واقتناص للمعدات والأفراد من الضفة
الغربية.. وسنعرض لبعض عمليات قوات الجبهة التي تمت بعد استشهاد
الفريق رياض وأهمها :
في 15/3/1969 دفع قائد الكتيبة 33 صاعقة الرائد/ مدحت عثمان دورية
استطلاع من ضابط ومعه 3 فرد لاستطلاع النقطة القوية جنوب البحيرات
المعروفة باسم التبة المسحورة. ونجحت الدورية في الحصول على المعلومات
التفصيلية عن النقطة بل تمكنت من الحصول على بعض الذخائر. وتم التدريب
على موقع مماثل هيكلي لمدة 20 يوماً بهدف إيقاع أكبر خسائر في العدو
والحصول على أسير. وفى 16/4/1969 تم دفع الدورية بقيادة الملازم أول/
محمد مصطفي ومعه قائد مجموعات الاقتحام. الملازم أول/ عبده عرفه و43
فرد صف وجندي. وقبل العبور قامت الدورية بأداء ركعتين لله وبعد انتهاء
الصلاة رفع العريف/ فتحي يونس يديه داعيا بصوت خفيض اللهم ارزقنا
الشهادة، وكان بجواره ملازم أول/ عبده عرفه الذي قال له
- مستعجل ليه يا فتحي
فرد عليه عريف فتحي يونس : حد يطول يا فندم
- ربنا يكرمنا وننفذ المهمة
وعبرت الدورية القناة في العاشرة مساء في صمت تام، مسلحة بالبنادق الآلية
والقنابل وقواذف أر.بي.جى. وألغام مضادة للدبابات ومعدات لفتح الثغرات.
كان التخطيط محكما، عبرت الدورية على يسار النقطة بمسافة 600 متر وقامت
بالالتفاف ونفذت الهجوم من ناحية الشرق خلف النقطة.. وحدث اشتباك مع
أفراد النقطة الذين لم يتوقعوا أن الهجوم من الشرق وسقط من العدو الإسرائيلي
حوالي 10 قتلى. وتم القبض على أحدهم حيا تم سحبه والعبور به بواسطة ملازم
أول/ عبده عرفه وتولى محمد مصطفي تأمين عودة الدورية. وعادت الدورية
كلها بسلام ومعها الأسير ادمون مراد اهارون. لكن استشهد عريف فتحي يونس
بعد وصوله للضفة الغربية بعد أن أصيب أثناء الهجوم.
تعين اللواء/ أحمد إسماعيل رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة خلفاً للفريق
رياض. وكان اللواء/ محمد صادق مدير المخابرات الحربية شديد الاقتناع
بأن إسرائيل لا تعرف إلا لغة القوة، فكانت خطته تقوم على أن تتبارى وتتسابق
وحدات الجيش الثاني والثالث في إيقاع أكبر خسائر للعدو. كما أعطى تعليماته
لقائد المجموعة 39 قتال الذي كان هو الأب الروحي لها بأن تخطط لعمل ثأري
كبير رداً على استشهاد الفريق رياض. وعلى الفور تمت مراقبة واستطلاع
موقع (نمرة 6) الذي أصاب الفريق رياض ورُسمت خريطة تفصيلية كاملة
للموقع وتم وضع خطة الاقتراب والهجوم . وتم التدريب على موقع هيكلي حتى
أصبح كل فرد فى المجموعة يعرف مهمته وكيفية تنفيذها تماماً. وتحدد تاريخ
تنفيذ العملية 19/4/1969 وسميت العملية "رياض".
"كان الموقع الإسرائيلي يتكون من 4 دشم مقامة على اللسان الموجود ببحيرة
التمساح، كما يوجد موقعان حصينان على ربوتين تبعدان عن الدشم بحوالي كيلو
متر لحماية الموقع الموجود باللسان. ولم يكن في حسبان القادة الإسرائيليين
إمكان مهاجمة هذا الموقع لاعتبارات كثيرة من أهمها : أن الموقع على حافة
البحيرة مباشرة وتحميه مسافة طويلة من المانع المائي (عرض بحيرة التمساح
13 كم). كما أن تحصين الموقع وقوة النيران الموجودة به، وأسلوب
الحماية ووجود موقعين حوله يشكلان مع الموقع نمرة 6 مثلثاً، يوفر له قوة دفاعية
كبيرة.
وأسهمت الخطة والتنسيق بين قيادة المجموعة 39 قتال وقيادة الجيش الثاني ومدفعية الجيش، في توفير كل العناصر التي جعلت من الهجوم مفاجأة كاملة. بدأ قصف المدفعية قبل التحرك بحوالي 20 دقيقة، واستمر طوال فترة عبور القوارب الحاملة للأفراد لبحيرة التمساح وقد استغرق 14 دقيقة. ووصلت قوة الهجوم إلى الشاطئ الشرقي حوالي الثامنة مساء. وفور الوصول إلى الشاطئ بجوار الموقع بدأت المجموعات في اتخاذ تشكيل قتال يتكون من :
المجموعة الأولى : المقدم/ الرفاعي + 6 من أفراد الصاعقة البحرية للقيادة والسيطرة.
المجموعة الثانية: رائد/ أحمد رجائي عطية + 12 فرد للهجوم على الدشمة رقم 1.
المجموعة الثالثة : نقيب/ محيي نوح + 12 فرد للهجوم على الدشمة رقم 2.
المجموعة الرابعة : ملازم أول/ وئام سالم + 11 فرد للهجوم على الدشمة رقم 3.
المجموعة الخامسة : ملازم أول/ محسن طه + 11 فرد للهجوم على الدشمة رقم 4 .
إضافة إلى مجموعة بقيادة رائد طبيب/ محمد عالي نصر ومعه نقيب بحري/
إسلام توفيق وملازم أول/ مجدي وسام حافظ و3 أفراد من الصاعقة البحرية.
بقيت على الشاطئ بهدف تأمين منطقة النزول.. وعلى الشاطئ الغربي للقناة
كان العميد/ مصطفي كمال ومعه ضابط مخابرات يجيد العبرية ومعهما جهاز
تنصت لاسلكي لالتقاط اتصالات الموقع الإسرائيلي وتوفير المعلومات للقوات
المهاجمة أول بأول".
دخلت المجموعات إلى الموقع واتجه كل فرد إلى المكان المخطط له في الهجوم، فقام بعضهم بإلقاء مولدات دخان وقنابل يدوية من فتحات التهوية فى الدشم، والبعض الآخر كان بجوار أبواب الخروج لاستقبال كل من يحاول الخروج، والبعض هاجم العربة النصف جنزير وسيارة نقل ونسف 2 مخزن ذخيرة.. واستمرت القوة داخل الموقع ساعتان تم خلالها قتل وتدمير كل ما بالموقع من أفراد ومعدات.
وعـادت القوة سالمة إلا من ثلاثة جرحى (النقيب محيي نوح و2 فرد) تم نقلهم إلى المستشفي وقام بزيارتهم الرئيس عبد الناصر وبصحبته اللواء/ صادق وتحاور معهم الرئيس واستفسر منهم عن كافة تفاصيل العملية.
وفى الخامسة والنصف مساء اليوم التالي، نقلت وكالات الأنباء من تل أبيب بياناً عسكرياً إسرائيلياً، يقول أن وحدة من 15 جندي كوماندز مصري عبرت القناة مساء السبت لمهاجمة موقع إسرائيلي شمال بحيرة التمساح أمام الإسماعيلية. وبعد معركة قصيرة أصيب فيها جندي إسرائيلي ودمرت سيارة مدرعة، تمكنت القوات الإسرائيلية من رد القوة المصرية المهاجمة. وهو بيان أقل ما يوصف به أنه بيان هزيل أو مضلل فتدمير الموقع بالكامل تحول إلى جرح جندي وتدمير عربة !!
وجاء الرد الإسرائيلي دنيئاً كالعادة موجهاً إلى أهداف مدنية.. ففي ليلة 29 أبريل 1969 أغارت إسرائيل بقوات محمولة جواً على محطة محولات نجع حمادي للمرة الثانية، وأسقطت عبوات ناسفة زمنية قرب مدينة ادفو أصابت بعض المدنيين.. وانطلقت وسائل الإعلام والدعاية الإسرائيلية تصف وتمجد في العملية وأشبعتها وصفاً وتحليلاً. لكن قواتنا ردت عليها في اليوم التالي مباشرة بهجوم على النقطة جنوب البلاح وتم نسفها تماماً.
وكان لابد من إبلاغ إسرائيل رسالة بأننا نستطيع أن نطولها في العمق أيضاً وضد أهداف مدنية.. فتوجه إلى الأردن مقدم/ إبراهيم الرفاعى والرائد/ عصام الدالي ولحقت بهم طائرة محملة بالصواريخ والقواذف. وبالتعاون مع منظمة فتح تم استطلاع عدة أهداف في إيلات والنقب والعقبة. واستقر رأى القيادة في مصر على قصف مصنعي الفوسفات في منطقة سدوم. "وقبل منتصف ليلة 19/20 مايو قصفت الدورية المصنعين في وقت واحد مستخدمه 32 صاروخاً من عيار 130مم وأدى القصف إلى انفجار محطة الكهرباء التي تغذي المنطقة واشتعال الحرائق فيها وفى منطقة المصانع". وغادرت الدورية الموقع بسلام. ووصلت الرسالة إلى إسرائيل فتوقفت لفترة عن مهاجمة العمق المصري.
وتوالت العمليات الهجومية المصرية، وأيقنت إسرائيل أنها لابد وأن ترد بعمل هجومي عسكري بعد توالي النجاح المصري واهتزاز ثقة الجنود الإسرائيليين. فقامت بالهجوم بقوة كتيبة مدعمة على موقع الجزيرة الخضراء، وكانت قوته سرية مشاة. وكاد العدو أن يحقق النجاح المطلوب، لكن المدفعية المصرية في غرب القناة طلبت من قائد السرية المصرية الاحتماء بالخنادق هو وجنوده، وقامت بقصف شديد على الجزيرة كله. وكانت مفاجأة لأفراد العدو الذي أصيب بخسائر عالية فانسحب على الفور تاركاً معداته ولنشاته المدمرة. وكان لقصف مدفعية الجيش الثالث المركز الفضل الأكبر في فشل الهجوم الإسرائيلي.
واستمرت وتيرة الهجوم المصري المتصاعد، فتم مهاجمة نقطة البلاح ونقطة الشط بنجاح كبير... لكن في 8/7/1969 قامت المجموعة 39 قتال بمهاجمة النقطة نمرة 6 شمال التمساح، للمرة الثانية. فوجئت القوة المهاجمة بأن الهجوم كان معروف للعدو مسبقا،ً وأن أفراد النقطة كانوا في انتظارهم . فما أن أصبحت القوة بقيادة المقدم/ الرفاعى على أبواب الموقع، حتى بدأت إضاءة المنطقة بطلقات كاشفة إسرائيلية تبعها نيران كثيفة من عدة اتجاهات، فلم يكن هناك مفـر من الانسحاب بعـد استشهاد 9 أفراد. ولأن التحضير للعملية تم في سرية تامة، فقد تسرب الشك بأن هناك من أبلغ إسرائيل عن العملية. وتتبعت أجهزة المخابرات المصرية الخيوط، فتكشف لها بعد أكثر من عام أن إسرائيل قد نجحت في تجنيد جاسوس مصري باع وطنه وزملاءه فتم إعدامه هو وشريكته.
وفى 10 يوليو 1969 وجهت القوات المصرية ضربة قاصمة إلى القوات الإسرائيلية. فقد تحدد هذا اليوم لمهاجمة 2 نقطة حصينة إحداها في الجيش الثاني شمال الإسماعيلية, والثانية في قطاع الجيش الثالث ومعروفة باسم نقطة لسان بورتوفيق. وتمت العمليتان بنجاح وتكبد العدو خسائر فادحة في هذا اليوم. وسنلقى الضوء على عملية لسان بورتوفيق لأن نتيجتها كان لها أثر كبير في مجريات حرب الاستنزاف.
كلف اللواء/عبد القادر حسن قائد الجيش الثالث قوات الصاعقة بالجيش بالإغارة على نقطة العدو في لسان بور توفيق. تم استطلاع النقطة قبل شهر من التنفيذ، وتبين أن قوة العدو الموجودة فيها تتكون من سرية مشاة مدعمة بفصيلة رشاشات + 4 دبابة باتون. وعند التحضير للمهمة تنافست كل من الكتيبة 33 و 43 فيمن سيقع عليه الاختيار لتنفيذ العملية. وفى النهاية وقع الاختيار على الكتيبة 43. وتم إنشاء موقع هيكلي للتدريب عليه. واستمر التدريب لمدة شهر بمعدل 4 مرات يومياً، واطمأن قائد المجموعة المقدم/ صالح فضل إلى أن الأفراد قد أصبحوا على دراية كاملة ويحفظون عن ظهر قلب ماذا سيدور عند مهاجمة الموقع الإسرائيلي. وتم تحركهم إلى الجبهة قبل يوم من التنفيذ. وتحدد الهجوم في الساعة الخامسة عصر يوم 10 يوليو 1969 وتشكلت القوة المهاجمة كالآتي :
-مجموعة القيادة والسيطرة بقيادة نقيب/ سيد إسماعيل إمبابى قائد السرية
- فصيلة بقيادة ملازم أول/ رؤوف أبو سعدة
- فصيلة بقيادة ملازم أول/ معتز الشرقاوي
- فصيلة بقيادة ملازم أول/ محمد عبد الحميد عبد ربه
- فصيلة بقيادة ملازم أول/ حامد إبراهيم حامد
- جماعة خاصة بقيادة رقيب أول/ حسني سلامة
وتم دعم القوة المهاجمة بسرية قاذف لهب وسرية مهندسين عسكريين، إضافة إلى تمركز كتيبة مدفعية هاوتزر (ضرب مباشر) بقيادة الرائد/ سامي المصري في بورتوفيق.
وبدأ العبور في وضح النهار بعدد 14 قارب في كل قارب 10 فرد ومن أوسع منطقة في القناة (400 متر) أمام النقطة. وكان لابد وأن يشعر أفراد الموقع بالهجوم، فصعدت إحدى دبابات العدو إلى مصطبة مجهزه في الساتر الترابي وأطلقت قذيفة أصابت موتور أحد القوارب.. لكن أكمل أفراده العبور بالمجاديف، وأصيب الجندي/ عبد الحليم رياض محمد بشظية في ذراعه لكنه استمر معهم .. ودخلت القوة الموقع واكتشفت أن هناك 5 دبابات قام الرقيب أول/ حسنى سلامة بتدمير 3 منها، وملازم أول/ معتز الشرقاوى ومحمد عبد ربه بتدمير دبابتين وقتل كل من فيهم إلا واحد خرج مستسلماً من الدبابة تم تسليمه إلى أحد القوارب المنتظرة على الشاطئ.. ولما شعر الجنود الإسرائيليين أن دباباتهم قد دُمرت دخلوا مسرعين للاختباء في الملجأ المحصن، كان عبارة عن عربة بضائع من عربات السكة الحديد ومحاط بشكائر رملية. فتم وضع 4 شكائر متفجرات حول العربة لتدمير الملجأ بالكامل وقتل كل من فيه. واستمرت القوة في الموقع 45 دقيقة كاملة تم خلالها زرع علم مصر.
وعادت القوة التي ذهبت 140 فرد إلى الضفة الغربية وقد أصبحت 141 فرد، لكن الجندي البطل/ عبد الحليم رياض الذي ظل ينزف طوال مدة العملية، ورغم ذلك استمر في القتال، استشهد فور الوصول إلى الضفة الغربية ومعه الجندي/ سامي زكي مسعد. وعلى الفور ظهر الطيران الإسرائيلي محاولاً مهاجمة وتدمير كتيبة المدفعية أثناء انسحابها، لكن عناية الله أطاشت قذائفهم فلم تصب الكتيبة بأي خسائر رغم أنها كانت متحركة على طريق محدود لا يسمح بأي مناورة. كانت الخسائر الإسرائيلية في هذا اليوم أكثر من 40 قتيل علاوة على 5 دبابات مما جعلهم يفكرون بعد هذه العملية تفكير آخر.
20 يوليو 1969 : لابد وأن نقف أمام هذا اليوم بنظرة فاحصة ومتأملة..
فجيش إسرائيل الذي لا يقهر مرت عليه شهور وهو يتلقى اللطمات من ضباط
وجنود مصر الأبطال. وكل ما يستطيع الرد به هو مهاجمة موقع منعزل بصورة
دعائية لا تقدم ولا تؤخر في حجم الخسائر التي يتلقاها يوميا، أو قصف مدن
القناة.. وفى ثلاث محاولات للعبور إلى الغرب لم يحقق العدو أي نتائج
ملموسة. وأحدثت أعمال القتال المصرية رد فعل علي الفكر السياسي
والعسكري الإسرائيلي وعلى الروح المعنوية للشعب الإسرائيلي.
أدركت إسرائيل أن القوات المصرية أصبحت تمتلك قوة أكبر في العدد والمعدات، وأن مصر مصممة على القتال، ولن تقنع بأي صلح بالشروط الإسرائيلية. وأكد هذا أن مصر أعلنت في أول مايو على لسان الرئيس عبد الناصر أن قرار وقف إطلاق النار أصبح غير ساري وأننا بدأنا حرب الاستنزاف ضد إسرائيل.
لكل هذه الأسباب ومع ازدياد خسائر إسرائيل، وشعور القيادة العسكرية الإسرائيلية بفشلها في إرغام مصر على وقف حرب الاستنزاف. بدأت إسرائيل تعيد التفكير في أسلوب المواجهة مع مصر وتستعرض مختلف طرق الحل الممكنة.
"وبناء على نتائج الدراسات العديدة التي جرت. اجتمع مجلس الحرب الإسرائيلي بناء على طلب موشى دايان وزير الدفاع وأصدر قرار من أخطر القرارات العسكرية. هو إدخال القوات الجوية الإسرائيلية في حرب الاستنزاف بكل إمكانياتها التدميرية. وقد أدى هذا القرار إلى إحداث تغيرات جذرية في موازين القوى الاستراتيجية على جبهة القناة. بدأت في صالح إسرائيل ثم تحولت ضدها وأصبحت في صالح مصر بعد مضي حوالي ستة أشهر على بداية الحرب". ولكي نؤكد مدى تأثير الهجمات المصرية سنعرض ما كتب وقيل داخل إسرائيل.
فيقول زيف تشيف المحلل الإسرائيلي في كتابه عن حرب الاستنزاف "الفانتوم فوق النيل" إن عملية لسان بورتوفيق هي التي أنهت الجدل داخل أروقة القيادة الإسرائيلية حول حتمية تدخل الطيران الإسرائيلي في المعركة، ويضيف: لقد كان هذا النجاح هو أبرز ما حققه المصريون وكان سيحفزهم إلى نشاط أكبر، فكان لابد من إيقافهم بسرعة.
وصرح المتحدث العسكري الإسرائيلي في الصحف وقتها "أمام الضغط الهائل الذي مارسه المصريون في الجبهة، والحياة التي أصبحت لا تطاق على الضفة الشرقية للقناة أقدمت القيادة الإسرائيلية على استخدام الطيران الذي كانت كل الآراء تصر على الاحتفاظ به للمستقبل".
وقد أعلن موشى دايان وقتئذ "أن الهجوم الجوي هو الرد الإسرائيلي على ما أعلنته مصر من حرب استنزاف في شكل ضربات المدفعية وأعمال العبور ضد الجبهة الإسرائيلية شرق القناة".
بدأت إسرائيل منذ هذا اليوم استخدام قواتها الجوية بعنف، فقامت طائراتها بالهجوم على القوات في منطقة القناة وعلى مدينة بورسعيد.. ولأن الموقف كان واضحاً أمام القيادة المصرية فلم يستغرق الأمر إلا ساعات وصدرت الأوامر بإشراك القوات الجوية المصرية في حرب الاستنزاف...كان من حسن طالع القوات الجوية المصرية أن يتوالى على قيادتها أبناء مخلصون يقدرون حجم المسئولية. فقبل شهر من بدء إشراك الطيران المصري في المعركة تغيرت قيادة القوات الجوية وأصبح اللواء طيار/ على بغدادي قائداً لها واللواء طيار/ حسنى مبارك رئيساً للأركان. وإن كان تغيير القيادة خاصة بعد فترة قصيرة نسبياً له آثار سلبية إلا أن كل منهم جاء مكملاً لما بدأه السابق.
كانت افتتاحية حرب الاستنزاف في 20 يوليو، هي انطلاق تشكيلات القوات الجوية المصرية من قواعد المنصورة وقويسنا وبلبيس وأنشاص بطائرات ميج17 وسوخوى7 (مقاتلات قاذفة)، وفى حماية تشكيلات من طائرات ميج21 ( مقاتلات). وقامت في الساعة 6:30 مساءً بقصف مواقع للعدو ومحطات رادار ومعسكرات ومناطق شئون إدارية للعدو بعمق 35 كيلو متر في داخل سيناء.
وكان دور السرب 62 مقاتلات قاذفة الذي شرفت بقيادته في هذه المهمة، هو قصف ومهاجمة موقع صواريخ هوك أرض/جو في منطقة رمانة على المحور الشمالي، إضافة إلى موقع أخر. وكنت صاحب أول مواجهة بين الطائرة ميج17 والصاروخ الذي يهدد طائرات القوات الجوية المصرية.. وبفضل التدريب المستمر وثقتنا في أننا نستطيع أن نواجه إسرائيل تمكنا من تدمير الموقع، (تكرر الهجوم على هذا الموقع أكثر من خمسة عشر مرة طوال حرب الاستنزاف) وكانت نتائج الهجمة الأولي رائعة فتم تدمير الأهداف بنسبة 70 –80 % وتم إسقاط 2 طائره ميراج واستشهد لنا طيار. وتكررت الهجمات طوال عام كامل، واستشهد من السرب خلال فترة الحرب كل من ملازم طيار/ أحمد السبروت، طلال سعد الله، ومحمود حمدي.
وكانت الهجمة الأولى مؤشراً على أن ما دفعته القوات الجوية من ثمن خلال العامين السابقين في التدريب والتجهيز قد آتى ثماره أخيراً (فقدت القوات الجوية المصرية 54 طيار في التدريب والمعارك على مدى الفترة السابقة).. وأصبح الطيار المصري الذي تحمل كثيرا بعد يونيو 67 على كفاءة وثقة بالنفس تمكنه من التصدي للعدو الإسرائيلي. رغم التفوق العددي والنوعي الذي يتمتع به الطيران الإسرائيلي. ولكي يتضح الأمر أمام القارئ لابد من وقفه لبيان الفارق الشاسع بين القوات الجوية المصرية والإسرائيلية. وسنركز على الحمولة والمدى فقط لعدد ثلاث طائرات من كل جانب لبيان هذا الفارق. وبنظره بسيطة على الجدول التالي نجد أن طائرة واحدة فانتوم تلقى حموله أكبر قدرا من حمولة 4 طائرات ميج 17 أو 4 طائرات سوخوى7
وبنظرة على هذه المقارنة نجد أن التفوق في المدى والتسليح لصالح إسرائيل بما يوازي الضعف تقريباً. وكان هذا يعني أن الطائرات المصرية لا تستطيع قصف أهداف في العمق الإسرائيلي كما وأنها في الاشتباكات الجوية لا تستطيع البقاء في الجو مثل الطائرات الإسرائيلية. كما أن تجهيز طائرة واحدة يوفر كثيرا عن تجهيز 4 طائرات في الوقت وفي عدد الفنيين وفي عدد المعدات.
لكن هذا التفوق لم ينل من أبناء القوات الجوية. فوضع اللواء طيار/ حسنى مبارك رئيس الأركان وكان مسئولاً عن إدارة العمليات، خطة تتناسب مع الإمكانيات المتاحة مع المناورة في التخطيط طوال عام كامل بناء على المواقف المستجدة والدروس المستفادة. فحققت القوات الجوية المصرية نجاحاً باهراً بكافة المقاييس رغم خسائرها الغير قليلة.
كانت الخطة تقوم على قصف وتدمير العدو وأهدافه في عمق سيناء (حتى 35 كم) بواسطة تشكيلات المقاتلات القاذفة، وتحت حماية مباشرة من المقاتلات، التي كانت ترافق المقاتلات القاذفة حتى مواقع العدو، وأذكر هنا أنه في أحد غارات المقاتلات القاذفة بقيادة الرائد طيار/سمير فريد على موقع صواريخ هوك، صدرت الأوامر من مركز العمليات أن تتراجع المقاتلات إلي غرب القناة، لكن قائد تشكيل الحماية( طائرات الميج 21 ) الرائد طيار/مجدي كمال رد على مركز العمليات
- أنا منتظر فوق الموقع لغاية الميج 17 ما يخلص الهجوم .
كان تخطيط الهجمات والحماية لها يختلف في كل مره حتى لا يكتشف العدو التكتيك المصري، الذي أصبح يستند على خبرة مصرية. كان عامل التوقيت حاسماً في تنفيذ هذه المهام وكذا ارتفاع الطيران في الذهاب إلى الأهداف (ارتفاع 30 متر). حتى لا يكتشف العدو الإسرائيلي طائراتنا إلا عند عبورها قناة السويس. وبهذا التكتيك تتمكن المقاتلات القاذفة من مهاجمة الأهداف . وفي أثناء عودتها تلاحقها الطائرات الإسرائيلية، لكن وعلى الفور تظهر المقاتلات المصرية جاهزة للاشتباك مع الطائرات الإسرائيلية. فكان العدو مجبراً على أن تتم الاشتباكات الجوية غرب القناة. وسنعرض مثال لذلك ما كانت تقوم به أسراب قاعدة المنصورة (ميج17 ، ميج21) والتي كانت مكلفة بمهاجمة العدو الإسرائيلي في المحور الشمالي ( طريق القنطرة - العريش).
- تقوم تشكيلات المقاتلات القاذفة بالطيران إلى موقع صواريخ هوك أرض/ جو المتمركز في رمانة على المحور الشمالي على ارتفاع 30 متر يتبعها بدقائق تشكيلات الحماية.
- تعبر تشكيلات الميج17 قناة السويس مثلا الساعة 11:00 وهنا يتم الإبلاغ عنها لمراكز القيادة الإسرائيلية.
- تصل تشكيلات الميج17 إلى الهدف الساعة 11:03 ثم تقوم بقصف الموقع 2-3 هجمة وتغادر الموقع الساعة 11:06.
- تغادر التشكيلات الموقع الإسرائيلي وتأخذ طريق العودة على ارتفاع 30 متر وتعبر غرب القناة الساعة 11:09.
وبهذا فإن طائراتنا المهاجمة تبقي 9 دقائق فوق سيناء حتى العودة إلى غرب القناة. ولما كان الإبلاغ عن الطائرات المصرية يستغرق 3 دقيقة، ثم تنطلق طائرات الميراج الإسرائيلية من قاعدة المليز وسط سيناء خلال 3 دقيقة.. ثم تحتاج إلى 3-4 دقيقة حتى تصل قناة السويس فيكون الوقت الذي تحتاجه الطائرات الإسرائيلية 9-10 دقيقة. وعلى هذا كانت الميراج الإسرائيلية تصل إلى قناة السويس وقد عبرت تشكيلات الميج17 إلى غرب القناة .. وهنـا تتصدى لهـا تشكيلات الحماية (ميج21) ولا يكون أمامها إلا أن تشتبك مع مقاتلاتنا أو تعود إلى قواعدها، وهو ما كان يحدث غالباً حيث أن المقاتلات الإسرائيلية تفضل دائماً أن يكون الاشتباك مدبر ومخطط له.
وكان التخطيط المصري هو استثمار تدمير موقع صواريخ الهوك أرض/جو في رمانة لأنه كان يغطى المنطقة من القنطرة وحتى بورسعيد وبعمق حتى مدينة العريش.. فيتم مهاجمته وتدميره قبل الغروب. ولأن إعادة تشغيله تحتاج إلى 12 ساعة على الأقل فكان يتم دفع طائرات القاذفات أو الهليكوبتر ليلاً لمهاجمة مواقع إسرائيلية على الساحل الشمالي وحتى مدينة العريش. في 28/9/1969 تم دفع 2 طائرة هليكوبتر(مى8) ليلاً بقيادة كل من مقدم طيار/ جلال النادي والنقيب طيار/ سمير عبد السلام لمهاجمة معسكر إسرائيلي في منطقة مصفق عند بحيرة البردويل. وتم القصف بالصواريخ والبراميل الحارقة (كان هذا تعديل مصري لتسليح الطائرة) وتم تدمير كامل للمعسكر وأفادت وسائل استطلاع بأن الخسائر كانت عالية. وتكررت هذه الطلعات أكثر من مرة .. إلا أن الطيران الإسرائيلي تمكن من مطاردة 2 طائرة قاذفه اليوشن28 كانت تقصف منطقة العريش ليلا ، وأثناء العودة نجح في إسقاطهما، واستشهد رائد طيار/ محمد عبد الجواد وتمكن الرائد طيار/ أنيس خضير من القفز بالمظلة ووصل إلى الشاطئ بعد أن قضى 20 ساعة في البحر.
صورة من طائرة ميج17 تهاجم موقع هوك للعدو فيها 8 نقاط مضيئة هي صواريخ متجهة للهدفوتحمل طياري المقاتلات عبئا كبيرا طوال حرب الاستنزاف، فكان عليهم أن يقوموا بحماية هجمات المقاتلات القاذفة، وطائرات الاستطلاع أثناء تنفيذ مهامها فوق أرض العدو. بالإضافة إلى التصدي لطائرات العدو. ورغم إن المجهود المطلوب كان شاقا، لكن طياري المقاتلات بروحهم العالية جعلتهم يتسابقون لتنفيذ المهام دون كلل.
وسنروى مثال يوضح ما نقول تكرر كثيرا. أثناء الحرب، مجموعة من الطيارين في قاعدة غرب القاهرة لتلقى تدريب على طائره ميج 21 طراز مختلف عما كانوا عليه. وفى 25 يونيو70 وأثناء إحدى المحاضرات انطلقت إشارة باختراق طائرات للجبهة. يعتبر الطيارون في وضع حالة الاستعداد الثالثة( إقلاع في 15 دقيقه)، وفورا انطلق نقيب طيار/تميم فهمي والملازم أول/نبيل فؤاد بالعربة إلى أول الممر حيث طائرات حالات الاستعداد، وأقلع التشكيل إلي الجو بعد9 دقائق فقط. وبدأ توجيه التشكيل إلى منطقة العين السخنه نحو طائرات العدو، واشتبك التشكيل وأسقط طائره ميراج للعدو. ومن المفارقات أن يتكرر نفس السيناريو يوم 2 يوليو، بنفس الطريقة، وبنفس الطيارين، ونفس المنطقة، لكن ينجح العدو في هذه المرة ويسقط الطائرتان ويقفزا كلاهما بالمظلة.
كان مكسب القوات الجوية من هذه الهجمات هائلا، فعلاوة على تدمير مواقع العدو
وتكبيده خسائر في الأفراد والمعدات ، أصبح الطيارون المصريون يتعاملون مع
العدو الإسرائيلي دون هيبة أو خوف . في أحد الغارات انحرف النقيب طيار /
حمدي عقل عن موقع العدو المخصص له بسبب عطل في البوصلة الملاحية.
وأبلغ قائد السرب الذي رد عليه فورا بأن يختار هدف أخر ويهاجمه . فمن غير
المقبول أن تعود الطائرات دون مهاجمة العدو. فتوغل بالتشكيل شرقا حتى وجد
معسكرا قام بمهاجمته 5 هجمات (المعدل 2 هجمة) حتى نفذت منه الذخيرة
دون أي تدخل من العدو.
ولما وجد العدو أنه لا ينال من طائراتنا رغم تفوقه في الكم والنوع، فقد لجأ إلى إجبارنا على الدخول في معارك جوية مدبرة. كان يقوم بدفع طائراته للاختراق في منطقة العين السخنة، فتندفع مقاتلاتنا (ميج21) للاشتباك معه فيقوم بالمناورة معها حتى تستهلك الوقود، وتصبح مضطرة للخروج من الاشتباك، وهنا يقوم بدفع تشكيل جديد يطارد مقاتلاتنا المنسحبة من الاشتباك. وقد نجح العدو في هذا الأسلوب وأسقط عدد غير قليل من طائراتنا. إضافة إلى أن من كان يقفز بالمظلة يتعرض لأخطار جسيمة لصعوبة المنطقة وطبيعتها الوعرة. فقد استشهد نقيب طيار/ أحمد نور الدين لأن وسائل البحث والإنقاذ وصلت إليه بعد فوات الأوان فعُثر على جثمانه وبجواره شواهد تؤكد أنه هبط سالماً بالمظلة. لكن وفى أحد هذه المعارك بتاريخ 9ديسمبراستطاع نقيب طيار/ أحمد عاطف عبد الحي بطائرته الميج21 إسقاط أول طائرة فانتوم إسرائيلية. وبهذا سقطت الهالة التي حاولت إسرائيل صنعها حول هذه الطائرة.
كما استطاعت القوات الجوية المصرية رغم إمكانياتها المحدودة كما ونوعاً عن نظيرتها الإسرائيلية، أن توجه ضربات موجعة إلى العدو بأسلوب آخر.. فبتنسيق للجهود والتخطيط الجيد بين اللواء طيار/ حسنى مبارك واللواء/ محمد صادق مدير المخابرات يتم دفع طائرة هليكوبتر ليلاً محملة بأفراد من المجموعة 39 قتال إلى الشاطئ الشرقي لخليج السويس. وتهبط الطائرة بعيداً عن الهدف بمسافة آمنة، ثم يقوم أفراد المجموعة بزرع الألغام على الطرق أو مهاجمة الأهداف، ثم وبسرعة يتم التقاطهم وعودتهم بالطائرة. وفى مرات أخرى كانت الطائرة الهليكوبتر تقوم بقصف الموقع بالصواريخ والقنابل الحارقة ونجحت هذه الطلعات أكثر من مرة.
كانت فرحـة ولا شـك أن تقف القوات الجوية المصرية بعد ما نالها في عام 67، أمام العدو لمدة عام كامل تشتبك معه وتقاتل وتوقع به الخسائر. لكن لا ننسى أن الثمن كان شهداء في عمر الزهور. وأرواح ودماء بُذلت عن حب وإيمـان في سبيـل هذا الوطـن. فكما أوقعنا بهم خسائر كانت لنا خسائر مثال يـوم 11/9/1969. في الصباح قامت 32 طائرة مقاتلة قاذفة (ميج17 ، سوخوى7) بمهاجمة مواقع العدو شرق القناة، ولأن الضربة كانت موجعة فقد ردت إسرائيل بعنف وظلت الاشتباكات الجوية مع قاعدة المنصورة مستمرة حتى الثامنة مساء.. وفى هذا اليوم استشهد 2 طيار من المقاتلات القاذفة فوق المواقع الإسرائيلية، وقفز 7 طيارين بالمظلات نتيجة الاشتباكات الجوية في مقابل نجاح ملازم أول طيار/مصطفى جامع في إسقاط طائرة ميراج فوق مدينة السنبلاوين وأسر الطيار الإسرائيلي.
وقبل ختام هذا الجزء من الحديث عن القوات الجوية المصرية ودورها في حرب الاستنزاف. هناك أمور لابد من ذكرها لما لها من دلالات لن تغيب عن فطنة القارئ. وقد كنت مشاركاً في إحداثها بحكم موقعي كقائد سرب مقاتلات قاذفة (ميج17) في قاعدة المنصورة الجوية. كان أسلوب استخدام القوات الجوية طوال حرب الاستنزاف ناجحاً بصورة ملموسة إلا من بعض مرات قليلة خاصة على المحور الشمالي الذي كان ناجحاً بصورة أكبر من المحور الأوسط والجنوبي.
في 25/7/1970 تـم تكليفـي كقائد سرب بالاستعداد لمهاجمة مواقع للعدو شرق القناة بواسطة 2رف (8 طائرة) ميج17، على أن يتم حمايتها بطائرات ميج21 سوفيتية يقودها طيارون سوفيت. وتم التنسيق مع قوة الحماية لمدة يومان وتحت إشراف 3 جنرالات سوفيت متواجدين في القاعدة. كان التنسيق هو أن تهاجم الطائرات المصرية مواقع العدو كالمعتاد، فتقوم الطائرات الإسرائيلية بمطاردتها حتى غرب القناة. وهنا يقوم الطيارون السوفيت بالاشتباك والقتال مع الطائرات الإسرائيلية. ولم نكن ندرى ما هو السر في طلب السوفيت الاشتراك في القتال الفعلي في هذا التوقيت ؟ وكان الشرط أن يتم القتال والاشتباك غرب القناة، وأن الطائرات السوفيتية لن تعبر شرق القناة تحسباً لأن يقفز أحدهم بالمظلة أسيراً لدى إسرائيل فتتعقد الأمور بالنسبة للاتحاد السوفيتي.
فى الواحدة ظهراً يوم 27/7/1970 قام تشكيل (8طائرة) ميج17 بمهاجمة مواقع العدو، وعاد إلى غرب القناة دون أن يتبعه الطيران الإسرائيلي. ولم يتم الاشتباك المطلوب. فتقرر تكرار الطلعة في السادسة مساءً. فقام تشكيل (4 طائرة) وتشكيل آخر (4طائره) بمهاجمة موقعين للعدو عند الكيلو 10 والتينة. لكن التقطت إسرائيل إشارات لاسلكية سوفيتية قبل وصول طائراتنا إلى أهدافها، فانطلقت طائرات الميراج الإسرائيلية مبكراً. فما أن أتمت تشكيلاتنا المصرية هجومها واتجهت غرب القناة إلا ووجدت الميراج الإسرائيلية خلفها، وأبلغ الطيارون المصريون باللاسلكي أن العدو يطاردهم. وظهر على الرادار موقع المطاردة وموقع الطائرات الإسرائيلية، كل هذا ولم تتدخل طائرات الحماية السوفيتية. فما كان من قائد التشكيل الأول إلا أن ناور وأفلت بتشكيله وعاد إلى القاعدة سالما، لكن التشكيل الآخر بقيادة نقيب طيار/ ماهر قاسم لحقت به الميراج واشتبك معها بتشكيله (الميج17) فأصاب طائرة إسرائيلية وسقطت طائرتان لنا قفزا طياراها بالمظلة.
ورغم أن الاشتباك وقع غرب القناة كما هو مطلوب، ورغم وجود 12 طائرة ميج21 سوفيتية في منطقة الاشتباك، ورغم أن اثنان من الطيارين السوفيت أفادا بأنهما شاهدا الطائرات الإسرائيلية، لكن لا ندرى سبب عدم دخول المقاتلات السوفيتية في الاشتباك، الذي كاد أن يكبدنا خسارة فادحة..! وبعد نصف ساعة حضر اللواء طيار/ حسنى مبارك لمناقشة وتحليل ما حدث في حضور الطيارين المصريين والسوفيت. وانتهى الأمر بأن التنسيق لم يكن بالقدر الكافي وألقى الفشل كله على التنسيق. وحاول أحد الجنرالات السوفيت إقناع الحاضرين بهذا العذر لكن لم يقتنع أحد.
وبعد 7 أيام من هذه الواقعة فى 3 أغسطس 1970 استطاعت الطائرات الإسرائيلية استدراج تشكيل سوفيتي مكون من 4 رف (16 طائرة) ميج21 منطلقا من قاعدة بني سويف الجوية إلى كمين في منطقة العين السخنة، وأسقطت منه 5 طائرات في دقيقتين علاوة على طائره سادسه هبطت بإصابات بالغة، وعادت الطائرات الإسرائيلية دون خسائر. علماً بأن الخبراء السوفيت هم الذين أداروا هذا الاشتباك من بدايته إلى نهايته دون تدخل أي عنصر مصري من قريب أو بعيد.
المجهود الجوي للجانبين خلال حرب الاستنزاف 20 يوليو 1969 – 8 أغسطس 1970
يوضح الجدول إجمالي المجهود الجوي للجانبين (مجهود القصف والاستطلاع
والحماية فوق ارض العدو)
"الخسائر الجوية المصرية والإسرائيلية 20 يوليو 69 - 8 أغسطس
1970"
(*) عذراً أيها القارئ إذا وجدت تضارب واختلاف في أرقام الخسائر المصرية والإسرائيلية من القتلى والجرحى، والمعدات والطائرات مع أي مراجع أخري. فكل هذه الأرقام مستقاة من وثائق وجهات رسمية. لكن هذا هو المتاح أمام أي باحث.
وقد قامت القوات الجوية المصرية على مدار فترة يوليو 69 - أغسطس 1970 1- 1991 طلعة للمقاتلات شملت صد هجمات العدو الجوية وحماية تشكيلات المقاتلات القاذفة وطائرات الاستطلاع.
2- 470 طلعة للمقاتلات القاذفة لقصف أهداف العدو في سيناء وخط بارليف.
موقف القوات الجوية المصرية والإسرائيلية في بداية حرب الاستنزاف
لا تشمل هذه القوة طائرات النقل والهليكوبتر والتدريب
وبنظرة محايدة على تلك الجداول والمقارنات نجد أن :
1- إجمالي المجهود الجوى الإسرائيلي 4 أضعاف المجهود الجوى المصري
2- أوزان القنابل المسقطة بالطن من جانب إسرائيل70 ضعف المسقطة من جانب مصر
3- خسائر الطائرات الإسرائيلية 85 % مقارنة بخسائر الطائرات في الجانب المصري..
وللوهلة الأولى لمن يقرأ هذه الأرقام يقول إن إسرائيل قد دمرت جبهة قناة السويس بالكامل، أو الجزء الأكبر منها في أسوأ الأحوال، لكن الواقع يثبت عكس ذلك تماما. وقد ذكرنا في تقرير الفريق أول/ فوزي الذي قدمه للرئيس عبد الناصر إن عدد الشهداء المصريين عدة مئات ومثلهم من الجرحى. وهذا يثبت إن تأثير الطيران الإسرائيلي على مجريات حرب الاستنزاف لم يكن بالقدر الذي توقعته إسرائيل.. فكيف تسقط طائرات العدو21 ألف طن قنابل وتكون الخسائر المصرية أقل من ألف قتيل فقط ؟! فلو إن كل طن قنابل قتل جندي أو ضابط مصري لكان عدد القتلى المصريين 21 ألف قتيل.
لكن هذه النتائج لم تتحقق لأن التجهيز الهندسي للقوات، واستخدام الأرض والإخفاء كان من أهم العوامل التى وفرت لها الحماية. فالقنبلة الإسرائيلية كانت تسقط فينتج عنها حفرة 10×15(متوسط 80 قنبلة يوميا)، لكن الجندي المصري لحظة القصف يكون محتمياً في حفرة برميليه والقيادات في الملاجئ والدشم. ولم يتوقف العمل اليومي طوال فترة الحرب إلا مرات محدودة. كما إن أغلب القصف الإسرائيلي كان بالقنابل ومن ارتفاع عالي لتجنب المدفعية م/ط فكان القصف غير دقيق .
وفى الجانب الآخر كان الطيران المصري رغم حجمه وإمكاناته المحدودة، يحقق تأثيرا كبيرا من هجماته. حيث كان القصف بالصواريخ أساسا لتدمير الهدف والقنابل لتعظيم الخسائر ومن ارتفاع منخفض، وحقق هذا نتائج كبيره في تدمير أهداف العدوٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ. وفى القتال الجوى كانت الخسائر تقريبا متساوية، وهو ما يحسب للقوات الجوية المصرية قيادة وطيارين وفنيين وموجهين. ويشارك في هذا النجاح قوات الدفاع الجوى المصري. فبنظرة على حجم القوات الجوية وعدد الطائرات لدى كل منهم، نجد إن الفرق كبير بين 196 طائره لدى مصر تواجه 262 طائره لدى إسرائيل، مع الوضع في الاعتبار أن 20 طائره تى يوـ16 لم تكن تشارك في القتال لأنها قاذفة قنابل ثقيلة لا يتناسب عملها مع حرب الاستنزاف. كما لا ننسى الفارق الهائل في إمكانات الطائرات الإسرائيلية عن الطائرات المصرية
ورغم كل هذه العوامل السابقة، فقد استطاعت مصر بأبنائها في القوات الجوية القيام بعدد (7200 ) سبعة آلاف ومائتان طلعه جوية على مدار حرب الاستنزاف. وما يجب أن نتوقف أمامه هو إن هذه القوات التي أدت هذا العمل الرائع، كانت قبل أشهر معدودة مجرد مجموعه من الطيارين مبعثره في مطارات شبه مدمره, لديها بعض عشرات من الطائرات. وإن كان هناك فضل في هذا فهو للقادة الذين توالوا على قيادة القوات الجوية، الفريق طيار/مدكور أبو العز واللواء طيار/مصطفي الحناوي واللواء طيار/علي بغدادي واللواء طيار/ حسنى مبارك.
السياسة الأمريكية فى خدمة إسرائيل
بينما الهجمات المصرية والإسرائيلية متبادلة بالمدفعيات والصواريخ والطائرات، كانت الجهود السياسية والدبلوماسية تلعب دورها في خلفية مشهد القتال الذي كان متواصلاً لأكثر من عام. صدر القرار242 من مجلس الأمن، وتعين السفير جونار يارنج مندوباً من الأمم المتحدة لتنفيذ هذا القرار. واستمر طوال عام ونصف تقريباً وهو يقطع آلاف الأميال بين مصر وإسرائيل ونيويورك دون نتيجة أو بارقة أمل في نجاح محتمل.
كان التنسيق الإسرائيلي- الأمريكي محكما،ً فاصبح يارنج وكأنه يدور حول نفسه. إسرائيل متمسكة بأن القرار لا يقول بالانسحاب من كل الأراضي، وأن الحدود الآمنة لإسرائيل ليست هي حدود 4 يونيو، والتفاوض لابد وأن يكون مباشراً مع مصر. وأمريكا ألقت بكل ثقلها لكي يستمر احتلال اسرائيل للأراضي العربية. أما الاتحاد السوفيتي الذي هو حليف لمصر فلم يكن متحمساً للمطالب العربية بتحرير كل الأراضي المحتلة، وإن كان يردد ويقول بأن من حق أصدقاؤه العرب أن تعود إليهم الأرض المحتلة.
وبالتوازي مع مهمة يارنج كانت هناك مباحثات أمريكية - سوفيتية للوصول إلى حل لمشكلة الشرق الأوسط. كانت أمريكا فيها تعرض وتتبنى مطالب إسرائيل مستغلة في ذلك التردد الذي كانت عليها القيادة السوفيتية. وعلى التوازي أيضاً بدأت مباحثات بين الدول الأربع الكبرى (أمريكا - روسيا - فرنسا - إنجلترا) لإنقاذ مهمة يارنج من الفشل الذي يلوح، والتي قال عنها كيسنجر "لقد انقضي عام وربع العام على تجوال السفير يارنج ولم يحقق شيئاً.إن عربته غائصة في الوحل ولن تتحرك بقوتها الذاتية". وكان الموقف العربي على المستوى السياسي باهتاً وضعيفاً، إلا من بصيص أمل هو حرب الاستنزاف التي تخوضها مصر بعزم وثبات.
وتصديقاً لما سبق نقرأ في مذكرات إسحاق رابين سفير إسرائيل في الولايات المتحدة بعد يونيو67، وسنكتفي بالقليل من القراءة الذي يكشف الكثير.. يقول "عاد نيكسون من أوروبا بعد أن أجرى محادثات مع الدول الحليفة للولايات المتحدة. وبصفته معجباً جداً بالرئيس ديجول تساءلت : هل ينتظرنا خطر بسبب تأثر مواقفه من مواقف الرئيس الفرنسي ؟ فطمأنني كيسنجر قائلاً : إن الرئيس لم يطلع الزعماء في أوروبا على خطط أمريكية لحل أزمة الشرق الأوسط ولكنه قال لديجول وغيره : إن الولايات المتحدة تعارض الحل المفروض، ومتمسكة بالتزاماتها لحماية أمن إسرائيل. وابتسم كيسنجر عندما قال : إن الرئيس ديجول شرح للرئيس نيكسون بأن جميع مواقف فرنسا في الشرق الأوسط لا يقصد بها سوى 00 جلب الخير على إسرائيل".
ولنرى ما وصلت إليه السياسة الأمريكية في تبنى موقف اسرائيل ومحاولة فرضه على مصر بكل الطرق.. يقول رابين "وفى 15 يناير 1969 تنفست الصعداء، فقد سلم راسك (وزير الخارجية الأمريكي) إلى تشارينكوف المفوض السوفيتي فى واشنطن رسالة هامة جداً جاء فيها : إنه يمكن التوصل إلى سلام فقط عن طريق التفاوض بين الأطراف في الشرق الأوسط (يعني بالأطراف مصر وإسرائيل) ويجب على الأطراف أن يتفاوضوا، ويمكن أن يفعلوا ذلك تحت إشراف طرف ثالث. يجب أن توقع الأطراف معاهدة يلتزم بها كل طرف نحو الآخر.
لا يوجد التزام لانسحاب إسرائيلي شامل. إذن لقد قبلت الولايات المتحدة في هذه المرحلة بجوهر المواقف الإسرائيلية، وعلى الرغم من أنها لم تحدد بدقة ماهية السلام، ولم تفصّـل عناصره الحقيقية فإنها لم تبق أدنى شك حول ضرورة الانتقال من حالة وقف إطلاق النار إلى حالة السلام". بهذا الاعتراف الصريح ومن رابين، نجد أن مهمة يارنج ما كانت إلا مضيعة للوقت، وأن الدور الأمريكي ضد مصر مازال مستمراً منذ 1967. ولهذا لم يعول الرئيس عبد الناصر كثيراً على الجهود الدبلوماسية، بل كان مدركاً الدور الأمريكي وكذا الدور السوفيتي، وإنما تماشى معها لكسب الوقت فقط حتى تجهز القوات المسلحة للمعركة الحاسمة.
العين بالعين .. والقصف بالقصف
لم تهتز مصر أو تفقد تركيزها بإشراك الطيران الإسرائيلي في حرب الاستنزاف. بل تصاعدت وتيرة العمليات المتبادلة.. فقامت القوات المصرية في ليلة 10/11 أغسطس 1969 بمهاجمة النقط القوية الإسرائيلية في الدفرزوار والفردان في وقت واحد. وجاء الرد الإسرائيلي بالإغارة ليلة 27/28 أغسطس على معسكر منقباد في منطقة أسيوط، متسللاً من منطقة البحر الأحمر بطائرات هليكوبتر حتى قرب المعسكر وقامت بإنزال بعض مدفعيات الهاون التي قصفت المعسكر وأحدثت به بعض الخسائر.
لكن في يوم 9/9/1969 قام العدو الإسرائيلي بغارة كبيرة على منطقة الزعفرانة جنوب السويس بعيداً عن الاشتباكات الدائرة في جبهة القناة.. قامت الضفادع الإسرائيلية بإغراق 2 لنش طوربيد متمركزان في مرسى السادات لتأمين عملية إبرار بحري، ثم قامت بإنزال سرية دبابات (10 دبابة) مدعمة بوحدة من المشاة الميكانيكي على الشاطئ الغربي لخليج السويس. ثم زحفت هذه القوة براً في اتجاه الزعفرانة فلم تجد إلا نقطة حرس الحدود (5 فرد) استشهدوا جميعاً. ثم قامت بتدمير موقع رادار مصري.
كانت إسرائيل تبغي دعاية إعلامية على مستوى ضخم من هذه الغارة، فتعين الجنرال إبراهام آدان قائداً لهذه الغارة. واصطحب معه كاميرات ومصورين قاموا بالتقاط فيلم دعائي أطلق عليه اسم "غزو مصر" وتم عرضه في وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية مرات متلاحقة بصورة مثيرة . وقد استمرت قوة الإغارة 6 ساعات على الشاطئ الغربي تحت حماية كثيفة من الطيران الإسرائيلي ثم انسحبت.
سمع الرئيس عبد الناصر بخبر الإغارة في العاشرة صباحاً وكان يتابع مناورة تدريبية لفرقة مدرعة وبصحبته الفريق أول/ فوزي، فكان طبيعياً أن يقطع برنامجه ويعود إلى القاهرة وهو في أشد حالات الضيق. وطلب توجه رئيس الأركان فورا إلى منطقة الزعفرانة للوقوف على ما حدث في الإغارة، وموافاة الرئيس بالموقف . وفى الثانية ظهرا اتضح أن اللواء/ أحمد إسماعيل يتابع الموقف من مكتبه في القاهرة، لهذا وللتقصير الواضح في الدفاع عن المنطقة قام الرئيس عبد الناصر بإعفاء اللواء/ أحمد إسماعيل من منصبه وتعين اللواء/ محمد صادق رئيساً للأركان وإعفاء اللواء بحري/ فؤاد ذكري قائد القوات البحرية وتولي بدلاً منه اللواء بحري/ محمود فهمي.
وكان طبيعياً أن ترد مصر على عملية الزعفرانة بعملية مماثلة. حتى تعي إسرائيل أن مصر لا تفزع أو تروع من هذه العمليات. وأن الحرب سجال وجيش إسرائيل الذي لا يقهر كما يقولون، يمكن أن يتلقى ضربة تلو ضربة من القوات المصرية. فقامت في 1/10/1969 قوة من المجموعة 39 قتال محمولة بطائرات هليكوبتر، ومجموعة أخرى محمولة في زوارق بحرية، بالنزول والإبرار على الشاطئ الشرقي لخليج السويس في منطقة رأس ملعب. وتقدمت المجموعتان على الطريق الساحلي حتى رأس مطارمه حيث قامت المجموعتان بنسف الطريق وزرع 14 لغماً نتج عنها تدمير 3 عربة مدرعة ودبابة وجرح وقتل 10 أفراد ، وعادت القوة سالمة دون أي تدخل من قوات العدو.
وتكررت الهجمات المصرية على نقاط العدو في جبهة قناة السويس طوال شهري أكتوبر ونوفمبر، في 16 نوفمبر 1969 كانت إحدى عمليات الكتيبة 43 صاعقة بهدف خطف أسير. وتم التدريب على التفجير بعبوات خاصة حتى يتبقى أفراد من الدورية الإسرائيلية أحياء يمكن أسرهم. وقام المقدم/ صالح فضل قائد مجموعة الصاعقة بتمثيل دور عربة العدو بنفسه حتى يتأكد من دقة تنفيذ العملية. ولما تم التفجير في التدريب تعرض المقدم/ صالح لبعض الإصابات، لكنه اطمأن إلى حسن إعداد وتجهيز العملية. وفى موعد التنفيذ عبرت قوة هجوم مكونة من عشرة أفراد بقيادة ملازم أول/ معتز الشرقاوى، وقوة ساترة من عشرة أفراد بقيادة نقيب/ حمدي الشوربجى.. تم العبور في الثانية صباحاً ووصل أفراد الصاعقة إلى موقع الكمين واتخذوا أماكنهم. وكان أهم ما يشغل بال الجميع هو الإخفاء والتمويه حتى لا يكتشف العدو مكان الكمين. وفى الصباح مرت طائرة الاستطلاع الإسرائيلية التي كانت تمسح الجبهة ولم تكتشف الكمين وفى الساعة 12 ظهراً ظهرت عربة جيب أمام الكمين وتم التفجير، واندفع أفراد الكمين نحو العربة فوجدوا الأربعة ركاب في العربة قد قتلوا. واتضح من التفتيش أن هذه العربة كان فيها جنرال جافيتش قائد قطاع جنوب سيناء ومعه السائق واثنان من الحرس، وتم إحضار محفظته وشنطة وثائق علاوة على رتبته العسكرية وعادت القوة كلها سالمة.
وفى المقابل كرر العدو هجماته على الأهداف المنعزلة في منطقة البحر الأحمر. فهاجم فنار أبو الدرج ومنطقة رأس شقير. كان العدو الإسرائيلي يهدف من تلك الهجمات إجبار مصر على نشر قوات كبيرة جنوب السويس، حتى يخف الضغط عليه في جبهة القناة. ونجح في إسقاط 2 طائره ميج21 وهى تهبط بمطار الغردقة بعد طلعة تدريب.
وجاءت نهاية عام 1969 حافلة بالنتائج وبأسلوب الأداء الراقي للقوات التي تشترك في الهجوم على العدو. فما أن صدرت أوامر قائد الجيش الثاني اللواء/ عبد المنعم خليل إلى الفرقة الثانية المشاة بالتخطيط والتجهيز لعملية عبور أكبر من الدوريات، حتى تسابقت الوحدات تتنافس على من سيقوم بالتنفيذ.
وفى 6 ديسمبر مساءً عبرت سرية مشاة مدعمة القناة (أكثر من 100 ضابط وفرد) وقامت بالهجوم على النقطة القوية جنوب البلاح. وكانت إسرائيل تقوم بسحب معظم أفراد النقطة لحمايتهم من الهجمات المصرية وتكتفي بعناصر الحراسة والمراقبة فقط، الذين فروا هاربين بمجرد أن اكتشفوا عبور القوة المصرية إليهم. وقامت القوة باحتلال النقطة وقام أفراد القوة برفع علم مصر لأول مرة على أرض سيناء.
وفى الصبـاح اندفع العدو بقواته، محاولاً استرداد النقطة ومعتقداً أنها إحدى الدوريـات. لكن السرية قامت بصد الهجوم بكفاءة عالية، مما جعل العدو يتراجع وينتظر. وفى الظهيرة اتصل قائد الجيش الثاني طالباً من الفريق أول/ فوزي أن تستمر القوة هناك، حيث أنها مدعمة بالنيران من الضفة الغربية. لكنه رفض هذا الطلب وأمر بعودة السرية إلى الغرب بعد أن حققت مهامها باقتدار. وتم تنفيذ الانسحاب في مساء 7ديسمبر، لكن العلم المصري ظل مرفوعاً حتى وقف إطلاق النار في أغسطس 1970. حيث كانت تحميه نيران قواتنا من الضفة الغربية. حقاً أنهم جند من السماء.
واختتم العام 1969 بعملية رائعة، فقد دفع اللواء 117 مشاة مجموعة من 2 ضابط + 3 فرد عبروا قبل فجر 14 ديسمبر إلى الضفة الشرقية. وقاموا برص 4 لغم على الطريق وحفروا حفرا شخصية اختبئوا فيها طوال نهار 14 ديسمبر حتى الساعة الخامسة مساءً. حين مرت عربة مدرعة انفجر فيها أحد الألغام وقتل ثلاثة أفراد وتم أسر أول ضابط إسرائيلي يدعي "دان افيدان" الذي ظل يصرخ مردداً طوال طريق العودة "أنا ما ليش دعوة بالحرب أنا ضابط إداري".
وفى ليلة 23/24 ديسمبر هبطت 2 طائره هليكوبتر بجوار محطة رادار في منطقة على شاطئ خليج السويس وتمكن العدو من تفكيك المحطة وتحميلها في الطائرتين إلى إسرائيل، لأن الخبراء السوفيت أفادوا بأن تكون الحراسة ووسائل الدفاع حول الموقع الهيكلي لخداع العدو، وترك الموقع الحقيقي دون حراسه أو دفاع.
وفى ختام العام كانت العمليات الإيجابية المصرية قد بلغت 44 عملية مقابل 28 عملية إسرائيلية. عدا أعمال القوات البحرية التي سنعرضها تفصيلاً على حده.
وفى مساء 6 يناير 1970 تم عقد اجتماع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية برئاسة الرئيس عبد الناصر لمدة ثلاثة أيام. بهدف أن يكون الرئيس على علم كامل بالموقف العسكري، وأن يجتمع بقادة أفرع القوات المسلحة وقادة الجيوش والمناطق العسكرية. ويقول الفريق أول/ فوزي عن هذا الاجتماع "وكنت قد قدمت للرئيس موقف القوات المسلحة عموماً حتى آخر عام 1969 .. ذاكراً الانتهاء من بناء حجم القوات المسلحة المقرر في الخطة، عدا النقص المطلوب استكماله من الطيارين والطائرات القاذفة طويلة المدى للردع الجوي، كذلك النقص الظاهر في قوات ومعدات الدفاع الجوي. وذكرت إحصائية عام 1969 وهي :
قام العدو بحوالي 3500 طلعة طائرة لضرب وسائل الدفاع الجوي وقواته وقوات الجبهة. وأمكن للعدو تدمير 2 سرية مدافع 37مم، 10 مدفع ميدان، 19 مدفع مضاد للدبابات. وكانت خسائرنا في الأفراد 16 ضابط + 150 رتب أخرى استشهاد أما الجرحى فكانوا 19 ضابط + 299 رتب أخرى.
وقامت قواتنا الجوية بعدد 2900 طلعة جوية للحماية منها 170 طلعة طائرة هجوم ضد أهداف أرضية، 70 طلعة استطلاع جوي. كما تمت 22 معركة جوية اشتركت فيها 110 طائرة مقاتلة مصرية ضد 130 طائرة إسرائيلية. وكانت خسائرنا 23 طائرة وخسائر العدو 14 طائرة
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه : نترك عزيزي القارئ الجبهة المشتعلة في قناة السويس بالقتال براً وجواً، ونذهب إلى البحار المصرية لنعرف ماذا كان يدور فيها، منذ إغراق المدمرة إيلات في أكتوبر 67 وحتى توقف القتال في أغسطس 1970.
بعد إغراق المدمرة إيلات تفرغت القوات البحرية المصرية لأعمال التدريب ورفع الكفاءة القتالية للوحدات . واستمر هذا الوضع حتى سبتمبر 1969 حين تولي اللواء/ محمد صادق منصب رئيس أركان حرب واللواء/ محمود فهمي قائداً للقوات البحرية. كان الأول يمتلئ حماسة وتصميماً على مهاجمة العدو بأية وسيلة وفى أي مكان، وكان الثاني أشد منه حماسة وتصميماً، فالتقى الرجلان على هدف واحد. وبعد أيام من تولي منصبيهما دارت المناقشات عن كيفية مهاجمة العدو من البحر؟. وتطور النقاش إلى دراسة ثم تخطيط ثم تنفيذ، وقد استغرق ذلك حوالي شهر كامل.
تم اختيار موقعين على ساحل البحر الأبيض شرق بورسعيد بمسافة 40 كيلو متر، لتكديسات وتجمعات شئون إدارية ومخازن وقود في منطقتي بالوظة ورمانة. ووضـع العقيد/ جلال فهمي قائد لواء المدمرات الخطة في سرية تامة بإشـراف قائد القوات البحرية. كانت الخطة " أن تغادر المدمرتان الناصر ودمياط ميناء الإسكندرية في ميعاد مناسب، ثم شرقاً لتعبر أمام البرلس عند الغروب. ثم تلتقي مع لنشات الصواريخ التي ستقوم بواجب الحراسة أمام قاعدة بورسعيد. حتى تصل إلى موقع الضرب أمام الأهداف في الحادية عشر مساءً. وقبل عشر دقائق من وصول المدمرتان إلى نقطة الضرب، يقوم فوج المدفعية الساحلية في بورسعيد بضرب الموقع الإسرائيلي شرق بورفؤاد لمدة عشر دقائق، حتى يتيقن الإسرائيليون أن الضرب من البر من اتجاه بورسعيد. ثم تقوم المدمرتان بقصف الأهداف المخصصة لكل منهما لمدة عشرين دقيقة".
وكان لابد من إبحار المدمرتين على نفس خط السير للعملية عدة مرات، حتى يتعود الاستطلاع الإسرائيلي على وجود المدمرتين في تلك المناطق. وفرضت سرية تامة حتى على أطقم المدمرتين الذين كانوا يؤدون مهامهم على أن أنها ضمن برنامج التدريب السنوي. وتحدد لتنفيذ العملية ليلة 8/9 نوفمبر 1969.. وفى التوقيتات المحددة بدأت المدمرة الناصر بقيادة المقدم بحري أ.ح/ عادل شراكي والمدمرة دمياط بقيادة المقدم بحري أ.ح/ عدلي محمد عطية التحرك حسب ما جاء في الخطة. وبدأت المدفعية الساحلية في بورسعيد قصفها فى الموعد المحدد، ووصلت المدمرتان إلى نقطة الهجوم وقامتا بقصف موقعي رمانة وبالوظة.
انتهى الهجوم وبدأت رحلة عودة المدمرتان. وكما هو متوقع بدأ الطيران الإسرائيلي الظهور بعد 10 دقائق فوق المدمرتين، فألقى القنابل المضيئة وتبعها بالهجوم على المدمرتين. كانت الطائرات الإسرائيلية تهاجم بالقنابل وليس بالصواريخ، وهذا يقلل فرصة إصابة الأهداف خاصة وأنها متحركة. لكن يبدو أن الطائرات الإسرائيلية التي كانت تحت الطلب كانت مخصصة لمهام أخرى. ومما أدى إلى فشل الهجوم الجوي على المدمرتين والذي استمر قرابة الساعتين المناورة التي كان يقوم بها قائدا المدمرتان، علاوة على استبسال أطقم المدفعية م/ط التي استطاعت أن تشتت هجمات الطائرات. وكان المفروض أن تتدخل القوات الجوية بطائرات المقاتلات ميج21 للحماية فوق المدمرتين، لكن الضباب الكثيف كان يغطي قاعدة المنصورة الجوية فمنع إقلاع الطائرات. ولما تأزم الموقف واستمر الهجوم الجوي الإسرائيلي، ألح اللواء/ محمود فهمي على إقلاع أي طائرات لدعم المدمرتين في المعركة. فقام اللواء طيار/ حسنى مبارك باستنفار اثنان من الطيارين فقاما بالإقلاع رغم الظروف الصعبة متجهين إلى مكان المعركة. وما أن ظهرت الطائرات المصرية على الرادار الإسرائيلي, حتى انسحبت الطائرات الإسرائيليـة وعـادت المدمرتان سالمتان، ووصلتا ميناء الإسكندرية في السادسة صباح 7 نوفمبر. وجاءت تقارير رجالنا خلف الخطوط بأن الخسائر كانت شديدة في المعسكرات الإسرائيلية.
ولأن اللواء بحري/ محمود فهمي كان جريئاً ومقداماً يبغي أن يقدم لمصر أغلى الانتصارات، فقد كان يرتب ويجهز لعملية هجومية أخرى ضد العدو في نفس الوقت مع عملية هجوم المدمرتين. وكما يقول هو في مذكراته بأنه توصل إلى أن مصر لديها قوة من أفراد الضفادع البشرية لم تستخدم من قبل، رغم ثقته في كفاءة أفرادها ومستواهم العالي. ولديه معدات وأجهزة للغطس، ولديه ألغام تستطيع أن تدمر السفن. فلا يتبقى إلا تكليف الضفادع البشرية بالمهمة وتوصيلهم بمعداتهم وأسلحتهم إلى مسرح العمليات.
وقام باستدعاء الرائد بحري/ رضا حلمي قائد لواء الوحدات الخاصة، وبادره بأنه يكلفه بضرب وإغراق ثلاث سفن إسرائيلية في ميناء إيلات. وبالتنسيق مع اللواء/ محمد صادق تم إرسال الرائد/ رضا إلى الأردن تحت ساتر أنه ضابط سيقوم بالتفتيش على جهاز مصري موجود في ميناء العقبة الأردني. وهناك التقى بضابط المخابرات المصري الرائد/ إبراهيم الدخاخنى الذي وفر له كل ما يحتاجه بالتعاون مع أفراد منظمة التحرير لاستطلاع ميناء إيلات. وكان للرائد/الدخاخنى دوراً هاماً وحيوياً في استقبال وتحرك وإخفاء وإعاشة أفراد الضفادع البشرية ومعداتهم وأسلحتهم، حيث كانت العمليات تتم دون علم السلطات الأردنية.
وعاد الرائد/ رضا بحصيلة وفيرة من المعلومات والصداقات مع أفراد منظمة التحرير الفلسطينية، فالكل يتعاون على ضرب العدو. وعُرض الموقف على اللواء/ محمود فهمي ووُضعت الخطة وتصدق عليها، وبدأت إجراءات التنفيذ. فتم إرسال المعدات والألغام بصحبة الرائد/ مصطفي طاهر من قوة الضفادع البشرية بطائرة نقل مصرية هبطت في مطار هـ-3 العراقي القريب من الحدود الأردنية، وكان الساتر أن هذه الصناديق والمعدات خاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية. كان ذلك يوم 2 نوفمبر1969 وتولي أفراد المنظمة بالتنسيق مع الرائد/ الدخاخنى مسئولية نقل الصناديق والمعدات إلى داخل الأردن. وغادرت القوة المنفذة القاهرة إلى عمان على دفعتين يومي 3 ، 4 نوفمبر بجوازات سفر مدنية، وأقاموا ثلاثة أيام في عمان دون تحرك لتأمين العملية.
وفجر السابع من نوفمبر تحركت القوة المنفذة من عمان، وتقابلت مع المعدات والألغام في نقطة متفق عليها مع العناصر الفلسطينية. واستأنفت السير بالعربات في طريق جبلي فوصلت في السابعة مساءً قرب منطقة التجهيز. وتم إخراج المعدات وتجهيزها لبدء العملية، لكن التعب كان قد حل بالجميع فقرر الرائد/ رضا تأجيل العملية 24 ساعة. فأخذ الجميع قسطاً من الراحة. وبعد ظهر يوم 8 نوفمبر بدأت المجموعة التحرك نحو البحر سيراً على الأقدام لمسافة 5 كيلو متر.
كان الجو عاصفاً والريح شديدة وحالة البحر سيئة، وكانت الخطة توصيل 3 مجموعات في قارب مطاط (كل مجموعة ضابط + صف ضابط) إلى مسافة 2كم من ميناء إيلات، ثم تقوم المجموعات بالسباحة حتى الهدف ووضع الألغام والعودة سباحة حتى القارب مرة ثانية. وبدأ التحرك رغم الظروف الجوية السيئة وتعطل موتور القارب وتم إصلاحه في العاشرة مساءً. ورغم هذا قرر الرائد/ رضا إكمال العملية فوصل إلى مسافة 2كم من ميناء إيلات ، لكن في الواحدة والنصف صباح يوم 9 نوفمبر.. فكان من المستحيل إتمام العملية حيث يحتاج التنفيذ إلى 6 ساعات في الظلام التام. وهنا قرر الرائد/ رضا أن يستفيد من الموقف فقام باستطلاع الميناء فوصل إلى مسافة 300 متر من أرصفه الميناء. وشاهدت القوة الميناء عن قرب، وتبين عدم وجود أي سفينة حربية داخل الميناء.
وعاد الجميع إلى عمان يملؤهم الغيظ، وقرر الرائد/ رضا أن يعود إلى الإسكندرية لإحضار ما يلزمهم من معدات وقطع غيار. ولما قابل اللواء/ محمود فهمي وحكى له ما حدث كظم غيظه وضيقه وقال له في هدوء ” اذهب ولا تعد إلا وقد انفجرت الألغام الستة التي معك في قلب إسرائيل. إن ثقتي فيك وفى مجموعتك كبيرة". وانصرف الرائد/ رضا مسرعاً متلهفاً على الوصول إلى عمان.
وفى مساء يوم 14 نوفمبر بدأت المجموعة التحرك من عمان، فوصلت بعد رحلة شاقة ومليئة بالمغامرات إلى مكان التجهيز ظهر يوم 15 نوفمبر. وفى الخامسة والنصف مساءً تحرك القارب المطاط بقيادة الرائد/ رضا حلمي ومعه المجموعات الثلاث المكونة من :-
المجموعة الأولى : ملازم أول/ عمر عز الدين ومعه الرقيب/ محمد العراقي
المجموعة الثانية : ملازم أول/ حسنين جاويش ومعه الرقيب/ عادل البطراوى
المجموعة الثالثة : ملازم أول/ نبيل عبد الوهاب ومعه الرقيب/ محمد فوزي البرقوقى
كانت حالة البحر سيئة مثل المرة السابقة، إلا أنهم وصلوا قرب ميناء إيلات في الثامنة تقريبا.ً وفى لحظات كان أبطال مصر الستة في الماء كل منهم يحمل لغمه معه وعلى بعد 2 كيلو متر من الهدف. وفى الحادية عشر مساءً أصبحوا على بعد أمتار من الأهداف. لكن صف ضابط الجماعة الأولى نفذ الأكسجين من جهازه فأمره الملازم أول/ عمر عز الدين بالعودة. وتقدم هو بمفرده لتلغيم السفينة.. وفى دقائق تم تثبيت الألغام الخمسة في أماكنها وبدأت رحلة العودة في الحادية عشر وعشرين دقيقة. لكن بعد أمتار من مغادرة الهدف أشار الرقيب/ البرقوقى إلى الملازم أول/ نبيل عبد الوهاب بالصعود إلى سطح الماء. وبمجرد الصعود اكتشف نبيل أن الرقيب/ البرقوقى قد توفى. فما كان منه إلا أن ألقى بمعدات الغطس ونسى موعد اللقاء مع القارب المطاط المنتظر، ونسى سلامته الشخصية، نسى كل شيء ولم يفكر إلا في أن يعود بالرقيب البرقوقى معه. فرجع إلى الشاطئ سابحا وهو يحمل جثمان الشهيد . فالعملية نجحت ويكتمل النجاح بعودة القوة سالمة ، لكن وكما قال ابن مصر الرائع نبيل عبد الوهاب. "لو تركته لعثرت إسرائيل على جثته وطنطنت بها إعلامياً".
وعادت القوة متفرقة ولم تصل إلى القارب، وهنا جاء دور الرائد/ الدخاخنى الموجود في ميناء العقبة، فاختلق للسلطات الأردنية قصة عن هليكوبتر مصرية أحضرتهم حتى منطقة طابا وأنهم تخلفوا عنها في العودة. وفى الواحدة صباحاً انفجرت خمسة ألغام مصرية في عمق وقلب إسرائيل ، في ميناء إيلات وهوت إلى القاع السفينتين "داليا" و"هدروما".
وفور عودة أبطال مصر والاحتفال بالنجاح والتهنئة وفرحة النصر، بدأ تقييم العملية ودراستها.. الدروس المستفادة والأخطاء لتلافيها مستقبلا ً. فقد كان اللواء/ محمود فهمي مصمم على أن يهاجم سفينتي الإنزال "بيت شيفع" و"بيت يام" بعد أن استخدمتهما إسرائيل في عمليات الإنزال التي كانت تتم في خليج السويس. لكن العدو الإسرائيلي تنبه بعد الإغارة الناجحة على ميناء إيلات فقام بتكثيف الدوريات البحرية في الميناء ليلاً، مع إلقاء عبوات متفجرة كل عشر دقائق لمقاومة أي أعمال للضفادع البشرية مرة أخرى. كما كانت السفينتان تغادران الميناء ليلاً وتعودان في الصباح.
وفى 31 يناير 1970 جاءت رسالة من إدارة المخابرات الحربية إلى قائد القوات البحرية بأن السفينتان بيت شيفع وبيت يام ترابطان في ميناء إيلات لإجراء بعض الإصلاحات. وتلقف اللواء/ فهمي المعلومة بفرحة غامرة، واستدعى على الفور الرائد/ مصطفي طاهر قائد لواء الوحدات الخاصة بالنيابة وأعطاه الأوامر بالاستعداد لمهاجمة ميناء إيلات مرة أخرى وتدمير السفينتين.
وتمت دراسة الخطة سريعاً وتصدق عليها مع تعديل عن المرة السابقة أن تقوم المجموعات بالسباحة من نقطة الانطلاق وحتى الهدف ثم العودة سباحة أيضاً ( مسافة 12 كيلومتر) . وتحرك الرائد/ مصطفي على الفور إلى عمان ومع الرائد/ الدخاخنى تمت دراسة تفاصيل العملية على الطبيعة. ولحقت به المجموعة المنفذة بنفس طريقة المرة السابقة بالطائرة العسكرية التي هبطت في المطار العراقي. وكانت القوة مكونة من مجموعتان :- المجموعة الأولى ملازم أول بحري/ عمرو البتانونى ومعه العريف/ على أبو ريشة المجموعة الثانية ملازم أول بحري/ رامي عبد العزيز ومعه الرقيب/ فتحي محمد أحمد
وتم تجهيز الألغام في المسكن السري في عمان، وتم التحرك إلى مدينة العقبة بالعربات المدنية فوصلوا في الثامنة مساءً. وبعد الإحماء نزل الأفراد إلى الماء. وكان الجو عاصفاً وممطراً والبحر حالته شديدة السوء. وفى منتصف الطريق إلى الهدف أبلغ الرقيب/ فتحي قائد مجموعته رامي عبد العزيز بفقد الوجه الزجاجي الخاص به، فأمره بالعودة إلى نقطة الانطلاق مرة أخرى حيث أنه لن يستطيع الغطس.
واستمر الثلاثة الآخرين في السباحة نحو الهدف. وفجأة ظهر لنش إسرائيلي يقوم بدورية ويلقى عبوات متفجرة لكن قام الثلاثة بالغطس وأفلتوا منه. وعندما بدأت أنوار مدينة إيلات تلوح لهم وتقترب، بدأت العبوات المتفجرة تتوالى حولهم من لنشات الدوريات. كان الميناء في ظلام تام إلا من كشافات قوية على جانب كل سفينة متجهة إلى المياه، حتى تستطيع أن تكشف أي ضفدع بشري يهاجم السفينة. وانفصلت المجموعتان وتوجه رامي عبد العزيز إلى بيت يام وعمرو البتانونى ورفيقه إلى بيت شيفع. وفى الثانية عشر تماماً كانت الألغام ملتصقة بالسفن منزوعة تيل الأمان وجاهزة للانفجار بعد ساعتين. وبدأت رحلة العودة تحت الماء لمدة 15 دقيقة، ثم الصعود إلى السطح. وفى لحظة قدرية يصعد رامي إلى سطح الماء فيلتقي بعمرو البتانونى ورفيقه على بعد مترين منه فيتعانقان فرحة بتنفيذ المهمة.
وتكرر ما حدث في المرة الأولى انفجار هائل في الميناء وفى السفينتين يعقبه صفارات الإنـذار وسرينة الإسعاف والمطافئ. ويصل أبطالنا إلى الشاطئ منهكين بعد سباحة 12كم متواصلة ويسلموا أنفسهم إلى السلطات الأردنية وتتكرر قصة الرائد/ الدخاخني عن الطائرة الهليكوبتر التي فاتهم اللحاق بها.
ولما كان اللواء/ محمود فهمي يعيش معركة مصر ليل نهار، فقد كان النصر يسعى إليه دوما. فجاءته العملية الرابعة دون سعى منه. "في أحد أيام شهر فبراير 1970 استدعاني وزير الحربية الفريق أول/ فوزي وقال لي : أن هناك مهمة يكلفك بها الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً.. وتتلخص هذه المهمة في أنه وردت معلومات بأن إسرائيل قد اشترت حفار للبترول من كندا، وفى نيتهم إحضاره إلى خليج السويس للتنقيب عن البترول فيه وقد أمر الرئيس عبد الناصر بأن أخطرك أنه يكلفك شخصياً بمهمة تدميره خارج البحر الأحمر أو داخله، ولكنه لابد وأن يدمر قبل وصوله إلى خليج السويس".
وبدأ التنسيق الفوري مع مكتب الرئيس عبد الناصر ومع المخابرات العامة، فتبين أن الحفار يقوم بقطره أحد لنشات القاطرة الهولندية ويقوم بحراسته أفراد من البحرية الإسرائيلية، موجود الآن في ميناء داكار بالسنغال وسيظل هناك ثلاثة أسابيع لإجراء بعض الإصلاحات. وتم تكليف الرائد بحري/ خليفة جودت قائد لواء الوحدات الخاصة في هذا الوقت بالمهمة. فانطلق بهذا التكليف واجتمع على الفور مع الفنيين لدراسة وحساب كمية المفرقعات اللازمة، وعدد الألغام، وأنسب الأماكن لوضعها بالحفار. وتم التنسيق مع المخابرات العامة على كيفية نقل أفراد الضفادع وتوصيلهم حتى داكار.
وسارت الأمور كما جاء في الخطة ووصلت الألغام والمعدات والأفراد إلى داكار، ولم يبق سوى الاستطلاع والهجوم. وإن كان السفير المصري هناك غير موافق على العملية بل طلب من وزارة الخارجية إيقاف العملية. للحفاظ على العلاقات بين مصروالسنغال.
وبينما مجموعة الضفادع في اليوم التالي للوصول تقوم بتجهيز معداتها والرائد/ خليفة يقوم بتلقين الأفراد السبعة بكيفية الهجوم ودور كل منهم، جاء الخبر بأن الحفار خرج من ميناء داكار إلى البحر. فكانت الصدمة والحسرة للجميع عدا السفير.
وعاد الرائد/ خليفة ومعه مجموعة الضفادع البشرية إلى مصر مرة أخرى، في انتظار دخول الحفار إلى أحد الموانئ لاصطياده فيها. ومرت عشرة أيام طويلة وثقيلة حتى جاءت المعلومة بأن الحفار دخل ميناء أبيدجان في ساحل العاج. وفى اليوم التالي مباشرة غادرت المجموعة الأولى. الرائد بحري/ خليفة جودت وملازم أول بحري/ حسنى الشراكى وملازم أولبحري/ محمود سعد والرقيب/ أحمد المصري مطار القاهرة إلى باريس ثم إلى أبيدجان. وتم إرسال المعدات رأسا إلى أبيدجان أما الألغام فقد حمل كل منهم واحد في حقيبته.
وصلت المجموعة أبيدجان في مساء 7 مارس وكان في استقبالهم السفير إحسان طلعت ومندوب المخابرات العامة العقيد/محمد نسيم، اللذان قدما قدراً كبيراً من الجهد ساعد في إنجاح العملية. كان نسيم جاهزاً بالخريطة الخاصة بالميناء ومكان الحفار ونقطة الانطلاق للهجوم وحركة السفن، وأن الحفار سيغادر أبيدجان يوم 8 أو9مارس على أكثر تقدير. وعلى هذا قرر الرائد خليفة/ تنفيذ العملية في نفس الليلة، دون انتظار للمجموعة الثانية التي ستصل صباح يوم 8 مارس حتى لا يفلت الحفار منهم مرة ثانية. وأسرع في العاشرة مساءً إلى الميناء لعمل الاستطلاع اللازم ثم عاد إلى الفندق لتجهيز الألغام وضبط توقيت انفجارها. وفى الثالثة صباح يوم 8 مارس انطلق السفير ليقود سيارته حاملاً مجموعة الضفادع إلى منطقة الميناء. وفى الرابعة والنصف صباحا انطلق الملازم أول/ محمود سعد وهو يحمل لغمين والملازم أول/ حسنى الشراكى يحمل لغماً والرقيب/ محمد المصري يحمل اللغم الرابع. واستغرق الوصول إلى الحفار نصف ساعة سباحة، وتم تثبيت الألغام الأربعة ونزع تيل الأمان على أن يتم الانفجار بعد ثلاث ساعات. وفى أثناء التنفيذ ظهر في منطقة العملية اثنان من الوطنيين لكن الرائد/ خليفة استطاع التصرف وأبعدهم عن المنطقة حتى لا تكتشف العملية.
وعادت المجموعة إلى السفارة وتم ارتداء الملابس المدنية على عجل، وفورا إلى الفندق ثم إلى المطار الذي وصلوه في الثامنة صباحاً. كان في انتظارهم سكرتير السفارة بالجوازات وتذاكر السفر. وأبلغهم نسيم وهم في المطار بأن الألغام انفجرت وأنه سمع صوتها من الفندق الذي يبعد 7 كيلو متر عن الميناء. وفى نفس الوقت كانت المجموعة الثانية تصل إلى مطار أبيدجان وكان السفير في استقبالهم فما كان منه إلا أن أعادهم على نفس الطائرة التي أحضرتهم بعد أن طمأنهم بأن العملية قد نفذت بنجاح.
ولم يكن من الممكن الإعلان عن العملية فتكتمت مصر ما حدث.. إلا أن إسرائيل كانت واثقة تماماً خاصة بعد ظهور بعض القرائن أن من قام بهذا العمل الجريء هم المصريون الذين أصبحوا يضربونها داخل وخارج إسرائيل. وفى أول اجتماع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة شكر الرئيس عبد الناصر اللواء بحري/ محمود فهمي وقاله له "أطلب ما تشاء" فكان رده هو طلب تحديث الوحدات البحرية ودعمها بأجهزة متطورة في مجال الحرب الإلكترونية والإعاقة والشوشرة.
أسفر الهجوم الثاني الذي تم على ميناء إيلات عن غرق السفينة بيت يام، أما بيت شيفع فقد أصيبت فقط وتم إصلاحها. وكانت تخرج من ميناء إيلات ليلاً وتعود إليه في السادسة صباحاً تحسباً لأي هجمات أخرى من الضفادع البشرية المصرية. ولأن اللواء/ محمود فهمي كان مصمماً على إغراق هاتين السفينتين، فقد أمر لواء الوحدات الخاصة بمهاجمة ميناء إيلات للمرة الثالثة وتدمير السفينة بيت شيفع. لكن ولأنها لا ترسو في الميناء ليلاً ولا يمكن مهاجمتها بالنهار، فكانت الخطة أن يتم تلغيم رصيف الميناء في الواحدة صباحاً توقيت الانفجار بعد 12 ساعة، فتكون بيت شيفع في الميناء ويتحقق المطلوب. وبنفس طريقة المرات السابقة مساء يوم 14 مايو 1970 قامت المجموعتان :
ملازم أول بحري/ عمر عز الدين ومعه الرقيب/ على أبو ريشة
ملازم أول بحري/ نبيل عبد الوهاب ومعه الرقيب/ فؤاد رمزي
وبعد أن أفلتوا من الدوريات البحرية الإسرائيلية والعبوات المتفجرة التي كانت كثيفة عن المرات السابقة، وبعد جهد كبير في الوصول إلى الرصيف، وضعوا الألغام على مسافة ثلاثة أمتار من حائط الرصيف حتى لا تكتشف. وعاد الأبطال الأربعة سباحة سالمين إلا من بعض إصابات في الأذن من جراء العبوات المتفجرة، وسلموا أنفسهم إلى السلطات الأردنية التي استقبلتهم أحسن استقبال. لكن العملية لم تحقق المطلوب، فقد انفجرت الألغام قبل الموعد المحدد بخمس ساعات تقريبا، لبدائية أجهزة التوقيت الروسية، كما أن بيت شيفع تأخرت في الوصول إلى الميناء فلم يصيبها شيء من هذه الألغام.
وفى أثناء تنفيذ الهجوم على ميناء إيلات للمرة الثالثة، كان الاستطلاع البحري قد رصد سفينة إسرائيلية شمال بحيرة البردويل تقوم بأعمال التنصت والاستطلاع . فأصدر اللواء / محمود فهمي أوامره بمهاجمتها وإغراقها. وفى مساء 13 مايو تمكن لنش صواريخ بقياد الرائد/ مجدي ناصف أن يغرق السفينة الإسرائيلية (أوريت) شمال بحيرة البردويل.وقد اعترفت إسرائيل بإغراقها وإن ادعت بأنها سفينة أبحاث
وقبل أن نختتم هذا الجزء لابد وأن نذكر بأن اللواء بحري/ محمود فهمي كان ما يشغله ليل نهار هو كيفية الوصول إلى العدو وتكبيده الخسائر. فذو الحسي الوطني العالي لمثل هذا الرجل كان لابد وأن يجهز للمعركة الكبرى القادمة ، وقرر أن الهجوم في هذه المعركة سيكون على ميناء حيفا. فقام في عام 1972 قبل إحالته إلى التقاعد بشهور بإرسال الرائد/ خليفة جودت إلى لبنان، لتجهيز منطقة انطلاق للضفادع البشرية حتى تقوم بمهاجمة ميناء حيفا الإسرائيلي عند بدء العمليات. وتم تشوين المعدات والأجهزة الخاصة بالغطس. وتمت عمليات استطلاع ودراسة للميناء وبناء عليها تم تدريب أفراد الضفادع البشرية على مهمة مهاجمة ميناء حيفا في منطقة رشيد. لكن لم يتم هذا في حرب أكتوبر ولا ندري ما هي الظروف التي حجبت هذا الهجوم. كما يذكر إن في عهد هذا القائد الشجاع قامت البحرية المصرية بإرسال خمس رحلات استطلاع بالغواصات. كانت الرحله تقوم بها غواصة واحدة لمدة 15 يوما أمام الشواطئ الإسرائيلية، تقوم فيها بجمع المعلومات عن رادارات العدو وأجهزة الإنذار البحرية وأسلوب التشغيل وتوقيتات العمل . وتمت هذه الرحلات كلها بنجاح تام.
إن تاريخ العسكرية المصرية يشرف بأن يكون أحد أبناؤه اللواء بحري/ محمود فهمي الذي أعطى لمصر كثير من الانتصارات، وللبحرية المصرية فخر وشرف ستباهى به طوال أيامها المقبلة.
الفصل الرابع: تصعيـد إسرائيـل .. ورد مصر
وأخيراً .. تحرك الدب السوفيتي
في يناير 1970 بلغت حرب الاستنزاف مرحلة شديدة الحرج لكل من مصر وإسرائيل. فخسائر إسرائيل البشرية مستمرة وبأرقام كبيرة في القتلى والجرحى، نتيجة الهجمات المصرية التي شملت البر والبحر والجو. كانت الأرقام تصيب الشعب الإسرائيلي بإحباط شديد، فبدأت الثقة في الحكومة والجيش الإسرائيلي تهتز. كما وضح أمام قادة إسرائيل أن غارات العمق في صعيد مصر والبحر الأحمر بواسطة الكوماندوز لم تأت ثمارها، وأن الشعب المصري لم يثور على قيادته.
فكان لابد من الدخول في مرحلة جديدة من الاستنزاف، لزيادة الضغط على الشعب المصري ودفعه إلى الثورة على قيادته لإيقاف حرب الاستنزاف. ودارت مناقشات في رئاسة الأركان الإسرائيلية، وكان الرأي هو تصعيد القصف الجوي ليكون على أهداف في عمق مصر. وبحثت الحكومة الإسرائيلية الأمر خاصة الموقف السوفيتي والأمريكي. واستقر الرأي على أن الدولتين لن يكون لهما ردود فعل حادة. وفى 6 /ا/1970 وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على قصف العمق المصري وسميت بالخطة "بريما".
ولما تعين شارون قائداً لجبهة سيناء في ديسمبر 1969 كانت أهم مطالبه تركيز الهجمات الجوية وبشكل مكثف على قناة السويس، لتدمير شبكة الدفاع الجوي في الجبهة، ليسمح للطيران الإسرائيلي بالعمل في حرية تامة، ويصبح الطريق إلى عمق مصر آمنا.ً
وفى7 يناير1970 بدأ توغل العدو الإسرائيلي في غاراته داخل العمق المصري، فقامت طائراته بمهاجمة أهداف عسكرية قريبة من القاهرة في مناطق المعادي وأنشاص ودهشور. وتكررت الغارات على أهداف مدنية، كان أكبرها التي تمت على مصنع أبو زعبل وعلى مدرسة بحر البقر. وكان توقع اسرائيل في محله فقد التزمت روسيا بالإدانة فقط والرفض السياسي للغارات، بينما دعمت امريكا هذه الغارات. وفى هذا يقول رابين سفير إسرائيل في أمريكا "أراد سيسكو أن يقف على ما يدور فاستدعاني إلى مأدبة غداء في 13 يناير، وطلب مني تقييم الموقف العسكري في حرب الاستنزاف. قلت : أننا نعيش الوضع العسكري وليس فقط بناء على حجم النشاطات وإنما أيضاً بناء على نتائجها. فكلما قلت خسائرنا في الأرواح، كلما كان أفضل. وإنني أشعر أننا كلما ضربنا مصر في عمق أراضيها كلما تحسن الوضع العام. إنك تعلم بأنه نفذت عمليتان جويتان في عمق الأراضي المصرية. فقد قصفت طائراتنا أهداف عسكرية قرب القاهرة. صمت سيسكو ولم يتفوه بنبت شفه. هل هو اعتراف صامت ؟ إنني واثق من ذلك".
وتسلمت مصر رسالة إسرائيلي لكنها قبلت التحدي ولم يتزعزع إيمانها باستكمال حرب الاستنزاف. فتم عمل خطة فورية للانتشار خاصة الوحدات التي يمكن أن تعلو فيها الخسائر من جراء هذه الهجمات. فتم نقل الكليات الحربية إلى السودان، وضباط الاحتياط إلى صعيد مصر، والجوية والبحرية إلى ليبيا. وقرر الرئيس عبد الناصر التوجه فوراً إلى الاتحاد السوفيتي في زيارة سرية في الفترة 22-25 يناير 1970.
ويقول الفريق أول/ محمد فوزي الذي صحب الرئيس في رحلته "كان أهم لقاء تم مع القادة السوفيت منذ عام 1967. إذ تعمد الرئيس عبد الناصر تصعيد المباحثات وتوتيرها، لدرجة أنه هدد أمام القادة السوفيت بترك الحكم لزميل آخر يمكنه التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية. إذ إن الشعب المصري يمر الآن في مرحلة حرجة فإما أن نسلم بطلبات إسرائيل أو نستمر في القتال.. وإن دفاعنا الجوي في الوقت الحاضر لا يتمكن من منع غارات إسرائيل على العمق المصري. واسترسل الرئيس عبد الناصر في طلب وحدات كاملة من الصواريخ سام-3 بأفرادها السوفيت وأسراب كاملة من الميج21 بطيارين سوفيت، وأجهزة رادار متطورة للإنذار والتتبع بأطقم سوفيتية. وبرر عبد الناصر طلبه هذا بأن الزمن ليس في صالحنا، لأن تدريب الطيارون والأطقم المصرية على الأسلحة الجديدة سوف يستغرق وقتاً طويلاً. كرر الرئيس طلب طائرة قاذفة لردع إسرائيل لأن مدى عمل طائراتنا المقاتلة القاذفة لا يمكنها من الوصول إلى عمق إسرائيل مثل طائرات سكاى هوك والفانتوم التي تضرب عمق مصر حالياً.
ولما كان طلب الرئيس عبد الناصر لا يمكن إجابته إلا بموافقة مجلس السوفيت الأعلى. فقد وعد الرئيس بريجينيف بالعمل بسرعة لإجابة طلب الرئيس عبد الناصر. وفى اليوم التالي لهذا اللقاء المتوتر دُعي الوفد المصري لجلسة مباحثات صباح 25/1/1970. حيث قرر الرئيس بريجينيف أمام الحاضرين موافقة اللجنة المركزية ومجلس السوفيت الأعلى على طلب الرئيس عبد الناصر وقال أنها أول مرة يخرج فيها جندي سوفيتي من الاتحاد إلى دولة صديقة منذ الحرب العالمية الثانية" .
وتقرر إمداد مصر بالآتي :
• فرقة كاملة دفاع جوي من صواريخ سام-3 بكافة معداتها وأجهزتها وأفرادها.
• 3 لواء جوي مقاتلات (95 طائرة) ميج21 متطورة بطيارين سوفيت.
• 4 جهاز رادار ب-15 لرفع كفاءة الإنذار الجوي.
على أن تقوم مصر بإنشاء المواقع والتحصينات والمرافق اللازمة للمعدات في الأماكن التي تخططها القيادة العسكرية المصرية. وقد تعهد الفريق أول/ فوزي بتجهيز المواقع خلال 40 يوم. كما اتفق على أن يكون تواجد الوحدات السوفيتية مؤقتاً لحين استكمال تدريب الكتائب المصرية، عندئذ يعود الأفراد السوفيت إلى وطنهم.
لا شك أن القرار السوفيتي كان مؤثراً وحيوياً في الصراع المصري - الإسرائيلي. فقد دعم هذا القرار قدرات الدفاع الجوي المصري القتالية، كما تفرغ الطيارون المصريون للعمل في جبهة قناة السويس. لكن ما نتوقف أمامه هو أن هذا القرار جاء بعد أكثر من 300 يوم قتال مرت في حرب الاستنزاف. كما نتوقف أيضاً وبأهمية شديدة أمام طلب الرئيس عبد الناصر لطائرة مقاتلة قاذفة تستطيع أن تصل إلى عمق إسرائيل.
فنذّكر أن هذا الطلب ذكره الرئيس شخصياً مع الجانب السوفيتي في اجتماعات يونيو 1967. وتكرر الطلب مراراً لكن دون جدوى. وحتى حين وافقت روسيا على إرسال قواتها إلى مصر وهو أمر هام حقاً، لم توافق على إرسال طائرة تستطيع الوصول إلى عمق إسرائيل. لم يكن هذا الرفض عن حذر أو بطء في القرار كما كان يقال دائما، وإنما هي النظرة السوفيتية إلى الصراع في الشرق الأوسط. فالدعم السوفيتي لمصر يقف عند حد الدفاع وفقط، أما الدعم بأسلحة هجومية تطول عمق إسرائيل فمرفوض تماماً. ولو استعرضنا تاريخ العلاقة المصرية - السوفيتية سنجد الكثير من المواقف التي تؤكد هذا.
ولن نتكلم عن الفترة قبل 1967 رغم إن فيها الكثير مما يقال.. لكن سنذكر ما بعد هزيمة يونيو. فقد أمدت روسيا مصر بطائرات القتال الرئيسية (ميج21- ميج17 – سوخوى7 ). والطائرة الميج21 طائرة قتال اعتراضيه على الارتفاعات العالية ،لكن الطيارون المصريون خاصة قادة الأسراب باجتهاد شخصي منهم ، بدراسة الطائرة وبعد تجارب عديدة ومحاولات، وبالتجربة والخطأ، نجحوا في الوصول إلى أفضل استخدام وأنسب تكتيك لمجابهة الطائرات الإسرائيلية. واكتشف الطيارون المصريون شكل المناورة التي يتبعونها في الاشتباكات مع مقاتلات العدو. خاصة المناورة بالسرعة المنخفضة التي كان يُحرّمها الخبراء السوفيت على الطيار المصري. كان هذا التحريم نتيجة أن السوفيت قد صنعّوا الطائرة الميج21. لكنهم لم يقاتلوا بها في آي معارك، فكان هذا يعطى للطيار المصري أفضليه نتيجة خبرته القتالية على الطائرة.
أما الميج 17 والسوخوى7 فقد نجح الطيارون والمهندسون المصريون في إضافة قدرات وإمكانات للطائرة، فتم زيادة حمولة السوخوى7 من الوقود، وتم إضافة 2 قنبلة 100 كجم للطائره ميج17 ..كما ابتكر الطيارون أسلوب مخالف للأسلوب السوفيتي في قذف القنابل حقق نتائج باهرة، وتدرب الطيارون على مهاجمة الأهداف من عدة اتجاهات مما يشتت الدفاعات الجوية حول الموقع.
صواريخنا تقطع الذراع الطويلة
واجه الدفاع الجوي المصري طوال النصف الثاني من عام 1967 جميع صور الهجمات الجوية المعادية. الطائرات الإسرائيلية تقوم باختراق الجبهة للاستطلاع وتحديد أماكن الأهداف الحيوية، ولمعرفة رد فعل الدفاع الجوي، واختبار عمل كتائب الصواريخ في ظل التشويش والإعاقة الإلكترونية. ثم بعد ذلك الهجوم المستمر على مواقع كتائب الصواريخ ووحدات المدفعية المضادة للطائرات، والذي اشتد حتى بلغ 800 طلعة خلال الشهر.
" بلغ التركيز في القصف الجوي قدرا كبيراً من المبالغة في تدمير المواقع، وصل إلى استخدام وزن متفجرات يكفى لتدمير خمسة مواقع ضد موقع واحد. فقد ألقيت على أحـد المواقع لا تتجاوز أبعاده 300×300 متر حوالي50 قنبلة ( 15 طن) من المتفجرات بينما المعدل الكافي لتدمير مثل هذا الموقع لا يتجاوز 3 طن من المتفجرات"( ).
كان كل ما لدينا في جبهة قناة السويس 6 كتائب صواريخ سام-2 لم تستطيع الصمود أمام عنف الغارات الإسرائيلية، فتم سحبها للخلف وألقى عبء الدفاع الجوي عن قوات الجبهة على عاتق وحدات المدفعية المضادة للطائرات. وقد جرت محاولة في شهر ديسمبر لإدخال بعض كتائب الصواريخ، لكن تم مهاجمتها بعدد 180 طلعة طائرة على مدى 8 ساعات، فعادت مرة أخرى إلى الخلف.
وانتهى عام 1969 بدمائه وشهدائه وميزان القوى يميل بوضوح إلى جانب إسرائيل. لكن الدماء والشهداء لم تذهب هدراً فقد تجمع لدى مصر حصيلة هائلة من الخبرات والتجارب. فالحرب أصدق مدرسة لتعليم الحرب. كما أن دماء الشهداء والزملاء أطلقت روح التحدي لدى المقاتل المصري. وانفجر في داخله إصرار وعزم جعلته يبدع حلولاً للمشاكل كانت تبدو مستعصية على الحل، مثل مشكلة التشويش، والاشتباك مع الطائرات على ارتفاع منخفض، والوقت اللازم لتنفيذ الاشتباك.
عاد الرئيس جمال عبد الناصر من رحلته السرية إلى موسكو، واجتمع بمجلس الوزراء في اليوم التالي. وكان موضوع الاجتماع الرئيسي هو بناء مواقع الصواريخ سام-3 وعددها "150 موقع ومثلها للمواقع التبادلية ومثلها للمواقع الهيكلية.. كما أن الخطة تستوجب إزاحة هذا التجميع الذي أخذ شكل مستطيل مغلق واجهته بطول 100كيلو متر من القنطرة شمالاً حتى جبل عتاقة جنوباً وبعمق 30كم" وأن يتم هذا في خلال 40 يوماً. لهذا تقرر اشتراك جميع شركات المقاولات للبناء والتشييد والطرق من القطاع العام والخاص. وتم تخصيص جميع خامات الإنشاء اللازمة، وتكليف مئات المهندسين وآلاف العمال من الرجال والنساء لإنجاز المهمة في الوقت المحدد. ووضعت الخطط ومعدلات التنفيذ والرسومات الإنشائية في إدارة المهندسين العسكريين التي كانت كخلية نحل طوال 24 ساعة تحت قيادة أحد أبناء مصر العظام اللواء مهندس/ جمال محمد على، الذي حمل على عاتقه كل هذا الجهد، ثم فاجأ العالم أجمع بعملية عبور القناة 1973 .
لم يكن صعباً على إسرائيل أن تكتشف النوايا في إنشاء حائط الصواريخ في الجبهة، وانهالت تصريحات قادة إسرائيل فقال موشى دايان "إن معركتنا سوف نكسبها فوق سماء القاهرة" مشيراً إلى أن الغارات على العمق المصري ستجعل الشعب المصري ينهار. ثم استطرد قائلاً "علينا ألا نسمح لمصر أن تقيم نظام دفاع جوي بصواريخ سام غرب القناة وإننا قبلنا التحدي". كما قال بارليف رئيس الأركان "إن صواريخ سام ليست دفاعية، وإن مجرد إقامة هذه الصواريخ سيعطى مصر قوة هجومية، وسيخلق لديها شعور بالحرية لفعل ما تريد".
كانت تصريحات قادة إسرائيل تنزل إلى الواقع في شكل مئات الطائرات التي تهاجم وتقصف مواقع البناء بآلاف القنابل والصواريخ. "ففي شهر مارس 1970 وجهت إسرائيل 116 هجمة جوية ضد العاملين في إنشاء هذه المواقع، وفى شهر أبريل تعرض هؤلاء الأبطال إلى 103 هجمة جوية إسرائيلية" .. ونتيجة لهذه الهجمات استشهد مئات من أبناء مصر واختلطت دماء العمال من الرجال والنساء بدماء الضباط والجنود ثمناً لتحرير الأرض. كانت وحدات المدفعية المضادة للطائرات والرشاشات تحاول باستماتة أن تقلل من أثر هذه الغارات. ورغم ذلك صمم العاملون في البناء على إنجاز المهمة، فهروباً من القصف الجوي الإسرائيلي تقرر العمل ليلاً تحت أضواء المصابيح، ومع ذلك كانت طائرات العدو تقوم في صباح اليوم التالي بقصف ما تم إنشاؤه قبل أن يجف.
وفى 9 أبريل 1970 عقد اجتماع ضم الرئيس جمال عبد الناصر والفريق أول/ فوزي وزير الحربية والفريق/محمد صادق رئيس الأركان واللواء/ محمد على فهمي قائد الدفاع الجوي ومعهم 4 من قادة كتائب الصواريخ المقرر دفعها للجبهة. وشرح اللواء/ فهمي الموقف في الجبهة، ثم تبعه الرئيس الذي وجه حديثه إلى قادة الكتائب ليعرف رأيهم الصريح في دخولهم إلى الجبهة. وتحاور القادة الأربعة مع الرئيس وشرحوا له كافة التفاصيل التي تتعلق بتنفيذ دخولهم. وتناقش معهم الرئيس، وفى النهاية كان قراره تأجيل دخول الكتائب على أن يعقد مؤتمر تالي بعد أسبوع.
عقد الاجتماع التالي في 16/4/1970 "وبدأ الرئيس عبد الناصر الاجتماع بعرض المشكلة قائلاً أنه لا يمكن السكوت على الاعتداءات المتكررة التي يمارسها الطيران الإسرائيلي. ولابد من إيجاد وسيلة للرد عليه، ثم تحدث عن خبرة القتال في فيتنام، وكيف واجهت صواريخ سام-2 الطائرات الأمريكية. ثم أدار حوار مع قادة الكتائب حول إمكانية تنفيذ كمائن بكتائب الصواريخ لاصطياد طائرات العدو. وانتهى الاجتماع في الثانية صباحاً بعد إقرار موضوع الكمائن كحل مؤقت" .
كانت فكرة الكمين تتلخص في دفع كتيبة صواريخ سام2 ليلاً، تقوم بالتمركز على الجبهة في أحد الأماكن المحتمل اقتراب طائرات العدو منه، ثم إطلاق الصاروخ علي الطائرة، والتحرك فوراً إلى الخلف. كانت الفكرة بسيطة لكن تنفيذها كان شديد الصعوبة خاصة وأن كتيبة سام-2 بها مجموعة ضخمة من الأجهزة والمقطورات والهوائيات كبيرة الحجم وثقيلة الوزن. إضافة إلى الكوابل التي تربط كل هذه المعدات.
كان المطلوب فك كل هذه المعدات وتحميلها على عربات وجرارات، ثم التحرك وإعادة تركيبها في مكان الكمين مرة أخرى. وبعد إطلاق الصاروخ والاشتباك مع العدو، يتحتم فك المعدات وتحميلها بسرعة حتى لا تتعرض لهجوم جوي بعد اكتشاف موقعها. لكن بالتدريب والتصميم نجح رجال الفاع الجوي في تقليل زمن التجهيز والاشتباك إلى مستوي غير مسبوق.. مثال ذلك أن زمن فك معدات الكتيبة المقرر من السوفييت هو 6 ساعة. لكن بجهد المقاتل المصري وصل الزمن إلي 45 دقيقة.. وكان هذا مؤشراً طيباً أعطى القيادة الأمل في نجاح الفكرة.. وبعد أسبوع من القرار في يوم 23/4/1970 تحركت مساءً أول كتيبتين لتنفيذ فكرة الكمائن.
وعند الفجر كانت الكتيبتان جاهزتان. وبعد فترة انتظار قصيرة ظهرت الطائرات الإسرائيلية، وأطلقت كل كتيبة صاروخ فسقطت أول طائرة إسرائيلية. وعلى الفور عادت الكتيبتان بعد نجاح المهمة. ولما كان النجاح يولد النجاح فقد تسابقت الكتائب توالت الكمائن وتوالى إسقاط الطائرات الإسرائيلية. ووصلت نسبة نجاح الكمائن إلى 72%. ونتيجة لهذا أصبحت الغارات الإسرائيلية على الجبهة تتم بحذر بالغ فضعف تأثيرها وانخفضت خسائرنا من هذه الغارات.
ونجحت الكمائن في إسقاط بعض طائرات العدو، ولكن الهدف كان إنشاء تجميع للدفاع الجوي على طول الجبهة متماسكاً تغطي فيه كتائب الصواريخ قوات الجيش الثاني والثالث. وبعد دراسات عديدة استقر الرأي على أن يتم تحرك هذه الكتائب على انساق. بحيث تتحرك كتائب النسق الأول في اتجاه القناة وتحتل مواقعها تحت حماية النسق الخلفي، ثم بعد ذلك يتم تحرك النسق الخلفي في وثبة واحدة نحو القناة ويحتل مواقعه أمام النسق الأول الذي ينقلب إلى نسق خلفي. ويتم التعاون بين النسقين بالنيران ويكوّن النسقان معا تجمعاً متماسكاً. لم يكن الأمر سهلاً في التنفيذ، فتحرك 24 كتيبة صواريخ يعني حجماً ضخماً من المعدات والقوات، يستلزم تجهيزات ميدانية للكتائب وتجهيز مراكز قيادة وسيطرة، ووسائل اتصال بين مراكز القيادة والكتائب، وتمهيد طرق ومدقات، وإنشاء مواقع هيكلية لخداع العدو عن الأماكن الحقيقية.
كـان من الضروري أن يتم هذا التحرك واحتلال المواقع في ليلة واحدة. وفـى ليلـة 28/29 يونيو1970 بدأ تحرك النسق الأول، وأثبت رجال الدفاع الجوي أنه لا مستحيل أمامهم. ففي صباح يوم 29 يونيو كانت الصواريخ والمدفعية م/ط المصاحبة لهـا في مواقعها وجاهزة للاشتباك. ولم يشعر العدو الإسرائيلي بهذا التحـرك طـوال يـوم 29. وفى ليلة 29/30 يونيو كانت الوثبة الثانية تتم بنجاح مذهل. وفى صباح يوم 30 يونيو كان هناك تجميع دفاع جوي متماسك قوى على مسافة 30كم غرب القناة. وأصبح الموقف مختلف تماماً على الجبهة.
وفى العاشرة والنصف صباح يوم 30 يونيو قامت إسرائيل باستطلاع جوي فوق الجبهة، والتقطت الصور الجوية التي أظهرت ما قامت به مصر. وأعطت المواقع الهيكلية التي كانت تملأ الجبهة صورة أكبر لحجم الدفاع الجوي الجديد. وتأخر الرد الإسرائيلـي فقـد قام في السادسة مساء30 يونيو بهجوم على أطراف حائط الصواريخ بواسطة 24 طائرة.
لكن التجميع الجديد كان متماسكاً يغطي بعضه البعض بالنيران، ونجح قادة الألوية في إدارة المعركة ونجحت الكتائب في إسقاط 2 طائرة فانتوم و2 طائرة سكاى هوك، كما أسرت ثلاث طيارين إسرائيليين. وكانت هذه أول مرة تسقط طائرة فانتوم بالصواريخ المصرية. وفى صباح يوم 1 يوليو حاول العدو استطلاع الموقف مرة أخرى بطائرة استطلاع في حماية المقاتلات, لكن كتائب الصواريخ أطلقت صاروخ واحد على طائرة الاستطلاع التي فرت شرقاً ومعها باقي طائرة الحماية.
وفى يوم 4 يوليو حاول العدو الإسرائيلي مهاجمة كتائب الأطراف مرة أخرى، وقبل أن تبدأ طائرات العدو هجومها أسقطت صواريخنا طائرة فانتوم، ففرت باقي الطائرات إلى الشرق. وفى يوم 5 يوليو حاول العدو تكرار المحاولة ونجحت صواريخنا في إسقاط طائرة فانتوم وطائرة سكاى هوك. وهنا توقف العدو الإسرائيلي عن مهاجمة كتائب الصواريخ. وأعطى هذا الفرصة لمصر لتدفع بصواريخ أخرى من العمق، كما نشطت أعمال الكمائن مرة أخرى، وحتى وقف إطلاق النيران أعلنت مصر أنها أسقطت 16 طائرة إسرائيلية. لكن مجلة أفييشن ويك الأمريكية المختصة بشئون الطيران نشرت في نوفمبر 1970 "حصر لخسائر إسرائيل خلال الفترة من 30 يونيو حتى 7 أغسطس 1970 قالت فيه أن عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطهـا الدفـاع الجـوي بلغ 17 طائرة تم تدميرها بينما أصيبـت 34 طائرة أخرى" .
في بداية أغسطس 1970 كانت مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار قاربت على التنفيذ من شروطها أن لا يحاول أي طرف دعم قواته الحالية بأي قوات إضافية بعد سريان وقف إطلاق النار. وقبل أن يبدأ التنفيذ بساعات، قامت مصر بدفع تجميع الصواريخ إلى مواقع متقدمة غرب القناة مباشرة ودعمه بكتائب إضافية من العمق. وبهذا امتدت مظلة الدفاع الجوي إلى 20 كيلو متر شرق القناة انتظاراً للمعركة الكبرى القادمة.
لقد أثبتت ملحمة بناء حائط الصواريخ المصري أن في مصر رجال قادرين على بذل الأرواح والدماء والعرق في سبيل هذا الوطن. إن الرجال الذين نجحوا في بناء حائط الصواريخ تحت قصف القنابل والصواريخ يقفون جنباً إلى جنب مع آباءهم بناة السد العالي وأجدادهم بناة الأهرامات.
الجيش الإسرائيلي يترنح
حفل عام 1970 (يناير – أغسطس) بأحداث متلاحقة يتأرجح ميزان النصر فيها بين مصر وإسرائيل. فحين بدأت إسرائيل في اختراق العمق المصري ومهاجمته، بدا في أول الأمر أن الضربات الجوية ستجعل مصر تتراجع عن حرب الاستنزاف، لكن هذا الهجوم استنفر في مصر كلها التحدي والتصميم الذي يقهر المستحيل، فأمكن بناء حائط صواريخ على جبهة القناة كان بداية انحسار السيادة الجوية لإسرائيل فوق الجبهة. وبالتوازي مع هجمات العمق، حاولت إسرائيل توجيه ضربات أخرى حتى تفقد مصر الأمل تماماً في إمكانها مواصلة حرب الاستنزاف.
فى 17 يناير 1970 قام العدو الإسرائيلي بعملية إبرار بالهليكوبتر غرب مدينة السويس حيث هبط من الطائرة عربة جيب تحمل 9 جنود كوماندوز لمهاجمة أحد محطات ضخ البترول، لكن عند اقترابهم من الهدف تصدت لهم نيران الرشاشات والأسلحة الصغيرة من قوات الدفاع الشعبي التي كانت تحمى المحطة، ولما اكتشف العدو أن المحطة عليها حراسة انسحب من المنطقة.. وفى 22 يناير قام العدو بالهجوم على جزيرة شدوان أمام مدينة الغردقة. كانت قواتنا في الجزيرة تتكون من سرية صاعقة وقوه بحريه تضم 26 جندي وصف ضابط، ورادار بحري. ويدعمها مدفعية مضادة للطائرات علاوة على 2 لنش بحري. لم تكن هذه القوه بتسليحها المحدود تستطيع صد قوة إسرائيلية تقدر بكتيبة مظلات مدعمه بقوات خاصة .
بدأ العدو هجومه بقصف الجزيرة بالطائرات، ثم تلي ذلك إبرار لقواته على الجزيرة في حماية مظلات جوية .. ووجهت قوات العدو إنذارا بالميكرفون إلى الوحدات المصرية بالاستسلام حيث أنها أصبحت محاصره بحرا وجوا . لكن القوه المصرية رفضت واستمرت في المقاومة. ومما زاد الموقف تعقيدا أن الاتصال بين قوة الجزيرة وقيادة منطقة البحر الأحمر قد انقطع منذ بداية الهجوم.
واستمر القتال طوال يوم 22 يناير وواصل العدو هجومه على المواقع الصامدة ليلا. وقد حاولت قيادة منطقة البحر الأحمر دفع 2 لنش طوربيد للاقتراب من الجزيرة لاستطلاع الموقف، لكن طائرات العدو نجحت في إغراقهما. ومساء يوم 22 قامت 2 طائره قاذفه مصريه( اليوشن 28) بقصف العدو الموجود على الجزيرة. وتم دفع 2 دورية صاعقة في المساء لدعم قوات الجزيرة، لكن تصدى العدو لهما وفشل الاتصال مع قوات الجزيرة. لكن 2 دوريه أخرى نجحت في الوصول للجزيرة واشتركت في القتال وأوقعت خسائر في العدو بمنطقة الفنار. ودار قتال ليلي استمر لمدة 6 ساعات تمكن العدو فيها من إغراق 2 لنش بحري. وفى الخامسة مساء 23 يناير انسحب العدو من الجزيرة. وكانت خسائرنا 62 جندي قتلى وجرحى.
ويقول جاى بوشينسكى مراسل جريدة شيكاغو نيوز، وكان مصاحبا لقوات العدو في برقيته لوكالة يونايتد برس "رغم إن الطائرات الإسرائيلية قصفت الجزيرة قصفا مركزا لعدة ساعات قبل الإنزال الإسرائيلي، فقد قاومت القوه المصرية مقاومة باسلة ولم يكن الأمر سهلا للمهاجمين. لقد شاهدت بطولات من الجنود المصريين لن أنساها ما حييت.
جندي مصري يقفز من خندقه ويحصد قوه من الإسرائيليين وظل يضرب إلى أن نفدت آخر طلقه معه ثم ُيقتل. وفى موقع آخر خرج جنديان متظاهرين بالتسليم، وتقدمت قوة للقبض عليهما فخرج جندي ثالث فجأة من موقعه فقتل 5 جنود إسرائيليين".
ثم عاود العدو هجومه الجوي يوم 6 فبراير على إحدى كاسحات الألغام جنوب ميناء الغردقة فاستطاع الطائرات إغراقها. وكانت آخر الغارات الإسرائيلية إبرار جوي بعدد 2 طائرة هليكوبتر شمال رأس غارب يوم 12 يونيو حيث قامت مجموعة من جنوده برص ألغام وشراك خداعية على الطريق.
لم تكن مصر حتى منتصف عام 1970 تقف ساكتة أو مكتفية ببناءها حائط الصواريخ. وإنما كانت الهجمات البحرية على ميناء إيلات بواسطة الضفادع البشرية،ً والهجمات الجوية على نقط خط بارليف ومواقع العدو داخل سيناء. إضافة إلى أعمال الإغارة والكمائن على طول جبهة القناة والشاطئ الشرقي لخليج السويس، والتي بلغت 16 إغارة وكمين على مدى الشهور الستة. سنذكر أهمها والتي أحدثت أكبر خسائر للعدو.
في 19/2 /1970 تمكن كمين نهاري من المشاة في قطاع الجيش الثالث من العبور شرقا،ً ومهاجمة قول متحرك في منطقة شمال الشط فدمر دبابة وثلاثة عربات مدرعة وقتل 18 فرد وأسر فردين.. وفى 25 مارس عبر كمين آخر من المشاة في الجيش الثالث ودمر دبابة وعربتين نصف جنزير وقتل وجرح 15 فرد.
وكان ختام حرب الاستنزاف عملية ناجحة نالت شهرة كبيرة أطلقت إسرائيل عليها "السبت الحزين". كان التنافس الرائع بين الجيشين حافزاً لأن يطلب قائد الجيش الثاني اللواء/ عبد المنعم خليل من قواته أن تحضر أسرى معها لأن الجيش الثالث يتفوق عليهم في عدد الأسرى. وتم التخطيط لعملية كبيرة يقوم بتنفيذها مجموعة من الصاعقة وأخرى من المشاة تم تدريب المجموعتين لمدة شهر يومياً. وشدد قائد الجيش على المجموعات ضرورة إحداث أكبر خسائر وإحضار أسرى. وتحدد التنفيذ السبت 30 مايو 1970.
عبرت المجموعتان منتصف ليلة 29/30 مايو. كانت مجموعة الصاعقة من الكتيبة 83 مكونة من 10 صف ضابط وجندي بقيادة ملازم/ محمد التميمى وملازم/ عبد الحميد خليفة، ومجموعة المشاة من اللواء 135 مشاة مكونة من 21 فرد بقيادة النقيب/ شعبان حلاوة. تمركز كمين الصاعقة في منطقة شمال مدينة القنطرة، وكمين المشاة في جنوب رأس العش. واتخذ الأفراد مواقعهم مستفيدين من طبيعة الأرض مع الإخفاء والتمويه الجيد وحتى الصباح لم يحدث أي شيء غير عادي.
في العاشرة صباحاً أفادت عناصر الاستطلاع والمراقبة المصرية، أن هناك قول إسرائيلي مكون من 4 دبابة + 4 مدرعة متجه من القنطرة شمالاً إلى رأس العش. وصدرت الأوامر لكمين الصاعقة بألا يشتبك مع القول وهو متحرك شمالاً، وإنما ينتظره وهو في طريق العودة. وصدرت الأوامر لكمين المشاة بالاشتباك مع القول. ومر القول أمام كمين الصاعقة، ولم يكتشفهم رغم العناصر التي تقوم بتفتيش الأرض إضافة إلى الطائرات التي تحلق باستمرار فوق الجبهة للاستطلاع. ووصل القول مطمئناً في الحادية عشرة صباحاً، وتلقفه كمين المشاة بالهجوم المفاجئ فقتل وجرح كل من في القول إلا شاويش واحد كان يحاول الفرار تم أسره. وعادت الدورية سريعاً إلى الغرب لأن موقع إسرائيلي قريب بدأ قصف شديد على موقع الدورية علاوة على وصول طيران العدو. مما اضطر أفراد المجموعة إلى الاحتماء والاختباء في السواتر والحفر. لكن في السابعة مساء وصل كل أفراد المجموعة سالمين ومعهم شاويش المظلات الأسير.
وأعاد العدو تنظيم القول للعودة، وفى السابعة مساء كان القول مكون من 3 عربة مدرعة محملة بجنود المظلات، ووصل أمام كمين الصاعقة.. تجهز الجميع للاشتباك، كانت المهمة الأولى ملقاة على عاتق رقيب/ يوسف عبد الله حامل أر.بي.جي الذي عليه أن يوقف العربة الأولى بأول قذيفة. وعند التنفيذ طاشت أول قذيفة منه وكان هذا الخطأ سيؤدي إلى كشف موقع الكمين، فانطلق الرقيب/يوسف مندفعاً حتى أصبح على مسافة 100 متر من العربة الأولى وأطلق قذيفته الثانية من المواجهة فدمرها. تبعه باقي أفراد الكمين بالهجوم على العربة الثانية والثالثة فقتل وجرح كل من فيها عدا الرقيب/ يائير دورى تسيفى الذي استسلم بعد مقاومة. وأثناء العودة فـّر مرة أخرى محاولاً الهروب لكن الجندي/ خليفة مترى ميخائيل لحق به ودار بينهما قتال فردي بالأيدي استمات فيه الجندي خليفة حتى تمكنٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ من السيطرة عليه والعودة به إلى الضفة الغربية.
بلغت خسائر إسرائيل في هذا اليوم 35 قتيل خلاف الجرحى والأسرى، فكان طبيعياً أن تتحول المنطقة من القنطرة وحتى رأس العش إلى جحيم من النيران. ظل طيران العدو يقذف المنطقة كلها بالقنابل حتى 1000 رطل لمدة سبعة أيام. نتج عنه تدمير في طريق بورسعيد والترعة الحلوة وبعض المنشآت المدنية، لكن الخسائر في الأفراد لا تذكر لحسن تجهيزهم للملاجئ والحفر البرميلية التي قللت كثيراً من تأثير القنابل عليهم.
ونلخص للقارئ الكريم ما دار في 500 يوم قتال متصل في الآتي : "معدلات الاشتباكات البرية : 1-2 قصفة مدفعيه مدبره يوميا بحجم 2-3 كتيبة مدفعيه... اشتباكات فردية 2-13 اشتباك يومي... اشتباكات المدفعية خلال عام 69 حوالي 4000 اشتباك ... تراشقات بأسلحة الضرب المباشر والأسلحة الصغيرة 10-20 اشتباك يوميا... دوريات وكمائن 2-4 داوريه/كمين يوميا… تنفيذ1-2 عمل تعرضي (هجومي) كبير بالقوات أسبوعيا... كان إجمالي الأعمال القتالية المصرية الناجحة، والتي أحدثت خسائر بالعدو 81 عملا في مقابل 32 عملا ناجحا للقوات الإسرائيلية.لصالحنا بنسبة 2,6 : 1 قصف العدو الإسرائيلي أهدافا مدنيه أحدثت خسائر بالمدنين 52 مره.... قصف العدو الإسرائيلي أهدافا في العمق 35 مرة.... نفذت قواتنا غارات في العمق الإسرائيلي 10 مرات.
وحتى لا أتهم بالانحياز للقوات المسلحة المصرية وأنا أحد أبناءها بتضخيم انتصارها في حرب الاستنزاف سأستشهد بقول من الجنرال عايزرا وايزمان أحد قادة إسرائيل ووزير الدفاع فيما بعد في كتابه "على أجنحة النسور" يقول عن حرب الاستنزاف :- عندما وافق المصريون على إيقاف النيران في أغسطس 1970 فسرنا ذلك بأنه اعتراف منهم بأنهم لم يتحملوا القصف الكثير من جانبنا. ومع عدم التقليل من الخسائر التي تحملوها نتيجة لهجمات سلاحنا الجوي فقد تحققت مخاوفي من أن حرب الاستنزاف التي أريقت فيها دماء أفضل جنودنا انتهت بأن أصبح للمصريين حرية العمل لمدة ثلاث سنوات للتحضير لحرب أكتوبر. وعلى ذلك فمن الجنون أن نقول أننا كسبنا حرب الاستنزاف والعكس فإن المصريين وبرغم خسائرهم هم الذين استفادوا منها أكبر فائدة.
في الفترة من 1970-1973 أخذ قادتنا (الإسرائيليون) يرددون أننا كسبنا حرب الاستنزاف فأثروا على عقولنا بدلاً من القول أننا فشلنا في تدمير شبكة صواريخ الدفاع الجوي المصري، وعلينا أن نستعد للتغلب عليها لأنها ستلعب دوراً حاسماً في الحرب القادمة، ولابد من إيجاد وسيلة لإسكاتها وهكذا عشنا في الأوهام بدلاً من مواجهة الحقائق. وقد نكون نجحنا في رفع الروح المعنوية للشعب ولكننا دفعنا الثمن غالياً.. بينما كانت حرب الاستنزاف مستمرة دون أن يتمكن جيشنا من إيقافها، أصبحت تدريجياً وليس كالآخرين مقتنعاً بأنها المرة الأولى التي لم ننتصر فيها، لقد قلت مراراً أننا فشلنا في هذه الحرب.
وسنظل نذكر أن حرب الاستنزاف هي الحرب الأولى التي لم تنتصر فيها إسرائيل وهي حقيقة عبّّّّدت الطريق أمام المصريين لشن حرب يوم كيبور في أكتوبر 1973 كان هذا قول عايزرا وايزمان ولا تعليق لنا عليه.
وقال جنرال شارون في سيرته الذاتية التي حررها بالعبرية (دافيد شانوف) وترجمها إلى العربية أنطوان عبيد ونُشرت عام 1992 : "كان جنودنا على امتداد القناة يواجهون الموت باستمرار، وفى غياب نظرة شاملة وبعيدة المدى وجدت قواتنا نفسها معرضة للنيران المصرية من دون حماية أو ملجأ، فقررت من تلقاء نفسها بناء المعاقل، واتسعت الإنشاءات مع مرور الوقت، وغدت مصطنعة أكثر فأكثر متحولة إلى خط محصن حقيقي. وعندما تعرضت مواقعنا لنيران المدفعية الثقيلة، تكبدت قواتنا خسائر جسيمة..ثم يضيف: وخلال السنوات الثلاث لحرب الاستنزاف، انشغل جنودنا بإصلاح الأضرار وتحصين المواقع التي دمرتها المدفعية، وكلفتنا الكمائن والغزوات ضد دورياتنا أرواحاً غالية جداً، وعند وقف إطلاق النار كانت خسائرنا قد بلغت 1366 إصابة منها 367 إصابة مميتة، وكان الحاخام الأكبر يزورنا باستمرار، ويصلى مع الجنود، ويقضى الليل معهم".
ونختتم ملحمة حرب الاستنزاف بخطاب الرئيس عبد الناصر في يوليو 1970 :
"إن الجيش المصري قام بجهد خارق لإعادة بناء نفسه، بعد ظرف من أسوء الظروف التي واجهها نضالنا.
وتمكن هذا الجيش الذي ظنه العدو أن أمره قد انتهى إلى عشرات السنين من أن يعود إلى القتال مرة أخرى، في
سرعة سوف يعدها التاريخ المنصف لهذه الفترة ضرباً من المعجزات.. إن الجهد المتفاني الذي بذله مئات
الألوف من رجال وشباب مصر ممن كان لهم في هذه الفترة العصيبة شرف الخدمة العسكرية حقق مستوى
قتالي لم يكن على بال صديق أو بال عدو قبل ثلاث سنوات".
في يناير 1970 بلغت حرب الاستنزاف مرحلة شديدة الحرج لكل من مصر وإسرائيل. فخسائر إسرائيل
البشرية مستمرة وبأرقام كبيرة في القتلى والجرحى، نتيجة الهجمات المصرية التي شملت البر والبحر والجو.
كانت الأرقام تصيب الشعب الإسرائيلي بإحباط شديد، فبدأت الثقة في الحكومة والجيش الإسرائيلي تهتز. كما
وضح أمام قادة إسرائيل أن غارات العمق في صعيد مصر والبحر الأحمر بواسطة الكوماندوز لم تأت ثمارها،
وأن الشعب المصري لم يثور على قيادته.
الفصل الخامس هدنة .. ثلاث سنوات
تنََََفذ وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل في الثامن من أغسطس 1970. وغمر المنطقة هدوء شامل بعد أن صمتت المدافع وهبطت الطائرات. إلا من صخب سياسي بدأ منذ اليوم الأول للهدنة، فقد أثارت الحكومة الإسرائيلية موضوع حائط الصواريخ المصري الذي تمركز على حافة القناة قبل وقف إطلاق النار بساعات. وقدمت صوراً جوية لمواقع الجبهة قبل وبعد تنفيذ قرار وقف إطلاق النار، حتى تثبت أن مصر خرقت الاتفاق، لكن أحد لم يستمع إليها وأصبح حائط الصواريخ أمراً واقعاً. وكان لهذه الخطوة أثر كبير في حرب أكتوبر1973.
وبدأت مصر سياسياً وعسكرياً تلتقط أنفاسها بعد القتال العنيف الذي استمر زهاء عامان، والكل يشعر بأن الظروف قد أصبحت مواتية للعمل والتخطيط للمرحلة المقبلة في هدوء. لكن الأقدار فاجأت الجميع بما لم يكن في الحسبان.. فبعد أيام فقط من الهدوء اشتعلت المنطقة لكن في اتجاه آخر. فقد وقع صدام بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في عمان بدأ أول الأمر محدوداً، لكنه تصاعد متخذاً صورة القتال بين الطرفين. وكاد الأمر يتصاعد أكثر حين حاولت سوريا التدخل لمساندة الفلسطينيين بقواتها لكن أمريكا وإسرائيل تصديا للمحاولة وهي في مهدها فعادت القوات السورية إدراجها إلى أراضيها.
وتتقدمت مصر لتلعب دورها القائد، فدعا الرئيس عبد الناصر إلى اجتماع قمة عربي في القاهرة حضره الملوك والرؤساء العرب. دارت فيه أحداث غريبة ومواقف شاذة انتهت بتوقيع اتفاق يقضى بأن تغادر منظمة التحرير الفلسطينية الأردن. ونجح ثلاثة من القادة العرب في إخراج السيد/ ياسر عرفات رئيس المنظمة وتهريبه من الأردن بعد حصاره ومحاولة تصفيته. واختتمت هذه الأحداث المتلاحقة بحدث هو قمة الدراما. ففي يوم 28 سبتمبر 1970 وبعد وداع الرئيس عبد الناصر للملوك والرؤساء العرب، وقد حقق نجاحاً في وقف القتال بين الأردنيين والفلسطينيين توفى جمال عبد الناصر في المساء.
دخلت مصر في منعطف حزين بفقد الرئيس عبد الناصر لكن وكعادة الشعب المصري بعبقريته البسيطة تجاوز حزنه الهائل في أيام معدودة. فالكل كان يعي بأن الوطن هو الأهم، وأن العدو مازال يتربص بهذا الوطن. وتولي الرئيس أنور السادات مقاليد الحكم في سهولة ويسر. وكان طبيعياً نتيجة لهذا أن يتم وقف إطلاق النار لمدة ثلاث شهور أخرى حتى يستطيع الرئيس السادات وهو الرئيس الجديد دراسة الموقف دراسة شاملة وإعادة ترتيب أمور عدة فرضها اختفاء عبدالناصر.
كان أهم ما حدث عقب وفاة عبد الناصر أن الرئيس إليكس كوسيجين وكان يرأس الوفد السوفيتي لتقديم العزاء طلب أن يجتمع بالمسئولين المصريين، فتم ترتيب اجتماع له مع بعض الوزراء وبعض أعضاء اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي. وكان أهم ما قاله هو إن شحنات السلاح إلي مصر ستتوقف لحين استقرار القيادة الجديدة في مصر. لكن الأهم هو "نحن نريد أن نساعدكم على استعادة أراضيكم المحتلة، لكننا لا نعتقد أن الحرب المسلحة ضرورية لتحقيق هذا الهدف، وإنما يجب أن تعطى الفرصة كاملة للعمل السياسي. وفى مطلق الأحوال فإننا نرجوكم أن تعرفوا أننا لسنا على استعداد لمواجهة خطرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ونأمل أن يكون ذلك مفهوماً لديكم جيداً باعتباركم أصدقاء للاتحاد السوفيتي". وكانت هذه هي سياسة روسيا تجاه مصر. دعم سياسي وعسكري للدفاع فقط، أما الهجوم لتحرير الأرض واستعادة سيناء فغير مقبول بالمرة. ونظن كلمات كوسيجين رئيس الوزراء لا تحتاج إلى شرح أو توضيح.
والتقى الرئيس السادات قادة القوات المسلحة لأول مرة في 30 ديسمبر 1970 "وبعد أن استمع الرئيس السادات إلى تقارير القادة وخطط الدفاع والاستنزاف والردع وخطط تطوير القوات المسلحة قال : علينا الاستعداد في أي وقت حتى 5 فبراير 1971 والشعب أيضاً يجب أن يكون جاهزاً للمعركة.. ولن نمد وقف إطلاق النار مرة ثالثة إلا إذا وُجد جدول زمني.. وعن موقف الاتحاد السوفيتي أشار السادات أنه يجب ألا نصنع شقاق مع المستشارين السوفيت.. وقد كسبنا معركة غارات العمق بفضل المعاونة السوفيتية.. ويجب الاستعداد ونكون جاهزين قبل 5 فبراير لكل احتمال رغم النقائص، ولكن يجب عمل شيء بما هو موجود لدينا.. لقد كسبنا معركة سياسية ضد أمريكا لأول مرة، وليس لنا حجة.. ولازم نعمل معركة كويسة بالفكر الهادئ والتخطيط السليم والأعصاب الهادئة ونقابل كل موقف بما يستحقه. ثم أكد قائلاً لا تَخلوا بي في 5 فبراير أو تَخلوا بالشعب اللي حيكون جاهز لتلقى أي صدمات وأنا أجهزه لأسوء الفروض !!". وانتهى الاجتماع والقادة مندهشون ويتساءلون عن آخر كلمات اللقاء وعن تجهيز الشعب لأسوء الفروض.
وانقضى عام 1970 بأحداثه الدرامية، وجاء عام 1971 بأحداث ووقائع متلاحقة جعلت موعد الحرب المتوقع يتراجع خطوات وخطوات.. في يناير 1971 اجتمع وزراء الحربية والخارجية والداخلية وشئون رئاسة الجمهورية مع قيادات
الاتحاد الاشتراكي لدراسة الموقف بعد يوم 5 فبراير موعد انتهاء وقف إطلاق النار، وتبادل الجميع وجهات النظر. كان أبرز ما في الاجتماع أنه تم دون حضور أو إخطار الرئيس السادات، أيضاً أن الفريق أول/ فوزي قال بأن
الحرب إذا بدأت فلن تكون حرب استنزاف أو محدودة.
وكان على الرئيس السادات أن يحسم أمره فقد اقترب يوم 5 فبراير والشعب كله في انتظار القرار. ولما كانت القوات المسلحة غير مستعدة وغير جاهزة لحرب التحرير، وروسيا مازالت مقتنعة بعدم هجوم مصر على إسرائيل. فقد خطر للرئيس السادات أن يتقدم بمبادرة جديدة حتى يخرج من المأزق الذي وجد نفسه فيه. فالقيادات حوله تنادي بالحرب وهي غير قادرة على تكاليفها ولا تملك إمكاناتها، وروسيا أعلنتها صراحة اتجاهها نحو الحل السلمي، وإسرائيل تنتظر ماذا سيسفر عنه الموقف بعد 5 فبراير، وهي مقتنعة بأنها مازالت الأقوى لأن خلفها الدعم الأمريكي السياسي والعسكري.
وفاجأ السادات الجميع يوم 5 فبراير 1971 بإعلانه عن مبادرة للسلام تضمنت الآتي:
1- بمجرد الانسحاب الجزئي للقوات المسلحة الإسرائيلية عن الأراضي العربية المحتلة كبداية للانسحاب الكامل تبدأ مصر في تطهير قناة السويس وفتحها للملاحة الدولية.
2- بعد هذه الخطوة، تقبل مصر مد وقف إطلاق النار لمدة محددة يضع خلالها السفير يارنج جدولاً زمنياً لتنفيذ قرار مجلس الأمن.
3- تعبر القوات المسلحة المصرية قناة السويس إلى الضفة الشرقية، وتقبل مصر الترتيبات التي تحقق عملية فصل القوات المتحاربة. وذلك خلال فترة وقف إطلاق النار المحددة، وإذا انتهت هذه الفترة دون تقدم ملموس يكون للقوات المسلحة المصرية الحق في تحرير الأراضي العربية المحتلة بالقوة.
4- ترفض مصر أي مناقشة حول نزع سلاح سيناء، ولكنها على استعداد لقبول مناطق منزوعة السلاح على جانبي الحدود وفقاً لقرار مجلس الأمن.
5- ترفض مصر أي شكل من أشكال الوجود الإسرائيلي في شرم الشيخ. ثم أعلن عن امتناع مصر عن إطلاق النار لمدة شهر.. وجاء الرد الإسرائيلي معبراً عن العقيدة الإسرائيلية. فقال القادة الإسرائيليون إن المبادرة لا تحوي جديداً.
وقال دايان "ليس لدى إسرائيل أي نية للانسحاب من أفضل خط استولت عليه" وقالت مائير رئيسة الوزراء "إنها ترى أن يكون الاتفاق على إعادة فتح قناة السويس منفصلاً لا صلة له على الإطلاق بمهمة السفير يارنج ولا بمباحثات الدول الكبرى".
وفى 8 فبراير أعلن السفير يارنج صيغة اتفاق وكان نصه كما يلي :- 1- إعلان إسرائيل بالتزامها بالانسحاب إلى حدود مصر الدولية ومن غزة ليعود الوضع إلى ما كان عليه قبل حرب يونيو1967.
2- تعهد من مصر بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل يتم فيه النص على إنهاء حالة الحرب، والاعتراف بحقها في الوجود، والاعتراف بحق كل دولة في العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها. والعمل على منع أي أعمال عدوانية من أراضي كل دولة ضد الأخرى، وعدم تدخل أي طرف في الشئون الداخلية للطرف الآخر. وضمان حرية الملاحة في مضيق تيران بناءً على ترتيبات خاصة بالنسبة لشرم الشيخ.
وتلقف الرئيس السادات مبادرة يارنج لأن بها كثير من المكاسب لمصر أولها استعادة الأرض كاملة. كما وأنها تحرك الوضع الراكد سياسياً منذ أغسطس 1970. وبعد يوم واحد فقط أعلنت مصر على لسان وزير الخارجية السيد/ محمود رياض أنها تقبل الصيغة التي تقدم بها السفير يارنج . وأعلن وليام روجرز وزير الخارجية الأمريكية أن مبادرة السادات في 5 فبراير ورد مصر الإيجابي على مبادرة يارنج خطوات مشجعة، جعلته يتحرك مسرعاً إلى إسرائيل حتى لا تتسرع في رفض ما هو معروض. لكن القيادة الإسرائيلية لم تستجب لروجرز وأدخلته في دوامة الحدود الآمنة، والانسحاب من أراضي وليس كل الأراضي ...الخ. وانقضى شهر فبراير دون أي بادرة إيجابية من جانب إسرائيل، مما دعي الأمم المتحدة إلى إصدار بيان يناشد مصر وإسرائيل ضبط النفس. كما تقدم بيرجس القائم على رعاية المصالح الأمريكية بطلب شفوي إلى مصر بأن يستمر وقف إطلاق النار بعد 6 مارس حتى تتمكن أمريكا من مواصلة جهودها في إقناع إسرائيل بقبول مبادرة السادات ومبادرة يارنج، حيث أن هذا يستلزم جهداً ووقت طويل.
ولم ينتظر الرئيس السادات حتى نهاية موعد وقف إطلاق النار، فذهب في زيارة سرية إلى روسيا يومي 2،1 مارس. بذل فيها جهداً كبيراً لإقناع القيادة السوفيتية بأن السلاح المقدم إلينا لا يضعنا حتى على قدم المساواة مع العدو الإسرائيلي، في الوقت الذي يجب أن نكون فيه متفوقين عليهم حتى نستطيع الهجوم أو التهديد بالهجوم.
وأخذ موضوع الطائرة جانباً كبيراً من المناقشة. كان الحوار يدور حول الطائرة تى- يو22 التي تستطيع الوصول إلى داخل إسرائيل وبحمولة قنابل مؤثرة. لكن القيادة السوفيتية كانت تراوغ هذا الطلب بصورة مثيرة للدهشة، فمرة يقولون تتمركز الطائرات في روسيا ويتم إرسالها إلى مصر عند الطلب، ومرة يقولون تتمركز في مصر لكن تعمل بأوامر من روسيا، ومرة يقولون بأن التدريب عليها للطيارين المصريين يستغرق 4 سنوات. ولم ينجح الرئيس السادات في الحصول على الطائرة، لكنه نجح في الحصول على معدات وأسلحة أخرى كانت مطلوبة.
وفور عودته من روسيا دعا الرئيس السادات القيادات العسكرية في 3 مارس وشرح لهم ما دار في زيارته السرية وكان أهم ما جاء في كلامه للقيادات:- - لنا الحق في فتح النيران بعد يوم 7 مارس 1972 مع عدم الانقطاع عن السير في الحل السلمي. - الاتفاق على إرسال الشحنات المتعاقد عليها سابقاً. - إرسال 4 طائرة ميج25 بالطيارين السوفيت مجهزه للقيام بأعمال الاستطلاع الجوي فوق إسرائيل. - طلب السوفيت مساعدات للأسطول الروسي بحراً وبراً في البحر المتوسط وفى قاعدة مرسى مطروح. - قال السوفيت إن أي زيادة في الأسلحة الروسية للدعم يعقد الموقف السياسي أكثر وتصبح احتمالات الحرب أكبر. وعند النقطة الأخيرة التي ذكرها الرئيس السادات للقيادات العسكرية المصرية يتأكد موقف روسيا مرة أخرى بأن السلاح السوفيتي للدفاع وليس للهجوم، وأن على مصر السعي للحل السلمي مهما كانت شروط إسرائيل التي لا تتنازل عنها أبداً.
الصـدام الداخلـي المحتـوم : كان ولابد أن تتصاعد الأمور الداخلية في مصر ويشتعل الصراع على السلطة حتى يصل إلى لحظة الاصطدام بين كل من الرئيس السادات من ناحية وقيادات الدولة كلها من ناحية أخرى.. وزراء( الحربية – رئاسة الجمهورية – الداخلية – الإعلام) رئيس مجلس الشعب اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي – بالإضافة إلى عدد من القيادات في مواقع متفرقة. بدأ الصراع مكتوماً بعد انتخاب السادات رئيسا للجمهورية، فقد كان تصور الجبهة الأخرى أن الرئيس السادات سيكون واجهة للحكم أما زمام الأمور فسيكون في أيديهم.
وكان الرئيس السادات متنبها لهذا منذ اللحظة الأولى، لأن هناك أكثر من واحد يؤمن يقينا أنه أحق من أنور السادات بالرئاسة. ظهر هذا جليا في قرار وقف إطلاق النار الذي كان ينتهي في فبراير، واجتماعهم في يناير الذي أشرنا إليه سابقاً. وخرج الرئيس السادات من المأزق بمبادرة 5 فبراير. وجاء الموقف الثاني حين اقترب مارس من نهايته وظهر الإلحاح على بدء القتال من جانب الجبهة المضادة للرئيس السادات. وانعقد مجلس الأمن القومي في 26 مارس 1971 لمناقشة الموقف من إسرائيل. ودار حوار طويل انتهى بأن الأغلبية الساحقة وليس من بينها الرئيس السادات أقرت كسر وقف إطلاق النار في نهاية شهر إبريل بعمليات عسكرية على طول الجبهة.
وخرج الرئيس السادات من هذا الاجتماع وقد تأكد أن صداماً لابد واقعا بينه وبين كل قيادات الدولة. كان يشعر بأنه محاصر بقرار حرب في وقت لم تتوافر فيه الظروف السياسية والعسكرية بعد، ولو أعلن هذا سيبدو أنه الانهزامي والمتقاعس عن الحرب وسط هؤلاء الصقور. وكان على الرئيس السادات أن يجد مخرجاً من هذا الحصار، واهتدى إلى المخرج بدهاء لم يكن غريباً على الرئيس السادات. فقد كان هناك مشروع إقامة اتحاد عربي ثلاثي بين مصر وليبيا وسوريا تمت دراسته وأصبح جاهزاً للخروج إلى الواقع في يونيو1970. لكن مبادرة روجرز وأحداث الأردن جعلت المشروع يتواري، وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر بدأ يتجدد الحوار فيه بين الرؤساء الثلاث.
أجرى الرئيس السادات في أواخر مارس بعد جلسة مجلس الأمن القومي اتصالات مع الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الليبي معمر القذافي ليتفق معهم على اجتماع ثلاثي في ليبيا يوم 16 أبريل 1971. ويتم توقيع اتفاق بين الرؤساء الثلاثة يوم 17 أبريل بقيام "اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة". وعاد الرئيس السادات إلى القاهرة ليجد عاصفة سياسية في انتظاره. فقد تجمعت مراكز القوة والسلطة في الدولة لإفشال هذا المشروع. وحدث ما أراده الرئيس السادات تماماً، فقد غابت فكرة الحرب المقررة في أبريل عن ذهن الجبهة المضادة، وأصبح ما يشغلهم هو الإطاحة بالرئيس السادات نفسه.
وجرت المواجهة مع الرئيس السادات في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، وتجاوز الحوار حدود الأدب، مع الهجوم الحاد على الاتفاقية بهدف التراجع عنها. لكن الرئيس السادات تماسك أمام الهجوم الحاد ولم يخضع أو يتنازل عن موقفه. ثم تقدمت المواجهة خطوة إلى الأمام بأن قدم وزير شئون رئاسة الجمهورية مذكرة عن تقرير رأى عام من داخل القوات المسلحة شمل 36 نقطة، نعرض أهمها
- -
1- "كيف يؤتمن البعث السوري الذي تسبب في الانفصال وهدم الوحدة الأولى. 2- سوريا مرتبطة بمخطط أمريكي يهدف إلى جرنا إلى معركة ونكسة أخرى. 3- إن الرئيس القذافي صغير السن ويفتقر إلى الحكمة والخبرة. 4- هذه العملية فيها تحويل لاهتمامات الجماهير بما فيها القوات المسلحة . 5- مصر هي التي تتحمل العبء كله. 6- هذه الاتفاقية خداع استراتيجي. 7- بصفة عامة الموقف يعتبر سلبي في مجموعه".
كان هذا التقرير بمثابة تهديد آخر عن طريق القوات المسلحة. وتلقى الرئيس السادات التهديد وبدأ الرد على الفور. استدعى اللواء/ الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري وشرح له ما يدور من حرب خفية بينه وبين مراكز القوة والسلطة، فتعهد له بأنه سيكون بقواته إلى جانبه لأنه هو الرئيس الشرعي للبلاد. ثم اتبع الرئيس السادات ذلك برسالة عن طريق صديق إلى الفريق/ محمد صادق رئيس الأركان حتى يطمئن إلى موقف القوات المسلحة، وقد تعهد له بأن القوات المسلحة لن تتدخل في ذلك الصراع السياسي.
وفى خضم هذا الصراع وصل روجرز وزير الخارجية الأمريكي للاجتماع مع الرئيس السادات الذي كان متلهفاً على أي جديد يأتي به. لكن الزيارة فشلت ولم تحقق شيء يذكر، سوى أنه في حوار مع رئيس تحرير الأهرام قال أن دخول هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي في المشكلة ليس في صالح مصر إطلاقاً، لأن "ولاءه الأول والثاني والثالث لكيسنجر والرابع لأي سيد يستعمل خدماته وولاءه الخامس لأمته. ورد هيكل : إنه قابل بولائه لأمته ذلك لأن ولاءه لأمته سوف يجعله يعرف أن مصالح الولايات المتحدة كلها مع العرب. وقاطعه روجرز : ماذا تقول ؟ أمته ليست الأمة الأمريكية. ولاءه لليهود".
وفى احتفال عيد العمال في 1 مايو أعلن الرئيس السادات إقالة السيد/ على صبري من جميع مناصبه، وأعقب ذلك بتحرك سريع داخل القوات المسلحة لضمان وقوفها على الحياد في ذلك الصراع خاصة في القوات الجوية، فعقد اجتماع موسع لأكثر من مائة قائد في الجيش الثالث يوم 11 مايو ثم أعقبه يوم 12 مايو اجتماع آخر مع عدد كبير أيضاً من قادة الجيش الثاني. (حضرت بنفسي اجتماع يوم 12 مايو بحكم منصبي كقائد سرب).. قام الرئيس خلال الاجتماع بشرح الموقف السياسي والجهد المبذول مع أمريكا وروجرز ويارنج واستغرق ذلك حوالي الساعة. وبدأت الأسئلة التي وضح أنها كانت مرتبه، فكان أول سؤال عن الأسباب الحقيقية لإقالة السيد/ على صبري ؟ وكان السؤال الثاني من طيار بالقوات الجوية عن السلاح السوفيتي وعدم قدرته على تنفيذ المهام المطلوبة. وقد أسهب الرئيس فقص كل ما دار من قِبل الجبهة المضادة ثم أجاب على السؤالين واستغرق هذا ساعتين تقريباً، كان مجمل ما قاله لنا هو أن نتجه بأبصارنا إلى العدو وإلى المعركة ولا ننشغل بأي شيء آخر، وإن الشعب يدعمنا ويقف خلفنا في المعركة المنتظرة. كما قام بامتداح الفريق أول/ فوزي الجالس بجواره والثناء علي جهده بصورة ملفتة.
ومساء يوم 12 مايو قدم أغلب قيادات الدولة استقالاتهم لكن أبرزهم كان وزراء الحربية والداخلية والإعلام وشئون رئاسة الجمهورية، ورئيس مجلس الشعب، ظنا منهم بأن هذه الاستقالات كفيلة بإسقاط الرئيس السادات من منصة الحكم. ومساء نفس الليلة أوقف الفريق/ صادق اجتماع كان الفريق أول/ فوزي قد عقده مع قيادات القوات المسلحة لمناقشتهم في قرارات الرئيس السادات، ومحاولة تأليبهم عليه. فقال الفريق/ محمد صادق - سيادتك قدمت استقالتك فليس من حقك استكمال الاجتماع أو إصدار أوامر.
وفى نفس الوقت تحرك اللواء/ الليثى ناصف بقوات الحرس الجمهوري وقبض على كل من قدم استقالته، وتم تقديمهم إلى المحاكمة وعرفت القضية باسم " مراكز القوى". وتعين الفريق/ محمد صادق وزيراً للحربية واللواء/ سعد الشاذلي رئيساً للأركان. وانتهى بذلك الصراع الداخلي الذي استمر قرابة 8 شهور لصالح الرئيس السادات، الذي نجح في اللعب بورقة الاتحاد مع سوريا وليبيا، حتى يهرب من بدء القتال في أبريل 1971. وانتصرالرئيس السادات في صراعه الداخلي وانفرد بالقرار السياسي، لكن كان عليه أن يواجه السؤال الذي مازال معلق في الهواء دون إجابة "ماذا سنفعل مع إسرائيل ؟".
أثار الصراع الداخلي في مصر قلقاً كبيراً لدى روسيا، فالصورة مهتزة في موسكو. فالذي يتردد في مصر ويصل إليهم في موسكو أن الرئيس السادات أطاح برجال روسيا تقرباً من أمريكا، وإنه "الرئيس السادات" هو الواعي تماماً بأن الحل في يد أمريكا وليس روسيا. فتحركت القيادة السوفيتية على الفور ووصل إلى القاهرة يوم 25 مايو وفد سوفيتي برئاسة نيكولاى بادجورنى رئيس الجمهورية. ولم يكن يغيب عن فطنه الرئيس السادات إن ما قام به في صراعه مع الجبهة المضادة له سيثير قلق روسيا، فكان مستعداً لاستقبالهم بحفاوة وود، ولكي يزيد ويؤكد اطمئنانهم وقع معاهدة صداقة وتحالف بين مصر والاتحاد السوفيتي لمدة 15 عاماً.
عــام الحســم : استهلت القيادة العامة للقوات المسلحة عام 1971 بوضع خطة هجومية في الأشهر الأولى من العام، تحت اسم الخطة "جرانيت".. كان الخط العام في هذه الخطة أن المعركة ستبدأ بالعبور ثم القتال بقواتنا مع العدو الإسرائيلي في معركة حاسمة بين قناة السويس وخط المضايق، مع الاعتماد على التحضير الجيد والمفاجأة في نجاح الخط.. وقد تم عرض قرارات القادة وخطط العمليات على وزير الحربية ورئيس الأركان وتم التصديق عليها. وزاد على التصديق أنه أعطى التصرف المطلق إلى قادة الجيوش وليس القيادة العامة للقوات المسلحة في أعمال قتال القوات سواء في الدفاع أو الهجوم.
ويقول اللواء/ عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني "والحقيقة أن هذا المؤتمر الخاص بالتصديق على القرارات وإعطاء قادة الجيوش سلطة التصرف المطلق مع المرونة والمبادأة زادني اطمئناناً على قواتي التي ستكوّن رؤوس كبارى في الضفة الشرقية بعد العبور. خاصة من ناحية الحماية الجوية، حيث وضّح قائد قوات الدفاع الجوي أنه يمكن للصواريخ المضادة للطائرات حماية قواتي في رأس الشاطئ المرتقب إنشاء الله.
وكان قد تم تنظيم التعاون والتنسيق بيني وبين اللواء/ عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث لتأمين المنطقة الفاصلة بين الجيشين في قطاع البحيرات المّرة جنوب الدفرسوار بالمشاة المدعمة بالدبابات والأسلحة م/د.. كما تم بيننا تنسيق الضربات المضادة بالقوات المدرعة من الجيشين في هذه الثغرة إذا نجح العدو في الاختراق غرباً. وقد تخصص لواء مدرع من الجيش الثالث مع لواء مدرع من الفرقة 21 المدرعة أو الفرقة 21 بالكامل للهجوم المضاد في اتجاه الدفرسوار في حالة اختراق العدو لمواقعنا به". كان هذا في عام 1971.!!
نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنه منذ عام 1971 ونحن في تخطيطنا أن هناك ثغرة بين الجيشين في قطاع البحيرات المرّة، وأن العدو يمكن أن يعبر إلى الغرب من منطقة الدفرسوار، وأن قواتنا المكلفة بهذه المهمة جاهزة ومحددة بل ومدربة للقضاء عليه في حالة عبوره. وسنقارن هذا مع مجريات حرب أكتوبر73 حين نصل إليها..
أعلن الرئيس السادات في بداية عام 1971 إن هذا العام سيكون عام الحسم. وكان هذا الإعلان إعلامياً أكثر منه سياسياً أو عسكرياً. فقد شاهدنا كيف أنه وافق على كسر وقف إطلاق النار في أبريل تحت ضغط الآخرين، ثم كيف التف على هذا القرار بالمناورة التي قام بها تحت مسمى الاتحاد الثلاثي مع ليبيا وسوريا والذي ولد ميتاً.
وكان طبيعيا بعد انتصاره على الجبهة المناوئة له في 15 مايو أن يجتمع بقيادات القوات المسلحة وتم الاجتماع في 3 يونيو 1971 حيث شرح لهم قصة المؤامرة عليه، ثم تحول بالحديث إلى المعركة مع إسرائيل "إني مؤمن بأنه لابد من المعركة يوماً ما، ولكني لو تمكنت من عبور قواتي دون دم ثم أقاتل في سيناء. وهذا ما أعمل به الآن. واستكمل مع روسيا كل شيء ينقصنا. ثم قال عن المعاهدة المصرية – السوفيتية، طلبت المعاهدة لشيئين :- الأول : عاجل وهو حاجتي إلى معدات للمعركة وهذا يربط الشرف الروسي بالمعركة. والثاني : آجل وهو بناء الدولة الحديثة، لأننا في حاجة إلى العلم الحديث، وهو متكامل في روسيا وأمريكا ليس فقط للحرب ولكن للسلم والصناعة أيضاً. وبهذا سأنتج هنا الذخيرة، وفى الخمس سنوات القادمة سأستكمل صناعتي تماماً. أنا محتاج لهم ليس فقط 15 سنة ولكن 30 سنة. نحن في حرب صليبية جديدة قد تطول لأكثر من 50 سنة. ولكن علينا إعادة إسرائيل إلى حدودها وبناء الدولة على العلم الحديث. وإسرائيل لن تفاجئنا ويجب أن يكون لدينا ألف طيار محترف مع طائرات بعيدة المدى بصفة دائمة.. ولا تخشوا من النفوذ السوفيتي. ولا يمكن للمصريين أن يكونوا شيوعيين. ويجب أن نستفيد من الروس أكبر فائدة ولكن ليس لأن يحاربوا معركتنا أبداً .. أبداً". ثم أعقب هذا الاجتماع زيارة الرئيس السادات إلى جبهة قناة السويس واللقاء بالضباط والجنود تم خلال الزيارة شرح أبعاد مؤامرة الجبهة المضادة كما اتخذ عدة قرارات كان لها مردود كبير في رفع الروح المعنوية للقوات المسلحة كان أهمها :- 1- اعتبار مدة الخدمة بالجبهة خدمة حرب بأثر رجعي منذ حرب يونيو1967. 2- منح أجازه للضباط والجنود لمدة 15 يوماً لكل من أمضى في الجبهة سنتين. 3- عودة 25% من البدلات التي تم استقطاعها بعد يونيو1967.
ما أن تقلدت القيادة الجديدة للقوات المسلحة الأمر، الفريق أول/ محمد صادق وزيراً للحربية، والفريق/ سعد الشاذلي رئيساً لأركان حرب، حتى بدأت في دراسة الموقف على الجبهة وموقف العدو الإسرائيلي لكي تضع خطة الحرب المقبلة حتماً. وبالدراسة والتخطيط اختلف فكر الرجلان، فوزير الحربية يرى أن الخطة يجب أن تكون عملية هجومية تقوم بتدمير العدو في سيناء والوصول إلى خط الحدود الدولية، على حين إن رئيس الأركان كان يرى أن الخطة يجب أن تكون لعملية هجومية محدودة، وبنجاحها يمكن استكمال التقدم شرقاً.. ويقول الفريق/ الشاذلي في مذكراته "وعندما عرضت هذه الأفكار على الفريق أول/ محمد صادق عارض هذه الفكرة بشدة. وقال إنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري. وسوف يبقى ما يزيد على 60.000 كيلو متر مربع من سيناء تحت الاحتلال. ومن الناحية العسكرية سوف تخلق لنا موقفاً صعباً فبدلاً من خطنا الدفاعي الحالي الذي يستند إلى مانع مائي جيد فإن خطنا الدفاعي الجديد سوف يكون في العراء وأجنابه معرضة للتطويق. وبالإضافة إلى ذلك فسوف تكون خطوط مواصلاتنا عبر كباري القناة تحت رحمة العدو. لقد كانت فكرته في العملية الهجومية تحرير سيناء وقطاع غزة في عملية واحدة مستمرة. قلت له كم أود أن نقوم بتنفيذ ذلك. ولكن ليس لدينا الإمكانيات للقيام بذلك سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب.. رد قائلاً : لو إن السوفيت أعطونا الأسلحة التي نطلبها فإننا نستطيع أن نقوم بهجومنا هذا في خلال عام أو أقل. لم أوافقه على رأيه.. وبعد مناقشات طويلة وعبر جلسات وصلنا إلى حل وسط هو تجهيز خطتين، خطة تهدف إلى الاستيلاء على المضايق، وأخرى تهدف إلى الاستيلاء على خط بارليف. أطلقنا على الأولى اسم "العملية 41" وقمنا بتحضيرها بالتعاون مع المستشارين السوفيت بهدف إطلاعهم على ما يجب أن يكون لدينا من سلاح وقوات، لكي نصبح قادرين على تنفيذ الخطة. أما الخطة الثانية فقد أطلقنا عليها "المآذن العالية" وكنا نقوم بتحضيرها في سرية تامة. ولم يكن يعلم بها أحد من المستشارين السوفيت، كما إن عدد القادة المصريين الذين سمح لهم بالاشتراك في مناقشتها كان محدوداً للغاية. وفى خلال يوليو وأغسطس 1971 كانت الخطتان قد تم استكمالهما. كانت الخطة 41 غير قابلة للتنفيذ إلا إذا توافرت أسلحة ووحدات افترضنا وجودها. أما خطة المآذن العالية فقد كانت أول خطة هجومية مصرية واقعية.
في شهر يونيو1971 كان الرئيس السادات اهدأ بالا عن الشهور الأولى من العام. فقد حسم الصراع الداخلي مع الجبهة المضادة له، ومن ناحية روسيا فقد أعطاهم طمأنينة كبيرة بتوقيعه معاهدة التحالف والصداقة، والقوات المسلحة المصرية مستقرة في أعمالها التدريبية وعلى رأسها قيادة موالية تعمل بجهد وإخلاص في سبيل الاستعداد للمعركة القادمة .. بقى شيء واحد مازال ينغص عليه تفكيره، الولايات المتحدة الأمريكية. كان موقفها بمبادرة روجرز عام 1970 قد أعطى بصيصا من الأمل بأن تقوم بدورها كقوة عظمى، ويتواصل ضغطها على إسرائيل حتى تقبل بالحل السلمي والانسحاب. لكن مجريات الأحداث وكان آخرها في مايو 1971 بزيارة روجرز وزير أحبطت الرئيس السادات، وظهر جليا أن توقف الجهود الأمريكية يتوافق تماماً مع ما تريده إسرائيل من استمرار هذا الوضع والذي أطلق عليه اللاسلم واللاحرب.
لكن الأمل ظهر في الموقف الأمريكي حين طلب الملك فيصل ملك العربية السعودية زيارة الرئيس السادات وهو عائد من واشنطن. في 19 يونيو، وحكى له ما دار بينه وبين الرئيس الأمريكي حول مصر، وكان أهم ما يشغل بال الرئيس الأمريكي المعاهدة المصرية – السوفيتية. ثم فاجأ الملك فيصل الرئيس السادات بورقة بها أربعة أسئلة من الرئيس نيكسون للسادات طالبا أن يكون الرد مكتوباً. كانت الأسئلة تدور حول موقف مصر من أمريكا بعد هذه المعاهدة وفى ظل وجود مستشارين وجنود سوفيت على أرض مصر. وعلى الفور قام الرئيس السادات بكتابة الرد الذي يؤكد أن المعاهدة لا تقيده بشيء، وأن قراره مازال في يده بالنسبة للعلاقات مع أمريكا، وأن الخبراء والجنود السوفيت سوف يغادرون عند توقيع أي اتفاق سلام.
وفى أمريكا كان هناك صراع بين كيسنجر مستشار الرئيس للأمن القومي وروجرز وزير الخارجية، حيث استطاع الأول سحب ملفات الأزمات العالمية بعيداً عن وزارة الخارجية، فالتقي مع زعماء فيتنام سراً في باريس لإنهاء حرب فيتنام، وبدأ يتلمس طريقاً لإنشاء علاقة بين الصين وأمريكا، ووضع شكل خطوات الوفاق مع روسيا. أما أزمة الشرق الأوسط فكان كيسنجر لا يتدخل فيهاً بحجة أنه يهودي وهذا يجعل وضعه حساساً إذا تدخل. لكن حين فشل وليم روجرز في مهمته حتى مايو من العام 1971، كان كيسنجر يقدم للرئيس الأمريكي تقرير موقف عن الشرق الأوسط كان أهم ما فيه هو : 1- "إن أزمة الشرق الأوسط ليست جاهزة للحل، فالمواقف بين الأطراف متباعدة نتيجة لاختلال الموازين بين أطراف النزاع. 2- إنه مع الفجوة الواسعة بين مواقف الأطراف، فإن التوصل إلى حل سوف يقتضي ضغطاً شديداً على إسرائيل وهذا الحجم من الضغط لا يقدر عليه الرئيس خصوصاً وهو مقبل في السنة القادمة (1972) على إعادة ترشيح نفسه للرئاسة. 3- استمرار الركود في الأزمة سوف يؤدي إلى خلافات عربية – سوفيتية ويتعين على الولايات المتحدة أن تمسك بأعصابها وتنتظر حتى تظهر هذه الخلافات أو تنفجر. 4- إنه بينما يجرى الاستعداد لعقد قمة أمريكية – سوفيتية في موسكو فإنه من الأفضل الانتظار بمحاولات الحل حتى ُتطرح بنظرية ترابط الأزمات على مائدة البحث في موسكو بين القوتين الأعظم. 5- إن الرئيس السادات حتى هذه اللحظة لا تبدو عليه سمات رجل دولة قادر على أن يقود شعبه إلى تسوية سلمية مع إسرائيل. وما يبدو من تصرفاته حتى الآن هو أنه بهلوان سياسي والأرجح أن حكمه لن يطول".
لكن هذا التمنع من كيسنجر عن التدخل في الأزمة لم يمنعه من إرسال إشارات خفية ورسائل سرية غير رسمية عن طريق بعض الأصدقاء إلى مصر، يدعو فيها إلى لقاء سري مع مسئول مصري حتى يستمع إلى وجهة النظر والمطالب المصرية. ولم يكن هذا العرض بريئاً كما يبدو في ظاهره، وإنما هي إحدى ألاعيب كيسنجر. فالموقف على الأرض لم يتغير وإسرائيل مازالت تملى شروطها وأنها لن تنسحب إلى حدود 4 يونيو67ولم تستجب لمبادرة السادات في فبراير ولا ليارنج، فماذا حدث حتى تغير موقفها ؟.
كما إنه أعلن أكثر من مرة أنه لن يتدخل في هذه الأزمة لأنه يهودي، ومازال كيسنجر يهودي فما الذي جعله يسعى إلى سماع وجهة النظر المصرية ؟. كان الهدف من هذا السعي واضحاً، فهو يهدف من وضع أزمة الشرق الأوسط على المائدة في القمة التي ستعقد في موسكو بين الرئيس الأمريكي والسوفيتي. وإلى الوقيعة بين السوفيت ومصر بالتلميح بأنه على اتصال بالمصريين، وهذا يجعل السوفييت يتشككون في المصريين، واستخدام أزمة الشرق الأوسط في المقايضة مع أزمات أخرى بين روسيا وأمريكا، كما جاء في تقريره الذي قدمه إلى الرئيس نيكسون فيما أسماه ترابط الأزمات.
كان الرئيس السادات مشجعاً لهذا الاتصال، لكن مستشاريه أوضحوا له ما ترمى إليه هذه الاتصالات فتراجع مؤقتاً عنها. وقارب عام 1971 على الانتهاء ومازال الرئيس السادات يصر على إنه عام الحسم، وهو يعلم تماماً أن القوات المسلحة غير مستعدة للمعركة. وبهذا وضع نفسه في مأزق شديد. لكن جاءه طوق النجاة من هذا المأزق بنشوب الحرب بين الهندٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ وباكستان في أواخر عام71، فخرج على الشعب بأن الضباب السياسي الذي تولد عن هذه الحرب منع القوات المسلحة من القتال، حيث أن روسيا كانت مدعمة للهند في هذه الحرب، وعليه فقد تأجل الحسم لوقت آخر. وقد أصيب الشعب المصري بإحباط شديد من جراء هذه الكلمات التي لم تقنعه، وكان رد الشعب عليها هو إطلاق عديد من النكات الساخرة عن عام الضباب وعام الحسم.
من صراع إلى صراع : انقضى عام 1971 بأحداثه والتي كان أبرزها صراع الرئيس السادات مع مراكز القوة وتغيير القيادة العسكرية، لكن جاء العام 1972 ويحمل في طياته صراع آخر للرئيس السادات. فقد تعين الفريق أول/ محمدصادق وزيراً للحربية. لكن بمضي الأيام ظهر التباعد الكبير بين فكر الرئيس السادات وفكر الفريق أول/ صادق خاصة في النقطة الأولى والأهم وهي الحرب.. فالرئيس السادات يتبنى فكرة العبور إلى الضفة الشرقية بأي وسيلة سلما أو حربا،ً والحصول على أي قدر من الأرض في سيناء وحتى ولو بضعة أمتار(كما قال هو) وهو منطق غير مقبول عسكريا. والفريق أول/ صادق لا يرى إلا أن تكون المعركة شاملة ومستمرة حتى خط الحدود المصرية.
كان الرئيس السادات يضع في اعتباره عوامل عديدة حيث القوى العظمى لها دور
في هذه الحرب، والإمداد السوفيتي المتردد يلعب دوراً هاماً في هذه الحرب،
إضافة إلى قناعته التامة بأن الحل في يد أمريكا. ورغم أن الفريق أول/
صادق كان متفقاً مع الرئيس السادات في موقف روسيا من الحرب، لكنه كان يبغي
معركة فوق طاقة القوات المسلحة .. بدأ الخلاف بينهما في أول الأمر مكتوماً،
لكنه تصاعد بمضي الأيام. وفى 2 يناير 1972 عقد الرئيس السادات اجتماعاً
لقادة القوات المسلحة سنذكر بعض ما جاء فيه :
"لواء/ عبد القادر حسن (مسئول الإمداد العسكري) : سيادتك موقف
جريتشكو غير مفهوم.. هذا راجل مارشال وفاهم إن العملية عملية مليون
جندي.. نحن نستطيع وضع 2 مليون جندي. لكن هذا ليس الموضوع،
العملية مش أسلحة تقليدية.. إحنا عاوزين نوعية سلاح، لازم يعطونا سلاح
مثلما أعطوا الهند. لكن معانا اتفاقية الأسلحة على خمس سنين يعني معناها
إن مفيش حرب لمدة خمس سنين. فالمنظر حتى من شكل الاتفاقية متعب.
الرئيس السادات : لا. أنا لم أخذ هذا الانطباع. أنا قرأت الاتفاقية وقرأت
تقريرك وقرأت تعليق صادق ولم أخذ هذا الانطباع أبداً.
لواء/ محمد على فهمي (قائد الدفاع الجوي) : مشكلة الدفاع الجوي حالياً
إني عاوز أحارب حرب هجومية بأسلحة دفاعية. التسليح عندنا كان منصب
على أساس صد العدو عن النفاذ إلى العمق بتاعنا. اليوم طبيعة العمليات كدفاع
جوي اختلفت وعاوز انتقل إلى مسرح سيناء. طبيعة أرض مختلفة وتحتاج إلى
معدات مختلفة توفر الحماية للقوات البرية في أثناء عملياتها الهجومية. لو
مسكت السلاح الموجود عندي حالياً من نوع الصواريخ الخفيفة "الاستريلا"
نجد أنه ليس عندنا القوة التدميرية المطلوبة، وارتفاعها لا يتعدى كيلو ونصف.
طلبنا النوع المعدل قالوا ليس موجود عندنا. وأنا أعلم يقينا بمناقشتي مع الخبراء
المختصين إن عندهم نوع رباعي يضرب على ارتفاعات أعلى وله قوة تدميرية
كبيرة. بالوسائل الموجودة لا نقدر على توفير دفاع جوي كافي أمام السكاى
هوك والفانتوم. بالنسبة للكوادرات (صاروخ أرض/جو على شاسيه دبابة)
هم عرضوا فوج واحد، لكن لطبيعة العمليات المنتظرة نحن نريد أربعة أفواج.
ومن ناحية القيادة والسيطرة لا أتصور مثلاً إن الخبراء يتصلوا بروسيا بالمفتوح
ومكالماتهم مؤمنه. وأنا في جبهة القتال اضطر أرسل إشاراتي بالشفرة ومعنى
هذا20-30 دقيقة علشان أوصّـل معلوماتي.
لواء/ عبد القادر حسن : نظام السرية والتأمين طلبناه منهم، وقلت لهم كيف
يمكن إن قواتكم الموجودة عندنا فيها هذا البند وقواتنا ليس فيها.
اللواء/ سعيد الماحي (قائد المدفعية) : والله يافندم إذا سمحت سيادتك أنا
حاتكلم كمصري أولاً وكعسكري ثانيا،ً دون أن أدخل في اعتباري السياسة الدولية
ومشاكلها رغم أن لها اعتبارها في الوزن السياسي والعسكري. إسرائيل عايزه
تقعد في الأرض من غير أن يقلقها أحد. وهذا الموقف في صالح الأمريكان، وقد
يكون في صالح روسيا بالنسبة لموقفها في الهند وباكستان. وفى صالح العالم
اللي مش عاوز مشاكل. لكنه في غير صالح واحد بس وهو مصر. أنا
كمصري وإحنا كقوات مسلحة لدينا إمكانيات لاشك فيها ولدينا قدره على القتال
ولازم نأخذ مخاطرة محسوبة.
لواء/ على عبد الخبير (قائد المنطقة المركزية) : إذا كان الهدف من
العمليات هو مجرد حرب فهذا لا يعتبر هدف في حد ذاته. إنما الهدف هو تدمير
القوى المعادية والوصول إلى ما نريده. وهذا يتحقق إذا كانت القوات عندها من
الإمكانيات ما يمكنها من تحقيقه فعلاً. وأولها القوات الجوية والغطاء الجوي.
الحاجة الثانية بالنسبة للتسليح. فيه مشاكل في التسليح لها تأثير على العمليات.
عندنا مشاكل في فتح الثغرات واللي عندنا وسائل بدائية.
لواء طيار/ على بغدادي (قائد القوات الجوية) : الذي أريد أن أطلبه هو
وجود طائرة ردع سواء غربية أو شرقية تقدر باستمرار أن تصل إلى قلب
إسرائيل كل يوم. لأن هذا سوف يفرض على العدو أن يأخذ الفانتوم ورا للدفاع
عن عمقه.
لواء بحري/ محمود فهمي (قائد القوات البحرية) : أنا عاوز أتكلم على
وسيلة من وسائل الضغط على الاتحاد السوفيتي. وجود الاتحاد السوفيتي في
البحر الأبيض مرهون بكلمة واحدة من سيادتك. وجودهم في البحر الأبيض
وجود رئيسي ومن أهم العوامل بالنسبة لهم وإحنا ممكن نبتدى الضغط من دلوقت
ونحدد عدد الوحدات السوفيتية التي تدخل موانينا، وبعدين نقدر تمنعها خالص.
اعتقد هذا الضغط هو الضغط المؤثر على الاتحاد السوفيتي.
الرئيس السادات : أنا لسه ما وصلتش لهذه المرحلة يا محمود.
لواء/ أحمد ثابت : أنا عاوز أتكلم في النقطة اللي بعض الأخوان اتكلموا فيها،
وهي إن نعمل أي شيء بالإمكانيات الموجودة معنا. لازم نتذكر إن فيه توقيتين
رئيسيين في الحرب. بداية العمليات ونحن قادرين على تحديده، إنما التوقيت
الثاني متى وأين أنهى العمليات ؟ المطلوب عسكرياً أن أنهى العمليات بفرض
إرادتي على الجانب الآخر بتدميره إنما إذا أتيت في نصف المهمة ووّصلتني
إمكانياتي إلى حد معين، طيب أزاي أفرض على العدو أن يقف.
الرئيس السادات : أنا عايز حلول مش عايز كلام كلاسيكي. نحن لسنا قاعدين
في البنتاجون، ده يقول أنا عايز، وده يقول أنا ناقصني إمكانيات. إحنا هنا في
القاهرة قاعدين علي النيل فى كورنر ومزنوقين فيه. وأنا اتفق مع الأخ الماحي
اللي قال إن إحنا عندنا إمكانيات بس اتعودنا باستمرار نطلب الأكثر، وده لازم وده
قال وده عاد. فيه سؤال بيطرح نفسه. فيه سؤال في الجامعات. أين ثورية
المعركة ؟ وأين الحسم في المعركة. وأين وأين ؟؟ وإحنا لن نتساوى مع
إسرائيل بعد خمس سنين ولا بعد عشر سنين.
لواء/ سعد الشاذلي (رئيس الأركان) : هو مما لاشك فيه يافندم وبرغم
النواقص، فإن القوات المسلحة قادرة على أن تقوم بعمليات محدودة. ويمكن
هناك نقطة واحدة نريد أن تركز عليها، وهي نقطة الحرب الإلكترونية لأنها سوف
تكون عماد عملنا في الدفاع الجوي والقوات الجوية. فيه نقطة ثانية وهي هل
نقدر نقوم بعمليات دون علم الروس ؟
الرئيس السادات : مؤكد لازم نقول للروس. لكن ليس مسبقاً قوى. الروس
مش عاوزينا نتحرك لأنهم لا يثقوا فينا كقوة عسكرية. ثانياً مادام مش واثقين، لا
يريدوا الدخول في مغامرة لا يعرفوا نتيجتها ويضطروا للتورط معنا بحكم
المعاهدة. وإذا أخلوا بتعهدهم فقدوا مركزهم مش في البحر الأبيض لوحده، وإنما
في المنطقة بالكامل.
الفريق أول/ محمد صادق (وزير الحربية) : كل واحد من القادة
الموجودين هنا له رغبة في القتال وإيمان بأنه مفيش حل سلمي. بالعكس كلنا
نقول إن كان ربنا راضي عن هذا البلد فهي لازم تنهى مشكلتها عسكرياً حتى
تستعيد ثقتها في نفسها. وإحنا كعسكريين مؤمنين بالله ومؤمنين بإنقاذ مصر،
فالإنقاذ الوحيد الذي يمكن أن يقدم لمصر في هذه الأيام هو نصر عسكري.
الموضوع الوحيد إن مصر لا تتحمل هذه المرة أبسط هزيمة، بل لا تتحمل حتى
أبسط عدم النصر. لا تتحمله. فلابد أن نكون ضامنين للمعركة على الأقل
بنسبة 60-70% مع الأخذ في الاعتبار كل المخاطرات.
الحاجات اللي ناقصانا هامةً وحيوية جداً وأولها طيارة الردع اللي تصل إلى أرض
العدو. تفتكر سيادتك إنك سألتني : تقدّّر خسائرنا أد إيه في العبور؟ قلت
لسيادتك 17.500، في آخر مشروع عملناه أنا تركت الروس يقدّّّّروا خسائرنا
لغاية اليوم الرابع من المعركة. تقديرهم كان أكثر من 35.000 عسكري، وده
كله إحنا قابلين لكن لا نرمى الناس بدون أن نحقق مكسب. وقبل أن تعبر قواتي
لابد أن يكون عندي الاحتياطي الكافي من الذخائراللى يخللينى أقدر أواصل
المعركة بالقوة. أنا مش عايز أوصل لخط الحدود، لكن عاوز أوصل لخط
المضايق بحيث أجد خط دفاعي أقف عليه. حتى لو استهلكت 25.000
عسكري، لابد أن ندخل معركة كبيرة وليست استنزاف لأن الاستنزاف ليس في
صالحنا.
الرئيس السادات : أنا بس عايز أقول حاجة واحدة. ابتداء من دلوقت عامل
الوقت ليس في صالحنا".
كانت هذه المناقشات تعبير ومرآة صادقة عن رؤية ورؤى القيادة السياسية
والعسكرية المصرية نحو الحرب. الكل يتكلم من منطلق وطني مصري لكن
الأسلوب والأفكار متباعدة بشكل كبير. الرئيس السادات يتمنى أن يجد حلاً
للأزمة عن طريق سلمي، والقادة منهم من يقول بالحرب بما هو متاح، ومنهم من
يريد دعماً كبيراً خوفاً من نتيجة الحرب. لكن المؤكد إن الجميع كان يستهدف
سلامة مصر وشعبها، والدليل الأكبر على هذا إن الجميع قد اتفقوا على إن
المعركة حتمية والوقت ليس في صالح مصر.
وتمضي الأيام ويزداد الخلاف بين الرئيس السادات والفريق أول/ صادق حتى
وصل الأمر إلى أن كل منهما بدأ يتشكك في الآخر ولا يأمن له. وأصبحت
المشادات والتناقضات حول القضايا العسكرية تأخذ الشكل العلني.
ثم تجيء القمة التي عقدت في موسكو بين الرئيس الأمريكي والرئيس السوفيتي في
يونيو1972، والتي أسفرت عن ترتيبات بين القوتين الأعظم لتخفيف حدة
المواجهة بينهما. لكن كانت الصدمة الأكبر في مصر من هذه القمة هو اتفاق
الدولتين على "ضرورة خلق نوع من الاسترخاء العسكري في منطقة الشرق
الأوسط" وهذا بنص الكلمات التي جاءت في البيان الختامي للقمة. وكان لهذه
العبارة التي وردت في البيان الأمريكي – السوفيتي وقع خطير عند مصر وعند
الرئيس السادات بوجه خاص. فالدولتان اتفقتا على كبح جماح الحرب حتى لا
تتصاعد الأمور بين مصر وإسرائيل فتؤدي إلى مواجهة بينهما، وإسرائيل حاليا لا
تريد الحرب، فيصبح المتضرر الوحيد من هذا الاتفاق هو مصر.
اقتنع الرئيس السادات بأنه إذا كانت روسيا تحاول تخفيف التوتر مع أمريكا. فإنه
بالتالي ليس مخطئاً في تفكيره بأنه لابد أن يتصل بأمريكا لأن الحل عندها.
وشعر الرئيس بأنه إذا لم يتحرك فسوف يصبح ضحية على مذبح التقارب والوفاق،
وسوف يستخدم الموقف المصري – الإسرائيلي في لعبه تراكم الأزمات التي
ينادي بها كيسنجر.
كل هذه العوامل كانت تضغط على الرئيس السادات لأنه حتى الآن لم يُجِب على
السؤال المعلق في الهواء "ماذا سنفعل مع إسرائيل ؟". فما كان منه إلا أن
اتخذ قراراً خطيراً بإنهاء مهمة الخبراء السوفيت في مصر ابتداء من منتصف
يوليو 1972. فجر القرار المشاعر والتداعيات والتي كان لها أثر كبير في
مجريات الأحداث اللاحقة. في مصر انتاب الجميع فرحة كبيرة خاصة القوات
المسلحة التي كان احتكاكها مع الخبراء السوفيت مثار مشاكل ومشاحنات يومية،
وشعر القادة أنهم تخلصوا من قيد ثقيل على أفكارهم وتحركاتهم. وأيقنت أمريكا
أنها كسبت نقطة على الاتحاد السوفيتي وإن كانت لم تسع إليها أو تبذل فيها جهداً
يذكر. أما الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية فقد لقي القرار
ترحيباً كبيراً لأنه انحسار للنفوذ السوفيتي في المنطقة.
أما في الاتحاد السوفيتي فقد كان للقرار وقع شديد بدأ بالغضب للكرامة ثم ما لبث
أن استوعبت القيادة السوفيتية الموقف. وظهر أمامها جليا أن مركزها في مصر
مهدد بالضياع وبالتالي في المنطقة وبخاصة في البحر الأبيض. كما ظهر أيضاً
للقيادة السوفيتية أن الرئيس السادات بقراره هذا ليس هو بالرئيس الذي يتواري
خلف الدعم السوفيتي ليؤجل الحرب أو يتهرب منها. فهو بهذا القرار وضع
مصر أمام مسئوليتها وحدها. وفى نفس الوقت كان العديد من القيادات السياسية
والعسكرية في مصر يقولون بأننا لا يجب أن نخسر روسيا نهائياً، واقتنع الرئيس
بهذا الرأي فأرسل بعثة برئاسة الدكتور/ عزيز صدقي لكي تخفف وقع الصدمة
وحفظاً لماء وجه السوفييت أمام العالم.
فوجئ الرئيس السادات بعودة البعثة وفى جعبتها عديد من الموافقات على إمداد
ودعم مصر بشحنات الأسلحة المتأخرة. بل وتقديم أسلحة جديدة منها طائرات
ميج23 وطائرات سوخوى-20 وصواريخ متطورة وعربات قتال ونظام متكامل
للحرب الإلكترونية. وتحيّر الرئيس السادات من هذا الكرم السوفيتي المفاجئ
غير المتوقع فقال في 8 أكتوبر 1972 في اجتماعه مع بعثة الدكتور/ صدقي
"إن الروس يحاولون إغراقه في بحر من السلاح، استجابوا لجميع طلباته وأكثر
حتى يورطوه في معركة يظنون أنه لن يكسبها حتى وإن تحققت كل مطالبه من
السلاح. وإذن فهم يستجيبون لكل طلباته وينتظرون محنته لكي يعود إليهم وقتها
طالباً دعمهم وحينئذ يفرضون عليه كامل شروطهم".
وآثار نجاح بعثة الدكتور/ صدقي غيرة الفريق أول/ صادق فاندفع داخل
وحدات القوات المسلحة مهاجماً هذه الزيارة وهذه البعثة، وكان يصرح للضباط
والجنود بأنه لن يقدم استقالته، بل لمح في بعض الأماكن إلى أن شيئاً يدبّر له
للتخلص منه. وجاء مؤتمر يوم 24 أكتوبر 1972 ليضع خاتمه صراع آخر بين
الرئيس السادات والفريق أول/ صادق وزير الحربية. كان المؤتمر موسعا
مع القادة العسكريين ليستمع منهم مباشرة كل ما يهم الموقف العسكري
والمشكلات التي تواجه القيادات لتنفيذ المهام المطلوبة.
في بداية الاجتماع قام الرئيس السادات بشرح الموقف السياسي وزياراته إلى
روسيا التي تمت في مارس وأكتوبر1971 ثم زيارته في أبريل 1972. كما
شرح الموقف السوفيتي تجاه الحرب التي تنوي مصر القيام بها، وتطور الأحداث
التي انتهت بطرد الخبراء السوفيت، ونجاح بعثة الدكتور/ صدقي رئيس الوزراء
في الحصول على أسلحة جديدة والتعجيل بتسليم الأسلحة المتعاقد عليها من
قبل.. ثم فتح بعد ذلك باب المناقشة. وكان اللواء/ محمد الجمسي هو أول
المتحدثين سائلاً عن الموقف العربي. فرد الرئيس بأن الرئيس حافظ الأسد
سيشترك معنا عن قناعة وإن ليبيا سوف تقدم ما لديها من طائرات ميراج وعدد من
العربات والمدفعية والهاونات.
"اللواء/ عبد المنعم واصل (قائد الجيش الثالث) : إن التدريب والروح
المعنوية على مستوى عال، ولكن إذا قمنا بالهجوم في ظل الأوضاع الحالية فيجب
علينا أن نتوقع خسائر كبيرة. إن الساتر الترابي الذي أقامه العدو على الضفة
الشرقية قد أصبح متصلاً بارتفاع يصل في إلى 20 متر. إن العدو يراني
ويكشف موقعي لمسافة طويلة وأنا لا أراه ولا أعرف ما يدور خلف هذا الساتر.
يجب أن نزيد من ارتفاع الساتر الترابي من ناحيتنا حتى يصل إلى ارتفاع سائر
العدو أو يزيد.
الفريق/ سعد الشاذلي (رئيس الأركان) : سيادة الرئيس، هل ستقوم سيادتكم بتحرك عربي لتعبئة القوى العربية أم إن المعركة ستكون قاصرة على دول الاتحاد ؟. الرئيس السادات : ستكون المعركة مصرية أساساً، وسوف يقف العرب موقف المتفرج في البداية. ولكنهم سوف يجدون أنفسهم في موقف صعب أمام شعوبهم فيضطروا في النهاية إلى أن يغيروا موقفهم. الفريق أول/ صادق (وزير الحربية) : يجب أن نأخذ في حسابنا إمكانية الضرب في العمق. ومن المحتمل جداً أن تقوم إسرائيل بتشجيع من أمريكا بهجوم مفاجئ على مصر. الرئيس السادات : إني أوافق تماماً. قد تبدأ إسرائيل ضربتها قبل 7 نوفمبر القادم. وفى هذه الحالة سوف ينسى العالم المشكلة الأصلية ويبدأ الحديث عن وقف إطلاق النار. اللواء/ على عبد الخبير (قائد المنطقة المركزية) : إن القوات المسلحة لم يتم تدعيمها بأية أسلحة جديدة تزيد من قدرتها الهجومية بل العكس هو الصحيح. إن الاستهلاك العادي في أسلحتنا يجعل قواتنا في تناقص وليس في تزايد. إن ضعف قواتنا الجوية مازال كما هو. ألا تكفي هذه العوامل الهامة كلها لكي نفكر جيداً قبل أن نقرر الدخول في حرب نتحمل فيها خسائر جسيمة ؟. الرئيس السادات : لو أنني أجريت حساباتي على هذا الأساس لما اتخذت قراري بطرد الروس. إن المشكلة هي نكون أو لا نكون (قالها السادات بالإنجليزية). يجب ألا نلقى اللوم كله على الروس، لقد قام الروس بإمدادنا بأسلحة مكنتنا من تسليح جيشين. بصرف النظر عن أنهم هم الذين يختارون السلاح الذي يمدوننا به. اللواء/ على عبد الخبير : إذا كنا نقول نكون أو لا نكون فإنه يجب علينا أن نعبئ مواردنا كلها للمجهود الحربي. الرئيس السادات : إن تعبئة موارد الدولة للمجهود الحربي هي مسئوليتي وليست مسئوليتك، الناس لا يصدقون أنه سيكون هناك حرب. وإذا بقينا كما نحن الآن فسوف تنهار الجبهة الداخلية. اللواء/ نوال سعيد (رئيس الإمداد والتموين) : هل المقصود هو تحرير الأرض أم تنشيط العمليات لإعطاء الفرصة للحل السياسي ؟. الرئيس السادات : لقد سبق أن قلت ذلك للفريق صادق منذ أغسطس وهو كسر وقف إطلاق النار. الفريق/ عبد القادر حسن : قد نبدأ بمعركة محدودة ولكنها قد تتطور إلى حرب شاملة. وقد ننجح في المراحل الأولى من المعركة ولكننا سوف نتحول في النهاية إلى اتخاذ موقف دفاعي. ستبقى إسرائيل في شرم الشيخ وفى معظم سيناء وستكون في موقف أفضل من موقفها الحالي. وقد يدفعها ذلك إلى أن تدعى حقوقها في تلك الأراضي التي تكون مازالت في قبضتها. يجب أن نضع في حسابنا قدرة العدو على ضرب العمق عندنا وعند سوريا أكثر، لأن سوريا لم تستكمل دفاعها الجوي. لا يصح أن ندفع أنفسنا إلى وضع قد يضطرنا إلى أن نصرخ طالبين النجدة من الاتحاد السوفيتي مرة أخرى. الرئيس (بغضب) : يا عبد القادر دى ثاني مرة تغلط فيها. أنا مسئول عن استقلال البلد، وأنا أعرف ماذا أعمل. يجب ألا تتدخل في شيء ليس من اختصاصك، أنت راجل عسكري ولست رجلاً سياسياً. اللواء بحري/ محمود فهمي (محاولاً تلطيف الجو) : إننا جميعاً نؤمن بأن المشكلة لن تحل سلمياً وإن الحرب هي الأسلوب الوحيد لحل هذه المشكلة، إذا كان هناك رأى أو سؤال فإن المقصود منه هو الحرص على مصر ومصلحة مصر. الرئيس (بغضب) : هل تدافع عن عبد القادر حسن ؟ كل واحد لازم يتكلم في حدوده. أنا لا أقبل من أحد أن يفهّمني واجبي...( فترة صمت ) الرئيس (بصوت هادئ) : إننا اليوم نواجه تحدياً صعباً، نكون أو لا نكون. هناك حل جزئي معروض على وينتظر موافقتي ولكني لم أقبله، قد يقبل شخص آخر هذا الحل أما أنا فلن أقبله. وانتم عليكم بالتخطيط الجيد، والتغلب على نواحي النقص الموجودة في قواتنا المسلحة. وفقكم الله". وبعد انتهاء الاجتماع بيومين تم إحالة الفريق أول/ محمد صادق والفريق/ عبد القادر حسن واللواء بحري/ محمود فهمي إلى المعاش وتعين الفريق/ أحمد إسماعيل على وزيراً للحربية واللواء/ فؤاد ذكري قائداً للقوات البحرية.
وبنظرة على هذا الاجتماع وما دار فيه من آراء للقيادة العسكرية والقيادة السياسية نجد أنه مماثل لما دار في الاجتماع السابق الذي تم في 2 يناير. الجميع يعلم وبيقين إن الحرب حتمية. وإن الجهود السياسية لن تؤتى شيئاً، وأن روسيا تدعم مصر لكن بقدر محدود تراه كافياً من وجهة نظرها. لكن الأسلوب مختلف ومتباعد بين الجميع. فالبعض يرى أن ندخل المعركة بما لدينا، والبعض يرى أن نتفوق على إسرائيل حتى نضمن النصر لأن مصر الوطن لا تحتمل هزيمة أخرى، بل لا تحتمل عدم نصر كما قال الفريق أول/ صادق، وكان محقاً في هذا القول، كما كان الرئيس السادات محقاً في قوله بأن نكون أو لا نكون. كان كل فريق يدافع عن وجهة نظره بأدلة وبراهين صحيحة ومقنعة. والأهم إن الجميع كان ينطلق من خوفه وحبه لمصر. وسنرى من قادم الأحداث أي الفريقين كان هو الأصح. لكن آه لو كان الطرفان اتفقا على فكرة واحدة.
تولي الفريق أول/ أحمد إسماعيل منصبه كوزير للحربية والقوات المسلحة لديها
خطتان للعمليات الهجومية. "الخطة41" والتي تقضى بالوصول إلى خط
المضايق لكن بعد الحصول على المعدات والأسلحة اللازمة وتم تغيير اسمها إلى
جرانيت 2 والخطة الثانية "المآذن العالية" والتي تقضي بالعبور بما لدينا من
أسلحة ومعدات واقتحام خط بارليف واحتلال 10-15 كيلو متر في الضفة
الشرقية، وسنعرض لتفاصيل هذه الخطط وما آلت إليه قبل الحرب في مرحلة
التحضير للحرب.
كانت المواقف والأحداث تضغط على الرئيس السادات من كل جانب. فبعد
انتهاء الصراع مع الفريق أول/ صادق وحسمه لصالح الرئيس السادات وجد أنه
مازال لم يجد الإجابة على السؤال الذي مازال معلقاً في الهواء "ماذا سنفعل مع
إسرائيل؟ ". خاصة وإن الجامعات والحياة الثقافية في مصر بدأت هجوماً
على الرئيس السادات لأنه يتكلم كثيراً عن الحرب ولا يفعل شيئاً. وفى نوبة
غضب من هذه الهجمات المستمرة عليه قام بإقالة عدد كبير من الكتاب
والصحفيين من مواقعهم وعدد آخر نقله إلى وظائف في شركات ، وكان لهذه
القرارات آثر عكسي جعل السخط الشعبي يزداد عليه. بل وصل السخط
للقوات المسلحة فتم إلقاء القبض على تنظيم "إنقاذ مصر" بقيادة اللواء/ على
عبد الخبير.
الفصل السادس
الطريق الى الحرب
كانت كل هذه الأحداث أجراس إنذار يسمعها الرئيس السادات جيداً، فكان لزاماً عليه أن يتحرك. فأصدر تعليماته للفريق أول/ أحمد إسماعيل وزير الحربية بالاستعداد لكسر وقف إطلاق النار في نهاية شهر ديسمبر 1972. وطلب منه السفر إلى سوريا على رأس وفد عسكري للتنسيق. وتم التنسيق في الفترة من 10-13 نوفمبر 1972. وبعد عودة الوفد العسكري من سوريا قدم الفريق أول/ إسماعيل تقريراً عن الزيارة إلى الرئيس السادات كان أهم ما فيه " التوقيتات المقترحة للعمليات على النحو التالي :
15 ديسمبر 1972 للانتهاء من التخطيط وعرض الخطط.
31 ديسمبر 1972 استعداد القوات للعمليات الهجومية.
والذي حدث أن الرئيس حافظ الأسد أظهر دهشته من هذه السرعة في بدء العمليات بعد فترة من السكون الطويل حتى أنه قال : معنى ذلك إننا سنبدأ العمليات تخطيطاً وتنفيذاً في ظرف 50 يوماً من الآن".
ودعم الفريق أول/ إسماعيل رأى الرئيس الأسد حيث لم يكن مقتنعاً وأيضا الفريق/ سعد الشاذلي برأي السادات في أن تبدأ مصر هجومها في مطلع عام 1973. فرضخ السادات لهذا الرأي وتأجلت العمليات الهجومية لأجل غير مسمى.
وجاء عام 1973 ليفتح باب الأمل ويُغلقه في نفس الوقت في الاتصال بكيسنجر مستشار الأمن القومي
الأمريكي، الذي أصبحت حلول القضايا في يديه.. فقد نجحت اتصالات سرية في أن تحدد موعد لقاء بين
كيسنجر ومبعوث شخصي للرئيس السادات في يومي 26،25 فبراير. وتقرر أن يكون المبعوث المصري هو
السيد/ حافظ إسماعيل مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي ومعه الدكتور/ حافظ غانم والدكتور/
أشرف غربال. وقد بدأت المباحثات باستعراض كيسنجر لقدراته وأن الاتصالات معه لابد وأن تبقى سرية حتى لا تفشل هذه الاتصالات. وإنه جاد في تناول مشكلة الشرق الأوسط بدليل أنه يسمع للمصريين. ثم عرض الوفد المصري رؤيته للموضوع العربي – الإسرائيلي المُعلق والمُتفجر منذ عام 1948.واسترسلت المناقشات بين كيسنجر والوفد المصري حتى وصل الأمر إلى التطبيع. وفى جلسة المباحثات الثانية نذكر بعض ما جاء فيها :
" كيسنجر : إذا قلنا بالتوفيق بين سيادة مصر وأمن إسرائيل فما هو بخلاف الانسحاب شكل العلاقات ؟
حافظ : التزام إسرائيل بالانسحاب من أراضي مصر يقترن بالتزام سلام نحو إسرائيل.
كيسنجر : هل يمكن أن تعطوني أمثلة لشكل العلاقات ؟
حافظ : إنهاء حالة الحرب.
كيسنجر : أحاول أن أفهم ما معنى سلام كامل ؟
حافظ : إنهاء حالة الحرب، عدم التدخل في الشئون الداخلية لاعتبارات سياسية أو اقتصادية، حرية المرور في الممرات المائية، مناطق منزوعة السلاح، قوة دولية.
غانم : ليس هذا كل ما نريد.. نريد التطبيع.
حافظ : سيمر وقت طويل قبل أن تأتي مسزٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ مائير لمصر لتشتري ما تريد.
كيسنجر: هذه نظرة واقعية، ولو قلتم العكس لما صدقتكم.... وفي ختام اللقاء قال كسينجر: إنكم لستم في حاجة إلينا كسعاة بريد. من وجهة نظركم فإنكم تتوقعون منا أن ندعو إلى حل معين تكون نتيجته حدوث تغير جوهري في المواقف الإسرائيلية الثابتة..هل نستطيع أن نأتي بهذا التغير.أنى أقول لكم أن قدرتنا علي الإقناع تتوقف علي القدر الذي نستطيع الإشارة فيه إلى تغيرات ملموسة في المواقف العربية.
وقد ذكر الرئيس السادات في كتابه (البحث عن الذات) بعض مما قاله كيسنجر للبعثة المصرية "نصيحتي للسادات أن يكون واقعيا فنحن نعيش في عالم الواقع، ولا نستطيع أن نبني شيئا علي الأماني والتخيلات.
والواقع أنكم مهزومون، فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر. فكيف يتسنى وانتم في موقف المهزوم أن تملوا شروطكم علي الطرف الأخر. إما أن تغيّروا الواقع الذي تعيشونه فيتغير بالتبعية تناولنا للحل، وإما أنكم لا تستطيعون.
وفي هذه الحالة لابد من إيجاد حلول تتناسب مع موقفكم غير الحلول التي تعرضونها.وأرجو أن يكون معني ما أقوله واضحا، فلست أدعو السادات إطلاقا إلى تغيير الوضع العسكري. لو حاول ذلك، فسوف تنتصر إسرائيل مرة أخرى أشد مما انتصرت في 1967، وفي هذه الحالة يصعب علينا أن نعمل أي شئ.. وسوف تكون هذه خسارة كبيرة لمصر وللسادات شخصيا، وهو رجل احب أن أتعامل معه في يوم ما".
كانت كلمات كسينجر مهينة وموجعة لكنها واقعية..فالمنتصر يفرض شروطه والمهزوم عليه أن يقبل. لكن غاب عن فكر كسينجر أن إسرائيل لن تستطيع أن تنتصر مرة أخرى مثل ما قال.. لقد صدّرت إسرائيل وأعلامها المُلح المتكرر نشوة وغرور انتصار 1967 حتى وصل إلى فكر داهية السياسة الأمريكية كيسنجر واصبح مقتنعا هو الأخر به وكأنه شئ مسلم به أن تنتصر إسرائيل دائما وتنهزم مصر دائما.
وفي كلمات كيسنجر الرد الكافي علي من أشاعوا أن حرب أكتوبر ما هي إلا تمثيلية اتفق عليها كسينجر مع مصر حتى يستطيع التدخل في الأزمة. قول كله إفك يقع في فخ الأعلام الإسرائيلي الذي حاول أن يسلب مصر والمصريون انتصارا عظيما اعترف به العالم اجمع. فهل نتناسى ما قاله روجرز وزير الخارجية عن ولاء كيسينجر لأمته اليهودية؟! وهل يقبل كيسينجر على اليهود خسائر في الأرواح وجرحى لكي يستطيع التدخل في الأزمة؟! وهل توافق إسرائيل على الدخول والاشتراك في هذه التمثيلية، والتضحية بأرواح جنودها في سبيل تمكين كيسينجر من الدخول في المشكلة ؟! لقد كانت الأزمة فعلا في يد كيسينجر ووصل الطرح المصري في الاجتماع المشترك إلى حد أن مصر تأمل في الوصول إلى التطبيع. فكيف بعد هذا يقال إن حرب أكتوبر كانت أمر متفق عليه بين الرئيس السادات وكيسنجر ؟؟!!.
وأيقن الرئيس السادات أن هذا آخر ما كان يستطيع علي طريق الحل السلمي، وانه لابد وان يتجه إلى طريق الحرب.. ونحمد الله علي فشل الحل السلمي.. وفى ربيع 1973 اختمر القرار في فكر الرئيس السادات ثم بدأ في تنفيذه.. كانت الخطوة الأولى هي توليه رئاسة مجلس الوزراء، حتى يتجمع في يد واحدة القرار السياسي والتنفيذي ليتم حشد كل الطاقات والإمكانات،ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ لصالح المجهود الحربي وللمعركة المقبلة. لكن وبالتوازي مع قرار الحرب وللتمويه والخداع الاستراتيجي كان يرسل بالمبعوثين والمندوبين إلى الأمم المتحدة والرؤساء والملوك في مختلف دول العالم وكأنه مازال متعلقا بالحل السلمي
دقت طبول الحرب
لما انحسر وفشل الحـل السلمي، لم يعـد أمـام الرئيس السادات إلا الحـرب.. فأعطى توجيهاته إلي الفريق أول/ إسماعيل بالاستعداد وتجهـيز القوات المسلحة لعملية هجومية كبيره في مايو1973. والحق إن القـوات المسلحة لم تكن في حاجة إلي هذا التوجيـه، فمنذ وقف إطلاق النار في أغسطس 70 وكل أفـرع ووحدات القـوات المسلحة في تدريب مستمر انتظارا لليوم الموعـود الذي تبدأ فيه المعركة.. اسُتبعدت حرب الاستنزاف بكل أشكالها السابقة (تراشقات بالمدفعية,عمليات إغارة،هجمات جوية) وتقرر أن تكون المعركة القادمة ضربـة كبيره قويـه مع الاستعداد لصد ضربة العدو المضادة التي سيوجهها حتما إلى قواتنا التي ستنجح في العبور شرقاً.
وتوافق القرار السياسي والعسكري، فتقرر أن تقـوم القوات المسلحة المصرية بالتنسيق مع القوات المسلحةالسورية بعمليه هجومية رئيسيه لتغيير موازين القـوى والموقف السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط.. حتى يسمح هـذا الموقف الجديد لباقي الدول العربية التدخل والتأثير في المعركة كل بما يملك من.. كان الهدف العسكري هـو هزيمة قوات العدو الإسرائيلي في سينـاء والهضبة السورية والاستيلاء على مناطق حاكمه ُتمكن قواتنا من تطوير الهجوم وتحرير باقي الأرض المحتلة.
كان الهـدف واضحا للقيادة العسكرية فتحولت الخطط الموجودة "الخطه 41- والمآذن العالية" بعد التطوير وتحديث آخر موقف عليها إلى الخطة "جرانيت1- وجرانيت2".. تقوم قواتنا المسلحة في (جرانيت1)
بالتعاون مع القوات السورية باقتحام قناة السويس وتدمير خـط بارليف والاستيلاء علـى رؤوس كبارى بعمق 10-15 كيلومتر علـى الضفة الشرقية للقناه... وتقـوم القـوات السورية بالهجوم في الجولان وتدمير العدو والوصول إلى خط من نهـر الأردن حـتى الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية.. ثم إذا توافـرت الظروف تقوم القوات المصرية بعـد وقفـة تعبوية أو بدونها بتنفيـذ الخطة (جرانيت2 ) التي تصـل بقواتنا إلي خط المضايق في وسط سيناء.
بدأت على الفور الاجتماعات علي كافة مستويات القيادة العسكرية المصرية بهدف دراسة أخر موقف للعدو والأعداد والتجهيز للهجوم، كما بدأت اجتماعات التنسيق بين القيادة العسكرية المصرية ونظيرتها السورية لتوحيد الجهود واختيار انسب موعد للهجوم المشترك. وأسفرت الاجتماعات عن اختيار موعدين، الأول في شهر مايو والثاني في أكتوبر من نفس العام، علي أن يتحدد الموعد النهائي من قبل القيادة السياسية في مصر وسوريا. وقد تشاور الرئيس السادات مع ملك لسعودية فأرسل علي الفور مندوب له لكي يبلغه دعم السعودية الكامل للمعركة لكن يرجوه أن يؤجل الموعد عن شهر مايو لكي يتسنى توفير مخزون كافي من المواد التموينية. وقد استجاب الرئيس السادات للطلب خاصة وان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يقول بأن أكتوبر هو الموعد الأنسب.
كانت الوحدات في أفرع القوات المسلحة تواصل تدريبها الشاق اليومي، وفي نفس الوقت كانت القيادة العامة تواصل التخطيط ليل نهار، حتى يُمكن الوصول إلى أحسن استخدام لتلك الوحدات.. كان معروفا وواضحاً للجميع أن الفكر الإسرائيلي لا يتزحزح عن ثوابت محدده تشكل نظرية الأمن الإسرائيلي أهم هذه الثوابت هو:
- نقل الحرب إلى ارض العدو.
- مفاجأة العرب بالحرب والاحتفاظ بالمبادأة.
- الردع الحاسم والفوري.
- مواجهة الجيوش العربية فرادى.
- لابد من ارتباطها بقوة عظمى تؤازرها في الحرب.
كان المطلوب من المخطط المصري هدم نظرية الأمن الإسرائيلي، وإرغام إسرائيل بالقوة على الاقتناع بأن وضعها الحالي لا يوفر لها الحدود الآمنة.. خاصة وإن مفهوم الحدود الآمنة في الفكر السياسي الإسرائيلي هو احتلال مزيد من الأراضي ثم المماطلة وعدم الانسحاب منها. وبن جوريون له قول شهير"إن عمل وزارة الخارجية الإسرائيلية هو تبرير ما تقوم به وزارة الدفاع من توسع". ولهدم نظرية الأمن الإسرائيلي كان على المخطط المصري أن يقوم بالآتي:
- حرمان إسرائيل من بدء القتال وتوجيه ضربة مسبقة لنا.
- حرمانها من استخدام قواتها الجوية وهى العنصر المتفوق ضد قواتنا.
- مفاجأتها بالضربة الأولى وإيقاعها في حالة الارتباك التي تنجم عن الضربة الأولى.
- تأخير الضربة المضادة بقواته المدرعة التي ستؤثر على قواتنا في المراحل الأولى.
- حصار بحري من بُعد حتى يصبح تمسكها بشرم الشيخ غير ذي جدوى.
وكان التخطيط المصري يستند على ركائز في الفكر الإسرائيلي، هي بمثابة ثقوب استطاع المخطط المصري أن ينفذ منها ويفاجئ العدو بما لا يتوقعه. وأهم هذه الثقوب هو:
- خرجت إسرائيل من حرب 1967 وخاصة القيادة العسكرية وهى تعيش وهم كبير وثقة مفرطة في أنها
حققت نصرا كبيرا, حتى انقلب إلي غرور جعلهم يتصورون إنهم قادرون على عمل أي شيء بنا في أي وقت شاءوا.
- أفدح الأخطاء التي وقعت فيها إسرائيل هي إنها توهمت وصدقت إن الجندي الإسرائيلي يتميز نوعيا عن المصري في كل شيء، وبإضافة الفارق التكنولوجي الكبير بين المعدات والأسلحة الإسرائيلية ومثيلتهاالمصرية, يصبح الجندي المصري غير قادر على العمل الجاد أو إنجاز هدف ولو محدود.
- لم يخطر ببال إسرائيل إن الرئيس السادات قادر على اتخاذ قرار الحرب، خاصة وإنه تكلم كثيرا ولم يفعل شيئا، وطرد الخبراء السوفييت وَضَع القوات المسلحة في وضع العاجز عن عبور مانع قناة السويس بصعوباته علاوة على خط بارليف.
- كانت إسرائيل بحكم التاريخ متأكدة بأن العمل العربي المشترك ضرب من المستحيل.
وقد أفادت هذه النقاط المخطط المصري أيما فائدة، وأعمت بصيرة القادة الإسرائيليين رغم الوضوح الشديد أمام أعينهم.. فالمصريون (الأقل كفاءه وُقدره في نظرهم) قاتلوا بشراسة في رأس العش، وكان هناك اشتباك شبه يومي، ثم كانت الغارات على المواقع الإسرائيلية حتى الوصول إلي ميناء إيلات، وفى النهاية بناء حائط الصواريخ رغم القصف الجوى العنيف. وكل هذا لم يغير الفكر الإسرائيلي..وكان على القيادة المصرية أن تدرس نقاط القوه والضعف عند العدو حتى تستفيد من نقاط الضعف وتتجنب نقاط القوة.. وأهم نقاط القوه عند العدو هي استناد نظامه الدفاعي على مانع مائي قوى هو قناة السويس، علاوة على التحصينات الدفاعية التي تسيطر على الضفة الشرقية للقناه( خط بارليف)، كذا وجود احتياطيات عديدة من القوات المدرعة والميكانيكية متمركزة في أنساق متتالية في عمق سيناء.. وكانت أهم نقاط ضعف العدو هو طول مواصلاته وطول مواجهته الدفاعية علي امتداد قناة السويس إضافة إلى غروره واستهانته بقدره القوات المسلحة المصرية كما ذكرنا سلفا.
لذا قرر المخطط المصري أن يكون الهجوم شاملا بمواجهة القناة (175 كيلومتر) بواسطة 5 فرق مشاه تحت حماية حائط الصواريخ ضد قصفات العدو الجوية المتوقعة.. وان تقوم القوات الجوية بالدعم الجوي للقوات المهاجمة وحماية المطارات والأهداف الحيوية في الدلتا ضد هجمات العدو الجوية.. وتقوم القوات البحرية بحماية الجانب الأيسر للقوات المهاجمة من أمام شواطئ سيناء علي البحر الأبيض. وإغلاق مضيق باب المندب جنوب البحر الأحمر فتتوقف حركة الملاحة من والي ميناء ايلات...وكان هذا التخطيط يحقق للقوات المصرية الأتي:
- تشتيت المجهود الجوي الإسرائيلي علي طول المواجهة(175 كيلو متر) مما يجعل هجماته غير مؤثرة علي العبور أو التقدم.
- عدم اكتشاف اتجاه المجهود الرئيسي لقواتنا، وبذلك يتأخر هجومه المضاد بالمدرعات مما يعطي الفرصة لقواتنا كي تتوغل شرقا ويتماسك خط دفاع الفرق المهاجمة.
كما كان مقررا دفع كمائن الصاعقة في عمق سيناء، تكون مهمتها الأساسية هي تعطيل وتأخير وصول المدرعات الإسرائيلية القادمة من الخلف لنجده قوات خط بارليف،بما يتيح لقواتنا المهاجمة فترة أطول للتعامل مع قوات خط بارليف بمفردها.
بشائر النصر القادم
كان هناك كثير من المشاكل الضخمة والمعقدة أمام المخطط المصري التي يجب حلها كي تنجح عملية الهجوم،
فأن تعبر قناة السويس كمانع مائي وخلفة خط بارليف بخمسة فرق مشاة بالمواجهة كان أمر يبدو شبه مستحيل ، وقد قرأنا ماذا قال موشي ديان ودافيد اليعازر وحاييم بارليف عن أن عبور القوات المصرية يستحيل التفكير فيه وانه إذا حدث فسيكون مقبرة للمصريين.
- أول هذه المشاكل التي كانت تواجه التخطيط المصري، هو قناة السويس كمانع مائي يعتبر من اصعب الموانع المائية في العالم. يتراوح عرض قناة السويس 180 –220 متر ومن خصائصها التي تجعلها بالغة الصعوبة أن الشاطئ شديد الانحدار مغطي بستائر أسمنتية تمنع نزول وصعود المركبات البرمائية إلا بعد عمل تجهيزات هندسية خاصة.. كما تتميز القناة بظاهرة المد والجزر فيبلغ الفرق في شمال القناة 60 سم بين أعلي مد وأقل جزر أما في الجنوب فيصل إلى 2 متر، وهذا الفرق يستلزم تجهيزات كثيرة وأعمال فنية خاصة لإقامة الكباري وإنشاء المعديات.. وتزداد صعوبة القناة باختلاف سرعة تيار الماء فيها، ففي القطاع الشمالي تصل سرعة التيار إلى 18 متر/الدقيقة أما في الجنوب فتصل إلى 90متر/دقيقة وعلاوة علي ذلك يتغير اتجاه التيار كل 6 ساعات من الشمال إلى الجنوب وبالعكس.
- ثم أضاف العدو عقبة أخرى هي خط بارليف الذي شرحناه تفصيلا من قبل، فأصبح له في شرق القناة منطقة دفاعية حصينة من بور فؤاد شمالا وحتى رأس مسلة جنوبا تحوي في داخلها قوات مدرعة ومشاة ميكانيكية ومدفعية ودفاع جوي، في تحصينات هندسية محاطة بحقول الغام وحولها مستودعات وقود وذخيرة ومراكز قيادة وسيطرة، ويخدم كل هذا شبكة كبيرة من الطرق الطولية والعرضية، وتستند علي موانع طبيعية في الغرب والشمال والجنوب (قناة السويس- البحر الأبيض – جبال جنوب سيناء والبحر الأحمر).
- ولم يكتف العدو بكل هـذا، فأضاف خزانات نابالم مدفونة في مواقع خط بارليف وعن طريق مواسير يتم ضخ النابالم فيتحول سطح القناة إلي شعلة نيران لا تنطفئ .. وقام العـدو بتجربة حيـّه أمـام قواتنا حتى يزداد المصريون يأسا من العبور.
بهذه العقبات نجد أن المهمة كانت شبه مستحيلة أمام المصريين، وأكدت أقوال كثير من الخبراء العالميين هذه الإستحالة. وهذا ما أعطى الأمان والغرور للإسرائيليين، لكن المصريون كان لهم رأى آخر.
قامت القيادة العسكرية المصرية بأفرعها المختلفة بدراسة هذه المشاكل والعقبات والعمل على حلها. وكان أن صدرت تعليمات إلي قـادة الفرق الوحدات بطرح مشاكل العبـور على الضباط حتى أصغر رتبه والاستماع إلي الآراء والمقترحات منهم لحلها. وكانت باكورة هذا الأسلوب هو التغلب علي مشكلة المشاكل وهي الساتر الترابي، التي لم يُمكن حلها بالمدفعية أو الطيران. فمن الفرقة 19 مشاه جاء المقدم مهندس/ باقي زكي يوسف باقتراح لإزالة الساتر الترابي بطريقة مبتكرة، ليست القنبلة الذرية كما قال السوفيت وإنما بواسطة طلمبة المياه. من خبرة هذا المهندس المصري في أثناء عمله بالسد العالي جاءته فكرة أن نستخدم طلمبة مياه توضع فوق عائمة تحملها في مياه القناة، ومن الطلمبة تندفع المياه من خلال مدفع مائي تحت ضغط عالي يصوب نحو الساتر الترابي فتنهال الأتربة والرمال وينجرف الساتر إلى قاع القناة.. وكان التخطيط يتطلب فتح 85 ممر في الساتر الترابي ، وفتح كل ممر يستلزم إزالة 1500 متر مكعب من الأتربة والرمال، وبالحساب كانت هذه الطلمبات تستطيع تنفيذ هذا العمل في 4-6 ساعة. وفور إقرار الفكرة من القيادة العامة بعد التجارب العديدة،
قامت وحدات القوات المسلحة بالتدريب علي منطقة تماثل قناة السويس علي الرياح البحيري قرب مدينة الخطاطبة.. ولنا أن نتخيل حجم الجهد الذي تم لكي تتدرب 85 وحده من المهندسين علي أعمال فتح ممرات في الساتر الترابي( مرتان نهارا – مرتان ليلا).. وفي كل مرة يتم إنشاء ساتر ترابي مماثل لخط بارليف ثم أزالته وفتح الممر، ثم يعاد إنشاؤه مرة أخرى وهكذا بأجمالي 340 مره، وفى كل مرة إنشاء وإزالة 1500 متر مكعب من التراب.
وجاءت الفكرة الثانية من الفرقة 21 مدرعة حيث اقترح المقدم/ إبراهيم شكيب فكرة ُتبطل عمل مواسير النابالم التي تحيل سطح القناة إلى نيران مشتعلة، وذلك بأن تعبر مجموعات من الضفادع البشرية ليلا قبل العبور
بساعات وتقوم بسد فتحات خروج النابالم من المواسير بواسطة أسمنت خاص، وبهذا تصبح هذه الوسيلة غير ذات جدوي.. وقد تمكنت القيادة العسكرية المصرية بفضل فكر هذان الضابطان حل أعقد مشكلتان كانتا أمام عملية العبور. كان علي المخطط المصري وقد أصبحت العمليات الهجومية علي الأبواب أن يستكمل تجهيز مسرح العمليات هندسيا، مستندا علي طاقات الشركات المدنية للمقاولات والإنشاءات وشركات استصلاح الأراضي وشركات الطرق والرصف. الكل كان يقدم أقصى ما يستطيع.. البداية كانت إنشاء ساتر ترابي علي الضفة الغربية للقناة لحماية قواتنا من مراقبة واستطلاع العدو وكذا حماية من نيرانه.. إضافة للساتر تم إنشاء عشرات من الهيئات الحاكمة أعلي من الساتر الترابي لخط بارليف أطلق عليها ( مصاطب دبابات).. كانت الهيئة علي شكل حدوة الحصان الضلع الرئيسي يطل علي الضفة الشرقية وبأعلى ارتفاع والضلعان الآخران ينحدران إلى الغرب، حجم الهيئة الواحدة 180 ألف متر مكعب من الرمال والأتربة. كان الهدف من الهيئات أن تحتلها الدبابات المصرية وأسلحة الضرب المضادة للدبابات لحظة العبور وتقوم بالضرب المباشر علي قوات العدو المتقدمة إلى شاطئ القناة الشرقي. ولم يتفهم دايان الغرض من هذه الهيئات فأطلق عليها تعليقا ساخرا " إن المصريين مغرمين ببناء الأهرامات" وفي اللحظات الأولى يوم 6 أكتوبر عرف دايان الغرض من هذه الأهرامات التي أمطرت قواته بالنيران ومنعت وصولها إلى القناة. وحتى يمكن المناورة أثناء الاقتحام والعبور تم إنشاء شبكة من الطرق والمدقات بلغ طولها في منطقة الجبهة فقط 2000 كيلو متر، وتم إقامة وتجهيز ساحات الإسقاط اللازمة لإنشاء الكباري علي الضفة الغربية من السويس إلى القنطرة، وعلي مسافات متساوية حتى لا يكتشف العدو مبكرا أماكن العبور الحقيقية فيركز عليها مجهوده الرئيسي.. واستطاع المهندسون المصريون إعداد معدات العبور اللازمة. كما تم توفير 2500 قارب، وابتكار سلالم من الحبال وعربات اليد المجرورة، ومعدات أخرى متنوعة.. وجري تنفيذ كل هذا في الورش والمصانع المصرية المدنية والحربية، وقد سهلت هذه المهمات والمعدات الكثير في نقل الأسلحة والإمدادات والذخيرة اللازمة في الساعات الأولى في المعركة.. ويكفي المهندسون فخرا وعلي رأسهم اللواء مهندس/جمال محمد علي أن كل قواتنا المسلحة برية وبحرية وجوية كانت تعمل وتنطلق من مواقع هي حصيلة جهدهم وتضحياتهم التي فاقت الخيال.
نبضات من قلب أكتوبر
- كانت هيئة عمليات القوات المسلحة تحت قيادة اللواء/ محمد الجسمي، وكان حاضرا مؤتمر 24 أكتوبر 1972 ووضح له من خلال كلمات الرئيس السادات أن مصر لابد أن تحارب في عام 1973 وإلا فان القضية ستنتهي وتموت. فقام في بداية عام 1973 بمبادأة من الهيئة وضباطها بتجهيز دراسة تحدد انسب التوقيتات للهجوم خلال عام 1973، وعلي ضوئها يقرر الرئيس السادات موعد الهجوم المصري بالتنسيق مع الرئيس السوري وتبعا للموقف السياسي. ونقرأ من خلال مذكرات صاحب هذه الدراسة ماذا قال عنها " وضعنا في هيئة العمليات – بمبادأه من الهيئة- هذه الدراسة علي ضوء الموقف العسكري للعدو وقواتنا، وفكرة العملية الهجومية المخططة، والمواصفات الفنية لقناة السويس، وساعات الإظلام وساعات ضوء القمر التي تحقق افضل استخدام لقواتنا وأسوء الظروف للقوات الإسرائيلية. كما كان ضروريا اختيار افضل التوقيتات التي تناسب تنفيذ الهجوم علي الجبهتين المصرية والسورية.. درسنا كل شهور السنة لاختيار افضل الشهور، ثم انتقلنا في الدراسة لتحديد طول الليل يوميا، لاختيار ليل طويل بحيث يكون النصف الأول منه في ضوء القمر والنصف
الثاني في حالة إظلام، حتى يسهل تركيب وإنشاء الكباري في ضوء القمر ويكون عبور القوات والأسلحة والمعدات في الظلام.
واشتملت الدراسة أيضا جميع أيام العطلات الرسمية في إسرائيل، وجدنا أن لديهم ثمانية أعياد في السنة منها ثلاثة أعياد في شهر أكتوبر، وكان يهمنا في هذا الموضوع معرفة تأثير كل عطلة علي إجراءات التعبئة في إسرائيل التي تعتمد اعتمادا رئيسيا في الحرب علي قوات الاحتياط.. ولإسرائيل وسائل مختلفة لاستدعاء الاحتياطي.. وجدنا أن يوم عيد الغفران( يوم كيبور) هو يوم سبت وتتوقف فيه الإذاعة والتلفزيون عن البث كجزء من تقاليد هذا العيد، أي أن استدعاء قوات الاحتياطي بالطريقة العلنية السريعة لن يستخدم وبالتالي سيستخدمون وسائل أخرى تتطلب وقتا أطول لتنفيذ تعبئة الاحتياطي.
ثم انتقلنا في الدراسة إلى الموقف الداخلي في إسرائيل. كانت تجري انتخابات البرلمان يوم 28 أكتوبر.
ومن هنا كان من المفيد أن يوضع شهر أكتوبر في الاعتبار كشهر مناسب لشن الحرب إذا كانت العوامل الأخرى السابق شرحها مناسبة للعملية الهجومية.. وعن الوقت المناسب للهجوم علي الجبهة السورية، كان لا يجب أن يتأخر بعد شهر أكتوبر حيث حالة الطقس والجو تصبح غير مناسبة نظرا لبدء تساقط الجليد.
ووصلنا من هذه الدراسة إلى تحديد انسب الشهور خلال عام 1973 للقيام بالعملية الهجومية، وكان انسبها ثلاثة توقيتات (مايو - أغسطس - سبتمبر/ أكتوبر) وكان أفضلها شهر أكتوبر، فالشهر يزدحم بثلاثة أعياد،
وتستعد فيه الدولة لانتخابات البرلمان.. ويأتي فيه شهر رمضان بما له من تأثير معنوي علي قواتنا، ولا يتوقع العدو الإسرائيلي قيامنا بالهجوم في شهر الصيام. واستكملنا في نفس هذه الدراسة الطويلة والعميقة اختيار اليوم المناسب في كل شهر وقع الاختيار عليه.. وكان 6 أكتوبر 1973 ( 10 رمضان 1939) هو الذي وقع الاختيار في مجموعة سبتمبر/ أكتوبر للعوامل السابق شرحها، وقد اعتقد الكثيرون أن هذا اليوم تحدد للهجوم المصري والسوري لأنه فقط يوم كيبور في إسرائيل وهو اعتقاد خاطئ لان هناك عوامل أخرى كثيرة تحكمت في تحديد هذا اليوم.
- وتحددت ساعة (س) أي ساعة بدء الهجوم قبل أخر ضوء بمدة 3.5 ساعة حتى يمكن خلالها إنجاز الأعمال الرئيسية في العملية الهجومية.
- توجيه ضربة جوية بواسطة القوات الجوية المصرية والسورية وتكرارها.
- تنفيذ التمهيد النيراني بالمدفعية.
- عبور القوات المصرية للقناة بالقوارب وعبور القوات السورية خندق الدبابات.
- فتح الممرات بواسطة طلمبات المياه في الساتر الترابي، وتحريك الكباري من مناطق التجمع وبدء إسقاطهافي القناة.
- إبرار الصاعقة في عمق سيناء لتشتبك مع الاحتياطات المتجهة لنجدة خط بارليف.
كان هذا التوقيت يجعل رد الفعل المؤثر للعدو سواء بالطائرات أو المدرعات يتأخر حتى صباح اليوم التالي مما يقلل من تأثير تدخل قوات العدو في المرحل الأولى لعبور قواتنا. لقد كانت العقول المصرية في هيئة عمليات القوات المسلحة علي قدر عالي من الكفاءة فلم تترك شيئا مهما َصٌغر إلا وقامت بدراسته تفصيلا، فخرج التخطيط للهجوم عملا عسكريا علي أعلي مستوي.
لم تكن هيئة العمليات تعمل بمعزل عن الآخرين، وإنما كانت في دراستها المستفيضة تستعين برجال الأرصاد لمعرفة كافة الظروف المحيطة بيوم الهجوم، وأيضا بأساتذة في علوم البحار لمعرفة كافة تفاصيل المد والجزر وسرعة التيار واتجاهه، وأخرين في تخصصات مختلفة. وكان الجميع يتسابق بتفاني في تقديم المشورة وُيسّّّّّخر كل علمه لما تطلبه القوات المسلحة. ولم يقتصر هذا التعاون علي هذه الدراسة فقط وانما كان في نواحي أخرى كثيره كان أهمها ما حدث في بداية عام 1971.
- فى مطلع العام توالت التقارير أمام اللواء/محمد على فهمي قائد الدفاع الجوى،تشرح بإستفاضة الحالة الفنية التي عليها الصواريخ م/ط ، والتي تواجه وتقترب من مشكلة ضخمه.. كان الموقف بالنسبة لوقود الصواريخ سيئا للغاية، فالجزء الأكبر منه قاربت صلاحيته على الانتهاء بعد شهور قليلة، والجزء الآخر انتهت صلاحيته فعلا وأصبح عديم الجدوى، والإمداد السوفيتي من هذا الوقود متوقف.. كان الموقف خطيرا وينذر
بأوخم العواقب، ولابد من حل سريع. فعبور القوات المسلحة إلى الشرق يتوقف نجاحه على الحماية التي يوفرها حائط الصواريخ المصري ضد تدخل الطيران الإسرائيلي.. لم يستجب الاتحاد السوفيتي لطلبنا المتكرر للوقود، فاتجه اللواء/فهمي إلى الأجهزة والمعامل الفنية داخل القوات المسلحة أولا لكنها عجزت عن حل المشكلة. فاتجه علي الفور إلى العلماء المصريين المدنيين، وفي سرية تامة تم عرض المشكلة عليهم.
وتقدم لهذه المهمة أحد المصريون حقا الدكتور/ محمود يوسف سعادة الذي انكب علي الدراسة والبحث، فنجح في خلال شهر واحد من استخلاص 240 لتر وقود جديد صالح من الكمية المنتهية الصلاحية الموجودة بالمخازن. كان ما توصل إليه الدكتور محمود هو فك شفرة مكونات الوقود إلى عوامله الأساسية والنسب لكل عامل من هذه المكونات. وتم إجراء تجربة شحن صاروخ بهذا الوقود وإطلاقه ونجحت التجربة تماما، وعم الجميع الذين حضروا التجربة فرح طاغي وانطلقوا يهتفون بحياة مصر.
وكان لابد من استثمار هذا النجاح فتم تكليف أجهزة المخابرات العامة بإحضار زجاجة عينة من هذا الوقود من دولة أخرى غير روسيا، وبسرعة يتم إحضار العينة، كما تم استيراد المكونات كمواد كيماوية. وانقلب المركز القومي للبحوث بالتعاون مع القوات المسلحة إلى خلية نحل كانت تعمل 18 ساعة يوميا. ونجح أبناء مصر مدنيين وعسكريين الذين اشتركوا في هذا الجهد العظيم في إنتاج كمية كبيرة (45 طن) من وقود الصواريخ.
وبهذا اصبح الدفاع الجوى المصري على أهبة الاستعداد لتنفيذ دوره المخطط له في عملية الهجوم. وقد كانت مفاجأة ضخمة للخبراء السوفييت -كان مازال بعضهم موجودا – الذين علموا بما قام به المصريون دون استشارة أو معونة من أي منهم.
لم تكن القوات المسلحة وحدها هي التي تقاتل حرب الاستنزاف أو تستعد لخوض حرب أكتوبر 1973. لقد كانت مصر كلها علماء. فلاحين. عمال. مهندسين. طلاب. مثقفين على قلب رجل واحد.. وقد شاهدنا ماذا فعل العمال والفلاحين في بناء حائط الصواريخ ودشم الطائرات. وشركات المقاولات والإنشاء والمدنية، وشركات الطرق والرصف، والمصانع المدنية ومراكز الأبحاث العلمية... الخ
- ولكن كان هناك مجموعة من الأفراد المدنيين سلكت اتجاها آخر في دعم القوات المسلحة ومساندتها طوال الست سنوات. فعندما صدر قرار التهجير لأهالي مدن القناة حفاظا عليهم من غدر العدو، تنفذ القرار إلا من بعض مئات من الأفراد ظلوا متمسكين بأماكنهم. ومن الذين بقوا في المدن الثلاث تكونت فرقة للغناء الشعبي في كل مدينة. في بور سعيد تكونت فرقة أولاد البحر بقيادة كامل عيد، وفي الإسماعيلية فرقة الصامدين بقيادة حافظ الصادق، وفي السويس فرقة أولاد الأرض بقيادة كابتن غزالي. كانت كل فرقة تتكون من 10-12 فرد
أحدهم يعزف على الآلة الشعبية لمدن القناة المعروفة (السمسمية) وآخر للإيقاع والباقي للغناء. كان الهدف الأساسي للفرق الثلاث هو تحفيز المقاتل المصري وإشعال الحماس فيه. وفى نفس الوقت محاولة للترفيه عنه بعد عناء يوم شاق وطويل. وقد طافت هذه الفرق على الكثير والكثير وغنّت في معظم المعسكرات ووحدات القوات المسلحة. وكان لغناء هذه الفرق البسيطة وسط الجنود مذاق خاص، وساهم بشكل كبير في رفع الروح المعنوية.
فالكلمات صادقة، بسيطة، ومن القلب وتعبّر عن الهدف الذي يسعى المقاتلون إليه، فوصلت إلي المقاتلين بسهولة وبأبسط آلة شعبية. ونعرض جزء يسير من غنائهم.. فحين استشهد الفريق/ رياض في حرب
الاستنزاف غنى له أولاد الأرض في الإسماعيلية :
موج الكنال غنى وقال ... رياض يا مصر سقط شهيد
راجل ولا كل الرجال ............ جرئ وقلبه من حديد
قائد وكان من موقعه .............. طاقة محبة بتدفعه
طالل وقلبه ع الكنال ............... كأنه كان بيودعه
وكان أشهر ما غنى كابتن غزالي
غنى يا سمسمية .... لرصاص البندقية
لكل أيد قوية .. حاضنة زنودها المدافع
كما ظهر في القاهرة ثنائي مكون من الشاعر أحمد فؤاد نجم والمُلحن والمُغّنى الكفيف الشيخ إمام عيسى.
بكلمات الأول وألحان وأداء الثاني ومعه الحاضرين، غنى المثقفين وطلبة الجامعات حماسا وشجنا في حب مصر. كانوا يتجمعون في آي مقهى أو قاعه أو حتى في المنازل، ومن أجمل ما قالوا:
مصـر يا أمه يابهيّه.... يا أم طرحه وجلابية.... الزمن شاب ، وأنت شابّه.... هـو رايح ،
وأنت جايّه.... جايّه فوق الصعب ماشيه... فات عليك ليل وميّه... واحتمالك هو هو ..
وابتسامتك هي هي ... تركبي الموجه العفيّه... توصلي بر السلامة... معجبانيّه وصبيه
يابهيـه...
كانت الكلمات والألحان بسيطة، نابعة من قلوب مصرية صادقة، تحب مصر في صمت . قامت بهذا العمل
دون توجيه أو طلب أجر. كان هدفهم أن يبقى المقاتل المصري صامداً حتى يتحقق النصر وقد كان لهم ما
أرادوا.
العد التنازلي للحرب
انقضت فترة مايو 1973 التي كانت مقترحة لتنفيذ الهجوم المصري، ولم يعد هناك إلا فترة سبتمبر/أكتوبر وقد شرحنا سابقاً كيف تم اختيار شهر أكتوبر وهو الأفضل وتحديد يوم السادس منه وتوقيت ساعة "س"..لكن فترة مايو هذه لم تمر على إسرائيل كأمر عادي، فقد أعلنت حالة الطوارئ وقامت بتعبئة جزئيه.. توجست إسرائيل من التحركات والاستعدادات المصرية، وتوقعت أن تقوم مصر بعملية هجومية شرق القناة في هذه الفترة. وقد أثار هذا التوجس المخابرات العسكرية الإسرائيلية، التي كان عليها أن تتأكد، لأن الحشد المصري للهجوم لم يكن قد اكتمل بعد.
ويقول دايان وزير الدفاع الإسرائيلي "بيد أنني بقيت مقتنعاً، بأن الوقت الذي ستفتح فيه مصر وسوريا النار يقترب. وفى اجتماع لأركان الحرب العامة عقد في 21 مايو 1973 وطلبت أن أشارك فيه، أعربت عن رأيي هذا، وأصدرت التعليمات لإعداد قوات الدفاع الإسرائيلية لمواجهة هجوم مصري – سوري، على نطاق واسع، أتوقع حدوثه في نهاية الصيف. فكان على القوات الإسرائيلية أن تكون مستعدة للحرب ابتداء من شهر يونيو، مادامت الجيوش العربية بدأت تحشد قواتها على الجبهتين. والخطة الرئيسية مع تعديلاتها عرضت على رئيس الوزراء في أبريل 1973. وكانت تدعو لإنشاء وحدات وشراء معدات وخصص لها 17 مليون دولار. وصدرت الأوامر المفصلة إلى قيادة القطاعين الجنوبي (سيناء) والشمالي (الجولان) لمواجهة أوضاع خاصة قد تقوم"( ).وقد أطلق على الخطة الموضوعة للجبهة المصرية اسم "برج الحمام". وسنعود إلى هذه الخطة عند الحديث عن يوم العبور كانت القوات المسلحة المصرية خلال الشهور من مايو – أكتوبر تعمل في سرية تامة وبخطوات محددة حتى وصلت إلى قمة التخطيط يوم 6 أكتوبر بنجاح كبير، دون أي تدخل من العدو الذي يبعد عن قواتنا 200 متر فقط ويمتلك جهاز مخابرات كان يدعى إنه الأبرع على مستوى أجهزة مخابرات العالم. وقد صدقت إسرائيل هذا الادعاء وبنيت خطتها على أن مخابراتها ستكتشف الهجوم المصري – السوري قبل فترة زمنية كافية، (قالوا في اجتماعاتهم أنها لن تقل عن 48 ساعة) مما يجعلها قادرة على تعبئة قواتها الاحتياطية وإفشال الهجوم عليها.
كان على المخطط المصري أن يقوم بحشد كل القوات والمعدات المشتركة في الهجوم دون أن يكتشف العدو الإسرائيلي هذا. فكان هناك إجراءات خاصة بقواتنا وأخرى الغرض منها خداع العدو وإقناعه بأن هذه الإجراءات ليست للهجوم. وتم هذا كله بتنسيق رائع بين أجهزة الدولة السياسية والإعلامية مع القيادة العسكرية. وقد استلزم هذا الآتي : الاهتمام داخل الوحدات العسكرية باستكمال المواقع الدفاعية لصد أي هجوم مفاجئ للعدو وبصورة معلنة حتى يصل هذا إلى العدو.استدعاء أفراد من الاحتياط ثم تسريحهم، وتكرار ذلك مرات عديدة بحجة اختبار خطة استدعاء الاحتياطي، وقد تم تسريح 20 ألف جندي يوم 4 أكتوبر 1973. تحت ستار التدريب تم تحريك كثير من القوات والوحدات من وإلى الجبهة، وكذا تحركات عرضية، وتغيير مستمر في حجم وأوضاع القوات في الجبهة تم تجميع القوات القائمة بالهجوم على فترة بلغت 4 شهور، بدخول وحدات صغيرة .. أو دخول لواء إلى الجبهة ثم سحب كتيبة منه إلى الخلف للتمويه. وضعت خطة خاصة لمعدات العبور، بحيث تصل إلى أماكنها بعد تحركات عديدة هيكلية قبل العبور مباشرة. من أول أكتوبر 1973 بدأ تنفيذ المشروع التدريبي للقوات المسلحة، والذي من خلاله تم تحريك القوات ووضع اللمسات الأخيرة للهجوم، تحت ستار أنها تحركات وإجراءات لتنفيذ المشروع. وكان هذا تكراراً لما حدث في شهر مايو. على المستوى الإعلامي نشرت الصحف بعض الأخبار المضللة للعدو الإسرائيلي، مثل موافقة وزير الحربية للضباط على أداء فريضة العمرة وتحديد يوم 8أكتوبر لاستقبال وزير الدفاع الروماني الذي سيزور مصر في هذه الفترة.تم الاتفاق في أول عام 1973 مع إحدى الدول الأسيوية على إصلاح القطع البحرية المصرية المتمركزة في البحر الأحمر عندها، ووصلت الموافقة فتمت الاتصالات مع السودان واليمن الجنوبية لزيارة موانيها. حتى تتواجد المدمرات عند باب المندب في الموعد المحدد دون أن تثير شك العدو في تحركها. لم يبق أمام المخطط المصري سوى التنسيق مع القوات المسلحة السورية. وفى 22 أغسطس وصل إلى الإسكندرية وفد عسكري سوري برئاسة اللواء/ مصطفى طلاس وزير الدفاع ضم رئيس الأركان وقادة الأفرع ومدير المخابرات. وتم اجتماع مع القيادة المصرية النظيرة برئاسة الفريق أول/ أحمد إسماعيل ، وتم الاتفاق على أن تكون الحرب في شهر أكتوبر وأطلق على الخطة الهجومية الاسم "بدر" تيمنا بغزوة بدر. وأعقب هذا التنسيق اجتماع بين الرئيسين السادات والأسد في دمشق يوم 28 أغسطس واتفق فيه على أن يوم الهجوم هو 6 أكتوبر 1973. وبهذا أصبح كلا البلدان جاهزا بقواته المسلحة لخوض غمار حرب تحرير الأراضي المحتلة. ولكن لابد وأن نرى الصورة على الجانب الآخر حتى يكتمل المشهد أمام أعيننا. ففي إسرائيل "كان ناحوم جولد مان رئيس المؤتمر اليهودي في زيارة لإسرائيل في أغسطس 1973 لإعداد كتاب عن مستقبل إسرائيل بعد الاستماع لآراء القادة السياسيين والعسكريين هناك. كان سؤال جولد مان : أيهما أفضل لإسرائيل ويجعلها أكثر قوة.. الأراضي التي احتلتها أم التسويات السياسية ؟ وكان رد دايان : إن السلام الذي تريده إسرائيل قد تحقق منذ عام 1967. نحن نسعى لخلق سلام بيننا وبين العرب بطريقة غير رسمية، ولسنا بحاجة إلى السلام الرسمي. وربما كان السعي وراء هذا السلام الرسمي يضر بالحالة التي نحرص عليها، وهي تثبيت الأمر الواقع الذي فرضته حرب 67 تثبيتاً يدخل في صيغة سلام غير رسمي. وقال جولد مان : إن سؤالي محدد أرجو أن تكون الإجابة عنه محددة وهو هل تعتقدون أن قوة إسرائيل في الأراضي أم في التسويات ؟. أجاب دايان: إني لا أرضى إلا بسلام القوة الذي يحدد لإسرائيل الحدود الآمنة، وبالطبع لن يستطيع أحدنا أن يحدد مساحة هذه الحدود، لأنها تتغير تلقائياً نظراً لطبيعة نمو وتوسع إسرائيل. وإذا كنا نسعى لأن نكون نحن بديل القوى الكبرى في الشرق الأوسط فيجب أن تكون لنا أنيابنا. وهذه الأنياب عسكرية واقتصادية وسياسية".
هذا الحوار القصير وتلك الكلمات المحددة تكشف ماذا كان في الفكر الإسرائيلي؟ فهذا رأى قادة إسرائيل وليس موشى دايان فقط. إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة، دولة قائمة على التوسع واحتلال أراضي الغير، ولا تتنازل عن شبر واحد من أرض إلا بالقوة. وإذا رجعنا بالذاكرة نجد كلمات موشى دايان هي استمرار لما قاله القادة التاريخيين لإسرائيل منذ بداية القرن العشرين.
هل فاجأناهم ؟ .. أم سبقناهم ؟
خرجت إسرائيل من حرب أكتوبر وقادتها من السياسيين والعسكريين يعلقون فشلهم في الحرب على إن مصر حققت المفاجأة في الحرب، وإنهم أخذوا على غـّره. وهو قول أبسط ما يقال عنه إنه يستهين بعقل أبسط قارئ للأحداث. وأقول هنا إن إسرائيل لم تفاجأ بالحرب وإنما استهانت وتلكأت في فهم ما يدور حولها من استعداد وتجهيز على الجبهة المصرية والسورية. ذكرنا سابقاً ومن أقوال قادتها، أن إسرائيل خرجت من حرب 1967 وترسّخ في فكرها السياسي والعسكري أنها أقوى وأقدر في نوعية المقاتل الإسرائيلي وفى المعدة العسكرية وفى التخطيط وفن القتال، علاوة على دعم أمريكي بلا حدود.بل أكاد أقول بأن نوايانا في الهجوم والتي علموا بها مسبقاً، أثارت لديهم أحلام انتصار آخر أكبر وأعنف من انتصار 1967، ويكون في هذا الانتصار قضاء تام على القوات المسلحة المصرية. وهنا يمكنهم وإجبار مصر على قبول شروطهم. ولا أقول هذا الرأي انحيازاً.. وإنما من وثائقهم وأقوال وفكر قادتهم، سنعرف ماذا كان يدور عندهم. نقلاً من مذكرات الجنرال دافيد إليعاز رئيس أركان الجيش الإسرائيلي "وضع دايان وزير الدفاع الإسرائيلي فى أوائل عام 1973 خطة عسكرية رسم خريطتها بنفسه، عرضها على إليعازر وأطلق عليها اسم الحزام الأسود.
وكان تحقيقها يحتاج إلى عوامل أهمها :-
أولاً: ضم جنوب لبنان كله إلى إسرائيل.
ثانياً: ضم أجزاء أخرى من سوريا.
ثالثاً: إنشاء خط محصن يشبه خط بارليف في غور الأردن لحماية المستعمرات.
رابعاً: تحويل سيناء إلى مركز تجارب للمفاعلات النووية.
كان المعنى الوحيد للأفكار التي طرحها دايان هو القيام بحرب أخرى ضد العرب في أواخر عام 1973.
وكان حلم دايان المرسوم على الخريطة العسكرية حزام عسكري حول إسرائيل يحقق من وجهة نظره هدفين رئيسيين لإسرائيل :-
الأول : تأمين إسرائيل إلى الأبد من أية عملية عسكرية عربية.
الثاني : جعل زمام المبادأة في القتال في أيدي إسرائيل، فيما لو أرادت ضم أراضي عربية أخرى.
ويضيف إليعازر: كان دايان يحلم بعمل يخلد اسمه إلى الأبد مثل بارليف بخطه الدفاعي على حافة قناة السويس. وكان معنى ذلك أن يقوم بعد تحقيق حزامه الأسود بتغير اسمه إلى حزام دايان. لقد كان دايان يفكر كما لو إن العرب غير موجودين أو إنهم انتهوا إلى الأبد، أو كما كان يقول لنا دائما : الجسد الميت لا يحتاج أن نقيم له حسابات". هذا كلام الرجل الأول في الجيش الإسرائيلي. إسرائيل تجهز لحرب من بداية 1973، العرب غير موجودين، ولا تعليق. ثم يذكر دايان في كتابه "تشكيل قواتنا المستعدة للمواجهة يوم الغفران على الجبهة المصرية كانيعادل ما نصت عليه (خطة برج الحمام)، بينما على الجبهة السورية تفوق ما كان في المخطط : 177 دبابة في الجولان، 300 في منطقة القناة. يمكنها مع مؤازرة الطيران أن تجمد الهجوم السوري المصري إلى حين يصل الاحتياطي. فالخطط كانت تنطلق من افتراض أن هناك 24 ساعة بين الهجوم والإبلاغ عنه، وهي تتيح للقسم الأكبر من الاحتياطي الوصول إلى الجبهة.
طوال الأسبوعين اللذين سبقا يوم الغفران عمدنا إلى تعزيز الجبهة، لكن أجهزة استخباراتنا وأجهزة أمريكا توصلتا إلى استنتاج هو إن مصر وسوريا ليستا على وشك الحرب. فاعتبرت النشاط على الجبهة المصرية مجرد مناورات لا استعداداً للغزو. 2 أكتوبر ناقشت مجدداً مع رئيس الأركان إليعازر الوضع على الجبهتين الشمالية والجنوبية، وأبلغني إليعازر إنه أجرى بواسطة الاستخبارات العسكرية عملية تقدير جديدة للتحركات المصرية فكانت النتيجة أن التحركات مجرد مناورات، أما ما يتعلق بالسوريين فليس هناك أي دليل على إنهم يستعدون لشن أي هجوم. وفى الاجتماع الأسبوعي الذي عقد في الأركان يوم 5 أكتوبر تقرر وضع الجيش في حالة الاستعداد "ج" الحالة القصوى، ووضع الطيران في حالة الإنذار، والتقيت رئيسة الوزراء بحضور رئيس الأركان ورئيس الاستخبارات كنا قد عملنا كل ما يسعنا عمله لتعزيز وضعنا العسكري، فألغيت الإجازات، وأعيد تشغيل القيادة العليا للطوارئ وصدرت الأوامر بالاستعداد لإعلان التعبئة العامة". وتقول مائير رئيسة الوزراء "في صباح الأربعاء 3 أكتوبر اجتمعت بدايان، الون، جاليلى، قائد السلاح الجوي، رئيس الأركان، رئيس المخابرات. نوقش الوضع في كلا الجبهتين بالتفصيل، التقييم العسكري لم يكن خطيراً. كنا نعتقد عدم مواجهة هجوم سوري – مصري.. مساء الجمعة 5 أكتوبر اجتمعنا في مكتبي وقد حضر الاجتماع علاوة على الوزراء كل من رئيس الأركان وقائد المخابرات، لقد استمعنا إلى جميع التقارير مرة ثانية ومنها التقرير الخاص بخروج العائلات الروسية من سوريا. ولكن أحد لم يبد عليه الخوف. كيف حصل إني كنت خائفة جداً من نشوب الحرب بينما رئيس الأركان ووزيران (دايان – حاييم بارليف) ورئيس المخابرات، كانوا جميعاً غير واثقين من نشوب الحرب. مع العلم إنهم لم يكونوا مجرد جنود عاديين بل كانوا جميعهم من ذوي الخبرات العالية، حاربوا وقادوا رجالاً في عدة حروب وانتصروا".ونكتفي بآخر كلمات مائير فقد أوضحت ما نريد. الشواهد واضحة وضوح الشمس بأن الحرب قادمة لكن القادة المظفرين والمنتصرين يرفضون تصديق أن هناك هجوم مصري وسوري وشيك. وظل هذا حتى متى ؟ حتى فجر 6 أكتوبر ثم يقولون فوجئنا.!!! فجر 6 أكتوبر 1973 استيقظ دايان على تليفون يبلغه بأن مصر وسوريا سوف تبدأن الهجوم اليوم عند آخر ضوء. كانت المعلومة من مدير الموساد (المخابرات العامة) الذي التقى قبل ساعات بعميل مصري في لندن – نال هذا العميل ثقة كبيرة ومصداقية لأنه كان في دائرة القرار المصري- وفى السادسة صباحاً التقى دايان مع رئيس الأركان ورئيس الاستخبارات العسكرية واصطحبهما إلى مكتب مائير "اقترح رئيس الأركان إعلان التعبئة العامة الشاملة لجميع الأسلحة فـوراً. وانضمت رئيسة الحكومة إلى رأى وزير الدفاع في إنه لا يجوز لإسرائيل أن تكون هي المبادرة إلى الحرب. وكان الاعتبار في هذا إنه حالة توجيه ضربة وقائية كما اقترح رئيس الأركان سيكون من الصعب على إسرائيل أن تثبت أن العرب هم الذين يتحملون مسئولية تجدد الحرب. وإن أي صديق بما في ذلك الولايات المتحدة لن يقف إلى جانب إسرائيل".وقد تناول الجنرال رابين رئيس الأركان السابق (في حرب يونيو67) المأساة كما بدت في نظره: "وقع دايان ورئيس الأركان ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في انغلاق ذهني، فقد كانوا أسيري إيمانهم الشديد وتصريحاتهم بأن الحرب مسألة بعيدة، وإن المصريين غير قادرين أو غير مؤهلين لخوضها، وإذا خاضوها حقاً فسنكسر عظامهم – قول إليعازر المكرر-. إن هذا الانغلاق الذهني باللغة السيكولوجية هو الذي جعلهم لا يصدقون الأنباء المتوفرة لديهم عن الحرب الوشيكة". وهذه شهادة شاهد من أهلها. ثم في الختام يقول الجنرال زعيرا رئيس الاستخبارات العسكرية وهو يدافع عن نفسه أمام لجنة التحقيق التي شكلت بعد الحرب (لجنة أجرانات). "هذه بعض الحقائق والأعمال والتصريحات الصادرة عن وزير الدفاع ما بين 21 مايو حتى 6 أكتوبر 1973 :-
في 8 يونيو بعد التحذير الذي وجهه لجيش الدفاع الإسرائيلي بـ18 يوماً فقط أقر وزير الدفاع خفض درجة الاستعداد في الجيش، مجيباً طلب إليعازر بقوله "خفض نحن لا يجب أن نجعل حياتنا مُرّه". ومر 28 يوماً وأقر دايان مشروعاً بخفض الخدمة الإلزامية بثلاثة شهور. في 12 أغسطس جرى في مكتب نائب رئيس الأركان نقاش تقرر فيه العودة إلى حالة التأهب العادية وتسلم وزير الدفاع نسخة من الأوامر ولم يحتج عليها. في محاضرة بمدرسة القيادة والأركان في أغسطس 1973 قال وزير الدفاع "إن تفوقنا العسكري وضعف العرب ناجم عن عناصر لن تتغير بسرعة وهي التي توقف الاستئناف الفوري للحرب".
وهكذا سقطت الاستخبارات العسكرية والموساد الإسرائيلية في الإختبار الحقيقي الذي واجهته.. فالشواهد واضحة كما ذكرنا، والمصادر متعددة وعلى أعلى مستوى(أحد ملوك المنطقة أبلغ إسرائيل بنيّة مصر وسوريا بالحرب) لكن التحليل النهائي كان استبعاد نشوب الحرب.. وقد وقعت القيادة السياسية الإسرائيلية في نفس الخطأ واستبعدت نشوب الحرب. لكن وافقت على التعبئة الجزئية صباح يوم 6 أكتوبر، ورفضت الضربة الوقائية التي اقترحها دافيد إليعازر بواسطة القوات الجوية الإسرائيلية. أصابت عدوي الثقة والغرور الإسرائيلية كافة إدارات وأجهزة الولايات المتحدة الأمريكية، فلم تعرف بوقوع الحرب إلا حين بدأت ظهر 6 أكتوبر، مع وجود الاستخبارات الأمريكية التي تنتشر في كل أنحاء العالم، ورغم التكنولوجيا الهائلة من أقمار صناعية، ووسائل اتصال، وأجهزة تنصت.. فحتى 26 سبتمبر – قبل الحرب بعشرة أيام- التقي كيسنجر عدد من وزراء الخارجية العرب "واقترح إجراء حوار غير معلن معهم حتى يتوصل إلى تسوية ولو جزئية لمشكلة الشرق الأوسط. والتقي كيسنجر مع أبا ايبان وزير خارجية إسرائيل واخبره: إنه سوف يحاول في منتصف أكتوبر أجراء اتصالات تهدف إلى البحث عن حل حتى ولو كان حلا جزئيا.. ثم أضاف: انه يتوقع أن يلتقي مع الملك حسين الذي سيزور أمريكا في منتصف أكتوبر لإلقاء خطاب في الجمعية العامة، وقد قرر أن يبدأ بالأردن، فإذا استطاع أن يصل إلى شئ مع الأردن فان مصر ستأتي. وإذا جاءت مصر فالباقون ليس أمامهم خيار إلا أن يجيئوا" ونصل إلى الجمعة 5 اكتوبر1973 حيث قامت مائير رئيس وزراء إسرائيل بإبلاغ كيسنجر عن شواهد مصرية – سورية تنذر بالهجوم وتطلب منه الاتصال بالسوفييت لكبح مصر وسوريا عن تنفيذ الهجوم. ولم تصل الرسالة إلى كسينجر!! حيث قال خبراء وكالة المخابرات الأمريكية أن نشوب الحرب أمر مستبعد.. ثم أرسلت مائير رسالة ثانية بنفس المعني عن طريق سفارة إسرائيل في واشنطن، وقد وصلت هذه الرسالة إلى كسينجر في الثالثة فجر يوم 6 أكتوبر!!.
" في السادسة صباح 6 أكتوبر بتوقيت نيويورك والواحدة ظهرا بتوقيت مصر وإسرائيل أيقظ سسيكو مساعد وزير الخارجية كسينجر من نومه وابلغه رسالة السفير الأمريكي في إسرائيل، والتي تقول فيها مائير إن هناك هجوما مصريا – سوريا سيبدأ بعد ساعات، وإن بعض مستشاريها كان رأيهم توجيه ضربة وقائية لكنها امتنعت عن ذلك من اجل أن يكون موقفها واضحا أمام الولايات المتحدة..وكان أول ما فعله كسينجر أن اتصل بمكتب المتابعة في مجلس الأمن القومي فأخطره بما كان يعرفه عن التحركات المصرية والسورية في اليوم السابق، كما أخطره برسالتين سابقتين من مائير. ثم اتصل بمكتب المتابعة في وكالة المخابرات المركزية ليسأل عن أخر التقديرات للموقف، وقد اخطر بأخر المعلومات وبأخر التقديرات من خبراء الوكالة ومؤداها أن هناك نذر خطر لكن الاتجاه الغالب في آراء الخبراء هو أن حرباً في الشرق الأوسط ليست علي وشك الوقوع.!!
الفصل السـابع عظيمــة يا مصــر
قبل مائة ساعة فقط من بدء الحرب، كانت إسرائيل مازالت تشرب خمر غرورها وثقتها المفرطة، وإنه ليس هناك ما يشكل خطر عليها.. فهل من الجائز أن تكون رئيسة وزراء إسرائيل في النمسا حتى 3 أكتوبر تتفاوض مع رئيسها حول مشكلة معسكر للاجئين اليهود، قام فدائيون فلسطينيون باختطاف رهائن لإغلاقه ؟؟. بل وفى يوم 4 أكتوبر يخرج إليعازر على العالم في التليفزيون البريطاني ليقول "إذا حاول الجيش المصري العبور فسيجد أمامه أقوى خط دفاع في العالم، مما سيسبب له خسائر أكبر مما يظن القادة المصريين.. لن يتمكن جندي واحد من العبور، كما لن تتمكن دبابة مصريه واحده من الوصول إليه. وختم بقوله: ستكون حرب الساعات الستة وليست حرب الأيام الستة". وهي حرب الساعات الستة فعلا لكن هذه المرة دارت الدوائر على إسرائيل. على الجانب المصري بدأت الحرب فعلا في الأول من أكتوبر. فقد أبحرت الغواصات المصرية في هذا اليوم لتصل إلى مواقع القتال ساعة "س" ولم يكن من الممكن إلغاء مهمتها، فلا يوجد اتصال لاسلكي معها حفاظا على السرية.. كما إن المدمرات المصرية المكلفة بإغلاق باب المندب تلقت أمر القتال يوم 2 أكتوبر.. وفى مساء 1 أكتوبر اجتمع الرئيس السادات مع القيادات العسكرية، ليستمع إلي التقارير النهائية من القادة والرؤساء وافتتح الحديث الفريق أول/أحمد إسماعيل فقال: الخطة حسب ما لدينا من إمكانيات.. والسيد الرئيس معنا في كل خطوة.. سنعمل جميعا ونبذل أقصى جهد لنا وشعارنا النصر أو الشهادة.. أقترح عرض تقارير القادة والرؤساء بشكل عام ومدى استعداد القوات لتنفيذ المهام، وأي صعوبات ُتذكر بصراحة.
لواء/فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية: نجحنا في الحشد حتى 26 /9 . دايان أعلن إن مصر وسوريا حشدت قواتها.. يصعب على العدو القيام بعملية إحباط بريه حاليا.. المعركة الرئيسية ستكون شرق المضايق.. سيحاول العدو تدمير قواتنا الجوية.. لم يحرك العدو أي قوات حتى اليوم غرب المضايق.
اللواء/محمد الجمسى رئيس هيئة العمليات: لاتغيير في خطه العمليات.. تمت مرحلتا التجميع.. ُرفعت درجة استعداد القوات المسلحة.. خطة الخداع الاستراتيجي والتعبوي تسير بالتنسيق مع الإعلام والخارجية.. لم يُعلن توقيت الهجوم حتى الآن. اللواء طيار/حسنى مبارك قائد القوات الجوية: لاتعديل في الخطة.. نسقت الضربة المركزة مع سوريا.. والضربة الثانية بعد ساعتين. الرئيس السادات: يجب استخدام الطيران مركزا. اللواء/محمد على فهمي قائد قوات الدفاع الجوى: جارى عمل الانتقالات لتوفير حماية لتجميع القوات البرية في العملية الهجومية. اللواء بحري/فؤاد ذكرى قائد القوات البحرية: لاتغيير عن الخطة.. أخذت القوات مواقعها.. وبدأت الغواصات في التحرك لتنفيذ مهمتها. اللــواء/سعيد الماحي مدير المدفعية: المدفعية جاهزة لتنفيذ المخطط .. تمهيد النيران أربع قصفات منها واحدة كاذبة. الرئيس السادات: أعملوا حسابكم المعركة طويلة ، ويجب الاقتصاد لتحقيق الهدف اللـواء مهندس/جمال محمد على مدير المهندسين: خطة التأمين الهندسي للقوات الجوية تم تأمينها( علق اللواء مبارك.. غير كافيه). المعركة معركة مهندسين وتبدأ بنا، وهذا يحتم علينا الإسراع في فتح الساتر الترابي وتدبير مهمات الكباري.. حياتنا هي حماية المعابر، يجب تركيز الدفاع الجوى لحمايتها. اللواء/محمد على فهمي: نحن موفرين كل ما يمكن لحمايتها. اللواء/نوال سعيد رئيس الإمداد والتموين: إمدادنا بمعدات عبور مهم جدا.. انتظام الإمداد يحتاج إلى تركيز في التصنيع..القواعد الإدارية تسمح بإمداد كامل للعملية.. الاحتياطات موزعه على أنساق.. الحملة قادرة على الإمداد. اللواء/عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث: لاتغيير في المهمة والجميع متفهمين لها.. تم عمل مشروعات بجنود للواءات وهى قادرة على تنفيذ المهام.. تم التجهيز الهندسي والمصاطب والمنطقة الابتدائية للهجوم. اللواء/سعد مأمون قائد الجيش الثاني: تم إعادة التجميع.. تم تدريب جميع القيادات واللواءات بكامل معداتها تماما كالحرب وحققنا نجاح.. بإذن الله سنحقق المهمة. اللواء/إبراهيم كامل قائد منطقة البحر الأحمر: لاتغببر في المهمة.. القوات جاهزة والمعنويات جيدهة. الرئيس السادات: يجب أن تتوقع إن العدو سيعمل ألاعيب وغيرها. اللواء/فؤاد نصار: يحتمل أن يقوم العدو بأعمال ضد الجبل الأحمر ومدينة نصر.. العدو عنده دبابات روسية ت-54 من المستولى عليها في 67 وربما يستخدمها في الهجوم المضاد.. وقد يحدث لخبطه لقواتنا ويجب تمييز الدبابات. اللواء/عبد المنعم خليل قائد المنطقة المركزية: كنت مكلفا قبل أقل من شهر بالمرور على الجيش الثاني والثالث لمراجعة موقف الاستعداد، والحقيقة أنى متفائل بالنصر والروح المعنوية عالية.. سيتم الانتشار في المنطقة المركزية يوم 4 أكتوبر أخر ضوء الرئيس السادات: للعدو عملاء في المنطقة، يُمكنه عمل أي شيء في الداخل.. القاهرة فيها 6 مليون وله عملاء في السفارات الأجنبية.. يجب التنسيق مع ممدوح سالم والداخلية والمخابرات العامة والحربية. العميد/نبيل شكري قائد الصاعقة: قوات الصاعقة على استعداد تام، وقاموا بمشروعات مشابهة للمهام المطلوبة .. أرجو الإمداد للوحدات بأي وسيله. الفريق/سعد الشاذلي رئيس أركان حرب: نحن ملتزمين بالإمداد بعد 48 ساعة. اللواء/عمر جوهر رئيس التنظيم والإدارة: القـوات حوالي 1.120.000 .. 12 فرقه مشاه ومدرعة.. نسبة الاستكمال 92 –98 %. ثم تحدث الرئيس السادات فاستعرض موقف السنوات السابقه، وعـرض مواقف إسرائيل وأمريكا وروسيا والموقف العربي والأفريقي .. ثم اختتم اللقاء قائلا: أشرف لنا ألف مره أن نأخذ قضيتنا في يدنا مهما كانت التضحيات، حتى لا نموت موتا أكيدا بالسكون.. ونقول للعالم نحن أحياء.. أنا أتحمل وراءكم المسؤولية كاملة تاريخيا وماديا ومعنويا.. تصرفوا واعملوا بكل ثقة واطمئنان وحرية.. إنشاء الله اجتماعنا المقبل بعد المعركة وندخل للمراحل التالية، ونزيح الكابوس الرهيب ونستعيد كل ما فقدناه. وتوجه الفريق/ الشاذلي في زيارة أخيره للجبهة يوم 5 أكتوبر، وتفقد أوضاع القوات ووصل مع اللواء/سعد مأمون إلى حافة القناة. وفى المساء دفع القلق الرئيس السادات إلي الذهاب للمركز 10 (مركز القيادة الرئيسي) وهناك اطمأن من الفريق/الشاذلي أن العدو لم يجر أي تحركات لمواجهة ما نقوم به.. وأكد على القادة وهو ينصرف " بأن يمضوا على خيرة الله، ثم أبلغهم أنه شخصيا سوف يحضر معهم غدا مراحل العملية الأولى ثم إنه بعد ذلك سوف يتركهم (يشوفوا شغلهم) وفق خططهم وعلى أساس علمهم،وإنه هو نفسه لن يتدخل في مجرى العمليات"
وفى 5 أكتوبر أصدر الرئيس السادات توجيها استراتيجيا إلى الفريق أول/ إسماعيل يقول:
1 – بناء على التوجيه السياسي والعسكري الصادر لكم منى في أول أكتوبر 1973 .. وبناء على الظروف المحيطة بالموقف السياسي والإستراتيجي قررت تكليف القوات المسلحة بتنفيذ المهام الإستراتيجية الآتية:
ا- إزالة الجمود العسكري الحالي بكسر وقف إطلاق النار اعتبارا من يوم 6أكتوبر
ب- تكبيد العدو اكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات.
ج- العمل علي تحرير الأرض المحتلة علي مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات القوات المسلحة
3 - تنفذ هذه المهام بواسطة القوات المسلحة المصرية منفردة أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية.
وبناء علي هذا التوجيه تحددت مهمة القوات المسلحةالمصرية في كسر وقف إطلاق النار. وأيضا تحرير الأرض المحتلة لكن علي مراحل حسب إمكانيات القوات المسلحة . ويقول اللواء/الجمسي" عندما أطلعني الفريق أول/ إسماعيل علي هذا التوجيه طلبت منه معرفة الأسباب التي من اجلها أرسل الرئيس هذه الوثيقة رغم أن لدينا التوجيه الاستراتيجي المؤرخ في أول أكتوبر الذي يقضي بالحرب. وان الهدف الاستراتيجي محدد، وان خطة العمليات التي ستنفذ معروفة لنا تماما، وان الحرب تبدأ يوم 6 أكتوبر. قال لي الفريق أول/إسماعيل أنه هو الذي طلب هذا التوجيه حتى تكون الأمور للتاريخ محدده بوضوح. ففي الوثيقة الجديدة نص صريح بكسر وقف إطلاق النار. لم يكن ذلك محددا من قبل. كما أن الوثيقة الجديدة تنص صراحة علي العمل علي تحرير الأرض علي مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة.. حتى لا يفهم مستقبلا انه كان مطلوبا تحرير سيناء بالكامل. وهذا يؤكد مرة أخرى للتاريخ المهام الاستراتيجية المحددة من القيادة السياسية للقوات المسلحة. وحدث في يوم الخامس من أكتوبر أحداث متلاحقة وكثيفة، ولكن كان هناك أربعة
أحداث هي الأهم:
1-عادت دوريات الاستطلاع المصرية التي أكدت بأن العدو في الشرق لم يغيّر أي شئ عما هو عليه. وهذا ما أعطي الطمأنينة للجميع بدءً من الرئيس السادات بان العدو لم يتحرك بعد.
2-عادت دوريات الضفادع البشرية التي قامت بسد وحشو مواسير النابالم بالأسمنت وقد فوجئت إسرائيل بهذا فلم تفلح في إشعال حريق واحد فوق القناة.
3-استشعر رئيس شركة مصر للطيران(كان ضابط طيار سابق بالقوات الجوية) أن هناك أحداث تجرى تنذر بقيام الحرب، فأصدر أوامره للطائرات بالمبيت في الخارج، خوفا عليها من أي هجوم جوي محتمل .. وتم تدارك الأمر وألغيت التعليمات وتم تبرير الموقف بأن السبب كان عطل فى الأجهزة الملاحية بمطار القاهرة الدولي .
4-أسرعت روسيا هذا اليوم في استكمال إجلاء العائلات السوفيتية ..والذي بدأ من أمس.. وكانت هذه المعلومة أمام القيادة الإسرائيلية منذ 48 ساعة لكن تم تفسيرها بشكل مختلف تماما.
اليوم المشهود 6 أكتوبر
أشرقت شمس هذا اليوم كما تشرق منذ آلاف السنين..لكن شمس هذا اليوم كانت تحمل لمصر أكاليل النصر والفخار... كان يوما مشهودا، وكيف لا ؟ ومئات الآلاف من رجال مصر متأهبون لتقديم أرواحهم ودماءهم رخيصة في سبيل تحرير هذا الوطن. في مصر أغلقت أبواب مركز العمليات الرئيسي في الصباح وتم استبدال خرائط المشروع التدريبي( تحرير41 ) بخطط العملية الهجومية ( بـدر) واتخذ القادة أماكنهم.. القوات المسلحة في أعلى درجات الاستعداد.. التجهيز لأعمال الهجوم في جبهة قناة السويس يتم في توقيتاته المحددة.. الطائرات في قواعدها على أهُبة الاستعداد للإقلاع.. الغواصات والمدمرات في مناطق القتال المحددة لها.. الجميع في انتظار ساعة ( س ). وفى هذه الساعات التي تمر ببطء أصدر اللواء طيار/حسنى مبارك أوامره لبعض القواعد الجوية بإقلاع بعض الطائرات لإجراء تدريب خداعي حتى لا يتسرب إلى العدو أي شك من خلو سمائنا من الطائرات.. ولتأكيد الخداع تم أرسل إشارة مفتوحة بتجهيز طائره له للتوجه إلى ليبيا.. واستمرت شركات المقاولات المدنية في أعمالها العادية على القناة.. وانتشر على طول الجبهة في مواقع متفرقة جنود على شاطئ القناة يتسامرون ويلعبون ومعهم أعواد من القصب,وآخرين يسبحون في المياه.فى إسرائيل منذ فجر هذا اليوم والاتصالات والاجتماعات متلاحقة.. دايان يتلقى خبر تأكيد الهجوم المصري- السوري.. يجتمع مع إليعازر رئيس الأركان وزعيرا مدير المخابرات العسكرية.. يختلف الثلاثة على مواجهة الموقف, دايان لا يحبذ استدعاء الاحتياطي، اليعازر يطلب تعبئه شاملة، زعيرا يستبعد الحرب ويفسر كل هذا بأنه حتى إذا تم الهجوم فإنه سيكون محدود ولامتصاص الغضب الشعبي في مصر.. يتوجه الجميع للاجتماع مع مائير .. يُستدعى الوزراء.. تعرض الأربع اقتراحات .. تعبئه جزئيه- ضربه جوية شاملة- تحذير لمصر وسوريا عن طريق الولايات المتحدة- إخلاء مستوطنات الجولان.. جدل طويل.. بعض الوزراء الإسرائيليون لأول مره يعلمون إن هناك حشود وتهديد لإسرائيل.. دايان يلخص تقديره النهائي " إنه لا يرى خطر على الجبهة المصرية، وإذا أقدم المصريون على حماقة فسوف يتكبدون خسائر فادحه في المرحلة الأولى، وأما في المرحلة الثانية فإن الجيش الإسرائيلي سوف يكون قادرا على ضربهم في كل اتجاه.. ولن يحققوا شيئا من محاولة عبور قناة السويس، بل العكس لأن قناة السويس هي التي تحميهم الآن". وتمت الموافقة على اٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍلإقتراحات التي ُطرحت مع تأجيل الضربة الجوية الوقائية حتى 8 أكتوبر.
في الولايات المتحدة الأمريكية الرئيس نيكسون يمضى عطلته، وكيسنجر في نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وبسبب فرق التوقيت يتلقى كيسنجر أول استغاثة من مائير في السادسة صباحا (الواحدة ظهرا بتوقيت إسرائيل).. يتصل بأجهزة مخابراته ليتأكد من الوضع .. الرد يصله بأن الحرب شيء غير متوقع.. يتصل بالسفير السوفيتي لتحذير مصر وسوريا.. يتصل بسفارة إسرائيل لإبلاغ مائير أنه يتفهم موقفها وإنه معها.. يتصل بوزير الخارجية المصري الدكتور محمد حسن الزيات الموجود في نيويورك، يقرأ عليه رسالة مائير. الدكتور الزيات يشكك في صدق رسالة مائير.. يعاود الاتصال بالسفير السوفيتي.. ثم الاتصال مرة أخرى بالوزير المصري.. واتصال بالبيت الأبيض لدعوة مجلس الأمن.. وفى الثالثة ظهر 6 أكتوبر (بتوقيت الشرق الأوسط) اتصل الدكتور الزيات بكيسنجر ليبلغه أن قوات بحريه إسرائيلية تقوم بالهجوم على مواقع مصريه وإن مصر ترد عليها.. وكان هذا أول بلاغ يصل إلى كيسنجر باندلاع الحرب.. وكان بعد ساعة من بدء الهجوم المصري ، رغم أن مصر أذاعت هذا الخبر في الثانية، ولا ندرى أين محطات التنصت وأجهزة الاستخبارات التي قالوا عنها الكثير.
مقارنة القوات يوم 6 أكتوبر
جمهورية مصر العربية
كانت القوات المسلحة المصرية في هذا اليوم تضم :
القوات البرية
- 2 فرقـه مدرعة (الفرقة 4 – 21 ) ... 3
- فرقـة مشاه ميكانيكي (الفرقة 3 –6 –23 ) ... 5
- فرقـة مشاه ( الفرقة 2 –7 – 16 –18 –19 )
- 3 لـواء مدرع مستقل ... 3 لـواء مشاه مستقل + لـواء مشاة أسطول(برمائي)
- 3 لـواء مظلات واقتحام جوى ... 6 مجموعة صاعقة
- وكان مع هذه القوات حوالي 1700 دبابة – 2000 عربة قتال - 2500 مدفع ميدان وهاون – 700 قاذف صواريخ موجه – 1900 مدفع مضاد للدبابات – 5000 قاذف أر.بي.جى مضاد للدبابات –عدة آلاف من القنابل اليدوية المضادة للدبابات . بالإضافة إلى لواء صواريخ أرض – أرض.
القوات الجوية
- 305 طائرة قتال ( مقاتلات – مقاتلات قاذفه – قاذفات – استطلاع)
- 70 طائرة نقل ... 140 طائره هليكوبتر
قوات الدفاع الجوي=
- 150 كتيبة صواريخ سام
- 2500 مدفع مضاد للطائرات أعيره 20 مم فأكثر
القوات البحرية
- 12 غواصة ... 5 مدمرة ... 17 زورق صواريخ + 30 زورق طوربيد ... 3 فرقاطة ... 14 كاسحة ألغام + 14 قارب إنزال
الجمهورية العربية السورية
القوات البرية
- 2 فرقـه مدرعة ... 1 فرقـه مشاه ميكانيكي ... 3 فرقـة مشاه
- 3 كتيبة مظلات ... 2 لواء صاعقة
- كان مع هذه القوات 1370 ذبابه – 1000 عربة قتال – 12 بطارية صواريخ سام – بالإضافة إلى صواريخ أرض – أرض
القوات الجوية
- 326 طائرة قتال ... 11 طائرة نقل ... 50 طائره هليكوبتر
القوات البحرية
- 8 زورق صواريخ + 17 زورق طوربيد ... 4 كاسحة ألغام إســـرائيل
كانت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي تضم :
القوات البرية
- 10 لواء مدرع... 9 لواء مشاه ميكانيكي ... 9 لواء مشاة 5 لواء مظلات
وكان مع هذه القوات 2000 دبابة – 1450 عربة قتال – 45 كتيبة مدفعية ميدان وهاون – 12 كتيبة مدفعيه م/ط ( مضادة للطائرات) بأعيرة 20 مم فأكثر
القوات الجوية
- 464 طائرة قتال ... 42 طائرة نقل ... 74 طائرة هليكوبتر
القوات البحرية
- 2 غواصة ... 12 زورق صواريخ + 9 زورق طوربيد
- 20 زورق داوريه ... 1 سفينة إنزال
القوات المصرية المهاجمة علي جبهة القتال
كانت القوات المخصصة للهجوم تتكون من:
أولا: الجيش الثاني الميداني (قائد الجيش اللواء/ سعد مأمون ثم من 16 أكتوبر اللواء/ عبد المنعم خليل)كان في النسق الأول. الفرقة 16 مشاة بقيادة العميد/ عبد رب النبي حافظ - الفرقة 2مشاة بقيادة العميد/ حسن أبو سعده - الفرقة 18 مشاة بقيادة العميد/ فؤاد عزيز غالي)وفي النسق الثاني . الفرقة 21 بقيادة العميد/ إبراهيم العرابي الفرقة 23 مشاة ميكانيكي بقيادة العميد / احمد عبود الزمر علاوة علي لواء دفاع إقليمي + لواء مدرع مستقل + المجموعة 29 صاعقة + كتيبه مشاه كويتي مستقلة
ثانيا: الجيش الثالث الميداني ( قائد الجيش اللواء/ عبد المنعم واصل )كان في النسق الأول. الفرقة 19 مشاة بقيادة العميد/ يوسف عفيفى – الفرقة 7 مشاة بقيادة العميد/ أحمد بدوي + اللواء 130 مشاه ميكانيكي (مشاة أسطول)وفى النسق الثاني. الفرقة 4 المدرعة بقيادة العميد/ عبد العزيز قابيل الفرقة 6 مشاة ميكانيكي بقيادة العميد/ أبو الفتح محرم علاوة على فوج حرس حدود + لواء دفاع إقليمي + لواء مدرع مستقل + المجموعة 127 صاعقة + لواء صاعقة فلسطيني.
ثالثا: قيادة قطاع بورسعيد ( قائد القطاع اللواء/ عمر خالد)كان يضم 2 لواء مشاه مستقل . ويتبع القطاع قيادة الجيش الثاني الميداني
رابعا: منطقة البحر الأحمر العسكرية ( قائد المنطقة اللواء/ إبراهيم كامل) كانت تضم 2 لواء مشاه مستقل + المجموعة 132،139 صاعقة + كتيبة دبابات مستقلة.
الخطة المصرية بـدر : "كانت الخطوط العريضة للخطة الهجومية تتلخص في:
1 – تقوم خمسة فرق مشاه بعد تدعيم كل منها بلواء مدرع، وعدد إضافي من الصواريخ "مالوتكا" المضادة للدبابات والتي ُسحبت من التشكيلات الغير مشتركة في العبور، باقتحام قناة السويس في خمس نقاط.
2 – تقوم هذه الفرق بتدمير خط بارليف ثم صد الهجوم المضاد المتوقع من العدو.
3 – مابين ساعة (س + 18 ساعة) وساعة (س + 24 ساعة) تكون كل فرقه مشاه قد عمقت ووسعت رأس الكوبري الخاص بها لتصبح قاعدته 16 كم وبعمق 8 كم(1)
4 – بحلول ساعة (س + 48 ساعة) تكون فرق المشاة داخل كل جيش ميداني قد سدت الثغرات بينها واندمجت في رأس كوبري واحد لكل جيش.
وبحلول (س + 72 ساعة) يكون كل من الجيش الثاني والثالث قد وسع رأس الكوبري الخاص به، بحيث يندمج الاثنان في رأس كوبري واحد يمتد شرق القناة على مسافة 10 – 15 كيلومتر.
5 – بعد الوصول إلى هذا الخط تقوم الوحدات بالحفر واتخاذ أوضاع الدفاع.
6 – يتم استخدام وحدات الإبرار الجوى والبحري على نطاق واسع لعرقلة تقدم احتياطيات العدو من العمق وشل مراكز قيادته".
كانت هذه هي خطة الهجوم وسنذكر تفصيلا مراحل تطورها. ُوضعت أولا باسم "المآذن العالية" بهدف العبور واحتلال 10 –15 كم شرق القناة.. ثم تحولت بعد تحديثها إلى "جرانيت-1 ".. ثم أضيف إليها مرحلة تاليه إذا تهيأت الظروف لقواتنا، بهدف الوصول إلى خط المضايق وُسميت "جرانيت-2 ". وبعد الاتفاق مع الجانب السوري ُسميت الخطة باسم "بـدر". وقد ظهر شقاق كبير بين سوريا ومصر بسبب عدم وصول القوات المصرية إلى المضايق.ويهمنا أن نقرأ قول الفريق/الشاذلي في هذه النقطة " في خلال شهر أبريل 73 أخبرني وزير الحربية بأنه يرغب في تطوير هجومنا في الخطة لكي يشمل الاستيلاء عل المضايق .. فأعدت له ذكر المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع، وبعد نقاش طويل أخبرني بأنه لو علم السوريون بأن خطتنا هي احتلال 10 – 15 كم شرق القناة فلن يدخلوا الحرب معنا.. وأخبرته بأنه بإمكاننا أن نقوم بهذه المرحلة وحدنا، وأن نجاحنا سيشجع السوريون للانضمام إلينا، ولكنه قال إن هذا الرأي مرفوض سياسيا..وبعد نقاش طويل طلب تجهيز خطه أخرى تشمل تطوير الهجوم إلى المضايق. وهذه الخطة ستعرض على السوريين لإقناعهم بدخول الحرب معنا. لكنها لن تنفذ إلا في ظل ظروف مناسبة. ثم أضاف : فلنتصور مثلا إن العدو تحمل خسائر جسيمه في قواته الجوية، وقرر سحب قواته من سيناء. فهل سنتوقف على مسافة 10 – 15 كم شرق القناة لأنه ليس لدينا خطه لمواجهة مثل هذا الموقف ؟..قمنا بتجهيز الخطة "جرانيت-2 " ثم دمجت مع خطة العبور وسميت ( بـدر ). أصبحنا نطلق على خطة العبور (المرحلة الأولى ) والتطوير ( المرحلة الثانية ). كنا عندما ننتقل من شرح المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية نقول ( بعد وقفه تعبوية نقوم بالتطوير....). قد تكون الوقفة التعبوية أسابيع أو شهور.. كنا نشرح ونناقش خطة العبور بالتفصيل ثم نمر سريعا على المرحلة الثانية.. لم أتوقع قط أن يُطلب إلينا تنفيذ هذه المرحلة، وكان يشاركني هذا الشعور قادة الجيوش ويتظاهر بذلك على الأقل وزير الحربية.
الخطط الإسرائيلية
خطـة "برج الحمام"
خطة دفاعية وضعت لمجابهة القوات المصرية المهاجمة، وكانت تقضى بأنه باكتشاف نوايا الهجوم يتم تدمير القوات المصرية المهاجمة بواسطة الطيران الإسرائيلي وقوات خط بارليف.. كما يتم إشعال سطح القناة بالنابالم.. وما ينجح من القوات المصرية في العبور يتم القضاء عليه في شرق القناة بواسطةالدبابات.. وفى خلال صد القوات المصرية يتم استدعاء الاحتياط وتجهيز مجموعات العمليات التي ستنفذ الخطة التالية.
خطـة " القلب الشجاع "
تنفذ بعد الخطة الأولى، بعد القضاء على القوات المصرية شرق القناة تماما.. تقوم ثلاث فرق مدرعة بقوة 800 دبابة بعبور قناة السويس وإنشاء كبارى إسرائيلية في منطقتي الدفرسوار والفردان.. وبدعم من الطيران الإسرائيلي تقوم هذه المجموعات الثلاث بتدمير القوات المصرية غرب القناة والتقدم غرباً حتى مسافة 20 كيلومتر من القناة والاستيلاء على بورسعيد والإسماعيلية والسويس وإنشاء خط دفاعي جديد بحفر خندق صناعي مشابه لما تم في هضبة الجولان.
المرحلة الافتتاحية للحرب 6/7 أكتوبر
الضربة الجوية
في الواحدة ظهرا كانت القوات الجوية المصرية من الغردقة جنوبا وحتى الإسكندرية شمالا قد أخذت أوضاعها ووصلت إلى أقصى درجة استعداد.. وفى التوقيت المحدد للطائرات كل حسب موقعه من الجبهة انطلقت المقاتلات القاذفة ( طائرات ميج17 – سوخوى7 – ميج21- هوكر هنتر عراقي) في حماية تشكيلات المقاتلات ( ميج21 ).. وفى نفس التوقيت أقلعت 8 طائرات ت.يو.16 قاذفة صواريخ تحمل كل منها 2 صاروخ موجه يتم إطلاقه من مسافة 150 كيلومتر من الهدف وأخذت أماكنها غرب القناة بمسافة 40 كم .. وبهذا بدأ تنفيذ الضربة الجوية المركزة بهدف :
- تدمير مطارات العدو في سيناء، حتى لا يؤثر بقواته الجوية المتمركزة في هذه المطارات على عملية اقتحام القوات البرية لقناة السويس وخط بارليف.. وكان هذا يقتضي تدمير وشل مطارات المليز، تمادا، العريش، راس نصراني، النقب. وقد نجحت المقاتلات القاذفة في تدمير ثلاث منها ( المليز، تمادا، راس نصراني). أما مطار النقب فكان خارج مدى عمل الطائرات .
- كانت مفاجأة الضربة الأولى سيزول أثرها بانتهاء الضربة، فكان من المخطط وضع العدو في حاله من الارتباك وعدم السيطرة لأطول فتره ممكنة، لذا تقرر في الضربة الجوية تدمير مراكز القيادة والسيطرة ومحطات الرادار والإنذار واللاسلكي، وقد نجحت القاذفات من غرب القناة والمقاتلات القاذفة التي قامت بالهجوم المباشر في تدمير مركز قياده رئيسي، مركز إعاقة وشوشرة،2 مركز إرسال لاسلكي في مناطق أم خشيب، أم مرجم، أم مخسّه.
- كان لابد من تأمين عمل الطائرات المهاجمة للمطارات ومراكز القيادة، فتم تخصيص جزء من المقاتلات القاذفة لإسكات الدفاع الجوى المعادى، حتى تتمكن الطائرات من العمل بحريه وإحراز أعلى نتائج تدمير.. وقد نجحت التشكيلات المكلفة في تدمير 5-6 موقع هوك إسرائيلي. كانت نتائج الضربة الجوية المركزة ناجحة بصورة باهرة.. فأن تقوم حوالي 200 طائره من 10 قواعد بمهاجمة ثلاث قواعد جوية، وثلاث مراكز قيادة وسيطرة، وعشر مواقع صواريخ هوك ومرابض مدفعيه في وقت واحد، وتحقق نتائج تدمير عالية.. لهو نجاح دون شك . كان وراؤه عرق ودماء بُذلت في تدريب شاق، وقيادة أجادت التخطيط.. وكانت خسائرنا في هذه الضربة 10 طائرات فقط ، نال طياروها شرف أول شهداء أكتوبر، ومنهم المقدم طيار/زكرياكمال، والنقيب طيار/عاطف السادات، وصبحي الشيخ، والملازم أول طيار/ عاصم عبد الحميد.
كان نجاح القوات الجوية المصرية في ضربتها المركزة مستندا على استخدامها كماجاء في العلم العسكري.. فالمفاجأة وهى أحد المبادئ أدت إلى اكتشاف طائراتنا فقط وهى تعبر القناة وليس قبل ذلك، وتطلب تحقيق هذا المبدأ سريه في التحضير وطيران إلي الأهداف على ارتفاع 30 متر. وكان لمبدأ الحشد والتركيز أثره الفعال في الضربة، ظهر في نتائج التدمير العالية التي تحققت على كافة الأهداف التي هوجمت.عاد الطيارون من الضربة لأولى في حالة معنوية عالية.. وانتظروا في قواعدهم لتكرار الضربه فى الرابعة والنصف . كان الحماس يملأهم فمصر نهضت لتسترد كرامتها على يد أبنائها.. ولكن لما جاءت نتائج الضربة تبين أنه تم إسكات وتدمير معظم الأهداف التي هوجمت، تم إلغاء الضربة الثانية. كان ذلك عملا بمبدأ الاقتصاد في استخدام القوة وهو مبدأ صحيح في العلم العسكري لكنه ظهر مبكرا، ربما صورة قواتنا في 67 وهى بدون غطاء جوى كانت في مخيلة القادة في مركز العمليات. وتحسبا إلى أن القوات الجوية الإسرائيلية وهى عامل التفوق في قوة العدو لم تظهر أو تشترك بعد.كان المخطط أن تقوم الفرقة 119 هليكوبتر تحت ستر وحماية المقاتلات والمقاتلات القاذفة القائمة بالهجوم، في موعد الضربة الثانية، بإبرار مجموعات من الصاعقة خلف خطوط العدو في عمق سيناء.. لكن لما صدرت أوامر مركز قيادة القوات الجوية بإلغاء الضربة الثانية قامت الفرقة 119 دون حماية بتنفيذ
مهامها المحددة في الخطة كالآتي:
قوة 18 طائره في منطقة وادي سدر وقلعة الجندي
قوة 18 طائره في منطقة الرويسات وسهل الطينة
قوة 6 طائره في منطقة أبورديس
3 طائره لإبرار مجموعات استطلاع خلف الخطوط على الطريق الشمالي والجنوبي
3 طائره لقذف مستودعات البترول في بلاعيم على الشاطئ الشرقي لخليج السويس
وما أن توغل هذا العدد الكبير من الطائرات في عمق سيناء دون حماية، حتى انقضت عليه مقاتلات العدو التي أقلعت بعد الضربة الأولى من مطارات داخل إسرائيل واحتلت مناطق مظلات شرق القناة. خاصة وأن طائرات الهليكوبتر عبرت القناة بعد ساعتين من الضربة الأولى.. اندفعت مقاتلات العدو نحو طائراتنا مستغلة بطء سرعة الطائرة الهليكوبتر ومناورتها المحدودة، وعدم وجود حماية لها. فتم تدمير بعض منها في الجو، والبعض الآخر أثناء عملية الإبرار.. بل إن البعض هبط بطائرته في مكانه بعد أن شاهد مقاتلات العدو وقام بإنزال قوات الصاعقة في مكان مختلف لإنقاذ القوة المكلف بإبرارها.. والبعض الآخر هبط عدة مرات محتميا بالهيئات الطبيعية حتى وصل إلى منطقة الأبرار.. وقد خسرت القوات الجوية في هذه الطلعة 25 طائره + 25 طاقم بين شهيد وأسير.. بالإضافة إلى قوات الصاعقة التي كانت في الطائرات .
ولا يمكن أن نغفل في الضربة الجوية الأولي دور السرب العراقي الذي كان مشاركا فيها.. وصل هذا السرب بطائراته ( هوكر هنتر ) منذ يناير 1973 وتمركز في مطار قويسنا، وكان يقوم بالتدريب على مهام العمليات شأن الأسراب المصرية. وتم تكليفه في الضربة الأولى بمهاجمة مواقع صواريخ هوك ومدفعية ميدان.. ثم توالى إشراكه في الأيام التالية، وكانت نتائج هذا السرب طيبة للغاية، وذلك للجهد الكبير الذي بُذل من أشقاء مخلصين نذكر منهم (رائد طيار/عماد عزت-رائد طيار/ ليث المدرس) وننحني احتراما وتقديرا لشهدائه ( نقبب طيار/وليد السمرائي- ملازم أول طيار/سامي فاضل وعامر القيسى ) لقد ساهم الدم العراقي مع المصري في الانتصار.. وهو ما لم يحدث في أربعة حروب سابقه.
وفى سوريا قامت الطائرات السورية في نفس التوقيت بمهاجمة مواقع إسرائيلية بقوة 100 طائره، وشارك في هذه الضربة السرب المصري( ميج17 ) المتمركز في سوريا منذ عام 1970 لدعم الجبهة الشمالية. وهاجم في الطلعةالأولى مركز القيادة في ميرون شمال إسرائيل. وقام السرب بتنفيذ أكثر من 90 طلعه طوال الحرب. خسر خلالها 5 طائرات واستشهد نقيب طيار/بدوي عبد المجيد-ملازم أول طيار/بكر سليمان . لكن قائد السرب المقدم طيار/فكرى الجندي أسقط 2 طائره سكاى هوك إسرائيلية.
مصر تعزف سيمفونية الحرب
عقب حرب يونيو 67 كان لإسحاق رابين قول مشهور "أحب أن يرقص المصريين على طبولي أنا". وكان قوله حق.. لكن ماذا عساه قال حين شاهد بعينيه إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر، وهو يرقص ويرقص على أنغام العزف المصري.. لقد أطلقوا على يونيو67 حرب الأيام الستة.. لكن مصر ردت بحرب الساعات الستة. في الساعة 05 :2 بعد عبور طائراتنا القناة بخمس دقائق بدأ التمهيد النيراني بالمدفعية ( 2000 مدفع وهاون) بالإضافة إلى لواء صواريخ تكتيكية أرض – أرض.. استمر التمهيد النيرانى لمدة 53 دقيقه على أهداف محدده في خط بارليف وتجمعات دبابات العدو ومراكز قيادته.. كان معدل القصف شديدا، ففي الدقيقة الأولى سقط على المواقع الإسرائيلية أكثر من عشرة آلاف دانة مدفعية بمعدل 175 دانه في الثانية الواحدة.. كان لهذا التمهيد المدفعي دور هام في منع العدو من دفع دباباته لاحتلال الساتر الترابي، وإطلاق النيران على قواتنا أثناء عبورها في القوارب.
وتحت ستر نيران المدفعية عبرت أول عناصر من الصاعقة حتى تسبق العدو في احتلال مصاطب الدبابات التي تقع خلف خط بارليف 1 –2 كم.. ومع التمهيد النيراني بدأ عبور اللواء 130 مشاة أسطول بقيادة العقيد/محمود شعيب عند الطرف الجنوبي للبحيرات المرة، وكذا سرية مشاه عند بحيرة التمساح مستخدمين مركبات برمائية.في الساعة 20 :2 بدأ عبور 720 قارب تحمل 4000 مقاتل مصري يهتفون من قلوبهم" الله أكبر".. وفى نفس التوقيت بدأ العدو محاولة دفع دباباته لتدعم قوات خط بارليف، لكن قوات الصاعقة سبقته واحتلت المصاطب وبدأت الاشتباك على الفور ودمرت عدد من الدبابات المتقدمة غربا.. كما وأن دباباتنا التي احتلت المصاطب غرب القناة ( والتي وصفها ديان بأن المصريون مغرمين ببناء أهرامات) أخذت تدمر الدبابات المتحركة شرق القناة الواحدة تلو الأخرى..وصلت الموجه الأولى من المشاة إلى الشاطئ الشرقي واحتلت أجزاء من الساتر الترابي في الفواصل بين النقاط الحصينة.. وكان على المجموعة الأولى هذه أن تقوم بفرد وتثبيت سلالم الحبال (1440 سلم) على الساتر الترابي.. كذا تثبيت علامات إرشاد لأرقام القوارب ( مسلسل من 1 حتى 720 ). كانت الخطة المصرية تصل إلي أدق التفاصيل .. وبدأت عناصر المهندسين العسكريين العمل لفتح الثغرات في الساتر الترابي بقوة 70 فصيلة معهم 350 مضخة مياه .. وفى الساعة الثانية والنصف رفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناه فوق أرض سيناء.
الساعة 45: 2 بدأت المجموعة الثانية من المشاة عبور القناة، ثم توالى عبور الموجات بفاصل 15 دقيقة بين كل موجة واخري... المعركة بالنيران مستمرة بين العدو وقواتنا.. قاتل الإسرائيليون بعنف من داخل حصونهم التي توفر لهم حماية فائقة، واندفعت دباباتهم للقضاء علي قواتنا لكن المفاجأة كانت في انتظارهم فوجدوا رجال المدفعية المسلحين بالمقذوفات المضادة للدبابات توقف تقدمهم وتدمر منهم الكثير.. ارتبكت القيادة الإسرائيلية فهذه أول مرة تقف دباباتهم عاجزة أمام أفراد وليس أمام دبابات.
الساعة 30 : 3 اصبح لنا شرق القناة 14000 أربعة عشر آلاف مقاتل. تقدمت قواتنا حوالي 200 متر شرق الساتر الترابي.. بدأ طيران العدو هجومه علي قواتنا في الثالثة عصرا لكن دفاعنا الجوي تمكن من إسقاط 7 طائرات .. بدأت قواتنا تحاصر نقاط العدو في خط بارليف، وسقطت أول نقطة في منطقة القنطرة شرق.. تم فتح أول ممر في الساتر الترابي.. بدأت وحدات المهندسين بإسقاط براطيم المعديات والكباري وتركيبها فوق القناة.. تم عبور القادة علي ، قادة الفصائل والسرايا عبروا مع الموجات الأولى، قادة الكتائب خلال 15 دقيقة قادة اللواءات خلال 45 دقيقة قادة الفرق خلال ساعة ونصف.
الساعة 30 : 4 موجات المشاة تستمر، لنا علي الضفة الشرقية 1500 ضابط و22000 جندي. قاموا باحتلال 5 رؤوس كباري قاعدة كل منهم 6-8 كم وبعمق 2كم شرق القناة .. في الساعة الرابعة استأنفت إذاعة إسرائيل إرسالها(تتوقف في عيد الغفران) فأصدرت أمرا مفتوح لقوات الاحتياط للتوجه إلى مراكز التعبئة.. القصف المدفعي اكثر دقة لأن ضباط مدفعية يقومون بتصحيح النيران من الشرق.
الساعة 30: 5 اصبح لنا شرق القناة 45 كتيبة مشاه قوامها 2000 ضابط و 30.000 جندي..اصبح عمق رؤوس الكباري 3-4 كيلو متر.. بدأ استيلاء قواتنا علي بعض نقاط خط بارليف..ووصلت خسائر إسرائيل إلى 13 طائرة، فاصدر قائد القوات الجوية الإسرائيلية أمرا للطيارين بعدم الاقتراب أكثر من 15 كم شرق القناة.. قوات الشرطة العسكرية المصرية في الشرق بدأت في تحديد الطرق وترقيمها لمساعدة وتوجيه الدبابات والمركبات التي ستعبر حتى لا تضل الطريق إلى أماكن قتالها.. إبرار كتائب الصاعقة في أماكن متفرقة في سيناء.. وكان لقوات الصاعقة دور هام في نجاح العبور، كان عليهم تأخير وصول المدرعات الإسرائيلية لأطول فترة ممكنة.. ولابد أن نذكر هنا أحد أبطال مصر الرائد/سمير زيتون قائد كتيبة الصاعقة الذي قاد ضباطه وجنوده في عمق سيناء ونفذ المهام المكلف بها، بيده اليسرى فقط بعد أن أصيب عام 70 في التدريب بعجز كامل في يده اليمنى لكنه أبى إلا أن يشارك مع زملائه في تحرير التراب المصري.
الساعة 30: 8 مساء أصبحت معظم نقاط خط بارليف محاصرة.. قوات المهندسين نجحت في إنشاء أول كوبري ثقيل ، ومستمرة في تركيب باقي الكباري، واصبح لنا 21 معدية تعمل بين الشاطئين بدأت في نقل بعض الدبابات والأسلحة الثقيلة.. تم عبور أول دبابة علي الكوبري.. اصبح لنا 80000 مقاتل علي الضفة الشرقية.. سقطت 15 نقطة حصينة في أيدي قواتنا.. المشاة تسيطر وتعزز مواقعها علي الشاطئ الشرقي.
الساعة 30 : 10 مساء أتم رجال المهندسون العسكريون فتح 60 ممر في الساتر الترابي وتم إنشاء 8 كباري ثقيلة و4 كباري خفيفة وتشغيل 30 معدية.. لم يتم إنشاء الكباري المخصصة للفرقة 19 مشاه في قطاع الجيش الثالث فيالتوقيت المحدد لاختلاف طبيعة التربة التي كانت تكوّن" روبه" عند اختلاطها بالمياه، حتى أن دبابة غرزت في هذه الروبه. على الفور أمر قائد الجيش بإلقاء الدبابة في القناة، واستعان بشركات المقاولات والطرق المدنية التي كانت موجودة على القناة للخداع. وتمت تغطية الفتحات بالحصائر المعدنية وتم استخدام الكوبري متأخرا عدة ساعات.. وصلت خسائر العدو 27 طائرة.
ليلة 6 / 7 أكتوبر قام العدو ليلا بهجمات مضادة نجحت قواتنا في صدها عدا حالتين نجح العدو في الوصول بدباباته إلى شاطئ القناة وتدمير بعض المعديات.. العدو يقاتل بشراسة، قبل الصباح استطاعت قواتنا بهجوم مضاد تدمير دبابات العدو وإجباره علي الانسحاب شرقا.. تمكن المهندسون المصريون من إصلاح الكباري التي تعطلت..قامت 3 طائرة هليكوبتر مي 8 بمهاجمة مناطق البترول في بلاعيم، فأشعلت بها حرائق هائلة وتمكن العدو من إسقاط طائرة منها وتم اسر طاقمها.. 2طائرة قاذفة ت- يو 16 تقذف بالصواريخ محطات رادار وإنذار للعدو شرق خليج السويس.. دباباتنا تنضم إلى قوات المشاة بعد أن قاتلت بمفردها 8 ساعات.. فرق المشاة تندفع لتعمق رؤوس الكباري إلى 6-8 كم شرقا.. القوات البحرية تقوم بمهاجمة أهداف علي ساحل سيناء بقصفات مركزة من المدمرات. وتقوم بتلغيم الشاطئ الشرقي لخليج السويس. ونتيجة لهذا غرقت ناقلة البترول سيراس(46 ألف طن) والناقلة باترا(2000 طن).وتوقفت السفن الإسرائيلية.
لقد نجح العبور.. واستردت مصر كرامتها، واصبح لها في الضفة الشرقية 2 جيش ميداني.. وتدمر خط بارليف الأسطورة وهُزم الجيش الذي لا يقهر.. وفر وُقتل ووقع في الأسر الجندي الإسرائيلي (السوبر مان).. وقطعت ذراع إسرائيل الطويلة بواسطة دفاعنا الجوي.. وكانت خسائرنا في اليوم الأول مذهلة بما لا يخطر علي بال صديق أو عدو.. فبعد التقدير السوفيتي الذي كان يؤكد خسارة 30% من حجم القوات في العبور ، أسفرت الأحداث عن فقد10 طائرات –20 دبابة -280 شهيد سبقوا زملاءهم إلى جنة الخلد.. نود أن نذكرهم جميعا، لكن الحيز لا يسمح فنكتفي بذكر بعض منهم وأعمالهم فقط كرمز مثال العميد مهندس/ احمد حمدي الذي اندفع بحماس وإحساس عالي بالمسئولية إلي قطاع الجيش الثالث لمتابعة المشاكل التي أدت لتأخير تركيب الكباري.
وعلى شاطئ القناة تصعد روحه إلى بارئها شهيدا ضاربا أروع الأمثلة في التحام القائد الكبير بالجندي المقاتل... الرائد/ محمد زرد قاد سرية من المشاة والمهندسين لمهاجمة نقطة حصينة من نقاط خط بارليف تعوق إنشاء كوبري في قطاع الجيش الثالث. وتوقفت القوه عن التقدم لان هناك رشاش داخل النقطة يمنع التقدم. فما كان منه إلا أن زحف بمفرده والتف من خلف النقطة وقام بإلقاء القنابل من المزغل الذي به الرشاش لكن دبابة كانت في الموقع تمكنت منه، لكن باقي القوة تقدم وسيطر علي النقطة... الجندي/ محمد حسين مسعد كان من المفارز الأولى التي عبرت قبل قوات المشاة لتعطيل دبابات العدو وبالفعل تمكن مع مجموعته من تنفيذ المهمة.. واستشهد وهو يقاتل ويبلغ قائده أن الدبابات الإسرائيلية علي بعد 10 أمتار من موقعه. والحديث عن البطولات المصرية يطول.. فالجميع تسابق وتنافس لتحقيق المهام .. كانت الوحدات كلها على قلب رجل واحد، وسنكتفي بمثال واحد رمز للعسكرية المصرية التي خططت ونفذت بأروع ما يكون.
كانت الكتيبة 73 صاعقة بقيادة الرائد/ علاء الصاوى مكلفة بالتوغل شرقا أمام الفرقة 18 مشاه لمسافة 20 كيلومتر، وعمل كمائن لمنع وتعطيل احتياطات العدو المدرعة القادمة من عمق سيناء.. وفى صباح 6 أكتوبر، التقى العميد/ فؤاد عزيز غالى قائد الفرقة مع قادة الكتيبة والسرايا لتأكيد المهام، وأهداهم مصحفا من قيادة الفرقة، مع تشجيعه لهم قائلا - أنا متأكد يا رجاله إنكم قد المهمة ومش حاتعدّوا دبابة يهودي واحدة، علشان الفرقة تشتغل براحتها..
ومع بدء القصف المدفعي عبرت الكتيبة في دقائق ومعهم قائد المجموعة العقيد/ على هيكل الذي اطمأن عليهم، ثم ودعهم منطلقين على ثلاث محاور. سريه على محور الفردان وأخرى على محور كثيب الدرب والسرية الثالثة على محور جلبانه. كانت مواقع الكمائن على بعد 20 كيلومتر من القناة لكن السرية على محور جلبانه اشتبكت مع العدو على بُعد 3 كم واستشهد منها9 أفراد، فاتخذت مواقعها الدفاعية في منطقة الاشتباك وتمسكت بالأرض وأوقفت تقدم العدو..
تمكنت السريتان الأخريان من الوصول إلي مواقعهما سيرا على الأقدام في الواحدة بعد منتصف الليل.. واتخذ أفراد الكمائن مواقعهم المدروسة مسبقا والتي تم التدريب عليها عشرات المرات.. وبعد ساعتين تقريبا ظهرت دبابات العدو وهى تتحرك ُمسرعة نحو القناة. وبأمر من الرائد/علاء اندفع مقاتلو السرية بعدد 24 قاذف صاروخي أر.بي.جى ومن على مسافة 50 –100 متر انطلقت القذائف المصرية فدمرت العربة الأولى (عربه جيب) ثم عربه مدرعة تليها + 3 دبابة . ولم يستغرق الهجوم سوى لحظات، وتوقف العدو وتخيل أن هذا القصف المكثف لابد وأن يكون من قوه رئيسيه وليس كمين صاعقة، فما كان من باقي الدبابات إلا أن تراجعت شرقا مرة أخرى.
وانتهى تنفيذ المهمة وبقى العودة إلي القناة. وبتقدير للموقف أصبح التحرك مستحيل لأن النهار بعد ساعة والعدو سيتمكن منهم.. كان القرار التقدم شرقا 2 كم والاختباء في كودي الحشائش طوال النهار ثم الانسحاب ليلا. وجاء العدو في الصباح وقام بتفتيش المنطقة بالهليكوبتر والدوريات، لكن نجحت الخطة وانسحبت الكتيبة سالمة إلا من 9 شهداء وأصابة واحده(علي محور جلبانه).. كان أبطال هذه المعركة غير قائد الكتيبة.. الرائد/محيى حشاد والنقيب/عبد الرازق المعبدلى-أحمد حنفي جبر-محمد الغريب.
كانت إسرائيل هي اكبر من خدعت نفسها.. فبعد يونيو 67 وكجزء من الحرب النفسية روّجت إسرائيل أسطورة ضخمة حول قوة جيشها وقدرته اللامحدودة، في مقابل عجز عربي لا يستطيع أن يواجه هذه القوه. وصدقت إسرائيل كلها هذه الأسطورة وتشبعت بها. ونقرأ تصريحاتهم بعد قيام الحرب لنرى كيف كان الفكر الإسرائيلي. فقد عرفنا ماذا قال دايان في مجلس الوزراء صباح 6 أكتوبر.. وحين اندلعت الحرب علي عكس كافة التوقعات الإسرائيلية خرج دايان في مساء نفس اليوم ليقول وهو يضع تصور للمعركة "سوف ينتهي القتال في ستة أيام، فيومان يكفيان لاستكمال التعبئة الشاملة ويومان لإيقاف الهجوم علينا ويومان لتدمير قوات العدو علي الجبهتين".
وقال اليعازر رئيس الأركان" سنحطم لحمهم في عظامهم" وقالت مائير" لقد أصابهم الجنون" تقصد المصريين أنهم حاولوا العبور. وفي المقابل كانت النغمة المصرية هادئة ومتماسكة تماما.. فصدر البيان العسكري الأول الساعة الثانية وعشر دقائق يقول" قام العدو في الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتي الزعفرانه والسخنة بخليج السويس، بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية، عندما كانت زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي للخليج، وتقوم قواتنا حاليا بالتصدي للقوات المغيرة. وفي الرابعة عصرا صدر البيان الخامس بنفس النغمة الهادئة يقول" نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة واستولت علي نقط العدو القوية بها. ورفع علم مصر علي الضفة الشرقية للقناة. كما قامت القوات المسلحة السورية باقتحام مواقع العدو في مواجهتها وحققت نجاحا مماثلا في قطاعات مختلفة".