توفيق المحلاوي

من معرفة المصادر


توفيق المحلاوي

قصة قصيرة بقلم :محمد همام فكري

( نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)


كانت ربطة العنق رغم حالتها الرثة .. وألوانها الفجة .. تمنحه قدرًا من التميز والشهرة .. لايتمتع بهما غيره في المصلحة بأكملها .. بل وفي الطريق المؤدي إليها .. أضافة إلى شعره الكثيف .. المصفف بعناية واضحة .. ومشيته الرشيقة .. وابتسامته المرسومة .. يهديها لكل من يقابله .. يعرفه أو لايعرفه .. لانه كان يعتقد أن كل من يراه لابد وأنه يعرفه أو سمع عنه أما حقيبته المنتفخة بالملفات وبعض الكتب القديمة والجرائد القديمة أيضا التي يحلو له أن يجترها بين الحين والآخر .. فهي من أهم معالمه إذ يستطيع المرء أن يراها قبل أن يدركه .. طراز غريب من البشر ينتمي إليه .. توفيق المحلاوي .. بل هو عميد هذه الفئة من الناس التي ينتمي إليها أو تنتمي إليه .. إصرار عجيب على أن يكون شخصًا مختلفًا .. نسيج وحـده .. فرغم ملابسه المتواضعة كان يغالي في التأنق وكأنه أحد نجوم هوليود .. لذلك كانت حركاته محسوبة .. لفتاته .. حديثه .. كل شيء محسوب .. وكأنه يتحرك أمام عدسات كاميرات السينما .. فمنذ أكثر من عشرين عامًا أو يزيد وهو يتقمص شخصية الرجل المهم .. الرجل المهم في حد ذاته .. هكذا كان يقولها لنا مبررًا تواضع مكانته الوظيفية .. كعامل أرشيف في المصلحة بعد أن تقلّب في عدد من الوظائف .. ترك بعضها راغبًا .. وأبعد عن البعض الآخر في معظم الأحوال ..إلى أن استقر به المقام تحت طوابق المصلحة الأربعة... في الطابق الأرضي بين أرفف الملفات وصناديق الوثائق والسجلات .. وهو في كل وظيفة كان يشغلها يدّعي أنه أهم من قام بها في تاريخ المصلحة .. لانه كان يزعم أن له مقدرة على التنظيم .. ويقول في تؤدة : - التنظيم أساس الحضارة .. وأنا أتعامل مع الأشياء من منطق الأهمية .. أهميتي أنا أولا .. وأهمية مايجب أن يسند إلى .. وعلى الرغم من توقفه عن الدراسة في وقت مبكر جدًا بعد حصوله على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية .. إلا أنه كان حريصاً على أن يظهر ثقافة عريضة وعميقة .. يتباهي بها على جميع من يتحدث معهم .. فهو يختار ألفاظه ينمقها ويمطها .. ويظهر جرسها .. وكأنه يغني .. وبدون مناسبة تراه يتحدث عن الحضارة الرومانية .. وفرسان العصور الوسطي وأسباب قيام الثورة الفرنسية .. حتي لو كان الحديث عن أزمة السكر أو حالة الجو .. لكنه يملك قدرة خاصة في تحويل الحديث إلى ما يريد لإنه كان يريد أن يؤكد لنا ولنفسه .. تفوقه الثقافي علينا .. بل وكثيرًا ماكان يقولها صريحة : - الثقافة محيط والتعليم بحيرة .. ويزيد : - أنتم مثلا جهلة .. ساعدكم الحظ فأكملتم التعليم .. وحصلتم على الشهادة فحسب .. وهي في نظري إجازة للعمل - صك - إجتماعي .. والمصيبة أن معظمكم بل كلكم بما فيكم المدير نسي كل ماتعلمه أو معظمه وتوقف عن القراءة ..إلا ثقافة الجرائد اليومية وتتبع عورات الناس فأصبحتم عبئًا على المجتمع والتاريخ في آن واحد .. وعندما يبدي أحدنا أعتراضًا .. كان يقول في ثقة : - من منكم قرأ التراث ..؟ المدير نفسه يخلط بين العصر الجاهلي .. والأموي لانه لايقرأ إلا التقارير .. ويوقع على البريد توقيعًا فجًا .. كأنه زمام كاميرة تصوير ..ويمارس على خلق الله .. نفوذ السلطة..بحق وبغير حق .. أما أنا .. فأنا توفيق المحلاوي .. وهذا يكفيني اينما كنت ..على باب المصلحة في الهواء الطلق أو في الطابق الأرضي أنا .. أنا .. يا عيّال ..المهم الأيدولوجية .. المنهج .. التاريخ .. وأنتم لاتقرأون التاريخ .. ولا المدير .. وكنا نعجب لحرصه على أقحام المدير في زمرة الجهلة والمتخلفين .. وكأنه يريد أن يصفي حسابا تراكم بينهما فكثيرا ما كان يقول .. - توفيق المحلاوي أكبر من مدير .. أنا أحمل التاريخ على رأسي .. وهو يدوس عليه .. أنا أقرأ أبن خلدون .. والمقريزي .. والجبرتي وهو يقرأ التقارير .. والفرق كبير .. لان التاريخ هو الاحداث .. والاحداث صنعتها الشخصيات وأنا رجل له تاريخ لا يقل عن تاريخ ابن زيدون .. أما تقارير المدير فهي واقع مشوه لحقيقة مشوهة ستكون نهايتها هنا .. بين الملفات وأكوام التراب .. كان يقول ذلك كل مرة .. نتحدث فيها إليه.. بل كنا نتوقع ذلك دائمًا ..خاصة عندما ننتظر كوب الشاي المركّز الذى يدعونا إليه .. فندفع الثمن إذعانا لما يقول ..وكم كان يقول : - توفيق المحلاوي أكبر من مدير .. يكفي أنه يحسدني على ثقافتي .. ولا أحسده على شيء .. وكنا نضحك ونحن نتابع حركة يده وهي تعلو بين الحين والآخر .. إلى ربطة العنق .. يجذبها تارة إلى اليمين .. وأخرى إلى اليسار .. ثم يعقبها بدفعة خفيفة لنظارته السميكة التي كانت تتدلي حتي فتحتي أنفه بعدها يمسح براحة يده على شعره اللامع.. ولاننا كنا ندرك حاجته للتقريز.. كنا نزيد في احترامه ونغالي في ذلك .. ونحن نتحدث إليه .. لا يخلو حديثنا من مخاطبته .. - سيادتك .. - حضرتك .. - سعادتك .. - جنابك ..يا توفيق بيه .. وكان يستجيب في نشوة .. ويتجلى ويسهب في الحديث عن أيام ومغامرات صدر الشباب .. وكيف كانت الفتيات تتهافتن عليه خاصة مدام آمال سكرتيرة المدير.. لكنه لم يعرهن جميعاً أدنى أهتمام . ونبتسم .. ويسرح هو ببصره طويلا ثم يتبعها بآهة قائلاً : - أيام ذهبت ولم يبق منها إلا الذكرى والأسف .. لم يبق شيئاً .. ياعيّال .. يقولها وهو يمصمص شفتيه .. ثم يجذب ياقة الجاكيت الأسود .. مرتبًا ملابسه ناظراً إلى شيئاً لا نراه .. أما أقسى ماكان يؤلمه فهو أن يسمعنا .. ونحن نعلق على مايقوله بالإنجليزية لانه كان يجهلها فيرتبك .. ثم سرعان ما يفرد قامته ويتابعنا في دهشة .. وقرف .. ثم يطفق قائلا في عصبية الواثق .. - جهلة .. لاتحسنون الحديث بلغتكم .. فتنصرفون لغيرها .. أقطع ذراعي .. لو كنتم تحسنون الإنجليزية .. فننفجر في الضحك عندما ينشغل عنّا في إعداد الشاى لا ندري ما الذى كان يجذبنا إليه .. ويجعلنا مرتبطين به رغم وقاحته ورغم الفارق الوظيفي بيننا وبينه..... فقد كان منّا المهندس والمحاسب والمحامي ..شباب حديثي العهد بالوظيفة .. سنة ..سنتان .. إلا أنه استطاع بتميزه الاسطوري أن يلتقطنا .. يستقطبنا .. وندخل دائرته المقفلة عليه.. وان يشغل حيزاً في حياتنا ليس له مثيل... فكنّا لا نستطيع أن ننتظم في العمل قبل أن نثير همومه وشجونه. قاصدين ..وبعدها نشرب الشاي ..ونسمع كلاماً معاداً لكنه ممتع .. وننصرف عنه وفي أحاديثنا يبقى بمفرداته ولوازمه نقول كثيرا -علي رأي توفيق المحلاوي .. وكأنه - علامة مسجلــة - لقد بهرنا كنموذج بشري غاية في التناقض .. .. مدّعي ثقافة .. ومدّعي أناقة .. ومدّعي مبدأ .. وفاشل .. دخل الحلقة الخامسة ولم يتزوج .. كان يطلب المستحيل .. الجمال والمال والحب .. فلم يحصل علي أحدها وضاعت الفرصة .. وبقي وحيدًا في غرفة صغيرة .. في حارة ضيقة .. بجوار المصلحة ..يجتر ذكريات الصبا .. ويعض قشور المعرفة .. وكثيرا من الكلام .. كنا نعرف حكايته .. من الاخرين .. لكنه كان يعتقد أننا لانعرف عنه إلا مايقوله لنا .. أما أقسى ما كان يؤلمه حقا .. فهو أن يلتقي والمدير ونحن في مكان واحد .. لان المدير كان دائما يتهمه بالجهل .. والتخلف .. والإهمال .. ويكيل له مما لا يحب ولايرضى .. فينكمش في ملابسه المتناقضة .. وينظر إلينا مبديًا عدم الاهتمام .. كأنه غير المقصود .. فننصرف بسرعة بعد أن نهديه نظرة مجاملة سريعة .. يخطفها منا في صمت .. بعدها يأتي إلينا ليحكي .. كيف أنه هو الذي عنف المدير علي مابدر منه في حق عبد الله الأعرج زميله في الأرشيف .. فنقول له في خبث : - تقصد أن المدير كان يشتم عبد الله الأعرج ؟ .. - وهل يقدر مخلوق أن يتهمني بالجهل ..يا جهله المدير يعرف جيدًا من هو توفيق المحلاوي .. يعرف أن رقبته تحت حذائي .. أنا الذي صنعه .. أنا الذي ساعده يوم جاء الي المصلحة .. موظفًا حديث العهد بالحياة .. لا يعرف الألف من كوز الذرة - مثلكم تماما - فعهدته .. علمته .. أخذت بيده .. شرب الشاي هنا .. واستمع إلي طويلا .. لكنه نسي .. الناس هنا تنسي .. خاصة من يسدي إليهم النصح .. لانهم لايحاولون أن يتذكروا .. زمن الأحباطات .. وكنا نبدي له اهتمام المصدق وكلانا يعرف أنه كاذب .. أما الطامـة الكبرى فهي يوم طلب المدير منه ملف الضرائب .. فأحضر له ملف القضايا .. يومها سقط توفيق المحلاوي .. من طوله .. أو كاد عندما انهال عليه المدير علي مرآى ومسمع من الموظفين والزائرين .. بالشتائم .. وكاد أن يبصق في وجهه .. بعدها خرج توفيق المحلاوي من المصلحة .. يجر ساقيه .. وحقيبته .. وجســده .. وعندما حاولنا أن نخفف عنه .. قال لنا وبصره في الأرض: - الفرق بيني وبينه .. أنه يستطيع أن يقول أي شيء .. في أي وقت .. لكنني لا أستطيع إلا أن أسمع .. والفرق كبيــر ..