تحت الخشبة

من معرفة المصادر

تحت الخشبة


قصة قصيرة بقلم :محمد همام فكري

(نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)


أخذ نفسًا عميقًا وهو يمسح بكفيه حبات العرق العالقة على جبهته .. بعدها خلع نظارته .. وفرك عينيه براحة يده اليمنى .. وهو يسعل سعالا لا يسعه غيره.. رتب الأوراق التي بين يديه ثم وضعها تحت زبطــه .. بعدها ألقى بالملف الذي كان يقبض عليه .. وأخذ يرتب ملابسه .. ربطة العنق والأكمام .. ثم لوى جذعه يمينًا ويسارًا .. وهم بالخروج مع التصفيق الحاد الذي ملأ صالة العرض في المسرح الكبير ..لكنه لم يقدر .. بصعوبة أقام رأسه من تحت الصندوق .. وهو ينظر إلى الممثلين الذين اصطفوا يردون على تحية الجمهور .. وكشافات الأضاءة من خلفهم باهرة الكل يصفق .. مبديًا اعجابه بالآخر .. الابطال فرحون بتشجيع الجمهور .. والجمهور فرح بما قدمه الممثلون فوق خشبة المسرح .. و بالوقت الذى انفقه بعيداً عن شجون الحياة... وستارة المسرح تنساب على مهل .. معلنة نهاية ليلة أخرى من ليالي المسرح العتيق .. ومعها تدفق الجميع في الخروج ..يستبقق كل منهم الآخر وبينهم عدد من الناس ..وكأنه لا يرغب في العودة إلى الطرقات الصاخبة ومع انصرافهم أنطفأت الأنوار.. رويدًا ....رويدًا .. حتي أفسحت للظلام .... كل المكان ..أو كادت وجد نفسه وحيدًا .. أو أراد ذلك قاصدًا .. لإنه عندما نظر حواليه كان الظلام فسيحاً ..كقبة السماء .. وبرشاقة الرجل العجوز قفز فوق خشبة المسرح كأبن عشرين .. وألقى الملف الذى أهترأ في قبضته وكأنه اغتنم فرصة نادرة طال انتظارها دار في أركان المسرح الأربعة ..وهو يتنقل قفزًا كالحمامة فوق مساند المقاعد المتراصة في انتظام..من الجدار إلى الجدار... .. وهي تلمع متتابعة .. تتراقص في عينيه كأمواج بحر ساكن.... وبخطوات رشيقة ..خطا فوق خشبة المسرح وفي منتصفها وقف ويديه في خصره .. ألقي نظرة.. إهمال على صندوق التلقين الكائن تحت قدميه .. وهو يقترب منه وبصره مثبت عليه وبكبرياء المتمرد وضع قدمه اليمنى على حافة الصندوق وهو يحدث نفسه .. - الجميع هنا يقف .. تحت كشافات الأضاءة .. نعم كل من وقف على هذه الخشبة صغيرًا أمسى كبيرًا .. والأيام هنا تلاحق بعضها والليالي .. والصعود على خشبة المسرح الكبير له متعة لايقدرها إلا من حلم بها زمنًا .. - نعم إنها مشاعر عميقة من الرهبة والقلق .. والمسرح حياة أضعت عمري تحت خشبته .. في هذا الصندوق الضيق .. بوظيفة ملقّن .. - نعم .. أنا اعمل ملقّن .. بتشديد القاف .. كما يحلو للأستاذ علاّم مدير المسرح أن يناديني - عشرون عاما وأنا أعمل بتشديد القاف ملقّن قابع تحت الخشبة والجميع فوقها يتألق.. خافت الصوت ..والجميع تدّوى أصواتهم .. والتصفيق .. عشرون عامًا .. وظهري منحن تحت الخشبة .. مع القطط الضآلة ..والحر..والبرد الشديدين.. أقرأ نصوص المسرحيات ..دورًا ..دورًا .. أعايشها بمشاعري وأؤديها قبل أن يؤديها الممثلون وقبل أن يصفق الجمهور نعم .. انا أقرأها .. كلمة .. كلمة ..واعايشها ..نبضــة .. نبضة .. عشرون عاما وأنا أقرأ على الممثلين أدوارهم وأتذوقها حرفاً .. حرفاً انفعل معها كما لا يقدرون ..واحياناً ادور في الحفرة الضيقة تحت الصندوق ..ولا يراني أحد تتغير الأدوار وتتبدل الوجوه وتنمو الشخوص وتتحرك .. وأنا معها في مكاني لا أتحرك .. يزداد ظهري تقوساً .. ويضعف بصري .. ويمتلأ قلبي نبضاً ..و.. والجمهور يصفق لغيري .. عشرون عاما وعيني تلهث خلف الكلمات تارة .. والشخوص .. أخرى أقرأ بعيني ومشاعري .. قبل أن ينطق لساني .. ألقّن الشخوص الحوار لحناً.. عذباً كالغناء .. والجمل ..سهلة .. وكأنني خلقت لأن أكون بتشديد القاف...ملقّن كما يقول علام بيه : - ملقن ـ محترم على وعد بأن آخذ دورًا فوق الخشبة .. يوما ما .. في عرضا ما .. في تاريخ لا يعلمه إلا الله .. وذلك العــلاّم .. كم عاما وأنا أحفظ الأدوار .. كل الأدوار .. حتي النسائية .. على أمل أن يتعثر هذا .. أو تغضب تلك .. والأستاذ علاّم بتشديد اللام .. يقول لي كلما رآني - «برافو».. ياسلامـة ..يا ملك التلقين الممثلون معجبون جدًا بنطقك للحوار .. ولاأعظم الممثلين .. فصحى .. ولا أعظم أستاذ أنت تذكرني بجيل العمالقة .. ياسلامة ويزيد : -ليس مهماً يا سلامة أن تكون فوق الخشبة .. أو تحتها .. لكي تؤدي دورك .. المهم أنك انت كما تحب ..وليس كما يريد غيرك .. لولا مقدرتك ياسلامة على سلامة النطق .. والتلقين .. لكنت الآن أحد بطلين يشار إليهما في عالم المسرح .. لكنك خلقت لان تكون سلامة .. الملقن .. أحد معالم هذا المسرح .. ويزيد في رياء : - البلد يا سلامة فيها مئات الممثلين .. وسلامة واحد.. يقولها بين الجد والسخريــة .. وأنا لاأعلق وأكتفي بكلمتين عفويتين : - حظنا يابيــه .. وفي الحقيقة .. ليس حظنا وليس هو بيه .. ولكنها خشبة .. تارة نكون تحتها .. وأخــــــرى ....