تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل السادس

من معرفة المصادر

الفصل السادس: من سقوط الدرعية حتى جلاء المصريين عن الجزيرة العربية (1818-1840)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السياسة المصرية في الجزيرة العربية بعد دحر الوهابيين

بعد سقوط الدرعية لم يعد للدولة السعودية الأولى وجود . وأصبح المصريون أسيادا بالتمام والكمال في أواسط الجزيرة ، وأخذوا يزيلون بالحديد والنار نفوذ آل سعود والوهابيين.

عذبوا الأمراء والعقداء والفقهاء وأطلقوا النار عليهم فرادى وجماعات وربطوهم إلى فوهات المدافع ومزقوهم بالقذائف تمزيقا . وأرغموا سليمان بن عبدالله ، حفيد محمد بن عبدالوهاب ، على الاستماع إلى أنغام الربابة قبيل الإعدام ساخرين من مشاعره الدينية . وفي مدن وواحات جبل شمر والقصيم والدلم قتلوا أفراد عوائل الوجهاء والأعيان والعقداء واستولوا على أموالهم .

وأرسلوا أفراد عوائل آل سعود وآل الشيخ ووجهاء نجد (حوالي 400 شخص مع النساء والأطفال) للإقامة في مصر . وتمكن بعضهم من الهرب فيما بعد ، بينما ارتقى بعض قليل إلى مناصب عالية في مصر . وغدا أحد أحفاد محمد بن عبدالوهاب وهو عبدالرحمن بن عبدالله ، محاضرا للفقه الحنبلي في الأزهر . وكتب الكابتن ج. سادلر (إن تاريخ حملة إبراهيم باشا عموما يكشف عن سلسلة من أبشع القساوات الوحشية التي اقترفت خلافا لأكثر الالتزامات قدسية . ففي بعض الحالات اغتنى من نهب نفس القبائل التي ساهمت بقسط في انتصاراته ، وفي حالات أخرى ينتزع ثروات نفس أعدائه المغلوبين الذين تمكنوا في وقت ما من تحاشي غضبه) .

وبعث محمد علي إلى إبراهيم أمرا بإزالة عاصمة الدولة الوهابية من الوجود . وقبيل تذمير المدينة ابتز المصريون النقود من أهلها ونهبوهم دون رحمة . ولم يستلم فيصل بن وطبان آل دويش منصب أمير الدرعية ، بل طالبه المصريون بأن يسدد لهم الزكاة للسنوات الخمس التي كان مدينا بها للسعوديين . فرفض زعيم مطير تلبية هذا الطلب وارتحل إلى الفرات الأوسط .

وانتهز عدد من الأفراد عائلة آل عريعر فرصة سقوط الدولة السعودية فاستولوا على السلطة في الإحساء . إلا أن إبراهيم باشا طردهم من شرقي الجزيرة وصادر كل أموال آل سعود ونهب الواحات . وكانت بريطانيا التي تكره إمارة الدرعية تراقب بتذمر تعزز المصريين في الجزيرة العربية . وقامت عمارة بريطانية بإنزال في القطيف . وكتب فيلبي يقول (يصعب الافتراض بأن إنزال القوات البرياطنية في القطيف في وقت احتلال المصريين للإحساء تقريبا كان يمثل شيءا غير استعراض العضلات ضد المصريين . فقط كان بسط نفوذهم على ساحل الإحساء تحديا للمواقع البريطانية في ساحل الصلح البحري مع أن المصريين يمكن أن يعتبروا أنفسهم ورثة لسلطة الوهابيين في هذه المنطقة) .

كان الإنجليز يريدون أن يعرفوا نوايا المصريين في الخليج . فأرسلوا ج. سادلر لمقابلة إبراهيم باشا . وكان ج. سادلر أول أوروبي اجتاز الجزيرة من شرقها إلى غربها وشاهد أنقاض الدرعية . إلا أن إبراهيم باشا غادر نجد في أواسط عام 1819 وتوجه إلى المدينة المنورة . ولم يكن للعمليات المشتركة التي اقتحرها عليه سادلر ضد الوهابيين أي معنى . زد على ذلك أن مصر عموما كانت ذات جهة مناوئة للإنجليز . ورفض إبراهيم اقتراح الإنجليز بشأن التعاون وطرد سادلر من جدة خريف 1819 . وسرعان ما غادر فصيل الاحتلال البريطاني القطيف بعد أن فقد كثيرا من جنوده بسبب الأمراض .

في أواخر عام 1819 دمر الإنجليز رأس الخيمة من جديد . ووضعت الإدارة الإنكلوهندية مايسمى (بمعاهدة الصلح العامة) التي فرضة فيما بعد على جميع حكام الساحل والبحرين . وكانتت لك في الواقع معاهدة الحماية التي أضيفت إليها بمر السنين مواد جديدة متزايدة .

وسرعان ما أدرك إبراهيم باشا أن عائدات البلد لا تسد نفقات احتلاله . فالقوات المصرية بعيدة عن القاهرة بآلاف الكيلومترات وبعيدة عن قاعدتها الرئيسية التعبوية في الحجاز بمئات الكيلومترات . وأخذ السكان ، من بدو وحضر ، يضمرون للغزاة عداءات متزايدا . ولم يكن عدد الجمال كافيا . ولا يندر أن يستولي البدو على قوافل الأغذية . ويمكن تصور المجاعة التي اجتاحت نجد إذا علمنا نه في وقت ما حتى جنود إبراهيم كانوا يقتاتون على الأعشاب . وقامت تمردات في جيش الاحتلال .

وأخيرا قرر إبراهيم أن يجلي قسما كبيرا من قواته من نجد ومن شرق الجزيرة ، فهو يعرف أن أباه يسعى بالدرجة الأولى إلى السيطرة على حوض البحر الأحمر وليس على أواسط الجزيرة العربية . وحشد المصريون قواتهم في منطقة الرس .

وقبيل الانسحاب دمروا كل القلاع والتحصينات الدفاعية واقتادوا الماشية وقطعوا النخيل وخرجوا الحقول . وكتب ج. سادلر : (كان سكان منفوحة آنذاك في حالة يرثى لها ، في حالة أسوأ مما كانت في أي زمان في الماضي منذ أن قامت سلطة الوهابيين . فإن أسوار المدينة التي هي الحامي الرئيسي لملكيتهم قد أزيلت من سطح الأرض وأخذ الأتراك محصول الموسم ولم يكن بالإمكان هنا لا شراء القمح ولا الشعير . ولم تبقى في القرى ولا فرس واحدة) .

وبعثت الخلافات القبلية والمحلية بتغاض سافر أو مستتر من جانب الأسياد الجدد ، وبدأت النزاعات وأخذ البعض يغزو البعض الآخر . وتعرضت طرق القوافل للخطر . وحتى في المدن لم يكن السكان يتجرأون على الخروج إلى لاشارع بدون سلاح . ونشأ انطباع وكان سياسة المصريين تتلخص في إغراق وسط الجزيرة في حالة الفوضى والركود والخراب وإلغاء احتمال انبعاثه . وكانت الحاميات المصرية الصغيرة لاتلعب دور العامل الإيجابي للمركزية وإحلال النظام ، بل غدت مجرد أداة للنهب والدمار . كانت الدولة السعودية تحت الأنقاض وقد قهرت عساكرها ودمرت إدارتها . وبدا وكأن قوى التشتت والتجزئة التي انطلقت من عقالها بعد دحر الوهابيين قد مزقت التوحيد السابق شذر مذر .

ولكنه بقيت داخل مجتمع أواسط الجزيرة القوى التي تمكنت قبل نصف قرن ونيف من رص صفوفه وتأسيس إمارة الدرعية .

بعد تصفية الدولة السعودية كان مزارعو نجد وتجارها وصناعها يتحسرون على العهود القديمة ، عهود الاستقرار والسلامة الشخصية وسلامة الملكية والمداخيل . وكانت حروب السعوديين الموفقة التي عادت بغنائم وفيرة قد رسمت حولهم هالة في أنظار وجهاء نجد . وراح الفقهاء الوهابيون الذين سلموا بجلودهم يدعمون الذكريات ويتغنون بأمجاد السعوديين الغابرة .

وإلى جانب النزاعات القبلية الإقطاعية كان هناك تيار لرص الصفوف وسعى إلى توحيد نجد بغية طرد المحتلين الأجابن واستئناف الظروف الملائمة للحياة الطبيعية والنشاط الاقتصادي . وبين تطور الأحداث لاحقا أن وجود الدويلات – الواحات الصغيرةوالمتناهية في الصغر قد عفا عليه الزمن . فبعد بضع سنوات من سقوط إمارة الدرعية أسفرت الحركة الواسعة للأمة ضد الاحتلال الأجنبي عن بعث الدولة السعودية التي اختيرت الرياض هذه المرة عاصمة لها .


النزاعات القبلية الإقطاعية في ظل الاحتلال المصري

حل خليل باشا ابن اخت محمد علي محل إبراهيم باشا كحاكم للجزيرة العربية . إلا أن خليل باشا سرعان ماتوفي وعين بدلا عنه أخوه أحمد شكري يكن بك الذي ظل في الجزيرة باسم أحمد باشا حتى عام 1829 حيث استدعاه محمد علي إلى القاهرة وعينه رئيسا لحربيته .

وفي خريف 1819 عين محمد بن مشاري بن معمر حاكما لنجد . وهو من العائلة التي حكمت العيينة في فجر الحركة الوهابية . حاول ابن معمر ترميم أنقاض الدرعية ، الأمر الذي واجهه السكان بالاستحسان . وأخذ أهالي مناطق الأطراف يبعثون الوفود إليه ليعبروا عن تأييدهم . وأمنت الأمطار الوفيرة محصولا لا بأس به وساعدت ابن معمر على التخفيف من المجاعة . إلا أن الأغذية لم تكن كافية مع ذلك . وظهر منافسون لابن معمر . فقد بعث ماجد بن عريعر ، وهو من شيوخ بن خالد ، سلطته في شرقي الجزيرة . وحكم آل عريعر تلك الأنحاء حتى عام 1830 .

وظهر على مسرح الأحداث في نجد تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود ، وهو ممثل فرع جانبي من آل سعود ، وقد فر من المصريين بعد سقوط الدرعية . وكان بعض الوقت يعمل إلى جانب ابن معمر . وكان أحد إخوان آخر إمام سعودي وهو مشاري بن سعود بن عبدالعزيز ، قد فر من الحرس المصري في الطريق من المدينة المنورة إلى ينبع ، ثم ظهر في سدير حيث أعلن نفسه إماما ، وفي آذار (مارس) 1820 استوى على الوشم . وحظي ببعض التأييد في القصيم وفي مناطق أخرى . بيد أن ابن معمر تمكن من الاعتماد على قبيلة مطير ودحر قوات مشاري وتأسيره .

ظلت سلطة بن معمر مضعضعة . وأخذ المتذمرون يلتفون حول تركي بن عبدالله . واقتربت الصدامات الحاسمة بين المتنافسين . وأخيرا استولى تركي على الدرعية بسرعة كبيرة حتى تمكن من تناول الطعام في وليمة الغداء التي كان الأمير السابق قد أعدها لضيوفه . ثم تحرك نحو الرياض حيث قبض على ابن محمد بن معمر . وفي السر قتل بن معمر مع إبنه . كان حكم بن معمر قد استمر عاما واحدا تقريبا . وكان من أسباب سقوطه تلوث سمعته كعميل للمصريين وبقاء منزلة آل سعود رفيعة كالسابق .

وعندما بلغت أنباء الاضطرابات في نجد محمد علي قرر تعزيز الحاميات في أواسط الجزيرة . وفي خريف 1820 وصل إلى القصيم حسين بك مع إمدادات وقرر التخلص من الأمير السعودي . وتحصن أنصار تركي في قلعة الرياض ، ولكنهم بعد حصار قصير من المصريين وافقوا على الاستسلام للأسر بشرط الحفاظ على حياتهم ، إلا أنهم فيما بعد قتلوا كلهم تقريبا . وتمكن تركي من الهرب .

وفي آذار 1821 أمر حسين بك جميع أهالي الدرعية الذين عادوا إليها بأن يجتمعوا واعدا إياهم بتوزيع الأراضي عليهم . وعندما جاء 230 من أهالي الدرعية قتلهم الجنود المصريون . وكان القتل والسجن بلا محاكمة وتقطيع الأعضاء والتعذيب أمورا معتادة في نجد . وكانت الحاميات في المدن تنهب الهالي . ويقتطع الجنود النخيل ويخربون الحقول . وفي الكثير من السكان إلى البوادي أو غادروا نجد . وكتب ابن بشر يقول (وترأس عليهم الشيطان) . وفي عام 1821 تفشي وباء الكوليرا فزاد الطين بلة .

وقبيل العودة إلى مصر جمع حسين بك رهائن من مدن عديدة وحبسهم في الحصن الذي انشئ في ثرمداء . وظلوا هناك إلى أن وصل إلى نجد في ربيع 1822 قائد مصري جديد هو حسن بك الذي انشغل بجمع الأتاوات والنهب . وأصبح الأمر لايطاق ، حتى أن انتفاضات كثيرة ومقاومة مسلة قامت ضد المحتلين رغم الأرهاب . ولم تكن لدى المصريين قوات كافية ، فاكتفوا بإبقاء حاميات في عدة مدن هامة – الرس وشقراء وبريدة وعنيزة وثرمداء والرياض .

فقد أخفقت المحاولات الأولى لبعث السلطة المحلية من قبل ابن معمر في البداية ثم من قبل اثنين من أفراد العائلة السعودية . إلا أن الوهابية احتفظت بجذور عميقة بين أهالين نجد ، في حين كانوا يتصورون أن العائلة السعودية هي منفذة المشيئة الإلهية على الأرض .

بعث سلطة السعوديين في عهد تركي

بعد أن وفق تركي في الهرب من المصريين عام 1820 ظل متخفيا طوال عدة سنوات ، في المناطق الجنوبية على مايبدو ، ولكنه ظهر من جديد على مسرح الأحداث في نجد في آيار (مايو) أو حزيران (يونيو) 1823 ، حيث يشير ابن بشر إلى عمليات فصيله الصغير في الحلوة . ووجد تركي حلفاء وأنصارا له من بينهم سويد حاكم مدينة جلاجل في سدير . ووصلت مع سويد فصائل من بعض المناطق الأخرى . فتشجع تركي وقام بغزوة على مدينتي منفوحة والرياض المتواجدتين قرب بعضها البعض وفيهما حاميات مصرية من 600 شخص . ولم تكن جميع المناطق بعد تؤد الأمير تركي . وعلى أية حال فإن ابن بشر ذكر أن ثرمداء وحريملا والخرج تعاديه وأن قسما كبيرا من واحات الوشم وسدير فضل الانتظار .

وفي تلك الأثناء بدأت في اقصيم انتفاضة شاملة ضد المصريين سببها الأتاوات والابتزاز من جانب حسن بك . واضطر المصريون على الجلاء إلى الحجاز وتركوا حاميتين في الرياض ومنفوحة فقط . وانتهز تركي فرصة ضعف المواقع المصرية في نجد في عامي 1823-1824 فوسع نفوذج في المنطقة المحيطة بالرياض ومنفوحة وعزل الحاميتين المصريتين وأخضع سدير والمجمعة والوشم . وفي أواخر تموز (يوليو) 1824 شدد تركي الضغط على الرياض وثرمداء والخرج . وأجليت الحامية المصرية من منفوحة . وبعد عدة شهور من الحصار سقطت الرياض على يد تركي وتم جلاء المصريين من الحجاز وأعلنت بعض مناطق القصيمن عن اعترافها بحكم تركي . وتم تطهير أواسط نجد كلها من المحتلين .

استمر حكم تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود من عام 1813 ، عندما بدأ يحتل نجد ، حتى مقتله في عام 1834 . ويرى الكثيرون من المؤرخين أن تركي هو مؤسس الدولة السعودية الثانية لأنه كان يحكم بصورة مستقلة رغم اعترافه بسلطة الإمبراطورية العثمانية شكليا والمصريين فعليا . ولكنه لايمكن الكلام عن الاستقلال الحقيقي للإمارة الجديدة إلا بعد جلاء المصريين نهائيا من الجزيرة العربية عام 1840 . كان الأئمة السابقون يتحدرون من عبدالعزيز بن محمد بن سعود ، في حين أن تركي وجميع الحكام اللاحقين ، بمن فيهم الملك الحالي فهد وهو من سلالة تركي كانواي تحدرون من عبدالهه بن محمد بن سعود . وفي أواخر عام 1824 استقر تركي في الرياض التي ظلت عاصمة لنجد ثم للعربية السعودية بأسرها حتى اليوم . وبدأ إنشاء المسجد والقصر والتحصينات وفي نيسان (إبريل) – أيار (مايو) 1825 توجه أمير الرياض إلى منطقة الخرج وأخضعها بعد عدة معارك .

وسيطر تركي على العارض والخرج والحوطة والمحمل وسدير والأفلاج والوشم . وفي منطقة القصيم خضعت له بعض الواحات فقط . وظلت منطقة جبل شمر في الواقع ليست في متناول يد الأمير . وربما كان تركي يدفع الحد الأدنى من الضريبة للسلطات العثمانية ، أو على الأصح للمصريين مباشرة في الحجاز أو في القاهرة ، مع أن ابن بشر لا يشير إلى ذلك .

وكان بعض الفارين قد عادوا إلى نجد التي سادتها فترة من الاستقرار المؤقت ز وكان من أبرز العائدين مشارين بن عبدالرحمن بن مشاري بن سعود الذي فر من مصر . وفي عام 1825 عين حاكما للمنفوحة . وفيما بعد قتل مشاري هذا الأمير التركي غدرا . ووصل من المنفى أحد أحفاد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وهو عبدالرحمن بن حسن الفقيه الكبير ومعلم جيل كامل من أفراد آل الشيخ الأصغر منه سنا . وقد بعثت إلى أنحاء نجد على الفور رسائل طالب فيها الجميع ، وخصوصا الفقهاء والأمراء ، بالعودة إلى (الإسلام الحقيقي) ورفض ممارسات المشركين من أدعياء الإسلام والخضوع لإمام المسلمين . واتخذ الشيخ عبدالرحمن سيرة جده الشهير مثالا وقدوة لخدمة الدين الحقيقية . ويقول الرحالة السودي فالين أن عبدالرحمن كان قاضيا في الرياض عام 1845 ، أما بلغريف الذي زار الرياض عام 1862 فيتحدث عنه بوصفه (الزعيم الروحي للبلاط) . وتعززت سلطة السعوديين الدنيوية من جديد بفضل تأثير الوهابية مع أنها لم تعد تتميز بالتعصب الذي كانت عليه في السابق .

بديهي أن تركي قد حاول تسديد الضربة إلى البدو ، بعد أن احتل عدة مناطق ذات سكان حضر بكثافة كبيرة نسبيا . وفي الفترة 1826-1828 قام بغزوات على قبائل بني خالد وهتيم والدواسر وغيرها . وسرعان ما أرسل العديد من شيوخ قبائل سبيع والسهول والعجمان وقحطان وكذلك مطير (الأمر الذي أفرح الأمير تركي بخاصة) وفودا أعربت عن خضوع تلك القبائل له . وبالمناسبة فإن ذلك لم يمنعها من الحنث بالوعد والقيام بغزوات جديدة .

وكان من الأحداث الهامة في 1827-1828 فرار فيصل ، ابن تركي ، من الأسر المصري . فقد كان مقدرا له أن يحكم إمارة الرياض مرتين . إن عدم وجود منافسين كبار وعدم تدخل المصريين أو الأتراك مؤقتا في شئون نجد قد مكن الرياض من إخضاع القصيم وإن بصورة غير كاملة . ثم جاء دور جبل شمر . وفي عام 1827 قتل يحيى ، شريف مكة ، فعين محمد علي بدلا منه محمد بن عبدالمعين بن عون الذي ظل في هذا المنصب حتى عام 1851 .

واتضح أن عسير كان عسيرا على محمد علي . فقد دحر أهل هذه المنطقة مرارا في معارك مكشوفة ولكنه لم يتمكن من السيطرة عليها .

شرق وجنوب شرق الجزيرة في عهد تركي

لم تكن في شرقي نجد قوات تستطيع أن تهدد إمارة الرياض كالقوات المصرية في الحجاز . وبديهي أن تركي الذي عزز مواقعه في نجد قد بدأ غزوات على الشرق ، على الإحساء ، في تلك الأثناء كان محمد وماجد من آل عريعر قد حكما هذه المنطقة منذ عشر سنوات تقريبا . وربما كانا قد عينا رسميا من قبل محمد علي أو ربما كان يدفعان له الأتاوة .

وفي عام 1830 اجتاح نجد تجمع بدوي كبير من بين خالد وسبيع وعنزة ومطير وبني حسين . وبالإضافة إلى حضر نجد الموالين لتركي التزم جانبه قسم منا لبدو من قبائل أخرى . ونشبت معركة استمرت عدة أيام بين أهل نجد وخصومهم ، وانتهت بمقتل ماجد آل عريعر وتدمير بدوه . وتقررت في هذه المعركة مسألة من سيسيطر على شرقي الجزيرة ، هل هم آل سعود أم آل عريعر . وسيطر تركي على الإحساء .

وخلافا للأمراء السابقين واللاحقين طبق تركي وفيصل في الإحساء سياسة متسامحة ، الأمر الذي ساعدهما في التمركز هنا . وتجدر الإشارة إلى أن أمراء الرياض رغم استخدامهم راية الوهابية السابقة ، قد ابتعدوا عن التقوقع الطائفي والتعصب اللذين كانا ملازمين لسابقيهم . ومن الصعب اعتبار أنصارهم من أفراد الطائفة الوهابية . ولذا فسوف نستخدم مصطلح (الوهابيين) بصورة محدودة . وفي أواخر عام 1830 فرض تركي سلطة السعوديين على حاكم البحرين عبدالله بن أحمد آل خليفة (1816-1843) الذي كان يسيطر كذلك على قسم كبير من قطر . وفي تلك الفترة توافقت مؤقتا مصالح أمير الرياض وسلطان مسقط الموجهة ضد البحرين . وبعد ذلك اختلفا فيما بينهما . وبعد مرور أقل من ثلاث سنوات قطع حكام البحرين علاقات التبعية للرياض حتى الواهية منها . وفي عام 1834 انتقل عبدالله آل خليفة إلى الهجوم وحاصر المرفأين السعوديين القطيف والعقير .

وقبل فرض السيطرة السعودية على شرقي الجزيرة أخذ الأنصار القدامى للنجديين ينشطون في جنوب شرقي الجزيرة . ففي عام 1821 استوى سعد بن مطلق ، وهو ابن حاكم البريمي السعودي السابق ، على مجموعة واحات البريمي الهامة استراتيجيا وأخضع قسما من عمان . وعندما ثبت تركي في عام 1824 منصبه كحاكم للرياض أجرى معه مباحثات لسطان بن صقر ، حاكم الشارجة ، وراشد بن حميد من العجمان وكان قسم كبير من سكان الشارجة وعجمان يتعاطفون مع الوهابيين كالسابق . وفي الوقت ذاته أجرى حكام إمارات الساحل مفاوضات مع الإنجليز مؤملين بمساعدة منهم ضد خطر الوهابيين . إلا أن الإنجليز آنذاك كانوا متمسكين بسياسة عدم التدخل في الشئون الداخلية للجزيرة العربية .

وفي عام 1828 مهد أنصار الوهابيين على ساحل الخليج العربي وخليج عمان التربة لتدخل جديد من قبل القوات الموالية للرياض . وعين تركي أميرا للبريمي هو عمر بن محمد بن عفيصان الذي بدأت غزواته للمناطق الدالخية من عمان ومنطقة الباطنة الساحلية . وفي عام 1832 اعتدت قوات النجديين الكبيرة على عمخان عبر البريمي . ووافق سلطان مسقط سعيد على دفع 5 آلاف ريال لأمير الرياض . ثم اتفقا على مساعدة بعضهما البعض في إخماد الانتفاضات في أراضيهما واقتسما ساحل الجزيرة الجنوبي الشرقي . ويقول الدبلوماسي والمؤرخ الإنجليزي ولسون (إن ساحل الخليج العربي كله اعترف بسلطة الوهابيين منذ عام 1832 وصار يدفع لهم الجزية) .

الوضع في إمارة الرياض في عهد تركي

في مطلع الثلاثينات كانت مكانة تركي في الرياض راسخة تماما . فإن نجد المخربة التي أرهقها نير الإحتلال كانت خاضعة لسلطة تركي . إلا أن خلافا نشب في عائلة السعوديين . ففيع ام 1831 تمرد مشاري بن عبدالرحمن حاكم منفوحة مع بعض أفخاذ قبيلة قحطان على الأمير . وكلنه فر بسبب عدم حصوله على تأييد واسع . وفي عام 1832 عاد إلى نجد بعد أن عفا عنه الأمير .

كان محدودية موارد الدولة الجديدة وعدم إمكان الحصول على غنائم وفيرة في الغزوات قد دفعا الوجهاء والأعيان إلى تشديد استغلال الرعية ، وكان أمير الرياض يجد صعوبة كبيرة في فرض مبادئ معاملة السكان (بالعدل) . وأورد ابن بشر حادثة ذات دلالة . ففي عام 1832 عاد تركي من الهفوف إلى الرياض وعقد المجلس الكبير للأمراء وأخذ يلومهم بصرامة لأنهم يعاملون الناس بتعسف ويأخذون منهم ماليس لهم حق به بموجب القانون . وقال فيما قال : (وإنكم إذا ورد أمري بالمغزا حملتموهم زيادة لكم وإياكم وذلك فإنه ما منعني أن أجعل على أهل البلدان زيادة ركاب في غزوهم إلا الرفق بهم وأني ماحملتهم إلا بعض ماحملهم الذين من قبلي ... وإنه إذا ورد عليكم أمري فرحتم بذلك لتأكلوا في ضمنه وصرتم كراصد النخل يفرح بشدة الريح ليكثر الساقطة عليه واعلموا أني لا أبيحكم أن تأخذوا من الرعايا شيئا ومن حدث منه منكم ظلم على رعيته فليس أدبه عزله بل أجليه عن وطنه . (ثم قال للرعايا) أيما أمير ظلمكم فأخبروني...) .

وأوصى الأمير تركي الرعية بأن يعرضوا تدينهم في الإيمان بالتوحيد وأداء الصلاة ودفع الزكاة . وشجب أمير الرياض الربا وحذر من محاولات الإلتفاف على منع ممارسته وأوصى جميع الحكام بأن يوحدوا الموازين والمكاييل في أقاليمهم وطالب بأن لا يحنث أحد بأية صفقة أو اتفاقية حتى إذا كانت معقودة مع أهل الذمة من يهود أو مسيحيين أو زرادشتيين وألزم الأمراء بأن يمنعوا التدخين ويشجعوا التعليم الديني ويبنوا المساجد . ورغم القحط المتوالي فإن الأوضاع الاقتصادية في أواسط الجزيرة أبان حكم تركي قد استقرت بقدر ما بعد النهب والنزاعات والاقتتال . ولكن بعض الناس في سدير والقصيم ماتوا من المجاعة الناجمة عن الجفاف في 1826-1827 أيضا . وفي مطلع الثلاثينات ، وبفضل المحصول المتوسط والاستقرار النسبي انخفضت الأسعار وتوقفت المجاعة . إلا أن وباء الكوليرا تفشى في نجد في عهد تركي . ظهر هذا الوباء في 1828-1829 ثم في 1830-1832 . وفي نيسان (إبريل) آيار (مايو) 1831 انتشرت الكوليرا بين الحجاج فيمكة ، فتوفي حواي 20 ألفا منهم . وهلك ثلث حجاج قافلة الشام ، كما هلك نصف حجاج قافلة نجد . وفي العام التالي اجتاح الوباء نجد كهلا ووصف ابن بشر لوحة مرعبة حيث توفي عدد هائل من الناس ولم يبق من يتمكن من دفنهم . ولا أحد يحرس الأموال المتروكة . وكانت الماشية تنفق لأن أحدا لا يقدم لها العلف والماء . وتوفي كثير من الأطفال في المساجد لأن آباءهم عندما أصيبوا بالمرض تركوهم في المساجد على أمل أن يساعدهم أحد هناك . ولكن لم يبق أحد ليساعد أولئك الأطفال . فقد خلت الواحات من أهلها .

مقتل تركي والفترة الأولى من حكم فيصل

لم تكن القبائل البدوية في أواسط الجزيرة تهتم كثيرا بمنزلة أمير الرياض ، فكانت تتصرف بصورة مستقلة . وفي عام 1833 بدأ حاكم البحرين عمليات حربية ضد أمير الرياض وفي بداية عام 1834 تعرضت مرافئ الإحساء إلى ضربات البحرانيين الذين اعتمدوا على أسطولهم وعلى قلعة الدمام على ساحل الجزيرة العربية . وحاصر فيصل بن تركي بلدة سيهات التي تمركز فيها أنصار البحرانيين . وفي تلك اللحظة وصل نبأ مقتل أبيه في الرياض على أيدي مرتزقة مشاري بن عبدالرحمن الذي استولى على السلطة في العاصمة . رفع فيصل الحصار فورا وأسرع إلى نجد .

ويعتقد البعض أن مشاري فعل فعلته بتكليف من المصريين . ويعتقد البعض الآخر ، ومنهم لوريمير أن لحاكم البحرين ضلعا في قتل تركي . ولكن مطامح مشاري الشخصية هي التي لعبت ، على مايبدو ، الدور الرئيسي . في التاسع من آيار (مايو) 1834 خرج تركي من باب جانبي بعد صلاة الجمعة فأحاط به ثلاثة أشخاص ، شهر أحدهم المسدس وأطلق النار على الإمام . وحاول عبدالإمام زويد أن يدافع عنه ، فتمكن من إصابة أحد القتلة بجرح قبل أن يقبضوا عليه . وبعد ذلك فر إلى فيصل . وظهر مشاري في الحال شاهرا سيفه وطالب السكان بأن يبايعوه .

كان تركي حكيما . ولم يكن يستخدم القوة بلا رحمة إلا في حالة الضرورة . ومن الأدلة على عدم تمسكه بالثأر موقفه من مشاري ، قاتله فيما بعد . وبالمناسبة فإن العفو عن الخصوم لم يكن ظاهرة استثنائية في الجزيرة العربية ، بل كان دليلا على ضرورة المساومات مع الأقرباء والشخصيات القوية . وكان تركي يتسم بالسخاء ، شأنه شأن الحكام السعوديين الذين سبقوه ، وحاول أن يحد من جشع وجهائه وأعيانه . وتجدر الإشارة إلى أنه درس في وقت ما التطبيب عند العوام واشتهر بأنه حكيم . وكان بتصرفاته الذكية قد جعل في انسحاب المصريين من نجد ، وكانت أواسط الجزيرة موحدة في عهده طوال أحد عشر عاما . وأسفر مقتل تركي عن نزاعات قبلية واضطرابات في نجد استمرت تسعة أعوام . وخلال هذه العملية اعتل عرش الرياض أربعة من آل سعود .

ولم يبق مشاري بن عبدالرحمن في السلطة غير شهر ونصف . فقد وصل فيصل وأنصاره العاصمة وباغتوا مشاري وقبضوا عليه . ففي ليلة 28 أيار (مايو) 1834 أرسل فيصل إلى الرياض محاربين من أبناء المدينة مؤملا بأنهم سيواجهون بمقاومة أقل من أهلها . واصطدموا بجماعة من الحرس فعرفوهم ولكنهم تمكنوا من أن يتخذوا مواقع حول القلعة . وعندما سمع مشاري إطلاق النار نصب المتاريس في القلعة . وفي صباح اليوم التالي احتل فيصل المدينة وبدأ حصار القلعة . ثم اقتحم محاربوه القلعة . وتم القبض على مشاري وأعدم .

استلم فيصل زمام الحكم وهو في حوالي الأربعين من العمر في أوج نضوج قابلياته الجسمانية والروحية . وأسرع لتقبل البيعة من أهالي العاصمة واستدعى القضاة من مختلف المناطق إلى الرياض حيث حلوا ضيوفا عليه طوال شهر تقريبا ثم عادوا إلى ديارهم بعد أن أغدق عليهم فيصل الهدايا . وبعد ذلك وجه الإمام إلى الواحات والبوادي رسالة دعا فيها الجميع للولاء له . وأخذ أمراء الواحات وشيوخ البدو يتقاطرون على الرياض ليعربوا عن ولائهم للحاكم الجديد . وبعد ذلك فقط أرسل فيصل عملاءه إلى البرادي لجمع الزكاة . إلا أن مقتل تركي قد زعزع السلطة في إمارة الرياض . فقد رفض أهالي وادي الدواسر والأفلاج وقبيلة قحطان دفع الزكاة واضطر فيصل أن يرسل إليهم فصائل لإخماد القلاقل .

وسرعان ما اضطرب شرقي الجزيرة ، حيث نشبت معارك بين عساكر أمير الرياض التي قادها المملوك زويد وبين البحرانيين الذين حاضروا القطيف والعقير من جديد ، ولكنهم واجهوا خطرا آخر يتمثل في مطابع إيراه . ووافق حاكم البحرين على دفع جزية رمزية مقدارها ألفا ريال ، والتزم فيصل بحماية البحرين من العدوان الخارجي . ورفع الحصار عن القطيف والعقير .

كان نفوذ أمير الرياض في عمان كبيرا في أواسط الثلاثينات . وفي شتاء 1835-1836 تأكد كولونيل الأسطول الإنكلوهندي ج. ويلستاد ورفيقه وايتلوك ، وهما يتجولان في هذا البلد تحت حماية سلطان مسقط سعيد ، من أن الوهابيين في عمان كانوا أحيانا أقوى من السلطان . إلا أن عداء الإباضية ومعارضة الإنجليز جعلا مواقع النجديين هنا غير مأمونة إطلاقا . إلا أن فيصل كان قلقا أشد القلق للأنباء الواردة من الحجاز ، حيث تأكد له أن المصريين يستعدون لهجوم جديد على نجد .

فبعد الهزائم الجديدة في عسير في 1833-1834 حاول محمد على مرة أخرى في عام 1835 أن يستولي على هذا الإقليم الذي كان يعتبره مفتاح الجزيرة ، إلا أن قواته منيت بالهزيمة من جديد . وقبل أن ننتقل إلى الأحداث المرتبطة بالهجوم المصري الأخير على نجد من المناسب أن نتحدث عن إمارة جديدة لايعرف عنها الكثير بعد ، وقد شاركت في قصة الجزيرة العربية الفاجعة . ونعني إمارة جبل شمر التي قدر لها أن تلعب دورا هاما في أواسط الجزيرة .

بعد سقوط إمارة الدرعية بدأت النزاعات في جبل شمر . فقد هب ضد الأمير محمد آل علي الحاكم هنا فخذ من قبيلته هو آل رشيد ، ولكنه منى بالهزيمة . فقد طرد زعيم هذه الإمارة أسرة علي آل رشيد وإبناه عبدالله وعبيد من حائل عاصمة الإمارة . وبعد عدة سنوات دخل عبدالله في خدمة تركي أمير الرياض وتصادق مع إبنه فيصل . وكان من بين العقداء الذين بايعوا فيصل بعد مقتل أبيه مباشرة . وكان فيصل ينتظر الفرصة ليشكر صديقه المخلص ، فاستفاد من منصبه . وبعد إزاحة المنافسين أمسك الإخوان عبدالله وعبيد بزمام السلطة في جبل شمر وسرعان ما أخذا ينشئان قلعة في العاصمة في محلة البرزان التي غدت فيما بعد رمزا لأمجاد وجبروت آل رشيد . وأعرب الإخوان عبدالله وعبيد آل رشيد عن ولائها للأمير فيصل الذي أكد تعيينها لحكم جبل شمر وأرسل إلى حائل فقيها وهابيا ، ولكن الأخوين آل رشيد أخذا في الوقت ذاته يهينان الجمال ويرسلانها إلى المصريين في المدينة المنورة .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هزيمة فيصل

كان المصريون قد طلبون من أمير الرياض فيصل أن يشارك في حملاتهم على أهالي عسير الذين هم حلفاء له سرا ، أو أن يقدم الجمال للقوات المصرية . تملص فيصل بلياقة دون أن يلبي هذا الطلب ولكنه أرسل أخاه إلى مكة يحمل الهدايا لأحمد باشا . في عام 1835-1836 لم تسقط الأمطار الموسمية في أواسط الجزيرة فبدأ القحط والمجاعة ، ونزح قسم كبير من سكان نجد إلى منطقة البصرة والزبير . وأشار ابن بشر إلى ظهور مذنب في كوكبة الدب الكبير واعتبر ذلك نذيرا بالقحط ، وفسر القحط بدوره على أنه عقاب على الخطايا التي اقترفت بمقتل الإمام تركي . ولكن إذا صدقنا التكهنات فإن المذنب والقحط كانا ينذران بمصائب أكبر بكثير . فقد عزم محمد علي على فرض سلطته على نجد ونصب هناك صنيعته خالد وهو ابن الإمام سعود الشهير . وكان هذا الأمير الشاب الذي قضى سنوات عديدة في بلاط محمد علي هو الأخ الأكبر من إخوان عبدالله الذين ظلوا على قيد الحياة بعد إعدامه في الاستانة .

وفي تموز (يوليو) 1836 زحفت من القاهرة قوات بقيادة اسماعيل بك ، وهو مدير سابق لشرطة القاهرة . وتتكون هذه القوات من أتراك وألبان ومغاربة وبدو مصريين ، وهي معززة بالمدفعية . وبعد أن نزل اسماعيل في ينبع واصل زحفه إلى المدينة ومن هناك إلى الحناكية . أما فيصل الذي يعرف أن التدخل سيجري عبر القصيم فقد شغل هذه المنطقة ونصب معسكرا في الرس التي هي بوابة القصيم من جهة الحجاز . إلا أن جنود فيصل كانت تعوزهم إرادة القتال وكانوا منسحقين بائسين ، إذ لايزالون يتذكرون جيدا مصير إخوانهم الأكبر وآبائهم . وعندما بدأ فيصل في نيسان (إبريل) 1837 سحب الآليات الثقيلة إلى عنيزة أصاب الذعر عساكره فأخذوا يتفرقون .

وعاد فيصل مع جماعة من أتباعه المخلصين إلى الرياض واتضح له أن روح الهزيمة استوت على أهالي العاصمة الذين لايريدون بأية حالة دعمه والتضحية بالنفس والأموال من أجله . وعندما أدرك فيصل أن الوضع في العاصمة غير مأمون توجه نحو الجنوب ، إلى الخرج ، ثم ذهب إلى الهفوف حيث وضع حاكمها الموالي له ، عمر بن عفيصان ، قواته تحت تصرفه . وظل فيصل في الهفوف حتى تموز (يوليو) 1837 . اعترفت القصيم بسلطة خالد بن سعود بدون مقاومة تقريبا . وبعد ذلك أرسل المصريون فصيلا نظاميا ومتطوعة من القصيم للاستيلاء على جبل شمر . وأقنعهم عيسى آل علي ، وهو أحد المرتدين من أفراد الأسرة التي أسقطت في حائل ، بأن يعينوه أميرا . ويبدو أن المصريين لم يكونوا يثقون بالأخوين من آل رشيد . وتم احتلال المدينة سلميا تقريبا . وفر عبدالله وأخوه عبيد . وعاد قسم كبير من المصريين إلى القصيم بعد أن اكتفوا بغرامات حربية نقدية . إلا أن عيسى لم يتمكن من البقاء في حائل إلا بضعة شهور . فإن ابتزاز وقساوة حماته المصريين جعلا الأهالي يهبون في وجه المحتلين وصنائعهم ، ويحرضهم في ذلك الإخوان عبدالله وعبيد اللذان اختبأ في البادية . وأصبح الوضع عسيرا لا يطاق بالنسبة للمصريين ، فأجلوا عن جبل شمر . وارتحل معهم عيسى بن علي . وعاد عبدالله بن رشيد حاكما لجبل شمر . وفي آيار (مايو) 1837 دخل اسماعيل بك وخالد الرياض . وانتهت رسميا الفترة الأولى من حكم فيصل (1834-1837) .

وتعزى سرعة هزيمة أمير الرياض وسهولة احتلال المصريين لنجد إلى فظاعة شبح إبراهيم باشا وذكر احتلاله للبلد والمصائب التي ألحقت به . فالنجديون يتذكرون تفوق المصريين في العساكر ، التي لحقت به . فالنجديون يتذكرون تفوق المصريين في العساكر ، وخصوصا في المدفعية . وكانت أواسط الجزيرة كلها قد أضعفها القحط والمجاعة والأوبئة . وكانت أواسط الجزيرة كلها قد أضعفها القحط والمجاعة والأوبئة . ومما لا شك فيه أن ظهور خالد بن سعود قد ولد انقساما بين الموالين لآل سعود . وعلى أية حال فإن أهالي نجد لم يبدأوا بالتمرد على المحتلين إلا بعد أن أدركوا بأن الخضوع لن يحميهم من التعسف والنهب . وبعد الاستيلاء على الرياض أرسل خالد رسالة إلى أمير الحريق تركي الهزائي يطالبه فيها بالخضوع ، ولكنه استلم ردا يكشف عن طبيعة الأمزجة في الواحات الجنوبية : (إن كان الأمر لك ولا يأتينا في ناحيتنا عسكر من الترك فنحن رعية لكم وإن كان الأمر للترك فنحن لهم محاربون) .

وفي تموز (يوليو) 1837 توجه اسماعيل بك وحلفاؤه بقوات قدرها 7 آلاف شخص تقريبا إلى الجنوب ولكنه لحقت بهم هزيمة ماحقة في معركة الحلوة . وكانت الهزيمة شديدة لدرجة جعلت البدو ، حلفاء المصريين ، ينتزعون منهم الخيول ليهربوا عليها من ساحة المعركة بأسرع ما يمكن . وترك المصريون مدفعيتهم كلها . وفي خالد واسماعيل بك وبعض الضباط المصريين مع فيصل صغير . وهكذا ، ففي تموز 1837 تم دحر قسم كبير من قوات الاحتلال المصرية في نجد . وحاول فيصل استعادة العاصمة . فحاصرها ، ولكنه لم يتمكن من احتلالها بعد شهرين من الحصار . وكانت قوات المتخاصمين متعادلة مؤقتا ، مع أن إمدادات مصرية وصلت إلى القصيم في بداية عام 1838 وقد بعثها خورشيد باشا من المدينة . وتم بين فيصل والمصريين اتفاق نص على تقسيم نجد في الواقع إلى قسمين . ظل فيصل مسيطرا على شرقي الجزيرة والبريمي وجزء من جنوب نجد . وكانت أواسط نجد خاضعة رسميا لخالد .

ولكن خورشيد باشا وصل شخصيا إلى نجد في حزيران (يونيو) 1838 . وكانت من المهمات الرئيسية لحملته كالسابق جمع الجمال لإرسالها إلى الحجاز . وفي عنيزة جاء عبدالله إلى خورشيد باشا من حائل وأقنعه بالاعتراف به أميرا لمنطقة جبل شمر الخاضعة للمصريين . وجاء شيوخ القبائل البدوية الكبرى ليعبروا عن خضوعهم لخورشيد باشا . وطوال عدة شهور قام خورشيد باشا بتعزيز عنيزة كقاعدة رئيسية له وبنى فيها قلعة متينة .

وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1838 توجه المصريون إلى الرياض وانضمت إليهم متطوعة بقيادة خالد بن سعود . وكان مجموع ما عند خورشيد من قوات 4 آلاف مقاتل و10 مدافع . وتحركت تلك القوات نحو الجنوب للقضاء على فيصل المتمركز في الدلم . وبعد حصار استمر أكثر من شهر سقطت الدلم في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1838 . واضطر فيصل للمرة الثانية إلى السفر إلى مصر بمثابة أسير . وللمرة الثانية سقطت أواسط الجزيرة مدمرة تحت أقدام المصريين .

الفترة الأخيرة من الاحتلال المصري

استمر حكم خورشيد باشا كعامل لمحمد علي في نجد سنة ونصف . وكان المصريون هذه المرة يعتبرون نجد ليس دولة معادية يجب تدميرها وتخريبها ، بل جزءا من ممتلكاتهم الدائمية . وكان خورشي يأمل في بسط سلطته من أواسط الجزيرة إلى الإحساء وعمان وربما العراق أيضا . وفي أمير الإحساء عمر بن عفيصان الموالي لفيصل وأعرب الباقون عن خضوعهم للمصريين الذين أرسلوا حامياتهم إلى مدن شرقي الجزيرة . وحاول خورشيد باشا عبثا أن يرغم حاكم البحرين على دفع الجزية مجددا لصنيعة المصريين أمير نجد خالد ووضع جزيرة تاروت وقلعة الدمام تحت السيطرة المصرية وكذلك تسليم عمر بن عفيصان الذي فر إلى البحرين . وبدأ القلق على الإنجليز .

ومنذ عام 1838 كان القنصل البريطاني العام في اقاهرة الكولونيل كامبيل قد حذر محمد علي من محاولات التمركز في منطقة الخليج ، ومنها البحرين . وأصدرت السلطات البريطانية في الهند أمرا إلى الأميرال ف. مايتلاند قائد العمارة البحرية في الخليج بأن يدافع عن البحرين عند الاقتضاء . وعندما سمع حاكم البحرين عبدالله آل خليفة أنباء انتصارات خورشيد بمبلغ ألفي ريال سنويا مع أنه رفض أن يكون له ممثل في جزر البحرين .

وفي عامي 1838 و1839 ظهر وجود مصري في الكويت أيضا . فقد وصل مخبر من خورشيد باشا إلى المشيخة لشراء أغذية . وكتب لوريمير أن هذا المخبر كان على مايبدو يؤدي وظائف سياسية وتجسسية فيما يخص نية خورشيد باشا لانتزاع العراق من الأتراك . وكان حاكم الكويت جابر الصباح يخشى المصريين لدرجة كبيرة ، حتى أنه قدم للمندوب المصري مكان الشرف في مجلسه إلى جنبه . وكان رد فعل الإنجليز شديدا جدا بهذا الخصوص .

وفي الوقت ذاته أخذ خورشيد باشا يزحف نحو عمان . ونصب هناك صنيعته سعد بن مطلق الذي كان يخدمه مثلما يخدم الأمير السعودي فيصل . وأيدته أبو ظبي والشارجة ، ولكن دبي وأم القوين امتنعتا عن تأييد المصريين . وكان المقيم البريطاني الكابتن هانيل قد زار إمارات الساحل ووقع اتفاقيات مع أربعة من حكامها الذين وعدوا بتأييد الإنجليز . وكتب هانيل رسالة إلى سعد بن مطلق ينصحه فيها بالعودة إلى نجد ، وأخذ يحرض قبائل عمان ضده .

كانت قوات محمد علي تحقق الانتصارات في المعارك في عسير ولكنها لم تتمكن من السيطرة على البلد . وفي أيلول (سبتمبر) 1837 قام أهل عسير بانتفاضة جديدة . وتم إخماد الانتفاضة في آيار (مايو) 1838 ، ولكن أحمد باشا المقيم في مكة وإبراهيم باشا كوجوك الموجود في الحديدة كانا في عام 1840 لا يزالان يشنان حملة غير موفقة .

ويعزي استيلاء بريطانيا على عدن في عام 1839 إلى الرغبة في الحيلولة دون تقدم المصريين في عسير واليمن وإنشاء قاعدة بحرية بريطانية ومحطة للفحم في القسم الشمالي الغربي من الهندي . في عام 1840 انهارت إمبراطورية محمد علي . فأصدر أمره إلى قواته بالجلاء عن نجد واليمن في آذار (مارس) 1840 . وفي حزيران (يونيو) سار علىق دم وساق انسحاب قوات خورشيد من نجد والمنطقة الشرقية وانسحاب قوات إبراهيم كوجوك من اليمن . كان محمد علي بحاجة إلى تحشيد قواته قريبا من مصر تحوطا لما إذا كانت ستنشب حرب كبرى بين مصر وفرنسا من جهة ، وبين تركيا والإنجليز وحلفائهم من جهة أخرى .

وغادر المصريون أواسط الجزيرة العربية إلى الأبد . ولكن أحدا لم يكن يعرف ذلك آنذاك . فقد تركت في نجد حاميات رمزية من جنود المصريين . كان عليهم أن يرفعوا العلم ويدعموا خالد .