تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل السابع عشر
الفصل السابع عشر : أزمة السلطة وانحسارها المؤقت (1958-1973)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصراع على السلطة بين سعود وفيصل
المرحلة الأولى : فيصل يستولي على السلطة مارس 1958 – ديسمبر 1960
إثر انبثاق الجمهورية العربية المتحدة اتهم الملك سعود علنا بالتآمر لاغتيال الرئيس عبدالناصر . فقد ذكر عبدالحميد السراج المدير السابق للمباحث السورية أنه قد عرض عليه مبلغ مليوني جنيه استرليني مقابل إرسال طائرة مقاتلة سورية لإسقاط طائرة كان على متنها عبدالناصر . ونشرت الصحف صورا لثلاثة صكوك محولة من الرياض إلى بنك في بيروت وقيمتها مليونا جنيه استرليني تقريبا .
في معرض الحديث عن احتمال لجوء الملك إلى مثل هذه الأساليب في السياسة الخارجية ذكر باحثون أمريكان في كتابهم : (العربية السعودية : السكان والمجتمع والثقافة) إن (الاغتيال والكذب والخيانة أمور معتادة في السياسة الخارجية للعرية السعودية . فالرشوة والقتل سلاح يكاد يكون معترفا به ... تعقد معاهدة ثم يضرب بها عرض الحائط دون إلغائها شكليا . وتشجع كل الأطراف المتنازعة الانتفاضات الداخلية لدى جيرانها لتغيير سياستهم الخارجية) .
بلغت شعبية الرئيس عبدالناصر مدى كبيرا بحيث أن نبأ الموامرة السعودية الهادفة إلى اغتياله أدى إلى تأزم الوضع داخل العربية السعودية ذاتها ، مما أثار قلقا بالغا لدى آل سعود وكبار علماء الدين . واتفق أنه في هذا الوقت بالذات كان البلد يعاني من أزمة مالية فادحة بسبب إفراط الملك وحاشيته في تبذير الأموال وانخفاض عوائد النفط . وقبل فترة قصيرة من ذلك جرت اضطرابات عمالية في المنطقة الشرقية كما بدت إمارات التذمر بين أوساط الموظفين والمثقفين وبعض الضباط .
يمكن تكوين انطباع عن ميول مطالب المستائين من خلال رسالة ناصر السعيد إلى الملك سعود التي نشرت عام 1958 . وكان كاتب الرسالة من الزعماء العماليين في المنطقة الشرقية وصار بعدئذ قائدا لاتحاد شعب الجزيرة. وفي عام1953 اعتقل مع مجموعة من الزعماء العماليين الآخرين ، وأطلق سراحه بعد الإضراب ثم نفى إلى الحائل . وعند زيارة سعود إلى جبل شمر عام 1953 طالبه السعيد علينا بسن الدستور وإجراء الانتخابات نيابية وإلغاء مجلس الشرى ومنح حرية التنظيم النقابي . ورضوخا لمطالب العمال أعيد السعيد إلى عمله في أرامكو ، ولكنه اضطر إلى الهرب من السعودية عام 1956 لكيلا يتعرض للتصفية الجسدية . علاوة على المطالب المذكورة آنفا ، أورد السعيد في رسالته عددا من مطالب العمال الاقتصادية ودعا إلى منح حريات ديمقراطية واسعة ، بينها حرية التظاهر والإضراب والصحافة والمعتقد ، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإلغاء العقوبات الهمجية مثل قطع اليد ، والاعتراف بحرية الشيعة ومساواتهم مع الآخرين ، وإزالة القاعدة الأمريكية في الظهران وحظر الرق وتحديد نفوذ آل الشيخ وإلغاء جماعة الأمر بالمعروف ووقف نشاط الهيئات الخاصة الأمريكية والمراكز الدعائية لأرامكو .
دفعا لما هو أعظم أخذ جزء كبير من آل سعود وكبار العلماء يميلون إلى ضرورة إجراء انقلاب في القصر يتسلم إثره ولي العهد فيصل السلطة الفعلية .
تحصن سعود في قصر الناصرية بالرياض محاطا بالحرس الوطني والحراس الشخصيين ، وكان فيصل في البداية يتفاوض مع شيوخ البدو .
طالب فيصل بمنحه السلطة كاملة كرئيس للحكومة وبعدم تدخل الملك في شئون الحكومة . ولما لم يحصل على رد استقال .
يقول بروشين أن العائلة المالكة الكثيرة العدد كانت دائما غير متجانسة : إذ يتفاوت أفرادها تفاوتا كبيرا من حيث المركز الاجتماعي والأموال التي يحصلون عليها من خزانة الدولة . غير أن الحزازات داخل العائلة لم تتحول إلى عداء سافر إبان حياة ابن سعود . فقد كان الأمراء يخافون ابن سعود لأن بوسعه حرمانهم من المخصصات كما فعل مرارا مع المتمردين . وبعد وفاة ابن سعود انفرطت العائلة المالكة وصارت كتلا متباينة يسعى كل منها إلى نيل حصة الأسد من عوائد الامتيازات وتبوء مناصب حكومية عامة) .
جمع ولي العهد فيصل ، وهو سياسي محنك وذكي ، من حوله أنصاره المستائين من تزايد نفوذ أبناء سعود في البلاط ز ودأب على تكوين انطباع بأن الملك غير مؤهل لمهمته . وحاول فيصل الذي تربطه علاقات قديمة ووثيقة بالأمريكان التظاهر بأنه من أنصار الإصلاحات والتقارب مع الرئيس عبدالناصر ، وبدا بعد خفية لانقلاب في القصر .
وفي 24 آذار (مارس) 1958 قامت مجموعة من الأمراء على رأسها فهد بن عبدالعزيز بتقديم إنذار إلى الملك يطالب فيه بتسليم السلطة إلى فيصل . كما طالب الأمراء بحماية بيت المال من النهب وتنحية مستشاري الملك الضالعين في محاولة اغتيال عبدالناصر ، ومنح أشقاء الملك حقوقا مماثلة لحقوق أبنائه .
حاول سعود الاستنجاد بالأمريكان ولكنه لم يلق منهم العون ، كما أنه لم يجد ركيزة في الجيش لأن غالبية آل سعود كانوا ضد الملك . فاضطر في مثل هذه الظروف إلى قبول إنذار الأمراء .
وصدر في 23 آذار (مارس) 1958 مرسوم ملكي يمنح رئيس الوراء المسئولية التامة للاشراف على تنفيذ جميع السلطات الإدارية فيما يتعلق بالشئون الداخلية والخارجية والشئون المالية . كما أصبح فيصل القائد العام للقوات المسلحة السعودية .
إن التنكر السياسي الذي قام به ولي العهد بادعائه أنه قومي ومع أنصار الاصلاحات كان متقنا إلى حد بحيث أن رد الفعل الأول لوسائل الإعلام الغربية على أحداث السعودية كان سلبيا . فقد كتبت (نيويورك هيرلد تريبون) في 25 آذار 1958 تقول (إن هذه الخطوة تمثل ضربة موجعة بمواقع الغرب في الشرق الأوسط) . ومن المحتمل أ، هذا التقييم كان تضليلا معتمدا . فبعد بعض الوقت صرح وزير الخارجية الأمريكي دالاس بأ، تسلم حكومة فيصل مقاليد السلطة يدل على أن الاحداث تسير في مجرى طبيعي وأنه لن يحدث تغيرات في العلاقات السعودية الامريكية .
لقد انطلت مراوغات فيصل ليس على وسائل الإعلام الغربية وحدها ، اذ أن ممثلي المعارضة الديمقراطية الثورية علقوا عليه بعض الامال . فقد اصدرت جبهة الاصلاح الوطني في العربية السعودية نداء في دمشق وجهته إلى فيصل وضمنته مقترحات مماثلة لتلك التي وردت في رسالة ناصر السعيد إلى الملك سعود . هكذا كانت أوهام مممثلي الفئات الوسطى السعودية من المثقفين وصغار الموظفين والضباط وإيمانهم الساذج بإمكان قيام آل سعود بإصلاحات .
في نيسان (إبريل) قررت قيادة جبهة الإصلاح الوطني أن تؤسس ، اعتماد على تنظيمها ، منظمة جديدة باسم جبهة التحرير الوطني في السعودية . وسرعان مارفضت هذه المنظمة المعارضة تأييد فيصل ونددت بأعماله .
في 18 نيسان (إبريل) ألقى فيصل خطابا من الإذاعة كرسه للسياسة الخارجية. و أعرب عن الرغبة في اقامة علاقات الصداقة مع كل دولة لا تعادي الحكومة السعودية وتؤمن بالحياد الايجابي ولا تنتمي لأي كتلة عسكرية ويبدو أن المقصود هو حلف بغداد.
ادخل المرسوم الملكي الصادر في 11 مايو 1958 بعض التغييرات الجزئية على نظام مجلس الوزراء الصادر في عام 1954 ، وفصل بين صلاحيات النمجلس وصلاحيات الملك. فقد منح رئيس ملجس الورزاء السلطة الادارية ولكنالسلطة السياسية ظلت للملك. وطرح المرسوم مهمة تنظيم المالية ومكافحة الرشوة والفساد. وخظر على أعضاء مجلس الوزراء تولي أي وظيفة جديدة داخل الحكومة أو خارجها دون استحصال موافقة رئيس الوزراء . كما حظر عليهم تملك أموال الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وان يكونوا أعضاء في مجالس ادارة الشركات التجارية.
انمت العربية السعودية إلى صندوق النقد الدولي عام 1957. وبناء علىتوصية خبراء الصندوق أقر فيصل في يونيو 1958 برنامجا للإستقرار المالي. ونص البرنامج على خفض نفقات الدولة الى مستوى وارداتها واجراء اصلاح للنظام النقدي وقصر الاستيراد على المواد الغذائية والمنسوجات والأدوية. كما تقرر وقف أعمال البناء في عدد من القصور الملكية ومنع استيراد السيارات لمدة سنة. وقلصت الحكومة الى حد كبير الانفاق على التنمية الاقتصادية والتعليم والصحة. وفي عام 1959 توقفت الدولة عن تحصيص أموال لتنمية الصناعة والزراعة.
خفضت قيمة الريال السعودي ، فأصبح الدولا الواحد يعادل 4.5 ريال مقابل 3.75 في الماضي. واعتمدت الحكومة النقود الورقية المغطاة بالذهب والعملة الأجنبية القابلة للتحويل ، لتعوض بها عن وصولات الحجاج والنقود الذهبية التي سحبت تدريجيا من التداول. وقسم الريال الجديد إلى عشرين فلسا عوضا عن 22 فلس.
عند حلول عام 1960 كان احتياطي الذهب والعملة الصعبة قد ازداد إلى عدة أضعاف. وبفضل تحسن ميزان الدفوعات تمكنت الحكومة أن تلغي في مطلع عام 1960 أهم التقيدات المفروضة على الاستيراد وتحويل العخملة وتصدير الرساميل إلى الخارج.غير أن سياسة التقشف ادت إلى فتورالنشاط التجاري وتعطيل الأعمال العامة وازدياد حالة البطالة. وتكبدت البرجوازية الغصيرة والمتوسطة والمقاولون خسائر. ودفع السكان ثمن الإنعاش الإقتصادي.
لم يلق الملك سعود سلاحه ، بتنازله عن السلطة الفعلية لوي العهد. فقد احتفظ الملك بعلاقات طيبة مع الارستقراطية العشائرية جزء من علماء الدين. وظل يؤكد على وفائه للتقاليد ويوزع العطايا بسخاء. وزار سعود مصر صيف عام 1959 محاولا أن يدفع عن نفسه شبهات العداء لعبد الناصر.
امضى سعود عام 1960 بأكمله متنقلا في أرجاء البلاد ، وكان أحيانا يتغيب عن العاصمة عدة أسابيع ، ويقيم الولائم لشيوخ البدو ويجزل لهم العطاء. وطبقا لعادات الحكام الكرماء العادلين كان سعود يدفع ديون الفقراء فينقذهم من الحبس ،ويعطي المرضى مالا للتداوي ، وكان الملك يلتقي مع علماء الدين باستمرار ويشارك في غسل الكعبة عشية موسم الحج. وقام سعود ، بين حين وآخر ، بالتبرع بأموال لتعمير وبناء مساجد داخل السعودية خارجها ، ويوزع بإسمه أموالا إنشاء أسالة المياة في البلدات وشق الطرق وما الى ذلك.
وظل الملك وأبناؤه يسيطرون على مبالغ طائلة من المال . فإن إبن الملك أو أخاه ، إذا لم يكن يتبوأ منصبا رسميا ، يحصل من بيت المال على عشرة ملايين ريال سنويا ان كان متزوجا ، ومليونين ان كان أعزب. أما سائر الأمراء فقد كان مخصصاتهم تتحدد طبقا لدرجة قرابتهم من الملك.
كان الأمر الحاسم في الصراع بين سعود وفيصل ، ظهور مجموعة من الأمراء السعوديين الشباب المثابرين المتأثرين بالأفكار الناصرية والداعين الى الإصلاحات. وأقام سعود صلات بهم ووعد ، بيصيغ حذرة ، بمؤازرتهم. وتحاشى الملك التعهد بإلتزامات محددة ، لأنه لم يكن من أنصار الإصلاح ولخشيته من نفور علماء الدين. وقد ألمح الأمير نواف بن عبد العزيز في تصريح له بالقاهرة في مايو 1960 إلى وجود ميل لإقامة أول جمعية دستورية واعداد أول دستور للدولة وتأسيس محكمة عليا ولجن عليا للتخطيط. وكان هذا تعبير عن رأي مجموعة الأمراء الشباب الذين كان أبرزهم طلال بن عبد العزيز. كان طلال واحدا من الأخوة الصغار لسعود ، وثمة درزينة كاملة من الأمراء الأخرين تبعده عن الأمل في أن يأتي دوره ليكون ملكا. لذا فقد شرع انطلاقا من طموحاته الشخصية – وهذا ما أثبتته الأحداث فيما بعد – يبشر بفكرة الحكم الدستوري أملا في الإقتراب من السلطة عن طريق الإصلاحات. وفي يونيو 1960 اقترح ظلال اقامة نظام ملكي دستوري فرفض فيصل الاقتراح وابعد عنه طلال وجماعته.
في أغسطس ومطلع سبتمبر عرض الأمراء الشباب مشروع الدستور على الملك ، فرفضه بإعتباره متطرفا ولكنه حاول الاحتفاظ بصلاته مع المجموعة.
وفي مايو 1960 اعتزم فيصل التوجه إلى أوروبا للعلاج وعين الأمير فهد بن عبد العزيز وكيلا له ، ولكن سعود رفض المصادقة على هذا التعيين. أيد عدد من الأمراء فيصل بينما وقف عدد آخر ، وبينهم طلال ونواف ، إلى جانب الملك ولم يجرؤ فيصل على مغادرة البلاد.
وفي نوفمبر من العام نفسه أخذ سعود يطالب فيصل باحاطته علما بجلسات الحكومة ، وعدم تعيين أمراء للمناطق والمدن والبلدات وقضاة الا بموافقته ، وبأن يمتنع معن نشر الميزانية دون مصادقته عليها ، كما طالب بزيادة نفقات البلاط وان تدفع لأولاده الصغار مخصصاتهم كاملة.
في 18 ديسمبر قدم فيصل للملك مسودة مرسوم ملكي حول الميزانينة ، فرفض الملك توقيعه بحجة أنه لا يحتوي على تفاصيل. وفي مساء اليوم نفسه رفع فيصل رسالة احتجاج الى الملك اعتبرها سعود طلب استقالة.
المرحلة الثانية: سعود يعود الى السلطة 1960 – 1962
في 21 ديسمبر وافق سعود على استقالة فيصل ، وبالتالي حكومته ، وتولى مهمات رئيس الحكومة وعين وزراء جدد. وضمت الحكومة الأميرين طلال بن عبد العزيز ومحمد ابن سعود اللذين اسندت اليهما على التوالي وزارتا المالية والدفاع. وكان محمد يعتبر واحدا من أبناء سعود الذين تعقد عليهم آمال كبار ووليا محتملا للعهد. وعين أحد أنصار طلال وهو عبد المحسن وزيرا للداخلية بينما عين بدر وزيرا للمواصلات. واسندت وزارة النفط والمعادن الى الوجه القومي المعروف الشيخ عبد الله الطريقي. ولأول مرة في تاريخ البلد استلم أشخاص لا ينتسبون الى العائلة المالكة غالبية الحقائب – وان لم تكن سياسية- في الوزارة.
ان عودة الملك سعود في دسيمبر 1960 كانت تعني الانبعاث المؤقت للميول المناوئة للغرب التي كانت سائدة في فترة 1954 – 1956. وقد اقترنت شكوك سعود ازاء الأمريكان بالنزعة القومية "للأمراء الأحرار". وفي مارس 1960 أعملت السعودية الولايات المتحدة الأمريكية بأنها لن تجدد إتفاقية القاعدة الجوية في الظهران التي كان سينتهي مفعولها بعد سنة. وأعلن الملك سعود أن السبب الرئيسي لذلك هو مساعدة الولايات المتحدة إسرائيل. وفي ابريل 1962 سلمت الولايات المتحدة قاعدة الظهران للحكومة السعودية. وبذا صار لدى هذه الحكومة واحد من أكبر المطارات في العالم. هذا علما بأن العسكريين الأمريكان عادوا إلى القاعدة بعد ستة أشهر تقريبا اثر أحداث اليمن.
في 25 ديسمبر 1960 أعلنت اذاعة مكة ان مجلس الوزراء وافق على تشكيل مجلس وطني منتخب جزئيا ، وقرر وضع مسودة للدستور . ولكن الاذاعة عادت بعد ثلاثة أيام لتنفي الخبر. وكان من الواضح أن الملك سعود لا يعتزم التنازل لحلفائه المؤقتين من الأمراء الشباب. ولكن تلمحيات الى الاصلاحات اخذت تظهر في الصحف السعودية.
نشرت الجريدة اللبنانية نص مسودة الدستور المؤلفة من مائتي مادة والتي وضعها حقوقيون مصريون بتكليف من طلال وزملائه من مجموعة الأمراء الشباب. ويبدو أن هذه المسودة سربت إلى الخارج عن قصد. ولكن مدير الإذاعة والصحافة السعودي نفى الخبر الزاعم بأن الملك هو الذي عرض مسودة الدستور.
تكونت داخل الأسرة السعودية الحاكمة ثلاث مراكز متصارعة على السلطة. فقد كان الملك سعود يستند إلى مجموعة من الأمراء وبعض شيوخ القبائل ، بينما يحظى فيصل بمساندة مجموعة أخرى من الأمراء والكثير من علماءالدين وتجار الحجاز المتنفذين ، أما المركز الثالث فقد تزعمه طلال المتمتع بتأييد فئة المثقفين الناشئة من خريجي الجامعات الأجنبية وعدد من الموظفين.
ظل الصراع داخل الأسرة المالكة السمة الرئيسية للحياة السياسية في البلد طيلة عام 1961. وكان الانتقال من معسكر إلى آخر أمرا طبيعيا. فان عبد الله بن عبد الرحمن وعددا اخر من اخوان الملك وأعمامه سرعان ما انتقلوا الى جانب فيصل. ومن مجموعة الأمراء الأحرار انضم طلال وبدر وعبد المحسن الى مجلس الوزراء وعين فواز حاكما للرياض. واستقال نواف من منصب وزير الداخلية وظل محايدا ، وسرعان ما عين رئيسا للديوان الملكي .
أسس الملك لجنة عليا للتخطيط وأصبح طلال أول رئيس لها. وكان من الواضح أن طلال يرمي الى تعزيز سلطته مما نفر منه أبناء سعود وأقربائه المقربين,
تزايدت البطالة في البلد عام 1961. وحاول طلال تنفيذ أشغال عامة لزيادة العمالة ، ولكن الإعتمادات لم تكن كافية ، وكانت تنهب الأموال المعتمدة.
في الثامن من يونيو اسست وزارة العمل والشئون الاجتماعية وحاولت أن تخظر العمل الأضافي وتحد من تشغيل الوافدين.
في 25 يوليو صدر مرسوم ملكي بتأسيس المجلس الأعلى للدفاع برئاسة الملك ويتألف من وزير الدفاع والطيران نائبا للرئيس ، والمفتش العام للجيش ورئيس الأركان ووزراء الداخلية ، والمالية والاقتصاد ، والمواصلات ،والخارجية. وحدد المرسوم الملكي مهمة المجلس بوضع سياسة دفاعية طويلة الأمد للجيش السعودي.
نظرا لتنامي المعارضة صدر ايعاز خاص لحماية النظام الملكي نص على أن تكون عقوبة الجرائم المرتكبة ضد الأسرة المالكة والدولة الإعدام أو السجن المؤبد. وصارت عقوبة الإعدان تهدد كل من يحاول تغيير النظام الملكي أو يتطاول على أمن الدولة أو يسعى لشق القوات المسلحة.
ركزت مجموعة فيصل هجومها على طلال متحاشية المساس بالملك. وأخذ الذين يناصرون فيصل سرا أو علانية يوجون للملك بأن التجديدات سوق تؤدي به إلى الهلاك وخذروه من الوزراء الجدد. وفي الوقت ذاته عمل أنصار فيصل على عرقلة اجراءات الأمراء الأحرار. وكان المحافظون من آل سعود وكبار الموظفين يحتالفون في نشاطاتهم مع الأوساط الدينية التي خشيت من ان تؤدي الاصلاحات الى الانتقاص من دور علماء الدين في البلد.
بدأ الهجوم رجال الدين وعلى رأسهم مفتي الديار السعودية محمد بن ابراهيم آل الشيخ ورئيس جماعة الأمر بالمعروف الشيخ عمر بن حسن. فقد وجه المفتي رسالة الى الملك يذكره فيها بحقه في الاطلاع على كل القوانين الحكومية وايعازاتها قبل تطبيقها للبت فيما اذا كانت مطابقة لأحكام الشرع. وقال المفتي أنه لا يوافق على قانون العمل لمخالفته روح الإسلام. وذكر مثلا أن العامل الذي يصاب بعاهة أثناء العمل يجب أن يحصل فقط على تعويض اليوم الذي أصيب أثناءه ،لأن الإصابة قضاء وقدر. وخلافا لرأي طلال وزير المالية وافق سعود على رأي المفتي لتهدئية علماء الدين. وسرعان ما طالبت جماعة الأمر بالمعروف بغلق ستوديوهات التصوير في الرياض ، واقترح الملك على الحكومة الخضوع لهذا المطلب.وكان تنفيذ هذا الايعاز يعني الانهيار التام لهيبة الحكومة ، لذا اقدمت على حل وسط بأن أمرت برفع اليافطات عن الإستديوهات وازالة وجهاتها الزجاجية.
جوبهت محاولات طلال لتنظيم المالية بمقاومة سعود ورجال حاشيته الذين لم يعودوا الى السلطة لتقييد جشعهم. ويقول طلال في مذكراته أن الملك شارك في المضاربة بالأراضي مما أضر بمالية الدولة ،وكانت له حصة من المقاولات الحكومية ، وحصل على مبالغ طائلة بايصالات مزيفة مستخدما موظفي وزارة المالية. ورفض سعود اقتراح طلال بتأميم شركة الكهرباء الأهلية في الرياض للحصور على واردات اضافية. واستغلت جماعة فيصل هذه المحاولة لتأليب الأوساط التجارية ضد طلال وسائر الأمراء الأحرار وبثت اشاعات تزعم ان ظلال يعتزم تأميم المؤسسات الصناعية والشركات التجارية.
حاول الملك التوصل الى حل وسط مع فيصل والتضيح بطلال. وأصدر في 11 سبتمبر مرسموما اقال فيه طلال وبدر وعبد المحسن من الوزارة. وفي 16 من الشهر نفسه عين الأمير نواف بن عبد العزيز ، الذي كان يعتبر محايدا ، وزيرا للمالية والاقتصاد الوطني ، وأسندت المناصب الأخرى الى أبناء سعود.
تدخل عامل اخر في الصراع بين الأخوان ،وهو صحة الملك ، فقد ساءت الى حد بحيث نقل سعود فاقدا الوعي في 16 نوفمبر الى المستشفى الأمريكي بقاعدة الظهران ، ثم اضطر للسفر الى الولايات المتحدة للعلاج. وقد يكون للأمريكان ضلع في ترحيله ، لأن لهم مصلحة في ابعاد الملك الذي لا يرتضونه عن البلد. وقبيل مغادرة البلد ، ونزولا عند الحاح كبار افراد العائلة الملكة عين سعود للقضاء على خصومه.
في مارس 1962 اضطر الملك بسبب تدهور صحته الى تعيين فيصل رسميا رئيسا للحكومة. وطالب فيصل باقصاء الطريقي من مجلس الوزراء. فوافق سعود ، تهللت أرامكو لهذه الخطوة اذا انها كانت تعتبر وزير النفط ، كما يقول طلال ، عدوها الأول. وكانت ارامكو ، في التقارير المرفوعة الى الحكومة السعودية تندد بنشاط الطريقي وتتهمه بالشيوعية. وهكذا عاد فيصل ليستلم السلطة الفعلية بعد خمسة عشر شهرا من أبعاده عن رئاسة الحكومة. وهكذا احتدم الصراع من جديد.
أمضى سعود بقية السنة في الولايات المتحدة حيث اجريت له سلسلة من عمليات الجراحة. واصل طلال الحديث عن الاصلاحات ، فقد دعا الى اجراء تغييرات في نطاث الشرع على اساس الاجتهاد ، الأمر الذي كان يعني عمليا ادخال احكام قانونية جديدة على الشرع لضبط الظواهر الاجتماعية الجديدة. ولو فتح باب الاجتهاد لتمكنت فئات اجتماعية جديدة من تقديم مطالبها والاستناد الى القيام وتفسير الشرع بما يتفق ومصالحها.
لم يجد طلال وجماعته دعما داخل البلاد فهاجروا. وفي 15 أغسطس 1962 عقد طلال مؤتمرا صحفيا ببيروت . وانتقد في تصريحاته المنشورة بصحيفة الأنوار النظام السعودي رغم انه لم يذكر الملك بالإسم. وقال الأمير أن هدف مجموعته يتمقل في اقامة ديموقراطية دستورية في الاطار الملكي. وقد أيده أربعة أمراء هم عبد المحس بن عبد العزيز وبدر بن عبد العزيز وفواز بن عبد العزيز وسعد بن فهد.
وخشية من اثارة غضب الرياض حاولت الحكومة اللبنانية التخلص من الأمراء المتمردين فغادروا الى القاهرة ، حيث استقبل طلال من قبل الرئيس عبد الناصر. وادت ثورة اليمن الى زيادة نشاط المجموعة وقتيا.
في اواخر الخمسينات واوائر الستينات دار الصراع على السلطة بين أفراد الأسرة المالكية فقط ، ولكنه كان عرضة لتأثير مختلف النزعات السياسية. فقد كان برنامج مجموعة طلال يجسد الأفكار الاصلاحية الليبرالية القومية ، ويبين مآله مدى ضآلة ما وجدته هذه الأفكار من تربة خصبة في المجتمع السعودي.
ورغم أن الأسرة المالكة كانت تتنازعها التناقضيات ، الا أنه لم يكن لديها خصوم أقوياء . فجيل الشبان المتعلمين المنحدرين من القئات الوسطى ، كان يمثل مجموعة ضئيلة جدا في الاحساء وجدة ، واقتصر نشاطها ، حسب المعلومات المتوفرة ، على توزيع منشورات ونشر رسائل مفتوحة في الصحافة بالخارج.
كما كام محدودا تأثير جبهة التحرير الوطني وهي منظمة ديموقراطية ثورية معارضة. وانحصرت مطالب الجبهة في الغاء نظام الاستباداد الملكي واقامة نظام برلماني ، ووضع سياسة اقتصادية وطنية ، واعادة النظر في كل الاتفاقيات النفطية ، والدعوة الى الحياد الايجابي ، ورفض تأجير قاعدة الظهران.
أما التأثير الأكبر فقد كان للمحافظين سواء من الأمراء أو علماء الدين أو شيوخ القبائل. ولهذا السبب بالذات لم يشارك سعود شخصيا في مؤتمر بلدان عدم الإنحياز في بلجراد لأن يوغسلافيا بلد شيوعي ملحد.
وفي 28 سبتمبر 1961 انفصلت سوريا عن الجبعة العربية المتحدة. واعترفت الحكومة السعودية فورا بالحكومة السورية الجديدة. وفي اواخر 1961 استعرت مجددا الحرب الاعلامية بين اذاعتي القاهرة ومكة بعد ان كانت قد خمدت. وانتقدت القاهرة استبداد النظام الاقطاعي في السعودية وتفشى الفساد فيه ، بينما تهمت مكة الرئيس عبد الناصر بالتدخل في شئون الدول العربية الأخرى ، وزعمت أنه يخون القضية الفلسطينية وتيساهل ازاء إسرائيل. وتأزمت العلاقات الى حد جعل الحكومة السعودية ترفض قبول كسوة الكعبة من مسلمي مصر عام 1962. وفي الوقت ذاته جرى تقابل بين النظام السعودي والأردن.
ففي 30 أغسطس 1962 اجتمع سعود وحسين في الطائف ووقعا اتفاقية حول تنسيق السياسة الخارجية وتطوير العلاقات الاقتصادية والعسكرية والثقافية ، واتفقا على رسم الحدود. وعرفت هذه الاتفاقةي بميثاق الطائف ، ولم يخف على احد أنها كانت موجهة إلى مصر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثورة اليمنية وردود الفعل في السعودية
في 10 سبتمبر 1962 توفى امام اليمن احمد فتولى الحكم ابنه وولي عهده الأمير محمد البدر ، وفي 26 من الشهر ذاته قامت الثورة في اليمن. فقد استغلت مجموعة من الضباط المناوئين للحكم الملكي برئاسة عبد الله السلال فرصة تغيير الامامة فأطاحت بالبدر واستولت على السلطة. وحصل النظام الجمهوري الجديد على تأثييد فوري من مصر. وعند ابتداء هشر نوفمبر 1962 كانت 26 دولة قد اعترفت بالجمهورية العربية اليمنية.
صادرت الحكومة الجمهورية أراضي وقصور وجزء من الممتلكات الأخرى لأسرة حميد الدين وكبار أنصارها. وأعلن النظام الجديد أن كل مواطني البلد متساوون في الحقوق بصرف النظر عن انتمائهم الديني أو القبلي ، وألغي الرق ، وبدأ بإحلال المحاكم المدنية محل الشرعية ، وأخذ يفتح مدارس عامة جديدة.
غدت ثورة اليمن تحذيرا للعائلة المالكة الحاكمة في السعودية ، اذ كانت فيها كل العناصر الموضوعية للوضع الذي ادى الى الإنفجار الثوري في البلد المجاور : النظام الاقطاعي الاستبدادي وفئته الحكومية الفاسدة ، وانتشار الفقر والجوع بين السكان الذين كانوا قد تحملوا للتو في فترة 1958 – 1960 أعباء تنظيم الاقتصاد المالية التي تجسدت في انخفاض مستوى المعيشة وزيادة البطالة. واهم من هذا كله انهظهرت في اوساط الضباط والموظفين والتجار وذوي المهن الحرة والعمال والطلبة فئة وسطى نشيطة من الاشخاص الذين اعتنقوا أفكار التحرر الوطني والاجتماعي بصيغتها المختلفة – الماركسية والناصرية والبعثية – واخذو يلحون في المطالبة بالتغيير. وكان المد الثوري في البلدان العربية أنذاك في تصاعد.
غير ان تطور الأحداث في اليمن والاستقرار النسبي للنظام السعودي ، بينا ان شطرا ضئيلا فقط من السكان كان يسعى للتغيير ، وان جزءا اقل كان مستعدا للعمل الحاسم من اجل التغيير. فالمجتمع عموما ، سواء في السعودية أو في اليمن ذاته ، لم يكن قد تخطى بعد المستوى الاقطاعي القبلي ، وكانت جماهير السكان تؤثر التنظيم الاجتماعي السائد وتقتنع بالمؤسسات الاجتماعية القديمة وتنساق وراء التقاليد ، وبالتالي وراء الزعماء المحافظين ، ولم تكن تعرف بل ولا تريد أن تعرف أي فكر غير الاسلام بالصيغة التي كان عليها في القرون الوسطى . وادى ذلك كله إلى تسهيل مهمة النظام السعودي في البقاء (بدعم هائل من الولايات المتحدة وسائر البلدان العربية) وتقديم العون للقوى الملكية في اليمن.
التجأ الإمام البدر الى السعودية ، وتجمع في المناطق المتاخمة لليمين كبار انصار النظام الملكي والاقطاعيون وشيوخ القبائل اليمنيون. وزودت الحكومة السعودية الملكيين بالمال والسلاح, واغدقت الاموال على القبائل المناوئة للجمهورية وساندت التحركات المعادية للجمهورية داخل اليمن.
عادت السعودية لتقف في معسكر واحد مع بريطانيا, في مكافحة الجمهورية اليمنية. فقد ايدت سلطات الاحتلال البريطانية الملكيين خوفا من تأثير الجمهورية اليمنية على عدن والمحميات وتزايد نفوذ مصر الناصرية في شبه الجزيرة العربية. وفيما بعد حصل الملكييون في اليمن على تأييد كل من الاردن وايران.
في بداية تشرين الاول (اكتوبر), وبناء على طلب السلال, بدأت مصر بنقل قواتها الى اليمن جوا وبحرا. وفي 5 تشرين الاول سمحت السعودية للملكيين بتشكيل حكومة منفى في جدة. وفي 11 من الشهر تحدث نائب رئيس الجمهورية اليمنية عبد الرحمن البيضاني عن "حالة حرب" مع السعودية.
في تشرين الاول (اكتوبر) هرب عدد من الطيلرين السعوديين المكلفين بنقل شحنات عسكرية إلى حدود اليمن, هربوا إلى مصر حيث طلبوا اللجوء السياسي. وكان قد وصل مصر طيار اردني قادما من الطائف, حيث ارسل الملك حسين عددا من الطائرات الاردنية لمساندة النظام السعودي. وقصفت الطائرات المصرية تجمعات الملكيين والمرتزقة الذين حشدوا لتأييدهم. وزعمت الحكومة السعودية ان الطائرات المصرية قصفت في أواخر تشرين الاول (اكتوبر) ومطلع تشرين الثاني (نوفمبر) مخيمات الملكيين في نجران وجيزان. ويبدو ان القصف قد حصل بالفعل, ولكن من الملفت للنظر ان الصحفيين الاجانب الذين نقلهم السعوديين إلى جيزان لم يجدوا أثرا لقنابل أو صواريخ.
لفترة من الوقت احجمت السلطات السعودية عن استخدام طائراتها الحربية, وتولت قوات من الحرس الوطني حراسة المطارات. ويقول الصحفي الامريكي شميدت ان "الفئات العليا من المجتمع السعودي كانت منقسمة على نفسها حول ما اذا كان ينبغي الاتفاق مع النظام الجديد في صنعاء أو تأييد الامام في الجبال. وقد وقع ستة من اعضاء الحكومة السعودية, وهم جميعاً لا ينتمون إلى الارستقراطية, مذكرة يوصون فيها بالاعتراف بالجمهوريين. أما الفريق الآخر, وكان بزعامة الأمير خالد, فقد بدأ فعلا بمساعدة الملكيين. وكان الملك سعودي كالعادة, متذبذباً بين الدعم النشيط للملكيين والاعترتف الحذر بالثوريين".
أثناء هذا الوضع غير المستقر عاد ولي العهد فيصل في 24 تشرين الاول (اكتوبر) من نيويورك حيث ترأس الوفد السعودي إلى الأمم المتحدة, ووعد بدعم من الولايات التحدة الامريكية أثناء زيارته البيت الأبيض. وذكر شميدت ان "ولي العهد اكتشف ان الوزراء غير الاستقراطيين الذين يمثلون في الواقع الطبقة المتوسطة الجديدة في السعودية, كانوا انهزاميين. ونظراً لضعف ايمانهم بمستقبل السعودية وقدرتها على الاصلاح وحماية نفسها, فقد أخذوا يتوقعون بأن يتمكن الرئيس عبد الناصر من إحراز النجاح في استراتيجيته الواضحة الرامية إلى استثمار الثورة اليمنية والتهديد العسكري لهم بنية النظام الملكي السعودي, وكان بعض الشباب من افراد الاسرة الحاكمة يشاطرون هذه النزعات الانهزامية".
قررت العائلة السعودية الحاكمة رص صفوفها لمواجهة الخطر. وكان غالبية الامراء يميلون إلى حرمان سعود من أي دور فعال في السياسة. فقد غدا الملك شخصاً غير مرغوب فيه نتيجة لتفشي الفساد والاسراف في الابهة, كما ان سمعته انحطت في انظار المحافظين بسبب صلاته و"الامراء الاحرار". كما ان واشنطن كانت تؤثر فيصل, لانها لم تنس تصريحات سعود واعماله ذات الطابع القومي في المرحلة الاولى لتسلمه السلطة وفي سنتي 1961 و 1962. وازاء ضغط الامراء وعلماء الدين اضطر الملك في 25 تشرين الاول (اكتوبر) 1962 إلى تعيين فيصل رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية.
شكل فيصل الحكومة الجديدة في 31 من تشرين الاول وفي تشرين الثاني طرح برنامجاً من عشرة بنود:
- "تعتقد حكومة صاحب الجلالة ان الوقت قد حان الآن لاصدار نظام اساسي للحكم مستمد من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة خلفائه الراشدين حيث يضع في وضوح كامل المبادئ الاساسية للحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم وينظم سلطات الدولة المختلفة وعلاقة كل جهة بالاخرى وينص على الحقوق الاساسية للمواطن ومنها حقه في حرية التعبير عن رأيه في حدود العقيدة الاسلامية والنظام العام ..." (تلى هذا المقطع عبارات مبهمة تعد ب"تطوير" مجلس الشورى). "ومما يساعد على بلوغ هذا الهدف السامي ان قواعد شريعتنا السمحة مرنة متطورة صالحة لمواجهة كل الظروف وقابلة للتطبيق في كل زمان ومكان حسب متطلبات ذلك الزمان والمكان".
- اعلن فيصل ان الحكومة درست ايضاً مسألة نظام الادارة المحلية ووعدت باصدار احكام بهذا الخصوص عما قريب. 3.نص البرنامج على حرص " حكومة صاحب الجلالة على ان يكون للقضاء حرمته ومكانته فهو مناط القسط ورمز العدالة". واعلن عن نية الحكومة في اصدار احكام حول استقلالية الهيئات القضائية وتشكيل وزارة للعدل تكون النيابة العامة تابعة لها.
- "ولما كانت نصوص الكتاب والسنة محددة ومتناهية بينما وقائع الازمنة وما يستجد للناس في شئون دنياهم امور متطورة وغير متناهية, ونظراً لأن دولتنا الفتية تقيم حكمها ... على اساس الكتاب والسنة نصاً وروحاً, فقد أصبح لزاما علينا ان نمنح الفتيا عناية اكبر وان يكون لفقهائنا وعلمائنا حملة مشاعل الهدى دور ايجابي فعال في بحث ما يستجد من مشاكل الامة بغية الوصول إلى حلول مستمدة من شريعة الله ومحققة لمصالح المسلمين, ولذلك كله فقد قررت حكومة حضرة صاحب الجلالة تأسيس مجلس للإفتاء يضم عشرين عضواً من خيرة الفقهاء والعلماء".
- "ان حكومة صاحب الجلالة لتشعر شعوراً تاما بواجبها للعمل بكل جد واهتمام انشر دعوة الاسلام وتثبيت دعائمه والذود عنه قولاً وعملاً".
- قررت الحكومة "ان تقوم حالا باصلاح وضع هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتمشى مع الاهداف الاسلامية الرفيعة".
- اعلنت الحكومة ان احدى المهمات الكبرى تتمثل في "النهوض بالمستوى الاجتماعي للأمة" بما في ذلك اعتماد مجانية الطب والتعليم ودعم المواد الاستهلاكية الضرورية والضمان الاجتماعي. "وعندما تقدم الدولة لطائفة العمال فيها نظاماً يحميهم من البطالة, نكون بذلك قد وصلنا إلى المستوى الاجتماعي الذي لا يزال يراود كثيراص من دول العالم المتحضر وحققنا فعلياً اهداف العدالة الاجتماعية الحقة دون ان تطغى الدولة على حريات الناس الفردية او تسلبهم اموالهم وحقوقهم ... انها تسعى جادة إلى إجراء تعديلات هامة في شكل الحياة الاجتماعية وإلى توفير الوسائل للتسلية لميع المواطنين".
- نضمن حكومة صاحب الجلالة بأن التطور الاقتصادي والتجاري والاجتماعي الذي ساد مجتمعنا في السنوات الاخيرة لا يزال في كثير من مجالاته يفتقر إلى التنظيم ولذلك فإن مجموعة كبيرة من الانظمة الهامة ستأخذ طريقها تباعاً إلى الصدور". وجرى التأكيد على ضرورة استحداث هيئات مستقلة لمتابعة تنفيذ هذه الانظمة.
- وجاء في البرنامج ان "الانتعاش المالي والتطور الاقتصادي هو شغل الحكومة الشاغل ... فقد اتخذت حكومة صاحب الجلالة وسوف تتخذ اجراءات هامة وحاسمة لوضع رامج اصلاحية ملموسة ينتج عنها انتعاش دائم للحركة الاقتصادية".
- ونص البرنامج على ضرورة إلغاء الرق بشكل مطلق وحظره وعتق العبيد جميعا.
وبذا فإن ولي العهد ورئيس الوزراء قد طرح برنامجا لتعزيز وصيانة النظام الاقطاعي الملكي دون إجراء تغيرات جوهرية في أسسه. ان العبارات المبهمة حول صدور نظام أساسي مستمد من القرآن والسنة مع مراعاة التغيرات في المجتمع, وحول النظام القضائي وإصلاح وضع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أثارت إستياء الكثير من السعوديين, وغير ذلك مما ورد في البرنامج الجديد كان يهدف إلى إخماد النزعات الثورية في أوساط جزء من السكانم وإرضاء أنصار الإصلاحات المعتدلة. ووعد رئيس الحكومة الطبقة البرجوازية المتنامية بإصدار أنظمة جديدة وتشكيل "هيئات مستقلة" لمتابعة تنفيذها, وضمان الانتعاش الاقتصادي. ووعد فيصل فئات واسعة من السكان بتحسين وضعهم المعاشى وتخفيض الاسعار وتقديم مختلف الخيرات الاجتماعية وحمايتهم من البطالة. وتمشياً مع روح العصر وجد فيصل ان من الضروري التأكيد على وسائل التسلية البريئة مبتعداً بذلك عن الزهد الصارم. وأخيراً فقد اشار البرنامج إلى اعتزام إلغاء الرق الذي أصبح من أقبح رموز النظام السعودي. لم ينفذ برنامج فيصل أبداً من حيث العموم. وفيما بعد لم تعد وسائل الاعلاموالاصدارات الرسمية السعودية تذكر هذه الوثيقة الهامة خشية جلب الانظار للوعود المنسية حول الاصلاحات.
وكانت مختلف إجراءات الحكومة ذات طابع محدد للغاية. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1962 صدر مرسوم بإلغاء الرق, والتزمت الحكومة بموجبه بدفع سبعمائة دولار عن كل عبد وألف دولار عن كل أمة. وفي 7 تموز (يوليو) 1963 بلغ العدد الاجمالي للعبيد الذين طالب اسيادهم بدفع تعويض عنهم 1682 عبداً, فدفعت الحكومة التعويضات واعتقتهم. واعتبر سائر العبيد معتوقين تلقائياً بعد التاريخ المذكور الذي حدد كأجل نهائي لدفع التعويضات. وكان الجزء الأساسي من المعتقوين من عبيد العائلة المالكة. وذكرت مجلة "نيوزويك" ان "غالبية أسياد العبيد تجاهلوا عرض الحكومة لان مبلغ التعويض كان يقل مرتين عن سعر العبد في سوق الرقيق".
وفي العادة كان العبد المعتوق يضطر إلى البقاء عند اسياده السابقين, لصعوبة ايجاد عمل في بلد فيه يكثر فيه العاطلون عن العمل, أو يبقى دون مقومات العيش. توصل فيصل والمقربون إليه, بأنفسهم أو بنصح من الخبراء الامريكان, إلى استنتاج حول ضرورة تدخل الحكومة بنشاط أكبر في الحياة الاقتصادية. والمقصود بذلك تأسيس قطاع عام في الاقتصاد. صدر في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1962 مرسوم يقضي بتأسيس الهيئة العامة للبترول والموارد المعدنية (بترومين) لدى وزارة الصناعة البترولية والتعدينية, برئاسة الوزير. واوكلت إلى الهيئة اعمال استخراج ونقل وتسويق النفط وسائر الموارد المعدنية. ولهذا الغرض ترتب تأسيس شركات أو قيام الهيئة نفسها باستثمار رأسمال في الشركات القائمة بالفعل. كما كلفت بترومين بمهمة تطوير الصناعة البتروكيمياوية بالاستفادة من الغاز الطبيعي.
في مطلع عام 1963 صدرت انظمة المصرفين الصناعي والزراعي في السعودية. ونصت ميزانية سنة 1962- 1963على زيادة كبيرة في الاعتمادات المخصصة لاغراض التعليم والصحة. نهاية ازدواجية السلطة. مبايعة فيصل ملكاً. بعد أن أعلنت حكومة فيصل الاحكام العرفية في الأول من كانون الثاني (يناير) 1963, شرعت تنكل بالمعارضة. واعتقلت الشخصيات ذات الميول الاصلاحية, بالاضافة إلى إلقاء القبض على عدد من الضباط المظليين بتهمة التآمر ضد نظام الحكم. ولكن جبهة التحرير الوطني صعدت من نشاطها في الخارج.
في خريف 1962 قصد سعود اوروبا للعلاج, فاخذ فيصل يعمل بنشاط لاحكام سيطرته على السلطة, وعين اخاه الشقيق عبد الله قائداً للحرس الوطني واخاً آخر حاكماً للرياض. عاد سعود إلى الرياض في 27 نيسان (ابريل) 1963 ولكنه غداً في عزلة. فقد طالبه 39 من اخوته بتسليم فيصل السلطة الفعلية, على ان يظل ملكاً, فغادر سعود البلاد.
اثر ذلك عزل فيصل كل ابناء سعود من المناصب الحكومية الهامة, وعين محلهم اخوته الثلاثة خالد وفهد وسلطان, وعمه الامير مساعد بن عبد الرحمن الذي كان من خلصائه. وبعد ذلك ابعد ولي العهد عن العاصمة جزءاً كبير من الحرس الملكي الذي كان مؤلفاً من ثلاث كتائب مزودة بالدبابات والمدافع المضادة للجو وتدرب غالبية ضباطه في الولايات المتحدة. وكان جنود الحرس الملكي يتقاضون رواتب عالية ويحصلون على دور وقطع اراضي وسلفة للبناء. ونقل فيصل كتيبتين من الحرس الملكي (كتيبة مشاة وكتيبة مدرعات) إلى الحدود السعودية اليمنية في الجنوب, ودمجها في الجيش النظامي. سمح للملك سعود بالعودة شريطة الا يتدخل في شؤون البلد, فاضطر إلى الموافقة وعاد إلى السعودية في 13 ايلول (سبتمبر) 1963.
في 22 آذار (مارس) 1964 قام سعود بمحاولة يائسة لاستعادة السيطرة على الدولة, فطالب بوضع السلطة التنفيذية بكاملها تحت اشرافه. رفض فيصل وحشد الحرس الوطني لمؤازرته. وفي 25 آذار نصح مفتي الديار السعودية الملك بالموافقة على مطالب ولي العهد, فرفض الملك املا في الحصول على دعم وحدات الحرس الملكي المتبقية تحت امرته. وحينذاك اصدار فيصل امرا إلى الحرس الوطني بتطويق القصر. وكانت القوى غير متكافئة بالمرة, فاستسلم الحرس الملكي. في 29 آذار (مارس) اصدار العلماء فتوى ايدها افراتد الاسرة المالكة, حول تسليم السلطة باكملها لفيصل على ان يبقى سعود ملكاً بالاسم فقط.
واثر هذه الفتوى اصدر مجلس الوزراء سلسلة من القرارات في 28-30 آذار, تقضي بالغاء سيطرة الملك على الحرس الملكي وحرسه الخاص, وتسليم التشكيل الاول لوزارة الدفاع والثاني لوزارة الداخلية. والغى مجلس الوزراء البلاط وقلص إلى النصف المخصصات السنوية للملك, فجعلها 183 مليون ريال سعودي (الدولار الامريكي = 4.5 ريال). ولم يعد بامكان سعود ادارة شؤون الدولة, واحيلت كل صلاحيات الملك لولى العهد فيصل. ووقع 68 اميراً من الاسرة المالكة مذكرة تؤيد احالة السلطة إلى فيصل. لقد كانت احداث آذار (مارس) عام 1964 تكراراً لانقلاب عام 1958, مع فارق واحد وهو ان سعود حاول في هذه المرة ابداء نوع من المقاومة ولكنه اخفق.
بدأ فيصل في صيف 1964 يمهد للاطاحة باخية غير الشقيق عن العرش نهائياً. وفي 24 تشرين الاول (اكتوبر غادر جدة متوجهاً إلى الرياض, والتقى في الطريق بزعماء البدو. واجتمع الامراء وشيوخ القبائل وعلماء الدين في العاصمة, حيث عرضوا على سعود التنازل عن العرش والكف عن ممارسة النشاط السياسي.
في 28 تشرين الاول (اكتوبر) 1964 اجتمع علماء الدين في منزل مفتي اليار السعودية محمد بن ابراهيم آل الشيخ, ثم عقدوا اجتماعا مع الامراء في فندق "الصحراء" بالرياض. ويذكر دى غورى ان عد المشاركين في الاجتماعيين بلغ زهاء مائة امير و 65 عالما, اى كل الفئة العليا من الهرم السياسي الديني في السعودية. صادق مجلس الوزراء في تشرين الثاني (نوفمبر) على قرارين: فتوى العلماء بمبايعة فيصل ملكا, ورسالة وقعها جميع افراد الاسرة المالكة تبايع فيصل ملكا وتدين له بالولاء. كما بايع الملك الجديد اعضاء مجلس الشورى و ممثلوا اهم المحافظات. وتوجه اعضاء الحكومة برئاسة خالد إلى سعود لاعلامه بالقرار. وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) اقسم الحرس الوطنى يمين الولاء لفيصل. ولكن سعود ظل مترددا آملا في حدوزث معجزة, فهدد بحرمانه من املاكه ووضعه تحت الاقامة الجبرية اذا استمر متعنتا. حينذاك وقع سعود تنازله عن العرش, وفي كانون الثاني (يناير) 1965 غادر البلاد, بعد ان ادى يمين الولاء لاخيه. وفي آذار (مارس) 1965 عين فيصل اخاه غير الشقيق الامير خالد وليا للعهد.
انتهت بذلك مرحلة الصراع على السلطة بين آل سعود والتي استمرت ست سنوات. وفي العام الاول لتوليه الحكم جمع فيصل بين منصبي الملك ورئيس الوزراء, وتولى السلطة التنفيذية الفعلية وكان يقوم بتعيين الوزراء واعفائهم ويقبل استقالتهم. وصار جميع الوزراء خاضعين مباشرة للملك الذي غدت لديه عمليا سلطة كبيرة مماثلة والده عبد العزيز.
المعارضة في الستينات ومطلع الستينات: ادت ثورة اليمن والمجابهة المصرية السعودية إلى تصاعد مؤقت في نشاط مجموعة الامير طلال. فقد اعلن في 23 تشرين الاول(اكتوبر) 1962 عن تشكيل جبهة التحرير العرية ونشر برنامجها. وذكر طلال ان التنظيم الجديد سيناضل من اجل اقامة نظام ديمقراطي في السعودية والغاء االرق هناك ويعمل في سبيل اعادة النظر في اتفاقيات الامتيازات النفطية بغية حماية مصالح البلد وانشاء شركة وطنية لاستخراج النفط, ويكافح في سبيل الوحدة العربية وضد الاحلاف الامبرالية والقواعد العسكرية. وقد راعى الامير فيصل الكثير من مطالب طلال وادراجها في بيانه البرنامجي.
في مطلع الستينات وضعت الصيغة التنظيمية لمجموعة معارضة اخرى وهي اتحاد ابناء الجزيرة العربية (اتحاد شعب الجزيرة العربية فيما بعد), وترأسها ناصر السعيد, العامل السابق في ارامكو. واعلنت المنظمة انها تمثل جميع فصائل الكادحين, بمن فيها العمال والفلاحون والطلاب والموظفون والجنود والضباط والاطباء. ووزعت المنظمة في جدة والرياض ومكة منشورات مناهضة للحكم الملكي. ودعت المنظة في اذاعة موجهة من القاهرة إلى تصفية الحكم الملكي السعودي وتأسيس جمعية وطنية تمثل كل فئات الشعب, كما اعلنت عن تأييد لعبد الناصر وتنديدها بالملك حسين. وبعد ثورة اليمن انتقلت قيادة الاتحاد من القاهرة إلى صنعاء. وانشأت المنظمة قيادة عليا للعمل في السعودية, كان من بين اعضائها ناصر السعيد. بديهي ان مجموعتى طلال (الاقطاعيون واليبراليو والبرجوازية التجارية) وناصر السعيد "الفءات الوسطية" كانت متباينتين من حيث التؤكيب الاجتماعي والتطلعات السياسية واساليب النضال, وكانت تتبادلان التهجمات.
اما جبهة التحرير الوطني فقد حاولت توحيد القوى المعارضة, وفي كانون الاول (ديسمبر) 1962 اندمجت بجبهة التحرير العربية, حيث صار اسم التظيم الجديد جبهة التحرير الوطني العربية وانتخب طلال امينا عاما لها. وشرعت هذه الجبهة بنشر موادها في صحيفة "الكفاح" اللبنانية تحت ركن "صوت الجبهة". وكان برنامجها يشمل المطالبة بالحكم الدستوري اليمقراطي وانتخاب هيئات السلطة وحرية الفكر والكلمة وحرية الاجتماع والتنظيم السياسي والنقابي, وحق الكادحين في الاضراب والتظاهر, واجراء تغيير جذري في الجهاز الحكومي, ونشر التعليم ومكافحة الامية وتعليم النساء اسوة بالرجال, وتصنيع البلد وتوزيع الاراضي الاميرية على الفلاحين, وتطوير الصحة وتوفير الخدمات الصحية لجميع المواطنين, واقامة التعاونيات الزراعية, وتحسين وسائل المواصلات وتعزيز الجيش وتجهيز باحدث الاسلحة, واعادة النظر في اتفاقيات النفط لصالح العربية السعودية, وانشاء شركة وطنية لاستخراج وتكرير النفط, والدفاع عن الوحدة العربية والنضال ضد الاحلاف الامبريالية والقواعد العسكرية, واتباع سياسة الحياد الايجابي والتعايش السلمي واقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع جميع البلدان.
بيد ان مجموعة طلال امسحبت في ىب (اغسطس) 1963 من جبهة التحرير الوطني العربية, ومنذ ذلك الحين اخذت تسمى مجددا جبهة التحرير الوطني. وقد تدهورت علاقات "الامراء الاحرار" بالرئيس عبد الناصر وخاصة بعد ان اخذت اذاعة اليمن تدعو إلى "تصفية جميع افراد الاسرة السعودية المالكة دون استثناء". وفي شباط (فبراير) 1964 عاد طلال إلى الرياض بعد ان كان اخوته قد وصلوا اليها قبل شهر من ذلك. وبذا انفرط عقد "الامراء الاحرار", ولم يسمع منذ ذلك شئ عن نشاطهم السياسي. لم تتمكن المعارضة الديمقراطية الثورية المنظمة من احراز نجاح داخل البلد. وفي كانون الاول (ديسمبر) 1962 اعتقل 40 من الضباط الشباب الذين خططوا للقيام بانقلاب. وفي شباط (فبراير) 1963 اكتشفت اجهزة الامن السعودية مجموعة جديدة توحد الوطنيين.
شهد البلد اضطرابات عمالية في فترة 1962-1966. ففي عام 1962 توقف عمال المطابع المصريون في جدة عن العمل احتجاجا على التهجمات ضد مصر. وفي عام 1963 اضرب السعوديون والبحرانيون العاملون لدى احد المقاولين في المنطقة الشرقية. وفي العام نفسه جرى إضراب في معمل للأسمنت. وإضراب عمال النفط في المنطقة المحايدة مطالبين بتقليص اسبوع العمل من 48 إلى 40 ساعة. وفي عام 1964 قاطع عمال ارامكو مطاعم الشركة وحوانيتها, ونظموا مظاهرة. وبالرغم من صدور مرسوم عام 1965 الذي يحظر كل انواع الاتحادات والروابط العمالية وحتى العقود الجماعية, فان تسعمائة من عمال ارامكو برهنوا عام 1966 على وجود نوع من التنظيم لديهم, ورفعوا إلى مكتب الشكاوى التابع لمجلس الوزراء عريضة تتضمن مطالب اقتصادية.
بيد ان كل هذه النشاطات لم تكن ذات طابع جماهيرى. وحتى مطلع عام 1967 لم تكن هناك بوادر تدل على ان النظام السعودي قد تعرض لخطر جدى يذكر من قبل المعارضة السرية. وكانت السلطات تعلن بين الحين والحين عن اعتقال افراد بتهمة القيام "بنشاط هدام" أو "الانتماء إلى منظمات سرية معادية للنظام". وفي كانون الاول (ديسمبر) 1965 اعلنت وزارة الداخلية عن اعتقال 65 شخصا بتهمة "النشاط الهدام", ووجهت ل34 شخصا تهمة "الانتماء إلى منظمة سرية انحرفت عن الصراط المستقيم, وترمى إلى الاخلال بأمن البلاد". وبعد ان سجل المتهمون اقرار تحريريا اعلنوا فيه انهم مذنبون وطلبوا العفو, اطلق الملك سراحهم ولكن حظر عليهم مزاولة وظائف حكومية, وابعد الاجانب منهم. وكانت هناك مجموعة ثانية تتألف من 31 شخصا اتهموا ب"الشيوعية" واتباع "المبادئ الهدامة". وحكم على 19 منهم بالحبس لمدد تتراوح بين 5و15 سنة.
في 9 كانون الثاني (يناير) 1967 اعلت عن القاء القبض على "مخربين مدربين", واتهموا بتنظيم تفجيرات في مؤسسات حكومية عديدة منها وزارة الدفاع ومبنى البعثة العسكرية الامريكية وقصور الامراء والقاعدة العسكرية القريبة من حدود اليمن. وزعم ان المخرين ليسوا من المواطنين السعوديين, بل انهم متسللون من جمهورية اليمن. وفي آذار (مارس) اعدم 17 منهم علنا في الرياض (بقطع رؤسهم) وطرد من البلد ما يزيد على 600 يمنى.
في كانون الاول (ديسمبر) 1966 انتقل الملك السابق سعود من اوروبا إلى القاهرة, سرعان ما غدا واضحا انه لم يفقد الامل في استعادة عرشه بمساعدة ... الرئيس عبد الناصر. ومن سخريات القدر ان سعود كان من الد خصوم الرئيس المصرى, وسبق ان اتهم بتنظيم مؤامرة لاغتيال عبد الناصر. وتحدث سعود في سلسلة مقابلات من اذاعة القاهرة سمى فيها فيصل ب"عميل للامبرايالية" واتهمه بأنه ... تحالف مع الاستعمار ضد اشقائه العرب. وقد اثارت تأكيدات سعود حول امله في العودة إلى البلد "بأي ثمن", تكهنات بأنه يخطط لتنظيم غزو عسكري للسعودية بمساعدة القبائل الموالية له.
في نيسان (ابريل) 1967 وصل سعود إلى صنعاء في زيارة استغرقت ثلاثة ايام. وقد رحب به عبد الله السلال باعتباره "الملك الشرعى" للسعودية. وبعد العدوان الاسرائيلى في حزيران (يونيو) 1967, الذي جرى اثره تقارب مصرى سعودى وتقرر وقف العمليات العسكرية في اليمن, توقفت حملة سعود وغادر إلى اوروبا في ايلول (سبتمبر). ولكنه عاد إلى مصر في تشرين الثانى (نوفمبر), إلا انه لا تتوفر معلومات عن نشاطه السياسي لحين وفاته في شباط (فبراير) 1969.
ابان حرب حزيران جرت في رأس تنورة والظهران مظاهرات معادية لاسرائيل وامريكا. وهاجم المتظاهرون في الظهران القنصلية الامريكية. وجرت اثر ذلك حملة اعتقالات, وتذكر بعض المصادر ان عدد ا من المعتقلين قد قتلوا. وطرد من البلد مئات الفلسطنيين. وفى اواخر حزيران (يونيو) نظم المستخدمون العرب فى ارامكو اضرابا جزيئا استمر بضعة ايام.
شهدت سنة 1968 انحسارا وقتيا في المعارضة الداخلية والخارجية للملك فيصل. وسحبت القوات المصرية من اليمن, وتخلت مصر عن دعم المعارضة داخل المملكة مقابل دعم مالى ومساعدات أخرى من السعودية. اثارت سياسة التغييرات التدريجية والحذرة التى اجراها الملك فيصل استياء داخل الاسرة الحاكمة, سواء لدى اولئك الذين اعتبروا التغييرات مغالية في اليبرالية والديناميكية, أو الذين اعتبروها بطيئة للغاية وغير حاسمة. وكان لكل وجهتى النظر هاتين انصار بين الامراء, مما أدى إلى احتكاكات مبعثها التنافس الشخصي. وحصل نوع من التوتر داخل العائلة المالة بسبب سوء صحة الملك فيصل والصراع الخفى على الارث السياسي المحتمل. وقد اجريت لفيصل عملية جراحية في جنيف في تشرين الاول (اكتوبر) عام 1970. وبديهي ان حالته الصحية اثارت المسألة التالية: أى من كتل الامراء ستكون لها الكلمة الفصل في حالة وفاة الملك أو اعتزاله. وأصبح الشخص الثالث في العائلة, بعد ولى العهد خالد, فهد بن عبد العزيز وهو من مجموعة قوية من الاشقاء المنتسبين إلى عائلة السديرى من جهة الأم.
عملت سراً في السعودية خلال الستينات ومطلع السبعينات بضع منظمات ديمقراطية ثورية هى جبهة الوطنى السعودية واتحاد شعب الجزيرة العربية, بالاضافة إلى المجموعات الجديدة مثل الحزب النجدى الثورى الذي اعلن عن اعتزامه النضال ضد "الطغمة الرجعية الحاكمة", والجبهة القومية الديمقراطية في العربية السعودية المكونة من بعثيين وناصريين سايقين. وكانت مراكز نشاط هذه القوى خارج المملكة, ومن المحتمل انه كان لها اعضاء نشطاء داخل البلد.
في الخامس من حزيران (يونيو) 1969 نظمت مجموعة كبيرة من الضباط السعوديين, وغالبيتهم من سلاح الطيران, محاولة انقلاب. وزعم ان الضباط كانوا يعتزمون اغتيال الملك فيصل واخاه قرب نجران. وفي 6 شباط (فبراير) بدأت تدريبات مشتركة للمظليين الامريكان والسعوديين قرب جدة, وشارك فيها مائة مظلى امريكى وصلوا من المانيا الغربية.
اتسع نطاق الحرب الاهلية في اليمن والنزاع السعودى المصرى. وقام السعوديون بتمويل الملكيين وتزويدهم بالاسلحة والذخائر والمؤن والمواد الطبية. وفي كانون الاول (ديسمبر) وصل تعداد القوات المصرية في اليمن إلى 13 الفا, وفي شباط (فبراير) 1963 بلغ عشرين الفا, كما اوفدت مصر إلى اليمن اطباء ومعلمين ومهندسين زراعيين وفنيين.
في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1962 وجه الرئيس الامريكى جون كندى رسائل إلى رئيس الوزراء السعودى فيصل والملك الاردنى حسين ورئيس الجمهورية العربية المتحدة عبد الناصر والرئيس اليمنى السلال, ضمنها تصوراته حولسبل حل نزاع اليمن. وقد تجاهل الرئيس الامريكى الامام وحاشيته. واقترح كندى على الجمهورية العربية المتحدة سحب قواتها المسلحة من اليمن, وفي المقابل اقترح على السعودية والاردن ومشايخ وسلاطين اتحاد جنوب الجزيرة (الذي شكله البريطانيون عوضا عن محميات جنوب اليمن), وقف المساعدات للملكيين. وفي اليوم نفسه اعلن فيصل عن رفضه اقتراح كندى. وفي اليوم التالى رفض الرئيس جمال عبد الناصر بدوره اقتراح كندى, اعلن انه لن يوافق على سحب القوات المصرية من اراضى اليمن إلا إذا زال الخطر الذي يهدد اليمن الجمهورى. ولم يوافق على مبادرة كندى إلا الرئيس اليمنى عبد الله السلال.
يبدو ان واشنطن اعتبرت قضية الملكيين ميؤوسا منها في خاتمة المطاف. وفي 14 كانون الاول (ديسمبر) 1962 اعلنت حكومة الجمهورية العربية اليمنية انها ستغلق السفارات والبعثات الدبلوماسية لجميع ابلدان التي تعترف بالجمهورية. وفي 19 كانون الاول اعلنت وزارة الخارجية الامريكية رسميا عن اعتراف الولايات المتحدة باليمن الجمهورى.
في اوائل عام 1963 خاض الجمهوريين اليمنيون المدعومين من قبل القوات المصرية معارك ضارية ضد الملكيين والمرتزقة المتسللين من السعودية ومحميات جنوب اليمن البريطتنية. وكانت وحدات الملكيين المشكلة بمساعد السعودية وبريطانيا جزئياً, تتآلف آنذاك من زهاء اربعين الف شخص, ولها قواعد تموين ومعسكرات على اراضى السعودية وجنوب اليمن. ورغم ذلك فقد تمكن المصريون والجمهوريون ف يشباط – آذار (فبراير – مارس) 1963 من تحرير مدينيتى مأرب وحريبفي شرق اليمن من الملكيين. بيد ان وحدات الملكيين كانت تتسلل باستمرار إلى اراضى اليمن عبر الجبال والصحارى. وكانت هناك مناطق في الجبال واقعة تحت سيطرة المتمردين التامة. وقد تحولت الحرب الاهلية داخل اليمن في الواقع إلى حرب بين الجمهورية العربية المتحدة والسعودية واستنزفت الطرفين.
يقول شميدت:" لو درسنا باهتمام فترة السنوات الاربع لوجدنا ان كلا من الطرفين بذل جهودا مستميتة للخروج من المأزق. وقام المصريون بأول هذه الجهود في شباط – آذار (فبراير – مارس) عام 1963 أثناء ما يسمى ب"هجوم رمضان", حينما تمكنوا من الاستيلاء على الجوف في شمال شرقى اليمن ومدينتى مأرب والحريب في الجزء الشرقى من البلد. وجاء الجهد الثانى, الذى قام به الملكيون, بعد فترة فصل القوات. ففى كانون الثانى – شباط (يناير – فبراير) 1964 تمكن الملكيون من ان يقطعوا لبضعة اسابيع الطريق بين صنعاء والحديدة وهو الشريان الرئيسى الذى يغذى الجيش المصرى .. أما الجهد الثالث فقد بذله المصريون في صيف العام ذاته بتحشيدهم قوات في الشمال الغربى, حيث جرت في آب – ايلول (اغسطس – سبتمبر) اكبر العمليات الهجومية وذلك في منطقة حرض. وكان هدف العملية يتمثل فى اغلاق الحدود مع السعودية واسر الامام او قتله. ولكن لم يتحقق اى من هذه الاهداف. وفى هذه الاثناء هيأ الملكيون في الشمال والشمال الشرقى الظروف لشن اكبر هجماتهم, وقاموا بالجهد الرابع خلال فترة السنوات الاربع. وبعد الانهيار التام لاتفاقية الاسكندرية بين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر, منى الجمهوريون بهزيمة ادت إلى عقد اتفاقية جدة في آب (اغسطس) 1965 وانسحاب المصريين من شمال وشرق اليمن".
في ربيع عام 1963 اتفقت الرياض والقاهرة على ضرورة انهاء العمليات الحربية في اراضى اليمن وفص القوات. وفي نيسان (ابريل) 1963 اتفقت الجمهورية العربية المتحدة والسعودية والجمهورية العربية اليمنية على السماح لمراقبين من هيئة الامم المتحدة بدخول اليمن. وفي تموز (يوليو) 1963 وصلت وحدات الامم المتحدة شمال اليمن واقامت نقاط سيطرة في عدد من المناطق. وقامت دوريات جوية وبرية من قوات الامم المتحدة بالكشف على مناطق الحدود غير ان مردود هذه العمليات كان ضئيلا للغاية.
في مطلع آذار (مارس) 1964 اتفق وفدان من مصر والسعودية على عقد لقاء بين رئيس الوزراء فيصل والرئيس عبد الناصر لوضع خطة ملموسة لانهاء الحرب في اليمن. وقد عين موعد اللقاء في نيسان (ابريل) ولكنه ارجئ بسبب احتدام الصراع على السلطة بين فيصل وسعود. واصرت الجمهورية العربية المتحدة على ان تعترف السعودية بالجمهورية العربية اليمنية وتكف عن مساعدة الملكيين اليمنيين, على ان يعقب ذلك انسحاب القوات المصرية من اليمن. ولكن السعودية ظلت تعترف بالامام البدر حاكما شرعيا لليمن, وتسوف في بدء المفاوضات الرسمية التى كانت لتعنى اعترافها بأنها طرف في النزاع اليمنى, واصرت على ان يتم اولا اعترافها بأنها طرف في النزاع اليمنى, واصرت على ان يتم اولا الانسحاب غير المشروط لجميع القوات الاجنبية (اى المصرية) من اليمن. ولم تدرج السعودية في عداد هذه القوات وحدات المرتزقة العاملة إلى جانب الملكيين, والتى لم تكن من الناحية الشكلية ضمن جيش اى من الدول. وفي هذا الظرف لم يعد هناك جدوى من عمل بعثة الامم المتحدة, المرابطة في اليمن من تموز (يوليو) 1963, فغادرت البعثة وقوات الامم المتحدة البلد في مطلع ايلول (سبتمبر) 1964.
كان ثمة خطر تحول النزاع في اليمن إلى حرب حقيقية بين الجمهورية العربية المتحدة والعربية السعودية. وقد نشرت صحيفة "النهار" البيروتيو في مطلع ايلول (سبتمبر) 1964 مقابلة مع فيصل قال فيها ان القوات المسلحة السعودية يمكن ان تدخل اراضى اليمن بطلب من الامام. وكان ذلك تهديدا سافرا, إلا ان السعودية لم تكن تمتلم القوات الكافية للقيام بمثل هذه العملية. ظل الموقف المصرى على حاله, ولكن تم خلال المفاوضات المصرية السعودية التي جرت في مؤتمر القمة العربي بالاسكندرية في ايلول (سبتمبر) 1964, الاتفاق على ان يتولى البلدان التوسط بين الجمهورين والملكيين لتسوية النزاع.
في 2 و3 تشرين الثانى (نوفمبر) 1964 عقد في مدينة اركويت بالسودان مؤتمر حضره ممثلون عن الجمهورية العربية اليمنية والملكيين, وتقرر خلاله وقف اطلاق النار ابتداء من تشرين الثانى 1964, بيد ان هذه الهدنة لم تدم اكثر من يومين. ادت العمليات الحربية الطويلة الامد في اليمن إلى خلق صعوبات كبيرة ليس للجمهورية العربية اليمنية فحسب, بل ولمصر والسعودية ايضا. وقد ازداد تعداد القوات المصرية الموجودة في اراضى اليمن من 3 الاف إلى خمسين الفا. وخلال الفترة الممتدة من تشرين الاول (اكتوبر) 1962 إلى ربيع عام 1965 فقدت مصر زهاء 15 الف قتيل في اليمن. كما قتل عشرات الآلاف من اليمنيين. وقد اتت الحرب على خزانة مصر وقوضت اقتصادها. ولم تنشر الحكومة السعودية معلومات عن نفقاتها ولكن من المؤكد انها انفقت مبالغ طائلة.
لقد بالغ عبد الناصر في تقدير قواه, بارساله قوات لمساعدة الجمهوريين. ويبدو انه اعتقد بأن العملية وسوف تستغرق بضعة اسابيع أو عدة أشهر على أكثر تقدير. وكانت النتائج المحتملة لهذه العمليات تبدو له جديرة بالجهود : طرد البريطانيين من جنوب اليمن, بما فيه عدن, والانفجار الثورى في السعودية الذى يمكن ان يؤدى إلى قيام نظام ديمقراطى ثورى صديق له في هذا البلد الغنى بالنفط, والضغط على مواقع الغرب في حوض الخليج. ولكن امد الحرب طال. ولم يكن المجتمع اليمنى مهيئا بعد للتغيرات الثورية العميقة التى بدأت في البلد. وكان للملكيين مواقع قوية داخل اليمن ودعم كبير الخارج. كما ان الجنود المصريين, من ابناء الفلاحين الذين تربوا في وادى النيل وحوضه, لم يكونوا مكيفين بالشكل المطلوب لخوض عمليات في الجبال والصحارى. وقد ازداد تعداد القوات المصرية إلى 60 -70 الفا عام 1967.
بيد ان كلا من مصر والسعودية كان يربط بمصير اليمن حسابات تتعدى حدود اليمن وحتى الجزيرة العربية كلها. صارت القضية اليمنية من البنود الاساسية لمجمل السياسة العربية لكل من البلدين. ابتداء من اواخر عام 1964 استغلت الجمهورية العربية المتحدة نجاحاتها العسكرية المؤقتة في اليمن فاتخذت موقفا اكثر تشددا ازاء السعودية. وبدأت ترتسم معالم نزعة ازدياد دور القيادة المصرية في ادارة شؤون الدولة في الجمورية العربية اليمنية.
في اواخر حزيران (يونيو) 1965 اشار عبد الناصر إلى انه اذا لم تسفر المفاوضات السعودية المصرية عن نتائج ملموسة فان مصر سوف تضطر إلى تصفية بؤر العدوان بالقوة. واثيرت في الجمهورية العربية اليمنية مسألة الاراضى التى صارت جزءا من السعودية, وهى عسير (منطقة جيزان) ونجران. وسعت الصحف المصرية للبرهنة على عائدية هذه الاراضى لليمن.
ضعفت مواقف مصر في الجمهورية العربية اليمنية إلى حد كبير في اوساط عام 1965. واخذ يتزايد في المعسكر الجمهورى نفوذ الجناح المحافظ ذى الميول المناوئة لمصر, والمعتمد على شيوخ القبائل وعلماء الدين وبعض فئات التجار. ولم تتحقق آمال زعماء مصر في حدوث تعقيدات في الوضع السياسى الداخلى للسعودية. وفي اليمن بدأ الملكيون الذين سلحتهم السعودية وايران يهاجمون, بينما كان الجمهوريون والمصريون يسلمون موقعا اثر آخر .
هكذا كانت الاوضاع في لحظة انعقاد لقاء الرئيس عبد الناصر بالملك فيصل في جدة في 22 آب (اغسطس) 1965, والذى تكلل في 24 من الشهر بعقد اول اتفاقية مصرية سعودية تهدف إلى تسوية النزاع في اليمن. ولم يشارك في المفاوضات الجمهوريون ولا الملكيون.
نصت اتفاقية جدة لعام 1965 على منح الشعب اليمنى حق البت في مسألة نظام الدولة عن طريق استفتاء شعبى على ان يجرى في موعد اقصاه 23 تشرين الثانى (نوفمبر) 1966, وعقد مؤتمر لجميع القوى الوطنية والساسة المتنفذين في اليمن وذلك يوم 23 تشرين الثانى (نوفمبر) 1965 في مدينة حرض لصياغة قرار حول نظام الحكم للفترة الانتقالية السابقة للاستفتاء العام, وتشكيل حكومة مؤقتة لادارة شؤون البلد اثناء الفترة الانتقالية, وتحديد طابع الاستفتاء, وتكليف السعودية ومصر مسؤولية الاشراف على تنفيذ مقررات المؤتمر. وكان ينبغى على السعودية ان توقف فورا المساعدات العسكرية للملكيين اليمنيين, وتمنع استخدام اراضيها لشن عمليات عسكرية ضد اليمن الجمهورى. والتزمت مصر بسحب قواتها المسلحة من اراضى اليمن خلال عشرة اشهر ابتداء من 23 تشرين الثانى (نوفمبر) 1965. وتقرر ايقاف العمليات الحربية في اليمن وتشكيل لجنة مشتركة للتسوية السلمية من ممثلى البلدين.
لقد بين مؤتمر جدة ان كلا من مصر والسعودية كان على استعداد لتقديم تنازلات للطرف الاخر لتحريك قضية حقن الدماء في اليمن. ويبدو انه تم في جدة التوصل إلى اتفاق حول عزل الرئيس اليمنى عبد السلال والامام البدر عن الحياة السياسية لفترة طويلة. ومما يؤكد هذه التوقعات ان السلال غادر إلى القاهرة والبدر إلى الطائف فور عقد الاتفاقية. وقد افتتح مؤتمر حرض في 23 تشرين (نوفمبر) عام 1965. ومنذ اواخر عام 1965 بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا ببيع السعودية كميات كبيرة من الاسلحة والطائرات النفاثة, الامر الذى اعتبره عبد الناصر عملا معاديا لمصر.
في اوائل آذار (مارس) 1966 استأنف الملكيون العمليات الحربية, فانهوا بذلك الهدنة التى تم الاتفاق عليها في جدة. ولم تكن العمليات العسكرية لمصر والجمهوريين موفقة, فاصبحوا محصورين في مثلث صنعاء – تعز – الحديدة.
في 22 آذار (كارس) 1966 اعلن عبد الناصر عن نيته ابقاء القوات المصرية في اليمن حتى يتعزز الجيش الجمهورى إلى حد يؤهله للدفاع عن بلده. وفي ايار (مايو) 1966 اكد عبد الناصر مجددا ان الجمهورية العربية المتحدة لن تقتصر على ضرب القواعد التى تستخدم ضد اليمن في نجران وجيزان, بل وستحتلها إذا واصلت السعودية عملياتها العدوانية ضد الجمهورية اليمينية.
قام الملك فيصل بزيارة رسمية للولايات المتحد لمدة ثلاثة ايام ابتدأت في 21 حزيران (يونيو) 1966. وعند حلول صيف 1966 كانت الاوساط الحاكمة في السعودية قد تمكنت من تحسين علاقاتها مع عدد من الانظمة الملكية في العالم الاسلامى, وعقد اتفاقيات حول استلام اسلحة واعتدة بريطانية وامريكية. تفاقمت الخلافات داخل الجمهورية العربية اليمنية, وفي آب (اغسطس) 1966 حاول رئيس وزارئها العمرى الحيلولة دون عودة السلال من القاهرة التى كان قد مضى فيها عشرة أشهر. وقد قمعت حركة العمرى وعاد السلال إلى السلطة.
ظلت العلاقات السعودية المصرية فى اوج التوتر. وفي 9 شباط (فبراير) 1967 اغلقت الحكومة السعودية فروع "بنك القاهرة" وبنك "مصر" في جدة. واصدرت الحكومة المصرية بدورها مرسوما يقضى بمصادرة كل الاموال المنقولة للملك فيصل وافراد الاسرة الحاكمة في مكصر. ووضع الحجز على اموال 40 شركة سعودية و 31 من رعايا السعودية . نهاية المجابهة مع مصر. احدث العدوان الاسرائيلى في حزيران (يونيو) 1967 وهزيمة مصر تغييرا جذريا في الوضع داخل اليمن. فقد بدأت مصر منذ 12 حزيران سحب قواتها المسلحة – 15 الف شخص و 150 دبابة وكل المدفعية الثقيلة – من هناك .
وفي ظروف التنامى المنقطع النظير لمشاعر العداء لاسرائيل في العالم العربى, اضطرت الاوساط السعودية الحاكمة إلى التضامن مع مصر بوصفها ضحية للعدوان الاسرائيلى, وذلك رغبة منها في الحفاظ على سمعتها في العالم العربى والاحتفاظ بالسلطة داخل البلد. وفي 31 آب (اغسطس) 1967, واثناء انعقاد مؤتمر القمة العربى في الخرطوم, وقع الرئيس عبد الناصر والملك فيصل اتفاقية حول التسوية السلمية في اليمن. ونصت الاتفاقية على ان تسحب مصر كل قواتها من اليمن خلال ثلاثة اشهر, وتعهدت السعودية بوقف المساعدات للملكيين.
وفي مؤتمر الخرطوم قطعت الكويت والسعودية وليبيا وعدا بأن تقدم لمصر والاردن اللتين تضررتا أكثر من غيرهما نتيجة للعدوان الاسرائيلى, مساعدة سنوية مقدارها 135مليون جنية استرلينى, خصص 95 مليونا منها لمصر و40 مليون للاردن. وتعهدت الكويت بدفع 55 مليون استرلينى والسعودية بدفع 50 مليونا وليبيا 30 مليونا (107). غير ان السعودية حذرت من انها لن تنفذ وعدها الا بعد انجاز انسحاب القوات المصرية من اليمن. في العاشر من تشرين الاول (اكتوبر) 1967 اعلن ان القوات المصرية قد سحبت كلها تقريبا من صنعاء, وان آخر وحدة سوف تغادر الحديدة في 9 كانون الاول (ديسمبر) 1967.
وضع انسحاب القوات المصرية الجمهورية العربية اليمينية في موقف صعب لان السعودية واصلت تقديم عون كبير للملكيين, بما في ذلك تدريب التشكيلات العسكرية للقبائل التي تؤازرهم داخل اراضيهم. وكانت اتفاقية الخرطوم التي وقعتها مصر بعد العدوان الاسرائيلى تعنى حل القضية وفق الشروط التي املتها السعودية عمليا. وادى انسحاب القوات المصرية إلى تعقيد اوضاع الجمهوريين, وبخاصوا الجناح اليسارى التقدمى. وادى ذلك بدوره إلى تزايد نشاط الملكيين المستندين إلى دعم السعودية التى واصلت نهج خنق الثورة اليمنية . العلاقات بين السعودية والجمهورية العربية اليمنية واليمن الجنوبى (1967-1973). اثر توقيع اتفاقية الخرطوم جرى فى الجمهورية العربية اليمينة انعطاف حاد إلى اليمن. فى الاول من تشرين الثانى (نوفمبر) 1967 غادر السال إلى بغداد. وفى ليلة الخامس من الشهر بسطت القوى اليمنية سيطرتها على صنعاء والمدن الاخرى. وكان مصير السلال قد تقرر بانسحاب القوات المصرية من اليمن.
تسلمت مقاليد السلطة في البلد فئة اقطاعية وعشائرية تسعى للتعاون مع السعودية والدول الامبرالية. وفي 8 تشرين الثاني 0نوفمبر) 1967 اعلن رئيس الوزراء الجديد العينى ان حكومته موافقة على التفاوض مع ممثلى الملكييين, بمن فيها عائلة الامام, بشرط الابقاء على النظام الجمهورى. وكان مصير سلالة حميد الدين هو الاشكال المستعصى بين الملكيين والزعماء الجدد في الجمهورية العربية اليمنية.
انتقل الملكيون إلى الهجوم وطوقوا صنعاء. ولما ادرك الجمهوريين ان المسألة صارت مسألة حياة أو موت, شرعوا مطلع كانون الاول 0ديسمبر) بتشكيل فصائل المقاومة الشعبية من الطلاب والموظفين والعمال والحرفيين والتجار. وبلغ عدد المتطوعين عشرين الفا فصاروا ركيزة في الداخل الامر الذى سمح للجيش بتركيز جهوده على الجبهات, كما رفد بوحدات من المتطوعيت. استمر حصار صنعاء سبعين يوما, وزاد الجمهوريون عن العاصمة وابعدوا الملكيين عنها وانتقلوا إلى الهجوم.
ابتداء من شباط (فبراير) 1969 لم تعد السعودية تصر على عودة الامام البدر إلى اليمن. وغدت مسألة مصير عائلة حميد الدين العقبة الرئيسية, أو الوحيدة على الاصح, في طريق تسوية النزاع اليمنى وفق شروط ترتضيها السعودية. وقد حدث تغير حاد إلى الاسوأ في موقف الاوساط الحكومية السعودية من عائلة الامام, وذلك بسبب التغيرات التى جرت داخل معسكر الجمهوريين.
قام رئيس الوزراء العمرى بحل فصائل المقاومة الشعبية التى زادت عن صنعاء في شتاء 1967-1968 وضعت أكثر الجمهوريين ثباتا, وفي آيار (مايو) 1968 قام رجال القبائل بتجريد الفصائل من السلاح. وقد قمعت محاولة الانقلاب التى قام بها الجمهوريون اليساريون, ونفى قائدها العسكرى عبد الوهاب عبد الرقيب الذى قاد عملية الدفاع عن صنعاء طوال سبعين يوما. وفي كانون الثانى (يناير) عام 1969 عاد عبد الرقيب إلى صنعاء وقام بمحاولة فاشلة أخرى لإزاحة العمرى من منصب رئيس الوزراء, وقتل. لقد اوقف اليمنيون في الجمهورية العربية اليمنية التطور الثورى في البلد. واصبح النظام الجمهورى المحافظ هناك خصما لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية, الامر الذى كان من مصلحة فيصل, فقرر التخلى عن محاولات اعادة نظام الامامة, وقلص المخصصات التى تمنح لعائلة حميد الدين.
توقفت العمليات الحربية في شمال اليمن في اوساط نيسان (ابريل) 1970. ونصت اتفاقية وقعتها السعودية والجمهورية العربية اليمنية في الشهر المذكور على تخلى الحكومة اليمنية عن العديد من منجزات الثورة. وبدأ "تطهير" الجيش وهيئات امن الدولة في اليمن من العناصر اليسارية, وعاد من السعودية الكثير من الملكيين الذين تبوأ عدد منهم مناصب في هيئات السلطة العليا.
في 23 تموز (يوليو) 1970 اعترفت السعودية رسميا بالجمهورية العربية اليمنية. واعقب ذلك اعتراف بريطانيا بها في 29 من الشهر ذاته. وفي مطلع آذار (مارس) 1971 وقعت الجمهورية العربية اليمنية والسعودية اتفاقية حول الدفاع المشترك. قام رئيس وزراء الجمهورية العربية اليمنية الحجرى بزيارة إلى الرياض في آذار (مارس) عام 1973. ونص بلاغ سعودى يمنى مشترك صدر في آذار على ان الحدود بين البلدين "ثابتة ونهائية" رغم ان معاهدة الطائف المعقودة في آذار (مارس) 1934 بين الملك ابن سعود والامام يحيى قد ذكرت ان اليمن وافق على وضع عسير ونجران وجيزان "تحت اشراف" السعودية. وكانت فترة المعاهدة 20 سنة, وفي عام 1953 وافق الامام احمد على تمديد مفعولها لعشرين سنة اخرى. وهكذا فعندما دنا عام 1973 موعد انتهاء مفعول المعاهدة, حصلت السعودية على تنازل هام جداً من الجمهورية العربية اليمنية, بحملها على الاعتراف بأن عسير ونجران وجيزان قد اصبحت من اراضى السعودية بشكل نهائى.
ظل النفوذ السعودى هو السائد في الالجمهورية العربية اليمنية خلال السبعينات. وادى التقارب مع الرياض إلى تحسين علاقات اليمن الشمالى بالولايات المتحدة وبريطانيا والمانيا الغربية, وإلى اضعاف روابط التعاون مع البلدان الاشتراكية.
كان اهتمام السعودية في منطقة جنوب الجزيرة متركزا في الاساس على اليمن الشمالى في الستينات. ولكن الامور تغيرت بحصول اليمن الجنوبى علىالاستقلال عام 1967. وبما ان العائلة الحاكمة السعودية اعتبرت شبه الجزيرة بأكمله دائرة لنفوذها, فقد كانت راغبة في المساهمة في اقتسام التركة الاستعمارية البريطانية, خاصة وان بريطانيا لم تعارض توطد النفوذ السعودى في مستعمراتها السابقة. ورأت الاوساط البريطانية الحاكمة في النظام الملكى السعودى خير حليف لها في سبه الجزيرة. لايستبعد ان تكون الرياض قد خططت لانشاء اتحاد تابع للسعودية عوضا عن محميات عدن الشرقية, بل ولعلها كانت ترغب حتى في ايجاد منفذ مباشر للمملكة إلى المحيط الهندى. كما كان من المزمع ان تقدم السعودية مساعدة مالية لاتحاد جنوب الجزيرة المكون اساساً من امارات محمية عدن الغربية التى كان الحكام البريطانيون يعتزمون ان يسلموا حكومتها مقاليد السلطة بعد انسحابهم من جنوب اليمن.
ابان المرحلة الاخيرة, حينما تضافر النضال في سبيل الاستقلال الوطنى مع النضال في سبيل التحولات الاجتماعية, اضطر الكثير من الاقطاعيين إلى الهرب إلى السعودية حتى قبل اعلان استقلال اليمن الجنوبى. وتسلمت مقاليد السلطة في جنوب اليمن الجبهة القومية وهى منظمة ديمقراطية ثورية. أما رابطة الجنوب العربى وهى المنظمة السياسية للاقطاعيين, فقد اعتبرت غير شرعية, ونقلت نشاطها بأكمله تقريباً إلى السعودية. وكانت وكانت هناك منظمة اخرى مالت تدريجيا إلى السعودية, وهى جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل, وانتقلت إلى الجمهورية العربية اليمنية حيث اتخذت من تعز مقرا لها.
استغلت السعودية المصاعب الاقتصادية لجنوب اليمن والخلافات داخل الجبهة القومية واستياء القوى اليمنية, لافتعال عصيانات ضد الحكومة. وفي صيف 1968 حدثت حركات عصيان في حضرموت وبيجان ومناطق اخرى. واشتد التدخل السعودى اثر 22 حزيران (يونيو) 1969, بعد ان تسلم مقاليد السلطة في جنوب اليمن الجناح اليسارى للجبهة القومية الذى سار بالبلد ف يطريق التحولات الاجتماعية السياسية العميقة.
في 27 تشرين الثانى 0نوفمبر) 1969 هاجمت وحدات من الجيش النظامى السعودى نقطة الوادى فى حضرموت على الحدود بين السعودية وجنوب اليمن. وقد صدت القوات المسلحة في اليمن الجنوبى الهجوم وردت السعوديين على اعقابهم, غير ان اشتباكات الحدود استمرت. ساهمت السعودية في انشاء ما يسمى ب"الجيش الانقاذ الوطنى" من الماعرضين الذين فروا من اليمن الجنوبى, على اراضيها المتاخمة لحدود هذا البلد. وجرت محاربة حكومة الجبهة القومية تحت شعار "انقاذ البلد من نفوذ الشيوعية الحمراء". وفي 25 شباط (فبراير) 1971 اتحدت جبهة تحرير جنوب اليمن ورابطة الجنوب العربى فشكلتا منظمة القوى الوطنية لجنوب اليمن وانبثقت عنها "لجنة انقاذ جنوب اليمن" التى قامت صلات مع "جيش الانقاذ الوطنى". وكانت هذه المنظمات تمول من قبل السعودية وتحظى بمساندة سلطات الجمهورية العربية اليمنية. وقد تحولت فصائلها المسلحة إلى مرتزقة للسعودية مرارا إلى اراضى جنوب اليمن في سنتى 1971 و 1972.
انعقد فى آذار (مارس) عام 1972 المؤتمر الخامس للجبهة القومية للدولة – وانبثق عن المؤتمر التنظيم السياسى – الجبهة القومية. واعلن عن سعى التنظيم للاستناد فى نشاطه إلى مبادئ الاشتراكية العلمية وتشكيل حزب طليعى من طراز جديدز وصار عداء السعودية لليمن الجنوبى يتخذ صبغة ايدولوجية واضحة المعالم. جرت في ايلول (سبتمبر) 1972 حرب حدود واسعة النطاق بين اليمنين, ولكن البلدين اتفقا على انهاء العمليات الحربية في 29 تشرين الاول (اكتوبر), أى بعد شهر تقريبا من بدئها. وحينما تيقنت السعودية من استحالة اسقاط النظام الوطنى اليمقراطى في جنوب اليمن بالقوة, اقامت معه علاقات دبلوماسية, ولكنها لم تحد عن مواقع العداء لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العلاقات السعودية البريطانية في الستينات وطلع السبعينات
في كانون الثانى (يناير) 1963 وافقت السعودية على احالة قضية البريمى إلى الامم المتحدة واستأنفت العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا. وقد ارغمت الرياض ولندن على قبول بحلول وسط بفعل ثورة اليمن عام 1962 وتنامى حركة التحرر الوطنى في شبه الجزيرة العربية باكمله.كما اخذ يتغير طابع العلاقات البريطانية الامريكية في شبه الجزيرة العربية. وصار التعاون يحل تدريجيا محل المقاومة الامريكية لمحاولات بريطانيا استعادة مواقعها في السعودية.
وفي ديسمبر 1965 عقدت الولايات المتحدة وبريطانيا اتفاقية مع السعودية التزمت بموجبها بريطانيا بتصدير طائرات نفاثة واجهزة رادار ومعدات عسكرية اخرى إلى المملكة, بلغت قيمتها الاجمالية 280 مليون دولار, بينما التزمت الولايات المتحدة بتصدير صواريخ "ارض-جو" بمبلغ 70 ملون دولار. وخطط لاقامة صواريخ في عدة نقاط على الحدود مع الجمهورية العربية اليمنية. وقد يبدو للوهلة الاولى ان احتكارات الصناعة الحربية البريطانية انتزعت من منافسيها الامريكان صفقة مربحة للغاية. اما في الواقع فقد كان ذلك"اتفاق احباب" يقضى بان تشترى بريطانيا من الولايات المتحدة طائرات احدث, وتسدد قيمتها بالاموال التى كسبتها من بيع معدات حربية إلى السعودية. قام الملك فيصل بزيارة لبريطانيا في ايار (مايو) 1967, وكان ذلك دليلا على حدوث تحسن محسوس في العلاقات بين البلدين.
وبعد ان بدأت بريطانيا بتصدير طائرات حربية من طراز "لاريتنينغ" عام 1966, اخذت تعد الكوادر لسلاح الطيران السعودى. واوفد إلى السعودية اكثر من الف مدرب بريطانى, بينما قبل سعوديون في المعاهد الحربية البريطانية. وابتداء من عام 1963 استأنف البريطانيون تدريب الحرس الوطنى. واشترت المملكة في الستينات والسبعينات 25 مقاتلة نفاثة بريطانية الصنع من طراز "سترايك ماستر", ووقعت عام 1970 صفقة عسكرية اخرى تنص على شراء معدات للدفاع الجوى من بريطانيا.
في مطلع ايار (مايو) 1973 وقعت الرياض ولندن صفقة قيمتها 250 مليون جنية استرلينى لشراء اصناف جديدة من الاسلحة وطائرات وصواريخ. وتعهد البريطانيون بارسال الطائرات وايفاد زهاء الفين والمستشارين والمدربين. وقد تدرب على يد البريطانيين آنذاك منتسبو سلاح الطيران السعودى ابتداء من الطيارين الذين تلقوا تعليمهم في المدرسة العليا بالرياض وانتهاء بالفنيين الشباب من معهد الاعداد الفنى في الظهران.
غير ان الوفاق البريطانى الامريكى في مجال تصدير الاسلحة لم يدم امدا طويلا. ففى السبعينات صارت سوق السلاح السعودية المغرية مسرح تنافس ضار بين احتكارات الصناعة الحربية الامريكية والبريطانية. قضايا الخليج. شهدت فترة الستينات ومطلع السبعينات تزايدا حادا في نشاط الدبلوماسية السعودية في بلدان حوض الخليج, وخاصة في امارات الجزيرة. وكان لذلك عدة اسباب. ففى تلك الفترة تعاظم دور ايران الشاهنشاهية وجبروتها ونفوذها, وكانت السياسة السعودية ازاءها تقوم على الجمع المعقد بين التعاون والتنافس. وقد حددت بريطانيا خطة لجلاء قواتها من منطقة الخليج وشرعت بتنفيذها. وفي هذه المرة ايضا كانت السعودية من الطامعين ب"التركة البريطانية" مع مراعاة المخططات الاستراتيجية الامريكية التى كانت تفرد لحوض الخليج اهمية متعاظمة.
يقول السفير الامريكى السابق في السعودية ساليفان:"ان السعودية كانت تعتبر, بشكل غير مباشر, ان كل الدول المتاخمة لها, باستثناء العراق, هى ضمن دائرة نفوذها. ولئن كانت تحجم في الفترة الاولى عن التدخل في النزاعات الجارية خارج هذه الحدود, فذلك لانها لم يكن بوسعها المساس بالمصالح الحيوية الهامة للسعودية".
جرى في اوساط الستينات تقارب بين السعودية وايران بوصفهما نظامين ملكيين لهما مصلحة في قمع حركة التحرر الوطنى في الشرقين الاوسط والادنى عامة, وفي حوض الخليج خاصة, لمجابهة مصر التى كانت آنذاك قائد السياسة المناوئة للامبريالية ورائد التحولات الاجتماعية الاقتصادية. وقدم العاهلان, بدرجات متفاوتة, دعما للملكيين في اليمن. وفي عام 1965 ايد الشاه فكرة "الحلف الاسلامى" التى طرحها فيصل. وتضافرت جهود الرياض وطهران في المساعدة على احداث انعطاف جذرى في سياسة مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر. وحتى بداية السبعينات صار لاتفاق طهران والرياض في اطار الاوبك الكلمة الفصل, اذ كانت حصتهما من صادرات النفط الاجمالية تربو على النصف. ورغم ان الشاه اتخذ, قولا, موقفا اكثر تشددا في مجال الاسعار, الا ان العاهلين كانا يجدان الحلول الوسط, وتزعما معسكر "المعتدلين" في اوبك.
اما في حوض الخليج فان السعودية, التى كانت قدرتها العسكرية تقل خمس مرات أو أكثر عن القدرة الايرانية, ظلت تنظر بكثير من الخوف لخطط ونشاطات طهران "الامبراطورية", ولكنها لم تصل بالامور قط إلى حد النزاع أو الاشتباك. وكان حكام الول الصغيرة المطلة على الخليج في الجزيرة العربية يناورون بين جارتيهم القويتين.
في كانون الثاني (يناير) 1968 قررت حكومة حزب العمال البريطانية ابطال مفعول المعاهدات المعقودة حول محميات البحرين وقطر وامارات ساحل الصلح البحرى السبع (ابو ظبى وعجمان ودبى والفجيرة ورأس الخيمة والشارقة وام القيورين) وسحب جزء كبير من قواتها من هناك. وفي اول آذار (مارس) 1971 اعلنت حكومة المحافظين التى استلمت مقاليد الحكم في حزيران (يونيو) 1970, ان الجلاء سوف ينجز قبل نهاية عام 1970.
اتخذت لندن هذا القرار واخذت تبحث بنشاط عن فرص للحفاظ على نفوذها الاقتصادى والسياسى في المنطقة. ولهذا الغرض طرحت خطة انشاء اتحاد من الامارات التسع التى كانت خاضعة للحماية البريطانية. بيد ان ايران عارضت انضمام البحرين إلى الاتحاد العربى, واعلنت انها تعتبرها جزءا من اراضيها. وكانت للملك فيصل علاقات ودية مع امير البحرين ورفض مطامع ايران في الامارة. كما كانت ايران والسعودية على خلاف في قضايا اخرى. وذكرت مجلة "ايكونومست" البريطانية ان شاه ايران حاول استمالة الملك فيصل إلى اتباع سياسة موحدة على نحو اوسع نطاقا في منطقة الخليج, بما في ذلك اقامة تعاون عسكرى يجعل السعودية في وضع تابع لايران. وقد آثر فيصل, بسبب ضعفه عسكريا, استثمار المساعدة المالية كوسيلة لتعزيز النفوذ السعودى في الامارات الصغيرة بشبه الجزيرة.
واتفق فيصل مع الشاه في مفاوضات عام 1968 على تدقيق حدود الجرف القارى. وفى 24 تشرين الاول (اكتوبر) عام 1968 وقعت السعودية وايران اتفاقيات بهذا الخصوص.
اعلن شاه ايران في ربيع عام 1971 ان بلاده تتحمل مسؤولية الدفاع عن الخليج بعد انسحاب البريطانيين من هناك (129). واعتزمت ايران تثبيت سيطرتها على الخليج عسكريا دون اقامة اعتبار لرأى العرب. اخفقت فكرة انشاء اتحاد من تسع امارات. فقد سعى اميرا البحرين وقطر إلى الاستقلال, كما ان الحكومة الايرانية عارضت عمليا انشاء اتحاد "الامارات التسع". لذا قررت بريطانيا تأسيس دولة جديدة تضم امارات ساحل الصلح السبع, حيث كانت الكلمة الاولى لشيخ ابوظبى زايد الذى خاصم السعودية بسبب النزاع على البريمى.
في 14 آب (اغسطس) 1971 اعلنت البحرين استقلالها, واعقبتها قطر في 1 ايلول (سبتمبر) من العام نفسه, ورفض البلدان الانضمام إلى الاتحاد. وارغم ذلك السعودية على البحث عن حل وسط مع ابوظبى لتسوية النزاع على البريمى. بعد اعلان استقلال البحرين, تخلت ايران شكليا عن مطامعها في هذه الامارة. لذا خفت حدة الخلافات بين الشاه والملك فيصل. غير ان خطط ايران في منطقة الخليج لم تقتصر على البحرين.
في تشرين الثانى (نوفمبر) 1971 عقدت اتفاقية بين ايران وامارة الشارقة ملكت ايران عمليا جزرة ابو موسى التى ظلت من الناحية الشكلية جزءا من الامارة. وحصلت ايران على حق اقامة قاعدة عسكرية في الجزيرة على ان تدفع مقابل ذلك لشيخ الشارقة 1.5 مليون جنية استرلينى سنويا, ويستمر الدفع لحين بلوغ دخل الشيخ من النفط 3 ملايين جنية استرلينى سنويا.
وقد اخفقت محاولات ايران لحمل شيخ رأس الخيمة على التخلى عن حقوقه في جزيرتى الطمب الكبرى والطمب الصغرى الهامتين استراتيجيا والواقعتين في مضيق هرمز عند مدخل الخليج. ولكن حينما اعلنت بريطانيا في 30 تشرين الثانى (نوفمبر) 1971 انها لم تعد تتخمل مسؤولة الدفاع عن امارات ساحل الصلح البحرى, ادخلت ايران قواتها إلى هاتين الجزيرتين, كما هى الحال بالنسبة لجزيرة ابو موسى ويبدو ان طهران ولندن توصلتا إلى اتفاق حيال هذه العمليات. وانتقاما من بريطانيا لمساندتها ايران في احتلال الجزر, اممت ليبيا ممتلكات "شركة النفط البريطانية" وسحبت ودعائها من البنوك البريطانية. واتهم العراق بريطانيا وايران بالتواطؤ وقطع العلاقات الدبلوماسية معهما. كما نددت الكويت وسورية باحتلال ايران الجزر. وفى الاول من كانون الاول (ديسمبر) 1971 طالبت مصر بسحب القوات الايرانية من الجزر الثلاث, ولكنها لم تمضى ابعد من ذلك (131).
لقد كلن الاستيلاء على الجزر الثلاث ضربة لمصالح السعودية لانه عزز إلى حد كبير مواقع ايران, ولكن السعودية لم تشجب رسميا سياسة الشاه التوسعية. ويمكن التكهن بان السعودية كانت تشعر بانها لا تمتلك ما يكفى من القوة للدخول في مجابهة صريحة مع ايران. في الثانى من كانون الاول (ديسمبر) 1971 اعلن عن انبثاق دولة الامارات العربية المتحدة من ابو ظبى ودبى والشارقة والفجيرة وعجمان وام القيوين, ثم انضمت إليها رأس الخيمة. وعقدت بريطانيا معاهدة صداقة جديدة مع الامارات. وصار زايد شيخ ابو ظبى رئيسا للاتحاد واصبح حاكم دبى الشيخ راشد نائبا للرئيس.
لم تقم السعودية طوال سنوات علاقات دبلوماسية رسمية مع دولة الامارات بسبب خلافها على الاراضى مممع ابو ظبى وهو العضو الاكثر نفوذا في الدولة. بيد ان ذلك لم يمنع من اتخاذ السعودية مقفا متعاطفا ازاء الامارات. وايد فيصل دولة الامارات العربية المتحدة عند انتمائها إلى هيئة الامم المتحدة وجامعة الدول العربية. وجرت مفاوضات غير رسمية حثيثة بين السعودية والدولة الجديدة وسائر بلدان شبه الجزيرة العربية. وحاولت الحكومة السعودية إلا تعطى المبادرة السياسية لايران التى اعترفت بدولة الامارات العربية المتحدة منذ تشرين الاول (اكتوبر) 1972.
اقام فيصل علاقات دبلوماسية مع سلطنة عمان بعد الزيارة التى قام بها السلطان قابوس إلى السعودية في 14 كانون الاول (ديسمبر) 1971. وبعد مرور فترة من الزمن – في تشرين الاول (اكتوبر) 1974 – سوت السعودية خلافها مع ابو ظبى حول عائدية منطقة اللواء وواحة البريمى, مما مهد الطريق لاعتراف الرياض بدولة الامارات العربية المتحدة.
صار للسعودية نفوذ كبير في الدولة الجديدة, وبدأت تقدم عونا ماليا كبيرا للامارات غير النفطية. واعتمد عدد من الامارات على السعودية, في محاولة لمنع التنامى الخطير للنفوذ الايرانى. سعى كل من فيصل والشاه, رغم تناقضاتهما, لقمع الحركة التحررية لشعوب الخليج. ورغم ان السعودية كانت مهتمة في تعزيز نفوذها في عمان ذات الموقع الاستراتيجى الهام والتى تجمعها بها حدود مشتركة, فان فيصل ابدى تحفظا عندما طلب منه السلطان قابوس العون حينما بلغت حركة التحرر في ظفار اوجها. ولم يكن التدخل السافر في شؤون عمان متماشيا مع طابع سياسة فيصل. ولكن من جهة اخرى تغاضت الحكومة السعودية عمليا عن التدخل الايرانى ف يعمان. ومنذ نيسان (ابريل) عام 1973 بأت هليكوبترات ووحدات برية ايرانية تشارك مشاركة فعالة في المعارك على اراضى ظفار. وبعد ذلك نقلت إلى عمان تشكيلة عسكرية ايرانية كاملة قوامها بضعة آلاف شخص. استمرت العمليات العسكرية للقوات الايرانية بضع سنوات. وقد توقفت الجبهة الشعبية لتحرير عمان عن الكفاح المسلح عمليا. وقد شجبت الحكومة السعودية بعبارات غامضة تصرفات ايران وعارضت "التدخل الاجنبى" في السلطنة, موجهة عمليا ليس ضد الغزو الايرانى, بل ضد القوى التى ساعدت الجبهة الشعبية لتحرير عمان .
السعودية في الشؤون العربية من مؤتمر الخرطوم عام 1967 حتى حرب اكتوبر عام 1973
تم خلال مؤتمر الخرطوم وضع واقرار مبادئ تنسيق الدول العربية, وخاصة فيما يخص التسوية ف يالشرق الاوسط. وضعت في الخرطوم صيغة اللاءات الثلاث المعروفة المعبرة عن الموقف العربى المشترك حيال اسرائيل "لا صلح, لا مفاوضات مباشرة, لا اعتراف", والتى تمسكت بها طوال سنوات جميع الدول العربية بما فيها مصر والسعودية. اسأنفت السعودية العلاقات الدوية شكليا مع مصر عبد الناصر, بعد تقديم تنازلات ملموسة من قبل القاهرة. ولم يعد تناسب القوى كما كان فى اواسط الخمسينات. واخذت السعودية تتحول من بلد غارق في الديون إلى مصدر للرساميل ومعين لتقديم المساعدة المالية لدول المجابهة العربية. وباسهام امريكى وبريطانى, عززت السعودية قواتها المسلحة المجهزة تجهيزا جيدا, وان كانت قليلة العددز وكان على مصر التى استنزفتها حرب اليمن وهزمتها اسرائيل, وفقدت شبه جزيرة سيناء وعوائد قناة السويس, ان تركز كل جهودها على استعادة قدرتها الدفاعية وتتبع سياسة خارجية اكثر تحفظا وتقدم تنازلات اضطرارية للسعودية. غير ان "الوفاق" مع القاهرة كان اضطراريا للرياض ايضا, لان فيصل لم يعتبر قط الرئيس عبد الناصر حليفا له, ولم يشاركه آراءه. وبالرغم من هزيمة العرب في حرب 1967 فان العمليات الثورية في بلدان الشرق الاوسط لم تخفت. وتدل على ذلك الانقلابات الثورية في ليبيا والسودان ومحاولات الاتقلاب في السعودية ذاتها وتنامى حركة المقاومة الفلسطينية. ولذا فإن السعودية لم تبخل بالقوى والمال لدعم النزعات اليمينية في مصر وتعزيز النظام الملكى في الاردن.
ارسل إلى جنوب الاردن لواء سعودى قوامه ثلاثة آلاف شخص. وكان اللواء بعيداً عن الجبهة مع اسرائيل, ولكنه قريب بما فيه الكفاية لمساندة الملك حسين. ومن الواضح ان فيصل اعتبر الاردن دولة جاهزة تفصله عن اسرائيل. وعمل فيصل باستمرار على حث الولايات المتحدة وبريطانيا لمساندة الملك حسين . في ايار (مايو) 1970 احدث جرار عطلا في انابيب التابلاين في الاراضى السعودية. وكان هذا بمثابة حافز لنزاع سورى سعودى كاد يؤدى إلى قطع العلاقات وإلى حرب في التجارة والترانزيت . ولكن بعد استلام حافظ الاسد مهمات الرئاسة في اواخر عام 1970, استؤنفت العلاقات بين دمشق والرياض وسويت الخلافات فيما بينهما.
ظل الرئيس عبد الناصر الشخصية المحورية في العالم العربى رغم هزيمة 1967. وتزايدت التناقضات بين القاهرة والرياض مع استعادة مصر لقدرتها العسكرية. ولم يتمكن المشاركون في مؤتمر القمة العربية الذى انعقد في الرباط في كانون الاول (ديسمبر) 1969, حتى من صياغة بيان مشترك. وافهم عبد الناصر انه ليس بوسعه أن يأمل في زيادة المساعدة المالية التى كان يتلقاها من السعودية وليبيا والكويت بموجب قرار مؤتمر الخرطوم في آب (اغسطس) 1967 .
تغير الوضع بعد وفاة عبد الناصر في 28 ايلول (سبتمبر) 1970. فقد صعد الملك فيصل فورا نشاطه في الصراع من اجل تزعم العالم العربى. وكان من مصلحته ان تتوطد مواقع القةى اليمنية المصرية التى تخلت, خطوة فخطوة, عن مواصلة النهج الناصرى. وكانت واشنطن الطامحة إلى استعادة مواقعها المهتزة في العالم العربى بسبب دعمها لاسرائيل, تأمل في ان تكون السعودية وسيطا لمد الجسور إلى كبريات البلدان العربية وفي مقدمتها مصر التى قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في عام 1967.
وكان الرئيس المصرى الجديد انور الرئيس السادات مهتما بالتقارب مع السعودية, املا في زيادة المساعدات المالية. وحينما زار الملك فيصل مصر في حزيران (يونيو) 1971 استقبل استقبالا حافلا. وترضية للضيف السعودى اطلق السادات سراح "الاخوان المسلمين". ومنحت مصر ثلاثين مليون جنيه استرلينى, ووعدت بزيادة العون المالى السنوى والغاء التقييدات المفروضة على زيارة رعاياها لمصر .
توطدت علاقات السعودية بنظام السادات. وساعدت على ذلك سياسة التخلى عن النهج الناصرى داخل مصر وخارجها, وهي سياسة تعزى في المقام الاول إلى اسباب داخلية, ولكن الاموال السعودية عملت على تشجيعها. في فترة 1970-1973 اقصى الكثيرون من اوفى انصار عبد الناصر من مناصب حكومية وحزبية هامة. وظهرت العلائم الاولى لسياسة "الانفتاح" الاقتصادى قبل حرب 1973, ممهدة الطريق تدريجيا لنمو النزعات الرأسمالية.
بالرغم من وجود معاهدة الصداقة والتعاون السوفييتية المصرية المعقودة في 17 ايار (مايو) 1971, قام السادات في تموز (يوليو) 1972 بعمل غير ودى خطير ازاء الاتحاد السوفييتى, إذ طالب باستدعاء الخبراء العسكريين السوفييت من مصر.
وقد تم اثناء زيارة الملك فيصل لمصر إلى القاهرة في ايار (مايو) 1973 الاتفاق على ان تعتمد السعودية مبلغ 250 مليون جنيه استرلينى لاعادة تسليح الجيش المصرى. وكان من المؤمل ان تتحمل الكويت وابوظبى وقطر جزءا من المبلغ. وحث الملك فيصل الرئيس السادات على تنويع مصادر السلاح, في محاولة لتقويض التعاون العسكرى السوفييتى المصرى (140). ولكن مثل هذا الانعطاف في السياسة المصرية ما كان ان يتم قبل حرب اكتوبر. فلم يكن بوسع مصر, وهى تستعد لخوض حرب ضد اسرائيل, ان تبدأ اعادة تجهيز جيشها حتى وان وجدت مصدرا أخر للسلاح, لان ذلك كان سيؤدى إلى فقدان القوات المسلحة المصرية قدرتها القتالية.
ارسى التقارب المصرى السعودى اساسا لكى يقطع السادات تعاونه مع الاتحاد السوفييتى, ولكى يتحول البلد فيما بعد إلى تابع لامريكا يقدم على عقد صلح منفرد مع اسرائيل ويتواطأ معها.
الحلف الاسلامى
في اواسط الستينات اقترن النهج السياسى الخارجى المعادى للامبرايالية الذى اتبعه عدد من البلدان العربية باصلاحات داخلية موجهة ليس ضد الاقطاعيين فحسب بل وضد البرجوازية المحلية الكبيرة, مما عمق نهج معاداة الامبريالية. واغتنت الفكرة القومية السابقة بايدولوجية التحولات الاجتماعية والبحث عن بنى جديدة, بنى وطنية ديمقراطية. وكانت مصر الرائدة على هذا الطريق في الستينات.
واصبحت السعودية التى صارت منذ بداية الستينات في قلب الاحداث السياسية في الشرق الاوسط, المركز الرئيسى لمجابهة مصر عبد الناصر. وشرعت الطبقةى الحاكمة السعودية, ف يمحاولة لتقويض نفوذ مصر وسورية وغيرهما, بالبحث عن سبل واساليب لرص صفوف البلدان ذات الانظمة المحافظة "المعتدلة". وكانت فكرة دالاس حول انشاء احلاف عسكرية تساهم فيها الدول الغربية قد بلغت من سوء السمعة دركا سحيقا بحيث لم تجر حتى محاولة بعثها.
وكان النظام الملكى لا يحظى بشعبية في غالبية البلدان. وبغية رفع شعارات جذابة لمواجهة فكرة القومية العربية والتضامن العربى المقترنة بالدعوة إلى التحولات الاجتماعية, توجهت السعودية إلى الاسلام. ان تأثير الاسلام الهائل لم يخفت حتى فى دول علمانية "متحدثة" مثل تركيا, وفى اواخر الستينات واوائل السبعينات بدأت عملية "الانبعاث الاسلامى". وكانت العالبية الساحقة من الجماهير في البلدان العربية ترى في التقاليد والعادات والمؤسسات الاسلامية شكلا طبيعيا لوجودها الاجتماعى ووعيها الاجتماعى. وكان بوسع الطبقة الحاكمة استثمار الدين لاغراض معادية للامبريالية أو مناهضة للاشتراكية على حد سواء. ومن البديهى ان يرى النظام السعودى في الاسلام اداة لمحاربة خصومه داخل البلد وخارجه.
طرح الملك فيصل خطة تأسيس "الحلف الاسلامى" املا ف يجعله نقيضا للجامعة العربية. وحظيت فكرة فيصل بتعاطف واشنطن ولندن اللتين كانتا, تقليديا, تعتبران الدين حائلا دون انتشار الافكار الاشتراكية والتحررية.
زار الملك فيصل ايران في كانون الاول (ديسمبر) 1965. واثناء مفاوضاته هناك اقترح لاول مرة علنا عقد مؤتمر قمة اسلامى وايد الشاة الفكرة. وفي 31 كانون الثانى (يناير) 1966 اعلن الملك فيصل في عمان اثناء زيارته الرسمية للاردن انه سوف تشكل لجنة اسلامية للتحضير لمؤتمر قمة اسلامى . جابه فيصل منذ الخطوات الاولى. فقد اثار تأييد فكرة "الحلف الاسلامى" من قبل الشاه, عدو عبد الناصر وصديق اسرائيل, مخاوف حتى لدى العديد من الملوك العرب. وفي خاتمة المطاف لم يوافق على عقد مؤتمر الدول الاسلامية احد باستثناء ايران والاردن, اما البلدان الاخرى فقد عارضت مبادرة فيصل. في 22 شباط (فبراير) 1966 اعلن الرئيس جمال عبد الناصر في خطاب القاه باجتماع جماهيرى في جامعة القاهرة ان الامبريالية والرجعية تقومان بتأسيس الحلف الاسلامى, وانه على غرار حلف بغداد والاحلاف السياسية السابقة, موجه ضد حركات التحرر الوطنى .
شجب فكرة "الحلف الاسلامى" بصيغ مختلفة كل من الجزائر والجمهورية العربية اليمنية والعراق وسورية والكويت والعديد من البلدان الاسلامية في آسيا وافريقيا, وعدد من المنظمات العربية والدولية. وتنصل عن الفكرة حتى حلفاء ايران في حلف السنتو, فترتب تأجيلها. وحينذاك لجأت السعودية إلى عقد مؤتمرات اسلامية على مستويات مختلفة.
ادى العدوان الاسرائيلى عام 1967 إلى بعث خطط تقارب الدول الاسلامية ولكن على اساس جديد تماما مهد له تسارع عملية "الانبعاث الاسلامى". فقد شجبت كل البلدان النامية, بصرف النظر عن انظمتها, احتلال اراضى عربية بالقوة, واعتبرت تصرفات اسرائيل صدى للاستعمار القديم باسوأ اشكاله: تهجير السكان الاصليين من اراضيهم واسكان مستوطنين مكانهم. فقد اعتبر العدوان الاسرائيلى سابقة خطرة حتى من قبل الدول التى بدا انها بعيدة عن فلسطين ونزاع الشرق الاوسط. وكان حكام البلدان التى يشكل المسلمون اغلبية سكانها يراعون المشاعر الدينية للجماهير التى اعتبرت احتلال اسرائيل لشرقى القدس والمسجد الاقصى تدنيسا للاسلام. اما النظام السعودى القائم على الوهابية والذى يعتمد احكام الشريعة وينادى ب"نقاء" الاسلام ويفتخر بان بلاده مهد الاسلام وانه حامى الحرمين, فما كان بوسعه الاعتراف باحتلال شرقى القدس دون ان يقوض اسس وجوده ذاتها. وكان تهجير الفلسطنيين من وطنهم يعنى ادخال عنصر بلبلة ستمثل فى تواجدهم في البلدان التى حطوا رحالهم فيها, وبينها بلدان تحكمها انظمة ملكية, ويعزز النزعات الثورية. اما احتلال اسرائيل لسيناء والضفة الغربية فقد كان يعنى اقترابه جغرافيا من السعودية. ولكى يلعب الملك فيصل دور زعيم العالم العربى ويزيد من وزنه ونفوذه في العالم الاسلامى, ويدافع عن المصالح الرسمية للسعودية, كان عليه ان يتخذ موقفا اكثر وضوحا في معادة اسرائيل, وان تغدو نداءاته "للتضامن الاسلامى" موجهة ضد خصم محدد. في آب (اغسطس) 1969 احرق المسجد الاقصى, فدعا الملك حسين إلى عقد مؤتمر لرؤساء الدول والحكومات العربية لتدارس الوضع, ولكن الملك فيصل اقترح عقد مؤتمر قمة اسلامى. اضطر عبد الناصر لتأييد نداء الملك فيصل, وان لم يكن مهتما على ما يبدو بانعقاد المؤتمر ولم يحضره شخصيا. ولم تؤيد تركيا ونيجيريا دعوة الملك فيصل واعلنتا انهما دولتان علمانيتان. كما ان ايران ابدت في البداية تحفظا وقررت دراسة الوضع واهداف عقد المؤتمر بمزيد من الدقة والتمحص .
انعقد المؤتمر القمة الاسلامى في ايلول (سبتمبر) عام 1969 في الرباط. غير ان الخلافات الجدية بين اعضائه, وبالدرجة الرئيسية بين الدولتين العربيتين المتنفذتين – مصر والسعودية – قللت من اهمية المؤتمر. وقبل بضعة ايام من افتتاح المؤتمر اطيح بالملك الليبى في اول ايلول (سبتمبر) عام 1969, مما اضعف إلى حد كبير مواقع الانظمة الملكية في "العالم الاسلامى". وجابه النظام السعودى ايضا اختبارات عسيرة. فقبل ايام من افتتاح مؤتمر الرباط اعتقل في السعودية اشخاص اتهموا بالاعداد لمؤامرة زعم انه حدد يوم السابع من ايلول (سبتمبر) 1969 موعدا لتنفيذها. وكانت محاولة انقلاب اخرى قد جرت في حزيران (يونيو) من نفس العام. دهى إلى مؤتمر الرباط 35 بلدا اسلاميا, بيد ان 25 بلدا فقط ارسلت وفودها, علما بأن عشرة بلدان فحسب مثلت برؤساء دولها.
غير ان المؤتمرين تمكنوا من ايجاد لغة مشتركة في بعض القضايا, فطالبوا باعادة وضع القدس إلى ما كان عليه قبل حزيران (يونيو) 1967. واشار بيان صادر عن المؤتمر إلى ان رؤساء الدول والحكومات وممثليهم يعلنون عن تأييدهم التام للشعب العربى الفلسطينى في استعادة حقوقه المغتصبة وفي نضاله من اجل تحرير الوطن, ويؤكدون تمسكهم بالسلام القائم على الكرامة والعدل.
في 23-25 آذار (مارس) عام 1970 عقد برعاية الملك فيصل في جدة مؤتمر وزراء خارجية البلدان الاسلامية وحضره مندوبون عن 23 بلدا. وفي 4 ىذار (مارس) 1972 عقد المؤتمر الثانى لوزراء خارجية الدول الاسلامية في جدة وشارك فيه 31 بلدا اسلاميا. وبمبادرة من الملك فيصل اقر المؤتمرون بالجماع تأسيس صندوق "الجهاد" ضد اسرائيل. وندد المؤتمر تنديدا شديدا بموقف الولايات المتحدة المؤيد لاسرائيل, ودعاها إلى الكف عن تقديم المساعدة العسكرية والاقتصادية لهذا البلد.
اثر الحرب العربية الاسرائيلية عام 1973 أخذ يتزايد في المؤتمرات الاسلامية الاهتمام بقضايا التعاون الاقتصادى والاجراءات المشتركة ضد اعمال اسرائيل التوسعية العدوانية, ودعم حقوق الشعب العربى الفلسطينى. وبفضل تزايد القدرات المالية للسعودية وما تقدمه من قروض ومنح, تعاظم وزنها في البلدان الاسلامية.
السعودية في منظمة اوبك
درست الحكومة السعودية دراسة دقيقة سوق النفط في العالم, وبدأت تدرك مدى الارباح الطائلة التى تحصل عليها شركات النفط خارج السعودية, مع وجود مبدأ "المناصفة". عقد في نيسان (ابريل) 1959 اول مؤتمر نفطى عربى حضره ممثلون عن السعودية. وبدأت البلدان المصدرة للنفط تدرك ضرورة القيام بنشاطات جماعية. وقد اثار بالغ القلق لدى هذه البلدان انخفاض الاسعار القياسية. ففى الفترة من سنة 1957 حتى سنة 1960 انخفض السعر القياسى للنفط بالنسبة لرأس تنورة من 2.12 إلى 1.48 دولار عن الطن, مما ادى إلى تقلص كبير في عائدات البلدان المصدرة للنفط.
في ايلول (سبتمبر) عام 1960 اسست في بغداد منظمة البلدان المصدرة للنفط (اوبك) وضمت العراق وايران والكويت والسعودية وفنزويلا. وفيما بعد انضمت اليها ابوظبى وقطر وليبيا والجزائر واندونيسيا ونيجيريا والاكوادور والغابون. وكان الهدف الرئيسى لاوبك في تلك المرحلة رفع اسعار النفط الخام إلى مستوى عام 1954, وابقاؤها على هذا المستوى, واجراء مشاورات بين البلدان والشركات حينما تظهر حاجة لتغيير الاسعار, ومراقبة حجم الانتاج عند الضرورة.
في 25 كانون الثانى (يناير) 1965 وقعت الحكومة السعودية وارامكو اتفاقية التزمت بموجبها الشركة باعتبار بدل الايجار جزءا من نفقات الاستثمار التى تحسم من العوائد الاجمالية, على ان تدفع ضرائب عن الجزء المتبقى. وبفضل ذلك ارتفعت حصة السعودية من عوائد تصدير النفط الخام وتعدت نسبة ال 50%. حينما كان ثمة فائض نسبى في اسواق النفط العالمية, والمشترى وليس البائع هو الذى يملى شروطه, اقتصر اعضاء اوبك على تقديم مطالب معتدلة. ولكن تجمعت لديهم عاما اثر عام خبرة العمل المشترك التى بينت مدى ما يعود به تضافر الجهود من منافع.
عام 1969 اقترحت الحكومة الجمهورية في ليبيا على اصحاب الامتياز زيادة حصتها من الارباح من 50% إلى 54-55%. ولما رفض الطلب قلصت عام 1970 حجم الاستخراج المسموح به. وبسبب تعطل قناة السويس ونسف الفدائيين الفلسطينيين لانابيب المارة عبر الجزيرة العربية, لمم تتمكن الشركات العالمية من مقاطعة النفط اللليبى الذى كان يشكل زهاء خمس استهلاك اوروبا الغربية, فاعلنت استلامها. واحدث انتصار ليبيا سلسلة من ردود الفعل, فارغمت بلدان الخليج الشركات على ان تدفع لها نسبة مماثلة من الارباح.
عندما بدأت البلدان الخليجية الاعضاء في اوبك مفاوضات مع شركات النفط في طهران في 12 كانون الثانى (يناير) 1971, كانت تشكل مجموعة موحدة. وكانت احوال السوق العالمية تميل اكثر فاكثر لصالح البلدان المصدرة. وقد أيدت السعودية, التى كانت واشنطن ولندن تأملان منها العون, مطالب سائر اعضاء اوبك. فاضطرت شركات النفط إلى الموافقة على تنفيذ اكثرية المطالب المقمة من بلدان الخليج الستة المصدرة للنفط (153).
وقد وقعت في 14 شباط (فبراير) عام 1971 في طهران اتفاقية بين البلدان الخليجية الاعضاء في اوبك وشركات النفط منحت عمليا حق الاشراف على الاسعار القياسية للبلدان المصدرة للنفط. بينت اتفاقيات طهران ان اعضاء اوبك قد حققوا الاهداف المطروحة عام 1960. ولكن ظلت معلقة مسألة مساهمة حكومات البلدان المصدرة للنفط في ممتلكات ونشاط الشركات, الامر الذى لو تم لعنى حدوث تغير جذرى في العلاقات بين الطرفين. وفي 21 كانون الثانى (يناير) 1972 بدأت مفاوضات بهذا الخصوص بين اوبك وشركات النفط. وكان امام حكومات الدول المصدرة للنفط ثلاثة سبل لتغيير اتفاقيات الامتياز: التاميم الشامل, او تقليص فترة الامتياز, او تعديل الاتفاقيات القائمة بان يضاف اليها مبدأ الاسهام الجزئى الذى يؤدى تدريجيا إلى التملك التام للصناعة النفطية.
اختارت الرياض السبيل الثالث واصبح وزير النفط السعودى الشيخ احمد زكى اليمانى الممثل الرئيسى لاوبك في المفاوضات مع شركات النفط العالمية. واتفقت الحكومة السعودية مع ارامكو على ان تتسلم الحكومة تدريجيا 51% من اسهم الشركة.
عند حلول السبعينات كانت العلاقات بين السعودية, بوصفها من كبار اعضاء اوبك واول مصدر للنفط في العالم, وبين شركات النفط, قد خرجت عن الاطار الاقتصادى البحت للخلاف على نسبة الارباح من بيع النفط الخام. فقد اصبحت جملة القضايا المتعلقة بالنفط – ابتداء من الاشراف على استخراجه ونقله وانتهاء بتسويقه واسعاره – من القضايا الاساسية في السياسة العالمية. وتزايدت باطراد اهمية القضية النفطية في السياسة الخارجية الامريكية, وذلك ابتداء من "مشروع مارشال" ومرورا بازمة النفط الايرانية وازمة قناة السويس ووقف تصدير النفط في 1956-1957 والمقاطعة النفطية عام 1973, وانتهاء بالقفزة الجديدة التى سجلت اسعار النفط في اواخر السبعينات. وبغية ابقاء بلدان الشرق الاوسط المنتجة للنفط في فلك الامبريالية الامريكية, انفقت واشنطن مليارات الدولارات وانشأت ماكنة ادارية وعسكرية ضخمة على نطاق العالم كله, ونسقت مع شركات النفط المتعددة الجنسيات واقامت ممرات في المحيط لاساطيل الناقلات وخرقت قوانين حظر الاحتكار الامريكية ذاتها.
في الخمسينات كانت سيطرة الولايات المتحدة على نفط حوض الخليج توفر ربحا للشركات وتبقى في ايدى واشنطن الخرطوم النفطى الذي يغذى اقتصاد بلدان العالم غير الاشتراكى. وفي عام 1959 حدد الرئيس الامريكى ايزنهاور كمية النفط المستوردة من الشرق الاوسط ب2.5% من الاستهلاك الامريكي. وكان الاقتصاد الامريكى آنذاك غير خاضع عمليا لهذا المصدر النفطى, إلا ان منطقة الشرقين الاوسط والادنى كانت تكتسب اهمية استراتيجية متزايدة في مخططات الحكومة الامريكية المعادية للاتحاد السوفييتى.
اصبحت الولايات المتحدة في السبعينات المستورد الرئيسى للنفط في العالم. وبطبيعة الحال تنامى دور السعودية القادرة على ابقاء اسخراج النفط على مستواه او حتى زيادته. وق استعرضت السعودية نفوذها اثناء الحرب العربية الاسرائيلية عام 1973.
سلاح النفط
أحست الرياض احساسا واضحا بتناقض وتذبذب النهج الامريكى في الشرق الاوسط. فقد كانت واشنطن من جهة تسعى لضمان "امن الولايات المتحدة في مجال الطاقة" ومصالح احتكاراتها, والسيطرة على صادرات النفط من الشرق الاوسط إلى حليفاتها في اوروبا الغربية واليابان, الامر الذى يقتضى تعزيز العلاقات مع البلدان العربية, او على الاقل المحافظة منها حيث توجد احتياطات النفط الرئيسية, وخاصة السعودية. ومن جهة اخرى قدمت واشنطن المساعدات الاقتصادية والعسكرية والسياسية لاسرائيل ونهجها العدوانى التوسعى, الامر الذى قوض اساس العلاقات الوثيقة مع الدول العربية.
ان الحكومة السعودية, حينما احست بوزنها المتعاظم في عالم النفط والمال, اخذت تطمع بزعامة العالم العربى, الامر الذى تطلب بالضرورة اتباع سياسة معادية لاسرائيل. وكانت مهمة تحرير شرقى القدس متماشية ليس مع الاهداف الدعائية والسياسية الخارجية فحسب, بل ومع مقتضيات تدعيم النظام من الداخل, بوصفه "حامى الحرمين" الذى يدعى ان القرآن دستوره. لذا فان الحكومة السعودية, مع حاجتها الماسة إلى دعم الولايات المتحدة والتعون الواسع النطاق معها, اضطرت إلى الدخول في مجابهة مع واشنطن في النزاع العربى الاسرائيلى.
في السادس من تموز (يوليو) 1973 قال الملك فيصل في حديث مع صحفيين امريكيين في جدة, انه سيكون من الصعب على السعودية مواصلة التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة, اذا واصل الامريكان دعم اسرائيل. وقبل بضعة اسابيع من ذلك تلقى المساهمون في ارامكو تحذيرا من الملك يقول ان السعودية سوف تجمد استخراج النفط على مستوى واحد اذا لم تغير الولايات المتحدة سياستها ازاء اسرائيل. في الاسابيع والاشهر التى سبقت حرب اكتوبر حذر فيصل الحكومة الامريكية مرارا من ان تأييد واشنطن لاسرائيل قد يخرب العلاقات السعودية الامريكية واكتسبت لهجة الحكومة السعودية شدة متزايدة. ودعت السعودية واشنطن إلى الضغط على اسرائيل وحملها على تنفيذ قرار مجلس الامن رقم 242 الصادر في 22 تشرين الثانى (نوفمبر) عام 1967 (الانسحاب من جميع الاراضى العربية المحتلة في حزيران (يونيو) 1967), والا فان الولايات المتحدة سوف تواجه عقبات تقليص تصدير النفط.
لم تأخذ الولايات المتحدة واوروبا الغربية هذه التحذيرات على محمل الجد. فقد كانت المقاطعتان النطيتان عامى 1956 و 1967 ضئيلتى المردود. ولكن العرض كان آنذاك اكثر من الطلب, ولدى الاحتكارات احتاطى هائل من الوقود السائل. وعلاوة علىذلك كان بوسع الولايات المتحدة حينذاك الاستغناء عن استيراد النفط. اما في مطلع السبعينات فقد تغير الوضع تغيرا جذريا.
المحت الحكومة السعودية في صيف 1973 إلى انها ستؤيد مصر عند نشوب حرب جديدة مع اسرائيل. بدأت الحرب العربية الاسرائيلية الجديدة في السادس من تشؤين الاول (اكتوبر) عام 1973. وفي الايام الاولى قام الجيشان المصرى والسورى بعمليات ناجحة, وبعد ذلك بدأ الاسرائيليون هجوما مضادا ولكنهم لم يفلحوا في الحاق الهزيمة بالجيوش العربية. وفي ظروف الشرق الاوسط الملموسة كان عدم احراز النصر معادلا بالنسبة للاسرائيليين للهزيمة, او على الاقل الهزيمة السياسية.
تمكنت الدول العربية من اظهار التضامن, رغم اختلاف انظمتها. وساهمت وحدات عراقية مساهمة فعالة في المعارك على الجبهة السورية. وارسلت الاردن والمغرب وتونس والسعودية والكويت والجزائر إلى بلدان المجابهة قطعات عسكرية وان كانت رمزية في الغالب. وقررت السعودية وليبيا المساعدة المالية لمصر وتقديم العون لسورية, لتعويض البلدين عن الخسائر المالية الاقتصادية التى سببتها الحرب. في السابع من تشرين الاول (اكتوبر) 1973, اى في اليوم الثانى للحرب, ارسل وزير الخارجية الامريكى هنرى كيسنجر برقية إلى الملك فيصل يدعوه فيها إلى اقناع مصر وسورية بوقف العمليات الحربية. ورد فيصل بانه يؤيد مصر وسورية تأييدا تاما, ودعا واشنطن إلى بذل الجهود لحمل اسرائيل على الانسحاب من الاراضى التى تحتلها.
في التاسع من تشرين الاول استدعت الحكومة السعودية كل منتسبى القوات المسلحة من الاجازات واعلنت حالة التأهب في الجيش (160). وفي 14 من الشهر ارسلت السعودية وحدة عسكرية لمساعدة سورية. عقد وزراء النفط في عشرة بلدان عربية اجتماعا في 17 تشرين الاول, اتخذ فيه قرار بتقليص استخراج النفط بنسبة لا تقل عن 5% شهريا حتى تتم تسوية النزاع في الشرق الاوسط. وفي الواقع قلصت السعودية والكويت الانتاج بنسبة 10% دفعة واحدة (1962). ولما قامت الولايات المتحدة "جسراً جويا" لتزويد اسرائيل بالسلاح, عمدت السعودية وسائر البلدان العربية إلى اتخاذ اجراءات تباعا عن وقف ضخ النفط إلى الولايات المتحدة, ومن ثم إلى هولندا التى اتخذت موقفا مواليا لاسرائيل. كما فرض الحظر على تصدير النفط الخام لمعامل التكرير التى تصدر مشتقات النفط إلى الولايات المتحدة او تبيعها إلى الاسطول البحرى الامريكى.
إلى جانب مؤتمر النفط العرب, التقى في الكويت ممثلون عن البلدان المصدرة للنفط في منطقة الخليج, بما فيها ايران, وتم الاتفاق على زيادة السعر القياسى للنفط بنسبة 70% تقريبا, وفي كانون الاول (ديسمبر) 1973 تقرر بعد اجتماع طهران مضاعفة السعر الجديد. خلال الفترة الممتدة من كانون الثانى (يناير) 1973 إلى كانون الثانى (يناير) 1974 ارتفعت الاسعار القياسية والمداخيل الفعلية للبلدان المصدرة للنفط, ومن ضمنها السعودية, خمس مرات. وعلاوة على فرض الحظر قام العراق بتأميم حصة الولايات المتحدة وهولنده في "شركة نفط البصرة".
لقد وضعت المقاطعة النفطية الولايات المتحدة في مأزق صعب, إذ كانت تستورد من البلدان العربية في النصف الاول من عام 1973 ما يربو على ربع وارداتها الاجمالية من النفط. وكانت المشاكل اكبر بالنسبة لاوروبا الغربية واليابان. ففى مطلع السبعينات كانت بلدان الشرقين الاوسط والادنى تصدر لليابان تسعة اعشار النفط الذى تستهلكه ولاوروبا الغربية 85%. في 5 تشرين الثانى (نوفمبر) 1973 قررت عشر دول عربية مصدرة للنفط تخفيض الانتاج في شهر كانون الاول (ديسمبر) بنسبة 25% مقارنة بشهر ايلول (سبتمبر). وجاء رد فعل اوروبا الغربية دون ابطاء. ففى صباح السادس من تشرين الثانى (نوفمبر) دعت حكومات بلدان "التسعة" إلى تنفيذ قرارات منجلس الامن حول العمليات الحربية وكذلك القرار رقم 242 بكل بنوده, بما في ذلك الجلاء عن الاراضى العربية المحتلة عام 1967. بيد ان الكثير من الدول العربية المصدرة للنفط اخذت, بعد توقف العمليات الحربي, تعارض التققيدات المفروضة بحجة انها تلحق الضرر ببلدان صديقة للعرب. وفي مطلع كانون الاول (ديسمبر) 1973 قرر اعضاء منظمة البلدان العربية المصدرة للنفط (اوبك, اسست عام 1968) المجتمعون في الكويت الغاء القرار القاضى بتقليص استخراج النفط بنسبة 5% في شهر كانون الاول (ديسمبر). وعزى القرار إلى الرغبة في تحسين اوضاع البلدان الاعضاء في الجماعة الاقتصادية الاوروبية التى اتخذت موقفا وديا حيال العرب. كما اشار البلاغ الصادرعن اجتماع الكويت إلى ان الدول الافريقية والاسلامية سوف تحصل على النفط وفق العقود المتفق عليها. واستمر لفترة من القوت حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة وهولندا. في 25 كانون الاول (ديسمبر) 1973 قررت البلدان العربية المنتجة للنفط في مؤتمرها الدورى بالكويت زيادة استخراج النفط في كانون الثانى (يناير) 1974 بنسبة 10% وتصدير النفط بالكميات السابقة إلى اليابان وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا واسبانيا والفلبين. كما جرت الاشارة إلأى ان استخدام البلدان العربية سلاح النفط لم يمارس تأثيرا ملموسا على الوضع الاقتصادى للولايات المتحدة وسائر البلدان المعادية للعرب, ولم يغير سياستها. نزولا عند اصرار السعودية الغى حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة في18 آذار (مارس) 1974 (170). وبذا كانت الغلبة لنزوع السعودية إلى التاعاون الاقتصادى والسياسى والعسكرى المتعدد الجوانب مع الولايات المتحدة. وساعد الغاء الحظر على حدوث بعض الانفراج في العلاقات السعودية الامريكية, مما اتاح الفرصة للتوصل إلى اتفاقية ثنائية حول التعاون الاقتصادى والفنى عقدها البلدان في 8 حزيران (يونيو) 1974. وبعد مرور فترة قصيرة وقعت حول تصدير معدات عسكرية امريكية إلى السعودية, اتفاقية حول تدريب الحرس الوطنى السعودى على يد مدربين امريكان. وفي 9 حزيران (يونيو) 1974 اعلن عن توقيع اتفاقية حول نقل 60% من اسهم شركة ارامكو للسعودية. ان استخدام "سلاح النفط" خلال حرب اكتوبر وازدياد القدرة المالية للسعودية عدة اضعاف بفضل ارتفاع اسعار النفط, قد جعلا من المملكة زعيما للدول العربية المحافظة وساعد الملك فيصل على مد الجسور بين مصر والولايات المتحدة واحداث انعطاف كامل في سياسة مصر الخارجية وتعزيز الرجعية داخلها. وساعدت السعودية على تعزيز القوى اليمنية المعادية للاشتراكية والمناوئة للاتحاد السوفيتى في كل منطقة الشرق الاوسط والادنى, بل وحتى خارجها. بيد ان اتباع السياسة الخارجية بمساعدة دفتر الصكوك فحسب, قد بين من جهة اخرى ضعف السعودية لانه لم يكن مسنودا بالقدرة العسكرية او بالكوادر اللازمة لتنفيذ المهمات المرسومة او باستقرار النظام السعودى ذاته. وقد تأثر التعاوهن مع الولايات المتحدة والنهج الموالى للامبرايالية بفعل التناقضات في التعامل مع اسرائيل, ومن المشاعر العميقة المناوئة لامريكا لدى جماهير السعودية. وقد مرت علاقات السعودية بالولايات المتاحدة بفترة ازمة في اواخر علم 1974 ومطلع عام 1975, حينما اخذ الرئيس الامريكى فورد ووزير الخارجية كيسنجر ووزير الدفاع شلينسجر ووسائل الاعلام و يتحدثون عن احتمال احتلال الولايات المتحدة لحقول النفط على الساحل العربى للخليج. وترتب على واشنطن بذل جهود كبيرة لاقناع السعودية بعدم وجود خطط محددة من هذا القبيل. والتقى كسينجر بالملك فيصل في 14 آذار (مارس) عام 1975. وتظاهرت الحكومة السعودية بانها تثق بوعود واشنطن. هذا علما بانه لم يكن لدى الاسرة المالكة اى مخرج آخر.