تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل السابع

من معرفة المصادر

الفصل السابع: الدولة السعودية الثانية (1843-1865)

في العقد الخامس من القرن التاسع عشر أزيحت مصر في الواقع من المسرح السياسي في الجزيرة العربية . ولم تكن لدى الباب العالي بعد إمكانية ورغبة في التدخل النشيط في شئون نجد . وكان الإنجليز مشغولين بتعزيز مواقعهم على ساحل الخليج العربي وخليج عمان وفي عمان نفسها . ومن جديد تركت أواسط الجزيرة وشأنها وتهيأت فيها الظروف لبعث الدولة السعودية في أراضي محدودة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من جلاء المصريين حتى عودة فيصل

لم يتمكن الأمير خالد من البقاء في دست الحكم بعد جلاء قوات خورشيد من أواسط الجزيرة إلا عاما واحدا . وعندما استسلم محمد علي في عام 1840أبدى الباب العالي ادعاءه في نجد متحججا بأ، الذي احتلها كان واليا للسلطان العثماني ، ولذا يجب اعتبار خالد تابعا للعثمانيين . وعلى أية حال ، هذا ماقاله المؤرخ التركي المعروف جودت . إلا أن مواقع خالد كانت تضعف وتتدهور . فقد كان مكروها من قبل الجميع بوصفه صنيعة للمصريين . وخلال فترة نفيه إلى مصر تكونت لديه فكرة ما عن التعليم الأوروبي ، الأمر الذي أضر به في نجد ، ولم يخدمه على مايدبو . وكان قد انهمك في الملذات ، مما ألحق ضررا كبيرا بسمعته . أما الجنود المصريون المتبقون فقد انخرطوا في الابتزاز ولم يكونوا يستلمون رواتبهم . وبدأت النزاعات القبلية الإقطاعية من جديد .

وعندما توجه خالد إلى خورشيد باشا في آب (أغسطس) 1841 لتوديعه رفع راية الإنتفاضة أحد أقربائه البعيدين وهو عبدالله بن ثنيان ، إبن حفيد مؤسس الأسرة السعودية والممثل الوحيد لفرع آل ثنيان الذي حكم نجد في فترة ما . وكان إبن ثنيان قد فر في السباق إلى قبيلة المنتفق في جنوب العراق ثم ظهر في نجد وحظي تأييد حاكم الحريق التركي الهزاني الحليف السابق للإمام فيصل وآل الشيخ محمد بن عدبالوهاب وكذلك قبائل سبيع وعجمان وآل مرة . وفي الخريف سحب خالد قواته إلى المنطقة الشرقية إما طلبا للنجاة وإما أملا في استجماع القوى . ولكنه لم يعد بعد ذلك إلى الرياض مطلقا . وبعد خروج خالد فرض ابن ثنيان سيطرته على نجد وكانت لديه في البداية بعض مئات فقط من الأتباع ، ولكن عددهم ازداد كثيرا فيما بعد . وفي أواخر عام 1841 استولى بن ثنيان على الرياض . وبعد أ، وافقت الحامية المصرية في القلعة على الجلاء تحررت نجد بالكامل من القوات الأجنبية . ويبدو أ، الحاميات المصرية الأخرى قد تفرقت . فنحن لانعرف عنها شيئا بعد الآن .

حاول ابن ثنيان تعزيز مركزه كأمير للرياض ، ولكن سلطته لم تشمل في الواقع القصيم وجبل شمر والمنطقة الشرقية . وقد وجه حملته الأولى إلى الإحساء عندما كان خالد لايزال موجودا فيها مع فصيل من المرتزقة المصريين . ومني خالد بهزيمته ففر إلى البحرين ثم إلى الكويت ، ومن هناك إلى الحجاز حيث أقام وأخذ يستلم راتبا من محمد علي . وأرسل أمير نجد إلى الهفوف عمر بن عفيصان الذي تمكن بالتدريج من فرض سيطرة على النجديين على هذه المنطقة ، بل واستطاع أن ينتزع العقير من البحرانيين .

كانت أساليب ابن ثنيان قاسية ، وربما كانت موروثة عن الاحتلال المصري . فقد كان كثيرا مايفتك بخصومه ، مثل آل سديري الذين عارضوه ، وذلك خلافا لتقاليد الجزيرة العربية التي تنص على العفو عند المقدرة . وكان الأهالي يكرهونه لأنه حاول على مايبدو أ، يجمع المزيد من الأموال بشكل زكاة من البلد المدقع . وكان المؤرخ الشمري ضاري بن الرشيد يعتبره رجلا شجاعا ولكنه أراق دماء كثيرة وقتل كثيرا من المؤمنين . كان الناس يكرهونه ويحبون فيصل .

هرب فيصل بن تركي من مصر في عام 1843 بعد أن كان أسيرا فيها منذ عام 1838 . ويعتقد بعض المؤرخين أن عباس باشا حفيد محمد علي ساعده على الفرار . والأغلب أن محمد علي وورثته أدركوا أن وجود إمارة مستقلة في أواسط الجزيرة العربية يجعلها خصما للإمبراطورية العثمانية .

ووصل فيصل إلى جبل شمر حيث استقبله عبدالله آل رشيد وأخوه عبيد بالترحاب بوصفه صديقا قديما . كانت سلطة عبدالله قد شملت كثيرا من القبائل غير الشمرية . (كان جميع البدو من القصيم حتى حوران ، ومن بلاد إبن سعود في شرقي نجد حتى جبال الحجاز ، خاضعين وملزمين بالاعتراف بسلطة ابن رشيد حيث يدفعون له الزكاة) . وعندما اقتضت الحاجة الاختيار بين السيطرة المصرية والتبعية لفيصل اختار عبدالله التبعية ، لاسيما وأن فيصل كان صديقه الشخصي ، الأمر الذي يعتبر عاملا سياسيا ليس بقليل الأهمية في ظروف الجزيرة . وعرض حاكم حائل على الأمير فيصل رجالا ودوابا ونقودا . وعبأ ابن ثنيان أنصاره ولكن أفراد عساكره سرعان مابدأوا يفرون .

ومما أعاق خطط فيصل العداء بين أهالي جبل شمر والقصيم ، وخصوصا بين أهالي جبل شمر ومدينة بريدة . وكان متوقعا أن حاكم بريدة سيضمر العداء لفيصل لأنب ابن رشيد صار من أنصاره . إلا أن مدينة عنيزة ربط مصيرها بمنافسة ابن ثنيان .

وانتقلت نجد بالتدريج إلى جانب فيصل – في البداية انتقلت القصيم ، ثم سدير والوشم . وفر ابن ثنيان إلى الرياض . وحظي فيصل بتأييد قبائل سبيع والسهول والعجمان وكذلك مطير . وفي صيف 1843 سقطت الرياض ، وتم القبض على ابن ثنيان وتوفي في السجب في تموز (يوليو) من العام ذاته ، ويعتقد المؤرخ ضاري بن الرشيد أن حرس السجن أعدوا الأمير المخدوع ، فقد كان بينهم أشخاص قتل الأمير أقاربهم في حينه . وعندما سلم فيصل منافسه إلى هذا الحرس كان قد حكم عليه بالموت بهذه الطريقة .

وبعثت الإمارة النجدية من جديد بعد تسع سنوات من الفوضى والصراع الداخلي والاحتلال الأجنبي . وصار فيصل سيدا في دياره من جديد لمدة تقرب من عشرين عاما . كانت القوى المركزية تعمل بسرعة كبيرة على توحيد مناطق أواسط الجزيرة وشرقيها كلما ظهرت شخصية قوية وانعدم الخطر الخارجي المباشر . ومما لاريب فيه أن فيصل كان حاكما قويا . وكانت لديه خبرة في الحياة في مصر الأكثر تطورا وخبرة الحكم في ظروف الجزيرة العربية والقدرة على لاجمع بين الشدة واللين والاستعداد للمساومة مع الإصرار . وكانت الصلات المتزايدة مع المصريين والأتراك والإنجليز قد حملت أمير الرياض على إبداء المزيد من الاعتبار للعالم الخارجي .


يعث إمارة السعوديين في الرياض

نشات الدولة السعودية الجديدة على مساحة من الأراضي أقل من أراضي إمارة الدرعية . وكانت الحركة الإنفصالية قوية فيها رغم الاستقرار المتزايد . ويقول فيلبي : سرعان ما استأنفت نجد في عهد فيصل (سير الأمور الطبيعي المعتاد ، ولكن ذلك لم يكن على الإطلاق مرادفا للحياة في سلام ووئام وازدهاز ، لتلك الأمور التي كانت على الدوام ظواهر نادرة أو تتخيلها ظواهر أخرى في البادية) .

كانت المهمة الأولى للأمير بعد السيطرة على المناطق الوسطى في نجد من استعادة المنطقة الشرقية . وفي خريف 1843حاصر مدينة الدمام التي يسيطر عليها البحرانيون . وفي تلك الأثناء نشب في جزر البحرين نزاع داخل الأسرة الحاكمة وفر الحاكم السابق إلى القسم القاري واستقر في الدمام . وفي الوقت ذاته سدد فيصل الضربة إلى قبائل المناصير وآل مرة وبني هاجر التي ساعدت على تموين القلعة .

وفي آذار (مارس) 1844 استسلمت حامية البحرين . واستولت العساكر النجدية على غنائم كبيرة . وبدلا من البحرانيين ترك أمير الرياض في القلعة حاميةنجدية من مائة شخص . ووافق حاكم البحرين الجديد محمد بن خليفة على استئناف تسديد الأتاوات السنوية للرياض وتسديد الديون مقابل تصفية منافسه . وهكذا بدأ فيصل مرحلة جديدة من حكمه حيث دمر قوات البحرانيين التي لم تكن كبيرة ولكنها كانت تقض مضجعه ، واستأنف سيطرته على جزر البحرين .

واندلعتفي المنطقة الشرقية إنتفاضات مرتبطة بالصراع بين قبيلتي بني خالد والعجمان ، كان بدو العجمان يسلكون الطريق المعتاد لنزوح قبائل الجزيرة – من الجنوب إلى الشمال أو من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي . وكانوا قد نزحوا من نجران ضعفاء مشتتين . ولم تكن لدى النازحين الجدد مراع خاصة بهم .

فصاروا يعتمدون على القبائل الأخرى حيث تحولوا إلى زبائن لها غير متكافئين . بيد أن الأمير تركي أخذ يدعمهم وهيأ لهم إمكانية الإقامة في المنطقة الشرقية ، وهي منطقة عائدة تقليديا لبني خالد . ويبدو أ، من أهداف هذه الإقامة إيجاد قوة توازن لمواجهة بني خالد ووجهائهم الذين كانوا يتمردون على الرياض بين الحين والآخر ، بل وكانوا ينافسون أمراءها في وقت ما . وصار العجمان أكثر قوة وجسارة .

وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1845 هجم علهيم فيصل بعساكر كبيرة ، وفي عام 1846 دمرهم عن بكرة أبيهم . وحضر صغار شيوخ العجمان وحلفاؤهم من سبيع إلى الإمام فيصل وأعلنوا عن خضوعهم له . وطوال خمسة عشر عاما لم يسمع أحدا شيئا من العجمان .

وبعد أن فرض فيصل سيطرته على المنطقة الشرقية انشغل بالجنوب ، بالأفلاج ووادي الدواسر . ففي عام 1845 أرسل قواته إلى الأفلاج لإخماد القلاقل هناك . وعندما كان أمير الرياض مشغولا بإخماد حركة العجمان وإحلال النظام في المناطق الجنوبية من نجد اندلع من جديد العداء القديم بين القصيم وجبل شمر . وسدد عبيد ضربة شديدة إلى فيصل من عنيزة ونظم عبيد آل رشيد شعرا بخصوص انتصاره . وفيما بعد ، عندما زار الجزيرة شارلز دوتي ، وهو من أعظم الرحالة الإنجليز ، سمع ذالك اشعر تتناقله الألسن . كانت قصيدة عبيد افتخارا عاديا بالنصر . فهو ينجح بكونه قد قتل 90 من الأعداء حتى تعبت يده من حمل السيف وتخثر دم الأعداء على ردنه . وواجه ابن رشيد صعوبة كبيرة في تهدئة فيصل الذي اشتاط غضبا بسبب الحرب بين أتباعه . وبعث حاكم جبل شمر إلى أمير الرياض رسالة توضيحية منظومة ، يقال أنها أثرت في فيصل تأثيرا حسنا .

وطالما كان عبدالله بن رشيد على قيد الحياة ظلت العلاقات ودية بين حائل والرياض . واعتبر عبدالله نفسه تابعا لفيصل ، ولكنه احتفظ باستقلالية واسعة . وبالإضافة إلى الصداقة التي تربط بين الأميرين فقد ربطت بينهما صلة القربى ، إذ تزوج عبدالله الإبن الأكبر لفيصل من إبنة عبدالله بن رشيد ، بينما تزوج طلال إبن حاكم حائل من إبنة فيصل . وكان عبيد ، شقيق حاكم حائل ، يقضي كل سنة شهرين أو ثلاثة في الرياض حيث يحل ضيفا على فيصل . وقد توسعت منطقة جبل شمر إلى الشمال . ففي عام 1838 مثلا انضمت إليها منطقة الجوف وهي واحة كبيرة تقع على بعد 350 كيلومترا تقريبا شمال غربي حائل . وفي أيار (مايو) – حزيران (يونيو) 1837 توفي عبدالله . وحل محله إبنه طلال البالغ الخامسة والعشرين من العمر ، وبعث إلى الرياض إبلا وخيلا بمثابة هدية تعبر عن استمرار تبعيته للحكومة المركزية .

مشكلة القصيم . الصراع مع العجمان

لم يتمكن فيصل من فرض سيطرته بصورة تامة على القصيم . وكانت هذه المنطقة ، كما تفيد حسابات يوبير الخاصة بالسبعينات ، تضم حوالي 20 مدينة وقرية . وكان في بريدة التي تعيش بالأساس على تجارة اـلإبل والنقل بالقوافل حوالي 10 آلاف نسمة . وقبل ستينات القرن التاسع عشر حكمها أكبر إقطاعي المنطقة – آل عليان . وكان عدد سكان عنيزة ، حسب معطيات يوبير ، 18-20 ألفا . وكان يعيش حوالي ألف شخص آخرين في القرى المحيطة بها . وكان أمراء الإقطاعية التي حكمت عنيزة ، آل زامل ، شأنهم شأن سائر الأمراء ، ينتمون إلى وجهاء البدو الذين استقروا فتحولوا إلى حضر ، ولكن سلطتهم على العكس ، كانت مفيدة كثيرا . ونعت الرحالة عنيزة بأ،ها (جمهورية مدنية) ، ونعتوا أميرها بأنه (أول المتكافنين) ، بل وقالوا عنه أنه بمثابة (رئيس جمهورية منتخب) .

وكان القول الفصل في شئون عنيزة يعود للأثرياء من أهاليها الذين يقدمون إلى المتطوعة جملا أو جملتين مع اثنين أو أربعة من الهجانة ويدفعون بدلا دائميا للصرف على الحراس والعبيد وتسديد أجور الرعاة وتكاليف الضيافة العامة . وكانوا يشاركون مع الأعيان والوجهاء الإقطاعيين في تصريف شئون عنيزة عن طريق مجلس الإمارة . ويصادف أ، تتوتر العلاقات بين الوجهاء الإقطاعيين والتجار وبين فقراء المدينة ، الأمر الذي تدل عليه بصورة غير مباشرة ملاحظة دوتي :(...الكثير من الفقراء يعارضون زامل بغضب مكشوف يلومونه وهو صبور حكيم) .

وفي عام (1846-1847) عندما غزا شريف مكة نجد أبدى أهالي القصيم استعدادهم للتعاون معه . وبعد انسحاب الحجازينغير أمير الرياض حكام المدن الرئيسية . إلا أن شتاء وربيع 1848-1849 تصرما في إخماد إنتفاضة جديدة في القصيم . فالوجهاء المحليون لم يعترفوا بالأمراء الذين عينتهم السلطة المركزية ، إذ كانوا يؤيدون هذا الفرع من العوائل الحاكمة سابقا أو ذاك . وكان القتل يعقب الخيانات ، الخيانة تعقب فترات السلم ، وكانت المبايعة تعقب العصيان المتكرر ، ولكن المنطقة ظلت غير خاضعة . وكان أمير بريدة عبدالعزيز آل عليان هو الزعيم المعترف به للمنطقة .وقد نحاه فيصل عدة مرات ولكنه كان يعينه من جديد كل مرة . وغدا عبدالعزيز حاكما لبريدة من جديد في مطلع عام 1851 . ويبدو أن أمير الرياض لم يتمكن من الحصول على تأييد وجهاء القصيم ولم يستغني عن المساومة مع زعيمها المعترف به . وفي السنوات الثلاث اللاحقة انصب اهتمام أمير الرياض على غزوات مختلف القبائل . ففي آيار (مايو)1854 تمردت عنيزة من جديد . ولم يكن وجهاؤها ، وخصوصا آل زامل ، راضين عن حكم جلوي ، عامل الأمير فيصل ، في القصيم . ويقول دوتي أ، حاكم القصيم هذا كان ينهب السكان ويستأثر بأموالهم . وبدأ التمرد .

وكانت مشاركة الفقراء في هذا التمرد قد أضفت عليه صبغة جديدة . فقد هب ضد مضايقات أمير الرياض القسم الأكثر فقرا من السكان ، في حين لم يؤيد التجار الأثرياء المتمردين . وعلى أثر جلوى فر من من عنيزة الشيخ عبدالله أبو بطين الذي كان قاضيا لهذه المدينة مدةطويلة وأخلص الولاء للرياض . وصار عبدالله بن يحيى آل زامل الملقب سليم أميرا لعنيزة .

وفي أواخر 1855 انتهى التمرد صلحا . واضطر فيصل إلى تنحية حاكم المنطقة الذي عينه بنفسه ، بينما ظل زعيم المتمردين عبدالله بن يحيى في منصبه . وفي أواسط الخمسينات هطلت الأمطار غزيرة وكان المحصول جيدا فهبطت الأسعار . إلا أن وباء الكوليرا تفشى في نجد آنذاك . كان الوباء قد بدأ في الهند ونقل الحجاج عدواه إلى مكة في عام 1846 ، وانتشر منها في أوروبا وأميركا .

وفي عام 1860 واجه أمير الرياض تمردا جديدا من العجمان الذين صاروا أكثر جسارة . وأرسل الأمير قوات كبيرة بقيادة إبنه عبدالله إلى الشرق ، حيث نشبت على مسافة ثلاثين كيلومترا تقريبا جنوبي مدينة الكويت في 9 نيسان (إبريل) 1860 معركة جديرة بالتقاليد البدوية الجاهلية ، فقد أجلسوا الفتيات من قبيلة العجمان وبنات أو قريبات الشيوخ في هوادج خاصة على سبعة جمال . وأسبلت سبع من أجمل بنات عوائل الوجهاء شعورهن وارتدين أفضل ملابسهن وظهرن في مقدمة البدو يطلقن صيحات الحرب . وكان المحاربون متحمسين إلى أقصى حد ، لأنهم يرون بأم العين أنهم سيحاربون ، فيما يحاربون ، من أجل سلامة بناتهم الحسناوات اللواتي يمثلن شرف القبيلة . وكانت المعركة دموية لأن العجمان واجهوا قوات من أبناء المدن والحضر الأكثر تنظيما وانضباطا وهي قوات عززها محاربون من قبائل سبيع والسهول وقحطان ومطير . وقتل حوالي 700 من العجمان ففروا تاركين الفتيات والجمال وكل مايملكون . واختبأ في الكويت من ظل على قيد الحياة . وعمت البهجة والاحتفالات بهذا الحادث في الرياض وكذلك في البصرة والزبير اللتين تضررتا من غزوات العجمان وأرسلتا بعد النصر هدايا ثمينة إلى عبدالله .

إلا أن النصر الحقيقي كان بعيدا . فالعجمان احتفلوا بقوات كثيرة وتحالفوا مع قبيلة المنتفق القوية في جنوب العراق . وسرعان مابدأت القبيلتان غزو أطراف البصرة والزبير والكويت . وأعلن فيصل الجهاد . ونشبت معركة الجهراء في 27 آذار (مارس) 1861 ، وتم من جديد دحر العجمان والمنتفق . وحاصر النجديون خصومهم ودفعوهم إلى مياه الخليج ، وعندما ارتفع المد ابتلعت المياه حوالي ألف وخمسمائة محارب ممن لم يكونوا مطلعين على هذا النوع من الأخطار . وآثار النصر موجة جديدة من الفرح في العراق وفين جد على حد سواء . إلا أن انتصارات عبدالله الدموية على العجمان قد تركت لعشرات السنين حقدا عليه في هذه القبيلة ، الأمر الذي كان فيما بعد من الأسباب التي حرمته عرشه .

وبعد النصر شرقا توجه عبدالله إلى القصيم . وقرر عبدالعزيز أمير بريدة الهرب خشية مواجهة مخاطر أكبر . توجه إلى عنيزة ومنها إلى مكة . إلا أن فصيلا أرسله عبدالله بن فيصل اختطف عبدالعزيز في الطريق وقتله مع إبنه . واختطف إبن آخر لحاكم بريدة ممن كانوا قد شاركوا في حملة عبدالله على العجمان وقتل في السجن . ورغم الإنتصارين الكبيرين في 1860-1861 واجهت إمارة فيصل خطرا جديدا . وكان مبعثه هذه المرة أيضا هو القصيم ، وخصوصا عنيزة . كان أهالي عنيزة قد نعتوا تمردهم على الرياض في 1854-1855 بالحرب الأولى ، أما العمليات الحربية التي بدأت في عام 1862 فقد نعتوها بالحرب الثانية .

ظهر محاربون من عنيزة في ضواحي بريدة ، ونشبت صدامات في المنطقة كلها . وأعلن فيصلالجهاد من جديد . ونشبت معركة كبرى في أطراف عنيزة في 8 كانون الأول (ديسمبر) 1862 . وذكر دوتي تفاصيل تلك المعركة . ساعدت النساء رجال عنيزة بتزويدهم بالماء وحمل الجرحى . وكان رجال عنيزة مسلحين ببنادق الفتائل . وقاتل محاربو أمير الرياض أساسا بالرماح والسيوف . وفي معمعان المعركة هطلت الأمطار فتعطلت بنادق فصيل رجال عنيزة فاندحروا وأبيدوا عن بكرة أبيهم تقريبا . وقتل منهم حوالي 200 شخص . وكانت عساكر أمير الرياض حوالي ألف محارب . ويتضح من ذلك نطاق العمليات الحربية .

واضطر أهالي عنيزة إلى الاحتماء بأسوار مدينتهم . وفي بداية عام 1863 استلمت عساكر أمير الرياض قرب عنيزة إمدادات من جبل شمر والمنطقة الشرقية . وكانت لدى قوات الحصار عدة مدافع . وطلب رجال عنيزة الصلح . ولما كان أمير الرياض عاجزا عن تدمير عنيزة ووافق من جديد على العفو عن أهالي المدينة وإبقاء حكامهم السابقين .

علاقات نجد مع الحجاز والحكومة العثمانية في عهد فيصل

كانت علاقات نجد مع الحجاز معقدة دوما . وظل الباشوات العثمانوين في جدة والمدينة وشريف مكة يدعون بحق التدخل في شئون أواسط الجزيرة . وفي عام 1846 شن الشريف محمد بن عون حملة على نجد متحججا برفض فيصل دفع الأتاوات للباب العالي . وقد جرت العادة على أن يدفع أمير الرياض 10 آلاف ريال ، وربما كان ذلك من شرود (فراره) من مصر . والحجة الأخرى لحملة الشريف هي القلاقل في القصيم التي جعلت حاكم مكة يأمل في الحصول على مساعدة فعالة في هذه المنطقة .

كانت عساكر محمد بن عون تتكون من حوالي ألفي شخص ، وهم بالأساس من البدو . ومعهم فيصل صغير من القوات التركية النظامية . وفي ربيع 1847 وصل الشريف إلى القصيم دون أ، يواجه مقاومة في الطريق . إلا أن فيصل كان يستعد بهمة للحرب . وكانت القوى متعادلة تقريبا ، فكان الطرفان يتحاشيان الاشتباك في المعركة . وأرسل فيصل (هدية) إلى محمد بن عون ، وهي في الواقع أتاوة لمرة واحدة يبلغ 10 آلاف ريال ومعها خيول وإبل . ويبدو أن الاتفاق نص من جديد على دفع 10 آلاف ريال سنويا ، ولكن من الصعب القول بكيفية تنفيذه . وفي عام 1854-1855 أثناء القلاقل في الحجاز تخلف فيصل عن إرسال الجزية . حاولت السلطات العثمانية أن تحقق في عسير واليمن مالم يتمكن والي مصر من تحقيقه . وفي نيسان (إبريل) 1849 قامت القوات التركية بإنزال من السفن الحربية في الحديدة . ووصل إلى الحديدة أيضا فصيل بقيادة شريف مكة محمد بن عون . ووافق إمام اليمن على وجود حامية عثمانية في صنعاء ودفع الأتاوات إلا أن الأتراك انهزموا في عسير واليمن في عام 1851-1852 .

وعزز شريف مكة مواقعه وأقام علاقات طيبة مع قبائل عسير ومع قبيلة حرب الحجازية ، كما أقام ارتباطا مع عباس باشا والي مصر . إلا أ، هذا السلوك بالذات أثار ارتياب السلطات العثمانية . وفي عام 1852 وصل إلى والي جدة أمر بنفي الشريف محمد بن عون وإبنيه الأكبرين إلى العاصمة العثمانية . وأمكن القيام بذلك بخديعة غادرة . وعين المدعو عبدالمطلب شريفا لمكة .

اجتاحت الحجاز في الخمسينات قلاقل خطيرة كان من أسبابها تأخر دفع رواتب الجنود الأتراك سنة كاملة . وفي 1855-1856 فقد الأتراك مؤقتا السيطرة على مكة وتعين عليهم أن يبذلوا جهودا كبيرة لاستعادة سلطتهم هناك بإعادة إبن عون الذي ورث إبنه عبدالله منصبه بعد عامين . وطرد أهالي عسير الحاميات العثمانية . ولم يتمكن الأتراك من إرسال القوات بانتظام إلى سواحل الجزيرة العربية على البحر الأحمر واحتلال عسير من جديد في عام 1871 إلا بعد شق قناة السويس عام 1869 .

في عام 1858 قتل في جدة نائب القنصل البريطاني ونائب القنصل الفرنسي وأربعة عشر من الرعايا المسيحيين ، ونهبت منازلهم .وفر الذين ظلوا على قيد الحياة إلى الفرقاطة البريطانية (سايكلوبس) التي قصفت المدينة وقامت بإنزال فصيل بريطاني غير كبير . وبحضور الإنجليز قطعت رقاب 11 شخصا ، ثم جرى إعدام مدير الشرطة ورئيس الحضرميين والقائم مقام .

ومع أن إمارة الرياض كانت آنذاك مستقلة في الواقع عن الإمبراطورية العثمانية التزم فيصل بقدر كبير من الحذر وسعى إلى تحاشي الصدام مع الأتراك . ولم يقم بغزوات على الشام والحجاز والعراق . وفي عام 1855 وعام 1860 أكد فيصل في مراسلاته مع الإنجليز بشأن الأوضاع في الخليج بأنه يعتبر نفسه تابعا للباب العالي . وكان هذا التأكيد نافعا له في علاقاته مع الإنجليز . وكان الموظفون العثمانيون ، عندما تقتضي مصالحهم ، يتحدثون أيضا عن السيادة العثمانية في أواسط الجزيرة .

التناقضات بين إمارة الرياض وبريطانيا في منطقة الخليج

كتب ج. لوريمير عن السياسة البريطانية إزاء إمارة الرياض يقول (إنها عدم التدخل في إمارات الساحل والمقاومة المعتدلة في سلطنة عمان والمعارضة بلا هوادة في البحرين) . وهو يرى أ، هذه السياسة مبعثها (هجمات الوهابيين العدوانية المتواصلة على طوال خط الساحل) .

إلا أ، أمير الرياض كان يعتبر المناطق الساحلية ملكا له . فقد تحدث الأمير فيصل عن دولته إلى بيلي وقال له مافحواه : إنها تشمل أراضي الجزيرة العربية من الكويت عبر القطيف ورأس الخيمة وعمان ورأس الحد وكل مايقع وراء ذلك . هذا ما وهبنا الله . وأضاف فيما بعد : مسقط تابعة لنا . وقد أخذناها بقوة السلاح . ويرى أمير الرياض أ، الإنجليز عندما يفرضون حمايتهم على حكام الساحل إنما يتدخلون فيما لايعنيهم . ولكن فيصل يعرف قوة بريطانيا .

ظلت العلاقات بين فيصل وحاكم الكويت ودية . إلا أن حربا طويلا كانتق ائمة بين نجد والبحرين . ولم تسفر الصدامات الجديدة بين إمارة الرياض والبحرين في عام 1845-1846 عن انتصار لأمن الطرفين . ولم يستمر الصلح طويلا . ففي خريف 1850 اندلعت الحربمن جديد بين نجد والبحرين . واحتلت عساكر فيصل قطر . وحظي أمير الرياض بدعم من فرع انقلب على عائلة حكام البحرين ، الأمر الذي ساعده في تكوين أسطول له والتحضير لانزال على جزر البحرين . إلا أن عمارة بريطانية أرسلت آنذاك للدفاع عن البحرين ، فأنقذت حاكمها من الهزيمة . واضطر فيصل إلى الإتفاق بشأن الصلح مع البحرانيين ، ولكنه تمكن من جعلهم يدفعون الأتاوات والديون السابقة . كما أنه نصب في قلعة الدمام منافسي حكام البحرين .

وفي عام 1859 ، عندما تهيأ النجديون للهجوم من جديد على البحرين أبلغ المقيم البريطاني في منطقة الخليج الكابتن جونس الأمير فيصل بأن الحكومة البريطانية تعتبر البحرين (إمارة مستقلة) وهي مستعدة للدفاع عنها دون أية هجمات .

وفي عام 1861 فرض الكابتن جونس بمدافع العمارة البريطانية على شيخ البحرين إتفاقية كالاتفاقيات التي اضطرت الإمارات الصغيرة على ساحل الصلح البحري أ، تقبل بها في السابق . وغدت البحرين محمية بريطانية ولم تعد تتعرض لادعاءات الحكام السعوديين . صحيح أنها ظلت تدفع الأتاوات لأمير الرياض لقاء ممتلكاتها في قطر .

وفي العام نفسه حاول الإنجليز أن يخلصوا أنفسهم من التبدلات غير المتوقعة في العائلة الحاكمة البحرانية وبعثوا إنذارا لفيصل يطالبونه فيه بطرد منافس حاكم البحرين من الدمام . وقصفت العمارة البريطانية الدمام دون أ، تنتظر وصول الجواب . وفر من القلعة محمد بن عبدالله آل خليفة . وفي عام 1867 نشبت من جديد معركة بين عساكر أمير المنطقة الشرقية والبحرانيين . ويقول النبهاني ، مؤرخ البحرين ، أن تلك كانت آخر معركة في البحرين لأن الإنجليز وصلوا بعد ذلك .

وكانت عمان أيضا موضع تنافس بين النجديين والإنجليز . وبعد أن عاد فيصل إلى دست الحكم في عام 1845 سرعان ما أرسل إلى البريمي قوات بقيادة سعد بن مطلق . وكان هذا العقيد حاكما للبحرين حوالي ثلاثين عاما وخدم عند تركي ثم عند إبنه فيصل في العهد الأول من حكمه ، وعند خورشيد باشا وخالد ثم عند فيصل من جديد ، وكان مطلعا اطلاعا ممتازا على شئون عمان . وطلب الشيوخ المحليون النجدة من الإنجليز ، إلا أن هؤلاء كانوا لايزالون يتحاشون التدخل المباشر في شئون البر .

وعلى أثر وصول سعد بن مطلق إلى البريمي طالب عددا من الحكام المحليين بدفع الأتاوات ، ومنهم سلطان مسقط وحاكم الصحار . وعزز مطلبه بإرسال فيصل إلى مسقط . إلا أن الإنجليز أخذوا يمارسون الدوريات عند ساحل الباطنة ، فانسحب سعد بن مطلق ووافق على استلام جزية سنوية من مسقط مقدارها 7 آلاف ريال.

وفي عام 1848 تمكن حاكم أبو ظبي من الاستيلاء على البريمي . إلا أن منافسيه من دبي والشارجة ساعدوا إبن مطلق على العودة بعد بضعة شهور . ثم نجاه فيصل من منصبه عام 1850 وسرعان ماتوفى . وفي آذار (مارس) 1850 ، عندما تقلصت الحامية النجدية في البريمي إلى 50 شخصا استولى حاكم أبو ظبي على البريمي من جديد . وفي عام 1853 وصلت إلى هنا عساكر بقيادة عبدالله ، إبن الإمام فيصل . وأسرع شيوخ العشائر وحكام إمارات الساحل للإعراب عن خضوعهم للرياض . فقد كان نفوذها كبيرا آنذاك ، إلا أن المعتمد البريطاني الكابتن كمبيل تمكن من مقابلة الحكام المحليين وأرغامهم على توقيع (معاهدة الصلح الدائمية) . ووصلت عساكر النجديين إلى مسقط فأنقدتها العمارة البريطانية من جديد ، إلا أن حاكمي الصحار ومسقط التزما بدفع 12 ألف ريال سنويا إلى الرياض .

وفي كانون الأول (ديسمبر) 1853 غادر عبدالله البريمي بعد أ، عين أحمد السديري حاكما لها ، وظل هذا الأخير في منصبه حتى عام 1857 . ورغم التبعية للإنجليز ظلت مسقط والصحار وإمارات الخليج تدفع الأتاوات لإمارة الرياض . ولم تكن الأراضي التي يشرف عليها النجديون محددة بدقة ، فهي تتقلص تارة وتتسع تارة أخرى . مع أ، لديهم أحيانا عمال جباية الزكاة في قسم كبير من أراضي عمان ، وورث منصب أحمد السديري إبنه تركي الذي ظل حاكما للبريمي من 1857-1869 .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النظام الاجتماعي السياسي والحياة الاقتصادية في الدولة السعودية الثانية

كان أمير الرياض ، مثلما في الدولة السعودية الأولى ، إماما للمسلمين ، أي أنه قائد عام وحاكم أعلى وكذلك رئيس السلطة التنفيذية . وكان يبت شخصيا في أهم مسائل السياسة الداخلية والخارجية والقضايا المالية والحربية ويتخذ القرارات بشأن الغزوات أو الصلح ويشرف بنفسه على تنفيذها ويراقب استقبال وإرسال الممثلين المتعلقة بالحلفاء والأتباع والجيران والقبائل البدوية .

ولم يكن بلاطه كبيرا ، كما لم يكن مثقلا بالرسميات وبالجهاز البيروقراطي . وفي أهم المسائل كان الأمير يتشاور مع أقرب أقربائه الذين يعتبر ولاءهم له أسمى من المصالح المحلية . ولعبت عائلة آل الشيخ كذلك دورا هاما مع أ، أحدا منها لم يبلغ منزلة الشيخ محمد بن عبدالوهاب نفسه .

وكان توزيع المناصب المربحة والرفيعة قد ساعد على تلبية المطالب المتعارضة لأفراد العائلة . وأعلن فيصل أن عبدالله وريثه وأشركه في الشئون الحربية وفي حكم الرياض والمناطق الوسطى . ومنح فيصل إبنه الثاني سعود المنافس لعبدالله استقلالا كبيرا في حكم المناطق الجنوبية . وسلمت إلى محمد ، الإبن الثالث ، المناطق الواقعة شمالي العاصمة . ومال محمد إلى عبدالله في خلافه مع سعود ، وكان الإبن الأصغر عبدالرحمن الذي كان سيغدو فيما بعد أب مؤسس الدولة السعودية الجديدة قد ولد في عام 1850 وكان آنذاك صغير السن لايصلح لوظيفة مستقلة . إلا أن تقسيم الإمارة بين أبناء فيصل ساعدهم على كسب أنصار في مناطقهم ، الأمر الذي هيأ أساسا للنزاعات المرتبقة التي أدت إلى تمزيق الدولة السعودية الثانية .

وتدهورت صحة فيصل في السنوات الأخيرة من حياته . فعندما كان في مصر أصيب بالرمد ، وربما بالتراخوما ، وغدا أعمى كليا عندما قام العقيد ل. بيلي ممثل الإدارة الإنكلوهندية بزيارته الثانية إلى الرياض . وكان فيصل آنذاك في حوالي السبعين من العمر فلم يتمكن من تصريف شئون دولته بنشاط فسلم زمام الأمور إلى عبدالله . وكتب ر. ويندر يقول (إن عائلة السعوديين أفرزت في اللحظات الحاسمة أقوى الأشخاص الذين يتمتعون بالفطنة وقوة الطباع والذين تمكنوا من السيطرة على مختلف العناصر الإنفصالية في مملكتهم الشاسعة واستطاعوا أن يؤمنوا العدالة الصارمة) . وكان من هؤلاء الرجال الأشداء فيصل بن تركي . ورغم موقف الإنجليز المعادي لإمارة السعوديين اعترف المقيم ل. بيلي قائلا : (ماكان بوسعي إلا أن ألاحظ أن الأمير فيصل ، في رأي الجميع ، كان حاكما عادلا صارما وموفقا إلى أقصى حد في قمع العادات الوحشية للقبائل . وكان يريد أن يغرس بينها عادات أكثر تنظيما وتوجيه اهتمامها إلى الزراعة والتجارة . وكان يخيل لي أنه لا أحد يحب الأمير ، ولكن الجميع معجبون به . وكانوا يتحدثون عنه برهبة اختلط فيها الاحترام بالكراهية على نحو طريف) .

وبعد اللقاء الأول مع فيصل رسم بيلي صورته على النحو التالي : (وجدت الإمام جالسا في الركن إلا بعد للغرفة على سجادة صغيرة جذابة متكئا بظهرة إلى تكية ثقيلة ... وعندما اقتربتمنه نهض بصعوبة . أخذ يدي وتلمسها . كان ضريرا ، إلا أن محياه رائع بتقاسيم معتدلة وتعلوه مسحة من الهدوء والصرامة والاطمئنان . كان يبدو في أكثر من السبعين ، وملابسه فاخرة تنم عن ذوق رفيع . وعلى كوفيته عمامة من الحرير أخضر . نبرات صوته عذبة وكلماته هادئة موزونة كانت هيئته تدل على الاعتزاز بالنفس وتكاد تتسم بالرقة . ولكن المرء يشعر بأنه يمكن أن يكون قاسيا دون رحمة) .

إن درجة السيطرة المركزية القائمة في مختلف مناطق وأقاليم الدولة السعودية الثانية ، شأنها شأن الدولة السعودية الأولى ، تختلف من منطقة لأخرى وتتقلص كلما ابتعدت المسافة عن الرياض . ويعود دور للوضع الداخلي في هذه المنطقة أو تلك ولوزنها النسبي وللمعتقدات الدينية عند أهلها . وكان حاكم الرياض يعين الأمراء وكذلك علماء الدين في المناطق الوسطى .

وكانت من أسباب القلاقل في القصيم محاولات أمير الرياض لتقوية سلطته هناك . وقد اضطر إلى ترك أبناء الوجهاء المحليين في أماكنهم . وكانت العلاقات مع جبل شمر معتدلة إلى حد مدهش ، وذلك لأن الرياض لم تحاول بسط سيطرتها بصورة مباشرة على جبل شمر واكتفت بالتبعية الإسمية . وكانت هناك علاقات ودية بين الأسر الحامة وقد عززها التزواج بينها ن وكانت تلك الأسر بحاجة إلى مساعدة بعضها البعض عسكريا.

وكان أمراء الهفوف يعينون دوما من بين النجديين . ولم يكن سكان المنطقة الشرقية متعاطفين كثيرا مع الرياض والوهابيين ، إلا أن أهمية هذه المنطقة كبيرة لدرجة جعلت أمير الرياض يرى ضرورة الاحتفاظ بحاميات دائمية هناك .

وكان النجديين حامية في البريمي ، كما عين لها أمير من الرياض . إلا أن مجموعة واحات البريمي احتفظت بسمات المنطقة الجبهوية أكثر من الهفوف . وكما كان الحال في الأزمان السالفة ظل الاحتفاظ بالرهائن في العاصمة وسيلة لإرغام المناطق والقبائل على الولاء . وعندما دعا فيصل بيلي لزيارة السجن قال له بأنه سيرى هناك الآن حوالي سبعين من شيوخ العشائر.

وكانت القبائل البدوية على درجات متباينة من التبعية لأمير الرياض ، إلا أن فيصل لم يتمكن أبدا من السيطرة عليها بالشكل الذي كان في زمن الدولة السعودية الأولى . فقد شهدت سنوات حكمه الكثير من التمردات البدوية المتواصلة . وكانت الوهابية في الدولة السعودية الثانية قد فقدت جزئيا طابعا المتعصب المتشدد . ويبدو أن الخبرة الشخصية التي اكتسبها فيصل في مصر قد أوحت إليه أن المصريين والحكومة العثمانية أقوى بكثير من نجد وأن استفزازهم بإبداء مظاهر التعصب الديني يعني جلب الهلاك لنجد . إلا أن المشاعر الدينية كانت تشتد في بعض الأحيان .

كان التنظيم العسكري لإمارة الرياض في عهد فيصل مثلما كان في عهد السعوديين الأوائل . فقد كان على كل مدينة أو قبيلة أن تقدم في حالة الاستدعاء عددا معينا من المقاتلين والدواب . وكانت تلك الأرقام تسجل في سجلات تعتبر كذلك أساسا لجباية الزكاة . وعندما يصدر الأمير أمرا بالتعبئة يخبر الحكام المحليين بعدد المحاربين الذين يحتاج إليهم ، بينما يتحمل هؤلاء الحكام مسئولية جمعهم وتموينهم . ويشمل الاستدعاء عادة نصف العدد الإلزامي للمحاربين . وفي الحالات الاستثنائية تستدعي كل القوات طبعا . وكان المحاربون يأتون مع سلاحهم الخاص وماشيتهم . وكانت الحكومة ، من الناحية النظرية ، تقدم العتاد اللازم . وكان الفرسان أكبر شأنا ، ولذا كانوا يتمتعون بالامتيازات .

كانت كل قبيلة أو مدينة تشكل في عساكر أمير الرياض وحدة خاصة لها رايتها . وعندما تنتهي الحملة الحربية يجري حل العساكر كلها . ولا تستلم المتطوعة رواتب منتظمة ، إلا أ، أربعة أخماس الغنائم تقسم بين المحاربين – حصة للمشاة أو الهجانة وحصتان للفرسان . ويحال إلى بيت المال خمس الغنيمة . ولدى الأمير فيصل من الحرس الشخصي مكون من حوالي 200 عبد ومعتوق ، كانوا عند الاقتضاء يمارسون وظيفة الشرطة . وكان السكان الحضر يشكلون نواة عساكر نجد .

كانت عند النجديين بضعة مدافع ، ولكن من المشكوك فيه أنهم استخدموها إلا في حالات نادرة جدا . ولم يتخذ فيصل خطوات جدية لتشكيل أسطول حربي . فبدلا من ذلك كان يعول على شبه الأتباع كالبحرين . وبديهي أن حكام السواحل كانوا يجدون الأعذار للتملص من تنفيذ مطالبه . زد على ذلك أن المعاهدات التي فرضها الإنجليز عليهم قيدت إمكانيات العمل بالاشتراك مع الرياض .

ولم تكن الضرائب في عهد فيصل لتختلف عنها في ظل الدولة السعودية الأولى .. كان الزراع يدفعون زكاة الحبوب فقط والثمار القابلة للكيل والحفظ : 10% من محاصيل الأراضي الديمية و5% من محاصيل الأراضي السيحية . وكان البدو يدفعون زكاة الماشية في حدود 2.5-5% من قيمة الذهب والفضة ، وكذلك نفس النسبة من قيمة بضائع التجار . ويمكن أن يعفى من الزكاة الذين يحصلون على دخل سنوي أقل من الحد المعين . إلا أن ضرائب إضافية تطبق في حالة الحرب .

وكما كان الحال سابقا تتوارد على بيت المال مكوس الحج وأتاوات مسقط والبحرين والإمارات الأخرى وعائدات ممتلكات حاكم الرياض . ولايمكن حساب المداخيل العامة للدولة على وجه التدقيق . وقدم العقيد بيلي أثناء زيارته للرياض جردا تقريبيا للسكان والمداخيل والعساكر . وتفيد حساباته أن سكان نجد والإحساء ، والمقصود على مايبدو الحضر فقط ، بلغوا 115 ألف نسمة ، وإن المداخيل 692 ألف ريال وأن عدد المحاربين 7900 . أما البدو فقد حدد عددهم الإجمالي بـ 20 ألفا ومداخيلهم بـ 114 ألف ريال . وهكذا بلغت مداخيل الدولة ، في رأي بيلي ، 806 آلاف ريال . وهو يضيف إليها أتاوات مسقط وجبل شمر والبحرين والأقاليم الأخرى ، وكذلك مليوني ريال تجبى من الحجاج . وربما كانت هناك مبالغة في أرقام العائدات ، بينما قد يكون عدد الحضر والبدو أكثرمن الرقم المذكور . ولعل بيلي أخذ في الحسبان الذكور الراشدين فقط .

وقدر بلغريف المداخيل العامة للدولة بما يعادل 160 ألف جنيه إسترليني . والمعلومات المتوفرة عن نفقات الدولة السعودية الثانية أقل من تلك . وإذا أهملنا نفقات أسرة الأمير وبلاطه فإن نصف النفقات ، على مايبدو ، يصرف على الأغراض الحربية ، بينما يخصص الباقي للشئون الاجتماعية – صيانة الآبار والمساجد وكذلك معونات المرضى والعجزة ورواتب الموظفين الذين تعينهم الحكومة المركزية ورجال الدين والمعونات المقدمة إلى الشيوخ المحليين وأمراء الأقاليم . وكان قسم كبير من الزكاة يسدد عينا ، ولكنه يدفع نقدا في بعض المناطق .

وكانت العملة الرئيسية هي الريال الذهبي (ريال ماريا تيريزا) ، ومع ذلك استخدم في التداول الشلن الإنجليزي والنقود العثمانية والفارسية الذهبية والفضية . وفي المنطقة الشرقية غالبا ما كانت تستخدم النقود الهندية . وفي منطقة سواحل الخليج استخدم مايسمى بالنقود الطويلة ، وهي قطع نقدية معدنية مستطيلة تشبه الإبزيم النسوي وعليها كتابة عربية . وكانوا يصكونها من النحاس ويضيفون إليها قليلا من الفضة . وكانت هناك نقود طويلة فضية .

وفي عهد فيصل صار تصدير الخيول العربية الأصيلة بابا لعائدات ثابتة . وكانت خيول جبل شمر تصدر عبر الكويت ، أما الخيول الأخرى فتصدر عبر القطيف والعقير . وفي عام 1863 بيع عن طريق الكويت 600 من الخيول العربية بسعر متوسط قدره 150 ريالا للرأس الواحد . وأرسل عباس باشا من مصر عدة بعثات لشراء الخيول . وكان الرحالتان الأوربيان المعروفان فالين وغوارماني قد زارا الجزيرة العربية بحجة شراء الخيول . إلا أ، عدد الخيول المتبقية كان في عام 1864 قليلا جدا ، واتضح أن الخيول التي أرسلها فيصل إلى الاستانة سيئة للغاية مما آثار استياء الباب العالي الذي منع تصدير الخيول طوال أربعة أعوام . ولم يكن بالإمكان تطبيق هذا المنع عمليا .

وقبل اكتشاف البترول كان صيد اللؤلؤ هو العمل الرئيسي لسكان سواحل الخليج . إلا أن الإحساء أقل شأنا في صيد اللؤلؤ من البحرين وإمارات الصلح البحري وقطر . وكان لؤلؤ الخليج يرسل إلى بومباي ، ومن هناك يباع إلى أوروبا . ونجد عند لوريمير وصفا ضافيا لصيد اللؤلؤ مع قواعده الاجتماعية والمالية الثابتة . ومع أ، ماكتبه لوريمير يخص عام 1906 إلا أن اللوحة التي رسمها من المستبعد أن تكون قد تغيرت منذ ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر . ولئن كان قد مارس صيد اللؤلؤ في سواحل إمارات الصلح البحري 22 ألف شخص ، وفي قطر حوالي 13 ألف شخص وفي البحرين حوالي 18 ألف شخص وفي الكويت 9200 ، ففي واحة القطيف مارسه حوالي 3400 شخص فقط .

تمكنت الدولة السعودية الثانية من الانبعاث والنهوض بسبب توقف التدخل الخارجي في شئون نجد . وكانت مصلحة قسم كبير من وجهاء وأعيان نجد وتجارها وصناعها وزراعها في التوحيد وتأييد الفقهاء الوهابيين وارتفاع منزلة آل سعود قد مكنت فيصل من بسط سيطرة الرياض على قسم كبير من أواسط الجزيرة وشرقيها . إلا أن علائم الضعف والخور ، وأحيانا عجز السلطة المركزية ، والنزعة الانفصالية لدى الإقطاعيين ونزوات القبائل البدوية كانت واضحة لدرجة كبيرة لاتجعل أحدا من المعاصرين يتوقع لإمارة الرياض عمرا مديدا . وكان إقليم جبل شمر القوي حليفا أكثر من كونه تابعا طبعا . ودافعت القصيم عن استقلاليتها في تمردات متكررة . وكانت القبائل البدوية تتحدى فيصل المرة بعد المرة . وخيم ظل الإمبراطورية البريطانية من جهة الخليج وبحر العرب ، وكانت قد ابتلعت في الواقع الإمارات الصغيرة على سواحل شبه الجزيرة . وأضيف إلى ذلك كله تعمق الخلافات والانقسام داخل أسرة أمير الرياض .