تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الرابع
الفصل الرابع: النظام الاجتماعي والسياسي في إمارة الدرعية
لم تغير الوهابية النظام الاجتماعي في الجزيرة العربية مع أن فئة الوجهاء والأعيان في إمارة الدرعية التاسعة قد برزت من بين سواد السكان وكان نشاطها الاستغلالي منظما بعض الشيء . إن استئثار الوجهاء الحاكمين بالثروات عن طريق النهب والجزية ومصادرة الأموال وفرض الضرائب واستلام بدلات الإيجار قد اتسع ولكنه لم يكن يختلف من حيث الجوهر عن الممارسات السابقة .
النهب في الغزوات والغرامات الحربية كانت حملات الوهابيين تحت راية تجديد الدين تستهدف تحقيق مهمات دنيوية بحتة تتلخص في زيادة ثروات حكام الدرعية ووجهاء الجزيرة المرتبطين بها (وجهاء نجد بالدرجة الأولى) . ويدل ما كتبه مؤرخو الجزيرة والرحالة الأوروبيون على أن الغزو ظل هو الطريق الرئيسي لحصول الوجهاء والأعيان على الثروة . وكتب المؤرخ الوهابي ابن بشر يقول ، بعد أن عدد الضرائب التي وردت إلى الدرعية : (وما ينقل إليها من الأخماس والغنائم أضعاف ذلك) . ويعقتد بوركهاردت كذلك أن الأخماس تحتل المرتبة الأولى بين عائدات حاكم الدرعية . كانت غزوات الوهابيين الأولى تنتهي بالاستيلاء على بضع عشرات من الإبل والأغنام ونهب الحقول أو بساتين النخيل ، أما في سنوات أوج قوتهم فقد كانت غنائمهم تبلغ عشرات الآلاف من رؤوس الماشية المنهوبة . وفي عام 1796 بعد دحر قوات شريف مكة وقع في أيدي الوهابيين 30 ألفا من الإبل و200 ألف من الأغنام والماعز .
ويقول ابن بشر أنه عندما تم في عام 1790-1791 دحر قبائل مطير وشمر حصل الوهابيون على (غنائم كثيرة من الإبل والغنم والأثاث والأمتعة) . وسرعان ماتعرض سائر البدو لمثل هذا المصير . فقد كان الوهابيون يطاردونهم يومين أو ثلاثة (ويأخذون منهم الأموال ويقتلون الرجال) . إن المصنفات التاريخية العربية غاصة بوقائع من هذا النوع .
وكما هو حال الغزوات البدوية كان النهب الوهابي يسفر عن تجريد القبائل المستضعفة ليس فقط من المنتوج الزائد ، بل وكذلك من قسم كبير من المنتوج الضروري ، وغالبا ما يحكم على السواد الأعظم من السكان المنهوبين بالموت جوعا . ولم يقتصر النهب على البسطاء من أبناء القبائل أو سكان المدن ، فقد تعرض للنهب الوجهاء والأعيان أيضا . إلا أن هؤلاء لايندر أن يعوضوا عن خسائرهم على حساب بسطاء البدو أو الفلاحين . وكان الوهابيون المنتصرون يرأفون عادة بحال الوجهاء ، ويفضلون إقامة علاقات طيبة معهم . وكان الوجهاء المغلوبون يفقدون استقلاليتهم السابقة ، ولكنهم يصبحون جزءا من الطبقة الحاكمة في الدولة السعودية .
ويدل كبر حصة غنائم الحرب في مداخيل الدولة الوهابية على طابعها الحربي التوسعي . فقد تعرضت للنهب القبائل والمدن والواحات والمناطق غير المنضمة إليها أو التي حاولت التخلص من سلطة أمراء الدرعية ، وكانت الحروب والغزوات والنهب والتوسع المتواصل من أهم شروط وجود الدولة السعودية . وكان مستوى تطور القوى المنتجة في الجزيرة العربية لا يزال عاجزا عن تمكين الوجهاء والأعيان الوهابيين من الاستئثار بمنتوج عمل السكان بواسطة الأنواع الأكثر تنظيما من الاستغلال بنفس المقادير التي يؤمنها النهب السافر . وبغية الحفاظ على مداخيل الطبقة الحاكمة تعين على إمارة الدرعية أن تتوسع بلا انقطاع . وفي حالة توقف التوسع لن يتمكن الوجهاء الحضر ، وخصوصا وجهاء البدو ، من استلام المداخيل التي تعودوا على استلامها من السكان الخاضعين لهم . وفي تلك الحالة تنتفي دوافع توحيد الوجهاء والأعيان في إطار دولة موحدة . وفي ذلك يكمن التناقض الداخلي الرئيسي للدولة الوهابية الأولى التي كانت تحمل في أحشائها منذ لحظة ظهورها جنين هلاكها وسقوطها .
وكان المصدر الآخر لإثراء الطبقة الحاكمة هو الغرامات ، وهي عبارة عن جزئية نقدية أو عينية تفرض على القبائل أو الواحات الخاضعة للوهابيين أو المنضمة إليهم . وكانت الغرامات تفرض مرة واحدة ، ولكن تسديدها قد يستمر عدة سنوات فيكتسب شكل الجزية أو الضريبة المتواصلة . ففي عام 1787-1788 فرضت على أهالي واحات وادي الدواسر الذين أخضعهم الوهابيون غرامات بمبلغ ألفي ريال كان يجب تسديد ألف منها فورا . وبعد أن منى أمير الإحساء عريعر بالهزيمة في هجومه على الوهابيين تهيأ أمير الدرعية للتنكيل بحلفائه الذين انتقلوا إلى صف الإحسائيين . وطلبت منه واحات المحمل وثادق أن يعفو عنها ، فعفا عنها ، ولكنه فرض عليها ، كعقوبة ، غرامات (من ثمر الزرع والتمر) .
وفي عام 1767-1768 انضم إلى الوهابيين سكان الوشم وسدير و(بايعوا على دين الله ورسوله والسمع والطاعة) . والتزموا بأن يدفعوا إلى الدرعية غرامات نقدية وعينية . وعندما أخضع أمير الدرعية سكان الحوطة والحريق واليمامة والسلمية وقسم من الخرج فرض عليهم جزية (بما شاء من النقود) .
وفرض الوهابيون غرامات بشكل نقود وأسلحة وأفضل الخيول مع عدتها على قبائل البدو المجاورة لمكة .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الاستيلاء على الملكية العقارية
لم يورد المؤرخون الوهابيون عن انتزاع الأراضي من الفلاحين وتحويلهم إلى مستأجرين إلا أنباء متفرقة وشحيحة . عندما احتل عبدالعزيز الرياض (ملك بيوتها ونخيلها إلا قليلها) . ويبدو أن مساكن أهل الرياض غدت ملكا لأمير الدرعية . ولكن ماذا يستفيد من هذه الملكية إذا كان الكثير من سكان الرياض قد هربوا؟ وهل يستطيع الأمير أن يؤجر تلك الدور؟ لعل أمير الدرعية قد باع في أغلب الظن الأدوات المنزلية المنهوبة وليس واضحا كذلك كيف جرى التصرف بالنخيل . فمن الذي صار يسهر عليها ؟ وما الذي يعنيه المؤرخ بقوله (إلا قليلها ؟) ربما كانت هذه النخيل ملكا لأنصار الوهابيين من أهالي الرياض أو أن عبدالعزيز وزعها على المقربين إليه .
ونجد معلومات أكثر تحديدا عن بساتين النخيل في الخرمة . فقد احتل الوهابيون الواحة ووافق سكانها على إحالة النخيل إلى بيت المال . أما باقي المزروعات المغروسة بين النخيل أو في الحقول الخالية من النخيل فلا نعرف عنها شيءا . (وبالمناسبة فإن شروط هذا الاتفاق لم تنفذ . فقد اعتبرها عبدالعزيز سهلة جدا ، ولذا أمر بتدمير أسوار الواحة وتهديم قسم من الدور وطرد جماعة من السكان) .
وفي معرض الحديث عن مداخيل الدولة السعودية أشار بوركهاردت إلى أن بيت المال (الخزينة) يقسم إلى قسمين أحدهما للإمام والآخر للدولة . (ويتسلم زعيم الوهابيين القسم الأكبر من مداخيله من عائدات أملاكه الخاصة . وقد جرت العادة على أن ينهب إحدى مناطقه أو مدنه إذا كانت قد تمردت لأول مرة . وإذا تكرر التمرد لايكتفي بالنهب ، بل يصادر كل أراضي السكان ويحيلها إلى بيت المال . ثم يهدي قسما منها إلى الغير ، ولكنه يترك القسم الأكبر لأصحابها السابقين الذين يتحولون إلى مستأجرين ويجب عليهم أن يدفعوا له تبعا للظروف ثلث المحصول أو نصفه . إن ملكية الأشخاص الذين شاركوا أنشط مشاركة في التمرد تحال إلى غيرهم . أما هم أنفسهم فيطردون أو يقتلون ... وفي الوقت الحاضر يعود القسم الأكبر من الملكية العقارية في نجد إلى بيت المال أي خزينة الدولة . وإن ملكية كل الأراضي في القصيم التي كان سكانها يتمردون دوما قد تركت لهم على سبيل الإيجار . والكثير من القرى في الحجاز وفي الجبال الواقعة على جانب اليمن يعود إلى بيت المال أيضا) .
إن نظام استغلال السكان الخاضعين الذين يتحدث عنهم المقتطف أعلاه يبدو على العموم ناجزا وكاملا ، مع أن الكثير من جوانبه يبقى غامضا ، ومن ذلك ، مثلا ، مسألة ما إذا كان بدل الإيجار يرد إلى بيت المال أو يوضع تحت تصرف أمير الدرعية شخصيا . ومن يقصد بوركهاردت بكلمة (الغير) هل يقصد الفلاحين الذين استقروا في المناطق التي استولى عليها الوهابيون أم يقصد ملاكا جددا يستأجر الملاك السابقون الأراضي منهم ؟ سؤال تصعب الإجابة عليه .
إن معطيات هذا الرحالة الأوروبي والمصنفات العربية تكمل بعضها البعض ، ولكنها متعارضة بعض الشيء . وهناك مبررات تجعلنا نصدق بقدر أكبر ما يقوله مؤرخو الجزيرة . فإن ابن بشر ، مثلا ، كانت له علاقات مع موظفي المالية في البلاط وقد استقى معلوماته منهم شخصيا . أما بوركهاردت فكان يتناول الكثير من ظواهر الحياة في الجزيرة من مواقع الأوروبي المتحيزة دون قصد . إن مؤرخي الجزيرة لا يتحدثون إلا نادرا جدا عن ملكية الأراضي المحالة إلى بيت المال . وهم يشيرون في عدة حالات فقط إلى وجود الخراج (ضريبة الأرض) في الدولة الوهابية ، ولكنهم لايحددون طابعه . وإذا كان الخراج هو إيجار الأرض الذي يقدم لقاء أراضي الدولة فإن معطيات بوركهاردت تحصل على برهنة كافية إلى حد ما . وفي هذه الحالة يمكن الكلام عن إعادة توزيع مكثفة لملكية الأراضي في الدولة السعودية وعن التوافق بين ريع الأرض والخراج الذي يجبيه بيت المال .
وعندما أبدى حليف الوهابيين أمير حريملا مبارك بن عدوان تذمرا اقترح عليه محمد بن عبدالوهاب وأمير الدرعية قائلين (خذ من نخيل حريملا ما تريد واجلس عندنا ولك الحشمة والوقار وخراجك علينا) . وصار مبارك بن عدوان أسيرا فخريا عند الوهابيين . ولكنه ، على مايبدو ، احتفظ بريع بساتين النخيل .
الزكاة
من أهم المستحدثات في إمارة الدرعية فرض ضريبة مركزية منتظمة على جميع سكان الدولة بشكل الزكاة المنصوص عليها في القرآن لمساعدة الفقراء والمساكين والتي هي واحد من أركان الإسلام . إن الأهداف الدينية المتجسدة في بعث الزكاة تستجيب بأفضل شكل لمتطلبات ومهمات الدولة السعودية الإقطاعية . وأشار ابن بشر وهو يتحدث عن استيفاء الزكاة إلى أن (الإسلام الحقيقي) انتشر في نجد وقال (بعثت العمال لقبض الزكاة وخراج الثمار بعد أن كانوا قبل ذلك يسمون عند الناس مكاسا وعشارا) .
ويقول هذا المؤرخ النجدي أنه كانت تخرج من الدرعية سنويا جماعات لقبض الزكاة من البدو . وكل جماعة تتكون من سبعة أشخاص تضم أميرا وكاتبا وحامل الدفتر وجابيا لجمع النقود من بيع الإبل والغنم والماعز المخصصة لتسديد الزكاة . بالإضافة إلى ثلاثة حراس مسلحين يقومون بجمع القطعان واقتيادها وحراستها . وكان حكام الدرعية يرسلون إلى البدو أكثر من سبعين جماعة لقبض الزكاة ز وكان هناك مخولون خاصون باستيفاء الزكاة من محاصير المزارعين ومن القرى الصغيرة والكبيرة وموظفون لاستيفاء الزكاة من البضائع. وكتب بوركهاردت يقول (كان جباة الزكاة يرسلون سنويا من الدرعية إلى مختلف المناطق والقبائل . وهم يستلمون مبلغا نقديا معينا مقابل عملهم وكذلك نفقات السفر) .
وتبين معلومات ابن بشر أن جماعات قبض الزكاة كانت تعيش على حساب الأشخاص الذين تستوفي عنهم الزكاة . وهذا يهيئ الفرصة للفساد . وتبلغ الزكاة عشر محصول الأراضي الديمية وخمس محصول الأراضي الأروائية وربع العشر عن رأسمال التاجر . ويقول بوركهاردت أنهم كانوا يأخذون ريالا من قبيلة عنزة لقاء كل خمسة جمال وثمن نعجة واحدة لقاء كل 40 رأسا من الغنم ، وما ياد 7 شلنات عن كل حصان . ولكنه يمكن الافتراض بأن مبلغ الزكاة يختلف باختلاف المناطق .
ويصعب تحديد المبالغ الإجمالية للزكاة التي كانت ترد إلى الدرعية ، مع أن ابن بشر قد أورد بعض الأرقام وكتب يقول : (وأخبرني أحمد بن محمد المدلجي قال كنت كاتبا لعمال علوي من مطير مرة في زمن عبدالعزيز . فكان ماحصل منهم من الزكاة في سنة واحدة أحد عشر ألف ريال . قال وكان عمال بريه من مطير رئيسهم عبدالرحمن بن مشاري بن سعود . فكان ماجبى منهم إثنى عشر ألف ريال . ومن هتيم سبعة ألاف ريال . وكانت زكاة مطير في تلك السنة ثلاثين ألف ريال . وكان عنزة أهل الشام وبوادي خيبر وبوادي الحويطات المعروفات ومن في نجد من عنزة يبعث إليهم عوامل كثيرة ويأتون منهم بأموال عظيمة . وأخبرني من أثق به قال أناخ في يوم واحد تحت الطلحة المعروفة عند باب بلد شقرا أربع عوامل من عمال بوادي الشام ، كل عاملة معها عشرة آلاف ريال . قلت ويأتي غير ذلك من زكاة بوادي شمر وبوادي الظفير قريب مايأتي من عنزة ، ومن قحطان وبوادي حرب وعتيبة وجهينة وبوادي اليمن وعمان وآل مرة والعجمان وسبيع والسهول وغيرهم ما يعجز الحصر . وتؤخذ منهم الزكاة على الأمر الشرعي ولايؤخذ فيها كرائم الأموال ولا دونها إلا من غيب من إبله أو غنمه شيئا عن الزكاة في الدرعية قد ازداد بقدر أكبر في عهد سعود بن عبدالعزيز .
فقد قال عنه ابن بشر مايلي : (وأما عماله الذين يبعثهم لقبض زكاة الإبل والغنم في بوادي جزيرة العرب مما وراء الحرمين الشريفين وعمان واليمن والعراق والشام ومابين ذلك من بوادي نجد فذكر لي بعض خواص سعود ممن قد صار كاتبا عنده ، قال : كان يبعث إلى تلك البوادي بضعا وسبعين عاملة في كل منها سبعة رجال ... وأخبرني ذلك الرجل أن سعودا بعث عماله لبوادي الغز المعروفين في ناحية مصر ، وبعث عماله أيضا لبوادي يام نجران وقبضوا من الجميع الزكاة وقال : آتوا عمال آل فدعان المعروفين من بوادي عنزة بزكاتهم بلغت أربعين ألف ريال من غير خرج العمال وثماني أفراس من الخيل الجياد . قال : وهذا أكثر ماتأتي به العاملة من تلك العمال كل سنة ، وأقل ماتأتي به العاملة من أولئك العمال المذكورين ثلاثة آلاف ريال وألفين ونصف ، قال : والذي يأخذه سعود علي بندر اللحية المعروفة في اليمن مائة وخمسون ألف ريال وهو لايأخذ إلا ربع العشر ، ومن بندر الحديدة نحو ذلك ...
قلت : وأما غير ذلك مما يجيء إلى الدرعية من الأموال من القطيف والبحرين وعمان واليمن وتهامة والحجاز وغير ذلك وزكاة ثمار نجد وعروضها وأثمانها لايستطيع أحد عده ولا حصره ...) . ولم يذكر ابن بشر المبلغ الإجمالي لمداخيل امرأة الدرعية . وربما لايعرف ذلك المبلغ الأمراء أنفسهم . وقد قدر بوركهاردت العائدات السنوية لبيت مال الوهابيين بمليون ريال ، علما بأن أفضل الأعوام عاد عليهم بمليوني ريال . إلا أن الرحالة لم يؤكد ما إذا كان هذا الرقم يضم غنائم الحرب ومختلف أنواع الغرامات أم أنه يضم الضرائب فقط .
ويقول مؤلف (لمع الشهاب) أن العائدات الضرائبية السنوية لسعود في عز جبروته بلغت كما يلي : 400 ألف ريال من سكان نجد البدو والحضر و500 ألف ريال من بدو الشام واليمن وتهامة وعمان وحوالي 400 ألف من الإحساء و200 ألف من القطيف و40 ألفا من البحرين , و300 ألف من اليمن (من السكان الحضر على مايبدو) و200 ألف من بدو الحجاز وبعض المناطق الأخرى و120 ألفا من رأس الخيمة (بما فيها حصة النهب) و120 ألفا من حضر وبدو (؟) عمان ، فضلا عن نفقات القوات الوهابية هناك . أما غنائم الغزوات فلا تعد ولاتحصى . وكان سعود شخصيا يستلم مداخيل كبيرة بشكل هدايا من الحجاج الأثرياء ، وكانت الأراضي التي يملكها في نجد والإحساء تعود عليه بـ 300 ألف ريال (23) وهكذا يصل المبلغ الإجمالي لمداخيل أمير الدرعية بشكل ضرائب حسب معلومات (لمع الشهاب) إلى مليوني ريال تقريبا . وهذا يتفق مع ما قاله بوركهاردت .
كانت عائدات الأمراء السعوديين هائلة بالنسبة للجزيرة العربية آنذاك . ولكنه ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار التذبذب الكبير في الأسعار من موسم لآخر أو من منطقة لأخرى . ويكفي القول أن حمل الحطب في الدرعية ، كما يقول ابن بشر ، يكلف 5-6 ريالات وأن ثمن النخلة الواحدة يصل إلى 50 ريالا . إن الطابع الطبقي للدولة السعودية التي كانت تخدم مصالح وجهاء الجزيرة العربية قد تجلى كذلك في ميدان التوزيع المركزي للثروات . ولكنه لايمكن تحديد المبالغ المطلقة والنسبية لنفقات الدولة إلا بصورة تقريبية .
البلاط السعودي
إن الأموال التي تنفق على بلاط أمراء الدرعية وأسرة محمد بن عبدالوهاب تشكل واحدا من أبواب الصرف الرئيسية . فقد تجمعت كملكية شخصية للسعوديين ثروات بشكل أراض في الواحات وماشية وأحجار كريمة ومجوهرات وأموال أخرى . وكتب ابن بشر يقول أن ثلث الضرائب المستحصلة في منطقة الإحساء ينفق على بلاط السعوديين وأسرة ابن عبدالوهاب والحاشية . إنعوائل الوجهاء العرب عموما كبيرة للغاية . فالأموال الكثيرة تمكن أبناء الوجهاء من التزوج من أربع نساء على الأقل كما ينص القرآن ، بالإضافة إلى الجواري . وإن التغذية الجيدة والظروف الصحية الأفضل بعض الشيء مما لدى باقي السكان تقلل من وفيات الإطفال في العوائل اموسرة . وكانت عائلة السعوديين كبيرة جدا (الأمير وإخوانه وأولاده وأعمامه وأبناء عمومته وأبناؤهم) . ويقول بوركهاردت أنه كان لدى سعود عدة زوجات ووصايف حبشيات .
إن أمراء الدرعية بعد أن انضووا تحت لواء الوهابية التي باركت سلطتهم والتي تدعو إلى البساطة والاعتدال صاروا يعيشون بقدر كبير من البذخ والفخفخة بالنسبة للجزيرة العربية . وأشار كورانسيز إلى (أن سعود ذاق طعم الترف وكان لابد من أن يتأثر به) . ويضيف المؤرخ الفرنسي قائلا : (ذلك هو طريق جميع الطوائف التي تبدأ بالبساطة والتقشف لتجتذب الجماهير وتنتهي بالترف للزعماء) .
ونقرأ في (لمع الشهاب) عن سعود مايلي : ( وكان تحته أربع نسوة بالعقد وست جوار من القرج أرسل بعض الناس خفية إلى أطراف بلاد الروم فاشتروهن له بقيمة كبيرة قبل كل واحدة اشتراها بثلاثة آلاف ريال أو أكثر لأنهن متناهيات في حسن الصورة وأيضا له عشر وصايف حبشيات بعضهن أهداه له الشريف حمود أبو مسمار صاحب أبي عريش وتهامة اليمن وبعضهن أتوه به القواسم أهل رأس الخيمة من ما اكتسب من الغنايم وقد غير بنيان البيت الذي كان لأبيه عبدالعزيز فوسع عرصته وبنى غرفا وخلوات وعين لكل امرأة موضعا خاصا هي وخدمها ... وأما لباس نسائه فكان أطيب لباس وغالبه من الحرير الهندي المصنوع بالذهب أحمر أو أصفر أو أخضر وغير ذلك من الألوان وكذلك يلبس من بز الشام الحرير العال المطرز بالذهب ... وقد جملهن من الحلى شيءا عظيما من الذهب المرصع بالجواهر النفيسة من الياقوت الأحمر وغيره كثيرا ...وكان يرسل بعض الناس إلى ملك فارس فيشترون له ذلك ... وكان سعود يترف في المأكول كما يترف في الملبوس وغالب قوته وقوت عياله الرز وصار أكل الحنطة لديهم قليلا واتخذ له أناساس من أهل الإحساء أو القطيف يصنعون له الأطعمة الحسنة من اللحوم المقلية والطيور المحشية والحلويات ...) .
وكتب رايمون (إن سعود يحب إبداء كل مظاهر الفخفخة . وكل شيء في قصره يدل على لاعظمة والبذخ ولايرفض أي شيء من أجل تزيين القصر . ولايبخلون بالذهب واللؤلؤ وأغلى الأقمشة الهندية من أجل جعله أكثر روعة . ويقال أن عباءة سعود بديعة الصنع للغاية وقد كلفته ما لايقل عن 60 ألف بيزة) . في أقوال رايمون مبالغة. ولكن من الواضح أن أمراء الدرعية في تلك الأزمان الغابرة لم يبخلوا على أنفسهم بالترف الذي يتمكنون عليه . وإلى جانب الماشية والأراضي والأحجار الكريمة والسلاح المزين بالنفائس والقصور والقلاع كانوا يمتلكون كذلك الخيول الأصيلة التي يعتز بها وجهاء الجزيرة كل الاعتزاز . ومن المعروف أن سعود بن عبدالعزيز أنفق أموالا طائلة على رعاية تلك الخيول . وبلغ عدد الخيول الأصيلة في قطعانه 2.5 ألف رأس . وخصص منها 600 حصان لأشجع البدو والمماليك . وكان لدى كل من أبناء سعود 100-150 حصانا ، وكان عند ولي العهد عبدالله 300 . كان أمراء الدرعية يستولون على الخيول في الغزوات ويستلمونها بشكل هدايا وزكاة وغرامات ، ولايتورعون حتى عن ابتزازها . كتب بوركهاردت يقول (الأعراب يتشكون من أنه عندما يمتلك أحد ما حصانا جيدا فإن سعود يجد ضده تهمة مابخرق القانون أن بسوء السلوك لكي يبرر مصادرة ذلك الحصان) .
وكانت أموال كبيرة تنفق على الضيافة التقليدية . ففي كل يوم يحل على سعود بضع مئات من الضيوف . وكان سعود يخصص للضيوف سنويا 500 صاع من الرز والقمح . (يتراوح الصاع في الجزيرة العربية ما بين لتر واحد ولترين ونصف) . وخلال يومين من ولائم زفاف أحد أبناء سعود التهم الضيوف 140 ناقة و1300 خروف . إن ضيوف سعود الكثيرين لم يكونوا من الفقراء عادة . وكان سخاء الأمير يعم الموسرين في الغالب . ثم إن الغذاء المقدم للضيوف يختلف . فالوجهاء يقدم لهم اللحم والرز ، والأقل منهم جاها يقدم لهم التمر والبرغل . وكان سعود بمتلك عددا كبيرا من العبيد . كتب ابن بشر يقول : (ومماليكه الذكور أكثر من خمسمائة مملوك وقال غيره : ستمائة الذكور وقال آخر أن مماليكه ألف الذكور أكثر من خمسمائة ومائتان الإناث والذي يظهر من القصر آخر رمضان ألف وثلاثمائة فطرة عن خدمه وعبيده ومافي قصره من الأيتام) . وكان عبيد الأمير يتمتعون بالامتيازات بالمقارنة مع مجموع سكان الجزيرة الفقراء شبه الجياع . وكانوا يشكلون حرس البلاد وحاشية شخصية للأمير . وقد ارتقى بعضهم إلى مناصب عليا في الدولة . فإن المملوك الخرق صار قائدا للقوات الوهابية في المعارك . وقد تم انعتاق الكثيرين من العبيد .
واحتفظ بلاط السعوديين ، وخصوصا في المراحل الأولى ، ببساطة العادات ، و(بديمقراطيتها) إذا استخدمنا المصطلحات الحديثة . ولم يظهر بشكل واضح جدا الانفصال الظاهري بين أصحاب السلطة والأمير الإقطاعي وبين جمهور السكان . ومن الناحية الظاهرية احتفظ أمير الدرعية ببعض التشابه م شيوخ القبائل البدوية . فإن أبسط البدو كانوا يخاطبونه بدون رسميات : يا سعود ، يا أبا عبدالله ، يا أبا شوارب . وكتب كورانسيز عن (بساطة وخشونة العادات) في بلاط أمير الدرعية . كان مجلس سعود مفتوحا للجميع . ويستطيع كل قادم أن يؤمل في كرمه وحسن ضيافته . وكان الأمير شخصيا ينظر في شكاوي رعيته . وكان حكمه القضائي يتميز بالسمات العشائرية . وقد كتب بوركهاردت أن سعود بنفسه كان أحيانا يجلد الكاذب ، ولكنه يأسف لذلك طويلا فيما بعد ، ويطلب من المحيطين به أن يخففوا من غضبه .
وكان سكان الدرعية غالبا مايحضرون دروس الفقه التي يأتي إليها جميع الوجهاء وأبناء محمد بن عبدالوهاب وأبناء سعود وأقاربه . وكان الأمير نفسه يحضرها . (فإذا اجتمع الناس خرج سعود من القصر ومعه دولة وجلبة عظيمة تسع جلبتهم كأنها جلبة النار في الحطب اليابس من قرع السيوف بعضها بعضا من شدة الازدحام ، لاترى فيهم الأبيض من الرجال إلا نادرا ، بل كلهم مماليكه عبيد سود ، ومعهم السيوف الثمينة المحلاة بالذهب والفضة ، وهو بينهم كالقمر تبين في فتق سحاب . فإذا أقبل على ذلك قام له الذين في طريقه لئلا يطأهم العبيد حتى يخلص إلى مكانه . فيسلم على الكافة ثم يجلس بجانب عبدالله ابن الشيخ وهو الذي عليه القراءة في الدرس ... فإذا تكامل سعود جالسا التفت العلماء والرؤساء من المسلمين ... ودخل القصر وجلس في منزل من منازله القريبة للناس ورفعوا إليه حوائجهم حتى يتعالى النهار ويصير وقت القيلولة فيدخل إلى حرمه ... وكان من أحسن الناس كلاما وأعذبهم لسانا وأجودهم بيانا فإذا سكت قام إليه أهل الحوائج من أهل الشكايات من البوادي وغيرهم وكان كاتبه على يساره فهذا قاض له حاجة وهذا كاتب له شكاية وهذا دافعه وخصمه إلى الشرع فيجلس في مكانه ذلك نحو ساعتين حتى ينقضي أكثرها ، ثم ينهض قائما ويدخل القصر ويجلس في جلسة في المقصورة ويصعد إليه كاتبه ويكتب جوابات تلك الكتب التي رفعت إليه في ذلك المجلس) ...
كان الحراس يحيطون بسعود دوما . وعندما يصلي في مسجد القصر يحرسه عبدان ، وعندما يخرج إلى لاصلاة مع الناس يرافقه ستة عبيد يحملون السيوف : إثنان أمامه وإثنان خلفه وإثنان وراء الصف الثاني من المصلين . وقد اتخذت هذه الإجراءات تحوطا للطوارئ بعد مقتل أبيه عبدالعزيز في المسجد . ويستنتج مما ذكره ابن بشر مع ذلك أنه نشأت في بلاط السعوديين مراسيم خاصة للفصل الظاهري بين الوجهاء والشعب والتأثير على بسطاء الناس عن طريق الأبهة والفخفخة عند الحاشية والخدم وخصوصا آداب السلوك وهلمجرا .
نفقات الدولة خارج بلاط الأمير
كانت الهدايا التي يقدمها أمراء الدرعية إلى الوجهاء والأعيان بشكل عيني (خيول أصيلة وأسلحة وماشية) وبشكل مكافأة مالية واحدا من أساليب إعادة توزيع الثروات المستحصلة داخل الطبقة الحاكمة . وكتب بوركهاردت أن أمير الدرعية كان يهدي لشيوخ البدو ما بين 50 و 300 ريال . وقال ابن بشر أن أمير الدرعية كان (كثير العطاء والصدقات للرعية من الوفود والأمراء) .
وتلقى المعلومات الخاصة بالميزانيات المحلية وميزانيات المناطق ضوءا إضافيا على طابع النفقات فيا لدولة الوهابية . ويتوقف بوركهاردت طويلا عند هذه المسألة . صحيح أن ملاحظاته تنم عن رغبة غير متعمدة في تصوير جهاز الدولة الوهابية بصورة أكثر تنظيما مما كان عليه فعلا . ويقول بوركهاردت (إن جميع المداخيل ، ماعدا زكاة البدو ، ترد إلى بيت المال . ولكل مدينة أو قرية ذات شأن بيت مال محلي يدفع له السكان مايترتب عليهم . وفي بيت المال كاتب يبعثه زعيم الوهابيين ويأمره بعدم السماح للشيخ المحلي بإساءة التصرف بالأموال بأي حال . ولايسمح للشيوخ لا باستحصال النقود ولا بالتصرف بما يتم جمعه منها .
فهذه الأموال مخصصة للخدمات العامةوهي تقسم إلى أربعة أقسام . يرسل ربع إلى بيت المال المركزي في الدرعية ، ويخصص ربع للتخفيف من أعباء الفقراء ... وهو ينفق على علماء الدين الذين يرشدون التلامين وعلى القضاة وعلى إعمار المساجد وصيانة الآبار العامة ... ويخصص النصف للصرف على الجنود الفقراء الذين يزودون بالأغذية أثناء الحملات ، ويزودون بناقة عند الاقتضاء ، وكذلك على الضيوف . وأن النقود المخصصة للضيوف تسلم إلى الشيوخ الذين يقتحون مضايف ليتوقف فيها الضيوف ويتغذون . وتخصص لهذا الغرض كذلك الضرائب العينية .
إن هذا المقتطف لايقدم جواباعلى أسئلة كثيرة . فليس واضحا ما إذا كان بيت المال المحلي يستلم قسما من الزكاة أو أنه يفرض ضرائب إضافية ، وما إذا كان بيت المال المركزي يساهم في النفقات المحلية . وكتب بوركهاردت أن المركز يعوض عن الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية وغزوات الأعداء . ولكن هل أن ذلك مشاركة من بيت المال المركزي في النفقات المحلية لمرة واحدة أو أنه يجري على الدوام ؟ وأورد ابن بشر تقسيما آخر للميزانية المحلية فقد كتب عن توزيع أمير الدرعية لأموال الإحساء يقول : (والذي يحصل من بيت مال الإحساء يقسم ثلاثا ، ثلث يدخره لنغوره وخراجا لأهلها والمرابطة فيها ، وثلث خراجا لخيالته ورجاله ونوابه وما يخرجه لقصره وبيوت بنيه وبيوت آل الشيخ وغيرهم في الدرعية ، وثلث يباع بدراهم وتكون عند عماله لعطاياه وحوالااته ... ويحصل بعد ذلك ثمانون ألف ريال تظهر للدرعية) .
وهكذا كانت الأموال المحلية توزع في عدة اتجاهات أساسية ينفق القسم الرئيسي منها على الأغراض الحربية – لتأمين حاجة الجنود الفقراء وتزويد الحاميات بالأغذية ودفع الرواتب والإنفاق على الخيالة (أي الوجهاء المسلحين) . والباب الهام الثاني للصرف هو الهدايا التي تقدم إلى الوجهاء المحليين الذين يحتلون أهم المناصب في الإدارة الوليدة ويتصرفون بجزء من النفقات ، وليس بدون نفع شخصي طبعا . أما النفقات على (الفقراء) فتغطي حاجات علماء الدين والقضاة .
الأعمال الخيرية
يتحدث ابن بشر عن سجايا أمير الدرعية عبدالعزيز فيقول : (وكان عطاؤه للضعفاء والمساكين في الغاية ، فكان منهم من يكتب إليه منه ومن أمه وزوجتهوابنته من كل واحد كتابا وحده ، فيوقع لكل كتاب منهم عطاءه فكان الرجل يأتيه بهذا السبب عشرون ريالا وأقل وأكثر . وكان إذا مات الرجل من جميع نواحي نجد يأتي أولاده إلى عبدالعزيز وابنه يستخلفونه فيعطيهم عطاءا جزيلا . وربما كتب لهم راتبا في الديوان ... في كل وقت وكل سنة يعطي كل أهل بلد وكل أهل ناحية ألف ريال وأقل وأكثر ... وأخبرني كاتبه قال أن عبدالعزيز أخذه يوما صداع فدعاني وقال أكتب صدقة لأهل النواحي فأملي على لأهل منفوحة خمسمائة ريال . وأهل العيينة مثل ذلك . وأهل حريملا سبعمائة ريال ، وأهل المحمل ألف ومائة ريال ولجميع نواحي نجد على هذا المنوال . قال قيمتها تسعون ألف ريال . وأتى إليه يوما خمسة وعشرون حملا من الريالات ، فمر عليها وهي مطروحة ، فنخسها بسيفه . وقال : اللهم سلطتي عليها ولاتسلطها على ، ثم بدأ في تفريقها) .
ووصف ابن غنام المجاعة المرعبة التي اجتاحت نجد في أواسط الثمانينات من القرن الثامن عشر حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى أقصى حد وهلك الرجال والنساء ناهيك عن الشيوخ والأطفال . كان الناس يسقطون أثناء الصلاة بسبب الهزال . واستمرت المجاعة عدة سنوات . وعندذاك بدأ عبدالعزيز بإطعام الأرامل والأيتام والضعفاء .
وهذكا طبقت الدولة السعودية عمليا واحدا من المستحدثات العبقرية (أو على الأصح المكتسبات) التي جاء بها الإسلام ، ونعني الأعمال الخيرية أو العمل بالمعروف . فهذا العمل الذي (يفتح) أمام القائمين به أبواب الجنة في الآخرة كان يحميهم في الدنيا ولو مؤقتا من غضب الفقراء وانتفاضاتهم وتمرداتهم . وكانت الأعمال الخيرية تجرد الفقراء من سلاحهم الفكري وتوحي إليهم بأنه خلاصهم من الجوع والحرمان والتخفيف من أعبائهم يتمان ليس بالكفاح الحازم ، بل بصدقات الأثرياء والوجهاء . ولعبت أعمال السعوديين الخيرية دورا سياسيا لايقل أهمية : فقد تحسنت الأوضاع المادية بعض الشيء لسكان المناطق الوسطى من الدولة الوهابية على حساب الأطراف ، وأدى ذلك إلى زيادة ولاء أولئك السكان لأمراء الدرعية . وكان قسم من الأموال المخصصة للأغراض الخيرية يقع في أيدي الوجهاء والأعيان المحليين أو يخدمهم بصورة غير مباشرة إذ يخلصهم من لزوم الإنفاق من جيوبهم على فقرائهم . وكانت الأعمال الخيرية في إمارة الدرعية بمثابة ترجمة للتضامن العشائري في مواجهة الكوارث .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البنية السياسية للدولة وتنظيم السلطة
لقد توحدت بقوة السلاح تحت سلطة أمير الدرعية مختلف المناطق والقبائل البدوية . وكانت درجة تبعيتها للدرعية متباينة . ويقول ابن غنام أن القبائل أوالواحات عندما يجري ضمها إلى الوهابيين تقسم أمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب والأمير ابن سعود على خوض الجهاد ضد المشركين (أي غير الوهابيين) وتقديم العون للوهابيين . وعندما انضم سكان الخرمة والمجمعة إلى الوهابيين بعثوا وفدا إلى الشيخ وإلى عبدالعزيز للإعراب عن رغبتهم في التمسك بالإسلام وأداء كل الفرائض بما فيها الزكاة ، ولكنهم طلبوا السماح لهم بعدم المشاركة في الجهاد خلال عامين .
فما الذي يعنيه مثل هذه الاتفاقيات ؟ لقد كانت تلك ، بالدرجة الأولى ، تحالفات عسكرية التزم فيها الطرف المنضم إلى الوهابيين بشن العمليات الحربية ضد غير الوهابيين . وهذا هو الأمر الرئيسي . وليس من قبيل الصدفة أن تأجيل المشاركة في الجهاد عامين كان يعتبر استثناءا من القاعدة . لقد ألزم التحالف مع الوهابيين القبائل والواحات بأن تدفع ضريبة دائمية إلى بيت المال المركزي وقيد استقلالها بقدر كبير .
وفي عام 1865 زار المندوب البريطاني ل. بيلي الدولة الوهابية التي بعثت مع عاصمتها الجديدة الرياض بعد تدميرها على يد المصريين . وأشار إلى مختلف أشكال تبعية القبائل التي انضمت أو ضمت إلى الوهابيين للرياض . ويمكن ، ببعض التصرف الحذر ، تطبيق أقواله على الدولة الوهابية الأولى . كانت بعض القبائل تدفع الضرائب وتشارك في الحملات الحربية وتؤدي مختلف الواجبات ، بينما تقوم قبائل أخرى برعي الماشية في نجد وأطرافها وإذا تعرضت لهجوم من طرف ثالث فإن الوهابيين لايتحدثون . والمجموعة الأخرى من القبائل تلتزم بعدم الاعتداء على القبائل الخاضعة لأمير الرياض ، مقابل التزام مماثل من جانب هذه القبائل الأخيرة . وتتكون المجموعة الرابعة والأخيرة من قبائل لاتعترف بسلطة أمير الرياض ولكنها تدفع الأتاوات له .
وكانت السلطة المركزية تتخذ الإجراءات لإلغاء العادات العشائرية القديمة في حل النزاعات وتسعى إلى تسوية التناقضات المحلية في إطار الدولة الموحدة . وأفاد بوركهاردت أن النزاعات القبلية في الدولة الوهابية تحل من قبل أمير الدرعية نفسه . وهو يعاقب بشدة المذنبين فيها . واستخدم السعوديون قسما من الوجهاء والأعيان المحليين الذين انضموا إليهم بمثابة سند وحليف لهم . وفي بعض الأحيان ظل الأمراء والشيوخ السابقون على دست الحكم في القبائل والواحات . ولكنه بقدر اتساع الدولة الوهابية وتعزز السلطة المركزية أخذت الدرعية تستبدل الحكام المحليين أكثر فأكثر بممثلي الأفخاذ والبطون المنافسين لهم أو أبناء الأسر التي لم يكن لها في الماضي أمل في الارتقاء . ويقول بوركهاردت : (يعتقد الوهابيون أن من الضروري استبدال جميع الشيوخ تقريبا في القبائل التي ضموها إليهم . ولم يتركوا السلطة في أيدي أبناء الشيخ بل أحالوها إلى أسر الأعيان المنافسة . وعندما احتل محمد علي الحجاز أعاد حقوق الشيوخ المحليين وأنشأ بذلك معقلا ضد الوهابيين) .
ومن الإجراءات التي اتخذها السعوديون لضمان ولاء القبائل والواحات للسلطة المركزية الإجراء المجرب في ممارسات الغزاة والفاتحين ، ونهني أخذ الرهائن . وفي بعض الأحيان يأخذون عددا من الأعيان بمثابة رهائن بعد أداء يمين الولاء من قبل الواحة أو الفخذ . وكان بعض الشيوخ المتمردين يقيمون بصورة دائمة في الدرعية ، وقد عين بدلا منهم أشخاص موالون للسطلة المركزية . وبغية أضعاف القدرة الكفاحية للبدو وتشويش تنظيمهم فرضت الإقامة في الدرعية على بعض عقداء القبائل .
وهكذا ، بدلا من الشيوخ والأمراء السابقين المستقلين رسميا وفعليا ظهر اتباع لأمير الدرعية يكادون غير مستقلين أو صنائع سافرون له . وكتب بوركهاردت يقول (يتلقى كبار شيوخ البدو من الزعيم الوهابي لقبا تقديريا هو أمير الأمراء . إن سلطة هؤلاء الأمراء على الأعراب محدودة جدا ، ولا تزيد إلا قليلا على السلطة التي يتمتع بها الشيخ البدوي المستقل ، ما عدا كونه يستطيع أن يفرض الخضوع للقانون بحبس المخالف أو فرض غرامة عليه) . إن هذا (القليل) هو أهم سمة تميز الشيخ في الدولة السعودية عن زعيم القبيلة في عصر ماقبل الوهابية : أي تعزيز السلطة العامة (السجون والغرامات) وفصل السلطة العامة عن جمهور البدو . كان أمراء المناطق من أتباع السعوديين يجمعون القوات ويساعدون جباة الضرائب . وسلطتهم يقيدها القضاة القادمون من المركز .
وجاء في (لمع الشهاب) : كان شأن السعوديين حيث تولوا بلدا كبيرة أو كورة بنوا حصنا في تلك البلد على حدة عن حصنها الأول إن كان لها حصن وبحثوا حوله خندقا إن كانت الأرض صلبة وأحكموا بنيان القلعة ورتبوا في الحصن قدر خمسمائة رجل عسكري أو ألف رجل على قدر البلاد وخراجها وسموهم الأمنا أما من أهلها إن استصلحوهم أو من غيره من بلاد لكن بشرط كشف حالهم عن الاستقامة التامة بحب الاعتقاد بهذا الدين ويعينون لهؤلاء متاعا كثيرا ربما كفاية سنتين أو ثلاث سنين ويجعلون في الحصن أيضا بنادق عديدة وبارودا كذلك وربما جعلوا في بعض الحصون مدافع) .
وعين الوهابيون المفتين والقضاة في الواحات . وفي القرى الصغيرة كانوا يعينون قضاة فقط كما يقول (لمع الشهاب) . وكانت رواتبهم من بيت المال . وكانوا يبعثون قابضي الزكاة إلى كل واحة . وفي بعض الأماكن كان هناك أربعة جباة ، وفي بعضها الآخر سبعة . وهم مستقلون عن الأمير ولكنه كان يساعدهم في قبض الزكاة . كما كان يعين محتسب وظيفته مراقبة أداء الشعائر الدينية وصواب عقد الصفقات التجارية ومراعاة المقاييس والأوزان وأداء القضاة لواجباتهم وقطع دابر الارتشاء . وهكذا ، يمثل السلطة المحلية الأمير قائد الحامية وكذلك القاضي (أو المفتي) وجباة الزكاة والمحتسب . كان أمراء الدرعية يبتون في أهم شئون الدولة بعد التشاور مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأبنائه وأحفاده وعلماء الدين ووجهاء القبائل وأعيان الواحات وأفراد عائلة السعوديين .
ويقول إبن غنام أنه عندما عاد سعود منتصرا من الإحساء (قصد والده والأهل والذرية ، واستقر مجلسه مع والده وأعيان الرعية) . وتحدث ابن بشر عن سعود بمزيد من التحديد فقال : ( ومع ذلك إذا أهمه وأراد إنفاذ رأي أرسل إلى خواصه من رؤساء البوادي واستشارهم فإذا أخذ رأيهم وخرجوا من عنده أرسل إلى خواصه وأهل الرأي من أهل الدرعية ثم أخذ رأيهم . فإذا خرجوا أرسل إلى أبناء الشيخ وأهل العلم من أهل الدرعية واستشارهم . وكان رأيه يميل إلى رأيهم ويظهر لهم ما عنده من الرأي) . ولاتوجد معطيات تفصيلية عن تنظيم السلطة المركزية في الدولة السعودية الأولى . وليس معروفا ما إذا كان لدى أمراء الدرعية مجلس دائم من كبار الوجهاء والأعيان . فالمؤرخون الوهابيون يتحدثون عن وجود ديوان عند الأمير ولكنهم لايحددون وظائفه . وعلى أية حال فقد كانت هناك دوائر أو مصالح مركزية .
علماء الدين والقضاة
قدم علماء الدين الوهابيون دعما كبيرا للسياسة التوحيدية لأمراء الدرعية . وقد أوردنا أمثلة على مشاركتهم الواسعة المستمرة في أهم شئون الدولة . وكان مؤسس الوهابية الشيخ محمد بن عبدالوهاب يتمتع بمنزلة رفيعة للغاية . وفي السنوات الأولى لتحالفه مع محمد بن سعود لم يكن مجرد عالم دين ومعلم ومفت . فقد قام بتنظيم القوات ومارس الشئون الداخلية والخارجية وأجرى المكاتبات والمراسلات مع علماء الدين في الجزيرة وبشر بتعاليمه ودعا إلى التمسك بالولاء لأمير الدرعية . وساهم مساهمة نشيطة في تأسيس وإدارة الدولة الوهابية . وكانت دعوة الشيخ قد ضبطت الوهابيين ورصت صفوفهم حول الأمير وأججت تعصبهم . وماكان عبدالعزيز يوزع غنائم الحرب إلا بعد التشاور مع محمد بن عبدالوهاب .
كان محمد بن عبدالوهاب يحافظ على سمعته فلا يستأثر صراحة بدرهم واحد من غنائم الحرب . وبعد احتلال الرياض التي كانت الخصم الرئيسي للدرعية في نجد اعتزل محمد بن عبدالوهاب شئون الدولة وأناط بعبدالعزيز مراقبة بيت المال وكرس نفسه لشئون الدين والمذهب والدعوة . وانهمك أبناء الشيخ وأحفاده بتأليف كتب الفقه استنادا إلى تعاليمه وبتفسير مؤلفاته . وعلى هذا النحو نشأت مدرسة رجال الدين الوهابيين التي ظلت سالمة بعد الغزو المصري . وكتب ابن بشر عن أمير الدرعية يقول (وكان رحمه الله تعالى مع ذلك كثير العطاء والصدقات للرعية من ... القضاة وأهل العلم وطلبته ومعلمة القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد) . وبعد إنهاء التعلم كان الشبان يحصلون على هدايا كبيرة . وكان بيت المال ينفق على تلاميذ أبناء الشيخ محمد بن عبدالوهاب . وكانت النفقات على المساجد والقائمين على خدمتها تعتبر بالطبع من أسمى وأنبل نفقات بيت المال . ويقول منجين أن المساجد في الدولة السعودية ، تعتمد ماليا على جزء من العشر وعلى عائدات الأوقاف المخصصة لها . ويديرها مدير يمينه علماء الدين) . ومما مؤسف له أننا لم نعثر على معطيات أخرى تثبت وجود وانتشار أموال الأوقاف في الجزيرة العربية . ويقول مؤلف (لمع الشهاب) أن محمد بن عبدالوهاب وعائلته يمتلكان أراضي واسعة ، وبالإضافة إلى ذلك كان يستلم مداخيل هائلة من بيت المال وهدايا من الأمراء التابعين .
وكانت الدرعية ترسل علماء الدين إلى جميع الواحات والمدن والقبائل الهامة . وكانت مهمتهم تتلخص في توعية السكان دينيا واجتثاث تمسكهم بالمذاهب الأخرى وفرض أصول الوهابية وإثارة الحماسة الحربية والولاء للدرعية . وقد افتتحت كتاتيب قام علماء الدين فيها بتعليم القراءة والكتابة وتجويد القرآن . ويقول بوركهاردت أن علماء الدين جمعوا مكتبات كبيرة في الدرعية . وكانت لدى سعود كذلك مكتبة كبيرة . وكان القضاة الوهابيون يمارسون القضاء مسترشدين بالكتاب والسنة على أساس المذهب الحنبلي . وكانت الشريعة تغرس بنجاح أكبر في الواحات التي تتسم بتمايز طبقي متطور .
أما البدو فإن الشريعة الإسلامية لاتطبق عندهم إلا قليلا . ودخل النظام القضائي الوهابي في خلاف شديد مع العرف البدوي . وهناك مبررات للافتراض بأن العرف هو الذي فاز مع أن ازدياد الوظائف الطبقية لأعيان القبائل البدوية قد وسع إمكانيات تطبيق الشريعة . وفي الوقت الحاضر شهد كاتب هذه السطور محاكمة في منطقة مأرب في اليمن الشمالي . فإن المحافظة نظر في النزاعات القبلية استنادا إلى العرف وحده . وحدثت بعض التغيرات في مطاردة المجرمين قضائيا وإنزال العقوبة بهم في الدولة الوهابية . وبموجب الشريعة كانوا يقطعون يد اللص أو يفرضون عليه غرامة حسب الظروف .
وكما هو الحال في عهد النبي محمد سعى الوهابيون إلى تقييد الثأر فاستبدلوه بتعويض قدره 100 ناقة أو 800 ريال . (أورد بوركهاردت هذه المعلومات دون أني يؤكد ما إذا كان ذلك يسري على جميع مناطق الجزيرة) . ويبدو أن السعوديين تمكنوا من تضييق مفعول عادات الثأر بعض الشيء دون أن يقضوا عليها . ولم يكن الوهابيون يعترفون بعادات الحماية التي يقدمها بعض أبناء القبائل للمجرمين .
الاقتصاد والتجارة (الجوانب الإيجابية للمركزية)
لأول مرة خلال قرون عديدة ساد الاستقرار الجزيرة العربية ، وخصوصا مناطقها الوسطى ، وإن بصورة مؤقتة . فقد اتخذ الأمراء إجراءات لا هوادة فيها لإحلال الأمن في الطرق وحماية التجارة الداخلية من النهب وحماية الملكية . وكتب المؤرخ البصري ابن سنة أن ضمان الأمن والسلامة في الطرق يكاد يكون واحدا من الوصايا الأساسية للوهابيين . ويقول ابن بشر عن عبدالعزيز (كان رحمه الله تعالى رافقا بالرعية شديدا على من جنى جناية من الأعراب أو قطع سبيلا أو سرق شيئا من مسافر بحيث من فعل شيئا من ذلك أخذ ماله نكالا أو بعض ماله أو شيءا منه على حسب جنايته وأدبه غير ذلك أدبا بليغا ...) .
واستحدث أمراء الدرعية نظام المسئولية المشتركة للقبائل عن الأمن في أراضيها . كما ألغي الوهابيون الرسوم التي كانت تتقاضاها القبائل لقاء (حماية) و (مرافقة) القوافل ولقاء مرورها في أراضيها . فالتجار والرحالة ، كما يقول ابن بشر (لايخشون أحدا من جميع البوادي مما احتوت عليه هذه المملكة لا بحرب ولا سرق . وليس يؤخذ منهم شيء من الأخاوات والجوائز على لادروب التي للأعراب التي أحيوا بها سنن الجاهلية . يخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز والبصرة والبحرين وعمان ونقرة الشام ولا يحمل سلاحا بل سلاحه عصاه لايخشى كيد عدو ولا أحد يريده بسوء ... وكانت الأقطار والرعية في زمنه (عبدالعزيز) آمنة مطمئنة في عيشة هنية . وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه . لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء شتاء وصيفا يمينا وشمالا شرقا وغربا في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك لايخشى أحدا إلا الله لا سارقا ولا مكابرا) .
وقد استفاد السكان الحضر ، سكان الواحات والمدن . من استتباب الأمن والاستقرار . فقد توقفت الغارات على نخيلهم وحقوقهم . وفي ظروف الدولة المركزية ماكان بوسع البدو أن يستحصلوا الأخاوات بالاعتماد على العنف الحربي أو التهديد باستخدامه وتهيأت مقدمات إلغاء علاقات الأتاوة . ويصعب القول إلى أي مدى سارت مثل هذه الاتجاهات . وكتب ابن بشر يقول : (وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راع ولا مراع بل إذا عطشت وردت على البلدان ثم تصدر إلى مفاليها حتى ينقضي الربيع أو يحتاج لها أهلها ... وربما تلقح وتلد ولا يدري أهلها إلا إذا جاءت وولدها معها ، إلا الخيل الجياد ، فإن لها من يتعامدها في مفاليها لسقيها وحدها بالحديد .
وكانت إبل أهل سدير ونجائبهم وخيلهم مسيبات أيام الربيع في الحمادة وفي أراط والعبلة ، ومعها رجل واحد يتعاهدها ويسقيها ويزور أهله ويرجع إليها وهي في مواضعها فيصلح ربطها وقيودها ثم يغيب عنها . وكذلك خيل أهل الوشم ونجائبهم . وهكذا يفعلون بها . وكذلك خيل عبدالعزيز وبنيه وعشيرته في النقعة الموضع المعروف قرب بلد ضرمى ، وفي الشعيب المعروف بقرى عبيد من وادي حنيفة وليس عندها إلا من يتعاهدها لمثل ما ذكرنا . وكذلك جميع النواحي تفعل ذلك ...
وكان في الدرعية راعية إبل كثيرة وهي ضوال الإبل التي توجد ضائعة في البر والمفازات جمعا أو فرادى ، فمن وجدها من باد أو حاضر في جميع أقطار الجزيرة أتى بها إلى الدرعية خوفا أن تعرف عندهم ... وجعل عبدالعزيز عليها رجلا يقال له عبيد بن يعيش يحفظها ويجعل فيها رعاة ويتعاهدها بالسقى والقيام بما ينويها . فكانت تلك الإبل تتوالد وتتناسل وهي محفوظة . فكل من ضاع له شيء من الإبل من جميع البادية والحاضرة أتى إلى تلك الإبل . فإذا عرف ماله أتى بشاهدين أو شاهد ويمينه ثم يأخذه) . كان الواقع الاقتصادي للدولة الوهابية الأولى بعيدا ، طبعا ، عن الصورة الطوباوية التي رسمها ابن بشر . فقد حدث نهب في الطرق (وإلا لما عاقب أمراء الدرعية أحدا) وحدث هجوم على بساتين وحقول السكان الحضر ، وقامت انتفاضات متكررة للبدو وأهل الواحات .
وقد وصف المؤرخ الحجازي أحمد بن زيني دحلان النهب في الدروب عندما بدأ الوهابيون يستولون على الحجاز تدريجيا ، وكان أمير مكة هو الشريف عبد المعين الموالي لهم . كانت إجراءات الوهابيين الرامية إلى إحلال الأمن في الطرق وإلغاء الرسوم (الجمركية) الداخلية وحماية الملكية قد هيأت إمكانيات ملائمة للتجارة داخل الجزيرة العربية . وتوفر حافز إضافي للتبادل في مجتمع الجزيرة ، وهو تبادل متطور أصلا . ولكن المقصود ، ونحن نؤكد على ذلك ، هو التجارة الداخلية بالذات ز فإن سياسة الوهابيين في ميدان التجارة الخارجية كانت تدميرية كما سنتأكد أدناه .
وقد أثرى البعض بقدر هائل بمقاييس الجزيرة من التجارة ، وخصوصا في سنوات القحط عندما ارتفعت الأسعار بدرجة كبيرة جدا . وكتب بوركهاردت يقول (في نجد كانوا يتاجرون أساسا بالمواد الغذائية – وأكد منجين هذه المعلومات أيضا – فالقبائل القادمة من أعماق البادية تشتري ماتحتاج إليه . وطالما أن سنوات القحط تتكرر فإن الأثرياء يكدسون كميات كبيرة من الحبوب . ولم يتدخل سعود في ذلك مطلقا ، وفي سنوات شحة الأغذية كان يسمح ببيع الحبوب بالأسعار التي يحددونها هم مهما كان ذلك صعبا على الفقراء . وكان يقول أن النبي محمد لم يمنع أبدا الحصول على أي ربح ممكن من الأموال) . وبالمناسبة فإن الوهابيين منعوا الربا طبقا لأصول فجر الإسلام .
وقد ساعد تطور التجارة داخل الجزيرة على ازدهار الدرعية عاصمة الدولة . وقد زارها ابن بشر في عهد سعود وترك لنا وصفا للمدينة حيث كتب يقول : (ولقد رأيت الدرعية بعد ذلك في زمن سعود ... وما فيه أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة الذي لايوجد مثله والخيل الجياد والنجايب العمانيات والملابس الفاخرة وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان وبكل عن حصره الجنان والبنان . ولقد نظرت إلى موسمها يوما في مكان مرتفع وهو في الموضع المعروف بالباطن ، بين منازلها الغريبة التي فيها آل سعود المعروفة بالطريف ومنازلها الشرقية المعروفة بالبجيري التي فيها أبناء الشيخ . ورأيت موسم الرجال في جانب ... وموسم النساء في جانب وموسم اللحم في جانب ومابين ذلك من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام والبيع والشراء والأخذ والإعطاء وغير ذلك وهو مد البصر . ولاتسمع فيه إلا كدوى النحل من النجناج وقول بعت وشريت والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي ، وفيها من الهدوم والسلاح والقماش ...) .
ويضيف ابن بشر (وكان قوة هذه البلد وعظم مبانيها وقوة أهلها وكثرة رجالها وأموالها لايقدر الوصف صفتها ...) فلو ذهبت أعد رجالها وإقبالهم فيها وأدبارهم في كتائب الخيل والنجائب العمانيات وما يدخل على أهلها من أحمال الأموال من سائر الأجناس التي لهم مع المسافرين من أهلها ومن أهل الأقطار لم يسعه كتاب ... وكان الداخل في موسمها لايفقد أحدا من أهل الآفاق من اليمن وتهامة والحجاز وعمان والبحرين وبادية لاشام ومصر وأناس من حاضرتهم إلى غير ذلك من أهل الآفاق ممن يطول عدهم هذا الداخل فيها وهذا خارج منها وهذا مستوطن فهيا .
وكانت الدور لاتباع فيها إلا نادرا وأثمانها سبعة آلاف ريال وخمسة آلاف والداني بألف ريال وأقل وأكثر وكل شيء بقدره على هذا التقدير . كروة الدكان الواحد في الشهر خمسة وأربعون ريالا وسائر الدكاكين الواحد بريال في اليوم وشيء نصف ريال . وذكر لي أن القافلة من الهدم إذا أتت إليها بلغت كروة الدكان في اليوم الواحد أربعة اريل . وأراد رجل منهم أن يوسع بيته ويعمره فاشترى نخيلات تحت الحطب بلغ خمسة اريل وستة والذراع من الخشبة الغليظة بريال) .
لقد غدت الدرعية مركزا تجاريا كبيرا للجزيرة العربية . فعندما تلتقي الطرق التجارية منكافة أجزاء الجزيرة. وكانت وفرة الثروات لمنهوبة المتواردة على المدينة قد خلقت انتعاشا مفتعلا وتسببت في تجمهر أعداد غفيرة من الناس مما أدى إلى ازدياد الغلاء . ولم تكن موجودة آنذاك المقدمات الاقتصادية الضرورية لإنشاء مراكز سكنية كبرى من هذا القبيل . وتدل على ذلك الأسعار الباهظة للأخشاب والنخيل والحطب . ومع ذلك أسفرت سلامة الطرق عن تعزز الصلات الاقتصادية داخل الجزيرة بقدر ما ، وإن بصورة مؤقتة .
وأدت الإجراءات الاقتصادية والسياسية والفكرية لمركزية الدولة إلى ظواهر لم يشهدها وسط الجزيرة فيما مضى . فقد ظهر اتجاه نحو تكوين وحدة فوق القبائل . وكان ذلك أمرا مدهشا جعل المؤرخ الوهابي ابن بشر يهتف متعجبا وأن بشيء من المغالاة : (والرجل يأكل ويجلس مع قاتل أبيه وأخي كالإخوان) . وأشار ابن سند إلى أن الوهابيين أزالوا غارات البعض إلى البعض وصار جميع البدو رغم الفوارق بينهم ، من حضرموت إلى الشام إخوة وأبناء شخص واحد . وكان بالإمكان أن يرى المرء في بعض المناطق خيمة لعنزة وخيمة لعتيبة وخيمة لحرب وكانوا يعيشون بوئام . إلا أن العساكر ظلت هي الأداة الرئيسية للسياسة المركزية ولرص صفوف مختلف المناطق والقبائل في إطار الدولة السعودية . وطالما أن العساكر قوية ومظفرة ظل وجود إمارة الدرعية مكفولا .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العساكر
كتب بوركهاردت يقول أن سعود وأباه لم يحتفظا بجيش نظامي أبدا ماعدا بضع مئات من الجنود المختارين كانت لهما في الدرعية . ولكن جميع الرجال مابين الثامنة عشرة والستين كانوا يعتبرون ملزمين بالخدمة العسكرية . وكان كل بدوي أو حضري صحيح الجسم وقوي يعتبر في الواقع محاربا . عندما ينوي أمير الدرعية القيام بغزوة يبعث رسلا إلى شيوخ القبائل وبأمرهم بالحضور في يوم معين إلى منطقة بئر معين . ويقول ابن بشر (ولا يتخلف أحد عن ذلك الموعد لا حقير ولا جليل ، لا من بوادي الحجاز ولا العراق ولا الجنوب ولا غير ذلك) . وإذا تختلف أحد تفرض عليه غرامة . وكان أشخاص مختصون يبعثهم الأمير فيأخذون الغرامة بشكل مختلف الأموال والجياد والإبل ويضربون المذنبين) ... ويعذبون المجرم بأنواع العذاب ... ولايتجاسر أحد أن يقول لهم شيءا ، أو يشفع فيه بل كلهم طائعون مذعنون) . وكتب المؤرخ البصري ابن سند يقول : (فإذا أراد ابن سعود قتال قرية أو قبيلة فأولا يرسل إلى القرى التي أطاعته ويطلب من كل قرية مقدار العسكر المفروض على تلك القرية أو القبيلة فيأتي إليه ...) . وكتب الرحالة الإسباني باديا – أي ليبليخ (عندما يحتاج أمير الوهابيين إلى العساكر يكتب إلى مختلف القبائل ويحدد عدد المحاربين الذين يتعين إرسالهم إليه) .
وكتب منجين بهذا الخصوص : (قبيل بدء الحملة الحربية كان سعود يطلب من المناطق أن ترسل له العدد اللازم من العسار . وكان الأمراء يصدرون الأوامر لمن هم تحت سلطتهم . وكان كل من وجهاء المدينة والمنطقة يقود محاربيه المسلحين بنفسه إلى المكان المخصص له ويبقى رئيسا وقائدا لهم طوال فترة الحرب . وتتشكل في كل منطقة مفارز خاصة بقيادة أميرها ، وفي كل مفرزة كاتبان وإمام . وتتلخص وظيفة الإمام في أداء الصلاة في المعسكر ، وهو في الوقت ذاته حكم في الخلافات التي يمكن أن تنشأ) . كانت أكبر قبائل وسط الجزيرة – عنزة وقحطان ومطير – تخضع لأوامر حكام الدرعية وإن كانت تقيم بعيدا عن مسرح العمليات الحربية . صحيح أن وصف الغزوات يبين أن القبائل القريبة فقط تشارك فيها بالقدر الكامل عادة .
وكتب منجين (أن كل محارب يحمل معه سلاحا وطعامه وذخيرته . وكانوا يقدمون للمحاربين الفقراء مساعدة في التجهيز . والأثرياء يزودون أسرة الفقير بما تحتاج إليه . ويستطيع الشخص الذي يطلب منه الأمير المشاركة في الغزو أن يقدم شخصا آخر بدلا عنه لهذا الغرض . وهو يزوده بكل مايلزم أو يتعهد بمنحه جملا أو حصانا . ولم يكن الرجالة والهجانة على الجمال يستلمون أية أجور . أما الخيالة فيستلمون علقا للحصان وراتبا شهريا) .
ويقول بوركهاردت أن قوت الجندي يتكون من 100 أوقية من الدقيق و50-60 أوقية من التمر و20 أوقية من السمن وكيس من القمح أو الشعير للبعير وقربة ماء . بديهي أن هذه الاحتياطات أقصى ما يمكن أن يأخذه المحارب ، وإن كميتها تختلف باختلاف مدة الغزوة . وقد أشار ابن سند إلى ذلك . فهو يقول أن ابن سعود نفسه يحدد مقدار الدواب أو الذخيرة التي يتعين على المشاركين في الغزوة أن يأخذوه معهم . ولكنه لم يكن يحب الغزوات التي تطول أكثر من شهر ، كيلا يزود الجنود بالعتاد والأغذية بنفسه . ففي الغزوة التي لاتزيد على شهر يتزود المحاربون بما هو ضروري بأنفسهم ، وإذا زادت الفترة على لاشهر فإن أمير الدرعية يقدم لهم جزءا . وإذا جاء المتطوعة سيئي التجهيز فإن الأمير الوهابي يعيدهم من حيث جاءوا . ثم يعاقب الواحات أو القبائل التي أرسلتهم إليه بهذه الصورة . إن المؤونة الشخصية التي يتزود بها المحاربون تعفي بيت المال من الاهتمام بتغذيتهم وتزيد من استقلالية العساكر في الحملات . إلا أن تجنيد المحاربين وتهيئة المؤونة لهم كان عبئا ثقيلا على القسم الفقير من السكان . وهم لايستطيعون ، مثل الأغنياء ، أن يقدموا البدل عن الخدمة العسكرية ، وكانوا يضيعون الأيدي العاملة ، ولايمكن لأية معونة أن تعوض عن فقدان المعيل . ولايعول المحاربون البسطاء الذين يشاركون في الغزوات على شيء سوى حصة في الغنائم . ولذلك فإن سكان الواحات والبدو ، كما يقول بوركهاردت كانوا كثيرا مايتهربون من المشاركة في الحملات .
وبعد انقطاع خمس غنائم الحرب لصالح أمير الدرعية يقسم الباقي على المحاربين . ومن المقرر أن الفارس ، أي ممثل الوجهاء والأعيان ، يستلم بقدر حصتي الرجالة . وفي الواقع ، على مايبدو ، كان الوجهاء يستأثرون بحصة الأسد . وأشار رايمون إلى أن الجند في عهد عبدالعزيز كانوا يتشكون من الظلم في توزيع الغنائم ، حيث يستلم قادتهم حصة الأسد . وكان يتعين على أمير الدرعية أن يتدخل ويحق الحق . وكتب بوركهاردت أن حرس أمراء الدرعية يتكون من أفضل الجنود وعددهم 300 شخص . وهذا لحرس هو الاحتياطي الرئيسي في سرح القتال . وهم مسلحون جميعا أفضل تسليح وينفق الأمير عليهم . ولايذكر المؤرخون النجديون شيئا عن مثل هذا الحرس . فهم يتحدثون فقط عن العبيد المسلحين . ويبدو أن الحرس الشخصي للأمير يضم المماليك المسلحين والأحرار .
كان سعود منذ الطفولة وحتى شيخوخة يجب الغزو والجهاد . وشارك معه في الغزوات علماء الدين من الدرعية والواحات القريبة . وكان يترك في العاصمة أحد أبنائه خليفة له ، وهو عبدالله في أغلب الأحوال . ويقول ابن بشر أن سعود يثير الرعب في الأعداء (فإذا سمعوا بمغزاه هرب كل منهم وترك أخاه وأباه وماله وما حواه) .
ويقول منجين (خلال الحملات النهارية والليلية تخصص مقدمة ومؤخرة . وتتقدم العساكر بطابور أو عدة طوابير تبعا للملابسات . وكان الأمراء دوما يقودون المحاربين الخاضعين لهم . تسير الخيالة والهجانة في مقدمة الطابور وفي مؤخرته . والوسط يخصص للمدفعية والرجالة الذين يمتطي كل إثنان منهم جملا . وأثناء الحملات يقتات الوهابيون على التمر مع لبن الإبل ونادرا مايتناولون الخبز واللحم .
ويدخل الوهابيون المعركة بشكل كتائب . ويترك الرجالة الجمال تحت رعاية الخدم . وعندما يقترب العدو أو يتفوق تغدو الجمال بمثابة الدروع الواقية للمتحاربين . وتتكون كل كتيبة من سكان منطقة معينة يتزعمهم أمير أو وجيه قروي . صفوف المحاربين مزدوجة وعندما يتعب الصف الأول أو يتكبد خسائر كبيرة يحل محله الصف الثاني . وتنقل جثث القتلى من مساحة القتال ومن العيب عدم مواراتهم التراب . وفي حالة الهزيمة تنسحب العساكر بلا ذعر ولا اضطراب . وإذا منى العدو بالهزيمة فإنا لرجالة لاتطارده . ولكن الخيالة والهجانة تطارده لمسافة معينة) .
وفي المعسكر (يعرف كل فرد مكانه . والقائد في وسط المعسكر . والخيالة حول خيمته . وعلى مقربة من المعسكر مخافر الرجالة والخيالة . ويجري استبدال الخفراء كل أربع وعشرين ساعة . وفي النهار الجميع ينامون ولا ينهضون إلا لأداء الصلاة خمس مرات . وفي الليل يتجاذبون أطراف الحديث ويجودون القرآن ويحكون الحكايات والقصص .
كان الانضباط متشددا عند الوهابيين . فالقائد الذي لايؤدي واجباته أو الذي يبدر منه مايثير الشكوى ينحني من منصبه . وأحيانا تفرض عليه غرامة . وتجري معاقبة الجنود المذنبين بالجلد بالعصى . وإذا اقترف الجندي جريرة كبيرة تقطع رقبته . ويفعلون به الشيء ذاته إذا فر من العدو) . وفي الواحات الكبيرة والمدن (في الإحساء والقصيم ومكة والمدينة) كانت لأمراء الدرعية حاميات من النجديين الموالين لهم .
كانت عساكر الجزيرة العربية مسلحة بالسيوف والحراب والخناجر والرماح القصيرة للرجالة والدروع والهراوات والبنادق الحارقة والمسدسات . وكان الوهابيون يصنعون البارود بأنفسهم . وأحيانا كانوا يرتدون خوذا وأردية حماية جلدية . وكانت لدى الوجهاء قمصان من زرد . ولدى المحارب كذلك خنجر مشدود إلى حزامه وحقيبة مليئة بالخراطيش . وكان لدى البعض مسدسات . ولم تستخدم البنادق الحارقة كثيرا ، فلم تكن السلاح الرئيسي لدى العساكر . ويقول ابن بشر أنه كان لدى سعود 30 مدفعا كبيرا و30 مدفعا صغيرا . وقد تم الاستيلاء على أكثر هذه المدافع من العدو ولم تستخدم تقريبا في القتال . وبلغ عدد العساكر تحت رايات أمير الدرعية 50 ألفا وكان الأوروبيون ميالين إلى المبالغة ، فيذكرون أرقاما مثل 100 ألف و120 ألفا وحتى 200 ألف . لم يكن للوهابيين نظير في شبه الجزيرة ، ولكن ذلك لايعني أنهم كانوا منتصرين دوما .
مقدمات تحلل وسقوط الدولة السعودية الأولى . اتضح أن مهمة إخضاع شبه جزيرة العرب كلها كبيرة على أمراء الدرعية . فإن أراضي الجزيرة الشاسعة وسوء طرق المواصلات عبر البوادي القاحلة والجبال الوعرة جعلت المناطق منعزلة عن بعضها البعض وخلقت الصعوبات أمام الغزوات وتموين العساكر . ولم تكن الطاقات والعساكر كافية لأمراء الدرعية كي يخضعوا المناطق الجبلية في اليمن وحتى في الحجاز وساحل مسقط وحضرموت ، وكي يثبتوا مواقعهم في تهامة ونجران . وكان ذلك يشكل تهديدا متواصلا ومصدرا للاضطراب في أطراف الدولة وأرغم الوهابيين على تبديد قواهم وأموالهم على العمليات الحربية التي لم تنته دوما بالعقوبة المثلى (للمشركين) وبثواب (الموحدين) بغنائم وفيرة . ولم تكن العساكر الوهابية خارج شبه الجزيرة العربية وفي المناطق الصحراوية بقادرة على خوض معارك كبيرة ناجحة . فبعد غزو كربلاء ، كما أسلفنا ، لم تقع في أيدي الوهابيين أية مدينة محصنة وإن كانت صغيرة في الشام أو العراق . كانت عساكر السعوديين تحجم أمام المدن المحصنة والمحمية ببسالة وبمعرفة في الفن العسكري .
كانت حماسة الوهابيين في الهجوم تتسم بطابع حروب الغزو في القرون الوسطى . ومن الصعب التكهن بمصير دولتهم لو كانت قد ظهرت قبل القرن التاسع عشر بعدة قرون . بيد أن سير التطور التاريخي لايعترف بأية افتراضات . فعندما تجاوز الوهابيون إطار الجزيرة العربية التي كان مستواها هو مستوى القرون الوسطى اصدموا بالقوات الأكثر تطورا للإمبراطورية العثمانية والتي سبقتهم من حيث التطور بعدة قرون . في تلك الأثناء كانت بعض ولايات الإمبراطورية العثمانية تقوم بمحاولات مستميتة ، وإن دون جدوى حتى ذلك الحين ، من أجل التحول إلى دولة عصرية . وتبنت بالدرجة الأولى التكتيك الحربي الأوروبي والتنظيم العسكري الأوروبي . ومنى الوهابيون بالهزيمة في الصدام مع جيش مدرب ومسلح على الطريقة الأوروبية .
ويكمن في وقف التوسع بحد ذاته خطر على وجود الدولة السعودية . فإن المشاركة في الغزوات الموفقة والنهب المشترك ، كما أسلفنا ، هما الأمر الرئيسي الذي وحد وجهاء وأعيان مختلف الواحات والقبائل . وعندما تباطأ التوسع العسكري لإمارة الدرعية بعد أن بلغ حدوده الطبيعية ، ثم توقف في الواقع فقد التوحيد كثيرا من جاذبيته بالنسبة لوجهاء الجزيرة . وتقلص ورود الثروات المنهوبة . وصار بوسع الوجهاء الإقطاعيين أن يحصلوا على مداخيل أكثر عن طريق تطبيق سياسة مستقلة وممارسة الغزو التقليدي .
وكانت القبائل البدوية الجبارة تشعر خصوصا بثقل نير الدولة المركزية . فالكثير من البدو الذين لم يكونوا يعرفون الضرائب في السابق وأبدا صاروا يسددون الزكاة الإلزامية خوفا من التنكيل الشديد ، وكثيرا ما أخذوا يتمردون . وكان البدو مستعدين دوما للتخلص من نير الوهابية . ولم يكن اعترافهم بالوهابية إلا ظاهريا كما يقول بوركهاردت . وكانت غنائم الحرب تعوض بشكل ما عن تسديد الزكاة وفقدان مداخيل مختلف أنواع الأخاوات ، ولكنه في حالة توقف الغزوات الناجحة صار عبء الدولة المركزية ثقيلا لايطاق . كان الاستغلال الضرائبي والأتاوات والغرامات في بعض الحالات أثقل من مزايا السلامة والأمن والاستقرار . وعند ذاك كانت قبائل ومناطق بكاملها ترفض دفع الأتاوات . وكان سعود يقوم سنويا بعدة حملات ليس فقط على أطراف الجزيرة المتمردة أو ولايات الإمبراطورية العثمانية ، بل وكذلك على القبائل والمناطق المتمردة في دولته .
وسارت داخل الدولة السعودية عملية التعمق المتزايد في فوارق الملكية والمتناقضات الطبقية . وصار وجهاء وسط الجزيرة الذين أثروا من الغزوات يبتعدون أكثر فأكثر عن بسطاء البدو والفلاحين ويتذوقون طعم الترف والفخفخة . وتعمقت الهوة بين الدعوة الوهابية الموجهة إلى الرعية وبين نمط حياة الوجهاء والأعيان . وكانت الحملات البعيدة تلهي فلاحي نجد عن الأعمال الزراعية دون تكافئهم دوما بالغنائم . وكانت من أسباب تذمر قسم من السكان الحضر ضرورة تسديد بدل الإيجار للإقطاعيين أو للدولة بالإضافة إلى الزكاة . إن تضاؤل مصلحة الوجهاء والأعيان في وجود الدولة المركزية بعد توقف التوسع ، وتذمر البدو وأعيانهم من سلطة السعوديين ، وخيبة أمل الفلاحين المزارعين في أمراء الدرعية والوهابية – كل ذلك كان مقدمات موضوعية ، خارجة عن إرادة الأمراء ، لتحلل الدولة المركزية في الجزيرة العربية . كانت تلك المقدمات موجودة بشكلها لاكامن ، ولكنها لم تظهر إلا بعد فترة زمنية طويلة نسبيا . إلا أن بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية التي فرضها التعصب الضيق على أمراء الدرعية قد أدت إلى تفاقم الصعوبات أمام الدولة وعجلت في تحللها .
وكان تعصب الوهابيين الشديد قد حملهم على قطع العلاقات التجارية مع (المشركين) أي مع غير الوهابيين . وحتى عام 1810 ظلت التجارة مع الشام والعراق محرمة . وكانوا إذا وجدوا تاجرا في طريق يؤدي إلى (المشركين) صادروا بضاعته كلها . ومن السهل تصور الضربة الفظيعة التي تتلقاها الحياة الاقتصادية في بعض المناطق في حالة التطبيق الحرفي للأوامر المتعصبة .
بيد أن الحاجات الاقتصادية كانت أقوى من القرارات المتهورة والتعصب الأعمى . فقد تقلصت تجارة الجزيرة مع (المشركين) ولكنها ظلت مستمرة . وفي فترة تأزما لعلاقات مع مصر والعراق والشام لم تتوقف تجارة لاقمح . وكان الوهابيون أنفسهم يبيعون في اهند المجوهرات المنهوبة . إن أمراء الدرعية عندما قاموا بمحاولة فاشلة لإقامة (الحصار الذاتي) على الجزيرة وعجزوا عن الاستغناء عن التجارة مع (المشركين) قد أساءوا إلى سمعتهم هم .
وكانت سياسة الوهابيين تدميرية خصوصا بالنسبة للحجاز . وكانت الضربة الأشد قد نجمت عن منع وصول أغلبية الحجاج من الإمبراطورية العثمانية . ولم يعد البدو يستلمون بدل مرور القوافل عبر أراضيهم ولا أجور دواب الحمل . وفقد عدد غفير من المتسولين المحترفين والأدلاء وسدنة العتبات المقدسة مداخيلهم .ولم تعد هدايا السلطان السنوية تصل إلى الحرمين . وبنتيجة ذلك ، كما يقول الجبرتي ، لم يعد سكان مكة والمدينة يستلمون ما يعيشون عليه : الصدقات والأغذية والنقود . فأخذوا نساءهم وأطفالهم وتركوا ديارهم ولم يبق هناك إلا الذين لم يكونوا يعتمدون على تلك المصادر للعيش . وتوجه أولئك الناس إلى مصر والشام وسافر قسم منهم إلى الاستانة .
وعندما اجتاحت المجاعة بسبب الجفاف المرعب الجزيرة العربية طوال خمس أو ست سنوات كانت الأغذية تصل إلى الحجاز مع ذلك من بلدان أخرى . بيد أن عمليات الوساطة أو السمسرة وبيع البضائع من قبل الحجاج هي الأنواع الرئيسية للتجارة في الحجاز . وهي بالذات التي تضررت أكثر من غيرها . وتقلص مرور البضائع عبر جدة بسبب التقلص الشديد في عدد الحجاج الذين كان كثير من البضائع يجلب من أجلهم ، في حين أن تجار البن والأقمشة الهندية لم يجروا على الظهور في المرفأ ، لأنهم يعاملون معاملة (المشركين) . وأصاب الكساد التجارة مع مصر . وتجلى الأثر السلبي لذلك كله ليس فقط عند التجار الأثرياء بل وكذلك بسطاء الناس في جدة ومكة ومدن أخرى ، لأنهم هم أيضا مرتبطون بالتجارة . وأصاب الإفلاس كثيرين منهم ، وخلت جدة من أهلها . وألغى أمراء الدرعية مختلف الأتاوات الجائرة وحاولوا دون الابتزاز من جانب شريف مكة أو آغا المدينة المنورة . ولكنهم فرضوا الزكاة الإلزامية في المناطق غير الخاضعة للشريف مباشرة . ويمكن أن نتصور مشاعر البدو أو سكان المدينة المنورة الذين فقدوا مداخيلهم من الحج وصاروا مضطرين على تسديد الزكاة .
لقد تركت لشريف مكة مداخيله ، ولكنها تقلصت كثيرا بسبب تقلص توارد الحجاج وركود التجارة ومنع استحصال الرسوم من التجار الوهابيين ، ناهيك عن الأثر الذي تركه فيه فقدان الاستقلال السياسي . ولم تكن المشاركة في الغزوات لتبشر سكان الحجاز عموما بخير ، فقد تعودوا الحصول على أسباب العيش بأساليب أسهل . ويكفي القول أن سكان المدينة المنورة الذين كانوا يمتلكون جيادا قد باعوها فورا لتفادي الاستدعاء للخدمة في عساكر الوهابيين .
وكانت العادات الصارمة (النقية) التي استحدثت في مكة تتعارض مع عادات ومفاهيم سكانها . إن الانتماء إلى الحرم الشريف قد ولد لدى سكان مكة شعورا بالتفوق على سائر المسلمين ، الأمر الذي قدم لهم تبريرات جاهزة للتسيب . وكانت الأنظمة الجديدة تحظى بتأييد علماء الدين الأتقياء والمؤمنين الصادقين ، ولكنها كانت ثقيلة على أغلبية السكان . وكان ثقيلا أيضا الشعور بالإهانة بسبب الخضوع للنجديين لأول مرة بعد قرون عديدة .
إن كل هذه العوامل الاقتصادية والسياسية والسيكولوجية قد أثارت في الحجاز جو العداء والحقد على الوهابيين الذين كانت مكانتهم وسلطتهم تستندان إلى القوة العسكرية فقط . وكان بوسع أي دافع خارجي قوي أني يزدي إلى بدء عملية تحلل الدولة السعودية الأولى ، في حين أن التناقضات التي كانت تفتتها من الداخل ببطء قد اكتسبت طابعا تدميريا .