تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الخامس عشر

من معرفة المصادر

الفصل الخامس عشر: العربية السعودية والحرب العالمية الثانية (1939-1945)

خلافا لما حصل في الحرب العالمية الأولى ، ظلت الجزيرة العربية منأى عن عمليات الحرب العالمية الثانية . بيد أن المملكة العربية السعودية تحسست تأثيرات الحرب الاقتصادية والسياسية والعسكرية . كانت ألمانيا الهتلرية تأمل في الوصول إلى إيران وأفغانستان والهند واحتلا رأس جسر لمهاجمة الاتحاد السوفييتي ، وذلك مرورا بالبلدان العربية وتركيا . واستأثرت منطقة الشرقين الأوسط والأدنى باهتمام الاستراتيجيين الفاشست لما تزخر به من ثروات نفطية .

ووضع النازيون في حساباتهم السياسية الميول المعادية لبريطانيا في بلدان الشرق الأوسط والناجمة عن سياستها الاستعمارية . فأخذت ألمانيا الهتلرية تصور نفسها صديقا للعرب وتعلن عن تأييدها لتطلعاتهم القومية . وجرت الدعاية في بلدان الشرقين الأوسط والأدنى تحت شعار انتصار بلدان المحور يحرر بلدان الشرق الأوسط من النير البريطاني . وفي الوقت نفسه قام الألمان بعمليات بتجسس وتخريب في البلدان العربية . كانت تشاطات ألمانيا تهدد مسيطرة بريطانيا على بلدان العالم العربي وتضعف مواقعها الاستراتيجية العالمية وتعوق استنفار الموارد البشرية والخامات في هذه البلدان لاستخدامها في الحرب . وكما بينت الأحداث فإن خطر الاحتلال الألماني للشرقين الأوسط والأدنى كان خطرا حقيقيا ، ولم يدرأه عن البلدان العربية الواقعة إلى الشرق من ليبيا إلا تقل القوات الألمانية لمهاجمة الاتحاد السوفييتي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياد العربية السعودية

إثر ابتداء الحرب العالمية الثانية أعلنت العربية السعودية الحياد رغم أن ابن سعود أرسل قوات إلى الحدود مع العراق والكويت وشرق الأردن . وكان حياده ذا طابع موال لبريطانيا ، الأمر الذي يعزي إلى تبعية مملكته لها في أمور كثيرة . ففي ذلك الحين كانت العربية السعودية تتاجر أساسا مع البلدان التابعة للإمبراطورية البريطانية أو الدائرة في فلكها . فقد كانت الهند البريطانية المصدر الرئيسي للحبوب إلى المملكة ، بينما يصل غالبية الحجاج من بلدان إسلامية تابعة لبريطانيا ، إضافة إلى ارتباط النقط السعودي الجنيه الاسترليني . وكانت العربية السعودية محاطة بمحميات وقواعد عسكرية بريطانية ، والأسطول البريطاني يسيطر على البحر الأحمر والخليج .

أحكم عبدالعزيز سيطرته على الوضع الداخلي في البلد ، رغم أن ذلك لم يحل دون وقوع اضطرابات عشائرية بين الحين والحين . وفي عام 1939-1940 هاجر من السعودية إلى العراق عدد كبير من بدو شمر . ويبدو أن الحكومة العراقية قد شجعت شيوخهم أملا في استخدام قبائل شمر لتحقيق مآربها . غير أن ابن سعود تعرض لضغط من بلدان المحور أيضا ز وطالب عدد من مستشاريه بتوسيع الصلات مع إيطاليا وألمانيا ز وبعد احتلال القوات الإيطالية أثيوبيا ظهرت قطع من الأسطول الإيطالي في البحر الأحمر . وكان لإيطاليا بعض النفوذ في اليمن المعادي لبريطانيا تقليديا . وكانت السعودية قد عقت معاهدتي صداقة وأقامت علاقات دبلوماسية وقنصلية مع ألمانيا عام 1929 ثم منع إيطاليا عام 1932 .

في أواخر عام 1939 ومطلع عام 1940 تمكنت ألمانيا ، بوساطة إيطاليا ، من الحصول على موافقة السعودية على قبول أوراق اعتماد الدبلوماسي غروبا الذي كان واحدا من مسئولي المخابرات الهتلرية في الشرق الأوسط . وكان غروبا حتى خريف عام 1939 سفيرا لألمانيا في العراق ، وطرد من هناك لاشتراكه في محاولة تنظيم تمرد ، ثم عمل ملحقا في السفارة الألمانية بأنقرة .

طلب الإنجليز (ولا شك أنهم كانوا على علم بنشاطات غروبا) من ابن سعود رفض أوراق اعتماده . وفي ذلك الظرف كان الملك يخشى إثارة نقمة من الطرفين ، ولكنه رضخ أخيرا للضغوط البريطانية . تغير قرار الحكومة السعودية بفعل انتصارات ألمانيا الفاشية على جبهات القتال ، فسمح لغروبا بالقدوم إلى جدة بمعية بعثة كبيرة ، فبدأ هناك نشاطه المحموم . ونشطت الدعاية الألمانية ، الموجهة ضد الإنجليز أساسا ، في أوساط الحجاج ، وبدأ المبعوث الألماني بتشيل مجموعات تخريبية ضم إليها المستائين من الملك وزودهم بالمال والسلاح .

بعد الاستيلاء على يوغوسلافيا واليونان ، ومن ضمنه جزيرة كريت ، بدأت ألمانيا النازية تشق الطريق نحو الشرق الأوسط ، وخاصة نحو العراق وسورية ز وفي ربيع عام 1941 جرى في العراق انقلاب معاد لبريطانيا وطلب قادته مساندة ابن سعود إلا أنه رفض متذرعا بأن ذلك سيكون خيانة لبريطانيا التي تربطه وإياها علاقات ودية . وقد بعث إليه هتلر رسالة شخصية عرض فيها العمل ضد بريطانيا ووعده مقابل ذلك بعرش كل العرب . ورفض عبدالعزيز عرض هتلر واستدعى من سويسرا السفير السعودي فؤاد حمزة الذي عمل على دفعه للتعاون مع دول المحور ونقل إليه رسالة هتلر . دبر عملاء غروبا سلسلة من أعمال التخريب في السعودية ، ثم عدد منها في حقول النفط بالإحساء ، فأرسل البريطانيون إلى السعودية سربا من الطائبات يحمل معدات لإخماد الحرائق .

في أواخر آيار (مايو) 1941 احتلت القوات البريطانية مواقع هامة استراتيجيا في العراق ، وفي الفترة ذاتها ألحقت القوات البريطانية والثوار الأثيوبيون الهزيمة بجيش الاحتلال الإيطالي في اثيوبيا . وفي تموز (يوليو) 1941 احتلت القوات المسلحة البريطانية وقوات فرنسا الحرة سورية وطردت من هناك إدارة فيشي . هكذا طرأت تغيرات ملحوظة على الوضع في الشرق الأوسط . وقد كانت القيادة الهتلرية منشغلة بالإعداد للحرب ضد الاتحاد السوفييتي ولم تتمكن من جرد قوات كافية لاتزال ضربة بالمواقع البريطانية في الشرق الأوسط .

نوقشت في بريطانيا ، التي حافظت على سيطرتها في هذه المنطقة ، مسألة إدخال قوات بريطانية إلى المراكز الهامة استراتيجيا في السعودية ، على غرار ماتم في العراق وسورية . بيد أن الحكومة البريطانية كانت مرغمة على أن تحسب حساب الولايات المتحدة لأن للاحتكارات الأمريكية مصالح في المملكة أضف إلى ذلك أن احتلال بلد مترامي الأطراف يسود فيه النفور من الأجانب قد يجابه بصعوبات كثيرة . تحاشيا لوقوع استفزازات على الحدود مع العراق وشرق الأردن سحب ابن سعود قواته إلى عمق بلاده ، وسرعان ما فسخ معاهدة الصداقة مع ألمانيا ، وفي أيلول (سبتمبر) 1941 طرد المبعوث غروبا من البلد .. وكانت العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا قد قطعت منذ عام 1940 . طلب رشيد عالي الكيلاني زعيم الانقلاب في العراق اللجوء إلى السعودية ، فحل ضيفا مكرما رغم مطالبة الإنجليز بتسليمه لأن المحكمة العسكرية العراقية أصدرت حكما بإعدامه . رغم أن أراضي العربية السعودية لم تصبح مسرحا للمعارك ، فإن اقتصاد البلد ناء بأعباء الحرب . فقد استنزفت القوات المستنفرة عوائد الدولة ، وأدى تغيب الرجال فترة طويلة إلى الإضرار بالزراعة . أصبح البلد في وضع مالي مزر ، وبلغ العجز في الميزانية عام 1941 مقدار 1150 ألف جنيه استرليني ، وهبطت عوائد الحج . فبعد أن كان عدد الحجاج عشية الحرب يتراوح بين 50 و100 ألف ، ويعود على الخزينة بـ5-6 ملايين دولار ، فإن عددهم تقلص في زمن الحرب إلى 20-30 ألفا ، وتزايدت أسعار السلع المستوردة ، بينما لم تحصل زيادة في استخراج النفط في بداية الحرب .

طالب ابن السعود الشركات صاحبة الامتياز بأن تسلفه على حساب الريع مبلغ ستة ملايين دولار سنويا . وخشية إلغاء الامتيازات ومنحها للبريطانيين ، التزمت الشركة الأمريكية بتزويد العربية السعودية بقرض مقداره ثلاثة ملايين دولار ، على أن يزداد مستقبلا إلى ستة ملايين . بل إن الشركة أبقت مبالغ المدفوعات عن الامتياز على وضعها السابق ، في ظرف كان من المزمع إبانه تقليص استخراج النفط . أبقت بريطانيا العربية السعودية مرتبطة بتبعية مالية ، وذلك بتزويدها بالسلع والعملات الذهبية والفضية للتداول .

وبغية تقييد نشاط شركة النفط الأمريكية ، استغلت بريطانيا مركز تموين الشرقين الأوسط والأدنى بمشتقات النفط ، والإشراف على توزيع المواد الغذائية على بلدان المنطقة . وتولى البريطانيون تسويق نفط إيران والعراق ، ولكنهم في الوقت ذاته قيدوا تسويق نفط السعودية لجيوش الحلفاء . وعلاوة على ذلك أحكموا سيطرتهم على كل صادرات الأغذية إلى المملكة .

أثار تزايد النفوذ الاقتصادي لبريطانيا في العربية لاسعودية قلق شركات النفط الأمريكية ، فقررت الحكومة الأمريكية تقديم عون غير مباشر لأبن سعود . إذ أنها قدمت لبريطانيا قرضا بـ425 مليون دولار وطالبت بأن تمنح العربية السعودية جزءا من هذه الأموال . وقد أبلغ ممثلو شركة النفط ابن سعود بذلك ، ولكن الملك كان مرتبطا بالدرجة الأولى بمن يقدم له العون المباشر . وخشية استمرار توطد مواقع بريطانيا في العربية السعودية أصرت الاحتكارات النفطية الأمريكية على أن تزود الحكومة الأمريكية المملكة بمساعدة مباشرة . قبل نشوب الحرب العالمية الثانية كانت الحكومة الأمريكية تعتبر الشرقين الأوسط والأدنى دائرة نفوذ أوروبية ، وبريطانية بالدرجة الأولى . ولم يكن لدى الإدارة الأمريكية الكثير من الوسائل السياسية الفعلية لدعم الشركات الأمريكية الخاصة ، بما فيها شركات النفط ، في هذه المنطقة منا لعالم . وعشية الحرب ، عام 1939 ، لم تكن حصة الأمريكان من استخراج النفط في الشرق الأوسط تربو على 10% .

خلال سنوات الحرب طرأت تغيرات عميقة أساسية على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط . ووضعت الولايات المتحدة تصب عينها مهمة الحلول محل بريطانيا كدولة مهيمنة على المنطقة لاعتبارات عديدة من أهمها الاحتياطات النفطية . فقد تغير دور النفط في العالم وتحول من سلعة تجارية في الأساس إلى سلعة استراتيجية ذات أهمية من الدرجة الأولى .

وفي الثامن من شباط (فبراير) 1943 تلقى وزير الداخلية الأمريكي هارولد ايكيس مذكرة من (ستاندارد أويل اوف كاليفورنيا) تضمنت الأفكار التالية : (يتزايد القلق بصدد التنامي السريع لنفوذ بريطانيا الاقتصادي في العربية السعودية ، لأن ذلك يمكن أن يحدث تأثيرات جوهرية في نشاط الأمريكان بعد الحرب . ولو قدمت الحكومة الأمريكية معونة مباشرة للحكومة السعودية ، عوضا عن المعونة غير المباشرة التي نقدمها حاليا عن طريق البريطانيين ، لوضع حد لذلك ولأعطي ضمانة معينة بأن احتياطات النفط في العربية لاسعودية ستبقى تحت سيطرة الأمريكان . وبوسع الحكومة الأمريكية تقديم معونة مباشرة للحكومة السعودية ، وخاصة عن طريق برنامج الإعارة والتأجير) .

في 18 شباط (فبراير) 1943 ، أي بعد مرور عشرة أيام على رفع المذكرة ، أوعز روزفلت إلى نائب وزير الخارجية ستينيوس المسئول آنذاك عن برنامج الإعارة والتأجير بتنظيم مساعدة للحكومة السعودية وفق برنامج الإعارة والتأجير وأكد الرئيس أن الدفاع عن السعودية (له أهمية حيوية لمسألة الدفاع عن الولايات المتحدة) رغم أن المملكة لم تكن مشاركة في الحرب لاشكليا ولافعليا . وفي عام 1948 قدرت اللجنة الخاصة التي شكلها مجلس الشيوخ للنظر في برنامج الدفاع الوطني ، حجم المساعدة التي قدمتها الولايات المتحدة للعربية السعودية خلال الحرب ، عن طريق برنامج الإعارة والتأجير والصادرات الأخرى بتسعة وتسعين مليون دولار .

عند حلول عام 1943 بدأ استخراج النفط بتزايد من جديد بعد أن كان قد انخفض بسبب إغلاق أسواق أوروبا الغربية والقيود التي وضعها البريطانيون . وتعزي الزيادة إلى ارتفاع الطلب على النفط من قبل جيوش الحلفاء في مسارح العمليات الحربية بالمحيط الهادي والبحر الأبيض المتوسط ، وإلى توقف صادرات النفط من بورما وأندونيسيا بعد استيلاء اليابان عليهما . وتولت شركة أرامكو تزويد الحكومة الأمريكية بمشتقات النفط للأغراض الحربية ، وبلغ استخراج النفط في السعودية عام 1943 مقدار 4.9 مليون برميل ، وازداد إلى أكثر من عشرة أضعاف عام 1946 .

في آذار (مارس) 1942 عينت الولايات المتحدة قائما بالأعمال في جدة ، بعد أن كان السفير الأمريكي في القاهرة معتمدا في السعودية إضافة لوظيفته . ربيع عام 1943 وصل الجنرال هارلي إلى السعودية مندوبا عن روزفلت لاستيضاح مواقع شركات النفط الأمريكية هناك . وفي تشرين الأول (أكتوبر) من نفس العام قام ولي العهد سعود بزيارة رسمية إلى واشنطن وأمضى في الولايات المتحدة شهرا كاملا . وفي نفس السنة زار الأمير فيصل وأخوه خالد الولايات المتحدة وقابلا روزفلت وأعضاء الإدارة ومجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس الأمريكي . في ذلك الحين قدرت أرامكو احتياطات النفط في العربية السعودية بعشرين ألف مليون برميل ، أي مايعادل كل الاحتياطات المكتشفة في الولايات المتحدة . وكان ذلك أقوى حجة تعتمدها شركات النفط لحفز الحكومة الأمريكية على دعم مصالحها .

وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1943 أعدت مجموعةمن الجيولوجيين الأمريكان تقريرا بعد جولة في الشرق الأوسط ، جاء فيه أن مركز استخراج النفط سوف يتحول من حوض خليج المكسيك والبحر الكاريبي إلى منطقة الشرق الأوسط . وذكر الخبراء أن تقديراتهم تفيد بأن أكبر احتياطات النفط في العالم موجودة في حوض الرافدين والخليج العربي . وكان إنتاج النفط في هذه المنطقة أقل تكليفا مما في أي مكان في العالم . عام 1943 تمكنت شركة أرامكو من الحصول على تخصيصات مالية لبناء مصنع لتكرير النفط في رأس تنورة بسعة خمسين ألف برميل يوميا ، وبدأ المصنع العمل في أيلول (سبتمبر) 1945 . وفي آذار (مارس) 1945 مد خط لأنابيب النفط إلى البحرين حيث يوجد مصنع كبير للتكرير .

في كانون الأول (ديسمبر) 1943 زار العربية لاسعودية الجنرال رويس ، القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية في الشرق الأوسط ، وأنفق على بناء مطارات حربية في الظهران والدوكة . وقد بدأ بناء قاعدة الظهران الجوية عام 1944 وأنجز عام 1946 . ووصلت إلى العربية السعودية بعثة عسكرية أمريكية تولت ، إلى تدريب الجيش السعودي . وخلال سنوات الحرب زودت الولايات المتحدة المملكة العربية السعودية بالأسلحة والمعدات العسكرية وفق برنامج الإعارة والتأجير .


لقاء ابن سعود وروزفلت

أظهرت لقاء روزفلت والملك عبدالعزيز أهمية الموقع الذي احتلته السعودية في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط . فقد أقام الرئيس المريكي في طريق عودته إلى الولايات المتحدة بعد مؤتمر يالطا صلة شخصية بزعيم واحدة من الدول التي كانت تعتبر تقليديا ضمن دائرة المصالح الإمبراطورية البريطانية . وأحيط لقاء روزفلت وابن سعود بسرية تامة ، وخاصة بالنسبة للبريطانيين الذين لم يعلموا عن شيئا إلا في اللحظة الأخيرة .

استقل ابن سعود وحاشيته البارجة الأمريكية (مورفي) من جدة إلى قناة السويس حيث كان الرئيس روزفلت بانتظاره على متن الطراد الأمريكي (كوينسي) في البحيرات المرة . أقيم الملك سرداق على ظهر البارجة وكانوا يذبحون له شاة كل يوم ، وفي ساعات النهار يعرضون عليه أفلاما تسجيلية عن عمليات القوات الأمريكية .

جرى لقاء روزفلت وابن سعود في 14 شباط (فبراير) 1945 ، وحاول الرئيس الأمريكي الحصول على موافقة الملك على مشروع إسكان اليهود في فلسطين ، قائلا أنهم ضحايا للنازية . فرد الملك بما معناه : للتحمل ألمانيا مسئولية هذه الجرائم . ولما كان الألمان قد آذوا اليهود ، فليعاقب المذنب . ولماذا يجب أن يحمل العرب جريرة آثام ارتكبها آخرون ؟ ولم تفلح محاولات روزفلت لحمل ابن سعود على تغيير موقفه . في الخامس من نيسان (إبريل) بعث روزفلت رسالة إلى ابن سعود وعد فيها بالامتناع عن الإقطام على أي عمل قد يكون معاديا للعرب . كما أنه التزم بأن الحكومة الأمريكية لن تغير نهجها السياسي الأساسي في فلسطين إلا بعد مشاورات تمهيدية شاملة مع اليهود والعرب على حد سواء .

وأكد ابن سعود في لقائه مع روزفلت موافقته على أن السفن البريطانية والأمريكية حرة في استخدام الموانئ السعودية على الخليج ، كما وافق على إقامة قاعدة جوية ضخمة . ولكنه اشترط إبان ذلك ألا تتعرض السعودية بأي حال من الأحوال للاحتلال ، كما جرى في مصر وسورية والعراق وإيران ، وألا يقتطع أي جزء من أراضيها . وفيما يخص المناطق التي يحتاجها الجيش الأمريكي فإنها تعار لفترة لاتتجاوز الخمس سنوات . كما طلب ابن سعود بأن تحصل الحكومة السعودية على جزء من السلاح الخفيف المخزون في إيران ، وفي مقابل ذلك تعهد ابن سعود بإعلان الحرب على دول المحور . طلب الملك من الرئيس الأمريكي مد يد الصداقة له ودعم استقلاله ، وحصل على وعود بهذا الخصوص . ويرى ايدي أن ابن سعود اعتبر هذا اللقاء ضمان تقيه من المحاولات التي قد تقوم بها بريطانيا للنيل من استقلاله .

أما بالنسبة لموضوع النفط فقد أكد ابن سعود لروزفلت أن الامتيازات الأمريكية باقية على حالها ، ووافق على بناء خط لأنابيب الامتيازات المريكية باقية على حالها ، ووافق على بناء خط لأنابيب النفط عبر الجزيرة العربية يربط منطقة الإحساء بسواحل البحر الأبيض المتوسط . إثر مغادرة روزفلت عقد رئيس الوزراء البريطاني شرشل لقاء مع ابن سعود في مصر للحد من نفوذ الأمريكان ، ولكن اللقاء لم يسفر عن جديد . ولم يكن بوسع لقاء مثل هذا أن يحول دون خروج المملكة العربية السعودية من دائرة النفوذ البريطاني بدعم من الولايات المتحدة . فقد استغلت واشنطن عدم ثقة آل سعود ببريطانيا لتعزيز مواقع الولايات المتحدة في المملكة . في آذار (مارس) 1945 أعلنت العربية السعودية الحرب على دول المحور ، مما أتاح لها إمكانية الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة .

ولكن تجدر الإشارة إلى أن تركيا وإيران ومصر كانت في فترة مابعد الحرب (أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات) تحتل الموقع الأول في مجال المصالح العسكرية الاستراتيجية لواشنطن في الشرقين الأدنى والأوسط . وظلت بلدان الخليج العربية أو على الأقل البلدان الواقعة على بر الجزيرة العربية في المقام الثاني . وتولت بريطانيا الحفاظ على مصالح الغرب العسكرية الاستراتيجية في الخليج وفي الجزيرة العربية . عام 1945 كان التناسب بين الرساميل الأمريكية والبريطانية والفرنسية في الصناعة النفطية كالتالي : شركة النفط البريطانية العراقية تسيطر على 27.750 مليار برميل من احتياطات النفط و(رويال داتش شيل) 2.750 مليار و(غالف أويل) 5 مليارات و(ستاندرد اويل اوف كاليفورنيا) و(تكساس اويل) 20 مليارا و(ستاندرد اويل اوف نيوجرسي) و(سوكوني واكوم اويل) 2.750 مليار و(فرانسيز دي بترول) 2.750 مليار . وقدرت الاحتياطات الإجمالية بـ61 مليار برميل . وكانت الشركات ذات الرأسمال البريطاني والبريطاني – الهولندي تستخرج القسم الأكبر من النفط آنذاك . ولكن الوضع بدأ يتغير تغيرا جذريا نظرا لتزايد إنتاج النفط بسرعة في العربية السعودية حيث اكتشف المزيد من الحقول الجديدة ، ونتيجة للأزمة الإيرانية في بداية الخمسينات التي أضعفت إلى حد كبير مواقع الرأسمال البريطاني في المجال النفطي .


الفصل السادس عشر: الوضع الداخلي في المملكة وسياستها الخارجية (1945-1958) إن المؤرخ الذي يعكف على دراسة العربية السعودية في فترة ما بعد الحرب يواجه عقبة كأداء تتمثل في شحة المعلومات عن حقيقة الوضع السياسي في البلد ، مع وجود فيض من المعلومات حوله في مقالات الصحف والمجلات والمعطيات الإحصائية والكتب المتزلفة ، بل وتوجد حتى بعض الدراسات الاجتماعية . وجرى الصراع السياسي داخل الطبقة الحاكمة بين مختلف التكتلات من الفخذ السعودي المتشعب ، هذا علما بأن أفراد العائلة ، باستثناء حالات نادرة للغاية ، لايسمحون بتسرب معلومات حول الطبيعة الفعلية للصدامات والتغيرات في قمة السلم السعودي . ولم يتوفر تصور عن الوضع في العائلة المالكة إلا بعد احتدام الصراع السلطة بين لاملك وولي العهد في فترة 1958-1964 وانتفاضة أمراء الأحرار التي جرت في إطار هذا الصراع . وفيما يخص نشاطات المعارضة بمختلف أشكالها ، فرغم أنها أثارت مخاوف الطبقة الحاكمة ، كانت ضعيفة ومشتتة (باستثناء التحركات العمالية عامي 1953 و1956) وقمعت دون صعوبة تذكر . والمعلومات لمتوفرة عن نشاط المعارضة شحيحة ومتقطعة ومتناقضة .

إن جزءا كبيرا مما نعرفه عن تاريخ العربية السعودية ينحصر في علاقاتها مع شركات النفط وصلاتها الدولية وسياستها الخارجية . ويبدو أن ثمة مسوغات لذلك . فإن التصاعد الحاد للصراع الدولي في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية وانخراط العربية السعودية في الصراع إلى جانب هذا الطرف أو ذاك ، وما طرأ على حركة التحرر الوطني من مد وجزر ، والترابط القوي بين مصائر البلدان العربية ، هذه العوامل جميعا زادت من وزن وأهمية السياسة الدولية في العملية التاريخية . وقد تأثرت السياسة الداخلية والخارجية للعربية السعودية بعامل جديد ، هو عامل النفط . وخلال بضع سنوات تحولت المملكة الصحراوية إلى واحد من أكبر مصدري الوقود السائل ، وفي السبعينات صارت أكبر مصدر على الإطلاق .

العلاقات مع شركات النفط

عند انتهاء عام 1945 كانت أرامكو قد اكتشفت أربعة حقول ضخمة للنفط – في الدمام وأبو حدرية وبقين والقطيف . وفي آيار (مايو) 1951 اكتشفت أكبر مستودع في العالم في السفانية بالجرف القاري في الخليج . وأكبر حقل نفطي على اليابسة في العالم ، هو حقل غاوار الذي يبلغ طوله زهاء 240 كيلومترا وعرضه 35 كيلومترا ، وقد اكتشف في مستهل الخمسينات . وبالإضافة إلى ذلك افترض الخبراء وجود مستودعات جديدة من الوقود السائل في الطبقات الجيولوجية الفريدة بالعربية السعودية .

جرى توسيع في ميناء تصدير النفط برأس تنورة وبدأ استخدامه في كانون الأول (ديسمبر) 1945 بسعة قدرها 50 ألف برميل يوميا . وازدادت تدريجيا قدرة مصنع تكرير النفط في رأس تنورة وبلغت في أواسط الستينات 15 مليون طن سنويا ، ثم تضاعفت . ووشيد مصنعان آخران لتكرير النفط في جدة والرياض . بعد الحرب العالمية الثانية أدى تحول مؤسسات إنتاج الطاقة في البلدان الرأسمالية إلى استخدام الوقود السائل وكثرة عدد السيارات وتطور الكيمياء ، إلى تزايد لم يسبق له مثيل في الإقبال على النفط وخاصة في النصف الشرقي من العالم . وأخذت مناطق عديدة من العالم كانت متخلفة عن الولايات المتحدة في استخدام النفط ، تعمل بوتائر سريعة على اللحاق بها . ولئن كان الطلب على النفط قد ازداد خلال ربع القرن الذي أعقب الحرب لأكثر من 2.5 مرة في الولايات المتحدة ، فإن الزيادة في سائر أنحاء العالم ربت على 8 مرات ، وبلغت الزيادة أسرع وتأثرها في اليابان وأوروبا الغربية . وأصبحت منطقة الشرقين الأدنى والأوسط أكبر منتج لهذه المادة الخام عام 1965 ، حينما بلغ الاستخراج هناك زهاء 8.5 مليون برميل يوميا ، أي أكثر من إنتاج الولايات المتحدة .

أخذت صناعة تكرير النفط تنتقل شيئا فشيئا إلى مراكز الاستهلاك . فإن نقل النفط الخام أرخص من نقل مشتقاته الجاهزة ، علاوة على أن بوسع المستورد أن يشتري منه كميات أكبر ، كما جرت في مراكز الصناعة الاستفادة من نفايات التكرير على نحو واسع . وأضيفت إلى الحسابات الاقتصادية اعتبارات سياسية هامة : فقد خشيت الشركات (وخاصة بعد محاولة تأميم النفط الإيراني في مستهل الخمسينات) من إنشاء مصانع ضخمة لتكرير النفط في البلدان النامية .

إبان سنوات الحرب خمن المساهمون في أرامكو أن خط الأنابيب بين العربية السعودية والبحر الأبيض المتوسط يمكن أن يقلص نفقات نقل النفط إلى أوروبا بنسبة تتراوح من ثلث إلى نصف كلفة استخدام الناقلات . وتقرر مد خط للأنابيبب بقطر 30 بوصة (762 ملم) من منطقة بقيق النفطية بالعربية السعودية إلى السواحل اللبنانية قرب مدينة صيدا ، بطول إجمالي قدره 1712 كيلومترا وبسعة 15 مليون طن سنويا على أن تزداد السعة إلى 25 مليون طن . في تموز (يوليو) 1945 أسس المساهمون في أرامكو شركة التابلاين (شركة خط أنابيب نفط البلاد العربية السعودية) .وعندما كانت أعمال مد الخط في أوجها عمل فيها 16 ألف شخص واستخدم زهاء 3 ألاف ماكنة مختلفة .

ولكن إذا كانت الشركات والحكومة البريطانية عاجزة عن عرقلة زيادة استخراج النفط من قبل أرامكو ، فإنها حاولت إعاقة وصول خط الأنابيب الأمريكي إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ، لأنه سوف يتيح للأمريكان إمكانية نقل النفط إلى أوروبا الغربية بسرعة وبكلفة زهيدة . وبمد الخط يفقد البريطانيون جزءا من العوائد التي يحصلون عليها لقاء نقل النفط في ناقلاتهم بالإضافة إلى رسوم نقل النفط عبر قناة السويس . كان الصراع السياسي في سورية ولبنان والعراق في فترة ما بعد الحرب مرتبطا ، ارتباطا مباشرا أو غير مباشر بالتنافس النفطي بين بريطانيا والولايات المتحدة ، بما في ذلك مايتعلق بمد خط الأنابيب .

أيد ابن سعود الحكومة التي استلمت زمام الحكم في سورية إثر الانقلاب العسكري في آذار (مارس) 1949 بقيادة حسنيا لزعيم المرتبط بالولايات المتحدة ، ومنحه قرضا قدره ستة ملايين دولار . وقد عارض حسني الزعيم مشروعي (سورية الكبرى) و(الهلال الخصيب) اللذين كان وراءهما البريطانيون ودعا إليهما عبدالله أمير شرق الأردن ، وأبرم حسني الزعيم الاتفاقية الموقعة سابقا حول مد خط الأنابيب عبر أراضي سورية . غير أن حكومة جديدة شكلت في سورية برئاسة سامي الحناوي تتبع سياسة موالية لبريطانيا وأبطلت اتفاقية خط الأنابيب وباركت فكرة (سورية الكبرى) .

وجاء أديب الشيشكلي الذي قام بانقلاب آخر في كانون الأول (ديسمبر) 1949 ليعيد لاحتكارات النفط الأمريكية مواقعها وأجاز مد خط الأنابيب . ولجأ الدكتاتور الشيشكلي إلى السعودية بعد انهيار نظامه في شباط (فبراير) 1954 . عام 1950 أنجز مد خط أنابيب التابلاين الذي بلغت كلفته 230 مليون دولار وبدأ العمل .

أدى التطور السريع للصناعة النفطية في العربية السعودية بعد الحرب العاملية الثانية إلى وصول شركتي سوكال وتكسكو إلى قناعة بأنهما لاتمتلكان الأموال الكافية لاستثمار المكامن الهائلة في البلد ، لذا قررت الشركتان التعاون مع (ستاندرد اويل اوف نيوجرسي) و(موبيل اويل) . ورفعت اتفاقية إسهام هاتني الشركتين مع أرامكو في أواخر عام 1946 وظلت الاحتكارات البريطانية طوال سنتين تعارض هذه الاتفاقية لأن (ستاندرد أويل) و (موبيل اويل) وقعتا من قبل (إتفاقية الخط الأحمر) .وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1948 تجاهلت الشركتان الأمريكيتان معارضة (شركة النفط العراقية البريطانية) و (رويال داتش شيل) وانضمتا إلى أرامكو ، وبذا أصبحت (اتفاقية الخط الأحمر) في عداد الأموات . منذ عام 1948 صارت أسهم أرامكو موزعة على النحو التالي : سوكال 30% ، تكسكو 30% ، (ستاندرد اويل اوف نيوجرسي) 30% و (موبيل اويل) 10% .

عام 1948 تخلت أرامكو عن حقوق الامتياز في المنطقة المحايدة بينالسعودية والكويت مقابل الحصول على الجزء السعودي في الجرف القاري بالإحساء . ومن أسباب ذلك أنه تم آنذاك عقد اتفاقية امتياز فيا لمنطقة المذكورة بين شركة (أمريكان انديبندنت أويل) و (أمين اويل) وحكومة الكويت وفق شروط أفضل بكثير مما نصت عليه الاتفاقية بين أرامكو والسعودية . وقد آثرت أرامكو الانسحاب من المنطقة المحايدة خشية أن تؤدي بها موافقتها على المطالب الكويتية إلى زيادة مدفوعاتها للعربية السعودية عن الامتياز الأساسي . ولكن السبب الأهم هو اكتشاف حقول نفطية ضخمة في الجرف القاري العائد للسعودية .

في تشرين الأول (أكتوبر) 1948 وقعت اتفاقية جديدة حول بدل الإيجار عن استخراج النفط في الجرف . ووافقت أرامكو على دفع بدل إيجار مماثل لما نصت عليه اتفاقية الامتياز الأولية ، يضاف إليه خمسة سنتات أمريكية لقاء كل برميل يستخرج من الجرف القاري . وتعهدت أرامكو أن يكون الحد الأدنى لبدل الإيجار السنوي عن العمليات في الجرف القاري مليوني دولار تدفع مقدما . ورافقت على تحديد فترة مدتها 22 سنة تعيد خلالها بالتدريج القطاعات التي لاتعتزم مواصلة التنقيب فيها من (منطقة الحقوق الخاصة) المعطاة لها . كانت ألأرباح المتوفرة من استغلال احتياطات النفط في حوض الخليج طائلة إلىحد دفع إلى المنطقة (أطرافا خارجية) مستعدة للحصول على امتياز بشروط أفضل بكثير مما تقدمه الشركات السابقة للحكومات المحلية . وكان بين هذه الأطراف شركات أمريكية مستقلة لايمكن تجاهل ثقلها . فقد كانت متفرقة كثيرا من حيث الموجودات والرأسمال المتداول على كبريات شركات أوروبا الغربية واليابان . وبظهور الأطراف الخارجية أدركت الحكومة السعودية مدى ماكانت أرامكو تحجبه عنها عن أموال ، فتعزز موقف الحكومة في التفاوض بشأن إعادة النظر في اتفاقيات الامتياز .

عام 1949 منح امتياز في المنطقة المحايدة لمدة ستين عاما إلى (باسيفيك ويسترن اويل كوربريشن) (بدل اسمها فيما بعد إلى (غيتي اويل كومباني) وذلك على حساب حصة العربية السعودية . ومقابل حق التنقيب والاستثمار في أرض مساحتها ألفا ميل مربع ، بما فيها الجرف القاري لمسافة تمتد ستة أميال عن الساحل ، وافقت الشركة على : دفع 9.5 مليون دولار مقدما ومنح بدل إيجار قدره 55 سنتا عن كل برميل من النفط الخام و12.5% من عوائد تسويق الغاز ومشتقاته ، ودفع سلفة مقدارها مليون دولار كمقدم عن بدل الإيجار . وإذا كان بدل الإيجار المستحق الكامل أقل من هذا المبلغ فإن الحكومة غير ملزمة بإعادة القسط الأول . عام 1953 تدفقت نافورة النفط الأولى في المنطقة المحايدة ونقلت أول كمية من النفط الخام عام 1954 . وشرعت (امين اويل) ، و(غيتي اويل) باستخراج النفط كل في حقولها وضخه عبر أنابيبها وموانئها ومستودعاتها .

وقعت في كانون الأول (ديسمبر) 1957 اتفاقية مع شركة (جابان بتروليوم ترايدنغ كومباني اول طوكيو) اليابانية التي قامت بتأسيس (شركة النفط العربية) ومنحت هذه الشركة حقا استثنائيا في التنقيب لمدة لاتتجاوز السنتين في الجرف القاري للمنطقة المحايدة خارج حدود الستة أميال عن الساحل . وفي حالة اكتشاف النفط تمنح الشركة امتيازا لمدة 44 سنة . وقد بدأ الحفر عام 1959 وتم استخراج الدفعات الأولى من النفط في كانون الثاني (يناير) 1960 . وتعهدت الشركة بدفع 1.5 مليون دولار سنويا لحين اكتشاف كميات تجارية من النفط ، ومليون دولار أضافي سنوية بعد اكتشافه على أن تدفع المبالغ الإضافية عن كل الفترة الممتدة من توقيع الاتفاقية وحتى اكتشاف النفط .

وتقرر أن يكون الحد الأدنى لبدل الإيجار 2.5 مليون دولار ووافقت الشركة على دفع ضريبة دخل عن كل العمليات داخل السعودية وخارجها ، بما في ذلك عن بيع النفط الخام وتكريره ونقله وتصديره إلى الأسواق . وفي كل الأحوال تقرر ألا تقل المدفوعات عن 56% من عوائد الشركة ، وزيدت النسبة إلى 57% عام 1963 . منحت شركات إيطالية حق التنقيب عن النفط في سواحل البحر الأحمر . وفي عام 1965 منح امتياز لشركة (اوكسيراب) الفرنسية ونصت الاتفاقية على أن للعربية السعودية حق المساهمة الفعالة في كل عمليات هذه الشركة . وفيما بعد عقدت شركة بترومين السعودية اتفاقية للتنقيب عن النفط في الربع الخالي مع (اجيب) (فرع شركة ايني الإيطالية) وشركة (فيليبس) . وفي سنة 1967 نقلت (بترومين) حق التنقيب على سواحل البحر الأحمر لمجموعة تتألف من (ناتوماس انترناشنل كوربريشين) و(سينكلير ارابيان اويل كومباني) والشركة الحكومية الباكستانية. وقد تغيرت تركيبة المجموعة فيما بعد ، ولكن البحث عن النفط في الربع الخالي وعلى سواحل البحر الأحمر لم يسفر عن شيء .

منذ أواخر الأربعينيات وبعد أن تحسن اطلاع الحكومة السعودية على الشئون المالية وإدراكها لضخامة عوائد أرامكو من استثمار ثروات البلد النفطية ، أخذت تطالب بتوزيع الأرباح بشكل أكثر إنصافا . وكان السعوديون قد سمعوا بالتوفيق الذي حالف فنزويلا التي تمكنت من زيادة عوائدها من الامتياز زيادة كبيرة ، فعقدوا مع (غيتي اويل كومباني) اتفاقية بشروط أفضل بكثير من اتفاقيتهم مع أرامكو . عام 1950 صدر في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) و27 كانون الأول (ديسمبر) مرسومان ملكيان فرضت بموجبها ضريبة الدخل على الأرباح الصافية لكل الشركات الأجنبية العاملة في السعودية . وقد احتجت أرامكو ولكن أجحاف الاتفاقية الأولية كان باديا للعيان . ففي السعودية كان صاحب الأرض والحكومة شخصية معنوية واحدة ، في حين أن الشركات في البلدان الأخرى ، ومن ضمنها الولايات المتحدة ، كانت ملزمة بأن تدفع الريع لمالك الأرض والضريبة للحكومة .

بعد مفاوضات مضيئة عقدت في 30 كانون الأول (ديسمبر) 1950 اتفاقية جديدة تنص على فرض ضريبة عن المداخيل المستحصلة من بيع النفط . ووافقت أرامكو على دفع الضريبة بشرط ألا يتجاوز الحجم الإجمالي لكل الضرائب والإيجار والمدفوعات الأخرى للحكومة 50% من العائد الإجمالي لأرامكو ، على أن يحدد هذا العائد بعد حسم كلفة العمليات بما فيها الخسائر وضرائب الدخل إن كانت تدفع لأي بلد آخر . والتزمت الشركة بأن تقدم للدولة السعودية مجانا 2.6 مليون غالون من البنزين و200 ألف غالون من الكيروسين و7500 طن من الاسفلت . كان ذلك إنجازا هاما ، وأدى إلى جعل عوائد السعودية من النفط تصل عام 1957 إلى زهاء ضعف ما انت عليه عام 1950 . ولكن موطن الضعف في هذه الاتفاقية أن العوائد احتسبت على أساس الدخل الإجمالي لأرامكو . وكان الغبن الواضح متمثلا في تناقص مايدفع للعربية السعودية في حالة فرض ضرائب على الشركة في دولة أخرى . وقد ألغي هذا البند في 13 شباط (فبراير) 1952 .

بالرغم من زيادة المدفوعات للحكومة السعودية ، فإن الاحتكارات ظلت تحصل على أرباح طائلة بفعل الكلفة الزهيدة للغاية لاستخراج النفط ورخص الأيدي العاملة . فقد كان النفط المستخرج في السعودية يكلف أرامكو مبلغ يقل عشر مرات تقريبا عن كلفة فنزويلا . وبلغت الأرباح الصافية لأرامكو بعد حسم المدفوعات والضرائب للحكومة السعودية 2.8 مليار دولار في فترة 1952-1963 أي بمعدل 57.6% من الرأسمال المستثمر وبلغت النسبة 81.5% عام 1961 . أما فيا لولايات المتحدة فإن الربح الصافي يعادل 10-12% من الرأسمال المستثمر . في آذار (مارس) 1963 وافقت التايبلاين على زيادة سعر كل برميل ينقل إلى صيدا ، وأن يكون لهذا الإجراء مفعول رجعي منذ 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1953 ، كما وافقت على دفع ضرائب دخل عن الربح الصافي .

أعلن في شباط (فبراير) 1954 أن الحكومة السعودية منحت مالك الأسطول التجاري اليوناني ارسكوكاليس اوناسيس الحق في أن ينقل بحرا من العربية السعودية كل النفط باستثناء ما ينقل على السفن العائدة أ) للشركات صاحبة الامتياز ب) لشركاتها الأصلية أو لفروعها ج) لمشتري النفط . وأشارت الاتفاقية إلى أن النية متجهة لتأسيس شكرة نقل مختلطة يمتلكها اوناسيس والحكومة السعودية وقد نددت بريطانيا بهذه الخطوة تنديدا شديدا ، ووصفتها الغرفة البحرية البريطانية بأنها (أوقح مثال على الاستخفاف بالعلم) و (تدخل فظ في القانون التجاري المتعارف عليه) . كما أن ناطقا بلسان وزارةا لخارجية الأمريكية احتج على الاتفاقية . ونظمت شركات النفط مقاطعة لسفن اوناسيس في كل أنحاء العالم ، وبعد بضعة أشهر من الصراع استسلم اوناسيس وتخلي عن العقد .

منذ بداية الأربعينات ، وخاصة في الخمسينات ، أخذ مسئولو أرامكو يدركون أن الظروف المناسبة لاستغلال حقول النفط السعودية قد تتعرض للخطر إذا لم يضمن نظام حكم مستقر موال لأمريكا في البلد . ولم تكن جهود الشركة أرامكو ووسائل الضغط التي بحوزتها كافية لإبقاء المملكة في الفلك الأمريكي ، لذا كان ينبغي تحريك ماكنة الدولة الأمريكية بكل دوائرها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية – الدعائية والعسكرية . وأخذ دور العربية السعودية يتعاظم باستمرار في قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السنوات الأخيرة من حياة عبدالعزيز - بداية حكم سعود

في آخر سنوات حياة ابن سعود أخذت إدارته لشئون المملكة تسوء شيئا فشيئا . فإن مؤسس الدولة الإقطاعية المركزية كان وليد عصر ولي زمانه ، وليد المجتمع الإقطاعي القبلي ، ولم يكن ليفهم التغيرات أو يتقبلها . بفضل الزيادة السريعة في استخراج النفط وتعديل اتفاقيات الامتياز ، ازدادت عوائد السعودية في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب عشرات المرات . ورغم ذلك ظلت المملكة بمثابة ضيعة إقطاعية عائلية كبيرة ، ويعتقد الحكام أن عوائدها يجب أن تنفق ، في المقام الأول ، على احتياجات العائلة المالكة .

وبعد أن سافر أفراد العائلة السعودية في الأربعينات والخمسينات إلى الخارج واطلعوا على ظروف حياة الطبقات الحاكمة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ، تاقت أنفسهم إلى الأبهة المعقولة وغير المعقولة . واقترن ذلك بالعجز التام عن التوفيق بين النفقات والمداخيل ، والعزوف عن حساب المال وهو أمر تتميز به الأرستقراطية الإقطاعية القبلية ، علاوة على السخاء – وهو خصلة بشرية إيجابية تحولت عندهم إلى نقيضها حينما صارت إسرافا لم يسبق له في التاريخ مثيل في بلد بشكل غالبيته سكان شبه جياع يرزحون في لجة الفقر والأمراض .

بدأ تصاعد مجنون في الإنفاق على البلاط والفخفخة ، وكثرت الأمثلة على إسراف العائلة المالكة وورد ذكرها في العديد من الكتب والمجلات والصحف بحيث لم يعد ثمة داع للاستفاضة فيها . تقاطر على الرياض شذاذ الآفاق والنصابون من جميع أنحاء الشرق الأوسط . ورست الصفقات على كل من يدفع رشوة أكبر . واستشرى الفساد في البلاط الملكي وجهاز الموظفين وبلغ مدى مروعا . ومنذ ذلك الحين بدأت الأموال تتسرب منا لمملكة لإيداعها في الخارج . وكانا لتجار والمقاولون الجشعون يخدعون الحكام ويبيعون السلع والخدمات بأسعار تزيد خمس أو عشر أو عشرين مرة عن سعرها الحقيقي . ولكن عندما لايوجد مايكفي من المال كانت العائلة المالكة لاتكلف نفسها من عناء سوى الامتناع عن سداد الديون . وأصبح الوضع الشاذ وخطره على النظام جليا لعدد من الأفراد العائلة الحاكمة البعيدي النظر . ولكن إجراءات الملك الرامية لتحديث الدولة كانت ذات طابع شكلي وسطحي بحت .

وفي أواخر أيامه فحسب ، في تشرين الأول (أكتوبر) 1953 ، أصدر ابن سعود مرسوما حول إعادة تنظيم مجلس الوزراء الذي أصبحت وظائفه لاتقتصر على الحجاز بل تشمل ، شكليا وفعليا ، البلاد كلها . ولكن مجلس الوزراء الجديد لم يشرع بمزاولة أعماله إلا بعد وفاة ابن سعود . كان عبدالعزيز في شبابه وكهولته إنسانا قويا شجاعا ، رويت فيه الأساطير . ونقل الزركلي عن طبيب ابن سعود الخاص رشاد فرعون الذي صار وزيرا للصحة وواحدا من أغنى أغنياء البلد ، أسطورة تقول أن عبدالعزيز أصيب في إحدى المعارك بجرح في بطنه . وقد عرض فرعون عليه أن يحقنه بالمخدر (البنج) فأخذ عبدالعزيز المبضع وشق موضع الإصابة وأخرج الرصاصتين وأمر بخياطة الجرح .

كان عبدالعزيز يعاني من آلام بسبب جرح في ساقه وقد تزايدت مع تقدمه في العمر . ولم يكن بوسعه ثني إحدى ركبتيه إذ أن ذلك يسبب له آلاما مبرحة ، ولايستطع أن يخلد للنوم إلا بعد أن تفرك ركبته ساعة أو أكثر . وقد أهداه الرئيس الأمريكي روزفلت كرسيا متحركا هو نسخة طبق الأصل من كرسيه . وأعجب ابن سعود أيما إعجاب بالكرسي ولم يعد يفارقه . ويبدو أن ذلك عجل في وفاته لأنه لم يعد يتحرك فترهل . كان أكثر مايخشاه ابن سعود هو حدوث تنافس بين ولديه الأكبر سنا . فطلب منهما قبيل وفاته أن يقسما على ألا يتقاتلا . وكان يذكر ماحل بأبيه وأعمامه بعد وفاة جده فيصل ويخاف أن يؤدي الشقاق داخل العائلة إلى تقسيم مملكته .

توفي عبدالعزيز في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1953 في الطائف . وأقسم زهاء مائة أمير اجتمعوا عند جثمانه يمين الولاء لسعود الذي بايعه ملكا ولفيصل كولي للعهد . ونقل جثمان ابن سعود جوا إلى الرياض حيث دفن وفق التقاليد الوهابية المعتادة دون شاهد أو تابوت أو ضريح . ويصعب تمييز مقبرته عن سواها ، وهي تقع إلى جوار مقابر سائر أفراد العائلة ومنهم أحب أخواته نورا . وبذا ظل الوهابيون الذين هدموا القباب وشواهد القبور أوفياء لأنفسهم .

في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1953 أكد العاهل الجديد سعود تعيين شقيقه فيصل نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية ، واحتفظ لنفسه برئاسة الحكومة . يقول الزركلي أن عبدالعزيز حينما توفي كان عدد الأحياء من أبنائه 34 ولدا وبلغ العدد الإجمالي لأبنائه وأحفاده وحفيداته – عدا أبناء بناته – 160 ، ويزيد العدد على الثلاثمائة إذا أضفنا ذريته بناته . وكان قد عقد خلال حياته عشرات الزيجات .

كان ولي العهد سعود المولود عام 1902 الإبن الثاني لعبدالعزيز بعد تركي الذي توفي شابا بسبب إصابته بالأنفلونزا . وأم سعود من آل عريعر الأرستقراطيين وهم شيوخ بنو خالد ، وقد توفيت عام 1969 ، أي بعد وفاة إبنها . وولد فيصل عام 1906 من الزوجة الثالثة لعبدالعزيز وهي من آل الشيخ . وقد جرى بين الأخوين غير الشقيقين تنافس مستمر لم ينقطع حتى بعد وفاة والدهما بالرغم من اليمين الذي أقسماه له . كان لسعود 40 ولدا وهو عدد مقارب لعدد إخوته . أما غريمه فيصل فلم يكن له غير ثمانية أولاد بعث خمسة منهم للدراسة في المدارس والجامعات الأمريكية وواحدا إلى اوكسفورد وآخر إلى كلية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية .

في آذار (مارس) 1954 أدلى سعود في أول اجتماع لمجلس الوزراء ببيانه السياسي الأولى بصفته ملكا ز وقد أعلن عن تمسكه بأهداب الدين وعزمه على مواصلة سياسة والده وأساليب حكمه . وقال أن هدفه الأول هو تثبيت أصول الدين والشرع . وذكر أن من مهمات حكومته تعزيز الجيش ومكافحة الفقر والجوع والمرض وتحسين الخدمات الطبية وتأسيس وزارات للمعارف والزراعة والمواصلات . وتضمن خطاب العرش الذي ألقاه سعود فقرات صارت فيما بعد سمة ملازمة لكل التصريحات السياسية للحكومة السعودية : التأكيد على الالتزام بالتقاليد ومراعاتها ، وفي الوقت نفسه الإشارة إلى الرغبة في إجراء تحديث وتطوير في الجهاز الحكومي .

أسست في العربية السعودية ثماني وزارات : الداخلية ، الدفاع ، والطيران ، المواصلات ، المعارف ، المالية والاقتصاد الوطني ، الصحة ، التجارة والزراعة ، الخارجية . ونجد بين الوزراء عددا من الأشخاص الذين ستظل أسماؤهم تتردد طويلا في الحياة السياسية بالبلد : فهد بن عبدالعزيز (وزير المعارف) ، سلطان بن عبدالعزيز (وزير المواصلات) ، رشاد فرعون (وزير الصحة) . غير أن الملك كان يتدخل باستمرار في أعمال أخيه ويقيد سلطته . وفي أواخر الخمسينات بلغ الصراع الخفي بينهما حدا جعل الناس تتحدث عن ازدواجية السلطة في المملكة .

الحركة العمالية

في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينات لاحت في العربية السعودية البوادر الأولى التي تشير إلى أن قوى اجتماعية جديدة لم يعهدها البلد من قبل أبدا أخذت تظهر على المسرح السياسي ، وأن نزاعات اجتماعية لم يسبق لها مثيل آخذة في التطور . ولأول مرة طرحت الطبقة العاملية الفتية مطالبها .

جرى أول إضراب لعمال أرامكو ، العمال الأجانب في الأساس ، عام 1945 . وقدمت الإدارة تنازلات وقتية ، إذ ضمنت أن يكون العمل لمدة 8.5 ساعة يوميا وستة أيام في الأسبوع ، وأن تعطي إجازة سنوية مدفوعة الأجر لمدة أسبوعين . ولكن الأجانب المضربين سرحوا فيما بعد . وفي أواخر الأربعينات شهدت حقول النفط اضطرابات عمالية جديدة . إزاء هذا الوضع أصدرت الحكومة السعودية في تشرين الأول (أكتوبر) 1947 قانون عمل استخدمت عند رضعه التشريعات المصرية . وحدد أسبوع العمل بستة أيام ويوم العمل بثماني ساعات في كل مؤسسة يزيد عدد العمال المأجورين فيها على العشرة .

شكل عمال أارمكو عام 1952 لجنة بمثابة نقابة ، وفي العام التالي بدأوا كفاحهم بحزم . فقد طالبوا بضمان حق التنظيم النقابي وزيادة الأجور وقطع دابر التمييز العنصري وتوفير مساكن جديدة للعمال ودفع أجور النقل واعتماد اللغة العربية في المدارس . وامتنعت إدارة أرامكو عن تنفيذ هذه المطالب ، وأيدتها عملاي اللجنة الملكية الخاصة ، واعتقل 12 عضوا من اللجنة العمالية . وفي 17 تشرين الأول (أكتوبر) بدأ إضراب شارك فيه زهاء عشرين ألفا من العمال العرب في أرامكو ، وأعرب سكان المنطقة الشرقية عن تعاطفهم مع المضربين ، إذ أن الموقف من الأمريكان وثرائهم ونمط حياتهم كان سلبيا أو عدائيا .

أعلنت الأحكام العرفية في حقول النفط ، ونقل إلى المنطقة مع اللجنة العمالية والقبول بالكثير من مطالب المضربين : زيادة الأجور بنسبة 12-20% وتزويد العمال بملابس العمل والغذاء وتوفير وسائط النقل ومنحهم درجات تأهيلية أعلى . وأطلق سراح المعتقلين من أعضاء اللجنة وأعيدوا إلى أعمالهم ، ولكن العمال لم يحصلوا على حق التنظيم النقابي . وقد انتهى الإضراب في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) . بدأ أن الإضراب يعني بداية مرحلة جديدة نوعيا في الحركة العمالية بالعربية السعودية . وبالفعل استمرت في السنوات الثلاث التالية المفاوضات بين ممثلي العمال والشركات ، وتولت لجنة ملكية خاصة النظر في النزاع . ولكن السعي للحيلولة دون وجود حركة عمالية منظمة كان القاسم المشترك بالنسبة للسلطات السعودية والشركات .

شكلت أرامكو مايسمى بـ(لجان الاتصال) ، وكلفت شكليا بدراسة مطالب العمال لتفادي النزاعات . أما في الواقع فإن هذه اللجان كانت تبحث عن (العناصر الحربية) وتلاحق النشطاء من العمال . عام 1956 ، حينما أدت الأحداث الثورية في مصر إلى تعاظم الحركة المناهضة للإمبريالية في سائر البلدان العربية ، أصبحت المنطقة الشرقية المركز الطبيعي للتحركات الجماهيرية . وعندما وصل الملك سعود إلى ظهران في 9 تموز (يوليو) 1956 استقبلته مظاهرة جماهيرية ترفع شعارات مناهضة للإمبريالية وطالب المتظاهرون بإجلاء القاعدة الأمريكية . وسلمت إلى الملك مطالب العمال وهي : الاعتراف رسميا باللجنة التي انتخبوها وزيادة علاوة غلاء المعيشة وزيادة الأجور وتقليص يوم العمل ووقف التسريح الكيفي ومساواة العمال المحليين والأمريكان في الحقوق وإلغاء التمييز العنصري وإصدار قانون يكفل بحقول عمال أرامكو ويحمي كرامتهم .

بعد مرور يومين ، في الحادي عشر من تموز (يوليو) ، أصدر الملك مرسوما يمنع كل الاضرابات والمظاهرات ويوقع على المخالف عقوبة الحبس لمدة لاتتجاوز الثلاث سنوات . بدأت حملة اعتقال وتعذيب العمال النشطاء وفق قوائم أعدتها الأجهزة الخاصة لأرامكو . وفي 17 تموز (يوليو) أعلنت اللجنة المركزية للعمال العرب الإضراب العام , كان من بين المطاليب التي طرحتها الطليعة الواعية من العمال : سن الدستور وإجازة الأحزاب السياسية والتنظيمات الوطنية وتقنين حق التنظيم النقابي وإلغاء المرسوم الملكي حول حظر الإضرابات وإيقاف تدخل أرامكو في شئون البلد الداخلية وإجلاء القاعدة الأمريكية من الظهران وإطلاق سراح المعتقلين كافة . ولكن من المستبعد أن تكون جماهير العمال في الإحساء قد بلغت آنذاك مستوى عاليا من الوعي البروليتاري والسياسي يؤهلها للدفاع عن مثل هذه المطالب لذا فإن الإضراب القصير لم يعطل عمل حقول النفط . واستخدم في عمليات قمع العمال بدو من هجر الإخوان والحرس الشخصي لأمير المنطقة الشرقية المكون من العبيد والمعتوقين . وقد اعتقل مئات الأشخاص وعذبوا وصدرت أحكام بالحبس لمدة مختلفة والطرد من البلاد .

جرى الإضراب الأول بعد مرسوم الحظر الصادر عام 1956 ، سنة 1958 حينما توقف السواق العاملين لدى إحدى المقاولين عن العمل احتجاجا على الساعات الإضافية . ولكن من المهم الإشارة إلى أن الاضطرابات العمالية عام 1956 كانت آخر تحرك كبير تقوم به البروليتاريا السعودية من الخمسينات إلى السبعينات .

تأزم الوضع الداخلي في أواسط النصف الثاني من الخمسينات

لم يكن سعود يتمتع بالهيبة وقوة الشخصية اللتين كانتا سمة عبدالعزيز ، ولكنه كان يحاكي والده في نواقصه إلى حد كبير بحيث بدأ نسخة كاريكاتورية عنه . فقد واصل العيش في عالم يمت إلى ماضي الجزيرة وله حريم كثير العدد وبلاط قوامه خمسة آلاف شخص ، وكان يبذر المال معتبرا عوائد البلد ملكه الخاص ولا يقر بوجود فرق بين كثرة المال ولا محدوديته .

وكان طرد فيلبي من القرائن التي توضح الجو السائد في البلاد عقب وفاة عبدالعزيز . فبعد وفاة ابن سعود أخذ فيلبي ، الذي كان يعتبره بطلا ، يتحدث جهارا عن الفساد المستشري في البلاط والمملكة مما أثار نقمة سعود . ولكن ما أن غادر فيلبي البلد حتى وجد جمهورا كبيرا ومنبرا لانتقاد النظام . فاختار الملك أهون الشرين وسمح له بالعودة لكي يقضي آخر سنوات حياته في وطنه الثاني .

أخذت الرشوة تنخر في جهاز الدولة من أعلاه إلى أدناه . وجاء في كتاب (جحيم الحكم السعودي) الصادر عن ممثلي المعارضة الديمقراطية الثورية ، أن حاكم المنطقة الشرقية حصل على ثلاثين ألف ريال مقابل إطلاق سراح مقاولين كبار حكم عليهم بالسجن سنة واحدة والضرب لتعاطيهم الخمرة . وزاول الكثير من أفراد العائلة المالكة وأمراء المحافظات عمليات نقدية غير مشروعة . فقد استغل حاكم المنطقة الشرقية سلطته وأرغم البنوك على بيعه النقد الأجنبي وفق السعر الرسمي (الدولار الواحد = 3.75 ريال) ومن ثم قام ببيع الدولار الواحد في السوق السوداء مقابل ستة ريالات أو أكثر . خلال فترة 15-20 سنة الأولى من عصر النفط أدت الزيادة الكبيرة في عائدات النخبة الحاكمة إلى زيادة الطلب على العمال العبيد . ورغم أن الرق كان ألى حد ما ذا طابع أبوي ، فإن العبيد غالبا ماكانوا يتعرضون لاستغلال بشع ومعاملة قاسية في أحوال كثيرة . ولكن ظلت قائمة عادة عتق العبيد حينما يكون السيد في النزع الأخير لأن الإسلام يعتبر ذلك مغفرة للذنوب .

وفي الخمسينات استمرت في السعودية تجارة العبيد وأسواق الرقيق ، وكان غالبية العبيد من الصومات وأثيوبيا والسودان والمستعمرات الفرنسية في غرب أفريقيا ، علاوة على بلوجستان . لم تتأثر تجارة الرقيق في السعودية كثيرا بالكفاح الدولي ضد هذه الآفة . وكانت الحكومة السعودية قد أعلنت عام 1936 أن استيراد العبيد أو استعباد الحر أمر غير مشروع ويعاقب المخالف بالحبس لمدة لاتتجاوز السنة . ولكن تجارة الرقيق استمرت عمليا وكان العبيد ينقلون إلى السعودية في الغالب أثناء موسم الحج كحجاج . أدى انتشار الفساد بين الفئة الحاكمة وعدم التمسك بالزهد ولو شكليا ، والترف في الملبس وأبهة القصور والسيارات ، إلى إثارة النقمة ليس في أوساط الجماهير فحسب بل ولدى بعض العلماء من الحريصين على التقاليد الوهابية ، وخاصة الذين لم يرتقوا إلى قمة السلم الديني . واعتبر هؤلاء أن اعتماد عناصر التحديث وإن كانت سطحية ، وأنماط الحياة الجديدة (بدعة) مرفوضة . وتعارضت أفكارهم مع آراء مجموعة العلماء المقربة من البلاط .

في معرض الحديث عن علماء الدين الرسميين يقول فيلبي : (يبدو أن العلماء المسئولين عن الأخلاق والسلوك في البلد قد تخلوا عن رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معتبرينها مهمة عقيمة . ألم تكم أفواههم بالذهب ؟ ... يحصل العلماء على مبالغ طائلة مخصصة للإنفاق على الفقراء والمحتاجين وما إلى ذلك من أعمال الخير) . ولم يقدم أي كشف بالحساب من قبل هؤلاء الأطهار المنزهين ... (ولا توجد أية وصولات ممن يتلقون العون ... وهناك فرص سانحة لنهب أموال الدولة . فحتى علماء الدين الوهابيون بشر قبل كل شيء) .

في مطلع الخمسينات ، وخاصةب عد الثورة المصرية عام 1952 وتحت تأثيرها ، ظهرت براعم تنظيم ديمقراطي ثوري سري معارض للنظام . وكانت أول مجموعة شكلت بفعل الإضراب العمالي عام 1953 هي جبهة الإصلاح الوطني التي أسسها شباب سعوديون من منتسبي القوات المسلحة والموظفين والمستخدمين في أرامكو والذين حصلوا على مناصب من التعليم . وأعلنت الجبهة أن أهدافها هي : - تحرير البلاد الناجز من الهيمنة الإمبريالية ومن التسلط الاقتصادي لأرامكو وشركات النفط الأخرى .

- اعتماد دستور يكفل الانتخاب البرلماني وضمن حرية النشر والتجمع وإجازة الأحزاب والنقابات وحرية التظاهر والإضراب .

- تطوير الصناعة الوطنية وتوفير البذور والأسمدة والآلات الزراعية للفلاحين بأسعار منخفضة .

- إلغاء الرق .

- إعادة النظر في الاتفاقيات المعقودة مع شكرات النفط وتعديلها بشكل يضمن حق استثمار ثروات البلد بشكل يكفل تقدمه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي .

- مكفاحة الأمية وتأسيس مدارس البنات وتوسيع التعليم العالي والمهني .

واعتبرت جبهة الإصلاح الوطني نشاطها جزءا من الكفاح التحرري الذي تخوضه الشعوب العربية ضد الإمبريالية وفي سبيل التعاون والوحدة على أساس حر ديمقراطي . وعلى صعيد السياسة الخارجية دعت الجبهة إلى تعزيز العرلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع البلدان العربية وإقامة علاقات اقتصادية مع الدول الاشتراكية ، واتباع سياسة الحياد الإيجابي والتعايش السلمي ومناهضة المذاهب والأحلاف الإمبريالية . أعلنت الحكومة السعودية عام 1956 عن تصفية جبهة الإصلاح الوطني ، واعتقل عدد من أعضائها ، علاوة على 56 شابا عرفوا بأفكارهم الديمقراطية . وصار عمل الجبهة في الداخل صعبا للغاية ، ولكن أعضاءها واصلوا التبشير بآرائهم في مصر وسورية ولبنان وفي المحافل الدولية .

كان من أنشط العاملين على تنظيم جبهة الإصلاح الوطني الملازم عبدالرحمن الشمراني الذي عمل بين مجموعة من الضباط الشباب في الجيش النظام وسجن الشمراني مع أربعة ضباط آخرين بتهمة التآمر ضد النظام القائم ، ثم أعدم . وأهدى كتاب (جحيم الحكم السعودي) لذكراه . وتحت تأثير إذاعة القاهرة وجدت الميول المناوئة للحكومة تربة خصبة بين جزء من الضباط وفئة المنفقين الناشئة والطلاب وتلاميذ المدارس .

كانت صحيفتا (الفجر الجديد) و (أخبار الظهران) تنشران مقالات تنتقد الحكومة علنا أو بشكل غير مباشر . وقد اعتقل صاحب امتياز (الفجر الجديد) ورئيس تحريرها يوسف الشيخ يعقوب والصحفي احمد الشيخ يعقوب ، وأغلقت الصحيفة . كما اعتقل رئيس تحرير (أخبار الظهران) عبدالكريم جهيمان وجلد قبل إيداعه السجن . عام 1956 أسست لأول مرة في تاريخ نجد منظمة تلاميذ المدارس في مدن عنيزة وبريدة وشقراء والرس . وكان من مطالبها الأساسية حل جماعة الأمر بالمعروف التي شكلت في العشرينات وصارت بؤرة عفن تشكل خطرا على الأطفال الطامحين إلى العلم . وطالب التلاميذ بتوحيد أساليب وبرامج التدريس وجعلها على غرار النظام المتبع في مصر وسورية ، وتأسيس معاهد عليا في البلد . وجرت في بريدة اشتباكات بين التلاميذ والمتعصبين من جماعة الأمر بالمعروف والشرطة ، واعتقل أثرها عشرات الأشخاص وجلدوا .

خشيت الحكومة أن يؤدي تطور التعليم والدراسة في الخارج إلى ظهور أفكار هدامة في البلد فقررت منع الدراسة في الخارج . وفي نيسان (إبريل) 1955 أصدر الملك مرسوما يقضي باستدعاء كل الطلبة السعوديين الدارسين في الخارج وحرمان المخالف الجنسية السعودية . واستثنى المرسوم طلبة المعاهد العليا الذين يدرسون الهندسة والحقوق والطب . وكان القرار منافيا لاحتياجات البلد إلى حد بحيث أنه أصبح باطل المفعول عمليا بعد سنوات .

في محاولة لمنع الأفكار الجديدة لجأت الحكومة وعلماء الدين إلى سلاح مجرب ، وهو التعصب الديني ، فانتعشت في البلد جماعة الأمر بالمعروف وازدادت المبالغ المخصصة لها . استخلص آل سعود من ثورة 1952 في مصر التي جرت بشكل انقلاب عسكري ، استنتاجا مفاده أن ثمة خطرا على النظام يكمن في الميول الثورية في الجيش النظامي ، وعلى وجه التحديد بين الضباط الذين يتأثرون بالأفكار المناهضة للإمبريالية والحكم المليك . وكان قد جرى بعد الحرب التركيز على بناء الجيش النظامي ، وأبقيت الكتيبة التي كانت قد أرسلت لمحاربة اسرائيل عام 1948 في مصر لإعدادها عسكريا . وتولت البعثتان الأمريكية والبريطانية ، ومن ثم البعثة المصرية ، تدريب الجيش النظامي .

وفي الخمسينات توصل الملك وحاشيته إلى استنتاج مؤداه أن عصبية الإخوان الآخذة في الخمود لم تعد تشكل خطرا على النظام ، بل أنها موجهة ضد البدع وإغراءات الحضارة العصرية . لذا أخذت السلطات تولي اهتماما كبيرا للمجندين من البدو . أصبح البدو المجندون يسمون الحرس الوطني أو الجيش الأبيض . وجهز الحرس الوطني بالأسلحة الحديثة وصار المنتسبون إليه – المجاهدون – يتقاضون رواتب عالية . رابطت غالبية وحدات الحرس الوطني قرب المدن الكبيرة وخاصة قرب حقول النفط . وفي عام 1957 كان يوجد من الحرس الوطني 10 آلاف في الحجاز و5 آلاف في الإحساء و5 آلاف في الشمال . ويقع مقر قيادة الحرس الوطني في الرياض ، وهناك مدارس في الحجاز ونجد لإعداد الآمرين والفنيين .

يورد الباحث الفرنسي المختص بشئون الشرق الأوسط بويربى في كتابه (شبه الجزيرة العربية) مضمون الإيعاز الخاص بالصادر عام 1957 بعنوان (الإخوان ينافسون الجيش) . وجاء في الإيعاز أن الدولة السعودية سوف تواصل إيلاء الاهتمام لبناء جيش نظامي كبير ، غير انها تفضل مع ذلك الإنفاق على وحدات أفرادها من البدو فقط . ويبقى تنظيم الإخوان القوة الأساسية للجيش بسبب طابعها الديني ووفائها للأسرة المالكة . وتكمن خاصية تنظيم الإخوان في القدرة على تعبئة جيش قوامه مائة ألف مقاتل خلال فترة قصيرة جدا . ولكن اتضح أن الإجراءات التي اقتصرت على تعزيز القوات المسلحة لم تكن من الفعالية بالقدر الكافي لتوطيد النظام . فقد كان البلد على حافة إفلاس اقتصادي . وأدى تبذير آل سعود والبلاط الملكي ونهب أموال الدولة على أوسع نطاق ، إلى أن ديون العربية السعودية للبنوك الأجنبية وحدها بلغت عام 1958 زهاء 120 مليون دولار . وبلغت ديون خزانة الدولة للبنوك المحلية والتجار ورجال الأعمال والمقاويل مئات ملايين الريالات . وطوال عدة أشهر لم يتقاض الموظفون رواتبهم فاضطروا إلى الاستلاف أو الاختلاس .

في سنتي 1956-1957 تقلصت إلى حد كبير المدفوعات عن حقوق الامتياز بسبب إغلاق الأسواق الأوروبية أمام النفط السعودي وبدء انخفاض الأسعار القياسية . وأدى تقلص استيراد السلع ، ومن ضمنها الأغذية ، إلى تزايد الأسعار داخل البلد . وقاد الغلاء وتقلص تدفق العملة من الخارج إلى التضخم والمضاربة بالنقد . وبسبب عدم توفر العملة اللازمة لشراء السلع الضرورية والمعدات فيا لخارج صار الكثير من المقاولين والتجار السعوديين على حافة الإفلاس ، وساعد ذلك على انتشار الاستياء في أوساطهم . وقد حاول بعضهم إقامة صلات مع البلدان الاشتراكية . ففي عام 1957 اشترى التاجر السعودي العباسي كمية كبيرة من الأسمنت السوفييتي . وزار بعض رجال الأعمال تشيكوسلوفاكيا حيث اتفقوا على شراء معدات مصنع للسكر وسلع صناعية ومواد غذائية . إلا أن أرامكو رفضت التعاون مع التجار ورجال الأعمال الذين يتعاملون مع الدول الاشتراكية ومنعت استخدام الأسمنت السوفييتفي في مشاريع البناء التي ارستها على مقاولين محليين وهددت المخالف بفسخ عقد المقاولة . وضغطت الحكومة الأمريكية على الملك فمنع التعامل التجاري مع البلدان الاشتراكية.

أحدثت السياسة الداخلية للحكومة السعودية استياء بين أوسع فئات السكان وبدأت تتكون في البلد عناصر وضع ثوري . كان كل من الطبقة الحاكمة والمعارضة يضع في حسبانه عاملا آخر بالغ الخطورة ذا أهمية بالنسبة لمصير النظام ، ونعني التأثير الثوري الذي يمارسه الوضع السياسي في الشرق الأوسط على الأوضاع في العربية السعودية .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الاتجاهات الأساسية للسياسة الخارجية

نشر الزركلي وثيقة سرية هامة تحدد السياسة الخارجية للعربية السعودية في النصف الثاني من الأربعينيات والنصف الأول منا لخمسينات ، ونعني بتلك الوثيقة التعلميات السرية التي تللقاها ولي العهد سعود قبيل زيارته إلى الولايات المتحدة عام 1947 .

وأشارت التعليمات إلى وجود مصالح عديدة ومشاعر بأهداف عامة تربط بين العسودية والولايات المتحدة الأمريكية . وثبتت هذه الأفكار في رسالة رسمية إلى الرئيس ترومان . وطلب من الأمير سعود أن يؤكد للرئيس الأمريكي ولأعضاء حكومته تصميم السعودية على اتخاذ جميع التدابير التي تكفل حسن العلاقات وتنمية الصداقة والمصالح الاقتصادية والأدبية للجانبين . كما طلب ابن سعود من ولده أن ينقل للأمريكان (أننا قد نظرنا بعين الرضاء والاطمئنان إلى ترك الولايات المتحدة سياسة العزل والانقطاع التي كانت تسير عليها في الماضي ، وعلقنا الامال الجسام على دخولها معترك سياسة الشرقين الأدنى والأوسط) . وبالنسبة لبريطانيا أراد ابن سعود أن يقوم ولي العهد بإفهام ترومان ورجال حكومته (أننا ، منذ نشأتنا ، كنا ولانزال أصدقاء أوفياء لبريطانيا بالرغم من ... حصول مشكلات ومتاعب عديدة . خبرنا الإنجليز وهم خبرونا ، وعرفناهم وهم عرفونا) لذا فإن التفاهم بين الطرفين كان سهلا رغم أن بريطانيا اتخذت مواقف سلبية أو غير ودية في بعض الأحيان إزاء السعودية .

وجاء في التعليمات أن بريطانيا كانت حريضة على الاحتفاظ بمنطقة الشرق الأوسط ، ضمن دائرة النفوذ السياسي والاقتصادي بالريطاني . غير أن دخول أمريكا بنشاطها الملموس ، أثار مخاوف الإنجليز . ومن ثم بدأنا نشعر بانحرافهم عنا إلى خصومنا، وأشارت التعليمات إلى عدول بريطانيا عن سياسة التوازن بيننا وبين خصومنا ، وشروعها في تقويتهم بصورة مباشرة وغير مباشرة .

وطلب من سعود التأكيد على ضرورة التفاهم مع الولايات المتحدة ، وألمحت التعليمات إلى أن التفاهم مع أمريكا أمر ضروري . وهو مانرجو أن نعلم من الآن المدى الذي توافق أمريكا على السير فيه . يتعلق البند السابع من التعليمات بموقف السعودية من الاتحاد السوفييتي ، الذي زعم أنه يشكل خطرا غير مباشر على المملكة بسب العلاقات القوية بين الشيوعية والصهيونية والدعاية الروسية التي تقوم بها الكنيسة الأرثوذكسية . وجاء في الوثيقة أننا نناهض الصهيونية والشيوعية ، ولا نرى أن تتخذ الكنيسة الأرثوذكسية وسيلة للدعاية الروسية في البلاد العربية) .

أما النبد الثامن فيتناول الصهيونية ويذكر (نحن مسلمون عرب ، قبل كل شيء .. واليهود أعداء ديننا منذ ظهور الإسلام) ولكن الإسلام لايقر مبدأ العنصرية ... ونحن لسنا عنصريين . ولسنا نقاوم اليهود لأنهم يهود ، ولكننا نقاوم السياسة التي يدعو إليها بعض اليهود . أي الصهيونيون . السياسة الغاشمة . وأسباب مقاومتنا لها عديدة ونذكر أهمها :

- الصهيونية غاشمة ظالمة وتقوم على مبدأ جائر .

- أنها تتظاهر بأنها قائمة على أساس تخليص اليهود المضطهدين . وكيف يجوز معالجة اضطهاد باضطهاد آخر ؟ أو رفع الحيف بإيقاع حيف آخر أشد منه ؟

- لأنها مناقضة للمصالح السياسية القائمة في البلاد العربية .

- لأنها تهدد البلاد العربية من الوجهتين الحربية والاستراتيجية . يخص البند التاسع من التعليمات الرئيس الأمريكي . فالمسألة الأولى التي نراها هي ضرورة تجرد السياسة الأمريكية عن التأثر بالعوامل اليهودية المحلية وتحررها من سيطرة الدعاية الصهيونية . والمسألة الثانية نرى ضرورة الفصل بين قضية اللاجئين المضطهدين والصهيونية السياسية ، للأسباب التالية :

- أن فلسطين لايمكنها استيعاب جميع اللاجئين من اليهود فهي إذن ليست بحل للموضوع .

- لايجوز إرغام بلاد ما على قبول لاجئين إليها بدون إرادتها .

- ليس من العدل أن ترفض الولايات المتحدة قبول اللاجئين إليها ، بينما هي تصر على ضرورة فرضهم على فسطين ...

- أن قضية المائة ألف لاجء ليست في الحقيقة مسألة إنسانية ولكنا ستار لتبرير إيجاد أكثرية يهودية في فسطين .

- ليس من الحق ولا من العدل أو الإنصاف ، أن تسمح الحكومة الأمريكية لرعاياها من اليهود بأن تكون لهم سياسة مزدوجة ، كأنهم رعايا دولتين منفصلتين . فيجب أن يكون إخلاصهم للولايات المتحدة فقط ، لا أن يكونوا مواطنين أمريكيين وصهيونيين في نفس الوقت) .

وكانت السعودية بحاجة إلى الرساميل الأمريكية لأغراض التنمية ، فقدم لها قرض قيمته عشرة ملايين دولار ، بيد أنها كانت تروم الحصول على 25-30 مليون دولار أخرى لمد خط للسكك الحديد من الخليج إلى الرياض . التعليمات التي نشرها الزركلي وثيقة فريدة لم ينشر مايماثلها . فقد حددت الحكومة السعودية فيها بوضوح تام أن بريطانيا هي خصمها لسياسي الخارجي . وطوال سنوات عديدة تزعم عبدالعزيز دولة تقع في دائرة النفوذ البريطاني التام ، وسارت العربية السعودية في فلك السياسة الخارجية البريطانية ، رغم استقلالها شكليا . وبظهور منافس قوي لبريطانيا ، هو الولايات المتحدة ، تمكنت السعودية من إضعاف ، ثم قطع أواصر التبعية التي تربطها بلندن . وساد العائلة السعودية الحاكمة رأي مفاده أن الاعتماد على الولايات المتحدة لايجب أن يؤدي إلى بسط هيمنة استعمارية أمريكية .

على الصعيد العربي ظلت العائلة الهاشمية الحاكمة في شرق الأردن والعراق والتي تقف وراءها بريطانيا الخصم الخطر لآل سعود . وكانت خطتا سورية الكبرى والهلال الخصيب اللتان جرى إعدادهما في العاصمتين الهاشميتين خطرا يهدد العربية لاسعودية . وظلت المحميات البريطانية تطوق المملكة بنصف دائرة في شبه الجزيرة العربية التي تعتبرها الرياض مجالا لنفوذها . وكان عبدالعزيز يتسم بقدر كاف منا لحذر منعه من تحدي بريطانيا مباشرة ، ولكنه حاول الارتكاز على الولايات المتحدة للوقوف ضدها .

إن النزعة المناوئة لبريطانيا في السياسة الخارجية للعربية السعودية في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينات قد أدت بها إلى عقد تحالفات ومناورات سياسية غير متوقعة . ويجب ألا يغرب عن البال أن حركة التحرر الوطني في البلدان العربية ذات الصبغة القومية آنذاك ، كانت مناوئة لبريطاني بالدرجة الأولى . وفي البداية لم يكن زعماء الحركة يعتبرون الولايات المتحدة عدوهم الرئيسي . (كان ذلك قبل سنوات من ازمة السويس وانهيار العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والذي كان يعني أفول الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط) ./ لذا فإن مصالح الأسرة الإقطاعية الحاكمة في الدولة السعودية تطابقت وقتيا مع النضال التحرري الوطني لبلدان عربية أخرى رغم كونه ذا طابع اجتماعي مختلف .

وكانت معاداة الشيوعية متماشية مع فكر الفئة السعودية الحاكمة . ويبدو أن مستشاري ابن سعود هم الذين صاغوا معاداة الشيوعية بالشكل الذي اعتمد في المملكة (الشيوعية المرتبطة بالصهيونية ، والتي تستخدم علاوة على ذلك الكنيسة الارثذوكسية كأداة للتغلغل) . ومن المؤكد أن واحدا من أولئك المستشارين كان فؤاد حمزة ، ذلك الشخص الذي كان هتلر قد عرض من خلاله على ابن سعود (عرش حاكم العرب) مقابل التعاون مع ألمانيا النازية ومحاربة بريطانيا. وظلت المسحة النازية لهذه المنطلقات الأيوديولوجية طاغية على السياسة الخارجية للعربية السعودية سنوات طويلة . ورغم أن مصلحة الدولة لكل من الاتحاد السوفييتي والعربية السعودية لم تكن متضاربة في قضايا كبيرة ، بل غالبا ماكانت تتطابق فإن العداء للشيوعية وللاتحاد السوفييتي البالغ حد اللامعقول كان يغشى بصيرة الزعماء السعوديين ويحول بينهم وبين إقامة أبسط الصلات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي ، ويضعف استقلال البلد .

اتخذت العربية السعودية موقفا ثابتا ، قولا وتصريحا ، ازاء القضية الفلسطينية . فقد كان ابن سعود قد أشار منذ عام 1937 في حديث مع ديكسون إلى اعتقاده بأن الهدف النهائي للصهاينة هو الاستيلاء ليس على فلسطين فقط ، بل وعلى أرض تمتد حتى المدينة المنورة ، وفي الشرق يأملون بسط هيمنتهم على أراض تمتد إلى الخليج العربي . وحاول الصهاينة مرارا التوصل إلى اتفاق معا لملك . ومن هذه المحاولات العرض الذي نقله فيلبي من وايزمان (رئيس اسرائيل فيما بعد) إلى ابن سعود عام 1940 . إذ أن الصهاينة استغلوا مصاعب ابن سعود المالية فعرضوا عليه عشرين مليون جنيه استرليني مقابل تخليه عن موقفه ازاء القضية الفلسطينية والقبول بإسكان كل عرب فلسطين في الجزيرة العربية . وقد رفض ابن سعود هذا المشروع .

إن ماورد في التعليمات الموجهة إلى سعود من تقييمات للنفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة والسياسة الصهيونية في فلسطين هي واقعية في بعضها ومبالغ في بعضها الآخر . وبعد أن أخل ترومان بالوعد الذي قطعه روزفلت بعدم انتهاج سياسة معادية للعرب حيال القضية الفلسطينية ، نشأت تعقيدات بين واشنطن والرياض إزاء هذه القضية . بيد أن عبدالعزيز ومن تلاه من ملوك كانوا يتعاملون مع القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني بشكل براغماتي بحت ، واضعين في المقام الأول المصالح الملموسة للعائلة السعودية الحاكمة التي ازدادات روابطها بالولايات المتحدة متانة . وعوضا عن المساهمة في النضال ضد مشاريع الصهاينة وضد العدوان الإسرائيلي فيما بعد كانت العربية السعودية تدفع البلاد بتصريحات شديدة اللهجة على غرار ماورد في التعليمات الموجهة إلى سعود ، أو بتقديم عون مالي للفلسطينيين ودول المواجهة .

منذ السنوات الأولى التي أعقبت الحرب تعقدت علاقات الولايات المتحدة مع العربية السعودية بسبب الدعم الأمريكي للمطامع الصهيونية في فلسطين ، ولنهج اسرائيل التوسعي العدواني فيماب عد . ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1945 قال الرئيس ترومان في حديث مع رؤساء البعثات الدبلوماسية الأمريكية في البلدان العربية الذين أبدوا تخوفهم من ميل واشنطن الواضح إلى جانب الصهاينة ، قال (أنا آسف جدا ، ولكن ينبغي علي أن أحسب حساب مئات الآلاف من المقيمين في بلدي الذين لهم مصلحة في انتصار الصهيونية . وليس بين ناخبي مئات الآلاف من العرب) . إن هذه الكلمات الصلفة يمكن أن تكون ديباجة لأي تصريح صادر عن أي رئيس أمريكي بخصوص النزاع في الشرق الأوسط .

وأوصلت العربية السعودية في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب السعي للحصول على مساعدات اقتصادية وعسكرية أمريكية وحصلت عليها بالفعل . وقدم أول قرض للمملكة ، خارج إطار برنامج الإعارة والتأجير ، في نيسان (إبريل) 1945 وكان عبارة عشرة ملايين دولار لمدة عشر سنوات (بفائدة سنوية قدرها 3%) لشراء مواد غذائية ومعدات زراعية من الولايات المتحدة . وفي السنة نفسها قدم القرض الثالث وقدره 25 مليون دولار لشراء منتجات زراعية . وحصلت السعودية على عشرة ملايين دولار نقدا لإعادة تجهيز ميناء جدة وكهربة مدينة جدة . وقدمت كل هذه القروض من قبل بنك التصدير والاستيراد الأمريكي . وعلاوة على ذلك حصلت السعودية في آيار (مايو) 1946 على قرض من الوكالة الأمريكية لتصفية فائض المعدات العسكرية الأمريكية في الخارج قدره مليوني دولار كسلفة تجارية لشراء معدات عسكرية .

عند حلول عام 1951 كان قد أنجز مد خط للسكك الحديد بين الدمام والرياض بمساعدة أمريكية . وطبقا للنقطة الرابعة من برنامج ترومان التزمت الولايات المتحدة منذ عام 1952 بمساعدة العربية السعودية في تطوير الزراعة والمواصلات والثروات الطبيعية. واقتصرت هذه المساعدة عمليا على الدراسات وكانت مخصصاتها ضئيلة (1.7 مليون دولار وفق مصادر سعودية) . أضف إلى ذلك أن جزءا كبيرا من الأموال كان مخصصا للإنفاق على البعثة الأمريكية ذاتها . ونظرا لذلك قررت العربية السعودية عام 1954 الكف عن التعاون مع الولايات المتحدة وفق النقطة الرابعة ، وتذرعت شكليا بأن اسرائيل تحصل على مبالغ أكبر بكثير وفق البرنامج نفسه .

كانت القاعدة الجوية في االظهران التي أنجز أبناؤها عام 1946 الركيزة العسكرية الأساسية للولايات المتحدة في السعودية . وقد مدد عقد إيجار القاعدة لمدة خمس سنوات حسب اتفاقية وقعت في 18 حزيران (يونيو) 1951 ، وتعهدت الولايات المتحدة مقابل ذلك بتجهيز الجيش السعودي بطائرات ودبابات حديثة . ونص ملحق خاص بالاتفاقية على أن يتولى خبراء أمريكان تدريب الطيارين السعوديين . أصبحت الظهران مقرا للمستشارين الأمريكان الذين وصلوا إلى السعودية عام 1952 ، وتولوا إعداد القوات الجوية السعودية في جدة والطائف . وكان اتساع نشاط الخبراء العسكريين الأمريكان يعني إزاحة البريطانيين الذين تولوا تدريب الجنود السعوديين منذ عام 1947 .

العلاقات مع بريطانيا - أزمة البريمي

لم ترسم الحدود بين العربية السعودية والمحميات البريطانية – قطر وإمارات ساحل الصلح البحري وعمان ومحميات عدن (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية فيما بعد) – ومع اليمن في منطقة الربع الخالي ، وكانت الحدود موضع خلافات . واكتسبت المسألة حدة خاصة في أواخر الثلاثينات ، وخاصة في الأربعينات عندما بدأ البحث عن النفط في مناطق شاسعة من شبه الجزيرة العربية . وأصبحت عائدية هذه الأراضي الصحراوية أو تلك ، والتي لم تكن لها من قبل قيمة اقتصادية ، مثار نزاعات بسبب احتمال وجود نفط فيها . وفي أواخر الأربعينات جرى بين السعودية وبريطانيا صراع ضار على واحات البريمي . وادعت ملكية الواحات كل من إمارة أبو ظبي وسلطنة مسقط اللتين كانتا تحت الحماية البريطانية ، والمملكة العربية السعودية .

بلغت مساحة البريمي ، حيث توجد تسعة مراكز مأهولة ، زهاء ألفي كيلومتر مربع . وكانت المنطقة تعتبر تقليديا مركز تقاطع طرق القواف المتجهة إلى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية ، وألحقت بالدولة السعودية الأولى عام 1795 . واعتبر السعوديون البريمي جزءا من المنطقة الشرقية وقالوا أن هيمنتهم على الواحات استمرت 155 سنة . وطعنت بريطانيا بهذه الادعاءات معلنة أن فترة السيطرة السعودية لم تكن إلا لمحة عابرة في تاريخ البريمي ، وأن المنطقة تعود لأبو ظبي وسلطان مسقط .

يقول الزركلي (امتدت أنوف المنقبين عن النفط ، تشم رائحته في بعض أراضي البريمي . ولم ير الملك عبدالعزيز بأسا في أن يقوم بعض مهندسي شركة الزيت العربية الأمريكية بالتنقيب) . كان ذلك عام 1949 . طالبت الحكومة البريطانية ، نيابة عن أبو ظبي ومسقط ، بوقف التنقيب في أراض لم يتفق على عائديتها . فقرر عبدالعزيز ألا يصعد الأزمة وأمر باستدعاء الباحثين عن النفط من هذه الأراضي وتأجيل الأعمال لحين الاتفاق على تدقيق الحدود . غادر جيولوجيو أرامكو وبدأ تبادل سيل من المذكرات بين الحكومتين البريطانية والسعودية .

غير أن جيولوجي B.I.P.C (بريتيش بتروليوم) فيما بعد بدأوا عام 1950 التنقيب في بعض الجزر التي تعتبرها السعودية ملكا لها . ومن ثم بدأوا البحث عن النفط في أراض لم يتفق على عائديتها حسب قول البريطانيين .

في 21 آيار (مايو) 1950 احتجت الحكومة السعودية ، وفي الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) 1950 رد السفير البريطاني في جدة بأن حكومته ترى أن ادعاء الحكومة السعودية بهذه الأراضي ليس له أساس . عقد في آب (أغسطس) 1951 لقاء في لندن بني وفد سعودي برئاسة وزير الخارجية فيصل ووفد بريطاني برئاسة وزير الخارجية موريسون . وتقرر عقد مؤتمر خاص يشارك فيه ممثلون عن الإمارات المعنية ويترأسه مندوب بريطاني وممثل عن الملك عبدالعزيز للاتفاق على الحدود . واتفق الطرفان على وقف أعمال التنقيب الجيولوجي وتحركات القوات المسلحة في المنطقة المتنازع عليها لحين إنجاز المؤتمر . في أواخر كانون الثاني (يناير) وفي شباط (فبراير) 1952 عقد المؤتمر في الدمام ولكنه لم يتمخض عن نتائج.

بدأ تدهور العلاقات السعودية – البريطانية يشمل مجالات لا علاقة لها بالخلاف على الأراضي . ففي سنة 1951 توقف عمل البعثة العسكرية البريطانية في السعودية . وكانت مجموعة صغيرة من المستشارين العسكريين البريطانيين قد أرسلت إلى السعودية أثناء الحرب العالمية الثانية ولكن عملها لم يؤد إلى نتائج تذكر فاستدعيت قبل انتهاء الحرب . وفي سنة 1947 استأنفت البعثة العسكرية البريطانية عملها للتولى تدريب عشرة آلاف بدوي للعمل في وحدات شكلت على غرار الفيلق العربي بشرق الأردن . وأرسل للدراسة ي الكليات العسكرية البريطانية نفر قليل من الضباط السعوديين غالبيتهم من أبناء الملك وأقربائه . وتوقف هذا التعاون بسبب النزاع على البريمي . وابتداءا من سنة 1952 أخذ الأمريكان على عاتقهم إعداد الكوادر العسكرية السعودية ، بعد أ، توطدت مواقعهم الاقتصادية في البلد . بعيد إخفاق مؤتمر الدمام وصل إلى البريمي وكيل سياسي بريطاني (لأداء وظائفه الإدارية) .

وتلقى حاكم الإحساء إيعازا من عبدالعزيز بتشكيل بعثة مدنية وإرسالها إلى البريمي . وترأس البعثة تركي بن عطيشان الذي عين رئيسا إداريا لها ، وانتقل في مطلع أيلول (سبتمبر) 1952 إلى البريمي ونزل في حماسا . وللتو توجه الوكيل السياسي البريطاني من الشارجة إلى البريمي على رأس وحدة عسكرية ، وتوقف على بعد أربعة كيلومترات من السعوديين وبدأت الطائرات البريطانية تحوم فوق حمامسا . وللتو توجه الوكيل السياسي البريطاني من الشارجة إلى البريمي على رأس وحدة عسكرية ، وتوقف على بعد أربعة كيلومترات من السعوديين وبدأت الطائرات البريطانية ابن سعود باستدعاء بعثة ابن عطيشان . في 10 تشرين الأول (أكتوبر) 1952 عرض السفير الأمريكي في جدة التوسط بين الطرفين واقترح أن يحجما عن الأعمال الاستفزازية ويلازما مواقعهما في البريمي ويستأنفا المفاوضات . وكان هذا الاقتراح في صالح أرامكو لأنه يبقى للسعوديين نصف الحقوق في البريمي على أقل تقدير . واقترح عبدالعزيز إجراء استفتاء بين سكان الواحات ولكن البريطانييين رفضوا الاقتراح .

عاد الجيولوجيون البريطانيون إلى منطقة البريمي عام 1953 كان تركي بن عطيشان ما زال في موقعه محاصرا ، بينما واصل البريطانيون البحث عن النفط بوتائر حثيثة . في تموز (يوليو) 1954 وقع مندوبون عن السعودية وبريطانيا اتفاقية في نيس حول رفع الخلاف إلى هيئة تحكيم بدأت أعمالها في جنيف في مطلع عام 1955 . وفي شهر أيلول (سبتمبر) 1955 استقال ممثل بريطانيا في المحكمة لإدراكه أن قرارها لن يكون في صالح بلاده . وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1955 أدخلت إلى البريمي وحدات من أبو ظبي ومسقط بقيادة ضباط بريطانيين . وبعد مقاومة رمزية استسلم رجال الشرطة السعوديون ، فأعيدوا إلى وطنهم عبر أبو ظبي والبحرين . وزعم البريطانيون أنه ليس لهم دخل في احتلال الواحة ، بل أن القوات المسلحة لأبو ظبي ومسقط هي التي احتلتها . أو مسقط ، بل ثمة خلافات بينها وبين الحكومة البريطانية ، واحتجت وطالبت بسحب القوات البريطانية ، ثم رفعت شكوى ضد بريطانيا إلى مجلس الأمن للأمم المتحدة .

التزمت الولايات المتحدة في هذه المسألة الجانب السعودي ولكنها عملت كوسيط خوفا من تفاقم النزاع واقنعت الحكومة السعودية بسحب احتجاجها المرفوع إلى هيئة الأمم المتحدة واستئناف المفاوضات مع بريطانيا . وفي آيار (مايو) 1956 وصل إلى جدة وكيل وزارة الخارجية البريطانية وعقد سلسلة من الاجتماعات مع فيصل ، ثم واصل السفير البريطاني في جدة التفاوض من بعده . ولكن السعودية قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1956 وحظرت تصدير النفط إليها بسبب اشتراكها في العدوان الثلاثي على مصر.

بعد إعلان استقلال الكويت في حزيران (يونيو) 1961 واجهت هذه الإمارة خطر غزوها من قبل العراق. وقد ساندت السعودية الكويت وألفت نفسها في جانب واحد من المتاريس مع بريطانيا. وأرسلت إلى الكويت قوات سعودية وبريطانية ظلت هناك حتى يناير 1963. وي سنة 1964 إقتسمت السعودية والكويت إدارة المنطقة المحايدة ، ولكنها حافظتا على الاتفاقية السابقة القاضية بتقاسم الموارد النفطية مناصفة.

أخذت التناقضات السعودية البريطانية تنحسر تدريجيا تحت ضغط مصالح الطرفين المشتركة في محاربة الحركة الثورية والتحررية الوطنية في الشرق الأوسط عامة والجزيرة العربية خاصة.وفي سبتمبر 1963 التقي الأمير فيصل في دورة هيئة الأمم المتحدة في نيويورك مع وزير الخارجية البريطاني واتفقا على استئناف العلاقات الدبلوماسية واجراء مفاوضات جديدة حول البريمي. وفي يوليو 1963 عاد السفير السعودي الى لندن.

في الخمسينيات كان أحداث عمان قد زادت من تعقيد العلاقات السعودية البريطانية. فقد أخذت الرياض تساند أعداءها السابقين من الأبضيين الذين حاولت تأسيس دولة مستقلة في عمان وخاضوا من عام 1954 وحتى عام 1959 كفاحا مسلحا ضد البريطانيين وقوات سلطان مسقط . وبعد هزيمة إمامة عمان عام 1959 إلتجأ قادتها إلى العربية السعودية.

سياسة المللكة المتحدة في الشرق الأوسط

شارك مندوب عن السعودية في المفاوضات التي جرت بمصر عام 1943 حول تأسيس منظمة إقليمية للبلدان العربية. ووقع ولي العهد سعود وثائق تأسيس جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1945. لقد أيدت بريطانيا تأسيس هذه المنطقة الإقليمية آملة إستخدامها كأداة للإبقاء على نقوذها في الشرق الأوسط ،ولكنها عجزت فيما بعد عن وقف العلميات الإجتماعية السياسية ذات الطابع المناوئ لبريطانيا ، كما عجزت عن شل حركة التحرر الوطني في البلدان العربية.

لم تسنح لإبن سعود الفرصة للعب دور قيادي في الجامعة العربية ، لذا كان موقفع إزاء متحفظا في المرحلة الأولى. وقد أخافه تأثير الأسرة الهاشمية المعادية له على المنظمة ، كما أ،ه لم يكن مرتاحا لمطامع مصر في الزعانة. لذا إشترطت الرياض لإنضمامها إلى الجامعة الحفاظ على وحدة أرضاي وإستقلال سوريا ولبنان معتبرة إياهما المعادل للأسرة الهاشمية ، كما اشترطت ضمان الحدود القائمة بين البلدان العربية.

في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب اعتبر ابن سعود الأسرة الهاشمية ألد خصم له . ومن الطبيعي ان يقف ابن سعود ضد مشاريع إقامة امبراطورية هاشمية تضم العراق وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن باسم (الهلال الخصيب) أو إمبراطورية أصغر باسم (سورية الكبرى) . كما كانت القاهرة تنظر بعين الريبة إلى مثل هذه المشاريع .

ظل عبدالله ، أمير شرق الأردن ، يأمل في استعادة سلطة عائلة الشريف على الحجاز . وفي عام 1947 رتب ما يدعى بمؤتمر الحجاز الذي أيد الكتل المناوئة للسعوديينن في الحجاز . وردا على ذلك عددت الحكومة السعودية بأن تثير مجددا مسألة منطقتي العقبة ومعان المتنازع عليهما واللتين كانت تعتبرهما جزءا من الحجاز . وتخلي عبدالله مؤقتا عن مشاريع إقامة سورية الكبرى بحجة ضرورة اتخاذ موقف عربي موحد حيال القضية الفلسطينية وأوقف الدعاية المناوئة للسعوديين في الحجاز .

خلال فترة الانتداب في فلسطين قامت الحكومة البريطانية بإنشاء (وطن قومي لليهود) هناك . وعملت السلطات البريطانية على إثارة التطاحن القومي والاشبتاكات بين العرب واليهود بغية الإبقاء على هيمنتها في فلسطين .

وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1946 دعا الرئيس ترومان إلى تأييد الصهاينة في فلسطين والسماح بدخول مائة ألف يهودي إلى البلد دون مشاورات مع الدول العربية . وردا على ذلك بعث ابن سعود رسالة إلى ترومان جاء فيها : (لقد دهشت للإذاعات الأخيرة التي نسبت تصريحا لفخامتكم بدعوى تأييد اليهود في فلطين وتأييد هجرتهم إليها بما يؤثر على الوضعية الحاضرة فيها خلافا للتعهدات السابقة) .

عندما أحيلت المسألة الفلسطينية إلى هيئة الأمم المتحدة (1947) كانت العلاقات بين اليهود والعرب في فلسطين قد تأزمت إلى أقصى حد ، ولكن الدول العربية نفسها لم تجتمع على رأي حيال فلسطين . فقد كانت شرق الأردن تريد ضم فلسطين ، بينما عارضت هذه المطامع السعودية ومصر وغيرهما من أعضاء الجامعة العربية ، كما جوبهت مشاريع الأمير عبدالله بمقاومة فعالة من الولايات المتحدة الأمريكية .

في 29 آيار (مايو) 1947 اتخذت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قرارا بإلغاء الانتداب البريطاني في فلسطين وتقسيمها إلى دولتين مستقلتين . وأدى قيام دولة إسرائيل في جزء من الأراضي الفلسطينية والحروب الاسرائيلية العربية الأولى إلى خلق وضع جديد من حيث المبدأ في المنطقة .

لم تشارك السعودية عمليا في حرب فلسطين . فقد اقتصر ابن سعود على إرسال كتيبة عملت ضمن قوام الجيش المصري .

وفي حزيران (يونيو) 1948 قام عبدالله بزيارة للرياض تكللت بصلح شكلي مع ابن سعود ، غير أن الخلافات بينهما كانت بعيدة عن التسوية .

أدت هزيمة الدول العركبية في حرب فلسطين إلى تفاقهم التناقضات بين أعضاء الجامعة العربية . واقترحت الحكومتان السعودية والمصرية طرد شرق الأردن من الجامعة بسبب مشاريعها الرامية إلى إلحاق شرق فلسطين ، والتي اعتبرتها الحكومتان الخطوة الأولى في طريق إنشاء سورية الكبرى . غير أن الجامعة لم تتصرف بشكل حازم ، فتجرأ عبدالله وألحق رسميا في كانون الأول (ديسمبر) 1949 الجزء العربي من فلسطين بشرق الأردن . وفي 20 تموز (يوليو) عام 1950 قتل الملك عبدالله فخلفه ابنه طلال الذي سرعان ما أصيب بلوثة عقلية فتبوأ العرش حسين بن طلال .

تراوحت العلاقات بين السعودية ومصر من التحالف الوثيق إلى القطيعة التامة والمواجهة العسكرية . فبعد الاشتباكات الخطيرة التي جرت بين الحجاج المصريين والإخوان عام 1926 ، رفضت الحكومة المصرية الاعتراف بسلطة ابن سعود على الحجاز . وقد استثار الملك فواد نقمة عبدالعزيز حينما حاول أن يصبح خليفة . ولم تستأنف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلا بعد وفاة فؤاد عام 1936 .

بعد الحرب العالمية الثانية تحسنت العلاقات المصرية السعودية بشكل ملموس ٍ. وبعد زيارته إلى مصر عام 1946 منح ابن سعود الملك فاروق عونا سنويا مقداره زهاء مليون جنيه استرليني . ووصل إلى السعودية معلمون وفنيون ومستشارون مصريون وأرسلت بعثة عسكرية مصرية لتدريب الجيش السعودي .

أكد الملك سعود في خطاب العرش الذي ألقاه في آذار (مارس) 1954 على ضرورة التعاون مع البلدان العربية في إطار الجامعة العربية وطبقا لميثاقها ومعاهدة الدفاع المشترك . ودعا الملك إلى تعزيز العلاقات مع البلدان الإسلامية ووعد بمواصلة اتباع سياسة مناوئة لاسرائيل وأعلن عن الرغبة في تحسين العلاقات مع الدول كافة . غير أنه أشار إلى وجود قضايا معلقة بين العربية السعودية والحكومة البريطانية الصديقة .

إن الدعوة إلى تعاون البلدان العربية والوعيد التقليدي الموجه لإسرائيل والمسحة المناوئة لبريطانيا في السياسة السعودية ، قد هيأت جميعا التربة للتقارب مع مصر . واتخذ الملك سعود موقفا واقعيا من التغيرات الثورية في مصر واعترف بالنظام الجديد . وكان أول رئيس دولة عربية يزور القاهرة بعد ثورة 23 يوليو ، والتقى أثناء زيارته الرسمية إلى مصر في آذار (مارس) 1954 برئيس الدولة محمد نجيب وبجمال عبدالناصر .

في مطلع آب (أغسطس) 1954 انتهز عبدالناصر وجوده في السعودية لإيداء فريضة الحج وعقد مفاوضات مع الملك سعود الذي أيد جهود مصر الموجهة ضد حلف بغداد الذي جرى تشكيله آنذاك .

أثار انضمام العراق وإيران إلى حلف بغداد ارتياب العربية السعودية بهذا الحلف ، لذا تقاربت وقتيا مع مصر وسورية واليمن . وزعم أن السعودية ، شأن مصر ، كان لها ضلع فثي الاضطرابات التي هزت الأردن شتاء 1955/1956 وأدت إلى طرد قائد الفيلق العربي غلوب باشا ورفض الأردن الانضمام إلى حلف بغداد .

لقد سعى الرئيس عبدالناصر إلى عقد اتفاقيات عسكرية ثنائية مع سائر البلدان العربية لتكون نقيضا ومعادلا لحلف بغداد . ووقع ميثاق الدفاع المشترك مع سورية آذار (مارس) 1955 ، وأعلنت السعودية عن تأييدها للميثاق المصري السوري بعد زيارة وفد سوري الى الرياض. وفي أكتوبر من العام نفسه عقد السعودية معاهدة عسكرية ثانئية مع مصر. وشكل مجلس أعلى وزراء الخارجية والدفاع في البلدين ، إلى جانب مجلس عسكري وقيادة عسكريةمشتركة. وعقد المعاهدة لمدة خمس سنوات على أن تمدد تلقائيا اذا لم يعلن أي من الطرفين عن أبطال مفعولها.

في ملطع عام 1956 رفضت الحكومات العربية الانضام الى ميقان الدفاع المشرتك للشرق الأوسط الذي دعت اليه لندن وواشنطن.

وفي مارس 1956 وصل الملك سعود إلى القاهرة لمقابلة الرئيس عبد الناصر ، كما وصل الى هناك الرئيس السوري شكري القوتلي ، وتقرر عقد ميثاق للتعاون والاخوة. ونسقت الدول الثلاث ذات الأنظمة المختلفة والمصالح المتناقضة سياساتها على أساس معاد للإمبريالية., ففي أوساط الخمسينات ركب بعض الحكام الاقطاعيين موجة الحركة القوية والنزعات المعادية للغرب ولبريطانيا بالدرجة الاولى في العالم العربي . وفي ابريل 1956 وصل امام اليمن أحمد إلى جدة حيث التقى بسعود وعبد الناصر ، وفي اليوم التالي وقعوا اتفاقية الدفاع المشترك.

يعزى تحالف سعود مع عبد الناصر الى ان الحكومة المصرية احجمن لحين تأميم قناة السويس عن معاداة الولايات المتحدة بشكل فعال. وكانت السياسة المصرية موجهة ضد البريطانيين وانصارهم الهاشميين في العالم العربي. وكان ذلك متفقا مع النهج السياسي للرياض والنزعات التقليدية المناوئة لبريطانيا في صنعاء.

ابان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ايدت الرياض القاهرة وأعلنت عن استعدادها لمساعدة مصر عسكريا وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا ، وأوقفت عمليا ضخ البترول الى هذين البلدين وأعانت مصر بمبالغ كبيرة من المال.

ولكن مع توقف التعاون بين السعودية ومصر تزايد القلق الذي يثيره هذا التعاون في الأسرة الحاكمة وفي أواسط العلماء المتنفذين. وأخذت الدعاية الاذاعية المصرية تؤثر في بعض فئات السكان في السعودية ،والتي كانت ميولها المعادية للغرب وللإمبريالية تقترن بالميول المناوئة للملكية. وأثار تعاظم شعبية الرئيس عبد الناصر في السعودية قلق الملك وحاشيته. ويذكر بعض المؤلفين أنه كانت قد أكتشفت في مايو 1959 مؤامر لإسقاط نظام الحكم في السعودية أعد لها ضباط سبق لهم أن دربوا في مصر. وزعم أن لعدد من المستشارين العسكريين المصريين ضلغا في المؤامرة. وكانت الإضطرابات والإضرابات العمالية في الظهران ما زالت ماثلة في ذاكرة الملك والأمراء .ولوحظت أيضا دلائل الغليان الثوري في الأردن والعراق. وإضافة إلى ذلك كان ايقاف ضخ النفط إلى بريطانيا وفرنسا ضربة لخزانة الدولة ، وبالتالي لخزانات الأمراء الخاصة ، مما جعلهم يفكرون فيما اذا كان هناك ما يستحق تقديم هذه التضحيات إلى مصر. وأخيرا فإن واشنطن التي اعتبرت القاهرة خصمها العربي الأول في الشرق الأوسط ، عملت على تأليب الرياض ضدها.

بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر اخذت واشنطن تبحث عن طرق واساليب جديدة لإخماد هوجة حركة التحرر الوطني والحيلولة دون توطد التعاون بين عدد من البلدان العربية والاتحاد السوفييتي. ونتيجة لذلك البحث ظهر مبدأ إيزنهاور في يناير 1957 الذي زعم بأن هزيمة بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر أدت إلىظهور فراغ مزعوم في الشرق الأوسط. وجاء في مبدأ إيزنهاور ان القوات المسلحة الأمريكية سوف تستخدم للدفاع عن وحدة أراضي واستقلال البلدان التي قد تحتاج إلى مساعدة لمواجهة العدوان من قبل أي بلد تسيطر عليه الشيويعة الدولية. وطالب الرئيس الأمريكي إيزنهاور إبان ذلك بتخويله صلاحية تمهيدية مع الكونجرس . وفي الواقع كان المقصود من ذلك اعتزام الولايات المتحدة بسط هيمنتها على الشرق الأوسط بقوة السلام ان اقتضى الامر. ولكن مع الاعتماد على النظمة الصديقة لواشنطن. وفي مارس 1957 وقع الرئيس الأمريكي برنامج الكونجرس. وطبق مبدأ إيزنهاور عمليا بعد سنة اذ نزل مشاة البحرية الأمريكية في لبنان.

أملت واشنطن أن تستخدم العربية السعودية لتنفيذ سياستها في الشرق الأوسط ، نظرا لإرتباط المملكة اقتصاديا بالولايات المتحدة ، ولما تتمتع به من نفوذ في العالم الاسلامي. ودعا إزينهاور الملك سعود لزيارة الولايات المتحدة في يناير 1957.

في هذه الأثناء عمت عددا من البلدان العربية نشاطات مناوئة لمبدأ إيزنهاور. وعرج الملك سعود وهو في طريقه للولايات المتحدة على القاهرة حيث التقى بالرئيسين المصري والسوري وملك الأردن. وصدر بيان مشترك يتعبر مبدأ إيزنهاور برنامجا لإستبعاد الشعوب التي انخرطت في طريق التطور المستقل. ورفض المجتمعون نظرية ملئ الفراغ الأمريكية وأعلنوا ان بلدانهم لن تتحول أبدا إلى ميدان لنقوذ أي دول أجنبية. وكلف الملك سعود بنقل هذه الأفكار إلى الرئيس إيزنهاور.

ولكن الملك سعود تصرف على نحو آخر في الولايات المتحدة. فقد تم خلال المفاوضات الرسمية الإتفاق على تزويد السعودية بمعدات للقوات البحرية والبرية والجوية ،وتدريب طياريها توفير الفنيين لقواتها المسلحة بتقديم قرض للسعودية لتعمير ميناء الدمام. كما تقرر مضاعفة تعداد الجيش النظامي السعودي الذي بلغ عدد منتسبيه أنذاك 15 ألف. ووعد سعود بتمديد فترة تأجير قاعدة الظهران الجوية لمدة خمس سنوات ، والسعي لإقناع البلدان العربية الأخرى بالقبول بمبدأ إيزنهاور.

ولكن الملك سعود اكتشف بعد عودته إلى الشرق الأوسط إشتداد المعارضة لمبدأ إيزنهاور في المنطقة ، بما في ذلك داخل المملكة ذاتها. وكانت سمعة عبد الناصر عالية إلى درجة بحيث لا يمكن تجاهل رأيه. وفي 24-27 فبراير 1957 عقد في القاهرة اجتماع جديد لرؤساء الدول في كل من مصر وسوريا والسعودية والأردن حاول خلاله سعود أن يدافع عن مبدأ إيزنهاور . ولكن الملك إضطر إزاء ضغط الرئيسين عبد الناصر والقوتلي والرأي العام السعودي ، إلى التخلي عن تأييده للمبدأ المذكور والانضمام إلى الدول التي رفضته مجددا واعلنت أن العرب أنفسهم يجب أو يتولوا الدفاع عن أنفسهم خدمة لأمنهم الحقيقي وخارج اطار التحالفيات الأجنبية.

ولكن موقف السعودية هذا كان بمثابة مناورة تكتيكية لتهدئة الراي العام في المملكة وسائر بلدان الشرق الأوسط ولتفادي مواجهة مع مصر تهدد النظام السعودي بالخطر. وصار واضحا لكل من القاهرة والرياض أن التطابق المؤقت في المصالح في إنتهى. وكان سعود قد إلتقى في الولايات المتحدة ، وبوساطة أمريكية مع ولي العد العراقي عبد الإله ، إذ أن العداء العائلي السابق بين آل سعود والأسرة الهاشمية انحسر الى المقام الثاني ازاء مصلحتهما المشتركة في الاستمرار في الحكم في ظروف الغليان الثوري المتصاعد في الشرق الاوسط.

في ابريل 1957 أقال الملك حسين حكومة سليمان النابلسي المتجهة إلى اليسار . وقدم سعود للملك حسين مساعدة عسكرية وسياسية : فقد وضع تحت امرته لوائي الحرس الوطني السعودي المرابطين في الأردن منذ العدوان الثلاثي على مصر.وحولت الحكومة السعودية للعاهل الأردني قسطا من المعونة السنوية البالغ 30 مليون دولار والذي كان قد تم الاتفاق عليه بين مصر و سوريا والسعودية عام 1956 للتعويض عن المساعدة البريطانية ، هذا في حين أن مصر وسوريا رفضتا دفع قسطيهما . وشهد الشرق الأوسط استقطابا للقوى وصارت القاهرة والرياض على طرفي نقيض.

بعد مرور فترة قصيرة على اقالة حكومة النابلسي قام الملك حسين بزيارة الرياض ، الأمر الذي كان يعني استمرار التقارب بين العائلتين المالكتين المتعديتين سابقا. وبضغط أمريكي أخذ الملك سعود يميل إلى فكرة تأسيس اتحاد بين الملوك الثلاثة في السعودية والأردن والرياض ولكن الزيارة لم تسفر عن قيام تحالف رسمي . فان سعود لم يجرؤ على التصل جهازا من مصر وسوريا خشية حدوث عواقب جدية تهدد عرشه. وآثر أن يؤكد في التصريحات الرسمية إلتزامه بمبدأ الحياد الإيجابي ومقررات مؤتمر القاهرة.

في مارس 1957 أعتقلت في السعودية مجموعة من الفلسطينين بحوزتهم متفجرات ، وزعم أن الحكومة المصرية أرسلتهم لنسف قصر الناصرية في الرياض. ورد المصريون بأن المجموعة أوفدت بالاتفاق مع السعوديين للقيام بعمليات ضد حكم نوري السعيد في العراق. وتدهورت العلاقات السعودية المصرية تدهورا خطيرا ، ولم يؤد قدوم وفد مصري إلى تحفيف حدة التوتر.

شنت في السعودية حملة معادية للشيوعية بقيادة الجهاز الدعائي لشركة أرامكو ، الذي كان ينسب للشيوعية لادولية أي مظهر من مظاهر النضال التحرري الوطنيز وأكد بلاغ مشترك صدر في ربيع 1957 أثر الزيارة التي قام بها إلى السعودية ريتشاردس المساعد الخاص للرئيس لتنفقيد برنامج مساعدة بلدان الشرق أوسطيين ، أكد على ضرورة مجابهة النشاط الشيوعي.

في شباط (فبراير) 1958 انبثقت الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسورية ، وكان ذلك انتصارا كبيرا للقوى الوطنية الديمقراطية في العالم العربي . وشجعت واشنطن ولندن قيام الاتحاد العربي بين العراق والأردن ليكون معادلا للجمهورية العربية المتحدة ، وأخذتا تسعيان لحمل بلدان عربية أخرى على الانضمام إليه . ولكن الحكومة السعودية اعتبرت الاتحاد المذكور إحياء للخطر الهاشمي ورفضت الانتماء إليه ، وأعلنت عن حيادها إزاء الاتحاد العربي والجمهورية العربية المتحدة .

دب البرود في العلاقات السعودية الأردنية ، وفي 8 نيسان (إبريل) 1958 توقفت الرياض عن دفع المعونات لعمان المنصوص عليها في اتفاقية 19 كانون الثاني (يناير) 1957 .وردا على ذلك طالب الملك حسين بسحب القوات السعودية من الأراضي الأردنية ، فعادت إلى الوطن في آيار (مايو) .

ورغم ذلك فقد اعتبر الملك سعود الجمهورية العربية المتحدة الخطر الأساسي على عرشه . فقد كانت إصلاحات عبدالناصر تمارس تأثيرا قويا على الرأي العام في العربية السعودية ، حيث تزايدت شعبية الرئيس المصري . وخشية الدخول في مجابهة صريحة مع الجمهورية العربية المتحدة ، قرر سعود اللجوء إلى أسلوب التآمر بعبد الناصر .