تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الحادي والعشرون
الفصل الحادى والعشرون : النظام السياسى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
آل سعود في نظام السلطة
خلال بضعة عقود من السنين طرأت تغيرات معينة على النظام الملكى السعودى الذى استتب في مطلع الثلاثينات. فان الاسرة السعودية بتفرعاتها التى كانت اصلا كثيرة العدد في فترة توحيد اراضى الجزيرة حول الرياض, قد تنامت اعتمادا على مبدأ تعدد الزوجات, وتحولت الى ما هو اشبه بالقبيلة الحاكمة. وبلغ عدد رجالها فقط في اواسط السبعينات بين 2و5 آلاف. وكان آل سعود بالذات يتصرفون بموارد البلد الاسياسية وعوائده النفطية, ويتولى خدمتهم جهاز الدولة الذى يقفون على رأسه. بيد ان ميكانيزم الدولة ذاته تنامى وتعقد وطرأ عليه نوع من التحديث وصارت له وظائف جديدة.
بديهى ان الملك ظل الشخصية في نظام السلطة, وهو الامام والقائد العسكرى وقاضى القضاة. ورغم انه لم يكن من الناحية الشكلية مشرعا, لان احكام الشريعة ثابتة, فانه تولى اصدار مرايم عن الحالات التى لم ترد احكامها في الشريعة. وبذا تمركزت في شخص الملك اعلى سلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية. وفي الممارسة العملية اناط الملك هذه الوظائف بدوائر حكومية أو مؤسسات أو افراد: مجلس الوزراء أو الديوان الملكى, نائب رئيس مجلس الوزراء اذا تولى الملك رئاسة الحكومة, مكتب الشكاوى لدى مجلس الوزراء, وزارة العدل, وزارة الدفاع, هيئة اركان القوات المسلحة وقائد الحرس الوطنى, مجلس الشورى الذي يضع توصات تكون اساسا لمراسيم الملك.
ولم يحد من سلطة الملك سوى ضرورة اقامة اعتبار لمصالح ومطالب الفئات المتنفذة في الاسرة السعودية الحاكمة ورجال الدين, الذين اضيف اليهم في السنوات الاخيرة ممثلو فئات اجتماعية جديدة مازالت هلامية حتى الآن, لها ارتباط بالقطاعات الحديثة في الاقتصاد وبالقوات المسلحة والجهاز البيروقراطى. وكان عليه, من حيث المبدأ, الا يتخذ قرارا هاما الا بعد استمزاج رأى الفئات الحاكمة الرئيسية ، وذلك عن طريق المشاورات التقليدية. وجرت العادة على ان يتشاور الملك مع المتنفذين من افراد الاسرة السعودية وكبار شيوخ القبائل أو العشائر وامراء كبريات المناطق وكبار رجال الدين.
واشار واحد من البلاغات الرسمية عن الملك فيصل انه عرف عنه تمسكه باهداب الدين الاسلامى الذى يقضى بالشورى والملك لا ينفرد بالرأى بل يطلع على آراء رجالات الدولة والعلماء والوجهاء, رغم ان رأيه هو النافذ, كما يشير البلاغ المذكو. ان صيانة وحدة الاسرة السعودية هى من اسس استقرار سلطتها. والا ينسى افراد هذه الاسرة ان احتدام الصراع على السلطة بين سعود وفيصل في الفترة 1958-1964 وتمرد "الامراء الاحرار" وانقسام الاسرة السعودية الى كتل متصارعة, قد احدثت حميعا ضعفا كبيرا وازمة في النظام. وكانت وحدة الاسرة تقوم على مبدأ اجماع الاعيان. ومن بين 2-5 آلاف من افراد الاسرة السعودية تشارك في اتخاذ اهم القرارات مجموعة صغيرة نسبيا لا يتجاوز عددها المائة. وان ثمانية والستين توقيعا على قرار الاسرة السعودية الصادر في 2 تشرين الثانى (نوفمبر) 1964 حول مبايعة فيصل ملكا, انما تبين الحدود التقريبية للمجموعة التى تولت رسم السياسة و "انتخاب " منفذيها الرئيسين. وضمت هذه المجموعة كل ذوى الكلمة المسموعة من الفروع المتنفذة الكثيرة لآل سعود, والتى كان يجرى بينها صراع مستتر لم يسمح لاى منها باحتكار السلطة. في الخمسينات والستينات كان الفرع الاقدم من العائلة المالكة ممثلا باخوة مؤسس الدولة السعودية عبد العزيز الثلاثة الباقين على قيد الحياة وهم عبد اللله واحمد ومساعد. وتولى عبد الله الوساطة بين فيصل وسعود اثناء صرعهما على السلطة, اما امساعد الذى يصغر ابن الملك المقبل بخمس عشرة سنة, فقد اصبح على عهده وزيرا للمالية والاقتصاد الوطنى عام 1962.
وكانت مجموعة من المقربين للملك تتخذ اهم القرارات حول الشؤون الجارية. وعلى عهد فيصل كانت هذه المجموعة تضم اعمامه واخوته لابيه ولى العهد خالد والامير فهد وقائد الحرس الوطنى عبد الله ووزير الدفاع والطيران سلطان. اثر مقتل فيصل في 25 آذار (مارس) 1975 دعت هذه المجموعة بضع عشرات من كبار افراد الاسرة السعودية, وتمكنت من تأمين انتقال السلطة بدون مشاكل فصار خالد ملكا ورئيسا للوزراء وفهد ولاي للعهد والنائب الاول لرئيس الوزراء وتولى منصب النائب الثانى ووزير الدفاع قائد الحرس الوطنى عبد الله وهو السادس من ابناء عبد العزيز الباقين على قيد الحياة .
ان مبايعة خالد لم تكن تعنى الوراثة ولا التقيد بمبدأ القدم في شجرة العائلة, فبعد مقتل فيصل كان يليه من هذه الناحية شقيقه محمد وهو الابن الرابع لمؤسس المملكة.ويبدو ان "اخنيار" الملك جرى وفقا لصفاته الشخصية وتناسب القوى بين المجموعات المتنافسة.
كان الملك خالد يرتبط, عن امه, بآل جلوى المتنفذين الذين يكادون يكونون مستقلين في حكم المنطقة الشرقية ويتوارثون امارتها. وبعد وفاة عبد الله جلوى ابن عم مؤسس المملكة, تولى امارة المنطقة ابنه سعود, ومن ثم ابنه الآخر عبد المحسن الذى احتفظ بهذا المنصب حتى اواسط السبعينات. كما تسنم افراد من ىلأ جلوى مناصب هامة اخرى في الاحساء. وام الملك خالد هى جوهرة بنت مساعد, من هذه العائلة, التى تزوج الملك فيصصل واحدة من بناتها.
تزعم الامير فهد, الذى صار ملكا عام 1982, ما يسمى ب"السباعى السديرى". وضمت هذه المجموعة, علاوة على فهد, ستة من اخوته ابناء عبد العزيز من زوجته المنتسبة الى آل سديرى وهى عائلة اقطاعية متنفذة في نجد. وشكل الاخوة الذين تربطهم صلات وثيقة مجموعة ذات نفوذ كبير. فقد شغل سلطان, الابن الثانى عشر لعبد العزيز, منصب وزير الفاع والطيران في الستينات والسبعينات, وكان تركى وهو الابن العشرون نائبه, وتواى نابف وهو الابن الثالث والعشرون منصب وزير الداخلية’ وكان الابن السادس والعشرون وهو سلمان محافظا للرياض, واحمد الابن الثامن والعشرون, نائبا لمحافظ مكة, وصدام الابن التاسع والعشرون نائبا لمحافظ الرياض. وكان لعبد العزيز عد زوجات من آل سديرى, وبالاضافة لهؤلاء كان له ستة ابناء من نساء هذه الاسرة.
لم يكن لدى الامير عبد الله الذى صار آنذاك الشخص الثانى في المملكة اخوة اشقاء ولكن امه تنتسب الى قبيلة متنفذة من قبائل شمر الشمالية. ثمة فرع متنفذ آخر يرتبط بالاسرة الحاكمة, ونعنى به آل ثنيان. ويعود نسب هؤلاء إلى ثنيان شقيق محمد بن سعود مؤسس الاسة في القرن الثمن عشر. حكم عبد الله آل ثنيان نجد في الفترة 1841-1943. وسكن افراد آل ثنيان تركيا, وعاد احمد آل ثنيان الى نجد واصبح من المقربين لعبد العزيز وسافر مع فيصل الى لندن وباريس عام 1919, وتوفى عام 1921. وفى عام 1930 عرج فيصل على اسطمبول وزار ارملة احمد ودعاها للسعودية حيث تزوج من ابنتها عفة التى صارت زوجته الاثيرة والاكثر نفوذا. انتقل عدد من آلأ ثنيان من تركيا الى السعودية, حيث صار لهم جاه ومال. وفي اواخر حكم فيصل كانت عفة تعرف ب"الملكة" كدليل على ما تتمتع به من احترام لان زوجات الملوك لم يعتبرن قط ملكات في السعودية. وقد مارست عفة الاعمال التجارية بنشاط كبير.
ثمة مجموعة خاصة قوامها احفاد عبد العزيز الذين تزايد وزنهم بفضل ما تلقوه من تحصيل علمى, واصبحوا يشكلون "التكنوقراطيا الملكية". وبرز من بينهم ابناء الملك فيصل الذين اصبحوا جزءا من نظام السلطة. فقد صار سعود الفيصل, الذى درس في برينستون, وزيرا للخارجية وخالد محافظا لعسير ومحمد مديرا للرى وعبد الرحمن آمرا للواء مدرع وسعد نائبا لمدير بترومين وبندر ضابطا في الطيران وتركى نائبا لمدير المباحث وعبد الله شاعرا ورجل اعمال.
بعد خلع الملك سعود اصبح ىابناؤه الاربعون خارجين عن دائرة اصحاب القرار فى الاسرة السعودية واصحاب السلطة فيها. بعد انتهاء حركة "الامراء الاحرار" المناوئة للسلطة المطلقة لم يعد طلال يشارك في الحياة السياسية, ولكن بدر اصبح نائبا لقائد الحرس الوطنى. قد يكون "للعرايف" تأثير مستتر بين آل سعود. وهؤلاء من سلالة سعود بن فيصل الذى تولى الرياض في السبعينات من القرن الماضى حينما دب الشقاق بين ابناء الامير فيصل. وقد وقف "العرايف" ضد مؤسس المملكة عبد العزيز مرارا, ولكنهم اضطروا اخيرا الى مبايعته. وكان رئيس هذا الفرع محمد سعود الكابر يعتب رنفسه الشخص الثانى بعد الملك, من حيث القدم. ارتبط آل سعود بصلات قربى مع آل الشيخ وهم من سلالة مؤسس الوهابية, ومع آل سديرى الاقطاعية ومن الارستقراطية العشائرية الاقطاعية المنتمية الى "اكرم محتد" في الجزيرة. ولعبت النساء دورا هاما في اقامة اواصر متينة بين ابنائهن واشقائهن. ومن المحظور على الصحافة السعودية نشر شئ يتعلق بالاسرة المالكة, باستثناء البلاغات الرسمية. وحتى لو جرى صراع داخل الاسرة فلا يجوز ان يكون موضع نقاش علنى. وتعامل السلطات الدينية والادارية والقضائية افراد الاسرة الحاكمة وكأنهم فوق القانون. فعندما قتل احد الامراء القنصل البريطانى اثناء حفل في جدة, وحكم عليه بالسجن المؤبد, فانه سكن عمليا احد قصور العائلة متمتعا بكل اسباب الراحة . اثناء حكم فيصل قلصت شكليا مخصصات افراد الاسرة المالكة. وتذكر الارقام الرسمية ان زهاء 300 مليون دولار سنويا كانت تنفق على اسرة آل سعود في اواسط السبعينات, ولكن الرقم الفعلى غير معروف وهو, على ما يبدو, اكثر بعشرات المرات. وكانت مخصصات الامير تتراوح شكليا بين 60 و150 الف دولار سنويا. ومن غير المعروف كم خصص لآلاف النساء من افراد الاسرة المالكة . زاول الكثير من آل سعود الاعمال التجارية على نطاق واسع. وكان الامراء يغتنون من المضاربة بالاراضى ويحصلون على عمولة من عقود الاستيراد البالغة قيمتها مليارات الدولارات, او من العقود الحكومية. وكان للكثير منهم قطع من الاراضى قرب المدن الكبرى, وحينما يخطط لبناء مشاريع صناعية أو سكنية هناك فانهم كانوا يحصلون على مبالغ خيالية من بيع هذه الاراضى للدولة احيانا ولشركات اهلية احيانا اخرى. في اواخر الستينات اصبح آل سعود اغنى "اسرة" في العالم. وكانوا يتصرفون عمليا بالدخل القومى للبلد الذى قارب التسعين مليار دولار سنويا, ويوجهون الى الخارج سيول الاستثمارات السعودية التى ربت على مائة مليار دولار. وفق تقديرات معينة. واصبح مئات الامراء من كبار اصحاب الملايين في العالم.
رجال الدين
طرأ نوع من الانكماش على نفوذ رجال الدين في السعودية خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الاخيرة المرتبطة ب"عصر النفط", وذلك نتيجة لانتشار التعليم وظهور فروع صناعية جديدة وانماط جديدة من النشاط الاقتصادى والادارى وكثرة سفرات السعوديين الى الخارج ووفود الاجانب واستخدام اجهزة الراديو. بيد ان المواقع الرئيسية لكبار رجال الدين المرتبطين بآل سعود ظلت على حالها, ويمثل رجال الدين قوة سلفية يجب على الحكومة ان تحسب حسابها على الدوام. وكان قرار خلع سعود وتنصيب فيصل ملكا عام 1964 قد اقترن بفتوى وقعها اثنا عشر عالما من اكثر علماء اليدن سطوة. كان الملك, بوصفه اماما للمسلمين في البلد, يؤكد دوما تمسكه بأصول الاسلام, الامر الذى يتطلب منه التشاور مع علماء الدين والاقرار بان لهم كلمة مسموعة.
احتفظ رجال الدين باداة قوية للتأثير في المجتمع, وهى هيئات الامر بالمعروف. وقد شكلت هذه اللجان في العشرينات لنشر المذهب الوهابى, واستمرت تفرض على المجتمع احكاما ف يالاخلاق والحياة والسلوك, وتحرص على عزلة النساء وتمسك الناس بالحظر المفروض على التدخين وتعاطى المسكرات والرقص. وفي الستينات رضخت هيئات الامر بالمعروف لانتشار اجهزة الحاكى وبيع التبغ والعروض السينمائية الخاصة وتوزيع الصحف والمحلات المصورة واشتغال المرأة في الاذاعة, ولكن رجال الدين لم يتراجعوا اكثر من ذلك. كانت اللجان المحلية لهيئات الامر بالعروف خاضعة للجان المناطق في نجد والحجاز والمنطقة الشرقية. وهى بدورها تخضع لمفتى الديار, وهو في العادة اكثر ابناء آل الشيخ نفوذا, بينما يمارس الملك الاشراف الاعلى على اللجان. ورغم ان منصب المفتى الذى توفى عام 1970 ظل شاغرا, فان المنتسبين الى الشجرة الوهابية ظلت محتفظة بنفوذ كبير . وفي عام 1971 عين ابراهيم آل الشيخ وزيرا للعدل مما اعاد سيطرة الاسرة على النظام القضائى .
ومن الاسباب الموضوعية لتوطد مواقع علماء الدين وجود الحرمين في اراضى المملكة التى مهد الاسلام. وكان تدعيم الشرائع والمؤسسات الاسلامية يتجاوب مع المهمات الداخلية في مجال صيانة القاعدة الدينية للنظام وهىاهم ركائزه. وتوطيد هيبة الملك بوصفه اماما وعلماء الدين بوصفهم القيمين على تطبيق احكام الشريعة. كما انه كان يتجاوب مع مهمات تعزيز المواقع الدولية للعربية الاسلامية, فان وجود الحرمين على اراضيها كان دوما سببا في اعلاء شأنها في العالم الاسلامى. وقد تزايد عدد الحجاج زيادة كبيرة بفضل وسائل النقل الجوية والبحرية والبرية السريعة وازدياد حركة الموجات البشرية بين البلدان الاسلامية.
وفى عام 1972 ربا عدد الحجاج, لاول مرة في تاريخ الاسلام, على المليون, رغم ان ما ينوف على نصفهم كانوا من السعودية, ولم ينخفض عمليا عن هذا المستوى منذ ذلك الحين. وقد شقت طرق للسيارات وشيدت مطارات وفنادق في الحجاز لاستقبال هذا السيل البشرى. ولم تعد عوائد الحج تلعب دورا يذكر في اقتصاد البلد, بل ان الاموال التى تنفق لهذه الاغراض اخذت تتزايد باطراد. كما خصصت مبالغ طائلة لترميم وتوسيع العتبات المقدسة. اعتمد آل سعود احكام الشرعة وهيبة علماء الدين لتعزيز سلطتهم داخل البلد, ودخلوا المعترك الدولى حاملين راية الاسلام. وبديهى ان هذا النهج حظى بتأييد علماء الدين وساعد على ابقاء نفوذهم. هيئات الامن والقوات المسلحة. استمر في الستينات والسبعينات تعزيز وزارة الداخلية, رغم ان النظام السعودى لم يواجه خلال هذه الفترة اى خطر داخلى يذكر. وكانت مسؤولية وزارة الداخلية تعتبر دوما من اهم مناصب في مجلس الوزراء, وتسند الى اقرب المقربين للملك أو لممثلى أكثر الكتل سطوة داخل الاسرة السعودية. فان ولى العهد فهد بن عبد العزيز سبق ان شغل هذا المنصب فترة طويلة. وضمت وزارة الداخلية مديرية الامن العام التى ولت الاشراف على الشرطة, ومديرية خفر السواحل وشرطة الحدود, ومديرية فرق المطافئ, والمديرية العامة للتحقيقات الجنائية. وكانت هناك دائرة منفصلة للمباحث الداخلية. اسست كلية الشرطة في مكة عام 1960 .
ولحين عام 1960 كان الحرس الوطنى السريع الحركة والجيد التسليح تابعا للملك مباشرة, ثم اصبح امرة واحد
من المتنفذين في الاسرة السعودية وهو عبد الله بن عبد العزيز الذى صار وليا للعهد منذ عام 1982. وتولى الحرس الوطنى مساعدة الشرطة في المحافظة الامن والنظام وكان بمثابة معادل للجيش. يجرى اختيار منتسبى الحرس الوطنى من "القبائل الكريمة المحتد" المخلصة للملك, في حين ان باب الانتماء للشرطة والجيش مفتوح لجميع فئات السكان. ومن المعتاد ان تعزل وحدات الحرس الوطنى عن السكان (29). علاوة على الشرطة التى هى من سلك وزارة الداخلية كان لامراء المناطق حرس خاص, وقد تثبت هذا الحرس عمليا في الستينات, بعد ان كان شكليا قبل هذا التاريخ. وقد استخدم الحرس الخاص لآل جلوى, مثلا في قمع اضراب عمال آرامكو عامى 1953 و1956. وكانت وحدات الجيش تقوم بدوريات منتظمة فى مناطق الموانئ وتساعد الشرطة والحرس الوطنى في حفظ النظام خلال شهر رمضان وفي موسم الحج.
بدأ تطوير الجيش بعد الحرب العالمية الثانية, وتزايد الانفاق على القوات المسلحة عاما اثر عام. وارسلت الى مصر والسودان بعثات عسكرية لدراسة ميكانيك السيارات, واستقدمت بعثتان عسكريتان بريطانية وامريكية.
بعد الحرب اعيد فتح المدرسة العسكرية للضباط, وافتتحت مدرسة الاشارة واللاسلكى ومدرسة الصحة والاسعاف الاولى, وانشئت مدرسة الطيران. كما انشئت ورش عسكرية للسيارات والميكانيك والصيانة ومستشفى عسكرى في مدينة الطائف يتسع لخمسمائة مريض. وارسل خريجو مدرسة الطيران في الطائف الى بريطانيا للدراسة, اما الطلاب الذين اتموا دراستهم الاولية في الطيران في القاعدة الامريكية بالظهران فقد ارسلول الى امريكا. وشرعت وزارة الدفاع بتنظيم شعب ومديريات حسب اصناف القوات المسلحة. استمر في الخمسينات تطوير الجيش واستكمال معداته. ورغم ان السعودية لم تشارك بعد حربها في الثلاثينات مع اليمن في اى نزاع عسكرى واسع النطاق, فان نفقاتها على القوات المسلحة كانت من اكبر النفقات في الشرقين الاوسط والادنى, سواء من حيث الارقام المطلقة او من حيث نسبتها الى الناتج الوطنى الاجمالى.
في سنة 1965 بلغ تعداد القوات المسلحة زهاء اربعين الف فرد موزعين على الجيش وسلاح الطيران الضئيل العدد آنذاك والاسطول الصغير والحرس الوطنى. وكان في كل من الجيش والحرس الوطنى قرابة عشرين الف فرد. وفي ربيع عام 1964 ادمج الحرس الملكى المؤلف من اربعة شخص في الجيش النظامى كفوج مشاة. وكان كبار ضباط الجيش والحرس الوطنى ينتقون من افراد الاسرة المالكة على ان يكون ولاؤهم للملك مطلقا, وغالبيتهم من العارض. وقد حظر مرسوم خاص صدر في 20 آذار (مارس) 1960 على نتسبى الجيش ممارسة السياسة.
وزع الجيش السعودى في البلد على ثكنات اقيمت قرب المدن الرئيسية, وبعد حرب اليمن رابطت الوحدات السعودية والاردنية في منطقتى جيزان ونجران.
توزعت القوات الجوية السعودية في قاعدتين جويتين رئيسيتين بجدة والظهران. بعد الحرب العالمية الثانية صارت الولايات المتحدة الامريكية المصدر الرئيسى للاسلحة, وافدت الى السعودية عددا كبيرا من المدربين. وبناء على اتفاقية 1947 انشأت الولايات المتحدة قاعدة تدريبية في الظهران, وفي العام نفسه شرع البريطانيون باعداد فرقة مدرعة على غرار الفيلق العربى في الاردن. وفي سنة 1951 وقعت الولايات المتحدة والسعودية اتفاقية حول الدفاع والمساعدة المتبادلة. احتفظت الولايات المتحدة بقاعدة الظهران وارسلت للسعودية اسلحة جديدة ومعدات عسكرية. وفي سنة 1952 اوفدت الولايات المتحدة بعثة خاصة لتدريب الجيش السعودى عوضا عن البعثة البريطانية التى استدعيت اثر النزاع البريطانى السعودى على واحة البريمى. وفي سنة 1957 مد عقد ايجار قاعدة الظهران لمدة خمس سنوات وواصلت الولايات المتحدة مشاركتها في اعداد القوات المسلحة السعودية. وفي سنة 1962 رفضت الحكومة السعودية تمديد عقد ايجار قاعدة الظهران, ولكن بعثة التدريب العسكرية الامريكية ظلت في البلد.
سنة 1950 انضمت العربية السعودية الى ميثاق الدفاع العربى المعقود ف ياطار الجامعة العربية, وفي سنة 1951 اوفدت بعثة مصرية للعمل في سلاح الطيران السعودى. ولكن السعودية لم تشارك في اى عمل عسكرى ضمن اطار الميثاق. في تشرين الاول (اكتوبر) 1955 وقعت العربية السعودية ومصر ميثاقا حول الدفاع المشترك نص على توحيد قيادة القوات المسلحة في ظروف الحرب والسلام. وبعد عامين ونصف العام طرد الملك سعود البعثة المصرية في اطار حملته المناوئة للجمهورية العربية المتحدة. ذكر "الدليل الاقليمى" ان العربية السعودية تتكل في المجال العسكرى "على الولايات المتحدة اساسا, وان الضباط السعوديين يدرسون فى المدارس والاكاديميات الحربية بالولايات المتحدة. والولايات المتحدة هي حليف للسعودية وتشرف على امداد القوات البرية والجوية والبحري".
تنامت القوات المسلحة السعودية بسرعة, وفي اواخر الستينات بلغ تعداد افرادها (بدون الحرس الوطنى) زهاء 36 الفا منهم خمسة آلاف في سلاح الطيران والف في الاسطول. وفي سنة 1976 بلغ تعداد القوات المسلحة النظامية 42 الفا, الحرس الوطنى 33 الفا. وف ياواخر السبعينات بلغ عدد افراد الجيش 45 الفا لديهم 75 دبابة و150 دبابة خفيفة و 400 مصفحة, بينما وصل عدد افراد القوات الجوية الى 15 الفا (زهاء مائة وخمسين طائة مقاتلة حديثة و33 كائرة نقل وقرابة اربعين طائرة عمودية), وبلغ عدد منتسبى القوات البحرية 2500. واستوردت الاسلحة من الولايات المتحدة اساسا, بالضافة الى بريطانيا وفرنسا.
ويتكون الجيش من المحترفين والمتطوعين (فترة عقد التطوع خمس سنوات ويجوز تمديدها), وهم اساسا نازحون من الارياف. اما ضباط الصف في سلاح المشاة فهم عادة من الجنود الذين اكملوا فترة الخدمة, غير ان الاصناف الفنية تضم ضباط صف ينتمون الى فئات مدنية لها نصيب اوفر من التعليم. والضباط هم من حملة الشهادة الثانوية وغالبيتهم ابناء موظفين وضباط وتجار ورجال اعمال. وبين الضباط عدد غير قليل من اعيان القبائل والاقطاعيين وافراد الاسرة الحاكمة.
تدفع الحكومة مبالغ مجزية لمنتسبى القوات المسلحة تتكون من الرواتب المماثلة لما يتقاضاه الموظفون المدنيون, ويضاف اليها كثير من العلاوات والمخصصات لخياطة البزة العسكرية وايجار المسكن والاكل, والخادم بالنسبة للضباط. اما العلاوات "الفنية" فتدفع لمنتسبى القوات الجوية والبحرية والاصناف الفنية. وكان المبلغ الاجمالى للعلاوات يصل الى زهاء 40-50% من الراتب الاسمى. ويحصل افراد القوات المسلحة على امتيازات اخرى منها التطبيب المجانى. وكانت مداخيل منتسبى القوات المسلحة اعلى من مداخيل الموظفين المدنيين, وفي الستينات والسبعينات رفعت رواتبهم عد مرات واستحدثت علاوات جديدة وزيدت العلاوات القديمة.
ان الامتيازات الممنوحة لمنتسبى القوات المسلحة تعكس طموح العائلة المالكة لضمان ولاء الجيش للنظام. وقد اقترن "اغداق المال" باعمال التنكيل بكل العناصر غير الموثوق بها سياسيا داخل الجيش. ولكن التكتلات المتكررة الهادفة الى القيام بانقلاب, وخاصة في الستينات, تدل على ان الضباط الجيش ليسوا موالين جمعيا للعائلة الحاكمة. وكان للنزعات الديمقراطية الثورية صدى ف ينفوس عدد من الضباط الشباب. ولهذا السبب بالذات جرى الى جانب توطيد الجيش تعزيز الحرس الوطنى المكطون من ابناء الفئات البدوية الاكثر تحلفا في السبعينات ابعدت وحدات الجيش عن المناطق المأهولة واسكنت في مدن وثكنات عسكرية خاصة, واحتل الحرس الوطنى مواقع ف يالمراكز الهامة استراتيجيا. آلية السلطة. الادارة. الدعاية والاعلام. بدأ الجهاز الحكومى والادارى في العربية السعودية يتغير ويتعقد منذ مستهل الخمسينات. وقد صدر في تشرين الاول (1953) مرسوم بتشكيل مجلس وزراء المملكة. ومن الناحية الشكلية كانت صلاحية :مجلس الوكلاء" قبل هذا التاريخ تنسحب على الحجاز فقط, رغم ان نشاطه كان يشمل في بعض المجالات المملكة كلها. وبعد وفاة ابن سعود لم يعد يعين نائب للملك في الحجاز, وهو منصب تسمنه فيصل, ولا امير لنجد وهو الموقع الذى شغله والى العهد سعود. وكما كان الحال في السابق, ظل لدوائر الديوان الملكى حق التدخل ف ياعمال مجلس الوزراء, ولكن هذا الحق لم يقنن باحكام بل كان متوقفا على سلطة الملك الفعلية حيال رئيس الوزراء, وعلى نفوذ افراد معينين في دوائر البلاط. تولى الديوان الملكى تصريف امور الملك الخاصة, وكان يشرف مع الحكومة على هيئات مركزية مثل وزارتى المالية والاقتصاد الوطنى والخارجية. كما كان للملك عدد من المستشارين للشؤون الخاصة.
حدد المرسوم الملكى الصادر في 12 آيار (مايو) 1958 التركيب الجديد لمجلس الوزراء ووظائفه. وقضى بأن تضم الحكومة رئيسا للوزراء ونائبا له يعينهما الملك ووزراء يعينون وفقا لتوصية رئيس الحكومة. كما يمكن ان يضم المجلس في عضويته وزراء بلا وزارة ومستشارى الملك. وقصر الاستيراز على رعايا المملكة.
اعضاء الحكومة مسؤولون امام رئيس الوزراء وهذا بدوره مسؤول امام الملك. ويحق لرئيس الوزراء ان يطلب من الملك اعفاء اى من اعضاء الحكومة من منصبه. وتعنى استقالة رئيس الوزراء استقالة الحكومة باكملها. ويتحمل رئيس الوزراء مسؤولية السياسة العامة للدولة, وتتولى الحكومة وضع الميزانية وهى اعلى سلطة عاملة باشراف الملك في الشؤون المالية. وتخضع الادارة المحلية لمجلس الوزراء. ويؤدى الوزير عند تسلمه مهمام منصبه اليمين التالى: "اقسم بالله العظيم ان اكون مخلصا لدينى, ثم لمليكى وبلادى وان لا ابوح بسر من اسرار الدولة, وان احافظ على مصالحها وانظمتها وان اؤدى اعمالى بالصدق والامانة والاخلاص".
ويحظر على اعضاء مجلس الوزراء, اثناء فترة استيرازهم, ان يقوموا بانفسهم او عبر وسطاء, بشراء واستئجار ممتلكات الدولة او بيع اى شئ للدولة. وسبب هذا الحظر تفشى الرشوة بين افراد الاسرة المالكة. ولكن الوزراء واصلوا عمليا اكتناز الثروات عبر اشخاص مأجورين. استمر في العربية السعودية عمل مجلس الشورى الذى ضم في اواسط الستينات 34 عضوا. وكان قد شكل في الاساس كمجلس استشارى اقليمى للحجاز ولكن نطاق عمله اتسع ليشمل المملكة كلها. وتولى المجلس وضع التوصيات التى هى اساس المراسيم الملكية والانظمة.
في مطلع الستينات اسس معهد الادارة لاعداد الموظفين لجهاز تاولة, وكان هذا واحد من الاجراءات التى وصلت اوصت بها بعثة البنك الدولى للانشاء والتعمير. ورغم ان المسؤولين السعوديين اخذوا يتحدثون كثيرا عن تحسن جهاز الدولة, الا ان مآل الامر كان يتضخم الملاك بشكل غير معقول. في تشرين الاول (اكتوبر) 1963 اعتمد تقسيم ادارى جديد اتاح للحكومة احكام سيطرتها على الادارة المحلية. قسم البلد الى اربع مقطاعات اساسية على رأس كل منها حاكم ووكيله. والحاكم هو الرئيس الادارى للمقاطعة وممثل الحكومة فيها. وترفع وزارة الداخلية توصية حول ترشيح الحاكم, ثم يعين بمرسوم ملكى بناء على اقتراح رئيس الحكومة, رغم ان الملك هو الذى ينتقى عمليا حكام المقاطعات الاربع. ويؤدى الحكام قسما حول اخلاصهم للدين والملك والبلاد. ومن وظائف الحكام انفاذ الاحكام القضائية وحفظ الامن والنظام والتعاون مع مجلس المقاطعة في الشؤون البلدية.
تنقسم المقاطعة الى مناطق برئاسة المحافظين ومراكز يقودها رؤساء. علاوة على مقاطعات نجد والاحساء والحجاز وعسير شكلت مقاطعة الحدود الشمالية التى يخضع لادارتها البدو في مناطق الحدود مع العراق والاردن وبامتداد خطوط انابيب النفط عبر الجزيرة. وفي الخمسينات كانت نجران وبيشه تعتبران امارتين تابعتين للرياض مباشرة .
يعين مجلس الوزراء, بناء على توصية وزير الداخلية, مجالس المقاطعات على الا يزيد عدد اعضاء كل منها على الثلاثين. وتحصا المجالس على الجزء الاكبر من مداخيلها من الحكومة المركزية, علاوة على بعض الضرائب المحلية.
ان حدود المقاطعات والمناطق غير الثابتة وتتوقف على شخصية الحاكم وعلاقاته بالقبائل وهيبته في هذه المنطقة او تلك وروابطه العائلية. يعتبر منصب الحاكم مصدرا للغنى والجاه, لذا اقتصر تعيين الحاكم على افراد الاسرة السعودية واسرة السديرى الوفية لها والقريبة منها. وواصلت الادارات المحلية العمل بقدر كبير من الاستقلالية في بعض المجالات. واستمر نفوذ الاسر المحلية العريقة مثا آل جلوى في المقاطعة الشرقية. وكان الكثير من المراسيم والقرارات, على اهميتها, لا تطبق عمليا لا بالقدر الذى يتماشى مع مصالح وجهاء المنطقة.
في اواسط السبعينات قسمت المملكة الى 18 مقاطعة, ولكن الرئيسية منها خمس وهى مكة (وتضم ايضا جدة والطائف) والرياض والمقاطعة الشرقية ومقاطعة الحدود الشمالية وحائل, الى جانب مقاطعتين اقل اهمية هما القصيم والمدينة. وتخضع هذه المقاطعات لوزير الداخلية اما الباقية فهى خاضعة لنائبه.
لكل قرية صغيرة شيخ يحتل موقعه بفضل روابطه العائلية وثروته وحكمته ومقدرته على النظر ف يالنزاعات داخل القرية واقامة علاقات طيبة مع الجيران وقبائل البدو الرحل, والتعاون مع الادارة الاعلى. وفي القرى الكبيرة او الواحات يسعى الامير المحلى او الشيخ الى الحصول على مبايعة الاعيان وعلماء الدين والقضاة والتجار المحليين. وكان المسؤول الادارى عن القرية او الواحة يعين من قبل مسؤول الوحدة الادارية التى تليها. اما القرى التى ما برخت الروابط العائلية والقبلية قوية فيها, فان الشيخ يكون عادة من الاسر الارستقراطية في القبيلة, ولكن هذا المبدأ لا يعد الزاميا في القرى التى اضمحلت فيها تلك الروابط .
ان اكثر من نصف سكان المملكة العربية السعودية مازالوا مرتبطين بالتنظيم القبلى, وحتى سكان القرى والمدن يقيمون روابط قبلية واسعة. وحتى في الخمسينات كانت المشيخة وراثية, او اذا توخينا الدقة مقصورة على اسر الوجهاء. وتولت الحكومة المركزية الاشراف على قبائل الرحل بواسطة ادارة المقاطعات الاقليمية. وكما في الثلاثينات والاربعينات, واصل وكلاء الامراء جباية الضرائب من القبائل, ولكن الزكاة صارت رمزية بالنسبة للبدو الرحل.
كما كن الحال في الماضى, يعتبر الملك "شيخ الشيوخ". وحينما زار الملك سعود شمال البلاد عام 1954 اكرم ضيافته وجهاء القبائل الذين عبروا الحدود من سورية والعراق للترحيب به. ويرى مؤلفو كتاب "العربية السعودية": شعبها ومجتمعها وثقافتها" ان تلك كانت "حالة واضحة بينت ان الولاء القبلى له افضلية على الاعتبارات الجغرافية البحت". ولكن وجهاء القبائل في الواقع كانوا, على الارجح, ينتظرون العطايا السخية من الملك دون ان يلتفتوا لوقع موقفهم ف ينفوس الادارة السورية او العراقية, او طمعا يف الحصول على مراع افضل في اراضى المملكة العربية السعودية.
ان تدفق عوائد النفط الهائلة وتوزيعها بشكل مركزى كانت له اهمية جلية اخرى, اذ اضعف الى حد كبير, ان لم يكن قد الغى تماما, القوى النابذة في مجتمع الجزيرة. فقبل "عصر النفط" كانت في العربية السعودية بضع مناطق اساسية: نجد بوصفها المركز السياسى للدولة ومهد الوهابية وموطن اكثر السكان اخلاصا لآل سعود, والحجاز حيث توجد العتبات المقدسة والمعروفة بنشاطها التجارى المرتبط بالحجاج, وعسير المشهورة بزراعتها, وشرق الجزيرة المهم من الناحيتين التجارية والاقتصادية رغم انه اقل اهمية مما في الحجاز. ولكن انشاء الصناعة النفطية جعل الاحساء القلب الاقتصادى للبلد, ولولها لغدت كل اجزاء الدولة الاخرى محرومة من الموارد والعوائد ولارتدت الى الوراء, الى مستوى القرون الوسطى. لذا فان النزعة الانفصالية, بمعناها المباشر, اصبحت عديمة المعنى في السعودية وخبت, الا ان اصداءها ظلت على شكل تنافس في الجهاز البيروقراطى وسائر هيئات الدولة, ومن امثلة ذلك التنافس بين الحجازيين الاكثر ثقافة وبين النجديين.
في الستينات بدأ اسناد بعض المناصب التى تتطلب معارف عصرية الى سعوديين تلقوا تحصيلا مدنيا وليس دينيا في الخارجاول الامر, ومن ثم داخل البلد. واتاح ذلك للباحث الامريكى رو الذى عكف على دراسة مجتمع الجزيرة امكانية الحدث عن "طبقة متوسطة جديدة" في العربية السعودية, وقال انها تضم الاشخاص ذوى التحصيل المدنى. ويجمع هذا المنهج في "طبقة" واحدة كبار تجار الجملة من جدة والسعوديين من اعضاء مجلس ادارة ارمكو والعمال المهرة والمهندسين والفنيين والاطباء ومدرسى العلوم الحديثة والافراد الثامويين من آل سعود. وهذا التقسيم "الطبقى" مرفوض من وجهة النظر الماركسية. ولكن الحزازات والتنافس بل وحتى التناقض بين دعاة التحديث الحاصلين على تعليم مدنى وبين السلفيين الحاصلين اساسا على تعليم دينى تقليدى, ظلت قائمة في اطار فئات اجتماعية بعينها. الا ان هذه الخلافات لم تكن شاملة وحاسمة. وحسبنا التذكير بان مجموعة الامير طلال, التى طالبت باصلاحات, ضمت مجموعة اشخاصا ذوى تحصيل تقليدىو في حين كان بين السلفيين عددغير قليل من حملة شهادات الجامعات الامريكية والاوربية الغربية.
سنة 1960 اسند الملك سعود خمس حقائب وزارية, بينها اثنتان كانت لدى امراء, الى خمسة من شباب "الفئات الوسيطة", واربعة منهم يحملون شهادة جامعة القاهرة. اما الخامس الذى اسندت اليه وزارة النفط والموارد المعدنية المستحدثة فلم يرب عمره على 35 وهو خري جامعة تكساس. حينما استحدثت وزارة الاعلام عام 1963 اسندت الى سعودى متخرج في جامعة القاهرة. ومن هذ السنة لم يعد افراد الاسرة المالكة يشغلون سوى خمسة من المناصب الوزارية الاربعة عشر. ولكن هذه – الوزارات – وهى الداخلية, الدفاع, الحرس الوطنى, المالية, الخارجية – هى وزارات اساسية لذا احتفظ آل سعود بزمام الحكم في ايديهم. اما المناصب الاقل اهمية في هذه الوزارات, كما هو شأن كل المناصب في الوزارات الاخرى (النفط, التجارة, الاعلام, الزراعة, المواصلات, المالية) فقد اصبحت تسند على نطاق متزايد الى اشخاص لا ينحدرون من اصل ارستقراطى ولهم تحصيل مدنى. ولعبت هذه الدوائر دورا فعالا في تحديث المملكة. وهيمن المتدينون السلفيون على وزارتى المعارف والاشغال اللتين كان من المفترض ان يسودهما التحديث.
في بداية السبعينات عين الملك فيصل قاضيا من جدة من ذوى التحصيل الدينى وزيرا للعدل, علما بان نظام العدلية قائم اساسا على احكام الشريعة. ولكن هذا الوزير كان قد اكتنز اثناء اشتغاله مع رجال الاعمال في جدة خبرة واسعة في الشؤون الدنيوية, واساليب تصريفها. واثر ذلك اسندت وزارة الحج والاوقاف الى سعودى من اسرة تجار في جدة درس في جامعة القاهرة. تولى منصب وزير المعارف واحد من آل الشيخ, ولكن ابتداء من عام 1971 عين اثنان من خريجى الجامعات الامريكية نائبين له. وفي سنة 1971 ذاتها عين نائبان جديدان لوزيرى الاشغال والشؤون الاجتماعية وكلاهما من خريجى الولايات المتحدة. ورفع اربعة سعوديين الى مناصب امناء الدولة بصلاحيات وزير, وكان اثنان منهما – رئيسا هيئة التخطيط المركزية ومديرية الادارة والذاتية – من خريجى الولايات المتحدة والاثنان الاخران من خريجى القاهرة. وفي الوقت نفسه تقريبا عين الملك ستة من الامراء الشباب من خريجى الكليات البريطانية والاميريكية امناء للدولة ومحافظين.
ان الطبقة الحاكمة بنشرها التعليم وتعيينها حملة الشهادات العصرية في كل حلقات الجهاز الادارى قد حاولت, عفويا او قصدا وهذا ليس بالمر الهام, ان تضفى نوعا من الحداثة على نظام السلطة البالى دون ان تغير جوهره. وبديهى ان تنشأ حزازات ين الموظفين من حملة الشهادات الامريكية الذين يرتقون السلم الوظيفى بسرعة, وين البيروقراطيين الطاعنين. ولكن الروابط العائلية القبلية لعبت في خاتمة المطاف الدور الرئيسى. وقد عمل المئات, ومن ثم الآلاف من السعوديين حملة المعارف الحديثة, في جو تسوده التقاليد والالتزامات الاقطاعية القبلية.
كما في سائر بلدان الشرق الاوسط اصبح الاعلام في السعودية الواقع تحت سطرة الطبقة الحاكمة اداة قوية للتأثير في الجماهير. وصار الاعلام يستأثر بالاهتمام الول لما تأكدت فعالية الاعلام الاذاعى المصرى وتأثيره في سكان المملكة في الخمسينات ومطلع الستينات. وقد كانت خطبة الجمعة ومواعظ المطاوعة القناة الرئيسية للتأثر فى عقول الناس. ولكن الاذاعة, ومن ثم التلفزيون, وفرا للفئة الحاكمة ادوات فنية عصرية للتبشير بافكارها. ابتداء من عام 1963 شرعت الحكومة ببناء محطات اذاعة ضخمة, ومكن 1965 بدأ البث التلفزيونى, وفي بلد تسوده الامية صار الترانستور والتلفزيون اهم ادوات الاعلام, وتشغل الحيز الاكبر في البث الاذاعى والتلفزيون البرامج الدينية وتلاوات القرآن.
للم تلعب الصحافة دورا يذكر, وكانت اول صحيفة يومية هى "البلاد السعودية" التى بدأت الصدور في جدة عام 1953. وعند اواخر الستينات كان يصدر في السعودية زهاء 15 صحيفة ولكن بعدد محدود جدا من النسخ. وفى اواسط السبعينات كانت تصدر في الحجاز اربع صحف عربية هي "المدينة" و"عكاظ" و"الندوة و"البلاد السعودية" علاوة على الصحيفة الاسبوعية الرسمية "ام القرى", والى جانب ذلك صدرت "الرياض" في نجد و"اليوم" في المنطقة الشرقية. وفرض اشراف حكومى على الصحف, رغم انه كان المتعذر حتى قبل ذلك اصدار صحف ومجلات بدون معونات حكومية .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القضاء والنظام القضائي
فى اواسط الخمسينات اشار الفقيه العربى صبحى المحمصانى الى ان التشريع في السعودية واجه صعوبات تتمثل في العرف البدوى, وفي اعتراضات السلفيين الذين اعتبروا كل ما لم يتضمنه الشرع نوعا من البدع. وقال المحمصانى ان هذه المصاعب لم تعق "موكب الحياة الجديدة" عن السير قدما لمتطلبات المجتمع المعاصر. وقد غذت هذه المسيرة الثورة الصناعية القائمة على النفط وانتشار التعليم والمدارس وتحضر البدو والاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة. وذهب المحمصانى الى ان السعودية قطعت خلال ربع قرن طريقا اطول من الطريق الذى قطعته خلال 14 قرنا قبل ذلك.
ولكن اتضح ان "موكب الحياة الجديدة" في المجال القانونى كان ابطأ سيرا مما توقع المحمصانى في الخمسينات. في القرن العشرين اعتمدت في غالبية البلدان الاسلامية قوانين تجارية وجنائية ومدنية جديدة. ولم يبق في الغالبية العظمى من هذه البلدان, باستثناء تركيا وتونس, في اطار الشرع سوى الاحوال الشخصية (الزوج والطلاق والارث) وحتى هذه ادخلت عليها تعديلات. والسعودية هى البلد الوحيد الذى اعتمد احكام الشريعة "خالصة". ان النظام القضائى والقانونى في العربية السعودية, المكيف لدولة اقطاعية مركزية لم يكن مهيأ لمواجهة القضايا الاجتماعية الاقتصادية التى خلقها تطور مجتمع الجزيرة العربية. واقتصر المذهب الوهابى على الاحكام المصاغة في القرون الثلاثة الاولى التى تلت ظهور الاسلام, ورفض كل ما ور بعد ذلك عن الاسلام واعتبره "بدعا".
وبعد اكتمال المذاهب الاساسية الاربعة اغلق عمليا باب الاجتهاد الذى كان معمولا به في القرون الاولى التى اعقبت الدعوة الاسلامية. ورفض العلماء الحنابلة الاجتهاد رفضا تماما, لذا حاول رجال القانون السعوديون البحث عن حلول لمشاكل القرن العشرين في تقاليد القرون السابع والثمن والتاسع, مما اوقعهم, بالضرورة, في طريق مسدود.
ثمة مثالان يبيان صعوبة تطبيق احكام القرون الوسطى في القرن العشرين. فالقرآن يحرم الربا ولكن الاقتصاد الرأسمالى المعاصر لاي مكن ان يقوم بدون سوق نقدية يتحكم فيها ميكانيزم الربح. ويحظر نظام وكالة النقد السعودية الفوائد, بينما تتجاهل تشريعات البنوك التجارية هذه المسألة تماما. وبغية عدم الخروج على احكام الدين ابتدع ما يسمى ب"بدل" الخدمات وهو مجرد تورية لفظة الفائدة. القضية الثانية هى غياب القانون التجارى. ورغم ان الشريعة حافلة باحكام عديدة حول التجارة, الا انها لا تتطرق الى الكثير من جوانب النشاط الاقتصادى المعاصر. وقد جوبهت محاولة سن قانون تجارى بمعارضة شديدة من لدن رجال الدين. وقد اقر عدد من رجال الدولة السعوديين بضرورة الجمع بين الشرع الاسلامى متطلبات المجتمع الحديث. فقد ذكر احمد زكى يمانى, وزير النفط والمعادن في محاضرة بالجامعة الامريكية ببيروت في شباط (فبراير) 1967 ان تطبيق الاحكام الشريعة يتطلب من الدولة انتقاء مبادئ من مختلف المدارس القانونية دون استثناء, استنادا الى ما يتماشى واحتياجات كل بلد. واشار الى انه يجب سن قوانين تعتمد على الاحكام الشرعية العامة ومقتضيات الصالح العام ورخاء المجتمع. وكان ذلك بمثابة قطيعة واضحة مع المذهب الوهابى, لذا لم يلق تأييدا لدى رجال الدين وظل رأيا خاصا بالوزير.
وقبل ذلك لم يكن ثمة صدى ايجابى لنداء الامير طلال زعيم حركة "الامراء الاحرار" الذى دعا الى ان تشرع الابواب اما الاجتهاد. اما الفئات الاجتماعية الاخرى, وخاصة المعارضة الديمقراطية الثورية, فانها بحثت عن حل لمشاكل المجتمع الرئيسية خارج اطار الشريعة.
بيد ان علماء اليدن السعوديين وجدوا في احكام الشريعة منفذا لتبرير الاصول القانونية الجديدة اللازمة لادارة الاقتصاد والمجتمع. فقد اتفق رجال الدين في صدر الاسلام على تقسيم احكام الدين الى واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح. وقد استخدمت الدولة في المملكة العربية السعودية "المباح" فاعتمدت منذ العشرينات النظم والمراسيم الملكية التى كانت عمليا بحكم القانون وان لم تتخذ شكله.
اضطرت المحاكم السعودية التى تعتمد الشريعة, الى نقل جزء من وظائفها الى هيئات ادارية او مؤسسات اجتماعية مثل الغرف التجارية والصناعية. وفي البدء كانت كل الحالات غير المنصوص عليها في الشرع الاسلامى يبت فيها اعتمادا على القانون المدنى العثمانى الموضوع في عهد التنظيمات, ثم وضع عمليا نظام الشورى. وكمثال على ذلك نذكر اعتماد قوانين السير والمرور وقانون العمل ومرسوم حظر الاضرابات والمراسيم الخاصة بالضرائب وعمل الشركات واستثمار الرأسمال الاجنبى. وفي عام 1926 اسس في جدة المجلس التجارى, وهو بمثابة غرفة تجارة, ومنذ عام 1931 اعتمدت "اصول التجارة" المعتمدة على القانون التجارى العثمانى لسنة 1850, بعد اسقاط كل المواد المتعلقة بالفوائد والارباح. وفي سنة 1954 حلت وزارة التجارة محل المجلس المذكور, واسست غرف تجارية في عدد من المدن السعودية. منذ مطلع السبعينات بدأ تأمين كل اشكال الملكية, ولكن التأمين لم يشمل الحياة. وفي سنة 1970 الغيت القواعد العامة للملاك الموضوعة عام 1957 واستعيض عنها بلوائح الانضباط الالزامية للموظفين والمستخدمين كافة.
ان النظام القضائى الذى ارسيت اسسه في السعودية خلال العشرينات والثلاثينات قد استمر معمولا به في العقود التالية. بيد ان هيئة التدقيقات القضائية الغيت في السبعينات وحلت محلها وزارة العدل والمجلس القضائى الاعلى.
وفي اواسط الخمسينات اسس ديوان المظالم التابع لمجلس الوزراء للنظر في القضايا الهامة والمتنازع عليها وصار الديوان بمثابة الحكم وهو في الوقت ذاته مرجع ادارى ينظر في الشكاوى المرفوعة ضد الادرات الحكومية وفي قضايا الرشاوى ومقاطعة اسرائيل والنزعات الكبرى التى لها صلة بالقبائل والاجانب. ويرى بعض الباحثين الامريكان والبريطانيين ان ديوان المظالم يعود في جذوره الى التقاليد القضائية الفارسية قبل ظهور الاسلام والتى اعتمدتها الشريعة فيما بعد. ويذهبون الى ان انبعاث ديوان المظالم في السعودية واتساع وظائفه هو دليل نوع من المرونة لدى مقلدى المذهب الحنبلى. ان كل سكان المملكة العربية السعودية سواسية اما القانون من الناحية الشكلية. ولكن في واقع الحال كان افرادرة المالكة وكبار علماء الدين وابناء العوائل الارستقراطية الكبرى يتمتعون بحصانة قضائية وهم فوق القانون عمليا. وعلى النقيض من ذلك, فان الاحكام السائدة ذاتها تنتهك حينما تروم السلطة التنكيل بالمعارضة الديمقراطية الثورية.