تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الحادي عشر
الفصل الحادي عشر: توحيد أراضي الجزيرة من حول نجد (1918-1926)
أصبح وضع إمإرة نجد بعد الحرب العالمية الأولى أكثر تعقيدا مما كان عليه عشية نشوبها . فلئن كان بوسع أمير الرياض قبل الحرب أن يستثمر التناقضات بين الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا العظمى ، فإن الإنجليز غدوا بعد الحرب القوة الفعلية الوحيدة في المنطقة . وتيقن عبدالعزيز من ذلك حينما منعوه من مهاجمة الحجاز وجبل شمر . ولكن بريطانيا ، من جهة أخرى ، تحاشت التدخل مباشرة في شئون شبه الجزيرة العربية وسعت إلى التملص من الإنفاق على حكامها .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العلاقات بين نجد والكويت
أحدث ارتفاع شأن إمارة نجد قلقا لدى حاكم الكويت ، الذي شعر بخطر مباشر يهدده بفعل انضمام عشيرة مطير التي كانت الكويت هدفا تقليديا لهجماتها إلى حركة الإخوان . وتحت ستار حماية دعوة (التوحيد) ونشرها ، أعتبر مطير أن من حقهم نهب الكويت ، بلد (المشركين) المتعاون مع الإنجليز . في عام 1915 ساعد الكويتيون قبيلة العجمان على تفادي الهلاك بإيوائهم أبناء هذه القبيلة . وإنصاح العجمان آنذاك لعبدالعزيز خوفا لإرادتهم . فقد احتوتهم حركة الإخوان ، ولكن عبدالعزيز كان يعتزم تقسيم العشيرة إلى زهاء عشرين هجرة صغيرة مبعثرة في المناطق الداخلية من نجد . وزعم أن العجمان لم يعارضوا حركة الإخوان ، إلا أنهم رفضوا رفضا قاطعا الإقامة في مناطق مبعثرة خارج ديارهم في منطقة الإحساء .
وكان تدهور العلاقات بين الإنجليز والكويتيين عونا غير منتظر للنجديين . إذ اكتشف الإنجليز أن تموين الأتراك في الشام كان يجري جزئيا ، عن طريق الكويت وحصل شيخها سالم على دخل من التهريب . وقد كان حاكم الكويت سالم على علم بالاتفاقية البريطانية – التركية لعام 1913 التي ترسم حدود الكويت في منطقة جبل منيف . ولكنه لم يعرف بأن المعاهدة البريطانية النجدية لعام 1915 لم ترسم حدود الكويت . (كان يدعي بجزء كبير من الإحساء) . وقد أقام عبدالعزيز هجرة إخوانية على حدود الكويت ، ولكن ضمن حدود ديرة مطير ، فاحتج الشيخ سالم وجرى اشتباك بين الكويتيين والإخوان الذين كانوا بأمرة فيصل الدويش ، وانتهى بهزيمة الكويتيين . وإزاء الخطر الداهم سأل الشيخ سالم الإنجليز أن يعينوه ، ولكن هؤلاء طالبوا بأن يوافق الطرفان المتخاصمان سلفا على حكم الإنجليز كقضاة .
في أيلول (سبتمبر) عام 1920 وافق الأمراء أن يعينوه ، ولكن هؤلاء طالبوا بأن يوافق الطرفان المتخاصمان سلفا على حكم الإنجليز كقضاة .
في أيلول (سبتمبر) عام 1920 وصل إخوانيون من قبيلة مطير يقارب عددهم الأربعة آلاف إلى مكان بعيد بضعة كيلومترات إلى الجنوب من مدينة الكويت . وفي اشهر ذاته أجرى بيرسي كوكس مفاوضات مع عبدالعزيز في العقير ، في محاولة لحل نزاعات الحدود حلا يرضي الإنجليز . ولكن فيصل هاجم في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1920 ، في موقع قرب الجهراء ، القوات الكويتية الشمرية وهزمها ، رغم تكبده خسائر كبيرة . واحتمى الشيخ سالم بقصر له قرب الجهراء ودخل مفاوضات لكسب الوقت ، وفي الوقت ذاته طلب النجدة من الإنجليز . وفي اشهر ذاته قرر الإنجليز إغاثته فأرسلوا سفنا إلى سواحل الكويت وهددوا بالتدخل في النزاع إلى جانب الكويت ، مما اضطر فيصل إلى الانسحاب .
في أواخر شباط (فبراير) عام 1921 باغتت المنية الشيخ سالم . وقد وقع اختيار أعيان الكويت ، الذين أنهكتهم حرب هم في غنى عنها ، على أحمد بن جابر الصباح ، وهو الإبن الأكبر للشيخ جابر بن مبارك الصباح الراحل . وكان أحمد ذا شعبية ويؤيد التوصل إلى حل مقبول مع أمير الرياض . وفي تلك الأثناء كان يجري مفاوضات مع إبن سعود في نجد . أدرك عبدالعزيز أن الإنجليز لن يتنازلوا له عن الكويت . وفي ذلك الحين كان اهتمامه منصرفا إلى الحملة المرتقبة على حائل ، وإمكانية إحكام سيطرته على جبل شمر بأسره .
إلحاق جبل شمر
خلال العامين المنصرمين بلغت النزاعات بين آل سبهان وآل رشيد درجة الغليان . وفي عام 1919 فر سعود آل سبهان إلى الزبير ، فانتقل منصب الوزير الذي كان يشغله إلى المدعو عقاب بن عجل الذي شرع يبحث عن واصلة بعبدالعزيز . وفي أواخر آذار (مارس) عام 1920 لقى أمير شمر سعود بن عبدالعزيز مصرعه على يد إبن عمه عبدالله بن طلال الذي قتله فيما بعد أحد خدام سعود . وبالتالي آلت الإمارة إلى عبدالله بن متعب بن عبدالعزيز . تلقى أمير نجد معلومات تفيد بوجود كثير من أنصار أسرة شريف مكة في حاشية آل رشيد ، وصار خطر اتحاد خصوم آل سعود القدامى خطرا فعليا في الظروف التي كان إبانها الإنجليز يعدون فيصل لتولي عرش العراق . في آذار – نيسان (مارس – إبريل) عام 1921 ، وأثر عقد الصلح مع ممثل الكويت ، قرر عبدالعزيز تجهيز حملة على حائل . وفي تلك الأثناء نكبت المناطق الوسطى من الجزيرة مرة أخرى بالجفاف الشديد وارتفعت الأسعار ، مما زاد من مصاعب جبل شمر .
في نيسان – آيار (إبريل – مايو) عام 1920 ألحقت فصائل بن سعود الهزيمة بقبائل شمر وأضحت عند جدران حائل ، فبدأ حصار مديد . قرر حاكم جبل شمر عبدالله بن متعب بن عبدالعزيز الاحتماء وراء جدران حائل المنيعة ، ولكن حينما أوشكت المؤونة في المدينة على النفاد ، أرسل وفدا للتفاوض . وكان مستعدا للقبول بأن تقتصر إمارة جبل شمر على مدينة حائل وأراضي قبيلة شمر ، ولكن إبن سعود الذي شعر بقوته ، طالب بالاستسلام الكامل . استمرت الاشتباكات بين الطرفين طوال عدة شهور ، دونما نتائج تذكر . ورغم أن سكان حائل تمكنوا من الحصول على قدر من المؤونة يكفي لمقاومة الحصار ، إلا أن الصراع الداخلي في المدينة استمر مستعرا ز وقد خلع أعيان حائل عبدالله بن متعب ونصبوا مكانه محمد بن طلال (شقيق عبدالله بن طلال) بعد إطلاق سراحه من السجن ، واستجار عبدالله بن متعب بأمير الرياض . وحتى ذلك الحين لم يسفر الحصار عن شيء.
في تلك الأثناء وضع ونستون تشرشل في اجتماع عقد بالقاهرة بنية الشرق الأوسط لفترة مابعد الحرب . قرر الإنجليز تنصيب فيصل ، إبن الشريف حسين ، ملكا على العراق ، وسرعان ماتوج . كما قرروا إسناد إمارة شرقي الأردن لعبدالله . وأدرك إبن سعود أن عليه الإسراع ، وإلا فإن جبل شمر سوف يفلت منه . قبل بدء الحملة الجديدة على حائل عقد عبدالعزيز مجلسا لأعيان وشيوخ القبائل وعلماء الدين حيث تقرر أن يخلع على الأمير لقب (سلطان نجد والأراضي الملحقة) لرفع الهيبة الدولية للبلد .
في آب (أغسطس) عام 1921 عاد عبدالعزيز إلى مواقع قرب حائل على رأس قوة مؤلفة ، وفق بعض المصادر ، من زهاء عشرة آلاف شخص من ضمنهم الإخوانيون بزعامة فيصل الدويش . أصبحت أوضاع المحاصرين ميئوسا منها ، وبعد شهرين من الحصار أوفد أعيان المدينة أحد أفراد آل سبهان للتفاوض ثم اتفقوا على الاستسلام . وفي الوقت المحدد شرعت أبواب حائل أمام قوات عبدالعزيز . لاذ بن طلال بالقلعة وأرسل نداء استغاثة إلى السلطات البريطانية في العراق وإلى الملك فيصل ، ولكن النجدة لم تصل وبعد فترة استسلم بشرط أن تصان حياته . أقام إبن طلال في الرياض أسيرا مكرما وزوج إبنته لإبن سعود . وقد لقى آخر أمير مستقل لحائل مصرعه في الرياض على يد أحد عبيده عام 1954 .
في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1921 لم يعد هناك وجود لإمارة جبل شمر السمتقلة . وفي الثاني من الشهر بايع سكان حائل عبدالعزيز الذي جعل من إبراهيم السبهان واليا للمنطقة الجديدة في سلطنته . وقد حرم أمير نجد السلب في المدينة ، بل وزود الجياع ببعض المؤن . وكان الشيعة أكثر من يخشى على حياتهم ، ولكن إبن سعود أصدر إيعازا خاصا يكفل لهم الحماية . ويجدر بالذكر أن الإخوان لم يوافقوا على تسامح أميرهم وانتقدوه علانية لغضه النظر عن (المشركين) .
بسقوط جبل شمر أضحت كل المناطق الوسطى من الجزيرة تحت سيطرة أمير الرياض وأصبحت نجد والمناطق الملحقة بها القوة الرئيسية في شبه الجزيرة العربية . ولم يقو جبل شمر على الصمود إزاء ضغط الجار الجنوبي الأقوى الذي استلهم جنده شعارات المذهب الوهابي بعد انبعاثه . لقد اعتمد جبل شمر ، في الأساس ، على قبيلة كبيرة واحدة ولم يصبح نواة لدولة موحدة في الجزيرة العربية ، وضعفت مواقعه إزاء المنافس القوي الحازم بسبب الحزازات الداخلية وغياب الزعيم القوي . وقد ربط حكام جبل شمر مصيرهم بالإمبراطورية العثمانية ، في حين أن الحركة القومية لعرب الجزيرة كانت ذات طابع مناهض للأتراك بوضوح . وفي تلك الأثناء لم تكن بريطانيا تعتبر إلحاق الجزء الشمالي من وسط الجزيرة بنجد خطرا كبيرا على مصالحها في العراق وشرقي الأردن ، وآثرت أن تبقى بمعزل عن الأحداث هناك ، رغم أن تعزيز مواقع نجد حملها هموما غير قليلة .
بداية النزاعات والاشتباكات الحدودية بين نجد والعراق وشرقي الأردن
بعد الاستيلاء على جبل شمر جابهت إمارة نجد ثلاث دول معادية لها يحكمها أفراد الأسرة الهاشمية ، وتحد نجد من الغرب والشمال .
لم ترسم الحدود بين جبل شمر وبين العراق وشرقي الأردن . وعلاوة على ذلك فإن مسألة الحدود البرية الثابتة كانت جديدة نوعا ما على حكام الجزيرة . وكان إبن سعود يرى أن كل قبائل شمر وعنزة تابعة له ، وبذا فإن رعاياه متواجدون في مناطق بعيدة يعتبرها الإنجليز جزءا من العراق . أضف إلى ذلك أن بعض قبائل شمر وغيرها من القبائل الرافضة لمطامع السعوديين قد ارتحلت إلى العراق . وفيما بعد كتب غلوب باشا قائد الجيش (الفيلق) العربي في الأردن : (لم تكن هناك حدود في أواسط الجزيرة . ولم تحاول الإدارة في بغداد قط إحكام سيطرتها في الصحراء لمسافة تزيد عن ميلين أو ثلاثة من الفرات ... وكانت حياة العديد من القبائل ذاتها مرتهنة بحقها في التنقل بحرية في المناطق الواقعة ضمن الحدود الحالية للعراق وسورية . وتصرفت القبائل السورية والعراقية على النحو ذاته . لذا فإن رسم حدود ثابتة بدا لها أمرا خطيرا) .
أدت الخلافات والاشتباكات بين القبائل إلى تفاقم النزاعات بين العراق ونجد . وفي خريف عام 1921 عين المدعو يوسف بن سعدون قائدا لفيلق الجمالة العراقي المشكل حديثا . وكان لهذا عداء شخصي مع شيخ قبيلة الظفير حمود بن سويط الذي فر إلى الرياض مستجيرا بعدبالعزيز وعاد بعد فترة من الزمن مع جباة الزكاة الذين أوفدهم أمير الرياض . والتحقت بحمود مجموعة من الإخوان من مطير برئاسة فيصل الدويش ، فهاجموا سوية معسكر يوسف في آذار (مارس) 1922 وأبادوا غالبية جنده ، فأرسل الإنجليز طائراتهم لنجدة العراقيين . عند ذاك سرحت الحكومة العراقية فيلق الجمالة وأقالت قائده يوسف بن سعدون الذي ساءه الأمر فهرب إلى الرياض حيث عرض خدماته على عبدالعزيز .
ربيع عام 1922 التقى ممثلون عن عبدالعزيز ببيرسي كوكس في المحمرة ، وأصر الإنجليز على إقامة حدود ثابتة بين العراق ونجد ، وطالب الوفد النجدي برسم الحدود اعتمادا على تقسيم الديار التقليدي للبدو الرحل ، وفي الخامس من آيار (مايو) عام 1922 وقعت معاهدة المحمرة التي جعلت قبائل المنتفق والظفير والعمارات التي هي فخذ من قبيلة عنزة تابعة للعراق ، بينما جعلت قبائل شمر تابعة لنجد . غير أن عبدالعزيز رفض إبرام الوثيقة بحجة أن الظفير بزعامة حمود بن سويط احتموا به ورفضوا الانصياع للعراق .
في حزيران (يونيو) عام 1922 شرع الإخوان يتحركون باتجاه الشمال الغربي ، نحو شرق الأردن . وبعد الاستيلاء على واحة الجوف في تموز (يوليو) من نفس العام اشتبكوا مع دوريات تابعة لإمارة شرقي الأردن . وأثر ذلك استولوا على واحتي تيماء وتبوك وأرغموا سكانهما على إخراج الزكاة للرياض . وبعد ذلك زحف الإخوان على وادي السرحان الذي كان سابقا جزءا من جبل شمر ، وسرعان ماهاجموا واحة بني شاكر ، مما جعلهم على مقربة من عمان ، عاصمة شرقي الأردن . وفي ذات الوقت دنا النجديون من حدود سورية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي ، وأخذوا يهددون بقطع ممر الارتباط المباشر بين الممتلكات البريطانية . وفي ذلك الحين كان الإنجليز يدرسون مسألة مد خط للسكك الحديد بين فلسطين والعراق عبر هذا الممر بالذات .
رأي بيرسي كوكس أن من الضروري العمل على وضع حدود ثابتة ، واتفق على عقد لقاء شخصي مع أمير نجد . وفي 21 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1922 بدأ كوكس وعبدالعزيز مفاوضات استغرقت ستة أيام في العقير . وأسفرت المفاوضات عن وضع بروتوكولات (ملاحق) العقير التي وقعت في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) عام 1922 وألحقت بمعاهدة المحمرة . وكان هذا يعني للدبلوماسية البريطانية التي أرغمت سلطان نجد على الاعتراف بحدود العراق الخاضع للانتداب .
رسم البروتوكول الأول الحدود بين العراق ونجد وأسس المنطقة المحايدة التي يحق للقبائل العراقية والنجدية أن ترعى أغنامها فيها . ومنحت القبائل النجدية التي كانت تستخدم بعض الآبار في أراضي العراق الحق في مواصلة استخدامها بشرط ألا تستثمر مصادر الماء في منطقة الحدود لأغراض حربية . وبذا فإن هذه الاتفاقية راعت حدود الديرة التقليدية لشتى القبائل .
نص البروتوكول الثاني على أن لأي قبيلة تروم أن تكون تحت رعاية حكومة أخرى الحق في ذلك . وإلى جانب رسم الحدود بين نجد والعراق وقع عبدالعزيز ومندوبون عن الكويت اتفاقية حول الحدود ، ضمنت بدورها منطقة محايدة للبدو من الطرفين ، لاستخدامها لأغراض رعي الأغنام .
إن مفاوضات العقير بحد ذاتها حرية بأن تتوقف عندها بشيء من التفصيل . وهاكم ماكتبه أحد المشتركين فيها وهو ديكسون : (في اليوم السادس قال السير بيرسي ... لكلا الطرفين أن الوتيرةالتي تجري عليها المفاوضات لن تقضي إلى تسوية شيء طوال سنة . وفي لقاء خاص اقتصر على بيرس كوكس وإبن سعود وأنا لم يطق كوكس صبرا على ماسماه بموقف إبن سعود الضبياني من فكرة الحدود القبلية . ولم يكن السير بيرسي يجيد العربية كما ينبغي ، فتوليت الترجمة . كان أمرا غريبا أن يلاحظ المرء كيف يوبخ المندوب السامي لصاحب الجلالة سلطان نجد وكأنه تلميذ مشاكس . قال كوكس لإنس عود بصرامة ، أنه هو (كوكس) الذي يقرر شكل الحدود وامتدادها العام ... كاد عبدالعزيز ينهار تماما وقال بتأثر أن السير بيرسي بمثابة أبيه وأمه اللذين أنجباه ورفعاه من الحضيض إلى مقامه الحالي ، وأنه مستعد للتنازل عن نصف مملكته ، بل عن المملكة كلها إذا أمر السير بيرسي) .
إثر ذلك أخذ كوكس قلما أحمر ورسم بحضر على خارطة الجزيرة الحدود من الخليج العربي إلى شرقي الأردن . وفي مساء اليوم ذاته ، كما يقول ديكسون ، جاءت ( التتمة المدهشة) . (فقد طلب إبن سعود مقابلة السير بيرسي على انفراد . اصطحبني السير بيرسي ، وكان إبن سعود يقف بمفرده وسط سرداقه الكبير الذي كان مضيفا . بدا مغتما للغاية وقال متوجعا : (ياصديقي ، لقد حرمتموني نصف مملكتي . الأفضل أن تأخذوها كلها وتسمحوا لي بالاستقالة) . وظل هذا الرجل القوي الضخم البنيان المتسامي بأساة ، واقفا ثم انحدرت من مآقيه الدموع على حين غرة . تأثر السير بيرسي غاية الأثر وأخذ يده وأنشأ ينتحب هو الآخر . تحدرت الدموع على خديه . لم يحضر أحد ، سوانا نحن الثلاثة ، هذا المشهد وأنا أنقل بدقة مارأيت لم تستمر الزوبعة العاطفية أمدا طويلا . قال السير بيرسي وهو مايزال يمسك بيد إبن سعود : (ياطويل العمر ، أنا أعرف بدقة حقيقة مشاعرك ، لذا فإنني أعطيك ثلثي أراضي الكويت . لا أعرف كيف سيكون رفع هذه الضربة على إبن الصباح) .
ومهما كان من أمر لايجب أن يغيب عن بالنا أن عبدالعزيز وكوكس كانا ممثلين جيدين ، ورغم أن كل الأوراق الرابحة كانت في يد كوكس لأن بريطانيا بالذات هيا لتي تملي إرادتها في الجزيرة ، فإن عبدالعزيز تمكن من تحقيق الكثير من مطالبه . ففي تلك الفترة بالذات كان إبن سعود يعتزم تجهيز حملة على غرب الجزيرة ، وصار بوسع كوكس أن يلمح إليه بأن بريطانيا سوف تتغاضى عن استيلائه على الحجاز . لم يتم التوصل على اتفاق حول الحدود مع شرقي الأردن . وفي مستهل عام 1923 شنت مجموعة صغيرة من الإخوان هجوما جديدا على شرقي الأردن . أسر المهاجمون وأعدم أحد عشر شخصا منهم في عمان . وفي تلك الأثناء استمرت تصفية الحسابات بين القبائل القاطنة على الحدود بين العراق ونجد ، والتي جرى في العقير تقرير مصيرها دون مشاركتها . تمكن يوسف بن سعدون من تعبئة مجموعةم ن الإخوان لمهاجمة خصومه من قبيلة الظفير ، ولكن عبدالعزيز حينما علم بذلك أرسل قوة لمعاقبته . عندئذ هرب يوسف وأنصاره (ومن بينهم الإخوان) وطلب اللجوء من الحكومة العراقية .
عند تقييم السياسة البريطانية في هذه المنطقة في بداية العشرينات ، لايمكن الزعيم بأن إيصال التناحر بين نجد والعراق والأردن إلى حد القطيعة كان من مصلحة لندن . فقد آثر الإنجليز أن يستثمروا بهدوء ممتلكاتهم الجديدة . وعلاوة على ذلك فإنهم قدموا منحا كبيرة لجميع حكام المنطقة ، ولم يتوقفوا عن تقديمها إلا في 31 آذار (مارس) عام 1924 .
في كانون الأول (ديسمبر) عام 1923 عقد في الكويت ، بمبادرة بريطانية ، مؤتمر حضره ممثلون عن شرقي الأردن والعراق ونجد ، للقيام بمحاولة تسوية القضايا المتنازع عليها ، ولكن الأطراف لم تتفق على شيء . واستمرت غزوات القبائل عبر الحدود المرسومة شكليا ، وفي آذار (مارس) 1924 أوعز عبدالعزيز إلى فيصل الدويش بمعاقبة القبائل التي شنت هجمات على نجد من جهة العراق . استؤنف مؤتمر الكويت في آذار (مارس) عام 1924 واستمر حتى شهر نيسان (إبريل) دونما أي نتيجة . في أواسط آب (أغسطس) اتجهت قوة كبيرة من الإخوان نحو عمان عبر وادي السرحان ، ومرت بمحاذاة حصن القاف الذي شيده الإنجليز منذ أمد قريب ، ولكن حامية الحصن لم تكن لديها وسيلة للاتصال لذا فإن ظهورهم على بعد بضعة كيلومترات من عمان كان مفاجئا . استخدم الإنجليز الطائرات والمدرعات ووحدات الفيلق العربي فأبعدوا الإخوان وكبدوهم خسائر كبيرة .بيد أن الحاز أخذت تستأثر باهتمام متزايد من لدن أمير نجد عند حلول صيف 1924 .
منذ سنوات عديدة تتطلع عيون النجديين بشوق إلى الحرمين ، بينما كان زعماؤهم يحصون العوائد التي يمكن أن يدرها عليهم الحجاج ورسوم الجمارك في جدة . واقترن الحماس والتعصب الديني بمخططات الغزو التي أعدتها الأرستقراطية الحاكمة في نجد . ظلت العلاقات بين نجد والحجاز في أقصى درجات التوتر بعد معركة تربة . وحينما جهز عبدالعزيز قوة مسلحة للاستيلاء على مدينة أبها في شمال عسير في آيار (مايو) 1920 ، منع الحسين النجديين من دخول الحجاز لأداء فريضة الحج في آب – أيلول (أغسطس – سبتمبر) عام 1920 . ورفع النجديون ظلامة إلى بيرسي كوكس بوصفه حكما ، ونزولا عند إصرار الإنجليز سمح الحسين لهم بأداء الفريضة في العام التالي ، ولكنه حدد عدد الحجاج خوفا من تقاطر عدد كبير من الإخوان على الحجاز . وعند حلول عام 1923 كان النجديون قد ثبتوا أقدامهم في عسير ، فتزايدت مخاوف الحسين .
الاستيلاء على شمال عسير
ابتداءا من عام 1871 وحتى الحرب العالمية الأولى كان الأتراك يمارسون إدارة عسير بشكل مباشر ، إذ كان يوجد متصرف تركي إلى جانب أمير من فخذ آل عايد . وعندما نشبت الحرب انسحب الأتراك من عسير وأصبح الأمير حسن بن علي آل عائق مستقلا في الواقع . ولكن الكثير من القبائل ، مثل قحطان وزهران وغامد ، وقفت ضده وارتحلت إلى عمق الجزيرة ، وفي ذات الوقت أرسلت وفدا لمبايعة عبدالعزيز . وقد أوفد أمير الرياض ستة من العلماء ليهدوا أبناء عسير إلى رسالة التوحيد .
كان غالبية سكان عسير من أتباع المذهب الشافعي ، ولكن بالرغم من ذلك فإنهم كانوا منذ أزمان دولة السعوديين الأولى يميلون إلى المذهب الوهابي ، ولم يتنقطع صلاتهم بنجد . وقد استقبل عبدالعزيز موفدي القبائل وبعث برسالة إلى الأمير حسن يطالب فيها باحترام حقوقهم . وطالب حسن من جانبه بألا يتدخل عبدالعزيز في الشئون الداخلية لعسير . وفي آيار (مايو) عام 1920 ظهرت في جبال عسير قوة قوامها ثلاثة آلاف شخص مؤلفة من سكان العارض وبدو قحطان ، بقيادة عبدالعزيز بن ساعد بن جلوى ، وانضم إليها بعض السكان المحليين . وقد هزم الأمير حسن في موقع قرب العاصمة أبها ، واحتل بن جلوى أراضي تمتد حتى المنطقة الواقعة تحت سيطرة محمد الإدريسي . ونظرا لعدم توفر القوى لبسط سيطرة مباشرة على الإمار ، فإن عبدالعزيز نقل الأمير حسن وإبن عمه محمد إلى الرياض ، وبعد أشهر أعادهما إلى أبها كعاملين من الرياض . استمر الصراع الداخلي في عسير ، وأخيرا تولى الإمارة المدعو فهد العقيلي ، ولكن حسن تمكن من تدبير عصيان ضده واستولى على أبها بعد حصار دام عدة أيام . وقد ساعده الشريف حسين في الوقوف ضد صنائع النجديين .
بعد سقوط حائل جهز عبدالعزيز قوة قوامها زهاء ستة آلاف شخص أسند قيادتها الإسمية إلى إبنه الصبي فيصل ، بينما تولى القيادة الفعلية إبن لؤي . غادرت القوة الرياض في حزيران – تموز (يونيو – يوليو) 1922 ، وفي الطريق التحق بها قرابة أربعة آلاف بدوي من قحطان وزهران وشهران . وبعد الاستيلاء على واحة بيشة في أيلول – تشرين الأول (سبتمبر – أكتوبر) عام 1922 شارف فيصل مدينة أبها واستولى عليها دون قتال ، وفر حسن بن عائض إلى الجبال . وقد أخفقت محاولة ملك الحجاز لنجدته ، وهزم الإخوان الحملة الحجازية . وبعد الاستيلاء على هذا الجزء من عسير ، وولى فيصل إمارة أبها لسعد بن عفيصان وأبقى معه حامية وعاد إلى الرياض في أوائل عام 1923 ، وسرعان ماتوفي إبن عفيصان فولى الإمارة بعده عبدالعزيز بن إبراهيم . وبعد فترة من الزمن استسلم حسن ووجه إلى الرياض حيث عاش مكرما . وبذا باءت بالفشل محاولة عائض لإنشاء إمارة مستقلة في شمال عسير .
الاستيلاء على الحجاز
عند حلول عام 1923 غدا واضحا أن الاصطدام بين الملك حسين والنجديين بات وشيكا . وتزايد في الحجاز الاستياء من سلطة الملك ، إذ أن الفساد والرشوة استشريا وأخذ جهاز الدولة يتآكل بفعلهما . وعند حماية الخراج المعتاد من الحجاج عمد الحسين إلى زيادة الزكاة لتعزيز قواته المسلحة واستاءت القبائل من محاولته إرسال قوات لجباية الضرائب ، والتجأ الكثير من المستائين إلى نجد . وظل الملك حسين يعتبر عسير من ممتلكاته ، وفي نيسان (إبريل) عام 1923 حاصرت قوة من الحجاز مدينة أبها ولكن دون طائل .
يشير حافظ رهبة إلى أن عبدالعزيز قرر غزو الحجاز عام 1923 ، غير أنه لم يكن واثقا من موقف الحكومة البريطانية ، فإن سلطان نجد لم ينس أنها هي التي أرغمته على سحب قواته بعد معركة تربة ، وحذرته من التقدم في الحجاز . وبديهي أن إبن سعود كان على علم بالاستياء من نظام الحسين في الحجاز وكان ذلك من العوامل التي دفعته إلى التحرك . وفي الوقت ذاته بدأت حزازات بين الحسين والحجاج الوافدين من الهند ومصر بسبب سوء الخدمات الطبية .
ساءت العلاقات بين الإنجليز والملك حسين الذي رفض إبرام معاهدة فرساي احتجاجا على تسليم سورية للفرنسيين ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني . وفي عام 1921 وفد لورنس يحمل إلى الحسين عرضا بعقد معاهدة بين بريطانيا والحجاز ، يحصل بمقتضاها الملك على إعانات من بريطانيا ويعقد معها معاهدة عسكرية ، وفي المقابل يعترف بأن لها مصالح خاصة في الحجاز . وأكد الحسين على أنه لايمكن أن يسود فلسطين السلام مادام العرب يتهيبون من أن الهدف الأخير للصهاينة يتمثل في إقامة دولة يهودية في فلسطين على حساب مصالحهم القومية . وقد رفض ملك الحجاز توقيع المعاهدة وأهاب برئيس الوزراء البريطاني أن ينفذ الوعود التي قطعها أثناء الحرب ولكنه لم يحصل على جواب .
وقد تراجعت هذه الخلافات إلى المقام الثاني بعد أن أعلن الشريف حسين نفسه خليفة في آذار (مارس) عام 1924 (إثر إلغاء الخلافة في تركيا التي صارت جمهورية) . وكان الحسين يأمل من وراء إعلانه الخلافة تعزيز سلطته وتأكيد مطامعه في أن يكون أميرا لكل العرب ، أو على الأقل المقيمين إلى الشرق من السويس . ولئن كانت هذه الخطوة قد قوبلت بالاستياء في مصر حيث كان الملك فؤاد يطمع في الخلافة ، وفي أوساط المسلمين بجنوب آسيا ، فإنها اعتبرت في نجد تحديا لمشاعر الإخوان الدينية وسياسة السلطان إبن سعود . وعلاوة على ذلك فقد أزم هذا القرار العلاقاتب ين الملك حسين والبريطانيين الذين خافوا من فقدان سيطرتهم على ملك الحجاز الذي كانوا يعتبرونه خصما محتملا يقف عائقا دون إحكام سيطرتهم الاستعمارية على الشرق الأوسط . في تموز (يوليو) 1924 افتتحت في جدة قنصلية عامة سوفييتية مما أثار حنق البريطانيين .
ولايجدر أن ننسى وجود معاهدة شكلية عقدت بين بريطانيا ونجد عام 1915 حول الحماية . وأدرك سلطان نجد أن بريطانيا سوف تقف ، على الأرجح ، هذه المرة على الحياد في حالة قيام نزاع بينه وبين الحجاز . في تموز (يوليو) 1924 جمع عبدالعزيز قادة الإخوان الذين وفدوا إلى الرياض بمناسبة عيد الأضحى ليعرض عليهم مسألة غزو الحجاز فلقى عرضه صدى إيجابيا في نفوسهم ز وقد أراد الإخوان أن يجاهدوا في سبيل (تطهير) بيت الله ، ولكي يغنموا الأموال أجرا لجهادهم .
قرر عبدالعزيز أن ينزل ضربته الأولى بالطائف ، قرب مكة . وفي 5 أيلول (سبتمبر) عام 1924 دخل الإخوان الطائف ومكنوا فيها ينتظرون أوامر عبدالعزيز . وكان قوام قوات عبدالعزيز مقاتلون من هجرة الغطغط بأمرة سلطان بن بجاد ومن هجر أخرى لعتيبة وقحطان وقبائل أخرى ، وانضمت إليها قوة من الخرمة بقيادة إبن لؤي . وقد استولى الإخوان على خزين الذخائر العسكرية في الطائف ، واستبيحت المدينة لمدة ثلاثة أيام ، وفر الكثير من أبنائها وسقط المتبقون صرعى بيد الإخوان . وقد روعت الحجاز للأمر ، وفي 22 أيلول (سبتمبر) أصدر عبدالعزيز أمرا حذر فيه بشدة من العودة إلى البطش وقطع عهدا بالحفاظ على أموال أهل الحجاز ودمائهم . وثمة معطيات تفيد بأن أربعمائة رجل وامرأة وطفل قد قتلوا في الطائف . وقد حاول علي بن الحسين تجميع قوات في الهدة ووقف زحف الإخوان على مكة ولكنه منى بهزيمة أخرى في خاتمة المطاف . أصبح وضع الحسين ميؤسا منه ، فاجتمع أعيان الحجاز ، ومنهم أشراف مكة وعلماء الدين وكبار التجار ، في جدة وقرروا خلع الحسين في محاولة لترضية إبن سعود . وبعد أخذ ورد وافق الحسين على التنازل عن العرش لولده علي الذي نص ملكا على الحجاز في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1924 . وشكل وجهاء الحجاز مجلسا (حزبا) وطنيا ، وهو شيء أشبه بالبرلمان ، وصارت الحجاز بمثابة مملكة دستورية . وبعد ثلاثة أيام أرسل الحسين مع أمتعته إلى جدة ، وفي أواسط تشرين الأول (أكتوبر) غادر إلى العقبة ومنها نقله الإنجليز إلى قبرص .
لم تتحقق الآمال المعقودة على ترضية إبن سعود . وبعد برهة قصيرة دنا الإخوان من مكة ، واضطر على الانسحاب إلى جدة على رأس قوة من 400 فرد . وفي أواسط تشرين الأول (أكتوبر) عام 1924 دخل الإخوان مكة وبنادقهم منكسة إلى أسفل . وتجدر الإشارة إلى أن نية عبدالعزيز في التريث وعدم دخول مكة حتى يستبين فعل البريطانيين ، قد صارت طي النسيان بعد إحراز النصر الأول . بيد أن سلطان جدة آثر المكوث في الرياض ، كي يحمل الإخوان مسئولية غزو الحجاز إذا ماتدخل البريطانيون . ورغم نهب الكثير من بيوت أشراف مكة بعد استيلاء الإخوان عليها ، فإن المدينة لم تشهد حمامات دم . نصب الشريف بن لؤي أميرا لمكة وظل إبن بجاد في الطائف .
كان أعيان جدة ومكة يأملون ، بتنصيبهم علي ملكا ، للتخلص من الغزو النجدي ، لأن الكثيرين منهم اعتقدوا بأن خلاف سلطان نجد مع الملك حسين هو سبب المشاكل . غير أن السلطان أراد طرد الأسرة الهاشمية بأسرها من الحجاز ولم يوافق على عقد الصلح بشروط أخرى . حاول أعضاء المجلس الحجازي إجراء المفاوضات ، ولكن إبن سعود أصر على وجوب مغادرة على الحجاز . وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1924 عاد وجهاء الحجاز إلى جدة وطلبوا من على التنازل عن العرش . وبدأت مفاوضات بين أنصار علي وخصومه اضطر أثرها المجلس إلى إعلان حله ، وفي كانون الأول (ديسمبر) 1924 اعتقل الكثير من خصوم علي .
تجدر الإشارة إلى أن معتمدي الدول الأجنبية في جدة بعثوا إلى خالد بن لؤي رسالة يشيرون فيها إلى التزام حكوماتهم بالحياد ويطلبون ضمان حقوق رعاياهم وممتلكاتهم في جدة في حالة استمرار الحرب . ووعد خالد بأن يكفل الإخوان أمن الرعايا الأجانب . وفي أواخر تشرين الأول (أكتوبر) غادر عبدالعزيز الرياض على رأس جيش من خمسة آلاف مقاتل واستغرق طريقه إلى مكة ثلاثة أسابيع ، وبذلك لخشيته من تدخل البريطانيين في النزاع . ولكن حينما وصلت كتب من قناصل الدول الأجنبية تعلن الحياد التام ، أدرك عبدالعزيز أن الحجاز قد وضع تحت تصرفه .
في 5 كانون الأول (ديسمبر) 1924 دخل عبدالعزيز مكة ، وفي الثالث عشر من الشهر ذاته نشرت جردية (أم القرى) الرسمية التي بدأت الصدور بلاغه الذي استعرض فيه برنامجه في الحجاز . وجاء فيه : ( 1- سيكون أكبر همنا تطهير هذه البلاد المقدسة من الأعداء أنفسهم الذين مقتهم العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بما اقترفوه من الآثام في هذه الديار المباركة . 2- سنجعل الأمر في هذه البلاد المقدسة بعد هذا شورى بين المسلمين ، وقد أبرقنا لكافة المسلمين في سائر الأنحاء أن يرسلوا وفودهم لعقد مؤتمر إسلامي عام يقرر شكل الحكومة التي يرونها صالحة لإنفاذ أحكام الله في هذه البلاد المطهرة . 3- إن مصدر التشريع والأحكام لايكون إلا من كتاب الله ، ومما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أو ما أقره علماء الإسلام الإعلام بطريق القياس . 4- كل من كان من العلماء في هذه الديار أو من موظفي الحرم الشريف أو المطوفين ذو راتب معين فهو له على ماكان عليه من قبل ...) .
في فترة مكوث علي في جدة أجرى إبن سعود في كانون الأول (ديسمبر) 1924 انتخابات في مكة الغرض المعلن منها تكوين نوع من الإدارة الذاتية ، ولكن الهدف الحقيقي هو استمالة الوجاء والتجار المحليين . وقد انتخب مجلس شورى قوامه 11 عضوا برئاسة الشيخ عبدالقادر الشيبي وعين حافظ وهبة حاكما مدنيا لمكة . سرعان ما حصل إبن سعود على تأكيد جديد لحياد الدول الأجنبية من قناصلها ، وكان هذا أهم ما يصبر إليه . وعندما ألقت طائرة أرسلها علي بن الحسين مناشير فوق مكة يعلن فيها الملك عن اعتزامه استرداد المدينة ، قرر عبدالعزيز أن أوان العمل قد حان . وفيالخامس من كانون الثاني (يناير) 1925 دنت من جدة قوة إخوانية وبدأ حصار دام زهاء عام . حصن على المدينة وأحاطها بحقول ألغام . ووصل إلى المدينة بضع مجموعات من المسلمين السوريين والفلسطينيين واليمنيين ، جندتهم الأسرة الهاشمية فيما يبدو . ويقدر خير الدين الزركلي تعدا القوات السعودية بـ 5-6 آلاف مقاتل معظمهم من عتيبة وبعض من مطير وكذلك من قبيلتي غامد وزهران الحجازتين . وكان لدى على زهاء 500 مقاتل حجازي وبضع مئات من الفلسطينيين والمصريين واليمنيين والسوريين . وفي المدينة كان هناك 200 بدوي ومايزيد على 300 مقاتل من فلسطين وشرقي الأردن وزهاء 250 يمنيا ، وكان في ينبع حوالي 300 من عتيبة وعقيل ، وبضع مئات أخرى في سائر المناطق . بيد أن الجيش السعودي تناقص في خلال الحصار لأن البدو لايطيقون البقاء أمدا طويلا عند الساحل القائظ .
ولم يحصل على بن الحسين على عون يذكر من العراق وشرقي الأردن ، وفي هذا الخصوص أشار عبدالحميد الخطيب في كتابه (الإمام العادل) إلى أن الإنجليز تصروفا وكأنهم يريدون أن يضمنوا لإبن سعود النصر ز وقد وافق عبدالله أمير شرقي الأردن على أن يتولى الإنجليز نقل أبيه الحسين من العقبة خوفا من غزو قوات إبن سعود بحجة وجوده فيها . وفي آيار (مايو) 1925 وصل الملك السابق إلى السويس حيث كان في استقباله معتمد الحجاز في القاهرة عبدالملك الخطيب وأخوه عبدالحميد الخطيب . وقال لهما الحسين أن الإنجليز هم الذين نفوه وخانوه لرفضه الاعتراف بوعد بلفور وتمسكه بحق العرب في دولة مستقلة . وفي مطلع عام 1925 حاول مندوبون عن جميعة الخلافة الهندية وعدد من القناصل الأجانب التوسط بين علي وعبدالعزيز . وفي شهر نيسان (إبريل) من العام ذاته عقد لقاء بين وزير خارجية حكومة جدة وعبدالعزيز ولكنه لم يسفر عن نتيجة .
في حزيران (يونيو) رفع الحصار عن جدة بسبب القيظ ، وفي آب (أغسطس) توجه علي إلى الإنجليز بطلب آخر يناشدهم فيه التدخل ولكنهم رفضوا . وقد أشار البريطاني جيلبرت كلايتون الأمين العام السابق للحكومة في فلسطين ، في ملاحظة دونها بدفتر مذكراته في أواسط تشرين الأول (أكتوبر) أثناء مروره بجدة ، أشار إلى أن علي كان منهارا معنويا وجسديا . وأعرب كلايتون عن استغرابه من أحجام عبدالعزيز عن الاستيلاء على جدة التي تعاني من الجوع . ويدو أن سلطان نجد أثر التريث حتى تستسلم له المدينة حقنا للدماء . إبان غزو الحجاز وبعد إحكام السيطرة عليه استمرت الغزوات على أراضي العراق . كما عبر الإخوان وادي سرحان ووصلوا إلى الحدود السورية وقطعوا شرقي الأردن عن العراق ، مما جعل الممتلكات البريطانية في الشرق الأوسط عرضة للتقسيم. وبعد أن احتل عبدالعزيز مكة بمباركة غير معلنة من قبل الإنجليز ، أدرك أن عليه وضع حد لمطامعه في الشمال .
كان ذلك عشية عقد اتفاقيات لوكارونو ، في وقت تأزمت إبانه العلاقات البريطانية الفرنسية بسبب قضية الموصل ، واهتزت مواقع بريطانيا بفعل مد حركة التحرر الوطني في فلسطين . لذا لم تشأ بريطانيا التدخل في النزاع بين نجد والحجاز تدخلا صريحا.
في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1925 وصل الكولونيل كلايتون إلى مقر عبدالعزيز في الحجاز . وأظهر إبن سعود ثانية أنه سياسي مرن ووافق على إعطاء تنازلات في الشمال مقابل اعتراف بريطانيا الفعلي بضمه الحجاز . وتمخضت المفاوضات عن اتفاقيتي بحرة وحدة اللتين وقعتا في 1 و 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1925 . وتخص الاتفاقية الأولى العراق ونجد وهي تنص على أن غزو العشائر القاطنة في أراضي أي من الدولتين على أراضي الدولة الأخرى يعتبر اعتداء يستلزم عقاب مرتكبيه من قبل الحكومة التابعة لها . ونصت الاتفاقية على تأليف محكمة خاصة من ممثلي الحكومتين للنظر في تفاصيل أي تعد يقع من وراء حدود الدولتين . كما أشارت الاتفاقية إلى أن من حق العشيرة عبور الحدود لرعي الماشية بعد استحصال رخصة بذلك . أما اتفاقية حدة فقد ثبتت للمرة الأولى عمليا الحدود بين نجد وشرقي الأردن ، وتنازل بموجبهاسلطان نجد لشرقي الأردن عن الممر الذي يربطه بالعراق . وتضمنت اتفاقية حدة نصوصا مماثلة لاتفاقية بحرة حول غزو الأراضي وتأليف محكمة للنظر في الدعاوي الدينية على أراضي البلد الآخر . ومن الواضح أن هذا البند له علاقة بالتبشير بالدعوة الإخوانية .
وهكذا أقيمت الحدود مع الكويت والعراق ومع شرقي الأردن فعليا ، رغم أن نزاعات الحدود استفحلت بعد برهة وجيزة . حينما بلغ ملك الحجاز نبأ اتفاقيتي بحرة وحدة ، بينما رفض كلايتون مساندته ، أدرك أن أيام حكمه معدودة . وقرر علي بن الحسين الاستسلام بعد تيقنه من أن أخويه في العراق والأردن حريصان على الاحتفاظ بعرشيهما أكثر من حرصهما على مؤازرته . وفي 16 كانون الأول (ديسمبر) أوفد على القنصل البريطاني للتباحث في شروط الاستسلام مع إبن سعود ، وقد استسلمت جدة في 22 من الشهر وغادرها علي بن الحسين ، وفي اليوم التالي دخل عبدالعزيز المدينة .
في مطلع شباط (فبراير) 1925 ، حينما كان حصار جدة في أوله ، أرسل عبدالعزيز قوة من الإخوان بأمرة فيصل الدويش إلى المدينة ، ولكن السلطان حذر بشدة من دخول المدينة بدون إذن منه ، خوفا من تعرض قبر النبي للأذى . وعندما لم يعد سكان المدينة قادرين على الصمود للحصار كتبوا إلى عبدالعزيز يعربون عن موافقتهم على تسليم المدينة ولكن لأحد أنجاله وليس للإخوان ، فأرسل عبدالعزيز إبنه محمد إلى هناك في تشرين الأول (أكتوبر) . وفي هذه الأثناء استلم أهالي المدينة برقية من علي تعد بالنجدة ، فأجلوا الاستسلام . وفي الشهر التالي أصبح وضع المدينة حرجا ولم يبق أمل في النجدة ، فقرر أعيانها الاستسلام ، وفي 6 كانون الأول (ديسمبر) 1925 دخل محمد المدينة وصل المسجد النبوي .
عشية سقوط جدة أبلغ إشراف مكة وعلماؤها وأعيان جدة عبدالعزيز عن استعدادهم لمبايعته ملكا على الحجاز . وفي 11 كانون الأول (ديسمبر) 1925 اجتمع الناس عند باب الصفا من المسجد الحرام بمكة وتلي نص البيعة ، وأطلقت المدفعي مئة طلقة . وتقبل عبدالعزيز البيعة من أشراف مكة ثم الوجهاء والأعيان وأركان المحكمة الشرعية فالأئمة والخطباء وأعضاء المجلس البلدي ، ثم أهل المدينة ، ثم المطوفون والزمازمة وسدنة وخدم الكعبة ، ثم سائر أهل المدينة ومكة . وأصبح عبدالعزيز يعرف بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها .
وفي 16 شباط (فبراير) 1926 اعترف الاتحاد السوفيتي رسميا بحكومة الحجاز . وسلمت مذكرة إلى إبن سعود جاء فيها (...إن حكومة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية ، انطلاقا من مبدأ تقريب الشعوب لمصيرها ، ونظرا لاحترامها العميق لإرادة شعب الحجاز المعبر عنها في مبايعتكم ملكا ، تعتف بكم ملكا للحجاز وسلطانا لنجد وملحقاتها . وفي ضوء ذلك تعتبر الحكومة السوفييتية نفسها في حالة علاقات دبلوماسية طبيعية مع حكومة جلالتكم) .
وأعرب الملك في مذكرة جوابية عن الشكر والاستعداد التام لمعاملة الحكومة السوفييتية ورعاياها بما يليق بالدولة الصديقة .
وأعقب اعتراف الاتحاد السوفييتي بإبن سعود اعتراف دول أخرى .
بايع وجهاء الحجاز سلطان نجد وهم يخشون تسلط (بدو نجد) على الحجاز الأكثر تطورا ، فحاولوا الاحتفاظ بحقوق واسعة . وقد شكل 56 من ممثلي الأرستقراطية المحلية والعلماء والتجار (مجلسا تأسيسيا) قرر أن الحجاز يجب أن يظل مستقلا عن نجد في الشئون الخارجية والداخلية ولا يجمع بين مملكتي الحجاز ونجد إلا شخص الملك ، وتشكل في الحجاز حكومة إسلامية ويشرع دستور يستمد أحكامه من القرآن والسنة . واقترح (المجلس التأسيسي) صياغة أشكال البناء الداخلي والأحكام الإدارية وفقا للظروف المحلية . وخشي بعض الحجازيين من أن يكون إبن سعود مازال واقعا تحت تأثير المعاهدة المعقودة مع بريطانيا عام 1915 والتي تجعله تحت الحماية البريطانية ، الأمر الذي يتناقض مع توقهم إلى الاستقلال . وحاول وجهاء الحجاز تحديد سلطة الملك ن غير أن تناسب القوى كان لصالح إبن سعود . وفي عام 1926 شكلت ، وفق مرسوم ملكي ، المجالس الاستشارية في مكة والمدينة وجدة وينبع والطائف ، وصار لها فيما بعد طابع بلدي ، ومن ثم شكل مجلس شوري يضم 13 شخصا .
كانت الخطوة التالية تتمثل في الحصول على اعتراف بسلطة إبن سعود على الحجاز من لدن الدولة الإسلامية ، وإن كانت هذه المسألة وقت ليس إلا . وبعد استيلاء النجديين على الحجاز وصلت إلى نجد بعثة إسلامية من الهند طالبت بأن تتولى الإشراف على الأماكن المقدسة لجنة تمثل جميع البلدان الإسلامية . مكنت البعثة فترة قصيرة ولم يصق إبن سعود صبرا فهيأ باخرة تنقلها إلى الهند . عام 1926 فرر إبن سعود الدعوة لمؤتمر إسلامي ينعقد في شهر حزيران (يونيو) بعد أداء فريضة الحج ، لكي يضفي المزيد من الشرعية على توليه الحجاز . ووجه ملك الحجاز الجديد رسائل إلى عاهل مصر وأفغانستان وإلى الرئيس التركي وشاه إيران وملك العراق وأمير جمهورية الريف وإمام اليمن يحيى وسائل الحكومات الإسلامية ، وإلى رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس ورئيس جمعية الخلافة في بومباي ، يعاهدهم فيها بأنه سيرعى الأماكن المقدسة ويعمل على تهيئة ظروف أفضل للحجاج .
اجتمع في المؤتمر الإسلامي بمكة 69 مندوبا عن المنظمات الإسلامية في الهند ومصر والاتحاد السوفييتي وجاوا وفلسطين ولبنان وسورية وأفغانستان واليمن ومصر وغيرها . ولم يبقى عبدالعزيز لدى المؤتمرين شكا في أنه سيد الحجاز ولن يسمح بالتدخل في شئونه . وقد استاء البعض وغادروا المؤتمر ولكنهم لم يتمكنوا ، بطبيعة الحال ، من تغيير شيء . أما المتبقون فقد أقروا بالأمر الواقع . وقد أدلى المفتي رضا الدين سحر الدينوف رئيس وفد مسلمي روسيا وتركستان ، رئيس الدائرة الدينية المركزية للمسلمين ، بتصريح لمراسل وكالة تاس تحدث فيه عن اعتراف المؤتمرين بإبن سعود (جاميا للحرمين) . ودعا المؤتمرون إلى إعادة العقبة ومعان إلى الحجاز ن وبذا أيدوا عمليا الملك الجديد . لقد أصبح النقاش حول تولي حماية البقاع المقدسة أمرا عقيما بفعل عوامل عديدة تتمثل في انتصار القوات النجدية وموقف الحياد والتغاضي من قبل بريطانيا التي اختارت أهون الشرين أثناء غزو إبن سعود للحجاز وضحت بالحسين ، والسياسة الذكية للملك الجديد الذي جمع بين التشدد والمرونة .
جاء في رسالة صادرة عن القنصلية العامة السوفييتية في جدة عام 1929 : ( أن الاستيلاء على الحجاز وعائداته من الحج والجمارك وما شاكلها (العائد السنوي من الحج وحده يصل إلى مليوني جنيه استرليني) يتيح لإبن سعود إمكانية استثمار كل هذه الموارد الضخمة للحصول على منفعة سياسية كبيرة في نجد (إعانة المستوطنيني الجدد ودفع مخصصات لشيوخ العشائر البدوية) ... والتجار الذين يمثلون القوة الرئيسية في الحجاز يميلون إلى الإمبراطولية البريطانية ويدعون إلى الاتفاق مع الإنجليز . البدو مستأوون : فهم يدفعون زكاة مقدارها 2.5 بالمائة ، والغزوات ممنوعة ، وحرمهم استيراد السيارات من مداخيلهم ، وليس ثمة إعانات من السلطان ، كما أن الاستياء سائد في أوساط المطوفين الذين كانوا ينهبون الحجاج ، لأن الدولة تنظم الحج وتستولي على عوائده) . أحدق بعبدالعزيز الخطر ، ولكنه لم يكن خطرا خارجيا ، بل داخليا مصدره الإخوان إياهم الذين ألحقوا الحجاز بممتلكات السلطان .