تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الثاني

من معرفة المصادر

الفصل الثاني: محمد بن عبدالوهاب ومذهبه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حياة مؤسس الوهابية قبل بدء نشاطه السياسي

كتبت (مجلة المنوعات الأدبية) الروسية في عام 1805 تقول : (قبل حوالي نصف قرن أسس هذه الطائفة – المقصود الوهابية – شيخ عربي اسمه محمد . ويؤكد الوهابيون أنه ابن عبدالوهاب بن سليمان . وتقول رواية قديمة أن سليمان هذا ، وهو أعرابي فقير من قبيلة نجدية صغيرة ، قد رأى في المنام أن لهبا اندلع من بدنه وانتشر في البراري على مسافات بعيدة ملتهما في طريقه الخيام في البوادي والمنازل في المدن . ارتعب سليمان من هذا لاحلم وطلب له تفسيرا من شيوخ قبيلته الذين اعتبروه بشير خير ، واخبروه بأن ابنه سيكون مؤسسا لمذهب جديد يعتنقه أعراب البادية وأن هؤلاء الأعراب سيخضعون سكان المدن . وقد تحقق هذا الحلم ليس بشخص ابن سليمان عبدالوهاب . بل بشخص حفيده الشيخ محمد) . هذه الرواية تجسد جيدا نفخ تلك الحقبة ، مع أن جفاف الوقائع التاريخية يخلع عما كتبته المجلة هالة الغيبية .

ولد مؤسس التيار الديني والاجتماعي والسياسي الذي يسمى بالوهابية في الجزيرة العربية عام 1703/1704 في عائلة دينية في العيينة . كان والده عبدالوهاب بن سليمان قاضيا شرعيا . وكان هو المعلم الأول لإبنه . وكان أخوه سليمان بن عبدالوهاب قد ذكر للمؤرخ ابن غنام أن مؤسس الطائفة الإسلامية الجديدة المرتقب قد كشف في طفولته عن مواهب كبيرة وحفظ القرآن قبل أن يبلغ العاشرة من العمر . واطلع الصبي على تفسير القرآن والحديث وسيرة النبي . وفي الثانية عشرة بلغ محمد سن الرشد فزوجه أبوه .

وبعد الزواج أدى فريضة الحج بموافقة أبيه . وفيما بعد قضى شهرين في المدينة المنورة ثم عاد إلى أهله . وطاف كثيرا في الأقطار المجاورة وزار الحجاز والبصرة مرارا ثم عاش في الإحساء . وتعلم في المدينة على يد شخص يدعى عبدالله بن ابراهيم بن سيف ، وهو من وجهاء واحة المجمعة في سدير . وتحدث الشيخ محمد بن عبدالوهاب كفيما بعد قائلا : (كانت عنده يوما فقال لي : تريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة ؟ قلت : نعم . فأدخلني منزلا عنده فيه كتب كثيرة . وقال : هذا الذي أعددنا لها ...) . ولمح ابن عبدالوهاب بذلك إلى أن معلمه في المدينة كان يعد (سلاحا فكريا) فمحاربة المعتقدات السائدة في واحته . وعندما كان ابن عدبالوهاب في البصرة دعا إلى العودة إلى أصول التوحيد الحقيقي في الإسلام . (وتجمع عليه أناس في البصرة من رؤسائه وغيرهم فآذوه أشد الأذى وأخرجوه منها) . وفي الطريق من البصرة إلى الزبير كاد يموت عطشا ، إلا أن أحد سكان الزبير أنقذه .

وبعد ذلك عاش ابن عبدالوهاب بعض الوقت في الإحساء عند العالم الديني عبدالله بن عبداللطيف . ثم توجه إلى واحة حريملا في نجد . وفي عام 1726/1727 انتقل إلى هذه الواحة أبوه عبدالوهاب بسبب خلافه مع حاكم العيينة الجديد الذي استولى على السلطة بعد وفاة الأمير السابق حامي العلماء . وفي حريملا أخذ محمد بن عبدالوهاب يبشر بأفكاره بنشاط جديد ، حتى أنه كان يتجادل مع أبيه . وأمضى في هذه الواحة عدة سنوات ، وفي هذه الفترة ألف (كتاب التوحيد) . ويقول ابن غنام عنه : (اشتهر حاله في جميع بلدان العارض في ... العيينة والدرعية ومنفوحة ... وكان الناس عند ذلك حزبين وانقسموا فيه فريقين فريق أحبه وما دعا إليه فعاهده على ذلك وبايعه وحذا حذوه وتابعه وفريق أنكر ذلك عليه) .

وفي عام 1740/1741 توفي عبدالوهاب فصار محمد ، على ما يبدو ، قاضيا يدل أبيه . وكانت حريملا آنذاك مقسمة بين فخذين ربما كانا مستقلين عن بعضهما البعض . وأثارت دعوة محمد بن عبدالوهاب تذمر بعض سكان الواحة . ويقول ابن بشر : (وكان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين يقال لهم الحميان كثير تعديهم وفسقهم ، فأراد الشيخ أن يمنعوا عن الفسا وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه بالليل سرا) . ونجا ابن عبدالوهاب بالصدفة واضطر على الفرار إلى العيينة . وكتب المستشرقون الأوروبيون عن رحلات ابن عبدالوهاب إلى بغداد وبعض المدن الإيرانية ودمشق . وانعكست هذه المعلومات كذلك في (دائرة المعارف الإسلامية) . وفي عام 1933 كتب المستشرق المعروف مارغوليوث عن هذه الرحلات في مقالة بعنوان (الوهابية) اعتمد فيها على مصنف (لمع الشهاب) .

ويفيد (لمع الشهاب) أن ابن عبدالوهاب توجه في رحلته وهو في السابعة والثلاثين من العمر . أمضى ست سنوات قتريبا في البصرة ، وخمس سنوات في بغداد وحوالي السنة في كردستان وسنتين في همدان (إيران) . وفي بداية عهد نادر شاه انتقل إلى أصفهان حيث أمضى سبع سنوات ، وعاش في قم ومدن إيرانية أخرى ، وقضى ستة أشهر في حلب وسنة في دمشق وبعض الوقت في القدس وسنتين في القاهرة ، ثم وصل إلى مكة وعاد إلى نجد ، وأمضى سنة ونصفا أو سنتين في اليمامة ، وفي سنة 1150 هجرية (1737/1738 ميلادية) استقر في العيينة . وتوفي فس ينة 1212 (1797/1798) كما يقول صاحب (لمع الشهاب) . ويؤكد مؤلف هذا الكتاب أن محمد بن عبدالوهاب كان يغير اسمه طوال الوقت . ففي البصرة اسمه عبدالله ، وفي بغداد أحمد وفي كردستان محمد وفي همدان يوسف . وتبين عملية جمع بسيطة أن ابن عبدالوهاب ، كما يقول صاحب (لمع الشهاب) ، كان يجب أن يقضي في أصفهان وقم وحلب ودمشق والقدس والقاهرة ما لا يقل عن 11-12 عاما . وهذا يجعل عودته إلى نجد تتم في أواخر الأربعينيات ، الأمر الذي يتعارض حتى مع التاريخ الوارد في (لمع الشهاب) بعد سطرين من ذلك .

وينسب مؤرخو الوهابية ومنجين عودة ابن عبدالوهاب إلى نجد إلى الثلاثينات . ويؤكد أخبارهم كذلك المؤرخ الحجازي في القرن التاسع عشر ابن زيني دحلان . فقد كتب أن ابن عبدالوهاب بدأ يبشر بمذهبه في نجد عام 1730/1731 . وغدت مصنفات الوهابيين معروفة لدى أغلبية المستشرقين الأوروبيين على أثر صدور (دائرة المعارف الإسلامية) . ونجد في طبعتها الجديدة مقالة أ. لياوست المكرسة لمحمد بن عبدالوهاب والمعتمدة على ابن غنام وابن بشر .

إن الزعم بأن محمد بن عبدالوهاب صار حنبليا أثناء رحلاته ، لاسيما في قم التي هي أحد مراكز الشيعة ، لايصمد للنقد ، وذلك على الأقل لأن أغلب علماء واحات نجد ، ومنهم أسلاف ابن عبدالوهاب كانوا حنبليين . زد على ذلك أن مؤلفاته ليس فيها مايدل على اطلاعه على أرسطو ولا على دراسة الصوفية . كان مؤلف مخطوطة (لمع الشهاب) من خصوم الوهابيين . ولذلك يمكن الافتراض بأنه لم يكن قد حضر مجالس محمد بن عبدالوهاب وإن كان معاصرا له ، وإن معلوماته عن حياته ليست من مصدرها الأول .

إلا أن ماكتبه مؤرخو نجد عن مكوث محمد بن عبدالوهاب في جنوب العراق وشرقي الجزير شحيح جدا . ولايستبعد أن العالم الديني الشاب النشيط النابه استطاع أن يصل مع القوافل إلى بغداد وإلى المدن الإيرانية القريبة وإلى الشام . وقد كتب عن هذه الإمكانية ، مثلا ، المؤرخ الدقيق للدولة السعودية الأولى منير العجلاني .

وقد أثرت رحلات محمد بن عبدالوهاب الطويلة وإقباله ومنابرته على دراسة الفقه تأثيرا حاسما على تكوين مذهبه . فقد تهيأت له إمكانية الإطلاع على المذاهب والمعتقدات الدينية في الجزيرة والبلدان المجاورة وتحديد موقفه منها ودراسة العلوم الدينية وتفسير القرآن والحديث وشروحه وجمع الحجج اللازمة لوضع مذهبه . وأخذ هذا المذهب يعبر عن خط معين في تطور الإسلام بالاستناد إلى الظروف الملموسة للحياة الاجتماعية والسياسية والروحية في الشرقين الأدنى والأوسط عموما وفي وسط الجزيرة العربية خصوصا .


السنة والبدع في تاريخ الإسلام

كان الدين في القرون الوسطى هو الشكل السائد للمعتقدات الأيديولوجية . وكانت التيارات السياسية والاجتماعية تتخذ أشكالا دينية أو تتستر بزي ديني . وكان البحث عن أشكال أيديولوجية جديدة ولبوس أيديولوجي جديد للتعبير عن المضمون الاجتماعي الجديد قضية معقدة وطويلة الأمد وغير محمودة العاقبة . وكان ذلك يحدث عادة مع أكبر الانقلابات التاريخية فقط . فالحركات الاجتماعية والسياسية الصغيرة كانت مضطرة إلى الاكتفاء بالأزياء الأيديولوجية القديمة . وغالبا ماكانت تستخدم المذاهب الدينية السائدة . وهذا أمر يلازم تاريخ الإفطار الإسلامية بقدر أكبر مما يلازم تاريخ البلدان المسيحية .

ظهر الإسلام في المجتمع الحجازي في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي ، وقد جسد ، فيما جسد ، التمايز الاجتماعي البدائي ولاعلاقات الطبقية الناشئة هناك . ولم يستطع النظام الديني للعرب المتجلي في القرآن وحده في بادئ الأمر أن يلبي بالكامل متطلبات المجتمع الأكثر تطورا في البلدان الأخرى التي فتحوها . ودعت الحاجة إلى إضفاء طابع على الإسلام يستجيب بقدر أكبر لذلك المجتمع الإقطاعي ولمصالح طبقته الحاكمة . وهذا هو منشأ الكثير من الأحاديث عن سيرة النبي ونشاطه . وغدت تلك الأحاديث بمثابة مجموعة قوانين السلوك والأراء المعتمدة على سلوك وآراء الرسول لكافة أحوال الحياة . وأطلق على هذه القوانين اسم (السنة) .

وانتهى وضع الأحاديث على وجه التقريب في مطلع القرن العاشر الميلادي ، أي بعد حوالي ثلاثمائة عام من ظهور الإسلام . كان عدد الأحاديث ضخما جدا . وهي حتى بالشكل الذي جمعت فيه وأقرت حسب الأصول الإسلامية تتضمن الكثير من الغموض والمتناقضات . وحتى الأحاديث الواحضة كانت تفسر بأشكال مختلفة لصالح مختلف الفئات والجماعات ، وبموجب ظروف المكان والزمان . وفيما بعد أخذ كل تيار ديني يجد لنفسه أحاديث تبرر توجهاته . واستخدم تفسير القرآن على هذا النحو أيضا . ولذا يمكن بخصوص تطور الفقه تكرار ماقاله الباحث المجري أ. غولدزيهير : ( أن تاريخ الدين ... هو في الوقت ذاته تاريخ تفسير التنزيل) .

وتجسدت في السنة التقاليد الثابتة . إلا أن تغير ظروف الحياة استوجب تغيير العادات وتغيير التقاليد على أثرها . ويجري تكيف الإسلام للوقاع المتغير عن طريق تبريك التقاليد الجديدة وإثبات مطابقتها للسنة . ويتحقق ذلك بواسطة إجماع الفقهاء أو بواسطة القياسي . أما المستجدات التي لم يرد ذكرها في الأحاديث الصحاح فتنعت بالبدع . وتبقى البدعة على طرفي نقيض مع السنة مالم يتم الإجماع عليها . وتعني البدعة رأيا أو شيءا أو عملا لم يكن معروفا في السابق أو لم تجر العادة على ممارسته .

وهذكا كان تبريك البدعة وتحويلها إلى حديث هو جوابا لدين الإسلامي على تغير الحياة الاجتماعية والاقتصادية وهو رد فعل الإسملا على الواقع المحيط به وتكيفه لمتطلبات المكان والزمان . وفيما يخص مسألة فهم السنة ، والموقف من البدع بالأساس ، نشأت في الأصولية الإسلامية (السنية) أربعة مذاهب ، وأكثرها مرونة بهذ الخصوص المذهب الحنفي وأكثرها تشددا الحنبلي الذي رفض البدع رفضا باتا . وتعتقد الحنبلية أن ماينص عليه القرآن والسنة فقط ، وبالشكل الذي ينصان عليه فقط ، هو لاشرعي من وجهة نظر الممارسة الدينية . بديهي أن الحنبلية تتناول طائفة واسعة من المسائل داخل الإسلام ، وإن اختلافها مع المذاهب الأخرى يشمل ميادين متفرقة ، إلا أن مايميزها هو رفض البدع .

ولكن من الصعب جدا البقاء على هذه المواقف المتشددة التي ترفض كليا إمكانية تكيف الإسلام لمتطلبات الحياة . ولذا اضطرت الوهابية فيما بعد (وهي ، كما سنرى ، شكل متطرف للحنبلية) إلى استحسان الإذاعة والتلفزيون والتلفون وقوانين العمل والضمان الاجتماعي ، بيد أن رفض البدع حول الحنبلية مع ذلك إلى المذهب الأكثر تشددا من المذاهب الإسلامية ، مما أدى إلى ذيق انتشاره . وظل الحنبليون المتشددون يشكلون طائفة صغيرة في مواجهة المذاهب الإسلامية الأخرى لأنهم انطلقوا من مواقف الأصولية المتناهية . في حين كانت تعاليم الطائفية والشرك بمثابة النوافذ التي يتسرب منها التذمر . ولايندر أن تنضوي حركات المظلومين تحت راية معتقدات الطوائف .

وكان من البدع التي دخلت الإسلام تقديس الأولياء . وإذا كان الرومان يدرجون في عداد آلهتهم آلهة المناطق التي يلحقونها بإمبراطوريتهم من أجل تقوية التأثير الأيديولوجي على المؤمنين في تلك المناطق ، فإن المسيحية سلكت لهذا الغرض طريق عبادة الأولياء المحليين . وحل محل عبادة الآلهة المحليين تقديس القديسين المسيحيين الذي تشبع بالعبادات السابقة بعد تغييرها بالشكل المناسب . وسار الإسلام على طريق مماثل . فإن تقديس الأولياء في الإسلام ذو أصل محلي جاهلي بالأساس . ولكن الأولياء وأنصار النبي وأبرز الفقهاء أزالوا أصنام الجاهلية والقديسين المسيحيين وحلوا محلهم . وبعد أن تشرب الإسلام بتلك العبادات غدا دينا شاملا عزيزا على جماعات واسعة في مختلف المناطق والأصقاع .

وكان انتشار تقديس الأولياء يرتبط ارتباطا وثيقا بنشاط متصوفي الإسلام . فقد نسبوا إلى الأولياء القدرة على اجتراح المعجزات مجتذبين جماهير المؤمنين . وقال المتصوفة أن بلوغ الحقيقة الإلهية غير ممكن إلا بالحدس والإشراق الذي يتحقق بمختلف الوسائل . والإنسان يلتزم بالتقشف كي يندمج بالخالق . وأبدى المتصوفة ، وخصوصا في الفترة المبكرة ، ازدراء باعتبارات المجتمع الإقطاعي واستهانوا بالشعائر الإسلامية المقننة .

في القرن الحادي عشر أدخل الغزالي ، الذي هو بمثابة توماس الإكويني في المسيحية بعض عناصر التصوف إلى الأصولية الإسلامية ، ومنها الحب الغيبي للخالق . وفي الوقت ذاته أدرج الغزالي في الإسلام بعض الأفكار العقلانية التي قال بها الأشعري فقيه القرن العاشر الميلادي . وهذكا نشأ بالخطوط العريضة مذهب سني شامل يضم ليس فقط الجانب الديني الشعائري ، بل وكذلك الفلسفة والقانون والشريعة ، والمبادئ السياسية والأصول المعيشية وآداب السلوك .

وكان من ممثلي الاتجاه المتطرف في الحنبلية الفقيه الشامي تقي الدين بن تيمية (القرن الرابع عشر) . وهو من أهم الشخصيات وأكثرها تناقضا في الفقه والفكر الفلسفي الإسلامي . ففي الفقه كان في خطبه ومؤلفاته ينادي بتغيير أشكال الأصولية الإسلامية القائمة آنذاك ويضع السنة والبدع على طرفي نقيض بشكل قاطع . وقد عارض كل البدع التي تبتعد عن أصول الإسلام في النظرية والتطبيق . كما عارض ابن تيمية إدراج آراء العشريين الفلسفية في الإسلام ، وعارض المتصوفة كما رفض تقديس الأولياء والرسول . وشجب زيارة قبر الرسول في المدينة المنورة قائلا بأنها لاتطابق الإسلام ، مع أنها صارت تعتبر من سنين طويلة عملا متمما لحج بيت الله .

ورفض ابن تيمية آراء العلماء الذين استخدموا الإجماع ليضفوا طابعا شرعيا على مثل هذا التقديس . واستند إلى السنة وحدها . وصار عماد الدين الحنيف ، الغزالي ، هدفا للحنبليين (الجدد) من أتباع ابن تيمية . وكان من شدة تطرف ابن تيمية أنه اختلف بعض المسائل حتى مع الحنبليين .

ولم يحظ هذا الفقيه الشامي بالاعتراف في حينه ، فقد كانوا يجرجرونه من محكمة دينية إلى أخرى حتى مات في السجن عام 1328 بعد أن ترك حوالي 500 مؤلف . وكانت جماعة صغيرة من أتباعه ، وأولهم وأبرزهم ابن القيم ، قد أحاطت اسمه بهالة من التقديس . ويقول غولدزيهير (إن تأثيرة فيما بعد استمر بصورة خفية طوال أربعة قرون . وكانت مؤلفاته موضع بحث دقيق وقد لعبت في الأوساط الإسلامية دور القوة الصامتة التي تفجر العداء للبدع من حين لآخر) .

الإسلام في الإمبراطورية العثمانية

أصبحت الحنفية المذهب الرسمي للإسلام في الإمبراطورية النعمانية . وهي أكثر المذاهب الأربعة مرونة . مع أن المذاهب الأخرى كانت تحظى بالاعتراف . وتعود الصياغة النهائية للنظام الديني هنا إلى القرنين الخامس عشر واسادس عشر . واتخذ السلطان العثماني لنفسه لقب خليفة المسلمين ليعزز مكانته بذلك . كان علماء الدين من أكثر جماعات السكان نفوذا في الإمبراطورة . وكان على رأس علماء الدين هناك مفتي الاستانة شيخ الإسلام الذي يضاهي منصبه منصب الوزير الأول . ويأتي بعده قاضيان ثم سائر علماء الدين الكبار . وحاوةل الباب العالي أن يشرف على العلماء عن طريق المصادقة على تعيين القضاء المحليين الذي يمارسون الرقابة على الشئون الحقوقية والإدارية والمحتسبين الذين يتابعون التزام المؤمنين بمبادئ الأخلاق ويراقبون المنظمات الحرفية للصناع والتجار .

وكان الانحلال العام في الإمبراطورية العثمانية قد أصاب علماء الدين المسلمين أيضا . فإن فساد العلماء وجشعهم وظلمهم قد ألب السكان عليهم . وكان شيوخ المتصوفة الذين تخلوا في القرن الثامن عشر عن الكثير من مواقفهم المعارضة للسنة قد اقتسموا الجاه والمال مع علماء الدين في الإمبراطورية العثمانية في القرن المذكور . وغطت الإمبراطورية شبكة من جماعات الدراويش المتصوفة . وازداد عدد الدراويش كثيرا آنذاك . وارتبط بجماعاتهم كثير من المنظمات الحرفية والمهنية وسكان بعض الأماكن . فقد اشتهرت على نطاق واسع ، مثلا ، صلات جماعة الدراويش البكتاشيين مع الإنكشارية .

وكان المتصوفة لا يزالون كالسابق يعلقون أهمية استثنائية على تقديس الأولياء الذين يضمون عندهم ، كل الأنبياء من آدم حتى محمد وكثيرا من الصوفيين المشهورين . وكان هناك أولياء على قيد الحياة . وأيد علماء الدين السنة كذلك تقديس الأولياء ، وكل من عارض ذلك كان يجازف بالوقوع ضحية في أيدي المتعصبين . وكان المتصوفة ينشدون الأغاني ويعزفون على الآلات الموسيقية . وكان بعضهم يتعاطى المشروبات الكحولية ويدخن السجائر والمخدرات . كما كانوا يمارسون علم التنجيم والسحر وقراءة الفأل .

كانت للجزيرة العربية علاقات واسعة في ميدان الفكر والثقافة ، فضلا عن العلاقات الاقتصادية والسياسية ، مع البلدان الأكثر تطورا في الشرقين الأدنى والأوسط . ومع ذلك فإن بعض العزلة لهذه الجزيرة الشاسعة وخصائص نظامها الاجتماعي قد ولدت الكثير من الأشكال الخاصة للحياة الروحية هناك .

المعتقدات والعبادات في الجزيرة العربية قبل ظهور الوهابية

مما يثير الانتباه انتشار الحنبلية في واحات نجد ، وكان ذلك ظاهرة فريدة بالنسبة للعالم الإسلامي . وعندما يذكر مؤرخو الوهابية وفاة الأشخاص المشهورين في عصرهم . لاينسون العلماء الحنبليين . فما هي أسباب بقاء الحنبلية في هذه الأرجاء ؟

إن وسط الجزيرة المعزول بحكم طائفة من الملابسات عن المناطق الأخرى الأكثر تطورا في الشرق الأوسط لم يبتعد كثيرا عن مستوى النظام الاجتماعي الذي كان قد بلغه الحجاز في فجر الإسلام ، أي مستوى المجتمع الاستغلالي البدائي لدرجة كبيرة .

وفي العقائد الإسلامية المبكرة التي وضعت في القرون الأولى لنشوء الإسلام كثير من الأشكال الفكرية للعلاقات الاجتماعية للحجاز في فجر الإسلام ، ومن أعراف وعادات مكة والمدينة التي باركتها الأحادين . ولما كانت الحنبلية تعترف من حيث المبدأ بالإسلام المبكر فقط فقد كانت على العموم تستجيب لحاجات مجتمع وسط الجزيرة فيا لقرن الثامن عشر .

كان وسط وشرق الجزيرة مهملين دوما من الإمبراطوريات الإسلامية في الشرق الأوسط . وقد حافظا على أصالتهما . ولذا كانت هناك ظروف ملائمة لمختلف تيارات (الزندقة) مثل الخوارج والاباضية . وخلال حقبة طويلة ظلت قائمة في الإحساء دولة القرامطة القوية ذات التركيب الاجتماعي الفريد . أما بخصوص المناطق الأخرى في الجزيرة فإن قسما كبيرا من سكان عمان كانوا ينتمون إلى الطائفة الاباضية ، وفي اليمن كانوا ينتمون إلى الطائفة الزيدية الشيعية المعتدلة . وفي المناطق الشرقية والشمالية الشرقية للجزيرة والمرتبطة مع جنوب العراق ومع إيران كان الكثير من العرب من الشيعة . وفي بعض مناطق اليمن ونجران كان يقطن اليهود . ويقول نيبور أنه يصادف وجود صائبة في الإحساء . إن الأغلبية في مدن وواحات الحجاز تتكون من المسلمين من مختلف المذاهب الأصولية .

وكانت جميع المذاهب الإسلامية في الجزيرة تتعايش بوئام مع عبادة الأولياء المنتشرة على نطاق واسع في الجزيرة كلها ، بل وحتى مع بقايا عبادة الأوتان . وقد ترك لنا ابن غنام وصفا مفصلا لمعتقدات سكان الجزيرة العربية . فقد كتب عن الفترة التي ظهر فيها محمد بن عبدالوهاب يقول : (كان غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس متلطخين بالأنجاس ... فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصاحلين وخلعوا ربقة التوحيد والدين ...) وكانوا يترددون على الأولياء أو على أضرحتهم طالبين منهم عمل الصالحات أو تخليصهم من المصائب والخائبات ، ويرجون ذلك من الأحياء والأموات . وكثير منهم (يعتقد النفع والأضرار في الجمادات كالأحجار والأشجار ... ولعب بعقولهم الشيطان ... وجعلوا لغيره مايجوز صرفه إلى سواء وزادوا على أهل الجاهلية) .

(وكان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم والكل على تلك الأحوال مقيم) . وفي وادي حنيفة كان هناك ضريح زيد بن الخطاب . وكانوا يترددون عليه راجين تخليصهم من المصائب والنكبات . وفي الجبيلة والدرعية كانوا يقدسون قبورا دفن فيها ، كما يقال ، بعض أنصار الرسول . وفي منطقة الفدا كانت تنمو نخلة يأتي إليها الرجال والنساء يطلبون التبريك ويقومون (بأقبح الأفعال) . وتتقاطر على النخلة النساء العانسات وكل منهم تصيح (أريد حلا...) وكان الناس يلتفون حول النخلة ويعلقون عليها الزينة . وعلى مقربة من الدرعية كان هناك غار مقدسي يسمى غار بنت الأمير يتركون فيه الخبز واللحم . ويقال أن بعض الأرجاس أرادوا ذات مرة أن يوقعوا ببنت الأمير ، فاستعانت بالله وانفتح الجبل أمامها عن الغار الذي صار محجة للعباد . وفي الخرج على مقربة من الدرعية ، كان يعيش ولي اسمه تاج . وكانوا يتوجهون إليه طلبا للتبريك ويرجونه تحقيق المعجزات وإزالة الغمة . وكانوا يدفعون له لقاء ذلك . اشتهر الولي بأنه أعمى ولكنه يسير من غير قائد يقوده . وكان الحكام المحليون يخافونه .

وفي مكة يوجد ضريح أبي طالب وقبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وقبر خديجة وغيرها .وكان الرجال والنساء يخاطبون هذه القبور بصيحات عالية طالبين منها العون . وكان الشيء ذاته يجري عند قبر عبدالله بن عباس في الطائف . ويقال أن (قبر حوى) موجود في جدة . وأنشئ هناك معبد يأوى إليه المفلسون والمدينون واللصوص . وحتى الشريف لايستطيع إخراجهم منه . ففي عام 1795/1796 التجأ إلى هذا المعبد تاجر بلغت ديونه 70 ألف ريال ، وبذلك أرغم دائنيه على تأجيل الدفع وكانت القرابين تذبح عند قبور الأولياء . وفي اليمن كانت تجري مواكب يطعن المشاركون فيها أنفسهم بالسكاكين .

وسمع ابن غنام عن عبادة الأولياء خارج الجزيرة أيضا . ففي الشام ومصر الأمثلة على ذلك كثيرة حتى أن المؤرخ لم يذكرها . وأعرب عن استيائه كذلك من عبادة ضريح الإمام علي في العراق . وكتب يقول أن الشيعة كأنما يعتقدون بأن زيارة هذا الضريح أفضل من سبعين حجة . ويذكر ابن غنام الأضرحة والمساجد الكثيرة حول قبور الأولياء في البصرة والساحل الشرقي من الجزيرة العربية والبحرين . وتوجد معطيات تفيد بوجود المتنبين في بعض الأماكن . وقد شجبهم محمد بن عبدالوهاب بحزم . وقال عبدالرحمن بن حسن حفيد محمد بن عبدالوهاب أن الأعراب كانوا آنذاك ينحرون القرابين للجن ويطلبون منها أن تشفيهم من الأمراض . وكتب بلغريف يقول : (قبل ظهور الوهابية كان سكان الجوف (في شمال الجزيرة) ، شأنهم شأن جميع سكان الجزيرة ، قد انهمكوا في عبادة شبه وثنية وراحوا يقدسون الجني المحلي) . وحتى بعد مرور أكثر من مائة عام على ظهور الوهابية كان سكان الجوف ، كما لاحظ بلغريف ، (شأن أغلبية أشقائهم قد استبدلوا من زمان المحمدية بالصنمية المحلية والعبادة شبه السبائية والابتهالات الموجهة إلى الشمس ونحر القرابين للموتى) .

البدو والإسلام

يشير جميع دراسي الجزيرة العربية إلى أن الإسلام يغرس بصعوبة بين البدو . وقد أشار فولني في حينه إلى موقف البدو اللامبالي من الفرائض الإسلامية . (فالبدو القانطون على الحدود مع العثمانيين يتظاهرون بأنهم مسلمون لاعتبارات سياسية ، ولكنهم ضعيفو الإيمان وتدينهم ضعيف إلى درجة يعتبرون معها كفرة ليس لديهم نبي ولاقانون . وهم بأنفسهم يعترفون بأن دين محمد فوق مستواهم . فكيف نقوم بالوضوء إذا كنا لانمتلك ماءا ؟ وكيف نقدم الصدقة إذا كنا لسنا أغنياء ؟ وما حاجتنا إلى الصيام في شهر رمضان إذا كنا صائمين طوال العام ؟ ولماذا نذهب إلى مكة إذا كان الله موجودا في كل مكان ؟) .

ويقول بوركهاردت أن البدو قبل الوهابية غالبا ماكانوا لا يعرفون الإسلام عموما . ويؤكد بلغريف (أن دين محمد لم يحدث طوال 12 قرنا إلا تأثيرا ضعيفا أو لم يحدث أي تأثير بين جماهير البدو الرحل ... وفي الوقت ذاته فإن البدو المحاطين بمسلمين صادقين بل ومتعصبين والمعتمدين عليهم أحيانا كانوا يعتقدون في بعض الأوقات أن من الحكمة القول بأنهم مسلمون) . ويقول مونتان أن البدو الذين يهتدون بالإجرام السماوية في تجوالهم قد ابتدعوا عبادة الشمس والقمر والنجوم . واستنادا إلى مراقبة قبائل شمال الجزيرة استنتج بلغريف (أن الإله بالنسبة للبدو هو زعيم يقيم أساسا ، كما يخيل إلينا ، على الشمس وهم يجسدونه بالشمس بمعنى ما) .

وهذا ما التفت إليه أيضا الرحالة الفنلندي فالين الذي طاف الجزيرة العربية في منتصف القرن التاسع عشر . فقد كتب يقول (إن قبيلة (معزة) ، شأن أغلبية القبائل التي لم ترغم على تبني تعاليم الطائفة الوهابية الإصلاحية في فترة تصاعد سلطتها في الجزيرة ، لاتعرف إطلاقا الدين الذي تعتنقه . وبالكاد أتذكر أني صادفت أحدا من أفراد القبيلة الذين كانوا يؤدون الفرائض الإسلامية أو لديهم أبسط فكرة عن أصول الإسلام وأركانه الأساسية . ويمكن في الوقت ذاته قول العكس بدرجة معينة عن البدو الذين صاروا من الوهابيين أو كانوا منهم في السابق) .

وبعد عدة عقود من رحلات فالين كتب دافليتشين وهو أحد ضباط الأركان العامة في جيش روسيا القيصرية (إن أعراب البادية لايتميزون بالتدين إطلاقا ، وهم يخلطون مع الدين كثيرا من العادات والأساطير الفريدة التي تتعارض تماما مع التعاليم الإسلامية) . وظلت باقية عند البدو عبادة الأجداد . فقد كتب جوسان أن البدو كانوا يقدمون القرابين للأجداد أو لله عن طريق الأجداد . ويجري ذلك بفخفخة كبيرة بعد الانتصار في الغزو . ولايفوت الرولة أية مناسبة لنحر ناقة على قبر جدهم إحياءا لذكراه . ويرتبط بعبادة الأجداد وجود (المركب) عند البدو ، وهو عبارة عن هودج خاص على ظهر الجمل يعتقدون بأنه ملجأ لروح جدهم ، ولذا يقدمون له القرابين . ويجلس فيه الحادي وهو عبد أو غلام ، وأحيانا بنت الشيخ أو أجمل فتاة في القبيلة تستحث المحاربين في القتال .

وهكذا كانت في الجزيرة العربية قبيل ظهور الوهابية طائفة واسعة من المذاهب والاتجاهات الإسلامية ابتداءا من الحنبليين وسائر مذاهب السنة وانتهاءا بالزيدية والشيعة والإباضية . كما انتشرت على نطاق واسع عبادة الأولياء والصالحين ، واختلطت بالإسلام أو حلت محله المعتقدات والعبادات الجاهلية كالسحر والوثنية وعبادة الشمس والأرواح والجمادات وعبادة الأجداد . تلك هي التركة الروحية التي نشأت على أساسها آراء محمد بن عبدالوهاب ، وتلك هي البيئة التي عاش فيها .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التوحيد وشجب عبادة الأولياء هما أساس مذهب الوهابية

إن الطريق الذي قطعه محمد بن عبدالوهاب في تكوين مذهبه يتلخص ، على مانعتقد ، في الدراسة المنابرة منذ الطفولة للفقه الإسلامي والطموح إلى معالجة الدين وتغيير الحياة الاجتماعية طبقا للمثل العليا للإسلام بعد تفسيرها وفهمها بشكل متميز . ويمكن أن تتصور في العالم المحيط به : فقد نسي الناس الإسلام الحقيقي وذلك هو سبب الانحطاط الخلقي العام الذي تنجم عنه المشاكل السياسية والفوضى الاقتصادية والركود والخراب . وبغية إنقاذ العالم الغارق في الآثام لابد من تنقية الدين واستعادة الشكل الذي كان عليه في القرون الثلاثة الأولى من نشوئه .

إن أهم فكرة كانت تدور في بال ابن عبدالوهاب أثناء رحلاته ودراسته للفقه هي التوحيد الذي هو المحور الرئيسي للإسلام . وهو يعتقد بأن التوحيد يعني الاعتقاد بأن الله وحده خالق العالم وسيده الذي يمنحه القوانين . ولا أحد ولا شيء مما خلقه بقادر على الخلق مثله . والله ليس بحاجة إلى معونة من أحد مهما كان عزيزا عليه . والله على كل شيء قدير . وما من أحد غيره يستحق التبجيل والإجلال والتقدير . إلا أن العالم الإسلامي في رأي الوهابيين ابتعد عن مبادئ التوحيد الحقيقي .

وطالما لايجوز (الإشراك بالله) أو إطلاق نعوته على ما خلق فيجب تحديد وضبط الشعائر ، إذ أن البدع لاتجوز فيها أيضا . ويقول الوهابيون : لايجوز تقديم القرابين إلا لوجه الله . ولا يجوز طلب المعونة إلا من عند الله . ولايجوز الاستجارة إلا بالله . فالملائكة والرسل والأولياء والصالحون لايمكن أن يشفعوا للمسلمين أمام الله على آثامهم . ولايجوز تقديم النذور إلا لوجه الله . ولايجوز الإفراط في تبجيل الصالحين وأنصار الرسول والأولياء . ولايجوز بناء الحضرات حول قبورهم ، ولايجوز الإفراط في العناية بقبورهم وتحويل أضرحتها إلى أصنام . يجب احترام الأولياء وتقديرهم ولكن لاتجوز عبادتهم .

وكان للوهابيين موقف خاص من النبي محمد . فقد كانوا يعتبرونه إنسانا من البشر اختاره الله لأداء رسالة النبوة . ولكن لايجوز تأليهه وعبادته ولايجوز طلب شيء منه أو الاستنجاد والاستغاثة به . إلا أنه سيشفع للمسلمين أمام الله في يوم القيامة . ولايجوز عبادة الأماكن المرتبطة بحياة محمد . واعتبر الوهابيون جميع أنواع العبادات والمعتقدات التي تتعارض مع هذه المبادئ (شركا) . ودعا محمد بن عبدالوهاب إلى مكافحة السحر وشعوذة وقراءة الفال مع أنه لم يركز على ذلك . وشجب كذلك بقايا الوثنية مثل التعويذ والرقي والطلاسم .

إن مصدر الإسلام في رأي الوهابيين هو الكتاب والسنة فقط . وكانوا يعترفون بالأئمة الأربعة مؤسسي المذاهب السنية ، وكذلك بشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية وابن القيم . (القرن الرابع عشر) . ولكنهم رفضوا في الواقع نظريات وممارسات جميع الأجيال اللاحقة . وقد خطأ بعض الرحالة والباحثين عندما قالوا بأن الوهابيين يرفضون السنة كلها ولايعترفون إلا بالقرآن وحده . إن (الوهابية) تسمية أطلقها على هذه الحركة خصومها أو الناس من غير أبناء الجزيرة . وقد ترسخت هذه التسمية في مطبوعات المستشرقين . أما أتباع محمد بن عبدالوهاب فكانوا يسمون أنفسهم بالتوحيدين أو المسلمين فقط ن ولايسمون بالوهابيين إطلاقا .

وقد اقتبس الوهابيون تشكيلة حججهم وتهجمهم الشديد على عبادة الأولياء وعلى البدع من ابن تيمية وابن القيم . صحيح أن الوهابيين لم يتعمقوا في القضايا الدينية والفلسفية المعقدة كما فعل ابن تيمية . وأعلنوا أنهم يختلفون مع هذا الفقيه في بعض المسائل الشعائرية والمعيشية الطفيفة . إلا أن مؤلفات ومؤلفات ابن القيم كانت في الواقع ملازمة لهم . وقد استشهد محمد بن عبدالوهاب مرارا بمقتطفات من ابن تيمية وابن القيم . وظلت محفوظة بعض مؤلفات ابن تيمية منسوخة بخط محمد بن عبدالوهاب . واستشهد بفقيهي القرن الرابع عشر كذلك مؤرخ الوهاقيين ابن غنام . وكتب عبدالله ابن محمد بن عبدالوهاب يقول : (وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه (يقصد ابن تيمية) إما ماحق من أهل السنة وكتبها عندنا من أعز الكتب) . لقد بعثت الوهابية في الإسلام النهج المتشدد الذي يرفض كل البدع ويدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة غير المشبوهة .

ومن ناحية الأصول الإسلامية يبدو الوهابيون من أنصار الاستقامة في الدين الحنيف . وهذا هو رأيهم ورأي أغلبية الباحثين الموضوعيين من عرب وغيرهم ، من معاصري حركتهم في بدايتها ومن أبناء الأجيال اللاحقة . ويقول بوركهاردت أن فقهاء القاهرة المعارضين للوهابية عموما قد أعلنوا بانهم لم يعثروا على أثر للزندقة في تعاليمها . ولما كان هذا التصريح قد أدلى به أصحابه على مضض فهو لا يثير الكثير من الشكوك . وبعد أن قرأ العديد من فقهاء القهارة كتابا ألفه محمد بن عبدالوهاب أعلنوا بالإجماع أنه إذا كان هذا هو رأي الوهابيين فإنهم ، أي الفقهاء ، يؤيدون هذه العقيدة دون قيد أو شرط .

وأكد الفقيه الجزائري الناصرين أن معتقدات الوهابيين صائبة تماما . وأشار المؤرخ البصري ابن سند إلى أن الوهابيين هم حنبليو الأزمان السالفة . ويعتقد ل. كورانسيز أن الوهابية هي الإسلام في نقاوته الأولى . وفي العصر الحديث كتب طه حسين يقول أن هذا المذهب ... (ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية) .

إلا أن الوهابيين الأوائل ، كما نعتقد ، طائفيون لأنهم عارضوا المذهب السني بشكله الذي كان سائدا آنذاك وإن كانت معارضتهم منطلقة من مواقع تنقية هذا المذهب . واعتمدوا على ابن تيمية في نضالهم ضد السنة القويمين (وشيخهم الغزالي) . وكان النضال ضد المعتقدات السائدة انطلاقا من النزعة القويمة الأكثر تشددا يتسم بطابع طائفي مثل محاولات تحطيم أو تجديد أو تغيير بعض أسسها . وفي القرن العشرين فقط ، عندما ذابت أو امحت المظاهر المتعصبة جدا في الوهابية فقدت الحركة نفسها شكلها الطائفي المتشدد . وقد انتشر على نطاق واسع في المطبوعات الأوروبية والعربية نعت الوهابيين بالصفاء والنقاوة وبأنهم (بروتستانت الإسلام) .

وكان كورانسيز أول من استخدم هذا النعت وكرره بعده بوركهاردت . وتلك مقارنة للوهابيين بالتيارات الأوروبية في الحركة الإصلاحية في القرون الوسطى حسب سمة شكلية صرف ، أي حسب الطموح الظاهري إلى (تنقية) الدين الأول (الحقيقي) من الشوائب التي علقت به فيما بعد . ومن هذه الناحية فقط يمكن الكلام عن التشابه الخارجي بين ظاهرتين مختلفتين تمام الاختلاف من حيث مضمونها الاجتماعي والسياسي . لقد ظهرت الوهابية في ظل انفصام نفساني خطير وفي ظروف عدم الرضا من حالة الحياة الروحية آنذاك ، وكانت بمثابة رد فعل على الأزمة الروحية في مجتمع الجزيرة العربية ، وخصوصا مجتمع نجد ، الذي كانت تهوم فيه ، ربما بصورة غير واعية ، مطامح تبتغي مثلا عليا جديدة .

ولم يكن محمد بن عبدالوهاب الشخص الوحيد الذي شعر بحاجة إلى تجديد الإسلام في الجزيرة العربية في ذلك العصر . فليس من قبيل الصدفة أن معلمه في المدينة المنورة عبدالله بن ابراهيم بن سيف كان يعد (سلاحا فكريا) لتغيير الدين . وكان فقيه صنعاء محمد بن اسماعيل (توفي عام 1768/1769) قد دافع في مؤلفاته عن الدين الخالص . وعندما سمع بدعوة محمد بن عبدالوهاب ألف قصيدة في مدحه . وكان في اليمن فقيه اسمه محمد المرتضى (توفي عام 1790) وكان يستنكر سلوك الدراويش . وفيما بعد نشط في اليمن فقيه آخر لقبه الشوكاني (توفي عام 1834) . ألف كتبا ووضع شروحا لمؤلفات ابن تيمية . وفي تلك الكتب والشروح رفض زيارة القبور وعبادة الأصنام معتبرا ذلك إشراكا بالله . وربما كانت له صلة بابن عبدالوهاب في نجد .

ولايستبعد أن هذه الأسماء ليست كل مافي قائمة الأشخاص الذين صاروا وهابيين فيما بعد وصاغوا تعاليم الوهابية . وكما هو الحال أثناء الانعطافات الاجتماعية والسياسية الكبيرة الشأن بهذا القدر أو ذاك يظل تعليلها الفكري (معلقا في الهواء) إن صح القول . ووقعت بذور الدعاية الوهابية في تربة كانت ممهدة بهذا القدر أو ذاك لتقبل المذهب الجديد ونمت حيثما توفرت الظروف الأكثر ملاءمة لتحقيق الأفكار الاجتماعية والسياسية التي طرحها الوهابيون .

إن التعاليم الوهابية تتناول بقدر كبير ميدان علم أصول الدين ، ولكن لها من الناحية الاجتماعية والسياسية مضمونا أصيلا لاجدال فيه . ولايغير من جوهر الأمر أن مؤلفات محمد بن عبدالوهاب تتكون بنسبة 90-95% من مقتطفات مأخوذة عن فقهاء القرون الأولى من نشوء الإسلام ومن الأحاديث الصحاح .

المضمون الاجتماعي للوهابية

تتضمن مؤلفات مؤسسي الوهابية أحكاما لا لبس فيها وهي تجسد مصالح الوجهاء وموجهة ضد الفقراء . فالجمهور البسيط يجيب أن يخضع لأصحاب السلطة ، كما يؤكد طبقا لأصول الإسلام . وإن عذاب الجحيم من نصيب كل متمرد على الأمراء . واعتبرت الوهابية دفع الزكاة واجبا وليس مطلبا طوعيا ، وبذلك جعلت الضرائب المركزية المفروضة لاستغلال السكان ، بمن فيهم البدو ، مبدأ دينيا لامناص منه . إن الأشخاص الذين يعتنقون الوهابية لايعفون من واجباتهم إزاء أسيادهم أو دائنيهم . وقال عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب أن خصوم الوهابية يكذبون عندما يزعمون (بأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون) .

وقد قدمت الوهابية نظاما دقيقا جدا للتمويه على القهر والتفاوت الطبقتين ، وهو نظام مقتبس من تقاليد الإسلام التي مر عليها آنذاك أكثر من ألف عام . فقد طالبت الوهابية الأمراء والوجهاء بمعاملة الرعية بالعدل ، أي بتنظيم القهر الطبقي . ودعا الوهابيون إلى العناية بالعبيد والخدم والإجراء . وكانوا يغازلون مشاعر الفقراء بمدح الفقر وذم المجتمع زاعمين بأن الفقير يدخل الجنة بصورة أسهل . ولاحق الوهابيون في التطبيق نشاط المرابين .

وكانت التعاليم الوهابية تدعو إلى الوئام الاجتماعي : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته : فالإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ومسئولة عن رعيتها ، والولد راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) .

وكان ذلك ، وإن بصورة جزئية ، هو هدف تقوية التبشير استخدمت فكرة (الإخوة) بشكل مكيف بعض الشيء في حركة الإخوان . وأكد عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب قائلا : (والعرب أكفاء بعضهم لبعض ، فما أعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر وطلب التعظيم ، وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير) .

بديهي أن المذهب الوهابي ينطوي على طائفة من الأصول الأخلاقية الصالحة لمختلف فئات السكان والمختلطة مع التوجهات الطبقية . فقد أوصت الوهابية الناس بالطيبة والحرص وتنفيذ الرعود التي يقطعونها على أنفسهم وبالصبر والصدق ومساعدة الضرير وعدم ممارسة الإفتراء والنميمة والثرثرة . وأدانت الوهابية البخل والحسد وشهادة الزور والجبن . وحددت الوهابية أدق تفاصيل السلوك البشري . وقدمت النصائح فيما يخص كيفية الضحك والعطاس والتثاؤب والمعانقة والمصافحة والتنكيت وهلمجرا .

ومما لاجدال فيه أن الوهابية كانت بقدر ما تتميز بالسمات الملازمة للحركات الشعبية التعادلية الموجهة ضد الظلم الطبقي المفرط . إلا أن الظلم المنظم يبقى ظلما ، والاستغلال المعتدل يبقى استغلالا مع ذلك . ولم يكن بوسع أية تغييرات سطحية في آلية العلاقات الطبقية التي دعت إليها الوهابية أن تغير من جوهر هذه العلاقات مع أن الفلاحين الذين يتعرضون للاستغلال قبل غيرهم لم يواجهوا ذلك باللامبالاة . فالفلاحون يلتزمون دوما جانب دعاة تخفيف أو (تنظيم) الاستغلال . ولذلك حظي الوهابيون لدرجة كبيرة بتعاطف فلاحي نجد في أواسط القرن الثامن عشر عندما اشتد الظلم الطبقي والاستغلال .

ومع ذلك كان مركز ثقل المذهب الوهابي متواجدا في الميدان السياسي أكثر مما في الميدان الاجتماعي .

التعصب والجهاد

كان الوهابيون يعتبرون جميع المسلمين المعاصرين لهم والذين لايؤمنون بتعاليمهم أكثر شركا من الجاهليين في الجزيرة العربية . وكان سليمان شقيق محمد بن عبدالوهاب قد تزعم لأمد طويل الحركات المناوئة للوهابية في العديد من واحات نجد . وقد أشار إلى أن التعصب من السمات الملازمة للوهابية . وكتب المؤرخ الحجازي إبن زيني دحلان (وقال له أخوه سليمان ويما كم أركان الإسلام يا محمد بن عبدالوهاب فقال خمسة فقال بل أنت جعلتها ستة السادس من لم يتبعك فليس بمسلم هذا ركن سادس عندك للإسلام) .

وكتب عن هذا التعصب أيضا ابن سند : (واعلم أن اتباع ابن سعود عندما قتل طعيس العبد الأسود ثوينيا (شيخ المنتفق في الفرات الأوسط) مدحوه وحمدوه بقتل ثويني لكونهم يعتقدون كفر ثويني بل وكفر جميع من على وجه الأرض من المسلمين الذين لم يعتقدوا معتقدهم ...) .

إن الوهابيين عندما عارضوا الشكل السائد للإسلام آنذاك قد ساروا إلى أبعد من الطائفيين العاديين . ويعتقد بيلايف (إن اتباع جميع الاتجاهات والتيارات والطوائف في الإسلام يعتبرون مسلمين بموجب التصورات الراسخة لدى المسلمين أنفسهم) . أما الوهابيون فلا يعتبرون خصومهم مسلمين بل مشركين وكانوا يعتقدون أن جميع الذين سمعوا دعوتهم ولم يتبعوها كفرة . وفيما بعد كان موقف الوهابيين حتى من (أهل الكتاب) أخف من موقفهم من المسلمين غير الوهابيين . فقد سمحوا لليهود والنصارى بالصلاة في المنازل وفرضوا جزية طفيفة على كل واحد منهم .

وعندما كان الوهابيون يحتلون واحة أو مدينة يحطمون الشواهد والأضرحة على قبور الأولياء والصالحين ويحرقون كتب الفقهاء الذين يختلفون معهم . وربما كانت الممارسات الدينية للوهابيين تختلف عن مذهب ابن عبدالوهاب ووصاياه الرسمية . وقد اتهم فقهاء كثيرون الوهابيين بعدم احترام الرسول . وينكر المؤلفون الوهابيون المحدثون جميعا هذا الاتهام بغضب شديد . ولعل الرغبة في التقليل من مكانة النبي محمد بوصفه (خليل الله) قد أدت عمليا إلى التقليل من دوره في الإسلام وتجلت في (عدم الاحترام) المذكور .

وانتشر على نطاق واسع الرأي القائل بأن الوهابيين منعوا تعاطي القهوة . إلا أن الوقائع تدحض هذه الأقوال ، ولكنه لا يستبعد أن بعض المتعصبين جدا قد رفضوا هذا الشراب . واتخذ التعصب بين الوهابيين أشكالا متطرفة جامحة . فإن اعتقادهم بأن خصومهم كفرة ومشركون صار مبررا للقساوة ضدهم .

وفي الوقت ذاته صار التعصب وسيلة لتلاحم وانضباط الوهابيين حيث يستحثهم على تحقيق المآثر الحربية والقيام بالحملات والغزوات على المشركين . وهذكا تهيأت المقدمات الفكرية لإعلان الجهاد ضد جميع المختلفين مع الوهابيين . فهل من داع للكلام عن المزايا التي يوفرها المذهب الوهابي للأمير الذي يتسلح بهذا المذهب ؟ فهو يتحول من زعيم لغزوة عادية على جيرانه إلى مناضل في سبيل الدين النقي ، أما خصومه فيصبحون من خدم الشيطان وعبدة الأوثان والمشركين . وعندما اعتبرت الوهابية الجهاد من أهم مسلماتها صارت منذ ظهورها أيديولوجية للتوسع الحربي .

الاتجاهات التوحيدية

لم تكن الوهابية مجرد راية لحروب الغزو والفتح ، بل كانت تبريرا فكريا للاتجاهات التوحيدية في الجزيرة العربية . فإن معارضة عبادة الأولياء وتحطيم أضرحة الصالحين وقطع الأشجار المقدسة – كل ذلك كان يعني في ظروف الجزيرة العربية تحطيم السند الفكري والروحي للتجزئة الإقطاعية العشائرية . فإن وجهاء واحة ماعندما ظلوا بدون ولي خاص بهم فقدوا حقهم بالتفوق والأصالة كما فقدوا عائدات زيارة ضريح هذا الولي .

وأكد الوهابيون أن على الناس البسطاء أن يطيعوا حاكمهم ، إلا إذا أمر بمعصية . وكان المناضلون في سبيل التوحيد ، وعلى رأسهم ابن عدبالوهاب ، هم أعلى جهة يرجع إليها الناس في تحديد المعصية . وإن أي عمل يقوم به الحكام ضد أمير الدرعية يعفي الرعية من واجب الانصياع لهم ويحطم سند سلطة الحكام المحليين . وكانت الوهابية تنطوي بالدرجة الأولى على أفكار توحيد نجد ووجهائها في الصراع ضد خصومهم التقليديين إشراف الحجاز . فقد منعت الوهابية زيارة العتبات المقدسة في مكة والمدينة (ما عدا الكعبة) ومنها قبر الرسول ، الأمر الذي كان سيحرم الحجازيين من قسم كبير من عائداتهم . وفي تلك الظروف التاريخية كان الحجازيون يتعاطفون مع الصيغة الرسمية للإسلام في الإمبراطورية العثمانية التي هي المصدر الرئيسي للحجاج ، وكان فقهاء الحجاز يخشون من تضييع منزلتهم ومعها امتيازاتهم وعائداتهم في حالة انتصار الوهابيين . ولذا فمن الطبيعي أن علماء الحرمين لم يوافقوا على أني قوم أحد النجديين بتعليمهم الإسلام (الحقيقي) .

ويتضح من أحكام وممارسات الوهابية اتجاهها المحدد تماما والمناهض للصوفية ، وعلى وجه الدقة شجبها للصوفية بالشكل الذي انتشرت به في الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر . صحيح أن تعاليم الوهابيين لم تتضمن تهجات سافرة على هذا التيار في الإسلام . حتى أن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب قال ذات مرة أنه ليس ضد الصوفية . إلا أن هذا لاقول ، على مايبدو ، مجرد استدراك تكتيكي . فمن وجهة نظر الوهابية الحقيقية المعتمدة على الكتاب والسنة وتعاليم فقهاء القرون الثلاثة الأولى للإسلام تعتبر الصوفية بدعة وواحدة من أمهات الكبائر . وإن شجب عبادة الأولياء ورفض السحر والشعوذة موجهان في الواقع ضد الدراويش المتصوفة . ولايغيبن عن البال إن منع التبع والأفيون والمسبحة والموسيقى والإنشاد الصاخب وحلقات الذكر والرقص واحد من اهم محرمات الوهابية الثابتة . وكان هذا المنع يشمل على الأكثر الممارسات الفعلية ، ففي مؤلفات الوهابيين نجد الاهتمام به أقل مما في كتابات الرحالة الأوروبيين .

وعندما عارض الوهابيون البدع من حيث المبدأ وساروا بأحكام الحنبلية إلى حدها الأقصى رفضوا في الواقع المذهب السني الرسمي للإمبراطورية العثمانية ، أي الحنفية . ولذلك يمكن القول بأن الوهابيين عارضوا الإسلام بالشكل الذي كان قائما به في الإمبراطورية العثمانية . إن خطر التبغ والألبسة الحريرية والاحتفالات الصاخبة لم يكن يمثل مجرد موقف من البدع يطبق عمليا . فقد كان رد فعل لسكان نجد على المظاهر الخارجية لنمط حياة الوجهاء العثمانيين . وكتب بوركهاردت (إن الوهابيين يحتقرون الفخفخة في أردية الحجاج الأتراك) . وقال أن أعراب الجزيرة متذمرون من المحاكم الفاسدة والتعسف في الإمبراطورية العثمانية ومن لجاجة الأتراك ومن الشذوذ الجنسي الذي يمارسونه على المكشوف . وأشار ج. رايمون ، وهو مدفعي فرنسي كان يعمل في خدمة والي بغداد ، إلى أن الميول المعادية للأتراك كانت منتشرة على نطاق واسع في الجزيرة العربية . وقال له أحد الأعراب : سيأتي اليوم الذي نرى فيه العربي جالسا على عرش الخلافة . فقد مر علينا زمان طويل ونحن تحت نير مغتصبي السلطة.

إن تمرد الوهابيين على الإسلام العثماني ، كما بينت الأحداث ، قد تجاوز كثيرا الإطار الديني واتسم بطابع سياسي وعسكري . لقد كان ذات صداما بين نظام الدولة العربي في الجزيرة وبين الإمبراطورية العثمانية . وصارت الوهابية راية للحركة الوطنية العربية ضد النفوذ العثماني في الجزيرة . وكان اتجاه الوهابيين المستشرش ضد الشيعة ينطوي كذلك على جنين أفكار النضال ضد الفرس بوصفهم من غلاة الشيعة ، إلا أن ذلك لم يظهر خلال الأحداث اللاحقة على نطاق واسع من الناحيتين العسكرية والسياسية.

كان مذهب الوهابية نتيجة لازمة روحية خطيرة في الجزيرة العربية أساسها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وقد شكل هذا المذهب جناحا متطرفا للحنبلية ، إذ رفض كل البدع في الفرائض والعبادات وطالب بالعودة إلى الكتاب والسنة فقط . ومن الناحية الاجتماعية كانت الوهابية تخدم مصالح الوجهاء ، فقد باركت ونظمت وموهت علاقات الظلم والاستغلال . وكانت في الوقت ذاته تنطوي على عناصر ملازمة لحركات المساواة التعادلية ، الأمر الذي استهوى جماهير واسعة من سكان الجزيرة .

وعندما وضع مذهب محمد عبدالوهاب الوهابيين على طرفي نقيض مع سائر المسلمين حولهم إلى طائفة متراصة وأجج التعصب لديهم . وكانت ضرورة الجهاد ضد المشركين التي أعلنتها مذهب الوهابية قد جعلت منه راية لحروب الفتح والغزوات . وصارت الوهابية سلاحا فكريا لحركة التوحيد المركزية في شبه الجزيرة العربية . وقد باركت الوهابية نضال وجهاء نجد السياسي والعسكري من أجل السيطرة في الجزيرة العربية ضد الحجازين بالدرجة الأولى . وعندما عارضت الوهابية شكل الإسلام السائد في الإمبراطورية العثمانية تحولت إلى صيغة فكرية للحركة الوطنية لعرب الجزيرة ضد الأتراك .

ووجد الوهابيون تربة صالحة في الواحات . ويعزي ذلك بالدرجة الأولى إلى أن المذهب الجديد كان عقيدة لمجتمع طبقي استغلالي . إن الكثير من توجهات الوهابية ، وبالدرجة الأولى تسديد الزكاة ، قد نفر البدو ، وخصوصا أبناء القبائل الكريمة المحتد ، ناهيك عن عدم مطابقة الكثير من التصورات الإسلامية لمعتقدات وعبادات البدو الرحل . إلا أن أفكار الجهاد التي أعلنتها الوهابية ، أي الغزو تحت راية الإسلام ، تنطوي على سمة جذابة بالنسبة للبدو . وعلى هذا الأساس كان بالإمكان انضمام البدو إلى الوهابيين والتحالف بين وجهاء الحضر ووجهاء البدو في ظروف معينة ولفترة زمنية محددة .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

محمد بن عبدالوهاب وخطواته الأولى في السياسة

عندما انتقل محمد بن عبدالوهاب إلى العيينة سارع إلى كسب رضا الأمير عثمان بن حمد بن معمر . وقال له حسبما رواه المؤرخون :(إني أرجو إن أنت قمتبنصر لا إله إلا الله أن ينصرك الله تعالى وتملك نجدا وأعرابها) . وكان هذا الاقتراح يناسب الأمير . وسرعان ماربطت أواصر القربى بين عائلتي محمد بن عبدالوهاب وحاكم العيينة . وبغية تحقيق أحكام الوهابية شرعا بتدمير الأضرحة المحلية . وقطع محمد بن عبدالوهاب شخصيا الشجرة التي كان سكان تلك المنطقة يقدسونها . ثم جاء دور ضريح أحد الصحابة وهو زيد بن الخطاب المدفون في الجبيلة . وكان ذلك ضريحا محليا يتوارد عليه الزوار . وأراد سكان الواحة أن يقاوموا تدمير ضريح وليهم ، ولكن عثمان ومعه ستمائة محارب كان يحمي محمد بن عبدالوهاب الذي حطم شاهد القبر بنفسه .

وبعد ذلك جرى في الواحة رجم امرأة اقترفت إثما . وطبق ابن عبدالوهاب أحكام الشريعة حرفيا فأمر برجمها بالأحجار . ويقول ابن غنام : (فخرج الوالي عثمان وجماعة من المسلمين فرجموها حتى ماتت ، وكان أول من رجمها عثمان المذكور ، فلما ماتت أمر أن يغسلوها وأن تكفن ويصلي عليها . وشاع نبأ هذا الحادث في الأرجاء مثيرا الرعب في قلوب الذين انحرفوا عن الإسلام الحقيقي ، كما يقول ابن غنام . وأعلنت الوهابية عن نيتها في تطبيق مبائدها دون رحمة . وبلغ نبأ هذه الجريمة أسماع حاكم الإحساء والقطيف وبدو أطرافهما سليمان بن محمد بن غرير الحميدي . وكانت العيينة تعتمد عليه بقدر ما . وعلى أية حال فإن جزءا من تجارتها يمر عبر مرافئ الإحساء . زد على ذلك أن أمير العيينة كانت له في الإحساء بساتين نخيل وإملاك أخرى يستلم عائدات منها . وأمر سليمان الحميدي عثمان بقتل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وعدده ، إن لم يفعل ، يقطع مزن الأغذية والألبسة عنه وحرمانه من العائدات . وأهل أسباب تصرف سليمان الحميدي هذا تعود إلى الضغط الذي مارسه عليه العلماء المحليون المستاؤون من انتشار المذهب الجديد الذي ينسف مواقعهم . زد على ذلك أن زعيم بني خالد كان ، على مايبدو ، يخشى من تزايد قوة الوهابيين الذين اعتبرهم خطرا على سلطته .

إلا أن أمير العيينة لم يتجرأ أو ربما لم يرغب في قتل الشيخ المتنفذ فنفاه . ولايستبعد أن عثمان بن معمر كان يريد الانتظار بعض الوقت لبعيد الفقيه الذي لايقر له قرار . واستقر محمد بن عبدالوهاب في الدرعية عام 1744-1745 . وكانت عنده في هذه الواحة جماعة من الأتباع ومنهم اثنان من إخوان أميرها محمد بن سعود وكذلك زوجة الأمير . ونزل محمد بن عبدالوهاب عند أحد تلاميذه وشرع حالا بالاتصال بحاكم الدرعية . وساعد شقيقا الأمير وزوجته على التقارب بينهما . وكان محمد بن سعود الذي يعد خططا حربية طموحة مطلعها على مذهب الفقيه المشهور ولذا قدر آفاق الوهابية حق قدرها .

وتوافقت رغبة محمد بن عبدالوهاب الذي ينشد الدعم العسكري ورغبة الأمير الطموح الذي ينشد الدعم الديني في توحيد جهودهما وتم التحالف المنشود . وطلب ابن سعود بن محمد بن عبدالوهاب أن لايغادر الدرعية وسعى إلى جعله يوافق على الضرائب السابقة المفروضة على سكان الواحة . وقال له الأمير (أن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لاتأخذ منهم شيئا) .إلا أن محمد بن عبدالوهاب وافق على الشرط الأول ورفض الثاني ووعد ابن سعود بأن غنائمه من الغزوات والجهاد ستكون أكبر من هذه الضريبة .

ويبين ذلك أن أمير الدرعية حاول أن يحتفظ بحق الاستغلال الإقطاعي لرعيته ، وهو غير مشروع ، على مايبدو ، من وجهة نظر الشريعة الإسلامية . إلا أن محمد بن عبدالوهاب إلا بعد نظرا اقترح على ابن سعود أن يتخلى عن تلك الضريبة وذلك بغية تحقيق هدفين ، هما الحفاظ على نقاوة المذهب وكسب تأييد السكان المحليين الذين خفت أعباؤهم في الحال . وكان محمد بن عبدالوهاب يرى أن ذلك كله يمكن التعويض عنه ، وقد تم التعويض عنه فعلا ، بالغنائم الحربية الهائلة .

بهذا تنتهي المرحلة الأولى من تاريخ الوهابية ، وهي ، إن صح القول ، مرحلة التطور الجنيني والتجريب والإخفاقات والصياغة السياسية . ومنذ الانتقال إلى الدرعية ارتبطت حياة محمد بن عبدالوهاب ارتباطا لاينفصم بمصير إمارة الدرعية والدولة السعودية .