تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الثامن
الفصل الثامن: سقوط إمارة الرياض ونهوض إمارة جبل شمر (1865-1902)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الإنقسام في عائلة الأمراء
توفير فيصل بن تركي في كانون الأول (ديسمبر) 1865 . وفي الحال بدأ الصراع من أجل السلطة بين أبنائه . وتسلم مقاليد الحكم ولي العهد عبدالله الذي حظي بتأييد سكان العارض وكذلك اخيه الأصغر محمد . وكان أخوه الآخر – سعود – منافسا له . وأخذ الإنجليز الذين لهم مصلحة في إضعاف إمارة الرياض يشجعون مطامع سعود . كان عبدالله يسعى في إمارته الضعيفة غير المستقرة إلى تقوية المركزية فأثار بذلك استياء الوجهاء والأعيان في الأطراف .
ويقول بلغريف أن عبدالله كان رجلا نشيطا شجاعا ، ولكنه كان صارما قاسيا ، الأمر الذي يروق لسكان المدن المحافظين . أما سعود فكان صريحا سخيا يحب الفخفخة ، الأمر الذي يروق للبدو . إن فيلبي متفق مع أقوال بلغريف هذه بالخطوط العريضة . كانت أم سعود وإحدى زوجاته من قبيلة العجمان الذين يكرهون عبدالله وصاروا من أخلص حلفاء سعود . أ/ا قحطان فقد أيدوا عبدالله .
وكان أول ما فعله عبدالله بعد أن تولى الحكم هو قاضاي عمان وليس الصراع مع أخيه ، فهذا الصراع سيأتي وقته . قبيل وفاة فيصل كان إبن قيس حاكم الرستاق في عمان ، وهو من أبناء فرع جانبي للعائلة الحاكمة في مسقط ، قد ثار على قريبه ثويني سلطان مسقط وطلب المساعدة من تركي آل سديري حاكم البريمي . وتم في أواخر عام 1864 طرد قوات ثويني بمساعدة فيصل تركي آل سديري . وانتهز حاكم الرياض فيصل هذه الفرصة فحاول إرغام سلطان مسقط على دفع أتاوة له مقدارها 40 ألف ريال بدلا من 12 ألفا ، وعزز طلبه هذا بإرسال قوات إلى هناك . إلا أ، ثويني وافق ، بنصيحة من الإنجليز ، على دفع 12 ألفا فقط . وفي العام نفسه استولى على مدينة صور ثوار أيدهم فيصل من النجديين بقيادة عبدالعزيز بن مطلق ، شقيق سعد بن مطلق الشهير . بديهي أن المدينة تعرضت للنهب وكان بين المتضررين تجار هنود ورعايا بريطانيون . وعجز ثويني عن طرد النجديين فدفع لهم 10 آلاف ريال ، ثم 6 آلاف أخرى . وأخذ الإنجليز يساعدون ثويني وبعثوا باحتجاج إلى الرياض . ووافق عبدالله الذي أمسك بزمام الحكم في الإمارة على إطلاق سراح جميع الأسرى الذين تم القبض عليهم في صور وإعادة الأملاك ولكنه لم يقل شيئا بخصوص التعويضات .
وأوصى بيلي السلطات البريطانية في الهند بمساعدة سلطان مسقط . وسرعان ما أرسل إليه المدافع . وتلقى أمير الرياض في الوقت ذاته إنذارا يطالب بتقديم الاعتذار والوعد بعدم تكرار مثل هذه الأعمال في المستقبل ودفع التعويضات . وإلا فالإنجليز يهددون بتدمير قلاع الأمير على الساحل والاستيلاء على سفنه . وانتقل الإ،جليز من التهديدات إلى الأفعال . فقد أطلقت السفينة الحربية البريطانية (هاي فلاير) النار على عجمان التي كان مرفأ للنجديين على ساحل عمان في الخليج . وفي بداية شباط (فبراير) 1866 دمرت القلعة في القطيف وعدة سفن صغيرة في مرفئها . وبعد محاولة فاشلة لإنزال قوات في الدمام أطلقت (هاي فلاير) النار عليها . ثم قصفت السفينة البريطانية صور المتمردة ودمرت فيها زوارق السكان . إلا أن السلطان ثويني قتل آنذاك على يد إبنه سالم ، الأمر الذي خلق المصاعب أمام المناورات السياسية للإنجليز .
وبدأت مراسلات بين عبدالله والمعتمد البريطاني بيلي . وسعى أمير الرياض إلى الحيلولة دون تدهور العلاقات وإلى تأمين اعتراف الإنجليز به حاكما للإمارة وإبعاد الدسائس البريطانية المحتملة وتوجيهها صوب سعود ، ولذلك اتفق عن طريق ممثله مع بيلي بشأ، التسوية . كان عبدلله يدرك أ، الإنجليز ضده ، ولذا لعب لعبة الضعيف فحاول أ، يجد في الأتراك عونا له على الإنجليز ، الأمر الذي كلفه غاليا في آخر المطاف . في تلك الأثناء استجمع سعود القوات في مناطق جنوب نجد للصراع في سبيل عرش الرياض . وعزز عبدالله عاصمته . وعبأ سكان المدن وبدو نجد ووجهم ضد أخيه المتمرد . وبعد أن أصيب سعود بجراح ثخينة فر من ساحة المعركة إلى بدو آل مرة ، ونكل أمير الرياض بأنصار سعود وعاقب القبائل والواحات المتمردة في وادي الدواسر . وبعد أن عالج سعود جراحه تحدى أخاه عبدالله من جديد بعد أربعة أعوام .
استمرار النزاعات
في أواخر الستينات نشب في البحرين من جديد صراع داخل الأسرة الحاكمة ، وأسفر هذا الصراع عن فرار أحد أفراد العائلة والتجائه إلى السعوديين وشن غزوات متبادلة وتدخل الإنجليز الذين لم يسمحوا لأمير الرياض هذه المرة أيضا بأن يبسط نفوذه على البحرين .
اجتاحت القلاقل عمان بعد مقتل ثويني . وكان عهد حكم سالم الذي قتل أباه قصيرا . فقد انتهى بتمرد جديد قام به عزان بن قيس من الرستاق الذي استولى على مسقط في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 1868 . وقد رفع راية الإباضية المحافظة . واستمرت السلطة الجديدة في ساحل عمان حتى عام 1871 فقط ، ولكنها ظلت باقية عشرات السنين فيا مناطق الداخلية .
وفي عام 1869 قتل أمير البريمي تركي آل سديري في الشارجة عندما حاول التدخل في النزاع المحلي . وفي حزيران (يونيو) 1869 تمكنت القبائل المحلية بعد الاتفاق مع عزان من الاستيلاء على البريمي بمساعدته . وقد رفعت تلك القبائل رايات الإباضية وتوجهت ضد الوهابيين الذين تعتبرهم زنادقة . في تلك الأونة اعترف الإنجليز بأ، البريمي جزء من الدولة السعودية ، وقد كتب المندوب البريطاني في مسقط المقدم ديزبرو في آب (أغسطس) 1869 يقول : (إن عزان ، حسب تقديراتي ، قد استولى على لابريمي ظلما وعدوانا وبلا مبرر . ولا بد له من توقع انتقام الوهابيين) .
لم يكتف عزان بالاستيلاء على البريمي ، بل رفض دفع الأتاوة للرياض . وكان رد فعل عبدالله حازما ، إذ كتب إلى عزان بأنه ينوي التوجه نحوه بعشرين ألف محارب . وفي تلك الأثناء كان سعود قد تحالف مع عزان . ونشأ ضد عبدالله ائتلاف بين سلطان مسقط الجديد – عزان وحاكم أبو ظبي وسعود بن فيصل . وحاول شقيق عبدالله أن يقوم بهجوم على قطر ، ولكنه هزم والتجأ إلى البحرين . وظهر تصور بأ، الإنجليز يقفون من وراء ظهر سعود ، وربما لم يكونوا يقدمون له مساعدة مباشرة ، ولكنهم ، على أية حال ، لم يعترضوا على أعماله .
استمرار نهوض جبل شمر
في آذار (مارس) 1868 انتحر حاكم حائل طلال آل رشيد ، الأمر الذي يعتبر من أ،در الظواهر في شبه الجزيرة ، وأشار المؤرخ إبن عيسى إلى ذلك الحادث قائلا أ، طلال اختل عقله فانتحر . ومع أ، أمير حائل حكم المنطقة الواسعة بصورة مستقلة تقريبا ، فإنه لم يعلن القطيعة أبدا مع فيصل وأبنه عبدالله ، بل كان يقدم لهما مساعدة عسكرية كبيرة . وكانت وفاة طلال قد هيأت الإمكانية لإعادة النظر في العلاقات المتبادلة بين حكام جائل والرياض ، وخصوصا عندما توفي بعد عام واحد عبيد بن علي عم طلال العجوز والمتنفذ في الوقت ذاته . كان عبدي من أنصار التعاون مع آل سعود . وقد نعته بلغريف بالتعصب أما في رأي آن بلانت فهو (البطل الرئيسي لتقاليد شمر) ، وهو شجاع كريم سخي . وكان تقدير دوتي لعبيد رفيعا أيضا ، حيث اعتبره عقيدا وشاعرا تتناقل الألسن قصائده .
كان طلال قد فرض سيطرته على خبير وتيماء الواقعتين شمالي المدينة المنورة . ومع أن حاكم حائل كان يتصرف بصورة مستقلة بقدر كاف ، فمن المشكوك فيه أنه كان يستطيع أن يجمع قوات شديدة البأس تكفي لتحدي حاكم الرياض .
كان أمير شمر يتميز بالتسامح الديني وقد سمح للشيعة واليهود بأن يقيموا ويتاجروا في حائل ، وكان يجبي منهم ضرائب غير قليلة . وكتب بلغريف (إن التجار من البصرة ومشهد علي وواسط ووالباعة من المدينة وحتى من اليمن كانوا يستقرون في سوق حائل الجديد بعد عروض مغرية . وقدم طلال لبعض منهم مقاولات رسمية ، وهي نافعة لهم وله بقدر واحد . ومنح البعض الآخر امتيازات وتسهيلات ، وكان يولي الجميع الدعم والحماية) . وبالأموال الواردة إلى بيت المال من الغزوات والحج والتجارة أنجز طلال قلعة بارزان وأنشأ حول العاصمة سورا ارتفاعه سبعة أمتار ، وبنى حي السوق ومسجدا كبيرا وكثيرا من الآبار العامة.
وإذا كان الدين في جبل شمر لايلعب دور القوة التوحيدية الأولى فإن التعاضد القبلي أدى هذه الوظيفة . وحتى الحضر في حائل والمدن الأخرى كانوا يعتبرون أنفسهم من أبناء شمر بالدرجة الأولى ، و (موحدين) بالدرجة الثانية . لقد لعب البدو في إمارة جبل شمر دورا أكبر مما في إمارة الرياض . إلا أن سيطرة قبيلة واحدة شمر دورا أكبر مما في إمارة الرياض . إلا أن سيطرة قبيلة واحدة كانت تؤمن استقرار السلطة في منطقة محدودة ، ولكنها كانت عائقا أمام توسيع إمارة جبل شمر ، لأنها تنير حفيظة القبائل القوية الأخرى . كان طلال يدفع الأتاوات لفيصل وعبدالله بشكل خيول وحصة من الضريبة المفروضة في حائل على الحجاج الفرس وحصة من الغنائم . إلا أن نفوذ الرياض في أواسط الجزيرة أخذ يضعف ، بينما صارت الراية الخضراء الحمراء لإمارة جبل شمر ترتفع . وكتب فالين بحق منذ عهد عبدالله بن الرشيد : (إنني أعتبر أهالي شمر دون ريب من أنشط القبائل في الجزيرة حاليا . وإن سلطتهم ونفوذهم يشملان جيرانهم أكثر فأكثر من عام لآخر) .
وورث متعب شقيق طلال العرش . وبعد عشرة شهور قتل متعب في مجلسه بيد بندر الإبن البكر لطلال ، وصار بندر أميرا ، ولكنه ظهر لديه منافس خطر هو عمه محمد بن عبدالله آل رشيد ، الإبن الثالث لمؤسس السلالة . وقد قتل هذا بندر في عام 1874 ، عارفا بأ، الثأر ينتظره وأخذ الأمير الجديد يلاحق إخوان بندر الخمسة فانتقم من أربعة منهم . واعترفت جبل شمر بالأمير الجديد . ومع أن حكمه بدأ بالانتقام الدموي من منافسيه ، فإنه دشن عهدا من الازدهار والسلطة القوية في الإمارة . وكتب فيلبي يقول (لم تكن الحكومة فعالة أبدا مثلما كانت في عهده) .
تعتبر كتابات ضاري بن رشيد التي استخدمها ويندير على نطاق واسع أهم مرجع في تاريخ آل الرشيد منذ وفاة طلال حتى استيلاء محمد علي السلطة . وخلال أمد طويل لم تخرج إمارة آل الرشيد عن إطار جبل شمر وأقرب الواحات إليها – خيبر وتيماء والجوف . وقدر الرحالة عدد السكان الخاضعين لحائل في أواخر القرن التاسع عشر (قبل ضمها إلى نجد) ما بين 20 و50 ألف نسمة من الحضر ، ومثل هذا العدد تقريبا من البدو . وتفيد معطيات أخرى أن عدد البدو يمكن أن يكون ضعف عدد الحضر .
كان حاكم جبل شمر يلقب بالأمير أو شيخ المشايخ ، أي أنه ظل زعيما لاتحاد قبائل شمر التي يعتمد عليها . وكان آل رشيد يحكمون بمساعدة أقربائهم ومفارز خدعهم الشخصيين . وفي ظل الصراع المتواصل تقريبا داخل الأسرة الحاكمة وعدم الثقة بالأقرباء كان الأمير يعتمد أكثر فأكثر على مفارز الخدم والمرتزقة المصريين والأتراك . وتفيد معطيات فالين أن مفرزة الأمير تتكون من 200 شخص تقريبا ، ويذكر رحالة الستينات – الثمانينات من القرن التاسع عشر الرقم 500-600 . ومنهم 20 شخصا يشكلون حرس الأمير الأكثر إخلاصا ، وحوالي 200 شخص كانوا في حائل أما الباقون فيرافقون التجار والحجاج وجماعات جباة الزكاة ويؤدون حسب الدور الخدمة في الحاميات في المناطق الملحقة بالإمارة .
وكان بين أفراد مفارز الأمير محاربون بسطاء و (رجال شيخ المشايخ) . وهذا المصطلح يطلع على كبار أفراد المفرزة وكذلك على المقربين إلى الأمير ، وعموما على كل من يتمتع بثقة خاصة لديه . والكثيرون منهم متحدون من العبيد . وكان (رجال الشيخ) يمثلون كبار الموظفين وقادة مفرزته والقائمين على أمور القصر وحكام ممتلكات الأمير . وبعد أن تطورت الإمارة صاروا يتراسون مختلف أصعدة جهاز إدارة الدولة . واعتبارا من سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر كان بين أكثر المتنفذين في الإمارة ، كما يقول الرحالة ، صاحب المضايف في القصر وصاحب بيت المال والكاتب الأول وحامل الراية والجليس ووزير آل الرشيد.
كان أمراء جبل شمر ملتزمين بتقاليد كرم الضيافة التي يرمز إليها القدر النحاسي الضخم الذي يحمله بصعوبة أربعة من الرجال الأشداء . وفي ثمانينات القرن التاسع عشر كان القصر يستضيف يوميا 150-200 شخص ، ويصل هذا العدد إلى 1000 شخص أثناء مرور القوافل الكبيرة .
ومع تطور نظام الدولة طبقت الشريعة باتساع متزايد ، مما ضيق على العرف والعادات . وهذا أمر أشار إليه الرحالة . وكان من بين العقوبات قطع الأيدي ومصادرة الأموال على العصيان ضد الأمير والسجن على لاسرقة وعلى رفض دفع الزكاة ، والجلد بالعصى على الضرب والإصابة بجراح ، والغرامات المالية . واستخدم مقر آل رشيد السابق بمثابة سجن ، إلا أن الرهائن والسجناء الذين يتمتعون بمنزلة رفيعة صاروا منذ ستينات القرن التاسع عشر يحتجزون في مضيف القصر الجديد . وكان لحائل عمالها المباشرون في الأطراف ، ولكنهم في الغالب كانوا من الوجهاء المحليين . وظل شيوخ جميع قبائل البدو يحكمونها كالسابق . ونظرا لقلة التزام وإخلاص الهجانة البدو أخذ آل الرشيد يعتمدون أكثر فأكثر على سكان المدن والواحات وعلى حرس من العبيد . وقدر غوارماني الحد الأقصى لعساكر جبل شمر في ستينات القرن التاسع عشر بـ 6.5 آلاف شخص ، وإذا أضيف إليها محاربو المناطق الملحقة يبلغ هذا العدد 9 آلاف . ويقول نولدي أن الأمراء في التسعينات كان بوسعهم أن يقدموا 40 ألف محارب . وتمتطي العساكر ظهور الجمال ، بينما يركب الوجهاء الخيل . والأسلحة هي الرماح والسيوف ، وأحيانا السلاح الناري . وكانت هناك عدة مدافع .
وفي عهد محمد الرشيد (1817-1897) بلغت إمارة جبل شمر أوج ازدهارها . ففي السبعينات تم الاستيلاء على العال وقرى في وادي السرحان حتى حدود وادي حوران . وكان استمرار ركود إمارة الرياض والتحالف مع الباب العالي قد مكنا محمد من بسط نفوذه على مدن القصيم في البداية ، ثم في عام 1884 على نجد كلها .
وماكان بإمكان إمارة جبل شمر أن تنهض إلا بتضعضع إمارة الرياض ذات الكثافة السكانية الأكبر والتي تمتلك قدرة عسكرية كبيرة دون شك . كانت حروب السعوديين في مطلع القرن وغزوات المصريين الفتاكة والنزاع القبلي المضيء كل ذلك شمل جبل شمر بقدر أقل من أواسط نجد . واستفاد عدد من الحكام المحنكين من هذه الظروف الملائمة بالنسبة لهم فجعلوا من حائل لوقت قصير سيدة لأواسط الجزيرة كلها .
سقوط إمارة الرياض
استيلاء الأتراك على الإحساء
في خريف 1870 عقد سعود بن فيصل من جديد تحالفا مع قبائل العجمان وآل مرة ودخل العقير واستولى على الإحساء وأرسل عبدالله أخاه محمد على رأس عساكر لاستعادة السيطرة على الإحساء وعاصمته الهفوف . وفي كانون الأول (ديسمبر) 1870 نشبت في البادية معركة الجودة . وفي اللحظة الحاسمة التزم بدو سبيع الذين جاءوا مع محمد جانب سعود فحقق هذا نصرا تاما . وتم القبض على محمد بن فيصل وزج به في سجن القطيف حيث ظل حتى أطلق الأتراك سراحه . وأعلن الإقليم الشرقي كله البيعة لسعود . ثم ارتبك أمير الرياض عبدالله بن فيصل الذي يواجه الهزيمة وأدى ذلك إلى ازدياد تدهور الأوضاع في إمارته . وفي تلك الأثناء حل جفاف مرعب ، مما أدى ، طبعا ، إلى قلاقل وفتن جديدة . وفي نيسان – آيار (إبريل – مايو) 1871 تحرك سعود ، أخيرا ، نحو الرياض.
وعندما دخل العاصمة نهبت عساكره البدوية هذه المدينة وسكانها لدرجة جعلت الجميع يحقدون عليه . واندلعت النزاعات القبلية في نجد من جديد . وأشار إبن عيسى إلى أن السلطة الجديدة كانت ضعيفة فتشوشت الأمور لدرجة أكبر وتدهورت الأوضاع بسبب المجاعة وارتفاع الأسعار ، وصار الناس يأكلون جيف الحمير ، ومات الكثيرون بسبب الجوع ، وترك الناس يواجهون الموت والمصائب والنهب والقتل والفساد . ولكنه ينبغي ، كما يرى ر. ويندير ، أن نأخذ بعين الاعتبار أن إبن عيسى كان من أنصار عبدالله . وواجهت الإمارة المحتضرة خطرا جديدا . فإن والي بغداد مدحت باشا ، وهو حاكم عثماني كبير معروف ومن أنصار السياسة النشيطة ، قد قرر الاستفادة من الموقف وإضافة أراضي جديدة إلى الإمبراطورية العثمانية التي تقلصت أراضيها . وأسفرت أعماله في شرقي الجزيرة العربية عن نشوب أزمة دبلوماسية بين لندن والاستانة .
وادعى محمد باشا بأن السيادة العثمانية تشمل نجد وبأ، عبدالله بن فيصل كان مجرد قائمقام للأتراك . وكانت الحجة للتدخل هي (استعادة النظام ونجدة القائمقام المذكور ضد شقيقه العاصي) .
وأرسل الأتراك أسطولهم لغزو الإحساء ، وقد حصلوا من حاكم الكويت على حوالي 300 سفينة أخرى . وكانت القوات النظامية مكونة من أربعة آلاف شخص ، من المشاة بالأساس ، وكذلك الفرسان والمدفعية . وأرسلت قبائل المنتفق عن طريق البر حوالي ثلاثة آلاف شخص . وفي آيار (مايو) 1871 نزلت القوات التركية في رأس تنورة وزحفت نحو القطيف دون أن تواجه مقاومة . وبعد معارك غير كبيرة احتل الأتراك المدن والقلاع الرئيسية في الإقليم كله . وهكذا فقد الإخوان السعوديان الإقليم الشرقي بسبب العداء العائلي . وفي الوقت ذاته تقريبا زار مدحت باشا الإحساء ، ولكن محاولة غزو الرياض أخفقت .
واستمر الصراع داخل أسرة آل سعود . وظهر عبدالله في الأراضي المحتلة من قبل الأتراك ، في حين طرد سعود من الرياض مؤقتا ، وقد طرده عمه عبدالله بن تركي شقيق الأمير فيصل . واستجمع سعود حلفاءه من العجمان وآل مرة وأخذ يهاجم الحاميات التركية ، ولكن دون جدوى . وفي أواخر 1871 ومطلع عام 1872 عاد عبدالله من جديد إلى الرياض ، إلا أ، الوضع في الإمارة كان ميئوسا منه . فالمجاعة مستمرة ، وكان الناس ، كما يقول إبن عيسى ، يأكلون الجيف والجلود وأوراق الشجر . وحاول الإخوان أن يتعاونا ضد الأتراك ، ولكن دون جدوى .
وفي آذار (مارس) 1873 عاد سعود مجددا إلى الرياض . واستمرت المعارك سجالا بين الأخوين ، واقترنت ، كالعادة ، بالنهب والقتل . ونظرا لأن عبدالله بن فيصل أخذ يعتمد على الأتراك زاد الإنجليز من دعمهم لسعود حتى أ،هم أرسلو أغذية له . وفي منتصف السبعينات ظهر على المسرح عبدالرحمن الإبن الرابع للأمير فيصل . كان قد ولد فيعام 1850 على وجه التقريب . ويعتقد ر. ويندير أن عبدالرحمن يؤيد سعود ، بينما يتصور فيلبي أن عبدالرحمن التزم جانب عدبالله . ولايستبعد أنه كان متذبذبا في اختيار أحد الأخوين الأكبر . وفي آذار (مارس) 1874 تخلى الأتراك عن حكم الإحساء مباشرة لكي يقللوا النفقات . وصار زعيم بني خالد وهو من آل عريعر أداة لتنفيذ سياستهم . وكان ناصر باشا بن سعدون والي البصرة التي تشكلت إداريا من جديد وزعيم قبيلة المنتفق قد عينه متصرفا . وتم سحب القوات النظامية التركية واستبدلت بمفرزة شرطة عثمانية .
وتزعم عبدالرحمن بن فيصل في عام 1874 انتفاضة على الأتراك في الإقليم الشرقي . والتحق به قسم من قبائل العجمان وآل مرة وبدو آخرون . وأنزل ناصر باشا بن سعدون في العقير 2400 جندي من القوات النظامية مزودين بأربعة مدافع فتم دحر الثائرين . والتجأ عبدالرحمن إلى سعود في الرياض . وتعرضت الهفوف لنهب من الغالبين استمر ثلاثة أيام . وترك ناصر باشا الإقليم في شباط (فبراير) 1875 بعد أ، عين متصرفا فيه .
وكانت سلطة سعود في نجد متضعضعة . ففي أواخر عهده لم تعد جبل شمر والقصيم تخضعان له . وصارت الرياض مركزا لإمارة صغيرة مقطعة الأشلاء في أواسط الجزيرة . وانقطعت العائدات المنتظمة . ولما كان سعود يعتمد على بدو العجمان فإن سكان الواحات والمدن لم يكونوا راضين عنه . وفي كانون الثاني (يناير) 1875 توفي سعود ، وربما كانت وفاته بسبب الجدري ، مع أ، معطيات أخرى تفيد بأنه مات مسموما .
وصار عبدالرحمن بن فيصل حاكم للرياض . وبدأ يخوض القتال ضد أشقائه الأكبر وضد حلفائهم من البدو . وفي تلك الأثناء ثار عليه في العاصمة نفسها أولاد أخيه سعود الذي حل محله . وتوجه عبدالرحمن . خوفا من أبناء أخيه ، إلى عبدالله ، فقرر الأخوة الثلاثة تشكيل جبهة موحدة بزعامة عبدالله ضد أولاد سعود الذين تمكنوا من السيطرة على الرياض بضعة أسابيع . ثم فر أولاد سعود واحتفظوا بحلفائهم في إقليم الخرج وفي الإحساء . ودخل عبدالله الرياض من جديد . وخلال السنوات الإحدى عشر التي مرت على وفاة فيصل تبدلت السلطة في المدينة للمرة الثامنة .
وأورد فيلبي الجدول الزمني التالي للحكم في الرياض بعد وفاة فيصل :
- عبدالله بن فيصل من 2 ديسمبر 1865 حتى 9 إبريل 1871 .
- سعود بن فيصل من 10 إبريل 1871 حتى 15 أغسطس 1871 .
- عبدالله بن تركي من 15 أغسطس 1871 حتى 15 أكتوبر 1871 .
- عبدالله بن فيصل من 15 أكتوبر 1871 حتى 15 يناير 1873 .
- سعود بن فيصل من 15 يناير 1873 حتى 16 يناير 1875 .
- عبدالرحمن بين فيصل من 26 يناير 1875 حتى 28 يناير 1876 .
- أولاد سعود بن فيصل من 28 يناير 1876 حتى 31 مارس 1876 .
- عبدالله بن فيصل من 31 مارس 1876 .
وفي عام 1878 قامت إنتفاضة جديدة ضد الأتراك في الإقليم الشرقي ، ولكنها هزمت بعد انتصاراتها الأولى.
وكتب دوتي يقول : (الرياض وضواحيها هي كل ماتبقى من ممتلكات الوهابيين ، وغدت الرياض إمارة صغيرة ضعيفة مثل بريدة . إن المدينة الكبيرة المبنية من الطوف والتي كانت في السابق عاصمة لأواسط الجزيرة غارقة في الصمت . ومضيفها الفسيح مهجور (قصر الأمير الوهابي المبني من الطوف أوسع من القصر في حائل) . خدم إبن سعود يغادرون نجمه الذاوي ويتوجهون ... إلى العمل عند محمد بن رشيد . ولا يخضع أحد من البدو للوهابيين . القرى الكبيرة في شرقي نجد طردت جامعي الزكاة التابعين لعبدالله) .
وفي عام 1880 ولد عبدالرحمن الذي هو الإبن الرابع لفيصل ، طفل سماه عبدالعزيز ، وأمه سارة إبنة أحمد السديري . وعندما بلغ عبدالعزيز السابعة من العمر عهدوا بتربيته إلى معلم هو قاضي الرياض ... إلا أن الصبي كان مهتما باللعب بالسيف والبندقية أكثر من اهتمامه بالدروس الدينية ، مع أنه تمكن من قراءة القرآن في الحادية عشرة من العمر . وفي الرابعة عشرة عندما كان أبوه يقيم في المهجر في الكويت بدأ عبدالعزيز ، ملك العربية السعودية فيما بعد ، دراسة الفقه والعلوم الدينية الأخرى بصورة جادة تحت إشراف عبدالله بن عبداللطيف الذي أصبح فيما بعد القاضي الأول للرياض ومفتيها . كانت الشهور التي قضتها أسرة عبدالرحمن فيا لتجوال بين قبائل آل مرة قد هيأت للأمير الشاب إمكانية التضلع في العادات والأخلاق البدوية وأساليب وحيل العمليات الحربية للبدو الرحل . وأخذ عبدالعزيز ، بصحبة أبيه أو لوحده ، يتردد على مجالس شيخ الكويت ويطلع على تشابكات السياسة في الجزيرة العربية وعلى قرارات الأمير القضائية . وكانت الحالة المادية لعبدالرحمن بن فيصل في المهجر مزرية حتى أ،ه لم يتمكن من تزويج إبنه الأكبر إلا بمعونة الأصدقاء . وفي هذه الظروف اختمرت أحلام عبدالعزيز الطموح إلى استعادة كرامة العائلة وممتلكات آل سعود وأمجادهم وثرواتهم .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نهوض إمارة جبل شمر بعد سقوط إمارة السعوديين
أخذت الواحات والمناطق وقبائل البدو تنفصل الواحدة تلو الأخرى عن الرياض وتنتقل طوعا أو كرها إلى حماية آل الرشيد وتدفع الأتاوات لهم . ولم توفق محاولات عبدالله لإبعاد قبضة آل الرشيد الثقيلة . وكان محمد بن الرشيد يلعب مع أمير الرياض لعبة القط والفأر .
واشتد التنافس في القصيم بين الأسرة الحاكمة سابقا في بريدة آل عليان وبين الحكام الجدد من آل مهنا الذين أيدتهم حائل . وكان توزيع القوى على النحو التالي : الرياض تتعاون مع عنيزة وتعتمد على تأييد عتيبة ومطير ، أما حائل فهي تؤيد بريدة وتتعاون مع قبيلة حرب .
وفي تلك الأثناء حاول أولاد سعود بن فيصل أن يتحدوا ابن الرشيد . فجمعوا قسما من قبائل عتيبة وبعض سكان واحات العارض ، ولكنهم اندحروا . إلا أن إمارة عبدالله الصغيرة كانت تتمزق مزقا . وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1887 استولى أولاد سعود بن فيصل على الرياض والعارض وأسروا أمير الرياض . وتمكن الأمير قبل ذلك بقليل من طلب النجدة من حاكم حائل الذي لم يتردد في قطف الثمرة الناضجة . وكان طلب عبدالله حجة بيد محمد بن الرشيد (لإنقاذه) ولبسط سلطة آل الرشيد على كل ممتلكاته . وتوجه إبن الرشيد إلى الرياض على رأس قوات كبيرة ، ففر أولاد سعود إلى الخرج . وأطلق أمير جبل شمر سراح عبدالله من السجن ونقله إلى العاصمة حائل (حفاظا على سلامته) ، وترك واحدا من أكثر القادة العسكريين إخلاصا ، وهو سالم آل سبهان الذي لايعرف الرحمة أميرا للرياض .
كان عبدالعزيز الذي صار فيما بعد ملكا للعربية السعودية يرى أن هناك ثلاثة أسباب لسقوط عمه الأمير عبدالله : (لم يستقم الأمر لعبدالله لثلاثة أسباب : (أولاد – وجود أبناء أخيه في الخرج يحرضون القبائل عليه ، ثانيا – مناصرته لآل عليان أمراء القصيم السابقين على أعدائهم آل مهنا الأمراء الحاكمين في ذلك الحين . وكان هذا جهلا من عبدالله في وقت ضعفه ليس من الحكمة أن يتحزب لبيت مغلوب فيضعضع نفوذه في القصيم . ثالثا – ظهور محمد بن الرشيد الطامع بحكم نجد . فقد تحالف مع آل أبي الخيل ... وكانوا كلهم يدا واحدة على إبن مسعود) . وانتهى وجود دولة السعوديين الثانية رسميا في آواخر عام 1887 .
وفي وفي آب (أغسطس) من العام التالي تمكن حاكم الرياض سالم آل سبهان من اللحاق بأولاد مسعود . ويتضح النطاق الفعلي لقواتهم من عدد أفراد فيصل شمر الذي طاردهم – 35 شخصا لاغير . وقد قتل ثلاثة من أولاد سعود ، وقتل الرابع قبل ذلك ، أما الخامس فقد فر إلى الأخير لسعود كان أسيرا فخريا في حائل . وفي شتاء 1889/1890 قام الشمريون بغزوة وصولا فيها إلى الحجاز . وعندما عاد إبن الرشيد إلى العاصمة علم بأن ضيفه الأسير عبدالله بن فيصل مريض وأن حالته خطرة . فسمح له بالعودة إلى الرياض مع أخيه عبدالرحمن بن فيصل . عاد عبدالله إلى عاصمته الخالية وتوفي في تشرين الثاني (نوفمبر) 1889 . وقبل 24 عاما من ذلك ، عندما تربع على العرش ، كانت إمارة الرياض تمتد من جبل شمر حتى المناطق الداخلية في عمان ، ومن الخليج حتى الحجاز وحدود اليمن . وعندما توفي وهو تابع لحائل لم يكن عنده غير منطقة العارض وسيادة إسمية على الوشم وسدير . وكان ثلث تلك الفترة تقريبا هاربا مشردا ، بينما كان آخرون يحكمون الدولة المتداعية . ونعته فيلبي بالحاكم (غير القدير) . إلا أن مجمل الملابسات غير الملائمة وليس الضعف الشخصي ، هي الأسباب الحاسمة في هلاك دولة السعوديين .
وصار عبدالرحمن أمير للرياض . وقد اصطدم في عام 1860 مع حاكمها الشمري سالم وأعلن الانتفاضة عليه . وحاصرت قوات إبن الرشيد الرياض ، إلا أن المدينة كانت آنذاك قد تعززت كثيرا . وأخفق الحصار ، تعقد الطرفان هدنة . وظل عبدالرحمن حاكما للرياض وبعض المناطق المجاورة لها ولكن بصفة تابع في في الواقع لمحمد بن الرشيد .
وفي تلك الأثناء فضل أهالي عنيزة وبريدة في القصيم التحالف مع عبدالرحمن ضد جبل شمر بعد أن تأكد لهم أن سلطة الشمريين تتقوى عليهم وأن الضرائب تزداد والامتيازات تتقلص . وفي أواخر عام 1890 تشكل ائتلاف واسع نسبيا للعناصر المناهضة لآل الرشيد من بين أهالي القصيم وأنصار عبدالرحمن وقبائل مطير . وجمع إبن الرشيد كل قواته ، بما فيها وحدات من قبائل شمر وكذلك من حلفائها من بدو الظفير وحرب والمنتفق . وكتب أ. موسيل يقول أن إبن الرشيد (بعث 30 رسولا على أربعين ناقة موشحة بستائر سوداء إلى مختلف أفخاذ وبطون شمر التي خيمت آنذاك بين كربلاء والبصرة . وكان يراد للستائر السوداء أن تبين بوضوح لجميع رعايا الأمير محمد بأن عارا أسود سيلطخهم إذا لم يهبوا فورا لنجدة زعيمهم) . ونشبت معركة كبيرة هي وقعة المليدة في القصيم اقتتلت فيها من الجانبين آلاف عديدة من المحاربين . وربما كانت تلك أكبر معركة منذ الغزو المصري .
واستمر القتال سجالا طوال شهر . إلا أن عبدالرحمن ، لسبب ما ، لم يهب لنجدة حلفائه وتركهم وحيدين في مواجهة الشمريين . الحيلة متظاهرا بالانسحاب ، ولكنه نظم بعد ذلك هجوما مضادا مباغتا . جمع بضعة آلاف من الجمال في الوسط وحركها إلى الأمام بعد أن أطلق النار على القصيميين . وتقدم المشاة من وراء الجمال . وسدد الهجانة والفرسان في وقت واحد ضربات من الجناحين . وفقد القصيميون مابين 600 أو 1200 شخص ، وفر الكثيرون إلى الكويت والعراق والشام . وعزز إبن رشيد لعشر سنين تقريبا مواقعه كحاكم بلا منازع لأواسط الجزيرة .
وعندما بلغ عبدالرحمن بن فيصل نبأ هزيمة حلفائه فر إلى البادية وبعد تجوال طويل استقرت عائلته في عام 1893 في الكويت تحت حماية شيخها محمد الصباح . وخصصت الحكومة العثمانية لعبدالرحمن معاشا متواضعا بستين ليرة ذهبية شهريا . وانتقلت السلطة كاملة في الرياض إلى عجلان وهو من عبيد محمد بن الرشيد . وتم تقسيم نجد إلى عدة مناطق خاضعة لجبل شمر .
وغدا حاكم جبل شمر سيدا لبلد مستنزف مخرب ، ومحروم من منفذ إلى البحر . وكتب جميع الرحالة الذين زاروا أواسط الجزيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عن البساتين الذابلة والنخيل الميتة والآبار التي اجتاحها الرمال والقوى الموات . ولم تكن الدولة الخائرة بقادرة على حماية الواحات من البدو . ونزح آلاف الناس إلى العراق أو إلى سواحل الخليج . وتضررت التجارة . وكتب أمين الريحاني عن الأحوال العصيبة التي واجهها التجار آنذاك . وأسفرت مخاطر نقل البضائع بطرق القوافل التجارية عن تذبذب في الأسعار ونسقت العلائق الاقتصادية وأدت إلى إفلاس الصناع والتجار .
وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر لم تحل دون الانتفاضات إلا القوة العسكرية لدى محمد بن الرشيد . ولكن القلاقل بدأت على أثر وفاته ، وأخمدها بوحشية الأمير الجديد لجبل شمر عبدالعزيز بن الرشيد . فقد نهب المدن والقرى بلا رحمة وخنقها بالغرامات الحربية . ولكنه تورط في صراع مع الكويت فعجز عن السيطرة على النزاعات القبلية الإقطاعية التي تصاعدت في كل مكان وعن الحيلولة دون نهب البدو للواحات . وقال موسيل : (كان الحضر جميعا يحنون إلى سلطة قوية تحمي أموالهم وحياتهم) .
آل الرشيد في أواخر القرن التاسع عشر
يقول المؤرخ خالد الفرج : (اعتمد محمد العبدالله الرشيد في تشييد إمارته على سياسة (فرق تسد) واتكأ على قوة عشيرته (شمر) وهي من كبريات القبائل المشهورة بالفروسية والشجاعة ... وخص الأتراك بكثير من المجاملة والمسايرة لأن طرفي طريق الحجاج الذي يقوم آل رشيد على إيراده ، وهما العراق والحرمان ، في أيديهم ، حتى أنه اعترف بخضوعه للسلطان عبدالحميد . وتعددت منه الرسل والهدايا إلى (الباب العالي) وحاز النياشين الرفيعة وقبل المعتمدين المندوبين من الحكومة العثمانية . فصارت تعتمد عليه ، وتعده من أ:بر المخلصين لها ، وتراه الوسيلة الفعالة التي قضت على آل سعود ومحت إمارتهم من الوجود ، فأغدقوا عليه العطاء وخصوه بالمساعدات والتعضيد . وكان على الأجمال رجل وقته ، إلى أن توفي سنة 1315 هـ (1897 م) مريضا بذات الجنب ، عقيما لم يخلف ولدا) . وورث الحكم عنه إبن أخته عبدالعزيز المتعب الذي كان في حوالي الثلاثين من العمر ، وكان محاربا باسلا ومغامرا ، ينساق للغضب والاستعجال في اتخاذ القرارات . كان يجيد استخدام السيف أكثر مما يجيد السياسة ، وكان يفعل قبل أن يفكر . وفي غضون عشر سنين بدد القسم الأكبر من الإرث الذي خلفه له خاله الجبار .
ولم تستطع إمارة جبل شمر أن تلعب دول الدولة الموحدة المستقرة . فهي تستند إلى قبيلة شمر ، ولذا اعتبرها سائل السكان أداة سيطرة اتحاد قبلي واحد على القبائل الأخرى وليس سلطة لعموم الجزيرة العربية تتجاوز الأطر القبلية . وفي أواخر القرن التاسع عشر وقعت إمارة جبل شمر في تبعية متزيادة للإمبراطورية العثمانية فغدت وسيلة لنقل النفوذ العثماني إلى شبه الجزيرة ، ولذلك فإن تذمر واستياء أعراب الجزيرة من حكم الأتراك شملا أمراء حائل أيضا . وكانت بريطانيا قد عززت مواقعها على ساحل الخليج وأعاقت محاولات الأتراك لاستعادة مواقعهم ، وأخذت تؤيد منافسي إمارة جبل شمر . وأخيرا ، بعد وفاة محمد الرشيد ، لم تتمكن العائلة الحاكمة الغارقة في النزاعات من ترشيح أي حاكم بمنزلة عبدالعزيز بن عبدالرحمن مؤسس العربية السعودية المرتقب . وكانت كل هذه العوامل التي أضيفت إليها فيما بعد المشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الأتراك قد أسفرت من غروب وسقوط إمارة جبل شمر القوية .
تنافس الدول على حوض الخليج في مطلع القرن العشرين والوضع في الجزيرة العربية
لقد بين تاريخ الدولتين السعوديتين الأولى والثانية بوضوح مدى تشابك مصير الجزيرة العربية مع التطور العام للوضع في هذه المنطقة من العالم . فإن مستقبل الكيانات الدولية في الجزيرة حدده ليس فقط تناسب القوى في البادية ، وأحيانا لييس تناسب القوى فيها بالذات ، بل وكذلك القرارات المختلفة في لندن واسطنبول والقاهرة وبرلين وكذلك بطريسبورغ وباريس .
كانت أقوى دولة استعمارية في أواخر القرن التاسع عشر – بريطانيا – قد استولت ، بعد شق قناة السويس في 1869 ، على مصر عام 1882 وسعت إلى السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على الجزيرة العربية كلها . وكانت الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية في الهند قد شدت إليها بشكل أوثق سلطنة عمان وإمارات ساحل الصلح البحري وقطر والبحرين . وكان قد جاء دور الكويت التي كانت رسميا تحت السيادة العثمانية . ومع أن الخليج العربي كان من الناحية النظرية ممرا مائيا دوليا ، فقد غدا عمليا بحيرة بريطانية . كانت المواصلات البرقية الإمبراطورية تمر عبر الخليج العربي إلى الهند وإلى أستراليا . وكانت حصة بريطانيا العظمى والهند البريطانية في صادرات بلدان الخليج 40% ، وفي وارداتها 63% . وكانت جميع البضائع تقريبا تصدر وتستورد من هناك على سفن تحمل العلم البريطاني وكان الأسطول البحري الحربي البريطاني يسيطر على الخليج والمحيط الهندي .
وكان المندوب البريطاني السامي في منطقة الخليج يسمى (بالمعتمد السياسي لصاحب الجلالة ملك بريطانيا في الخليج الفارسي والقنصل العام في فارس وخوزستان) . وكان على حد تعبير نائب الملك في الهند كيرزون (ملكا غير متوج للخليج الفارسي) . وعلى لاساحل العربي من الخليج كان لبريطانيا معتمدون سياسيون خاضعون لها في مسقط والكويت والبحرين . وكان المعتمد السياسي مسئولا أمام الحكومة البريطانية الهندية ، وكان كقنصل عام ، خاضعا للسفير البريطاني في طهران . لقد طرحت السياسة البريطانية في الخليج العربي مهمة مزدوجة هي السيطرة على طرق المواصلات البحرية وغيرها من الطرق المؤدية إلى الهند وأحلال (الوئام البريطاني Pax Britannica) في الخليج والذي يقصدبه سيادة المصالح التجارية البريطانية وعدم السماح بدخول دول أخرى إليه .
وفي أواخر القرن التاسع عشر شمل تناجر الدول الكبرى وتوسعها الاستعماري حوض الخليج . وكان الإمبراطورية الألمانية تبحث بشكل مسعور خصوصا عن مكان لها تحت الشمس . وكانت حكومة غليوم الثاني التي أعلنت بأنها (حامية للإسلام) قد أخذت تتقارب أكثر فأكثر مع حكومة السلطان العثماني وتعزز بنشاط مواقعها الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الإمبراطورية العثمانية . واعتبارا من أواخر الثمانينات ظهرت فكرة مد سكة حديد اسطنبول – بغداد وإيصالها إلى الخليج بغية التغلغل إلى هذه المنطقة بدون الطرق البحرية التي تسيطر عليها بريطانيا . وفي عام 1899 حصل الألمان على امتياز أولي لمد السكة المذكورة مع إيصالها إلى الكويت . وظهر خطر نشوء خط استراتيجي مباشر بين برلين والخليج ، الأمر الذي يهدد السيطرة البريطانية في الخليج والجزيرة العربية والشرق الأوسط كله . وفي غرب الجزيرة كان الألمان يساعدون الأتراك في مد سكة حديد الحجاز التي تربط بين دمشق والمدينة المنورة .
وكانت بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر تعتبر روسيا القيصرية التي تحالفت مع فرنسا منافسا خطرا أيضا في هذه المنطقة . ونوقش في بطرسبورغ بصورة جدية مشروع الحصول على امتياز لمد سكة حديدية عبر القفقاس إلى الخليج . وليس من قبيل الصدفة أن السلطات البرطانية في الهند اعتبرت زيارات السفن الحربية الروسية والفرنسية إلى موانئ الخليج (لعرض العلم) ومحاولاتها للعثور على مكان لمحطة فحمية تحديا مباشرا .
واشتدت التناقضات الإنكلوفرنسية بشأن مسقط التي حاول الفرنسيون في 1899 أن ينشئوا محطة للفحم فيها . وفي عام 1903 قامت السفن الروسية والفرنسية بزيارة مشتركة لموانئ الخليج والجزيرة العربية . وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأ تغير في السياسة البريطانية التقليدية إزاء الإمبراطورية العثمانية . ففي السابق كانت لندن تسعى إلى الحفاظ على وحدة تلك الإمبراطورية مؤملة في إخضاعها بالكامل واستخدامها في الصراع ضد روسيا . إلا أن مركز ثقل المصالح البريطانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط وفي الشرق الأوسط انتقل تدريجيا من القسطنطينية إلى مصر وبلاد الرافدين . ولعب ازدياد النفوذ الألماني في الإمبراطورية العثمانية دورا غير ضئيل في تغيير تلك السياسة . وأخذ سولزبري الذي صار من جديد رئيسا لوزراء بريطانيا عام 1895 يتحدث عن انقسام الإمبراطورية العثمانية . وكان المقصود أن تكون الجزيرة العربية وحوض دجلة والفرات ، شأن مصر والسودان ، منطقة للسيطرة البريطانية . وفي سياق هذه الخطط كانت لندن تعتبر الاحتفاظ بالسيطرة على الخليج من أكبر المهمات . وفي عام 1903 زار أسطول بريطاني يحمل علم كيرزون نائب الملك في الهند موانئ الخليج العربي . وكان ذلك أكبر أسطول أجنبي في مياه الخليج منذ عهد العمارة البرتغالية البوكيركا عام 1515 . ودافع كيرزون في خطبه عن المواقع البريطانية بالأسلوب الملازم للعصر الاستعماري عصر (نير الإنسان الأبيض) .
ومع أن ركود الإمبراطورية العثمانية استمر في أواخر القرن التاسع عشر إلا أن مواقعها في الجزيرة العربية تعززت بعض الشيء بسبب تقوية وتحسين الجيش وتطور المواصلات . وكان الأتراك ، بعد الإنجليز ، أهم عامل في شئون الجزيرة .
وكان افتتاح قناة السويس قد غير بصورة جوهرية مكانة الأتراك في غربي الجزيرة . فلئن كانت تصل إلى هنا في السابق طوابير من الجنود المتعبين بعد مسير طويل عبر البادية وكان مجرد إرسالهم يكلف غاليا ، فقد صار الجنود يرسلون بحرا عن طريق القناة . وفي سبعينات القرن التاسع عشر استطاع الأتراك أن يحتلو اليمن وعسير من جديد . بديهي أن والي جدة وشريف مكة كانا في نزاع دائم فيما بينهما . وكانت العلاقات بين والي جدة وحاكم مكة عون الذي تسنم هذا المنصب اعتبارا من عام 1883 قد تأزمت في الثمانينات . فقد بدأ الوالي بأداء أعمال عامة فحسن تزويد جدة بالمياه وأعاد بناء ترعة زبيدة وأنشأ مبنى جديدا لحاكمية المدينة كما أنشأ عنابر ومباني للخفراء . وسمح الوالي العثماني لعون بأداء وظائفه القضائية ولكن فقط في المسائل المرتبطة بعشيرته والبدو والأشخاص من غير الأتراك والذين ولدوا في مكة نفسها . وأخذ الأتراك يشرفون علىطرق القوافل ويقومون بحملات على قبيلة حرب بدون موافقة شريف مكة . وتقلصت عائدات عون من الرسوم الجمركية . وعند ذاك انتقل شريف مكة وقسم من أبرز أفراد عائلته مع الوجهاء والتجار ومفتي الشافعيين والعلماء الآخرين إلى المدينة المنورة احتجاجا على تصرفات الوالي حتى تمكنوا من إقناع السلطان بتنحيته .
وكان الوالي الجديد جمال باشا أكثر حذرا من سابقه . وازداد نفوذ شريف مكة بعض الشيء ، إلا أن الصدام بينه وبين الباشا استمر . وترى موقف العرب من الأتراك . وبعد وفاة عون في عام 1905 تسلم منصف الشرافة على صنيعة الأتراك . وفي تلك الفترة اندلعت ثورة تركيا الفتاة ، فنحى جمال باشا بوصفه من أنصار النظام السابق . وبعد فترة قصيرة من الغموض فيالموقف عين لمنصب الشرافة في خريف 1908 الزعيم الرمتقب للإنتفاضة العربية الحسين بن علي الذي كان أسيرا فخريا في الاستانة منذ عام 1893 مع أولاده الثلاثة علي وعبدالله وفيصل .
وفي عام 1908 نفسه افتتحت في الحجاز سكة حديد معان – المدينة المنورة . وأدى مد هذه السكة إلى تحسين كبير في المواقع العسكرية الاستراتيجية للأتراك في غربي الجزيرة . إلا أن الإمبراطورية العثمانية في شرقي الجزيرة لم تتمكن من تعزيز مواقعها بسبب مقاومة بريطانيا وبسبب تصاعد الميول المعادية للأتراك عند عرب الجزيرة .
وسعت الكويت التي غدت في أواخر القرن التاسع عشر مرفأ رئيسيا لباطن الجزيرة ومركزا تجاريا مزدهرا إلى التقليل من تبعيتها للأتراك ، وهي تبعية شكلية أصلا . وأخذ شيخ الكويت محمد الصباح يتدخل على نحو نشيط في الصراع داخل الجزيرة ، حيث كانت إمارة جبل شمر التابعة للعثمانيين تشكل خطرا فعليا عليه ، ولذلك وفر الحماية عبدالرحمن بن فيصل الذي يدعي بأحقيته في عرش الرياض . واحتفظ هذا الأمير الذي فر من الرياض بعلاقات مع واحات وقبائل أواسط الجزيرة فشجع الميول المناهضة للشمريين هناك . وفي عام 1896 قتل محمد الصباح وأخوه بيد أخيها الثالث مبارك الذي غدا شيخا للمدينة ولقبائل أطرافها . وصار هذا الحاكم الجديد للكويت يمارس طوال عشرين عاما تقريبا تأثيرا غير قليل على الأحداث في الجزيرة .
وكانت قبيلة المنتفق القوية وعلى رأسها فخذ آل سعدون في جنوب العراق عاملا له شأنه في السياسة في أواسط الجزيرة . إلا أن المنتفق كانوا يعتبرون البادية مجرد جهة لغزوات النهب . وفي تلك الأثناء كانت الحكومة البريطانية مشغولة البال بالخطط الألمانية التركية لاستعادة الكويت ووضعها تحت السيطرة العثمانية المباشرة وتأمين منفذ سكة حديد برلين بغداد إلى البحر . وحاول الأتراك مرارا الاستيلاء على الكويت ونفي الشيخ مبارك إلى اسطنبول . وكان مبارك يدرك ذلك فيطلب الحماية من الإنجليز الذين كان في الماضي يتحاشى التعاون الوثيق معهم . وفرضوا عليه معاهدة سرية غدت الكويت بموجبها محمية بريطانية . ووقعت في 23 كانون الثاني (يناير) 1899 . والتزم الشيخ ، فيما التزم ، بعدم تقديم امتيازات لأحد ماعدا بريطانيا . وعادت بخفي حنين البعثة الألمانية التي وصلت إلى الكويت في العامل التالي للخصول على حق إيصال سكة حديد بغداد إلى الكويت .
وصار الإنجليز يشعرون بالقلق من إمارة حائل بوصفها تابعة مخلصة للأتراك . وكان السعي إلى إضعاف هذه الإمارة إحدى مهمات السياسة البريطانية في شبه الجزيرة ، مع أن ذلك لم يكن يستبعد في بعض الحالات استخدام الإنجليز إمارة حائل لأغراضهم . وأخذوا يؤيدون خصوم الأتراك وجبل شمر في الجزيرة العربية ، الأمر الذي كان له تأثيرا هام ، إن لم نقل حاسم ، على نجاح عودة أل سعود إلى السلطة في نجد.