تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الثالث عشر
الفصل الثالث عشر:البنية الاجتماعية السياسية للملكة العربية السعودية إثر قيامها
شغلت المملكة العربية السعودية الجزء الأكبر من شبه الجزيرة العربية وشملت عددا من الكيانات الإقطاعية القبلية التي كانت تربطها عرقات تبعية متفاوتة بالإمبراطورية العثمانية . وأدى قيام دولة مركزية تطمن في المقام الأول مصالح الصفوة الإقطاعية القبلية عموما والتجار ، إلى ضمان أمن سكان البلاد ، ودفع ويلات التناحر الإقطاعي القبلي . غير أن الجماهير صارت عرضة لاستغلال ضرائبي متعاظم الوطأة ، ولاضطهاد الفئة العليا والجهاز البيروقراطي المتضخم ، في حين أن الحريات الديمقراطية العشائرية للبدو توارث تدريجيا ليحل محلها طغيان النظام الملكي الإقطاعي .
وقد اتخذ آل سعود من التبشير بالإصلاح الديني على الطريقة الوهابية ركيزة وراية في صراعهم من أجل توحيد أراضي نجد بزعامة الرياض . وفي حقبة تاريخية حرجة تزعم حركة الانبعاث الجديد لإمارة نجد زعيم إقطاعي ورجل دولة وقائد عسكري يعتبر فذا في الإطار المحلي ، ألا وهو عبدالعزيز بن عبدالرحمن (ابن سعود) .
وكان ينبغي أن تتوفر ظروف خارجية ملائمة ووضع دولي مناسب ، لكي يصبح الطموح إلى المركزية وقيام الدولة المستقلة في نجد أمرا واقعا ، ولكي تتمكن هذه الدولة من ضم بعض المقاطعات المجاورة . وقد ساعد على نجاح ابن سعود في المرحلة الأولى دعم بريطانيا له في كفاحه ضد الإمبراطورية العثمانية وولاتها ، وانهيار هذه الإمبراطورية نتيجة للحرب العالمية الأولى ، كما ساعده بعد ذلك عجز بريطانيا التي أخذ الوهن يدب في اقتصادها ، عن فرض سيطرة مباشرة على جزء كبير من الجزيرة العربية التي بدت للبريطانيين غنيمة باهظة الثمن ومثقلة .
إن الباحث الموضوعي الذي يتعامل مع الوقائع لايجد تغيرات جديرة بالاهتمام في مستوى تطور قوى الإنتاج في مجتمع الجزيرة خلال الثلث الأول من القرن العشرين بالمقارنة مع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . بل يمكن الافتراض بأن الدمار الاقتصادي الذي أحدثته الحروب والانتفاضات المتتالية ، بالإضافة إلى الأزمة المتفاقمة في تربية الإبل ، قد أديا إلى انتكاس اقتصادي . وعند متابعة عملية نشوء العربية السعودية في القرن العشرين لانجد فيها طبقات أو فئات أو شرائح جديدة تختلف مبدئيا من حيث طابعها وموقعها في المجتمع عن القوى الاجتماعية التي كونت الدولة السعودية الأولى في القرن التاسع عشر تحت لواء الوهابية . بعد الحرب العالمية الأولى طرحت في عدد من البلدان العربية – مصر ، سورية ، فلسطين ، العراق ، الجزائر ، المغرب – مسألة نيل الاستقلال الوطني للسير في طريق تطور مستقل يرتهن طابعه بتناسب القوى بين العناصر الإقطاعية والبرجوازية وبمستوى الاقتصاد ودرجة التحديث ونمو الطبقة العاملة . وفي هذه الأثناء لم تكن في العربية السعودية المستقلة سياسيا حتى أجنة العلاقات الرأسمالية ، بل إن الدولة تكونت على أساس إقطاعي قبلي بدائي في مجتمع قروسطي من حيث الجوهر . ولكن العربية السعودية لم تكن البتة معزولة عن العالم المحيط بها ، لذا كان من المتعذر أن يبقى تركيبها الداخلي بمنأى عن التأثيرات الخارجية . وقد تجسد ذلك سواء في الأدوات الفنية لإقامة الدولة المركزية (اللاسلكي ، التلفون ، الطيران ، السيارات) أو في الأشكال التنظيمية : استحداث الوزارات والمديريات والنظام المدرسي . غير أن التصادم بين المؤسسات الاجتماعية السياسية التقليدية النابعة من مجتمع العربية السعودية ذاته والمناسبة للإقطاع الشرق أوسطي ، وبين نزعات التحديث المستقدمة من الخارج ، لم يخل بالاستقرار الاجتماعي السياسي في الدولة خلال العقد الأول . ويعزي ذلك ، في المقام الأول ، إلى الضعف المطلق والنسبي لنزعة التحديث الوافدة من بلدان شرق أوسطية أكثر تطورا بمراحل . كما يعزي إلى الهيمنة التامة للبنى التقليدية . ولم يبدأ التغير الجذري في الوضع إلا في أواخر الأربعينات حينما أخل انفجار العوائد النفطية بالتوازن الاجتماعي القديم في البلد .
إن تسمية البلد ذاتها – المملكة العربية السعودية – تعني أنها واقعة تحت سيطرة آل سعود . ويرمز لون علم الدولة الأخضر إلى الجنة ، وهو اللون الأثير لدى النبي محمد . وقد نقشت على العلم عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ورسم سيف أبيض يرمز إلى الجهاد .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سلطة الملك - العلاقات بين الصفوة الإقطاعية العشائرية وعلماء الدين
إن تغير ألقاب الحاكم السعودي هو انعكاس لما حدث من تغيرات في سلطته السياسية . ونعيد إلى الأذهان أن الأتراك كانوا يخاطبون ابن سعود بعبارة حاكم نجد والقائد عبدالعزيز باشا بينما خاطبه الإنجليز بعبارة الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ عبدالرحمن آل سعود . وفي عام 1921 بايعه الأمراء والشيوخ وعلماء الدين سلطانا لنجد وملحقاتها وأصبح يلقب بصاحب الجلالة في المكاتبات الرسمية . وفي عام 1926 ملك العربية السعودية . ولكن هذه الألقاب جميعا كانت في المرحلة الأولى للاستهلاك الخارجي أساسا ، ولتعزيز الهيبة الدولية للبلد وحاكمه .
أما داخل البلد فقد ظل ابن سعود بالنسبة للحضر أميرا ، أي حاكما إقطاعيا ، لنجد والأراضي التي فتحها ، ولذا كان تحول لقبه إلى سلطان وملك أمرا طبيعيا بالنسبة لهم . هذا بينما اعتبره البدو شيخ المشايخ . وقد أراد آل سعود تعزيز مكانتهم كشيوخ للمشايخ فنسبوا أصلهم إلى قبيلة عنزة وهي أكبر قبائل الجزيرة وأشدها بأسا . وتمكن عبدالعزيز من السيطرة على البدو الكثيري العدد والصعبي القياد في السابق ، وذلك باستخدامه الحاذق لأرستقراطية القبائل والجمع بين أساليب الضغط والتنكيل وبين توزيع الهبات وإغداق العطايا على الأعيان .
خلعت على سلطة الطغيان المسموح الأبوية – الديمقراطية . فقد كان بإمكان أفقر البدو مخاطبة الملك بكل بساطة وبدون ألقاب . وكان عبدالعزيز يحب أن يسمي ابن فيصل تذكيرا بجده ، أو ابن مقرن تذكيرا بواحد من أسلافه وأصل الفخذ السعودي ، أو أخا نورا ، وهي أخته الأكبر التي كن لها الحب والاحترام . ثمة مثال أعلى للعربي القح إبن الجزيرة ، أنه مثال البدوي الذي تضفي عليه مسحة رومانسية في مجتمع الجزيرة وفي بعض البلدان العربية الأخرى : فهو محارب شجاع ، يسهر على حماية الإسلام وسموح مع المغلوب ، علاوة على أنه رجل فحل . وقد تعمد ابن سعود أن يخلع على نفسه هذه الصفات طلبا للهيبة والجاه .
لكن (ديمقراطية) و (أبوية) الملك لم تخدعا كل من أدرك الموقع الحقيقي للملك المطلق في نظام الدولة المركزية . لقب عبدالعزيز ، شأن أسلافه ، بالإمام . ولم يكن ذلك يعني أن يؤم المصلين فحسب ، بل يعني أيضا زعامته لجميع الموحدين المناهضين للمشركين من مسلمي البلدان الأخرى . ورغم انحسار روح العصبية لدى الجماهير بعد فشل انتفاضة الإخوان ، فإن اتباع الإمام بوصفه الزعيم الديني كان عامل توحيد للمجتمع وجعل من الدين هالة تضفي على أعلى سلطة في الدولة .
لقد كان رئيس دولة الموحدين في الوقت ذاته قائدهم العام الذي يستنهضهم للجهاد ضد المشركين . وأدى عبدالعزيز هذه المهمة بنجاح أثناء حروبه الاغتصابية . ح-ذا عبدالعزيز حذو أسلافه في اتخاذ التقاليد الإسلامية ، وبخاصة تعاليم ابن تيمية ، مصادر يستمد منها الحجج لتدعيم السلطة المركزية . وكان ابن تيمية يرى أن المجتمع المثالي هو الذي يكون فيه الرأي المطاع لفئتين : العلماء المتمسكين بالشريعة والأمراء الحائزين على السلطة السياسية اللازمة لتطبيق أحكام الشرع .
ويجب على رعايا الأمير إطاعته دون قيد أو شرط . والأمير هو المشرف على التطبيق السليم لأحكام الشرع التي تشمل المسلمين كافة ، وهو الذي يتولى تنفيذ الأحكام القضائية ويقوم بعمل الخير والإشراف على الأشغال وتوفير الأمن للرعية وضمان عمل الخدمات العامة بشكل طبيعي ، وهو أخيرا الجهة التي تصدر عنها التوجيهات الاجتماعية والاقتصادية التي تكفل لكل فرد العزة في إطار الشريعة وطبقا لموقعه في المجتمع .
يتشاور الأمير مع العلماء في إدارة أعماله ، ولكن من حق الأمراء التصرف وفق ماتمليه عليه ضمائرهم . والأمي رملزم بالتمسك بأحكام الكتاب والسنة وفقا لتفسيرات العلماء . وهذا يوفر للعلماء وسائل هامة ، وإن كانت محددة ، للتأثير والرقابة . ومن الناحية النظرية فإن الأمراء أحرار في تصرفاتهم في كل مالا يتعلق بالدين ، ولكن من الناحية العملية يتخلل الإسلام كل ميادين الحياة في السعودية . لذا يلعب العلماء في المجتمع الوهابي دورا هاما ومما يزيد من هيبتهم أن الكبار منهم ينتسبون إلى آل الشيخ الذين تصاهروا مع آل سعود منذ أمد طويل .
إبان الأزمة التي سببتها عصبية الإخوان عامي 1914-1915 ، أصدر عبدالعزيز مرسوما ، وأصدر العلماء فتوى ، يدينان تعصب الإخوان ومغالاتهم . غير أن علاقات ابن سعود بالعلماء شهدت فترات تأزم . وحسبنا التذكير بأن العلماء وقفوا ضد استخدام التلغراف واللاسلكي . وعلى أية حال فقد كانت الغلبة لإرادة عبدالعزيز عند حصول نزاعات حول قضايا كبرى ومبدئية . فذات مرة عارض العلماء زواج عربي غير وهابي على فتاة من إحدى عوائل الرياض العريقة ، ولكن عبدالعزيز لم يحفل برأيهم بل وطرد ثلاثين عالما من نجد . ولعل النزاع حول هذه المسألة كان مجرد حجة اتخذها الحاكم للتخلص من علماء لايستأنس بهم . وكان يطلب من كل فرد في البلد إطاعة الأمير وإسداده النصح عند الاقتضاء . وفي عام 1950 قال فيصل في خطاب ألقاه عند افتتاح مجلس الشورى أن (واجب الرعية هو مساعدة الجهات المنوط بها أمر التنفيذ ، لتسهيل مهمات السير بحسب الأوامر والتوجيهات التي توجه إليهم) .
كان عبدالعزيز يتظاهر دوما باحترام العلماء ولهم في مجلسه كلمة مسموعة ، كما أنه كان يستمع إلى نصحهم. وقد أظهر العلماء سلطتهم حينما قرر ابن سعود الاحتفال بالذكرى الخمسين لجلوسه على العرش . ورد العلماء بأن الإسلام لايعرف عيدا من هذا القبيل فوافق الملك على رأيهم . وفي بعض الحالات كان عبدالعزيز يتعامل مع ملاحظات العلماء بروح النكتة . فقد روى أنه كان يتمشى في قصره بالرياض وعليه ثوب طويل يمس الأرض ، فدخل عليه أحد العلماء وقال (الله يا عبدالعزيز! لقد دخلك الكبر وصرت تجر ذيلك وراءك) . التفت عبدالعزيز إلى الخدم في الحال قائلا : (هاتوا المقص) . فلما جاؤوا به أعطاه إلى الشيخ وقال : (قص ماتراه مخالفا للدين!) .
كتب فيلبي عام 1918 يقول أن عدد العلماء ستة في الرياض وثلاثة في القصيم وثلاثة في الإحساء وهناك عالم واحد في كل من مناطق نجد الأخرى ، ويقرب عددهم الإجمالي من العشرين . ويبدو أنه يقصد كبار العلماء فقط ، وعلى أية حال فإن عددهم في العاصمة كان يتغير من عام لعام . كان العلماء في السعودية يعتبرون متضلعين في الفقه والشرع بفضل عمق إيمانهم وانكبابهم على الدراسة . ومن الطبيعي أن العلماء ينتسبون في العادة إلى قبائل (كريمة المحتد) أو من السادة ، الذين يعتبرون من سبط النبي . إلا أن أكثر علماء السعودية هيبة وثقة هم أفراد آل الشيخ ، رغم أنهم ليسوام ن السادة . وكانت تربط آل الشيخ صلات قربى مع عبدالعزيز تعود إلىزمن عبدالعزيز الأول وابن عبدالوهاب . وكان الملك فيصل الذي قتل عام 1975 إبنا لعبدالعزيز من زوجة من آل الشيخ .
حينما حان الوقت لإجراء تحديث ولو جزئي في الدولة الإقطاعية وقف العلماء وقفة حازمة ضد التغيير ، وما برحوا متمسكين بموقفهم حتى يومنا هذا . وفي حزيران (يونيو) 1930 احتج العلماء الذين اجتمعوا بمكة على أدراج مواد مثل الجغرافيا واللغات الأجنبية والتخطيط الهندسي في برنامج مديرية المعارف المؤسسة حديثا . وزعموا أن التخطيط الهندسي هو تصوير بكل حال ، أما اللغات فاعتبروها وسيلة لمعرفة الأفكار الدينية للمشركين ، وأثارت الجغرافيا نقمتهم لقوها بكروية الأرض . بيد أن عبدالعزيز تجاهل احتجاجاتهم . وفي حالات أخرى وقف علماء الرياض إلى جانب عبدالعزيز مناهضين لتعصب الإخوان .
في مطلع الخمسينات تكون نوع من السلم الوظيفي بين علماء الدين . فقد اعتبر مفتي الديار السعودية بمثابة رئيس للعلماء . وحظي بهيبة خاصة رئيس جماعة الأمر بالمعروف في الرياض وقاضي القضاة في مكة وقاضي الدلم وقاضيا المحكمة الشرعية في الرياض وعضو لجنة الأمر بالمعروف في الرياض . لعب عبدالله بن محمد بن عبداللطيف ، وهو فقيه وخطيب شهير من آل الشيخ ، دورا هاما في إرساء الركيزة الدينية للدولة المركزية . وقد درس في المدينة وتونس والقاهرة وطاف المغرب وأسبانيا والهند وأفغانستان وإيران والعراق . وقد انضم إلى آل سعود إبان فترة نفيهم في الكويت وتتلمذ عليه عبدالعزيز . وظل عبدالله حتى وفاته عام 1925 زعيما لاينافس لآل الشيخ . ويقول فيلبي أنه كانه يلقي خطب الجمعة في مسجد الشيخ عبدالله بحي العلماء في الرياض ومواعظ في المسجد الجامع بالرياض ، كما أنه كان قاضي القضاة في العاصمة .
أدى قيام المملكة العربية السعودية وتوطد استقلالها وانبعاث بعض المؤسسات الاجتماعية السياسية الإسلامية إلى استنارة الاهتمام بالوهابية من جديد خارج حدود المملكة . ففي مصر وجدت مجموعة محمد رشيد رضا التي كانت مجلة (المنار) أساسا لها ، وجدت في الوهابية آراء مماثلة لما تدعو إليه . فقد كانت هذه المجموعة تدعو إلى تحديث المجتمع الإسلامي بالاستفادة من منجزات الحضارة الغربية (الأوروبية ، الرأسمالية) وتطالب من جهة أخرى بالعودة غير المشروطة إلى القيم الإسلامية وبعث الأفكار والمؤسسات التي كانتق ائمة في صدر الإسلام ، واعتمادها في كل مناحي الحياة . وقد هيأت مجموعة رضا التربة لانتشار أفكار حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين . وألف رضا نفسه عدة كتب يثنى فيها على الوهابية . وفي داخل مصر كان يمكن اعتبرا ذلك تعبيرا عن الميول المعارضة للملك فؤاد ، لأن العلاقات بين مصر والسعودية ظلت مقطوعة حتى عام1936 بسبب حادث المحمل .
تنظيم سلطة الدولة والإدارة في نجد
في معرض الحديث عن أوضاع نجد والحجاز في الدولة الموحدة قال فؤاد حمزة : (أما من الوجهة الحقوقية والقانونية فإن كلا من الحجاز ونجد كان مملكة مستقلة عن الأخرى لاتجمع بينهما إلا رابطة العرش المشتركة وشخص الجالس على هذا العرش) . ومن جهة أخرى أشار المؤلف إلى أنه لم تكن بين المملكتين حدود مرسومة ولا رسوم ، ولهما سياسة خارجية موحدة ، ناهيك عن القوات المسلحة الموحدة وهي بيت القصيد . وفي فترة 15-20 عاما الأولى كانت الفروق في الإدارة بين شقي المملكة ملموسة ، ولكنها تضاءلت بالتدريج . وكانت السلطة الفعلية كلها في يد الملك ابن سعود وحاشيته .
قام البلاط الملكي في الرياض بوظائف الحكومة في البلد كله وفي الوقت نفسه كان يؤدي وظائف حكومة نجد . ويفصل الزركلي الوثيق المعرفة بالبلاط تركيبه على النحو التالي : - المجلس الخاص وكان الملك يسمي أعضاءه بالجماعة أو الربع . وكان هؤلاء يعقدون ، برئاسة الملك ، اجتماعين في اليوم : قبل الغذاء وفي المساء . ويحضر المجلس شقيق عبدالعزيز الأمير عبدالله بن عبدالرحمن وولي العهد سعود ونائب ملك الحجاز فيصل ، إن كان متواجدا في الرياض . ثم كان يحضره الوزراء والمستشارون وكبار العلماء وسائر الوزراء والسفراء السعوديين المتواجدين في الرياض . وقد يضم المجلس أمراء المناطق وشيوخ القبائل .
- الشعبة السياسية واختصاصها الشئون الخارجية .
- الديوان الملكي واختصاصه الشئون الداخلية .
- شعبة الشفرة والبرقيات .
- شعبة البادية واختصاصها داخلية نجد .
- شعبة المحاسبات والأعطيات .
- شعبة الوفود والضيافة . واختصاصها السهر على راحة الوفود والإشراف على القصور الملكية المخصصة لضيوف الملك . وكان الوافدون يقسمون إلى ثلاث فئات : كبار الضيوف ، ووفود الحضر ، ووفود البلاد .
- الخاصة الملكية واختصاصها ما يتعلق بشئون القصر الملكي .
- شعبة أهل الجهاد واختصاصها النظر في شئون الجند غير النظامي .
- شعبة الخزينة الخاصة .
- شعبة المخازن الخاصة (المستودعات) .
- شعبة الحاشية .
- شعبة الخيل .
- شعبة الإبل واختصاصها النظر في إبل (الخاصة الملكية) .
- شعبة السيارات .
- شعبة الإذاعة التي أسست بعد ظهور اللاسلكي في البلد ، وكانت تتولى أيضا الإنصات بالعربية واللغات الأجنبية وتعد نشرات موجزة للملك .
- شعبة الحرس الملكي .
- الشعبة الصحية واختصاصها طبابة القصر الملكي .
ويتطابق وصف الزركلي للبلاط الملكي مع ما أورد نالينو عموما ، ولكن هذا أدرج ضمن سلسلة وظائف الديوان الملكي شئون الحجاز وعسير الإحساء ، وذكر شعبتي الزكاة والخزانة العامة اللتين ألغيتا شكليا بتأسيس وزارة المالية ، وشعبة التلاوات والمؤذنين التي لم يذكرها الزركلي . ولكن لانعتقد إن هناك تعارضا بين المؤلفين . فالأرجح إن شعب البلاط الملكي كان يمكن أن تظهر وتختفي وتدمج ، يعلو شأنها أو تصبح ثانوية تبعا لوزن مسئوليها وعمق صلتهم بالملك . ولم تكن توجد أية قواعد مكتوبة أو أحكام مدونة تثبت بنية البلاط الملكي ، وظلت الكلمة الفصل في كل القضايا للملك .
أما بالنسبة للمحافظات الرئيسية فإن الملك كان يعين أمراءها للفترة التي يرتئيها . ولم توجد في الثلاثينات قوانين أو أصول للإدارة المحلية في نجد وملحقاتها . وكان أمراء التقسيمات الإدارية الأصغر يعينون من قبل حكام المقاطعات ، ولكن بوسع الملك التدخل في اختيارهم . وفي البدء كان البلد ، باستثناء الحجاز ، مقسما كما يقول فؤاد حمزة إلى خمس مقاطعات كبرى هي نجد التي ضمت إليها العارض والمناطق المجاورة ، والقصيم وجبل شمر والإحساء (حيث يحكم آل جلوى) وعسير . ومن الناحية العملية فصلت عن جبل شمر مقاطعة وادي سرحان ، بينما قسمت عسير إلى عسير وعاصمتها أبها وتهامة ونجران .
وأسندت إلى سلطات المحافظات مهمة الإشراف على قبائل البدو . ويذكر ماكاي فرودا أن قبائل عتيبة وجزءا من مطير والدواسر وقحطان وسبيع كانت تابعة لحاكم العارض ، وأن العجمان وبنو هاجر وبني خالد والحوازم والمناصير وآل مرة وجزءا آخر من مطير تابعة لحاكم الإحساء ، وجعلت شمر وشرارات وجزء ثالث من مطير تحت إشراف أمير جبل شمر . وتجدر الإشارة إلى أن قبيلة مطير المتمردة على آل سعود قسمت إلى ثلاثة أقسام .
لم يقتن الحكم الذاتي للمنطقة الشرقية بمراسم خاصة ، ولكن في أواخر الثلاثينات كان قد تم هناك استحداث مؤسسات بيروقراطية خاضعة لابن جلوى ، وجعل أقارب بن جلوى حكاما لأهم الواحات وشكلت في الهفوف مديريات الشرطة والمالية والجمارك وخفر السواحل وفرع لمديرية المعادن في جدة .
إدارة الحجاز
أقام ابن سعود في الحجاز نظاما معقدا للسلطة والإدارة . ففي آب (أغسطس) 1926 أصدر الملك وثيقة تعرف باسم (التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية) وهي تسمى أحيانا (الدستور) . وتنص الوثيقة على أن (المملكة ... مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا لايقبل التجزئة ولا الانفصال بوجه من الوجوه) وإن الحجاز (دولة ملكية شورية إسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها) وأن (مكة المكرمة عاصمة الدولة الحجازية) . وأن (إدارة المملكة بيد صاحب الجلالة عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود وهو مقيد بأحكام الشرع).
ونصت الوثيقة على أن تتولى تصريف شئون الدولة الحجازية ست شعب أساسية : - الشرع.
- الداخلية.
- الخارجية.
- المالية .
- المعارف.
- الجيش.
وأكدت مادة خاصة على أن الشئون العربية وكل مايتصل بها من وظائف خاضعة لإشراف الملك . كما نصت الوثيقة على تأسيس مجلس شوري يضم نائب الملك ومستشاريه وستة من أشراف الحجاز يعينهم الملك . كما تشير الوثيقة إلى وجود نية لإنشاء مجالس إدارية في المدن الرئيسية تمنح صلاحيات البلديات ، ولكن قراراتها لاتسري إلا بعد مصادفة الملك . وتقرر أيضا إنشاء مجالس في الوحدات الإدارية الصغيرة .
بدا لإبن سعود أن بعض التعليمات الأساسية تتناقض وسلطته المطلقة . لذا فإن المواد 28-37 المتعلقة بمجلس الشورى والمجالس المحلية تجوهلت بعد مضي عام ، في حين أن المواد 43-45 حول تشكيل هيئات لها حق الإشراف على نفقات الخزانة لم تطبق قط وبطل مفعولها فيما بعد .
ثمة خاصية جوهرية (دستور) الحجاز تتمثل في الغياب التام للأحكام المتعلقة بالحقوق الفردية والعامة ، وكذلك الأحكام التي تحد من سلطة الملك المقيد بأحكام الشرع فقط . ويقول الزركلي الذي درس النشاط العملي لهيئات السلطة في الحجاز ، إن مجلس الشورى كان يعالج القضايا المتعلقة بميزانية دوائر الدولة والبلدية ويتولى إعطاء الرخص للشروع في عمل مشاريع اقتصادية وعمرانية ويسن القوانين والأنظمة ويبت في استخدام الموظفين المحليين والأجانب ، ومن عام 1932 أضيفت إلى اختصاصاته العناية بشئون الحجاج .
ويشير الزركلي إلى أن صلاحيات المجلس تشريعية واستشارية ، وكان بوسعه أن يلفت نظر الحكومة (يقصد بذلك مجلس الوكلاء – مجلس الوزراء – الذي شكل في الحجاز) . إلى أي خطأ في تطبيق القوانين والأنظمة ، وإقرار أو نقض أو تعديل مشاريع الحكومة .
وفي تموز (يوليو) 1928 صدر مرسوم ملكي يقضي بتشكيل مجلس شورى للحجاز ونجد سوية ، ولكن هذا المرسوم لم يطبق . كما لم تصدر قرارات تقصر صلاحيات مجلس الشورى على الحجاز ، أو تقضي بشمول سائر أرجاء المملكة بها . وقد أنجز المجلس حتى عام 1950 مئات من الأنظمة والتعليمات حول مختلف القضايا لتحديد وضع الهيئات الحكومية والعامة والقضاء الشرعي والصحة والبرق والبريد والتلفون . وفي الواقع طبق العديد من أنظمة وتعليمات مجلس الشورى في الحجازي في سائر أرجاء البلد .
قبل الاستيلاء على الحجاز كانت الروابط بين نجد والعالم الخارجي تجري بأكملها تقريبا عن طريق الخليج . وتولى الملك المكاتبات ومتابعة الاتصالات وكان يعطى الإيعازات لمندوبيه في المفاوضات . وبعد ضم الحجاز تعقدت الروابط الدولية للملكة الجديدة . وكان في جدة عدد من القناصل الأجانب الدائمين . كما أن وفود الحجاج كان يضع أمام حاكم الحجاز عددا من القضايا الحساسة . لذا ظهر منذ عام 1925 شيء أشبه بمديرية الشئون الخارجية وترأسها يوسف ياسين السوري المولد الذي كرس نفسه لخدمة ابن سعود . وقد شارك مع المصري حافظ وهبة مفاوضات بحرة وحدة عام 1925 ، وشارك في بعثات دبلوماسية أخرى فيما بعد . وقد ترأس في مكة تحرير صحيفة أم القرى وتولى رئاسة الدائرة السياسية لدى الديوان الملكي . وفي عام 1930 أصدر ابن سعود مرسوما بتشكيل وزارة الخارجية التي أسندت لابنه الثاني فيصل نائب الملك في الحجاز .
أقامت العربية السعودية علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي في 16 شباط (فبراير) 1926 ، وفي الأول من آذار (مارس) 1926 مع بريطانيا العظمى وفي الشهر نفسه مع هولنده وفرنسا وتركيا ، وفي عام 1928 مع ألمانيا وفي عام 1929 مع إيران وبولنده وفي 1931 مع الولايات المتحدة الأمريكية وفي 1933 مع إيطاليا وفي 1936 (بعد وفاة الملك فؤاد) مع مصر . وكان في السعودية عام 1950 سفاراتان : أمريكية وبريطانية ، أما الدول الأخرى فقد تمثلت ببعثات دبلوماسية . وغادرت البعثة السوفييتية جدة في 1937/1938 ، ولكن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تقطع رسميا .
تولى كل شئون الخزانة في إمارة الرياض خلال الحقبة الأولى شخص يدعى عبدالله السليمان ولم يكن لديه هلاك خاص من المساعدين . وانشئت في كل بلدة إدارة لجباية الزكاة مستقلة عن غيرها ومحاسبة إمام الأمير والملك . وقد كانت على غرار هيئات الضرائب في الدولتين السعوديتين الأولى والثانية . وأسست في مكة عام 1927 مديرية المالية العامة وترأسها عبدالله السليمان ذاته . ومن عام 1929 جعلت المديرية وكالة ، أي صارت وزراة عمليا . وفي عام 1932 قرر الملك تحويل الوكالة إلى وزارة المالية ذات الصلاحيات الواسعة وأسندت إلى عبدالله السليمان اياه . واضطلعت الهيئة الجديدة بصلاحيات وزارة الاقتصاد . وربطت بالوزارة إدارات التموين والحج والزراعة والأشغال العامة والسيارات . كما كان من صلاحيات الوزارة توقيع عقود الامتياز لاستخراج الذهب والنفط ، وشكلت إدارة المعادن والنفط تابعة لها . وعمل سرويون ولبنانيون ومصريون وعراقيون كخبراء في الوزارة . استمر توسع الوزارة وبلغ عدد العاملين فيها عام 1949 زهاء 5400 شخص .
يعود تاريخ مجلس الوزراء في الحجاز برئاسة فيصل نائب الملك ، إلى كانون الثاني (يناير) 1932 حينما شكل مجلس الوكلاء بصلاحيات مماثلة لصلاحيات مجلس الوزراء ، ولكنها غير مطابقة لها كليا . وقد ضم المجلس الرئيس ، أي نائب الملك ووكلاء الخارجية والمالية والداخلية وأعضاء مجلس الشورى . وكانت وزارةالداخلية تضم إدارات الصحة والمعارف والبرق والبريد والتلفون واللاسلكي والقضاء والحربية ومديرية الأوقاف و الكعبة والبلديات والثروة المائية والمحاجر الحصية وخفر السواحل والشرطة العامة . تأسست في مكة عامة 1925 "إدارة الأمن العام" . وقد شكلت شرطة حماية الأخلاق وشعبة التفتيش والمحاسبة ومراقبة الأجانب. وشمل نشاط ادارة الامن العام كل أنحاء العربية السعودية ، وأنشئت إدارات وتشكيلات لها في كل مدينة كبيرة. وفي مطلع الأرعبينيات أنشئت في مكة مدرسة للشرطة. كان لنائب الملك فيصل ديوان بمكة يضم مكتبا خاصا للمكاتبات السرية والخاصة ، ومكتبا لتلقي المعلومات والأوراق الرسمية ، ومكتب اللجنة الدائمة لمجلس الوكلاء ، وشعبة الخيل وشعبة البادية وشعبة الجيش – الابل – وشعبة السيارات.
ان كلمة وزير ليست غريبة عن النجديين ، ولكنها خلافا للعالم الخارجي ، تعني لديهم السكرتير . فحتى الآونة الاخيرة كان لكل أمير وزير ، ولدى كبارة الامراء عدة وزراء يتولون الحسابات والمراسلات وغيرها من الشئون. لذا فان كلمة وزير بمفهوما الأوربي والعام تنطبق أكثر على مسؤولي ادارات الديوان الملكي الذين تولوا تصريف الشئون العامة باشراف الملك. منذ عام 1925 انشئت مصلجة الصحة العامة التي اخذت صلاحياتها ووظائفها في الاتساع. وبعد مرور بضع سنوات أنشئت ادارات للصحة في كبريات المناطق. عام 1931 أنشئت مديرية خفر السواحل ومركزها جدة و أوكلت إليها شؤون الموانئ وخفر السواحل ومكافحة التهريب وتنظيم الملاحة. عام 1926 أنشئت بلدية مكة بميزانية خاص ، وسن لها نظامن هام عام 1929 وعدلعام 1938.
عند حلول عام 1934 عام الحجاز قد قسم إلى 14 محافظة ، ويخضع أمراء كل منها لوزير الداخلية شكليا ولنائب الملك فيصل عمليا. وأوكل إلى المحافظين الإهتمام بشئون البدو. حينما أصدر ابن سعود في 18 سبتمبر 1932 مرسموما حول توحيد أجزاء المملكة العربية أصبحت هذه المملكة كلا واحدا من حيث التركيب الإداري. فقد أشارت المادة الخاصة من المرسوم إلى أن تشكيلات الحكومة الحاضرة في الحجاز ونجد وملحقاتها تظل على حالها مؤقتا إلى أن يتم وضع تشكيلات جديدة للمملكة كلها على أساس التوحيد الجديد. وكلف مجلس الوزراء الحجازي بأن يشرع فورا في اعداد النظام الأساسي (الدستور) للملكة ونظام تشكيلات الحكومة. ولم ينجز ذلك أبدا. وظلت الفوارق الإدارية بين الحجاز ونجد قائمة لفترة طويلة لم تزل بشكل نهائي حتى الوقت الحاضر.
مهما تعقد الجهاز الإداري البيروقراطي في العربية لاسعودية ، فإن كل القرارات الأساسية تتخذ من قبل الملك وحاشيته. لذا فإن المقريبن للعاهل كان لهم القدر الأكبر من السطوة في الدولة. ويقول فيلبي "أن الأشخاص الذين كان ابن سعود ينتقيهم للمناصب الإدارية في مملكته ظلوا في مناصبهم حتى نهاية حياته عمليا. وكان ذلك تعبيرا عن سمة محددة في مزاج الملك: العزوف عن الاختلاط مع الغرباء ، وان كان متسترا بالضيافة الرائعة الواهتمام الودي الخالص بالضيف. وكان يؤثر أن يرى دوما من حوله ، ليلاا ونهار ، سنة أثر سنة ، نفس الأشخاص أو أفراد العائلة أو الإداريين أو الخدم أو رفاق السلاح. فهو لا يستطيع أن يصبح على سجيته بشكل كامل إلا معهم . وكان بوسعه أن يثق بهؤلاء الأشخاص لمعرفته بهم عن كثب ، ولعلمه بمزاياهم ونواقصهم. وكان يغدق على هؤلاء بلا حدود ، كلما تزايدت موارده". فعلى سبيل المثال لم يتسقل عبد الله السليمان من منصبه كمسؤول عن المالية إلا بعد وفاة عبد العزيز وتولي محمد سرور الصبان مسؤولية المالية.
كان من بين مستشاري ابن سعود شخص يدعى عبد الله الدملوجي ، وهو عراقي من مدينة الموصل ، إستقدمه ابن سعود عام 1915 بصفة مستشار طبي وطبيب ، وللإلمامه بالفرنسية أوكل إليه استقبال الضيوف الأجانب في ديوان ابن سعود بالرياض. وبعد الإستيلاء على الحجاز عين ممثلا شخصيا للملك في جدة ، ثم صار نائبا لوزير الخارجية (وكان فيصل الولد الثاني فبن سعود ووزيرا أنذاك) وظل يشغل هذا لامنصب حتى سنة 1930. وقد خلفه فؤاد حمزة وهو فلسطيني ، وعمل في وزارة الخارجية حتى وفاته. وعمل مع ابن سعود حافظ وهبة ويوسف ياسين. وحافظ وهبة مصري احتجزه البريطانيون في فترة من الوقت في مالطا بسبب ثورة 1919 في مصرز وصار مديرا للمعارف ثم ممثلا للسعودية لدى الكرسي البابوي. ثم سفيرا في لندن . أما يوسف ياسين ، وهو سوري من اللاذقية ، فقد عمل سكرتيرا سياسيا للملك وترقى حتى صار وزيرا للدولة. وتولى الإسشراف على المراسلات الدبلوماسية مع الممثليات السعودية في الخارج. هذا وكان قد وصل إلى الجزيرة في 1923-1924 ، وخظي بإعجاب ابن سعود.
في بداية حكمخ كان ابن سعود يتحاشى إشراك أبنائه وسائر أفراد عائلته في قيادة الشئون الإدارية . ولم يستثن من ذلك سوى أكبر أبنائه وهما سعود وفيصل اللذين عينا نائبين له في نجد والحجاز على التوالي. ولم ينس ابن سعود المصير المفجه الذي آلت إليه الدولة في زمن جده فيصل ، الذي قتل بسبب التنافس بين أبنائه. وبمرور الوقت زال التقليد المذكور واصبح أفراد العائلة المالكة يتبوأون أهم المناصب في جهاز الدولة.
الشرع والوهابية
إن الإسلام بتفسيره الوهابي هو الإيدولوجيا التي إعتمدت في السعودية. إن الإقرار بوجود إله واحد (الله) وملك واحدة ومذهب ديني واحد (الحنبلي) ، تطلب وجود نظام قانوني وقضائي واحد. ولم تكن تلك مهمة سهلة في مجتمع متباين يضم فئات وشرائح إجتماعية مختلفة (البدو والحضر على أقل تقدير) ظلت طوال قرون تعتمد مدارس فقهية مختلفة ، وتطلب تنفيذها إيجاد حلول وسط.
عند إبتداء القرن العشرين عادت العادات والعرف لتبوء مكان الصدارة إلى جانب الشرع الذي حاول الوهابيون تطبيق أحكامه في قبائل البدو في القرن الثامن عشر ومستهل القرن التاسع عشر. وكانت الممارسات القضائية تحتلف من قبيلة لأخرى. فقد كان لدى البدو كما يذكر الزركلي ، نظام قضائي يشبه المحاكم الإبتدائية ومحاكم الإستئناف والتمييز. وكان القضاء قائما على الإستشهاد بالسوابق التي يجب أن يكون قد مضى عليها ، في بعض الأحيان ، ما لا يقل عن خمس سنوات كما لدى الرولة.
من البديهي أن يحدث صدام بين النظامين القضائيين بظهور الدولة الإقطاعية المركزية التي طبقت أحكام الشريعة وكان لديها جهاز قسري لإنفاذ القرارات القضائية. فالعرف ، مثلا ، ينص على منح المطارد حق اللجوء بشروط معينة ، وكلن الدولة المركزية لم تعترف بهذا الحق. والبدو يعتبرون بعض الأعمال جريمة إذا أقترفت داخل القبيلة ، مثل النهب أو القتل ، في حين أن هذا يتناقض مع احتياجات الدولة وسياسيتها. ونشأت مشاكل بسبب الغزو والبت في أمر الماشية التي تغنم . كما ظلت معلقة مسائل الثأر الذي حاولت الحكومة باستمرار تحديد مداه.
منذ عام 1914 تقريبا بدأ اتخاذ خطوات عملية للحد من نفوذ العارفة في القبائل ، وبدأ تعيين المطاوعين والقضاة. وانزلت ضربة بإمتيازات العوارف ولكن لم تجر في السنوات الأولى محاولة لإستبدالهم بالقضاة. واخد بأحكام العرف والشرع على قدم المساواة في القبائل ، وجرى تحديد الوظائف بينهما مؤقتا . واستمر العوارف في الاهتداء بالعرف في القضايا التي تقع ضمن أحكامه كالعلاقات بين القبائل ، أما قضايا مثل الإرث ، فقد كانت تنظر من قبل القضاة على أساس الشرع. ومن المهم الإشارة إلى أن حركة الإخوان سرعت في عملية إحلال القضاة محل العوارف.
آثر حكام المقاطعات السعوديون عدم التدخل في القضايا العشائرية الداخلية. فعلى سبيل المثال تضمن كتاب "مذكرة الحكومة السعودية" ثلاثين قرارا إجرائيا قضائيا وكلها تتعلق بالعلاقات بين القبائل واعادة الممتلكات المغتصبة وخاصة الماشية . جرى تدريجيا فصل الواظائف القضائية للحاكم (المحافظ) والقاضي. فأنوكلت إلى القضاة المنازعات الشخصية والقضايا التجارية والشرعية والأحوال الشخصية والإرث. أما الأمراء فقد تولوا قضايا النزعات بين القبائل وجباية الضرائب والتجنيد والمشاكل الإدارية. ويكون الأمير بمثاة قاض عند معالجة هذه الأمور. ولكن لاشرع خول الأمير النظر في منازعات لا علاقة لها بالأمور العسكرية والادارية والمالية.
إن الصراع من أجل تثبيت أحكام الشريعة بصيغعتها الحنبلية لتحل محل العرف العشائري لم يكن العقبة الوحيدة في طريق إقامة نظام قضائي وقانوني موحد في البلد. فبعد قيام الدولة السعودية ظل المذهب الحنبلي سائدا في نجد بينما كان المذهب الشافعي هو السائد في الحجاز ، في حين أن المذهب الحنفي كانم السائد في المدن المرتبطة بالسلطات العثمانية. وكانت الإدارة العثمانية تعين عادة أربعة قضاة ، واحدا من كل مذهب ، رغم إعطاء الأولية للمذهب الحنفي. ويشير الباحث الأمريكي وايدل أن المدرسة الحنفية في القضاء ظلت قائمة طوال عقود في المراكز الإدارية العثمانية السابقة بالإحساء مثل الهفوف.
بعد إلحاق الإحساء واجهت الحكومة المركزية مشكلة الأقلية الدينية – الشيعة. ولا توجد أرقام عن عدد الشيعة في بداية القرن ولكن تقديرات وايدل في عام 1955 تفيد بأن عددهم بلغ في الإحساء 130 ألفا . وقد حافظ وهبة عدد الحضر في الإحساء في الثلاثينيات بزهاء تسعين ألفا ، قال إن ستين ألفا منهم شيعة. وهذا لا يختلف كثيرا عن رقم الباحث الأمريكي الذي قد يكون أدخل في حساباته شبه الرحل. وبالإضافة إلى ذلك شهدت المنطقة الشرقية زيادة كبيرة في عدد لاسكان أثر إكتشاف النفط. ويقول وايدل أن نسبة الشيعة إلى السنة في واحات الإحساء هي 45 إلى 55 أو 40 إلى 60. ونظر أن الشيعة غالبا ما كانوا يخفون معتقداتهم الدينية ، فمن المحتمل أن عددهم في المحافظة الشرقية كان أكبر مما ذكر الباحثون. يقول هارسيون أن السنة (الوهابيين) كانوا الأقلية في الإحساء وهم من الحكام والتجار والمزارعين. أما الغالبية من صيادي اللؤلؤ والحرفيين والفلاحين ، فهم شيعة . واشار وايدل أيضا إلى أن غالبية الحرفيين من الشيعة. وكان مجتمع المنطقة الشرقية ينطوي على تناقضات إجتماعية خطيرة مبرقعة بغلاف ديني. كما سكنت مجموعات شيعية صغيرة في مكة والمدينة ، وقطن عسير ممثلو إحدى الفرق الشيقية وهي الزيدية.
وكان في الحجاز أعضاء من مختلف الفرق الصوفية : السنوسيون والأدارسة والقادريون والبكتاشيون ، ولكن هذه الفرق انحسرت بفعل ضغوط الوهابية التي رفضت الصوفية من حيث المبدأ .
كانت أوضاع الشيعة صعبة في دولة إسلامية سنية خالصة . وفي عام 1927 أصدر العلماء الوهابيون ، بضغط من الإخوان فتوى تطالب عبدالعزيز بمنع الشيعة من أداء الصلاة في الأماكن العامة والدعاء لأهل بيت النبي والاحتفال بذكرى وفاة النبي وأهل بيته وزيارة كربلاء والنجف ، وإرغامهم على أداء الصلوات الخمس في الجوامع . ورأى العلماء أن على الشيعة أن يدرسوا دين الله على كتاب محمد بن عبدالوهاب (الأصول الثلاثة) . ودعت الفتوى إلى هدم كل الأضرحة الشيعية . ولكن عبدالعزيز رأى أن هذه المطالب متطرفة ورفض تلبيتها . غير أن الوهابيين اعتبروات شيعة المنطقة الشرقية (كفارا) ومن أهل الذمة . صدرت عامي 1926 و 1927 أوامر ملكية أنشئ بموجبها نظام قضائي موحد للدولة وأصبح القضاء قائما على أساس الفقه الحنبلي . وأصدر الملك أمرا ألزم القضاة بأن يتقيدوا بستة مراجع أساسية هي : (الإقناع) للشيخ مرسي الحجاوي ، و(كشف القناع عن متن الإقناع) لمنصور البهوتي الحنبلي و(منتهى الإرادات) للفتوحي و(شرح منتهى الإرادات) لمنصور البهوتي و(المغني) للشيخ عبدالله بن أحمد بن قدامة و(الشرح الكبير) للشيخ عبدالرحمن بن أبي عمر بن قدامة . ويبدو أن اعتماد الفقه الحنبلي واجه مصاعب في الحجاز وعسير والإحساء.ولم يحدث الإصلاح القضائي تغييرات تذكر في نجد ، إلا أنه جرى في الرياض وبعض المدن الكبيرة الأخرى فصل محاكم البدو والحضر .
بعد إعادة تنظيم القضاء في الحجاز عام 1927 أسست ثلاثة أنواع من المحاكم : المحاكم المستعجلة والمؤلفة من قاض واحد ، واختصاصها النظر في القضايا المدنية التي لايتجاوز المطلوب فيها ثلاثين جنيها استرلينيا ، وفي قضايا الجنح والجنايات التي لاتصل إلى حد القطع أو القتل . ويرى القانوني العربي صبحي المحمصاني أن في ذلك عودة إلى الشرع بصيغته الكلاسيكية لأن القضايا المدنية سابقا كانت مفصولة عن الجنح والجنايات . المحاكم الكبرى وتضم قاضيا ونائبين له ، وهي تنظر في القضايا التي لاتدخل ضمن اختصاص المحاكم المستعجلة ، بما فيها الجرائم التي تستوجب القطع أو القتل ، ولكن لابد من صدور إجماع كل القضاة عند إصدار قرار بهذا الشأن .
هيئة المراقبة القضائية في مكة ، وهي بمثابة محاكم الاستئناف ، وتتألف من مدير وأربعة أعضاء . وتولى المدير الإشراف على سائر المحاكم والقضاة في الحجاز ، وكان بمثابة وسيط بين الحكومة واتلمحاكم . وتكتسب الأحكام درجتها القطعية عند تأييدها من قبل الهيأة خلال عشرين يوما (عشرة أيام وفق مصادر أخرى) من صدورها . أما الأحكام التي تنقضها الهيأة فتعاد إلى المحاكم التي أصدرتها لإعادة النظر فيها . وذكر الزركلي أن تركيب الهيأة تعقد فيما بعد وزادت عدد القضايا التي تنظر فيها . كانت في الحجاز المحاكم التالية : في مكة اثنتان من المحاكم المستعجلة ومحكمة كبرى ، وفي جدة محكمة مستعجلة . وفي عام 1932 أنشئت في مكة محكمة مستعجلة لقضايا البدو .
نظرا لطابع مكة الدولي ظلت فيها المدارس الفقهية الأربع ، رغم أن الحنبلية كانت السائدة بطبيعة الحال . وكانت رواتب القضاة من أموال الزكاة ، ولكن المدعي يدفع رسوم خدمة تستوفي لصالح الخزانة . أسست في الحجاز عام 1927 أول دوائر كتاب العدل التي كانت تتولى تسجيل الوثائق القانونية باستثناء مايتعلق بالأوقاف . وفي عام 1926 ، أي قبل الإصلاح القضائي أسس في جدة المجلس التجاري المؤلف من رئيس وخمسة أعضاء من ذوي الخبرة في الشئون التجارية للنظر في المنازعات بين التجار والصيارفة والوكلاء وأصحاب الحوانيت ، والبت في القضايا المتعلقة بتصريف العملة ودفع الحسابات التجارية عبر البنوك ، والنظر في المنازعات بين التجار وأصحاب السفن في حالة فقدان الأمتعة أو اصطدام السفن أو تعرضها للهجوم ، وفي الخلافات الناشئة عن تحرير العقود أو اتفاقات الأسعار . وفيما بعد أخذت هذه المحكمة تعمل وفق نظام التجارة لعام 1931 الذي وضع على غرار نظام الإمبراطورية العثمانية ، واستثنيت منه القضايا الخاضعة لأحكام الشرع .
من المهمات التي أنيطت بالمحاكم الشرعية في شبه الجزيرة خلال فترة العشرينات والثلاثينات ، محاولة قطع دابر الثأر بفرض دية عن دم القتيل وحمل أهله على قبولها . وحددت مبالغ معينة عن كل نوع من التشويه الجسدي . وكما كان الحال إبان الدولة السعودية الأولى ، كانت تلك محاولة تهدف إلى إضعاف النزاعات بين العشائر والتقليل من احتمالات التحارب فيما بينها . وبعد صدور قرار قضائي كان أهل القتيل يرغمون على الإعلان عن عفوهم عن القاتل . هذا علما بأن الأفخاذ الأرستقراطية ، بما فيها آل سعود ، استمرت ترفض الدية وترى أن الدم لا يغسله إلا الدم .
فيما يخص السرقة وقطع يد السارق ، تجدر الإشارة إلى أن مثل هذه العقوبات تطبق أقل كثيرا مما قد يبدو لغير المطلع ، وذلك لوجود عدد من التقييدات . فيجب أن تكون السرقة مثبتة والسارق بالغا سن الرشد وفي كامل قواه العقلية وقد عمل بمحض إرادته . وينبغي أن يكون المسروق ذا قيمة إذ أن الماء والخمر والآلات الموسيقية والصور وكتب الفقه لاتعتبر ذات قيمة . ويجب ألا تقل قيمة المسروق عن ثلاثة دراهم . كما أن المسرق يجب أن يكون قد سرق من محل يحفظ فيه عادة مغلقا بمفتاح . وإذا ماكسر سارق القفل وقام آخر بالسرقة ، فلا تقطع يد أي منهما . ولاتحتسب سرقة الأقارب . وينبغي أن يكون هناك شاهدان على واقعة السرقة . ويلغي قطع اليد في سنوات الجوع أو الغلاء . ويعتبر الزنى جريمة بحق الأسرة والأخلاق العامة ، ويرجم الزاني والزانية . كان الجلد عقوبة تعاطي الخمر . كما حددت الممارسات القضائية جملة من العقوبات الصارمة عن نهب القوافل .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الواردات والنفقات
كان خمس غنائم الغزوات ، التي يحالفها التوفيق دخلا لخزانة الدولة . ولكن خلافا للدولة السعودية الأولى كانت تمر في إمارة نجد ، ومن ثم في مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها ، سنوات عديدة دونما غزوات تذكر ، وأخذت الغزوات ذاتها تكلف كل مرة . لذا فإن مداخيل الدولة أخذت تعتمد أكثر فأكثر على جباية الضرائب بانتظام ، وأهمها الزكاة .
إن الصلاة بين المؤمن وربه ، في حين أن الزكاة ، هي بمثابة دليل على الولاء للحاكم الذي ينفذ مشيئة الله . لذا فالزكاة ليست مجرد فرض من الفرائض الدينية ، بل هي أيضا دليل ولاء الحاكم . في أيلول (سبتمبر) 1925 أصدر ابن سعود مرسوما يحدد مقادير الزكاة وطرق جبايتها .
ونص المرسوم على أن الزكاة لاتستوفي عن الدواب المستخدمة للأغراض الحربية وللنقل . وكانت الزكاة تستوفي عن الإبل إذا زاد عددها عن خمسة ، وعن الأغنام إذا ازداد عددها عن الأربعين ، وعن الأبقار إذا زاد عددها عن 30 . وتدفع الزكاة عن كل محصول الحبوب والفواكه التي يمكن قياسها وحفظها كالتمر والزبيب واللوز والفستق والجوز ، ولاتستوفي عن سائر أنواع الفاكهة أو الخضروات . وتستوفي الزكاة عن الأراضي المروية بنسبة 5% من المحصول وعن أراضي الديم بنسبة 10% . وتستوفي عن الفضة بنسبة 2.5% من قيمتها وعن الذهب بنسبة 2.5% وترتفع النسبة إلى 5% ابتداءا من وزن معين . ويستوفي عن الرأسمال التجاري وريعه 2.5% .
وكلف أمراء المقطاعات بالإشراف على استيفاء الزكاة . وفي زمن عبدالعزيز كان جباة الزكاة ينفسمون إلى فئتين رئيسيتين ، تعمل إحداهما في المدن والواحات ، وتستوفي الأخرى الزكاة من البدو .و كان العاملون ضمن الفئة الأولى يحصلون على نسب من المجموع العام المستوفي ، بينما عينت للعاملين ضمن الفئة الثانية رواتب محددة . ومن الناحية الشكلية كان مقررا أن تجبي الزكاة في نهاية كل عام هجري ، ولكن من الناحية العملية كانت الجباية تجري في موسم معين ، حتى وإن لم يتطابق مع نهاية العام الهجري . ففي المقاطعة الشرقية كانت الزكاة تجبي في الربيع أو الصيف . وكان جباة الزكاة يعرفون الطرق التي تسلكها القبائل وأماكن تجمعها فيقصدونها . وعندما كانت حركة الإخوان في ذروتها تولى المطاوعة جباية الزكاة في الهجر ، وكانوا يمثلون الإمام – الأمير في ذلك . وفي بعض الأحيان كان أفراد آل الشيخ يشرفون على جباية الزكاة إلى جانب المطاوعة .
إن جباة الزكاة كانوا عيون الحكومة بين البدو وركائز لهيبة السلطة المركزية ولكنهم كانوا يتجاوزون صلاحياتهم ، وقد اعترف عبدالعزيز لفيلبي ذات مرة ، أنه لايحصل إلا على ثلث الضرائب . كما كان الحال إبان الدولة السعودية الأولى ، ألغيت في إمارة الرياض الخوة التي تدفعها القبائل الضعيفة للقوية . ولكن ديكسون أشار إلى أن الخوة كانت تدفع بأشكال أخرى . ثمة مسألة كبرى مختلف عليها وصارت لها أهمية عملية إبان النزاع على الحدود مع العراق ثم أثناء الخلاف على واحة البريمي ومفادها : هل أن أداء الزكاة من قبل القبائل يعتبر اعترافا بسيادة حكومة الرياض ، وبالتالي الدولة السعودية ، على أراضي هذه القبائل ؟ وأجاب فقهاء الرياض على هذا السؤال بالإيجاب ، في حين أعطى الفقهاء من مختل المدارس الإسلامية والأوروبيون تفسيرات متباينة .
فقد رأى ديكسون المعتمد البريطاني في الكويت والباحث في قضايا الجزيرة أن لرئيس الدولة الحق في أن يجند أثناء الحرب كل من يدفع له الزكاة لكي يقاتلوا تحت لوائه ، وله أن يصادر ماشية من لاينصاع له . ووفقا للعرف الوهابي فإن القبيلة إذا لم تؤد أو لم تتمكن من أداء الزكاة لحاكمها الشرعي فإن بوسع الحاكم أن أ) يصادر ممتلكاتها ب) يتخلى عن مسئولية حمايتها من سائر القبائل الخاضعة له ج) لايؤازرها عند تعرضها لغزو أعداء خارجيين . أما إذا كانت القبيلة تؤدي الزكاة فإن الحاكم أو رئيس الدولة ملزم بحماية هذه القبيلة من العدوان الداخلي أو الخارجي وليس لرئيس الدولة الحق في جباية الزكاة من قبيلة لا تأتمر بأمره ولكنها ترعى ماشيتها في أراضي دولته ولاتعتزم المكوث إلا فترة قصيرة تعود بعدها إلى أراضيها وتؤدي الزكاة لحاكمها الشرعي . ويقول ديكسون أن هذا قانون قديم ومحكم في الجزيرة ويفهمه الجميع . ويذهب مؤلف (مذكرة الحكومة السعودية) إلى أن رأى ديكسون هذا يمكن أن يكون مدخلا لفهم الجوانب السياسية لأداء الزكاة ابتداءا من القرن الثامن عشر .
بعد الاستيلاء على المنطقة الشرقية فرضت رسوم جمركية مقدارها 80% وإن كان فيلبي قد أشار إلى أن رسوم الدخان وصلت إلى 20% . وفرضت الجزية على الشيعة والمسيحيين واليهود في الإحساء . وإثر الاستيلاء على الحجاز ظهرت ضريبة جديدة تستوفي من الحجاج وكانت ترفد خزانة الدولة بعوائد كبيرة ز ولكن الدولة ظلت فقيرة إلى حد كبير ، ومن أدلة ذلك أن عوائدها الإجمالية من الضرائب عام 1927 بلغت 1.5 مليون جنيه استرليني .
جرت المحاولة الأولى لوضع ميزانية السعودية عام 1929 ، ولكن وضعها لم يتم إلا عام 1934 . ولأول مرة قامت الدوائر الرسمية للدولة بوضع مشاريع للنفقات وقدمتها إلى وزارة المالية . ثم أحيلت المشاريع إلى مجلس اشورى الذي أحالها بدوره إلى مجلس الوكلاء (الوزراء) . وبديهي أنه لم يجر التقيد بالميزانية ، ولكن من المهم الإشارة إلى ضآلتها ، إذ أن باب النفقات بلغ 14 مليون ريال (كان الجنيه الاسترليني الواحد يعادل ثمانية ريالات تقريبا) ، وبلغ باب الواردات مقدارا مماثلا .
يذكر الزركلي أنه وقع على تقرير لوزارة الخارجية المصرية عن واردات الدولة السعودية في أواخر الثلاثينات . ويشير التقرير إلى أن الموارد الرئيسية تتلخص في رسوم الحج والعوائد من البترول والذهب والزكاة . ولم تتجاوز الميزانية مليوني جنيه مصري سنويا . كان الاضطهاد الضرائبي الذي مارسته الدولة المركزية العبء الأفدح بالنسبة للجماهير ، رغم أن مستوى تطور القوى المنتجة لم يسمح بالمغالاة في جباية الضرائب . وكانت الضرائب المستوفاة تذهب إلى بيت المال ، أما النفقات فإن الجيش حصة الأسد منها . كما كانت تدفع مخصصات لأرامل وأيتام الشهداء وللجرحى والمرضى . ومن بيت المال أيضا جرى الإنفاق على العلماء والمدارس وتنشئة الجيل والموظفين .
وأشار حافظ وهبة في معرض حديثه على حكام الجزيرة إلى أنهم يعتبرون أيديهم مطلقة في خزانة الدولة . وقال عن إمارة الرياض أن (مايدخل خزانة الحاكم يصرف منه على حاجاته الشخصية وعلى الأعطيات التي يجود بها على الوافدين . أما المدارس والصحة ووسائل تنظيف البلد وتجميلها فإنه ، مع استثناء الحجاز ، نجد الأهالي والحكام مشتركين في عدم الشعور بالحاجة إليها) .
وكان في الرياض جيش من الفقراء يعيله الملك . وكان ما يترواح بين الألف والألفين يأكلون في القصر مرتين كل يوم . وعلاوة على ذلك كان في العاصمة زهاء مائة من عوائل الأسرى تكلف عبدالعزيز بنفقات بيوتها وخيلها وإبلها وثيباها وجواريها وعبيدها . ويذكر حافظ وهبة أن عدد الضيوف الدائمين لايقل عن خمسمائة ، وقد يبلغ عشرة آلاف . وكان بدو كثيرون يجتازون مئات الكيلومترات للحصول على هبة من الملك . وتجدر الإشارة إلى أن هذه الهبة غدت بمثابة واجب مفروض على الحاكم . وكل أعرابي يمنحه عبدالعزيز منحة ، كبيرة أو صغيرة ، نقدا أو كسوة أو مؤنة ، تصبح في نظره ، كما يقول الزركلي ، (حقا) له واجبا كل عام . وإذا نقص النقد ريالا أو الكسوة غترة أو المؤنة بعض الشيء طالب به وألح ، وإذا منعت عنه المنحة غضب.
وكمان كان الحال في عهد السعوديين الأوائل ، صارت الضيافة لدى ابن سعود الوسيلة المركزية لإعادة توزيع الواردات على الصفوة في المجتمع . وإن من تدول دولتهم من شيوخ القبائل وأمراء الحواضر كانوا يحلون ضيوفا تحت المراقبة . أما إطعام الفقراء ومنحهم بعض العطايا فإنهما كانا يؤديان وظيفة (حلقة الوصل الوتيرة) بين المالكين والمعدمين ، ويعززان سمعة الملك كعاهل سخي مضياف وأب للشعب وشيخ ديمقراطي .
عند حلول الثلاثينات كانت القوات المسلحة في العربية السعودية قد شهدت تطورا ملحوظا . شكلت قوات حاكم الرياض في الأعوام الأولى التي أعقبت قيام الإمارة على غرار ما كان يجري في زمن أجداده . فقد كتب سليمان الدخيل عام 1913 يقول ما معناه : (متى أراد الحاكم أن يغزو استنفر قومه ، فنفر مع الكبير والصغير . اللهم إلا ذاك الهرم العاجز ، أو ذاك الصغير الضعيف أو من كان يعني بالفلاحة والزراعة . وإذا كان في البيت الواحد أخوان يذهب أحدهما ويبقى الثاني . وكذلك قل عن ابني العم أو ابني الخال ، فإن أحدهما ينفر للقتال والآخر يبقى عونا لأهل البيت . والأمير في إبان الحرب لايقوم بشيء من المؤن أو الذخائر الحربية . لأن كل من يخرج للغزاة مكلف بأعباء نفسه ، من اتخاذ الأسلحة اللازمة والمتاع وكل مايضمن له القتال مدة من الزمن . فإذا طالت المدة ، فالحاكم يجدد له الخيل والركاب والأسلحة إذا تلف منها شيء . وهو يمدهم بالأطعمة) .
وجاء في جريدة (أم القرى) إن (كل فرد في نجد محارب بطبيعته ، يحمل السلاح منذ نشأته ، ويتمرن عليه ، فإذا دعى تقلد بندقيته وركب ناقته ومضى إلى المعركة . وكل نجدي من سن الثالثة عشرة إلى السبعين صالح للقتال ... ولم يكن في نجد ثكنات عسكرية ، لأن بلاد نجد كلها ... تؤلف ثكنة تضم الرجال جميعا ...) . ويذكر مؤلفو كتاب (الجزيرة العربية في عهد ابن سعود) أن القوات المسلحة النجدية كانت تنقسم إلى أربع أصناف 1) أهل العارض 2) الحضر 3) الإخوان 4) البدو .
وامتاز من بين أهل العارض الحرس الملكي الذي تولى حماية الملك والأمراء من أفراد الأسرة المالكة ، ومنتسبو الحرس الملكي لايفارقون السلاح حتى أثناء نومهم . ومن أهل العارض أيضا موظفوا الحكومة باستثناء الأجانب الذين كانوا يستنفرون عند الضرورة ، والجيش الجهاد المسلح . والحرس الملكي أيضا من جيش الجهاد لكنهم يختلفون عن سواهم بملازمتهم للملك أو الأمراء . وكان في ديوان الملك دائرة خاصة للجهاد مسئولة عن هؤلاء الجند وسلاحهم ومؤونتهم .
أما فئة الحضر فتضم سكان الحواضر والمدن النجدية . وهم يشكلون أثناء المعركة الميسرة والميمنة ، في حين أن أهل العارض يقاتلون في الوسط . وكانت درجات الاستنفار أربعا . الدرجة الأولى . عندما يسود السلام فترة طويلة وليس ثمة خطر حرب ، فإن كل حاضرة ملزمة باستنفار عدد معين من الرجال بأسلحتهم ومؤنهم لمدة أربعة أشهر سنويا . وإذا لم تكن حاجة لهم فإن أهل الحاضرة يدفعون لبيت المال مبلغا معادلا لكلفة إعالة الجند .
الدرجة الثانية . تجرد كل حاضرة عددا من المقاتلين مع مؤنهم للمشاركة في الحملات العسكرية الصغيرة . وتوفر لهم الخزانة السلاح والذخائر ، أما إذا استمر بقاؤهم في الخدمة العسكرية أكثر من أربعة أشهر فإن الخزانة تتولى تزويدهم المؤن للمدة المتبقية . الدرجة الثانية . بغية خوض حملات عسكرية طويلة الأمد أو صعبة يعلن الجهاد الأصغر فتلزم المدن والقرى بمضاعفة عدد الجند المستنفرين . الدرجة الرابعة . في الظروف الطارئة ، وإذا تعرضت الدولة للخطر ، يستنفر الحاكم كل رجل قادر على حمل السلاح . وخلافا لسكان الحواضر فإن كل رجل قادر على حمل السلاح من هجر الإخوان كان يشارك في الحروب والحملات الحربية .
وكانت لكل وحدة رايتها ، وللقائد العام رايته الخاصة وموقعه عادة في الوسط ، ولكل منها صيحة حرب خاصة بها يتعرف بواسطتها كل من أفرادها على الآخر ، وصيحة حرب مشتركة للقوات السعودية كلها . كان الحرس الملكي وجيش الجهاد في وضع متميز عن سواهما ، ولهما الأفضلية في التموين والتسليح ، ويزودان بالخيول الملكية . وإذا كان منتسبو هاتين المؤسستين مسجلين في قوائم مديرية الديوان الملكي فإنهم يتقاضون مرتبا ، وفي الحالات الأخرى يحصلون على هبات ومخصصات .
وكان لدى الملك مجموعة من الحراس الشخصيين الذين يتم انتقاؤهم خصيصا . وإذا سار عبدالعزيز راجلا فإن حارسا يتبعه كظله مسلحا ببندقية ومسدس وخنجر ، ويقف خلفه في كل المجالس . ولايصلي الحارس مع الجماعة حين يكون في المسجد ، وإنما يستمر واقفا يراقب كل حركة حوله . وجرى عبدالعزيز في هذه العادة على سنن أسلافه ، منذ أن قتل الإمام عبدالعزيز الأول في مسجد الدرعية عام 1803 . ومن البديهي أن تنظيم القوات لم يكن على المستوى المبالغ فيه الذي أورده كتاب (شبه الجزيرة في عهد ابن سعود) فحسبنا تذكر الحملات العسكرية لأمير الرياض ، الذي صار سلطانا وملكا ، وتباين تركيب قواته المسلحة وكون الأغلبية فيها كانت تارة للحضر وتارة للبدو والإخوان . ولكن من المؤكد أن العارض والمناطق المجاورة لها كانت الركيزة الرئيسية للقوات المسلحة والمصدر الدائم الذي يمده بالمقاتلين الأشداء . ذكرت صحيفة (أم القرى) أن (الجيش الذي كان يعتمد عليه الملك عبدالعزيز في فجر حياته ، هو جيش الجهاد الذي كان مكونا من حاضرة أهل نجد ، مضافا إليه جيش الإخوان الذي كان مكونا من القبائل البدوية الرحالة التي وضع لها نظام (الهجر) وأنزلها من البادية إلى الحاضرة ، واصبحت هجرها كثكنات عسكرية . وظل هذا ساندا إلى عام 1348 هـ (1930 م) حين رأى الملك مجاراة تطور التسلح فأمر بتكوين إدارة للأمور العسكرية ، فكان ذلك إيذانا بغرس النواة للجيش النظامي) .
كانت فكرة تأسيس جيش نظامي قد راودت ابن سعود قبل هذا التاريخ . فقد شاهدت القوات الأنجلو هندية المسلحة في العراق إبان الحرب العالمية الأولى ، وكان قبل ذلك قد حارب ضد الوحدات النظامية المسلحة التركية ، فتأكدت لديه أفضليات القوات الحديثة المنضبطة والمدربة .
وبعد استسلام جدة عرض عبدالعزيز على كل ضباط الجيش الهاشمي الانتفال إلى الخدمة لديه ، فعين عددا منهم في شرطة مكة أولا ، ثم أخذ يشكل من بينهم أولى الوحدات النظامية . واستقدم الملك ضباطا من سورية والعراق للعمل في الدائرة العسكرية . شهدت جدة عام 1930 أول استعراض عسكري شارك في ثلاثة أفواج : من المدفعية والرشاشات والمشاة ، وهي نواة الجيش النظامي . ونظم الجيش على شكل كتائب وألوية ، ووزع على خمس مناطق عسكرية وتم توحيد الزي العسكري وشارات الرتب ، وافتتحت في الطائف مدرسة عسكرية . وفي عام 1935 أسست وكالة (وزارة) الدفاع ومقرها في الطائف ومديرية الأمور العسكرية . وفي عام 1938 ألغيت المديرية وفي العام التالي شكلت (رياسة الأركان الحربية) . وفي عام 1946 أنشئت وزارة الدفاع .
إن أهمية الطيران ، العسكري والمدني ، لبلد مترامي الأطراف وقليل السكان ، كانت واضحة للعيان . لذا أرسل عام 1931 إلى إيطاليا عشرة شبان سعوديين لتعلم الطيران ، وبعد عودتهم تم شراء عدد من الطائرات . وفي زمن الحرب اشترى الملك خمس طائرات أمريكية من طراء (داكوتا) ثم تسعا أخرى . وبدأت أولى الرحلات الجوية داخل السعودية ، ثم إلى مصر وسورية ولبنان . وأنشئت في الطائف مدرسة للطيران . واستقل عبدالعزيز ذاته الطائرة لأول مرة في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1945 بالقرب من الطائف . أدرك الملك بسرعة أهمية اللاسلكي للعمليات الحربية وحفظ الأمن فأنشئت أربع مدارس لتعليم الهاتف اللاسلكي في مكة وجدة والمدينة والرياض ، وأرسل بعض خريجيها إلى بريطانيا وبلدان أخرى لمواصلة الدراسة . وخلال عهد عبدالعزيز أنشئ في المملكة ستون مركزا لاسلكيا ثابتا ، منها ثلاثة مراكز رئيسية في جدة والرياض والظهران .
وتجدر الإشارة إلى أنه إلى جانب الجيش النظامي في السعودية كان يوجد جيش الجهاد وجيش الهجانة المكون من البدو الأقحاح المخلصين للملك . ويرجع تركيب القوات المسلحة على هذا النحو إلى طابع ومستوى تطور مجتمع الجزيرة ، ولكنه في الوقت نفسه كان عاملا يقلل من خطر الانقلاب العسكري .
التعليم والتربية الدينية
إثر انهيار دولة آل سعود في وسط الجزيرة في أواخر القرن التاسع عشر ، بدأ تدهو التعليم الديني التقليدي ، ونقل قسم كبير من مكتبات الرياض إلى القصيم وحائل . وسافر نفر قليل إلى الخارج لغرض الدراسة . ولم يكن في وسط الجزيرة كله مدرسة واحدة ، رغم وجود بعض الحلقات الدراسية الخاصة في مساجد عدد من المدن . كما أن البعض كانوا يعلمون التلاميذ القراءة والكتابة في منازلهم مقابل أجر . وقد افتتحت مدرسة دينية في العاصمة إثر عودة عبدالله الشيخ إليها ، وأخذ الكثيرون من كبار علماء الدين يقيمون مدارس منزلية . وبديهي أن التركيز جرى على حفظ القرآن وتعليم أصول الفقه الحنبلي لكي يتمكن الدارس من أن يصبح قاضيا . وكانت تقرأ في مجالس أمير الرياض الأحاديث النبوية وتاريخ الطبري أو السيرة النبوية .
وأشار حافظ وهبة إلى أن أمراء الجزيرة نادرا ماكانوا يهتمون بتعليم أبناءهم ، واعتبر بعضهم التعليم شيئا لايليق بمقامهم . وتغيرت هذه الآراء مع تطور حركة الإخوان حينما صارت تلاوة القرآن تحظى بتأييد من الأوساط العليا وبتأييد الإخوان أنفسهم .
حينما استولى النجديون على الحجاز وجدوا أن نظام التعليم فيه أرقى بكثير . فقد كان عدد القادرين على القراءة في وسط الجزيرة ضئيلا للغاية ، في حين أنه كانت تصدر في الحجاز صحيفة وتوجد عدة مدارس مماثلة للمدارس التركية ، علاوة على المكتبات الخاصة الكبيرة نوعا ما . وبدأ إبان الحكم العثماني في أواخر القرن التاسع عشر إصدار صحيفة (الحجاز) (صدرت حتى عام 1909 باللغتين العربية والتركية) . وصدرت لعدة شهور صحيفتا (شمس الحقيقة) و (الإصلاح) . وأسست في مكة مطبعة أهلية . وكانت توجد مدرسة حكومية تدرس باللغة التركية ومدرستان دينيتان أهليتان . وبعد ثورة تركيا الفتاة عام 1908 أفتتحت مدرستان أهليتان واحدة بجدة والأخرى بمكة .
إثر إقامة سلطة الشريف حسين المستقلة شهد الحجاز نوعا من النهضة في مجال التعليم ، رغم أن المؤلفين السعوديين المعاصرين لايميلون إلى الإقرار بذلك . وانقسمت المدارس في عهد الحكم الهاشمي إلى قسمين : الأميرية والأهلية . كما أسست مدرسة عسكرية ومايشبه المعهد الزراعي . وكانت غالبية المدارس في مكة . وفي عهد الحسين بدأ صدور صحيفة (القبلة) التي نشرت مواد كثيرة عن جهود الحسين في مجال التعليم . واستمر صدورها من عام 1915 إلى عام 1924 . كما صدرت لفترة قصيرة مجلة يعدها طلبة المعهد الزراعي . وفي الأشهر الأخيرة لحكم الملك علي صدرت في جدة نشرة (بريد الحجاز) .
أعجب عبدالعزيز بنظام التعليم في الحجاز ، فأسس عام 1926 (إدارة المعارف العامة) التي شرعت باستقدام المدرسين من الخارج . وفي العام نفسه أسس في الرياض والمناطق المتاخمة لها مدرسة حكومية وأهلية (بلغت ميزانيتها زهاء ستة آلاف جنيه في 1928-1929 و23 ألفا في 1929-1930) . وفي الثلاثينات أنشئت مدارس جديدة في كبريات مدن الحجاز وفي الرياض ، ثم في حائل وبريدة وعنيزة والقطيف والجبيل.
وحتى الخمسينات كان زهاء 22 ساعة من مجموع 28 ساعة دراسية في المدارس الابتدائية مكرسة للمواد الدينية . وحتى في السنة المنتهية من المدرسة الثانوية كانت هذه المواد تشكل 25% من الحصص . ورغم مقاومة علماء الدين ، أيد عبدالعزيز أن تدرج في المناهج المدرسية مواد مثل الرسم الهندسي واللغة الأجنبية والجغرافيا . ولكن علماء الدين تمكنوا من أحكام رقابتهم على إدارة المعارف ، وذلك من خلال نظام تعيين المعلمين والمطاوعة . ولم تطبع ، عادة ، في مطابع مكة إلا الكتب الدينية . وأنشئت في المنطقة الشرقية مدارس شيعية شبه علنية أنفقت عليها الطوائف الشيعية .
ابتداءا من كانون الأول (ديسمبر) عام 1924 بدأ صدور جريدة أسبوعية شبه رسمية بمكة هي (أم القرى) وهي المرجع الأساسي للبلاغات الحكومية الرسمية . وقامت الجريدة بنشر أخبار تنقلات الملك وخطبه ونصوص المعاهدات والاتفاقيات التي تعقد مع الدول الأجنبية ، وأخبار الحياة الأدبية . وبمرور الزمن تقلص حجم الجريدة واقتصرت على البلاغات والإعلانات الرسمية .
بدأ بمكة عام 1932 صدور جريدة (صوت الحجاز) الأسبوعية التي دامت سبعة أعوام . وحلت محلها صحيفة (البلاد السعودية) التي أصبحت عام 1953 أول جريدة أسبوعية في البلد . وصدرت في المدينة عام 1938 جريدة (المدينة المنورة) . وصدرت مجلات بشكل غير منتظم في مكة . أما بالنسبة لنجد فإن أول ماصدر هي مجلة (اليمامة) الأسبوعية التي بدأت الصدور عام 1953 في الرياض . ولم يكن للصحافة السعودية تأثير يذكر على تكوين الرأي العام وتطور الأحداث . لاتتوفر لدينا معلومات موثوقة عن نظام التعليم السعودي قبل الخمسينات . ويذكر الزركلي أنه في عام 1950 كان هناك زهاء 50 مدرسة قروية (ألفا طالب) و90 مدرسة ابتدائية (13 ألفا) وعشر مدارس ثانوية (600 طالب) . وبذا بلغ العدد الإجمالي للطلاب زهاء 16 ألفا .
عند دراسة إصلاحات ابن سعود نتوصل ، حتما ، إلى استنتاج مؤداه أن سعيه لبناء سلطة الدولة وإدارة شئونها وفقا للقيم السائدة في صدر الإسلام كان أكثر تطابع مع مستوى التطور الاجتماعي للمملكة من البدع المأخوذة عن المشركين (الكفار) . فعقارب الساعة في شبه الجزيرة العربية كانت موضع مغاير لما هي عليه في البلدان الأكثر تطورا في الشرق الأوسط . ولكن ابن سعود ضاته بوصفه من حكام الإقطاع المبكر ، ومذاهب الإسلام الخالص المجدد التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية المتخلفة ، قد ولدا بعد بضعة قرون مما ينبغي . فإن مجتمع العربية السعودية ما كان بوسعه أن يصمد أمام الأفكار الجديدة الكاسحة للنظام القديم ، حتى لو لم تهدم البنية الاجتماعية السابقة بفعل تدفق النفط ، ومن ثم أمواله . وخير مثال على ذلك مصير اليمن في الستينات . فإن البنى الاجتماعية التقليدية تغدو في العالم المعاصر المترابط بعضه ببعض عاجزة عن البقاء في مواجهة ضغوط العالم الخارجي الجاري عبر روابط السوق وعبر تسرب الأفكار وعبر المحاولات الرامية لتغيير ولو جزء من المجتمع (القوات المسلحة مثلا) لصد الخطر الخارجي .
وقد غدت العربية السعودية عرضة لتأثير خارجي عات . فقد شاءت الجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ أن تصبح السعودية أكبر منتج للنفط . وإن صناعة استخراج النفط ذاتها والفروع المرتبطة بها ، والأهم من هذا وذاك عوائد النفط الأسطورية التي سيطرت علهيا الطبقة الحاكمة ، هذه العوامل جميعا أثرت في البنى الاجتماعية التقليدية للبلد تأثيرا بالغا جعلها تتهدم وتتبدل .