تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الثالث

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثالث: قيام الدولة السعودية الأولى (1745 – 1811)

على أثر انتقال محمد بن عبدالوهاب إلى الدرعية لحق به الكثير من أتباعهه من العيينة وسائر واحات نجد . كانت عاصمة الدولة السعودية الشاسعة آنذاك تعيش حياة البؤس . ولم يتمكن ابن سعود حتى من تأمين الأغذية لأعز تلاميد محمد بن عبد الوهاب الذي كان يمارس تأثيره بقوة الإقناع فقط . واطلع محمد بن عبدالوهاب أتباعه وأنصاره على مبادئ مذهبه وأوحى لهم فكرة ضرورة الجهاد ضد الكفرة . وبعد أولى غزوات الدرعيين على جيرانهم وزعت الغنائم بالعدل طبقا لأحكام الوهابية : الخمس لابن سعود والباقي للجند : ثلث للمشأة وثلثان للخيالة . وكان التمسك بالوهابية يكافأ ماديا . وإذا كان الغزو في السابق مجرد حملة شجاعة ، فقد تحول الآن إلى انتزاع أموال المشركين وإحالتها إلى المسلمين الحقيقيين . ولم تكن عمليات الوهابيين الحربية تختلف عن النزاعات العادية بين الدويلات – الواحات . غارة سريعة وكمين تنصبه بضع عشرات من المحاربين وبضع عشرات من الإبل أو الأغنام التي يتم الاستيلاء عليها في حالة الانتصار وأشجار نخيل مقطوعة وحقل منهوب أو عدة منازل منهوبة – تلك هي (منجزات) الدرعيين في لاسنوات الأولى بعد مجيء محمد بن عبدالوهاب إليهم . إلا أن راية تجديد الدين منحت أمير الدرعية وزنا ومنزلة . وأخذ مؤرخو نجد يلقبونه بالإمام . وصار يعتبر أميرا للمؤمنين ، أي لجميع المنضمين إلى الوهابية . وأثناء الصلاة كان في مقدمة جمهور المصليين .

فرض زعامة الدرعية في وسط نجد . كان المحاربون من العيينة بزعامة بن مصر أنصارا ثابتين للدرعيين ، حتى أن أميرا من العيينة قاد القوات التي توحدت في السنوات الأولى . وارتبط عثمان بن معمر بالسعوديين بصلة قربى حيث زوج ابنته من عبدالعزيز بن محمد . وفي عام 1748 ولد ابنهما سعود الذي بلغ الوهابيون أوج قوتهم في عهده . إلا أن العداء حتى الموت بين الأقارب ظاهرة عادية تماما في الجزيرة العربية ، فلا داعي للدهشة من تطور الأحداث لاحقا . وكان لموقف محمد بن عبدالوهاب الذي لم ينس أن أمير العيينة نفاه منها أهمية حاسمة في التنافس بين حكام الدرعية والعيينة . واتهموا أمير العيينة كذلك بأنه أجرى مراسلات سرية مع حاكم الإحساء محمد بن عفالق وأعد المدة للخيانة . وفي حزيران (يونيو) 1750 قتله الوهابيون من أبناء واحته بعد صلاة الجمعة . وصار حاكما للواحة قريبه مشاري بن ابراهيم بن معمر المعتمد على الدرعية . وبعد عشر سنوات فقدت العيينة استقلالها نهائيا . فقد نحى محمد بن عبدالوهاب مشاري وأسكنه الدرعية مع عائلته وعين بدلا منه شخصا خاضعا للسعوديين كليا . ووصل محمد بن عبدالوهاب شخصيا إلى العيينة وأمر بتدمير قصر آل معمر .

وبعد خمس سنوات من التحالف بين محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود كانت سلطة أمير الدرعية لاتزال موضعا للشك والمجادلة حتى في أقرب الواحات . وفي 1750-1753 حاولت إمارات منفوحة وحريملا وضرمى التي كانت بين أوائل الذين تحالفوا مع الوهابيين أن تفصم عرى التبعية للدرعية . وشجع الانتفاضة في حريملا سليمان أخو محمد بن عبدالوهاب . وبعث إلى كافة أرجاء نجد رسائل شجب فيها تعاليم أخيه . وبتأثير الدعاية المناهضة للوهابية بدأت القلاقل حتى في العيينة . إلا أن عبدالعزيز تمكن مع 800 من المشأة و20 من الخيالة من الاستيلاء على حريملا في عام 1755 ، وفر سليمان إلى سدير . وظل أمير الرياض دهام بن دواس المنافس الرئيس للسعوديين . وكانت الغزوات من الدرعية والرياض على بعضهم البعض تجري كل عام تقريبا . وقاتل مع دهام على التوالي سكان مناطق وواحات الوشم وسدير وثادق وحريملا . إلا أن الوهابيين كانوا هم الجانب المهاجم في الغالب .

وعلى مسرح الأحداث في نجد ظهر الإحسائيون من جديد في أواخر الخمسينات ، وقد قادهم خلال بضع سنين حتى ذلك الحين زعيم نشيط هو عريمر بن دجين . فقد قاموا بحملة على وسط الجزيرة ، ولكنهم لم يوفقوا فيها . وانتقلت المبادرة مرة أخرى إلى الدرعية . وفي أواخر عام 1764 قام زعيم القبائل البدوية في منطقة نجران الحسن بن هبة الله بحملة على الدرعية . ودحر قوات عبدالعزيز عن آخرها ، حيث كبدها حوالي 500 قتيل و 200 أسير . وأبدى محمد بن عبدالوهاب دهاءا دبلوماسيا كبيرا فسارع لعقد الصلح على أساس دفع تعويضات الحرب وتبادل الأسرى . وانسحب النجرانيون دون أن ينتظروا وصول عريعر من الإحساء . ووصلت قوات عريعر المسلحة بالمدافع إلى ضواحي الدرعية في بداية عام 1765 . وانضم إليها الكثير من النجديين ، بمن فيهم دهام أمير الرياض وزيد بن زامل أمير الخرج . إلا أن حصار الدرعية أخفق . وفي ذلك العام توفي محمد بن سعود . وخلقه عبدالعزيز . ويشير ابن غنام وابن بشر إلى أن عبدالعزيز لم يكن ولي العرش فقط ، بل كان إماما للوهابيين .

وبعد الهزة التي نجمت عن لهزيمة أمام النجرانيين وغزو الإحسائيين تماثلت إمارة السعوديين للشفاء بسرعة . واستمر توسعها بوتائر متسارعة ، وفي أواخر الستينات أخضع الوهابيون كليا الوشم وسدير وهاجموا واحة الزلفى الواقعة شمال شرقي مقاطعة القصيم النجدية الغنية وشنوا حملات ناجحة على البدو جنوبي وشرقي نجد . وخضعت مفارز من قبائل سبيع والظفير للوهابيين . وفي عام 1769-1770 أقسم القسم الأكبر من القصيم يمين الولاء للوهابية والسعوديين .

وفي هذه الظروف غدا وضع الرياض المطرقة من جميع الجهات باتباع أو حلفاء الوهابيين ميئوسا منه . وفي إحدى المناوشات قتل الدرعيون اثنين من أبناء دهام . وتدهورت معنويات أمير الرياض العجوز . وعندما وصل الوهابيون في صيف 1773 إلى الرياض رأوا أن المدينة خالية من سكانها . وفر أمير الرياض مع عائلته . وحذت حذوه أغلبية السكان الذين كانوا يخشون ، وليس بدون حق ، من ثأر خصومهم القدامى . وهلك كثير من سكان الرياض في الطريق بسبب الحر والعطش ، كما سقط الكثيرون بسيوف الوهابيين . وانتهى الصراع من أجل السيطرة في وسط نجد بعد أن استغرق حوالي ربع قرن . ولكنه لم يخرج عن نطاق النزاع القبلي . وتفيد حسابات المؤرخين التي هي ربما أقل مما في الواقع أن عدد القتلى بلغ 4-5 آلاف شخص يشكل اتباع دهام أكثر من نصفهم . ويمكن أن نوافق على رأي فيلبي الذي كتب يقول : (حتى ذلك الحين كان عبدالعزيز يتربع منذ ثماني سنوات على عرش الدرعية التي كانت أكبر شأنا بقليل من سائر (primus inter pares) الدويلات العديدة في الجزيرة العربية . إلا أن الوهابيين حصلوا على قاعدة متينة لمواصلة توسيع دولتهم .

كانت سلطة السعوديين قائمة ليس فقط على قوة السلاح . فكل واحة تضم إلى الدولة يصلها من الدرعية علماء وهابيون يدعون إلى التوحيد الحقيقي . وأخذ قسم من سكان نجد يعتبر الدرعية ليس مجرد عاصمة لإمارة قوية بل ومركزا روحيا ، ويعتبر حكام الدرعية ليس مجرد أمراء أقوياء بل ومناضلين في سبيل نقاوة الدين . ولا يغيبنعن البال أن العلمءا وأنصار الوهابيين في الإمارات المعادية للدرعية كانوا يفتتون المقاومة من الداخل .

وعلى العموم تمكن السعوديون بصعوبة كبيرة ، رغم الجهود الهائلة ، من قهر مقاومة الأمراء المستقلين . وكان واضحا أثر قوى التجزئة واللامركزية والفوضى القبلية . ولذا تعين مرور عشرة أو إثنى عشر عاما على سقوط الرياض لتقع نجد كلها تحت سيطرة الدرعية .


توحيد وسط الجزيرة العربية

بعد ضم الرياض صار الخصم الرئيسي للسعوديين في نجد هو زيد بن زامل الأمير الداهية الشجاع وحاكم الدلم ومنطقة الخرج كلها . وقد حاول من جديد اجتذاب قبائل نجران للمشاركة في مكافحة الوهابيين . ولهذا الغرض توجه بطلب إلى أمير نجران ليرسل محاربين لنجدته ووعده بمكافأة معينة . ووصل أبناء نجران ولكنهم بدلا من تقديم النجدة أخذوا يبتزون النقود وينهبون سكان الخرج . فأخفق التحالف المنشود . وفي منتصف السبعينات دخل محاربو بني خالد وعلى رأسهم عريعر نجد قادمين من الإحساء واحتلوات بريدة في القصيم ونهبوها بوحشية . وكان العديد من حكام واحات نجد المتذمرين من سلطة السعودين مستعدين لدعم الإحسائيين ، ولكن عريعر توفي بغتة . وبدأ عند بن خالد صراع من أجل الرئاسة . وفاز في هذا الصراع مؤقتا أحد أبناء عريعر وهو سعدون ، إلا أن أمراء الدرعية أخذوا يحرضون إخوانه ضده . وخلال السنوات القليلة التالية كان الإحسائيون يظهرون في نجد كل عام تقريبا . وشاركت مع بني خالد في الغزوات قبائل سبيع والظفير . وكان عدد من واحات نجد تارة ينضم إلى الوهابيين وتارة ينفصل عنهم ويعمل بصورة مستقلة وتارة يتحالف مع أعداء الدرعية .

ويبين مشهد هام ذكره منجين سير العمليات الحربية آنذاك . فقد أنشأ الوهابيون قرب الدلم قلعة للتضييف على عمليات مفارز زيد بن زامل . وكانت مشارف القلعة صعبة المنال وقد وقفت في حمايتها عساكر وهابية مختارة .. وبغية إخراج العدو من القلعة أنشأ أهل الدلم بإشراف أحد الفرس القانطين في الواحة برجا متنقلا على أربع عجلات ولبسوه بالرصاص لحمايته من النار . ودخله محاربون ودحرجه آخرون نحو القلعة . إلا أنه تلكأ عند مشارفها ، ولم ينقذ المحاربين القابعين في البرج المتنقل إلى عملية مستميتة لمفرزة من شجعان الدلم .

ورغم المقاومة وسعت الدولة السعودية نفوذها وأراضيها بالتدريج . وبعد احتلال الوهابيين لواحة المجمعة توقف عمل أنشط الدعاة المعاديين للوهابية ، ونعني سليمان بن عبدالوهاب . فقد نقل مع عائلته إلى الدرعية حيث ظل حتى وفاته . وفي مطلع الثمانينات تقرر مصير القصيم نهائيا . فطوال عدة سنوات استمرت القلاقل والنزاعات التي تخللتها عمليات ضد الدرعية . ولم يخفت أوار العداء القديم ، وظل باقيا مفعول علاقات التحالف والترابط والنفور والتضاد السابقة . وفي عام 1782 دخل القصيم سعدون بن عريعر على رأس قوات بدوية من بني خالد وشمر والظفير . وكان مصمما على طرد الوهابيين . وانضم إليه زيد بن زامل وقواته . وطوال عدة أسابيع حاصروا بريدة التي ظلت موالية للوهابيين ، ولكن دون جدوى هذه المرة . وانحل الائتلاف المعادي للوهابيين وغادر الإحسائيون نجد .

وفي عام 1783 قتل زيد بن زامل . وتزعم الدلم ابنه براك . إلا أن مكانة الأمير الجديد كانت مضعضعة بسبب التنافس داخل الأسرة الحاكمة . وفي الفترة 1783 – 1786 أصاب نجد جفاف مرعب وتفشت المجاعة . وغدت حالة الخرج التي حاصرها الوهابيون ميئوسا منها . وفي عام 1785 تم احتلال الدلم بهجوم سريع . وقتل الأمير وبعض أنصاره . وأقسمت منطقة الخرج كلها يمين الولاء للسعوديين . وعين القائد العسكري الوهابي سليمان بن عفيصان حاكما للدلم .

وفي تلك السنوات على وجه التقريب خضعت للدرعية الأفلاج والدواسر ، مع أن الانتفاضات ضد الوهابيين استمرت أمدا طويلا في الدواسر . وشعرت أقوى القبائل البدوية في الجزيرة العربية بثقل قبضة حكام الدرعية . وعندما دحر الوهابيون بدو الظفير في عام 1781 انتزعوا منهم كل مايملكون : أدوات المخيمات و17 ألف نعحة وماعز و5 آلاف جمل و15 حصانا وقام الوهابيون كذلك بغزوات على آل مرة وقحطان وسبيع وبني خالد . وتوغلوا في الشمال وأخضعوا جبل شمر في لانصف الثاني من الثمانينات .

واكتمل التفاف أراضي وسط الجزيرة حول الدرعية . ومع أن بعض العمليات كانت لاتزال جارية في بعض المناطق ضد السعوديين فلم يعد جائزا اعتبار الأمراء المحليين من منافسيهم . وفي أفضل الأحوال كانوا شبه تابعين لهم ، وفي الغالب كانوا صنائع مباشرين للدرعية يؤدون دور الولاة . وأدى تعزز سلطة آل سعود ونفوذهم عموما إلى جعل عبدالعزيز ومحمد بن عبدالوهاب يقدمان في عام 1788 على خطوة هامة . فقد أمنا لسعود حق ولي العرش بالوراثة والإمام عبدالعزيز لايزال على قيد الحياة . وأخذ محمد بن عبدالوهاب على عاتقه مهمة جعل مدن ومناطق الدولة تقسم يمين الولاء . وكان سعود حظي أصلا بشعبية واسعة بفضل بسالته وانتصارات الحربية ومشاركته في تصريف شئون الولة . وكان الإعلان عن ولي العهد قد تعزز أسرة آل سعود لأنه أمن انتقال السلطة بصورة أصهل نسبيا من الأمير إلى ابنه .

إن وراثة الإبن لأبيه شيء معتاد في الجزيرة العربية ولكنه غير الزامي . فالسلطة كانت تنتقل حسب الأقدمية في العمر داخل الفخذ وحسب السجايا الشخصية لأقرب الأقوياء . وتعود الكلمة الحاسمة في اختيار الأمير الجديد إلى كبار الوجهاء . وإن إصرار المؤرخ الوهابي ابن غنام على تبرير شرعية يمين الولاء لسعود يشير إلى أن فكرة لزوم انتقال السلطة من الأب إلى إبنه صادفت ، على الأرجح ، بعض المقاومة والاعتراض . وبالاعتماد على موارد وسط الجزيرة بدأ الوهابيون تقدما ناجحا في جميع الاتجاهات : نحو الشرق والشمال الشرقي – إلى الإحساء وجنوب العراق ، ونحو الغرب – إلى الحجاز ، ونحو الجنوب الغربي – إلى اليمن ، ونحو الجنوب الشرقي – إلى عمان ، ونحو الشمال إلى حدود الشام .

الوهابيون في شرقي الجزيرة

مما سهل هجوم الوهابيين على الإحساء النزاعات الداخلية في هذه المنطقة الغنية . وفي عام 1785-1786 دبر أقرب أقرباء سعدون بن عريعر مؤامرة ضده . وطلبوا من شيخ المنتفق ثويني بن عبدالله أن يؤيدهم . فبدأت العمليات الحربية . ومنى سعدون بالهزيمة في الاشتباك الحاسم وولى هاربا . وطلب من الدرعية أن تمنحه اللجوء فاستقبلته بحفاوة . وتفيد بعض المعلومات أنه سرعان ما توفي بعد ذلك . وصار دويحس حاكما للإحساء بعض الوقت.

وخف ضغط الوهابيين على الإحساء فترة قصيرة بسبب الغارة غير المتوقعة التي قام بها شيخ المنتفق ثويني على القصيم في 1786-1787 . فقد جمع قوات كبيرة مزودة بالمدفعية . وشاركت معه في هذه الغزوة بعض قبائل شمر وكذلك سكان الزبير . وحطمت قوات ثويني عدة قرى في القصيم ولكنها ردت على أعقابها. وبعد أن عاد ثويني إلى منطقة قبائل المنتفق أراد أن يستولي على البصرة ويعلن عن نفسه حاكما لها . إلا أن والي بغداد سليمان باشا المستقل في الواقع عن الباب العالي هاجم ثويني في خريف 1787 وهزمه قرب مدينة سوق الشيوخ ، ثم أمر فيما بعد برصف ثلاثة أبراج من جماجم قتلاه . وفر ثويني وصار حمود بن ثامر شيخا للمنتفق .

وتصادف كثيرا في كتابات مؤرخي الجزيرة التي تتناول بداية نشاط الدولة الوهابية معلومات عن الاشتباكات بين قوات السعوديين والبدو . ولكنه في أواخر الثمانينات تلاحظ مشاركة متزايدة من بدو بعض القبائل في الحملات التي يشنها الوهابيون أنفسهم . وقد كرر ابن بشر الإشارة إلى ذلك مرارا . وكان الوهابيون يقومون سنويا بحملات على أعماق الإحساء حتى بلغوا سواحل الخليج . ولم يكتف الوهابيون بغزو واحات شرق الجزيرة وقبائل بني خالد ، بل هاجموا كذلك قبيلة المنتفق شمالي الإحساء . وقمع الوهابيون المقاومة بمنتهى القسوة . فقد كتب ابن غنام أن الوهابيين عندما عادوا ذات مرة من الواحات وجدوا (أكثر الرجال ...في بيت من البيوت ، وكانوا ثلاثمائة نفس فقتلوا جميعا) .

وفي خريف 1788 صار بعض أفخاذ قبيلة بني خالد يقاتل في صف الوهابيين . ونصبت الدرعية زيد بن عريعر شيخا لمشايخ بني خالد . إلا أن الإحساء كانت لاتزال غير راضخة بعد , فإن المقاومة اللاحقة التي أبداها سكانها وانتفاضاتهم المتكررة تدل على أن الميول المعادية للوهابية كانت قوية هنا . وربما يعزي ذلك إلى وجود عناصر شيعية قوية في الإحساء ، وإلى كون وجهائها الذين تعودوا على اعتبار النجديين جهة لهجماتهم لم يستطيعوا الرضوخ لدور الخضوع . وفي 1791-1792 اجتاح سعود بالحديد والنار واحات شرقي الجزيرة فاحتل القطيف . وفي تلك الأثناء قام سليمان بن عفيصان بغزوة على قطر . إلا أن الإحساء كلها سرعان ماهبت في انتفاضة عارمة . ودحر بنو خالد صنيعة الوهابيين ، وصار شيخا للإحساء براك بن عبدالمحسن الذي بدأ غزواته فورا على البدو والواحات الخاضعة للسعوديين إلا أن بني خالد اندحروا في إحدى المعارك ففقدوا أكثر من ألف شخص . وأعربت واحات الإحساء عن خضوعها لسعود . وظل الوهابيون شهرا في هذه المنطقة فدمروا قباب الأضرحة وجميع العتبات المقدسة للشيعة . وتوجه العلماء الوهابيون إلى المدن والواحات هناك .

وفي معمعان إخضاع الإحساء ، في عام 1792 ، توفي مؤسس الحركة الوهابية محمد بن عبدالوهاب . وكان شخصية بارزة بالنسبة لعصره ومجتمعه وطبقته . وكان يتحلى ببسالة وحماسة متناهيتين . فإن تحدي النظام الديني في الجزيرة العربية آنذاك ومواجهة حماة القديم الهائجين يتطلبان بسالة منقطعة النظير . وتعرضت حياته للخطر مرارا ، وقد أجلى ثلاث مرات ، ولكن ذلك لم يئن عزيمته . وساعد محمد بن عبدالوهاب لدرجة كبيرة ، بخطبه الحماسية وبلاغته ، على نجاح الحركة الدينية التي بدأها وعلى توسيع الدولة السعودية . وكتب ابن بشر عنه أنه نشر (راية الجهاد بعد أن كانت فتنا وقتالا) . ويقول منجين : ( كان يتحلى بأكبر قدر من فن الإقناع ويخلب الألباب بخطبه ...) .

ويشير مؤلف (لمع الشهاب) إلى نقطة هامة أخرى وهي أن محمد بن عبدالوهاب بالذات علم سكان الدرعية ، كما يزعمون ، على صنع واستخدام السلاح الناري . وإذا كان قد اضطلع بهذا الدور الذي لايميز الفقهاء فيمكن الافتراض بأن مكانته في تأسيس إمارة الدرعية وانتصاراتها الحربية أكبر مما يشير إليه مؤرخو نجد . كان محمد بن عبدالوهاب يتحلى بهمة حياتية فائقة . ويقول منجين أنه (كان يهوى النساء وله عشرون زوجة أنجب منهن 18 طفلا) . وقد غدا خمسة من أبنائه وكثير من أحفاده فقهاء معروفين. وترك محمد بن عبدالوهاب لورثته أرضا فيها نخيل وأشجار فاكهة وحقول وتبلغ عائداتها 50 ألف درهم ذهبي سنويا ، بالإضافة إلى مكتبة تضم بضع مئات من الكتب . وبعد وفاة الشيخ محمد بن عبدالوهاب صار ابنه حسين ، وهو ضرير تقريبا ، مفتيا للدرعية ، وبعده شغل أخوه هذا المنصب .

إن أسرة الفقهاء التي صارت تسمي آل الشيخ قد احتفظت بوزنها ونفوذها ومكانتها في الدولة السعودية حتى اليوم ، ولكن أحدا من أحفاد محمد بن عبدالوهاب لم يرتفع إلى منزلة مؤسس الوهابية في إمارة الدرعية . وفي تلك الأثناء بدأت في الإحساء من جديد انتفاضة ضد سلطة النجديين . فقد قتل سكان الهفوف ثلاثين من ممثلي الدرعية – الحاكم والموظفين والعلماء الوهابيين وسحلوا جثثهم في شوارع المدينة ومثلوا بها على رؤوس الأشهاد . وأيدت الهفوف عدة واحات أخرى . وكان صنيعة الوهابيين زيد بن عريعر ، زعيم بني خالد ، قد خان أسياده وشارك في الانتفاضة .

وفي خريف 1793 توجه سعود مع قوات كبيرة إلى الإحساء . ونهبت قواته البدوية كل ماصادفته في طريقها وقتلت دون رحمة كل من أبدى مقاومة ودمرت بساتين النخيل واستأثرت بمحاصيل التمور ورعت الماشية في الحقول . وكان منافس زيد بن عريعر وخصم الوهابيين سابقا براك بن عبدالمحسن قد انتقل إلى جانبهم . وأعربت الإحساء كلها عن خضوعها لهم . وعين براك بن عبدالمحسن أمير للإحساء ، ولكنه حاول في ربيع 1796 أن يتخلص من سلطة الوهابيين الذين انشغلوا بعمليات حربية غربي وجنو غربي نجد . وبعد عدة أشهر وصل سعود مع جيش قوي إلى الإحساء وقمع الحركة فيه من جديد .

وكتب ابن بشر وصف إخضاع الإحساء يقول : (فلما أصبح الصباح وحل سعود بعد صلاة الصبح فلما استووا (يقصد الوهابيين) على ركائبهم وساروا ثوروا بنادقهم دفعة واحدة . فأظلمت المساء وأرجفت الأرض وتأرجح الدخان في الجو وأسقط كثير من النساء الحوامل في الإحساء . ثم نزل سعود ... وظهر عليه جميع أهل الإحساء على إحسانه وإساءته . وأمرهم بالخروج إليه فخرجوا فأقام في ذلك المنزل مدة أشهر يقتل من أراد قتله ، ويجلي من أراد جلاءه ويحبس من أراد حبسه ، ويأخذ من الأموال ، ويهدم من المحال ، ويبني ثغورا ويهدم دورا ، وضرب عليهم الوفا من الدراهم وقبضها منهم . وذلك لما يتكرر منهم من نقض المعهد ومنابذة المسلمين ، وجرهم الأعداء عليهم . وأكثر فيهم سعود القتل . فكان مع ناجم بن دهينيم عدة من الرجال يتخطفون في الأسواق لأهل الفسوق ونقاض العهد ... فهذا مقتول في البلد ، وهذا يخرجونه إلى الخيام ويضرب عنقه عند خيمة سعود ، حتى أفناهم إلا قليلا . وحاز سعود الأموال في تلك الغزوة ما لا يعد ولا يحصى . فلما أراد سعود الرحيل من الإحساء أمسك عدة رجال من رؤساء أهلها ... وظهر بهم إلى الدرعية وأسكنهم فيها واستعمل في الإحساء أميرا ناجم المذكور ، وهو رجل من عامتهم .

هذكا تم إخضاع شرق الجزيرة العربية للوهابيين وصارت تابعة للسعوديين الممتلكات العائدة في الجزء القاري لأسرة آل خليفة الحاكمة في البحرين . وفي بداية التسعينات كانت على أشدها أيضا العمليات الحربية غربي نجد .

إمارة السعوديين والحجاز قبل عام 1802

بعد بدء الحركة الوهابية وتوسع إمارة السعوديين لم تنشب أية صدامات حربية بين حكام الدرعية ووجهاء الحجاز .

ولم تكن سلطة شريف مكة مساعد الذي حكمها من 1752 حتى 1770 متينة . ففي هياة حكمه خيم على مكة خطر فقدان الاستقلال الواسع الذي كانت تتمتع به في الإمبراطورية العثمانية . وفي عام 1769 أعلن حاكم القاهرة علي بك استقلال مصر عن الباب العالي . وضم الحجاز إلى ممتلكاته بيد أن محاولة علي بك لتأسيس دولة عربية مستقلة لم تكلل بالنجاح . فتخلص الحجاز من حكم المصريين .

ويقول مؤرخو الجزيرة أن السعوديين ومحمد بن عبدالوهاب أقاموا مع حكام مكة علاقات ودية . وعلى أثر انتقال محمد بن عبدالوهاب إلى الدرعية وصل إلى مكة ثلاثون فقيها وهابيا للحصول على موافقة بالحج وإجراء حوال مع فقهاء مكة . واعتبر فقهاء مكة ، كما يفيد دحلان تعاليم الوهابيين زندقة فظيعة وكفرا . وأمر شريف مكة بأن تنشر في رسائل بكل مكان أدلة تثبت كفر الوهابيين وبأن يقيد هؤلاء الكفرة بالسلاسل ويزج بهم في السجن . وتمكن قسم منهم من الفرار فحملوا إلى الدرعية أخبار ماحدث . وفي مطلع السبعينات أجرى محمد بن عبدالوهاب وعبدالعزيز مراسلات مع شريف مكة وتبادلوا الهدايا . وفي تلك السنوات لم يعرقل الإشراف أحيانا حج الوهابيين . وعندما صار سرور حاكما لمكة في عام 1773 بعث إليه عبدالعزيز هدايا ثمينة ليعرب عن المودة .

ويبدو أن حكام مكة والدرعية كانوا يقيمون علاقات ودية معتدلة فيما بينهم طالما أن مصالح النجديين والحجازيين لم تتصادم مباشرة وطالما كان الحجازيون يخشون تدخل المصريين أو الأتراك في شئونهم ، أما تعاليم الوهابيين فإن علماء الحجاز ووجهاءه قد استقبلوا بالعداء على الأكثر منذ البداية . وتمكن حاكم مكة سرور من التخفيف من غلواء عوائل الإشراف وتعزيز مواقعه في الحجاز . ولكنه على أثر وفاة سرور صار شريفا لمكة في عام 1788غالب بن مساعد وهو فتى لايمتلك سلطة فعلية فظل لبعض الوقت أداة في أيدي عبيد ومملوكي الأمير السابق الذين أخذوا يضيقون على لاسكان المحليين فصاروا يضمرون لهم حقدا . وهذا ماساعد غالب في القريب العاجل على التخلص من العبيد العاصين وتعزيز منزلته . وكان غالب محاربا شجاعا وسياسيا نافذ البصيرة . فاستطاع أن يقيم علاقات طيبة مع القبائل البدوية المجاورة لمكة ، وقام بالغزوات معتمدا على هذه القبائل وعلى حرس العبيد المكون من بضع مئات من الأشخاص بعد تجديده .

وفي عام 1790-1791 أعد شريف مكة حملة على نجد من قوات بعشرة آلاف محارب و 20 مدفعا . إلا أن محاولاته في السيطرة على واحات نجد المحصنة قد أخفقت ، فتركهه حلفاؤه من بعض قبائل البدو . وعاد إلى مكة مع النواة الأساسية لقواته . وفي صيف 1791 الحق سعود هزيمة ماحقة بحلفاء الشريف في منطقة جبل شمر بعد أن شاركوا في حملاته ، ونعني بدو شمر ومطير . وفي البدو تاركين للوهابيين غنائم وفيرة جدا – حوالي مائة ألف من الغنم والماعز وبضعة آلاف من الإبل.

وبدأت فصائل الوهابيين غزوات على المناطق الواقعة بين نجد والحجاز وعلى الواحات والقبائل الخاضعة لشريف مكة . وفي آيار (مايو) 1795 حاصر سعود تربة التي هي مركز استراتيجي هام على مشارف الحجاز .

وفي صيف العام نفسه وردا على هجوم الوهابيين قام الحجازيون بغزوة على نجد . وتشجع غالب بنجاح هذه الغزوة فجهز في شتاء 1795-1796 قوات كبيرة جديدة مزودة بالمدافع للقيام بحملة في أعماق الجزيرة العربية . وقد أبيدت هذه الحملة عن آخرها على يد القوات الموحدة التابعة للدرعية والمكونة من بدو مطير وسبيع والسهول والدواسر والعجمان وبعض من قبائل عتيبة على مايبدو . ويؤكد ابن غنام أن غنائم الوهابيين بلغت 30 ألفا من الإبل و200 ألف من الغنم والماعز . وأرغمت الهزيمة الماحقة غالب على توقيع الصلح . وكان واضحا أن النجديين متفوقون في القوات . فقد واصلوا تقدمهم نحو الجنوب حتى وصلوا نجران والحدود الشمالية لليمن . ويبدو أن اتصالاتهم مع سكان عسير تعود إلى تلك الفترة .

كانت قبيلة عتيبة الجبارة الخاضعة في السابق لإشراف مكة قد انضمت إلى إمارة الدرعية في 1797-1798 . ورافق البدو على تنفيذ كل أ؛كام الوهابية وتسديد الزكاة ودفع تعويضات الحرب لقاء العمليات العدائية السابقة . ويقول منجين أن البدو دفعوا من كل عائلة أربعة ريالات ، ومن كل فخذ كمية معينة من السلاح والخيل والإبل . وفي عام 1798 حاول غالب الذين ضمت قواته مرتزقة من الأتراك والمصريين والمغاربة أن يتقدم مرارا نحو الحرمة وبيشة ، ولكنه دحر . وسيطر أمير الدرعية على بيشة . وأقدم شريف مكة من جديد على لاصلح وسمح للوهابيين بالحج . وبعد عامين ، كما يقول ابن بشر ، أدى سعود وعائلته وبعض قواته فريضة الحج لأول مرة ، وفي السنة التالية قام بالحج للمرة الثانية . وقدم هناك الهدايا بسخاء وحصل على أنصار . وفي هذا الوقت بالذات أقام عثمان المضايفي ، وهو من أقرباء شريف مكة ، ارتباطا معه وعرض عليه خدماته . وغدا واضحا أن الوهابيين يكادوون يخضعون الحجاز بالكامل .

فشل حملتي والي بغداد على الإحساء

في نفس فترة غزو الإحساء ، وخصوصا بعد إخضاعها قامت فصائل الوهابيين بحملات على المناطق الواقعة بشماليها . فقد تعرضت لهجماتهم قبائل وقرى جنوب العراق . واستعد والي بغداد الذي دفعه الباب العالي لمحاربة الوهابيين . كان والي بغداد آنذاك يتمتع بحظوة خاصة عند الإمبراطورية العثمانية . فبعد الحروب التركية الفارسية المدمرة وبعد الفتن والنزاعات الداخلية استولى المماليك على السلطة في بغداد . واعتبارا من عام 1780 حكم بغداد بصورة مستقلة في الواقع سليمان باشا ، وهو مملوك جورجي لوالي بغداد السابق . واضطرت الاستانة إلى للموافقة على تسلمه هذا المنصب .

كان تسوع إمارة الدرعية في هذه المنطقة يستهدف الشمال الشرقي . وفي هذا الاتجاه كانت القبائل العربية تنزح عموما طوال القرون . فمن المعروف ، مثلا ، أن قبائل شمر في القرن الثامن عشر تغلغلت في أعماق العراق بعيدا حتى أنها انتقلت إلى ماوراء دجلة . وأثناء القحط الفظيع في وسط الجزيرة في الستينات انتقل بعض سكان نجد إلى الزبير وشمالها .

وكانت قبائل البدو المترحلة في جنوب العراق قد أقامت علاقات وثقى مع مدن العراق وقراه . وكانت لحكام بغداد مصلحة في مساعدة البدو لأجل حماية الطرق التجارية والقرى والمدن ، كما كان هؤلاء الحكام يشترون من البدو ماشية الحمل والركوب . وواصل ولاة بغداد تقاليد حكام مابين النهرين منذ آلاف السنين فراحوا يمنحون الهدايا لشيوخ البدو ، بل ويسلحونهم لك يصدوا الحملات البدوية المنطلقة من مناطق وسط الجزيرة لاعربية . وكان استخدام قبائل المنتفق وغيرهم في محاولة لتقويض سلطة الوهابيين في الإحساء يستجيب كليا لهذه السياسة .

وتزعم ثويني الحملة على الوهابيين . كان زعيم المنتفق السابق هذا قد طاف أمدا طويلا عندما أجلى بعد إخفاق محاولته لترسيخ أقدامه في البصرة حتى أنه حل بعض الوقت بمثابة ضيف كريم على الدرعية . ثم استولى على السلطة في قبيلته من جديد ، كما تفيد بعض الروايات . وتوجه يطلب إلى سليمان باشا ليسلحه ضد الوهابيين . وتقول رواية أخرى أن ثويني أقنع والي بغداد بأن يسلمه السلطة في المنتفق ووعده بالقيام بحملة علىنجد ودحر الوهابيين ، وعند ذاك نحى سليمان باشا حمود بن ثامر عن رئاسة القبيلة وعين ثويني بدلا عنه .

وفي مطلع عام 1797 بدأ ثويني حملته على الوهابيين . كان تحت قيادته جنود القوات النظامية بالإضافة إلى فصائل من البصرة والزبير . وانضمت إلى حملته بعض أفخاذ بني خالد برئاسة براك بن عبدالمحسن الذي هرب من الإحساء . وجمع عبدالعزيز كل قواته مدركا خطورة الموقف . وأمر البدو المخلصين له بأن يحتلوا أراضي قبيلة بن خالد التي يمكن أن تنضم إلى ثويني ، كما أمرهم بحماية الآبار الرئيسية . وعلى أثر ذلك أرسلمت إلى الإحساء أكثر قوات الوهابيين صمودا ، وهي مكونة من حضر العارض .

وبدأت في افحساء معارك طاحنة بين قوات ثويني والوهابيين ، إلا أن الحظ ابتسم لحاكم الدرعية فجأة . ففي معمعان الحملة قتل ثويني على يد عبده الأسود طعيس ، وهو وهابي متعصب . قطعوا عنق طعيس في الحال إلا أن مقتل ثويني قد قرر مآل النزاع . انفصل بنو خالد بزعامة براك على المنتفق ، الأمر الذي جعل الاضطراب يستولي على قوات ثويني . وذعرت فصائل البدو والترك وأخذت تنسحب على عجل إلى الشمال تاركة الأسلحة والذخيرة . ووقع معسكر ثويني كله ومدفعيته في أيدي الوهابيين في حزيران (يونيو) 1797 . وطارت الفصائل الوهابية العدو حتى وصلت مشارف الفرات الأوسط . وفي العام التالي تغلغل الوهابيون في بادية الشام ، كما وصولوا إلى مدينتي سوق الشيوخ والسمارة في العراق .

في أواخر التسعينات كان الباب العالي يبعث إلى والي بغداد بأوامر متواصلة للقضاء على الوهابيين . وعين علي باشا قائدا للجيش , وقد اختلفت المؤرخون في تحديد وقت الحملة العراقية على الإحساء . وبغية إيضاح التواريخ الفعلية يجدر بنا أن ننطلق من إفادة شاهد العيان بريجيز الذي وصل إلى بغداد بصفة مندوب سياسي بريطاني في حلظة قيام جيش علي بالحملة . تحركت قوات الجيش من بغداد نحو الفرات الأوسط بأحمال ثقيلة وأخذت تستوعب في الطريق المتطوعين من البدو . ولذا ماكان بوسعها أن تظهر في الإحساء قبل أواخر عام 1798 وأوائل عام 1799 ، وهذا يتفق مع ما أورده ابن بشر وابن سند ومنجين .

كان الجيش الذي بعثه والي بغداد بضم المشأة والخياة وكذلك فصائل البدو غير النظامية من قبائل شمر والمنتفق والظفير . وتجاوز عدد أفراد تلكالقوات عشرة آلاف شخص . وسلم سكانا لهفوف والواحات الأخرى وصاروا تحت رحمة علي . وقاتل الوهابيون المتمركزون في الحصون فصدوا ببسالة كل الهجمات . ولم تفد المهاجمين في بعض المواقع لا المدافع ولا آلات الحصار ولا الحفر تحت الأسوار . وانهارت معنويات القوات الهاجمة وبدأت تنسحب والوهابيون يلاحقونها . وجرت مكاتبات بين علي وسعود وتم بينهم الاتفاق على الصلح . وكان السبب في إخفاق علي هو ضعف المعنويات عموما وصعوبات اجتياز الأماكن الخالية من مياه الشرب والتي يسيطر عليها الوهابيون . ثم إن حماس الهجوم عند الوهابيين لم يستنفد بعد ، وقد حول التعصب الديني والانضباط النجديين إلى مقاتلين صامدين .

وفي عام 1799 وصل إلى بغداد ممثل أمير الدرعية لأجل مصادفة الوالي على الاتفاق بين سعود وعلي . وترك لنا ح. بريجيز الذي حضر لقاء رسول الدرعية مع والي بغداد وصفا طريفا لهذا اللقاء . فقد جرى في قصر الوالي الإعداد اللازم لترك انطباع لدى سكان البادية . استقبلت رسول الدرعية بطانة سليمان باشا مرتدين أفخر الألبسة وقد ارتسمت إمارات الغضب على وجوههم . وكان الرسول الوهابي في لباس متواضع . وقد أبعد مستقبليه وتوجه رأسا نحو سليمان باشا الذي كان يرتدي لباسا من حرير وفرو مزينا بأحجار كريمة . وجلس الرسول جنب الباشا وقال له ما فحواه : يا سليمان السلام على من اتبع الهدى . بعثني عبدالعزيز لأسلمك هذه الرسالة وأستلم منك تصديقا على الاتفاقية الموقعة بين ابنه سعود وخادمك علي . فليتم ذلك بسرعة وبالشكل الصحيح . ولعنة الله على من يخون . ثم أضاف بلهجة شديدة : إذا كنت تنشد النصح فاستنصح عبدالعزيز . قال ذلك ملمحا إلى أن الوهابيون يعتبرون سليمان من المشركين . ومد يده إلى الوالي بالاتفاقية المكتوبة على قصاصة من ورق .

كان واضحا أن حكام الدرعية لايقيمون ثمنا للاتفاقية مع والي بغداد . وتوجه مبعوث خاص من سليمان باشا إلى الدرعية لأجل التفاوض مع سعود . وحاول أن يحصل على التزامات من الوهابيين بعدم مهاجمة العتبات الإسلامية في الفرات الأوسط . ولكن سعود قهقه وقال لرسول الوالي : (جميع غربي الفرات لنا وشرفيه له ...) . ومما شجع الوهابيين الأنباء التي وردت عن دخول جيش نابليون مصر في عام 1798 وعجز الباب العالي أمام الغازي الفرنسي . في عام 1801 حل الإنجليز محل الفرنسيين في مصر . وغدت الجزيرة العربية طرفا بعيدا لمسرح العمليات الحربية الرئيسي . وهذا ما أطلق أيدي الوهابيين في مواصلة توسعهم .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تدمير كربلاء

اختمرت لدى أمراء الدرعية خطة الاستيلاء على كربلاء وفيها العتبات المقدسة الشيعية التي يكرهونها ، وخصوصا ضريح الإمام الحسين حفيد النبي محمد . وحقق الوهابيون نواياهم في آذار – نيسان (مارس – إبريل) 1803 . اعتاد المستشرقون الأوروبيون والسوفييت على اعتبار نيسان 1801 تاريخا لتدمير كربلاء . وإذا تناولنا مصادر هذه المعلومات نجد أن هذا التاريخ قد ذكره ج. روسو ول . كورانسيز وبوركهاردت وف. منجين.

أما المراجع التاريخية العربية ، ومعها من الأوروبيين فيلبي ، فتنقل هذا الحادث إلى العام التالي : آذار – نيسان 1802 . والأساس المعتمد في ذلك هو مصنف ابن بشر . ويؤيد هذا التاريخ ابن سند وج. رايسون و(مجلة المنوعات الأدبية) . وجميع هذه المصادر قريبة زمنيا من الأحداث . والقول الفصل بهذا الخصوص ، وهو لصالح عام 1802 ، وارد في تقرير وصل من العراق إلى سفارة روسيا في الاستانة وكتب قبل صيف عام 1803 . فالشخص الذي عاش آنذاك في العراق وتحدث شخصيا مع شهود عيان عن تدمير كربلاء من المستبعد أن يخطئ لعام كامل بخصوص تاريخ هذا الحادث الهام . وبالمناسبة فإن مقارنة ذلك بنص التقرير الوارد من العراق عن تدمير كربلاء على يد الوهابيين والذي تضمنه كتاب ج. روسو بعد ست سنوات تدل على تماثلهما الحرفي تقريبا . ومن الصعب القول كيف وصل تقرير القنصل الفرنسي في العراق إلى سفارة روسيا في الاستانة . أما تغيير تاريخ احتلال الوهابيين لكربلاء في كتاب روسو فلعله ناتج عن تهاون المؤلف أو سهو المطبعة . ويبدو أن روسو وكورانسيز هما المصدر الأول للمعلومات غير الصحيحة بهذا الخصوص . فهما على العموم يتناولان التواريخ بشيء من التصرف . أما بوركهاردت ومنجين المطلعان على مؤلفاتهما فقد أوردا هذا التاريخ دون تمحيص . وقد كتب المستشرق الفرنسي أ. دريو في مقدمته لتقرير رايمون المطبوع أن كورانسيز في مقالاته المبكرة اعتبر عام 1802 أيضا هو تاريخ تدمير كربلاء.

ويقول كاتب التقرير : (رأينا مؤخرا في المصير الرهيب الذي كان من نصيب ضريح الإمام الحسين مثالا مرعبا على قساوة تعصب الوهابيين . فمن المعروف أنه تجمعت في هذه المدينة ثروات لاتعد ولا تحصى وربما لايوجد لها مثيل في كنوز الشاه الفارسي . لأنه كانت تتوارد على ضريح الحسين طوال عدة قرون هدايا من الفضة والذهب والأحجار الكريمة وعدد كبير من التحف النادرة ... وحتى تيمورلنك صفح عن هذه الحضرة ، وكان الجميع يعرفون أن نادر شاه قد نقل إلى ضريح الإمام الحسين وضريح الإمام على قسما كبيرا من الغنائم الوافرة التي جلبها من حملته على الهند وقدم معه ثروته الشخصية وها هي الثروات الهائلة التي تجمعت في الضريح الأول تثير شهية الوهابيين وجشعهم منذ أمد طويل .. فقد كانوا دوما يحلمون بنهب هذه المدينة وكانوا واثقين من نجاحهم لدرجة أن دائنيهم حدودا موعد تسديد الديون في ذلك اليوم السعيد الذي تتحقق فيه أحلامهم .

وها قد حل هذا اليوم في الأخير ، وهو 20 نيسان (إبريل) 1802 . فقد هجم 12 ألف وهابي فجأة على ضريح الإمام الحسين . وبعد أن استولوا على الغنائم الهائلة التي لم تحمل لهم مثلها أكبر الانتصارات تركوا كل ماتبقى للنار والسيف ... وهلك العجزة والأطفال والنساء جميعا بسيوف هؤلاء البرابرة . وكانت قساوتهم لاتشبع ولا ترتوي فلم يتوقفوا عن القتل حتى سالت الدماء أنهارا ... وبنتيجة هذه الكارثة الدموية هلك أكثر من أربعة آلاف شخص ... ونقل الوهابيون ما نهبوه على أكثر من أربعة آلاف جمل . وبعد النهب والقتل دمروا كذلك ضريح الإمام وحولوه إلى كومة من الأقذار والدماء . وحطموا خصوصا المنائر والقباب لأنهم يعتقدون بأن الطابوق الذي بنيت منه مصبوب من ذهب) .

وبنفس هذه الصبغة تقريبا يصف منجين تدمير كربلاء ولكنه يقول أن الوهابيين أقدموا على مجزرة في المدينة ، غير أنهم رأفوا بالنساء والأطفال والشيوخ والمعجزة . ودمروا قبة ضريح الحسين . وحصل الوهابيون على أغنى الغنائم ، ومنها سيوف مرصعة بالأحجار الكريمة ، ولؤلؤة هائلة بحجم بيضة الحمام . وقد استأثر سعود شخصيا بالسيوف واللؤلؤة . واستولوا كذلك على مزهريات وفوانيس من المعادن النفيسة وحل ذهبية ملبسة على لاجدران وسجاجيد فارسية ونحاس ملبس بالذهب من السطوح . ووقعت في أيدي الوهابيين كذلك احتياطات فوطات كشمير والأقمشة الهندية وألفان من السيوف العادية وألفان وخمسمائة بندقية وعبيد سود ومبالغ هائلة من النقود المعدنية . واستمر النهب ثماني ساعات . وعند الظهر غادر الوهابيون كربلاء .

وكتب المؤرخ الوهابي ابن بشر عن هذا الحادث يقول : (سار سعود بالجيوش المنصورة والخيل والعتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وغير ذلك وقصد أرض كربلاء ... فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت . وهدموا القبة الموضوعة (بزعم من اعتقد فيها) على قبر الحسين . وأخذوا ما في القبة وماحولها وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرسوفة بالزمرد والياقوت والجواهر وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من أنواع الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الأموال وقتل من أهلها قريب ألفي رجل) . ولم يواجه الوهابيون أية مقاومة تقريبا . ويعزي ذلك إلى أن قسما من السكان توجهوا للزيارة إلى النجف . ومن المحتمل كذلك أن حاكم كربلاء ، وهو سني متعصب ، لم يتخذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن هذه المدينة .

كان تدمير كربلاء أفدح هزيمة لسليمان باشا العجوز . وكان السلطان يتحين الفرصة من زمان لتنحية هذا الوالي المستقل الذي كان له داخل العراق أيضا خصوم يتحلون بقدر كاف من الفتوة والنشاط . ومما زاد في تدهور وضع الوالي إلى أن الشاه الفارسي فتح علي كان يلومه دوما متهما إياه بالعجز عن تأمين حراسة العتبات الشيعية ، ويهدده بإرسال قوات فارسية إلى كربلاء . وبالفعل فبعد بضع سنين من تدمير كربلاء بدأت فارس تحارب ولاية بغداد . إلا أن المسئولين في بغداد كانوا يعتقدون بعدم إمكان إلحاق الهزيمة بالوهابيين في أعماق الجزيرة العربية . ولذا وجهوا جل اهتمامهم لتعزيز المدن وترميم كربلاء وضريح الحسين .

استيلاء الوهابيين على مكة مؤقتا ورد فعل الباب العالي

بعد تدمير كربلاء غدا الحجاز مسرحا رئيسيا للعمليات الحربية . وحتى ذلك الحين أدى سعود فريضة الحج مع قواته وعائلته مرتين ليستعرض قوته العسكرية ويتأكد من الموقف في الحجاز محليا . وانضمت قبائل عسير إلى الوهابيين . كانت أحوال غالب في تلك الأثناء معقدة . وأثار ابتزازه وإدارته المتعسفة استياء في مكة والمدن الأخرى . وكانت الرسوم المتزايدة دوما في جدة قد حرمته من تعاطف النجار . ورجعت كفة النجديين ، وصار الإشراف يطلبون السلاح من الاستانة . إلا أن الباب العالي كانت لديه آنذاك هموم أكثر خطورة من تهديد الوهابيين لمكة . وفي أواخر عام 1798 وصل إلى مكة فرمان من السلطان تضمن طلبا بتعزيز تحصينات المدن في الحجاز خوفا من احتمال هجوم القوات الفرنسية . وجرى ترميم أسوار جدة وأخذ السكان يمارسون الاستعدادات الحربية .

وفي عام 1798 قصفت العمارة البريطانية بقيادة الأميرال بلانكيت مدينة السويس المحتلة من قبل الفرنسيين . وفي طريق العودة ألقت العمارة مراسيها في جدة . وطالب الإنجليز بوقف تجارة الحجاز مع مصر . ورافق الشريف على هذا لاطلب شفويا ، ولكن التجارة استمرت ، بل وإن غالب أقام اتصالات مع الفرنسيين ، ولكنه لم يحل دون إرسال فصيلة من متطوعي الجزيرة الذين حاربوا ضد الفرنسيين في صعيد مصر . ورغم الجهود التي بذلها غالب لزيادة حرسه وفصائل المرتزقة تقلصت قواته العسكرية بسبب انفصال بعض قبائل بدو الحجاز . إلا أن أكبر خسارة مؤلمة بالنسبة له هي انتقال قريبه ومساعده المقرب عثمان المضايفي إلى صف الوهابيين ، وقد بدأ هذا الأخير بجمع البدو الذين كانوا في السابق من أنصار غالب . وبدأ المضايفي بهجوم نشيط على الحجاز . وفي عام 1802 استولى بدون قتال تقريبا على مدينة وواحة الطائف ونهبهما بلا رحمة . وقتل الوهابيون حوالي 200 من السكان ودمروا عددا من المنازل . وكان البدو يداهمون المدينة يوميا وينهبون كل ثمين ، وقد اتلغوا آلاف الكتب .

وكان تدمير كربلاء لايزال عالقا بالذاكرة في الاستانة ، فصار المسئولين هناك يخشون كثيرا على مصير مكة وحاولوا اتخاذ بعض الإجراءات لمقاومة الوهابيين . وفي أواخر آذار (مارس) 1803 كتب أ. ايتالينسكي سفير روسيا في الاستانة إلى سانت بطرسبورج يقول : (في ظروف الوضع الراهن يعتقد الباب العالي أن الخطر عليه نابع فقط من نوايا فرنسا ومن حركات التمرد لعدة قبائل عربية تسمى الوهابية وعدد العسكريين لديها زهاء 60 ألف شخص . وهم يتوقون إلى الاستيلاء على ثروات الحرمين في مكة والمدينة وينوون معارضة المحمدية بمذهب التوحيد وبغية جعلهم يحترمون القرآن أرسل إليهم من هنا عالم فقيه متبحر في هذا الكتاب ، بينما تتخذ إجراءات أخرى ، فقد عينت قوات يراد لها أن تهاجمهم من جهة الخط البادي من البصرة إلى العريش في حين سيهاجمهم الشريف من جهة الحجاز) .إلا أن محاولات الحيلولة دون سقوط مكة قد أخفقت . ففي أواخر آذار (مارس) 1803 توجه سعود مع قوات الوهابيين الرئيسية إلى الحجاز . وفي تلك الأثناء كان في مكة حجاج مسلحون من الشام ومصر والمغرب ومسقط وبلدان أخرى . ولكنهم رفضوا المشاركة في العمليات الحربية ضد الوهابيين . أما الشريف الذي ظل مع قلة قليلة من المحاربين المخلصين له فقد فر إلى جدة وأخذ يعزز تحصيناتها على عجل . وبعث سعود إلى أهالي مكة رسالة عرض فيها آراء الوهابيين ووعد بالرأفة بمن ينصاع لهم .

وفي نيسان (إبريل) 1803 دخل الوهابيون بانتظام إلى مكة . وبعد أداء مراسم الحج أخذوا يدمرون كل الأضرحة والمزارات ذات القباب والتي انشئت تكريما لأبطال فجر الإسلام . ومسحوا من وجه الأرض كل المباني التي لاتناسب معتقداتهم . وألزموا أهالي مكة بأداة الصلاة بانتظام وبدون ألبسة حريرية ، كما ألزموهم بعدم التدخين بحضور الآخرين . وأحرقت أكوام الغلايين في الساحات ، وحرم بيع التبغ . وألغيت الصلاة ف المساجد تكريما للسلطان العثماني . وعين الوهابيون عبدالمعين ، شقيق غالب ، حاكما لمكة . وبدلا من القاضي التركي عين فقيه من الدرعية قاضيا لمكة . وخلافا لسابقه التركي ترك هذا القاضي انطباعا وكأنه يحكم بالعدل .

أثار نبأ احتلال مكة الذعر والهلع والاكتئاب في الاستانة . وسدد فقدان مكة أقسى ضربة إلى سمعة الخليفة العثماني ومكانته بوصفه حامي الحرمين والمدن المقدسة . فقد كان السلطان – الخليفة يسمي نفسه رسميا على النحو التالي : (نحن خادم وحامي الحرمين في مكة والمدينة أنبل المدن وأقدس العتبات واللذين تتيمم جميع الأمم شطرهما أثناء الصلاة ، وكذلك مدينة القدس الطاهرة . أنا الخليفة الأعلى والملك السعيد لمماليك وأقاليم ومدن لاتعد ولاتحصى تثير حسد ملوك العالم وتقع في آسيا وأوروبا وعلى البحرين الأبيض والأسود وفي الحجاز والعراق ...) وغيرها وهكذا دواليك .

وجاء في (مذكرة أنباء الاستانة وأخبارها) التي أعدتها سفارة روسيا مايلي : (إن الخلافات التي تنهش أحشاء الإمبراطورية التركية ونهب الوهابيين لمكة والأتاوات المتزايدة بلا انقطاع كل ذلك آثار عند رعاع هذه العاصمة استياءا شاملا من الحكومة) .

كان يجب القيام بشيء إلا أن الاستانة عجزت عن إرسال قواتها لمحاربة الوهابيين ، فطلبت المساعدة من عكا وبغداد . ويقول ايتالينسكي : (القرار الذي اتخذه الديوان الوزاري الحاكم لاستخدام (والي عكا أحمد) باشا الجزار ضد الوهابيين حظي بدعم هام ... لسبب غير متوقع . فقد استلم الباب العالي رسائل مستعجلة من الجزار تتضمن أنباء غزوات عبدالوهاب وتقول بعدم وجود عوائق تحول دون تقدمه اللاحق وتشير إلى نيته في احتلال الشام ... وأخيرا يعرب الجزار عن استعداده للنهوض في وجه هذا العدو الخطر على الدين والعرش ويعد بالقضاء عليه وتشتيت قواته في غضون ستة أشهر وإعادة الممتلكات التي نهبها إلى الباب العالي) .

وكتب والي بغداد إلى الباب العالي بأنه متوجه في حملة للبحث عنهم في عقر دارهم وأنه ينوي إبادتهم ولديه من أجل ذلك خيالة بخمسة آلاف فارس ومشاة بـ10 آلاف رجل و60 ألف جمل ، ويأمل بأن هذه الحملة يمكن أن تتم في غضون ستة أشهر . وطلب من الباب العالي مدفعية وبارودا وخياما . وعندما استلم الباب العالي هذه المعلومات من حاكمي الشام والعراق (أخذ يعلل نفسه بالآمال بالتخلص من الخوف نهائيا في القريب العاجل) . إلا أن سفير روسيا يشك في قدرة بغداد على تسديد الضربة ويلاحظ بحق (إن الجزار يفكر بالاستيلاء على دمشق الشام أكثر مما يفكر بالحملة على الوهابيين) .

ومع ذلك تمكن الباب العالي من إرسال فصيلة تركية غير كبيرة بقيادة شريف باشا إلى الحجاز . ولم يتمكن أمير الدرعية هذه المرة من تثبيت أقدامه في الحجاز لأن عدد قواته تقلص كثيرا بسبب الأمراض . وكتب روسيتي يقول : (إن الأمراض التي تفشت في جيش عبدالوهاب أرغمته على رفع حصار جدة . والتفت قوات شريف باشا بقوات شريف (مكة) فتمكنت من دخولها) . وظلت قلعة المدينة التي رابط فيها فصيل من الوهابيين تبدي مقاومة بعض الوقت ثم سقطت في تموز (يوليو) 1803 .

وكتب ايتالينسكي 25 آب – 3 أيلول (إن الباب العالي استلم من المدينة المنورة تقارير من شريف باشا والي جدة وصلت بعد 50 يوما . وهي تؤكد الأنباء التي وصلت سابقا عن الانتصار الذي تم على الوهابيين قرب جدة والمدينة وعن انسحابهم إلى عاصمتهم الدرعية) .

وكان مقتل أمير الدرعية عبدالعزيز ضربة جديدة للوهابيين . ففي خريف عام 1803 قتل في مسجد الطريف بالعاصمة على يد درويش غير معروف يدعى عثمان ، وهو كردي من إحدى قرى الموصل . وكان هذا الدرويش قد حل ضيفا على البلاط . وعندما سجد عبدالعزيز أثناء الصلاة في الصف الأمامي من المسلمين هجم هذا الدرويش الذي كان في الصف الثالث على الأمير وقتله بطعنة من خنجر ، ثم جرح أخاه عبدالله . وعم المسجد هرج ومرج وتمكن الجريح عبدالله من ضرب الدرويش بالسيف ، وأجهز عليه الآخرون في الحال .

وتفيد بعض المعلومات أن قاتل عبدالعزيز شيعي هلك كل أفراد عائلته أثناء غزو كربلاء . وكتب منجين أن عمامته احتوت على رسالة بنص مكتوب بالفارسية : (ربك ودينك يوجبان عليك قتل عبدالعزيز . إذا تمكنت من الفرار ستحظى بمكافأة سخية وإذا مت فأبواب الجنة مفتوحة أمامك) . إن هذا النبأ يشبه لدرجة كبيرة تكتيك الإسماعيلية في القرون الوسطى والروايات المرتبطة بنشاطهم . وكان ابن بشر يشك في أن مقتل الإمام عبدالعزيز كان ثأرا لكربلاء ، وذلك لأن القاتل كردي والأكراد سنة كما هو معروف . يؤكد مؤلف (لمع الشهاب) أن والي بغداد بعث عميلا إلى الدرعية ودفع بسخاء لعائلته فيما بعد . ومع ذلك يظل جواب السؤال عن هوية قاتل عبدالعزيز ودوافع سلوكه في طي الافتراضات . فقد كان لدى الوهابيين عدد كبير من الأعداء الحاقدين عليهم .

وأسرع سعود إلى الدرعية بعد مقتل أبيه ، وبايعه سكانها في الحال . واعترفت كل المناطق بالأمير الجديد . وبعث سعود إلى حكام المناطق وسائل عاهدهم فيها على أن يلتزم بالعدل ، ولكنه سينتقم بلا رحمة من العصاة والمتآمرين .

السيطرة على الحجاز

في العام التالي أخذ الوهابيون من جديد يضيقون على خصومهم في الحجاز واستمرت طوال العام المعارك التي شارك فيها الأتراك إلى جانب قوات الشريف .

وفي عام 1805 هاجمت قوات غالب وعددها حوالي 10 آلاف شخص اتحاد القبائل الموالية للوهابيين وعلى رأسها الأمير عبدالوهاب أبو نقطة وهو من شيوخ عسير ومنى الشريف غالب بهزيمة فقد فيها بضع مئات من القتلى ، وأغلبهم من الأتراك . ويبدو أن حلفاء غالب البدو قد تركوه ، بينما دحرت نهائيا الفصيلة التركية في قواته . وعلى أثر ذلك طوق الوهابيون مكة وأعاقوا الحج وتأجج العداء من جديد بين الأتراك والشريف غالب آنذاك ، فرفض الأتراك مساعدته .

وفي شتاء عام 1805-1806 عزم سعود على تسديد ضربة قاضية إلى غالب . وحاصر مكة بدو بزعامة عبدالوهاب أبي نقطة وعثمان المضايفي وسالم بن شكبان (أمير بيشة) . وفي تلك الفترة (من 1804حتى 1809) كانت الجزيرة العربية تعاني من قحط شديد . ويفضل طرق القوافل الأمينة كانت الأغذية تصل بانتظام إلى نجد ، الأمر الذي خفف من أعباء أهاليه . إلا أن الوضع لم يعد يطاق في مكة المحاصرة . وصار الناس يأكلون الكلاب والجلود . ولم تنجح محاولة الانتقام من أنصار الصلح فطلب غالب ذلك الصلح . ودخلت القوات الوهابية مكة .

وسرعان ما اقتنع غالب بعدم جدوى مقاومته للوهابيين فأعلن الخضوع لهم في عام 1806 . وفي العام ذاته وصلت إلى مكة جماعة من العلماء الوهابيين وعلى رأسهم الفقيه حميد بن ناصر للتبشير بأفكار تجديد الإسلام . وكان نجاح الوهابيين في إقامة سلطتهم شمالي مكة من الأسباب التي دفعت غالب للكف عن المقاومة . فمنذ عام 1803 تبني عدد من مشايخ قبائل حرب المذهب الجديد ووصل دعاة الوهابية إليهم . ولم تتكلل بالنجاح محاولة احتلال المدينة المنورة رأسا في عام 1803 . إلا أنها استسلمت عام 1805 . وفي الوقت ذاته احتل الوهابيون ينبع الواقعة تحت سيطرة شريف مكة .

وتم ضم الحجاز إلى دولة السعوديين . صحيح أن تبعيته للوهابيين كانت أقل من تبعية بعض مناطق نجد أو الإحساء ، مثلا ، واحتفظ شريف مكة باستقلال كبير ، فلم يدفع الضرائب لا هو ولا رعيته . إلا أن عائداته من الرسوم الجمركية في جدة تقلصت كثيرا ، لأنه لم يعد باستطاعته أن يجبي تلك الرسوم من التجار الوهابيين . وتقلصت عائداته الأخرى أيضا .

يقول بوركهاردت : (ظلت بيد الشريف سلطة كبيرة مع أن الحجاز قد احتل . فإن اسمه ومنصبه الرفيع وتأثيره الشخصي على الكثير من القبائل اليودوية التي كانت لاتزال تقاوم سعود ، وكذلك الهدايا الثمينة التي يقدمها لسعود عندما يزور هذا الأخير مكة – كل ذلك جعل زعيم الوهابيين يتساهل بخصوص بعض تصرفات غالب) . كانت سلطة سعود في مكة متوازنة مع نفوذ غالب ، أما جدة فقد ظلت بالأساس تحت سيطرة غالب . ولتحقيق المزيد من التوازن عين المضايفي حاكما للطائف وخضعت له بعض قبائل الأطراف.

توقف الحج من الإمبراطورية العثمانية

اعتبارا من عام 1807 أخذ سعود يؤدي فريضة الحج سنويا على رأس قواته . وكان عادة يعين موضعا قرب المدينة المنورة لتجمع الوهابيين ثم يتحرك نحو الجنوب . وفي الطريق تنضم إليه فصائل من عسير والطائف وبدو من مناطق الحدود بين الحجاز ونجد وعسير ومحاربون من مختلف مناطق نجد وجبل شمر بزعامة إمرأتهم . وكان سعود كل مرة يوزع الصدقات في مكة ويتبادل الهدايا مع غالب ويحمل كسوة ثمينة للكعبة . وقد شهد ابن بشر حج سعود ذات مرة وترك وصفا تفصيليا له .

وقد أجل سعود من الحجاز القضاة والموظفي العثمانيين الذين كانوا في مكة والمدينة . وكان يعزز دوما تحصينات المدينة المنورة ويحتفظ بحامية قوية فيها يستبدلها كل عام .

واعتبارا من عام 1803 أخذ الوهابيون يعيقون بمختلف الوسائل قوافل الحجاج من أرجاء الإمبراطورية العثمانية ، ومنها الشام ومصر . كانت قوافل الحجاج التي تتوارد على الحجاز سنويا تحضر معها المحمل وهو عبارة عن هودج مزين بفخامة علىظهر جعل يحظى بالتقدير . وفي المحمل كسوة الكعبة أو نسخ من القرآن أو نفائس الأحجار الكريمة . ويسير مع الحجاج موسيقيون يعزفون على الطنبور والطبول وغيرها ز وكان بعض الحجاج يحضرون معهم مشروبات وترافقهم محظيات . ولا بد أن ينير ذلك تذمر الوهابيين لأنه يتعارض مع أصول الدين ومبادئهم الأخلاقية .

وطالب الوهابيون بأن تصل قوافل الحجاج إلى الحجاز بدون محمل وبدون آلات موسيقية . وأخذوا في الوقت ذاته يزيدون ضريبة الحج . وفي عام 1803 دفع كل حاج شامي إلى الوهابيين 8 بيزات مقابل حق دخول مكة . وسرعان ما اضطر الحجاج إلى دفع 10 بيزات عن الشخص الواحد و10 بيزات عن كل من دواب الركوب و7 بيزات عن كل قنطار من الأحمال و100 كيسة عن مرور القافلة كلها . وفي عام 1805 أخذوا من القافلة الشامية 200 كيسة ولكنهم سمحوا بالدخول لحجاج منفردين . ويقول كورانسيز أن الأتراك حاولوا في عام 1806 شراء حق أداء فريضة الحج بمبلغ هائل هو ألفا كيسة (مليون بيزة) ولكن قافلة الشام لم تتمكن من دخول مكة مع ذلك .

وبغية تأمين السماح بالحج تظاهر والي دمشق يوسف باشا بأنه يتلزم بكل فرائض الوهابية . فقد منع الخمر وأمر بغلق جميع الأسواق في دمشق أثناء الصلاة وفرض تقييدات مشينة على أهل الكتاب (زيا خاصا وهلمجرا) ، بل ومنع حلق اللحية . وكتب بازيلي (إن الوهابيين طالبوا ، وليس دون سبب ، بعدم احتواء القافلة على غلمان أو حليقي اللحى عموما) . وفي عام 1807-1808 حاولت قافلة الشام أن تدخل مكة بدون محمد ولا سلاح ولا موسيقى ولكن دون جدوى . وتوقف في الواقع توارد وجبات كبيرة من الحجاج من الباب العالي .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بريطانيا والصراع من أجل عمان

لم يقتصر تقدم الوهابيين على العمليات الحربية في الحجاز وشمال شرقي الجزيرة العربية في بداية العقد الول من القرن التاسع عشر . فقد تمكنوا من فرض سيطرتهم تدريجيا على كل الساحل العربي للخليج بما فيه البحرين وتغلغلوا في أعماق عمان أكثر فأكثر .

كان سكان عمان مكونين من مجموعتين من القبائل : الإباضية الهناوية وسنة الغفري . وكان الصراع بين هاتين المجموعتين قد حدد تاريخ عمان طوال القرون . وهو الذي سهل تغلغل الوهابيين إلى هذه البقاع . ونشير ، دون أن ندخل في التفاصيل ، إلى أن سلطان ، أحد أبناء أحمد بن سعيد زعيم وإمام الإباضية الذي طرد الفرس من عمان في عام 1744 ، صار حاكما لمسقط في عام 1793 . ولكن سلطان لم يعتبر زعيما روحيا (إماما) ، وأدى ذلك إلى إضعاف سلطته . وعلى لاساحل العماني من الخليج ، وهو ساحل تخترقه الروافد والخلجان والمرافئ الملائمة ، كانت تعيش قبائل أخرى تمارس التجارة البحرية والقرصنة وصيد اللؤلؤ والأسماك . كانوا من أهل السنة وكانوا منعزلين عن الهناوية وعن الغفري . وفي عام 1801 شن سلطان بن أحمد حملة على البحرين . وطلب سكان البحرين النجدة من الدرعية . وطرد الوهابيون المسقطيين وألحقوا بهم خسائل فادحة ، ولكنهم جعلوا البحرين تابعة لدولة السعوديين .

وقبل ذلك بقليل بعث عبدالعزيز إلى عمان نسخة من مؤلف لمحمد بن عبدالوهاب ، وطالب بتبني المذهب الوهابي والخضوع لسلطة الدرعية . وفهم العمانيون ، وأغلبهم من الإباضية ، مضمون الكتاب بشكل فريد . فقد كتب المؤرخ العماني ابن رزيق ما معناه أن هذا الكتاب يحلل قتل جميع المسلمين غير المثقفين مع محمد بن عبدالوهاب والاستيلاء على أملاكهم واستعباد أبنائهم واستحلال نسائهم دون موافقة أزواجهم . ورفض الإباضية مطالب الوهابيين ، إلا أن الغفري تحالفوا مع أمام الدرعية .

ووردة في (لمع الشهاب) أن الوهابيين في العقد الأخير من القرن الثامن عشر بدأوا بالحملات على عمان بقيادة مطلق المطيري وإبراهيم بن عفيصان وحولوا مجموعة واحات البريمي إلى قاعدة لهم . وكانت البريمي ملتقى لطرق القوافل المؤدية إلى شواطئ الخليج العربي وخليج عمان والجبل الأخضر . وفي عام 1800-1801 قام جيش الوهابيين بحملة موفقة على عمان قادها سالم الحرق أحد مملوكي عبدالعزيز . وأقسم صقر حاكم مدينة رأس الخيمة التي هي مرفأ هام من الناحية الاستراتيجية ومركز لقبيلة القواسم يمين الولاء للوهابيين . ووقعت تحت سيطرتهم المشيخات والإمارات الصغيرة الأخرى على شاطئ الخليج العربي .

وغدا حاكم مسقط سلطان في تبعية للدرعية . حاول أن ينظم المقاومة ضد الوهابيين فصمم على تقوية الصلات مع والي بغداد الذي كان مبعوثوه يحرضونه من زمان على محاربة العدو المشترك. وفي أواخر عام 1804 توجه شخصيا مع أسطول إلى البصرة . وفي طريق العودة إلى مسقط نشبت معركة مع أسطول رأس الخيمة قتل فيها سلطان.

وعاد إلى مسقط قريبه بدر الذي كان منفيا إلى الدرعية مؤهلا بأن يركز أقدامه بمساعدة حماته الوهابيين . وبقى على دست الحكم عدة سنوات وحاول غرس المذهب الوهابي ولكن دون نجاح كبير . فإن أبناء سلطان بن أحمد ثاروا في عام 1807 وأزاحوا بدر وفي البداية التزم حاكم مسقط الجديد سالم ومن بعده أخوه سعيد بالخضوع للسعوديين ، ولكنهما رفضا فيما بعد دفع الأتاوات وأخذا يستعدان للعمليات الحربية . وطلب سعيد النجدة من الشاه الفارسي فأرسل إليه هذا بضعة آلاف من الجنود . وفي 1808-1809 بدأ المسقطيون مع حلفائهم من صحار العمليات الحربية ضد رأس الخيمة ولكنهم أعلنوا عن خضوعهم للسعوديين بعد أن فقدوا عدة آلاف من الأشخاص .

وغدا سكان الساحل العماني للخليج العربي ، وخصوصا قبيلة القواسم الذين توحدوا تحت سلطة السعوديين وكفوا عن الحزازات الداخلية ، قوة كبيرة راح أسطولها المكون من بضع مئات من السفن الكبيرة والصغيرة يجوب الخليج سيدا فيه . وفرضوا الرسوم والضرائب ونهبوا السفن التجارية العائدة لشركة الهند الشرقية والتي تمخر البحر بين بومباي والبصرة .

ونعيد إلى الأذهان أن المؤرخين الغربيين يركزون على (الطابع القرصني) المزعوم لسكان ساحل الخليج العربي . إلا أن الحقيقة هي أنهم كانوا يعيشون بالدرجة الأولى على الملاحة البحرية التجارية (دون أن يستنكفوا عن القرصنة إذا سنحت الفرصة) وكانوا يعتبرون السفن البريطانية منافسة فتاكة لهم . وينبغي على الأكثر اعتبار (قرصنتهم) ضد السفن البريطانية حربا ضد القادمين غير المرغوب فيهم .

وقد اصطدم توسع إمارة الدرعية في عمان وساحل الخليج العربي مع المصالح البرياطنية الاستعمارية . في أواخر القرن الثامن عشر ترسخت سيطرة بريطانيا نهائيا على الهند ، حيث تمكنت بعد صراع دام قرنين تقريبا من التفوق على سائد منافسيها الأوروبيين . وكان الإنجليز قد سعوا على الإبقاء على الخليج العربي مفتوحا أمام تجارتهم وخاليا من نفوذ أية دولة يمكن أن تهدد الهند . وظلت فرنسا أخطر دولة عليهم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ، ولذا اعتبرا الإنجليز المتمركزون في الهند حملة نابليون على مصر عام 1798 مظهرا للخطر القديم . ولم يغير انهزام الفرنسيين في مصر فيما بعد خططهم (المشكوك في إمكان تحقيقها) الرامية إلى التقدم نحو الهند عن طريق الشام والعراق والخليج العربي مثلا .

وعلى تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر صار الوكلاء التجاريون البريطانيون في البلدان المرتبطة بالخليج العربي يتحولون الواحد تلو الآخر إلى ممثلين سياسيين . وفي عام 1798 وقعت بريطانيا معاهدة مع حاكم مسقط موجهة ضد الفرنسيين ، ولكنها أرست بداية تبعية مسقط لبريطانيا . وبعد عامين وصل ممثل بريطانيا إلى المدينة .

وحاولت بريطانيا أن تقيم علاقات ودية مع حكومة السعوديين التي كانت تتقوى آنذاك . وكانت وكالة شركة الهند الشرقية التي كانت موجودة في البصرة في أواخر القرن الثامن عشر تبعت الهدايا دوما إلى سعود . وكانت للإنجليز مصلحة في دعم تجارتهم المنتعشة بين بومباي والبصرة ، وكذلك في سلامة الطريق البريدي من الهند إلى الشام عبر البصرة . وحاولوا إقناع الوهابيين بعدم المساس بسعاة البريد من البصرة إلى حلب . بيد أن الإنجليز لم يكونوا يتورعون كذلك عن استخدام القوات العسكرية . فإن الفصيل الوهابي الذي اقترب في عام 1798-1799 من الوكالة البريطانية المتواجدة آنذاك في أراضي الكويت الحالية قد تراجع أمام مدافع سفينة حربية بريطانية . وبغية تسوية النزاع علىنحو ما وصل إلى الدرعية رينو ممثل شركة الهند الشرقية . وكان يريد الحصول من الوهابيين على ضمانات للمصالح البريطانية في الخليج العربي . ولكنه لم يبلغ مقصده . وحاول الإنجليز في عام 1805 أن يفرضوا الحماية على الكويت إلا أن أميرها عبدالله الصباح فضل أن يبقى مستقلا .

وفي العقد الأول من القرن التاسع عشر شنت السفن الحربية البريطانية عمليات حربية مباشرة ضد أسطول عرب عمان ، وفي عام 1805 شنت أول حملة على القواسم . وغدا المسقطيون حلفاء طبيعيين للإنجليز . وفي عام 1809 زحف سعيد بن سلطان بقواته وأسطوله الذي قاده ضابط إنجليزي على رأس الخيمة . وتوجهت إليها عمارة حربية بريطانية . وقام الإنجليز بإنزال قواتهم بعد أن دحروا أسطول العمانيين الضعيف التسليح . وأزالوا المدينة من سطح الأرض ودمروا كل المستودعات وأحواض بناء السفن وقتلوا السكان المحليين . وكانت هزيمة حلقاء السعوديين وأتباعههم ضربة شديدة للدرعية .

وأخذ حاكما البحرين والزيارة من آل خليفة يبديان تذمرهما من سلطة الوهابيين فاقتيدا إلى الدرعية رهينتين . وهرب أبناؤهما إلى مسقط وطلبوا النجدة من الإنجليز . ودمرت السفن الحربية البريطانية حامية الوهابيين في الزيارة ثم في المنامة . وأخفقت محاولات الدرعية لاستعادة سلطتها في البحرين مع أن البحرانيين ظلوا يدفعون جزية ما إلى السعوديين .

وبعد جلاء الإنجليز من رأس الخيمة عمرها سكانها من جديد . ورغم تدمير رأس الخيمة مجددا في عام 1816 فقد تمكن القواسم في العام التالي من جمع قوات بحرية كبيرة نسبيا وظهروا على بعد 70 ميلا عن بومباي . ولكن تلك الأحداث جرت فيما بعد .

في مطلع القرن التاسع عشر سعى الإنجليز إلى فرض سيطرتهم على البحر في هذه المنطقة . ولم تكن سياستهم آنذاك تنص على تدخل نشيط في الأحداث في الجزيرة العربية . فلم تكن قوى الإنجليز كافية لهذا الغرض ، ثم إن المكافأة التي يتوقعونها في صحاري الجزيرة ضئيلة للغاية . وكان خصومهم الفرنسيون قد أبعدوا عموما عن مسرح الجزيرة مع أن نابليون ، كما يعتقد المؤرخ التركي المعروف أ. جودت ، كان بوسعه أن يقيم اتصالا مع السعوديين . إلا أن فرنسا كانت مشغولة في مسارح العمليات الحربية الأوروبية ، ثم إن الفرنسيين فقدوا في عام 1810 جزيرة موريشيس القاعدة الرئيسية لأسطولهم في المحيط الهندي .

وقد بلغ نفوذ الوهابيين في عمان أوجه في عهد القائد العسكري السعودي مطلق المطيري في بداية العقد الثاني من القرن التاسع عشر . وبالرغم من الدعم البريطاني اضطر حاكم مسقط سعيد بن سلطان لدفع 40 ألف ريال إلى أمير الدرعية . ويبدو أن الوهابيين توغلوا في نفس تلك الفترة إلى الجنوب الغربي ، إلى ما وراء مسقط ، واقتحموا حضرموت ، حيث كان أوائل المبشرين الدرعيين قد وصولا في عام 1803-1804 . ولم تكن جهودهم الدعائية موفقة آنذاك ، إلا أن حضرموت دفعت هذه المرة الجزية إلى الدرعية . غير أن مطلق المطيري قتل في عام 1813 خلال مناوشة غير كبيرة . وفي تلك الأثناء بدأ الغزو المصري للجزيرة ، فأخذ الوهابيون يسحبون قواتهم من عمان . وكان بعد هذا البلد وعداء الإباضية للوهابية ومقتل القائد العسكري الموهوب مطلق وغزو المصريين للحجاز والإجراءات المضادة التي اتخدتها بريطانيا – كل تلك العوامل أعاقت توسع إمارة الدرعية في جنوب شرقي الجزيرة .

الزحف على عسير واليمن

على تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر انضمت عسير إلى الوهابيين . وعلى أثرها رضخت إمارة أبو عريش للدرعية . ويصعب القول أن سيطرة الوهابيين على المناطق الواقعة جنوبي مكة كانت سيطرة كاملة . فهناك على الأصح حلفاء سعوديين بحقوق منقوصة ، وليس رعيةب المعنى الكامل .

وفي وقت زحف الوهابيين على اليمن كان الوضع هناك ملائما لتوسعهم . فالبلاد منقسمة على نفسها بسبب الخلافات الداخلية والفوضى العشائرية والإقطاعية . وفقد أئمة الزيدية سلطتهم على المنطقة الساحلية إلا أن التوسع في اليمن لم يحقق نصرا كاملا . فإن حملة قوات أمير الدرعية عام 1805-1806 على نجران لم تتكلل بانتصار حاسم مع أن حاميات وهابية ظلت في قلاع تلك المنطقة . ووقعت الحديدة في أيدي الوهابيين مرارا . وظلت المنطقة الجبلية في اليمن مستقلة في الواقع مع أن قوات السعوديين حاصرت صنعاء في عام 1808 .

لقد مارس الوهابيون دعاية نشيطة في اليمن وكانوا يرسلون إليها كل عام تقريبا جماعة من العلماء ولكن دون جدوى . وكان الشافعيون من سكان الساحل – تهامة اليمن – يتعاطفون مع المذهب الوهابي بسبب عدائهم لأئمة صنعاء الزيديين . إلا أن الشافعيين ماكانوا راغبين بالتفريط في استقلالهم الفعلي والخضوع للسعوديين .

وكان حمود أبو مسمار صاحب أبي عريش الذي شملت سلطته جزءا من تهامة اليمن قد انضم إلى الوهابيين ، حتى أنه شارك ، على مايبدو ، في العمليات الحربية ضد أمام صنعاء . إلا أن ما كان يقلقه هو ارتفاع نجم جاره ومنافسه حاكم عسير عبدالوهاب أبو نقطة تحت رعاية الوهابيين . ويقول ابن بشر أن سعود استدعى كلا الرجلين المتنافسين إلى الدرعية وحاول إصلاح ما بينهما ولكن دون جدوى . وأحس سعود بأن روح التمرد تتصاعد عند أبي مسمار فأمره بشن حملة على صنعاء إلا أن صاحب أبي عريش رفض .

وبعد أن توفرت لدى سعود أدلة على عدم ولاء تابعه المشاكس هذا أخذ يجمع المحاربين من كافة أرجاء الجزيرة للقضاء عليه . وبلغ عدد القوات الوهابية حوالي 50 ألف شخص ، مع أن هذا الرقم قد تكون فيه مبالغة . وكان يقاتل إلى جانب أبي مسمار بدو من نجران واليمن . وفي أواخر عام 1809 نشبت معركة ضارية قتل فيها أبو نقطة . ولكن قوات أبي مسمار منيت بالهزيمة ، ففر من المعركة وراح يعزز مواقعة في عاصمته أبو ريش التي لم يتمكن الوهابيون من احتلالها . وبأمر من سعود شغل منصب أبي نقطة قريبه طامي بن شعيب .

غزو العراق والشام

إذا تناولنا من جديد الوضع في الحدود الشمالية الشرقية للدولة السعودية نرى للوهلة الأولى أن الأحداث تطورت بصورة ملائمة للوهابيين . فما كاد سليمان باشا يقضي نحبه في آب (أغسطس) 1802 حتى بدأ صراع مستميت من أجل السلطة شارك فيه الإنجليز والفرنسيون بشكل محموم . وتمكن كيخياه علي قريب سليمان من القضاء على منافسيه فصار واليا لبغداد . واحتفظ بالسلطة خمس سنوات تقريبا . كانت الولاية مضعضعة بسبب القلاقل الداخلية والانتفاضات الشعبية وبسبب نضالات الأكراد المتواصلة . وفي آب 1807 ذبح الوالي على في أحد المساجد . وبعد قليل استولى على منصبه كوجوك سليمان الذي ظل واليا حوالي ثلاث سنوات وانشغل بالحرب ضد الأكراد والوهابيين حتى قتل في تشرين الأول (أكتوبر) 1810 . واستمرت الصدامات الحربية مع الفرس في النصف الثاني من العقد الأول من القرن التاسع عشر .

وطوال السنوات التي أعقبت تدمير كربلاء قام الوهابيون بغزوات عنيدة على العراق . ولكن حملاتهم التي استمرت حتى عام 1810 كانت محصورة في نهب القرى غير المحمية وفي نهب البدو . ورغم المشاكل الداخلية في العراق لم يتمكن الوهابيون من تحقيق نجاحات تضاهي غزو كربلاء .

ولم تسفر عن انتصارات حاسمة كذلك غزوات الوهابيين على الشام مع أن القبائل البدوية فيها أخذت تدفع الجزية لأمير الدرعية في مطلع القرن التاسع عشر . وفي عام 1808 بعث سعود رسالة إلى مشايخ دمشق وحلب ومدن الشام الأخرى طالبا تبني المذهب الوهابي والخضوع لسلطة سعود ودفع الجزية . وساد الذعر والاضطراب ودمرت فصائل الوهابيين القرى في أطراف حلب ، وتغلغلت في فلسطين في الوقت ذاته . وقد اتخذت إجراءات عاجلة لحماية المدن إلا أن الوهابيين لم يتجرأوا على اقتحامها . وفي عام 1810 قام سعود مع بضعة آلاف من المقاتلين بغزوة جسورة للشام ونهب بضع عشرات من القرى ووصل إلى دمشق تقريبا . وكانت تلك آخر حملة له في الاتجاه الشمالي .

لقد بلغت إمارة الدرعية أقصى حدودها توسعها . وانتشرت سلطة السعوديين في شبه الجزيرة العربية كلها تقريبا ، ودفع لهم الجزية حتى سلطان مسقط وإمام اليمن وحكام حضرموت . وخضعت لأمير الدرعية القبائل القاطنة في ابوادي والفيافي الممتدة حتى أراضي الهلال الخصيب . وبقدر مؤلف (لمع الشهاب) عدد السكان الخاضعين للسعوديين في نجد بـ 300 ألف وفي الحجاز وتهامة 400 ألف وفي اليمن 400 ألف أو أكثر وفي شرقي اليمن 200-300 ألف وفي شرقي الجزيرة 400 ألف وفي القبائل المترحلة ، مثل عنزة ، في البوادي بين المدينة المنورة والشام حوالي 400 ألف ، وفي عمان وسواحلها من بدو وحضر 200 ألف . وهكذا ضمت إمارة الدرعية عموما حوالي 2.4 مليون نسمة . وهذا الرقم يبدو واقعيا ، مع أن مايخص اليمن قليل أو ربما لم يدرج المؤلف عمدا هذا البلد كله ضمن دولة السعوديين .