تاريخ العربية السعودية - فاسيلييف - الفصل الأول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الأول: الجزيرة العربية قبيل ظهور الوهابي
الإقتصاد والمجتمع والسياسة
ظهرت دولة السعوديين في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي على أساس حركة المصلحين الإسلاميين الوهابيين . بديهي أن دراسة مجتمع الجزيرة العربية بالدرجة الأولى يمكن أن تقدم لنا مفتاح فهم المذهب الوهابي وأسباب تأسيس وتطور واندثار وبعث الدولة التي تحمل اليوم اسم العربية السعودية . ونستدرك هنا فنقول أن اهتمامنا منصب على المناطق الوسطى والشمالية والشرقية من شبه جزيرة العرب ، على نجد والإحساء . أما اليمن وعُمان فلا نتناولهما بالدراسة. والسبب في ذلك لا ينحصر في كونهما قد احتفظتا بالخصائص المتميزة تماما (الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والسكانية والمذهبية) التي تقدم المبررات لاعتبار سكانهما شعبين مستقلين لهما مصيرهما وتركيبهما الاجتماعي والسياسي . لقد كان من الصعب على الحجاز أن يحتفظ باستقلاله لأن الحرمين في مكة والمدينة كانا يستثيران شهية جميع الامبراطوريات في الشرق الأوسط . وكان النظام الاجتماعي ، والسياسي والاقتصادي في الحجاز مشابها تقريبا للنظام في نجد التي لم تشهد السيطرة الأجنبية في الواقع . إلا أن مكانة الجهاز كولاية للخلافة الأموية أو العباسية ، لمصر أو الإمبراطورية العثمانية ، وكذلك العائدات السنوية من الحج قد جعلته يختلف عن جيرانه . ولذلك فعندما تتكلم عن (مجتمع الجزيرة) نعني بالدرجة الأولى نجد ، مهد الوهابية ودولة السعوديين ، والمناطق المتاخمة لها من الشمال والشرق .
بحران من الرمال – صحراء النفود الكبرى في الشمال والربع الخالي في الجنوب – يرسمان على وجه التقريب حدود نجد الشمالية والجنوبية . وتنبسط نجد من الغرب إلى الشرق من جبال الحجاز حتى الخط الساحلي على الخليج . ويمتد الانحدار العام لأراضي البلاد من الغرب إلى الشرق . ويتميز الطقس بتذبذب منتظم لدرجات الحرارة – من القيظ الساخن الجاف في الصيف إلى البرد الشديد نسبيا في الشتاء . وغالبا ما تصادف سنوات جفاف مطبق . ولكن عندما تهطل الأمطار تعتبر خيرا مخلوطا ببعض الشرور . فالسيول العارمة التي تجتاح الوديان تسفر عن كوارث في بعض الأحيان . أشهر الوديان وادي الرملة الذي يبدأ في الحجاز ، شمال شرقي خيبر ، ويتجه إلى لاشرق على مسافة 360 كيلومترا تقريبا ثم يلتف نحو الشمال الشرقي ويضيع بين الرمال ثم يظهر باسم آخر هو الباطن وينتهي قرب البصرة في العراق على مسافة أل كيلومتر تقريبا من (منبعه) . ومن لاوديان الشهيرة الأخرى وادي حنيفة ووادي الدواسر ووادي نجران . والمياه الجوفية في الوديان أقرب إلى سطح الأرض ، مما يوفر أسباب الحياة هناك . وفي ودي حنيفة بالذات ظهرت عدة واحات كبيرة صارت مهدا للوهابية وآل سعود .
وتقع في وادي الرملة المدينتان الرئيسيتان في منطقة القصيم ، وهما بريدة وعنيزة . نجد مقسمة إلى مناطق ذات حدود مائعة . إلا أن تلك المناطق نشأت تاريخيا ويتميز كل منها بوحدة جعرافية معينة . وأهمها منطقة العارض التي يقطعها وادي حنيفة ، ومناطق المحمل وسدير والوشم . وتقع الرياض العاصمة في منطقة العارض . وأهم مناطق الجنوب الخرج المعروفة بآبارها العميقة وأحواضها ، والأفلاج التي ظلت باقية فيها قنوات الري الجوفية القديمة ، ووادي الدواسر . وفي الشمال تقع منطقتان هامتان هما القصيم وجبل شمر . وفي القصيم توجد المدينتان المتنافستان بريدة وعنيزة الواقعتان على الطريق من البصرة إلى المدينة المنورة ، ولذا كانتا على الدوام مركزين تجاريين هامين . وتقع منطقة جبل شمر جنوبي صحراء النفود الكبرى ، وهي أبعد قسم شمالي من أقسام نجد . لقد حملت إلينا مراجع القرن الثامن عشر مشاهد متفرقة من الحياة الاجتماعية في الجزيرة العربية . إلا أن المعلومات الأحدث تمكننا من تصور اللوحة كاملة وإن بالخطوط العامة . إن تباطؤ تطور القوى المنتجة وثبات الاجتماعية طوال القرون يهيئان لنا فرصة (سحب) خصائص العلاقات الاجتماعية فيا لجزيرة العربية في القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين على القرون السابقة .
كانت حياة السواد الأعظم من سكان نجد والإحساء وكذلك الحجاز مرتبطة أساسا بنوعين من النشاط الاقتصادي – الزراعة السيحية أو الأروائية في الواحات والرعي البدوي .
الزراعة الأروائية . إن الطقس الجاف شبه الاستوائي في القسم الأكبر من الجزيرة يستدعى ضرورة الأرواء الاصنطناعي في الزراعة . وتنبجس إلى السطح مياه جوفية وفيرة بهذا القدر أو ذاك في المناطق الشرقية من الجزيرة فقط . أما أغلبية المناطق الأخرى فالأوراء ممكن بواسطة الآبار ، وفي حالات أندر تستهدم مياه الأمطار أو السيول . وفي بعض الأحيان تقع منابع المياه على بعد عشرات بل ومئات الكيلومترات عن بعضها البعض . ولكننا نصادف عددا كبيرا نسبيا من الواحات في نجد حيث تتواجد الطبقات الحاوية للمياه على مقربة من سطح الأرض ، وكذلك في الإحساء .
وتطلب حفر الآبار جهاد كبيرا وأموالا طائلة . وكانت الوسائل البدائية لرفع المياه تديرها الجمال والبغال والحمير . بديهي أن ذلك يحدد الأراضي الزراعة المروية وحجم الإنتاج الزراعي . وكانوا يروون فدانا واحدا على وجه التقريب (خمسي الهكتار) من بئر عادي بعمق عشرة أمتار تقريبا ترفع مياهه بواسطة شادوف أو ناعور أو غيره .
وكانت النخيل هي المزروعات الرئيسية في المناطق الشمالية والوسطى من الجزيرة . ويستخدم التمر طعاما بمختلف الأشكال ، وكان يمثل المحصول الزراعي الهام الوحيد الذي يسد حاجات الحضر والبدو على نحو ما في سنوات (الرخاء) .
وتأتي الحبوب ؛ الشعير والدخن والقمح والهرطمان – في المرتبة الثانية بعد التمور . ومعروف أن كمية معينة من الحبوب كانت تنقل من نجد إلى الحجاز في بعض السنوات . وكانوا في بعض الأماكن يزرعون الرز والقطن والخضر والفواكه .
وكانوا يجنون في الأراضي المروية محاصيرة كبيرة نسبيا ، إلآ أن الحجم الإجمالي للمحاصيل غير كبير بسبب محدودية الأراضي المفلوحة وقلة الأسمدة وبدائية الطرائق الزراعية . إن الجفاف المتواصل الذي كتب مؤرخو الجزيرة والرحالة الأوروبيون عن مصائبه يعني استحالة ضمان جني محاصيل ثابتة حتى في الأراضي المروية . وفي فترات الجفاف الطويل الأمد يجف بعض الآبار نهائيا . وعند ذاك تهلك المزروعات وتتقلص مساحات الأراضي المفلوحة وتذبل حتى النخيل وتغدو عقيمة ويعاني السكان من المجاعة فيموتون أو يرحلون عن ديارهم زرافات ووحدانا . وعندما تهطل الأمطار من جديد يستأنف الفلاحون البذار ويشرعون برعاية ماتبقى من النخيل ، ولكن بعض الواحات يكون قد اختفى إلى الأبد . وليس الجفاف وحده من خصوم المزارعين . فإن هطول الأمطار الغزيرة على ندرته يشكل خطرا عليهم أيضا . فيحدث أن تقشط السيول العارمة الطبقة العليا من تربة الحقول مع بذارها وزرعها ، وتدمر المساكن وتتلف ثمار جهد السنين . وكان الجراد غالبا ما يلتهم كل النباتات فيحرم الناس من أسباب العيش . وفي الغالب لاتكفي المواد الغذائية أهالي الواحات حتى موسم الحصاد الجديد . وكانت الأوبئة المتفشية (الكوليرا والطاعون) تجهز على قرى بكاملها .
إن ضيق القاعدة الإنتاجية والعوامل الطبيعية الضارة بالزراعة (ناهيك عن العوامل الاجتماعية التي سنتناولها فيما بعد) والطرائق الزراعية البدائية وانعزال الواحات عن بعضها البعض – كل ذلك قد أدى إلى تباطؤ شديد جدا في تطور الاقتصاد . وكانت إمكانية تجديد الإنتاج الموسع المنتظم ضئيلة وغالبا ما يلغيها التراجع إلى الوراء . كانت الزراعة في الواحات تتميز لبيس بلم الجهود الاقتصادية بل بتشتيتها ، وكان يسودها نشاط مجموعات صغيرة من الفلاحين أو عوائل منفصلة . ولم تكن هناك منشآت ري كبرى أو مساحات زراعية أروائية واسعة من شأنها أن تفرض على مجتمع الجزيرة في القرون الوسطى ضرورة التنظيم المركزي . ولم يكن تشتت الواحات يتطلب توحيد المزارعين تحت لواء قيادة مركزية لأجل ممارسة النشاط الاقتصادي المشترك . الرعي البدوي وشبه البدوي . كان الرعي عند بدو الجزيرة يقسم إلى نوعين .
فالأعراب (الحقيقيون) هم البدر الرحل الذين يمارسون في الغالب أو بالأساس تربية الإبل التي تكاد تكون الماشية الأكثر شمولا وإحاطة بين سائر المواشي والدواب . فإن لبن الإبل الطازج أو المخمر والجبن والزبدة تستخدم في الطعام . وغالبا ما يعيش البدوي أسابيع طويلة على اللبن ومشتقاته فقط . وفي حالات خاصة كانوا ينحرون الناقة ويأكلون لحمها وشحمها . ويصنعون الأنسجة من وبر الإبل ، ويستخدمون جلودها لمختلف الأغراض ، كما يستخدمون بعرها وقودا وبولها للغسل والعلاج . وكان الجمل الصبور المتحمل بشكل مدهش هو وسيلة النقل التي لايستغني عنها إطلاقا في اجتياز البوادي القاحلة . فالجمل في الصحراء ، كما يقول فولنى بحق ، مهم لدرجة تجعل اختفاءه منها يؤدي إلى اختفاء سكانها جميعا .
يبدو أن قول المستشرق النمساوي شبرينغير : (البدوي طفيلي على الجمل) قد انتشر على سبيل النكتة لاغير . فإن عمل البدو من مربي الإبل مرهق يتطلب مهارة وقدرة . ويتوجب عليهم أن يعرفوا جيدا ويستخدموا المراعي ويقتادوا الإبل ويعالجوها ويحلبوها ويجزوا وبرها . وكانوا يعلمون صغار الإبل على أداء مختلف الأعمال وعلى الانصياع للركوب والأجمال . وكان البدو يحفرون الآبار ويعتنون بها . وكانت المسافات التي تقطعها القوافل تبلغ آلاف الكيلومترات .
وكانت حياتهم غاصة بالحرمان . ففي الشتاء القارس أحيانا تهلك صغار الإبل وتجوع الماشية وتجف ضروع النوق . وكان الحرمان والمخاطر تتربص بالبدوي في الصيف القائظ أيضا ، حيث تنفد حتى الاحتياطات الشحيحة من التمر والحبوب ويقتات فقراء البدو على الجذور والثمار البرية ، ويهلك الكثيرون بسبب الجوع . وتقع المقابر عادة قرب مواقف البدو الصيفية . إن الخيول العربية الشهيرة التي هي موضع افتخار لدى أصحابها وحسد لدى من سواهم ، كانت تستخدم للأغراض الحربية فقط وللاستعراضات . وفي رحلات القوافل الطويلة الأمد كانوا يأخذون دوما احتياطيا من المياه لأجل الخيول أو يسقونها لبن الإبل . إما الرعاة الذين يمارسون في الغالب أو بصورة أساسية تربية الأغنام والماعز فلم تكن لديهم إمكانية كبيرة للترحل في الأماكن الخالية من المياه ، ولذا كان ترحالهم لايتجاوز بضع مئات من الكيلومترات . وكان من اللزوم أن يعثروا على مصادر للمياه قرب المراعي . إن المسافات غير البعيدة نسبيا للترحال في الأماكن التي توجد فيها مصادر مائية ثابتة قد مكنت رعاة الضأن من ممارسة الزراعة . فكانوا يقطعون الترحال في شهور الأعمال الزراعية لكي يعتنوا بالنخيل أو بحقول الحبوب . وغدا العمل الزراعي رئيسيا بالنسبة لقسم من رعاة الضأن .
ونجد عند غ . فالين وصفا لهذا النوع من اقتران العمل الزراعي بالرعي بالبدون في شمال نجد (بسبب العرى الوثقى التي تربط بين فخدي الشمريين نجد أن سكان القرى لايزالون يتشبثون لدرجة معينة بعادات وتقاليد الحياة البدوية ، في حين يزاول البدو أعمال تعتبر عادة أمورا غير لائقة بهم . فإن قسما كبيرا من الأولين يترحلون في الربيع مع خيولهم وقطعانهم في البادية ويعيشون بعض الوقت في بيوت الشعر ، في حين تمتلك عوائل بدوية كثيرة بساتين النخيل وحقول الحبوب ... التي تفلحها بنفسها) . ويقول أ. بوركهاردت أن أحد أفخاذ قبيلة حرب الحجازية (يمتلك عدة مشارب متواجدة في بقعة خصبة يزرعون فيها الهرطمان والشعير . ولكنهم يعيشون في بيوت الشعر ويقضون أكبر قسم من العام في البادية).
ولم تكن توجد بين رعاة الإبل الرحل ورعاة الضأن شبه الرحل والحضر حدود معينة فيما يخص النشاط الاقتصادي عادة . فالكثيرون من البدو من رعاة الإبل بدأوا بممارسة تربية الضأن . واستقر قسم من البدو الرحل فصاروا حضرا . وفي الوقت ذاته جرت عملية معاكسة هي تحول الحضر إلى بدو . إن التوازن غير المستقر بين البدو والحضر يتوقف على الظروف الطبيعية والتاريخية في الجزيرة العربية ، وما كان بوسعه إن يتجاوز أطرا معينة . وكان فائض السكان الرحل ينتقل إلى الشمال . وإذا استقر هناك فهو يقطع الصلة نهائيا ، على الأكثر ، بماضيه البدو . وليس من قبيل الصدفة أن يقال بان العراق قبر الأعراب . ويشمل هذا القول سورية بقدا ما . ولذلك ففي إطار الجزيرة العربية كان هناك توازن تلقائي بين التحضر والبداوة . ويمكن لتقسيم سكان الجزيرة إلى بدو من رعاة الإبل وشبه بدو من رعاة الضأن أن يتوافق من تقسيمهم إلى قبائل . وفي بعض الأحيان يمارس فخذ من القبيلة تربية الإبل . ويمارس فخذ آخر تربية الضأن والماعز ، بينما يمارس الفخذ الثالث الزراعة كالحضر .
وكان الاقتصاد البدوي يعتمد على هطول الأمطار أكثر من اعتماد الاقتصاد الحضري عليه . فعندما تتساقط الأمطار بوفرة تكتسي السهب والبوادي بأعشابريانة وتتسمن القطعان وتزدهر حياة البدو الرحل . أما جفاف الصيف وبرد الشتاء والأوبئة الحيوانية فتؤدي إلى إهلاك الماشية بأعداد كبيرة وإلى المجاعة وانقراض البدو . وإن إمكانيات تجديد الإنتاج الموسع والحصول على منتوج زائد أضيق في الوعي البدو مما في الواحات . الحرف والتجارة . كانت الحرف والصنائع المنزلية عند الفلاحين الحضر تسد حاجاتهم المحدودة جدا . كانوا يضفرون السلال والأكياس والحصر من سعف النخيل ويفتلون من أليافها الحبال والأعنة ، ويستخدمون جذوعها في صنع الأدوات الزراعية وفي بناء المساكن .وكانوا يصنعون الأواني الخزفية البدائية والأنسجة الصوفية والقطنية . وفي الوقت ذاته يصل إلى السوق قسم كبير من منتوج البدو الحرفي الأقل تطورا (الأنسجة الصوفية الخشنة والمصنوعات الجلدية) .
وفي الواحات الكبيرة تطورت بعض الشيء الصنائع الحرفية المختصة . وكان بين الصناع حدادون ونحاسون ولحامون وصاغة ونجارون وصناع سلاح وأسطوات في صنع التحف الخشبية وبناة وعمال طلاء وأخصائيون في صنع العجلات للنواعير وإسكافيون وخياطون ومطرزون ومفصلون وصناع هواوين المرمر لدق القهوة وضافرو الحصر . وكان الصفارون وصناع الأسلحة أكبر فئة من الحرفيين . وقد أطلق لفظ (الصناع) بالمعنى الضيق للكلمة عليهم بالذات . وبالمناسبة فإن صناع الأسلحة كانوا يمارسون على الأكثر تصليح الأسلحة المستوردة . ونشأ تخصص معين لدرجة ما في الإنتاج في بعض المناطق . إلا أن من الصعب تحديد ملامح هذا التخصص قبل القرن الثامن عشر . ومن المعروف ، مثلا ، أن الناس التخصص قبل القرن الثامن عشر . ومن المعروف ، مثلا ، أن الناس (في نجد كانوا ينسجون الأقمشة القطنية التي تستخدم في خياطة ألبسة السكان وفي مبادلتها بالأصواف والماشية مع القبائل) . وفي بعض المناطق تطور صنع الأنسجة الصوفية وخياطة العباءات منها (اشتهرت الإحساء بها خصوصا) وكذلك أقمشة بيوت الشعر .
ولم يصادف وجود ورشات ضخمة في الجزيرة العربية . وفي حالات نادرة فقط شكل الصناع مايشبه التنظيمات الحرفية . كان قسم من الصناع يترحل مع قبائل البدو . كانوا يصنعون حدوات الخيل يصلحون السلاح أو الأدوات المنزلية وكان بعضهم يعالج الماشية إذا مرضت . وكان الصناع الرحل أنفسهم يمارسون تربية الماشية . وكان من الصعب العثور في الجزيرة العربية على مدينة بالمعنى الكالم للكلمة حيث لاتعتبر الزراعة المصدر الرئيسي لمعيشة أغلبية سكانها . وكانت مكة تمثل استثناءا واضحا من القاعدة . وفي أغلب الأحوال كان مفهوم (الواحة الكبيرة) ومفهوم (المدينة) متطابقين في الجزيرة العربية . وكانت عاصمة الدولة السعودية المرتقبة – الدرعية مكونة من عدة قرى متقاربة . ولم تكن الصنائع تحدد ملامح الحياة الاقتصادية في المدن – الواحات في الجزيرة العربية . وكان دورها الهام في حياة مجتمع الجزيرة يرتبط بالتبادل التجاري المكتف وكان نابعا من التقسيم العميق للعمل بين الزراع والرعاة الرحل .
وكان اقتصاد البدو الرحل يتميز بطابع يعوزه الاكتفاء الذاتي ، وكان اقتصاد الزراع أفضل قليلا من هذه الناحية . ومع أن بعض البدو غالبا ماكانوا مضطرين إلى أن يقتاتوا أساسا على لبن الإبل ، فإن السواد الأعظم منهم ماكان قادرا على الاستغناء عن المنتجات الزراعية والتمور والحبوب ، كما كانوا بحاجة إلى المصنوعات الحرفية .. وقد وزع بوركهاردت مصروفات البدوي الموسر بالشكل التالي : أربعة إجمالي من القمح – 200 قرش ، شعير للفرس – 100 قرش ، ألبسة – 200 قرش ، بن وتبغ وحلويات ولحم غنم – 200 قرش . ويشكل ذالك بمجمله مايعادل 35-40 جنيها استرلينيا . ويبدو أن عدم ذكر التمور في هذه القائمة يعود إلى أن البدو الأثرياء يمكن أن يحصلوا عليها ليس عن طريق التبادل التجاري ، بل بشكل أتاوة من الزراع الخاضعين لهم . ويبدو أن البدو البسطاء كانوا يقتنون أيضا الكثير من البضائع التي ذكرها بوركهاردت وإن بكميات أقل .
وفي الصيف كان البدو يتقارطون على الواحات الكبيرة والمراكز التجارية فيعرضون الماشية والأصواف والسمن والجبن لمبادلتها بالتمر والحبوب والأقمشة والحصر والحدوات والأسلحة والبارود والرصاص والمواط الطبية والبن والتبغ . وكان قسم من التجارة يجري عن طريق التبادل العيشي . إلا أن مؤرخي الجزيرة يذكرون على الدوام أسعارا بالتعبير النقدي لمختلف البضائع ، مما يدل على تطور التداول النقدي في الجزيرة العربية آنذاك . أن نزوح البدو الرحل الصيفي إلى المراكز التجارية يعتبر بالنسبة لهم وللحضر أعظم أحداث السنة . ففي الأسواق الصيفية يجري الجزء الأساسي من التبادل البضاعي بين البدو والحضر . ولم يكن البدو يتجارون في الواحات القريبة فقط . فقد كان نطاق صلاتهم التجارية أوسع بكثير ، وهو يتجاوز إطار شبه جزيرة العرب . كانت الإبل في تلك الحقبة هي الباب الأساسي في صادرات الجزيرة حيث كانت تحظى بطلب واسع . كانت الإبل تستخدم كوسائط للنقل ليس بالنسبة للجزيرة وحدها ، بل وللبلدان الأخرى في الشرق الأوسط . وكانت الجزيرة تصدر أيضا الأصواف والسمن والجلود والخيول الأصيلة . وساعدت التجارة الخارجية ، بقدر أكبر من التجارة الداخلية ، على تطوير العلاقات البضاعية النقدية في شبه جزيرة العرب .
وكان يصل إلى شمال ووسط الجزيرة ، وخصوصا إلى الحجاز ، الرز المصري والهندي والقمح والشعير من مصر واليمن . وكانوا يستوردون البن من اليمن والتوابل من الهند والفواكه المجففة من سوريا والسكر من مصر كما كانوا يستوردون الأسلحة والحديد والنحاس والرصاص لصنع الخراطيش والكبريت لصنع البارود.
ويتحدث مؤلف (لمع الشهاب) فيقول : (الكفية (الكوفية) وصناعها في نفس نجد قليلون بل أكثر ما يلفيهم منها من جانب العراق ومن الإحساء والقطيف ... والعباة تصنع في بلدان نجد لكن قليلا وأكثر مجيا من ملك العراق ومن الإحساء ... وقد تلبس نساء الأغنياء منهم الحرير الهندي الذي يبلغ كل ثوب منه قيمة عشرين ريالا وأكثر بألوان عديدة من أحمر وأصفر وأخضر ... فتلبسه نساء المتمولين وأما صيغهم في أمر حلي النساء فذاك شيئ لايضبط بالعدد لأنهم يبالغون في ذلك جدا حتى الفقراء منهم لابد أن يصيغوا شيئا من الزينة الذهبية لنسائهم قطعا ... وأما الرجال فيزينون سيوفهم بكثير من الفضة وكذا بنادقهم يلبسونها من أطواق الفضة كثيرا وهكذا خناجرهم ورماحهم يطيبونها بالفضة ...)
ويضيف المؤرخ قائلا : (ومن صفات أهل نجد التجارة . فإن كثيرا منهم تجار يسفرون إلى أطراف الروم وبقية جزيرة العرب ولم يذهبوا بسلعة من نفس نجد إلى ملك الروم وإنما يحملون معهم الدراهم النقدية خاصة ويأتون من حلب أو الشام بالبز الحرير وغيره وكذا بالنحاس ظروفا وغيرها والحديد والرصاص ... وقد يسرون أهل نجد بخيل عناف إلى أطراف ملك الروم بالتجارة لأن خيولهم مرغوب فيها عند الأورام لشد علوها وهكذا يجلب أعراب نجد إبلا كثيرة إلى حلب والشام للبيع .
وقد قال لي بعض الناس أنا شاهدت تجار وأهل نجد أهل القصيم منهم يبيعون تمرا في دمشق الشام وعرفت أنهم يجلبونه من بلادهم وقد يسافر أهل نجد إلى أرض مصر لكنهم لم يشتروا منها إلا السلاح والمرجان وأعلم أن تجارهم في بقية بلاد العرب كذلك غالب مايذهبون به إلى هذه النواحي هو الدراهم ويأتون من اليمن بالقهوة كثيرا وبالورس والميعة واللبان وأعلم أن ليس لأجل تجار أهل نجد خانات معينة للبيع والشراء بل جميع أموال التاجر في بيته ... وأما أهل بيع القليل منهم فلهم دكاكين وليس سوقهم مسقف مثل سوق أهل فارس ولاضيق كضيقه بل سوقهم مكشوف لا سقف له وواسع الطريق جدا بحيث تمر القوافل المحمولة فيه وأعلم أن أجناس الهند من سكر وبلوج وهيل وقرنفل وقرفة وفلفل وكركم ونحو ذلك الأجناس كلها مرغوبة عند أهل نجد وأكثر هذه يجلبونها من بنادر اليمن وقلما يأتون به من ساحل عمان ويأتيهم من طريق القطيف والبحرين شيء كثير ...
ولهم اشتياق عظيم للسفر وهمة غريبة وطاقة عجيبة بحيث يمكن الشخص منهم أن يتغرب عن أهله ووطنه مدة عشرين سنة أو أكثر وأن يسافر عن بيته إلى ملك الصين مثلا كما أن كثيرا من تجارهم اليوم جلوس ونزول في حلب وفي دمشق الشام ومنهم من هو في مصر ... وأيضا من جملة أحوال أهل نجد الحض رمنهم أنهم يتعاطون الزروع كثيرا ويستعملون غرس الأشجار والنخيل ويتعبون أنفسهم عليها جدا وكذلك لأهل الحضر منهم غنم وبقر وإبل وإن لم تكن كثيرة لكن لابد لهم منها بقدر مايسع المعاش لأجل الحليب واللحم والركوب .
وأما أحوال بدو نجد فإنهم أهل بيت شعر خاصة ولا لهم غير المواشي شيء ولايردون بأهاليهم البلاد أصلا وما يأتي الرجال منهم لأجل التجارة فحطوا فإنهم يدخلون المدن والقرى بأهاليهم ...) . وكان البدو يقدمون الإبل والأدلاء لأجل القوافل التجارية في الجزيرة العربية ويشاركون في تكوين القوافل خارج الجزيرة . وكانت توجد في شمال الجزيرة اتحادات تجار الإبل وإدلاء القوافل المنتسبين إلى قبيلة بني عقيل . وقد استقروا في مختلف أرجاء نجد ، إلا أن بعضهم أقاموا في العراق . وفي أواخر القرن الثامن عشر كانوا وحدهم يتمتعون بحق تشكيل القوافل التي تعبر بادية الشام وقيادتها وحمايتها . وكان التجار قد جمعوا ثروات طائلة . صحيح أن البيوتات التجارية في نجد كانت أقل شأنا من تجار الجملة الحجازيين . ففي جدة بلغت رساميل تجار البن والبضائع الهندية مايعادل عشرات بل ومئات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية .
واتسم الحج إلى مكة والمدينة بأهمية فائقة للجزيرة العربية عموما وللحجاز خصوصا . وكانت قوافل الحجاج الرئيسية تمر من شمال الحجاز قادمة من مصر والشام . وعبر المناطق الشمالية من نجد مع ميلان نحو الشمال أو الجنوب على اختلاف السنين يمتد طريق الحج الإيراني العراقي مع أن أهميته كانت أقل من أهمية طريقي مصر والشام . وكان الطريق الرابع يأتي من موانئ الخليج ومن عمان عبر وسط نجد والحجاز ، وكان الحجاج يجلبون مختلف أنواع البضائع . وقد أمن نقل الحجاج أسباب العيش للكثير من البدو .
عناصر العلاقات القبلية العشائرية في الواحات
كان قسم كبير من السكان الحضر في الجزيرة العربية يعتبرون أنفسهم من هذه الأفخاذ والقبائل أو تلك . وكان أبناء القبيلة الواحدة من بدو وحضر على ارتباط وثيق فيما بينهم يمكن أن يظل قائما طوال حياة أجيال عديدة . وفي بعض الأحيان كان أبناء القبائل المختلفة يعيشون في أحياء منفصلة في نفس الواحات . وكان الفلاحون وأهل المدن الأصيلون يعتقدون أن أنسابهم تغوص عميقا في أنساب العرب .
وتشكل عدة عوائل كبيرة أو صغيرة جماعة تسمى الحمولة . وكتب دوتي يقول (إن الجماعة تحالف طبيعي لاستثمارات تربط بين أفرادها صلات القربى ولهم جد واحد . وهم متوحدون فيما بينهم تحت راية عمدتهم ورب الأسرة كله الذي يرث سلطة مؤسس الجماعة . وفي إطار هذه الأواصر والتقسيمات العائلية يمكن وجود الحياة المترابطة الآمنة في بلد خاو خال من السلطة . ويعتبر الغرباء المنتسبون إلى الجماعة حلفاء لأصدقائهم . ويعتبر المعتوقون زبائن للعائلة السائدة ... وكلهم من (أبناء عمومة) الجماعة المعنية ... إن الجماعات في الواحات هي روابط يقطن أفرادها في عدة أحياء أو حارات . وعندما يتشاجر أبناء المدن من جماعات مختلفة يحاول زعماؤهم المصالحة فيما بينهم ، مع أن أبناء المدن في الواحات الكبيرة ذات التسيير الذاتي ، مثل عنيزة ، يراجعون الأمير المتربع في المجل لأجل حل الخلافات بينهم ... وقبل أن تهيء السلطة الوهابية الوئام المدني كان سكان المراكز الكبيرة في باطن الجزيرة في نزاع دائم : جماعة ضد جماعة وسوقا ضد سوق) . والشخص الذي يعيش خارج الجماعة وحيدا لانسب له إنما يعاني من صعوبات كبيرة ، فلا جماعة تحميه من التطاولات على حياته وأمواله .
وكانت عوائل الأمراء والشيوخ تتميز بصلات القربى الوثقى خصوصا ، مما يمنحها وزنا ونفوذا كبيرين . وغالبا ماتوحد بينها الملكية المشتركة للأرض والعائدات .
وقد ضعف التنظيم القبل العشائري لدرجة كبيرة لدى السكان الحضر ماعدا قسم منهم ممن انتقلوا إلى حياة الاستقرار الحضرية مؤخرا ولم يقطعوا الصلات القديمة بالكامل ، والشيء الوحيد الباقي فعلا هو العائلة الكبيرة والمجموعة غير الكبيرة نسبيا من ذوي القربى والتي تمثل الخلية القبلية المتبقية التي غالبا ماتنعت في مطبوعاتنا الأثنوغرافية بالخلية الأبوية (العشائرية) .
وكانت العائلة الكبيرة تمتلك الأرض والأموال الأخرى بصورة مشتركة وتمارس تسيير استثمارة غير موزعة وذلك بإشراف الأب . وبعد وفاة الأب يجري تقسيم التركة . وكان للإبن البكر حقوق تفضيلية في الميراث . وظلت باقية في بعض مناطق الجزيرة العربية أشكال مختلفة للملكية المشاعة لأراضي أفخاذ معينة . وفي الأماكن التي يجري الأرواء فيها من مصادر مائية كبيرة كان الريفيون يمتلكون المياه ويستخدمونها بصورة مشتركة . وفي بعض الأحيان كانت المراعي من الملكية المشاعة للحضر . وإذا لم يكن سكان الواحات يمتلكون مراعي خاصة بهم فهم مضطرون إلى وعي الماشية في الأراضي العائدة لقبائل البدو الرحل .
إن عادات التعاضد العشائري كانت موجودة بقدر ما عند السكان الحضر . وكان المزارعون ينفقون بصورة مشتركة على رعاة وحراس ماشيتهم ويلتزمون بعادة كرم الضيافة . وظلت باقية تقاليد عونة الجيران . ويصادف أن لايحصد مالكو الحقول السنابل الساقطة إذ يتركونها للفقراء . وفي بعض الأحيان يخصص للفقراء قسم غير محصود من الحق أو عدد من النخيل المثمرة . إلا أن العلاقات الاجتماعية في الواحات لاتضبطها هذه الروابط العشائرية .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التقسيم الطبقي في الواحات
بنتيجة عملية طويلة معقدة في المجتمع الزراعي في الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر وقع قسم من الأراضي في حوزة الوجهاء من بين البدو وكذلك الذين تحولوا إلى حضر من زمان في الواحات . فإن حاكم واحة العيينة في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، مثلا ، كان يمتلك أرضا في الإحساء ويستلم منها عائدات . وكانت بساتين النخيل والجنائن والحقول ملكا للفقهاء أيضا . والمثال على ذلك أملاك مؤرخي الجزيرة والرحالة الأوروبيين إشارة إلى أن الملكية العقارية الكبيرة كانت سائدة أو منتشرة في نجد والحجاز والإحساء . فقد أشار بلغريف في أواسط القرن التاسع عشر تقريبا إلى أن الأرض (نادرا ماكانت في حوزة الملاك العقاريين الكبار مثل الإقطاعيين الهنود وكبار المزارعين الإنجليز) .
إن المزارعين الصغار المكبلين بالديون كانوا يفقدون ملكية الأرض التي تنتقل إلى المرابين الأثرياء والتجار . وكتب دوتي عن الفلاحين (إن الدائنين الأثرياء كانوا يلتهمون الفلاحين مع حصتهم من الأرض (بقدر لايكاد يقل عما في مصر والشام) ، ويكبلونهم لأمد طويل بالديون الربوية الجائرة) . ويبدو أن هذه الظاهرة كانت متشرة كذلك عشية ظهور حركة الوهابيين في القرن الثامن عشر ، وإلا فكيف يمكن تفسير إصرارهم على شجب الفوائد الربوية .
وكان الملاك العقاريون يقدمون قطع الأراضي إلى الفلاحين على سبيل الإيجار بمختلف الشروط . وكان الطريق الرئيسي للحصول على الريع هو المحاصة العينية التي تحدد مقاديرها بموجب العادات والتقاليد . وكان الاستيلاء على مصادر المياه الكبيرة والصغيرة قد مكن أصحابها من بيع الماء وبالتالي الحصول على حصة من ريع الأراضية المروية . ولم تكن لدى الكثير من الفلاحين دواب عمل وما كان بوسعهم أن يستفيدوا من الآبار أو المصادر العامة وفلاحة الأرض بصورة مستقلة ، فكانوا مضطرين إلى استئجار الدواب .
وكانت مختلف الأتاوات المفروضة على السكان تعود بمداخيل كبيرة على الوجهاء . ومن المعروف ، مثلا ، أن الأمير الذي يتمتع بالسلطة السياسية كان في أواسط القرن الثامن عشر يجبى ضريبة ما من السكان . وكانت الرسوم المفروضة على القوافل التجارية قد أدت كذلك إلى إثراء الوجهاء بالدرجة الأولى . وكان حكام الحضر الأقوياء يملأون خزائنهم أثناء الغزوات الناجحة على الواحات المجاورة وعلى قبائل البدو الرحل وشبه الرحل . وغدت الغزوات المصدر الرئيسي للمداخيل بالنسبة للعديد من الإقطاعيين .
وتبين عائدات شريف مكة أساليب إثراء الوجهاز من حكام الواحات . كانت الرسوم الجمركية في جدة تعود عليه بأكبر المداخيل . وكان يشارك في التجارة المربحة التي تمر عبر هذه المدينة ، وكان يمتلك سفنا بحرية ويبيع المواد الغذائية إلى الحجاج . وقد فرض ضريبة نفوس كبيرة على الحجاج الفرس ، وكان يستلم الهدايا والهبات من الحجاج السنة الأثرياء . وكان يستحوذ على قسم من النقود التي تأتي من الإستانة إلى مكة بمثابة هدية من السلطان العثماني لأهالي مكة المكرمة . وترد إلى خزينة الشريف عائدات الملكية العقارية من الطائف والواحات الأخرى ، وكذلك من الدور العائدة له . ويعتقد بوركهاردت أن الدخل السنوي لشريف مكة كان يعادل 350 ألف جنيه استرليني . بديهي أن الشريف كانت له مكانة خاصة في الجزيرة العربية إلا أن الأمراء الآخرين كانت لهم بعض أبواب الدخل المذكورة أعلاه وإن بقدر أقل .
ولم تتطور في الجزيرة أشكال ربط الفلاح الأعرابي بالأرض مباشرة . فقد أشار نيبور إلى (أن الفلاح المتذمر من سيدة كان حرا في تركه والانتقال إلى مكان آخر) . إلا أن عدم إمكان الاستغناء عن حماية شخص قوي أو فخذ قبلي في ظروف انعدام الأمان قد أدى إلى ظهور تبعية الفلاح شخصيا لأمير الواحة مع أن هذه التبعية كانت ضعيفة جدا .
وكانت توجد في واحات الجزيرة دون شك ، في الحقبة موضوع البحث علاقات طبقية من طراز ما قبل الرأسمالية ، ويبدو أنها نشأت لقرون عديدة قبل القرن الثامن عشر . ولكننا عندما نقول بأنها علاقات (إقطاعية) علينا أن نستدرك ونذكر بأن البنية الاجتماعية للسكان الزراعيين في الجزيرة التي هي على العموم من الأطراف المتخلفة في الشرقين الأدنى والأوسط ، كانت تكرر بشكل بدائي العناصر الأساسية للتنظيم الاجتماعية في البلدان الأكثر تطورا في هذه المنطقة . ولذلك فعندما نستخدم مصطلح (الإقطاعية) في تحليل مجتمع الجزيرة نعني بها الإقطاعية الملازمة لبلدان الشرق الأوسط .
العلاقات القبلية العشائرية داخل قبائل البدو الرحل
ورد في (لمع الشهاب) تعداد لقبائل البدو الرحل في وسط وشرق وشمال وغرب الجزيرة في القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ، الأمر الذي لانجده في المصنفات التاريخية الوهابية في تلك الحقبة . ويرى مؤلف (لمع الشهاب) إن أكبر قبيلة عربية (تذكرنا باتحاد القبائل) هي قبيلة عنزة التي تضم ثلاث مجموعات في كل منها حوالي 60 ألف رجل . ويقصد مؤلف الكتاب بهذا الرقم الخيالة القادرين على حمل السلاح . (ذكر منجين أن نسبة الخيالة إلى النساء والأطفال والعجزة والشيوخ هي الثلث ، وذلك يمكننا من تقدير العدد الإجمالي لأفراد عنزة بحوالي نصف مليون نسمة) . واشتهرت عنزة بفن الفروسية . وكانت تقاليد العونة والنخوة والتعاضد عندما أقوى مما عند القبائل الأخرى . وعندما يرتحل قسم من عنزة أثناء الجفاف من نجد إلى المناطق شبه الصحراوية في الشام فإن أبناء هذه القبيلة المقيمين هناك يساعدون القادمين .
ويقول مؤلف (لمع الشهاب) إن القسم الأكبر من عنزة خضع للسعوديين بدون حرب . وذلك أمر كبير الدلالة . فإن الجهود التوحيدية المركزية لأمراء الدرعية كانت ، على مايبدو ، تستجيب لمصالح هذه القبيلة المنتشرة في قسم كبير من شبه جزيرة العرب .
وكان لدى قبيلة شمر التي تقطن شمال نجد وتعتبر نفسها من أبناء قحطان ومن قبائل طي عشرون ألف فارس . وكان لدي قبيلة حرب الحجازية 30 ألف رجل مسلح من البدو والحضر . وكان لدى قبيلة مطير النجدية التي اشتهرت بفرسانها وحماسها 14 ألف فارس ، ولدي قبيلة عتيبة (من القحطانيين) التي قطنت نجد والحجاز 40 ألفا ، ولدي قبيلة البقوم 4 آلاف ولدي قبيلة سبيع المخلصة للسعوديين كل الإخلاص 12 ألفا ، ولدي قبيلة السهول 10 آلاف .
وفي جنوب نجد كان لدى قبيلة قحطان الجبارة 50 ألف فارس ، فلم يتجرأ أحد على التحرش بها . وانضم القحطانيون إلى السعوديين بشرط تأييد الدرعية لغزواتهم على تهامة ومرتفعات اليمن وحضرموت . وكان لدى قبيلة العجمان خمسة آلاف فارس . وكانت هذه القبيلة قد ارتحلت في القرن الثامن عشر من منطقة نجران إلى الشمال فزداد تعدادها وتفوت على مايبدو . وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر قدمت إلى سموح القتال في شرق الجزيرة العربية آلافا عديدة من المحاربين .
ويقول مؤلف (لمع الشهاب) إن بني مرة أو آل مرة الذين كانوا يقطنون أطراف الربع الخالي يشكلون الفي يدوي أو يزيد . وكانت ظروف معيشتهم الصعبة قد أدهشت هذا المؤرخ العربي فلم يجد بدا من القول بأنهم كانوا قادرين على أن يقتاتوا بلبن الإبل وحده ويشربوا الماء المالح تقريبا .
وأخيرا نجد 30 ألف فارس عند بني خالد أسياد شرق الجزيرة في أواسط القرن الثامن عشر ومنافسي إمارة الدرعية في عهد نهوضها .
ومما لاريب فيه إن هذه الأرقام تقريبية بعيدة عن الدقة . ولم يبد المؤرخ اهتماما بالقبائل غير الكريمة المحتد ولا المملوكين والمعتوقين والصناع الذين سنتحدث عنهم فيما بعد . إلا أن تعداد القبائل يقدم لنا لوحة إحصائية ، وإن افتراضية ، لمجتمع البدو في الجزيرة العربية آنذاك (ما عدا اليمن وعمان) . وقد بلغ العدد الإجمالي للخيالة البدويين حوالي 400 ألف شخص ، الأمر الذي يشير إلى أن عدد البدو الرحل في الجزيرة يكاد يكون 1.2-1.5 مليون شخص .
كانت العائلة هي أصغر خلية في القبيلة . وفي بعض الأحيان كانت مجموعة من ثلاث أو أربع عوائل مترابطة بصلة القربى تمتلك (أموالا غير مجزأة بهذا القدر أو ذاك) . ولكن هذه الظاهرة كانت نادرة . فإن حاجات حياة الترحل ورعاية الماشية ورعيها لم تكن تستدعي في ظروف الجزيرة توحيد جماعات كبيرة من الناس لأجل العمل المشترك .
وكانت عدة عوائل من ذوي القربى الحميمة أو البعيدة الذين يتذكرون أو يعرفون جدا مشتركا لهم تشكل جماعة قبلية صغيرة . وكانت الجماعة القبلية الكبيرة تشمل عوائل متوحدة بصلة قربى متباعدة . وأكثر أسماء تلك الجماعة انتشارا العشيرة . كان أفراد العشيرة مترابطين فيما بينهم بالتزامات وحقوق صارمة للتعاضد والمسئولية المتبادلة . ويرأس العشيرة شيخ أو قائد عسكري أحيانا – عقيد . وكان للعشيرة كذلك عارف ومفسر لأصول العادات والأعراف . ولدي كل عشيرة أسمها الخاص وطمغتها وصيحتها في الحرب وأحيانا مقبرة خاصة بها . ويمكن للعشيرة أن تقبل انتساب بعض الغرباء إليها . وبعد ذلك يأتي الفخذ أو البطن وهو مجموعة من العشائر المترابطة بعلاقات نسبة مفتعلة أو حقيقية وبتحالف سياسي أو حربي .
والدرجة التالية من البنية الاجتماعية للبدو الرحل هي القبيلة التي لها أراضيها وبعض خصائص اللهجة في لغتها وسمات معينة لحياتتها المعيشية وثقافتها ومعتقداتها ، كما لها طمغتها وصيحتها . وكان أبناء القبيلة يعتبرون أنفسهم أقرباء متحدرين من جد أو سلف واحد . ويترأس القبيلة شيخ وفيها أيضا عقيد وعدد من العراف المتضلعين في معرفة العادات والتقاليد .
وكان تكتل القبائل يجري حسيب صلة القربى وكذلك لاعتبارات سياسية . وكانت العلاقات بين القبائل المترابطة بصلة القربى تضبط حسب العرف . وظلت باقية داخل قبائل البدو الرحل الظواهر الفعلية الملازمة للمجتمع العشائري . وفي مقدمتها ملكية القبيلة الجماعية للمراعي (الديرة) . وكانت حدود الأراضي العائدة للقبيلة مرسومة بتنشين دقيق . ويقول فولني (إن كل قبيلة من هذه القبائل تستأثر بمنطقة معينة تصبح ملكا لها . وتختلف القبائل من هذه الناحية عن الشعوب الزراعية بأن أراضيها يجب أن تكون أوسع بكثير لكي تؤمن الملف للقطعان طوال العام . وتشكل كل من هذه القبائل مخيما أو عدة مخيمات موزعة على المنطقة . وهي تستبدل مواقفها على الدوام في هذه المنطقة حاليا تلتهم القطعان الكلأ حول المخيمات) .
وكان قسم كبير من الآبار وأحواض المياه في السهوب ملكا لقبائل البدو . ويقول بوركهاردت (إن أغلبية الآبار في أعماق البادية وخصوصا في نجد ملك مطلق لقبيلة ما أو لأشخاص حفر أجدادهم تلك الآبار ... وعندما تنفد مياه الأمطار في البادية تنصب القبيلة خيامها قرب بئرها ولايسمح لأي بدو آخرين بأرواء إبلهم هنا) .
ويمكن للقبائل والأفخاذ والبطون أن تمتلك بصورة جماعية الأراضي المفلوحة في الواحات . وكان البدو يقدمون تلك الأراضي على سبيل الإيجار إلى الزنوج المعتوقين أو الفلاحين العرب ويستلمون لقاء ذلك حصة من الغلة ويوزعونها على العوائل . وكان قسم كبير من جياد الأنسال ملكا عاما للقبيلة ، ولكن الأفراس تعتبر على الدوام ملكية خاصة لأصحابها .
كانت لدى البدو الرجل عناصر كثيرة من التعاضد العشائري في الأمور الاقتصادية ، مثل جز الأغنام الذي يتم تقديم الطعام أثناءه . وكان أبناء القبيلة الواحدة يساعدون بعضهم البعض في المناسبات العائلية – الزفاف والختان واستقبال الضيوف .
واشتهر البدو بكرم الضيافة . وكانوا يعتبرون الاستهانة بهذه العادات عيبا شنيعا . وكتب فولني يقول : (إذا لمس الغريب ، وحتى العدو ، خيمة البدوي يحصل على الحصانة الشخصية إن صح القول . وحتى أخذ الثأر المستحق يعتبر عارا لايمحى إذا جرى على حساب حسن الضيافة . وإذا وافق البدوي على اقتسام رغيف العيش مع الضيف فما من قوة في العالم ترغمه على خيانة ضيفه) .
وتتسم بأهمية بالغة المعونة المادية التي يقدمها أبناء القبيلة لمن تهلك قطعانه بسبب الجفاف أو الأمراض ولمن يفقد أمواله أثناء غزوات النهب . فالأموال المضيعة يعوض عنها بالماشية والنقود والأدوات المنزلية أو مستلزمات الخيام . والعوائل التي تصاب بكارثة تلتقي المعونة من أقاربها ، بينما تتلقى القبيلة المتضررة المعونة من أفرادها أو من القبائل الأخرى المتحالفة معها . وكتب دوتي يقول : مهما كانا لشخص الذي تنهب أمواله فإن ذلك يعتبر (مصيبة عامة للقبيلة كلها ، ولاينبغي أن يظل أحد ممن فقد ماشيته فقيرا معوزا . والشيخ الحاكم يلزم جميع أفراد القبيلة بأن يعوضوا للمتضررين في غضون يوم أو يومين عن كل الماشية التي فقدوها) .
وتجدر الإشارة مع ذلك إلى أن التعويض عن الخسائر بالشكل الكامل لم يكن ممكنا في أغلب الأحيان رغم متانة أواصر التضامن العشائري . فإذا فقدت القبيلة قسما كبيرا من قطعانها بعد هزيمة حربية ماحقة فإن عادة التعويض عن الخسائر لن تعود سارية المفعول في الواقع . ويتعرض الفقراء في مثل هذه الأحوال للموت جوعا . ويحدث الشيء ذاته أثناء الجفاف الفظيع أو انتشار الأوبئة . فالخسائر آنذاك تصيب بهذا القدر أو ذاك كل أفراد القبيلة ، وفي تلك الحالة لايعودون قادرين في الغالب على نجدة الأكثر تضررا . إن عادة التعويض عن الخسائر لم تكن شيئا وهميا ، ولكن أطرها مقيدة بالإمكانيات الفعلية .
كانت العلاقات بين مختلف القبائل تضبط في المقام الأول بأهم عنصر في الأعراف القبلية وهو الثأر . ويقول فولني (إن مصالح الأمان المشترك قد أوجدت عند العرب منذ القدم قانونا يتطلب غسل عار مقتل أي شخص بالثأر له عن القاتل . ويأخذ الثأر أقرب أقرباء القتيل . فإن شرفه قد تلوث في أنظار سائر الأعراب لدرجة لايمكن معها أن يستهين بواجب الثأر ، وإلا سيبقى شرفه ملوثا إلى أبد الآبدين . ولذا ينتهز الفرصة السائحة ليثأر للقتيل . وإذا مات عدوه لسبب آخر يبقى هو غير راض إطلاقا ويأخذ ثأره من أقرب أقرباء القاتل . وتنتقل هذه الأحقاد بالوراثة من الأب إلى أبنائه ولا تختفي إلا باختفاء أحد الفخذين إذا لم تتفق العائلتان على تسليم المذنب أو دفع تعويض بالنقود أو الماشية) . وكان الثأر عند البدو يشمل عادة الأقارب من خامس ظهر.
وفي الغالب تترك كل الجماعة التي يشملها الثأر قبيلتها وتبحث عن ملجأ وحماية عند شيخ قوى لقبيلة أخرى . وبعد ذلك تحاول تلك الجماعة البحث عن وسيلة الاتفاق بشأن دفع التعويض . وإذا كان القتيل ليس من الوجهاء فإن أقرباءه يرافقون على التعويض . ومقادير التعويض تختف باختلاف المناطق والقبائل ، ولكنها مقادير كبيرة . ويشارك جميع أقارب القاتل في تسديد التعويض . أما الشيوخ فلا يقبلون إلا بالقتل ثأرا للقتيل. وتشارك القبيلة كلها في دفع التعويض لإطلاق سراح أبنائها من الأسر . وكان البدو الأثرياء يساعدون الفقراء عند الاقتضاء . وكانوا يقدمون إلى أقربائهم الفقراء هدايا من أطعمة وألبسة وماشية . وبهذه الصورة يحصلون على شعبية . وكان من العيب على أبناء الوجهاز أن يتهموا بالبخل ، في حين يعتبر السخاء أسمى فضيلة .
ولم يكن البدو يعرفون الضرائب المنتظمة . وكانوا يعتبرون (دفع الضرائب إهانة) . وإن انعدام الضرائب داخل القبيلة من أهم الأدلة على متانة العلاقات العشائرية . ومع ذلك فحتى المراقبون المعجبون يتضامن البدو الرحل وتعاضدهم قد عثروا في القبائل على ظواهر بعيدة عن المثاليات العشائرية .
عناصر التفاوت داخل القبائل البدوية
في أواخر عام 1784 زار فولني شيخ قبيلة كانت تترحل في منطقة غزة . إن مقارنة رفاه ممثل الوجهاء العشائريين هذا . رغم أنه لايعتبر غنيا بالمقاييس الأوروبية ، مع حالة البدوي العادي تكشف عن أمور كثيرة. (كانوا يعتبرون الشيخ أغنى الجميع في المنطقة . ولكنه خيل إلى أن نفقاته لاتزيد على نفقات تاجر عادي ثري . أمواله المنقولة المكونة من الألبسة والبسط والسلاح والخيول والإبل لاتتجاوز 50 ألف ليرة ، وتجدر الإشارة إلى أن ذلك يشمل أربع أفراس أصيلة بستة آلاف ليرة ... ولذا فإذا تحدثنا عن البدو لاينبغي لنا أن نضمن الكلمات مفاهيمنا المعتادة ليصطلح (السيد) . إن الشيخ الذي يقود مفرزة من 50 خيالا لايستنكف من أسراج حصانه بنفسه ومن تقديم الشعير والقش له . وفي بيت الشعر تعد زوجته القهوة وتعجن العجين بنفسها وتطبخ اللحم . وتغسل بناته وقريباته البياضات ويتوجهن محجبات إلى البئر لإحضار الماء بأباريق يحملنها على رؤوسهمن . وهذه اللوحة تشبه بالضبط ماوصفه هوميروس أو (كتاب الوجود) في قصة إبراهيم الخليل ....
إن بساطة البدو أو فقرهم ، إن صح القول ، من بساطة ظروف حياة شيوخهم . فإن ملكة العائلة كلها تتكون من أموال أوردها هنا بالشكل الكامل تقريبا : عدد من الجمال والنوق والماعز وبضع دجاجات ، وفرس مع عدتها وبيت شعر ورمح طوله 13 قدما وسيف منحن وبندقية صدئة ، وغليون ورحي وإبريق ودلو جلدي ومقلاة لتحميص البن وحصير وبعض الألبسة وعباءة صوفية سوداء وأخيرا ، وبدلا من كل الحلى الثمينة ، عدة أساورة وخلاخيل زجاجية أو فضية ترتديها المرأة على قدميها أو معصميها . وإذا كان ذلك كله متوفرا فإن العائلة تعتبر غنية) .
إن أوصاف فولني هذه تصطبغ بالصبغة السياسية أكثر من الأثنوغرافية . ومع أن هذا الرحالة يضفي طابعا مثاليا على بساطة حياة الشيخ البدوي ، فإن الفارق في الحالة المالية للشيخ كبير جدا حتى إذا قارناه ببدون يمتلك حصانا . أما البدو الفقراء فكانوا يعيشون في ضنك أكبر بكثير .
ويقول فولني : (لاحظت أن الشيوخ ، أي الأثرياء وخدمهم ، على العموم أطول قامة وأكثر اكتنازا من سائر أبناء القبائل ... ولايفسر ذلك إلا بطعامههم الأوفر مما لدى باقي الناس . ويمكن القول إن البدوي البسيط يعيش دوما في عوز ويعاني من الجوع طوال الوقت ... إن طعام اليوم الواحد للسواد الأعظم منهم لايتجاوز ست أوقيات . وفي قبائل نجد والحجاز يصل الاعتدال في الطعام إلى حده الأقصى . فإن وجبة البدوي لليوم الواحد تتكون من ست أو سبع تمرات منقعة في سن ذائب وقليل من اللبن الطازج أو المخمر . والبدوي يعتبر نفسه سعيدا إذا استطاع أن يضيف إلى ذلك حفنة من الدقيق الخشن أو قليلا من الرز . والبدو لايأكلون اللحم إلا في أكبر الأعياد . ففي حفلات الزفاف أو المآتم ينحرون معزة صغيرة . ولاينحر صغار الإبل ويأكل الرز مع اللحم إلا الشيوخ الأثرياء وقادة العساكر) .
وقد تجلى التفاوت في الأموال لدى قبائل البدو الرحل بشكل ملحوظ خصوصا في ملكية الماشية . فلئن كان الواحد من فقراء قبيلة عنزة لايكاد يمتلك فيمطلع القرن التاسع عشر 10 جمال ، فإن قطعان البدو الأغنى تضم زهاء 50 جملا ، في حين إن عائلة الشيخ تمتلك عدة مئات من الإبل . وكان أكثر الشيوخ قوة وثراء يمتلكون عدة آلاف من الإبل .
إن وجهاء القبائل الذين يضبطون الترحال الموسمي ويشاركون في توزيع المراعي صاروا يكتسبون حقوق الأسبقية للتصرف بالأراضي مع أن تعسفهم كان مقيدا بالعادات العشائرية . وكانت القطعان التابعة للشيوخ تحصل على المراعي الأفضل . وكان هناك منذ القدم حمى لقطعان الشيوخ . وغدا قسم من موارد المياه ملكا لوجهاء البدو الرحل .
ومن نظام التعاضد القبلي ظهر استغلال البدو أثناء تسليمهم الماشية لأجل وعيها . في بادئ الأمر كان تسليم الماشية يبدو بمثابة سلفة مؤقتة بشكل عدد من رؤوس الماشية تقدم إلى ابن القبيلة الذي أصابه الأملاق . وقد انتشرت هذه الظاهرة عند بدو الجزيرة ومكنت كبار ملاك الماشية من صيانة قطعانهم ومضاعفتها . والدرجة التالية في الاستغلال هي تسليم الماشية على سبيل المحاصة إلى الفقراء المعدمين ، حيث يستلم الملاك جزءا من النسل والمحاصيل الحيوانية .
وكان تسليم الأغنام لأجل الوعي أكثر انتشارا . فإن رعاة الإبل ماكان بوسعهم أن يأخذوا معهم الماشية الصغيرة أثناء الترحال الطويل الأمد ، ولذا يتركون الأغنام عند رعاة الغنم من أبناء الأفخاذ الأخرى أو القبائل الغريبة بغية رعيها . وفي هذه الحالة كان الاستغلال أكثر وضوحا وغيره مموه بالشكال العشائرية . وإذا لم تتمكن عوائل الوجهاء من رعاية قطعان إبلها فهي تستخدم الرقيق أو أبناء القبائل الأخرى ، ونادرا ماتستخدم أبناء قبيلتها .
وتحولت الأتاوات الخاصة بالصرف على كرم الضيافة إلى واحد من أساليب استغلال البدو من قبل الوجهاء . وقال بوركهاردت : (عندما يأتي الضيوف ويتعين نحر كبش من أجلهم فإن الأعراب يحضرون هذا الكبش عادة إلى خيمة الشيخ . وفي بعض القبائل لايسمح الأعراب بإن ينحر شيخهم كبشه ، ولذا يزودون خيمته باللحوم حسب الدور) . ولما كان للشيخ (مضطرا إلى استقبال الضيوف كثيرا جدا فهو يأخذ جملا أو خروفا من هذا أو ذاك ، والناس يقدمونها له بطيبة خاطة ، وذلك لأنهم لايندر أن يأكلوا لحمها عنده بعد الضيوف) . بهذه الصورة أوضحوا للرحالة موسيل طبيعة هذه الأتاوات حتى في مطلع القرن العشرين . وكانت القبيلة تساعد الشيخ في اقتناء حصان . وعندما يتناقض قطيعه بسبب غزوات النهب يحاول أبناء القبيلة التعويض عن كل خسائره . وفي الحالات المماثلة لايعوضون للبدوي العادي إلا عن جزء من خسائره كما يقول بوركهاردت . ويستلم الشيوخ والعراف في القبائل مكافأة على الفصل في النزاعات الفضائية .
وفي بعض الأحيان يقع البدو البسطاء في تبعية شخصية بقدر ما للوجهاء . وساعد على ذلك نظام التجاء البدو إلى شيخ قوي من قبيلتهم أو من غير قبيلتهم (الدخلة) من أجل حمايتهم . وكانت تلتف حول هذا الشيخ (عوائل صغيرة لاتقوى بالقدر الكافي على الحياة المستقلة ، بل هي بحاجة إلى الحماية والتحالف) . وكانت الوصاية من أشكال التبعية الأكثر تطورا . فالفقراء على نطاق واسع لجوء جماعات بكاملها إلى وصاية الشيوخ طلبا للحماية . فالأشخاص الذين يخشون الثأر من جانب أهل القتيل يسعون إلى الحصول على حماية الوجهاء من قبيلة أخرى . وعلى البدو أن يتحملوا مقابل ذلك بعض الواجبات ، ومنها واجبات اقتصادية . وإن الحرية الشخصية لمثل هؤلاء الناس تكون مفيدة بعض الشيء .
ويدل على ضعف الأواصر العشائرية كذلك واقع أن المدين داخل القبيلة ملزم بأن يسدد الدين بنفسه إلى الدائن ، ولا أحد يساعده في ذلك ، خلافا لممارسة التعاضد وتسديد الدين لدائن غريب . ويتبادر إلى الذهن سؤال : هل وصل تحلل الأواصر العشائرية داخل قبائل البدو الرحل إلى درجة تجعلها تتحول إلى علاقات طبقية ؟ إن تحليل طابع ملكية أراضي المراعي والآبار يساعدنا في الجواب على هذا السؤال .
كتب كارل ماركس يقول : (إن الملكية العقارية تفترض احتكار أشخاص معينين للتصرف بقطع معينة من الأراضي بوصفها ميادين استثنائية لإرادتهم الشخصية خاضعة لهم وحدهم) . فهل كان شيخ قبيلة ما أو جماعة من الوجهاء يتمتعان بحق التصرف بالمراعي (بوصفها ميادين استثنائية لإرادتهما الشخصية خاضعة لهما وحدهما) مع أن أشكال الملكية في القرون الوسطى لم تكن ناجزة لاجدال فيها ؟ وهل يمكن ، والحال هذه ، الكلام عن ملكية شيخ ما أو جماعة من الوجهاء لقطع من أراضي المراعي ؟ وهل يعني ذلك أنهما ، مثلا ، يتمكنان من بيع مراعي القبيلة للغرباء ؟ أو تأجيرها والاستئثار بكل عائداتها ؟ وهل يستطيعان أن يستبدلاها بأخرى ، في الواحة مثلا ؟ والأمر الأهم هو هل يستطيعان أن يحرما أبناء قبيلتهما من حق الانتفاع بالمراعي ؟ في ظروف الجزيرة العربية قبل القرن العشرين لم تكن هذه التصرفات ممكنة ، أو أنها كانت تمثل حالات استثنائية نادرة وغير معروفة لدينا . كان حق الشيوخ والوجهاء في التصرف بالمراعي مقيدا ، على الأقل ، بانتمائهم إلى قبيلتهم ، أي أنهم كانوا ينتفعون بالأراضي المشاعية بسبب كونهم من أبناء تلك القبيلة ، وإن كانوا وجهاء وأثرياء يتمتعون بالامتيازات . وهذا طبعا يقيد حقهم في التصرف بالأراضي ويقيد إمكانيات الطريقة الإقطاعية في تسيير الاقتصاد ، كما يقلل من الاستغلال الإقطاعي داخل القبيلة .
وفي بعض القبائل المترحلة المنفردة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يمكن ملاحظة مجرد اتجاه نحو العلاقات الإقطاعية ، وليس شيوع تلك العلاقات . فإن تصفية الملكية المشاعية القبلية للمراعي في العربية السعودية لم تنجز ولم تكتمل حتى الآن . وتدل وقائع كثيرة على أن العائدات التي يستلمها الوجهاء في قبيلتهم لم تكن كبيرة ، وفي بعض الأحيان لاتسد النفقات المرتبطة بتقاليد التضامن والتعاضد العشائريين . وانتشرت عند قبائل البدو ، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على أية حال ، العلاقات العشائرية المستندة إلى الملكية المشاعية للمراعي ومنابع المياه وإلى أواصر القربى المتينة وإلى تقاليد التعاضد والتضامن . إن عملية تشديد استغلال البدو البسطاء من قبل الوجهاء ، وهو الاستغلال المستند إلى التفاوت في الأموال ، كانت جارية ولكنها لم تبلغ بعد مرحلة شق قبائل البدو الرحل وتقسيمها إلى طبقات .
ونعتقد أن السبب الرئيسي لذلك يكمن قبل كل شيء في ضعف تطور القوى المنتجة في الاقتصاد البدو وفي شحة معدل ومجموع المنتوج الفائض . وما كان بوسع وجهاء البدو أن يشددوا استغلال أبناء قبائلهم أكثر من الحد الأدنى المعين . إن بقاء فئة كبيرة بل وغالبة من البدو (المتوسطين) أو الفقراء الذين يمارسون شئوونا اقتصادية مستقلة في قبائل البدو لهو دليل قاطع على عدم وجود العلاقات الاستغلالية الناجزة هنا . ولايذكر الرحالة الأوروبيون شيءا عن بدو تعرضوا للاستغلال داخل القبائل المترحلة . ويفترض ذلك أن أغلبية البدو تمتلك ماشية خاصة بها وهي ترعاها في المراعي العامة .
ولكننا ، عندما نقيم طابع العلاقات الاجتماعية عند قبائل البدو الرحل ، لايجدر بنا أن نتناولها بمعزل عن مجتمع الجزيرة عموما ، وذلك لأن مثل هذا الأسلوب يشوه اللوحة الفعلية . فإن سكان الجزيرة العربية البدو الرحل وشبه الرحل والحضر كانوا يمثلون كيانا اجتماعيا مترابطا واحدا . وإن دراسة العلاقات المتبادلة بين مختلف جماعات السكان في الجزيرة العربية ، ودراسة الكثير من السمات الخاصة بالحياة في الجزيرة إنما تتميز باهمية خاصة وتقدم تحليلا للقبيلة اليدوية وللمجتمع كله .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الغزوات
كان البدو ، في ظل انعدام السلطة المركزية القوية ، يقومون بالغزوات دوما . وكانت الماشية عرضة للنهب في الغالب ، ويشمل النهب أدوات بيوت الشعر والأسلحة والألبسة والعبيد . وكانت سلع التجار تسلب منهم ، كما تسلب من الحضر مختلف المحاصيل والأدوات الزراعية . وكان هناك فارق بين الغزوات وبين الحرب الحقيقية بسبب المراعي والآبار . إلا أن هذين النوعين من العمليات الحربية كانا متشابكين دوما . كتب بوركهاردت يقول : (إن القبائل العربية في حالة حرب دائمة تقريبا فيما بينها ، ونادرا مايحدث أن تتمتع قبيلة ما بلحظة من السلام المشترك مع سائر جيرانها . إلا أن الحرب بين قبيلتين نادرا ماتستمر طويلا ، فالصلح يعقد بسهولة ، ولكنه يخرق لأتفه الأسباب . وإن أسلوب خوض الحرب هو أسلوب الأنصار ، فالمعارك الشاملة نادرة . والهدف الرئيسي لكلا الطرفين المتحاربين هو مباغتة العدو بهجوم غير متوقع ونهب مخيمه . ولذا فإن حروبهم لاتراق فيها الدماء عادة . ويهاجمون العدو ، عادة ، بقوات متفوقة عدديا فيتنازل لهم دون قتال . ثم إن عواقب الثأر الفظيعة تدرأ الكثير من النزاعات الدموية) .
وكتب فولني عن غزوات البدو يقول : (لما كان الأعرابي نهابا أكثر مما هو محارب فهو لايسعى إلى إراقة الدماء . إنه يهاجم فقط من أجل النهب والسلب ، وإذا قوبل بمقاومة فهو يعتقد بأن الغنيمة الزهيدة لاتستحق المجازفة بحياته . وبغية إثارة غضبه لابد من نحاولة إراقة دمه ، وعند ذاك يكون مصرا على الثأر والاتنتقام بقدر ما كان حذرا يتحاشى بالمخاطر . غالبا مايلومون الأعراب على ميلهم إلى النهب والسلب ، ولكن اللائمين الذين لايريدون تبرير هذا الميل لم يلتفتوا بالقدر الكافي إلى أن الميل إلى النهب والسلب موجه ضد الغريب الذي يعتبره العراب عدوا ، ولذا يستند هذا الميل إلى أعراف أغلبية الشعوب) .
كان الغزو يعتبر عملا نبيلا جدا ، وكانت الرغبة في النهب تثير دوما حماس البدو . وكانت المشاركة في الغزوات طوعية ، ولكن المحاربين في الواقع ، وخصوصا الشبان ، ماكان بوسعهم رفضها . فالامتناع عنها ينطوي على خطر الاتهام بالجبن وتضييع الاحترام لدى الأقارب وأبناء القبيلة . وكتب نيبور : (يقال أن الفتى لايستطيع أن يتزوج ما لم يجترح عدة مآثر) . وكانت أسماء أبرز المشاركين في الغزوات تتناقلها الألسن ويتغنى بها الشعراء . وحتى في القرن العشرين يعدد المؤلفون أسماء الأبطال الأماجد في الفروسية البدوية . وبنتيجة الغزوات يستطيع البدوي الفقير بعد غارة موفقة واحدة أن يصلح أحواله المالية بل ويمكن أن يغدو موسرا . ومما لاشد فيه أن الغزوات كانت واحدا من أسباب بقاء فئة البدو الرحل المستقلين .
وكانت الغزوات مصدرا لإثراء وجهاء القبائل . فإليهم يرد أكبر وأفضل جزء من الغنائم . وتزعم الغزوات الشيوخ أو العقداء . و(تفرد) للشيخ حصة حتى إذا لم يشارك في الغزوات . وليس من قبيل الصدفة أن غنائم الغزوات تعتبر من أهم مداخيل وجهاء البدو . بديهي أن السلب والنهب المتواصلين في الجزيرة العربية قد ألحقا ضررا بالاقتصاد والقوى المنتجة . ويصادف أن الغزوات لاتمر دون إراقة دماء ، بل وتؤدي إلى حروب إبادة قاسية . وبنتيجة المداهمات يمكن أن تهلك أو تنقرض أفخاذ وقبائل عن بكرة أبيها . ويقول فولني (في بعض الأحيان ترتقي قبيلة ضعيفة ، وينتشر نفوذها ، بينما يصيب الركود ، وحتى الإبادة ، قبيلة أخرى كانت قوية فيما سبق) . ولاحظ جوسان مثل هذه الظاهرة بعد أكثر من مائة عام : (يمكن للقبيلة أن تختفي من البلاد بأساليب عديدة ، وفي مقدمتها النزوح بسبب النزاعات الكبيرة أو المجاعة المتواصلة في المنطقة ... والسبب الآخر الأكثر انتشارا لإبادة هذه القبائل يكمن في الحروب والغزوات الدائمة . فيكفي يوم منحوس واحد لإبادة قبيلة بكاملها : الرجال جثث في ساحة القتال والنساء يتوزعن على القبائل القوية فيما مضى ، وتفقد أبناءها وماشيتها ومراعيها وتخضع لقبائل أخرى وتندمج معها أحيانا .
ولكن هل هناك سنة معينة في انتصارات وهزائم القبائل ؟ كانت القوات المقاتلة لمختلف القبائل والأفخاذ غالبا ماتتوقف علىطابع أعمالها الاقتصادية ، وليس فقط على بسالة المقاتلين وموهبة القائد وشجاعته . فإن رعاة الإبل بالذات ، أي البدو الرحل الحقيقيين ، هم الذين كانوا يمتلكون أكبر قدرة حربية . فالإبل تمكنهم من التنقل بسرعة ولمسافات طويلة في البوادي الخالية من المياه ، وتحشيد القوات وتسديد الضربات المباغتة ، والتخلص ، عند الاقتضاء ، من الملاحقة واللجوء إلى البادية التي لايطالها العدو . وكان رعاة الإبل قد قاموا با:ثر الغزوات توفيقا وغالبا ماكانوا يخرجون من المعارك الكبرى ظافرين ، ولا أحد ينافسهم إلا أمثالهم من رعاة الإبل . إن القبائل والأفخاذ من رعاة الإبل هي بالذات الرابحة في الميزان العام للخسائر والغنائم بعد الغزوات ، أما رعاة الغنم شبه الرحل فكانوا الخاسرين . وفي سوح القتال المكشوفة كان الحضر أيضا يهابون البدو الحقيقيين في الغالب . فإن سلامة روابطهم التجارية وماشيتهم التي ترعى في السهوب أو أشباه البوادي ، وسلامة مزارعهم وبساتين نخيلهم غير المحمية بأسوار كانت تتوقف على العلاقات المتبادلة مع البدو . وكانت قبائل البدو القوية من رعاة الإبل تفرض الأتاوات على القبائل الأضعف ، وخصوصا رعاة الغنم والحضر . وكانت الغزوات واحدة من طرق الإكراه وتبعية الجزية والخراج وأحيانا تبعية الخدم والحشم .
الخوة والخاوة
كانت الخوة التي يدفعها السكان الحضر وشبه الرحل إلى البدو ترتدي منذ القدم لبوسا عشائريا وكأنها مكافأة على الحماية والوصاية . ولذلك اشتق اسمها من لفظ الأخوة . كتب بوركهاردت يقول : (تدفع الخوة عادة إلى الشيخ أو أحد أبناء القبيلة الذين يتمتعون باحترام كبير . وحالما تتفق الجماعة مع أعرابي ما بشأن الخوة يطالب هذا الأخير فورا بجزء من المبلغ السنوي المتفق عليه ، ويشتري به بعض الاحتياطيات ويتقاسمها مع أصدقائه لكي يكونوا ، بعد تناول جزء من الخوة ، شهود عيان على الاتفاق) .
ويقول فالين أن الخوة تدفع ليس فقط إلى حامي دافعيها (شيخ المشايخ ، بل وكذلك إلى كل شخص متنفذ في مختلف الأفخاذ) . ويستقر قسم كبير من الخوة في جيوب وجهاء القبيلة ، ومع ذلك فإن حصة منها تبقى عند أبناء القبيلة البسطاء . وكان الحضر والبدو شبه الرحل يدفعون الخوة إلى عدة قبائل يدوية في وقت معا ، علما بأن هذه القبائل تجمع الخوة بدورها من مختلف الواحات وقبائل رعاة الغنم . وفي بعض الأحيان يقوم البدو شبه الرحل الذين يدفعون الخوة لمن هو أقوى منهم بجباية الجزية من القبائل أو الواحات الأضعف . وخلق ذلك كله أشكالا معقدة من التبعية ولكن جوهر القضية لم يتغير ، وهو ابتزاز قسم كبير من المنتوج الفائض ، وأحيانا قسم من المنتوج الضروري ، من الحضر والبدو شبه الرحل إلى البدو الأكثر جبروتا . وكانت الخوة مصدرا لعائدات كبيرة على وجهاء البدو الرحل وسائر البدو . وكانت قبائل البدو تتنازع على حق جباية الخوة . وأثناء تلك المنازعات يهلك دافعوا الخوة أيضا . ولم يكن بالإمكان التخلص من نير جباة الخوة إلا بالمقاومة المسلحة .
وتتحول علاقات الخوة أحيانا إلى علاقات تبعية الخدم والحشرم ، وعند ذاك تشارك القبائل الخاضعة في الغزوات الحربية لأسيادها ، أي أنها تدفع جزية الدم . ويقدم الشيخ التابع آيات التكريم الظاهري للشيخ المتبوع . وكانت تبعية بعض القبائل قد بلغت حدا جعل ديكسون ، مثلا ، ينعت قبيلة الرشايدة (بالأقنان) لقبيلة مطير ، وينعت قبيلة العوازم (بالخدم) لقبيلة العجمان . صحيح أن هذا القول يخص القرن العشرين ، ولكن مثل هذه العلاقات كانت ، على مايبدو ، موجودة سابقا أيضا . وكان البدو قد فرضوا رسوما على قوافل التجار والحجاج وأطلقوا على هذه الرسوم كلمة من نفس الأصل (خاوة) . وقد وردت عند ابن خلدون أيضا . وجمع ثروة كبيرة خصوصا وجهاء القبائل المسيطرة على طرق الحج .
وكان الباب العالي يدفع إلى البدو مبالغ كبيرة لقاء مرور قوافل الحجاج العثمانيين إلى مكة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . وقدر بوركهاردت تلك المبالغ في بداية القرن التاسع عشر بـ 50-60 ألف جنيه استرليني سنويا . وفي عام 1756 تلكأ والي دمشق العثماني في دفع النقود بل وأعدم شيوخ البدو الذين جاءوا لاستلام المبالغ المقررة ، ولكن قبائل البدو توحدت بعد عامين وسحقت حرس الحجاج ونهبت القافلة وأرغمت السلطات العثمانية من جديد على دفع هذه الضريبة . وكان وجهاء البدو يستلمون كذلك مدفوعات تحددها الأعراف (حماية) الصناع والباعة المتجولين .
القبائل (الوضيعة): العبيد والمعتوقين
ومن بين دافعي الجزية لقبائل البدو القوية كذلك مايسمون بالقبائل الوضيعة في الجزيرة العربية : الصلبة وهتيم والشرارات وفروعها . فبنتيجة التطور التاريخي الخاص غدت هذه القبائل مجزأة إلى عدة أفخاذ هائمة في شبه الجزيرة كلها بشكل جماعات غير كبيرة وليس لها أرض خاصة بها ، الأمر الذي كان سببا في ضعفها . وكان أغلبها يترحل في أراضي الغير مع أصحاب تلك الأراضي . وكتب بوركهاردت يقول : (بين القبائل الكثيرة جدا التي تقطن بوادي الجزيرة لا توجد قبيلة أكثر تشتتا وتواجدا في جميع أرجاء هذا البلد من قبيلة هتيم . فيمكن للمرء أن يصادف خيام هذه القبيلة في سوريا وفي صعيد مصر والدلتا ونجد وبلاد الرافدين ... وفي كل مكان تقريبا نجدها مضطرة إلى دفع الأتاوات للقبائل المجاورة لقاء وعي الماشية) . وكانت واسطة النقل الرئيسية عند الصلبة هي الحمير وليس الإبل . ولم يكن الرعى عادة باقدر على إطعام هذه القبيلة ، ولذا اضطرت إلى ممارسة نشاط يعتبر مهينا في مجتمع الجزيرة ، مثل بعض الصنائع . وصار البعض موسيقيين محترفين وراقصين ومطببين . وخدموا عند الوجهاء في هذه المهن . وكانوا يتكهنون باحتمالات الطقس ويشيرون إلى مواقع المراعي الأفضل ويلتقون الهبات في مقابل ذلك .
وغدا أفراد القبائل (الوضيعة) مادة للاستغلال والابتزاز بلا رحمة من قبل البدو الأقوياء . وأورد دوتي مثالا فقال : (وصل عدد من أبناء عنزة إلى الواحة وهم يقتادون في الدرب شخصا عاريا يثير الشفقة والحبل في عنقه . كان ذلك من أبناء هتيم . وكان البدو يصرخون كالسعوديين متهمين إياه بتأخير تسديد الخوة وقدرها عشرة ريالات . اقتادوه لكي يروا ما إذا كان هناك شخص في خبير يدفع الخوة بدلا عنه كما وعدهم ، وإذا لم يجدوا ذلك الشخص فسيسحبون هذا المسكين إلى خارج المدينة ويقتلونه) . إن هذه الواقعة وحدها تبين مدى الهوة العميقة التي تفصل بين البدو الأحرار وبين ألإراد القبائل (الوضيعة) ، ومدى قساو أشكال استغلال البعض للبعض الآخر .
وقد ظلت العبودية (الرقيق) في الجزيرة العربية قائمة طوال قرون . وكان العبيد ينقلون إلى شبه الجزيرة في الغالب من شرق ووسط أفريقيا . كانت هناك حملات خاصة لتجارة العبيد تستولي عليهم أو تشتريهم خصيصا ، كما أن بعض الحجاج كانوا يبيعونهم بغية تغطية نفقاتهم على زيارة الحرمين . كانت تجارة العبيد متركزة في مكة على الأغلب ، ولكنها كانت تجري أيضا في مدن أخرى مثل الهفوف ومسقط . ويبدو أن عدة آلاف من العبيد كانت ترد إلى الجزيرة ومسقط . ويبدو أن عدة آلاف من العبيد كانت ترد إلى الجزيرة سنويا . وفي حالات استثنائية كان الأعراب يتحولون إلى عبيد .
كان أكبر عدد من العبيد متواجدا في مركز تجارة العبيد – الحجاز ، حيث كانت كل أسرة مستقلة بهذا القدر أو ذاك تسعى إلى شراء الرقيق . وخارج الحجاز كانت العوائل الغنية فقط تمتلك عبيدا . كتب بلغريف : (صادفنا أحيانا في الجزيرة العربية زنوجا ، في الجوف وجبل شمر والقصيم وسدير . ولكننا رأيناهم فقط يزدون أدوارا العبيد ، ونادرا ماصادفناهم في منازل غير منازل أكثر الناس ثروة) . ويقول الرحالة أن عدد الزنوج والمولدين في جنوب نجد كان في ازدياد ، وكانوا في بعض الواحات يشكلون أغلببية السكان . (في الرياض كثير من الزنوج ، وعددهم أكثر في منفوحة والسلمية وغالبا مانصادفهم في الخرج ووادي الدواسر وأ"رافهما) . وكان وجهاء البدو يمتلكون العبيد أيضا . كتب بوركهاردت عن عنزة يقول : (كل شيخ قوي يقتني سنويا خمسة أو ستة عبيد وعددا من الاماء ...) . وكانت الحال كذلك في القبائل البدوية الأخرى .
كانا لعبيد يزدون أصعب وأقذر الأعمال . كانوا في القبائل المترحلة يرعون الماشية وينقلون الماء وينصبون الخيام ويرفعونها ويجمعون الأحطاب والوقود . وكان عمل العبيد يستخدم كذلك في الزراعة والصنائع ، ولكن بقدر محدود جدا ... فإن الميدان الأساسي لاستخدامه هو الشئون المنزلية حيث يزدي العبيد واجبات الخدم والحراس ومديري المنزل .
وووتجدر الإشارة إلى بعض الخصائص الجوهرية لأوضاع العبيد في الجزيرة العربية . فالعبودية هنا كانت تتميز بطابع عشائري . وهذا هو السبب في المعاملة الطيبة نسبيا للعبيد . فالعبيد وخصوصا المولدون كأنما يغدون أفرادا غير كاملي الحقوق في عائلة سيدهم . وفي بعض الأحيان يغدون ورثة لأملاك سيدهم . وكانت الاماء ، عند وجهاء المدن خصوصا ، تستخدم كجوار ويغدو أبناؤهن أحرارا عادة ، ويصبحن هن حرائز بعد وفاة أسيادهم . كان العبيد محرومين ومهانين من الناحية الاجتماعية ، ولكنهم من الناحية الاقتصادية يعيشون بأفضل من البدو الرحل أو الفلاحين شبه الجياع . فقد كانوا يتمتعون بقسم من عائدات الوجهاء . وكان الكثيرون من العبيد في الجزيرة قد حصلوا على الحرية وأصبحوا معتوقين ولكنهم ظلوا يسمون بالعبيد أيضا . ولم يكن ذلك يشمل الجواري وأبناءهن فقط . إن عدد العبيد (الموروثين) لم يكن كبيرا في الجزيرة العربية .
كانت عملية عتق العبيد في القبائل البدوية أشد مما عند الحضر . فبعد مضي فترة معينة كان البدو دوما يمنحون الحرية للعبيد ويزوجونهم من نساء من بشرتهم . وقال بوركهاردت : (ابناء عنزة لايعاشرون الاماء أبدا ، ولكنهم بعد بضع سنوات من الخدمة يمنحونهن الحرية ويزوجوهن من العبيد أو أبناء العبيد المتبقين في القبيلة) . وكان المعتوقون يمارسون البيع والشراء والصنائع ويعملون خدما في منازل الأثرياء . كان تحرير العبيد في ظروف الجزيرة العربية يتسم كذلك بمغزى آخر . فإن أحد شيوخ عنزة مثلا (يمتلك أكثر من خمسين عائلة من أناس كانوا في زمن ما عبيدا له ، وهم مدينون لسخاء هذا الشيخ بكل مايملكون . ولايحق له الآن أن يستحصل منهم الجزية السنوية ، لأنهم صاروا يعتبرون من الأعراب الأحرار ، ولكنه يزوج بناتهم من عبيده الجدد ومن المعتوقين ، وعندما يستولي ذرو البشرة السوداء هؤلاء على غنائم كبيرة أثناء الحروب بوسع الشيخ أن يأخذ منهم ناقة جيدة ، وهم لايرفضون ذلك أبدا) . وقد توحد بعض المعتوقين حسب السمة القبلية الشكلية ، إلا أن منزلة هذه القبائل الجديدة أوطأ من منزلة قبائل الأعراب الأقحاح . وكان المعتوقون في تبعية مالية وشخصية لوجهاء البدو .
كان السواد الأعظم من المعتوقين يمارس الزراعة . كانوا محرومون من الأراضي ، ولذلك صاروا يستأجرونها بالمحاصة من وجهاء الحضر والبدو في الغالب (وأحيانا من قبائل البدو الرحل بكاملها) . وكان المستأجرون المعتوقون يتعرضون لاستغلال بشع . يقول فالين : (إنهم نادرا مايبلغون الثروة والرفاه) . وظلت باقية كذلك تبعية المستأجرين المعتوقين الشخصية بقدر كبير لمالكي العبيد السابقين . وبالإضافة إلى ذلك كان على المعتوق ، في عدة حالات ، أن يعيد إلى سيده ، قبل مغادرته ، الأموال التي استلمها أثناء التحرير ، الأمر الذي لم يكن ممكنا على الدوام . وكان المستأجرون المعتوقون يرتبطون بالأرض بقدر ما ، فضلا عن الريع الإقطاعي الذي يسددونه . ولذلك فإن أحوالهم أقرب إلى أحوال الأقنان مما إلى أحوال سائر فئات سكان الجزيرة .
كان استغلالهم من قبل وجهاء الحضر نوعا خاصا من الاستغلال الإقطاعي للأعراب المحاصين . وكانت عائدات الأراضي التي يفلحها المعتوقون واحدا من أهم مصادر الدخل الخارجية (خارج القبيلة) لوجهاء البدو.
تنظيم السلطة وطابعها في القبائل البدوية
إذا كانت تسود بين الوجهاء وبسطاء البدو داخل القبيلة المترحلة علاقات لم تصبح طبقية بعد ، فإن وجهاء البدو خارج القبيلة صاروا استغلاليين طبقيين . فهم يستلمون حصة الأسد من المداخيل بشكل جزء من غنائم الغزوات وخوة وجزية من الحضر واشباه البدو والقبائل (الوضيعة) والصناع والباعة والحجاج وريع إقطاعي من الأراضي السيحية المقدمة على سبيل الإيجار . كان وجهاء البدو ، كما أسلفنا ، يستلمون من أبناء قبائلهم قسما ضئيلا من المنتوج الفائض لعملهم . إلا أن الزراعة أمنت إنتاجية أعلى وساعدت على استغلال الفلاحين بقدر أكبر . زد على ذلك أن الوجهاء كانوا يسمحون لأنفسهم ، خارج القبيلة ، بأن يستأثروا بشكل جزية ، ليس فقط بالمنتوج الفائض ، بل وبقسم من المنتوج الضروري فيحكمون على دافعي الجزية بالحرمان والجوع.
إن المداخيل الخارجية الواردة على القبيلة تغني الوجهاء وتشدد التفاوت في الأموال . إلا أن قسما من هذه المداخيل يصل إلى أبناء القبيلة البسطاء ، الأمر الذي ساعد على بقاء فئة البدو المستقلين وطمس التفاوت . إن الطابع المزدوج لوجهاء القبائل بوصفهم من أبناء القبيلة الأكثر ثراءا وجاها وبوصفهم مستغلين للسكان خارج قبيلتهم قد حدد خاصية السلطة السياسية عند البدو الرحل وفي مجتمع الجزيرة عموما .
فقد كان الشيخ داخ لالقبيلة بالدرجة الأولى رئيسا عشائريا للجماعة ومتصرفا بالنشاط الاقتصادي . كان يتزعم الرحلات الأساسية للقبيلة ويشرف على توزيع المراعي والآبار ويختار مكان نصب المخيم ومدة المكوث فيه . وكان بوسع الشيخ أن يضطلع بدور القاضي أو الحكم في انزاعات التي تنشأ داخل القبيلة واختلاف الآراء والشكاوي في مسائل الأسرة والزواج والمعيشة ، وكان يتابع الالتزام بالعادات القبلية وخصوصا المرتبطة بأخذ النار ويراقب استعادة الأموال المسروقة وكان يمثل القبيلة في العلاقات مع العالم الخارجي . وبوسع الشيخ أن يغدو قائدا في الحرب وأن يعلن الحرب ويعقد الصلح .
وكان الشيخ يتخذ أهم القرارات بعد التشاور مع وجهاء القلبيلة أو مجلسها الذي احتفظ بسمات التنظيم الديمقراطي للمجتمع العشائري . ويقول الرحالة الإنجليزي دوتي : في المجلس (يتكلم من يشاء ، ويرتفع هنا صوت أبسط أبناء القبيلة لأنه من أبنائها) . ولايستطيع الشيخ أن يعلن الحرب أو يعقد الصلح بدون تشاور مبدئي مع أبناء القبيلة المسموعي الكلمة . وإذا أراد أن ينصب مخيما فعليه أن يستطلع آراءهم .
ويقول دوتي أن المجلس كذلك (شوري للشيوخ ومحكمة اجتماعية ، ويراجعه أبناء القبيلة في أي وقت للنظر في شئونهم ... ويتشاور الشيخ مع الشيوخ الآخرين والوجهاء والأشخاص الأرفع منزلة . ويصدر القرار دوما دون تحيز ودون أي ارتشاء . وهو قرار نهائي) . وبالإضافة إلى ذلك يمارس العراف النظر في الدعاوي القضائية . وإذا اعترض المحكوم عليه بالغرامة المالية على القرار يضطر إلى ترك القبيلة .
ويتجلى الطابع العسكري الديمقراطي للتنظيم القبلي في تقسيم السلطة في الفخذ والقبيلة في عدة حالات إلى سلطة (مدنية) (الشيخ) و (عسكرية) (العقيد) . ويقول بوركهاردت : (لكل قبيلة عقيد ، إضافة إلى الشيخ ، ويندر أن يتسنم شخص واحد كلا هذين المنصبين . فأنا ، على أية حال ، لاأعرف مثالا على ذلك ، مع أن بعض الأعراب يقولون أنهم رأوا شيخا كان بين أعراب منطقة البصرة عقيدا أيضا ... وإذا شارك الشيخ في الحملة فهو يخضع ، كسائر أبناء القبيلة ، للعقيد الذي لاتنتهي صلاحياته إلا عندما يعود المحاربون إلى ديارهم . وعند ذاك يعود الشيخ إلى منصبه) .
ويفيد مؤرخو الجزيرة والمعلومات الأحدث بان توافق سلطة الشيخ والعقيد كان ظاهرة أكثر حدوثا مما يعتقد بوركهاردت . ويمكن أن يغدو عقيدا ابن الشيخ أو أحد أقربائه . ولا يندر أن يرتبط أواصر القربى بين عائلتي الشيخ والعقيد .
ولم تكن لدى زعيم القبيلة ، عادة ، شارات ظاهرية للسلطة ولم يكن يلتزم بمراسيم خاصة في معاملة أبناء قبيلته . فالبدو البسطاء يتعاملون معه كما لو كان في منزلتهم .
وفي حالة وفاة أو عجز الشيخ يختارون شخصا آخر بدلا عنه . ومن السجايا التي يجب توفرها في زعيم القبيلة السخاء والشجاعة والذكاء والحكمة والثروة (الماشية والأرض) . ويبج أن يكون له أنصار كثيرون من الأقارب والخدم . وإليكم ما كتبه فولني عن شيخ قبيلة بدوية : (حقا ، فإن شيخ المشايخ في كل قبيلة يضطلع بواجب الأنفاق على القادمين والذاهبين . وهو الذي يستقبل الحلفاء وكل من أيتي إليه في حاجة ما . وقرب خيمته ينصب بيت شعر كبير هو ملجأ لكل الغرباء والقادمين . وهنا بالذات تعقد الاجتماعات الكثيرة للشيوخ والوجهاء لانتقاء مواقف المخيمات أو لشد الرحال ، وللنظر في مسائل الحرب والصلح والمنازعات مع الولاة العثمانيين أو القرى وللنظر في الشكاوي والنزاعات بين الأفراد ويجب إطعام جميع هؤلاء الأشخاص الذين لاينقطع سيلهم بالرغيف المخبوز على الرماد وبالرز ولحم الماعز أو الجمال المشوي أحيانا والقهوة – وباختصار يتعين على الشيخ أن يتحلى بكرم الضيافة) . وفي أغب الأحوال يظل لقب الشيخ محصورا في عائلة واحدة من الأعيان والوجهاء طوال عقود وأحيانا طوال قرون . ويؤكد دوتي : (لايستطيع أن يكون زعيما لعشيرة البدو أي بدوي بسيط أو أي شخص من غير تلك العشيرة وإن كان يتفوق على الجميع من حيث الثروة والجاه والمواهب) .
وغالبا ما تنتقل السلطة من الأب إلى الإبن ، ولكنه في حالة عدم توفر الخصال اللازمة عند المرشح للسلطة تحال إلى شخص آخر من الوجهاء . وتلك هي أيضا حال سلطة العقيد ، وكان الشيخ والعقيد يتنافسان في القبيلة ، وفي بعض الأحيان كان العقداء يستولون على منصب الزعيم المدني . ويجري داخل الفئة الحاكمة في القبيلة صراع طاحن من أجل السلطة ، وترافق ذلك دسائس وقتل وانشقاق في القبيلة . وكان من بين الوجهاء الحاكمين أيضا عراف العادات والتقاليد في القبيلة . إن تركز أهم المناصب الاجتماعية في القبيلة البدوية بأيدي كبار الوجهاء يدل على أن السلطة أخذت تفقد سماتها العشائرية . ولكن هل كانت لدى الشيخ مستلزمات السلطة الطبقية ؟ وبعبارة أخرى ، هل كانت وظائفه العشائرية الخراجية تكتسب مضمونا آخر ؟ نعم ، بقدر معين . فمما لاشك فيه أن الشيخ يخدم بالدرجة الأولى مصالح وجهاء البدو . فالوجهاء يستلمون بمساعدته أفضل المراعي وأفضل موارد المايه وحصة كبيرة من غنائم الحرب . وكان الشيخ لايكتفي ، لكي يفرض إرادته ، باستخدام السخاء والمنزلة الشخصية الرفيعة ، بل يعتمد كذلك على قوة الفخذ الفقير وعلى الأنصار وعلى مفرزته المكونه من العبيد والمعتوقين . ولكنه رغم الاتجاهات الواضحة نحو تحول سلطة الشيوخ داخل القبيلة إلى سلطة من النمط الإقطاعي ، فإنها ، على مانعتقد ، لم تتحول بعد إلى سلطة إقطاعية في تلك الحقبة .
وبغية إيضاح هذه المسألة يجدر بنا أن نتأكد مما إذا كان لدى وجهاء البدو جهاز خاص يتواجد فوق المجتمع وما إذا كانوا يستطيعون استخدام العنف بانتظام لفرض إرادتهم . يقول فولني : (إن نمط إدارة هذا المجتمع خليط ، فهو في الوقت ذاته جمهوري واستقراري وحتى طغياني دون ان يكون دقيقا في أية صفة من هذه الصفات . فهو جمهوري لأن الشعب في هذا المجتمع يتمتع بالنفوذ الأول في كل الشئون ، ولايجري أي شيء بدون موافقة الأغلبية . وهو أرستقراطي لأن عوائل الشيوخ تتمتع بطائفة من الامتيازات الناجمة عن القوة في كل مكان . وأخيرا فهو طغياني لأن سلطة شيخ المشايخ غير محدودة ومطلقة تقريبا . وعندما تكون طباع الشيخ شديدة فيمكن أن يستفيد من سلطته إلى حد سوء التصرف ، ولكن هناك حدودا ضيقة تسبيا حتى لسوء التصرف هذا . حقا ، فإذا اقترف الشيخ ظلما كبيرا ، إذا قتل أعرابيا مثلا ، فلا يستطيع تقريبا أن يتماشى العقاب ، فإن غضب الذين أهانهم لايجعلهم يعيرون اهتماما للقبة ، ولذا يتعرض للثأر ، وإذا لم يدفع لقاء الدم الذي أراقه فسيقتل من كل بد ... وإذا أثقل على رعيته بقساوته فإنهم يتركونه وينتقلون إلى قبيلة أخرى . ويستفيد أقرباؤه من أخطائه بغية تنحيته والحلول محله . ولايستطيع استخدام قوات أجنبية ضدهم . وإن رعيته يتفاهمون فيما بينهم بسهولة لاتمكنه من التفرقة بينهم وتشكيل كتلة كبيرة مؤيدة له . ثم كيف يستطيع شراء ذمم هذه الكتلة إذا كان لايستلم من القبيلة أية ضرائب عندما يضطر القسم الأكبر من رعيته إلى الاكتفاء بالضروريات وإذا كانت ملكيته ضئيلة ومثقلة بنفقات كبيرة ؟) .
ولاحظ بوركهاردت (أن الشيخ ليست لديه سلطة فعلية على أبناء قبيلته . ولكنه يستطيع أن يحظى بنفوذ واسع عن طريق خصاله الشخصية . وهو لايتمكن من إصدار الأوامر ولكنه يقدم النصائح ... وإذا حدث خلاف بين اثنين من أبناء القبيلة فالشيخ يحاول تسويته بالنصح والإرشاد ، وليس بوسعه أن يصر على رأيه . ولايتمكن أقوى زعيم لقبيلة عنزة من فرض أبسط عقوبة على واحد من أكثر أبناء قبيلته فقرا دون أن يجازف بالتعرض للثأر من قبل هذا الشخص وأقربائه . والعقوبة الوحيدة المعروفة في هذه القبيلة هي الغرامة المالية ...) .
كان جهاز العنق الطبقي عند البدوالرحلفي طول الظهور . ولم تكن مقوماته الأساسية – الجيش والشرطة والسجون والآلة الإدارية والمحاكم الطبقية – موجودة عمليا في القبيلة . وإن المفرزة الشخصية للشيخ والمكونة من العبيد يواجهها التنظيم العسكري الديمقراطي للقبيلة ، وهو تنظيم أقوى منها بكثير والحالات التي تعرفها لاستخدام العنف داخل القبيلة تعود إلى مطلع القرن العشرين ، مع أنها يمكن أن تحدث أيضا في وقت أسبق . وفي ظل البنية التي كانت قائمة في مجتمع الجزيرة عموما لم تكن لوجهاء البدو الرحل موضوعيا مصلحة في تحطيم التنظيم العشائري واستبداله بنوع من أنواع آلة الدولة . فبالاعتماد على القدرة الحربية للقبيلة وعلى لتنظيم القبلي فقط كان وجهاء البدو يمارسون سيطرتهم الطبقية على مجاميع السكان المتواجدين خارج القبيلة.
الطابع الإقطاعي للسلطة في الواحات
لاحظت الباحثة والرحالة الإنجليزية بلانت الطابع المزدوج للسلطة البدوية . وكتبت بلانت تقول : (المدن تطلب حماية شيخ مشايخ البدو في المنطقة ، وهو يؤمن ، لقاء جزية سنوية ، سلامة سكان المدن خارج أسوارها فيمكنهم من الترحال دون عائق على طول المسافة التي تشملها سلطته ، وهي ، إذا كنا نقصد شيخ قبيلة قوية ، سلطة تشمل مئات الأميال ومدنا كثيرا . وعند ذاك يقال أن المدن (عائدة) لهذه القبيلة أو تلك . ويغدو الشيخ البدوي وصيا عليها أو حاميها الرئيسي ... لم يستمر التطور . فالشيخ البدوي الذي يثرى على حساب الجزية من عدة مدنه يبني لنفسه قلعة قرب إحدى تلك المدن ويقضي أشهر الصيف فيها . ثم يغدو بسرعة حاكما للمدينة في الواقع بفضل مكانته (لأن أصله البدوي لايزال يعتبر الأنقى) وبالاعتماد على سيطرته في البادية ، يتحول الشيخ من (وصي على سكان المدينة إلى سيد لهم . وعند ذاك يمنحونه لقب الأمير ، فيغدو ملكا لجميع المدن التي تدفع له الجزية مع بقائه شيخا للبدو . (التشديد للمؤلف) .
ومن جهة أخرى فإن الرأي العام في المدينة يفيد الأمير البدو بقدر أكبر ، مع أنه يمكن أن يكون طاغية ... فالأمير وإن كان حرا في تصرفاته الفردية ولكنه يعرف جيدا بأنه لايمكن أن يخرق قانون الجزيرة التقليدي غير المدون ويبقى بدون عقاب) .
كانت عملية تحول وجهاء البدو إلى طبقة مسيطرة على الحضر في الجزيرة العربية قد جرت بالتدريج . علما بأنه يمكن أن نلاحظ الأشكال المتنوعة في العلاقات المتبادلة بين الوجهاء وبين القبيلة والسكان الحضر ونمط الحياة المتباين والسلوك المختلف في الحياة المعيشية . فإن شيوخ القبائل الأقوياء أو شيوخ اتحادات القبائل كان بوسعهم أن يفرضوا السيطرة على الواحات أو على مجموعة منها . ولكن وجهاء القبائل يصادف أن يحافظوا على نمط الحياة البدوي ويظلوا شيوخا بدويين في الغالب . والمثال على ذلك هو أبناء آل حميد من قبيلة بني خالد الذين سيطروا في القرنين السابع عشر والثامن عشر على منطقة الإحساء الزراعية الغنية ، ولكنهم فضلوا ، مثل الأمويين الأوائل ، البقاء في قبيلتهم المترحلة . ولم يكن ذلك يمنعهم من الاحتفاظ بحاميات في الواحات الأساسية .
وبعد الاستيلاء على السلطة في الواحات كان أبناء وجهاء البدو ينفصلون عن قبائلهم ويتحولون إلى حكام إقطاعيين حضرا . علما بأن مطامعهم الاستغلالية إزاء سكانهم الزراعيين كانت تتعارض مع مصالح البدو الذين يشاركونهم في استلام الأتاوات . وبعد أن يتحول شيوخ البدو السابقون إلى قسم من وجهاء الحضر يقومون بالدفاع عن ممتلكاتهم ومداخيلهم دون اعتداءات البدو الرحل . ومن هذا الأصل يتحدر أمراء الدرعية السعوديون وحكم حائل الرشيديون .
وأخيرا يقوم الحاكم الحضري القوي ، بالتحالف مع بعض القبائل البدوية أو بصورة مستقلة بغزوات على البدو المجاورين فينهبهم ويرغمهم أحيانا على دفع الأتاوات . لم تكن السلطة في الواحات متركزة دوما في أيدي أشخاص بعينهم . وفي بعض الأحيان كان المزارعون المتحدون من قبائل مختلفة يتنازعون فيما بينهم ولا يخضعون لحاكم واحد ، إذ أن لديهم شيوخهم وأمراءهم . كانت سلطة الأمير الحضري تختلف اختلافا جوهريا عن سلطة الشيخ البدوي . فالحاكم في الواحة لايواجهه تنظيم عسكري ديمقراطي عشائري . وكان المزارعون الذين ضعفت روابطهم العشائرية رازحين تحت تبعية لوجهائهم أكبر بكثير من تبعية البدو . ولذلك فلا يثير الدهشة أن ينعت مؤرخو الجزيرة سكان الواحات بالرعية . وكان الأمير الإقطاعي يعتمد من جهة على وجهاء الواحة الذين تربطه بالكثيرين منهم صلة القربى ، ويعتمد من جهة أخرى على مفرزته الخاصة المكونة من العبيد والمعتوقين والجنود المرتزقة . وكان النظام القضائي في الواحات مبنيا ، عادة على أساس الشريعة الإسلامية . ويمارس الأمير شخصيا أمور القضاء إلى جانب القاضي الذي يتحلى بإعداد حقوقي وفقهي .
إن التركيب السياسي لإمارة جبل شمر التي وصفها الرحالة في أواسط القرن التاسع عشر والنصف الثاني منه يمكن أن يعتبر تكرارا لسمات تنظيم السلطة في الدويلات – الواحات في وسط الجزيرة في القرن التاسع عشر . كان أمراء حائل يديرون الدولة بمساعدة أقربائهم ، وبصورة رئيسية بمساعدة العبيد والمعتوقين الذين يتمتعون بثقة الحاكم بقدر أكبر مما يتمتع به أقرباؤه علما بأن مشايخ آل رشيد اعتمدوا على مفارز من العبيد والمرتزقة . وكان زعماء العبيد الذين يسمون بزلم الشيوخ يتسلمون أهم المناصب في البلاط ومناصب الموظفين في جهاز الدولة الناشئ . وكانوا ولاة أو عمالا في الواحات . وكانت أهم الدعاوي القضائية وبعض القضايا المدنية ينظر فيها في مجلس الأمير الذي يعقد جلساته أمام الملأ ، ويشارك فيه ممثلوا وجهاء حائل وكبار علماء الدين . وكان حرس الحاكم نفسه يضطلع بدور الشرطة في إمارة مشايخ آل رشيد . وكان هناك سجن في حائل . وكانت العقوبات على الجرائم هي مصادرة الأموال والضرب بالعصى وقطع اليد . إلا أن نظام الدولة في الواحات الأخرى كان أقل تطورا . فإن دوتي الذي زار عنيزة ، المركز التجاري الكبير في القصيم ، لم يجد هناك سجنا .
ومن السهل أن نلاحظ أن سند السلطة الإقطاعية في الواحات هو حرس العبيد . فهذا الحرس المعتمد كليا على سيده وغيره المرتبط بالسكان المحليين ، كان سلاحا مأمونا للعنف المنتظم الذي مارسه الوجهاء ضد بسطاء الناس . علما بأن العبيد – المحاربين والشرطة والموظفين والعمال – وقد تحولوا في الواقع إلى جزء من الطبقة الحاكمة ، مع أنه جزء خاص ذو حقوق مبتورة . وكانت فئة العبيد هذه قد حصلت في بعض الحالات على وزن ونفوذ كبيرين فادعت أحيانا بالسلطة العليا واستولت عليها . وحدث ذلك ، مثلا ، في الرياض في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، وكذلك في مكة في أواخر الثمانينات من القرن المذكور . وتجلى تأثير القوة العسكرية لمفارز العبيد بقدر ما على مشايخ البدو أيضا . إلا أن إمكانية تحول العبيد إلى طبقة حاكمة في الجزيرة العربية لم تتحقق في سياق التطور التاريخي . ولكن الحرس التركي في عهد العباسيين والمماليك في مصر دليل على مدى الشوط البعيد الذي يمكن أن تقطعه مثل هذه الاتجاهات في المجتمع .
الفئات والمراتب في مجتمع الجزيرة
إن البنية المتعددة الجوانب لمجتمع الجزيرة قد تعقدت بقدر أكبر بسبب عناصر التقسيم الفئوي والعادات والتصورات المرتبطة بها . وكانت هذه العناصر نابعة بالأساس من النشاط الاقتصادي والعلاقات العشائرية والتقسيم الطبقي . كان البدو من رعاة الإبل بالذات يعتبرون في الجزيرة أنبل ممثلي النوع البشري . وكانوا هم أنفسهم على اعتقاد راسخ بتفوقهم على الحضر وأشباه البدو . وكانوا يعتبرون العمل الوحيد اللائق بهم هو الغزو وتربية الإبل والقوافل وأحيانا التجارة . وكان رعاة الغنم في القبائل البدوية الكريمة المحتد يشغلون مرتبة وضيعة ولايتمتعون بالاحترام .وإن تحول البدوي من راع للإبل إلى راع للغنم أو مزارع يهبط به من منزلته (الرفيعة) لدرجة تجعل من الصعب عليه العودة إلى حظيرة البدو الأقحاح . وكان البدو يبررون رفعة منزلتهم بانتسابهم إلى أصولهم تغوص في أعماق القرون .
ويقف في الدرجة التالية من سلم المراتب رعاة الغنم الذين ينظرون إلى الحضر باستعلاء . ويأتي بعدهم الزراع إذا تهيأت لهم إمكانية الوصول بأنسابهم إلى أجداد كريمي المحتد . إن التفاوت في مراتب هذه الفئات من السكان يعززه عدم وجود علاقات متينة للتزاوج فيما بينها . ومن النادر أن يرافق البدوي المعدم على تزويج ابنته من فلاح موسر . وكان الوجهاء يحتلون منزلة أعلى من هذه الفئات الثلاث من سكان الجزيرة العربية والتي تتميز بدرجات مختلفة من المحتد الكريم . وكان الوجهاء يعتبرون أنفسهم أرقى من سائر البدو الرحل بقدر مايعتبر هؤلاء أنفسهم أنبل من الزراع . وإن بيوتات شيوخ مشايخ القبيلة ، خلافا لسائر أبناء القبيلة الذي يعتبرون أنفسهم خلفا لجد واحد ، غالبا ما تدعى بأصول تختلف عن الأصول النبيلة الخاصة بالقبيلة كلها . إن دم أفراد عائلة الشيخ (عند البدو) يفوق التقدير أو أنه (عند أشباه البدو) أغلى من دم سائر أبناء القبيلة .
وكان الشيوخ يخرقون أصول الزواج العشائري المرسومة بالعادات والتقاليد فيزجون بناتهم من شيوخ قبائل أخرى ولايتزوجون هم إلا من بنات الشيوخ ، علما بأن المهر المتعارف عليه بين الشيوخ أعلى بكثير من المهر العادي . ونعت دوتي وجهاء القبائل (بالأرستقراطية من حي الدم والأصل (الجد المشترك) . وكان هذا أيضا هو رأي فولني ، حيث يقول : (تضم كل قبيلة عائلية أو عدة عوائل رئيسية يحمل أبناؤها لقب الشيوخ . وهذه العوائل تماثل عوائل الأعيان في روما والنبلاء في أوروبا) .
وكان الإقطاعيون الحضر يتباهون بتحدرهم من وجهاء البدو . وفي بعض الأحيان حاولوا الحفاظ على نمط الحياة البدوي واحتفظوا بأواصر القربى من وجهاء البادية . وكانت القبائل (الوضيعة) (هتيم وغيرها) منبوذة في مجتمع الجزيرة ، وإذا نعت شخص ما من قبيلة أخرى باسم تلك القبائل فهو يعتبر ذلك إهانة بالغة . وكان على أبناء القبائل (الوضيعة) أن يقدموا آيات التبجيل للأعراب الكريمي المحتد . والذين تجري الماء الظاهرة في عروقهم لايتزوجون أبدا من بنات القبائل (الوضيعة) . وتتحدث عن أصول هذه القبائل حكايات وأساطير تحط من سمعتها . ولكن ذلك لم يمنع شباب عوائل الوجهاء من الاستفادة من التسيب الخلقي في القبائل (الوضيعة) وإقامة علاقات غرامية مع المحظيات منها . والشعر البدوي الشفهي مليء بالأمثلة من هذا النوع .
ويعتقد بعض الباحثين في العلم المعاصر أن أصول بعض القبائل (الوضيعة) تعود إلى ماقبل العرب بل وحتى إلى ماقبل الساميين . ويرى آخرون أنها ظهرت في الجزيرة بعد ظهور العرب . كان الصناع في مجتمع الجزيرة أكثر احتقارا من القبائل (الوضيعة) ، وكان احتراف الصنائع ، وخصوصا النسيج ، أحط عمل يمكن أن يمارسه الأعرابي . وكانت كلمة (الصانع) تطلق للإهانة والتحقير . وحتى أبناء القبائل (الوضيعة) كانوا يستنكفون من الدخول في علاقات زواج مع الصناع . وقد شكل بعض الصناع (وخصوصا الحدادون) طائفة منعزلة منتشرة في كافة أرجاء شبه الجزيرة وكانوا يعتبرون أنفسهم أبناء قبيلة واحدة . ولم يكن تنظيمهم يشمل الصناع من بين المعتوقين والأجانب . وعلى أوطأ درجة من السلم الاجتماعي في الجزيرة العربية يتواجد العبيد والمعتوقين . فهم وحدهم يقدمون على الزواج من بنات القبائل (الوضيعة) والصناع . ولايستبعد أن يكون ذلك بالذات هو السبب في التفرد الأثنوغرافي للقبائل (الوضيعة) والصناع .
إن تقسيم مجتمع الجزيرة إلى فئات ومراتب غالبا ما لايتوافق مع تقسيمه إلى استغلاليين ومستغلين . فلدي كل فئة (منبوذة) من فئات السكان – القبائل (الوضيعة) والصناع والعبيد – نخبة أبنائها . وفي بعض الأحيان تتجاوز ثروة هذه النخبة ليس فقط ثروة البدو العاديين ، بل وحتى بعض وجهاء البدو . فالعبيد (من موظفي كبار الإقطاعيين) تفوقوا أحيانا على الكثير من وجهاء الحضر والبدو . إلا أن أكثر البدو فقرا كان ينظر باستعلاء إلى العامل أو الوالي الزنجي المتنفذ ، وما كان يرافق على تزويجه من ابنته في أية حال .
مجتمع الجزيرة من خلال تطوره . مما لاشك فيه أن المجتمع الطبقي الاستغلالي كان موجود في الجزيرة العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . إلا أن الحدود الطبقية فيه تمتد بخطوط متعرجة ليس فقط بين الأغنياء والفقراء ، بين الوجهاء والرعية ، بل وكذلك بين البدو من رعاة الإبل والسكان شبه الرحل والحضر ، بين القبائل الكريمة المحتد والقبائل (الوضيعة) ، بين الأحرار والعبيد . وفي بعض الحالات تطمس هذه الحدود في غمار العلاقات العشائرية والفوارق الفئوية .
فهل يجوز القول بأن النظام الاجتماعي موضوع البحث قد نشأ في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر فقط ؟ كلا ، بالطبع . صحيح أن قضية تحديد الأطر الزمنية لوجوده تتطلب دراسة خاصة . إلا أن بعض معلومات الأوروبيين ، مثلا ، عن الحياة في الجزيرة خلال القرون الوسطى لاتتعارض مع المعلومات الأحدث . ومما يعزز وجهة النظر هذه ما كتبه ابن خلدون عن مجتمع شمال أفريقيا في القرن الرابع عشر ، في المنطقة الصحراوية وشبه الصحراوية ، والذي يتميز بكثير من السمات المشتركة مع مجتمع الجزيرة العربية ، حيث انتقلت العلاقات الاجتماعية للقبائل العربية دون شك ، مع ترحالها إلى شمال أفريقيا . فإن سمات النظام الاجتماعي في الجزيرة العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، مثل الحمية والدخلة واستبدال الثأر بالتعويض وحرس العبيد في مكة ، كانت معروفة في الجزيرة منذ فجر الإسلام ، مع أنه لا يستبعد أن مضمون بعض الأنظمة اتسم خلال القرون العديدة بصبغة طبقية لدرجة أكبر . إن الصعاليك من شعراء الجاهلية يشبهون كثيرا فقراء البدو في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، في حين كان نعت ممثلي وجهاء القبائل في القرنين السادس والسابع هو (أصحاب المئات) (المقصود مئات الإبل) . ونظرا لعدم حدوث أية تغيرات ثورية في تطور القوى المنتجة في الجزيرة خلال القرون الأخيرة حتى حلول القرن العشرين ، يمكن الافتراض أن مثل هذا النظام الاجتماعي ظل باقيا أمدا طويلا مع بعض التعديلات والتعمق التدريجي للفوارق الطبقية .
ومنذ عهد النبي وحتى ظهور الوهابية لم تشهد الجزيرة العربية السلطة الموحدة والاستقرار والوئام . وطوال القرون ظلت مجزأة في الغالب إلى دويلات – واحات صغيرة أو اتحادات لتلك الدويلات وإلى قبائل مترحلة أو اتحادات لتلك القبائل . وكان التشتت الاقتصادي للواحات والقبائل التي هي وحدات اقتصادية مستقلة ، وكذلك نطاق البادية الخالية في الجزيرة حيث كانت جزائر الحياة البشرية متباعدة عن بعضها البعض لمئات الكيلومترات ، بمثابة عوامل اللامركزية . ومما أعاق التوحيد كذلك الفوارق القبلية والمحلية بين سكان الجزيرة ولهجاتهم وتنوع وتناقض المذاهب والمعتقدات الدينية .
وكانت لوجهاء القبائل والحضر مصلحة في توسيع حدود سلطتهم من أجل زيادة مصادر الإثراء . واصطدمت مطامح كل من كتل وجهاء القبائل والحضر بمصالح جيرانهم المماثلة . واستنزفت القوى في الصراع بينهم . ولكنه صادف أن هذه الكتلة أو تلك من الوجهاء تنشر سيطرتها على نطاق واسع بالاعتماد على القدرة العسكرية للبدو أو الحضر وبزعامة قائد موهوب . وبالنتيجة نشأت دول على مساحات واسعة نسبيا . وكان التوسع المشترك الذي يؤمن غنائم الحرب حافزا رئيسيا للتوحيد . وكانت في الجزيرة العربية مناطق شاسعة اختلطت فيها قوى الفوضى العشائرية اللامركزية بالقوى التوحيدية المركزية . وتلك المناطق هي الحجاز ونجد والإحساء واليمن وعمان .
وبنتيجة إحلال الأمن وتقاطر الثروات من الخارج كان من الممكن في أراضي الاتحادات الكبيرة على صعيد الدولة أن يجري تطور القوى المنتجة بوتائر أسرع بعض الشيء . ولكن الحماس الحنيث كان يستنفد فيما بعد ، ويؤدي الصراع الداخلي والتنافس إلى تفتت متانة السلطة ، ويشدد الوجهاء استغلال السكان الخاضعين لهم فيسببون بظهور مقدمات التذمر الداخلي ، وتتفوق القوى اللامركزية الطاردة وتنهار الدول . وكانت هذه العملية تسير بسرعة في حالة الكوارث الطبيعية أو تفشي الأوبئة .
ولذلك يمكن القول بأن قوى التوحيد الكامنة كانت موجودة طوال القرون في الجزيرة العربية المجزأة ، وأن مفعول قوى التحلل الجبارة كان يبدأ في أية دولة مركزية تنشأ هناك . ولاتستثني من ذلك الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية . ولكنها بلغت قوة واتساعا لم يسبق لهما مثيل منذ فجر الإسلام ، في حين ترك العصر أثره في طابعها وقرر مصيرها .
الإمبراطورية العثمانية والجزيرة العربية
ضعف النفوذ الأجنبي في الجزيرة عند أواسط القرن الثامن عشر كانت الدول الإسلامية الكبرى التي نشأت وسقطت في الشرقين الأدنى والأوسط قد أثرت بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الجزيرة العربية . واعتبارا من القرن السادس عشر صار الأتراك العثمانيون عاملا دائميا للسياسة في الجزيرة . فعلى أثر احتلالهم لمصر جاء دور الحجاز ثم اليمن والإحساء وسائر مناطق الجزيرة العربية . وعين الباب العالي واليا له في جدة – البوابة البحرية لمكة . ورابطت حاميات تركية غير كبيرة بين فترة وأخرى في مكة والمدينة وجدة وبعض المناطق الأخرى . وأرسلت الاستانة بعض الموظفين إلى مكة والمدينة . ومع ذلك كانت سلطة العثمانيين في الحجاز إسمية ، وكان الحكام المحليون يتمتعون باستقلال كبير .
كانت السلطة في مكة في أيدي عوائل الإشراف المتنافسة التي كانت تبعث إلى والي مصر والسلطان العثماني نقودا وهدايا ثمينة . إلا أن مكة كانت مدينة متميزة تعيش على الحج والتبرعات الخيرية من العالم الإسلامي كله . وكان السلاطين الجبابرة والمسلمون الأطهار يتبرعون بالأموال لترميم الكعبة والمساجد والإنفاق علهيا ولشق القنوات . وكان قسم من هذه الأموال يبقى في المدينة ولا يندر أن يستقر في خزينة الشريف . كانت مكة منطقة هامة للعثمانيين ، ولكنها بعيدة جدا فلم يستطيعوا أن يقيموا سيطرتهم المباشرة علهيا ، وفضلوا الإبقاء على حكامها المحليين . وكانت عوائل الإشراف المقيمة في الاستانة مستعدة دوما للمشاركة في دسائس الباب العالي السياسية .
وعلى تخوم القرنين السادس عشر والسابع عشر ، في فترة الفتن والقلاقل التي اجتاحت الإمبراطورية العثمانية ، اكتسب وسط وشرق الجزيرة العربية الاستقلال الفعلي عن العثمانيين مع أن والي بغداد ووالي البصرة ظلا حتى أواخر القرن السابع عشر يؤثران على سير الأحداث في الإحساء ونجد . وفي مطلع القرن الثامن عشر دخلت الإمبراطورية العثمانية مرحلة الأفول بعد هزيمة معركة فيينا عام 1683 . ومع أن العثمانيين استطاعوا في العقود الأولى من القرن الثامن عشر أن ينتصروا على الفرس في الشرق فإن ذلك لم يغير شيئا في سير الأمور . كانت الإمبراطورية العثمانية لاتزال تمتلك مساحات شاسعة في أوروبا وآسيا وأفريقيا حيث تركزت الثروات الطبيعية والموارد البشرية . إلا أن أساس الجبروت العثماني – النظام العسكري الإقطاعي – أخذ يتفتت دون رجعة . وتدهورة القدرة الكفاحية فلانكشارية الذين أسسوا عوائل ومارسوا الحرف ولاصنائع والتجارة . وحل التسيب والفساد محل الانضباط السابق لدى جنود وموظفي الإمبراطورية العثمانية .
وبنتيجة الهزائم الحربية انتفى أهم مصدر لعائدات الطبقة الحاكمة – نهب المغلوبين عسكريا . فأخذ الولاة والموظفون العثمانيون ينهبون دون رحمة سكان الإمبراطورية الكادحين وبالدرجة الأولى الفلاحين . وجرى بوتائر سريعة خراب الزراعة التي هي أساس اقتصاد الإمبراطورية العثمانية . ولم تكن الحياة ولا الملكية مضمونة في الإمبراطورية العثمانية . وكان السلطان وولاة الأقاليم والإقطاعيون والموظفون الأصغر غالبا مايعدمون الناس لسبب واحد هو مصادرة أموالهم فيما بعد . ولم يتمتع بالأمان الشخصي وحصانة الملكية إلا علماء الدين . وبقية تحاشي المصادرة كان أصحاب المقاطعات المدمرون وصغار المالكين يحيلون مزارعهم ودورهم إلى الأوقاف ويستخدمونها على سبيل الإيجار . وحصلت أقاليم الإمبراطورية العثمانية على المزيد من الاستقلال ووقعت تحت سلطة الكتل الإقطاعية الضارية شبه التابعة . ولا يثير الدهشة أن يفقد الباب العالي السلطة في هذه الظروف على أراضي الجزيرة العربية أيضا .
صار أشراف مكة يتصرفون بمزيد من الاستقلال ولايعيرون اهتماما كبيرا للعثمانيين . وصار السلاطين يمنحون لقب والي جدة اهتماما كبيرا للعثمانيين . وصار السلاطين يمنحون لقب والي جدة إلى أشخاص لايظهرون في الحجاز على الأغلب . وأخذ أشراف مكة يستأثرون بحصة متزايدة من مداخيل كمارك جدة . وكانت قبائل البدو تسيطر على طرق الحج الأخرى . وكانت متانة مواقع الباب العالي في الحجاز آنذاك تحددها ليس قوته العسكرية بقدر ماتحددها مصلحة وجهاء الحجاز والسكان جميعا بمداخيل الحجاج القادمين بالأساس من الإمبراطورية العثمانية ، وبالهدايا الثمينة من السلاطين العثمانيين . أما اليمن فقد أحرزت الاستقلال الرسمي والفعلي بعد الغزو العثماني في النصف الثاني من القرن السابع عشر . في سبعينات القرن السابع عشر لمّ المدعو براك ، وهو شيخ أحد أفخاذ قبيلة بني خالد ، شمل القبيلة كلها وطرد المفارز العثمانية الصغيرة من واحات الإحساء وحمى شرق الجزيرة حتى من شيخ السيطرة العثمانية . وكان تضاؤل التدخل الأجنبي في شئون الجزيرة العربية قد تجلى كذلك في الضعف التدرجي الذي أصاب مواقع البرتغال على سواحل الخليج العربي . وفي أواسط القرن السابع عشر طرد البرتغاليون من عمان بعد أن استولوا علهيا في القرن السادس عشر . أما الإنجليز والفرنسيون فإن توسعهم الاستعماري في الجزيرة العربية يعود على الأكثر إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر . وكان اقتحام الفرس للمدن الساحلية في شرق الجزيرة في مطلع القرن الثامن عشر يجري عرضا ولم يؤد إلى تثبيت أقدامهم في هذه المنطقة من الجزيرة العربية .
كانت الجزيرة العربية قبل ظهور الوهابيين متروكة لحالها بقدر كبير طوال عدة عقود من السنين .
نجد والحجاز والإحساء في النصف الأول من القرن الثامن عشر
تعرض وسط الجزيرة في القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر لغزوات جيرانه من الشرق والغرب ، مع أن ذلك لم يستبعد بعض الحملات الموفقة التي قامت بها القبائل النجدية على واحات وقبائل الحجاز والإحساء . كان الحجازيون قد هاجموا تقريبا كل مناطق نجد ، وبالدرجة الأولى القصيم ، كما هاجموا القبائل البدوية في وسط الجزيرة – عنزة ومطير والظفير . وكان بعض قبائل وواحات وسط الجزيرة تدفع الأتاوات لحكام مكة . ويذكر ابن بشر بعض الأشخاص من وجهاء الحجاز وينعتهم بأشراف نجد . وفي بداية القرن الثامن عشر تدهورت الحالة الاقتصادية في الحجاز . وبنتيجة المجاعة المرعبة خلت مكة من أهلها . واشتد فيها الصراع من أجل السلطة والنزاعات الداخلية حتى لم يعد بمقدور الحجازيين القيام بحملات على باطن الجزيرة وكانت آخر الحملات الكبرى على نجد قد قامت في أواسط عشرينات القرن الثامن عشر .
كان براك شيخ بني خالد قد بدأ بعد أن سيطر على شرقي الجزيرة بغزوات على البدو المترحلين بين الإحساء ونجد ، ثم بغزوات على نجد . وواصل خلفاؤه توسعهم . وتعرضت الخرج وسدير وثادق والعارض لغزوات الإحسائيين . وفي عام 1722/1723 توفي زعيم بني خالد بن سعدون عريعر . وأدت الحزازات التي أعقبت ذلك إلى أضعاف الوحدة لدرجة كبيرة .
ولم تكن في نجد اتحادات كبيرة تلعب دور القوة المسيطرة . فقد احتفظت بعض الواحات والقبائل باستقلالها . وحتى الواحات – المدن ، مثل العيينة والدرعية والرياض ، التي كان مقدرا لها ان تلعب دورا هاما في الصراع من أجل الزعامة في نجد لم تكن ترتفع غلى أعلى من المستوى المتوسط . وكانت ميزتها تكمن في أنها جميعا واقعة في منطقة العارض ، وهي المنطقة الوسطى في نجد ، حيث تلتقي كل الطرق التجارية . إلا أن الموقع الجغرافي وحده لايعطي مبررا للاعتقاد بأنها بالذات كانت تستطيع أن تغدو مركزا للدولة الموحدة لعموم نجد ناهيك عن عموم الجزيرة .
ومن المستبعد إمكان الموافقة على تأكيد فيلبي من أن الدرعية كانت في مطلع القرن الثامن عشر إحدى المدن التي تدعى بالسيطرة ليس فقط في نجد وحدها ، بل وحتى في الجزيرة العربية كلها . فقد قال مؤلف (لمع الشهاب) أنه لم يكن في نجد (رئيس قاهر يردع الظالم وينصر المظلوم بل كان كل من الحكام حاكم بلده مدينة كانت أو قرية وفي بدوها كذلك كل طائفة منهم لها شيخ وكبير يرجع أمرهم إليه ... والبلدة إذا قبائل شتى يرعون البراري والقفار ويشربون المناهل والآبار وحكومة كل شيخ في قبيلته برضاها فكلهن تقدم كرما وشجاعة رضوا به كبيرا له . وفيهم مشايخ صغار في نفس قبيلة واحدة يخالفون رأي المشايخ الكبار ... وكان أهل المدن في نجد دائما بعضهم يحارب بعضا) .
كان الوضع في القسم الأوسط مننجد في العقود الأولى من القرن الثامن عشر يتميز بتوازن القوى بين الخصوم الرئيسيين . فقد اجتازت الدرعية توا مرحلة القلافل والفن الداخلية والصراع من أجل السلطة بين الوجهاء الحاكمين . وكانت القتل والخيانات تتوالى الواحدة تلو الأخرى ، إلى أن صار مؤسس سلالة السعوديين ، سعود بن محمد بن مقرن أميرا للواحة في العقد الثاني . ويعتبر بعض السعوديين أنفسهم من قبيلة بني حنيفة ، بينما يعود بعضهم الآخر بنسبهم إلى عنزة أكبر وأقوى قبيلة في وسط وشمال الجزيرة . لم يكن عهد سعود طويلا . فقد توفي في حزيران (يونيو) 1725 . وبعد وفاته تنافس على رئاسة الواحة عدة أشخاص تنافسا مستميتا . واقترن الصراع بينهم بخيانات متبادلة وقتل لبعضهم البعض . وأخيرا شغل مكان سعود ابن عمه زيد .
كان حكام العيينة في تلك السنوات مشغولين بالحروب ضد جيرانهم في منفوحة وثادق ، وكذلك ضد القبائل البدوية في أطرافها . ولم تتجاوز العمليات الحربية نطاق الحملات المحلية . وفي عام 1725/1726 اجتاح العيينة وباء الكوليرا . وكانت الضربة التي تلقتها شديدة لدرجة جعلتها تخرج لسنوات طويلة من الصراع في سبيل السيطرة في وسط نجد . وانتهز زيد هذه الفرصة فهاجم الواحة الخالية في العام التالي . وأعرب أمير العيينة محمد بن معمر عن استعداده للخضوه له ، ولكنه استدرج الدرعيين إلى منزله وقتل زيدا . وتمكن محمد بن سعود من الفرار مع جماعة من المحاربين . فصار أميرا للدرعية .
وفي أواخر الثلاثينات ومطلع الأربعينات استولى على السلطة في الرياض دهام بن دواس وهو رجل همام نشيط ظل طوال عدة عقود من أشد خصوم الدرعية تصلبا . وإليكم قصة توليه السلطة كما كتبها ابن غنام : (كان أبوه رئيسا في بلد منفوحة متغلبا عليها فقتل أناسا من جماعته من المزاريع ظلما وعدوانا ، فبقي بعد ذلك زمانا ثم مات . وتولى بعده ابنه محمد ، فقام عليه ابن عمه زامل بن فارس هو وبعض أهل منفوحة فقتلوه وأجلوا إخوانه ، ومن جملتهم دهام وأخوته ، فاستوطنوا الرياض وكان وإليها إذ ذاك زيد بن موسى أبا زرعة . فلما قتل زيد المذكور على غير سبب مأثور ، وكان الذي قتله أحد بني عمه ، وكان معتوه العقل صعد إليه وهو نائم في عملية له فذبحه بسكين معه . فلما قتله جاءه عبد لزيد يقال له خمسي فقتله ... فتغلب العبد المذكور على بلد الرياض ، وكان أولاد زيد إذ ذاك صغارا وزعم أنه قابض لهم حتى يتأهلوا لذلك . فأقام داليا عليها مدة يسيرة نحو ثلاث سنين ثم هرب خميس من الرياض خوفا من أهلها لأمور جرت منه فأقام في الحاير مدة ثم أتى منفوحة فأقام بهاد مدة ، ثم عدا عليه رجل من أهلها كان قتل أباه زمن رياسته على الرياض فقتله ثم بقيت الرياض مدة يسيرة بلا رئيس ، وكان دهام بن دواس مدة تغلب خميس على الرياض خادما له . فلما بقيت الرياض بعد هروب خميس بلا رئيس ترأس فيها دهام بشبهة أن ابن زيد أبا زرعة هو ابن اخت دهام ، فزعم أنه يكون نائبا عنه في ذلك حتى يكبر ويعقل ثم بعد ذلك يتخلى له عن الولاية فأجلاه عن البلاد . كرهه أهل الرياض وسعوا في عزله إذ لم يكن لهم حيلة إلى قتله ، فاجتمعوا عليه وأحاطوا بقصره وحصروه فيه ، وكانوا عامة وغوغاء ليس لهم رئيس . فأرسل أخاه مشلبا راكبا فرسا إلى محمد بن سعود أمير الدرعية يطلب منه النجدة والنصرة على تلك الرعية ... فقام له محمد بالنصرة أتم قيام ، وأرسل إليه من الجنود فنام ورئيسهم مشاري بن سعود ، فبلغ دهام بمجيئهم المرام والمقصود ، فخرج من قصره مع تلك الجنود وقتلوا من أهل الرياض ثلاثة أوأربعة رجال ثم فروا بلا توان ولا أمهال ، فبعدها قر ملكه فيها وأقام رئيسها وواليها وأقام مشاري عنده شهورا ، ولم يتوقع ماصدر من الخبيث الشرور ، فاستفحل أمره وتعاظم فجره ونكره وتزايد على الرعية شره وتوالى عليهم ضره وتظاهر بأمور وأعلن بفجور تحاكي الأفعال النمرودية والقضايا الفرعونية : فمنها أنه غضب يوما على امرأة فأمر بفمها أن يخاط ... ومنها أنه غضب يوما على رجل فقطع من فخذه قطعة وقال : لابد أن يسيغها مضغة مضغة . فحاول الرجل المعذب بعد أن لم يجد له مهربا أن يأكلها بعد أن تشوى فلم يسعفه بذلك فأكلها نعوذ بالله من البلوى . ومنها أنه غضب يوما على رجل مسجون ذكر له أنه فك بأسنانه الحديد ، فأمر بمقمعه من حديد فضربت بها أسنانه ... ومنها أنه غضب على رجل آخر فأمر بقطع لسانه فقطعه بعض أعوانه ، وله قضايا مثل هذه كثيرة) .
هذا المقتطف من ابن غنام عن تولي دهام بن دواس السلطة ، وكذلك المواد الخاصة بتطور الأحداث في الدرعية والعيينة ، إنما تكشف عن الصراع من أجل السلطة والنزاعات الضاربة والغزوات المدمرة المتبادلة والنهب والسلب ، مما صار من أصول الحياة السياسية في نجد في النصف الأول من القرن الثامن عشر . ومما ساعد على تزعزع الحكم عدم الوضوح والدقة في حق الميراث . فلا يندر أن يهب أخوة الحاكم المتوفي وأبناء عمومته ضد أبنائه . ولا يمكن تفسير استيلاء عبد على السلطة في الرياض في تلك الحقبة إلا بتزعزع نظام الإرادة الإقطاعية في الواحات . وقد بلغ تعسف وطغيان الوجهاء في الواحات أقصى الحدود . واتخذ الاستغلال طابعا وحشيا . وهناك مبررات للقول بأن اشتداد استغلال المزارعين من قبل الإقطاعيين آنذاك قد أدى إلى اشتداد الصراع الطبقي . فقد كتب ابن غنام عن انتفاضة السكان المتذمرين الوهابيين للأصول الإسلامية القديمة التي تحرم الفوائد الربوة كان رد فعل على تعسف المرابين القاسي .
وفي القرن الثامن عشر تدهور الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية . وكان الركود الاقتصادي في الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر ودمار القوى المنتجة وتقلص التجارة كل ذلك قد أدى في بعض الأحيان إلى تقلص مشتريات واسطة النقل الرئيسية – الإبل . وتدهورت التجارة مع الهند عبر الحجاز . وكانت النزاعات والحزازات في الإمبراطورية العثمانية والخراب الذي أصاب السكان قد أدت إلى تقلص الحج . وكانت لذلك كله آثار أليمة على بدو الجزيرة . ويمكن الافتراض بأن الحروب العثمانية الفارسية المدمرة في مطلع القرن الثامن عشر قد تركت أثرا فتاكا على لاحج من إيران والعراق ، الأمر الذي انعكس على مداخيل سكان نجد . وفي هذه الظروف ، على مايبدو ، شدد البدو من نهب السكان الحضر المحليين والقوافل النادرة .
وماكان بالإمكان تحقيق الاستقرار السياسي ووقف النهب البدوي وتأمين سلامة الروابط التجارية إلا في ظل دولة مركزية . وكان بوسع سياسة التخفيف من الظلم الطبقي أن تؤمن لمثل هذه الدولة دعما جماهيريا . ولكن كان من اللازم العثور على مصادر خارجية ، أي على غنائم الحرب ، لأثرياء الوجهاء وعدم الإضرار بمصالحهم . وفي هذه الفترة ولدت في نجد حركة دينية جبارة نشأت على أساسها دولة مركزية كبرى .