تاريخ ابن خلدون - الجزء السادس
تاريخ ابن خلدون، الجزء السادس.
بسم الله الرحمن الرحيم من البداية - 227 القسم الأولى المجلد السادس من تاريخ العلامة ابن خلدون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة
أهل الجيل الناشيء لهذا العهد من بقية أهل الدولة الإسلامية من العرب
لما استقلّت مُضر وفرسانها وأنصارها من اليمن بالدولة الإسلامية، فيمن تبع دينهم من إخوانهم ربيعة ومن وافقهم من الأحياء اليمنيّة، وغلبوا المِلَل والأمم على أمورهم ، وانتزعوا الأمصار من أيديهم ، وانقلبت أحوالهم من خشونة البداوة وسذاجة الخلافة إلى عزّ الملك وترف الحضارة، ففارقوا الحِلَل وافترقوا على الثغور البعيدة والأقطار البائنة عن ممالك الإسلام، فنزلوا بها حامية ومرابطين عُصَباً وفُرادى. وتناقل الملك من عنصر إلى عنصر ومن بيت إلى بيت، واستفحل ملكهم في دولة بني أُميّة وبني العبّاس من بعدهم بالعراق، ثم دولة بني أُميّة الأخرى بالأندلس، وبلغوا من الترف والبذخ ما لم تبلغه دولة من دول العرب والعجم من قبلهم. فانقسموا في الدنيا ونبتت أجيالهم في ماء النعيم، واستأثروا مهاد الدِعَةِ واستطابوا خفض العيش، وطال نومهم في ظلّ الغرف والسلم، حتى ألفوا الحضارة ونسوا عهد البادية وانفلتت من أيديهم المَلَكَةُ التي نالوا بها الملك، وغلبوا الأمم من خشونة الدين، وبداوة الأخلاق، ومضاء المضرب.
فاستوت الحامية والرعية لولا الثقافة، وتشابه الجند والحضر إلا في الشارة. وأنف السلطان من المساهمة في المجد والمشاركة في النسب فجدعوا أنوف المتطاولين إليه من أعياصهم وعشائرهم ووجوه قبائلهم، وغضّوا من عنان طموحهم، واتخذوا البطانة مقرّهم من موالي الأعجام وصنائع الدولة، حتى كثروا بهم قبيلتهم من العرب الذين أقاموا الدولة، ونصروا الملّة، ودعموا الخلافة، وأذاقوهم وبال الخِلابة من القهر، وساموهم خطة الخسف والذلّ، فأنسوهم ذكر المجد وحلاوة العز، وسلبوهم نصرة العصبية حتى صاروا أُجراء على الحامية، وخُوَلاً لمن استعبدهم من الخاصة وأوزاعا متفرقين بين الأمة، وصيروا لغيرهم الحل والعقد والإبرام والنقض، من الموالي والصنائع فداخلتهم أريحية الغز، وحدثوا أنفسهم بالملك، فجحدوا الخلفاء ولعدوا بدست الأمر والنهي. واندرج العرب أهل الحماية في القهر، واختلطوا بالهَمَج، ولم يراجعوا أحوال البداوة لبعدها، ولا تذكّروا عهد الأنساب لدروسها. فدثروا وتلاشوا شأن من قبلهم وبعدهم. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا.
(وكان المولدون) لتمهيد قواعد الأمر، وبناء أساسه من أول الإسلام والدين والخلافة من بعده، والملك، قبائل من العرب موفورة العدد، عزيزة الأحياء. فنصروا الإيمان والملة، ووطدوا أكناف الخلافة، وفتحوا الأمصار والأقاليم، وغلبوا عليها الأمم والدول. أما من مُضَر: فقريش وكنانة وخزاعة وبنو أسد وهذيل وتميم وغطفان وسليم وهوازن، وبطونها من ثقيف وسعد بن بكر كأكامر بن صعصعة ومن إليهم من الشعوب والبطون زالأفخاذ والعشائر والخلفاء والموالي. وأما من ربيعة فبنو تغلب بن وائل وبنو بكر بن وائل وكافة شعوبهم من بني شكر وبني حنيفة وبني عجل وبني ذهل وبني شيبان وتيم الله. ثم بنو النمرمن قاسط، ثم عبد القيس ومن إليهم. وأما من اليمنية ثم من كهلان بن سبأ منهم: فأنصار الله الخزرج والأوس أبناء قيلة من شعوب غسان وسائر قبائل الازد. ثم همدان وخثعم وبجيلة ثم مذحج وكافة بطونها من عبس ومراد وزبيد والنّخع والاشعريّين وبني الحرث بن كعب. ثم لحى وبطونها ولخم وبطونها ثم كندة وملوكها.
وأمّا من حميربن سبأ فقضاعة وجميع بطونها ومن إلى هذه القبائل والأفخاذ والعشائر والأحلاف. هؤلاء كلهم أنفقتهم الدولة الإسلامية العربية، فنبا منهم الثغور القصية، وأكلتهم الأقطار المتباعدة، واستلحمتهم الوقائع المذكورة، فلم يبق منهم حي يطرق ولا حلة تنجع ولا عشيريعرف، ولا قليل يذكر ولا عاقلة تحمل جناية، ولا عصابة لصريخ إلا سمع من ذكر أسمائهم، في أنساب أعقاب متفرقين في الأمصار ألتى الخموها بجملتهم، فتقطعوا في البلاد؟ ودخلوا بين الناس فامتهنوا واستهينوا وأصبحوا خولا للأمراء، ريباً للذائد وعالة على الحرف. وقام بالإسلام والملة غيرهم، وصار الملك والأمر في أيدي سواهم، وجلبت بضائع العلوم والصنائع إلى غير سوقهم، فغلب أعاجم المشرق من الديلم والسلجوقية والأكراد والغز والترك على ملكه ودولته، فلم يزل مناقلة فيهم إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب من زناتة والبربر على أمره أيضاً، فلم تزل الدول تتناقل فيهم على ما نذكره بعد إلى هذا العهد. وغلب أعاجم المغرب والبربر على أمره، وانقرض أكثر الشعوب الذين كان لهم الملك من هؤلاء فلم يبق لهم ذكر. وانتبذ بقية هذه الشعوب من هذه الطبقة بالقفار وأقاموا أحياء بادين لم يفارقوا الحلل ولا تركوا البداوة والخشونة، فلم يتورطوا في مهلكة الترف ولا غرقوا في بحر النعيم، ولا فقدوا في غيابات الأمصار والحضارة ولهذا أنشد شاعرهم:
- فمن ترك الحضارة أعجبته بأيّ رجال بادية ترانا
وقال المتنبي يمدح سيف الدولة ويعرض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عيثهم وفسادهم:
# وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا وأن نبتت في الماء بنت الغلافق # فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه وأبدى بيوتاً من أداحي النقانق
(وأقامت) هذه الأحياء في صحارى الجنوب من الغرب والمشرق بأفريقية ومصر والشام والحجاز والعراق وكرمان، كما كان سلفهم من ربيعة ومضر وكهلان في الجاهلية، وعتوا وكثروا وانقرض الملك العربي الإسلامي. وطرق الدول الهرم الذي هو شأنها، واعتز بعض أهل هذا الجيل غرباً وشرقاً فاستعملتهم الدول وولّوهم الإمارة على أحيائهم وأقطعوهم في الضاحية والأمصار والتلول وأصبحوا جيلاً في العالم ناشئاً، كثروا سائر أهله من العجم. ولهم في تلك الإمارة دول، فاستحقوا أن تذكر أخبارهم، وتلحق بالأجيال من العرب سلفهم. ثم إن اللسان المضري الذي وقع به الإعجاز ونزل به القرآن فثوى فيهم وتبدل أعرابه فمالوا إلى العجمة. وإن كانت الأوضاع في أصلها صحيحة واستحقوا أن يوصفوا بالعجمة من أجل الأعراب فلذلك قلنا فيهم العرب المستعجمة. (فلنذكر الآن) بقية هؤلاء الشعوب من هذه الطبقة من المغرب والمشرق، ونخص منهم أهل الأحياء الناجعة والأقدار النابهة، ونلغي المندرجين في غيرهم. ثم نرجع إلى ذكر المنتقلين من هذه الطبقة إلى أفريقية والمغرب، فنستوعب أخبارهم، لأن العرب لم يكن المغرب لهم في الأيام السابقة بوطن، وإنما انتقل إليه في أواسط المائة الخامسة أفاريق من بني هلال وسليم اختلطوا في الدول هنالك فكانت أخبارهم من أخبارها، فلذلك استوعبناها. وأما آخر مواطن العرب فكانت برقة، وكان فيها بنو قرة بن هلال بن عامر. وكان لهم في دول العبيديّين أخبار، وحكايتهم في الثورة أيام الحاكم والبيعة لأبي ركوة من بني أُميّة في الأندلس معروفة، وقد أشرنا إليها في دولة العبيديّين.
ولما أجاز بنو هلال وسليم إلى المغرب خالطوهم في تلك المواطن، ثم ارتحلوا معهم إلى المغرب كما نذكره في دخول العرب إلى أفريقية والمغرب. وبقي في مواطنهم . ببرقة لهذا العهد أحياء بني جعفر، وكان شيخهم أوسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب وأخوه حامد بن حميد وهم ينسبون في المغرب تارة في العزة ويزعمون أنهم من بني كعب سليم وتارة في الهيب كذلك، وتارة في فزارة، والصحيح في نسبهم أنهم من مسراتة إحدى بطون هوّارة. سمعته من كثير من نسابتهم، وبعدهم فيما بين برقة والعقبة الكبيرة أولاد سلام. وما بين العقبة الكبيرة والإسكندرية أولاد مقدم، وهم بطنان أولاد التركية وأولاد قائد. ومقدم وسلام معاً ينسبون إلى لبيد. فبعضهم يقول لبيد بن لعتة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وبعضهم يقول في مقدم: مقدم بن عزاز بن كعب بن سليم. (وذكر لي سلام) شيخ أولاد التركية: أن أولاد مقدم من ربيعة بن نزار، ومع هؤلاء الأحياء حي محارب ينتمون بآل جعفر. ويقال إنهم من جعفر بن كلاب، وهي رواحة ينتمون بآل زبيد، ويقال من جعفرأيضا. والناجعة من هؤلاء الأحياء كلهم ينتمون في شأنهم إلى الواحات من بلاد القبلة. (وقال ابن سعيد): ومن غطفان في برقة مهيب ورواحة وفزارة، فجعل هؤلاء من غطفان والله أعلم بصحة ذلك. (وفيما بين الإسكندرية ومصر) قبائل رحالة ينتقلون في نواحي البحيرة هنالك، ويعمرون أرضها بالسكنى والفلح، ويخرجون في المشاتي إلى نواحي العقبة وبرقة من مزانت وهوّارة وزنارة إحدى بطون لواتة، وعليهم مغارم الفلح. ويندرج فيهم أخلاط من العرب والبربر لا يحصون كثرة. وبنواحي الصغير قبائل من العرب من بني هلال وبني كلاب من ربيعة. وهؤلاء أحياء كثيرة يركبون الخيل، ويحملون السلاح ويعمّرون الأرض بالفلاحة، ويقومون بالخراج للسلطان. وبينهم مع ذلك من الحروب والفتن ما ليس يكون بين أحياء القفر. (وبالصعيد) الأعلى من أسوان وما وراءها إلى أرض النوبة إلى بلاد الحبشة قبائل متعدّدة وأحياء متفّرقة؛ كلهم من جهينة إحدى بطون قضاعة، ملؤا تلك القفار وغلبوا النوبة على مواطنهم وملكهم، وزاحموا الحبشة في بلادهم وشاركوهم في أطرافها. والذين يلون أسوان هم يعرفون بأولاد الكنز، كان جدهم كنزل الدولة، وله مقامات مع الدول مذكورة، ونزل معهم في تلك المواطن من أسوان إلى قوص بنو جعفر بن أبي طالب حين غلبهم بنو الحسن على نواحي المدينة، وأخرجوهم منها. فهم يعرفون بينهم بالشرفاء الجعافرة، ويحترفون في غالب أحوالهم بالتجارة.
(وبنواحي مصر) من جهة القبلة إلى عقبة أيلة أحياء من جذام جمهورهم من العائد وعليهم درك السابلة بتلك الناحية. ولهم على ذلك الأقطاع والعوائد من السلطان. ويليهم من جهة الشرق بالكرك ونواحيها أحياء بني عقبة من جذام أيضاً، رخالة ناجعة تنتهي رحلتهم إلى المدينة النبوية. وعليهم درك السابلة فيما يليهم. وفيما وراء عقبة أيلة إلى القفزم قبائل من قضاعة ومن القلزم إلى الينبع، قبائل من جهينة. ومن الينبع إلى بدر ونواحيه من زبيد إحدى بطون مذحج. ولهم مع الأمراء بمكة من بني حسن حلف ومواخاة. وفيما بين مكة والمهجم مما يلي اليمن قبائل بني شعبة من كنانة. وفيما بين الكرك وغزة شرقاً قبائل جذام من قضاعة في جموع وافرة، ولهم أمراء أعزة يقطعهم السلطان على العسكر وحفظ السابلة، وينجعون في المشاتي إلى معان وما يليها من أسافل نجد، مما يلي تيماء، وبعدهم في أرض الشام بنو حارثة بن سنبس وآل مراء من رييعة إخوة آل فضل الملوك على العرب في برية الشام والعراق ونجد. وأخبرني بعض أمراء حارثة بن سنبس عن بطون. فلنذكر الأن خبر أولاد فضل أمراء الشام والعراق من طيء فنبين أعراب الشام جميعأ.
خبر آل فضل وبني مهنا منهم ودولتهم بالشام والعراق
هذا الحيّ من العرب يعرفون بآل فضل، وهم رحّالة ما بين الشام والجزيرة وبرية نجد من أرض الحجاز، ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين وينتهون في طيء ومعهم أحياء من زبيد وكلب هزيم ومذحج أحلاف لهم باين بعضهم في الغلب والعدد آل مراء. ويزعمون ان فضلاً ومراء آل ربيعة، ويزعمون أيضاً أن فضلاً ينقسم ولده بين ال مهنا وآل علي، وأن آل فضل كلهم كانوا بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراء وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها. وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الآن لا يفارقونها. قالوا: ثم اتصل آل فضل باللد من السلطنة، وولّوهم على أحياء العرب، وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق، فاستظهروا برئاستهم على آل مراء، وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول والقرى، لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل. وكانت معهم أحياء من أفاريق الأعراب يندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان لآل فضل. إلا أن أكثر من كان من ا أى مراء أولئك الأحياء وأوفرهم عدداً بنو حارثة من إحدى بطون طيء. هكذا ذكر الثقة عنهم من رجالاتهم. وحارثة هؤلاء متغلّبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى القفار. ومواطن طيء بنجد قد اتسعت، وكانوا أول خروجهم من اليمن نزلوا جبلي أجا وسلمى، وغلبوا عليهما بني أسد وجاوروهم. وكان لهم من المواطن سميراء وميد من منازل الحاج. ثم انقرض بنو أسد وورثت طيء بلادهم فيما وراء الكرخ من أرض غفرو وكذلك ورثوا منازل تميم بأرض نجد فيما بين البصرة والكوفة واليمامة. وكذلك ورثوا غطفان ببطن مما يلي وادي القرى.
هكذا قال ابن سعيد. وقال: أشهر الحجازيين منهم الآن بنو لام وبنو نبهان والصولة بالحجاز لبني لام بين المدينة والعراق ولهم حلف مع بني الحسين أمراء المدينه. قال: وبنو صخرمنهم في جهة تيماء بين الشام وخيبر. قال: وغربة من طيء بنو غربة بن أفلت بن معبد بن معن بن عمرو بن عنبس بن سلامان ومن بعد بلادهم حي الأنمر والأساور ورثوها من عنزة. ومنازلهم لهذا العهد في مصايفهم بالكيبات وفي مشاتيهم مع بني لام من طيء. وهم أهل غارة وصولة بين الشام والعراق. ومن بطونهم الأجود والبطنين وإخوانهم زبيد نازلون بالموصل، فقد جعل ابن سعيد: زبيد هؤلاء من بطون طيء، ولم يجعلهم من مذحج. ورياسة آل فضل في هذا العهد في بني مهنا. وينسبونه هكذا: كنا بن مايع بن مدسة بن عصية بن فضل بن بدر بن علي بن مفرج بن بدربن سالم بن قصية بن بدربن سميع. ويقفون عند سميع. ويقول زعماؤهم إن سميعاً هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي. وحاشا لله من هذه المقالة في الرشيد وأخته، وفي بنات كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك وأمثالهم.
ثم إن الوجود يحيل رياسة مثل هؤلاء على هذا الحي إذا لم يكونوا من نسبهم. وقد تقدم مثل ذلك في مقدّمات الكتاب. (وكان مبدأ رياستهم) من أول دولة بني يعقوب. قال العماد الأصفهاني: نزل العادل بمرج دمشق، ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة. وكانت الرياسة فيهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيء. وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح. وكان من أقطاعه التي معه وهو الذي قبض على أسكى مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق. وجاء إلى الشام سنة أربع وستين وثلثمائة وملك دمشق وزحف مع القرامطة لقتال العزيز بن المعز لدين الله صاحب مصر، فهزمهم العزيز، وهرب أفتكين فلقيه مفرج بن دغفل، وجاء به إلى العزيز فأكرمه ورقاه في دولته.
ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة. وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجرار. وولي حسان بعده وعظم صيته، وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين معزة واستقامة، وهو الذي هزم الرملة وهزم قائدهم باروق التركي وقتله وسبى نساءه، وهو الذي مدحه التهامي. ويذكر المسمى وغيره أن موطىء دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج هذا فضل بن ربيعة بن حازم، وأخوه بدر بن ربيعة، وابنا بدر. ولعل فضلاً هذا هو جد آل فضل. (قال ابن الأثير): إن فضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدس. وكان الفضل تارة مع الفرنج وتارة مع خلفاء مصر. ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش فطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد بالحلة وحالفه. ووصله صدقة بتسعة آلاف دينار. فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملكشاه سنة خمسمائة وما بعدها، ووقعت بينهما الفتنة اجتمع له فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة ومسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض امراء التركمان، وكانوا كلهم أولياء صدقة فصار في الطلائع بين يدي الحرب، وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم، وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد، حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة، واستأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجرة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار، فلم يراجع السلطان بعدها اهـ كلام ابن الأثير. ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلاً هذا وبدرأ من آل جراح بلا شك. ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أن فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه: فضل بن ربيعة بن الجراح. فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة مفرج الذي هو كبير بني الجراح لبعد العهد وقفة المحافظة على مثل هذا من البادية القفر. وأما نسبة هذا الحي من آل فضل بن ربيعة بن فلاح من مفرج في طيء: فبعضهم يقول: إن الرياسة في طيء كانت لأياس بن قبيصة من بني سبأ بن عمروبن الغوث من طيء، وأياس هو الذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر لما قتل النعمان بن المنذر وهو الذي صالح خالد بن الوليد عن الحيرة على الجزية. ولم تزل الرياسة على طيء إلى بني قبيصة هؤلاء صدراً من دولة الإسلام. فلعل بني الجراح وآل فضل هؤلاء من أعقابهم، وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليهم، لأن الرياسة على الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب.
(وقال ابن حزم) عندما ذكر أنساب طيء وأنهم لما خرجوا من اليمن مع بني أسد نزلوا جبلي أجا وسلمى، وأوطنوهما وما بينهما ونزل بنو أسد ما بينهم وبين العراق. وفضل كثير منهم وهم: بنو حارثة نسبة إلى أمهم، وتيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب، وحاضر طيء وأوطنوا تلك البلاد إلأ بني رومان بن جندب بن خارجة بن سعد فإنهم أقاموا بالجبلين فكانوا جبلين ولأهل حلب وحاضر طيء من بني خارجة السهيليون اهـ.
فلعل هذه الأحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيء، لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبلي أجأ وسلمى الذي هو موضع الآخرين. فالله أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم. وتحت خفارتهم بنواحي الفرات ابن كلاب بن ربيعة بن عامر دخلوا مع قبائل عامر بن صعصعة من نجد إلى الجزيرة. ولما افترق بنو عامر على الممالك الإسلامية اختص هؤلاء بنواحي حلب وملكها منهم بنو صالح بن مرداس من بني عمرو بن كلاب. ثم تلاشى ملكهم ورجعوا عنها إلى الأحياء وأقاموا بالفرات تحت خفارة هؤلاء الأمراء من طيء. (وأما ترتيب رياستهم) على العرب بالشام والعراق منذ دولة بني أيوب العادل وإلى هذا العهد، وهو آخر ست وتسعين وسبعمائة، فقد ذكرنا ذلك في دولة الترك ملوك مصر والشام، وذكرناهم واحداً بعد واحد على ترتيبهم. وسنذكرهم ههنا على ذلك الترتيب فنقول: كان الأمير لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما كان بعده حسام الدين مانع بن حارثة مصر والشام. وفي سنة ثلاثين وستمائة ولي عليهم بعده إبنه مهنا. ولما ارتجع قطز بن فضل أحد ملوك الترك بمصر والشام من أيدي التتر، وهزمهم بعين جالوت، أقطع سلمية لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن مظفّر بن شاهنشاه صاحب حماة، ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا. ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عندما استفحل ملك الترك. وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم إلى بغداد عيسى بن مهنا بن مانع، وجر له الإقطاعات على حفظ السابلة، وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل فضل على سعايته وإغرامه. ولم يزل يغير على أحياء العرب وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدة عليهم، وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وسبعين وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام.
وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين فولى المنصور قلاوون من بعده إبنه مهنا. ثم سار الأشرف بن قلاوون إلى الشام، ونزل حمص ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه، فقبض عليه وعلى إبنه موسى وإخوته محمد وفضل إبني مهنا. وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عندما جلس على التخت سنة أربع وتسعين وستمائة، ورجع إلى إمارته. وكان له في أيام الناصر نصرة واستقامة وميلة إلى ملوك التتر بالعراق، ولم يحضر شيئاً من وقائع غازان. ولما انتقض فرّ أسفر وأقوش الأفرم وأصحابهما سنة عشر وسبعمائة لحقوا به، وساروا من عنده إلى خرشد، واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضاً عن الوفادة. ووفد أخوه فضل سنة إثنتي عشرة وسبعمائة فرعى له حق وفادته، وولاه على العرب مكان أخيه مهنا وبقي مهنا مشردا. ثم لحق سنة ست عشرة وسبعمائة بخرشد ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق. وهلك خرشد في تلك السنة فرجع مهنا إلى أحيائه. ووفد إبنه أحمد وموسى وأخوه محمد بن عيسى مستعتبين على الناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهه وأنزلهم بالقصر الأبلق، وشملهم بالإحسان، وأعتب مهنا ورده إلى إمارته وأقطاعه، وذلك سنة سبع عشرة وسبعمائة. وحج هذه السنة إبنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل في إثني عشرألف راحلة. ثم رجع مهنا إلى دينه في ممالأة التتر والأجلاب على الشام. واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه، وسخط عليه قومه أجمع. وتقدم إلى نواب الشام سنة عشرين وسبعمائة بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم مالكاً على عدالته بينهم وولى منهم على احياء العرب محمد بن أبي بكر، وصرف أقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدة. ثم وفد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحاً على السلطان فأقبل عليه وردّ عليه أقطاعه وأمارته.
(وذكر لي) بعض أمراء الكبراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدث بها: أنه تجافى في هذه الوفادة من قبول شيء من السلطان، حتى أنه ساق عنده النياق الحلوبة والعراب، وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئاً من حاجاته، ثم رجع إلى أحيائه، وتوفي في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة فولي إبنه مظفر الدين موسى، وتوفي سنة إثنتين وأربعين وسبعمائة عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان. ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى. ثم توفي سنة أربع وأربعين وسبعمائة بالقريتين ودفن عند قبر خالد بن الوليد. وولي مكانه أخوه سيف بن فضل، ثم عزله السلطان بمصر الكامل ابن الناصر سنة ست وأربعين وسبعمائة، وولي مكانه أحمد بن مهنا بن عيسى. ثم جمع سيف بن فضل ولقيه فياض بن مهنا بن عيسى وانهزم سيف. ثم ولي السلطان حسن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيبغاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم. ثم توفي سنة سبع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض، وهلك سنة تسع وأربعين وسبعمائة وولي مكانه أخوه خيار بن مهنا، ولاه حسن الناصر في دولته الثانية. ثم انتقض سنة خمس وستين وسبعمائة وأقام سنتين بالقصر عاصياً إلى أن شفع فيه نائب حماة فاعيد إلى أمارته. ثم انتقض سنة سبعين وسبعمائة فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى، وجاء إلى نواحي حلب، واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وانتهى إلى خيمهم واستاق نعمهم وتخطى إلى الخيام فاستجاشوا بها وهزموا عساكره وقتل قشتمر إبنه في المعركة. تولى هو قتله بيده، وذهب إلى القفرمنتقضاً. فولى الأشرف مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى.
ثم بعث معيقل صاحبه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة يستأمن لخيار فأمنه. ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين سبعمائة فرضي عنه السلطان وأعاده إلى أمارته. ثم توفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة فولي أخوه مالك إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة فولي مكانه معيقل بن موسى بن عيسى وابن مهنا شريكين في أمارتهما،. ثم عزلا لسنة وولى نعير بن خيار بن مهنا وإسمه محمد، وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيء بالشام. والسلطان الظاهر لعهده يزاحمه بمحمد بن عمه قاري. ثم وصل انتقاضه على السلطان وخلافه، وظاهر السلطان على موالاة محمد بن قاري فسخطه، وولى مكانهما ابن عمهما محمد بن كوكتين ابن عمه موسى بن عساف بن مهنا فقام بأمر العرب وبقي نعير منتبذاً بالقفر وعجز عن الميرة لقلة ما بيده واختلت أحواله.،، وهو على ذلك لهذا العهد، والله ولي الأمور ولا رب سواه.
(خريطة) . (ولنرجع) إلى من بقي من شعوب هذه الطبقة فنقول: كان بنوعامر بن صعصعة كلهم بنجد، وبنو كلاب في خناصرة والربذة من جهات المدينة، وكعب بن ربيعة فيما بين تهامة والمدينة وأرض الشام. وبنو هلال بن عامر في بسائط الطائف ما بينه وبين جبل غزوان. ونمير بن حامد معهم. وجشم محسوبون منهم بنجد. وانتقلوا كلهم في الإسلام إلى الجزيرة الفراتية فملك نمير حران ونواحيها. وأقام بنو هلال بالشام إلى أن ظعنوا إلى المغرب كما نذكر في أخبارهم. وبقي منهم بقية بجبل بني هلال المشهور بهم الذي فيه قلعة صرخد. وأكثرهم اليوم يتعاطون الفلح. وبنو كلاب بن ربيعة ملكوا أرض حلب ومدينتها كما ذكرناه. وبنو كعب بن ربيعة دخلت إلى الشام منهم قبائل عقيل وقشير وجريش وجعدة فانقرض الثلاثة في دولة الإسلام، ولم يبق إلا بنو عقيل. (وذكر) ابن حزم: أنّ عددهم يفي عدد جميع مضر. فملك منهم الموصل بنو مالك بعد بني حمدان وتغلب. واستولوا عليها وعلى نواحيها وعلى حلب معها. ثم انقرض ملكهم ورجعوا للبادية، وورثوا مواطن العرب في كل جهة. فمنهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل، وكان بنومالك بن عقيل في أرض تيماء من نجد، وهم الان بجهات البصرة في الآجام التي بينها وبين الكوفة المعروفة بالبطائح، والإمارة منهم في بني معروف. وبالمغرب من بني المنتفق أحياء دخلوا مع هلال بن عامريعرفون بالخلط، ومواطنهم بالمغرب الأقصى ما بين فاس ومراكش. (وقال الجرجاني): إن بني المنتفق كلهم يعرفون بالخلط، ويليهم في جنوب البصرة إخوتهم بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر، وعوف أخو المنتفق قد غلبوا على البحرين وغمارة وملكوها من يدي أبي الحسين الأصغر بن تغلب. وكانت هذه المواطن للأزد، وبني تميم وعبد القيس فورث هؤلاء أرضهم فيها وديارهم. (قال ابن سعيد): وملكوا أيضاً أرض اليمامة من بني كلاب وكان ملوكهم فيها لعهد الخمسين والستمائة بنو عصفور. وكان من بني عقيل خفاجة بن عمرو بن عقيل، كان انتقالهم إلى العراق فأقاموا به وملكوا ضواحيه، وكانت لهم مقامات وذكر، وهم أصحاب صولة وكثرة، وهم الآن ما بين دجلة والفرات. ومن عقيل هؤلاء بنوعبادة بن عقيل ومنهم الأجافل لأن عبادة كان يعرف بالأجفل. وهم لهذا العهد بالعراق مع بني المنتفق. وفي البطايح التي بين البصرة والكوفة وواسط الامارة فيهم على ما يبلغنا لرجل إسمه قيان بن صالح، وهو في عدد ومنعة. وما أدري أهو من بني معروف أمراء البطائح بني المنتفق أو من عبادة الأجافل؟ هذه أحوال بني عامر بن صعصعة واستيلاؤهم على مواطن العرب من كهلان وربيعة ومضر.(فأما بنو كهلان) فلم يبق لهم أحياء فيما يسمع. (وأما ربيعة) فأجازوا بلاد فارس وكرمان فهم ينتجعون هنالك ما بين كرمان وخراسان. وبقيت بالعراق منهم طائفة ينزلون. البطائح وانتسب إلى الكوفة منهم بنو صباح ومعهم لفائف من الأوس والخزرج. فأمير ربيعة إسمه الشيخ ولي، وعلى الأوس والخزرج طاهر بن خضر منهم هذه شعوب الطبقة الثالثة من العرب لهذا العهد في ديار المشرق بما أذى إليه الإمكان. (ونحن الآن نذكر شعوبهم الذين انتقلوا إلى المغرب): فإنّ أمّة العرب لم يكن لهم إلمام قطّ بالمغرب لا في الجاهلية ولا في الإسلام، لأنّ أمّة البربر الذين كانوا به كانوا يمانعون عليه الأمم. وقد غزاه أفريقش بن ضبيع الذي سميت به أفريقية، من ملوك التبابعة وملكها. ثم رجع عنها وترك كتامة وصنهاجة من قبائل حمير، فاستحالت طبيعتهم إلى البربر واندرجوا في عدادهم، وذهب ملك العرب منهم. ثم جاءت الملة الإسلامية وظهر العرب على سائر الأمم بظهور الدين فسارت عساكرهم في المغرب وافتتحوا سائر أمصاره ومدنه وعانوا من حروب البربر شدة. وقد تقدم لنا ما ذكره ابن أبي زيد من أنهم ارتدّوا إثنتي عشر مرة. ثم رسخ فيهم الإسلام ولم يسكنوا بأجيالهم في الخيام ولا نزلوا أحياء لأن الملك الذي حصل لهم يمنعهم من سكنى الضاحية، ويعدل بهم إلى المدن الأمصار. فلهذا قلنا إن العرب لم يوطنوا بلاد المغرب. ثم أنهم دخلوا إليه في منتصف المائة الخامسة، وأوطنوه وافترقوا بأحيائهم وحللهم في جهاته كما نذكر الآن ونستوعب أسبابه. دخول العرب المغرب
الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب من الطبقة الرابعة وأخبارهم هنالك
كانت بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية، وكانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد. فبنوسليم مما يلي المدينة، وبنوهلال في جبل غزوان عند الطائف. وربما كانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، ويقطعون على الرفاق وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. وما زالت البعوث تجهّز والكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج من مضرّات هجومهم. ثم تحيّز بنو سليم والكثير من ربيعة بن عامر الى القرامطة عند ظهورهم، وصاروا جنداً بالبحرين وعمان. ولما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر والشام، وكان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم وغلبهم عليها وردهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين، ونقل أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم فأنزلهم بالصعيد، وفي العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك، وكان لهم أضرار بالبلاد. ولما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان وأربعمائة قلده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد أمر أفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد، وكان لعهد ولايته غلاماً يفعة ابن ثمان سنين، فلم يكن مجرباً للأمور ولا بصيراً بالسياسة، ولا كانت فيه عزة وأنفة. ثم هلك الظاهر سنة سبع وعشرين وأربعمائة وولي المستنصر بالله معز الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام. يقال ولي خمساً وسبعين وقيل خمسا وتسعين، والصحيح ثلاث وسبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة، وكانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة، وربما كانت شواهدها تظهر عليه، وكبا به فرسه في أول ولايته لبعض مذاهبه. فنادى مستغيثاً بالشيخين أبي بكر وعمر، وسمعته العامة فثاروا بالرافضة وقتلوهم وأعلنوا بالمعتقد الحق، ونادوا بشعار الإيمان وقطعوا من الأذان حيّ على خير العمل. وأغضى عنه الظاهر من ذلك وابنه معدّ المستنصر من بعد. واعتذر بالعامة فقبل واستمر على إتامة الدعوة والمهاداة، وفي أثناء ذلك يكاتب وزيرهما وحاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن
علي الجرجاني ويستميله ويعرّض ببني عبيد وشيعتهم. وكان الجرجاني يلقب بالأقطع، بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال، وانتهضته السيدة بنت الملك عمة المستنصر.
فلما ماتت استبد بالدولة سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى أن هلك سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن على اليازوري أصله من قرى فلسطين وكان أبوه ملاحاً بها. فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات، ولم يولوه فأنف من ذلك فعظم عليه وحنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب والمعز بن باديس صاحب أفريقية، وانحرفوا عنه، وحلف المعز لينقضن طاعتهم، وليحولن الدعوة إلى بني عباس ويمحون اسم بني عبيد من منابره ولج في ذلك وقطع أسماءهم من الطراز والرايات، وبايع القائم أبا جعفربن القادر من خلفاء بني العبّاس، وخاطبه ودعا له على منابره سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وبعث بالبيعة إلى بغداد. ووصله أبو الفضل البغدادي وحظي من الخليفة بالتقليد والخلع، وقرىء كتابه بجامع القيروان، ونشرت الرايات السود وهدمت دار الإسماعيلية. وبلغ الخبر إلى المستنصر معد الخليفة بالقاهرة، وإلى الشيعة الرافضة من كتامة وصنائع الدولة فوجموا وطلع عليهم المقيم المقعد من ذلك وارتبكوا في أمرهم. وكان أحياء هلال، هؤلاء الأحياء من جشم والأثير وزغبة ورياح وربيعة وعدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه. وقد عم ضررهم وأحرق البلاد والدولة شررهم، فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم والتقدم لمشايخهم وتوليتهم أعمال أفريقية وتقليدهم أمرها ودفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة والسبب في الدفاع عن الدولة. فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز وصنهاجة كانوا أولياء للدعوة وعمالاً بتلك القاصية. وارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة؟ وإن كانت الأخرى فلها ما بعدها. وأمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك فتغلبوا على هديه
وثورانه. وقيل إن الذي أشار بذلك وفعله وأدخل العرب إلى أفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني، وليس ذلك بصحيح، فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأ رضخ لأمرائهم في العطاء ووصل عامتهم بعيراً وديناراً لكل واحد منهم، وأباح لهم إجازة النيل. وقال لهم: قد أعطيتكم المغرب، وملك المعز بن بلكين الصنهاجي العبد الآبق قلا تفتقرون، وكتب البازوري إلى المغرب: أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولاً فحولاً، وأرسلنا عليها رجالاً كهولاً، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، فطمعت العرب إذ ذاك، وأجازوا النيل إلى برقة، نزلوا بها وافتتحو أمصارها واستباحوها، وكتبوا لإخوأنهم بشرقي النيل يرغبونهم في البلاد، فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه، وتقارعوا على البلاد: فحصل لسليم الشرق ولهلال الغرب وخربوا المدينة الحمراء وأوجدابية واسمرا وسرت.
وأقامت لهب من سليم وأحلافها رواحة وناصرة وغمرة بأرض برقة. وسارت قبائل دياب وعوف وزغب وجميع بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلأ أتوا عليه، حتى وصلوا إلى أفريقية سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. وكان أول من وصل إليهم أمير رياح موسي بن يحيى الصنبري فاستماله المعز واستدعاه واستخلصه لنفسه وأصهر إليه. وفاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه. فاستنفر القرى وأتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد وأظهروا الفساد في الأرض، ونادوا بشعار الخليفة المستنصر. وسرح إليهم من صنهاجة الأولياء فأوقعوا بها فتمخط المعز لكبره وأشاط بغضبه، وتقبض على أخي مؤنس وعكسر بظاهر القيروان. وبعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد بن بلكين، فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرحهم إليه
استنفزواعن زناتة فوصل إليه المستنصر بن حزور المغراوي في ألف فارس من قومه.
وكان بالبدو من أفريقية مع الناجعة من زناتة وهوم أعظم ساداتهم. وارتحل المعز في أولئك النفر ومن لف لفهم من الأتباع والحشم والأولياء ومن في إيالتهم من بقايا عرب الفتح وحشد زناتة، والبربر، وصمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثون ألفاً. وكانت رياح وزغبة وعدي حيدران من جهة فاس. ولما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح وتحيّزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة، وخانته زناتة وصنهاجة، وكانت الهزيمة على المعز، وفرّ بنفسه وخاصته إلى القيروان. وانتهبت العرب من جمع مخلفه من المال والمتاع والذخيرة والفساطيط والرايات وقتلوا فيها من البشر ما لا يحصى. يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف وثلثمائة. وفي ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته. ويقال إنها لابن شداد وأوّلها:
- لقد زار وهناً من اميم خيال وايدي المطايا بالزميل عجال
- وإن ابن باديس لأفضل مالك لعمري، ولكن ما لديه رجال
- ثلاثون ألفاً منهم قد هزمتهم ثلاثة آلاف وذاك ضلال
ثم نازلوه بالقيروان وطال عليه أمر الحصار، وهلكت الضواحي والقرى بإفساد العرب وعيثهم، وانتقام السلطان منهما بانتمائهم في ولاية العرب. ولجأ الناس إلى القيروان وكثر النهب واشتد الحصار، وفر أهل القيروان إلى تونس وسوسه وعم النهب والعبث في البلاد. ودخلت تلك الأرض سنة خمس وأربعين، وأحاطت زغبة ورياح بالقيروان. ونزل مؤنس قريباً من ساحة البلد. وفر القرابة والأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس وغيرها. ثم ملكوا بلاد قسطنطينة كلها وغزا عامل ابن أبي الغيث منهم: زناتة ومغراوة فاستباحهم ورجع. واقتسمت العرب بلاد أفريقية سنة ست وأربعين: وكان لزغبة طرابلس وما يليها، ولمرداس بن رياح باجة وما يليها. ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس إلى الغرب وهم: رياح وزغبة والمعقل وجشم وقرة والاثبج والخلط وسفيان. وتصرم الملك من يد المعز، وتغلب عائذ بن أبي الغيث على مدينة تونس وسباها. وملك أبومسعود من شيوخهم بونة صلحاً. وعامل المعزّ على خلاص نفسه، وصاهر ببناته ثلاثة من أمراء العرب: فارس بن أبي الغيث وأخاه عائذاً، والفضل بن أبي علي المرادي.
وقدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ولسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب وترحم بهم ولحق بهم بالقيروان، واتبعوه فركب البحر و الساحل، وأصلح أهل القيروان فأخبرهم إبنه المنصور بخبر أبيه فساروا بالسودان والمنصور. وجاء العرب فدخلوا البلد واستباحوه، واكتسحوا المكاسب وخربوا المباني وعاثوا في محاسنها، وطمسوا من الحسن والرونق معالمها. واستصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها، وشملوا بالعيث والنهب سائر من فيها وتفرّق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية، وانتشر الداء وأعضل الخطب. ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها وضيقوا عليها بمنع المرافق وإفساد السابلة. ثم حاربوا زناتة بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي، واتصلت الفتنة بينهم، وأغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر جيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه، وقتلوه بعد حروب طويلة. واضطرب أمر أفريقية وخرب عمرانها وفسدت سابلتها. وكانت رياسة الضواحي من زناتة والبربر لبني يفرن ومغراوة وبني يمانوا وبني يلومان. ولم يزل هذا داب العرب وزناتة حتى غلبوا صنهاجة وزناتة على ضواحي أفريقية والزاب، وغلبوا عليها صنهاجة وقهروا من بها من البربر، وأصاروهم عبيداً وخدماً بباجة. وكان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم أفريقية رجالات مذكورون. وكان من أشرفهم حسن بن سرحان وأخوه بدر وفضل بن ناهض، وينسبون هؤلاء في دريد بن الأثبج وماضي بن مقرب وينسبونه في قرة، وسلامة بن رزق في بني كثير من بطون كرفة بن الاثبج وشبان بن الاحيمر وأخوه صليصل، وينسبونهم في بني عطية من كرفة، ودياب بن غانم وينسبونه في في بني ثور، وموسى بن يحيى وينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم، فاحذر من الغلط في هذا. وهو من بني صنبر بطن من بطون مرداس رياح، وزيد بن زيدان وينسبونه في الضحاك ومليحان بن عباس وينسبونه في حمير، وزيد العجاج بن فاضل ويزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى أفريقية، وفارس بن أبي الغيث وعامر أخوه، والفضل بن أبي علي ونسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس المقهى،كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم.
وكان زياد بن عامر رائدهم في دخول أفريقية ويسمونه لذلك أبا مخيبر وشعوبهم لذلك العهد كما قلناه زغبة ورياح الاثبج وقرة وكلهم من هلال بن عامر. وربما ذكر فيهم بنو عدي، ولم نقف على أخبارهم، وليس لهم لهذا العهد حيّ معروف. فلعلهم دثروا وتلاشوا وافترقوا في القبائل. وكذلك ذكر فيهم ربيعة، ولم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم. وكان فيهم من غير هلال كثير من فزارة وأشجع من بطون غطفان وجشم بن معاوية بن بكربن هوازن وسلول بن مرة بن صعصعة بن معاوية، والمعقل من بطون اليمنية، وعمرة بن أسد من بني ربيعة بن نزار، وبني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة، وعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان. وطرود بطن من فهم بن قيس، إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال وفي الأثبج منهم خصوصاً، لأن الرياسة كانت عند دخولهم للأثبج وهلال فأدخلوا ا كيهم وصاروا مندرجين في جملتهم. وفرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا القيل لعهد البازوري أو الجرجاني. وإنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي، ولهم فيها أخبار من الصنهاجيين ببرقة والشيعة بمصر خطوب، ونسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله:
- طلبنا القرب منهم وجزيل منهم بلا عيب من عرب سحاح جمودها
- وبيت غرت أمره منا وبينهما طرود أنكاد اللي يكودها
- ماتت ثلاث آلاف مرة وأربعة بحرمه منا تداوي كبودها
وقال الآخر منهم:
- أيا رب جيرالخلق من نائح البلا إلا القليل انجارما لا يجيرها
# وخص بها قرة مناف وعينها ديما لأرياد البوادي تشيرها
فذكر نسبهم في مناف، وليس في هلال. مناف هكذا منفرداً إنما هو عبد مناف والله تعالى أعلم. كان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم. ولما بعث الحاكم يحيى بن علي الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروق بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروق، أوعز لهم في السير معه فوصلوا إلى طرابلس وجروا الهزيمة على يحيى بن عليّ، ورجعوا إلى برقة. وبعث عنهم فامتنعوا، ثم بعث لهم بالأمان، ووصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع وتسعين وثلثمائة. وكان عندهم معلم للقرآن اسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أُميّة وكان يزعم أن لديه أثارة من علم في اختيار ملك آبائه، وقبل ذلك منه البرابرة من مزاتة وزناتة ولواتة. وتحدثوا بشأنه فنصبه بنو قرة وبايعوه بالخلافة سنة خمس وتسعين وثلثمائة0 وتغلّبوا على مدينة برقة. وزحف إليهم جيوش الحاكم فهزموها، وقتل الوليد بن هشام قائدها من الترك.
ثم زحفوا به إلى مصر فانهزموا ولحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان. ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر وقتل، وهدرت لبني قرة جنايتهم هذه وعفا عنهم. ولما كانت سنة إثنتين وأربعمائة اعترضوا هدية باديس بن المنصور ملك صنهاجة من أفريقية إلى مصر فأخذوها، وزحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها، وفرّ في البحر،
واستولوا على برقة. ولم يزل هذا شأنهم ببرقة. فلما زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة ورياح والأثبج وأتباعهم إلى أفريقية، كانوا ممن زحف معهم. وكان من شيوخهم ماضي بن مقرب المذكور في أخبار هلال. ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى أفريقية طرق في الخبر غريبة: يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها، وولدت منه ولداً إسمه محمد. وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى أفريقية. وتحيّلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها. وكتموا رحلتها عنه، وموّهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه، وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه، فرجع إلى مكانه من مكة، وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وأنهاه من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه. ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس وكثير، ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف، وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما أخلوا فيها بالأعراب فقط، ولا مدخل له في البلاغة كما قّررناه لك في الكتاب الأوّل من كتابنا هذا. إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب، ويحسبون أن الإعراب هو أصل البلاغة، وليس كذلك. وفي هذه الأشعار كثير دخلته الصنعة، وفقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به. ولو صحت روايته لكانت فيه شواهد بأيامهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم؛ وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم. لكنا لا نثق بروايتها. وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها ويتهمه، وهذا قصارى الأمر فيه. وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفأ عن سلف وجيلا عن جيل. ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمى عندهم بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم. وهذا الشريف الذي يشيرون إليه هو من الهواشم، وهو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفربن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس وأبوه أبو الفتوح هو الذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيدي، وبايع له بنو الجراح أمراء طىء بالشام وبعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم، وبايع له كافة العرب. ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيدي ورجع إلى مكة، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة فولي بعده إبنه شكر هذا، وهلك سنة ثلاث وخمسين، وولي إبنه محمد الذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه. وتقدّم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم. (وقال ابن سعيد): هو من السليمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الذي بايع له أبو الزاب الشيباني بعد ابن طباطبا، ويسمّى الناهض. ولحق بالمدينة فاستولى على الحجاز واستقرت إمارة مكة في بيته إلى أن غلبهم عليها هؤلاء الهواشم. جداً قريباً من الحسن والحسين. وأمّا هاشم الأعلى فمشترك بين سائر الشرفاء، فلا يكون مميزاً لبعضهم عن بعض. وأخبرني من أثق به من الهلاليين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر، وأنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات، وأن ولده بها لهذا العهد والله أعلم. ومن مزاعمهم أنّ الجازية لما صارت إلى أفريقية وفارقت الشريف خلفه عليها منهم ماضي بن مقرّب من رجالات دريد وكان المستنصر لما بعثهم إلى أفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها وثغورها وقلدهم أعمالها، فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان وباجة، وعقد لزغبة على طرابلس وقابس، وعقد لحسن بن سرحان على قسطنطينة. فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار، وملك كل ما عقد له سيمت الرعايا بالأمصار عسفهم وعيثهم باختلاف الأيدي، إذ الوازع مفقود من أهل هذا
الجيل العربي مُذ كانوا فثاروا بهم وأخرجوهم من الأمصار، وصاروا إلى ملك الضواحي والتغلّب عليها، وسيّم الرعايا بالخسف في النهب والعيث وإفساد السابلة، هكذا إلى هلمّ. ولمّا غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس والنجدة بالبداوة فحاربوهم وزحفوا إليهم من أفريقية والمغرب الأوسط. وجهز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم وبينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب، وتغلبوا على الضواحي في كل وجه. وعجزت زناتة عن مدافعتهم بأفريقية والزاب. وصار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد، ومصاب من بلاد المغرب الأوسط. فلما استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها، وصالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم، وصاروا إلى التفريق بينهم، وظاهروا الاثبج على رياح وزغبة، وحشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم وجمع زناتهة وكان فيهم المعزّ بن زيري صاحب فاس من مغراوة ونزلوا الأربس جميعاً. ولقيهم رياح وزغبة بسببه. ومكر المعز بن زيري المغراويّ بالناصر وصنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعز بن باديس صاحب القيروان، فجر عليهم الهزيمة واستباحت العرب وزناتة خزائن الناصر ومضاربه. وقتل أخوه القاسم ونجا إلى قسطنطينية ورياح في اتباعه. ثم لحق بالقلعة فنازلوها وخرّبوا جنباتها وأحبطوا عروشها، وعاجوا على ما هنالك من الأمصار مثل طبنة والمسيلة فخربوها وأزعجوا ساكنيها، وعطفوا على المنازل والقرى والضياع والمدن فتركوها قاعاً صفصفاً أقفر من بلاد الجن، وأوحش من جوف العير وغوروا المياه واحتطبوا الشجر، وأظهروا في الأرض الفساد، وهجروا ملوك أفريقية والمغرب من صنهاجة وولاة أعمالهم في الأمصار، وملكوا عليهم الضواحي يتحيفون جوانبهم ويقعدون لهم بالمراصد، ويأخذون لهم الأتاوة على التصرف في أوطانهم. ولم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة، واختط بالساحل مدينة بجاية، ونقل إليها ذخيرته وأعدها لنزله. نزلها المنصور ابنه من بعده فرارا من ضيم هذا الجيل وفسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال وتوعر مسالكها على رواحلهم. واستقروا بها بعد، وتركوا القلعة. وكانوا يختصون الاثبج من هؤلاء الأحياء بالرياسة سائر أيامهم. ثم افترق جمع الأثبج وذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم. ولما غلب الموحدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى وأربعين وخمسمائة، وزحف شيخ الموحّدين عبد المؤمن إلى أفريقية، وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج وحبّاس بن مشيفر من رجالات جشم فتلقاهما بالمبرة، وعقد لهما على قومهما ومضى لوجهه. وفتح بجاية سنة تسع وخمسين وخمسماية. ثم انتقض العرب الهلاليون واعصوصبوا على دعوة صنهاجة وكان أمير رياح فيهم محرز بن زناد بن بازخ إحدى بطون بني علي بن رياح، فلقيتهم جيوش الموحدين بسطيف، وعليهم عبد الله بن المؤمن فتواقفوا ثلاثا علقوا فيها رواحلهم، وأثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم، ثم انتفض في الرابعة جمعهم واستلحمهم الموحّدون وغلبوا عليهم، وغنموا أموالهم وأسروا رجالهم وسبوا نساءهم واتبعوا أدبارهم إلى فحص سبتة0 ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم واستكانوا لعزّ الموحّدين وغلبهم فدخلوا في دعوتهم وتمسكوا بطاعتهم، وأطلق عبد المؤمن أسراهم ولم يزالوا على استقامتهم، ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس وربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية فأجازوا مع عبد المؤمن ويوسف إبنه كما هو في أخبار دولتهم. ولم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوّفيون أمراء ميورقة، أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكبسوها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة لأوّل دولة المنصور، وكشفوا القناع في نقض طاعة الموحدين ودعوا العرب بها فعادت هيف إلى أديانها. وكانت قبائل جشم ورياح وجمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها. ولما تحركت جيوش الموحدين إلى أفريقية لكف عدوانهم تحيزت قبائل زغبة إليهم وكانوا في جملتهم ولحق بنو غانية بفاس ومعهم كافة جشم ورياح، ولحق بهم جل قومهم من مسوفة وإخوانهم لمتونة من أطراف البقاع، واستمسكوا بالدعوة العباسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسّكون بها فأقاموها فيمن إليهم من القبائل والمسالك ونزلوا بفاس. وطلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك وأوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان، فعقد لابن غانية وأذن له في حرب الموحدين. واجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور، وكانوا جاؤوا على أثر الهلاليين عند إجازتهم إلى أفريقية. وظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني. ونذكر أخباره في أخبار الميورقي. فاجتمع لعلي بن غانية من الملثمين والعرب والعجم عساكر جمة، وغلب الضواحي وافتتح بلاد الجريد، وملك قفصة وتوزر ونفطة. ونهض إليه المنصور من مراكش يجر امم المغرب من زناتة والمصامدة وزغبة من الهلاليين وجمهور الأثبج، فأوقعوا بمقدمته بفحص غمرة من جهات قفصة. ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرّة عليهم وفلّ جمعهم واتبع آثارهم إلى أن شرّدهم إلى صحارى برقة، وانتزع بلاد قسنطينة وقابس وقفصة من أيديهم. وراجعت قبائل جشم ورياح من الهلاليّين طاعته ولاذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى. وأنزل جشم ببلاد تامسنا، ورياحاً ببلاد الهبط، وأزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا. وكانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على أفريقية وضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء أفريقية وصحراء المغرب الأوسط، وبها قصور جدّدها فسميت باسم من ولي خطتها من شعوبهم. وكان بنو بادين وزناتة وهم بنو عبد الواد وتوجين ومصاب وبنو زردال وبنو راشد شيعة للموحّدين منذ أول دولتهم، فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين وأنظارهم كما يأتي. وكانوا يتولّون من أرياف المغرب الأوسط وتلوله ما ليس يليه أحد من زناتة، ويجوسون خلاله في رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله، حتى كأنهم من جملة عساكر الموحّدين وحاميتهم. وأمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة ونزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليّين وتحيزوا إلى فئتهم، وصاروا جميعاً قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلى جبل راشد، بعد أن كانت قسمتهم الأولى بقابس وطرابلس. وكانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس. وقتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة إبن غانية، وانحرافهم عنه إلى الموحدين. وانعقد ما بينهم وبين بني بادين حلف على الجوار والذبّ عن الأوطان وحمايتها من معرة العدو في احتيال غرتها وانتهاز الفرصة فيها. فتعاقدوا على ذلك واجتوروا وأقامت زغبة في القفار وبنو بادين بالتلول والضواحي. ثم فر مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيّين من بلاد الهبط، ولحق ببلاد طرابلس ونزل على زغبة وذياب من قبائل بني سليم. ووصل إلى قراقش بن رياح وحصر معه طرابلس حين افتتحها، وهلك هنالك. وقام إلى الميروني ولحق ولقيه بالحملة فهزمه وقتل الكثيرمن قومه. وانهزمت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم: إبنه عبد الله وابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان، وشيخ من شيوخ قرة فضرب أعناقهم. وفر يحيى بن غانية إلى مسقطه من الصحراء. واستمرّت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال وسليم وأتباعها. ونحن الآن نذكر أخبارهم ومصائر أمورهم ونعدّدهم فرقة فرقة. ونخص منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحيه وناجعته، ونطوي ذكر من انقرض منهم. ونبدأ بذكر الأثبج لتقدم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه. ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم. ثم نذكر رياحأ وزغبة، ثم المعقل لأنهم من عداد هلال. ثم نأتي بعدهم بذكر سفيم لأنهم جاؤوا من بعدهم والله الخلاق العليم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخبر عن الأثبج وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة
كان هؤلاء الأثبج من الهلاليين أوفر عدداً وأكثر بطوناً، وكان التقدم لهم في جملتهم. وكان منهم: الضحاك وعياض ومقدم والعاصم ولطيف ودريد وكرفة وغيرهم حسبما يظهر في نسبهم. وفي دريد بطنان: توبة وعنز. ويقولون بزعمهم أن أثبج هو ابن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال. فكرفة هو ابن الأثبج. وكان لهم جمع وقوّة وكانوا أحياء غزيرة من جملة الهلاليين الداخلين لأفريقية. وكانت مواطنهم حيال جبل أوراس من شرقية. ولما استقر أمر الأثبج بأفريقية على غلب صنهاجة على الضواحي ووقعت الفتنة بينهم، وذلك أن حسن بن سرحان وهو من دريد قتل شبانة بن الاحيمر من كرفة عيلة، فطوت كرفة على الهائم. ثم إن أخته الجازية غاضبت زوجها ماضي بن مقرب بن قرة، ولحقت بأخيها فمنعها منه فاجتمعت قرة وكرفة على فتنة حسن وقومه، وظاهرتهم عياض. ولم تزل الفتنة إلى أن قتل حسن بن سرحان. قتله أولاد شبانة بن الأحيمر، وثأروا منه بأبيهم. ثم كان الغلب بعده لدريد على كرفة وعياض وقرة. واستمرت الفتنة بين هؤلاء الأثابج، وافترق أمرهم. وجاءت دولة الموحدين وهم على ذلك الشتات والفتنة، وكانت لبطونهم ولاية لصنهاجة. فلما ملك الموحدون أفريقية نقلوا منهم إلى المغرب العاصم ومقدماً وقرة وتوابع لهم من جشم، وأنزلوا جميعهم بالمغرب كما نذكر. واعتزت رياح بعهدهم بأفريقية وملكوا ضواحي قسطنطينة ورجع إليهم شيخهم مسعود بن زمام من المغرب فاعتز الزواودة على الأمراء والدول. وساء أثرهم فيها وغلبوا بقايا الاثابج فنزلوا قرى الزاب، وقعدوا عن الطعن وأوطنوا بالقرى والاطام. ولما نبذ بنو أبي حفص العهد للدواودة كما يأتي في أخبارهم، واستجاش عليهم بنو سليم وأنزلوهم القيروان اصطنعوا كرفة من بطون الأثابج، فكانوا حرباً لرياح وشيعة للسلطان. وأقطعتهم الدولة لذلك جباية الجانب الشرقي من جبل أوراس وكثيرا من بلاد الزاب الشرقية، حيث كانت محلاتهم الشتوية. حتى إذا اختل ريح الدولة، وأخلقت جدتها واعتزت رياح عليها، وملكوا المجالات على من يظعن فها نزل كرفة هؤلاء بجبل أوراس حيث إقطاعاتهم وسكنوه حللاً متفرقة واتخذوه وطناً. وربما يظعن بعضهم إلى تخوم الزاب كما نذكر عن بطونهم، وهم بطون كثيرة، فأؤلهم: بنو محمد بن كرفة ويعرفون بالكلبية، وأولاد سهيب بن محمد بن كليب ويعرفون بالشبه، وأولاد صبيح بن فاضل بن محمد بن كليب ويعرفون بالصبحة، وأولاد سرحان بن فاضل أيضأ ويعرفون بالسرحانية. وهؤلاء هم المودعات وهم موطنون
بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا ثم أولاد نافت بن فاضل، وهم أهل الرياسة في كرفة. ولهم إقطاعات السلطان التي ذكرناها، وهم ثلاثة أفخاذ: أولاد مساعد وأولاد ظافر وأولاد قطيفة. والرياسة أخص بأولاد مساعد في أولاد علي بن جابر بن فتاح بن مساعد بن نابت. وأما بنو محمد والمراونة فهم ظواعن جائلة في القفار تلقاء مواطن أولاد نابت. ويكتالون الحبوب لأقواتهم من زروع أهل الجبل، وأولاد نابت. وربما يستعملهم صاحب الزاب في تصاريف أمره من عسكر وإخفار، وغير ذلك من أغراضه. وأما دريد فكانوا أعز الأثبج وأعلاهم كعبأ بما كانت الرياسة على الأثبج كلهم عند دخولهم إلى أفريقية لحسن بن سرحان بن وبرة إحدى بطونهم، وكانت مواطنهم ما بين العناب إلى قسطنطينة إلى طارف مصقلة، وما يحاذيها من القفر. وكانت بينهم وبين كرفة الفتنة التي هلك فيها حسن بن سرحان كما ذكرناه، وقبره هنالك. وكانوا بطونأ كثيرة منهم: أولاد عطية بن دريد وأولاد سرور بن دريد وأولاد جار الله من ولد عبد الله بن دريد. وتوبة من ولد عبد الله أيضاً، وهو توبة بن جبربن عطاف بن عبد الله، وكانت لهم بين هلال رياسة كبيرة، ومدحهم شعراؤهم بشعر كثير، فمن ذلك قول بعض شعرائهم:
- دريد ذات سراة البدو للجود منقع كما كل أرض منقع الماء خيارها
- تحنّ إلى أوطان مرة ناقتي لكن معها جملة دريد كان موارهــــــا
- وهم عربوا الأعراب حتى تعرّبت بنوف المعالي ما ينفي قصارهـا
- وتركوا طريق النار برهــة وقد كان ما تقوى المطايا حجارهـا
فأما أولاد عطية فكانت رئاستهم في أولاد بني مبارك بن حباس، وكانت لهم تلة بن
حلوف من أرض قسطنطينة. ثم دثروا وتلاشوا0 وغلبتهم توبة علي على تلة بن حلوف زحفوا إليها من مواطنهم بطارق مصقلة فملكوها وما إليها. ثم عجزوا عن رحلة القفر وتركوا الإبل واتخذوا الشاة والبقر وصاروا في عداد القبائل الغارمة، وربما طالبهم السلطان بالعسكرة معه فيعينون له جنداً منهم، ورياستهم في أولاد وشاح بن عطوة بن عطية بن كمون بن فرج بن ثوبة، وفي أولاد مبارك بن عابد بن عطية بن عطوة، وهم على ذلك العهد. ويجاورهم أولاد سرور وأولاد جار الله على سننهم في ذلك. فأما أولاد وشاح فرئاستهم لهذا العهد منقسمة بين سجم بن كثير بن جماعة بن وشاح وبين أحمد بن خليفة بن رشاش بن وشاح. وأما أولاد مبارك بن عابد فرئاستهم أيضا منقسمة بين نجاح بن محمد بن منصوربن عبيد بن مبارك، وعبد الله بن أحمد بن عنان بن منصور ورثها عن عمه راجح بن عثمان بن منصور وأما أولاد جار الله فرئاستهم في ولد عنان بن سلام منهم. وأما العاصم ومقدم والضحاك وعياض فهم أولاد مشرف بن اثبج، ولطيف وهو ابن سرح بن مشرف، وكان لهم عدد وقوة بين الأثابج. وكان العاصم ومقدم انحرفوا عن طاعة الموحدين إلى ابن غانية، فأشخصهم يعقوب المنصور إلى المغرب وأنزلهم تامستا مع جشم ويأتي خبرهم، وبقيت عياض والضحاك بمواطنهم بأفريقية: فعياض نزلوا بجبل القلعة، قلعة بني حماد، وملكوا قبائله وغلبوهم على أمرهم، وصاروا يتولون جبايتهم. ولما غلبت عليهم الدولة بمظاهرة رياح صاروا إلى المدافعة عن تلك الرعايا وجبايتهم للسلطان. وسكنوا ذلك الجبل فطوله من المشرق إلى المغرب ما بين ثنية غنية والقصاب إلى وطن بني يزيد بن زغبة. فأولهم مما يلي غنية للمهاية. ورئاستهم في أولاد ديفل، ومعهم بطن منهم يقال لهم الزير، وبعدهم المرتفع والخراج من بطونهم. فأما المرتفع فثلاثة بطون: أولاد تبان، ورياستهم في أولاد محمد بن موسى، وأولاد حناش، ورياستهم في بني عبد السلام. وأولاد عبدوس ورياستهم في بني صالح. ويدعى أولاد حناش وأولاد تبار جميعاً أولاد حناش. وأما الخراج فرياستهم لأولاد زائدة بني عباس بن خفير، ويجاور الخراج من جانب الغرب أولاد صخر، وأولاد رحمة من بطون عياض، وهم مجاورون لبني يزيد بن زغبة في آخر وطن الأثابج من الهلاليين. وأما الضحاك فكانوا بطوناً كثيرة، وكانت رياستهم مفترقة بين أمرين منهم وهما أبو عطية وكلب بن منيع وغلب كلب أبا عطية على رياسة قبيلتهما لأول دولة
الموحدين، فارتحل فيما زعموا إلى المغرب، وسكن صحراء سجلماسة، وكانت له فيها آثار حتى قتله الموحدون أو غربوه إلى الأندلس، هكذا ينمل أصحاب أخبارهم. وبقي تجمعهم بالزاب حتى غلب مسعود بن زمام والزواودة عليهم وأصاروهم في جملتهم.ثم عجزوا عن الطعن، ونزلوا بلاد الزاب واتخذوا بها المدن، فهم على ذلك لهذا العهد. وأما لطيف فهم بطون كثيرة منهم، اليتامى وهم أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف بني ذوي مطرف وذوي أبي الخليل وذوي جلال بن معافى. ومنهم اللقامنة، أولاد لقمان بن خليفة بن لطيف ومنهم: أولاد جرير بن علوان بن محمد بن لقمان، ونزار بن معن بن محيا بن جري بن علوان، وجرير يزعمون أنهم من محيا بن جري، ومزنة من ديفل بن محيا؛ وإليه يرجع نسب بني مزنى الولاة بالزاب لهذا العهد. وكانت هؤلاء كثرة ونجعة. ثم عجزوا عن الظعن وغلبهم على الضواحي الزواودة من بعدهم لما قل جمعهم وافترق ملوكهم، وصار إلى المغرب من صار منهم من جمهور الأثبج فاهتضموا، وعليهم رياح والزواودة فنزلوا بلاد الزاب، واتخذوا بها الآطام والمدن مثل الدوسن وغريبوا وتهدوه وتقموه وبادس. وهم لهذا العهد من جملة الرعايا الغارمة لأمير الزاب. ولهم عنجهية منذ رياستهم القديمة لم يفارقوها، وهم على ذلك لهذا العهد. وبينهم في قصورهم بالزاب فتن متصلة بين المتجاورين منهم وحروب وقتل. وعامل الزاب يدرأ بعضاً ببعض، ويستوفي جبايته منهم جميعاً والله خير الوارثين. ويلحق بهؤلاء الأثبج العمور، ويغلب على الظنّ أنهم من ولد عمرو بن عبد مناف بن هلال إخوة قرة بن عبد مناف، وليسوا من ولد عمربن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال، لأن رياحاً وزغبة والأثبج من أبي ربيعة، ولا نجد بينهم انتماء بالجملة. ونجد بينهم وبين قرة وغيرهم من بطون هلال الانتماء، فدل على أنهم لعمرو بن عبد مناف، أو يكونون من عمرو بن روينة بن عبد الله بن هلال وكلهم معروف. ذكره ابن الكلبي والله أعلم بذلك. وهم بطنان: قرة وعبد الله، وليس لهم رياسة على أحد من هلال، ولا ناجعة تظعن لقلتهم وافتراق ملتهم. إنما هم ساكنون بالضواحي والجبال، وفيهم الفرسان وأكثرهم رجالة. وموطنهم ما بين جبل أوراس شرقاً إلى جبل راشد. وكان كل ذلك من ناحية الحضنة والصحراء. وأما التلول فهم مرفوعون عنها بقلتهم وخوفهم من حامية الدول، فتجدهم أقرب إلى موطن القفر والجدب. (فأما بنو قرة) منهم فبطن متسع إلا أنهم مفترقون في القبائل والمدن وحدانا. وبنو عبد الله منهم على رياسة فيهم وهم: عبد الله بن علي وبنوه محمد وماضي بطنان، وولد محمد : عنان وعزيز بطنان، وولد عنان شكر وفارس بطنان. من ولد شكر أولاد يحيى ابن سعيد بن شكر بطن أيضاً. فأما أولاد فارس وأولاد عزيز وأولاد ماضى فموطنهم بسفح جبل أوراس المطل على بسكرة قاعدة الزاب متصلين كذلك غرباً إلى مواطن غمرة، وهم في جوار رياح وتحت أيديهم، وخول لأولاده وخصوصاً من الزواودة المتولين موطنهم بالمجال. ولصاحب الزاب عليهم طاعة لقرب جواره وحاجتهم إلى سلطانه، فيصرفهم لذلك في حاجته متى عنت من إخفار العير ومقارفة مدن الزاب مع رجله وغير ذلك.
(وأما أولاد شكر) وهم أكبر رياسة فيهم فنزلوا جبل راشد، وكانوا فريقين، فنزلوا واحتربوا وغلب أولاد محيا بن سعيد منهم أولاد زكرير ودفعوهم عن جبل راشد فصاروا إلى جبل كسال محاذيه من ناحية الغرب وأوطنوه، واتصلت فتنتهم معهم على طول الأيام وافتتحهم رجال زغبة باقتسام المواطن: فصار أولاد يحيى أهل جبل راشد في إيالة سويد بن زغبة وأحلافاً لهم، وأولاد زكرير أهل جبل كسال في إيالة بني عامر وأحلافا لهم. وربما يقتحمون بادية زغبة مع النضرأحلافا لهم في فتنتهم كما نذكر في أخبار زغبة. وكان شيخهم من أولاد يحيي فيما قرب من عهدنا عامر بن أبي يحيى بن محيا. وكان له فيهم ذكر وشهرة. وكان ينتحل العبادة وحج، ولقي بمصر شيخ الصوفية لعصره يوسف الكوراني، وأخذ عنه ولقن طرق هدايته ورجع إلى قومه وعاهدهم على طريقته ونحلته فاتبعه الكثير منهم، وغزا المفسدون من بادية النضر في جواره، وجاهدهم إلى أن اغتالوه بعض الأيام في الصيد فقتلوه. وكان شيخ أولاد زكريريغمور بن موسى بن بوزير بن زكرير، وكان يسامي عامراً ويناهضه في شرفه، إلا أن عامراً كان أسود منه بنحلة العبادة، والله مصرف الأمور والخلق ا هـ.
خريطة
الخبر عن جشم الموطنين بسائط المغرب وبطونهم من هذه الطبقة
هؤلاء الأحياء بالمغرب لهذا العهد فيهم بطون من قرة والعاصم، ومقدم والأثبج وجشم والخلط. وغلب عليهم جميعاً اسم جشم فعرفوا به. وهم: جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن. وكان أصل دخولهم إلى المغرب: أنّ الموحدين لما غلبوا على أفريقية أذعنت لهم هؤلاء القبائل من العرب طوعاً وكراهية. ثم كانت فتنة ابن غانية فأجلبوا فيها وانحرفوا عن الموحدين، وراجعوا الطاعة لعهد المنصور فنقل جمهور هؤلاء القبائل إلى المغرب ممن له كثرة وشوكة وظواعن ناجعة. فنقل العاصم ومقدم من بطون الأثبج، ومعهم بطون ونقل جشم هؤلاء الذين غلب إسمهم على من معهم من الأحياء، وأنزلهم تامستا. ونقل رياح وأنزلهم الهبط فنزل جشم بتامستا البسيط الأفيح ما بين سلا ومراكش أوسط بلاد المغرب الأقصى، وأبعدها عن الثنايا المفضية إلى القفار لإحاطة جبل درن بها وشموخه بأنفه حذاءها، ووشوج أعراقه حجراً عليها فلم ينتجعوا بعدها قفراً ولا أبعدوا رحلة، وأقاموا بها أحياء حلولا، وافترقت شعوبهم بالمغرب إلى الخلط وسفيان وبني جابر. وكانت الرياسة لسفيان من بينهم في أولاد جرمون سائر أيام الموحدين، ولما وهن أمر بني عبد المؤمن وفشلوا وذهبت ريحهم استكثروا بجموعهم، فكانت لهم سورة غلب واعتزاز على الدولة بكثرتهم وقرب عهدهم بالبداوة وخّربوا ما بين الأعياص، وظاهروا الخلافة وأكثروا الفساد وساءت آثارهم في البغي. ولما اقتحم بنو مرين بلاد المغرب على الموحدين وملكوا فاس وقريتها لم تكن فيه حامية أشد منهم بأساً ومن رياح لقرب العهد بالبداوة، فكانت لهم معهم وقائع وحروب استلحمهم فيها بنو مرين إلى أن حق الغلب واستكانوا لعزّ بني مرين وصولتهم، وأعطوهم صفقة الطاعة وأصهر بنو مرين منهم إلى الخلط في بيت بني مهلهل، فكان في جملة بني مرين، وكانت لهم الجولة للملك. واستقرّت رياسة جشم وكثرهم في الخلط منهم، في ببت مهلهل، بعد أن كانت على عهد الموحدين في سفيان.
ثم ضربت الأيام ضرباتها وأخلقت جدتهم وفشلوا وذهبت ريحهم، ونسوا عهد البداوة والناجعة وصاروا في عداد القبائل الغارمة للجباية والعسكرة مع السلطان (ولنذكر الآن) فرقهم الأربع، وأحياء كل واحدة منها ونحقق الكلام في أنسابهم: فليست راجعة إلى جشم على ما يتبين. ولكن الشهرة بهذا النسب متصلة والله أعلم بحقائق الأمور.
هذه القبائل معدودة في جشم، وجشم المعهود هو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن أو لعله جشم آخر من غيرها. وكان شيخهم المشهور لعهد المأمون وبنيه جرمون بن عيسى. ونسبه فيما يزعم بعض المؤرخين أيام الموحدين في بني قرة، وكانت ببنهم وبين الخلط فتن طويلة وكان الخلط شيعة للمأمون وبنيه فصار سفيان لذلك شيعة يحيى بن الناصر منازعه في الخلافة بمراكش.ثم قتل الرشيد مسعود بن حميدان شيخ الخلط كما نذكر بعد، فصاروا إلى يحيى بن الناصر. وصار سفيان إلى الرشيد. ثم ظهر بنو مرين بالمغرب واتصلت حروبهم مع الموحدين. ونزع جرمون سنة ثمان وثلاثين وستمائة عن الرشيد ولحق بمحمد بن عبد الحق أمير بني مرين حياء مما وقع له معه، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة. وذلك أنه نادمه ذات ليلة حتى سكر، وحمل عليه وهو سكران يرقص فرقص طربأ. ثم أفاق فندم وفر إلى محمد بن عبد الحق، وذلك سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وهلك سنة تسع وثلاثين بعدها. وعلا كعب كانون إبنه من بعده عند السعيد، وخالف عليه عند نهوضه إلى بني مرين سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ورجع إلى أزمور فملكها. وفت ذلك في عضد السعيد فرجع عن حركته، وقصد كانون بن جرمون ففرأمامه وحضرحركته إلى تامزردكت، وقتل قبل مهلكه بيوم قتله الخلط في فتنة وقعت بينهم في محلة السعيد، وهي التي جرت عليها تلك الواقعة. وقام بأمر سفيان من بعده أبوه يعقوب بن جرمون، وقتل محمد ابن أخيه كانون. وقام بأمر سفيان، وحضر مع المرتضى حركة أمان إيملولين سنة تسع وأربعين وستمائة فرحل عن السلطان واختل عسكره فرجع فاتبعه بنو مرين وكانت الهزيمة.ثم رجع المرتضى وعفا له عنها، ثم قتله سنة تسع وخمسين وستمائة مسعود وعلي إبناء أخيه كانون بثأرأبيهما، ولحقا بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين وقدم المرتضى إبنه عبد الرحمن فعجز، عن القيام بأمره، فقدم عفه عبيد الله بن جرمون فعجز، فقدم مسعود بن كانون، ولحق عبد الرحمن ببني مرين. ثم تقبّض ،المرتضى على يعقوب بن قيطون شيخ بني جابر وقدم عوضاً منه يعقوب بن كانون السفياني. ثم راجع عبد الرحمن بن يعقوب سنة أربع وخمسين وستمائة فتقبض عليه واعتقل. وأقام مسعود بن كانون شيخاً على سفيان. وكان لإبني عفه معه ظهوروهما: حطوش وعيسى أبناء يعقوب بن جرمون. ونزع مسعود عن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة ست وستين وستمائة ابن عبد الحق ولحق بمسكورة وشب نار الفتنة والحرب واقيم حطوش بن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة تسع وستين وستمائة، فولي مكانه أخوه عيسى. وهلك مسعود بسكورة سنة ثمانين وستمائة، ولحق ابنه منصور بن مسعود بالسكسيوي إلى أن راجع الخدمة أيام يوسف بن يعقوب. ووفد عليه بعسكره من حصار تلمسان سنة ست وسبعمائة فتقبله. واتصلت الرياسة على سفيان في بني جرمون هؤلاء إلى عهدنا. وأدركت شيخاً عليهم لعهد السلطان أبي عنان يعقوب بن علي بن منصوربن عيسى بن يعقوب بن جرمون بن عيسى. وكان سفيان هؤلاء حياًَ حلولاًَ بأطراف تامستا مما يلي أسفى، وملك بسائطها الفسيحة عليهم الخلط. وبقي من أحيائهم الحرث والكلابية ينتجعون أرض السوس وقفاره، ويطلبون ضواحي بلاد جاجة من المصامدة، فبقيت فيهم لذلك شدة وبأس، ورياستهم في أولاد مطاوع من الحرث. وطال عيثهم في ضواحي مراكش وإفسادهم. فلما استبد سلطان مراكش الأمير عبد الرحمن بن أبي فلفوس علي ابن السلطان أبي علي سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكر استخلصهم ورفع منزلتهم. واستقدمهم بعض أيامه للعرض بفرسانهم ورجلهم على العادة، وشيخهم منصور بن بعيش من أولاد مطاع. وتقبض عليهم أجمعين، وقتل من قتل منهم، وأودع الآخرين سجونه فذهبوا مثلأ في الأيام وخصدت شوكتهم والله قادر على ما يشاء.
الخلط من جشم
هذا القبيل يعرف بالخلط وهم في عداد جشم هؤلاء، لكن المعروف أن الخلط بنو المنتفق من بني عامر بن عقيل بن كعب، كلهم شيعة للقرامطة بالبحرين، ولما ضعف أمر القرامطة استولى بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة. ثم غلبهم عليها بنو أبي الحسين من بطون تغلب بالدعوة العباسية، فارتحل بنو سليم وبنو المنتفق من هؤلاء المسمون بالخلط إلى أفريقية، وبقي سائر بني عقيل بنواحي البحرين إلى أن غلب منهم على التغلبيين بنوعامر بن عوف بن مالك بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر بن عقيل إخوة الخلط هؤلاء، لأنهم في المغرب منسوبون إلى جشم تخليطاً في النسب ممن يحققه ا لعوام. ولما أدخلهم المنصور إلى المغرب كما قلناه استقّروا ببسائط تامستا فكانوا أولي عدد وقوّة، وكان شيخهم هلال بن حميدان بن مقدم بن محمد بن هبيرة بن عواج لا نعرف من نسبه أكثر من هذا. فلما ولي العادل بن منصور خالفوا عليه وهزموا عساكره، وبعث هلال ببيعته إلى المأمون سنة خمس وعشرين وستمائة، واتبعه الموحدون في ذلك. وجاء المأمون وظاهروه على أمره، وتحيز أعداؤهم سفيان إلى يحيى بن القاص منازعة. ولم يزل هلالى مع المأمون إلى أن هلك في حركة سبتة، وبايع بعده لأبنه الرشيد وجاء به إلى مراكش، وهزم سفيان واستباحهم. ثم هلك هلال وولي أخوه مسعود، وخالف على الرشيد عمر بن أوقاريط شيخ الهساكرة من الموحدين، وكان صديقاً لمسعود بن حميدان فأغراه بالخلاف على إكسز السلطان فخالف. وحاول عليه الرشيد حتى قدم عليه بمراكش وقتله في جماعة من قومه سنة إثنتين وثلاثين وستمائة. وولي أمر الخلط بعده يحيى ابن أخيه هلال. ومرّ بقومه إلى يحيى بن القاص، وحصروا مراكش ومعهم ابن أوقاريط. وخرج الرشيد إلى سجلماسة واستولوا على مراكش وعاثوا فيها. ثم جاء الرشيد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وغلبهم عليها ولحق ابن أوقاريط بالأندلس. وأبدى عليّ بن هود بيعة الخلط، وعلموا أنها حيلة من ابن أوقاريط وأنه تخلّص من الورطة، فطردوا عنهم يحيى بن القاص إلى معقل. وراجعوا الرشيد فتقبض على علي ووشاح إبني هلال وسجنهم بآزمور سنة خمس وثلاثين وستمائة. ثم أطلقهم، ثم غدر بعد ذلك بمشيختهم بعد الإستدعاء والتأنيس وقتلهم جميعاً مع عمر بن أوقاريط، كان أهل إشبيلية بعثوا به إليه، ثم حضروا مع السعيد في حركته إلى بني عبد الواد، وجروا عليه الواقعة حتى قتل فيها بفتنتهم مع سفيان يومئذ. فلم يزل المرتضى يعمل الحيلة فيهم إلى أن تقبض على أشياخهم سنة إثنتين وخمسين وستمائة وقتلهم ولحق عواج بن هلال ببني مرين، وقدم المرتضى عليهم علي بن أبي علي من بيت الرياسة فيهم. ثم رجع عواج سنة أربع وخمسين وستمائة، وأغزاه علي بن أبي علي فقتل في غزاته. ثم كانت واقعة أم الرجلين على المرتضى سنة ستين وستمائة، فرجع علي بن أبي علي إلى بني مرين. ثم صار الخلط كلهم إلى بني مرين. وكانت الرياسة فيهم لأول سلطان لبني مرين لمهلهل بن يحيى بن مقدم. وأصهر إليه يعقوب بن عبد الحق فأنكحه ابنته التي كان منها إبنه السلطان أبوسعيد. ولم يزل مهلهل عليهم إلى أن هلك سنة خمس وتسعين وستمائة، ثم إبنه عطية. وكان لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبو الحسن، وبعثه سفيراً إلى سلطان مصر الملك الناصر. ولما هلك قام بأمره أخوه عيسى بن عطية ثم ابن أخيهما زمام بن إبراهيم بن عطية، وبلغ إلى المبالغ من العز والترف والدالة على السلطان والقرب من مجلسه إلى أن هلك، فولي أمره إبنه أحمد بن إبراهيم، ثم أخوه سليمان بن إبراهيم، ثم أخوهما مبارك على مثل حالهم أيام السلطان أبي عنان0 ومن بعده إلى أن كانت الفتنة بالمغرب بعد مهلك السلطان أبي سالم0 واستولى على المغرب أخوه عبد العزيز، وأقطع إبنه أبا الفضل ناحية مراكش، فكان مبارك هذا معه. ولما تقبض على أبي الفضل تقبض على مبارك وأودع السجن إلى أن غلب السلطان عبد العزيز على عامر بن محمد وقتله، فقتل معه مبارك هذا لما كان يعرف به من صحابته ومداخلته في الفتن كما يذكر في أخبار بني مرين وولي إبنه محمد على قبيل الخلط، إلا أن الخلط اليوم دثرت كأن لم تكن بما أصابهم من الخصب والترف منذ مائتين من السنين بذلك البسيط الأفيح زيادة للعز والدعة، فأكلتهم السنون وذهب بهم الترف، والله غالب على أمره.
بنو جابر بن جشم:
بنو جابر هؤلاء من عداد جشم بالمغرب، وربما يقال إنهم من سدراتة إحدى فرق زناتة أو لواتة والله أعلم بذلك. وكان لهم أثر في فتنة يحيى بن الناصر بما كانوا معه من أحزابه ولما هلك يحيى بن الناصر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بعث الرشيد بقتل شيخهم قائد بن عامر، وأخيه فائد، وولي بعده يعقوب بن محمد بن قيطون. ثم اعتقله يغلو قائد الموحدين، بعثة المرتضى لذلك. وقدم يعقوب بن جرموق، وولي مشيخة بني جابر إسمعيل بن يعقوب بن قيطون. ثم تحيز بنو جابر هؤلاء من أحياء جشم إلى سفح الجبل بتادلا وما إليها بجاورون هناك صناكة الساكنين بقشته وهضابه من البربر، فيسهلون إلى البسيط تارة، ويأوون إلى الجبل في حلف البربر وجوارهم أخرى إذا دهمتهم مخافة من السلطان، أوذي غلبة.
والرياسة فيهم لهذه العصور في ورديقة من بطونهم، أدركت شيخاً عليهم لعهد السلطان أبي عنان حسين بن علي الورديقي. ثم هلك واقيم مقامه الناصر إبنه. ولحق بهم الوزير الحسن بن عمر عند نزوعه عن السلطان أبي سالم سنة ستين وسبعمائة. ونهضت إليهم عساكر السلطان فأمكنوا منه. ثم لحق بهم أبو الفضل بن السلطان أبي
سالم عند فراره عن مراكش سنة ثمان وستين. ونازله السلطان عبد العزيز وأحيط به فلحق برابرة صناكة من قومه. ثم أمكنوا منه على مال حمل إليهم، ولحق بهم أثناء هذه الفتن الأمير عبد الرحمن يغلوسن على عهد الوزير عمر بن عبد الله المتغلب على المغرب. وطلبه عمر فأخرجوه عنهم وطال بذلك مراس الناصر هذا للفتنة فنكرته الدولة، وتقبض عليه وأودع السجن فمكث فيه سنين، وتجافت الدول عنه من بعد ذلك وأطلق عقالهم. ثم رجع من المشرق فتقبض عليه الوزير أبو بكر بن غازي المستبد بالمغرب على ابن السلطان عبد العزيز وأودعه السجن، ونقلوا الرياسة عن بني علي هؤلاء، والله يقلب الليل والنهار. وقد يزعم كثير من الناس أن ورديقة من بني جابر ليسوا من جشم، وأنهم بطن من بطون سدراتة إحدى شعوب لواتة من البربر، ويستدلون على ذلك بمواطنهم وجوارهم للبربر، والله أعلم بحقيقة ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العاصم ومقدم من الأثبج
هؤلاء الأحياء من الأثبج- كما ذكرنا في أنسابهم، ونزلوا تامستا معهم، وكانت لهم عزة وعلياء إلا أن جشم أعز منهم لمكان الكثرة. وكان موطنهم بسيط تامستا، وكانت للسلطان عليهم عسكرة وجباية شأن إخوانهم من جشم. وكان شيخ العاصم لعهد الموحدين، ثم عهد المأمون منهم حسن بن زيد، وكان له أثر في فتنة يحيى بن الناصر. ولما هلك سنة ثلاث وثلاثين وستمائة أمر الرشيد بقتل حسن بن زيد مع قائد وفائد إبني عامر شيوخ بني جابر فقتلوا جميعأ. ثم صارت الرياسة لأبي عياد وبنيه، وكان بينهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد، وكان له تغلب في النفرة والاستقامة. فر إلى تلمسان ورجع منها أعوام تسعين وستمائة. وفر إلى السوس ورجع منه سنة سبع وسبعمائة، ولم يزل دأبه هذا. وكانت له ولاية مع يعقوب بن عبد الحق من قبل ذلك، ومقاماته في الجهاد مذكورة. وبقيت رئاسته في بنيه إلى أن انقرض أمرهم وأمر مقدم ودثروا وتلاشوا، والله خير الوارثين.
الخبر عن رياح وبطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة
كان هذا القبيل من أعز قبائل هلال وأكثرهم جمعأ عند دخولهم أفريقية وهم فيما ذكره ابن الكلبي: رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر، وكانت رئاستهم حينئذ لمؤنس بن يحيى الصنبري من بطون مرداس بن رياح. وكان من رجالاتهم لذلك العهد الفضل بن علي مذكور في حروبهم مع صنهاجة، وكانت بطونهم عمرو ومرداس، وعلى كلهم بنو رياح وسعيد بن رياح، وخضر بن عامر بن رياح وهم الأخضر. ولمرداس بطون. كثيرة: داود بن مرداس وصنبر بن حواز بن عقيل بن مرداس، وإخوتهم: مسلم بن عقيل. ومن أولاد عامر بن يزيد بن مرداس بطون أخرى منهم: بنو موسى بن عامر وجابر بن عامر. وتد يقال إنهم من لطيف كما قدمناه، وسودان ومشهور ومعاوية بنو محمد بن عامر بطون ثلانة. وإسم سودان علي بن محمد. وقد يقال أيضاً أنّ المشاهرة وهم بنو مشهور بن هلال بن عامر من نمير رياح والله أعلم. والرياسة على رياح في هذه البطون كلها لمرداس، وكانت عند دخولهم أفريقية في صنبر منهم. ثم صارت للزواودة أبناء داود بن مرداس بن رياح. ويزعم بنو عمرو بن رياح أن أباهم كفله ورباه. وكان رئيسهم لعهد الموحدين مسعود بن سلطان بن زمام بن رديني بن داود، وكان يلقب البلط لشدته وصلابته. ولما نقل المنصور رياحاً إلى المغرب تخفف عساكر أخو مسعود في جماعات منهم لما بلاه السلطان من طاعته وانحياشه، وأنزل مسعوداً وقومه لبلاد الهبط ما بين قصور كتامة المعروف بالقصر الكبير، إلى إزغار البسيط الفسيح هناك إلى ساحل البحر الأخضر، واستقروا هنالك. وفرمسعود بن زمام من بينهم في لفة من قومه سني تسعين وخمسمائة، ولحق بأفريقية، واجتمع إليه بنو عساكر أخيه، ولحقوا بطرابلس، ونزلوا على زغب وذياب يتقلبون بينهم. ثم نزع إلى خدمة قراقش وحضر معه بقومه فتح طرابلس كما نذكره في أخبار قراقش. ثم رجع إلى ابن غانية الميورقي، ولم يزل في خلافة ذلك إلى أن هلك، وقام بأمره من بعده إبنه محمد. وكانت له رياسة وغناء في فتنة الميورقي مع الموحّدين. ولما غلب أبومحمد بن أبي حفص يحيى الميورقي مع الموحدين سنة ثماني عشرة وستمائة على الحمة من بلاد الجريد، وقتل من العرب من قتل، كان فيمن قتله ذلك اليوم عبد الله بن محمد هذا وابن عفه أبو الشيخ بن حركات بن عساكر. ولما هلك الشيخ أبومحمد رجع محمد بن مسعود إلى أفريقية وغلب عليها، واجتمع إلبه حلف الأثبج ظواعن من الضحاك ولطيف فكاثروه واعتزوا به على أقتالهم من دريد وكرفة إلى أن عجزت ظواعن الضحاك ولطيف عن الرحلة، وافترقوا في قرى الزاب وصدرة. وبقي محمد بن مسعود يتغلب في رحلته. وصارت رياسة البدو في
ضواحي أفريقية ما بين قسطيلية والزاب والقيروان والمسيلة له ولقومه. ولما هلك يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح سنة إحدى وثلاثين وستمائة كما نذكره انقطع ملكهم، واستغلظ سلطان أبي حفص. واستقل منهم الأمير يحيى بن عبد الواحد بخطبة الخلافة عندما فسد كرسيها بمراكش، وافترق أتباع يحيى بن غانية من العرب من بني سليم والرياح فنكر آل أبي حفص هؤلاء الزواودة، ومكانهم من الوطن مما سلف من عنادهم ومشايعتهم لابن غانية عدوهم فجاجاً الأميرأبو زكريا في بني سليم من مواطنهم لذلك العهد بقابس وطرابلس وما إليها. والتقدم فيهم يومئذ لمرداش والكعوب كما نذكره في أخبارهم، واصطنعوهم لمشايعة الدولة. وضربوا بينهم وبين قبائل رياح وأنزلوهم بالقيروان وبلاد قسطيلية، وكانت آية لمحمد بن مسعود. ووفد عليه في بعض السنين وفد مرداس يطلبون المكيل وينزلون عليهم فشرهوا إلى نعمتهم وقاتلوهم عليها، وقتلوا رزق بن سلطان عم محمد بن مسعود، فكانت بينهم وبين رياح أيام وحروب، حتى رحلوهم عن جانب المشرق من أفريقية وأصاروهم إلى جانبها الغربي. وملك الكعوب ومرداس من بني سليم ضواحي الجانب الشرقي كلها من قابس إلى بونة ونفطة. وامتاز الزواودة بملك ضواحيّ قسطنطينة وبجاية من التلول ومجالات الزاب وريغ وواركلا وما وراءها من القفار في بلاد القبلة. وهلك محمد بن مسعي فولى رئاسته موسى بن محمد، وكان له صيت وغناء في قومه واعتزازعلى الدولة. (ولما هلك يحيى) بن عبد الواحد بويع ابنه محمد المستنصر الطائر الذكر المشهود له في الشهرة. وخرج عليه أخوه إبراهيم فلحق بالزواودة هؤلاء فبايعوه بجهات قسطنطينة واتفقوا على تقديمه، ونهض إليه المستنصر سنة ست وستين وستمائة ففرّوا أمامه وافترق جمعهم وتحيز إليه بنو عساكر بن سلطان منهم، ورئاستهم يومئذ لولد مهدي بن عساكر. ونبذوا العهد إلى إبراهيم بن يحيى ولحقوا بتلمسان. وأجاز البحر إلى الأندلس، وأقام بها في جوار الشيخ ابن الأحمر. ثم هلك موسى بن حمد وولي رياسته ابنه شبل بن موسى، واستطال على الدولة وكثر عيثهم فنبذ المستنصر عهدهم، ونهض إليه بعساكره وجموعه من الموحدين والعرب من بني سليم، وأولاد عساكر إخوانهم، وعلى مقدمته الشيخ أبو هلال عياد بن محمد الهنتاني، وكان يومئذ أميراً ببجاية. وحاول عليهم فاستقدم رؤساءهم شبل بن موسى بن
محمد بن مسعود وأخاه يحيى، وسباع بن يحيى بن دريد بن مسعود. وحداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود وفضل بن ميمون بن دريد بن مسعود، ومعهم دريد بن تازير شيخ أولاد نابت، من كرفة، فتقبض عليهم لحين قدومهم وضرب أعناقهم في سريح، وأخذ ابن راية، حيث بايعوا أبا إسحق أخاه والقاسم بن أبي زيد بن أبي حفص النازع إليهم لطلب الخروج على الدولة.
وافترقت ظواعنهم وفروا أمامه واتبعهم إلى آخر الزاب. وترك شبل بن موسى سباعاً إبنه طفلاً صغيراً فكفله عمه مولاهم ابن موسى، ولم تزل الرياسة بهم وترك سباع إبنه بحيى أيضاً طفلاً فكفله عمه طلحة بن يحيى، ولحق جلهم بملوك زناتة المغرب، وأولاد محمد لحقوا بيعقوب بن عبدالحق بفاس، وأولاد سباع بن يحيى لحقوا بيغمراسن بن زيان بتلمسان فكسوهم وحملوهم فارتاشوا وقاتلوا واحتالوا وزحفوا إلى مواطنهم فتغلبوا على أطراف الزاب من واركلان وقصور ريغ وصيروها سهاما بينهم، وانتزعوها للموحدين فكان آخر عهدهم بملكها. ثم تقدموا إلى بلاد الزاب، وجمع لهم عاملها أبو سعيد عثمان بن محمد بن عثمان ويعرف بابن عتوا من رؤساء الموحدين. وكان منزله بمقرة فزحف إليهم بمكانهم من الزاب، وأوقعوا به وقتلوه بقلطاوة وغلبوا على الزاب وضواحيه لهذا العهد. ثم تقدموا إلى جبل أوراس فغلبوا على من به من القبائل. ثم تقدموا إلى التل وجمع لهم من كان به من أولاد عساكر، وعليهم موسى بن ماضي، بن مهدي بن عساكر،فجمع قومه ومن في حلفهم من عياض وغيرهم. وتزاحفوا فغلبهم أولاد مسعود وقتلوا شيخهم موسى بن ماضي، وتولوا الوطن بما فيه. ثم تلافت الدولة أمرهم بالاصطناع والاستمالة وأقطعوهم ما غلبوا عليه من البلاد بجبل اوراس والزاب، ثم الأمصار التي بالبسيط الغربي من جبل أوراس المسمى عندهم بالحصنة وهي نقاوس ومقرة والمسيلة، واختص أقطاع المسيلة بسباع بن شبل بن يحيى من بعد ذلك، فهي في قسم بنيه وسهامهم. واختص أقطاع مقرة بأحمد بن عمربن محمد، وهو ابن عم شبل بن موسى بن سباع، ونقاوس بأولاد عساكر. ثم هلك سباع بن شبل وقام بأمرهم ابنه عثمان
ويعرف بالعاكر فنازعه الرياسة بنو عمه عليّ بن أحمد بن عمربن محمد بن مسعود بن دريد بن مسعود وفرقوا جماعة بني مسعود هؤلاء، بعد أن كانوا جميعاً وصاروا فريقين: أولاد محمدبن مسعود، وأولاد سباع بن يحيى، وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى. ولم يزالوا كذلك لهذا العهد، ولهم تغلب على ضواحي بجاية وقسطنطينة ومن بها من سدويكش وعياض وأمثالهم. ورياسة أولاد محمد الآن ليعقوب بن علي بن أحمد وهو كبير الزواودة بمكانه وسنه وله شهرة وذكر ومحل من السلطان متوارث. ورياسة أولاد سباع في أولاد علي بن سباع وأولاد عثمان بن سباع. وأولاد علي أشرف منهم وأعز بالكثرة والعدد. ورئاستهم في بلد يوسف بن سليمان بن علي بن سباع ويرادفهم أولاد يحيى بن علي بن سباع. واختص أولاد محمد بنواحي قسطنطينة وأقطعتهم الدول كثيراً من أريافها. واختص أولاد سباع بنواحي بجاية وأقطاعهم فيها قليل لمنعة بجاية وضواحيها عن ضيم العرب، ولغلبهم بالجبال المطيفة بها وتوعر مسالكها على رواحل الناجعة. وأما ريع وواركلا فقسمت بينهم منذ عهد سلفهم كما قلناه. وأما الزاب فالجانب الغربي منه، وقاعدته طولقة؛ لأولاد محمد وأولاد سباع بن يحيى، وكانت لأبي بكر بن مسعود، فلما ضعف بنوه ودثروا اشتراها منهم علي بن أحمد شيخ أولاد محمد وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع. واتصلت بينهم بسببها الفتنة وصارت في مجالات أولاد سباع بن يحيى فصار غلب سليمان وبنيه عليها أكثر. والجانب الوسط، وقاعدته بسكرة لأولاد محمد، وفي مجالاتهم. وليعقوب بن علي على عامله بسبب ذلك سلطان وعزة، وله به تمسك وإليه انحياش في منعته من الدولة واستبداده بوطنه، وحماية ضواحيه من عبث الأعراب وفسادهم غالب الأوقات. وأما الجانب الشرقي من الزاب وقاعدته بادس وتنومة فهو لأولاد نابت رؤساء كرفة بما هو من مجالاتهم، وليس هو من مجالات رياح. إلا أن عمال الزاب تأخذ منه في الأكثر جباية غير مستوفاة بعسكر لها إلا في بعض الأحايين ببادية رياح بإذن من كبيرهم يعقوب وإشراكه في الأمر. وبطون رياح كلها تبع لهؤلاء الزواودة ومقتسمون عليهم وملتمسون مما في أيديهم، وليس لهم في البلاد ملك يستولون عليه. وأشدهم قوة وأكثرهم جمعاً بطون سعيد ومسلم والأخضر، يبعدون النجعة في القفار والرمال، ويسخرون الزواودة في فتنة بعضهم مع بعض، ويختصون بالحلف فريقاً دون آخر.
فسعيد، أحلاف لأولاد محمد سائر أيامهم إلا قليلا من الأحيان ينابذونهم ثم يراجعونهم ومسلم والأخضر أحلاف لأولاد سباع كذلك إلا في بعض الأحايين.
(فأما سعيد) فرئاستهم لأولاد يوسف، بن زيد منهم في ولد ميمون بن يعقوب بن عريف بن يعقوب بن يوسف، وأردافهم أولاد عيسى بن رحاب بن يوسف، وهم ينتسبون بزعمهم إلى بني سليم في أولاد القوس من سليم. والصحيح من نسبهم أنهم من رياح بالحلف والموطن. ومع أولاد يوسف هؤلاء لفائف من العرب يعرفون بالمخادمة والغيوث والفجور فأما المخادمة والغيوث من أبناء مخدم فمن ولد مشرف بن اثبج، وأما الفجور فمنهم من البرابر لواتة وزناتة إحدى بطونهم، وفيهم من نفاث. فأما نفاث فمن بطون جزام وسيأتي ذكرهم (وأما زناتة) فهم من بطون لواتة كما ذكرناه في بني جابر وبتادلا كثير منهم وأجاز منهم إلى العدوة لعهد بني الأحمر سلطان الزناري، وكانت له في الجهاد آثار. وذكروا أن منهم بأرض مصر والصعيد كثيراً. وأما أحلاف أولاد محمد من الزواودة فبطن من رباب بن سودات بن عامر بن صعصعة، اندرجوا في أعداد رياح، ولهم معهم ظعن ونجعة، ولهم مكان من حلفهم ومظاهرتهم. وأما أحلاف أولاد سباع من مسلم والأخضر فقد قدّمنا أن مسلماً من أولاد عقيل بن مرداس بن رياح أخو حواز بن رياح بعضهم ينتسب إلى الزبير بن العوام وهو خلط. ويقول بعض من ينكر عليهم إنما هو نسب إلى الزبير بن المهاية الذين هم من بطون عياض كما ذكرناه. ورئاسته في أولاد جماعة بن مسلم بن حفاد بن مسلم بين أولاد تساكر بن حامد بن كسلان بن غيث بن رحال بن جماعة. وبين أولاد زرارة بن موسى بن قطران بن جماعة. وأما الأخضر فيقولون إنهم من ولد خضر بن عامر، وليس عامر بن صعصعة. فإن أبناء عامربن صعصعة معروفون كلهم عند النسابين. وإنما هو والله أعلم عامر آخر من أولاد رياح. ولعله عامر بن زيد بن مرداس المذكور في بطونهم: أولهم من الخضر الذين هم ولد مالك بن طريف بن مالك بن حفصة بن قيس عيلان. ذكرهم صاحب
الأغاني وقال: إنما سموا الخضر لسوادهم، والعرب تسمي الأسود أخضر. قال: وكان مالك شديد السمرة فأشبهه ولده. ورياستهم في أولاد تامربن علي بن تمام بن عماربن خضربن عامربن رياح واختصت مرين بأولاد عامر ولد عامربن صالح بن عامربن عطية بن تامر. وفيهم بطن آخر لزائدة بن تفام بن عمار. وفي رياح أيضاً بطن من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، ويظعنون مع باديتهم.
(وأما من نزل) من رياح ببلاد الهبط حيث أنزلهم المنصور فأقاموا هنالك بعد رحلة رئيسهم مسعود بن زنان بتلك المواطن إلى أن انقرضت دولة الموحدين وكان عثمان بن نصر رئيسهم أيام المأمون، وقتله سنة ثلاثين وستمائة. ولما تغلب بنو مرين على ضواحي المغرب ضرب الموحدون على رياح هؤلاء البعث مع عساكرهم، فقاموا بحماية ضواحيهم وتحيز لهم بنو عسكربن محمدبن محمد من بني مرين حين كانوا حرباً لإخوانهم بني حمامة بن محمد، سلف الملوك منهم لهذا العهد، فكانت بين الفريقين جولة قتل فيها عبد الحق بن محيوبن أبي بكربن جماعة أبو الملك وإبنه إدريس، فأوجدوا السبيل لبني مرين على أنفسهم في طلب الترة والدماء فأثخنوا فيهم واستلحموهم قتلأ وسبياً مرة بعد أخرى. وكان آخر من أوقع بهم السلطان أبو ثابت عامر يوسف بن يعقوب سنة سبع وسبعمائة تتبعهم بالقتل إلى أن لحقوا برؤوس الهضاب وأسمة الربى المتوسطة في المرج المستبحر بازغار فصاروا إلى عدد قليل، ولحقوا بالقبائل الغارمة. ثم دثروا وتلاشوا شأن كل أمة والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين لا رب غيره ولا معبود سواه، وهو نعم المولى ونعم النصير، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير. نسأله سبحانه وتعالى من فيض فضله العميم، ونتوسل إليه بجاه نبيه الكريم أن يرزقنا إيمانا دائما وقلبا خاشعا وعلما نافعا ويقينا صادقا وديناً قيماً، والعافية من كل بلية، وتمام العافية ودوام العافية والشكر على العافية، والغنى عن الناس، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، وأن يرزقنا من فضله وكرمه إيمانا لا يرتد ونعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع. ومرافقة نبينا وسيدنا محمد في أعلى جنان الخلد، بمنه وكرمه إنه على ما
خريطة
يشاء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
الخبر عن سعادة العالم بالسنة في رياح ومآل أمره وتصاريف أحواله
كان هذا الرجل من مسلم إحدى شعوب رياح، ثم من رحمان منهم. وكانت أمه تدعى خضيبة وكانت في أعلى مقامات العبادة والورع. ونشأ هو منتحلًا للعبادة والزهد، وارتحل إلى المغرب ولقي شيخ الصالحين والفقهاء لذلك
العهد بنواحي تازة أبا إسحق التسولي، وأخذ عنه، ولزمه، وتفقه عليه. ورجع إلى وطن رياح بفقه صحيح وورع وافر، ونزل طولقة من بلاد الزاب، وأخذ بنفسه في تغيير المنكر على أقاربه وعشريته ومن عرفه أو صحبه، فاشتهر بذلك وكثرت غاشيته لذلك من قومه وغيرهم.
ولزم صحابته منهم أعلام عاهدوه على التزام طريقته، كان من أشهرهم: أبو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ بني محمد بن مسعود من الزواودة، وعطية بن سليمان بن سباع شيخ أولاد سباع بن يحيى منهم، وعيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد إدريس من أولاد عساكر منهم، وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة بن يحيى بن دريد بن مسعود منهم، وهجرس بن علي من أولاد يزيد بن زغبة، ورجالات من العطاف من زغبة في كثير من أتباعهم والمستضعفين من قومهم. فكثر بذلك تابعه واستظهر بهم على شأنه في إقامة السنة وتغيير المنكر على من جاء به. واشتد على قاطع الطريق من شرار البوادي. ثم تخطى ذلك إلى العمار، فطلب عامل الزاب يومئذ، منصوربن فضل بن مزني بإعفاء الرعايا من المكوس والظلامات فامتنع من ذلك، واعتزم على الإيقاع به فحال دونه عشائر أصحابه، وبايعوه على إقامة السنة والموت دونه في ذلك. وآذنهم ابن مزني في الحرب ودعا لذلك أمثالهم ونظراءهم من قومهم. وكان لذلك
العهد علي بن أحمد بن عمربن محمد قد قام برياسة أولادمحمد، وسليمان بن علي بن سباع قد قام برياسة أولاد يحيى. واقتسموا رياسة الزواودة فظاهروا ابن مزني على مدافعة سعادة وأصحابه المرابطين من إخوانهم. وكان أمر ابن مزني والزاب يومئذ راجعا إلى صاحب بجاية من بني أبي حفص، وهو الأمير خالد ابن الأمير أبي زكريا، والقائم بدولته أبو عبد الرحمن بن عمر وبعث إليه ابن مزني في المدد فأمده بالعساكر والجيوش، وأوعز إلى أهل طولقة بالقبض على سعادة فخرج منها وابتنى بأنحائها زاوية، ونزل بها هو وأصحابه. ثم جمع أصحابه المرابطين، وكان يسميهم السنية. وزحفوا إلى بسكره وحاصروا ابن مزني سنة ثلاث وسبعمائة وقطعوا نخيلها، وامتنعت عليهم فرحلوا عنها. ثم أعادوا حصارها سنة إلى أربع وسبعمائة وامتنعت. ثم انحدر أصحاب سعادة من الزواودة إلى مشاتيهم سنة خمس وسبعمائة. وأقام المرابط سعادة بزاويته من زاب طولقة، وجمع من كان إليه من المرابطين المتخلفين عن الناجعة وغزا مليلي وحاصرها أياماً. وبعثوا بالصريخ إلى ابن مزني، والعسكر السلطاني مقيم عندهم ببسكرة، فأركبهم ليلاً مع أولاد حرب من الزواودة. واصبحوا سعادة وأصحابه على مليلي فكانت بينهم جولة قتل فيها سعادة واستلحم الكثير من أصحابه، وحمل رأسه إلى ابن مزني. وبلغ الخبر إلى أصحابه بمشاتيهم فظهروا إلى الزاب، ورؤساؤهم أبو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ أولاد محرز، وعطية بن سليمان شيخ أولاد سبّاع، وعيسى بن يحيى شيخ أولاد عساكر، ومحمد بن حسن شيخ أولاد عطية، ورئاستهم جميعأ راجعة لأبي يحيى بن أحمد. ونازلوا بسكرة وقطعوا نخيلها وتقبضوا على عمال ابن مزني فأحرقوهم في النار، واتسع الخرق بينهم وبينه. ونادى ابن مزني في أوليائه من الزواودة. واجتمع إليه علي بن أحمد شيخ أولاد محمد، وسليمان بن علي شيخ أولاد سباع وهما يومئذ أجلاء الزواودة. وخرج إبنه علي بينهم بعساكر السلطان، وتزاحفوا بالصحراء سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فغلبهم المرابطون، وقتل علي بن مزني. وتقبض على علي بن أحمد فقادوه أسيراً. ثم أطلقه عيسى بن أحمد رعيأ لأخيه أبي يحيى بن أحمد . واستفحل أمر هؤلاء السنية ما شاء الله أن يستفحل. ثم هلك أبو يحيى بن أحمد وعيسى بن يحيى، وخلت أحياء أولاد محرز من هؤلاء السنية. وتفاوض السنية فيمن
يقيمونه بينهم في الفتيا في الأحكام والعبادات، فوقع نظرهم على الفقيه أبي عبد الله محمد بن الأزرق من فقهاء مقرة. وكان أخذ العلم ببجاية على أبي محمد الزواوي من كبار مشيختها فقصدوه بذلك وأجابهم وارتحل معهم. ونزل على حسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة. واجتمع إليه السنية واستفحل بهم جانب أولاد سباع، واجتمعوا على الزاب وحاربوا علي بن أحمد طويلاً.
وكان السلطان أبو تاشفين حين كان يجلب على أوطان الموحدين، يخيب عليهم أولياءهم من العرب، يبعث إلى هؤلاء السنية بالجوائز يستدعي بذلك ولايتهم. ويبعث معهم للفقيه أبي الأزرق بجائزة معلومة في كل سنة. ولم يزل ابن الأزرق مقيما لرسمهم إلى أن غلبهم على أمرهم ذلك علي بن أحمد شيخ أولاد محمد. وهلك حسن بن سلامة، وانقرض أمر السنية من رياح. ونزل ابن الأزرق بسكرة فاستدعاه يوسف بن مزني لقضائها تفريقاً لأمر السنية، فأجابه ونزل عنده ، فولاه القضاء ببسكرة إلى أن هلك سنة... ثم قام علي بن أحمد بهذه السنية بعد حين، ودعا إليها وجمع لابن مزني سنة أربعين وسبعمائة، ونزل بسكرة وجاءه. مدد أهل ريغ، وأقام محاصرا لها أشهراً. وامتنعت عليه فأقلع عنها وراجع يوسف بن مزني، وصاروا إلى الولاية إلى أن هلك علي بن أحمد. وبقي من عقب سعادة في زاويته بنون وحفدة يوجب لهم ابن مزني الرعاية، وتعرف لهم أعراب الفلاة من رياح حقاً في إجازة من يجيزونه من أهل السابلة. وبقي هؤلاء الزواودة ينزع بعضهم أحيانا إلى إقامة هذه الدعوة، فيأخذون بها أنفسهم غير متصفين من الدين والتعمق في الوزع بما يناسبها ويقضي حقها، بل يجعلونها ذريعة لأخد الزكوات من الرعايا، ويتظاهرون بتغيير المنكر يسرون بذلك حسداً في ارتقاء، فينحل أمرهم بذلك، وتخفق مساعيهم، ويتنازعون على ما تحصل بأيديهم ويفترقون على غير شيء، والله متولي الأمور لا إله إلا هو سبحانه يحيي ويميت.
الخبر عن زغبة وبطونهم من هلال بن عامرمن هذه الطبقة الرابعة
هذه القبيلة إخوة رياح. ذكر ابن الكلبي: إن زغبة ورياحاً أبناء أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر، هكذا نسبهم، وهم لهذا العهد مما يزعمون أن عبد الله يجمعهم، بكسر دال عبد، ولم يذكر ابن الكلبي ذلك، وذكر عبد الله في ولد هلال، فلعل انتسابهم إليه بما كفلهم واشتهر دونهم، وكثيراً ما يقع مثل هذا في أنساب العرب أعني انتساب الأبناء لعمهم أوكافلهم والله أعلم. وكانت لهم عزة وكثرة عند دخولهم أفريقية، وتغلبوا على نواحي طرابلس وقابس، وقتلوا سعيد بن خزرون من ملوك مغراوة بطرابلس. ولم يزالوا بتلك الحال إلى أن غلب الموحدون على أفريقية، وثار بها ابن غانية، وتحيزت إليه أفاريق هلال بن رياح وجشم، فنزعت زغبة إلى الموحدين، انحرفوا عن ابن غانية فرعوا لهم حق نزوعهم، وصاروا يداً واحدة مع بني يادين من زناتة في حماية المغرب الى الأوسط من ابن غانية وأتباعه واتصلت مجالاتهم ما بين المسيلة وقبلة تلمسان في القفار، وملك بنو بادين وزناتة عليهم التلول. (ولما ملكت زناتة) بلاد المغرب الأوسط ونزلوا بأمصاره، دخل زغبة هؤلاء التلول وتغلبوا فيها ووضعوا الأتاوة على الكثير من أهلها بما جمعهم وزناتة من البداوة وعصبية الحلف، وخلا قفرهم من ظعونهم وحاميتهم فطرقته عرب المعقل المجاورون لهم من جانب المغرب، وغلبوا على من وجدوا من مخلف زغبة هؤلاء بتلك القفار، وجعلوا عليهم خفارة يأخذونها من إبلهم، ويختارون عليهم البكرات منها. وأنفوا بذلك وتآمروا وتعاقدوا على دفع هذه الهضمة، وتولى كبرها من بطونهم ثوابة بن جوثة من سديد كما نذكره بعد فدفعوهم عن أوطانهم من ذلك القفر. ثم استفحلت دولة زناتة وكفحوا العرب عن وطىء تلولهم لما انتشأ عنهم من العيث والفساد فرجعوا إلى صحرائهم، وملكت الدولة عليهم التلول والحبوب، واستصعبت الميرة وهزل الكراع، وتلاشت أحوالهم وضربت عليهم البعوث وأعطوا الأتاوة والصدقة حتى إذا فشل ريح زناتة وداخل الهرم دولتهم، وانتزى الخوارج من قرابة الملك بالقاصية
وجدوا السبيل بالفتن إلى طروق التلول، ثم إلى الغلب فيها، ثم غالبوا زناتة عليها فغلبوهم في أكثر الأحايين وأقطعتهم الدولة الكثير من نواحي المغرب الأوسط وأمصاره في سبيل الاستظهار بهم، تمشت ظعونهم فيه وملكوه من كل جانب كما نذكره. وبطون زغبة هؤلاء يتعددون من يزيد وحصين ومالك وعامر وعروة، وقد اقتسموا بلاد المغرب الأوسط كما نذكر في أخبارهم.
بنو يزيد في زغبة: كان لبني يزيد هؤلاء محل من زغبة بالكثرة والشرف، وكان للدول به عناية فكانوا لذلك أول من أقطعته الدول من العرب التلول والضواحي. أقطعهم الموحدون في أرض حمزة من أوطان بجاية مما يلي بلاد رياح والأثابج فنزلوا هنالك، ولجوا تلك الثنايا المفضية إلى تلول حمزة والدهوس وأرض بني حسن ونزلوها ريفاً وصحراء. وصار للدولة استظهار بهم على جباية تلك الرعايا من صنهاجة وزواوة. فلما عجزت عساكر بجاية من جبايتهم دفعوهم لها فأحسنوا في اقتضائها وزادت الدول بهم تكرمة وعناية لذلك واقتطعهم الكثير من تلك الأوطان. ثم غلب زناتة الموحدين على تلك الأوطان فاقتطعوها عن أوطان بجاية وأصاروها عن ممالكهم. فلما فشل ريح زناتة وجاش بحر فتنتهم مع العرب استبد بنويزيد هؤلاء بملكة تلك الأوطان، وغلبوا عليها من جميع جوانبها وفرغوا لجبايتها واقتضاء مغارمها، وهم على ذلك لهذا العهد. وهم بطون كثيرة منهم: حميان بن عقبة بن يزيد، وجواب وبنو كرز وبنو موسى والمرابعة والخشنة. وهم جميعاً بنو يزيد بن عيسى بن زغبة وإخوانهم عكرمة بن عيسى من ظعونهم وكانت الرياسة في بني يزيد لأولاد لاحق، ثم لأولاد معافى. ثم صارت في بيت سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن مهدي بن يزيد بن عيسى بن زغبة، وهم يزعمون أنه مهدي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، نسب تأباه رياستهم على غير عصبتهم، وقد مر ذلك قبل. وربما نسبهم آخرون إلى سلول، وهم بنو مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة وليس بصحيح لما قلناه. وقد يقال إن سلولأ وبني يزيد إخوة، ويقال لهم جميعأ
أولاد فاطمة. وبنو سعد هؤلاء ثلاثة بطون: بنو ماضي بن رزق بن سعد، وبنو منصور بن سعد، وبنو زغلي بن رزق بن سعد. واختصت الرياسة على الظعون والحلول ببني زغلي. وكانت لريان بن زغلي فيما علمناه، ثم من بعده لأخيه ديفل، ثم لأخيهما أبي بكر، ثم لابنه ساسي بن أبي بكر ثم لأبنه معتوق بن أبي بكر، ثم لموسى ابن عمهم أبي الفضل بن زغلي، ثم لأخيه أحمد بن أبي الفضل، ثم لأخيهما علي بن أبي الفضل. ثم لأبي الليل بن أبي موسى بن أبي الفضل، وهو رئيسهم لهذا العهد. وتوفي سنة إحدى وتسعين، وخلفه في قومه إبنه.
وكان من أحلافهم فيما تقدم بنو عامر بن زغبة يظعنون معهم في مجالاتهم ويظاهرونهم في حروبهم. وكانت بين رياح وزغبة فتنة طويلة لعهد موسى بن محمد بن مسعود وابنه شبل أيام المستنصر بن أبي حفص. فكان بنويزيد هؤلاء يتولون كبرها لمكان الجوار. وكان بنو عامر أحلافهم فيها وظهراؤهم. وكان لهم على مظاهرتهم وضيعة من الزرع تسمى الغرارة، وهي ألف غرارة من الزرع. وكان سببها فيما يزعمون: أن أبا بكر بن زغلي غلبته رياح على الدهوس من وطن حمزة أزمان فتنته معهم، فاستنصر لبني عامر فجاءه أولاد شافع وعليهم صالح بن بالغ، وبنو يعقوب، وعليهم داود بن عطاف، وحميد وعليهم يعقوب بن معروف. واسترجع وطنه، وفرض لهم على وطنه ألف غرارة من الزرع، واستمرت لبني عامر. فلما ملك يغمراسن بن زيان تلمسان ونواحيها ودخلت زناتة إلى التلول والأرياف، كثر عيث المعقل وفسادهم في وطنها فجاء يغمراسن ببني عامرهؤلاء من مجالاتهم بصحراء بني يزيد، وأنزلهم في جواره بصحراء تلمسان كياداً للمعقل، ومزاحمة لهم بأقيالهم فنزلوا هنالك. وتبعتهم حميان من بطون بني يزيد بما كانوا بطوناً وناجعة، ولم يكونوا حلولا فصاروا في عداد بني عامر لهذا العهد. وتولت بنو يزيد بلاد الريف وخصبه فأوطن فيه أكثرهم. وقل أهل الناجعة منهم إلا أفاريق من عكرمة وبعض بطون عبس يظعنون مع أولاد زغلي في قفرهم. وأقصروا عن الظعن في القفر إلا في القليل، ومع أحلافهم من ظعون رياح أو زغبة، وهم على ذلك لهذا العهد. ومن بطون بني يزيد بن عيسى زغبة هؤلاء بنوخشين وبنو موسى وبنو معافى وبنو لاحق. وكانت الرياسة لهم ولبني معافى قبل بني سعد بن مالد، وبنو جواب وبنو كرز وبنو مربع وهم المرابعة، وهؤلاء كلهم بطن حمزة لهذا العهد. ومن المرابعة حي ينجعون بضواحي تونس لهذا العهد وغلب عليهم بسبب زغبة والله الخلاق العليم. أبو الفضل بن موسى بن زغلي بن رزق بن سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله.
خريطة
حصين بن زغبة
وأما أولاد حصين بن زغبة فكانت مواطنهم بجوار بني يزيد إلى المغرب عنهم. كانوا حيا حلوا هنالك، وكان الريف للحاذي من تيطري ونواحي المدينة، مواطن للثعالبة من بطون البعوث ويأخذون منهم الأتاوات والصدقات. حتى إذا ذهب سلطان بني توجين من أرض المرية وغلبهم عليهم بنوعبد الواد ساموا حصيناً هؤلاء خطة الخسف والذل، وألزموهم الوضائع والمغارم واستلحموهم بالقتل وهضموهم بالتكاليف، وصيروهم في عداد القبائل الغارمة. وبأثر ذلك كان تغلب بني مرين على جميع زناتة كما نذكره فكانوا لهم أطوع ولدولتهم أذل. فلما عاد بنو عبد الواد إلى ملكهم لعهد أبي حفو موسى بن يوسف بعد مهلك السلطان أبي عنان هبت ريح العز للعرب، وفشل ريح زناتة ولحق دولتهم ما يلحق الدول من الهرم ونزل حصين بتيطري وهو جبل أشير وملكوه وتحصنوا به. وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمولما ملك من قبله لحق بتونس مقتطعأ حبالة بني مرين، وخرج طالباً لملك أبيه ومنازلاً لابن عمه هذا ونزل في خبرطويل نذكره بقبائل حصين هؤلاء أحوج ما كانوا لمثلها لما راموه من خلع ما كان بأعناقهم من الدول وطرق الاهتضام والعسف فتلقوه بما يجب له. ونزل منهم بأكرم نزل وأحسن مثوى. وبايعوه وأرسلوا إخوانهم وكبراءهم من رؤساء زغبة بني سويد وبني عامر فأصفقوا عليه. وترددت عساكر السلطان أبي حمو وبني عبد الواد إليهم فتحضنوا بجبل تيطري وأوقعوا به. ونهض إليهم السلطان أبو حمو بعساكره فقتلوه ونالوا منه، ونالت زغبة بذلك ما أرادوه من الاعتزاز على الدولة آخر الأيام، وتملكوا البلاد إقطاعات وسهماناً ورجع أبو زيان إلى رياح فنزل بهم على سلم عقد مع ابن عمه ويقي لحصين أثر الاعتزاز من جرائه. واقطعتهم الدولة ما ولوه من نواحي المدينة وبلاد صنهاجة. ولحصين لهؤلاء
بطنان عظيمان جندل وخراش. فمن جندل أولاد خنفر بن مبارك بن فيصل بن سنان بن سباع بن موسى بن كمام بن علي بن جندل ورياستهم في بني خليفة بن سعد لعلي، وسيدهم أولاد خشعة بن جندل.
وكانت رياستهم على جندل قبل أولاد الخليفة، ورئيسهم الآن علي بن صالح بن دياب بن مبارك بن يحيى بن مهلهل بن شكر بن عامر بن محمد بن خشعة. ومن خراش أولاد مسعود بن مظفر بن محمد الكامل، بن خراش. ورياستهم لهذا العهد في ولد رحاب بن عيسى بن أبي بكر بن زمام بن مسعود. وأولاد فرج بن مظفر، ورياستهم في بني خليفة بن عثمان بن موسى بن فرج. وأولاد طريف بن معبد بن خراش، ويعرفون بالمعابدة، ورياستهم في أولاد عريف بن طريف لزيان بن بدر بن مسعود بن معرف بن عريف. ولمصباح بن عبد الله بن كثير بن عريف. وربما انتسب أولاد مظفر من خراش الى بني سليم، ويزعمون أن مظفر بن محمد الكامل جاء بني سليم ونزل بهم والله أعلم بحقيقة ذلك الأمر. بنو مالك في زغبة: وأما بنو مالك بن زغبة فهم بطون ثلاثة: سويد بن عامر بن مالك والحرث بن مالك وهم بطنان للعطاف من ولد عطاف بن رومي بن حارث. والديالم من ولد ديلم بن حسن بن إبراهيم بن رومي فأما سويد فكانوا أحلافاً لبني بادين قبل الدولة. وكان لهم اختصاص ببني عبد الواد. وكانت لهم لهذا العهد أتاوات على بلد سيرات والبطحاء وهوّارة. ولما ملك بنو يادين تلول المغرب الأوسط وأمصاره كان قسم بني توجين منه شياخ التلول القبلية ما بين قلعة سعيدة في الغرب إلى المرية في الشرق. فكان لهم قلعة بن سلامة ومنداس وأنشريس ورينة وما بينهما، فاتصل جوارهم لبني مالك هؤلاء في القفر والتل. ولما ملك بنو عبد الواد تلمسان ونزلوا بساحتها وضواحيها، كان بنو سويد هؤلاء أخص
خريطة
بحلفهم وولايتهم من سائر زغبة. وكانت لسويد هؤلاء بطون مذكورون من فليتة وشبانة ومجاهر وجوثة، كلهم من بني سويد. والحساسة بطن من شبانة إلى حسان بن شبانة وغفير وشافع وما لف. كلهم بنو سليمان بن مجاهر وبو رحمة وبو كامل وحمدان بنو مقدر بن مجاهر. ويزعم بعض نسابتهم أن مقدرا ليس بجد لهم، وإنما وضع ذلك أولاد بوكامل.
وكانت رياستهم لعهدهم في يغمراسن وما قبله في أولاد عيسى بن عبد القوي بن حمدان، وكانوا ثلاثة: عمر بن مهدي وعطية وطراد. واختص مهدي بالرياسة عليهم ثم ابنه سيف بن مهدي ثم أخوه عمر بن مهدي وأقطع يغمراسن يوسف بن مهدي ببلاد البطحاء وسيرات، وأقطع عنتر بن طراد بن عبسي قرارة البطحاء وكانوا يقتضون أتاواتهم على الرعايا ولا يناكرهم فيها. وربما خرج في بعض خروجه واستخلف عمر بن مهدي على تلمسان وما إليها من ناحية المشرق. وفي خلال ذلك خلت مجالاتهم بالقفر من ظعونهم وناجعتهم، إلأ أحياء من بطونهم قليلي العدد من الجوثة وفليتة وما لف وغفير وشافع وأمثالهم فغلب عليهم هنالك المعقل، وفرضوا عليهم أتاوة من الإبل يعطونها ويختارونها عليهم من البكرات. وكان المتولي لأخذها منهم من شيوخ المعقل أبو الريش بن نهار بن عثمان بن عبيد الله، وقيل علي بن عثمان أخو نهار. وقيل إن البكرات إنما فرضها للمعقل على قومه بن عامر جميل لأجل مظاهرة له على عدوه، وبقيت للمعقل عادة إلى أن تمشت رجالات من زغبة في نقفر ذلك، وغدروا برجال المعقل ومنعوا تلك البكرات. (أخبرني يوسف) بن علي ثم غانم عن شيوخ قومه من المعقل أن سبب البكرات وفرضها على زعمة كما ذكرناه. وأما سبب رفعها فهو أن المعقل كانوا يقولون غرامتها إدالة بينهم. فلما دالت لعبيد الله الدولة في غرامتها جمع ثوابة بن جوثة قومه وحرضهم على منعها فاختلفوا واحتربوا مع عبيد الله ودفعوهم إلى جانب الشرق وحالوا بينهم وبين أحيائهم وبلادهم. وطالت الحرب ومات فيها بنو جوثة وابن مريح من
رجالاتهم. وكتب بنوعبد اللة إلى قومهم من قصيدة:
- بني معقل إن لم تصرخوناعلى العدو فلا بد لكم تذكرماطرالنا
- قتلنا ابن جوثة والهمام بن مريــح على الوجه مكبوب وذامن فعالنا
فاجتمعوا وجاءوا إلى قومهم وفرت أحياء زغبة، واجتمع بنو عبيد الله وإخوانهم من
ذوي منصور وذوي حسان، وارتفع أمر البكرات من زغبة لهذا العهد. ثم حدث بين يغمراسن وبينهم فتنة هلك فيها عمر بن مهدي ووانزلوهم عن التلول والأرياف من بلاد عبد الواد إلى القفر المحاذي لأوطان بني توجين على المهادنة والمصاهرة، فصاروا لهم حلفاء على بني عبد الواد. ومن عجز منهم من الظعن نزل ببسائط البطحاء. وسارت بطونهم كلها من شبابة ومجاهر وغفير وشافع ومالف وبورحمة وبوكامل ونزل محيسن بن عمارة وأخوة سويد بضواحي وهران فوضعت عليهم الأتاوات والمغارم، وصاروا من عداد الرعايا أهل الجباية، وولي عثمان بن عمر أمر الظعون من سويد. ثم هلك وقام بأمره إبنه ميمون وغلب عليه أخوه سعيد واستبدّ. وكان سويد وبين بني عامر بن زغبة فتنة اتصلت على الأيام، وثقلت وطأة الدولة الزيانية عليهم. وزحف يوسف بن يعقوب إلى منازلة تلمسان، وطال مقامه عليها فوفد عليه سعيد بن عثمان بن عمربن مهدي شيخهم لعهده فأتى مجلسه وأكرم وفادته. ثم أجمع قتله ففرّ ولحق بقومه، وأجلب على أطراف التلول وملك السرسو قبلة بلاد توجين، ونزعت إليه طائفة من عكرمة بني يزيد وعجزوا عن الظعن، وأنزلهم بجل كريكرة قبلة السرسو ووضع عليهم الأتاوة. ولم يزل كذلك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب واتصل سلطان آل يغمراسن. ولما ولي أبوتاشفين بن موسى بن عثمان بن يغمراسن استخلص عريف بن يحيى لديه صحابة كانت له معه قبل الملك. ثم آسفه ببعض النزعات الملوكية. وكان هلال مولاه المستولي عليه يغص بما كان عريف منه، فنزع عريف بن يحيى إلى بني مرين ملوك المغرب الأقصى، ونزل على السلطان أبي سعيد منهم سنة عشرين وسبعمائة، واعتقل أبوتاشفين عمه سعيد بن عثمان إلى أن هلك في محبسه قبيل فتح تلمسان،
ولحق أخوه ميمون بن عثمان وولده بملك المغرب، وأنزل عريف بن يحيى من سلطان بني مرين أكرم نزل وأدنى مجلسه وأكرم مثواه. ثم اتخذه ابنه السلطان أبو الحسن من بعده بطانة لشوراه ونجيا لخلواته. ولم يزل يحرضهم على آل زيان بتلمسان. ونفس ميمون بن عثمان وولده عريف رتبته عند السلطان أبو الحسن فنزعوا إلى أخيه أبي علي بتافيلات فلم يزالوا بها إلى أن هلك ميمون.
ثم تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه أبي علي، وصارأولاد ميمون في جملته. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان يجر أمم المغرب، وأحجر على زيان بتلمسان، ثم اقتحمها عليهم عنوة وابتزهم ملكهم، وقتل السلطان أبا تاشفين عند شدونه، وبعث كلماتة في أقطار المغرب الأقصى والأدنى إلى تخوم الموحدين من أندلس، وجمع كلمة زناتة واستتبعهم تحت لوائة. وفر بنو عامر من زغبة أولياء بني عبد الواد إلى القفر كما نذكره. ورفع السلطان أبو الحسن قوم عريف بن يحيى بمحلته على كل عربي في إيالته من زغبة والمعقل. وكان عقد سمعون بن سعيد على الناجعة من سويد. وهلك أيام نزول السلطان بتاسالة سنة إثنتين وثلاثين[وسبعمائة] قبل فتح تلمسان. وولي من بعده أخوه عطية هلك لأشهر من ولايته بعد فتح تلمسان فعقد السلطان لونزمار بن عريف على سويد وسائر بني مالك، وجعل له رياسة البدو حيث كانوا من أعماله، وأخذ الصدقات منهم والأتاوات فعكفت على هيئة أمم البدو واقتدى بشوراه رؤساؤهم. وفر ابن عمه المسعود بن سعيد ولحق ببني عامر، وأجلبوا على السلطان بدعاء جزارشبة إبنه أبي عبد الرحمن، فجمع لهم ونزمار وهزمهم كما نذكره. وسفر عريف بين السلطان أبي الحسن وبين الملوك لعهده من الموحدين بأفريقية وبني الأحمر بالأندلس والترك بالقاهرة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك السلطان أبو الحسن. (ولما تغلب) السلطان أبو عنان على تلمسان كما سنذكره رعى لسويد ذمة الانقطاع إليه، فرفع ونزمار بن عريف على سائر رؤساء البدو من زغبة وأقطعه السرسو وقلعة ابن سلامة وكثيراً من بلاد توجين. وهلك أبو عريف بن يحيى، فاستقدمه من البدو وأجلسه بمكان أبيه من مجلسه جوار أريكته ولم يزل على ذلك. وعقد لأخيه عيسى على البدو من قومه، ثم بن عبد الواد بعد ملك السلطان أبي عنان عادت لهم الدولة بأبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي يغمراسن من أعياص ملوكهم. وتولى كبر ذلك صغير بن عامر وقومه لما لهم مع آل زيان من الولاية، وما كان لبني مرين فيهم من النقمات، فملكوا تلمسان ونواحيها، وعقدوا على سويد لميمون بن سعيد بن عثمان. وتال لونزمار بن عريف، ورأى الترهب والخروج عن الرياسة، فبنى حصنأ بوادي ملوية من تخوم بني مرين ونزل به وأقام هنالك لهذا العهد. وملوك بني مرين يرعون له ذمة اختصاصه سلفهم فيؤثرونه بالشورى والمداخلة في الأحوال الخاصة مع الملوك والرؤساء من سائر النواحي، فتوجهت إليه بسبب ذلك وجوه أهل الجهات من الملوك وشيوخ العرب ورؤساء الأقطار. ولحق أخواه أبو بكر ومحمد بقومهم فمكروا بالميمون ودسوا عليه من قتله غيلة من ذويهم وحاشيتهم واستبدوا برياسة البدو. ثم لما نصب بنو حصين بن زيان ابن عم السلطان أبي حمو للملك كما نذكره ورشحوه للمنازعة سنة سبع وستين وسبعمائة هبت من يومئذ ريح العرب، وجاش مرجلهم على زناتة ووطئوا من تلول بلادهم بالمغرب الأوسط ما عجزوا عن حمايته، وولجوا من فروجها ما قصروا عن سده، ودبوا فيها دبيب الظلال في الفيوء، فتملكت زغبة سائر البلاد بالأقطاع عن السلطان طوعاً وكرهاً رعياً لخدمته، وترغيباً فيها وعدة وتمكينأ لقوته حتى أفرجت لهم زناتة عن كثيرها، ولجأوا إلى سيف البحر. وحصل كل منهم في الفلول على ما يلي موطنه من بلاد القفر. فاستولى بنو يزيد على بلاد حمزة وبني حسن كما كانوا من قبل، ومنعوا المغارم، واستولى بنوحسين على ضواحي المدينة أقطاعاً والعطاف على نواحي مليمانة، والديالم على وزينة، وسويد على بلاد بني توجين كلها ما عدا جبل ونشريس لتوعره بقيت فيه لفة من توجين رياستهم لأولاد عمر بن عثمان من الجشم بني تيغرين كما نذكره، وبني عامر على تاسالة وميلانة إلى صيرور إلى كيدزة الجبل المشرف على وهران.
وتماسك السلطان بالأمصار وأقطع منها كلميتو لأبي بكر بن عريف، ومازونة لمحمد بن عريف ونزلوا لهم عن سائر الضواحي فاستولوا عليها كافة. وأوشك بهم أن يستولوا على الأمصار. وكل أول فإلى آخر، ولكل أجل كتاب، وهم على ذلك لهذا العهد. ومن بطون سويد هؤلاء بطن بنواحي البطحاء يعرفون بهبرة ينسبهم الناس إلى مجاهد بن سويد، وهم يزعمون أنهم من قوم المقداد بن الأسود، وهم بهذا من قضاعة. ومنهم من يزعم أنهم من تجيب إحدى بطون كندة والله أعلم. ومن ظواعن سويد هؤلاء ناجعة يعرفون بصبيح، ونسبهم إلى صبيح بن علاج بن مالك ولهم عدد وقوة وهم يظعنون بظعن سويد ويقيمون بمقامهم. (وأما الحرث بن مالك) وهم العطاف والديالم فموطن العطاف قبلة مليانة، ورياسة ظعونهم لولد يعقوب بن نصربن عروة من منصور بن أبي الذئب بن حسن بن عياض بن عطاف بن زيان بن يعقوب وابن أخيه علي بن أحمد وبنيه، ومعهم طائفة من براز إحدى بطون الأثبج. وأقطعهم السلطان مغارم جبل دراك وما إليه من وادي شلب. وحال بينهم وبين موطن سويد ونشريس ولهم بلاد وزينة في قبلة الجبل رياستهم في ولد إبراهيم بن رزق بن رعاية من مزروع بن صالح بن ديلم، والسعد بن العبّاس بن إبراهيم منهم لهذا العهد. وكانت من قبل لعمه أبي يحيى بن إبراهيم. وتقبض عليه السلطان أبو عثمان بإشارة عريف بن يحيى وأغرى به وهلك في محبسه. (وفيهم بطون كثيرة) منهم بنو زيادة بن إبراهيم بن رومي والدهاقنة أولاد هلال بن حسن وبنو نوال بن حسن أيضاً، وكلهم إخوة ديلم بن حسن وابن عكرمة من مزروع بن صالح، ويعرفون بالعكارمة . وهؤلاء العطاف والديالم أقل عدداً من سويد وأولياؤهم في فتنتهم مع بني عامر لمكان العصبية من نسب مالك، ولسويد عليهم اعتزاز بالكثرة. والديالم أبعد مجالاً منهم في القفر، ويحاذيهم في مواطنهم من جانب التلول بطن من بطون الحرث يعرفون بغريب نسبهم إلى غريب بن حارث، حي حلول بتلك المواطن يطلبهم السلطان في العسكرة، ويأخذ منهم المغارم، وهم أهل شاة وبقر. ورياستهم في أبناء مزروع بن خليفة بن خلوف بن يوسف بن بكرة بن منهاب بن مكتوب بن منيع بن مييث بن محمد الغريب، وهو جدهم بن حارث. وترادفهم في
رياستهم على غريب أولاد يوسف، وهم جميعاً أولاد بني منيع وسائر غريب من الأحلاف شيوخهم أولاد كامل، والله مالك الخلق والأمر.
خريطة
بنو عامر بن زغبة
وأما بنو عامر بن زغبة، فمواطنهم في آخر مواطن زغبة من المغرب الأوسط قبلة تلمسان مما يلي المعقل وكانت مواطنهم من قبل ذلك في آخرها مما يلي المشرق، وكانوا مع بني يزيد حياً جميعاً، وكانوا يغلبون غيرهم في مواطن حمزة والدهوس وبني حسن لميرة أقواتهم في المصيف. ولهم على وطن بني يزيد ضريبة من الزرع متعارفة بين أهله لهذا العهد. يقال: أنها كانت لهم أزمان تغلبهم في ذلك الوطن، وقيل إن أبا بكر بن زغبي في فتنته مع رياح غلبوه على الدهوس من وطنه فاستصرخ بني عامر فجاءوا لصريخه، وعلى بني يعقوب داود بن عطاف، وعلى بني حميد يعقوب بن معروف، وعلى شافع بن صالح بن بالغ وغلبوا رياحاً بعزلان. وفرض لهم على وطن بني يزيد ألف غرارة، واستمرت لهم عادة عليهم. ولما نقلهم يغمراسن إلى مواطنهم هذه لمحاذاة تلمسان ليكونوا حجزأ بين المعقل وبين وطنها استقروا هنالك يتقلبون في قفارها في المشاتي، ويظهرون إلى التلول في المرابع والمصايف. وكان فيهم ثلاثة بطون: بنو يعقوب بن عامر وبنو حميد بن عامر وبنو شافع بن عامر، وهم بنو شقارة وبنو مطرف. ولكل واحد من البطنين الآخرين أفخاذ وعمائر. ولبني حميد فصائل أخرى فمنهم: بنوحميد. ومن عبيد الحجز، وهم بنو حجاز بن عبيد. وكان له من الولد جحوش وهجيش ابني حجاز. وحجوش حامد ومحمد ورباب ومن محمد الولالدة بنو ولاد بن محمد. ومن رباب بنو رباب وهم معروفون لهذا العهد. ومن عبيد أيضأ العقلة بنو عقيل بن عبيد والمحارزة بنو محرز بن حمزة بن عبيد. وكانت الرياسة على حميد لعلاق من هؤلاء المحارزة وهم الذين قبل جحرش جذبني رباب. وكانت الرياسة على بني عامر كافة لبني يعقوب على عهد يغمراسن وابنه، لداود بن هلال بن عطاف بن رداد بن ركيش بن عياد بن منيع بن يعقوب منهم. وكان بنو حميد أيضاً برئيسهم وشيخهم- إلا أنه رديف لشيخ بني يعقوب- منهم. وكانت رياسة حميد لأولاد رباب بن حامد بن حجوش بن حجاز بن عبيد بن حميد، ويسمون الحجز. وعلى عهد يغمراسن لمعرف بن سعيد بن رباب منهم،
وهو رديف لداود كما قلناه. ووقعت بين عثمان وبين داود بن عطاف مغاضبة، وسخطه عثمان لما أجاز الأميرأبا زكريا ابن السلطان أبي إسحق من آل أي حفص حين فر من تلمسان طالبا الخروج على الخليفة بتونس، وكان عثمان بن يغمراسن في بيعته فاعتزم على رجعه فأبى داود من إخفار ذمته في ذلك. ورحل معه حتى لحق بعطية بن سليمان من شيوخ الزواودة، وتغلب على بجاية وقسطنطية كما يذكر في أخباره.
وأقطع داود بن هلال رعيأ لفعلته وطناً من بلاد حمزة يسمى كدارة، وأقام داود هنالك في مجالاتهم الأولى إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان وطال حصاره لها، فوفد عليه داود مؤمّلا صلاح حاله لديه، وحمله صاحب بجاية رسالة إلى يوسف بن يعقوب فاستراب به من أجلها. فلما قفل من وفادته بعث في أثره خيالة من زناتة بيتوه ببني يبقى في سد وقتلوه. وقام بأمره في قومه ابنه سعيد، ونفس مخنق الحصارعلى تلمسان. وكان قبل بني مرين لأبيه وسيلة رعاها لهم بنو عثمان بن يغمراسن فرجعوهم إلى مواطنهم ومع قومهم. وقد اغترأولاد معرف بن سعيد في غيبتهم تلك يساجلونهم في رياسة بني عامر، وغص كل واحد بمكان صاحبه؛ واختمق بنو معرف بإقبال الدولة عليهم لسلامتهم من الحزازة والخلاف. ونزع سعيد بن داود لأجل هذه الغيرة إلى بني مرين. ووفد على السلطان أبي ثابت من ملوكهم يؤمل به الكرة فلم يصادف لها محلا ورجع إلى قومه. وكانوا مع ذلك حياً جميعاً ولم تزل السعاية بينهم تدب حتى عدا إبراهيم بن يعقوب بن معرف على سعيد بن داود فقتله وتناول قتله ماضي بن ردان من أولاد معرف بن عامر بمجالاته، وتعصبة عليه أولاد رباب كافة فافترق أمر بني عامر وصاروا حيين: بنو يعقوب وبنوحميد. وذلك لعهد أبي حفو موسى بن عثمان من آل زيان، وقام بأمر بني يعقوب بعد سعيد ابنه عثمان. ثم هلك بعد حين إبراهيم بن يعقوب شيخ بني حميد، وقام مقامه من بني قومه إبنه عامر بن إبراهيم، وكان شهماً حازمأ وله ذكر، ونزل المغرب قبل عريف بن يحيى ونزل على السلطان أبي سعيد وأصهر إليه إبنته فأنكحه عامر إياها وزفها إليه، ووصله بمال له خطر فلم يزل عثمان يحاول أن يثأر منه بأبيه، بالفتنة تارة والصلح والاجتماع أخرى حتى غدره في بيته
وقتله وارتكب فيه الشنعاء التي تنكرها العرب، فتقاطع الفريقان لذلك آخر الدهر.
وصارت بنو يعقوب أحلافاً لسويد في فتنتهم مع بني حميد هؤلاء. ثم تلاحقت ظواعن سويد بعريف بن يحيى في مكانه عند بني مرين واستطال ولد عامر بن إبراهيم بقومهم على بني يعقوب فلحقوا بالمغرب، ولم يزالوا به إلى أن جاؤا في عساكر السلطان أبي الحسن، وهلك شيخهم عثمان. قتله أولاد عريف بن سعيد بثأر عامر بن إبراهيم، وولي بعده ابن عمه هجرس بن غانم بن هلال، فكان رديفأ له في حياته. ثم هلك وقام بأمره عمه سليمان بن داود. ولما تغلب السلطان أبو الحسن على تلمسان فرّ بنو عامر بن إبراهيم إلى الصحراء، وكان شيخهم لذلك العهد صغير ابنه. واستألف السلطان على يد عريف بن يحيى سائر بطون حميد وأولاد رباب فخالفوا صغيراً وإخوانه إلى السلطان. وولى عليهم شيخاً من بني عمهم عريف بن سعيد، وهو يعقوب بن العبّاس بن ميمون بن عريف. ووفد بعد ذلك عمر بن إبراهيم عم صغير فولاه عليهم واستخدمهم، ولحق بنو عامر بن إبراهيم بالزواودة ونزلوا على يعقوب بن علي، ولم يزالوا هناك حتى شبوا نار الفتنة بالدعي بن هيدور الملبس بشبة أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن. وأعانه على ذلك أهل الحقود على الدولة والأضغان من الديالم، وأولاد ميمون بن غنم بن سويد نقموا على الدولة مكان عريف وابنه ونزمار منها فاجتمعوا وبايعوا لهذا الداعي. وأوعز السلطان إلى وزنزمار بحربهم فنهض إليهم بالعرب كافة، وأوقع بهم وفضهم ومزق جموعهم. وطال مفرمقير بن عامر وإخوته في القفار، وأبعدوا في الهرب، قطعوا العرق الرمل الذي هو سياج على مجالات العرب، ونزل قليعة والد وأوطنها. ووفد بعد ذلك على السلطان أبي الحسن منذ نمي به فقبل وفادته واسترهن أخاه أبا بكر، وصحب السلطان إلى أفريقية وحضر معه واقعة القيروان. ثم رجع إلى قومه وعادوا جميعاً لولاية بني يغمراسن، واستخدموا قبائلهم لأبي سعيد عثمان
بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن الدائل بتلمسان بعد واقعة القيروان أعوام خمسين وسبعمائة، فكان له ولقومه فيها مكان. ولحق سويد وبنويعقوب بالمغرب حتى جاءوا في مقدمة السلطان أبي عنان. ولما هلك بنو عبد الواد، وافترق جمعهم فر صغير إلى الصحراء على عادته، وأقام بالقفريترقب الخوارج، ولحق به أكثر قومه من بني معرف بن سعيد فأجلب بهم على كل ناحية. وخالف أولاد حسين بالمعقل على السلطان أبي عنان أعوام خمسة وخمسين سبعمائة وما بعدها، ونازلوا سجلماسة فكاثرهم وكان معهم، وأوقعت بهم عساكر بني مرين في بعض سني خلائهم وهم بنكور يمتارون فاكتسحوا عامة أموالهم وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً. ولم يزالوا كذلك شريداً في الصحراء، وسويد وبنو يعقوب بمكانهم من المجالات، وفي
. حطهم عند السلطان، حتى هلك السلطان أبو عنان وجاء أبوحمو موسى بن يوسف أخو السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن لطلب ملك قومه بتلمسان، وكان مستقراً بتونس منذ غلبهم أبو علي على أمرهم فرحل صغير إلى وطن الزواودة، ونزل على يعقوب بن علي أزمان خلافه على السلطان أبي عنان، وداخله في استخلاص أبي حمو هذا من إيالة الموحدين للأجلاب على وطن تلمسان وبني مرين الذين به، فأرسلوه معه وأعطوه الآلة. ومضى به مقير وصولة بن يعقوب بن علي وزيان بن عثمان بن سباع وشبل ابن أخيه ملوك بني عثمان. ومن بادية رياح دغار بن عيسى بن رحا ب بقومه من سعيد، وبلغوا معهم إلى تخوم بلادهم فرجع عنهم رياح إلا دعار بن عيسى وشبل بن ملوك ومضوا لوجههم. ولقيتهم جموع سويد، وكان الغلب لبني عامر. وقتل يومئذ شيخ سويد بن عيسى عريف، واسرأخوه أبو بكر. ثم من عليه علي بن عمر بن إبراهيم وأطلقه. ولم يتصل الخبر بفاس إلا والناس منصرفون من جنازة السلطان أبي عنان. ثم أجلب أبو حمو بالمغرب على تلمسان فأخذها وغلب عساكر بني مرين عليها، واستوسق ملكه بها. ثم هلك مقيرلسنتين أو نحوهما حمل نفسه في جولة فتنة في الحي يروم تسكينها على بعض الفرسان فاعترضه سنان رمح على غيرقصد فأنفذه وهلك لوقته. وولي رياستهم من بعده أخوه خالد بن عامر يرادفه عبد الله ابن أخيه مقير. وخلصت رغبة كلها للسلطان أبي حمو فأساء بني مرين لما كان بينهم من الفتنة واستخدمهم جميعاً على مضاربهم وعوائدهم من سويد وبني يعقوب والديالم والعطاف، حتى إذا كانت فتنة أبي زيان بن السلطان أبي
سعيد عم أبي حموكما نذكره في خبرهم، جأش مرجل الفتنة من زغبة، واختلفوا على أبي حمو، وتقبض على محمد بن عريف أمير سويد لاتهامه إياه بالإدهان في أمره، فنزع أخوه أبو بكر وقومه إلى صاحب المغرب عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن سنة سبعين وسبعمائة وجاؤوا في مقدمته واستولى على مواطنهم.
ولحق بنو عامر وأبو حمو بالصحراء، وطال ترددهم فيها، وسعى عند أبي حمو في خالد من عمومته وأقاربه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، ومعرف هو أخو إبراهيم بن يعقوب. وكان عبد الله هذا بطانة للسلطان وعيناً، فاستفسد بذلك قلب خالد وتغير ونبذ إليه عهده، ونزع عنه إلى السلطان عبد العزيز. وجاءت به عساكر بني مرين فأوقع بالسلطان أبي حمو ومن معه من العرب. وهلك عبد العزيزسنة أربع وسبعين وسبعمائة فارتحل إلى المغرب هو وعبد الله ابن أخيه مقير ولحقهم ساسي بن سليم بن داود شيخ بني يعقوب. كان قومه بني يعقوب قتلوا أبناء محمد بن عريف فحدثت بينهم فتنة، ولحق ساسي هذا وقومه بالمغرب، وصحب خالداً يؤمل به الكرة، ويئسوا من صريخ بني مرين لما بينهم من الفتنة فرجعوا إلى أوطانهم سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وأضرموا نار الفتنة. وخرجت إليهم عساكر السلطان أبي حمو مع ابنه أب تاشفين، وزحف معه سويد والديالم والعطاف فأوقعوا بهم على وادي مينا قبلة القلعة. وقتل عبد الله بن مقير وأخوه ملوك في قرابة لهم آخرين، وسار فلهم شريداً إلى الصحراء، ولحقوا بالديالم والعطاف واجتمعوا جميعاً إلى سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة، وصاحب وطن متيجة وكان يتوجس من أبي حمو الخيفة فاتفقوا على الخلاف وبعثوا إلى الأمير أبي زيان بمكانه من وطن رياح فجاءهم وتابعوه، وأمكنه سالم من الجزائر. ثم هلك خالد في بعض تلك الأيام فافترق أمرهم، وولي على بني عامر المسعود بن مقير، وزحف إليهم أبو حمو في سويد وأوليائه من بني عامر، واستخدم سالم بن إبراهيم، وخرج أبو زيان إلى مكانه من وطن رياح، ولحق المسعود
بن عامر وقومه بالقفر. ولحق ساسي بن سليم بيعقوب بن علي وقومه من الزواودة.
ثم راجعوا جميعاً خدمة السلطان وأوفدوا عليه فأمنهم وقدموا عليه وأظهروا البر والرحب بالمسعود وساسي، وطوى لهم على السوء. ثم داخل بطانة من بني عامر وسويد في نكبتهم فأجابوه ومكر بهم، وبعث ابنه أبا تاشفين لقبض الصدقات من قومهم حتى اجتمع له ما أراد من الجموع، فتقبض على المسعود وعشرة من إخوانه بني عامر بن إبراهيم. ونهض أبو تاشفين والعرب. جميعاً إلى أحياء بني يعقوب وكانوا بسيرات، وقد أرصد- لهم سويد بوادي مينا فصبحهم بنو عامر بمكانهم واكتسحوهم. وصار فلهم إلى الصحرإء فاعترضهم أبو تاشفين ببني راشد فلم يبق لهم باقية، ونجا ساسي بن سليم إلى الصحراء في فل قليل من قومه، ونزل على النضر- بن عروة واستبد برياسة بني عامر سيمان بن إبراهيم بن يعقوب عم مقير ورديفه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب، وهو أقرب مكاناً من السلطان وخلعه. ثم بعث صاحب المغرب السلطان أبو العبّاس أحمد بن الولي أبا سالم بالشفاعة في المسعود وإخوانه بوسيلة من ونزمار بن عريف بعد أن كان مداخلاً لأبي حمو ولإخوانه في نكبتهم، فأطلقهم أبو حمو بتلك الشفاعة فعادوا إلى الحلاف وخرجوا إلى الصحراء، واجتمع إليهم الكثير من أولاد إبراهيم بن يعقوب. واجتمع أيضاً فل بني يعقوب من مطارحهم إلى شيخهم ساسي بن سليم ونزلوا جميعأ مع عروة. وأوفد إخوانه على السلطان أبي العبّاس صاحب أفريقية لهذا العهد منتدباً به وصريخاً على عدوه فتلقاه من البر والاحسان ما يناسبه، وأفاض في وفده العطاء وصرفه بالوعد الجميل.
خريطة
وشعر بذلك أبو حمو فبعث من عيونه من اغتاله ووفد بعدها على السلطان أبي العبّاس صاحب أفريقية علي بن عمر بن إبراهيم، وهو ابن عم خالد بن محمد وكبير النفر المخالفين من بني عامر على أبي حمو. ووفد معه سليمان بن شعيب بن عامر فوفدوا عليه بتونس يطلبون صريخه فأجابهم ووعدهم وأحسب الإحسان والمبرة أمامهم، ورجعوا إلى قومهم. ثم راجع علي بن عمر خدمة أبي حمو وقدمه على بني عامر، وأدال به من سليمان بن إبراهيم بن عامر فخرج سليمان إلى أهل بيته من ولد عامر بن إبراهيم الذين بالصحراء، ونزلوا مع بني يعقوب بأحياء أبي بكر بن عريف، وهو على ذلك لهذا العهد والله مقدر الليل والنهار اهـ.
عروة بن زغبة
وأما عروة بن زغبة فهم بطنان: النضر بن عروة. وبطون خميس ثلاثة: عبيد الله وفرغ ويقظان. ومن بطون فرغ بنو قائل أحلاف أولاد يحيى من المعمور القاطنين بجبل راشد. وبنو يقظان وعبيد الله أحلاف لسويد يظعنون لظعنهم ويقيمون لإقامتهم، ورياستهم لأولاد عابد من بطن راشد. وأما النضر بن عروة فمنتبذون بالقفر ينتجعون في رماله ويصعدون إلى أطراف التلول في إيالة الديالم والعطاف وحصين وتخوم أوطانهم، وليس لهم ملك ولا إقطاع لعجزهم عن دخول التلول بلغتهم وممانعة بطون زغبة الآخرين عنها، إلا ما تغلبوا عليه في أذناب الوطن بجبل المستند مما يلي وطن رياح يسكنه قوم من غمرة وزناتة استمر عليهم غلب الغرب منذ سنين. فوضع النضر هؤلاء عليهم الأتاوة وأصاروهم خولاً ورعية.
وربما نزل منهم مع هؤلاء البرابر من عجز عن الظعن في بيوتهم ولهم بطون مذكورة أولاد خليفة والخماننة وشريعة والسحاوى وذوي زيان وأولاد سليمان. ورياستهم جميعاً في أولاد خليفة بن النضر بن عروة، وهي لهذا العهد لمحمد بن زيان بن عسكر بن خليفة ورديفه سمعون بن أبي يحيى بن خليفة بن عسكر، وأكثر السحارى موطنون بجبل المستند الذي ذكرناه، ورياستهم في أولاد وناجعة. هؤلاء النضر أحلاف لزغبة دائمأ فتارة للحرب وحصين جيرانهم في المواطن، وتارة لبني عامر في فتنتهم مع سويد ونديتهم مع بني عامر فيما يزعمون بآل قحافة وسمعت من مشايخهم أنه ليس بأب . لهم، وإنما هو اسم وادٍ كان به حلفهم قديماً وربما يظاهرون سويداً على ابن عامر إلا أنه في الأقل والندرة. وهم إلى حلف بني عامر أقرب وأسرع لما ذكرناه. وربما ظاهروا رياحاً بعض المرات في فتنتهم لجوار الوطن إلا أنه قليل أيضاً وفي النادر. ويتناولون في الأكثر مع البادية من رياح مثل مسلم
وسعيد، وربما وقعت بينهم حروب في القفريصيب فيها بعض من دماء بعض، هذه بطون زغبة وما تأدّى إلينا من أخبارهم. ولله الخلق والأمر وهو رب العالمين.
المعقل من بطون الطبقة الرابعة
الخبر عن المعقل من بطون هذه الطبقة الرابعة وأنسابهم وتصاريف أحوالهم هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى مجاورون لبني عامر من زغبة في مواطنهم بقبلة تلمسان، وينتهون إلى البحر المحيط من جانب الغرب وهم ثلاثة بطون: ذوي عبيد الله، وذوي منصور، وذوي حسان. فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر، ومواطنهم بين تلمسان وتاوريرت في التل وما بواجهها من القبلة. ومواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على ملوية كلها إلى سجلماسة، وعلى درعة وعلى ما يحاذ الا من التل مثل تاري وغساسة ومكناسة وفاس وبلاد تادلا والمقدر. ومواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط، وينزل شيوخهم في بلد نول قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما إليه، وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة ومستوفة ولمتونة. وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل، يقال أنهم لم يبلغوا المائتين. واعترضهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيّزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم ونزلوا بأخر مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت، وجاوروا زناتة في القفار والغربية فعفوا وكثروا وأنبتوا في صحارى المغرب الأقصى، فعمروا رماله وتغلبوا على فيافيه. وكانوا هناك أحلافاً لزناتة سائر أيامهم. وبقي منهم بأفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب بن سفيم وداخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان واستئلاف العرب. فلما ملكت زناتة بلاد المغرب ودخلوا إلى الأمصار والمدن. قام هؤلاء المعقل في القفارونفردوا في البيداء فنموا نموا لا كفاء له، وملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة
بالقفر مثل قصور السوس غربأ، ثم توات ثم بودة ثم تامنطيت، ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم تيكورارين شرقاً. وكل واحد من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل وأنهار وأكثر سكانها من زناتة، وبينهم فتن وحروب على رياستها. فجاز عرب المعقل هؤلاء الأوطان في مجالاتهم ووضعوا عليها الأتاوات والضرائب، وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكاً. وكانوا من تلك السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة وبأخذونهم بالدماء والطوائل ويسمونها حمل الرحيل. وكان لهم الخيار في تعيينها.
ولم يكن هؤلاء العرب يستبيحون من أطراف المغرب وحلوله حمى، ولا يعرضون لسابلة سجلماسة ولا غيرها من بلاد السودان بأذية ولا مكروه، لما كان بالمغرب من اعتزاز الدول وسد الثغور وكثرة الحامية أيام الموحدين وزناتة بعدهم. وكان لهم بإزاء ذلك أقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى، وفيهم: من مسلم سعيد بن رياح، والعمور من الاثبج، وعددهم كما قلنا قليل. وإنما كثروا بمن اجتمع إليهم من القبائل من غير نسبهم. فإن فيهم من فزارة ومن أشجع أحياء كبيرة، وفيهم الشظة من كرفة والمهاية من عياض، والشعراء من حصين، والصباح من الأخضر ومن بني سليم وغيرهم. (وأما أنسابهم عند الجمهور) فخفية ومجهولة، ونسابة العرب من هلال يعدونهم من بطون هلال وهو غير صحيح، وهم يزعمون أن نسبهم في أهل البيت إلى جعفر بن أبي طالب وليس ذلك أيضاً بصحيح. لأن الطالبيين والهاشميين لم يكونوا أهل بادية ونجعة. والصحيح والله أعلم من أمرهم أنهم من عرب اليمن، فإن فيهم بطنين يسمى كل واحد منهما بالمعقل. ذكرهما ابن الكلبي وغيره فأحدهما من قضاعة بن مالك بن حمير، وهو معقل بن كعب بن غليم بن خباب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكربن عوف بن عذرة بن زيد بن اللات بن رفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. والاخر من بني الحرث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن
عريب بن زير بن كهلان، وهو معقل، وإسمه ربيعة بن كعب بن ربيعة بن كعب بن الحرث.
والأنسب أن يكونوا من هذا البطن الآخر الذي من مذحج، كان إسمه ربيعة، وقد عده الإخباريون في بطون هلال الداخلين إلى أفريقية لأن مواطن بني الحرث بن كعب قريب من البحرين حيث كان هؤلاء العرب مع القرامطة قبل دخولهم إلى أفريقية. ويؤيده أن ابن سعيد لما ذكر مذحج وأنهم بجهات الجبال من اليمن، وذى من بطونهم زبيد ومراد ثم قال: وبأفريقية منهم فرقة وبرية ترتحل وتنزل، وهؤلاء الذين ذكر إنما هم المعقل الذين هم بأفريقية، وهم فرقة من هؤلاء الذين بالمغرب الأقصى. (ومن إملاء نسابتهم): أن معقل جدهم له من الولد سحير ومحمد فولد سحير عبيد الله وثعلب. فمن عبيد الله ذوي عبيد الله البطن الكبير منهم. ومن ثعلب الثعالب الذين كانوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر. وولد محمد: مختار ومنصور وجلال وسالم وعثمان. فولد مختار بن محمد: حسان وشبانة. فمن حسان: ذوي حسان البطن المذكور، أهل السوس الأقصى. ومن شبانة الشبانات جيرانهم هنالك. ومنهم بطنان: بنو ثابت وموطنهم تحت جبل السكسيوي من جبال أدرن وشيخهم لهذا العهد أوما قبله يعيش بن طلحة. والبطن الآخر آل علي، وموطنهم في برية هنكيسة تحت جبل كزولة، وشيخهم لهذا العهد أو ما قرب منه حريز بن علي. ومن جلال وسالم وعثمان الرقيطات بادية لذوي حسان ينتجعون معهم. وولد منصور بن محمد حسين وأبو الحسين وعمران ونسبا يقال لهم جميعأ ذوي منصور وهو أحد بطونهم الثلاثة المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم.
خريطة
ذوي عبيد الله :
فهم المجاورون لبني عامر بن زغبة وفي سلطان بني عبدالواد
من زناتة، فمواطنهم ما بين تلمسان إلى وجدة إلى مصب وادي ملوية في البحر ومنبعث وادي صا من القبلة. وتنتهي رحلتهم في القفار إلى قصور توات وتمنطيت وربما عاجوا ذات الشمال إلى تاسابيت وتوكرارين. وهذه كلها رقاب السفر إلى بلاد السودان. وبينهم وبين بني عامر فتن وحروب موصولة. وكان لهم مع بني عبد الواد مثلها قبل السلطان والدولة، فما كانوا أحلافاً لبني مرين. وكان المنبات من ذوي منصور أحلافاً لبني عبد الواد فكان يغمراسن يوقع بهم أكثر أوقاته وينال منهم إلى أن
صحبوا بسبب الجوار، واعتزت علهم الدولة فأعطوا الصدقة والطوائل وعسكروا مع السلطان في حروبه.
ولم يزل ذلك إلى أن لحق الدولة الهرم الذي يلحق مثلها فوطنوا التلول، وتملكوا وجدة وندرومة وبني يزناسن ومديونة وبني سنوس أقطاعا من السلطان، إلى ما كان لهم عليها قبل من الأتاوات والوضائع فصار معظم جبايتها لهم، وضربوا على بلاد هنين بالساحل ضريبة الإجازة منها إلى تلمسان، فلا يسير ما بينهما مسافر أيام حلولهم بساحتها إلا بإجازتهم، وعلى ضريبة يؤديها إليهم. وهم بطنان: الهراج والخراج، فالخراج من ولد فزاج بن مطرف بن عبيد الله، ورياستهم في أولاد عبد الملك وفرج بن علي بن أبي الريش بن نهار بن عثمان بن خراج، لأولاد عيسى بن عبد الملك ويعقوب بن عبد الملك ويغمور بن عبد الملك. وكان يعقوب بن يغمور شيخهم لعهد السلطان أبي الحسن، ولفا تغلب على تلمسان استخدم له عبيدالله هؤلاء. وكان يحيى بن العز من رجالة بني يزناسن أهل الجبل المطل على وجدة. وكان له قدم في خدمة الدول فاتصل بالسلطان أبي الحسن ورغبه في ملك قصور هذه الصحراء، فبعثه مع هؤلاء العرب في عسكر، ودخل معهم إلى الصحراء وملك تلك القصور واستولى عليها. وأسف عبيد الله بانتزاع أملاكهم وسوء المعاملة لهم، فوثبوا به وقتلوه في خبائه، وانتهبوا عسكر السلطان الذين معه ونقضوا الطاعة. وفر يعقوب بن يغمور فلم يزل شريداً بالصحراء سائر أيامه، ورجع بعد ذلك. ثم عادت دولة بني عبد الواد فصدوا في ولايتها فلم يزل على ذلك، وخلفه إبنه طلحة، وكان أيام خلاف يعقوب وانتقاضه رأس على الخراج من أهل بيته منصور بن يعقوب بن عبد الملك وإبنه رحوّ من بعده. وجاء أبوحمو فكان له في خدمته ومخالطته قدم فقدمه شيخاً عليهم. فرئاستهم لهذا العهد منقسمة بين رجو بن منصوربن يعقوب بن عبد الملك وبين طلحة بن يعقوب المذكور آنفا وربما نازعه. ولهم بطون كثيرة فمنهم: الجعاونة من جعوان بن خراج، والغسل من غاسل بن خراج، والمطارفة من مطرف بن يخراج، والعثامنة من عثمان بن خراج. وفيهم رياستهم كما قلناه ومعهم ناجعة يسمون بالمهاية ينسبون تارة إلى المهاية بن عياض، وقدمنا ذكرهم، وتارة إلى مهيا بن مطرف. وأما الهراج فمن ولد الهراج بن مهدي بن محمد
بن عبيد الله، ومواطنهم في ناحية المغرب عن الخراج فيجاورون بني منصور ولهم تاوريرت وما إليها. وخدمتهم في الغالب لبني مرين وإقطاعاتهم من أيديهم، ومواطنهم تحتهم، ورجوعهم إلى عبد الواد في الأقل. وفي بعض الأحايين ورياستهم في ولد يعقوب بن هبا بن هراج لأولاد مرين بن يعقوب، وأولاد مناد بن رزق الله بن يعقوب، وأولاد فكرون بن محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب من ولد حريزبن يحيى الصغيربن موسى بن يوسف بن حريز، كان شيخاً عليهم أيام السلطان عبد العزيز وهلك عقبه، ورأس عليهم ابنه. ومن ولد مناد أبو يحيى الكبير بن مناد، كان شيخاً قبل أبي يحيى الصغير، وبالإضافة إليه وصف بالصغير. ومنهم أبوحيمدة محمد بن عيسى بن مناد وهو لهذا العصررديف لشيخهم من ولد أبي بحيى الصغير، وهو كثير التقلب في القفار والغزو للقاصية ولأهل الرمال والملثمين. والله مالك الأمور لا رب غيره ولا معبود سواه وهو نعم المولى ونعم النصير0
خريطة
الثعالبة
وأما الثعالبة إخوتهم من ولد ثعلب بن عليّ بن بكربن صغيرأخي عبيد الله بن صغير، فموطنهم لهذا العهد بمتيجة من بسيط الجزائر، وكانوا قبلها بقطيري موطن حصين لهذا العهد، نزلوها منذ عصور قديمة، وأقاموا بها حياً حلولاً. ويظهر أن نزولهم لها حين كان ذوي عبيد الله في مواطن بني عامر لهذا العهد، وكان بنو عامر في مواطن بني سويد فكانت مواطنهم لذلك العهد متصلة بالتلول الشرقية، فدخلوا من ناحية كزول وتدرّجوا في المواطن إلى ضواحي المدينة، ونزلوا جبل تيطري وهو جبل أشير الذي كانت فيه المدينة الكبيرة. فلما تغلب بنو توجين على التلول وملكوا ونشريش زحف محمد بن عبد القوي إلى المدينة فملكها، وكانت بينه وبينهم حرب وسلم، إلى أن وفدت عليه مشيختهم، فتقبض عليهم وأغزى من وراءهم من بقية الثعالبة واستلحمهم واكتسح أموالهم. وغلبهم بعدها على تيطري وأزاحهم عنها إلى متيجة، وأنزل قبائل حصين بتيطري، وكانوا معه في عداد الرعايا يؤدون إليه المغارم والوظائف، ويأخذهم بالعسكرة معه. ودخل الثعالبة هؤلاء في إيالة ملكيش من صنهاجة ببسيط متيجة، وأوطنوا تحت ملكتهم. وكان لهم عليهم سلطان كما نذكره. حتى إذا غلب بنو مرين على المغرب الأوسط، وأذهبوا ملك ملكيش منها، استبد الثعالبة هؤلاء بذلك البسيط وملكوه. وكانت رياستهم في ولد سباع بن ثعلب بن علي بن مكر بن صغير. ويزعمون أن سباعا هذا كان إذا وفد على الموحدين يجعلون من فوق عمامته ديناراً يزن عدداً من الدنانير سابقة في تكرمته وترفيعه. (وسمعت) من بعض مشيختنا أن ذلك لما كان من كرامته للإمام المهدي حين أجاز بهم فإنه مرّ بهم ساعياً فحملوه. واستقرت الرياسة في ولد سباع هذا في بني يعقوب بن سباع أولاً، فكانت لهم مدداً، ثم في عقب حنيش منهم. ثم غلب السلطان أبو الحسن على ممالك بني عبد الواد ونقلهم إلى المغرب، وصارت الولاية لهم لأبي الحملات بن عائد بن ثابت، وهو ابن عم حنيش. وهلك في الطاعون الجارف أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس، فولي عليهم إبراهيم بن نصر. ولم تزل رياستهم إليه إلى أن هلك بعد عساكر السلطان أبي عنان على المغربين كما نذكره في أخباره. وقام برياستهم إبنه سالم. وكانوا أهل مغارم ووضيعة لملكش، ومن بعدهم من ولاة الجزائر، حتى إذا هبت ريح العرب أيام خروج أبي زيان وحصين على أبي حمو أعوام ستين وسبعمائة كما ذكرناه. وكان شيخهم لذلك العهد سالم بن ابراهيم بن نصربن حنيش بن أبي حميد بن نابت بن محمد بن سباع فأخب في تلك الفتنة وأوضع، وعاقد أبو حمو وانتقض عليه مراراً. وغلب بنو مرين على تلمسان فتحيز إليهم. وكانت رسله ووفده تقدموا إليهم بالمغرب. ثم هلك السلطان عبد العزيز ورجع أبو حمو إلى ملكه، ونزلت الغوائل فخشيه سالم. واستدعى أبا زيان ونصبه بالجزائر، وزحف إليه أبو حمو سنة تسع وسبعين [وسبعمائة] ففض جمعه، وراجع سالم خدمته. وفارق أبا زيان كما نذكره في أخباره. ثم زحف إليه أبو حمو وحاصره بجبال متيجة أياماً قلائل واستنزله على عهده. ثم أخفره وتقبض عليه وقاده إلى تلمسان أسيراً وقتله قعصاً بالرماح. وذهب أثره وما كان له من الرياسة التي لم تكن الثعالبة لها بأهل. ثم تتبع إخوانه وعشيره وقبيله بالقتل والسبي والنهب إلى أن دثروا، والله يخلق ما يشاء.
خريطة
ذوي منصور:
وأما أولاد منصور بن محمد فهم معظم هؤلاء المعقل، وجمهورهم ومواطنهم تخوم المغرب الأقصى من قبلته ما بين ملوية ودرعة. وبطونهم أربعة: أولاد حسين وأولاد أبي الحسين، وهما شقيقان، والعمارنة أولاد عمران، والمنبات أولاد منبا وهما شقيقان أيضاً. ويقال لهذين البطنين جميعاً الأحلاف. فأما أولاد أبي الحسن فعجزوا عن الظعن، ونزلوا قصوراً اتخذوها بالقفر ما بين تافييلات وتيكورارين. وأما أولاد حسين فهم جمهور ذوي منصور، ولهم العزة عليهم ورئاستهم أيام بني مرين في أولاد خالد بن جرمون بن جرار بن عرفة بن فارس بن علي بن فارس بن حسين بن منصور، كانت أيام السلطان أبي الحسن لعلي بن غانم. وهلك إثر كائنة طريف. وصارت لأخيه يحيى، ثم لابنه عبد الواحد بن يحيى، ثم لأخيه زكريا، ثم لابن عمه أحمد بن رحو بن غانم، ثم لأخيه يعيش، ثم لابن عمه يوسف بن علي بن غانم لهذا العهد.
وكانت لبني مرين فيهم وقائع أيام يعقوب بن عبد الحق ابنه يوسف، وسيأتي في أخبار بني مرين غزوة يوسف بن يعقوب من مراكش إليهم، وكيف أوقع بهم بصحراء درعة. ولفا أقام بالشرق على تلمسان محاصراً لها أحلف هؤلاء العرب من المعقل على أطراف المغرب ما بين درعة وملوية إلى تاوريرت. وكان العامل يومئذ بدرعة عبد الوهاب بن صاعد من صنائع الدولة وكبار ولاتها، فكانت بينه وبينهم حروب قتل في بعضها. ثم هلك يوسف بن يعقوب، ورجع بنو مرين إلى المغرب فأخذوا منهم بالثأر حتى استقاموا على الطاعة. وكانوا يعطون الصدقة أطوع ما يكون إلى أن فشل ريح الدولة، واعتزت العرب فصاروا يمنعون الصدقة إلا في الأقل يغلبهم السلطان على إعطائها.
ولما استولى السلطان أبو عنان على تلمسان أعوام خمسين وسبعمائة وفر صغير بن عامر إلى الصحراء، ونزل عليهم واستجار بهم فأجاروه. ونكر السلطان عليهم ذلك
فأجمعوا نقض طاعته، وأقاموا معه بالصحراء وصغير متولي كبير ذلك الخلاف، حتى إذا هلك أبو عنان وكان من سلطان أبي حمو بتلمسان ما نحن ذاكروه، وزحف بنو مرين إلى
تلمسان ففر منها أبو حمو وصغير، ونزلوا عليهم فأوقعوا بعسكر بني مرين بنواحي تلمسان،واتسع الخرق بينهم وبين بني مرين فانحازوا إلى أبي حمو وسلطانه وأقطعهم بضواحيه. ثم رجعوا إلى أوطانهم بعد مهلك السلطان أبي سالم أعوام ثلاث وستين[وسبعمائة] على حين اضطراب المغرب بفتنة أولاد السلطان أبي علي ونزولهم بسجلماسة، فكان لهم في تلك الفتنة آثار إلى أن انقشعت. ثم كان لأحمد بن رحو مع أبي حمو جولة وأجلب عليه بأبي زيان حافد أبي تاشفين فقتل في تلك الفتنة كما نذكره، ثم اعتزوا على الدولة من بعد ذلك وأكثر مغارم درعة لهذا العهد وأقطع لهم ببلاد تادلا والمعدن من تلك الثنايا التي منها دخولهم إلى المغرب للمربع والمصيف ولميرات الأقوات. وسجلماسة من مواطن إخوانهم الأحلاف كما نذكره، وليست من مواطنهم فأما درعة فهي من بلاد القبلة موضوعة حفاً في الوادي الأعظم المنحدر من جبل درن من فوهة يخرج منها وادي أم ربيع، ويتساهل إلى البسائط والتلول ووادي دريعة ينحدر إلى القبلة مغرباً إلى أن يصب في الرمل ببلاد السوس وعليه قصور درعة، وواد آخر كبير أيضاً ينحدر إلى القبلة مشرقا بعض الشيء إلى أن يصب في الرمل دون تيكورارين، وفي قبلتها. وعليه من جهة المغرب قصور توات، ثم بعدها تمنطيت، ثم بعدها وركلان. وعندها يصب في الرمل. وفي الشمال عن ركان قصورتسابيت. وفي الشمال عنها إلى الشرق قصور تيكورارين، والكل وراء عرق الرمل. وجبال درن هي الجبال العظيمة الجاثمة سياجا على المغرب الأقصى من آسفي إلى تازي، وفي قبلتها جبل نكيسة لصنهاجة، وآخره جبل ابن حميدي من طرف هسكورة. ثم ينعطف من هنالك جبال أخرى متوازية حتى تنتهي إلى ساحل بادس من البحر الرومي. وصار المغرب لذلك كالجزيرة أحاطت الجبال به من القبلة والشرق والبحر ومن المغرب والجوف. واعتمر هذه الجبال والبسائط التي بينها أمم من البربر لا يحصيهم إلا خالقهم، والمسالك بين هذه الجبال إلى المغرب منحصرة ثم معدودة. وبزحام القبائل المعتمرين لها كاظة. ومصب وادي درعة هذا إلى الصحراء والرمال ما بين سجلماسة وبلاد السوس، ويمتد إلى أن يصب في البحر ما بين نون ووادان، وحفافيه
قصور لا تحصى شجرتها النخل، وقاعدتها بلد تادنست بلد كبيريقصده التجر للسلم في النيلج انتظار خروجه بالصناعة. ولأولاد حسين هؤلاء عساكر على هذا الوطن ومن بإزائه في فسيح جبلة من قبائل البربر صناكة وغيرهم، ولهم عليهم ضرائب وخفرات ووضائع. ولهم في مجابي السلطان إقطاعات، ويجاورهم الشبانات من أولاد حسان من ناحية الغرب، فلهم بسبب ذلك على درعة بعض الأتاوات.
(وأما الأحلاف) من ذوي منصور وهم العمارنة والمنبات فمواطنهم مجاورة لأولاد حسين من ناحية الشرق. وفي مجالاتهم بالقفر تافيلات، وصحراؤها. وبالتل ملوية وقصور وطاط وتازي وبطوية وغساسة، لهم على ذلك كله الأتاوات والوضائع، وفيها الإتطاعات السلطانية. وبينهم وبين أولاد حسين فتنة، ويجمعهم العصبية في فتنة من سواهم. ورياسة العمارنة في أولاد مظفر بن ثابت بن مخلف بن عمران، وكان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان طلحة بن مظفر وابنه الزبير. ولهذا العهد محمد بن الزبير وأخوه موسى، ويرادفهم في رئاستهم أولاد عمارة بن قلان بن فخلف فكان منهم محمد العائد. ومنهم لهذا العهد سليمان بن ناجي بن عمارة ينتجع في القفر ويكثر الغزو إلى اعتراض العير وقصور الصحراء. ورياسة المنبات لهذا العهد لمحمد بن عبد بن حسين بن يوسف بن فرج بن منبا، وكانت أيام السلطان أبي عنان لأخيه عليّ من قبله وترادفهم في رئاستهم ابن عمهم عبد الله بن الحاج عامر بن أبي البركات بن منبا. والمنبات والعمارنة اليوم إذا اجتمعوا جميعاً يكثرأولاد حسين. وكان للمنبات كثيرة لأول دولة بني مرين. وكان خلفهم مع بني عبد الواد. وكان مقدمه يغمراسن بن زيان في افتتاح سجلماسة، وتملكها من أيدي الموحدين، ثم تغلب بنو مرين عليها وقتلوا من حاربها من مشيختهم مع بني عبد الواد، ثم أوقعوا بالمنبات من بعد ذلك في مجالاتهم بالقفر واستلحوهم فنقص عددهم لذلك آخر الأيام، والله مالك الأمور لا رب سواه. مواطن العثامنة تلي مواطن بني منصور من جانب الغرا و ويليهم أولاد سالم. وفي حيز مواطنهم درعة، ولهم عليها القفر. وبليهم أولاد جلال عند منتهى عمارة درعة مما بلي المغرب والقبلة. ويليهم غربا إلى البحر الشبانات وهم أولاد علي وأولاد بو ثابت وأولاد حسان وراءهم من ناحية القبلة والغرب وينزلون مواطنهم بالغلب الذي لهم عليه.
خريطة
ذوي حسان عرب السوس: وأمّا بنو مختار بن محمد فهم كما قدّمناه: ذوي حسان والشبانات والرقيطات. ومنهم أيضأ الجياهنة وأولاد أبورية، وكانت مواطنهم بنواحي ملوية إلى مصبه في البحر مع إخوانهم ذوي منصور وعبيد الله إلى أن استصرخهم علي بن يدر الزكندري صاحب السوس من بعد الموحدين. ونسبه بزعمه في عرب الفتح. وكانت بينه وبين كزولة الظواعن ببسائط السوس. وجبالة فتنة طويلة استصرخ لها بني مختار هؤلاء فصارخوه وارتحلوا إليه بظعونهم، وحمدوا مواطن السوس لعدم المزاحم من الظواعن فيها فأوطنوها. وصارت مجالاتهم بقفرها وغلبوا كزولة وأصاروهم في جملتهم، ومن ظعونهم وكلبوا على القصور التي بتلك المواطن في سوس ونول. ووضعوا عليها الأتاوات مثل تارودانت من سوس، وهي ضفة وادي سوس حيث يهبط من الجبل، وبين مصبه ومصب وادي ماسة حيث الرباط المشهور مرحلة إلى القبلة. ومن هناك إلى زوايا أولاد بني نعمان مرحلة أخرى في القبلة على سائر البحر، وتواصت على وادي نول حيث يدفع من جبل نكيسة غرباً، وبينها وبين إيفري مرحلة، والعرب لا يغلبونها وإنما يغلبون على البسائط في نواحيها. وكانت هذه المواطن لعهد الموحدين من جملة ممالكهم وأوسع عمالاتهم. فلما انقرض أمر الموحدين حجبت عن ظل الدولة وخرجت عن إيالة السلطان إلا ما كان بها لبني يدر هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم. وكان علي بن يدر مالكاً لقصورها، وكان له من الجند نحو ألف فارس، وولّي من بعده عبد الرحمن بن الحسن بن يدر، وبعده أخوه علي بن الحسن. وكان لعبد الرحمن معهم حروب وفتن بعد استظهاره بهم، وهزموه مرّات متتابعة أعوام خمس وسبعمائة وما بعده، وغدر هو بمشيختهم وقتلهم بتارودانت سنة ثمان وسبعمـائة من بعد ذلك. وكان لبني مرين على هؤلاء المعقل بالسوس وقائع وأيام، وظهر يعقوب بن عبد الحق ببني مرين في بعضها الشبانات على بني حسان. واستلحم منهم عدداً، وحاصرهم يوسف بن يعقوب بعدها فأمسكوها وأغرمهم ثمانية عشر
ألفاً، وأثخن فيهم يوسف بن يعقوب ثانية سنة ست وثمانين وسبعمائة وحاربتهم جيوشه أيضاً أياماً لحق بهم بنوكمي من بني عبد الواد، وخالفوا على السلطان فترددت إليهم العساكر واتصلت الحروب كما نذكر في أخباره.
(ولما استفحل) أمر زناتة بالمغرب. وملك أبو علي ابن السلطان أبي سعيد سجلماسة واقتطعها عن ملك أبيه بصلح وقع على ذلك انضوى إليه هؤلاء الأعراب أهل السوس من الشبانات وبني حسان، ورغبوه في ملك هذه القصور فأغزاها من تخوم وطنه بدرعة ودخل القرى عنوة. وفرعلي بن الحسن وأمه إلى جبال نكيسة عند صنهاجة ثم رجع. ثم غلب السلطان أبو الحسن واستولى على المغرب كله. ورغبه العرب في مثلها من قصور السوس فبعث معهم عساكره، وقائده حسون بن إبراهيم بن عيسى من بني يرنيان فملكها، وجبى بلاد السوس وأقطع فيه للحرب، وساسهم في الجباية فاستقامت حاله مدّة. ثم انقرض أمر السلطان أبي الحسن فانقرض ذلك، ورجع السوس إلى حاله وهو اليوم ضاح من ظل الدولة، والعرب يقتسمون جبايته ورعاياه من قبائل المصامدة وصنهاجة قبائل الجباية. والظواعن منهم يقتسمونهم خولاً للعسكرة مثل كزولة مع بني حسّان وزكرز ولخس من لمطة مع الشبانات هذه حالهم لهذا العهد. ورياسة ذوي حسان في أولاد أبي الخليل بن عمربن عفيربن حسن بن موسى بن حامد بن سعيد بن حسان بن مختار لمخلوف بن أبي بكربن سليمان بن الحسن بن زيان بن الخليل ولأخواته. ولا أدري رياسة الشبانات لمن هي منهم، إلا أنهم حرب لبني حسان آخر الأيام. والرقيطات في غالب أحوالهم أحلاف للشبانات وهم أقرب إلى بلاد المصامدة وجبال درن وذوي حسان أبعد في القفر، والله تعالى يخلق ما يشاء لا إله إلا هو.
خريطة
بني سليم
من الطبقة الرابعة
الخبر عن بني سليم بن منصورمن هذه الطبقة الرابعة وتعديد بطونهم وذكر أنسابهم و أولية أمرهم وتصاريف أحوالهم ونبدأ أولا بذكر بني كعب وأخبارهم. وأمّا بني سليم هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعاً، وكانت منازلهم بنجد. وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وفيهم شعوب كثيرة. ورئاستهم في الجاهلية لبني الشريد بن رباح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم، وعمرو بن الشريد عظيم مضر وأبناؤه صخر ومعاوية. فصخر أبو الخنساء وزوجها العبّاس بن مرداس صحابي حضرت معه القادسية. (ومن بطون سليم) عطية ورعل وذكوان الذين دعا عليهم رسول الله لما فتكوا بأصحابه فَخَمَدَ ذكرهم. وكان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي وفتنة، حتى لقد أوصى بعض خلفائهم إبنه أن لا يتزوج فيهم. وكانوا يغيرون على المدينة وتخرج الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم، وهم منتبذون بالقفر ولما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهروبنيه، أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب. ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم. ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه، وطردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر. وأجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى أفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولأ، فأجازوا مع الهلاليين وأقاموا ببرقة وجهات طرابلس زمانا. ثم صاروا إلى أفريقية كما يذكر في الخبرعنهم. وبأفريقية وما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون: زغب وذياب وهبيب وعوف. فأما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته: زغب بن نصر بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم. وقال أبومحمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامه أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف، وزعم أنه أبو ذياب وزغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بأفريقية. وقال أبو الحسن بن سعيد: هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم، كانوا بين الحرمين، وهم الآن بأفريقية مع إخوانهم، ونسب ذياب بن مالك بن بهنة فالله أعلم بالصحيح من ذلك. ونسب بن سعيد والتجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض ولعله واحد. وسقط لابن سعيد جدّ. وأما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من أول أرض برقة مما يلي أفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية، أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى أفريقية. وأول ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية وجهاتها. وهم عديد يرهبهم الحاج، ويرجعون إلى شماخ وقبائل شماخ لها عدد ولهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الذي منه المرج. وفي شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد، وهم بطون عديدة. وبين شماخ ولبيد فتن وحروب. وفي شرقيهم إلى العقبة الصغيرة شمال محارب والرياسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز وهم المعروفون بالعزة. وجميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خربوا مدنه، ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم، وفي خدمتهم بربر ويهود يحترفون بالفلاحة والتجر. ومعهم من رواحة وفزارة أمم، واشتهو لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب. ولا أدري نسبه فيمن هو، وهو بعيد، وهم يقولون من العزة، وقوم يقولون من بني أحمد، وقوم يجعلونه من فزارة لأن فزارة هنالك قليل عددهم والغلب لهيب فكيف تكون الرياسة لغيرهم؟. وأما عوف فهو ابن بهنة بن سليم ومواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة ولهم
جرمان عظيمان: مرداس ولعلاق بطنان: بنو يحيى وحصن. وفي أشعار هؤلاء المتأخرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب وغيره أن يحيى وعلاقا أخوان. ولبني يحيى ثلاثة بطون: حمير ودلاج ورياح ولحمير بطنان: ترجم وكردم. ومن ترجم: الكعوب بنو كعب بن أحمد بن ترجم. ولحصن بطنان: بنو علي وحكيم. ونحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطناً بطناً. وكانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه. وهنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربي وأبوه حين غرقت سفينتهم ونجوا إلى الساحر، فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته.
ولما كانت فتنة ابن غانية وقراقش الغزي بجهات طرابلس وقابس وضواحيها كما نذكر في أخبارهم، كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجع إليهم من ذؤبان العرب وأوشاب القبائل فاعصوصبوا عليهم. وكان لهم معهم حروب. وقتل قراقش ثمانين من الكعوب وهربوا إلى برقة واستصرخوا برياح من بطون سليم ودبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلّت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش وابن غانية من بعده. وكان رسوخ الدولة الحفصية بأفريقية. ولما هلك قراقش واتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص ورجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب أفريقية. وكان مع ابن غانية الزواودة من رياح، وشيخهم مسعود البلط، فرّ من المغرب ولحق به فكان معه هو وبنوه. وبنوعوف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد. فلما استبدّ إبنه الأمير أبو زكريا بملك أفريقية رجعوا جميعاً إليه، والشفوف للزواودة. فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من إفريقية لما كانوا عليه من العيث بها والفساد، فجاء بمرداس وعلاق وهما بنوعوف بن سليم هؤلاء من مواطنهم بنواحي السواحل وقابس واصطنعهم.
ورياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع، وبعده لإبنه يوسف، وبعده لعنان بن جابر بن جامع. ورياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخة بن يعقوب بن كعب. وكانت رياسة علاق عند دخولهم أفريقية لعهدهذاالمعز وبنيه لرافع بن حماد، وعنده راية جدّه التي حضر بها مع النبي ، وهو جدّ بني كعب فيما يزعمون. فاستظهر بهم السلطان على شأنه، وأنزلهم بساح القيروان، وأجزل لهم الصلات والعوائد وزاحموا الزواودة من رياح بمنكب، بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد أفريقية. وكانت أبّة إقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص، فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل ونزولوا به فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك، فشرهوا إليها وأجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم، وقتلوا رزق بن سلطان. واتصلت الفتنة. فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعاً على فتنة الزواودة وتأهبوا لها. وتكررت بينهم وبين رياح الحروب والوقائع حتى أزاحوهم عن أفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسطنطينة وبجاية إلى الزاب وما إليه. ثم وضعوا أوزار الحرب وأوطن كل حيث قسمت له قومه. وملك بنو عوف سائر ضواحي أفريقية وتغلبوا عليه واصطنعهم السلطان وأثبتهم في ديوان العطاء. ولم يقطع شيئا من البلاد. واختص بالولاية منهم أولاد جامع وقومه فكانوا له خالصة، وتم تدبيره في غلب الزواودة ورياح في ضواحي أفريقية وإزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب وبجاية وقسطنطينة، وطال بالدولة واختلف حالهم في الاستقامة معها والنفرة. وضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة وسخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة فذهب مغاضباً عنها. وأقام بناجعته من مرداس ومن إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها، وخاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب أفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله، وهي طويلة:
- قدوا المهامه بالمهرية القود واطووا فلاة بتصويب وتصعيد
ومنها قوله:
- سلوا دمنة بين الغضا والسواجر هل استن فيها واكفات المواطر
فأجاب عن هذه عنان بقوله:
- خليلي عوجا بين سلع وحاجر بهوج عنا جيج نواج ضوامر
يقيم في النزوع عنهم ويستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية. ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضاً له على أفريقية وآل أبي حفص، وهلك في سبيله وقبر بسلا، ولم يزل حال مرداس بين النفرة والأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا واستفحل ملك إبنه المستنصر من بعده، وعلا الكعوب بذمة قوية من السلطان. وكان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة فسعى عند السلطان في مرداس وكأن ابن جامع مبلغاً سعايته واعصوصبت عليه سائر علاق، فحاربوا المرداسيين هؤلاء وغلبوهم على الأوطان والحظ من السلطان، وأخرجوهم عن أفريقية وصاروا إلى القفر وهم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل ويمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح، ويختصون بالتغلب على ضواحي قسطنطينة أيام مرابع الكعوب ومصائفهم بالتلول. فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفرأجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد، ويخالطونهم على حلف ولهم على توزر ونفطة وبلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم ومجالاتهم وتصرفهم، ولأنها في الكثير من أعراضهم. وصاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها فاصطفوا منه كثيراً وأصبح منه عمران قسطنطينة لهم مرتابا واستقام أمر بني كعب من علاق وفي رياسة عوف وسائر بطونهم من مرداس وحصين ورياح، ودلاج ومن بطون رياح حبيب، وعلا شأنهم عند الدولة. واعتزوا على سائر بني سليم بن منصور، واستقرت رياستهم في ولد يعقوب بن كعب، وهم بنو شيخة وبنو طاهر وبنو علي. وكان التقدم لبني شيحة بن يعقوب لعبد الله أولاً، ثم لإبراهيم أخيه، ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي. وكان بنو علي يرادفونهم في الرياسة. وكان منهم بنو كثيربن يزيد بن علي. وكان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه، وكانت له صحابة مع أبى سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاهاً وثروة، وأقطع له السلطان
أربعاً من القرى أصارها لولده. كان منها بناحية صفاقس وبأفريقية وبناحية الجريد. وكان له من الولد سبعة، أربعة لأم وهم أحمد وماضي وعلي ومحمد، وثلاثة لأم وهم: بريد وبركات وعبد الغني. فنازع أحمد أولاد شيخة في رئاستهم على الكعوب، واتصل بالسلطان أبي إسحق وأحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره، وكان من شأنه ماقدّمنا. وهلك أحمد واستقرت الرياسة في ولده، وكان له من الولد جماعة. فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة: قاسم ومرا أبو الليل وأبو الفضل، ومن الحكمية. قائد وعبيد ومنديل وعبد الكريم ومن السرية كليب وعساكر وعبد الملك وعبد العزيز. ولما هلك أحمد قام بأمرهم بعده إبنه أبو الفضل. ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد. وغلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم وتألفوا ولد إخوتهم جميعاً. وعرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد. ولما كان شأن الدعي بن أبي عمارة. ويئس بأنه الفضل بن يحيى المخلوع، وأوقع بالسلطان أبي إسحق وقتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه. لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون أفريقية. وكان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثره وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به وشيد من رياسته على قومه عندما أدال الله به من الدعي فاصطلع أبو الليل هذا بأمرهم.
وزاحم أو لاد شيحة بمنكب قوي. ولحق آخرهم عبد الرحمن بن شيحة بجباية عندما اقتطعها الأميرأبو زكريا ابن السلطان أبي إسحق على ملك عمه السلطان أبي حفص، فوفد عليه مستجيشاً به ومرغبا له في ملك تونس، يرجوبذلك كثرة رئاسته فهلك دون مرامه، وقبر ببجاية وانقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه. واستبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب، ووقع بينه وبين السلطان أبي حفص وحشة، فقدم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة، وزاحمه به أياماً حتى استقام على الطاعة. ولما هلك قام بأمرهم إبنه أحمد، واتصل أمر رياسته ونكبه السلطان أبوعصيدة فهلك في سجنه، وولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل، وزاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره. ولما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه
محمد بن أبي الليل وكفل مولاهم وحمزة ابن أخيه عمر. وكان عمرمضعفا عاجزاً فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم وهم: محمد ومسكيانه ومرغم وطالب وعون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم، فترشحوا للاستبداد على قومهم ومجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرياسة فيهم. ولم يزالوا على ذلك سائرأيامهم.
ولما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب وعظم ضغائنه وعتوه وإفساد الأعراب من احيائه السابلة وساء أثره في ذلك، وأسف السلطان بالاعتزاز عليه والاشتراط في ماله.
وتوغلت له صدور الغوغاء والعامة، فوفد على تونس عام خمسة وسبعمائة ودخل المسجد يوم الجمعة لابساً خفيه. ونكر الناس عليه وطأه بين الله بخف لم ينزعه. وربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه، فقال: إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع؟ فاستعظم الناس كلمته، وثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد وأرضوا الدولة بفعلهم. وكان أمره مذكوراً. وقتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان وابن عمه شبل بن منديل بن أحمد. وقام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل وهراج بن عبيد مولاهم وحمزة أبناء عمر واستبد برياسة البدو من سليم بأفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم وأقتالهم وفحول سوالهم. وانتقض أحمد بن أبي الليل وابن أخيه مولاهم ابن عمر على السلطان سنة سبع وسبعمائة واستدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن دباب فجاءهما وأجلب له على تونس. ونزل كدية الصعتر بظاهرها. وبرز إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن فهزمهم، واستخدم أحمد بن أبي الليل. ثم تقبض عليه واعتقل بتونس إلى أن هلك. ووفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان وسبعمائة فاعتقل معه، ولحق أخوه حمزة بالأميرأبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من أفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة، ومعه أبو علي بن كثير، ويعقوب بن الفرس وشيوخ بني سليم هؤلاء. ورغبوا الأميرأبا البقاء في ملك الحضرة. وجاءوا في صحبته، وأطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر وسبعمائة كما نذكره في خبره. ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا بن اللحياني، واتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم. ونزع إلى السلطان أبي يحيى
الطويل أمر الخلافة. ولي سبعاً ببجاية وثلاثين بعد استيلائه على الحضرة وسائر بلاد أفريقية، فاستخلصه السلطان لدولته ونابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحداً بعد واحد كما نذكره. وداهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان ومالأ حمزة على شأنه.
وربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان وعلى إبنه منصور وعلى ربيبه زغدان ومغران بن محمد بن أبي الليل. وكان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد، وأحمد بن عبد الواحد أبوعبيد وأبو هلال بن محمود بن فائد وناجي بن أبي علي بن كثيرومحمد بن مسكين وأبوزيد بن عمربن يعقوب، ومن هوّارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة إثنتين وعشرين وسبعمائة وبعثت أشلاؤهم إلى حمزة فاشتد حنقه ولحق صريخاً بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن، ومعه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك. وأمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة، وزحفوا إلى أفريقية فخرج إليهم السلطان وهزمهم برغيش. ولم يزل حمزة من بعدها جلباً على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي، وأبو تاشفين صاحب تلمسان يمدهم بعساكره. وتكررت بينهم الوقائع والأيام سجالا كما نذكره في مواضعه. حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن وقومه من بني مرين على تلمسان والغرب الأوسط سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، واستتبعوا بني عبد الواد وسائر زناتة اقصي حمزة عن فتنته وانقطع حبلها في يده، ولحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعاً به، فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته وعفا له عن جرائمه وأ حله محل الأصفاء والخلوص. فشمرعن نصحه واجتهاده وظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ أفريقية، وظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة وتوثر مهادها. وهلك حمزة سنة أربعين وسبعمائة بيد أبي عون نصر بن أبي علي عبد السلام، من ولد كثمربن زيد المتقدم الذكرفي بني علي من بطون بني كعب، طعنه في بعض الحروب فأشواه، وكان فيها مهلكه. وقام بأمرهم من بعده إبنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة. ولكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة والقرابة، واستبد برياسة بني كعب وسائر بني يحيى، وأقتاله بنو مهلهل ينافسونه ويرتقبون الإدالة منه. وكان مساهمه في أمره معن بن مطاعن فزارة وزير أبيه. وخرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم واتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس، وجمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم. ثم اختلفوا ورحلوا عن البلد
وانخذل طالب بن مهلهل وقومه إلى السلطان. ونهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان ووفدت مشيختهم على إبنه الأميرأبي العبّاس بقصره يداخلونه في الخروج على إبنه. وكان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه وقتله وأفلت الباقون. وراجعوا الطاعة وأعطوا الرهن.
(ولما هلك) السلطان أبو يحيى وقام بالأمر إبنه عمر انحرفوا عنه، وطاهروا أخاه أبا العبّاس صاحب الجريد وولي العهد، وزحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها، وقتله أخوه عمركما نذكره في موضعه، وقتل معه أخاهم أبو الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك. ووفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة وكافة المشيخة من أفريقية، وجاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة وأخذ الأتاوة، وانتزع الأمصار التي كانت متقطعة بأيديهم، وألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل وزغبة فثقلت وطأته عليهم وتنكروا له، وساء ظنه بهم وفشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم، ووفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم، فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته، وكما نذكره في موضعه فتقبض عليهم وبلغ خبرهم إلى الحي فتأشبوا بقسطيلة والجريد فظفروا بزنابي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العبّاس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش وقتيل يعقوب بن عبد الحق عند غلبه على الموحدين بمراكش واستيلاؤه على المغرب، وهو أحمد بن عثمان بن إدريس فنصبوه وبايعوه واجتمعوا عليه.
ونأشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم وكان طالب هلك، وقام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه واتفقوا جميعاً على حرب زناتة. ونهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان. ثم ناجزوه ففضوا جموعه وملأوا حقائبهم بأسلابه وأسلابهم، وخضدوا من شوكة السلطان وألانوا من حد الملك، وخفضوا من أمر زناتة. وغلبهم الأمم وكان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام. وهلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته، واستبد بالرياسة عليه أخوه خالد، ثم من بعده أخوهما منصور. واعتز على السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهد ه اعتزازاً لا كفاء له.
وانبسطت أيدي العرب على الضاحية وأقطعتهم الدولة حتى الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك، وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها، وما زالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية، وقاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفاً وصحراء وتلولاً وجريدأ. ويحرضون بين أعياص الدولة ويجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة. ويريمهم السلطان بأقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها. ويجرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله إنقاذ الأمة من هوة الخسف وتخليصهم من مكاره الجوع والخوف، وإدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العبّاس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة. فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربي، ونزل إليه أمير البدو ومنصور بن حمزة هذا، وذلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحق مقتعد كرسي الحضرة وصاحب عصا الخلافة والجماعة. وقام إبنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى أفريقية ودخل تونس عنوة، واستولى على الحضرة سنة إثنتين وسبعمائة بعدها، وأرهف حدّه للعرب في الاعتزاز عليهم وقبض أيديهم عن المفاسد وذويهم فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة، ونصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدهم الأكبر، كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكرذلك كله في أخبار الدولة، وأجلب به على تونس سنة ثلاث وسبعين فامتنعت عليهم ولم يظفروا بشيء، وراجع منصور حاله عند السلطان، وكشف عن وجه المناصحة. وكان عثسريته ملوا منه حسداً ومنافسة بسوء ملكته عليهم، فغدا عليه محمد ا بن أخيه أبى الليل وطعنه فأشواه، وهلك ليومه سنة خمس وسبعين، وافترق جمعهم. وقام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة، ويرادفه أولاد مولاهم ابن عمرفجهد بعض الشيء في خدمة السلطان ومناصحته. ثم رجع إلى العصيان وكشف القناع في الخلاف. واتصل حاله على ذلك ثلاثأ، وأدال السلطان منه ومن قومه بأقتالهم أولاد مهلهل، ورياستهم لمحمد بن طالب، فرجع إليهم رياسة البدو وجعل لهم المنع والإعطاء فيهم ورفع رتبهم على العرب. وتحيز إليهم مع أولاد مولاهم بن عمر بن أبي الليل، ونقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلافة ونهض السلطان سنة ثمانين وسبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة، وحملهم على جادة الطاعة فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء ومشارطتهم لهم على ذلك. وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان العرب الأعراب وذياب البدو فغلبهم عليها جميعاً وأزاحهم عن ضواحيها، وظفر بفرائسه من أولئك الرؤساء، وأصبحوا بين معقتل ومشرد. واستولى على قصورهم وذخائرهم، وأبعد أولاد حمزة وأحلافهم من حكيم المفر، وجاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب، واعتزت عليهم الدولة اعتزازاً لا كفاء له، فنامت الرعايا في ظل الأمن وانطلقت منهم أيدي الاعتمار والمعاش وصلحت السابلة بعد الفساد، وانفتحت أبواب الرحمة على العباد. وقد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان والدولة لا ينتهي إليه اعتزاز ولهم عنجهية وإباية وخلق في التكبر والزهو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدأ للذل، ولا يساومون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول. أما في دولة بني أُميّة فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض، يشهد بذلك أخبار الردة والخلفاء معهم ومع أمثالهم. مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز والغلظة فليس في إعطائها كثير غمط ولا مذلة. وأما أيام بني العبّاس حين استفحال الملك وحدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد وتهامة وما وراءهما. وأما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم وبين بني العبّاس. وأما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة وأفريقية فكانوا ضاخين من ظل الملك. ولما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان من الذل وسوم الخسف حتى كانت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن وقومه من زناتة بالقيروان فنهجوا سبيل الاعتزاز كغيرهم من العرب على الدول بالمغرب، فتحامل المعقل وزغبة على ملوك زناتة، واستطالوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة التغلب على التطاول إلى مثلها، والله مالك الأمور.
الخبر عن قاسم بن مرا من الكعوب القائم بالسنة في سليم
ومال أمره وتصاريف أحواله:
كان هذا الرجل من الكعوب من أولاد أحمد بن كعب منهم، وهو قاسم بن مرا بن أحمد. نشأ بينهم ناسكأ منتحلاً للعبادة. ولقي بالقيروان شيخ الصلحاء بعصره أبا يوسف الدهماني. وأخذ عنه ولزمه. ثم خرج إلى قومه مقتفيأ طريقة شيخه في التزام الورع والأخذ بالسنة ما استطاع. ورأى ما العرب عليه من إفساد السابلة والخروج عن الجادة،
فأخذ نفسه بتغيير المنكر فيهم وإقامة السنة لهم، ودعا إلى ذلك عشيره من أولاد أحمد، وأن يقاتلوا معه على ذلك. فأشار عليه أولاد أبي الليل منهم وكانوا عيبة له تنصح له أن ينكف عن طلب ذلك من قومه، مخافة أن يلحوا في عداوته فيفسد أمره. ودفعوه إلى مطالبة غيرهم من سليم وسائر الناس بذلك، وأنهم منعة له ممن يرومه خاصة، فجمع إليه أوباشا من البادية تبعوه على شأنه والتزموا طريقته والمرابطة معه، وكانوا يسفون بالجنادة.
وبدأ بالدعاء إلى إصلاح السابلة بالقيروان وما إليها من بلاد الساحل، وتتبع المحاربين بقتل من يعثر عليه منهم بالطرق وغزو المشاهير منهم في بيوتهم واستباحة أموالهم ودمائهم حتى شردهم كل مشرد. وعلت بذلك كلمته على آل حصن وصلحت السابلة بأفريقية ما بين تونس والقيروان وبلاد الجريد وطار له ذكر نفسه عليه قومه، وأجمع عداوته واغتياره بنو مهلهل قاسم بن أحمد، وتنصحوا ببعض ذلك للسلطان بتونس الأمير أبى حفص، وأن دعوة هذا الرجل قادحة في أمر الجماعة والدولة، فأغضى لهم عن ذلك، وتركهم وشأنهم، فخرجوا من عنده مجمعين على قتله،
ودعوه في بعض أيامهم إلى المشاورة معه على عادة العرب، ووقفوا معه بساحة حيهم؛ ثم خلصوا معه نجياً، وطعنه من خلفه محمد بن مهلهل الملقب بأبي عذبتين فخر صريعأ لليدين والفم. وامتعض له أولاد أبي الليل، وطلبوا بدمه فافترقت أحياء بني كعب من يومئذ بعد أن كانت جميعاً. وقام بأمره من بعده إبنه رافع على مثل طريقته إلى أن هلك في طلب الأمرعلى يد بعض رجالات آل حصن سنة ست وسبعمائة.
ولم يزل بنوأبي الليل على الطلب بثأر قاسم بن مرا إلى أن ظهر فيهم حمزة ومولاهم إبنا عمر بن أبي الليل، وصارت إليهم الرياسة على أحيائهم. واتفق بعض الأيام اجتماع أولال مهلهل بن قاسم في سيدي حمزة، ومولاهم في مشاتيهم بالقفر، فأجمع اغتيالهم وقتلهم عن آخرهم بثأر ابن عمهما قاسم بن مرا، ولم يفلت منهم إلا طالب بن مهلهل لم يحضر معهم. وعظمت الفتنة من يومئذ بين هذين الحيين وانقسمت عليهم أحياء بني سليم، وصاروا يتعاقبون في الخلاف والطاعة على الدولة وهم على ذلك لهذا العهد، والرياسة في بني مهلهل اليوم لمحمد بن طالب بن مهلهل وأخيه يحيى، والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. بنو حصن بن علاق : بنو حصن هؤلاء من بطون علاق، وحصن أخو يحيى بن علاق كما مر، فهم بطنان أيضاً: بنو عليّ وحكيم. وقد يقال إن حكيماً ليس لحصن، وإنما ربي في حجره فانتمى إليه. وأما حكيم فلهم بطون منهم: بنو ظريف بن حكيم وهم أولاد جابر والشراعبة ونعير وجوين لمقدام بن ظريف وزياد بن ظريف. ومنهم: بنو وائل بن حكيم ومنهم بنو طرود بن حكيم. وقد يقال إن طروداً ليس لسليم0 وأنهم من منبس إحدى بطون هلال بن عامر، ويقال إن منهم زيد العجاج بن فاضل المذكور في رجالات هلال، والصحيح في طرود أنهم من بني فهم ين عمر بن قيس بن عيلان بن عدوان وفي تعدادهم، وكانت طرود أحلاف الدلاج، ثم قاطعوهم وحالفوا آل ملاعب. ومن بطون حكيم آل حسين ونوال ومقعد والجميعات، ولا أدري كيف يتصل نسبهم. ومنهم بنو نمير بن حكيم. ولنمير بطنان: ملاعب وأحمد، فمن أحمد بنو محمد والبطين. ومن ملاعب بنو هيكل بن ملاعب. وهم أولاد زمام والفريات وأولاد مياس وأولاد فائد. ومن أولاد فائد الصرح والمدافعة. وأولاد يعقوب بن
عبد الله بن كثير بن حرقوص بن فائد، واليهم، رياسة حكيم وسائر بطونهم ومواطن حكيم هؤلاء لهذا العهد ما بين سوسة. والأجم. والناجحة منهم أحلاف لبني كعب، تارة لأولاد الليل، وتارة لاقتالهم أولاد مهلهل، ورئاستهم في بني يعقوب بن عبد السلام بن يصوب شيخاً عليهم، وانتقفر أيام اللحياني. ووفد على السلطان أبي يحيى بالثغر العربي من أفريقية في بجاية وقسطنطة وجاء في جملته فلما ملك ملك تونس عقد له على قومه ورفعه على أنظاره. وغصى به بنوكعب فحرض عليه حمزة من الأعشاش محمد بن حامد. بن يزيله. فقتله في موقف شوراهم وولي الرياسة فيهم من بعده ابن عمه محمد بن مسكين بن عامربن يعقوب بن القوس وانتهت اليه رئاستهم. وكان يرادفه أو ينازعه جماعة من بني عمه. فمنهم سحيم بن سليمان بن يعقوب، وحضر واقعة طريف مع السلطان أبي الحسن، وكان له فيها ذكر. ومنهم أبو الهول وأبو القاسم إبنا يعقوب بن عبد السلام، وكان لأبي الهول مناصحة للسلطان أبي الحسم، حين أحلف عليه بنو سليم بالقيروان، وأدخله مع أولاد مهلهل في الخروج على القيروان فخرج معهم جميعاً إلى سوسة. ومنهم بنو يزيد بن عمربن يعقوب وإبنه خليفة. ولم يزل محمد بن مسكين على رئاسته أيام السلطان أبي يحيى كلها وكان مخالطاً له، ومتهالكاً في نصيحته والانحياش إليه. ولما هلك خلفه في رئاسته ابن أخيه خليفة بن عبد الله بن مسكين وهو أحد الأشياخ الذين تقبض عليهم السلطان أبو الحسن بتونس بين يدي واقعة القيروان. ثم أطلقه وهو محصور بالقيروان فكان له به اختصاص من بعد ذلك. ولما تغلب العرب على النواحي بعد واقعة القيروان تغلب بنو مسكين هؤلاء على سوسة فأقطعها السلطان خليفة هذا وبقيت في ملكته. وهلك خليفة فقام برئاستهم في حكيم ابن عمه عامربن محمد بن مسكين. ثم قتله محمد بن بثينة بن حامد من بني كعب قتله يعقوب بن عبد السلام، ثم قتله محمد هذا غدراً بجهاد الجريد سنة خمس وخمسين وسبعمائة. ثم افترق أمرهم واستقرت رئاستهم لهذا العهد بين أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين، وتلقب أبا معنونة وهو ابن أخي خليفة المذكور. وعبد الله بن محمد بن يعقوب وهو ابن أخي أبي الهول المذكور. ولما تغلب السلطان أبو العبّاس على تونس
وملكها انتزع سوس من أيديهم فامتعض أحمد لذلك، وصار إلى ولاية صولة بن خالد بن حمزة من أولاد أبي الليل وسلكوا سبيل الخلاف والفتنة، وأبعدوا في شأوها، وهم لهذا العهد مشردون عن الضواحي والأرياف منزإحون إلى القفر.
وأما عبد الله بن محمد ويلقب الراوي فتحيزا إلى السلطان، وأكد حلفه مع أولاد مهلهل على ولايته ومظاهرته، فعظمت رئاسته في قومه، وهو على ذلك لهذا العهد. ثم راجع أبو معنونة خدمة السلطان وانقسمت رياسة حكيم بينهما، وهم على ذلك لهذا العهد. وأما بنوعلي إخوة حكيم فلهم بطون أولاد صورة ويجمعهما معاً عوف بن محمد بن علي بن حصن. ثم أولاد نمي والبدرانة، وأولاد أم أحمد والحضرة أو الرجلان، وهو مقعد والجميعات والحمر والمسابهة آل حسين وحجري، وقد يقال إن حجري ليسوا لسليم، وأنهم من بطون كندة صاروا معهم بالحلف فانتسبوا بنسبهم ورياسة بني علي في أولإد صورة. وشيخهم لهذا العهد أبو الليل بن أحمد بن سالم بن عقبة بن شبل بن صورة بن مرير بن حسن بن عوف. ويرادفهم المراعية من أهل نسبهم أولاد مرعي بن حسن بن غوف، ومواطنهم ما ين الأجم والمباركة من نواحي قابس، وناجعتهم أحلاف الكعوب إما لأولاد أبي الليل أولأولاد مهلهل، وغالب أخوالهم أولاد مهلهل، والله مقدّر الأمور لا ربّ سراه.
خريطة
ذباب بن سليم
قد ذكرنا الخلاف في نسبهم من أنهم من ذئاب بن ربيعة بن زغب الأكبر، وأن ربيعة أخو زغب الأصغر. وضبط هذه اللفظة لهذا العهد بضم الزاي، وقد ضبطها الأجدابي والرشاطي بكسر الزاي. كذا نقل أبو محمد التجاني في رحلته، ومواطنهم ما ببن قابس وطرابلى إلى برقة، ولهم بطون فمنهم: أولاد أحمد بن ذباب ومواطنهم غربي نابس وطرابلس إلى برقة. عيون رجال مجاورون لحصن، ومن عيون رجال بلاد زغب من بطون ذئاب بنو يزيد مشاركون لأولاد أحمد في هذه المواطن، وليس هذا أباً لهم، ولا إسم رجل، وإنما هو إسم حلفهم انتسبوا به إلى مدلول الزيادة. كذا قال التجاني وهم بطون أربعة: الصهب بسكون الهاء بنو صهب بن جابر بن فائد بن رافع بن ذباب، وإخوتهم الحمادية بنو حمدان بن جابر، والخرجة بسكون الراء بطن من آل سليمان منهم. أخرجهم آل سليمان من مواطنهم بمسلاتة فحالفوا هؤلاء ونزلوا معهم. والأصابعة نسبة إلى رجل ذي أصبع زائدة. ولم يذكر التجاني في أي بطن من ذباب ينتسبون. ومنهم النوائل بنو نائل بن عامر بن جابر وإخوتهم أولاد سنان بن عامر وإخوتهم أولاد ليشاح بن عامر، وفيهم رياسة هذا القبيل من ذباب كلهم. وهم بطنان عظيمان: المحاميد بنو محمود بن طوق بن بقية بن وشاح، ومواطنهم ما بين قابس ونفوسة وما إلى ذلك من الضواحي والجبال. ورئاستهم لهذا العهد في بني ليحاب بن محمود لأولاد سباع بن يعقوب بن عطية بن رحاب. والبطن الاخر الجواري بنو حميد بن جارية بن وشاح، ومواطنهم طرابلس وما إليها مثل تاجورا وهزاعة وزنزور وما إلى ذلك. ورئاستهم لهذا العهد في بني مرغم بن صابر بن عسكر بن علي بن مرغم. ومن أولاد وشاح بطنان آخران صغيران مندرجان مع الجواري والمحامد، وهما الجواربة بنوجراب بن وشاح، والعمور بنو عمر بن وشاح.
هكذا زعم التجاني في العمور هؤلاء.
وفي هلال بن عامر بطن العمور كما ذكرناه. وهم يزعمون أن عمور، ذباب هؤلاء منهم وأنهم إنما جمعهم مع ذباب الموطن خاصة وليسوا من سليم والله أعلم بحقيقة ذلك. وكان من أولاد وشاح بنوحريز بن تميم بن عمر بن وشاح كان منهم فائد بن حريز من فرسان العرب المشاهير وله شعر متداول بينهم لهذا العهد سمر الحيّ وفكاهة المجالس، ويقال إنه من المحاميد، فائد بن حريز بن حربي بن محمود بن طوب. وكان بنو ذباب هؤلاء شيعة لقراقش الغزي وابن غانية، ولهما فيه أثر. وقتل قراقش مشيخة الجراري في بعض أيامه. ثم صاروا بعد مهلك ابن غانية إلى خدمة الأمير أبي زكري وأهل بيته من بعده، وهم الذين أقاموا أمر الداعي بن أبي عمارة وعليهم كان تلبسه لأن يصيرأميراً بدل المخلوع وكان فر إليهم بعد مهلك مولاه وبنيه ونزل عليهم. حتى إذا مر بهم ابن أبي عمارة فعرفه الخبر فاتفقوا على التلبيس وزينوا ذلك لهؤلاء العرب فقبلوه. وتولى كبر ذلك مرغم بن صابر وتبعه قومه، وداخلهم في الأمر أبو مروان عبد الملك بن مكي رئيس قابس فكان ما قدر الله ما كان من تمام أمره وتلويث كرسي الخلافة بدمه حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية. وكان السلطان أبوحفص يعتمد عليهم فغلبهم في دعوة عمارة فخالفوا عليه وسرح لحربهم قائده أبا عبد الله الفزاري، واستصرخوا بالأمير أبي زكريا ابن أخيه، وهو يومئذ صاحب بجاية والثغر الغربي من أفريقية، ووفد عليه منهم عبد الملك بن رحاب بن محمود فنهض لصريخه بسنة سبع وثمانين وستمائة. وحاربوا أهل قابس وهزموهم وأثخنوا فيهم. ثم غلبهم الفزاري، ومانعهم عن وطن أفريقية. ورجع الأمير أبو زكريا إلى ثغره. وكان مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري قد أسره أهل صقلية من سواحل طرابلس سنة إثنتين وثمانين وستمائة وباعوه لأهل برشلونة فاشتراه ملكهم وبقي أسيراً عنده إلى أن نزع إليه عثمان بن إدريس الملقب بأبي دبوس بقية الخلفاء من بني عبد المؤمن، وأراد الإجازة إلى أفريقية لطلب حقه في الدعوة الموحدية، فعقد ملك برشلونة بينه وبين مرغم حلفا وبعثهما، ونزل بساحل طرابلس. وأقام مرغم الدعوة لابن دبوس، وحمل عليها قومه. وحاصرطرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة أياماً. ثم تركوا عسكراً لحصارها وارتحلوا لجباية الوطن فاستفرغوه، وكان ذلك غاية أمرهم، وبقي أبو دبوس يتقلب في أوطانهم مدة، واستدعاه الكعوب
لأول المائة الثامنة وأجلبوا به على تونس أيام السلطان أبي عصيدة من الحفصيين وحاصروها أياما فلم يظفروا. ورجع إلى نواحي طرابلس وقام بها مدة. ثم ارتحل إلى مصر وأقام بها إلى أن أ هلك كما يأتي ذكره في خبر إبنه مع السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولم يزل هذا شأن الجواري والمحاميد إلى أن تقلص ظل الدولة عن أوطان قابس وطرابلس فاستبد برياسة ضواحيها. واستعبدوا سائر الرعاية المعتمرة في جبالها وبسائطها، واستبد أهل الأمصار برياسة أمصارهم بنو مكي بقابس وبنوثابت بطرابلس على ما يذكر في أخبارهم. وانقسمت رياسة أولاد وشاح بانقسام المصرين، فتولى الجواري طرابلس وضواحيها ، وزنرور وغريان ومغر، وتولى المحاميد بلد قابس وبلاد نفوسة وحرب. وفي ذباب هؤلاء بطون أخرى ناجعة في القفر، ومواطنهم منزاحة إلى جانب الشرق عن مواطن هؤلاء الوشاحين. فمنهم آل سليمان بن هبيب بن رابع بن ذباب، ومواطنهم قبلة مغر، وغريان ورئاستهم في ولد نصربن زائد بن سليمان، وهي لهذا العهد لهائل بن حماد بن نصر وبنيه والبطن الآخر آل سالم بن وهب أخي سليمان. ومواطنهم بلد مسراتة إلى لبدة ومسلاتة. وشعوب آل سالم هؤلاء الأحامد والعمائم والعلاونة وأولاد مرزوق، ورياستهم في أولاد ولد مرزوق وهو ابن معلّى بن معراق بن قلينة بن قاص بن سالم، وكانت في أول هذه المائة الثامنة لغلبون بن مرزوق، واستقرت في بنيه وهي اليوم لحميد بن سنان بن عثمان بن غلبون. والعلاونة منهم مجاورون للعنة من عرب برقة والمشابنة من هوّارة المقيمين. وتجاذب ذباب هؤلاء في مواطنهم من جهة القبلة ناصرة، وهم من بطون ناصرة بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم، فإن كان زغب أبو ذباب لملك بن خفاف كما زعم التجاني فهم إخوة ناصرة، ويبعد أن يسمى قوم باسم إخوانهم. وإن كانوا لناصرة كما زعم ابن الكلبي، وهو أقرب، فيكون هؤلاء اختصوا باسم ناصرة دون ذباب وغيرهم من بنيه وهذا كثير من بطون القبائل والله أعلم. ومواطنهم بلاد فزان وودان. هذه أخبار ذباب هؤلاء. وأما العزة جيرانهم في الشرق الذين قدّمنا ذكرهم فهم موطنون من أرض برقة خلاء
لاستيلاء الخراب على أمصارها وقراها من دولة صنهاجة. تمرنت بعمرانها بادية العرب وناجعتهم فتّحيفوها غارةً ونهباً إلى أن فسدت فيها مذاهب المعاش، وانتقض العمران، فخربت. وصار معاش الأكثر من هؤلاء العرب الموطنين بها لهذا العهد من الفلح يثيرون له الأرض بالعوامل من الجمال والحمير، وبالنساء إذا ضاق كسبهم عن العوامل وارتكبوا ضرورة المعاش.
وينجعون إلى بلاد النخل في جهة القبلة منهم من أوجلة وشنترية والواحات وما وراء ذلك من الرمال والقفر، إلى بلد السودان المجاورين لهم، وتسمّى بلادهم برنق، وشيخ هؤلاء العرب ببرقة يعرف لهذا العهد بأبي ذئب من بني جعفر. وركاب الحج من المغرب يحمدون مساطتهم في مرّهم وحسن نيتهم في التجافي عن جامع بيت الله، وإرفادهم بجلب الأقوات لسربهم وحسن الظن بهم. (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)0 وأما نسبهم فما أدري فيمن هو من العرب ؟وحدثني الثقة من ذباب عن خريص ابن شيخهم أبي ذباب أنهم من بقايا الكعوب ببرقة. وتزعم نسابة الهلاليين أنهم لربيعة بن عامر إخوة هلال بن عامر. وقد مر الكلام في ذلك في أول ذكر بني سليم. ويزعم بعض النسابة أنهم والكعوب من العزة، وإن العزة من هيث وإن رياسة العزة لأولاد أحمد، وشيخهم أبو ذئب وأن المثانية جيرانهم من هوّارة. وذكر لي سلام بن التركية شيخ أولاد مقدم جيرتهم بالعقبة أنهم من بطون مسراتة من بقية هوّارة، وهو الذي رأيت النسابة المحققين عليه، بعد أن دخلت مصر ولقيت كثيراً من المترددين إليها من أهل برقة. وهذه آخر الطبقة الرابعة من العرب، وبانقضائه انقضى الكتاب الثاني في العرب وأجيالهم منذ بدء الخليقة، فلنرجع إلى أحوال البربر في الكتاب الثالث والله ولي العون اهـ.
خريطة
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلي الله علي سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم
الكتاب الثالث في أخبار البربر والأمة الثانية من أهل المغرب
وذكر أوليتهم وأجيالهم و دولتهم منذ بدء الخليقة لهذا العهد ونقل الخلاف الواقع بين الناس في أنسابهم الفصل الأول هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم، ملأوا البسائط والجبال من تلوله وأريافه وضواحيه وأمصاره، يتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر. ويظعن أهل العز منهم والغلبة لانتجاع المراعي فيما قرب من الرحلة، لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفر الأملس. ومكاسبهم الشاء والبقر والخيل في الغالب للركوب والنتاج. وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم شأن العرب، ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السائمة. ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والأظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة. ولباسهم وأكثر أثاثهم من الصوف يشتملون الصماء بالأكسية المعلمة، ويفرغون عليها البرانس الكحل ورؤوسهم في الغالب حاسرة، وربما يتعاهدونها بالحلق. ولغتهم من الرطانة الأعجمية متميزة بنوعها، وهي التي اختصوا من أجلها بهذا الإسم.
يقال: إن أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة لما غزا المغرب وأفريقية، وقتل الملك جرجيس وبنى المدن والأمصار، وباسمه زعموا سفيت أفريقية لما رأى هذا الجيل من الأعاجم وسمع رطانتهم ووعى اختلافها وتنوعها تعجب من ذلك وقال: ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة. ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة. وأما شعوب هذا الجيل وبطونهم فإن علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان وهما برنس وماذغيس. ويلقب ماذغيس بالأبتر فلذلك يقال لشعوبه البتر ويقال لشعوب برنس البرانس، وهما معاً إبناً برنس. وبين النسابين خلاف هل هما لأب واحد؟ فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد، على ما حدّثه عنه يوسف الوراق. وقال سالم بن سليم المطماطي وهاني بن مسرور والكومي وكهلان من أبي لوا وهم، نسابة البربر: إن البرانس بتر، وهم من نسل مازيغ بن كنعان. والتبر بنو بر بن قيس بن عيلان وربما نقل ذلك أن أيوب بن أبي يزيد، إلا أن رواية ابن حزم أصح لأنه أوثق. (وأما) شعوب البرانس فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام وهي ازداجة ومصمودة وأوربة وعجيسة وكتامة وصنهاجة وأوريغة. وزاد سابق بن سليم وأصحابه: لمطة وهكسورة وكزولة. وقال أبو محمد بن حزم: يقال إن صنهاج ولمط إنما هما إبنا امرأة يقال لها بصكي ولا يعرف لهما أب تزوجها أوريغ فولدت له هوار فلا يعرف لهما أكثر من أنهما أخوان لهوار من أمه. قال وزعم قوم من أوريغ أنه ابن خبوز بن المثنى بن السكاسك من كندة وذلك باطل. وقال الكلبي أن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر،وانما هما من شعوب اليمانية، تركهما أفريقش بن صيفي بأفريقية مع من نزل بها من الحامية. هذه جماع مذاهب أهل التحقيق في شأنهم، فمن ازداجة مسطاطة، ومن مصمودة غمارة بنو غمار بن
مصطاف بن مليل بن مصمود، ومن أوريغة هوّارة وملد ومغر وقلدن. فمن هوار بن اوريغ مليلة وبنو كهلان، ومن ملس أوريغ سطط وورفل وأسيل ومسراتة. ويقال لجميعهم لهانة بنو لهان بن ملد. ويقال إن مليلة منهم. ومن مغر بن أوريغ ماواسر وزمور وكبا ومصراي ومن قلدن بن أوريغ قمصاتة وورسطيف وبيانة وفل مليلة.
خريطة
(وأما شعوب البتر) وهم بنو مادغيس الأبتر فيجمعهم أربعة أجذام، أداسة ونفوسة وضرية وبنو لوا الأكبر، وكلهم بنو زحيك بن مادغيس. فأما أداسة
بنو أداس بن زحيك فبطونهم كلها فى هوّارة لأن أم أداس تزوجها بعد زحيك أوريغ ابن عمه برنس والد هوّارة، فكان أداس أخاً لهوّارة، ودخل نسب بنيه كلهم في هوّارة. وهم سفارة وأندارة وهنزولة وضرية وهداغة وأوطيطة وترهتة. هؤلاء كلهم بنو أداس بن زحيك بن باذغيس وهم اليوم في هوّارة.
وأما لوا الأكبر فمنه بطنان عظيمان وهما: نفزاوة بنو نفزا وابن الأكبر، ولواتة بنو لوا الأصغر بن لوا الأكبر، فخلفه أبوه حملاً فسمي به. فمن لواتة أكوزة وعتروزة وبنو فاصلة بن لوا الأصغر ومنهم مزاتة بنو زاير بن لوا الأصغر. ومغانة وجدانة بنوكطوف بن لوا الأصغر. ومن لواتة سرداتة بنو نيطط بن لوا الأصغر. ودخل نسب سدراتة في مغراوة. قال أبو محمد بن حزم: كان مغراوة تزوج أم سرداتة فسار سرداتة أخا بني مغراوة لأمهم واختلط نسبه بهم. ومن نفزاوة أيضاً بطون كثيرة وهم ولهاصة وغساسة وزهلة وسوماتة وورسيف ومرنيزة وزاتيمة ووركول ومرسينة ووردغروس ووردين كلهم بنو يطوفت من نفزاوة. وزاد ابن سابق وأصحابه مجر ومكلاتة. وقال: ويقال إن مكلاتة ليس من البربر، وأنه من حمير وقع إلى تطوفت صغيراً فتبناه وهومكلا بن ريمان بن كلاع حاتم بن سعد بن حـمير. ولولهاصة من نفزاوة بطون كثيرة من بيزغاش ودحية إبني ولهاص. فمن بيزغاش بطون ورفجومة وهم: رجال وطووبورغيش ووانجز وكرطيط وما انجدل وسينتت بنو رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص بن تطوفت بن نغزاو. قال ابن سابق وأصحابه: وبنو بيزغاش لواتة كلهم بجبال أوراس. ومن دحية ورترين وتريرو ورتبونت ومكراولقوس بنو دحية بن ولهاص بن تطوفت بن
نفزاو. وأما ضرية وهم بنو ضرى بن زحيك بن مادغيس الأبتر فيجمعهم جذمان عظيمان: بنو نمصيت بن ضرى وبنويحيى بن ضرى.
وقال سابق وأصحابه: إن بطون تمصيت كلها من فاتن بن تمصيت وأنهم اختصوا بنسب ضرسية دون بطون يحيى. فمن بطون تمصيت: مطماطة وصطفورة، وهم كومية ولماية ومطغرة ومرينة ومغيلة ومكزوزة وكشاتة ودونة ومديونة، كلهم بنو فاتن بن تمصيت بن ضرى. ومن بطون يحيى: زناتة كلهم وسمكان وورصطف. فمن ورصطف: مكناسة وأوكتة وورتناج بنو ورصطف بن يحيى. فمن مكناسة ورتيفة وورتدوسن وتفليت ومنصارة وموالات وحرات ورفلابس ومن ملزلولاين وولرتر ويصلتن وجرين وفرغان. ومن ورتناج: مكنسة ومطاسة وكرسطة وسردجة وهناطة وفولال بنو ورتناج بن ورصطف. ومن سمكان زواغة وزواوة بنو سمكان بن يحيى وعن ابن حزم: بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة وهو أظهر، ويشهد له الوطن. فالغالب أن زواوة بنو سمكان بن يحيى، وعن ابن حزم: بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة والتي تعد في سمكان هى التي بالزاي وهي قبيلة معروفة. ومن زواغة بنو ماجر وبنو واطيل وسمكين. وسيأتي الكلام فيهم مستوفى عند ذكرهم إن شاء الله تعالى. هذا آخر الكلام في شعوب هذا الجيل مجملأ، ولا بد من تفصيل فيه عند تفصيل أخبارهم اهـ. (وأما) إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافاً كثيراً وبحثوا فيه طويلا. فقال بعضهم: إنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان إبنه، وقد تقدّم ذكره عند ذكر إبراهيم عليه السلام. وقال آخرون: البربر يمنيون وقالوا أوزاع من اليمن. وقال المسعودي: من غسان وغيرهم، تفرقوا عندما كان من سيل العرم. وقيل: تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب، وقيل من لخم
خريطة
وجذام كانت منازلهم بفلسطين، وأخرجهم منها بعض ملوك فارس. فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول، فعبروالنيل، وانتشروا في البلاد. وقال أبو عمر بن عبد البر: ادعت طوائف من البربر أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبأ. قال: ورأيت في كتاب الأسفنداد الحكيم: إن النعمان بن حمير بن سبأ كان ملك زمانه في الفترة، وأنه استدعى أبناءه وقال لهم: اريد أن أبعث منكم للمغرب من يعمره، فراجعوه في ذلك، وعزم عليهم، وأنه بعث منهم لمت أبا لمتونة ومسفو أبا مسوفة ومرطا أبا هسكورة وأصناك أبا صنهاجة ولمط أبا لمطة وايلان أبا هيلانة، فنزل بعضهم بجبل درن، وبعضهم بالسوس وبعضهم بدرعة.
ونزل لمط عند كزول وتزوج إبنته ونزل جانا وهو أبو زناتة بوادي شلف، ونزل بنو ورتجين ومغراو بأطراف أفريقية من جهة المغرب ونزل مصمود بمقربة من طنجة. والحكاية طويلة أنكرها أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم. وقال آخرون: إنهم كلهم من قوم جالوت. وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة في كتاب الأنساب له: لا أعلم قولاً يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت. ولم ينسب جالوت ممن هو، وعند ابن قتيبة أنه ونور بن هربيل بن حديلان بن جالود بن رديلان بن حظي بن زياد بن زحيك بن مادغيس الأبتر. ونقل عنه أيضاً أنه جالوت بن هربال بن جالود بن دنيال بن قحطان بن فارس. قال: وفارس مشهور وسفك أبو البربر كلهم. قالوا: والبربر قبائل كثيرة وشعوب جمة، وهي هوّارة وزناتة وضرية ومغيلة وزيحوحة ونفزة وكتامة ولواتة وغفارة ومصمودة وصدينة ويزدران ودنجين وصنهاجة، ومجكسة وواركلان. وغيرهم. وذكر آخرون منهم الطبري وغيره: أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق، فلما قتل جالوت تفرقوا في البلاد وغزا أفريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشام وأسكنهم أفريقية وسماهم بربر، وقيل إن
البربرمن ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام. وقال الصولي: هم من ولد بربر بن كسلاجيم بن مسراييم بن حام. وقيل إن العمالقة من بربر بن تملا بن مارب بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاود بن إرم بن سام، وعلى هذا القول فهم عمالقة. وقال مالك بن المرحل. البربر قبائل شتئ من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم. وسبب خروجهم عند المسعودي والطبري والسهيلي: أن أفريقش استجاشهم لفتح أفريقية وسماهم البربر وينشدون من شعره:
- بربرت كنعان لما سقتها من أراضي الضنك للعيش الخصيب
وقال ابن الكلبي: اختلف الناس فيمن أخرج البربر فق الشام، فقيل داود بالوحي. نيل يا داود أخرج البربر من الشام فإنهم جذام الأرض. وقيل يوشع بن نون وقيل أفريقش وقيل بعض الملوك التبابعة. وعند البكري أن بني إسرائيل أخرجوهم عند قتل جالوت. وللمسعودي والبكري أنهم فروا بعد موت جالوت إلى المغرب، وأرادوا مصر فأجلتهم القبط فسكنوا برقة وأفريقية والمغرب على حرب مع الإفرنج والأفارقة وأجازوهم على صقلية وسردانية وميورقة والأندلس. ثم اصطلحوا على أن المدن للافرنجة وسكنوا القفار عصورأ في الخيام وانتجاع الأمصار من الإسكندرية إلى البحر وإلى طنجة والسوس، حتى جاء الإسلام وكان منهم من تهود ومن تنضر وآخرون مجوساً يعبدون الشمس والقمر والأصنام، ولهم ملوك ورؤساء. وكان بينهم وبين المسلمين حروب مذكورة. وقال الصولي البكري إن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام، فانجلى بنوحام إلى المغرب ونسلوا به. وقال أيضاً إن حام لما اسود بدعوة أبيه فر إلى المغرب حياة واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة. وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب. قال وانضاف إلى البربر حيان من المغرب يمنيان عند خروجهم من مارب كتامة وصنهاجة قال وهوّارة ولمطة ولواتة بنوحمير بن سبأ.
وقال هانىء بن بكور الضريسي وسابق بن سليمان المطماطي وكهلان بن أبي لؤي وأيوب بن أبي يزيد وغيرهم من نسابة البربرأن البربر فرقتان كما قدمناه وهما: البرانس والبتر فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان والبرانس بنو برنس بن سحو بن أبزج بن جمواح بن ويل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام وهذا هو الذي يعتمده نسابة البربر. قال الطبري: خرج بربر بن قيس ينشد ضالة بأحياء البربر فهوي جارية وتزوجها فولدت. وعند غيره من نسابة البربرأنه خرج فارا من أخيه عمرو بن قيس وفي ذلك تقول تماضر وهي أخته:
- لتبكي كل باكيةٍ أخاهــا كما أبكي على بربن قيس
- تحمل عن عشيرته فاضحى ودون لقائه أنضاء عيس
ومما ينسب إلى تماضر أيضاً:
# وشطت ببرداره عن بلادنا وطوح برنفسه حيث يممــــا # وازرت ببرلكنة أعجميــــة وما كان برفي الحجازبأعجما
- كأنا وبرا لم نقف بجيادنـــا بنجدولم نقسم نهاباومغنمـــا
وأنشد علماء البربرلعبيدة بن قيس العقيلي:
- ألا أيها الساعي لفرقة بيتنا توقف هداك الله سبل الأطايب
# فاقسم إنا والبرابر إخـــوة نماناوهم جدكريم المناصب
- أبونا أبوهم قيس عيلان في الورى وفي حرمة يسقي غليل المحارب
- فنحن وهم ركن منيع وإخوة على رغم أعداء لئام المغاقب
- فإن البر ما بقي الناس ناصراً وبرلنا ركن منيع المناكب
- نعد لمن عادى شواذه حمرا وبيضا تقط الهام يوم التضارب
- وبر بن قيس عصبة مضرية وفي الفرع من أحسابها والذوائب
- وقيس قوام الدين في كل بلدة وخيرمعد عند حفظ المناسب
- وقيس لها المجد الذي يقتدى به وقيس لها سيف حديد المضارب
وينشد أيضا أبيات ليزيد بن خالد يمدح البربر:
- أيها السائل عنا اصلنا قيس عيلان بنوالعز الأول
- نحن مانحن بنو برالقوى عرف المجدوفي المجد دخل
- وابتنى المجد فأورى زنده وكفانا كل خطب ذي جلل
- إن قيساً يعتزي برّ لها ولبر يعتزي قيس الأجـل
- ولنا الفخربقيس إنــه جدنا الأكبرفكاك الكبل
- إن قيساقيس عيلان هم معدن الحق على الخـــيردلل
- حسبك البربرقومي إنهم ملكوا لأرض بأطراف الاسل
- وببيض تضرب الهام بها هام من كان عن الحق نكل
- أبلغوا البربرعني مدحاً حيك من جوهرشعرمنتحــل
وعند نسابة البربر، وحكاه البكري وغيره أنه كان لمضر ولدان إلياس وعيلان أمهما الرباب بنت حيدة بن عمرو بن معد بن عدنان فولد عيلان بن مضر قيسأ ودهمان، أما دهمان فولده قليل وهم أهل بيت من قيس يقال لهم بنوأمامة. وكانت لهم بنت تسمى البهاء بنت دهمان، وأما قيس بن عيلان فولد له أربعة بنين وهم سعد وعمروأمهما مزنة بنت أسد بن ربيعة بن نزار وبر وتماضر وأمهما تمريغ بنت مجدل ومجدل بن غمار بن مصمود، وكانت قبائل البربر يومئذ يسكنون الشام ويجاورون العرب في المساكن ويشاركونهم في المياه والمراعي والمسارح ويصهرون إليهم، فتزوج بر بن قيس بنت عمه وبر البهاء بنت دهمان وحسده إخوته في ذلك. وكانت أمه تمريغ من دهاة النساء فخشيت منهم عليه، وبعثت بذلك إلى أخوالها سراً، ورحلت معهم بولدها وزوجته إلى أرض البربر. وهم إذ ذاك ساكنون بفلسطين وأكناف الشام فولدت البهاء لبر بن قيس ولدين: علوان ومادغيس. فمات علوان صغيراً وبقي مادغيس فكان يلقب الأبتر، وهو أبو البتر من البربر ومن ولده جميع زناتة.
قالوا: وتزوج مادغيس بن بر وهو الأبتر بأملل- بنت واطاس بن محمد بن مجدل بن عمار فولدت له زحيك بن مادغيس. وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في الأنساب اختلف الناس في أنساب البربر اختلافاً كثيراً. وأنسب ما قيل فيهم أنهم من ولد قبط بن حام لما نزل مصر خرج إبنه يريد المغرب فسكنوا عند آخر عمالة مصر، وذلك ما ورإء برقة إلى البحر الأخضر، مع بحر الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين بالسود ان. فمنهم لواتة آهلين بأرض طرابلس، ونزل قوم بقربها وهم نفزة.
ثم امتدت بهم الطرق إلى القيروان وما وراءها إلى تاهرت إلى طنجة وسجلماسة إلى السوس الأقصى وهم طوائف صنهاجة وكتامة وزكالة من وركلاوة وفطواكة من هسكورة ومزطاوة وذكر بعض أهل الآثار أن الشيطان نزغ بين بني حام وبني سام فوقعت بينهم مناوشات كانت الدبرة فيها لسام وبنيه، وخرج سام إلى المغرب وقدم مصر وتفرق بنوه ومضى على وجهه يؤم المغرب حتى بلغ السوس الأقصى، وخرج بنوه في أثره يطلبونه، فكل طائفة من ولده بلغت موضعاً وانقطع عنهم خبره فأقاموا بذلك الموضع وتناسلوا فيه، ووصلت إليهم طائفة فأقاموا معهم وتناسلوا هنالك.
وكان عمر حام أربعمائة وثلاثاً وأربعين سنة فيما ذكره البكري، وقال آخرون: كان عمره خمسمائة وإحدى وثلاثين سنة0 وقال السهيلي فيمن هو يعرب بن قحطان. قال: وهو الذي أجلى سام إلى المغرب بعد أن كان الجرمى من ولد قوط بن يافث هذا آخر الخلاف في أنساب البربر.
واعلم أن هذه المذاهب كلها مرجوحة وبعيدة من الصواب، فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد، لأن داود الذي قتل جالوت وكان البربر معاصرين له ليسر بينه وبين اسحق بن إبراهيم أخي نعشان الذي زعموا أنه أبو البربر إلا نحو عشرة آباء ذكرناهم أول الكتاب. ويبعد أن يتشعب النسل فيهم مثل هذا التشعب.
وأما القول بأنهم من ولد جالوت أو العماليق، وأنهم نقلوا من ديار الشام وانتقلوا فقول ساقط، يكاد يكون من أحاديث خرافة، إذ مثل هذه الأمة المشتملة على امم وعوالم ملأت جانب الأرض لا تكون منتقلة من جانب آخر وقطر محصور، والبربر معروفون في
بلادهم وأقاليمهم متحيزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام. فما الذي يحوجنا إلى التعلق بهذه الترهات في شأن أوليتهم. ويحتاج إلى مثله في كل جيل وأمة من العجم والعرب. وأفريقش الذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها وأنه نعجب من كثرتهم وعجمتهم وقال: ما أكثر بربرتكم. فكيف يكون هو اللذي نقلهم؟ وليس بينه وبين أبرهة ذي المنار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك أن قالوا أنه الذي نقلهم؟ وأما القول أيضاً بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمنكر من القول، وقد أبطله إمام النسابين والعلماء أبو محمد بن حزم. وقال في كتاب الجمهرة: ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس بن عيلان إبنا إسمه بر أصلا، وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم من ولد جالوت، وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب. فإن قيس عيلان من ولد معد. وقد قدمنا أن معدا كان معاصراً لبختنصر وأن أرمياء النبي خلص به إلى الشام حذرا عليه من بختنصر حين سلط على العرب. وبختنصر هو الذي خرب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان إياه بأربعمائة وخمسين سنة ونحوها، فيكون معد بعد داود بمثل هذا الأمد، فكيف يكون إبنه قيس أبا لجالوت المعاصر لداود؟ هذا في غاية البعد وأظنها غفلة من ابن قتيبة ووهماً. والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح كما تقدم في أنساب الخليقة، وأنّ اسم أبيهم مازيغ واخوتهم أركيش وفلسطين إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام، وملكهم جالوت سمة معروفة له. وكانت بين فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل بالشام حروب مذكورة. وكان بنو كنعان وواكريكيش شيعاً لفلسطين فلا يقعن في وهمك غيرهذا، فهو الصحيح الذي لا يعدل عنه. ولا خلاف بين نسابة العرب أن شعوب البربر الذي قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة وكتامة. فإن بين نسابة العرب خلافا والمشهور أنهم من اليمنية، وأن أفريقش لما غزا أفريقية أنزلهم بها. أما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم أنهم من العرب، مثل لواتة يزعمون أنهم من حمير، ومثل هوّارة يزعمون أنهم من كندة من السكاسك، ومثل زناتة تزعم نسا بتهم أنهم من العمالقة فروا أمام بني إسرائيل. وربما يزعمون فيهم أنهم من بقايا التبابعة ومثل عمارة أيضاً وزواوة ومكلاتة يزعم في هؤلاء كلهم نسابتهم أنهم من حمير حسبما نذكره عند تفصيل شعوبهم في كل فرقة منهم، وهذه كلها مزاعم. والحق الذي شهد به المواطن والعجمة أنهم بمعزل عن العرب إلا ما تزعمه نسابة العرب في صنهاجة وكتامة. وعندي أنهم من إخوانهم والله أعلم. وقد انتهى بنا الكلام إلى أنسابهم وأوليتهم فلنرجع إلى تفصيل شعوبهم وذكرهم أمة بعد أمة. ونقتصر على ذكر من كانت له منهم دولة ملك أو سالف شهرة أو تشعب نسل في العالم وعدد لهذا العهد وما قبله من صنفي البرانس. والبتر منهم وترتيبهم شعباً شعباً حسبما تأدى إلينا من ذلك واشتمل عليه محفوظنا، والله المستعان.
الفصل الثاني
في ذكر
مواطن هؤلاء البربر بأفريقية والمغرب
اعلم أن لفظ المغرب في أصل وضعه إسم إضافي يدل على مكان من الأمكنة بإضافته إلى جهة المشرق ولفظ المشرق كذلك بإضافته إلى جهة المغرب، فكل مكان من الأرض مغرب بالإضافة إلى جهة المشرق ومشرق بالإضافة إلى جهة المغرب، إلا أن العرب قد يخصص هذه الأسماء بجهات معينة وأقطار مخصوصة. وعرف أهل الجغرافيا المعتنين بمعرفة هيئة الأرض وقسمتها، بأقاليمها ومعمورها وخرابها وجبالها وبحارها ومساكن أهلها، مثل بطليموس ورجار صاحب صقلية المنسوب إليه الكتاب المشهور بين الناس لهذا العهد في هيئة الأرض والبلدان وأمثالهم: أن المغرب قطر واحد مميز بين الأقطار. فحده من جهة المغرب بحر المحيط وهو عنصر الماء، وسمي محيطاً لإحاطته بما انكشف من الأرض كما قدمنا أول الكتاب. ويسمى أيضاً البحر الأخضر لتلونه غالباً بالخضرة، ويسمى بحر الظلمات لما أنه تقل فيه الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض
فيكون مظلماً. ولفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه منعقدة هنالك متراكمة، وتسميه الأعاجم: بحراً أوقيانوس يعنون به والله أعلم ما نعني نحن بالعنصر. ويسمونه أيضاً بحر البلاية بتفخيم اللام الثانية. وهو بحركبير غير منحصر لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسموت الرياح هنالك ولنهايتها، إذ لا غاية من العمران وراءه.
والبحار المنحصرة إنما جرت فيها السفن بالرياح المعروفة الهوائية بكثرة تجاربهم فتبعث الريح من الأماكن، وغاية مهبها في سمتها فكل ريح عندهم معروفة الغاية. فإذا علم أن جريته بالريح المنبعثة من مكان كذا، وبما خرج من ريح إلى ريح بحسب مقصوده وجهته. وهذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر ومنبعث الريح، وإن كان معروفا فيه فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به وتذهب فتهلك. وأيضاً فإذا أوغل فيه فربما وقع في المتكاثف من الغيوم والأبخرة كما قلناه فيهلك، فلهذا كان راكبه على غرر وخطر. فحد الغرب من جهة المغرب البحر المحيط كما قلناه، وعليه كثير من مدنه مثل طنجة وسلا أزمور وأنفى وأسفى، وهي من مدن الغرب وحواضره. وعليه أيضاً مسجد ماسة وبلدتا كاوصت ونول من بلاد السوس، وهي كلها من مساكن البربر وحواضرهم. وتنتهي المراكب إلى وراء ساحل نول ولا تجاوزه إلا على خطر كما قلناه. وأما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي والمتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق بين طنجة من بلاد المغرب وطريف من بلاد الأندلس، ويسمى هذا الخليج الزقاق، وعرضه ثمانية أميال فما فوقها. وكانت عليه قنطرة ركبها ماء البحر. ثم يذهب هذا البحر الرومي في سمت الشرق إلى أن ينتهي إلى سواحل الشام وثغوره وما إليها مثل أنْطاكِية والعلايا وطرسوس والمصيصة وطرابلس وصور والإسكندرية. ولذلك سمي البحر الشامي. وهو إذا خرج من الخليج ينفسح في ذهابه عرضاً. وأكثر انفساحه إلى جهة الشمال، ولا يزال انفساحه ذلك متصاعداً إلى الشمال الي أن ينتهي إلى غايته. وطوله فيما يقال خمسة آلاف ميل أو ستة. وفيه جزائر ميورقة ومزقة وياسة وصقلية وأقريطش وسردانية وقبرص. وأما عرضه من جهة الجنوب فإنه يخرج عن سمت واحد. ثم يختلف في ذهابه فتارة يبعد عن الجنوب، وتارة يرجع إلى الشمال. واعترض ذلك بعروض البلدان التي بساحله وذلك أن عرض البلد هو ارتفاع قطبه الشمال على أفقه. وهو أيضاً بعد ما بين سمت رؤس أهله ودائرة معدل النهار. والسبب في ذلك أن الأرض كروية الشكل، والسماء من فوقها مثلها. وأفق البلد هو فرق بين ما يرى وبين ما لا يرى من السماء ومن الأرض. والفلك ذو قطبين إذا ارتفع أحدهما على رؤوس معمور انخفض الآخر بقدره عنهم، والعمارة في الأرض كلها هي إلى الجانب الشمال أكثر، وليس في الجنوب عمران لما تقرر في موضعه. فلهذا ارتفع القطب الشمالي على أهل العمران دون الجنوبي. والمار على سطح الكرة كلما أبعد في جهة ظهر له من سطح الكرة ومن السماء المقابل لها ما لم يكن يظهر، فيزيد بعد القطب على الأفق كما أبعد في الشمال، وينقص كلما رجع إلى الجنوب. فعرض سبتة وطنجة التي هي على زقاق هذا البحر وخليجه ( له) ودقائق. ثم يتصاعد البحر إلى الجنوب فيكون عرض تلمسان ( لد) ونصف فتزيد في الجنوب، فيكون عرض وهران ( لب) أبعد من فاس بيسير لأن عرض فاس ( لج) ودقائق. ولهذا كان العمران في المغرب الأقصى أعرض في الشمال من عمران المغرب الأوسط بقدر ما بين فاس وسبتة. وصار ذلك القطر كالجزيرة بين البحار لانعطاف البحر الرومي إلى الجنوب. ثم يرجع البحر بعد وهران عن سمته ذلك فيكون عرض تونس والجزائر( له) على مثل سمته الأول عند منبعثه من الزقاق. ثم يزيد في الشمال فيكون عرض بجاية وتونس يوم على مثل سمت غرناطة وفرية ومالقة. ثم يرجع إلى الجنوب فيكون عرض طرابلس وقابس (له) على مثل السمت الأول بطنجة وسبتة. ثم يزيد في الجنوب فيكون عرض برقة (لج) على مثل سمت فاس وتوزر فيكون عرض الإسكندرية (لا) على مثل مراكش وأغمات. ثم يذهب في الشمال إلى القطافة إلى منتهى سمته بسواحل الشام. وهكذا اختلافه في هذه العدوة الجنوبية ولسنا على علم من حاله في العدوة الشمالية. وينتهي بسواحل عرض هذا البحر في انفساحه إلى سبعمائة ميل أو نحوها ما بين سواحل أفريقية وجنوة من العدوة الشمالية والبلاد الساحلية من المغرب الأقصى والأوسط وأفريقية من لدن الخليج حيث منبعثة كلها عليه، مثل طنجة وسبتة وبادس
وعساسة وهنين ووهران والجزائر وبجاية وبونة وتونس وسوسة والمهدية وصفاقس وقابس وطرابلس وسواحل برقة والإسكندرية.
هذا وصف هذا البحر الرومي الذي هو حد المغرب من جهة الشمال. وأما حده من جهة القبلة والجنوب فالرمال المتهيلة الماثلة حجزاً بين بلاد السودان وبلاد البربر. ونعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق، وهذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتدىء من البحر المحيط وذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر. فهنالك ينقطع وعرضه ثلاث مراحل وأزيد. ويعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض مججرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد دريغ، ووراءه من جهة الجنوب بعض بلاد الجزيرة ذات نخيل، وأنها معدودة في جملة بلاد المغرب، مثل بلاد بودة وتمنطيت في قبلة المغرب الأقصى وتسايبت وتيكورارين في قبلة المغرب الأوسط وغدامس وفزان وودان في قبلة طرابلس. كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى ونخيل وأنهار، ينتهي عدد كل واحد منها إلى المائة فأكثر.
وإلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشام من صنهاجة ومتقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان. وفي العدوة الشمالية منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب. وكانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد هذا حد المغرب من جهة الجنوب. ومن دون هذا العرق سياج آخرعلى المغرب مما يلي التلول منه. وهي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في الغرب إلى برنيق من بلاد برقة. وهنالك تنقطع هذه الجبال. وشممى مبدؤها من المغرب جبال درن. وما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول وبين العرق الذي وصفناه آنفا بسائط وقفاراً أكثر نباتها الشجر، وفيما يلي التلول منها ويقاربها بلاد الجريد ذات نخل وأنهار. ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت والغيرى فويان وغيرهما، بلاد ذات نخل وأنهار ومزارع متعددة عامرة. وفي قبلة فاس سجلماسة وقراها بلد معروف، ودرعة أيضاً وهي معروفة وفي قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل وأنهار. وفي قبلة تاهرت القصور أيضاً بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد، وهي ذات نخل ومزارع وأنهار. ثم قصور معينات تناهز المائة وأكثر قبلة الجزائر ذات نخل وأنهار. ثم بلد واركلي قبلة بجاية بلد واحد مستبحر العمران كثير النخل، وفي سمته إلىجهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلثمائة منتظمة على حفافي وادٍ ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر، قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب. وتشتمل كلها على النخل والأنهار والفدن والقرى والمزارع. ثم بلاد الجريد قبلة تونس وهي: نفطة وتوزر وقفصة وبلاد نفزاوة وتسمى كلها بلاد قسطيلة مستبحرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل والأنهار. ثم قابس قبلة سوسة وهي حاضرة البحر من أعظم أمصار أفريقية، وكانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد. وتشتمل على النخل والأنهار والمزارع. ثم فزان وودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل وأنهار، وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض أفريقية لما غزاها عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص. ثم الوحات قبلة برقة. ذكرها المسعودي في كتابه. وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعاً ولا مرعى إلى أن تنتهي إلى العرق الذي ذكرناه. ومن ورائه مجالات المتلثمين كما قلناه مفاوز معطشة إلى بلاد السودان. وما بين بلاد هذه والجبال التي هي سياج التلول بسائط متلون مزاجها تارة بمزاج التلول، وتارة بمزاج الصحراء بهوائها ومياهها ومنابتها. وفيها القيروان، وجبل أوراس معترض وسطها. وبلاد الحضنة حيث كانت طبنة ما بين الزاب والتل. وفيها مقرة والمسيلة، وفيها السرسو قبلة تلمسان حيث تاهرت فيها جبل ديرو وقبلة فاس معترض في تلك البسائط. هذا حد المغرب من جهة القبلة والجنوب. وأما من جهة الشرق فيختلف باختلاف الاصطلاحات. فعرف أهل الجغرافيا أنه بحر أهل القلزم المنفجر من بحر اليمن، هابط على سمت الشمال وبانحراف يسير إلى المغرب حتى ينتهي إلى القلزم والسويس، ويبقى بينهم من هنالك، وبين سمته من البحر الرومي مسيرة يومين. وينقطع عند السويس والقلزم. وبعده عن مصر في جهة الشرق ثلاثة أيام. هذا آخر المغرب عندهم، ويدخل فيه إقليم مصر وبرقة.
وكان المغرب عندهم جزيرة أحاطت بها البحر من ثلاث جهاتها كما تراه. وأما العرف الجاري لهذا العهد بين سكان هذه الأقاليم فلا يدخل فيه إقليم مصر ولا برقة، وإنما يختص بطرابلس وما وراءها إلى جهة المغرب في هذا العرف لهذا العهد. وهذا الذي كان في القديم ديار البربر ومواطنهم. فأما المغرب الأقصى منه، وهو ما بين وادي ملوية من جهة الشرق إلى أسفي حاضرة البحر المحيط. وجبال درن من جهة الغرب فهي في الأغلب ديار المصامدة من أهل درن وبرغواطة وغمارة. وآخر غمارة بطوية مما يلي كساسة، ومعهم عوالم من صنهاجة ومطغرة وأوربة وغيرهم، يحيط به البحر الكبير من كربيه، والرومي من شماليه، والجبال الصاعدة المتكاثفة مثل درن من جانب القبلة وجبال تازى من جهة الشرق. لأن الجبال أكثر ما هي وأكثف قرب البحار بما اقتضاه التكوين من ممانعة البحار بها. فكانت جبال المغرب لذلك أكثر، وساكنها من المصامدة في الأغلب وقيل من صنهاجة. وبقيت البسائط من الغرب مثل أزغاو وتامستا وتادلا ودكالة. واعتمرها الظواعن من البربر الطارئين عليه من جشم ورياح فغص المغرب بساكنه من أمم لا يحصيهم إلأ خالقهم، وصار كله جزيرة وبلد واحد أحاطت به الجبال والبحار وقاعدته لهذا العهد فاس، وهي دار ملكه. ويمر فيه النهر العظيم المعروف بوادي أم ربيع، وهو نهر عظيم يمتنع عبوره أيام الأمطار لاتساعه، ويعظم مده إلى البحر فينتهي إلى سبعين ميلاً أو ما يقاربها ومصبه في البحر الكبير عند أزبور. ومنبعه من جبال درن من فوهة كبيرة ينبع منها هذا النهر ويتساهل إلى بسيط المغرب. وينبع منها أيضا نهر آخر، وينحدر إلى القبلة. ويمر ببلاد درعة ذات النخل المخصوصة بنبات النيلج. وصناعة استخراجه من شجره، وهي قصور ذات نخل موضوعة في سفح جبل درن من آخره، وبها يسمى هذا النهر، ويجاورها إلى أن يغوص فى الرمل قبلة بلاد السوس.
وأما نهر ملوية آخر المغرب الأقصى فهو نهرعظيم منبعه من فوهة في جبال قبلة نازى، ويصب في البحر الرومي عند مكناسة. وعليه كانت ديار مكناسة المعروفة بهم في القديم. ويسكنها لهذا العهد أمم أخرى من زناتة في قصور منتظمة إلى أعلى النهر يعرفون بوطاط ويجاورهم هنالك وفي سائر نواحيه أمم من البربر أشهر من فيهم بطالسة إخوة مكناسة. وينبع مع هذا النهر من فوهته نهر كبير ينحدر ذاهباً إلى القبلة مشرقاً بعض الشيء، ويقطع العرق على سمته إلى أن ينتهي إلى البردة ثم بعدها إلى تمطيت، ويسمى لهذا العهد كير، وعليه قصورها. ثم يمر إلى أن يصب في القفار ويروغ في قفارها ويغور في رمالها وهو موضع مقامه قصور ذات نخل تسمى وركلان. وفي شرق بوده مما وراء العرق قصور تسايبت من قصور الصحراء. وفي شرقي تسابيت إلى ما يلي الجنوب قصور تيكورارين تنتهي إلى ثلثمائة أو أكثر في واد واحد فينحدر من المغرب إلى المشرق، وفيها أمم من قبائل زناتة. وأما المغرب الأوسط فهو في الأغلب ديار زناتة. كان لمغراوة وبني يفرن. وكان معهم مديونة ومغيلة وكومية ومطغرة ومطماطة. ثم صار من بعدهم لبني وماتوا وبني يلومي. ثم صار لبني عبد الواد وتوجين من بني مادين وقاعدته لهذا العهد تلمسان، وهي دار ملكه ويجاوره من جهة المشرق بلاد صنهاجة من الجزائر ومتيجة والمرية وما يليها إلى بجاية، وقبائله كلهم لهذا العهد مغلوبون للعرب من زغبة. ويمر في وادي شلف بني واطيل النهر الأعظم منبعه من بلد راشد في بلاد الصحراء. ويدخل إلى التل من بلاد حصين لهذا العهد. ثم يمر مغرباً ويجتمع فيه سائر أودية المغرب الأوسط مثل مينا وغيره إلى أن يصب في البحر الرومي ما بين كلميتوا ومستغانم. وينبع من فوهته نهر آخريذهب مشرقاً من جبل راشد، ويمر بالزاب إلى أن يصب في سبخة ما بين توزر ونفزاوة معروفة هنالك، وشممى هذا النهر وادي شدي. وأما بلاد بجاية وقسطنطينة فهي دار زواوة وكتامة وعجيسة وهوّارة، وهي اليوم ديار للعرب إلا ممتنع الجبال، وفيها بقاياهم. وأما أفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فتح كانت دياراً لنفزاوة وبني يفرن ونفوسة ومن لا يحصى من قبائل البربر. وكانت قاعدتها القيروان، وهي لهذا العهد مجالات للعرب من سليم وبني يفرن وهوّارة مغلوبون تحت أيديهم. وقد تبدو معهم ونسوا رطانة الأعاجم، وتكلموا بلغات العرب، وتحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم. وقاعدتها لهذا العهد تونس، وهي دار ملكها، ويمر فيها النهر الأعظم المعروف بوادي مجردة يجتمع فيه سائر الأودية بها، ويصب في البحر الرومي على مرحلة من غربي تونس بموضع يعرف ببنزرت. وأما برقة فدرست معالمها وخربت أمصارها وانقرض أمرها. وعادت مجالات للعرب بعد أن كانت داراً للواتة وهوّارة وغيرهم من البربر. وكانت بها الأمصار المستجرة مثل لبدة وزويلة وبرقة وقصر حسان وأمثالها فعادات يباباً ومفاوز كأن لم تكن والله أعلم.
فضائل الجيل
الفصل الثالث في ذكر ما كان لهذا الجيل قديما وحديثا من الفضائل الإنسانية والخصائص الشريفة الراقية بهم إلى مراقي العز ومعارج السلطان والملك
قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر ووفور عدده، وكثرة قبائلهم وأجيالهم وما سواه من مغالبة الملوك ومزاحمة الدول عدة آلاف من السنين، من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام وخروجهم عنه إلى أفريقية والمغرب، وما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولاً، ثم في مشايعتهم ومظاهرتهم على عدوهم ثانياً من المقامات الحميدة والآثار الجميلة. وما كان لوهيا الكاهنة وقومها بجبل أوراس من الملك والعز والكثرة قبل الإسلام وبعده حتى تغلب عليهم العرب، وما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولاً، ثم ردتهم ثانياً، وتحيزهم إلى المغرب الأقصى وفرارهم أمام عقبة ابن نافع، ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب.
(قال ابن أبي زيد): إن البربر ارتدوا بأفريقية المغرب إثنتي عشرة مرة، وزحفوا في كلها للمسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير، وقيل بعدها. وتقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء والقفر من البلاد، وما شيدوا من الحصون والاطام والأمصار من سجلماسة وقصور توات، وتجورارين وفيجيج ومصاب وواركل وبلاد ريغة والزاب ونفزاوة والحمة وغذامس. ثم ما كان لهم من الأيام والوقائع والدول والممالك. ثم ما كان بينهم وبين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بأفريقية. وما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة، ومع لمتونة بتلمسان وتاهرت من الموالاة والانحراف. وما استولى عليه بنو بادين آخراً بإسهام الموحدين وإقطاعهم من بلاد المغرب، وما كان لبني مرين في الأجلاب على عير عبد المؤمن من الاثار، وما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام، وأنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم، مظاهرون لأمم العالم وأجياله من العرب والفرس ويونان والروم.
ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم، قفت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولأ للدول وعبيدأ للجباية. واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك، وإلا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت، وزناتة أيضاً حتى اسر أميرهم وزمار بن مولات، وحمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان. ومن بعد ذلك هوّارة وصنهاجة، وبعدهم كتامة وما أقاموا من الدولة التي ملكوا بها المغرب والمشرق، وزاحموا بني العبّاس في ديارهم وغير ذلك منهم كثير.
وأما تخلقهم بالفضائل الإنسانية وتنافسهم في الخلال الحميدة، وما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف والرفعة بين الأمم، ومدعاة المدح والثناء من الخلق من عز الجوار وحماية النزيل ورعي الأذمة والوسائل والوفاء بالقول والعهد، والصبر على المكاره والثبات في الشدائد. وحسن الملكة والإغضاء عن العيوب والتجافي عن الانتقام، ورحمة المسكين وبر الكبير وتوقير أهل العلم وحمل الكل وكسب المعدوم. وقرى الضيف والإعانة على النوائب، وعلو الهفة وإباية الضيم ومشاقة الدول ومقارعة الخطوب وغلاب الملك وبيع النفوس من الله في نصر دينه. فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لوكانت مسطورة لحفظ منها ما يكون أسوة لمتبعيه من الأمم وحسبك ما اكتسبوه من حميدها واتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز، وأوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الأيدي أيديهم ومضت في الخلق بالقبض والبسط أحكامهم.
وكان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى: بلكين بن زيري الصنهاجي عامل أفريقية للعبيديين، ومحمد بن خزر والخير إبنه، وعروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي، ويوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب، وعبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين وصاحب الإمام المهدي. وكان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين يدي دولهم والمعاهدون لملكهم بالمغرب الأقصى والأوسط، كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين ويغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد، ومحمد بن عبد القوي ووزمار كبير بني توجين وثابت بن منديل أمير مغراوة وأهل شلف ووزمار بن إبراهيم زعيم بني راشد المتعارضين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم والتمهيد لقومهم كل على شاكلته بقوة جمعه. فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدمأ وأطولهم فيها يداً وأكثرهم لها جمعاً، طارت عنهم في ذلك قبل الملك وبعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر وغيرهم، وبلغت في الصحة والشهرة منتهى التواتر. وأما إقامتهم لمراسم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله، فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين لأحكام دين الله لصبيانهم، والاستفتاء في فروض أعيانهم، واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم، وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم، وصياغتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم التماسا للبركة في آثارهم وسوءا للدعاء عن صالحيهم، وإغشائهم البحر لفضل المرابطة والجهاد، وبيعهم النفوس من الله في سبيله وجهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم وصحة معتقداتهم، ومتين ديانتهم التي كانت ملاكاً لعزهم ومقاداً إلى سلطانهم وملكهم. وكان المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي وبنوهم. ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم وبنوه، فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم والجهاد وتشييد المدارس واختطاط الزوايا والربط، وسد الثغور وبذل النفس في ذات الله، وإنفاق الأموال في سبيل الخيرات، ثم مخالطة أهل العلم وترفيع مكانهم في مجالستهم ومفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة، والانقياد لإشاراتهم في الوقائع والأحكام ومطالعة سير الأنبياء وأخبار الأولياء وقراءتها بين أيديهم من دواوين ملكهم ومجالس أحكامهم وقصور عزهم. والتعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين وإنصاف الرعايا من العمال، والضرب على يد أهل الجور، واتخاذ المساجد بصحن دورهم وشدة خلافتهم وملكهم، يعمرونها بالصلوات والتسبيحات والقراء المرتلين لتلاوة كتاب الله أحزابا بالعشي والإشراق على الأيام، وتحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد والكتائب المجهزة، وإنفاق الأموال العريضة. شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم. وأما وقوع الخوارق فيهم وظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم، فقد كان فيهم من الأولياء المحدثين أهل النفوس القدسية والعلوم الموهوبة. ومن حملة العلم عن التابعين ومن بعدهم من الأئمة والكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيبة. ومن الغرائب التي خرقت العادة وأوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل وكرامته لهم، بما آتاهم من جماع الخير وآثرهم به من مذاهب الكمال، وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان، ينقل ذلك فيئ أخبار توهم عجائب. فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة، أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العبّاس ذكره عريب بن حميد في تاريخه. ومنهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار، الخارج على الشيعة سنة إثنتين وثلثمائة الدائن بدين الخارجية. أخذ العلم بتوزر عن مشيختها، ورأس في الفتيا وقرأ مذاهب الإضافية من الخوارج وصدق فيه. ثم لقي عماراً الأعمى الصفري النكار. فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من اية السعادة بانتحاله. وهو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لا يغفل. ومنهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن ولهاصة ثم من سوماتة منهم، مولده عام عشرة ووفاته عام ثلاثة وثمانين وثلثمائة. كان من البتر من ولد مادغيس، هلك على يد عبد الرحمن الناصر. ومنهم أيضاً أبو محمد بن أبي زيد علم الملة وهو من نفزة أيضاً. ومنهم علماء بالنسبة والتاريخ وغير ذلك من فنون العلوم. ومن مشاهير زناتة أيضا موسى بن صالح الغمري، معروف عند كافتهم معرفة وضوح وشهرة، وقد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة. وهو وإن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه، فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم: من ولاية وكهانة وعلم وسحر وكل نوع من آثار الخليقة.
ولقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام. ويذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد ودلت على أنه موهبة من الله استأثره بها لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته. وربما ضاقت حواصل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة، ويجهلون ما يتسع لها ولأمثالها من نطاق القدرة وينقلون أن حملها كان إثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع، كانت ترد فيها على الناس، ويردون عليها، ويرون أنها علقت من فضل ولوغه، ويسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خاصة الشجاعة فيه. وكثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين. ولم يزل هذا دأبهم وحالهم إلى أن مهدوا من الدول وأثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره.
أخبارهم من قبل الفتح الإسلامي إلى ولاية بني الأغلب
الفصل الرابع في ذكر أخبارهم علي الجملة من قبل الفتح الإسلامي ومن بعده إلى ولاية بني الأغلب
هؤلاء البربر جيل ذو شعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بأفريقية والمغرب، وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها. نقل ابن أبي الرقيق: أن موسى بن نصير لما فتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد بن عبد الملك: ويحك إني أظنها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقاً فهذا محشر الأمة، ولم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها. وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مراراً على ما ذكر مؤرخوهم، فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم. ذكر ابن الكلبي: أن حمير اباً بالقبائل اليمانية ملك المغرب مائة سنة وأنه الذي ابتنى مدائنه مئل أفريقية وصقلية. واتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبابعة إلى المغرب كما ذكرنا فى أخبار الروم، واختطوا بسيف البحر وما يليه من الأرياف مدناً عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر، باقية المعالم والاثار لهذا العهد، مثل: سبيطلة وجلولاء ومرناق ووطاقة وزانة وغيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها. وقد كانوا دانوا لعهدهم بما تعبدوهم به من دين النصرانية، وأعطوهم المهادنة وأذوا إليهم الجباية طواعية.
وكان للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة وعدة وعدد وملوك ورؤساء وأقيال. وأمرؤها لا يرامون بذل، ولا ينالهم الروم والإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة، وقد صبحهم الإسلام وهم في مملكة قد استولوا على رومة. وكانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومصر يؤدون الجباية له، وكما كان صاحب طرابلس ولبدة وصبرة وصاحب صقلية، وصاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع. وعنهم كلهم أخذوا دين النصرانية، فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر أفريقية ولم يكن للروم فيها شيء من ولاية. وإنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج ومن حشودهم. وما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح أفريقية فمن باب التغليب لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج، وما قاتلوا في الشام إلا الروم فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية. فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا إسم الروم على جميع أمم النصرانية. ونقلت الأخبار عن العرب كما هي: فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج وليس من الروم، وكذا الأمة الذين كانوا بأفريقية غالبين على البربر ونازلين بمدنها وحصونها إنما كانوا من الفرنجة. وكذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم، لقرب الشام وسلطانه منهم كما كان جرأة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح، وكما كانت نفوسة من برابر أفريقية وقندلاوة ومديونة وبهلولة وغياتة وبنو فازان من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان والملل، فكان البربر بأفريقية والمغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج وعلى دين النصرانية الذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه. حتى إذا كان الفتح وزحف المسلمون إلى أفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع وعشرين، وغلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي فجمع لهم جرير ملك الفرنجة يومئذ بأفريقية من كان بأمصارها من الفرنج والروم، ومن بضواحيها من جموع البربر وملوكهم.
وكان ملك ما بين طرابلس وطنجة، وكانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة وعشرين ألفاً. والمسلمون يومئذ في عشرين ألفاً فكان من هزيمة العرب لهم، وفتحهم لسبيطلة وتخريبهم إياها وقتلهم جرجير ملكهم. وما نفلهم الله من أموالهم وبناتهم التي اختصت منهن إبنته بقاتلة عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة والملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور. ثم أرزىء الفرنجة ومن معهم من الروم بعد الهزيمة، وخلوصه بخبر الفتح إلى حصون أفريقية. وانساح المسلمون في البسائط بالغارات، ووقع بينهم وبين البربر أهل الضواحي زحوف وقتل وسبي. حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم وزمار بن صقلاب جذ بني خزر، وهو يومئذ أمير مغوارة وسائر زناتة ورفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده، ومن عليه وأطلقه وعقد له على قومه.
ويقال إنما وصله وافداً، وحصن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم، وشرطوا لابن أبي سرح ثلثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب، ويخرج بهم من بلادهم ففعل. ورجع المسلمون إلى المشرق وشغلوا بما كان من الفتن الإسلامية. ثم كان الاجتماع والإتفاق على معاوية بن أبي سفيان، وبعث معاوية بن خديج السكوني من مصر لافتتاح أفريقية سنة خمس وأربعين. وبعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئاً وهزمهم العرب بساحل أجم. وحاصروا جلولاء وفتحوها. وقفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على أفريقية بعده عقبة بن نافع، فاختط القيروان وافترق أمر الفرنجة، وصاروا إلى الحصون وبقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية وولى على أفريقية أبا المهاجر مولى. وكانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم، وهو رأس البرانس، ومرادفة سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة، وكان على دين النصرانية فأسلما لأول الفتح. ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر واجتمع إليها البرانس، وزحف إليهم أبو المهاجر حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم، وظفر بكسيلة فأسلم واستبقاه. ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر أ فنكبه غيظاً على صحابته لأبي المهاجر. ثم استفتح حصون الفرنجة مثل باغاية ولميس ، ولقبه ملوك البربر بالزاب وتاهرت ففضهم جمعاً بعد جمع. ودخل المغرب الأقصى وأطاعته غمارة، وأميرهم يومئذ يليان. ثم أجاز إلى وليلى ثم إلى جبال درن وقاتل المصامدة، وكانت بينهم وبينه حروب، وحاصروه بجبال درن. ونهضت إليهم جموع زناتة، وكانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة وأثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام ودوخ بلادهم.
ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام، وهم يومئذ على دين المجوسية، ولم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم، وانتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر، وقاتل مسوفة من وراء السوس وسبى منهم وقفل راجعاً. وكسيلة أئناء هذا كله في اعتقاله يحمله معه في عسكره سائر غزواته. فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود. وتراسل كسيلة وقومه فأرسلوا له شهوداً وانتهزوا الفرصة فيه وقتلوه ومن معه، وملك كسيلة أفريقية خمس سنين ونزل القيروان، وأعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري والأثقال، وعظم سلطانه على البربر. وزحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع وستين، وجمع له كسيلة سائر البربر، ولقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم، وأتبعهم العرب إلى مرمحنة ثم إلى ملوية: وفي هذه الواقعة ذل البربر وفنيت فرسانهم ورجالهم وخضدت شوكتهم واضمحل أمر الفرنجة فلم يعد، وخاف البربر من زهير ومن العرب خوفاً شديداً فلجؤا إلى القلاع والحصون. ثم ترهب زهير بعدها وقفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه. واضطرمت أفريقية ناراً وافترق أمر البربر وتعدد سلطانهم في رؤسائهم. وكان من أعظمهم شأناً يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية بن تيفان ملكة جبل أوراس وقومها من جراوة ملوك البتر وزعماؤهم فبعث عبد الملك إلى حيان بن النعمان الغساني عامله على مصر أن يخرج إلى جهاد أفريقية، وبعث إليه بالمدد فزحف إليها سنة تسع وسبعين. ودخل القيروان وغزا قرطاجنة وافتتحها عنوة، وذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلية وإلى الأندلس.
ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة وقومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة. وزحفت إليه فاقتتلوا قتالاً شديداً. ثم انهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير، واسر خالد بن يزيد القيسي. ولم تزل الكاهنة والبربر في إتباع حيان والعرب حتى أخرجوهم من عمل قابس، ولحق حسان بعمل طرابلس. ولقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام وبنى قصوره وتعرف لهذا العهد به. ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها، واتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع ابنيها. وأقامت في سلطان أفريقية والبربر خمس سنين. ثم بعط عبد الملك إلى حسان بالمدد فرجع إلى أفريقية سنة أربع وسبعين، وخربت الكاهنة جميع المدن والضياع. وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلاً واحدا في قرى متصلة.
وشق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم، ووجد السبيل إلى تفريق أمرها وزحف إليها وهي في جموعها من البربر فانهزموا وقتلت الكاهنة بمكان البير المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس. واستأمن إليه البربر على الإسلام والطا عة، وعلى أن يكون منهم إثنا عشر ألفاً مجاهدين معه فأجابوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وعقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة وعلى جبل أوراس فقالوا: لزمنا الطاعة له سبقناها إليها وبايعناه عليها. وأشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها. وانصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين وصالح من
ألقى بيده من البربر على الخراج. وكتب الخراج على عجم أفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر والبرانس. واختلفت أيدي البربر فيما بينهم على أفريقية والمغرب فخلت أكثر البلاد، وقدم موسى بن نصير إلى القيروان والياً على أفريقية. ورأى ما فيها من الخلاف وكان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني وأثخن في البربر ودوخ المغرب وأدى إليه البربر الطاعة. وولي على طنجة طارق بن زياد، وأنزل معه سبعة وعشرين ألفاً من العرب، واثني عشر ألفأ من البربر، وأمرهم أن يعلموا البربر القرآن والفقه. ثم أسلم بقية البربر على يد إسمعبل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى ومائة. وذكر أبو محمد بن أبي زيد: أن البربر ارتدوا إثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة، ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس، بعد أن دوخ المغرب وأجاز معه كثير من رجالات البربر وأمرائهم برسم الجهاد. فاستقروا هنالك من لدن الفتح، فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه. ورسخت فيهم كلمةالإسلام وتناسوا الردة. ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها ولقنوها من العرب الناقليها من منبعها بالعراق. وتعذدت طوائفهم وتشعبت طرقها من الإباضية والصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج. وفشت هذه البدعة وأعقدها رؤوس النفاق من العرب وجراثيم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم كلمات منها، ووشجت بينهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب، فقتلوا يزبد بن أبي مسلم سنة إثنتين ومائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات. ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة إثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس، وأثخن في البربر وسبى وغنم. وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى داخل البربر منه رعب. وبلغه أن البربرأحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه. وثار ميسرة المطغتي بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله وبايع لعبد الأعلى بن جريج الأفريقي رومي الأصل ومولى العرب، كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم، فقام بأمرهم مدة وبايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعياً إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية. ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربرما جاء به فقتلوه وقدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي. (قال ابن عبد الحكم): هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم، وزحف إلى العرب وسرح إليه عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته ومعهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف، وانهزم العرب وقتل خالد بن أبي حبيب ومن معه، وسميت وقعة الأسراب وانتقضت البلاد ومرج أمر الناس، وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب وولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث وعشرين وسرحه في إثني عشرألفاً من أهل الشام. وكتب إلى ثغور مصر وبرقة وطرابلس أن يمدوه فخرج إلى أفريقية والمغرب، حتى بلغ وادي طنجة وهو وادي سبس فزحف إليه خالد بن حميد الزناتي فيمن معه من البربر، وكانوا خلقاً لا يحصى. ولقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم، وقتل كلثوم وانهزمت العساكر فمضى أهل الشام إلى الأندلس مع بلج بن بشر القشيري. ومضى أهل مصر وأفريقية إلى القيروان. وبلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع وعشرين وأربعمائة وهوّارة يومئذ خوارج على الدولة، منهم: عكاشة بن أيوب وعبد الواحد بن يزيد في قومهما. فثارت هوّارة ومن تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد. وقتل عبد الواحد الهواري وأخذ عكاشة أسيراً، وأحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة وثمانين ألفاً. وكتب بذلك حنظلة إلى هشام وسمعها الليث بن سعد فقال: ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدرأحب إلي من غزوة القرن والأصنام. ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق والتاث أمرها لما كان بين بني أُميّة من الفتنة، وما كان من أمر الشيعة والخوارج مع مروان. وأقضى الأمر إلى الإدالة ببني العبّاس من بني أُميّة. وأجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى أفريقيا فملكها، وغلب حنظلةعليها سنة ست وعشرين ومائة فعادت هيف إلى أديانها. واستشرى داء البربر وأعضل أمر الخارجية ورؤوسها فانتفضوا من أطراف البقاع، وتواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم. وتولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة. وتغلب أميرهم ثابت بن زيدون وقومه على باجة، وثارمعه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه. وثار بطرابلس عبد الجباروالحرث من هوّارة وكانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عبس القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح، وبقي الأمر على ذلك مدة. وثار إسمعيل بن زياد فيمن معه من نفوسة. وتغلب على قابس. ثم زحف إليهم عبد الرحمن بن حبيب سنة إحدى وثلاثين فقتل عبد الجبار والحارث وأوعب في قتل البربر. وأثخن فيهم وزحف إلى تلمسان سنة خمس وثلاثين ومائة فظفر بها ودوخ المغرب، وأذل من كان فيه من البربر. ثم كانت بعد ذلك فتنة وربجومة وسائر قبائل نفزاوة سنة أربعين ومائة، وذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر، وقتله أخواه إلياس وعبد الوارث فولي مكانه إبنه حبيب وطالبهما بثأر أبيه، فقتل إلياس ولحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل، وتبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصة واجتمعت لهم كلمة نفزاوة، ودعوا لأبي جعفر المنصور، وزحفوا إلى القيروان ودخلوها عنوة. وفر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة وقبائلهم.
وولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي، ثم انهزم حبيب إلى أوراس، واتبعه عاصم، فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد وجموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان وقتلوه. واستولت وربجومة على القيروان وسائر أفريقية، وقتلوا من كان بها من قريش، وربطوا دوابهم بالمسجد الجامع. واشتد البلاء على أهل القيروان، وأنكرت ذلك من فعل وربجومة ومن إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوّارة وزناتة، فخرجوا واجتمعوا إلى أبي الخطاب عبد الأعلى ابن الشيخ المعافري وقصدوا طرابلس وأخرجوا عمر بن عثمان القرشي، واستولى أبو الخطاب عليها. واجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة وهوّارة، وزحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد وسائر وربجومة ونفزاوة، واستولى على القيروان سنة إحدى وأربعين. ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم، وهو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية. كان من موالي العرب ومن رؤوس هذه البدعة. ورجع أبو الخطاب إلى طرابلس، واضطرم المغرب ناراً. وانتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها. واجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب سنة أربعين ومائة، وقدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود، وأسسوا مدينة سجلماسة ونزلوها. وقدم محمد بن الأشعث والياً على أفريقية من قبل أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب ولقيه بسرت، فهزمه ابن الأشعث، وقتل البربر ببلاد ريفا. وفر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط، واجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية ولواتة ورجالة من نفزاوة فنزل بها واختط مدينتها سنة أربع وأربعين وأربعمائة. وضبط ابن الأشعث أفريقية وخافه البربر. ثم انتقض بنو يفزن من زناتة ومغيلة من البربر بنواحي تلمسان، وقدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن، ويقال إنه من مغيلة وهو الأصح في شأنه، وبويع له بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة. وزحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة، فلما قرب منه هرب أبو قرة فنزل الأغلب الزاب ثم اعتزم على تلمسان ثم "طنجة ورجع إليه الجند فرجع ثم انتقض البربرمن بعد ذلك أيام عمربن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب. وكان تغلب هرارة منذ سنة إحدى وخمسين ومائة. واجتمعوا بطرابلس وقدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مدين بن يطوفت من أمراء مغيلة ويسمى أبا قادم. وزحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها وملكوا طرابلس، وزحفوا إلى القيروان فحاصروها. ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر جنود عمرطبنة في إثني عشرمعسكرأ. وكان منهم أبوقرة في أربعين ألفاً من الصفرية وعبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية، والمسوربن هانىء في عشرة آلاف كذلك، وجرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة، وعبد الملك بن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية. واشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم. وكان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعاً، وأشدهم قوة فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفأ، وأعطى ابنه في إتمام ذلك أربعة آلاف، وافترقوا وارتحلوا عن طبنة. ثم بعث بعثاً إلى ابن رستم فهزمه، ودخل تاهرت مفلولاً. وزحف عمربن حفص إلى أبي خاتم، والبربر الإباضية الذين معه. ونهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان ،وشحنها بالأقوات والرجال. ثم لقي أبا حاتم والبربر وهزموه، ورجع إلى القيروان وحاصروه. وكانوا في ثلاثمائة وخمسين ألفأ الخيل منها خمسة وثلاثون ألفاً، وكانوا كلهم إباضية. وطال الحصار وقتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع وخمسين ومائة. وصالح أهل الفيروان أبا حاتم على ما أحب، وارتحل. وقدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع وخمسين ومائة والياً على أفريقية، فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري، وافترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبوحاتم، وانهزم البربر. ولحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة. وبعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر. ثم غلب عليه فقتله ومن كان معه من البربر، وهربوا إلى كل ناحية. وكانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنة إلى انقضاء ثلثمائة وخمسة وسبعين حرباً. وقدم يزيد أفريقية فزال فسادها ورتب القيروان، ولم تزل البلاد هادئة. وانتقض ورفجومة سنة سبع وخمسين ومائة وولوا عليهم رجلاً منهم إسمه أبو زرجونة، فسرح إليهم يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه. واستأذنه إبنه المهلب وكان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له، وأمده بالعلاء بن سعيد بن مروان المهلبي من عشيرتهم أيضاً فأوقع بهم وقتلهم أبرح قتل. وانتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة إبنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى وستين ومائة، وولوا عليهم صالح بن نصير النفزي، ودعوا إلى رأيهم رأي الإباضية، فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمّة في عشرة آلاف فهزمهم وقتل البربرأبرح قتل. ثم تحيز إلى صالح بن نصيرولم يشهد الأولى من البربر الإباضية واجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان. وركدت ريح الخوارج من البربر من أفريقية وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال، ورغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى وسبعين ومائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، فوادعه وانحصدت شوكة البربر واستكانوا للغلب وأطاعوا للدين، فضرب الإسلام بجرانه، وألقت الدولة الضريبة على البربر بكلكلها. وتقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر أفريقية والمغرب من قبل الرشيد هرون سنة خمس وثمانين ومائة فاضطلع بأمر هذه الولاية، وأحسن السيرة وقوم القتاد ورأب الصدع وجمع الكلمة. ورضيت الكافة. واستقل بولايتها غير منازع ولا متشوه. وتوارثها بنوه خالفا عن سالف. وكانت لهم بأفريقية والمغرب الدولة التي ذكرناها من قبل، إلى أن انقرض أمر العرب بأفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفار إلى المشرق أمام كتامة سنة ست وتسعين ومائتين كما نذكره. وخرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية. قام بها فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي فكان ذلك آخر عهد العرب بالملك والدولة بأفريقية. واستقل كتامة بالأمر من يومئذ، ثم من بعدهم من برابرة المغرب. وذهبت ريح العرب ودولتهم عن المغرب وأفريقية فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد، وصار الملك للبربر وقبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى وجيلاً بعد آخر، تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس، وتارة إلى الهاشميين من بني العبّاس وبني الحسن. ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخراً حسبما نذكر ذلك كله مفصلاً عندما يعرض لنا من ذكر دول زناتة والبربر الذين نحن في سياقة أخبارهم.
البرابرة البتر
الخبر عن البرابرة البتر وشعوبهم ونبدأ منهم أولا بذكر نفوسة وبطونهم وتصاريف أحوالهم كان مادغيس الأبتر جد البرابرة البتر، وكان إبنه زحيك ومنه تشعبت بطونهم. فكان له من الولد فيما يذكر نسابة البربر أربعة: نفوس واداس وضرا ولوا. فأما أداس فصار في هوّارة لما يقال إن هوّارة خلف أباه زحيك على أمه قبل فصاله فانتسب إليه واختلط بولده. واندرجت بطون أداس في هوّارة كما ذكرناه. وأما ضراولوا فسنأتي بذكر بطونهم واحداً واحداً. وأما نفوس فهم بطن واحد تنسب إليه نفوسة كلها. وكانوا من أوسع قبائل البربر فيهم شعوب كثيرة مثل بني زمور وبني مكسور وماطوسة. وكانت مواطن جمهورهم بجهات طرابلس وما إليها، وهناك الجبل المعروف بهم.
وهم على ثلاثة مراحل من قبلة طرابلس يسكنه اليوم بقاياهم. وكانت مدينة صبرة قبك الفتح في، مواطنهم وتعزى إليهم، وهي كانت باكورة الفتح لأول الإسلام وخربها العرب عد استيلائهم عليها فلم يبق منهم إلا الأطلال ورسوم خافية. وكان من رجالاتهاإسمعيل بن زياد المتغلب على قابس سنة إثنتين وثلاثين ومائة لأول الدولة العباسية. ومنهم لهذا العهد أوزاع متفرقون في الأقطار بعمالات مصر والمغرب، والله وارث الأرض ومن عليها، وأما لوا فمن ولده نفزاوة ولواتة كما نذكر.
الخبر عن نفزاوة وبطونهم وتصاريف أحوالهم
وهم بنو تطوفت بن نفزاو بن لوا الأكبر بن زحيك، وبطونهم كثيرة مثل غساسة ومرنيسة وزهيلة وسوماتة وزاتيمة وولهاصة ومجرة. وورسيف، ومن بطونهم مكلاتة، ويقال إن مكلاتة من عرب اليمن وقع إلى تطوفت صغيراً فتبناه، وليس من البربر. ولمكلاتة بطون متعدد مثل بني ورياغل وكزناية وبني يصلتن وبني ديمان ورمحوق وبني يزناسن. ويقال أن غساسة منهم هكذا عند نسابة البربر مثل: سابق المطماطي وغيره. ومن بطون ولهاصة ورتدين بن داحية بن ولهاصة وورفجومة بن تيرغاس بن ولهاص. ومن بطون ورفجومة زكولة رجالة لذاك بن ورفجوم إلى بطون أخرى كثيرة. وكان ورفجومة هؤلاء أوسم بطون نفزاوة وأشدهم بأساً وقوة. ولما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر المنصور، وقتله أخواه عبد الوارث وإلياس وطالبهما إبنه حبيب بالثأر فلحق عبد الوارث بورفجومة، ونزل على أميرهم عاصم بن جميل بأوراس، وكان كاهناً فأجاره وقام بدعوة أبي جعفر المنصور، واجتمعت إليه نفزاوة، وكان من رجالاتهم عبد الملك بن أبي الجعد ويزيد بن سكوم وكانوا يدينون بدين الأباضية من الخوارج، وزحفوا إلى القيروان سنة أربعين ومائة. وفر عنها حبيب بن عبد الرحمن، ودخلها عبد الملك بن أبي الجعد وقتل حبيباً. واستولت نفزاوة على القبروان وقتلوا من كان بها من قريش وسائر العرب، وربطوا دوابهم بالمسجد وعظمت حوادثهم.
ونكر ذلك عليهم الاباضية من برابرة طرابلس وتولى كبرها زناتة وهوّارة فاجتمعوا ألى الخطاب بن السمح ورجالات العرب، واستولوا على طرابلس ثم على القيروان سنة إحدى وأربعين ومائة، وقتلوا عبد الملك بن أبي الجعد وأثخنوا في قومه من نفزاوة وورفجومة. ثم رجعوا إلى طرابلس بعد أن استعمل أبو الخطاب على القيروان عبد الرحمن بن رستم. واضطرم المغرب ناراً وعظمت فتنة ورفجومة هؤلاء إلى أن قدم محمد بن الأشعث سنة ست وأربعين ومائة من قبل المنصور فأثخن في البربر وأطفأ نار هذه الفتنة كما قدمناه. ولما اختط عمر بن حفص مدينة طبنة سنة إحدى وخمسين ومائة أنزل ورفجومة هؤلاء بها بما كانوا شيعاً له، وعظم غناؤهم فيها عندما حاصره بها ابن رستم وبنويفرن.
ثم انتقضوا بعد مهلك عمرعلى يزيد بن حاتم عند قدومه على أفريقية سنة سبع وخمسين ومائة، وولوا عليهم أبا زرجونة منهم وسرح إليهم يزيد العساكر مع إبنه وقومه فأثخنوا فيهم. ثم انتقضت نفزاوة على أبيه داود ودعوا إلى دين الاباضية، وولوا عليهم صالح بن نصر منهم فرجعت العساكر إليهم متراسلة وقتلوهم أبرح قتل. وعليها كان ركود ريح الخوارج بأفريقية أذعار البربر. وافترق بنو ورفجوم بعد ذلك وانقرض أمرهم وصاروا أوزاعا في القبائل. وكان رجالة منهم بطناً متسعاَ. وكان منهم رجالات مذكورون في أول العبيديين وبني أُميّة بالأندلس منهم الرجالي أحد الكتاب بقرطبة. وبقي منهم لهذا العهد فرق بمرماجنه. وهناك قرية ببسيطها تنسب إليهم.
وأما سائر ولهاصة من ورفجومة وغيرهم فهم لهذا العهد أوزاع لذلك أشهرهم قبيلة بساحل تلمسان اندرجوا في كومية وعدوا منهم بالنسب والخلط. وكان منهم في أواسط هذه المائة الثامنة ابن عبد المكلف استقل برياستهم وتملك بدعوى السلطان بعد عساكر بني عبد الواد على تلمسان ونواحيها،وتغلب على سلطانهم لذلك العهد كما نذكره عثمان بن عبد الرحمن وسجنه بالمطبق بتلمسان ثم قتله. ومن أشهر قبائل ولهاصة أيضاً قبيلة أخرى ببسيط بونة يركبون الخيل ويأخذون مذاهب العرب في زيهم ولغتهم وسائر شعارهم كما هو شأن هوّارة. وهم في عداد القبائل الغارمة،ورئاستهم في بني عريف منهم، وهي لهذا العهد في ولد حازم بن شداد بن حزام بن
نصر بن مالك بن عريف. وكانت قبلهم لعسكر بن بطنان منهم،هذه أخبار ولهاصة فيما علمناه.
(وأما بقايا بطون نفزاوة) فمنهم زاتيمة، وبقية منهم لهذا العهد بساحل برشك، ومنهم غساسة. وبقية منهم لهذا العهد بساحل بوطة حيث القرية التي هناك حاضرة البحر ومرسى لأساطيل المغرب وهي مشهورة باسمهم. وأما زهيلة فبقيتهم لهذا العهد بنواحي بادس مندرجون في غمارة وكان منهم لعهد مشيختنا أبو يعقوب البادسي أكبر الأولياء، وآخرهم بالمغرب. وأما مرنيسة فلا يسلم لهم موطن، ومن أعقابهم أوزاع بين أحياء العرب بأفريقية. وأما سوماتة فمنهم بقية في نواحي القيروان: كان منهم منذر بن سعيد القاضي بقرطبة لعهد الناصر والله أعلم. وأما بقايا بطون نفزاوة فلا يعرف لهم لهذا العهد حي ولا موطن إلا القرى الظاهرة المقدرة السير المنسوبة إليهم ببلاد قسطيلة. وبها معاهدون من الفرنجة أوطنوهم على الجزية واعتقاد الذمة عند عهد الفتح، وأعقابهم بها لهذا العهد. وقد نزل معهم كثير من بني سليم من الشريد وزغبة وأوطنوها وتملكوا بها العقار والضياع. وكان أمر هذه القرى راجعاً إلى عامل توزر أيام استبداد الخلافة. فلما تقلص ظل الدولة عنهم، وحدثت العصبة في الأمضار استبدت كل قرية بأمرها، وصار مقدم توزر يحاول دخولهم في إيالته. فمنهم من يعطيه ذلك، ومنهم من يأباه حتى أظلتهم دولة مولانا السلطان أبي العبّاس، وأدرجوا كلهم في طاعته واندرجوا في حبله، والله ولي الأمور ولا رب غيره اهـ. الخبر عن لواتة من البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم : وهو بطن عظيم متسع من بطون البربر البترينتسبون إلى لوا الأصغر بن لوا الأكبر بن زحيك، ولوا الأصغر هو نفزاو كما قلناه. ولوا إسم أبيهم، والبربر إذا أرادوا العموم في الجمع زادوا الألف والتاء فصار لوات فلما عربته العرب حملوه على الأفراد وألحقوا به هاء الجمع. وذكر ابن حزم أن نسابة البربر يزعمون أن سدراتة ولواتة ومزاتة من
القبط، وليس ذلك بصحيح، وابن حزم لم يطلع على كتب علماء البربر في ذلك. وفي لواتة بطون كثيرة، وفيهم قبائل كثيرة مثل سدراتة بن نيطط بن لوا، ومثل عزوزة بن ماصلت بن لوا. وعد سابق وأصحابه في بني ماصلت بطوناً أخرى غير عزوزة وهم: أكورة وجرمانة ونقاعة مثل بني زائد بن لوا، وأكثر بطونهم مزاتة. ونسابة البربر يعدون في مزاتة بطوناً كثيرة مثل: ملايان ومرنه ومحيحه ودكمه وحمره ومدونه. وكان لواتة هؤلاء ظواعن في مواطنهم بنواحي برقة كما ذكره المسعودي، وكان لهم في فتنة أبي يزيد آثار.
وكان منهم بجبل أوراس أمة عظيمة ظاهروا أبا يزيد مع بني كملان على أمره. ولم يزالوا بأوراس لهذا العهد مع من به من قبائل هوّارة وكتامة، ويدهم العالية عليهم تناهز خيالتهم ألفاً وتجاوز رجالاتهم العدة. وتستكفي بهم الدولة في جباية من تحت أيديهم بجبل أوراس من القبائل الغارمة فيحسنون الغناء والكفاية. وكانت البعوث مضروبة علبهم بنفرون بها في معسكر السلطان. فلما تقلص ظل الدولة عنهم صار بنو سعادة منهم في أقطاع أولاد محمد من الزواودة فاستعملوهم في مثل ما كانت الدولة تستعملهم فيه، فأصاروهم خولاً للجباية وعسكراً للاستنفار وأصبحوا من جملة رعاياهم. وقد كان بقي جانب منهم لم تستوفه الإقطاعات، وهم بنو زنجان وبنو باديس فاستضافهم منصور بن مزني إلى عمله. فلما استبد مزني عن الدولة واستقلوا بالزاب صاروا يبعدونهم بالجبلية بعض السنين ويعسكرون عليهم لذلك بأفاريق الأعراب. وهم لهذا العهد معتصمون بجبلهم لا يجاوزونه إلى البسيط خوفاً من عادية الأعراب. ولبني باديس منهم أتاوات على بلد نقاوس المحيطة في سفح الجبل بما تغلبوا على ضواحيها. فإذا انحدر الأعراب إلى مشاتيهم اقتضوا منها أتاواتهم وخفارتهم. وإذا أقبلوا إلى مصايفهم رجع لواتة إلى معاقلهم الممتنعة على الأعراب. وكان من لواتة هؤلاء أمّة عظيمة بضواحي تاهرت إلى ناحية القبلة وكانوا ظواعن هنالك على
وادي ميناس ما بين جبل يعود من جهة الشرق وإلى وارصلف من جهة الغرب. يقال إن بعض أمراء القيروان نقلهم معه في غزوة وأنزلهم هنالك. وكان كبيرهم أورغ بن علي بن هشام قائداً لعبيد الله الشيعي.
ولما انتقض حميد بن مصل صاحب تاهرت على المنصورثالث خلفاء الشيعة ظاهروه على خلافه، وجاوروه في مذاهب ضلاله إلى أن غلبه المنصور. وأجاز حميد إلى الأندلس سنة ست وثلاثين ومائة، وزحف المنصور يريد لواتة فهربوا أمامه إلى الرمال ورجع عنهم، ونزل إلى وادي ميناس ثم انصرف إلى القيروان. (وذكر) ابن الرقيق: أن المنصور وقف هنالك على أثر من آثار الأقدمين بالقصور التي على الجبال الثلاثة مبنية بالحجر المنحوت، يبدو للناظر على البعد كأنها أسنمة قبور، ورأى كتاباً في حجر فسره له أبو سليمان السردغوس: خالف أهل هذا البلد على الملك فأخرجني إليهم، ففتح لي عليهم، وبنيت هذا البناء لأذكر به، هكذا ذكر ابن الرقيق. وكان بنو وجديجى من قبائل زناتة بمواطنهم من منداس جيراناً للواتة هؤلاء والتخم بينهما وادي ميناس وتاهرت. وحدثت بينهما فتنة بسبب امرأة أنكحها بنو وجديجى في لواتة فعيروا بالفقر، فكتبت بذلك إلى قومها ورئيسهم يومئذ عنان فتذامروا واستمدوا من وراءهم من زناتة فأمدوهم بعلي بن محمد اليفرني.وزحفت مطماطة من الجانب الاخر في مظاهرتهم وعليهم غزانة أميرهم، وزحفوا جميعأ إلى لواتة، فكانت بينهم وقائع وحروب هلك في بعضها علاق، وأزاحوا عن الجانب الغربي السرسو، وألجؤهم إلى الجبل الذي في قبلة تاهرت المسمى لهذا العهد كركيرة، وكان به قوم من مغراوة فغدروا بهم، وتظاهروا جميعاً عليهم إلى أن أخرجوهم عن آخر مواطنهم في جهة الشرق بجبل يعود فنزلوا من ورائه الجبل المسمى لهذا العهد دارك. وانتشرت عمائرها بتلوله وما وراءه إلى الجبال المطلة على متيجة، وهم لهذا لعهد في عداد القبائل الغارمة. وجبل دارك في أقطاع ولد يعقوب بن موسى مشيخة العطاف من زغبة ومن لواتة أيضاً بطون بالجبال المعروفة بهم قبلة قابس وصفاقس ومنهم بنو مكي رؤساء قابس لهذا العهد. ومنهم أيضاً بواحات مصر فيما
ذكره المسعودي أمة عظيمة بالجيزة التي بينها وبين مصر. وكان لما قرب من هذه القصور شيخهم هنالك بدر بن سالم، وانتقض على الترك وسرحوا إليه العساكر فاستلحموا كثيراً من قومه وفر إلى ناحية برقة، وهو الآن في جوار العرب بها. ومن زناتة هؤلاء أحياء بنواحي تادلا قرب مراكش من الغرب الأقصى، ولهم هنالك كثرة. ويزعم كثير من الناس أنهم بنواحي جابر من عرب جشم، واختلطوا بهم وصاروا في عدادهم. ومنهم أوزاع مفترقون بمصر وقرى الصعيد شاوية وفلاحين، ومنهم أيضاً بضواحي بجاية قبيلة يعرفون بلواتة ينزلون بسيط تاكرارت من أعمالها ويعتمرونها فدناً لمزارعهم ومسارح لأنعامهم. ومشيختهم لهذا العهد في ولد راجح بن صواب منهم، وعليهم للسلطان جباية مفروضة وبعث مضروب. هؤلاء المعروفون من بطون لواتة ولهم شعوب أخرى كثيرة اندرجوا في البطون وتوزعوا بين القبائل، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن بني فاتن من ضريسة إحدي بطون البرابرة البتر وتصاريف أحوالهم: وهم بطون مضغرة ولماية وصدينة وكومية ومديونة ومغيلة ومطمامة وملزوزة ومكناسة ودونة، وكلهم من ولد فاتن بن ممصيت بن حريس بن زحيك بن مادغيس الأبتر، ولهم ظهور من البرابر وأخبار نسردها بطناً بطناً إلى آخرها. مطغرة: وهم من أوفر هذه الشعوب. وكانوا خصاصين آهلين. وكان جمهورهم بالمغرب منذ عهد الإسلام ونشبوا في نشر الردة وضروبها، وكان لهم فيها مقامات. ولما استوسق الإسلام في البربر أجازوا إلى فتح الأندلس، وأجازت منهم أمم واستقروا هنالك. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذ مضغرة هؤلاء برأي الصفرية، وكان شيخهم ميسرة، ويعرف بالجفير، مقدماً فيه.
ولما ولي عبيد الله بن الحبحاب على أفريقية من قبل هشام بن عبد الملك، وأمره أن يمضي إليها من مصر، فقدمها سنة أربع عشرة ومائة، واستعمل عمر بن عبد الله المرادي على طنجة والمغرب الأقصى، وابنه إسمعيل على السوس وما وراءه. واتصل أمر ولايتهم وساءت سيرتهم في البربر ونقموا عليهم أحوالهم، وما كانوا يطالبونهم به من الوصائف البربريات والأردية العسلية الألوان، وأنواع طرف المغرب، فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك وانتحاله. حتى كانت الصرمة من الغنم تستهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها، ولا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد وما قرب منه. فكثر عيثهم بذلك في أموال البربر وجورهم عليهم، وامتعض لذلك ميسرة الحفيد زعيم مضغرة الحسن وحمل البرابرة على الفتك بعمر بن عبد الله عامل طنجة فقتلوه سنة خمس وعشرين ومائة. وولى ميسرة مكانه عبد الأعلى بن خديم الإفريقي الرومي الأصل، كان من موالي العرب وأهل خارجيتهم، وكان يرى رأي الصفرية فولاه ميسرة على طنجة، وتقدم إلى السوس فقتله عامله إسمعيل بن عبد الله، واضطرم المغرب ناراً. وانتقض أمره على خلفاء المشرق فلم يراجع طاعتهم بعد.
وزحف ابن الحبحاب إليه من القيروان في العساكر وعلى مقدمته خالد بن أبي حبيب الفهري، فلقيهم ميسرة في جموع البرابرة، فهزم المقدمة واستلحمهم وقتل خالد. وتسامع البربر بالأندلس بهذا الخبر فثاروا بعاملهم عقبة بن الحجاج السلولي وعزلوه، وولوا عبد الملك بن قطن الفهري، وبلغ الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك فسرح كلثوم بن عياض المري في إثني عشر ألفاً من جنود الشام، وولاه على أفريقية وأدال به من عبيد الله بن الحبحاب.
القسم الثانى
المجلد السادس
من تاريخ العلامة ابن خلدون
وزحف كلثوم إلى البرابرة سنة ثلاث وعشرين ومائة حتى انتهت مقدمته إلى وادي اسبو من أعمال طنجة، فلقيه البرابرة هنالك مع ميسرة، وقد فحصوا عن أوساط رؤوسهم ونادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته، ثم هزموه وقتلوه.
وكان كيدهم في لقائهم إياه، ملؤا الشنان بالحجارة وربطوها بأذناب الخيل تنادي بها فتقعقع الحجارة في شنانها، وسرّبت بمصاف العساكر من العرب فنفرت خيولهم، واختل مصافهم وانجرب عليهم الهزيمة فافترقوا، وذهب بلج مع الطلائع من أهل الشام إلى سبتة كما ذكرناه في أخبارهم. ورجع إلى القيروان أهل مصر وأفريقية وظهرت الخوارج في كل جهة، واقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء إلى أن هلك ميسرة، وقام برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حارث منهم، وكان حليفاً لمحمد بن خزر ومغراوة. ثم كان من بعد ذلك ظهور إدريس بالمغرب فقدم بها البرابرة وتولى كبرها أوربة منهم كما ذكرناه. وكان على مضغرة يومئذ شيخهم بهلول بن عبد الواحد، فانحرف مالك عن إدريس إلى طاعة هرون الرشيد بمداخلة إبراهيم بن الأغلب عامل القيروان فصالحه إدريس وأنبأه بالسلم.
ثم ركد ريح مضغرة من بعد ذلك وافترق جمعهم، وجرت الدول عليهم أذيالها واندرجوا في عمال البربر الغارمين لهذا العهد بتلول المغرب وصحرائه. فمنهم ما بين فاس وتلمسان أمم يتصلون بكومية ويدخلون حلفهم، واندرجوا من لدن الدعوة الموحدية منهم ورئاستهم لولد خليفة. كان شيخهم على عهد الموحدين، وبنى لهم حصناً بمواطنهم على ساحل البحر يسمى تاونت. ولما انقرضت دولة بني عبد المؤمن، واستولى بنو مرين على المغرب قام هرون بن موسى بن خليفة بدعوة يعقوب بن عبد الحق سلطانهم، وتغّلب على ندرومة. وزحف إليه يغمراسن بن زيان فاسترجع ندرومة من يده وغلبه على تاونت. ثم زحف يعقوب بن عبد الحق إليهم وأخذها من أيديهم وشحنها بالأقوات، واستعمل هرون ورجع إلى المغرب فحدثت هرون نفسه بالاستبداد، فدعا لنفسه معتصماً بذلك الحصن خمس سنين.
ثم صاهره يغمراسن واستنزله على صلح سنة إثنتين وسبعين وستمائة. ولحق هرون بيعقوب بن عبد الحق. ثم أجاز إلى الجهاد بإذنه واستشهد هنالك. وقام بأمر مضغرة من بعده أخوه تاشفين إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعمائة. واتصلت رياستهم على عقبه لهذا العهد. ومن قبائل مضغرة أمة بجبل قبلة فاس معروف بهم. ومنهم أيضاً قبائل كثيرون بنواحي سجلماسة وأكثر أهلها منهم. وربما حدثت بها عصبية من جراهم.
ومن قبائل مضغرة أيضاً بصحراء المغرب كثيرون نزلوا بقصورها واغترسوا شجرة النخل على طريقة العرب. فمنهم بتوات قبلة سجلماسة إلى تمنطيت آخر عملها قوم كثيرون موطنون مع غيرهم من أصناف البربر.
ومنهم في قبلة تلمسان وعلى ستة مراحل منها، وهي قصورمتقاربة بعضها من بعض، ائتلف منها مصر كبير مستبحر بالعمران البدوي، معدود في آحاد الأمصار بالصحراء، ضاح من ظل الملك والدول لبعده في القفر. ورياسته في بني سيد الملوك منهم. وفي شرقيها وعلى مراحل منها قرى أخرى متتابعة على سمتها متصاعدة قليلاً إلى الجوف، آخرها على مرحلة من قبلة جبل راشد. وهي في مجالات بني عامر من زغبة وأوطانهم من القفر، وقد تملكوها لحظ أبنائهم وقضاء حاجاتهم حتى نسبت إليهم في الشهرة. وفي جهة الشرق عن هذه القصور، وعلى خمس مراحل منها دامعة متوغلة في القفرتعرف بقليعة. والآن يعتمرها رهط من مضغرة هؤلاء. وينتهي إليها ظواعن عن الملثمين من أهل الصحراء بعض السنين إذا لفحهم الهجير، يستبردون في تلولها لتوغلها في ناحيتهم. ومن مطغرة هؤلاء أوزاع في أعمال المغرب الأوسط وأفريقية، ولله الخلق جميعاً. لماية وهم بطون فاتن بن تمصيت كما ذكرناه إخوة مضغرة، ولهم بطون كثيرة عدّ منها سابق وأصحابه بنوزكرمار ومزيزة ومليزة بنو مدينين كلهم من لماية. وكانوا ظواعن بأفريقية والمغرب، وكان جمهورهم بالمغرب الأوسط موطنين بسحومة مما يلي الصحراء. ولما سرى دين الخارجية في البربر أخذوا برأي الاباضية ودانوا به، وانتحلوه وانتحله جيرانهم من مواطنهم تلك من لواتة وهوّارة. وكانوا بأرض السرسو قبلة منداس وزواغة وكانوا في ناحية الغرب عنهم. وكانت مطماطة ومكناسة وزناتة جميعاً في ناحية الجوف والشرق، فكانوا جميعاً على دين الخارجية، وعلى رأي الاباضية منهم. وكان عبد الرحمن بن رستم من مسلمة الفتح، وهو من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية. وقدم إلى أفريقية مع طوالع الفتح فكان بها. وأخذ بدين الخارجية والاباضية منهم. وكان صنيعة للمنة وحليفاً لهم.
ولما تحزب الاباضية بناحية طرابلس منكرين على ورفجومة فعلهم في القيروان كما مر، واجتمعوا إلى أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمام الاباضية فملكوا طرابلس، ثم ملكوا القيروان، وقتل واليها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد، وأثخنوا في ورفجومة وسائر مغراوة سنة إحدى وأربعين ومائة. ورجع أبو الخطاب الاباضية الذين معه من زناتة وهوّارة وغيرهم بعد أن استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم. وبلغ الخبر بفتنة ورفجومة هذه واضطراب الخوارج من البربر بأفريقية والمغرب، وتسلقهم على الكرسي للإمارة بالقيروان إلى المنصور أبي جعفر فسرح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكر إلى أفريقية، وقلده حرب الخوارج بها، فقدمها سنة أربع وأربعين ومائة.
ولقيهم أبو الخطاب في جموعه قريباً من طرابلس فأوقع به ابن الأشعث وبقومه. وقتل أبو الخطاب وطار الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكان إمارته في القيروان، فاحتمل أهله وولده، ولحق باباضية المغرب الأوسط من البرابرة الذين ذكرناهم، ونزل على لماية لقديم حلف بينه وبينهم فاجتمعوا إليه وبايعوا له بالخلافة وائتمروا في بناء مدينة ينصبون بها كرسي إمارتهم، فشرعوا في بناء مدينة تاهرت في سفح جبل كزول السباح على تلول منداس، واختطوها على وادي ميناس النابعة منه عيون بالقبلة، وتمربها وبالبطحاء إلى أن يصب في وادي شلف. فأسسها عبد الرحمن بن رستم واختطها سنة أربع وأربعين ومائة فتمدنت واتسعت خطتها إلى أن هلك عبد الرحمن، وولي إبنه عبد الوهاب من بعده، وكان رأس الاباضية. وزحف سنة ست وتسعين ومائة مع هوّارة إلى طرابلس، وبها عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من قبل أبيه، فحاصره في جموع الاباضية من البربر إلى أن هلك إبراهيم بن الأغلب، واستقدم عبد الله بن الأغلب لأمارته بالقيروان فصالح عبد الوهاب على أن تكون الضاحية لهم. وانصرف إلى مقوسة ولحق عبد الله بالقيروان، وولى عبد الوهاب إبنه ميمونأ وكان رأس الاباضية والصفرية والواصلية. وكان يسلم عليه بالخلافة. وكان أتباعه من الواصلية وحدهم
ثلاثين ألفاً من ظواعن ساكنين بالخيام. ولم يزل الملك في بني رستم هؤلاء بتاهرت، وحاربهم جيرانهم من مغراوة وبني يفرن على الدخول في طاعة الأدارسة لما ملكوا تلمسان، وأخذت بها زناتة من لدن ثلاث وسبعين ومائة فامتنعوا عليهم سائرأيامهم، إلى أن كان عساكر أبي عبد الله الشيعي على أفريقية والمغرب سنة ست وتسعين ومائة فغلبهم على مدينة تاهرت وابتزهم ملكهم بها.
وبثّ دعوة عبيد الله في أقطار المغربين، فانقرض أمرهم بظهور هذه الدولة وعقد عروبة بن يوسف الكتامي فاتح المغرب للشيعة على تاهرت لأبي حميد دوّاس بن صولان الهيصيّ فغدا إلى المغرب سنة ثمان وتسعين ومائة فأمحى في مؤامرتها الاباضية من لماية وازداجة ولواتة ومكناسة ومطماطة، وحملهم على دين الرافضة وشيخ بها دين الخارجية حتى استحكم في عقائدهم. ثم وليها أيام إسمعيل المنصور ابن صلاص بن حبوس. ثم نزع إلى دعوة الأموية وراء البحر، ولحق بالخير بن محمد بن خزر صاحب دعوتهم في زناتة. واستعمل المنصور بعده على تاهرت ميسوراً الحصني مولاه، وأحمد بن الزجالي من صنائعه، فزحف إليها حميد والخير وانهزم ميسور، واقتحموا تاهرت عنوة وتقبضوا على أحمد الزجالي وميسور إلى أن أطلقوهما بعد حين. ولم تزل تاهرت هذه ثغرا لأعمال الشيعة وصنهاجة سائر أيامهم، وتغلبت عليها زناتة مراراً ونازلتها عساكر بني أُميّة زاحفة في أثر زيري بن عطية أمير المغرب من مغراوة أيام أجاز المظفر بن أبي عامر من العدوة إلى حربه. ولم يزل الشأن هذا إلى أن انقرض أمر تلك الدول، وصار أمر المغرب إلى لمتونة. ثم صار إلى دولة الموحدين من بعدهم، وملكوا المغربين. وخرج عليهم بنوغانية بناحية قابس، ولم يزل يجىء منهم يجلب على ثغور الموحدين، وشنّ الغارات على بسائط أفريقية والمغرب الأوسط. وتكرر دخوله اليها عنوة مرة بعد أخرى إلى أن احتمل سكانها وخلا جوّها وعفا رسمها لما يناهز عشرون من المائة السابعة والأرض لله. (وأما قبائل لماية) فانقرضوا وهلكوا بهلاك مصرهم الذي اختطوه وحازوه وملكوه سنّة
الله في عباده. وبقيت فرق منهم أوزاعا في القبائل، ومنهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس، وهم بها لهذا العهد. وقد كان النصرانية من أهل صقلية ملكوها على من بها من المسلمين، وهي قبائل لماية وكتامة مثل: جربة وسدويكس ووضعوا عليهم الجزية، وشيدوا على ساحل البحر بها معقلأً كافياً لإمارتهم سموه القشتيل. وطال تمرّس العساكر به من حضرة الدولة الحفصية بتونس حتى كان افتتاحها أعوام ثمان وثلاثين من المائة الثامنة في دولة مولانا السلطان أبي بكر، وعلى يد مخلوف بن الكماد من صنائعه. واستقرت بها الدعوة الإسلامية إلى هذا العهد. إلا أن القبائل الذين بها من البربر لم يزالوا يدينون بدين الخارجية، ويتدارسون مذاهبهم وبينهم مجلدات تشتمل على تآليف لأئمتهم في قواعد ديانتهم وأصول عقائدهم وفروع مذاهبهم يتناقلونها ويعكفون على دراستها وقراءتها والله خلقكم وما تعملون.
مطماطة
وهم إخوة مضغرة ولماية من ولد فاتن بن تمصيت الذين مرّ ذكرهم، وهم شعوب كثيرة. وعن سابق المطماطي وأصحابه من النسابة أن اسم مطماط مصكاب ومطماط لقب له وأن شعوبهم من لوا بن مطماط. وأنه كان له ولد آخر اسمه ورنشيط، ولم يذكروا له عقباً قالوا: وكان للوا أربعة من الولد: ورماكسن ومبلاغر ووريكول ويليص. ولم يعقب يليص وأعقب الثلاثة الباقون، ومنهم افترقت شعوب مطماطة كلها. فأما ورماس فمنه مصمود ويونس ويفرين، وأما وريكول فكان له من الولد كلدام وسيده وقيدر ولم يعقب سيده ولا قيدر. وكان لكلدام عصفراص وسليايان فمن سليايان ووريغني ووصدى وقسطايان وعمرو ويقال لهؤلاء الخمسة بنو مصطلودة سموا بأمهم. وكان لعصفراص زهاض ونهراص. فمن عصفراص ورتجين ووريكول وجليدا وسكوم، ويقال لهم بنوتليكشان سموا بأمهم. وكان زهاص بلست ويصلاتين. فمن بلست ورسقلاسن وسكر ومحمد ومكريل ودكوال. ومن يصلاسن بان يولى وسمساسن ومسامر وملوسن ويحمد ونافع وعبد الله وعرادبين. وأما يلاغف بن لوا بن مطماط فكان له من الولد دحيا وثابتة فمن ثابتة ماجرسن وريغ وعجلان ومقام وقرة. وكان لدهيا ورتجى ومجلين. فمن ورتجى مقرين وتور وسكم وعمجميس. ومن مجلين ماكور وأشكول وكيلان ومذكون وقطارة وأبورة. هذه شعوب مطماطة كما ذكر نسابة البربر سابق وأصحابه، وهم مفرقون في المواطن. فمنهم من نواحي فاس من قبلتها في جبل هنالك معروف بهم ما بين فاس وصفروى. ومنهم بجهات قابس والبلد المختط على العين الحامية من جهة غربها منسوب إليهم. ولهذا العهد يقال حمة مطماطة، ويأتي ذكرها في الدولة الحَفْصِية. وممالك أفريقية وبقاياهم أوزاع من القبائل، وكانت مواطن جمهورهم بتلول منداس عند جبل وانشريس وجبل كزول من نواحي تاهرت. وكان لهم بتلك المواطن اخريات دولة صنهاجة استفحال وصولة. وفي فتنة حمّاد بن بلكّين مع باديس بن المنصور مقامات وآثار. وكان كبيرهم يومئذ عُزانة، وكانت له مع البرابرة المجاورين له من لواتة وغيرهم حروب وأيام.
(ولما هلك) عزانة قام بأمره في مطماطة ابنه زيري فمكث فيهم أياماً ثم غلبت صنهاجة على أمره فأجاز البحر إلى العدوة، ونزل على المنصور بن أبي عامر فاصطنعه ونظمه في طبقة الأمراء من البربر الذين كانوا في جملته، واستظهره على أمره فكان من أوجه رجالهم عنده، وأعظمهم قدراً لديه إلى أن هلك، وأجراه إبنه المظفر من بعده وأخوه عبد الرحمن الناصر على سنن أبيهما في ترفيع مكانه وإخلاص ولايته، وكان عند ثورة محمد بن هشام بن عبد الجبار غائباً مع أبي عامر في أعراب النعمان مع من كان معه من أمراء البربر وعرفائهم. فلما رأوا انتقاض أمره وسوء تدبيره لحقوا بمحمد بن هشام المهدي فكانوا معه إلى أن كانت الفتنة البربرية بالأندلس إلى أن هلك هنالك ولا أدري أي السنين كان مهلكه لا أدري أي السنين كان مهلكه. وأجاز إلى الأندلس أيضاً من رجالتهم كهلان بن أبي لواي يصلاصن ونزل على الناصر، وهو من أهل العلم بأنساب البربر. (وكان من مشاهيرهم) أيضاً النسّابة سابق بن سليمان بن حراث بن مولات بن دوياسر وهو كبير نسابة البربر ممن علمناه. (وكان منهم) أيضاً عبد الله بن إدريس كاتب الخراج لعبيد الله المهدي في آخرين يطول ذكرهم اهـ خريطة
. وهذا ما تلقيناه من أخبار مطماطة. (وأما موطن منداس) فزعم بعض الإخباريين من البربر، ووقفت على كتابه في ذلك أنه سمّيَ بمنداس بن مغر بن اوريغ بن كبوري بن المثني وهو هوار وكأنه والله أعلم يشير إلى أداس بن زحيك الذي يقال أنه ربيب هوار كما يأتي في ذكرهم، إلا أنه اختلط عليه الأمر. وكان لمنداس من الولد: شراوة وكلتوم وتبكم. قال: ولما استفحل أمر مطماطة وكان شيخهم لهذا العهد إهاص بن عصفراص فأخرج منداس من الوطن وغلبه على أمره، واعتمر بنوه موطن منداس ولم يزالوا به اهـ0 كلامه وبقية هؤلاء القوم لهذا العهد بجبل واوتبتيش، لحقوا به لما غلبهم بنو توجين من زناتة على منداس وصاروا في عداد قبائل الغارمة. والله وارث الأرض ومن عليها. مغيلة وهم إخوة مطامطة ولماية كما قلناه، وإخوتهم ملزوزة معدودون منهم. وكذلك دونة وكشاتة ولهم افتراق في الوطن. وكان منهم جمهوران: أحدهما بالمغرب الأوسط عند مصب شلف في البحر من ضواحي مازونة، المصر لهذا العهد. ومن ساحلهم أجاز عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، ونزل بالمنكب فكان منهم أبو قرة المغيلي الدائن بدين الصُّفرّية من الخوارج ملك أربعين سنة. وكانت بينه وبين أمراء العرب بالقيروان لأول دولة بني العبّاس حروب ونازل طبنة. وقد قيل إن أبا قرة هذا من بني مطماطة، وهذا عندي صحيح، فلذلك أخرت ذكر أخباره إلى أخبار بني يفرن من زناتة. (وكان) منهم أيضاً أبو حسان، ثاربأفريقية لأول الإسلام وأبو حاتم يعقوب بن لبيب بن مَرين بن يطوفت من مازور الثائر مع أبي قرة سنة خمسين ومائة. وتغلب على القيروان فيما ذكر خالد بن خراش وخليفة بن خياط من علمائهم. وذكروا من رؤسائهم أيضاً موسى بن خٌلَيد ومَلِيح بن علوان وحسان بن زروال الداخل مع عبد الرحمن. وكان منهم أيضأ دلول بن حماد أميراً عليهم في سلطان يعلى بن محمد اليفرني، وهو الذي اختط بلد إيكري على إثني عشر ميلأ من البحر، وهي لهذا العهد خراب لم
يبق منها إلا الأطلال ماثلة. ولم يبق من مغيلة بذلك الوطن جمع ولا حيّ. وكان جمهورهم الاخر بالمغرب الأقصى، وهم الذين تولوا مع أوربة وصدينة القيام بدعوة إدريس بن عبد الله لما لحق بالمغرب وأجازه، وحملوا قبائل البربر على طاعته والدخول في أمره. ولم يزالوا على ذلك إلى أن اضمحلت دولة الأدارسة وبقاياهم لهذا العهد بمواطنهم ما بين فاس وصفرون ومكناسة والله وارث الأرض ومن عليها.
مديونة وهم من إخوة مَغِيلة ومطماطة من ولد فاس كما قلناه، وكانت مواطن جمهورهم بنواحي تلمسان ما بين جبل بني راشد لهذا العهد إلى الجبل المعروف بهم قبلة وجدة، يتقلبون بظواعنهم في ضواحيه وجهاته. وكان بنو يلومي وبنو يفرن من قبلهم يجاورونهم من ناحية المشرق، ومكناسة من ناحية المغرب، وكومية وولهاصة من جهة الساحل. (وكان) من رجالاتهم المذكورين جرير بن مسعود كان أميراً عليهم، وكان مع أبي حاتم وأبي قرة في فتنتهم، وأجاز إلى الأندلس في طوالع الفتح كثير منهم، فكان لهم هنالك استفحال. وخرج هلال بن أبزيا منهم بشنتمرية على عبد الرحمن الداخل متبعاً شقياً المكناسي فى خروجه. ثم راجع الطاعة فتقبله وكتب له على قومه فكان بشرق الأندلس وشنتمرية. ثم خلفه بها من قومه نابتة بن عامر. ولما تغلب بنو توجين وبنو راشد من زناتة على ضواحي المغرب الأوسط، وكان مديونة هؤلاء قد قل عددهم وفلّ حدهم فداخلتهم زناتة على الضواحي من مواطنهم وتملكوها، وصارت مديونة إلى الحصون من بلاده بجبل تاسالة وجبل وجدة المعروف بهم. وضربت عليهم المغارم وتمرست بهم بهم الأيام، فلم يبق منهم هنالك إلأ صبابة محترفون بالفلح. ومنهم أيضاً أوزاع في القبائل مندرجون فيهم. وبنواحي فاس ما بينها وبين صفرون قبيلة منهم مجاورة لمغيلة، والله يرث الأرض ومن عليها. كومية وهم المعروفون قديماً بصطفورة إخوة مطاية ومضغرة، وهم من ولد فاتن كما قدمنا، ولهم ثلاث بطون منها تفرعت شعوبهم وقبائلهم وهي ندرومة وصفاره
وبنو يلول: فمن ندرومة نغوطة وحرسة وفردة وهفانة وفراتة. ومن بني يلول: مسيفة ووتيوة وهبيئة وهيوارة ووالغة. ومن صغارة ماتيلة وبنو حياسة. وكان منهم النسابة المشهور هاني بن مصدور بن مريس بن نقوط هذا هو المعروف في كتبهم.وكانت مواطن كومية بالمغرب الأوسط لسيف البحر من ناحية أرشكول وتلمسان. جمان لهم كثرة موفورة وشوكة مرهوبة. وصاروا من أعظم قبائل الموحدّين لما ظاهروا لمصامدة على أمر المهدي وكلمة توحيده. وربما كانوا رهط عبد المؤمن صاحبه وخليفته إنه كان من بني عابد أحد بيوتاتهم، وهوعبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى بن روان بن نصر بن عليّ بن عامر بن الأمير بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن ورنيغ بن صطفور، وهكذا نسبه مؤرّخو دولة الموحدين إلى صطفور. ثم يقولون صطفور بن نفور بن مطماط بن هودج بن قيس عيلان بن مُضَر. وبذكر بعضهم أنه منقول من خط أبي محمد عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فأما انتسابهم في قيس عيلان فقد ذكرنا أنه غير صحيح. وفي أسماء هذا العمود من نسب عبد المؤمن ما يدل على أنه مصنوع، إذ هذه الأسماء ليست من أسماء البربر، وإنما هي كما تراه كلها عربية والقوم كانوا من البرابرة معروفون بينهم. وانتساب مطغور إلى مطماط تخليط أيضاً فإنهما أخوان عند نسابة البربر أجمع، وعبد المؤمن بلا شك منهم، والله أعلم بما سوى ذلك.
وكان عبد المؤمن هذا من بيوتاتهم وأشرافهم وموطنهم بتاكرارت، وهو حصن في الجبل المطل على هَنين من ناحية الشرق. ولما نجم عبد المؤمن فيهم وثب و ارتحل في طلب العلم فنزل بتلمسان. وأخذ عن مشيختها مثل ابن صاحب الصلاة وعبد السلام التونسي، وكان فقيهاً صالحاً، وهو ضجيع الشيخ أبي مدين في تربته. ولما هلك عبد السلام هذا، ولم يحذق تلميذه بعد في فنونه وكان شيخ عصره في الفقه والكلام. تعطش التلميذ بعده إلى القراءة، وبلغهم خبر الفقيه محمد بن تَوْمَرت المهدي ووصولهم إلى بجاية. وكان يعرف إذ ذاك بالفقيه السوسي نسبة إلى السوس.
ولم يكن لقب المهدي وضع عليه بعده.
وكان في ارتحاله من المشرق إلى المغرب قد أخذ نفسه من تغيير المنكر، الذي شأنه وطريقته نشر العلم وتبيين الفتاوى وتدريس الفقه والكلام. وكان له في طريقته الأشعرية إمامة وقدم راسخة، وهو الذي أدخلها إلى المغرب كما ذكرناه، وتشوق طلبة العلم بتلمسان إلى الأخذ عنه وتفاوضوا في ذلك وندب بعضهم بعضاً إلى الرحلة إليه لاستجلابه، وأن يكون له السبق بإتحاف القطر بعلومه. فانتدب لها بن عبد المؤمن عليّ مكانه من صغر السن بنشاطه للسفر لبداوته، فارتحل إلى بجاية للقائه وترغيبه في نزوله تلمسان فلقيه بملالة، وقد استحكمت بينه وبين العزيز النفرة وبنو ورياكل متعصّبون على إجارته منهم، ومنعه من إذايته والوصول إليه. فألقى إليه عبد المؤمن ما عنده من الترغيب، وأدى إليه رسالة طلبة العلم بتلمسان فوعاها، وشأنه غير شأنهم. وعكف عبد المؤمن على التعليم والأخذ عنه في ظعنه ومقامه. وارتحل إلى المغرب في صحابته، وحذق في العلم وآثره الإمام بمزيد الخصوصية والقرب، بما خصّه الله به من الفهم والوعي للتعليم، حتى كأنه خالصة الإمام وكبير صحابته. وكان يؤمله لخلافته لما ظهر عليه من الشواهد المدونة بذلك. ولما اجتازوا في طريقهم إلى المغرب بالثعالبة من بطون العرب الذين ذكرناهم قبل في نواحي المدينة. قربوا إليه حماراً فارها يتخذه له عطية لركوبه فكان يؤثر به عبد المؤمن، ويقول لأصحابه اركبوه الحمار يركبكم الخيول المسومة. ولما بويع فه بُهرْغة سنة خمس عشرة وخمسمائة، واتفقت على دعوته كلمة المصامدة وحاربوا لمتونة نازلوا مراكش. وكانت بينهم في بعض أيام منازلتها حرب شديدة هلك فيها من الموحّدين الألف، فقيل للإمام إن الموحدين قد هلكوا. فقال لهم: ما فعل عبد المؤمن؟ قالوا: هو على جواده الأدهم قد أحسن البلاء. فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد. ولما احتضر الإمام سنة إثنتين وعشرين[وخمسمائة] عهد بخلافته في أمره لعبد المؤمن، واستراب من العصبية بين المصامدة، فكتم موت المهدي وأرجأ أمره حتى صرّح الشيخ أبو حفص أمير هِنْتَانة وكبير المصامدة لمصاهرته. وأمضى عهد الإمام فيه فقام بالأمر واستبد بشياخة الموحدين وخلافة المسلمين. ونهض سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى فتح المغرب فدانت له غمارة. ثم ارتحل منها إلى الريف ثم إلى بطوية ثم إلى
بطالسة ثم إلى بني يزناسن. ثم إلى مديونة ثم إلى كومية وجيرانهم ولهاصة، وكانوا يلونهم في الكثرة فاشتدّ عضده بقومه، ودخلوا في أمره وشايعوه على تمكين سلطانه بين الموحدين وخلافته. ولما رجع إلى المغرب وافتتح أمصاره واستولى على مراكش استدعى قومه للرحلة إليها والعسكرة عليه فخف جمهورهم إلى المغرب واستوطن مراكش لحمل سرير الخلافة والقيام بأمر الدعوة والذبّ عن ثغورهم والمدافعة، فاعتضد بهم عبد المؤمن وبنوه سائر الدولة، وكانوا بمكانتهم فاتحة الكتاب وفذلكة الجماعة. وأنفقهم الملك في الفتوح والعساكر، وأكلتهم الأقطار في تجهيز الكتائب وتدويخ الممالك فانقرضوا وبقي بمواطنهم الأولى بقايا منهم: بنو عابد وهم في عداد القبائل الغارمة قد أثقلت زناتة كاهلهم فحملوا المغرم، والعسف ونهوضهم بالتكاليف. ونظموهم مع جيرانهم ولهاصة في سوم الخسف والذل واقتضاء الخراج بالنكال والعذاب، والله مبّدل الأمر ومالك الملك سبحانه.
الخبر عن زواوة وزواغة من بطون ضريسة من البرابر البتر والإلمام ببعض أحوالهم:
هؤلاء البطون من بطون البرابرة البُتر من ولد سمكان بن يحيى بن ضري بن زحيك بن مادغيس الأبتر. وأقرب ما يليهم من البرابر زناتة لأن أباهم أجانا هو أخو سمكان ابن أبيه فلذلك كانوا ذوي قربى لهم.
زواوة فأمّا زواوة فهم من بطونهم، وقد يقال إن زواوة من قبائل كتامة، ذكر ذلك ابن حزم. ونسّابة البربر إنما يعدونهم من ولد سمكان كما قلناه، والصحيح عندي ما ذكره ابن حزم. ويشهد له الموطن ونحلة الشيع مع كتامة لعبيد الله. وعد نسابة البربر لهم بطونا كثيرة: بنو مَجْسطة وبنو مليكش وبنو كوفي ومشدالة وبنو زريقف وبنو كوزيت وكرسفينة ووزلجة وخوجة وزكلاوه وبنو مرانة، ويقال إن بني مليكش من صنهاجة والله أعلم.
ومن قبائلهم المشهورة لهذا العهد: بنو يجرو وبنو مانكلات وبنو يترون وبنو ماني وبنو بوغردان وبنو يتورغ وبنو بو يوسف وبنو عبسي وبنو بو شعيب وبنو صدقة وبنو غبرين وبنو كشطولة. ومواطن زواوة بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة وصنهاجة، أوطنوا منها جبالاً شاهقة متوعّرة تنذعر منها الأبصار ويضلّ في خمرها السالك مثل: بني غبرين بجبل زيري، وفيه شعراء من شجر الزان يشهد بها لهذا العهد. ومثل بني فراسن وبني براثن. وجبلهم ما بين بجاية وتدلس وهو أعظم معاقلهم وأمنع حصونهم، فلهم به الاعتزاز على الدول والخيار عليها في إعطاء المغرم، مع أن كلهم لهذا العهد قد امتنع لساهمه، واعتز على السلطان في أبناء طاعته وقانون مزاجه.
وكانت لهم في دولة صنهاجة مقامات مذكورة في السلم والحرب، بما كانوا أولياء لكتامة. وظهر أولهم على أمرهم من أول الدولة وقتل بادس بن المنصور في إحدى وقائعه بهم، وشيخهم زيري بن أجانا لاتهامه إياه في أمر حماد. ثم اختط بنو حماد بعد ذلك بجاية بساحتهم وتمرسوا بهم فانقادوا وأذعنوا لهم إلى آخر الدولة. واتصل إذعانهم إلى هذا العهد إلا تمريضاً في المغرم يحملهم عليه الموثقون بمنعة جبالهم. وكانت رياسة بني يراتن منهم في بني عبد الصمد من بوتاتهم. وكانت عند تغلب السلطان أبي الحسن على المغرب الأوسط شيخة عليهم من بني عبد الصمد هؤلاء إسمها شمسي، وكان لها عشرة من الولد فاستفحل شأنها بهم وملكت عليهم أمرهم.
ولما تقبّض السلطان أبو الحسن على إبنه يعقوب المكنّى بأبي عبد الرحمن عندما فر من معسكره بمتيجة سنة ثمان أو سبع وثلاثين وسرّح في أثره الخيالة فرجعوه واعتقله. ثم قتله من بعد ذلك حسبما يذكر في أخبارهم. لحق حينئذ بني بزاتن هؤلاء خازن من مطبخة فموه عليهم بإسمه وشبّه بتمثاله، ودعا إلى الخروج على ابنه بزعمه فشمرت شمسي هذه عزائمها في إجازته، وحملت قومها على طاعته. وسرب السلطان أبو الحسن أمواله في قومها وهما على السلامة فأبته. ثم نمي إليها الخبر بمكره وتمويهه فنبذت إليه عهده وخرج عنها إلى بلاد العرب كما نذكر بعض ذلك في أخبارهم.
وقدمت على السلطان أبي الحسن في وفد من قومها وبعض بنيها فأبلغ السلطان في تكريمها وأحسن صلتها وأجاز الوفد ورجعت بهم إلى موطنها ولم تزل الرياسة في هذا البيت.
زواغة وأما زواغة فلم يتأدّ إلينا من أخبارهم وتصاريف أحوالهم ما نعمل في الأقلام، ولهم ثلاثة بطون وهي: دمر بن زواغ وينو واطيل بن زحيك بن زواغ وبنو ماخر بن تيفون بن زواغة. ومن دئر بنو سمكان، وهم أوزاع في القبائل. ومنهم بنواحي طرابلس مفترقون في براريها ولهم هنالك الجبل المعروف بدمر. وفي جهات قسطنطينة أيضأ رهط من زواغة. وكذلك بجبال شلف بنو واطيل منهم وبنواحي فاس آخرون، ولله الخلق والأمر. مكناسة الخبر عن مكناسة وسائر بطون بني ورصطف وما كان لمكناسة من الدول بالمغرب و أولية ذلك وتصاريفه كان لورصطف بن يحيى، وهوأخو اجانا بن يحيى وسمكان بن يحيى، ثلاثة من البطون وهم: مكناسة وورتناجة وأوكته. ويقال مكنة وبنو ورتناجة أربعة بطون: سدرجة ومكسة0 وبطالسة وكرنيطة. وزاد سابق وأصحابه في بطونهم هناطة وفولالة، وكذلك عدوا في بطون مكنة: بني يصلتن وبني تولالين وبني ترين وبني جرتن وبني فوغال. ولمكناسة عندهم أيضاً بطون كثيرة منها: صولات وبنو حوات وبنو ورفلاس وبنو وريدوس وقنصارة وورنيفة ووريفلتة. وبطون ورصطف كلهم مندرجون في بطون مكناسة. وكانت مواطنهم على وادي ملويّة من لدن أعلاه بسجلماسة إلى مصبه في البحر، وما بين ذلك من نواحي تازا وتسول. وكانت
رياستهم جميعاً في بني أبي يزول وإسمه مجدول بن تافريس بن فراديس بن ونيف بن مكناس. وأجاز منهم إلى العدوة عند الة ضح أمم. وكانت لهم بالأندلس رياسة وكثرة. وخرج منهم على عبد الرحمن الداخل شعيا بن عبد الواحد سنة إحدى وخمسين واعتصم بشنتمرية ودعا لنفسه منتسبأ إلى الحسن بن علي، وتسمى عبد الله بن محمد وتلقب بالفاطمي، وكانت بينه وبين عبد الرحمن حروب إلى أن غلبه ومحا أثر ضلالته. وكان من رجالتهم لعهد دولة الشيعة مصالة بن حبوس بن منازل، اتصل بعبيد الله الشيعي، وكان من أعظم قواده وأوليائه وولاه تاهرت وافتتح له المغرب وفاس وسجلماسة.
ولما هلك أقام أخاه يصلتن بن حبوس مقامه في ولاية تاهرت والمغرب. ثم هلك وأقام إبنه حميداً مقامه فانحرف عن الشيعة، ودعا لعبد الرحمن الناصر. واجتمع مع بني خزرأمراء جراوة على ولاية المروانية. ثم أجاز إلى الأندلس وولي الولايات أيام الناصر وابنه الحكم، وولي في بعضها تلمسان بدعوتهم. ثم هلك وأقام ابنه نصل بن حميد وأخوه يباطن بن يصلتن وعلي ابن عمه من ماله في ظل الدولة الأموية إلى أن أجاز المظفّربن أبي عامر إلى المغرب فولى يصل بن حميد سجلماسة كما نذكره. ثم أن رياسة مكناسة بالعدوة انقسمت في بني أبي يزول، وانقسمت قبائل مكناسة بانقسامها. وصارت رياسة مكناسة في مواطن سجلماسة وما إليها من بني واسول بن مصلان بن أبي يزول، ورياسة مكناسة بجهات تازا وتوسول وملوية ومليلة لبني أبي العافية بن أبي نائل بن أبي الضحّاك بن أبي يزول. ولكل واحد من هذين الفريقين في الإسلام دولة وسلطان وصاروا به في عداد الملوك كما نذكره. الخبر عن دولة بني واسول ملوك سجلماسة و أعمالها من مكناسة: كان أهل مواطن سجلماسة من مكناسة يدينون لأول الإسلام بدين الصفريّة من
الخوارج لقنوه عن أئمتهم ورؤوسهم من العرب لما لحقوا بالمغرب وأنتزوا على الأمتناع، وماجت أقطار المغرب لفتنة ميسرة. فلما اجتمع على هذا المذهب زهاء أربعين من رجالاتهم نقضوا طاعة الخلفاء وولوا عليهم عيسى بن يزيد الأسود من موالي العرب ورؤوس الخوارج. واختطوا مدينة سجلماسة لأربعين ومائة من الهجرة. ودخل سائر مكناسة من أهل تلك الناحية في دينهم. ثم سخطوا أميرهم عيسى ونقموا عليه كثيرأ من أحواله فشدوه كتافاً ووضعوه على قنة جبل إلى أن هلك سنة خمس وخمسين ومائة. واجتمعوا بعده على كبيرهم أبي القاسم سمكو بن مصلان بن أبي يزول، كان أبوه سمقو من حملة العلم، ارتحل إلى المدينة فأدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى ابن عباس، ذكره غريب بن حميد في تاريخه، وكان صاحب ماشية، وهو الذي بايع لعيسى بن يزيد، وحمل قومه على طاعته فبايعوه من بعده. وقاموا بأمره إلى أن هلك سنة سبع وستين ومائة لمنتهى عشرسنين من ولايته، وكان أباضيأ صفرياً. وخطب في عمله المنصور والمهدي من بني العبّاس. ولمّا هلك ولّوا عليهم ابنه إلياس، وكان يدعى بالوزير. ثم انتقضوا عليه سنة أربع وتسعين ومائة فخلعوه، وولّوا مكانه أخاه إليسع بن أبي القاسم وكنيته أبو منصور، فلم يزل أميراً عليهم. وبنى سور سجلماسة لأربع وثلاثين سنة من ولايته. وكان أباضياً صفرياً. وعلى عهده استفحل ملكهم بسجلماسة. وهو الذي أتم بناءها وتشييدها، واختطّ بها المصانع والقصور، وانتقل إليها آخر المائة الثانية ودوخ بلاد الصحراء وأخذ الخمس من معادن درعة، وأصهر لعبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بابنه مدرار في إبنته أروى فأنكحه إياها. ولما هلك سنة ثمان ومائتين ولي بعده إبنه مِدْرار، ولقبه المنتصر، وطال أمر ولايته. وكان له ولدان إسم كل واحد منهما ميمون، أحدهما لأروى بنت عبد الرحمن بن رستم، وقيل إن إسمه أيضاً عبد الرحمن. والآخر لتقي وتنازعا في الاستبداد على
أبيه، ودامت الحرب بينهما ثلاث سنين. وكانت لأبيهما مدرار صاغية إلى ابن أروى فمال معه حتى غلب أخاه فأخذه وأخرجه عن سجلماسة. ولم يلبث أن خلع أباه واستبد بأمره. ثم ساءت سيرته في قومه ومدينته فخلعوه وصار إلى درعة وأعاد مدراراً إلى أمره. ثم حدث نفسه بإعادة إبنه ميمون بن الرستمية إلى أمارته بصاغيته إليه فخلعوه، ورجعوا إبنه ميموناً بن التقي، وكان يعرف بالأمير. ومات مدار إثر ذلك سنة ثلاث وخمسين ومائتين لخمس وأربعين من ملكه. وأقام إبنه ميمون في استبداده إلى أن هلك سنة ثلاث وستين ومائتين وولي إبنه محمد، وكان أباضياً. وتوفي سنة سبعين فولي إليسع بن المنتصر وقام بأمره، ولحق عبيد الله الشيعي وإبنه وأبو القاسم بسجلماسة لعهده. وأوعد المعتضد إليه في شأنهما، وكان على طاعته فاستراب بهما وحبسهما إلى أن غلب الشيعي بني الأغلب، وملك رقادة فزحف إليه لاستخراج عبيد الله وإبنه من محبسه، وخرج إليه إليسع في قومه مكناسة فهزمه أبوعبد الله الشيعي، واقتحم عليه سجلماسة وقتله سنة ست وتسعين ومائتين. واستخرج عبيد الله وإبنه من محبسهما وبايع لهما. وولى عبيد الله المهدي على سجلماسة إبراهيم بن غالب المزاتي من رجالات كتامة، وانصرف إلى أفريقية. ثم انتقض أمراء سجلماسة على واليهم إبراهيم فقتلوه ومن كان معه من كتامة سنة ثمان وتسعين ومائيتن، وبايعوا الفتح بن ميمون الأمير بن مدرار، ولقبه واسول، وميمون ليس هو ابن التقي الذي تقدم ذكره، وكان أباضياً. وهلك قريباً من ولايته لرأس المائة الثالثة، فولي أخوه أحمد واستقام أمره إلى أن زحف مصالة بن حبّوس في جموع كتامة ومكناسة، إلى المغرب سنة تسع وثلثمائة، فدوخ المغرب وأخذهم بدعوة صاحبه عبيد الله المهدي. وافتتح سجماسة وتقبّض على صاحبها أحمد بن ميمون بن مدرار. وولى عليها ابن عمه المعتز بن محمد بن بسادر بن مدرار، فلم يلبث أن استبد المعتز. وهلك سنة إحدى وعشرين وثلثمائة قبيل ملك المهدي، وولي من بعده ابنه أبو المنتصر محمد بن المعتز فمكث عشراً. ثم هلك وولي من بعده إبنه المنتصر سمكو شهرين، وكانت جدته تدّبر أمره لصغره.
ثم ثار عليه ابن عمّه محمد بن الفتح بن ميمون الأميروتغلب عليه وشغب عليه بنوعبيد الله لفتنة ابن أبي العافية وتاهرت، ثم بفتنة أبي يزيد بعدهما فدعا محمد بن الفتح لنفسه مموهاً بالدعوة لبني العبّاس. وأخذ بمذاهب أهل السنة، ورفض الخارجية، ولقب الشاكر بالله. واتخذ السكة بإسمه ولقبه. وكانت تسمّى الدراهم الشاكرية. كذا ذكره ابن حزم وقال فيه: وكان في غاية العدل حتى إذا أفزع له بنوعبيد وحمت الفتنة زحف جوهر الكاتب أيام المعز لدين الله معد في جموع كتامة وصنهاجة وأوليائهم إلى المغرب سنة سبع وأربعين وثلثمائة، فغلب على سجلماسة وملكها. وفرّمحمد بن الفتح إلى حصن تاسكرات على أميال من سجلماسة، وأقام به. ثم دخل سجلماسة متنكراً فعرفه رجل من مطغرة وأنذر به فتقبّض عليه جوهر، وقاده أسيراً إلى القيروان مع أحمد بن بكر صاحب فاس كما نذكره، وقفل إلى القيروان فلما انتقض المغرب على الشيعة، وفشت بدعة الأمية وأخذ زناتة بطاعة الحكم المستنصر ثأر بسجلماسة قائم من ولد الشاكر وباهى المنتصر بالته. ثم وثب عليه أخوه أبو محمد سنة إثنتين وخمسين وثلثمائة فقتله وقام بالأمر مكانه وتلقب المعتز بالله.
وأقام على ذلك مدّة وأمر مكناسة يومئذ قد تداعى إلى الانحلال، وأمر زناتة قد استفحل بالمغرب عليهم إلى أن زحف خزرون بن فلفول من ملوك مغراوة إلى سجلماسة سنة ست وستين وثلثمائة وبرز إليه أبو محمد المعتز فهزمه خزرون وقتله واستولى على بلده وذخيرته، وبعث برأسه إلى قرطبة مع كتاب الفتح. وكان ذلك لأول حجابة المنصور بن أبي عامر فنسب إليه واحتسب له جدّاً ويمن نقيبة، وعقد لخزرون على سجلماسة، فأقام دعوة هشام بأنحائها فكانت أول دعوة أقيمت لهم بالأمصار في المغرب الأقصى، وانقرض أمر بني مدرار ومكناسة من المغرب أجمع.
وأدال منهم بمغراوة وبني يفرن حسبما يأتي ذكرهم في دولتهم، والأمر لله وحده وله البقاء سبحانه وتعالى.
خريطة
الخبر عن دولة بني أبي العافية ملوك تسول من مكناسة و أولية أمرهم وتصاريف أحوالهم: كان مكناسة الظواعن من أهل مواطن ملويّة وكرسيف ومليلة وما إليها من التلول بنواحي تازا وتسول، والكل يرجعون في رئاستهم إلى أبي باسل بن أبي الضحاك بن أبي يزول، وهم الذين اختطوا بلد كرسيف ورباط تازا ولم يزالوا على ذلك من أول الفتح. وكانت رئاستهم في المائة الثالثة لمصالة بن حبّوس وموسى بن أبي العافية بن أبي باسل، واستفحل أمرهم في أيامه وعظم سلطانهم وتغلبوا على قبائل البربر بأنحاء تازا إلى الكائي، وكانت بينهم وبين الأدارسة ملوك المغرب لذلك العهد فتن وحروب. وكانوا يغلبونهم على كثير من ضواحيها لما كان نزل بدولتهم من الهرم. ولما استولى عبيد الله على المغرب واستفحل أمره كانوا من أعظم أوليائه وشيعه، وكان مصالة بن حبّوس من أكبر قواده لانحياشه إليه، وولاه على مدينة تاهرت والمغرب الأوسط. ولما زحف مصالة إلى المغرب الأقصى سنة خمس وثلثمائة، واستولى على فاس على سجلماسة وفرغ من شأن المغرب واستنزل يحيى بن إدريس من إمارته بفاس إلى طاعة عبيد الله وأبقاه أميراً على فاس عقد حينئذ لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة على سائر ضواحي المغرب وأمصاره مضافة إلى عمله من قبل تسول وتازا وكرسيف وقفل مصالة إلى القيروان. وقام موسى بن أبي العافية بأمر المغرب، وناقضه يحيى بن إدريس صاحب فاس لما يظعن له من المظاهرة عليه. فلما عاود مصالة غزو المغرب سنة تسع وثلثمائة أغراه ابن أبي العافية يحيى بن إدريس، فتقبض عليه واستصفاه وطرده عن عمله فلحق ببني عمه بالبصرة والريف. وولى مصالة على فاس ريحان الكتامي، وقفل إلى القيروان فهلك، وعظم ملك ابن أبي العافية بالمغرب. ثم ثار بفاس سنة ثلاث عشرة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس، وكان مقداماً شجاعاُ ويلقّب بالحجام لطعنه في المحاجم. دخل فاس على حين غفلة من أهلها، وقتل ريحان واليها، واجتمع الناس على بيعته. ثم
خرج لقتاله ابن أبي العافية فتزاحفوا بفحص أدّاز ما بين تازا وفاس، ويعرف لهذا العهد بوادي المطاحن، واشتدتّ الحرب بينهم، وهلك منهال بن موسى بن أبي العافية في الفتن بمكناسة.
ثم كانت العاقبة لهم وانفضّ عسكر الحسن ورجع مفلولاً إلى فاس فغدر به عامله على عدوة القرويّين حامد بن حمدان الهمداني واستمكن من عاقلة، واستحثّ ابن أبي العافية للقدوم وأمكنه من البلد، وزحف إلى عدوة الأندلس فملكها وقتل عاملها عبد الله بن ثعلة بن محارب بن محمود، وولى مكانه أخاه محمداً، وطالب حامداً بصاحبه الحسن فدس إليه حامد بالفرار تجافياً عن دعاء أهل البيت، وتدلى الحسن من السور فسقط وانكسر ساقه ومات مستخفياً بعدوة الأندلس لثلاث ليال منها. وحذّر حامد من سطوة أبي العافية فلحق بالمهديّة، واستولى ابن أبي العافية على فاس والمغرب. وأجمع وأجلى الأدارسة عنه وألجأهم إلى حصنهم بقلعة حجر النسر مما يلي البصرة، وحاصرهم بها مراراً. ثم جمّر عليهم العساكر، وخلّف فيهم قائده أبا الفتح فحاصرهم ونهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة وثلثمائة بعد أن استخلف على المغرب الأقصى إبنه مدين. وأنزله بعدوة القرويين. واستعمل على عدوة الأندلس طوال بن أبي يزيد وعزل به محمد بن ثعلبة. وزحف إلى تلمسان فملكها وغلب عليها صاحبها الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان، من عقب سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر الداخل إلى المغرب بعده، فغلب موسى بن أبي العافية الحسن على تلمسان وأزعجه عنها إلى مليلة من جزائر ملويّة ورجع إلى فاس. وقد كان الخليفة الناصر لما فشت دعوته بالمغرب خاطبه بالمقاربة والوعد فسارع إلى إجابته ونقض طاعة الشيعة، وخطب للناصر على منابر عمله فسرح إليه عبيد الله المهدي قائده ابن أخي صالة، وهو حميد بن يصلتن المكناسي قائد تاهرت فزحف في العساكر إلى حرمة سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، ولقيه موسى بن أبي العافية بفحص مسون فتزاحفوا أياماً. ثم لقيه حميد فهزمه ولحق ابن أبي العافية بتسول فامتنع بها، وأفرج قائده أبو الفتح عن حصن الأدارسة فاتبعوه وهزموه ونهبوا معسكره.
ثم نهض حميد إلى فاس ففّر عنها أعزل بن موسى إلى إبنه، واستعمل عليها حامد بن حمدان كان في جملته وقفل حميد إلى أفريقية وقد دوّخ المغرب. ثم انتقض: أهل المغرب على الشيعة بعد مهلك عبيد الله، وثارأحمد بن بكربن عبد الرحمن بن؟ سهل الجذامي على حامد بن حمدان فقتله، وبعث برأسه إلى ابن أبي العافية فأرسله إلى الناصر بقرطبة واستولى على المغرب.وزحف ميسور الخصي قائد أبي القاسم الشيعي إلى المغرب سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة، وخام ابن أبي العافية عن لقائه واعتصم بحصن الكائي. ونهض ميسور إلى فاس فحاصرها واستنزل أحمد لن لكر عاملها. ثم تقبّض عليه وأشخصه إلى المهديّة، وبدر أهل فاس بغدره فامتنعوا وقدّموا على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي، وحاصرهم ميسور مدّة حتى رغبوا إلى السلم، واشترطوا على أنفسهم الطاعة والأتاوة فتقبل ميسور ورضي، وأقرّ حسن بن قاسم على ولايته بفاس. وارتحل إلى حرب بن أبي العافية فكانت بينهما أ حروب إلى أن غلبه ميسور فتقبض على ابنه الغوري وغربه إلى المهدية. وأجلى موسى بن أبي العافية عن أعمال المغرب إلى نواحي ملوية ووطاط وما وراءها من بلاد الصحراء وقفل إلى القيروان. ولما مر بأرشكول خرج إليه صاحبها ملاطفا له بالتحف، وهو إدريس بن إبراهيم بن ولد سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر فتقبض عليه واصطلم نعمته، وولى مكانه أبا العيش بن عيسى منهم. وأغذّ السير إلى القيروان سنة أربع وعشرين. ورجع موسى بن أبي العافية من الصحراء إلى أعماله بالمغرب فملكها وولى على الأندلس أبا يوسف بن محارب الأزدي، وهو الذي مدن عدوة الأندلس، وكانت حصونأ. واحتل موسى بن أبي العافية قلعة كوماط، وخاطب الناصر فبعث إليه مددا من أسطوله، وزحف إلى تلمسان ففرعنها أبو العيش واعتصم بأرشكول فنازله وغلبه عليها سنة خمس وعشرين. ولحق أبو العيش بنكور، واعتصم بالقلعة التي بناها هنالك لنفسه. ثم زحف ابن أبي العافية إلى مدينة لنكور فحاصرها مدة ثم تغلب عليها وقتل صاحبها عبد البديع بن صالح وخرب مدينتهم. ثم سرح ابنه مدين في العساكر فحاصرأبا العبّاس بالقلعة حتى عقد له السلم عليها. واستفحل أمر ابن أبي العافية في المغرب الأقصى واتصل عمله بعمل محمد بن خزر ملك مغراوة وصاحب المغرب الأوسط، وبثوا دعوة الأموية في أعمالها، وبعث ابنه مدين بأمره في قومه. وعقد له
الناصر على أعمال ابنه بالمغرب واتصل يده بيد الخير بن محمد كما كان بين آبائهما.ثم فسد ما بينهما وتزاحفا للحرب. وبعث الناصر قاضيه منذر بن سعد لمشارفة أحوالهما وإصلاح ما بينهما فتم ذلك كما أراده، ولحق به سنة خمس وثلاثين أخوه البوري فازا من عسكر المنصور مع أحمد بن بكر الجذامي عامل فاس بعد أن لحقا بأبي يزيد فسار أحمد بن أبي بكر إلى فاس وأقام بها متنكرا إلى أن وثب بعاملها حسن بن قاسم اللواتي وتخلى له عن العمل. وصار البوري إلى أخيه مدين واقتسم أعمال ابنه معه ومع ابنه الآخر منقذ فكانوا ثلاث الأثافي. وأثار الثوري الناصر سنة خمس وأربعين فعقد الناصر لابنه منصور على عمله وكانت وفاته وهو محاصر لأخيه مدين بفاس، وأجاز أبناء أبو العيش ومنصور إلى الناصر فأجزل لهما الكرامة على سنن أبيهما.
ثم هلك مدين فعقد الناصرلأخيه أبي منقذ على عمله سنة ثم غلب مغراوة على فاس وأعمالها واستفحل أمرهم بالمغرب وأزاحوا مكناسة عن ضواحيه وأعماله، وساروا إلى مواطنهم، وأجاز إسمعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله-بئ مرين إلى الأندلس فنزلوا بها إلى أن جازوا مع واضح أيام المنصور كما مر عندما نقض زيري بن عطية طاغيتهم سنة ست وثمانين، فملك واضح المغرب ورجعهم إلى أعمالهم. وتغلب بلكين بن زيرى على المغرب الأوسط. وغلب عليه ملوكه بني خزرمن مغراوة فاتصلت يد مكناسة. ولم يزالوا في طاعة بني زيري ومظاهرتهم. وهلك إسمعيل بن البوري في حروب حماد مع باديس بشلف سنة خمس وأربعمائة، وتوارث ملكهم في أعقاب موسى إلى أن ظهرت دولة المرابطين، وغلب يوسف بن تاشفين على أعمال المغرب فزحف إليهم القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية، فاستدعى أهل فاس وصريخ زناتة بعد مهلك معنصرة المغراوي فلقي عساكر المرابطين بوادي صفر فهزمهم، وزحف إليه يوسف
بن تاشفين من مكانه فحاصر قلعة فازاز فهزم القاسم بن محمد وجموع مكناسة وزناتة، ودخل فاس عنوة كما ذكرناه في أخباره.
ثم زحف إلى أعمال مكناسة فاقتحم الحصن وقتل القاسم. وفي بعض تواريخ المغرب أن مهلك إبراهيم بن موسى كان سنة خمس وأربعمائة. وولي ابنه عبد الله أبو عبد الرحمن، وهلك سنة ثلاثين، وولي ابنه محمد وهلك سنة ست وأربعين، وولي ابنه القاسم وهلك بتسول عند اقتحام لمتونة عليه سنة ثلاث وستين. وانقرض ملك مكناسة من المغرب بانقراض ملك مغراوة، والأمر لته وحده، وبقي من قبائل مكناسة لهذا العهد بهذه المواطن أفاريق في جبال تازا بعد ما تمرست بهم الدول، وأناخت بساحتهم الأمم. وهم موصوفون بوفور الجباية وقوة الشكيمة. ولهم عناء في مظاهرة الدولة، وحقوق عند الحشد والعسكرة. وفيهم مؤن من الخيالة. ومن مكناسة "غير هؤلاء" أوزاع في القبائل لهذا العهد مفرقون في نواحي أفريقية والمغرب الأوسط. (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) وهذا آخر الكلام في بني ورصطيف، فلنرجع إلى من بقي علينا من البربر وهم زناتة، والله ولي العون وبه المستعان.
خريطة
أخبار البرانس من البربر
ولنبد أ أولا بالخبر عن هوّارة من شعوبهم وذكر بطونهم وتصاريف أحوالهم وافتراق شعوبهم في عمالات أفريقية والمغرب
وهوّارة هؤلاء من بطون البرانس باتفاق من نسابة العرب والبربر ولد هوار بن أوريغ بن برنس، إلا ما يزعم بعضهم أنهم من عرب اليمن. تارة يقولون من عاملة إحدى بطون قضاعة، وتارة يقولون من ولد المسّور بن السكاسك بن واثل بن حمير. وإذا تحروا الصواب المسّور بن السكاسك بن أشرس بن كندة وينسبونه هكذا: هوار بن أوريغ بن خنون بن المثنى بن المسور. وعند هؤلاء أن هوّارة وصنهاجة ولمطة وكزولة وهكسورة يعرف جميعهم بني ينهل وأن المسور جدهم جميعاً. وأنه وقع إلى البتر، ونزل على بني زحيك بن مادغيس الأبتر. وكانوا أربعة إخوة: لوا وضرا وأداس ونفوس. وأنهم زوجوه أختهم تيسكي العرجاء بنت زحيك فولدت منه المثنى أبا هواهـ ة وتزوجها بعد المسور عاصيل بن زعزاع أبو صنهاجة ولمطة وكزولة وهكسورة كما يأتي فيما بعد أنهم إخوة المثنى لأمه، وبها عرف جميعهم.
قالوا: وولد المثنى بن المسور خبوز وولد خبوز بن المثنى ريغ الذي يقال فيه أوريغ بن برنس، ومنه تفرقت قبائل هوّارة. قالوا: إنما سميت هوّارة لأن المسور لما جال البلاد ووقع في المغرب قال: لقد تهورنا. هكذا عند بعض نسابة البربر. وعندي، والله أعلم أن هذا الخبر مصنوع، وإن أثر الصنعة باد عليه. ويعضد ذلك أن المحققين، ونسابتهم مثل سابق وأصحابه قالوا: إن بطون أداس بن زحيك دخلت كلها في هوّارة من
أجل أن هوار خلف زحيك على أم أدّاس، فربي أداس في حجره وزحيك على ما في الخبر الأول هو جد هوار لأن المثنى جده الأعلى هو ابن بصكي، وهي بنت زحيك فهو الخامس من زحيك فكيف يخلفه على امرأته. هذا بعيد، والخبر الثاني أصح عند نسابتهم من الأول.
وأما بطون هوّارة فكثير وأكثرهم بنو نبه وأوريغ اشتهروا نسبة لشهرته وكبر سنه من بينهم فانتسبوا جميعا إليه. وكان لأوريغ أربعة من الولد: هوار وهو أكبرهم، ومغر وقلدن وملد، ولكل واحد منهم بطون كثيرة، وكلهم ينسبون إلى هوار. فمن بطون مغرماوس وزمور وكياد وسراي ذكر هذه البطون الأربعة ابن حزم، وزاد سابق المطامطي وأصحابه ورجين رمنداسة وكركورة. ومن بطون قلدن: قمصانة وورصطيف وبيانة. وبل ذكر هذه الأربعة ابن حزم وسابق. ومن بطون ملد مليلة ووسطط وورفل: وأسيل ومسراتة ذكرهما ابن حزم وقال: جميعهم بنو لهان بن ملد وكذا عند سابق. ويقال إن ونيفن أيضا من لهانة. ومن بطون هوّارة بنو كهلان. ويقال إن مليلة من بطونهم. وعند نسابة البربر من بطونهم غريان ووزغة وزكاوة ومسلاتة ومجريس. ويقال إن ونيفن منهم. ومجريس لهذا العهد ينتسبون إلى ونيفن. وعند سابق وأصحابه أن بني كهلان وريجن إحدى بطون مغر، وأن من بطون بني كهلان بني كسى وورتاكط ولشوه وهيوارة. وأما بطون أداس بن زحيك بن مادغيس الأمراء الذين دخلوا في هؤارة فكثير. فمنهم هراغة وترهوتة وشتاتة وأنداوة وهنزونة وأوطيطة وصنبرة. هؤلاء باتفاق من ابن حزم وسابق وأصحابه.
خريطة
وكانت مواطن الجمهور من هوّارة هؤلاء، ومن دخل في نسبهم من إخوانهم البرانس والصمغر لأول الفتح بنواحي طرابلس وما يليها من برقة كما ذكره المسعودي والبكري. وكانوا ظواعن واهلين. ومنهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر وجاوزوا لمطة من قبائل الملثمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه أفريقية، ويعرفون بنسبهم هكارة، قلبت العجمة واوه كافأ أعجمية تخرج بين الكاف العربية والقاف. وكان لهم في الردّة وحروبها آثار ومقامات. ثم كان لهم في الخارجّية والقيام بها ذكر، وخصوصا بالأباضية منها. وخرج على حنظلة منهم عبد الواحد بن يزيد مع عكاشة الفزاري، فكانت بينهما وبين حنظلة حروب شديدة. ثم هزمها وقتلهما وذلك سنة أربع وعشرين ومائة أيام هشام بن عبد الملك. وخرج على يزيد بن حاتم سنة ست وخمسين ومائة يحيى بن فوناس منهم، واجتمع إليه كثير من قومه وغيرهم.
وزحف إليه قائد طرابلس عبد الله بن السمط الكندي على شاطىء البحر بسواريه من سواحلهم فانهزم وقتل عامة هوّارة. وكان منهم مع عبد الرحمن بن حبيب مجاهد بن مسلم من قواده. ثم أجاز منهم إلى الأندلس مع طارق رجالات مذكورون واستقروا هنالك، وكان من خلفهم بنو عامر بن وهب أمير رندة أيام لمتونة، وبنو ذي النون الذين ملكوها من أيديهم، واستضافوا معها طليطلة. وبنو رزين أصحاب السهلة. ثم ثارت هوّارة من بعد ذلك على إبراهيم بن الأغلب سنة ست وتسعين ومائة، وحاصروا طرابلس وافتتحوها فخرّبوها. وتولى كبر ذلك منهم عياض بن وهب وسرح إبراهيم إليهم ابنه أبا العبّاس فهزمهم وقتلهم وبنى طرابلس.
وجأجأ هوّارة بعبد الوهاب بن رستم من مكان أمارتهم بتاهرت فجاءهم واجتمعوا إليه ومعهم قبائل نفوسة. وحاصروا أبا العبّاس بن الأغلب بطرابلس إلى أن هلك أبوه إبراهيم بالقيروان، وقد عهد إليه فصالحهم على أن يكون الصحراء لهم. وانصرف عبد الوهاب إلى نفوسة. ثم أصحبوا بعد ذلك وغزوا مع الجيوش صقلية، وشهد فتحها منهم زواوة بن نعم الحلفاء. ثم كان لهم مع أبي يزيد النكاري وفي حروبه مقامات مذكورة، اجتمعوا إليه من مواطنهم بجبل أوراس ومرماجنة لما غلب عليه وأخذ أهلها بدعونه فانحاشوا إلى ولايته وفعلوا الأفاعيل. وكان من أظهرهم في تلك
الفتنة بنوكهلان.
ولما هلك أبو يزيد كما نذكره سطا إسمعيل المنصور بهم وأثخن فيهم، وانقطع زكر بني كهلان. ثم جرت الدول عليهم أذيالها، وأناخت بكلاكلها، وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة من كل ناحية: فمنهم لهذا العهد بمصر أوزاع متفرقون أوطنوها أكرة وعباره وشاوية، وآخرون موطنون ما بين برقة والإسكندرية يعرفون بالمثالينة، ويظعنون مع الحرة من بطون هيب من سليم بأرض التلول من أفريقية ما بين تبسة إلى مرماجنة إلى باجة. ظواعن صاروا في عداد الناجعة عرب بني سليم في اللغة والزي وسكنى الخيام وركوب الخيل، وكتب الإبل وممارسة الحروب، وإيلاف الرحلتين في الشتاء والصيف كل تلولهم. قد نسوا رطانة البربر، واستبدلوا منها بفصاحة العرب فلا يكاد يفرق بينهم. فأولهم مما يلي تبسة قبيلة ونيقش، ورئاستهم لهذا العهد في ولد يفرن بن حناش لأولاد سليم بن عبد الواحد بن عسكر بن محمد بن يفرن، ثم لأولاد زيتون بن محمد بن يفرن، ولأولاد دحمان بن فلان بعده. وكانت الرياسة قبلهم لسارية من بطون ونيفن ومواطنهم ببسائط مزماجنة وتبسة وما إليهما. ويليهم قبيلة أخرى في الجانب الشرقي منهم يعرفون بقيصررن ورئاستهم في بيت بني مؤمن ما بين ولد زعارخ وولد حركات ومواطنهم بفحص به وما إليها من نواحي الأربس. وتليهم إلى جانب الشرق قبيلة أخرى منهم يعرفون بنصورة، ورئاستهم في بيت الرماينة لولد سليمان بن جامع منهم. ويرادفهم في رياسة نصرة قبيلة ورئهامة، ومواطنهم مون تبسة الى حامة إلى جبل الزنجار إلى إطار على ساحل تونس وبسائطها. ويجاورهم متساحلين إلى ضواحي باجة قبيلة أخرى من هوّارة يعرفون بني سليم، ومعهم بطن من عرب مضر من هذيل بن مدركة بن
إلياس. جاؤا من مراطنهم بالحجاز مع العرب الهلاليين عند دخولهم إلى المغرب، واستوطنوا بهذه الناحية من أفريقية، واختلطوا بهوّارة في عدادهم. ومعهم أيضاً بطن آخر من بطون رياح من هلال ينتمون إلى عتبة بن مالك بن رياح صاروا في عدادهم، وجروا على مجراهم من الظعن والمغرم. ومعهم أيضاً بطن من مرداس بني سليم يعرفون ببني حبيب. ويقولون: هو حبيب بن مالك. وهم غارمة مثل سائر هوّارة. وضواحي أفريقية لهذا العهد معمورة بهؤلاء الظواعن. ومعظمهم من هوّارة. وهم أهل بقر وشاء وركوب للخيل وللسلطان بأفريقية، عليهم وظائف من الجباية، وضعها عليهم دهاقين العمال بديوان الخراج، قوانين مقررة وتضرب عليهم مع ذلك البعث في غزوات السلطان بعسكر مفروض يحضر بمعسكر السلطان متى استنفروا لذلك. ولرؤسائهم آراء قاطعات ومكان في الدول بين رجالات البدو، ويربطون هوّارة بمواطنهم الأولى من نواحي طرابلس، ظواعن وآهلين، توزّعتهم العرب من دباب فيما توزعوه من الرعايا وغلبوهم على أمرهم منذ ضحا عملهم من ظل الدولة فتملكوهم تملك العبيد للجباية منهم والاستكثار منهم في الانتجاع والحرب مثل: ترهونة وورقلة، الظواعن. ومجريس الموطّنين بزرنزور من ونيفن وهي قرية من قرى طرابلس. ومن هوّارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلي بلد سرت وبرقة قبيلة يعرفون بمسراتة لهم كثرة واعتزاز، ووضائع العرب عليهم قليلة ويعطونها من عزة. وكثيراً ما ينقلون في سبيل التجارة ببلاد مصر والإسكندرية. وفي بلاد الجريد من أفريقية وبأرض السودان إلى هذا العهد. (وأعلم) أنّ في قبلة قابس وطرابلس جبالاً متصلاً بعضها ببعض من المغرب إلى المشرق، فأوّلها من جانب الغرب جبل، دمر يسكنه أمم من لواتة ويتصلون في بسيطه إلى فاس وصفاقس من جانب الغرب، وأمم أخرى من نفوسة من جانب الشرق. وفي طوله سبع مراحل، ويتصل به شرقاً جبل نفوسة تسكنه أمة كبيرة
من نفوسة ومغراوة وسدراتة، وهو قبلة طرابلس على ثلاث مراحل عنها. وفي طوله سبع مراحل. ويتصل به من جانب الشرق جبل مسلاتة، ويعتمره قبائل هوّارة إلى بلد مسراتة ويفضي إلى بلد سرت وبرقة وهو آخر جبال طرابلس. وكانت هذه الجبال من مواطن هوّارة ونفوسة ولواتة. وكانت هنالك مدينة صغيرة بلد نفوسة قبل الفتح. وكانت برقه من مواطن هوّارة هؤلاء. ومنهم مكان بني خطّاب ملوك زويلة إحدى أمصار برقة، كانت قاعدة ملكهم حتى عرفت بهم، فكان يقال زويلة بن خطّاب.ولما خربت انتقلوا منها إلى فزّان من بلاد الصحراء وأوطنوها، وكان لهم بها ملك ودولة، حتى إذا جاء قراقوش الغزّي الناصريّ مملوك تقي الدين ابن أخي صلاح الدين، كما نذكر في مكانه عند ذكر الميورقي بن مسوفة وأخباره وافتتح زلّة وأوجلة وافتتح فزّن بعدها، وتقبض على عاملها محمد بن خطّاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطّاب آخر ملوكهم، وامتحنه وطالبه بالأموال، وبسط عليه العذاب إلى أن هلك، وانقرض أمر بني خطاب وهؤلاء الهّواريّين.
خريطة
(ومن قبائل) هوّارة بالمغرب أمم كثيرة في مواطن من أعمال تعرف بهم، وظواعن عن شاوية تنتجع لمسرحها في نواحيها، وقد صاورا عبيداً للمغارم في كل ناحية. وذهب ما كان لهم من الاعتزاز والمنعة أيام الفتوحات بسبب الكثرة، وصاروا إلى الافتراق في الأودية بسبب القلة والله مالك الأمور. ومن أشهرهم بالمغرب الأوسط أهل الجبل المطل على البطحاء، وهو مشهور باسم هوّارة وفيه من مسراتة وغيرهم من بطونهم، ويعرف رؤساؤهم من بني إسحق. وكان الجبل من قبلهم فيما زعموا لبني يلومين. فلما انقرضوا صار إليه هوّارة وأوطنوه، وكانت رئاستهم في بني عبد العزيز منهم. ثم ظهر من بني عمهم رجل إسمه إسحق، واستعمله ملوك القلعة، وصارت رئاستهم في عقبه بني إسحق واختطّ كبيرهم محمد بن إسحق القلعة المنسوبة إليهم.
وورث رئاسته فيهم أخوه حيّون وصارت في عقبه. واتصلوا بالسلطان أيام ملك بني عبد الواد على المغرب الأوسط، وانتظموا في شرائعهم. واستعمل أبوتاشفين من ملوكهم يعقوب بن يوسف بن حيون قائداً على بني توجين عندما غلبهم على أمرهم، المغارم عليهم فقام بها حسن قيام دوّخ بلادهم، وأذل من عزهم. وبعد أن غلب بنو مرين بني عبد الواد على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن عبد الرحمن بن يعقوب على قبيلة هؤلاء. ثم استعمل بعده عمه عبد الرحمن، ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن بن يوسف. ثم تلاشى حال هذا القبيل وخفّ ساكن الجبل بما اضطهدتهم دولة بني عبد الواد، وأجحفت بهم في الظلامات. وانقرض بيت بني إسحق، والأمر على ذلك لهذا العهد، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن أزداجة ومسطاسة وعجيسة من بطون البرانس ووصف أحوالهم:
أما أزداجة ويعرفون أيضاً وزداجة فمن بطون البرانس، وكثير من نسّابة البربر يعدونهم في بطون زناتة. وقد يقال إن أزداجة من زناتة ووزداجة من هوّارة، وأنهما بطنان
مفترقان وكان لهم وفور وكثرة. وكانت مواطنهم بالمغرب الأوسط بناحية وهران، وكان لهم اعتزاز وآثار في الفتن والحروب. ومسطاسة مندرجون معهم فيقال أنهم من عداد بطونهم، ويقال أنهم إخوة مسطاس أخي وزداج والله أعلم.
وكان من رجالتهم المذكورين شجرة بن عبد الكريم المسطاسي وأبو دليم بن خطّاب. وأجاز أبو دليم إلى الأندلس من ساحل تلمسان، وكان لبنيه بها ذكر وفي فقهاء قرطبة مكان. وكان من بطون أزداجة بنو مسقن وكانوا يجاورون وهران ونزل مرسى وهران من رجال الدولة الأموية محمد بن أبي عون ومحمد بن عبدون، فداخلوا بني مسكن وملكوا وهران سبع سنين مقيمين فيها للدعوة الأموية. فلما ظهرت دعوة الشيعة وملك عبيد الله المهدي تاهرت وولّى عليها دواس بن صولات اللهيصي من كتامة، وأخذت البرابرة بدعوتهم أوعز دوّاس بحصار وهران فرجعوا إليها سنة سبع وتسعين وداخلوا بني مسكن في ذلك فأجابوهم، وفر محمد بن أبي عون فلحق بدواس بن صولات واستبيحت وهران وأضرمت ناراً. ثم جدد بناءها دوّاس وأعاد محمد بن أبي عون إلى ولايتها، فعادت أحسن ما كانت، وأمراء تلمسان لذلك العهد من الأدارسة بنو أحمد بن محمد بن سليمان، وسليمان أخو إدريس الأكبر كما ذكرناه. وكانوا يقيمون دعوة الأموية لذلك العهد. ثم ولي على تاهرت أيام أبي القاسم بن عبد الله أبا مالك يغمراسن بن أبي سمحة، وانتقض عليه البربر فحاصروه عند زحف ابن أبي العافية إلى المغرب الأوسط بدعوة المروانية وكان ممن أخذ بها محمد بن أبي عون صاحب وهران وسرّح أبو القاسم ميسوراً مولاه إلى المغرب وأتاه محمد بن عون بطاعته فقبلها وأقره على عمله، ثم نكث محمد بن عون عند منصرف ميسور من المغرب، وراجع طاعة المروانية. ثم كان شأن أبي يزيد وانتقاض سائر البرابرة على العبيديّين، واستفحل أمر زناتة واخذوا بدعوة المروانيّين. وكان الناصر عقد ليعلى بن أبي محمد اليفرني على المغرب، فخاطبه بمراوغة محمد بن أبي عون وقبائل أزداجة في الطاعة للعداوة بين القبيلتين بالمجاورة، وزحف إلى أزداجة فحصرهم بجبل كيدرة. ثم تغلب عليهم واستأصلهم وفرق جماعتهم وذلك لسنة ثلاث وأربعين وثلثمائة، ثم زحف إلى وهران ونازلها، ثم
إفتتحها عنوة وأضرمها ناراً. واستلحم أزداجة ولحق رئاستهم بالأندلس فكانوا بها، وكان منهم خزرون بن محمد من كبار أصحاب المنصور بن أبي عامر وابنه المظفّر وأجاز إلى المغرب وبقي أزداجة بعد ذلك على حال من الهضيمة والمذلّة وانتظموا في عداد المغارم من القبائل.
(وأما العجيسة): وهم بطون البرانس من ولد عجيسة من برنس ومدلول هذا الاسم البطن، فإن البربريسمّون البطن بلغتهم عدّس بالدال المشددة فلما عربتها العرب قلبت دالها جيماً مخففة، وكان لهم بين البربر كثرة وظهور، وكانوا مجاورين في بطونهم لصنهاجة. وبقاياهم لهذا العهد في ضواحي تونس والجبال المطلة على المسيلة، وكانت منهم من بطون يسكنون جبل القلعة. وكان لهم في فتنة أبي يزيد أثر. ولما هزمه المنصور لجأ اليهم واعتصم بقلعة كتامة من حصونهم حتى اقتُحِم عليه. ثم بادر حمّاد بن بلكينّ من بعد ذلك مكاناً لبناء مدينة0 فاختطها بينهم ونزلها ووسع خطتها واستبحر عمرانها. وكانت حاضرة لملك آل حماد فأخلفت هذه المدينة من جدة عجيسة لما تمرسّت بهم، وخضدت من شوكتهم وراموا كيد القلعة مراراً، وأجلبوا على ملوكها بالأعياص منهم فاستلحمهم السيف. ثم هلكوا وهلكت القلعة من بعدهم وورثت مواطنهم بذلك الجبل عياض من أفاريق العرب الهلاليّين وسميّ الجبل بهم. وفي القبائل بالمغرب كثير من عجيسة هؤلاء مفترقون فيهم والله أعلم. الخبر عن أوربة من بطون البرانس وما كان لهم من الردة والثورة وما صار لهم من الدعاء لإدريس الأكبر: وكانت البطون التي فيها الكثرة والغلب من هؤلاء البربر البتركلهم لعهد الفتح أوربة وهوّارة وصنهاجة من البرانس ونفوسة وزناتة ومطغرة ونفزاوة من البتر، وكان التقدم لعهد الفتح لأوربة هؤلاء بما كانوا أكثر عدداً وأشد بأساً وقوة. وهم من ولد أورب بن برنس، وهم بطون كثيرة، فمنهم بجاية ونفاسة ونعجة وزهكوجة ومزياتة ورغيوة وديقوسة. وكان أميرهم بين يدي الفتح سكرديد بن زوغي بن بارزت بن برزيات.
ولي عليهم مدة ثلاث وسبعين سنة، وأدرك الفتح الإسلامي، ومات سنة إحدى وسبعين وولي عليهم من بعده كسيلة بن لزم الأوربي فكان أميراً على البرانس كلهم. ولما نزل أبو المهاجرتلمسان سنة خمس وخمسين، كان كسيلة بن لزم مرتاداً بالمغرب الأقصى في جموعه من أوربة وغيرهم فظفر به أبو المهاجر وعرض عليه الإسلام فأسلم، واستنقذه وأحسن إليه وصحبه. وقدم عقبة في الولاية الثانية أيام يزيد سنة إثنتين وستين فاضطغن عليه صحابته لأبي المهاجر، وتقدم أبو المهاجر في اصطناعه فلم يقبل وزحف إلى المغرب؛ وعلى مقدمته زهير بن قيس البلويّ فدوخه. ولقيه ملوك البربر ومن انضم إليه من الفرنجة بالزاب وتاهرت فهزمهم واستباحهم، وأذعن له بليان أمير غمارة ولاطفه وهاداه، ودله على عورات البرابرة وراءه بوليلة والسوس وما والاهما من مجالات الملثمين فغنم وسبى، وانتهى إلى ساحل البحر، وقفل ظافراً. وكان في غزاتة تلك يستهين كسيلة ويستخف به وهوفي اعتقاله. وأمره يوماً بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه، وأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه، وانتهره فقام إليها كسيلة مغضباً. وجعل كلما دسّ يده في الشاة يمسح بلحيته، والعرب يقولون ما هذا يا بربري؟ فيقول: هذا جيد للشعر فيقول لهم شيخ منهم إن البربري يتوعدكم. وبلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يستألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبار في قومه بدار عزة قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه وأشار عليه بأن يوثق منه. وخوفه فتكه فتهاون عقبة بقوله. فلما قفل عن غزاته وانتهى إلى طبنة صرف العساكر إلى القيروان أفواجاً ثقة بما دوخ من البلاد، وأذل من البربر حتى بقي القليل من الناس. وسار إلى تهودة أوبادس لينزل بها الحامية. فلما نظر إليه الفرنجة طمعوا فيه وراسلوا كسيلة بن لزم ودلوه على الفرصة فيه فانتهزها، وراسل بني عمه ومن تبعهم من البربر، واتبعوا عقبة وأصحابه رضي الله عنه حتى إذا غشوه بتهودة ترجّل القوم وكسروا أجفان سيوفهم، ونزل الصبر واستلحم عقبة وأصحابه رضي الله عنهم ولم يفلت منهم أحد، وكانوا زهاء ثلثمائةمن
كبار الصحابة والتابعين استشهدوا في مصرع واحد، وفيهم أبو المهاجر كان أصحبه في اعتقاله فأبلى رضي الله عنه في ذلك اليوم البلاء الحسن وأجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء عقبة وأصحابه بمكانهم ذلك من أرض الزاب لهذا العهد.
وقد جعل على قبرأسنمة ثم جصّص واتخذ عليه مسجد عرف بإسمه وهو في عدد المزارات ومظان البركة، بل هو أشرف مزور من الأجداث في بقاع الأرض لما توفر فيه من عدد الشهداء من الصحابة والتابعين الذين لا يبلغ أحد مدّ أحدّهم ولا نصيفه، وأسر من الصحابة يومئذ محمد بن أوس الأنصاري وبزيد بن خلف العبسي ونفر معهم ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة. وكان زهير بن قيس البلويّ بالقيروان، وبلغه الخبر فخرج هارباً وارتحل بالمسلمين ونزل برقة وأقام بها ينتظر المدد من الخلفاء. واجتمع إلى كسيلة جميع أهل المغرب من البربر والفرنجة، وزحف إلى القيروان فخرج العرب منها ولحقوا بزهير بن قيس، وبقي بها أصحاب الذراري والأثقال فأمنهم ودخل القيروان وأقام أميراً على أفريقية ومن بقي بها من العرب خمس سنين. وقارن ذلك مهلك يزيد بن معاوية وفتنة الضحاك بن قيس مع المروانية بمرج راهط، وحروب آل الزبير فاضطرب أمر الخلافة بعض الشيء واضطرم المغرب ناراً،وفشت الردّة في زناتة والبرانس. ثم استقل عبد الملك بن مروان من بعد ذلك بالخلافة وأذهب بالمشرق آثار الفتنة. وكان زهير بن قيس مقيماً ببرقة مند مهلك عقبة، فبعث إليه بالمدد وولاّه حرب البرابرة والثأر بدم عقبة فزحف إليها في آلاف من العرب سنة سبع وستين. وجمع كسيلة البرانس وسائر البربر، ولقيه بجيش من نواحي القيروان، واشتد القتال بين الفريقين،ثم انهزم البربر وقتل كسيلة ومن لا يحصى منهم، واتبعهم العرب إلى مرماجنة ثم إلى ملوية، وذل البربر ولجأوا إلى القلاع والحصون وخضدت شوكة أوربة من بينهم، واستقر جمهورهم بديار المغرب الأقصى فلم يكن بعدها لهم ذكر. واستولوا على مدينة وليلى بالمغرب وكانت ما بين موضع فاس ومكناسة بجانب جبل زرهون وأقاموا على ذلك، والجيوش من القيروان تدوّخ المغرب مرة بعد أخرى إلى أن خرج محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي أيام المنصور، وقتل بالمدينة سنة
خمس وأربعين ومائة. ثم خرج بعده ابن عمه حسين بن علي بن حسن المثلّذث بن حسن المثنى بن الحسن السبط أيام الهادي وقتل بفخ على ثلاثة أميال من مكة سنة تسع وستين ومائة، واسلتحم كثير من أهل بيته. وفر إدريس بن عبد الله إلى المغرب ونزل على أوربة سنة إثنتين وسبعين ومائة، وأميرهم يومئذ بو ليلى إسحق بن محمد بن عبد الحميد منهم فأجاره، وجمع البرابر على دعوته. واجتمعت عليه زواغة ولواتة وسدراتة، وغماتة ونفرة ومكناسة وغمارة وكافة برابرة المغرب فبايعوه وائتمروا بأمره. وتم له الملك والسلطان بالمغرب، وكانت له الدولة التي ورثها أعقابه إلى حين انقراضها، كما ذكرنا في دولة الفاطميّين والله تعالى أعلم.
الخبر عن كتامة من بطون البرانس وما كان لهم من العز والظهور علي القبائل وكيف تناولوا الملك من أيدي الأغالبة بدعوة الشيعة: هذا القبيل من قبائل البربر بالمغرب، وأشدهم بأساً وقوةً، وأطولهم باعاً في الملك عند نسابة البربرمن ولد كتام بن برنس، ويقال كتم ونسّابة العرب يقولون إنهم من حمير ذكر ذلك ابن الكلبيّ والطبريّ. وأوّل ملوكهم أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة، وهو الذي افتتح أفريقية وبه سميت، وقتل ملكها جرجير وسفي البربر بهذا الإسم كما ذكرناه. ويقال أقام في البربر من حمير صنهاجة
وكتامة فهم إلى اليوم فيهم، وتشعّبوا في المغرب وانبثوا في نواحيه إلاّ أن جمهورهم كانوا لأول الملّة بعد تهييج الردّة وطفئت تلك الفتن، موطنين بأرياف قسطنطينية إلى تخوم بجاية غرباً إلى جبل أوراس من ناحية القبلة. وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكثرها لهم وبين ديارهم ومجالات تقلّبهم مثل أبكجان وسطيف وباغاية ونقاوس ويلزمة ويتكست وميلة وقسطنطينة والسيكرة والقلّ وجيجل، من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية وبونة.
وكانت بطونهم كثيرة يجمعها كلها غرسن ويسّودة إبنا كتم بن برنس فمن يسودة
فلاسة ودنهاجة ومتوسة ووريسن كلهم بنو يسود ة بن كتمٍ. وإلى دنهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد. ومن غرسن مصالة وقلان وما وطن ومعاذ بنو غرسن بن كتم، ولهيفة وجيملة ومسالته بنو بناوة بن غرسن، وملوسة من إيان ولطاية وإيجانة وغسمان وأوباست بنوتيطاسن بن غرسن وملوسة من إيان بن غرسن. ومن ملوسة هؤلاء بنو زلدوي أهل الجبل المطل على قسطنيطينة لهذا العهد. وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبني قنسيلة. وعذ ابن حزم منهم زواوة بجميع بطونهم وهو الحق على ما تقدم.
وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتدبون عن مواطنهم وهم بها إلى اليوم، ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحالة من لدن ظهور الملّة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة. ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة ولا ينالهم تعسف لاعتزازهم بكثرة جموعهم، كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميّين إثر دولة بني العبّاس، فأنظره هنالك وتصفحه نجد تفصيله. ولما صار لهم الملك بالمغرب زحفوا إلى المشرق فملكوا الإسكندرية ومصر والشام، واختطوا القاهرة أعظم الأمصار بمصر، وارتحل المعز رابع خلفائهم فنزلها وارتحل معه كتامة على قبائلهم واستفحلت الدولة هنالك وهلكوا في ترفها وبذخها. وبقي في مواطنهم الأولى بجبل أوراس وجوانبه من البسائط بقايا من قبائلهم على أسمائها وألقابها، والاخرون بغير لقبهم وكلهم رعايا معبدون للمغارم إلا من اعتصم بفتنة الجبل مثل بني زلدوي بجبالهم وأهل جبال جيجل وزواوة، أيضاً في جبالهم. وأما البسائط فأشهر من فيها منهم قبائل سدويكش ورئاستهم في أولاد سواق. ولا أدري الى من يرجعون من قبائل كتامة المسمين في هذا الكتاب. إلا أنهم منهم باتفاق من أهل
الأخبار، ونحن الآن ذاكرون ما عرفناه من أخبارهم المتأخرة بعد دولة كتامة والله تعالى ولي العون.
الخبر عن سدويكش ومن إليهم من بقايا كتامة في مواطنهم: هذا الحي لهذا العهد وما قبله من العصور يعرفون بسدويكش وديارهم في مواطن كتامة ما بين قسطنطينة وبجاية في البسائط منها، ولهم بطون كثيرة مثل سيلين وطرسون وطرغيان وموليت وبني فتنة وبني لمائي وكايارة وبني زغلان والبؤرة وبني مروان وواركسن وسكوال وبني عياد، وفيهم من لماية ومكلاتة وريغة، والرياسة على جميعهم في بطن منهم يعرفون أولاد سواق لهم جمع وقوة وعدد وعدة. وكان جميع هذه البطون وعيالهم غارمة فيمتطون الخيل ويسكنون الخيام ويظعنون على الإبل والبقرولهم مع الدول في ذلك الوطن استقامة. وهذا شأن القبائل الأعراب من العرب لهذا العهد. وهم ينتفون من نسب كتامة ويفرون منه، لما وقع منذ أربعمائة سنة من النكير على كتامة بانتحال الرافضة وعداوة الدولة بعدهم، فيتفادون بالانتساب إليهم. وربما انتسبوا في سليم من قبائل مضر وليس ذلك بصحيح. وإنما هم من بطون كتامة، وقد ذكرهم مؤرخو صنهاجة بهذا النسب، ويشهد لذلك الموطن الذي استوطنوه من أفريقية. ويذكر نسّابتهم ومؤرخوهم أن موطن أولاد سواق منهم كان في قلاع بني بو خصرة من نواحي قسطنطينة ومنه انتقلوا وانتشروا في سائر تلك الجهات. وأولاد سواق بطنان وهم: أولاد علاوة بن سواق وأولاد يوسف بن حمّو بن سواق. فأما أولاد علاوة فكانت الرياسة على قبائل سدويكش لهم فيما سمعناه من مشيختنا، وأن ذلك كان لعهد دولة الموحدين وكان منهم علي بن علاوة وبعده إبنه طلحة بن علي، وبعده أخوه يحيى بن علي، وبعده أخوهما منديل بن علي وعزل تازير ابن أخيه طلحة.
ولما بويع السلطان أبو يحيى بقسطنطينة سنة عشر من هذه المائة وقع من تازير انحراف عن طاعته واعتلوا بطاعة ابن الخلوف بجاية، فقدم عوضاً منه عمّه منديل. ثم استبدل منهم أجمعين بأولاد يوسف فشمروا في طاعته وأبلوا، وغلب السلطان على بجاية وقتل ابن الخلوف فظهر أولاد يوسف وزحموا أولاد علاوة، وأخرجوهم من الوطن فصاروا إلى عياض من أفاريق هلال، وسكنوا في جوارهم بجبلهم الذي أوطنوه المطل علىالمسيلة. واتصلت الرياسة على سدويكش في أولاد يوسف. وهم لهذا العهد أربع قبائل: بنو محمد بن يوسف وبنو المهدي وبنو إبراهيم بن يوسف، والعزيزيون وهم بنو منديل، وظافر وجري وسيّد الملوك والعبّاس وعيسى، والستة أولاد يوسف وهم أشقاء، وأمّهم تاعزيزت فنسبوا إليها. وأولاد محمد والعزيزيون يوطنون بنواحي بجاية وأولاد المهدي وإبراهيم بنواحي قسطنطينة.
وما زالت الرياسة في هذه القبائل الأربع تجتمع تارة في بعضهم وتفترق أخرى إلى هذا العهد، وكانت الأخرى دولة مولانا السلطان أبي يحيى، اجتمعت رئاستهم لعبد الكريم بن منديل بن عيسى من العزيزيين.
ثم افترقت واستقل كل بطن من هؤلاء الأربعة برياسة وأولاد علاوة في خلال هذا كله بجبل عياض. ولما تغلب بنو مرين على أفريقية أنكر السلطان أبو عنان أولاد يوسف ورماهم بالميل إلى الموحدين وصرف الرياسة على سدويكش إلى مهنا بن تاريز بن طلحة من أولاد علاوة فلم يتم له ذلك، وقتله أولاد يوسف. ورجع أولاد علاوة إلى مكانهم من جبل عياض.
وكان رئيسهم لهذه العصور عدوان بن عبد العزيز بن زروّق بن علي بن علاوة، وهلك ولم تجتمع رئاستهم بعده لأحد. وفي بطون سدويكش هؤلاء بطن مرادف أولاد سواق في الرياسة على أحيائهم وهم بنو سكين. ومواطنهم في جوار لواتة بجبل تابور وما إليه من نواحي بجاية، ورياستهم في بني موسى بن ثابر منهم. أدركنا ابنه صخر بن موسى واختصه السلطان أبو يحيى بالرياسة على قومه، وكان له مقامات في خدمته. ثم عرف بعده في الوفاء إبنه الأميرأبوحفص فلم يزل معه إلى أن وقع به بنومرين بناحية تابس وجيء به مع أسرى الوقيعة فقطعه السلطان أبو الحسن من خلاف، وهلك بعد ذلك وقام برئاسته إبنه عبد الله وكان له فيها وفي خدمة السلطان ببجاية شأن إلى أن هلك لأعوام ثمانين، وولي إبنه محمد من بعده، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبرعن بني ثابت أهل الجبل المطل علم قسطنطينة من بقايا كتامة:
ومن بطون كتامة وقبائلهم أهل الجبل المطل على القل ما بينه وبين قسطنطينة، المعروف برياسة أولاد ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان. ويقال إن أبا بكر هذاالجد هو الذي فرض المغرم على أهل هذا الجبل لأيام الموحّدين، ولم يكن قبل ذلك عليه مغرم. فلما انقرض ملك صنهاجة وغلب الموحّدون على أفريقية وفد أبو بكر هذا على الخليفة بمراكش ونجع بالطاعة والانقياد، وتقرب إليه بفرض المغرم على قبيلة بالجبل، وكان لثابت هذا من الولد علي وحسن وسلطان وإبراهيم، كلهم رأسوا بالجبل. وأما حسن منهم فحجب السلطان أبا يحيى لأول دولته وفي عنيته. ولابن عمر لدولة طرابلس أعوام إحدى عشر وسبعمائة كما نذكره. فلما تملّك السلطان بجاية وقتل ابن خلوف ورجع ابن عمر من تونس إلى حجابته وجد حسن بن ثابت معسكراً بفرجيوة لانقضاء مسغارم الوطن، فبعث إليه من قتله. وكان آخرهم رياسة بالجبل عليّ، أدرك دولة بني مرين بأفريقية. وولي بعده ابن عبد الرحمن. ووفد على السلطان أبي عنان بفاس. ولما استجد مولانا السلطان أبو العبّاس دولته بأفريقية استولى عليهم ومحا أثر مشيختهم ورئاستهم وصيّرهم من عداد جنده وحاشيته. واستعمل في الجبل عماله وهو جبل مطاوع، وجبايته مؤداة لصولته وجواره للعسكر بقسطنطينة. ومن بقايا كتامة أيضاً تبائل أخرى بناحية تدلس في هضابه مكتنفة بها، وهم في عداد القبائل الغارمة. وبالمغرب الأقصى منهم قبيلة من بني يستيتن بجبل قبلة جبل يزناسن، وقبيلة أخرى بناحية الهبط مجاورون لقصر ابن عبد الكريم وقبائل أخرى بناحية مرّاكش نزلوا مع صنهاجة هنالك. ونسب كتامة لهذا العهد بين القبائل المثل السائر في الدولة لما نكرتهم الدول من بعدهم أربعمائة سنة بانتحالهم الرافضة
ومذاهبها الكفرية، حتى صار كثير من أهل نسبهم يفرون منه، وينتسبون فيمن سواهم من القبائل فراراً من هجنته والعزة لته وحده.
خريطة
الإلمام بذكر زواوة من بطون كتامة:
هذا البطن من أكبر بطون البربر ومواطنهم كما تراه محتفة ببجاية إلى تدلس في جبال شاهقة وأوعار متسنمة، ولهم بطون وشعوب كثيرة، ومواطنهم متصلة بمواطن كتامة وهؤلاء، وأكثر الناس جاهلون بنسبهم. وعامة نسّابة البربر على أنهم من بني سمكان بن يحيى بن ضريس، وأنهم إخوة زواغة. والمحّققون من النسّابة مثل ابن حزم وأنظاره إنما يعذونهم في بطون كتامة وهو الأصوب. والمواطن أوضح دليل عليه. وإلا فأين مواطن زواغة؟ وهي طرابلس. وبالمغرب الأقصى من موطن كتامة. وإنما حمل على الغلط في نسبهم إلى كتامة تصحيف، اسم زوازة بالزاي بعد الواو، وهم إخوة زواغة بلا شك فصحف هذا القارىء الزاي بالواو فعد زواوة إخوان زواغة. ثم استمر التصحيف وجمعاً في نسب سمكان والله أعلم، وقد مر ذكرهم هنالك مع ذكر زواغة وتعديد بطونهم.
الخبر عن صنهاجة من بطون البرانس وما كان لهم من الظهور والدول في بلاد المغرب والأندلس:
هذا القبيل من أوفر قبائل البربر، وهوأكثرأهل الغرب لهذا العهد وما قبله لا يكاد قطرمن أقطاره يخلومن بطن من بطونهم في جبل أوبسيط، حتى لقد زعم كثيرمن الناس أنهم الثلث من أمم البربر. وكان لهم في الردة ذكر وفي الخروج على الأمراء بأفريقية شأن تقدم منه في صدر ذكر البرابر، ونذكر منه هنا ما تيسرّ. وأما ذكر نسبهم فإنهم من ولد صنهاج وهو صنهاج بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عربته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج. وهو عند نسّابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن بر وذكر ابن الكلبيّ والطبري أنهم وكتامة جميعاً من حمير كما تقدم في كتامة، وفيما نقل الطبري في تاريخه أنه صنهاج بن يصوكان بن ميسور بن الفند بن أفريقش بن قيس.
وبعض النسّابة يزعم أنه صنهاج بن المثنّى بن المنصوربن المصباح بن يحصب بن مالك بن عامربن حمير الأصغرمن سبأ كذا نقل ابن النحوي من مؤرخي دولتهم وجعله ليحصب. وقد مرذكره في أنساب حمير وليس كما ذكر والله أعلم. وأما المحقّقون من نسّابة البربر فيقولون هو صنهاج بن عاميل بن زعزاع بن قيمتا بن سدور بن مولان بن يصلين بن يبرين بن مكسيلة بن دقيوس بن حلحال بن شرو بن مصرايم بن حام. ويزعمون أن جزول واللمط وهكسور إخوة صنهاج، وأن امهم الأربعة نصكي، وبها يعرفون. وهي بنت زحيك بن مادغيس، ويقال لها العرجاء. فهذه القبائل الأربعة من القبائل إخوة لأم والله أعلم.
وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوفة وكدالة ومندلسة وبنو وارث وبنو يتيسن. ومن بطون أنجفة بنو مزوارت وبنو تسليب وفشتالة وملوانة. هكذا يكاد نقل بعض نسّابة البربر في كتبهم وذكر آخرون من مؤرّخي البربرأن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطناً. وذكر ابن الكلبيّ والطبري أن بلادهم بالصحراء مسيرة ستة أشهر. وكان أعظم قبائل صنهاجة بلكانة وفيهم كان الملك الأول. وكانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط وأفريقية، وهم أهل مدر. ومواطن مسوقة ولمتونة وكدالة وشرطة بالصحراء، وهم أهل وبر.
وأما أنجفة فبطونهم مفترقة، وهم أكثر بطون صنهاجة. ولصنهاجة ولاية لعلي بن أبي طالب كما أن لمغراوة ولاية لعثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنهما إلا أنا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها. وكان من مشاهيرهم في الدولة الإسلامية ثابت بن وزريون ثار بأفريقية أيام السفّاح عند انقراض الأموية: وعبد الله بن سكرديرلك، وعبّاد صادق من قوّاد حمّاد بلكّين، وسليمان بن مطعمان بن عليان أيام باديس بن بلكّين. وبنو جدون وزاريني حضاد، وهو حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن علم. منهم ميمون بن جميل ابن اخت طارق، مولى عثمان بن عفّان صاحب فتح الأندلس في آخرين يطول ذكرهم. وكان الملك في صنهاجة في طبقتين: الطبقة الأولى لمكانة ملوك أفريقية والأندلس، والثانية مسوقة ولمتونة من الملثّمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين، ويأتي ذكرهم كلهم إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الطبقة الأولى من صنهاجة وما كان لهم من الملك:
كان أهل هذه الطبقة بنو ملكان بن كرت، وكانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمرة إلى
الجزائر ولمدية ومليناتة من مواطن بني يزيد وحصين والعطاف من زغبة، ومواطن الثعالبة لهذا العهد. وكان معهم بطون كثيرة من صنهاجة أعقابهم هنالك من متنان وأنوغة وبنوعثمان وبنو مزغنة وبنو جعد وملكانة وبطوية وبنو يفرن وبنو خليل، وبعض أعقاب ملكانة بجهات بجاية ونواحيها، وكان التقدم منهم جميعأ لبلكانة وكان كبيرهم لعهد الأغالبة مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر وهو صناك بن واسفاق بن جبريل بن يزيد بن واسلي بن سمليل بن جعفر بن إلياس بن عثمان بر سكاد بن ملكان بن كرت بن صنهاج الأكبر، هكذا نسبه ابن النحويّ، من مؤرخي الأندلس، وذكر بعض مؤرخي المغرب: أن مناد بن منقوش ملك جانباً من أفريقية والمغرب الأوسط مقيماً لدعوة بني العبّاس، وراجعاً إلى أمر الأغالبة.
وأقام أمره من بعده إبنه زيري بن مناد، وكان من أعظم ملوك البربر. وكانت بينه وبين مغراوة من زناتة المجاورين له من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب وفتن طويلة. ولما استوسق الملك للشيعة بأفريقية تحيز إليهم، للولاية التي لعليّ رضي الله عنه فيهم. وكان من أعظم أوليائهم، واستطال بهم على عدوه من مغراوة فكانوا ظهراً له عليهم. وانحرفت لذلك مغراوة وسائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم، وتحيزوا إلى المروانيّين ملوك العدوة بالأندلس فأقاموا دعوتهم بالمغرب الأوسط والأقصى كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. ولما كانت فتنة أبي يزيد، والتاث أمر العبيديّين بالقيروان والمهديّة كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد وأعقابهم وتسريب الحشود إلى ماصرة العبيديّين بالقيروان كما ستراه. واحفظ مدينة أشير للتحصّن بها سفح الجبل تيطرا لهذا العهد حيث مواطن حصين وحصّنها بأمر المنصور، وكانت من أعظم مدن المغرب. واتسعت بعد ذلك خطتها واستبحر عمرانها، ورحل إليها العلماء والتجّار من القاصية. وحين نازل أبا إسمعيل المنصور أبا يزيد لقلعة كتامة جاءه زيري في قومه ومن انضم إليه من
حشود البربر، وعظمت نكايته في العدو وكان الفتح. وصحبه المنصور إلى أن انصرف من المغرب ووصله بصلات سنيّة. وعقد له على قومه وأذن له في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات بمدينة أشير. وعقد له على تاهرت وأعمالها. ثم اختطّ ابنه بلكيّن بأمره وعلى عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر ومدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف ومدينة لمدونة. وهم بطن من بطون صنهاجة وهذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط، ولم يزل زيري على ذلك قائماً بدعوة العبيديّين منابذاً لمغراوة، واتصلت الفتنة فيهم. ولما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معدّ المعز لدين الله أمره أن يستصحب زيري بن مناد فصحبه إلى المغرب وظاهره على أمره. ولما ظهر يعلىّ بن محمد اليفرني اتهمه زناتة بالممالأة عليه. ولما نزل جوهر فاس وبها أحمد بن بكر الجذامي وطال حصاره إياها كان لزيري في حصارها أعظم العياء، وكان فتحها على يده. سهر ذات ليلة وصعد سورها فكان الفتح. ولما استمرت الفتنة بين زيري بن مناد ومغراوة، ووصلوا أيديهم بالحكم المستنصري وأقاموا الدعوة المروانية بالمغرب الأوسط، وشمّر محمد بن الخير بن محمد بن خزر لذلك، رماه معدّ لقريعة زيري وقومه من صنهاجة وعقد له على المغرب وأقطع له ما افتتح من أقطاره فنهض زيري في قومه، واحتشد أهل وطنه وقد جمع له محمد بن الخير وزناتة فسرّح إليهم ولده بلكيّن في مقدمة، وعارضهم قبل استكمالهم التعبئة، فدارت بينهم حرب شديدة بعد العهد بمثلها يومئذ. واختل مصاف مغراوة وزناتة. ولما أيقن محمد بن الخير بالمهلكة، وعلم أنه أحيط به مال إلى ناحية من العسكر، وتحامل على سيفه فذبح نفسه وانفض جموع زناتة واستمرت الهزيمة عليهم سائر يومهم فاستلحموا، ومكثت عظامهم ماثلة بمصارعهم عصوراً. وهلك فيما زعموا بضعة عشر أميراً منهم، وبعث زيري برؤوسهم إلى المعز بالقيروان فعظم سروره وغم لها الحكم المستنصري صاحب الدعوة بما أوهنوا من أمره. واستطال زيري وصنهاجة على بوادي المغرب، وعلب يده على جعفر بن علي صاحب المسيلة والزاب وسما به في الرتب عند الخلافة وتاخمه في العمالة. واستدعى
معدّ جعفر بن علي من المسيلة لتولية أفريقية حين اعتزم على الرحيل إلى القاهرة فاستراب بما كانت السعاية كبرت فيه. وبعث معد المعز بعض مواليه فخافه جعفر على نفسه، وهرب من المسيلة ولحق بمغراوة فاشتملوا عليه، وألقوا بيده زمام أمرهم، وقام فيهم بدعوة الحكم المستنصري، وكانوا أقدم لها إجابة. وفاوضهم زيري الحرب قبل استفحالهم فزحف إليهم واقتتلوا قتالاً شديداً.
وكانت على زيري الدبرة، وكبا به فرسه، وأجلت الهزيمة عن مصرعه ومصارع حاميته من قومه، فحروا رأسه وبعثوا به إلى الحكم المستنصري بقرطبة في وفد أوفدوه عليه من أمرائهم يؤدّون الطاعة ويؤكدون البيعة، ويجمعون لقومهم النصرة. وكان مقدّم وفدهم يحيى بن علي أخو جعفر هذا كما ذكرناه. وهلك زيري هذا سنة ستين وثلثمائة لست وعشرين سنة من ولايته. ولما وصل خبره إلى ابنه بلكيّن وهو بأشير نهض إلى زناتة ودارت بينهم حرب شديدة فانهزمت زناتة وثأر بلكيّن بأبيه وقومه واتصل ذلك بالسلطان محمد أثره، وعقد له على عمل أبيه بأشير وتيهرت وسائر أعمال المغرب، وضم إليه المسيلة والزاب وسائر عمل جعفر فاستعتب واستفحل أمره واتسعت ولايته، وأثخن في البربر أهل الخصوص من أحرابة وهوارة ونفرة وتوغل في المغرب في طلب زناتة فأثخن فيهم. ثم رجع واستقدمه السلطان لولاية أفريقية فقدم سنة إحدى وستين ووثلثمائة واستبلغ السلطان في تكريمه ونفس ذلك عليه كتامة. ثم نهض السلطان إلى القاهرة واستخلفه كما نذكره. وكان ذلك أوّل دولة آل زيري بأفريقية والله تعالى أعلم.
دولة آل زيري بن مناد
الخبر عن دولة آل زيري بن مناد ولاة العبيديين من هذه الطبقة بأفريقية و أولية أمرهم وتصاريف أحوالهم لما أخذ المعزّ في الرحلة إلى المشرق، وصرف اهتمامه إلى ما يتخفف وراء ظهره من الممالك والعمالات، ونظر فيمن يوليه أمر أفريقية والمغرب ممن له الغناء والاضطلاع، وبه الوثوق من صدق التشييع ورسوخ القدم في دراية الدولة، فعثر اختياره على بلكيّن بن زيري بن مناد، ولّي الدولة منذ عهد سلفه بموجب عهد أخذه من أيدي زناتة أعدائها في سبيل الذب عن الدعوة والمظاهرة للدولة.
دولة بلكين بن زيري
فبعث خلف بلكين بن زيري وكان متوغلاً في المغرب في حروب زناتة، وولاه أمر أفريقية والمغرب، ما عدا صقلية كانت لبني أبي الحسين الكلبي، وطرابلس لعبد الله بن يخلف الكتامي؛ وسمّاه يوسف بدلا من بلكيّن. وكنّاه أبا الفتوح، ولقبه سيف الدولة، ووصله بالخلع والأكسية الفاخرة. وحمله على مقرّباته بالمراكب الثقيلة وأنفذ أمره في الجيش والمال وأطلق يده في الأعمال. وأوصاه بثلاث: أن لا يرفع السيف عن البربر، ولا يرفع الجباية عن أهل البادية، ولا يولي أحداً من أهل بيته. وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه، وقطع علائق الأموية منه. وارتحل يريد القاهرة سنة إثنتين وستين وثلثمائة، ورجع عنه بلكيّن من نواحي صفاقس فنزل قصر معد بالقيروان، واضطلع بالولاية. وأجمع غزو المغرب فغزاه في جموع صنهاجة ومخفف كتامة، وارتحل إلى المغرب، وفر أمامه ابن خزر صاحب المغرب الأوسط إلى سجلماسة. وبلغه خلاف أهل تاهرت وإخراج عامله فرحل إليها وخربها. ثم بلغه أن زناتة اجتمعوا إلى تلمسان فرحل إليهم فهربوا أمامه، ونزل على تلمسان فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه ونقلهم إلى أشير. وبلغه كتاب معدّ ينهاه عن التوغل في المغرب فرجع. ولما كان سنة سبع وستين وثلثمائة رغب بلكين من الخليفة نزار بن المعز أن يضيف إليه عمل طرابلس وسرت وأجدابية فأجابه إلى ذلك وعقد له عليها. ورحل عنها عبد الله بن يخلف الكتامي وولّى بلكيّن عليه من قبله. ثم ارتحل بلكيّن إلى المغرب وفرت أمامه زناتة فملك فاس وسجلماسة وأرض الهبط وطرد منها عضال بني أُميّة. ثم غزا جموع زناتة بسجلماسة وأوقع بهم، وتقبضّ على ابن خزر أمير مغراوة فقتله. وأجعل ملوكهم أمامه مثل بني يعلى بن محمد النفري وبني عطيّة بن عبد الله بن خزر وبني فلفول بن خزر، ويحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة وبرزوا جميعاً بقياطينهم إلى سبتة، وبعثوا الضريح إلى المنصور بن أبي عامر فخرج بعساكره إلى الجزيرة الخضراء. وأمرهم بمن كان شي حضرته من ملوك زناتة ورؤسائهم النازعين إلى خلفاء الأموية بالأندلس بقرطبة بالمقام في سبيل الطاعة، واغتنام فضل الرباط بثغور المسلمين في إيالة الخلفاء. واجتمعت منهم وراء البحر أمم مع ما انضم إليهم من العساكر والحشود. وأجازهم البحر لقصر جعفر بن علي حمدون صاحب المسيلة، وعقد له على حرب بلكيّن وأمدّه بمائة حمل من المال فتعاقد ملوك زناتة واجتمعوا إليه، وضربوا مصاف القتال بظاهر سبتة. وهرع إليهم المدد من الجزيرة من عساكر المنصور، وكادوا يخوضون البحر من فراض الزقاق إلى مظاهرة أوليائهم من زناتة. ووصل بلكيّن إلى تيطاور وتسنّم هضابها، وقطع شعراءها لنهج المسالك والطرق لعسكره، حتى أطل على معسكرهم بظاهر ستبة فأرى ما هاله واستيقن امتناعهم. ويقال أنه لما عاين سبتة من مستشرفه، ورأى اتصال المدد من العدوة إلى معسكرهم بها قال: هذه أفعى فغرت إلينا فاها وكر راجعاً على عقبه. وكان موقفه ذلك أقصى أثره. ورجع إلى البصرة فهدمها وكانت دار ملك ابن الأندلسي، وبها عمارة عظيمة. ثم فتح باب في جهاد برغواطة فارتحل إليهم وشغل بجهادهم، وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار كما نذكره. وأرسل بالسبي إلى القيروان وأذهب دعوة بني أُميّة من نواحي المغرب وزناتة مشردون بالصحراء إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة بوراكش ما بين سجلماسة وتلمسان منصرفاً من هذه الغارة الطويلة.
دولة منصور بن بلكين
ولما توفي بلكّين بعث مولاه أبو زغبل بالخبر إلى إبنه المنصور وكان والياً باشير وصاحب عهد أبيه فقام بأمر صنهاجة من بعده، ونزل صيره، وقلده العزيز نزار بن معد أمر أفريقية والمغرب على سنن أبيه وعقد لأخيه أبي البهار على تاهرت ولأخيه يطوفت على أشير، وسرحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع وسبعين
وثلثمائة يسترجعه من أيدي زناتة. وقد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة وفاس زيري بن عطية المغراوي الملّقب بالقرطاس أمير فاس فهزمه ورجع إلى أشير. وأقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب وزناتة واستقلّ به ابن عطية وابن خزرون وبدر بن يعلى كما نذكر بعد.
ثم رحل بلكّين إلى رقادة وفتك بعبد الله بن الكاتب عامله وعامل أبيه على القيروان لهنات كانت منه، وسعايات انجحت فيه فهلك سنة تسع وسبعين وثلثمائة وولي مكانه يوسف بن أبي محمد، وكثر التواتر بكتابه فقتلهم وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وأخرج إليهم العمال وعقد لأخيه حمّاد على أشير. وطالت الفتنة مع زناتة ونزل إليه منهم سعيد بن خزرون. ولم يزل سعيد بطبغة إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وولي إبنه فلفول بن سعيد. وخالف أبو البهار بن زيري سنة تسع وسبعين وثلثمائة فزحف إليه المنصور، وفر بين يديه إلى المغرب. وأمد المنصور أهل تاهرت ومضى في اتباع أبي البهار حتى نفد عسكره، واشير عليه بالرجوع فرجع. وبعث أبو البهار إلى أبي عامر صاحب الأندلس في المظاهرة والمدد، واسترهن ابنه في ذلك فكتب زيري بن عطية صاحب دعوة الأموية من زناتة بفاس أن يكون معه يداً واحدة فظاهره زيري، واتفق رأيهما مدّة، وحاربهما بدر بن يعلى فهزماه وملكا فاس وما حولها. ثم اختلفت ذات بينهما سنة إثنتين وثمانين وثلثمائة، ورجع أبو البهار إلى قومه. ووفد على المنصور سنة إثنتين وثمانين وثلثمائة بالقيروان فأكرمه ووصله وأنزله أحسن نزل، وعقد له على تاهرت. ثم هلك المنصور سنة خمس وثمانين وثلثمائة.
دولة باديس في المنصور
ولما هلك المنصور قام بأمره إبنه باديس وعقد لعمه يطوفت على تاهرت، وسرح عساكره لحرب زناتة مع عميّه يطوفت وحمّاد فولوا منهزمين أمام زناتة إلى أشير. ونهض بنفسه سنة تسع وثمانين وثلثمائة لحرب زيري بن عطية راجعاً إلى المغرب، فولّى
باديس أخاه يطوفت على تاهرت وأشير، وخالد عليه عمومته ماكسن وزاوي وحلال ومعتز وعزم واستباحوا عسكر يطوفت وأفلت منهم. ووصل أبو البهار متبرئاً من شأنهم. وشغل السلطان باديس بحرب فلفول بن سعيد كما نذكره في أخبار بني خزرون، وسرح عمه حمّاداً لحرب بني زيري إخوته. ووصل بنو زيري أيديهم بفلفول ثم رجعوا إلى حمّاد فهزمهم وتقبّض على ماكسن منهم بأطمة الكلاب وقتل أولاد الحسن وباديس كذا ذكر ابن حزم.
ونجا فلّهم إلى جبل سنوه فنازلهم حماد أياماً وعقد لهم السلم على الإجازة إلى الأندلس فلحقوا بابن أبي عامر سنة إحدى وتسعين وثلثمائة.
وهلك زيري بن عطية المغراوي لتسع أيام من مهلك ماكسن، وأقفل باديس عمّه حمّادا إلى حضرته ليستعين به في حروب فلفول، فاضطرب المغرب لقفوله، وأظهرت زناتة الفساد وأضرّوا بالسابلة، وحاصروا المسيلة وأشير، فسرّح إليهم باديس عمه حماداً وخرج على أثره سنة خمس وتسعين وثلثمائة فنزل تيجست ودّوخ حمّاد المغرب، وأثخن في زناتة، واختطّ مدينة القلعة. ثم طلب منه باديس أن ينزل على عمل يتجست وقُسنطينة اختياراً للطاغية فأبى وأظهر الخلاف. وبعث إليه أخاه إبراهيم فأقام معه، وزحف إليهم باديس، ثم رحل في طلبه إلى شلف، ونزل إليه بعض العساكر. ودخل في طاعته بنو توجين وجازوا في مدده. ووصل أميرهم عطّية بن دافلين وبدر بن أغمان بن المعتز فوصلها. وكان حمّاد قتل دافلين. ثم نزل باديس نهر واصل والسرسو وكزول وانثنى حماد راجعاً إلى القلعة واتبعه باديس. ونازله بها وهلك بمعسكره عليها سنة ست وأربعمائة فجأة، وهو نائم بين أصحابه بمضربه، فارتحلوا راجعين واحتملوا باديس على أعواده.
دولة المعز بن باديس
ولما بلغ الخبر بمهلك باديس بويع إبنه المعزّ ابن ثمان سنين، ووصل العسكر فبايعوه البيعة العامة. ودخل حمّاد المسيلة واشير، واستعد للحرب وحاصر باعانة. وبلغ الخبر بذلك فزحف المعز إليه وأفرج عن باعانة ولقيه فانهزم حماد وأسلم معسكره، وتقبض على أخيه إبراهيم ونجا إلى القلعة، ورغب في الصلح فاستجيب على أن يبعث ولده. وانتهى المعز إلى سَطِيف وقصر الطين وقفل إلى حضرته، ووصل إليه القائد ابن حماد سنة ثمان وأربعمائة راغباً في الصلح فعقده، واستقل حماد بعمل المسيلة وطبنة والزاب وأشير وتاهرت وما يفتح من بلاد المغرب وعقد للقائد ابن حمّاد على طبنة والمسيلة ومقره ومرسى الدجاج وسوق حمزة وزواوة وانقلب بهدية ضخمة. ووضعت الحرب أوزارها من يومئذ واقتسموا المظلّة والتحموا بالأصهار، وافترق ملك صنهاجة إلى دولتين: دولة إلى المنصور بن بلكّين أصحاب القيروان، ودولة إلى حمّاد بن بلكين أصحاب القلعة. ونهض المهر إلى حماد سنة إثنتين وثلاثين فحاصره بالقلعة مدة سنين، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعأ ولم يعاود فتنة بعد. ووصل زاوي بن زيري من الأندلس سنة عشر وأربعمائة كما ذكرناه في خبره فتلفاه المعز أعظم لقاء وسلم عليه راجلاً، وفرشت القصور لنزله، ووصله بأعظم الصلات وأرفعها. واستمر ملك المعز بأفريقية والقيروان، وكان أضخم ملك عرف للبربر بأفريقية وأترفه وأبذخه. نقل ابن الرقيق من أحوالهم في الولائم والهدايا والجنائز والاعطيات ما يشهد بذلك، مثل ما ذكر أن هديّة صندل عامل باعانة مائة حمل من المال، وأن بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير الذهب، وأن باديس أعطى فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملاً من المال وثمانين تختاً. وأن أعشار بعض أعمال الساحل بناحية صفاقس كان خمسين ألف قفيز وغير ذلك من أخبارهم. وكانت بينه وبين زناتة حروب ووقائع كان له الغلب في جميعها كما هو مذكور، وكان المعز منحرفاً عن مذاهب الرافضة ومنتحلاً للسنة، فأعلن بمذهبه لأول ولايته ولعن الرافضة. ثم صار إلى قتل من وجد منهم، وكبا به فرسه ذات يوم فنادى مستغيثاً باسم أبي بكر وعمر فسمعته العامّة فثاروا لحينهم بالشيعة وقتلوهم أبرح قتل، وقتل دعاة الرافضة يومئذ، وامتعض لذلك خلفاء الشيعة بالقاهرة. وخاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجاني محذراً، وهو يراجعه بالتعريض بخلفائه والمزج فيهم حتى أظلم الجو بينه وبينهم إلى أن انقطع الدعاء لهم سنة أربعين وأربعمائة على عهد المستنصر من خلفائهم. وأحرق بنوده ومحا إسمه من الطرز والسكّة، ودعا للقائم بن القادر من خلفاء بغداد. وجاءه خطاب القائم وكتاب عهده صحبة داعيته أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي، فرماه المستنصر خليفة العبيديّين بالعرب من هلال الذين كانوا مع القرامطة، وهم رياح وزغبة والأُثْبُج. وذلك بمشاركة من وزيره أبي محمد الحسن بن علي البازوري كما ذكرنا في أخبار العرب ودخولهم إلى أفريقية. وتقدّموا إلى البلاد وأفسدوا السابلة والقرى. وسرّح إليهم المعز جيوشه فهزموهم فنهض إليهم ولقيهم بجبل حيدران فهزموه، واعتصم بالقيروان فحاصروه وتمرّسوا به وطال عيثهم في البلاد وإضرارهم بالرعايا إلى أن خربت أفريقية. وخرج ابن المعز من القيروان سنة تسع وأربعين وأربعمائة مع خفيره منهم، وهو مؤنس بن يحيى الصبري أمير رياح فلحق في خفارته بالمهدية، بعد أن أصهر إليه في ابنته فأنكحه إياها ونزل بالمهدية وقد كان قدم إليها إبنه تميماً فنزل عليه، ودخل العرب القيروان وانتهبوها. وأقام المعز بالمهدية وانتزى الثوار في البلاد فغلب حمو بن مليل البرغواطي على مدينة صفاقس، وملكها سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. وخالفت سوسة وصار أهلها إلى الشورى في أمرهم. وصارت تونس آخراً إلى ولاية الناصر بن علناس بن حماد صاحب القلعة. وولى عليهم عبد الحق بن خراسان فاستبدّ بها واستقرّت في ملكه وملك بنيه، وتغلب موسى بن يحيى على قابس. وصار عاملها المعز بن محمد الصنهاجى إلى ولايته، وأخوه إبراهيم من بعده كما يأتي ذكره. والثالث ملك آل باديس وانقسم في الثوار كما نذكر في أخبارهم بعد. وهلك المعز سنة أربع وخمسين وأربعمائة والله أعلم.
دولة تميم بن المعز
ولما هلك المعز قام بأمره إبنه تميم وغلبه العرب على أفريقية فلم يكن له إلا ما ضمه السور، خلا أنه كان يخالف بينهم ويسلط بعضهم على بعض. وزحف إليه حمّو بن ملين البرغواطي صاحب صفاقس فخرج تميم للقائه، وانقسمت العرب عليهما فانهزم حمو وأصحابه، وذلك سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وسار منها إلى سوسة فافتتحها، ثم بعث عساكره إلى تونس فحاصروا ابن خراسان حتى استقام على الطاعة لتميم. ثم بعث عساكره أيضاً إلى القيروان، وكان بها قائد بن ميمون الصنهاجي من قبل المعز فأقام ثلاثاً. ثم غلبته عليها هوّارة، وخرج إلى المهدية ثم رده تميم إلى ولايته بها فخالف بعد ست من ولايته، وكاتب الناصر بن علناس صاحب القلعة فبعث تميم إليه العساكر فلحق بالناصر وأسلم القيروان. ثم رجع بعد ست إلى حمو بن مليل البرغواطي بصفاقس وابتاع له القيروان من مهنا بن علي أمير زغبة فولاه عليها وحصنها سنة سبعين وأربعمائة وكانت بين تميم والناصر صاحب القلعة أثناء ذلك فتن كان سماسرتها العرب يجأجؤن بالناصر من قلعته، ويوطئون عساكره ببلاد أفريقية. وربما ملك بعض أمصارها، ثم يردونه على عقبه إلى داره إلى أن اصطلحا سنة سبعين وأربعمائة، وأصهر إليه تميم بابنته. ونهض تميم سنة أربع وسبعين وأربعمائة إلى قابس وبها ماضي بن محمد الصنهاجي، وليها بعد أخيه إبراهيم فحاصرها ثم أفرج عنها. ونازلته العرب سنة ست وسبعين وأربعمائة بالمهدية ثم أفرجوا عنه، وهزمهم فقصدوا القيروان ودخلوها فأخرجهم عنها. وفي أيامه كان تغلب نصارى جنده على المهدية سنة ثمانين واربعمائة نزلوها في ثلثمائة مركب وثلاثين ألف مقاتل واستولوا عليها وعلى زويلة، فبذل لهم تميم في النزول عنها مائة ألف دينار بعد أن انتهبوا جميع ما كان بها، فاستخلصها من أيديهم ورجع إليها ثم استولى على قابس سنة تسع وثمانين وأربعمائة من يد أخيه عمر بن المعز، بايع له أهلها بعد موت قاضي بن إبراهيم. ثم استولى بعدها على صفاقس سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وخرج منها حمو بن مليل إلى قابس فأجاره مكن بن كامل
الدهماني إلى أن مات بها. وكانت رياح قد تغلبت على زغبة وعلى أفريقية من لدن سبع وستين وأربعمائة وأخرجوه منها. وفي هذه المائة الخامسة غلب الأخضر من بطون رياح على مدينة باجة وملكوها، وهلك تميم إثر ذلك سنة إحدى وخمسمائة.
دولة يحيي بن تميم: ولما هلك تميم بن المعز ولّي ابنه يحيى، وافتتح أمره بافتتاح إقليبية وغلب عليها ابن محفوظ الثائر بها. وثار أهل صفاقس على ابنه أبي الفتوح فلطف الحيلة في تفريق كلمتهم، وراجع طاعة العبيديّين ووصلته المخاطبات والهدايا. وكان قد صرف همه إلى غزو النصارى والأساطيل البحرية فاستكثر منها واستبلغ في اقتنائها. وردد البعوث إلى دار الحرب فيها حتى اتقته أمم النصرانية بالجزي من وراء البحر من بلاد أفريقية وجنوة وسردينية. وكان له في ذلك آثار ظاهرة عزيزة. وهلك فجأة في قصره سنة تسع وخمسمائة والله أعلم. دولة علي بن يحيي: ولما هلك يحيى بن تميم ولي عليّ ابنه، استقدم لها من صفاقس، فقدم في خفارة أبي بكر بن أبي جابر، مع عسكر، ونظرائه من أمراء العرب. وكان أعظم أمراء عساكر صنهاجة محاصرين لقصر الأجم فاجتمعوا إليه وتمت بيعته. ونهض إلى حصار تونس حتى استقام أحمد بن خراسان على الطاعة، وفتح جبل وسلات. وكان ممتنعاً على من سلف من قومه فجرد إليه عسكراً مع ميمون بن زياد الصخري المعادي من أمراء العرب فافتتحوه وقتلوا من كان به. ووصل رسول الخليفة من مصر بالمخاطبات والهدايا على العادة. ثم نهض إلى حصار رافع بن مكن بفاس سنة
إحدى عشرة وخمسمائة. ودون لها قبائل بادغ من بني علي إحدى بطون رياح كما نذكره في أخبار رافع. ثم حدثت الفتنة بينه وبين رجار صاحب صقلية بممالأة رجار لرافع بن كامل عليه، وإمداده إيّاه بأسطوله يغير على ساحل علي بن يحيى ويرصد أساطيله، فاستخدم علي بن يحيى الأساطيل وأخذ في أهبة للحرب، وهلك سنة خمس عشرة وخمسمائة والله أعلم.
دولة الحسن بن علي: ولما هلك علي بن يحيى بن تميم ولي بعده إبنه الحسن بن علي غلاماً يفعة ابن إثنتي عشرة سنة، وقام بأمره مولاه صندل. ثم مات صندل وقام بأمره مولاه موفق. وكان أبوه أصدر المكاتبة إلى رجار عند الوحشة يهدّده بالمرابطين ملوك المغرب، لما كان بينهما وبينهم من المكاتبة. واتفق أن غزا أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين صقلية وافتتح قرية منها فسباها وقتل أهلها سنة ست عشرة وخمسمائة، فلم يشك رجار أن ذلك بإملاء من الحسن فنزلت أساطيله إلى المهدئة وعليهم عبد الرحمن بن عبد العزيز وجرجي بن مخائيل الأنطاكي. وكان جرجي هذا نصرانياً هاجر من المشرق، وقد تعلّم اللسان وبرع في الحساب. وتهذب في الشام بأنْطاكِية وغيرها فاصطنعه تميم واستولى عليه، وكان يحيى يشاوره. فلما هلك تميم أعمل جرجي الحيلة في اللحاق برجار فلحق به وحظي عنده واستعمله على أسطوله فلما اعتزم على حصار المهدية بعثه لذلك فزحف في ثلثمائة مركب، وبها عدد كثير من النصرانية، فيهم ألف فارس. وكان الحسن قد استمدّ لحربهم فافتتح جزيرة قوصرة، وقصدوا إلى المهديّة ونزلوا إلى الساحل، وضربوا الأبنية وملكوا قصر الدهانين وجزيرة الأملس. وتكرر القتال فيهم إلى أن غلبهم المسلمون، وأقلعوا راجعين إلى صقلية بعد أن استمر القتل فيهم. ووصل بأكثر ذلك محمد بن ميمون قائد المرابطين بأسطوله، فعاث في نواحي صقلية، واعتزم رجار على
إ عادة الغزو إلى المهدية. ثم وصل أسطول يحيى بن العزيز صاحب بجاية لحصار المهدية ووصلت عساكره في البر مع قائده مطرف بن علي بن حمدون الفقيه فصالح الحسن صاحب صقلية ووصل يده به واستمد منه أسطوله. واستمد الحسن أسطول رجار فأمده، وارتحل مطرف إلى بلده.
وأقام الحسن مملكاً بالمهدية، وانتقض عليه رجار وعاد إلى الفتنة معه، ولم يزل يردد إليه الغزو إلى أن استولى على المهدية قائد أسطوله جرجي بن مناسل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ووصلها بأسطوله في ثلثمائة مركب. وخادعهم بأنهم إنما جاءوا مدداً له. وكان عسكر الحسن قد توجّه صريخاً لمحرز بن زياد الفادغي صاحب علي بن خراسان صاحب تونس، فلم يجد صريخاً فجلا عن المهدية ورحل واتبعه الناس. ودخل العدّو إلى المدينة وتملّكوها دون دفاع. ووجد جرجي القصر كما هو لم يرفع منه الحسن إلاّ ما خص، وترك الذخائر الملوكية. فأثن الناس وأبقاهم تحت إيالته، ورد الفارين منهم إلى أماكنهم. وبعث أسطولاً إلى صفاقس فملكها وأجاز إلى سوسة فملكها أيضاً ثم إلى طرابلس كذلك. واستولى رجار صاحب صقلية على بلاد الساحل كلّها ووضع على أهلها الجري، وولى عليهم كما نذكره، إلى أن استنقذهم من ملكة الكفر عبد المؤمن شيخ الموحّدين وخليفة إمامهم المهدي. ولحق الحسن بن يحيى بعد استيلاء النصارى على المهديّة بالعرب من رياح، وكبيرهم محرز بن زياد الفادعي صاحب القلعة، فلم يجد لديهم مصرخاً. وأراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد فأرصد له جرجي فارتحل إلى المغرب، وأجاز إلى بونة، وبها الحارث بن منصور وأخوه العزيز. ثم توخه إلى قسطنطينة، وبها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية، فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر. ونزل على ابن العزيز فأحسن نزله وجاوره إلى أن فتح الموحّدون الجزائر سنة سبع وأربعين وخمسمائة بعد تملكهم المغرب والأندلس، فخرج إلى عبد المؤمن فلقاه تكرمة وقبولاً. ولحق به وصحبه إلى أفريقية في غزواته الأولى، ثم الثانية سنة سبع وخمسين وخمسمائة فنازل المهدية وحاصرها أشهراً. ثم افتتحها سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وأسكن بها الحسن وأقطعه رحيش فأقام هنالك ثماني سنين. ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهله يريد مراكش. وهلك بتامستا في طريقه إلى بابارولو سنة ست وثلاثين،
والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ورب الخلائق أجمعين.
(خريطة)
بنو خراسان من صنهانجة الخبر عن بني خراسان من صنهاجة الثوار بتونس علم آل باديس عند اضطراب أفريقية بالعرب ومبد أ أمرهم ومصاير أحوالهم لما تغلب العرب على القيروان، وأسلم المعز وتحول إلى المهدية اضطرمت أفريقية ناراً. واقتسمت العرب البلاد عمالات، وامتنع كثير من البلاد على ملوك آل باديس مثل أهل سوسة وصفاقس وقابس وصارت صاغية أهل أفريقية إلى بني حماد ملوك القلعة وملكوا القيروان كما تقدم. وانقطعت تونس عن ملك المعز، ووفد مشيختها على الناصر بن علناس، فولى عليهم عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان، يقال إنه من أهل تونس والأظهر أنه من قبائل صنهاجة فقام بأمرهم وشاركهم في أمره وتودد إليهم وأحسن السيرة فيهم، وصالح العرب أهل الضاحية على أتاوة معلومة لكفّ عاديتهم. وزحف تميم بن المعز من المهدية إليه سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في جموعه، ومعه يبقى ابن علي أمير زغبة فحاصر تونس أربعة أشهر، إلى أن صالحه ابن خراسان واستقام على طاعته فأفرج عنه. ولم يزل قائماً بأمره إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فولي إبنه عبد العزيز وكان مضعفاً وهلك على رأس هذه الماية الخامسة وقام بأمره إبنه أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق فقتل عمه إسمعيل بن عبد الحق لمكان ترشه، وغربه أبو بكر إلى أن برزت فأقام بها خوفاً على نفسه. ونزع أحمد إلى التخلق بسير الملك والخروج عن سير المشيخة واشتدّت وطأته، وكان من مشاهير رؤساء بني خراسان هؤلاء، فاستبدّ بتونس لأول المائة السادسة وضبطها وبنى أسوارها. وعامل العرب على إصلاح سابلتها فصلحت حاله، وبنى قصور بني خراسان. وكان مجالساً للعلماء محباً فيهم ونازله علي بن يحيى بن العزيز بن تميم سنة عشر وخمسمائة وضيّق عليه، ودافعه بإسعاف غرضه فأفرج عه. ثم نازله عساكر العزيز بن منصور صاحب بجاية فعاد إلى طاعته سنة أربع عشرة وخمسمائة، ولم يزل والياً على تونس إلى أن نهض سنة إثنتين وعشرين وخمسمائة مطرف بن علي بن حمدون قائد يحيى بن العزيز من
بجاية في العساكر إلى أفريقية، وملك عامة أمصارها فتغلّب على تونس وأخرج أحمد بن عبد العزيز صاحبها ونقله إلى بجاية بأهله وولده.
وولى على تونس كرامة بن المنصور عم يحيى بن العزيز فبقي والياً عليها إلى أن مات، وولي عليها بعده أخوه أبو الفتوح بن المنصور إلى أن مات وولي مكانه ابن ابنه محمد. وساءت سيرته فعزل وولي مكانه عمه معد بن المنصور إلى أن استولى النصارى على المهدية وسواحلها ما بين سوسة وصفاقس وطرابلس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وصارت لصاحب صقلية، وأخرج الحسن بن علي كما هو مذكور فأخذ أهل تونس في الاستعداد والحذر. واستأسدوا لذلك على واليهم، وانتشر بغاتهم وربما ثاروا بعض الأيام عليه فقتلوا عبيدة بمرأى منه، واعتدوا عليه في خاصّته فبعث عنه أخوه يحيى من بجاية فركب البحر في الأسطول، وترك نائبه العزيز بن دامال من وجوه صنهاجة فأقام بينهم وهم مستبدون عليه. وكان بالمعلقة جوارهم محرز بن زياد أمير بني علي من بطون رياح قد تغلب عليها. وكانت الحرب بينه وبين أهل تونس سجالاً، والتحم بينهما المصاف. وكان محرز يستمدّ عساكر صاحب المهديّة على أهل تونس فتأتيه إلى أن غلب النصارى على المهديّة، وحدثت الفتنة بينهم بالبلد فكان المصاف بين أهل باب السويقة وأهل باب الجزيرة، وكانوا يرجعون في أمورهم إلى القاضي عبد المنعم ابن الإمام أبي الحسن. ولما غلب عبد المؤمن على بجاية وقسطنطينة وهزم العرب بسطيف ورجع إلى مراكش. انتهت إليه شكوى الرعايا بأفريقية مما نزل بهم من العرب، فبعث ابنه عبد الله من بجاية إلى أفريقية في عساكر الموحدين فنازل تونس سنة إثنتين وخمسين خمسمائة وامتنعت عليه. ودخل معهم محرز بن زياد وقومه من العرب واجتمع جندهم وبرزوا للموحّدين فأوقعوا بهم وأفرجوا عن تونس.وهلك أميرها عبد الله بن خراسان خلال ذلك، وولي مكانه علي بن أحمد بن عبد العزيز خمسة أشهر، وزحف عبد المؤمن إلى تونس وهو أميرها، فانقادوا لطاعته كما نذكره في أخبار الموحّدين. ورحل علي بن أحمد بن خراسان إلى مراكش بأهله وولده، وهلك في طريقه سنة أربع وخمسين وخمسمائة وأفرج محرز بن زياد عن المعلقة. واجتمعت إليه
قومه وتدامرت العرب عن مدافعة الموحدين واجتمعوا بالقيروان، وبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو منصرف من غزاته إلى المغرب فبعث إليهم العساكر وأدركوهم بالقيروان فأوقعوا بهم واستلحموهم قتلاً وسبياً. وتقبض على محرز بن زياد أميرهم فقتل وصلب شلوه بالقيروان، والله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير.
(خريطة)
الخبر عن بني الرند ملوك قفصة الثائرين بها عند التياث ملك آل باديس بالقيروان واضطرابه بفتنة العرب ومبدأ دولتهم ومصاير أمورهم: لما تغلب العرب على أفريقية وانحلّ نظام الدولة الصنهاجيّة، وارتحل المعز من القيروان إلى المهدية، وكان بقفصة عاملاً لصنهاجة عبد الله بن محمد بن الرند وأصله من جرية من بني صدغيان. وقال ابن نحيل هو من بنى مرين بن مغراوة ، وكان مسكنهم بالجوسين من نفزاوة فضبط قفصة وقطع عنها عادية الفساد، وصالح العرب على الاتاوة فصلحت السابلة واستقام الحال . ثم استبدّ بأمره وخلع الامتثال من عنقه سمة خمس وأربعين وخمسماية ، واستمر على ذلك. وبايعته توزر وقفصة وسوس والحامة ونفزاوة وسائر أعمال قسطنطينة فاستفحل أمره وعظم سلطانه، ووفد عليه الشعراء والقصّاد، وكان معظماً لأهل الدين إلى أن هلك سنة خمس وستين وخمسمائة. وولي من بعده إبنه المعتز وكنيته أبو عمر، وانقاد إليه الناس فضبط الأمور وجبى الأموال واصطنع الرجال وتغلب على قمودة وجبل هوّارة وسائر بلاد قسطيلية وما إليها. وحسنت سيرته إلى أن عمي. وهلك في حياته إبنه تميم فعهد لابنه يحيى بن تميم. وقام بالأمر، واستبدّ على حدّه ولم يزالوا بخير حال إلى أن نازلهم عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة فمنعهم من الأمر، ونقلهم إلى بجاية فمات المعتز بها سنة سبع وخمسين وخمسمائة لمائة وأربع عشرة من عمره وقيل لسبعين، ومات بعده بيسير حافده يحيى بن تميم. وولى عبد المؤمن على قفصة نعمان بن عبد الحق الهنتاني. ثم عزله بعد ثلاث بميمون ابن أجانا الكنسيفي. ثم عزله بعمران بن موسى الصنهاجي وأساء إلى الرعية فبعثوا عن علي بن العزيز بن المعتز من بجاية. وكان بها في مضيعة يحترف بالخياطة فقدم عليهم، وثاروا بعمران بن موسى عامل الموحّدين فقتلوه وقدّموا علي بن العزيز فساس ملكه وحاط رعيته. وأغزاه يوسف بن عبد المؤمن سنة ثلاث وستين وخمسمائة أخاه السيد أبا زكريا فحاصره وضيّق عليه
وأخذه وأشخصه بر مراكش بأهله وماله، واستعمله على الأشغال بمدينة سلا إلى أن هلك وفنيت دولة بني الرند والبقاء لله وحده اهـ.
الخبر عن بني جامع الهلاليين أمراء قابس لعهد الصنهاجيين وما كان لتميم بها من الملك والدولة وذلك عند فتنة العرب بأفريقية: ولما دخلت العرب إلى أفريقية وغلبوا المعز على الضواحي ونازلوه بالقيروان، وكان الوالي بفاس المعز بن حمد بن لموية الصنهاجي، وكان أخواه إبراهيم وماضي بالقيروان قائدين للمعز على جيوشه فعزلهما، ولحقا مغاضبين بمؤنس بن يحيى، وكان أوّل تملّك العرب. ثم أقام إبراهيم منهم والياً بقابس، ولحق المعز بن محمد بمؤنس، فكان معه إلى أن هلك إبراهيم، وولي مكانه أخوه ماضي وكان سيىء السيرة فقتله أهل قابس، وذلك لعهد تميم بن المعز بن باديس، وبعثوا إلى عمر أخي السلطان في طاعة العرب، فوليها بكر بن كامل بن جامع أمير المناقشة من دهمان من بني علي إحدى بطون رياح فقام بأمرها، واستبد على صنهاجة. ولحق به مثنى بن تميم بن المعز نازعأ عن أبيه فأجابه ونازل معه المهديّة حتى امتنعت عليه، واطلع على قبائح شتى فأفرج عنها. ولم يزل كذا على حاله في إجابة قابس وإمارة قومه دهمان إلى أن هلك. وقام بأمره بعده رافع واستفحل بها ملكه، وهو الذي اختط قصر العروسيين من مصانع الملك بها، وإسمه مكتوب لهذا العهد في جدرانها. ولما ولي علي بن يحيى بن تميم فسد ما بينه وبين رافع وأعان عليه رافع صاحب
صقلية فغلب أسطول علي بن يحيى على أسطول النصارى. ثم ذوى قبائل العرب والأساطيل، وزحف إلى قابس سنة إحدى عشر وأربعمائة. قال ابن أبي الصلت: دول الثلاثة الأخماس من قبائل العرب الذين هم: سعيد ومحمد ونحبة، وأضاف إليهم من الخمس الرابع أكابر بني مقدم فوافى من كان منهم بفحص القيروان. وفر رافع إلى القيروان وامتنع عليه أهلها. ثم اجتمع شيوخ دهمان، واقتسموا البلاد وعينوا القيروان لرافع وأمكنوه. وبعث علي بن يحيى عساكره والعرب المدونة على منازلة رافع بالقيروان وخرج إلى محاربتهم فهلك بالطريق في بعض حروبه مع أشياع رافع.
ثم أن ميمون بن زياد الصخري حمل رافع بن مكن على مسالمة السلطان وسعى في إصلاح ذات بينهما، فانصلح وارتفعت بينهما الفتنة. وقام بقابس من ذلك رشيد بن كامل. قال ابن نخيل وهو الذي اختط قصر العروسيين وضرب السكّة الرشيدية. وولي بعده إبنه محمد بن رشيد وغلب عليه مولاه يوسف. ثم خرج محمد في بعض وجوهه وترك ابنه مع يوسف فطرده يوسف واستبد، وانتهى إلى طاعة رجار فثار به أهل قابس ودفعوه عنهم فخرج إلى أخيه. ولحق أخوه عيسى بن رشيد وأخبره الخبر فحاصرهم رَجَار بسبب ذلك مدة من الأيام. وكان آخر من ملكها من بني جامع أخوه مدافع بن رشيد بن كامل. ولمّا استولى عبد المؤمن على المهديّة وصفاقس وطرابلس بعث إبنه عبد الله بعسكر إلى قابس، ففر مدافع بن رشيد عن قابس وأسلمها للموحدين ولحق بعرب طرابلس من عرب عوف فأجاروه سنتين. ثم لحق بعبد المؤمن بقابس فأكرمه ورضي عنه. وانقرض أمر بني جامع من يؤانس، والبقاء لته وحده اهـ.
الخبر عن ثورة رافع بن مكن بن مطروح بطرابلس والعرامي بصفاقس علي النصاري وإخراجهم واستبدادهم بأمر بلدهم في آخر دولة بني باديس:
أما طرابلس فكان رجار صاحب صقلية لعنة الله عليه قد استولى عليها سنة أربعين وخمسمائة على يد قائده جرجي بن ميخاييل الأنطاكي، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم، وبقيت في مملكة النصارى أياماً. ثم إن أبا يحيى بن مطروح من أعيان البلد مشى في وجوه الناس وأعيانهم، وداخلهم في الفتك بالنصارى فاجتمعوا لذلك وثاروا بهم وأحرقوهم بالنار. ولما وصل عبد المؤمن إلى المهديّة وافتتحها سنة خمس وخمسين خمسمائة وفد عليه أبو يحيى بن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم برأ وتكرمةً. وقدم ابن مطروح المذكور عليهم وردهم إلى بلدهم فلم يزل
عليهم إلى أن هرَم وعجز بعهد يوسف بن عبد المؤمن، و طلب الحج فسرّحه السيد أبو زيد بن أبي حفص محمد بن عبد المؤمن عامل تونس فارتحل في البحر سنة ست وثمانين وخمسمائة واستقر بالإسكندرية.
وأما صفاقس فكانت ولاتها أيام بني باديس من صنهاجة قبيلهم إلى أن ولى المعز بن باديس عليها منصور البرغواطي من صنائعه، وكان فارساً مقداماً فحدّث نفسه بالثورة أيام تغلب العرب على أفريقية، وخروج المعز إلى المهدية، ففتك به ابن عمه حمو بن مليل البرغواطي وقتله في الحمام غدراً. وامتعض له حلفاؤه من العرب وحاصروا حمو حتى بذل لهم من المال ما رضوا به. واستبد حمو بن مليل بأمر صفاقس حتى إذا هلك المعز حدثته نفسه بالتغلب على المهدية، فزحف إليها في جموعه من العرب ولقيه تميم فانهزم حمو وأصحابه سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ثم بعث ابنه يحيى مع العرب لحصار صفاقس فحاصرها مدّة وأقلع عنها. وزحف إليه تميم بن المعز سنة ثلاث وتسعين فغلبه عليها. ولحق حمو بمكن بن كامل أمير قابس فأجاره، وصارت صفاقس إلى ملكة تميم ووليها إبنه. ولما تغلب النصارى على المهدية وملكها جرجي بن ميخائيل قائد رجار سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وتغلبوا بعدها على صفاقس وأبقوا أهلها، واستعملوا عمر بن أبي الحسن القرباني لمكانه فيهم. وحملوا أباه أبا الحسن معهم إلى صقلّية رهناً. وكان ذلك مذهب رجار ودينه فيما ملك من سواحل أفريقية، يبقيهم ويستعمل عليهم منهم، ويذهب إلى العدل فيهم فبقي عمر بن أبي الحسن عاملاً لهم في أهل بلده وأبوه عندهم. ثم أن النصارى الساكنين بصفاقس امتدت أيديهم إلى المسلمين ولحقوهم بالضرر. وبلغ الخبر أبا الحسن وهو بمكانه من صقلية. فكتب إلى إبنه عمر، وأمره بانتهاز الفرصة فيهم والاستسلام إلى الله في حق المسلمين، فثار بهم عمر لوقته سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وقتلهم. وقتل النصارى أباه أبا الحسن وانتقضت عليهم بسبب ذلك سائر السواحل. ولما افتتح عبد المؤمن المهدية من يد رجار وصل إليه عمر، وأذى طاعته فولاه صفاقس. ولم يزل والياً عليها وابنه عبد الرحمن من بعده، إلى أن تغلب يحيى بن غانية فرغبه في الحج فسرحه ولم بعد.
الخبر عما كان بأفريقية من الثوار علي صنهاجة عند اضطرابها بفتنة العرب إلي أن محا أثرهم الموحدون:
لما كان أبو رجاء الورد اللخمي عند اضطرام نار الفتنة بالعرب، وتقويض المعز عن القيروان إلى المهدية، وتغلبهم عليها قد ضم إليه جماعة من الدعّار. وكان ساكناً بقلعة قُرْسينَة من جبل شعيب فكان يضرب على النواحي بجهة بنزرت ويفرض على أهل القرى الأتاوات بسبب ذلك، فطال عليهم أمره ويئسوا من حسم دائه وكان ببلد بنزرت فريقان أحدهما من لخم وهم قوم الورد، وبقوا فوضى واختلف أمرهم فبعثوا إلى الورد في أن يقوم بأمرهم، فوصل إلى بلدهم فاجتمعوا عليه وأدخلوه حصن بنزرت. وقدموه على أنفسهم فحاطهم من العرب ودافع عن نواحيهم. وكان بنو مقدم من الأثبج ودهمان من بني علي إحدى بطون رياح هم المتغلبون على ضاحيتهم فهادنهم على الأتاوة وكف بها عاديتهم، واستفحل أمرهم وتسفى بالأمير، وشيد المصانع والمباني وكثر عمران بنزرت إلى أن هلك ، فقام بأمره ابنه طراد، وكان شهماً، وكانت العرب تهابه.
وهلك فولي من بعده إبنه محمد بن طراد وقتله أخوه مقرن لشهر من ولايته في مسامرة وقام بأمر بنزرت وسفي بالأمير، وحمى حوزته من العرب، واصطنع الرجال، وعظم سلطانه وقصده الشعراء وامتدحوه فوصلهم. وهلك فولي من بعده إبنه عبد العزيز عشر سنين وجرى فيها على سنن أبيه وجده ثم ولي من بعده أخوه موسى على سننهم أربع سنين. ثم من بعده أخوهما عيسى واقتفى أثرهم. ولما نازل عبد الله بن عبد المؤمن تونس وأفرج عنه ومرّ به في طريقه فاستفرغ جهده في قراه وتجمع بطاعته. وطلب منه الحفاظ على بلده فأسعفه. وولى عليهم أبا الحسن الهَرغَي، فلما قدم عبد المؤمن على أفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة راعى له ذلك وأقطعه، واندرج في جملة الناس. وكان بقلعة ورغة يدوكس بن أبي علي الصنهاجي من أولياء العزيز المنصور صاحب بجاية، والقلعة قد شادها وحصّنها.
وكان مبدأ أمره أن العزيز تغيّر عليه في حروب وقعت بينه وبين العرب نسب فيها إلى نفسه الإقدام، وإلى السلطان العجز فخافه على نفسه، ولحق ببجاية فأكرمه شيخها محمود بن نزال الريغي وآواه. وترافع إلى محمود أهل ورغة من عمله. وكانوا فئتين مختلفتين من زاتيمة إحدى قبائل البربر، وهما: أولاد مدين وأولاد لاحق. فبعث عليهم بروكس بن أبي علي لينظر في أحوالهم، وأقام معهم بالقلعة. ثم استجلب بعض الدعّار كانوا بناحيتها وأنزلهم بالقلعة معهم واصطنعهم، وصاهر أولاد مدين وظاهرهم على أولاد لاحق، وأخرجهم من القلعة واستبدّ بها.
وقصدته الرجالى من كل جانب إلى أن اجتمعت له خمسمائة فارس، وأثخن في نواحيه، وحارب بني الورد ببنزرت وابن علال بطبربة، وقتل محمد بن سباع أمير بني سعيد من رياح، وغضت القلعة بالساكن فاتخذ لها ربضاً، وجهز إليه العزيز عسكره من بجاية فبارز قائد العسكر وفتك به وإسمه غيلاس. وهلك بعد مدة وقام بأمره ابنه مَنِيع، ونازله بنو سبّاع وسعيد طالبين بثأر أخيهما محمد. وتمادى به الحصار وضاقت أحواله فاقتحموا عليه القلعة، واستلحم هو وأهل بيته قتلأ وسبياً والله مالك الأمور.
وكان أيضاً بطبربة مُدَافِع بن علال القَيسِيّ شيخ من شيوخها. فلما اضطربت أفريقية عند دخول العرب إليها امتنع بطبرية وحصن قلعتها، واستبدّ بها في جملة من ولده وبني عمه وجماعته إلى أن ثار عليه ابن بيزون اللخمي في البحرين على وادي مجردة بإزاء الرياحين. وطالت بينهما الفتنة والحرب. وكان قهرون بن غنوش بمنزل دحمون قد بنى حصنه وشيّده، وجمع إليه جيشاً من أوباش القبائل، وذلك لما أخرجه أهل تونس بعد أن ولاّه العامة عليهم. ثم صرفوه عن ولايتهم لسوء سيرته فخرج من البلد، ونزل دحمون وبنى حصناً بنفسه مع الحنايا وردد الغارة على تونس، وعاث في جهاتها فرغبوا من محرز بن زياد أن يظاهرهم عليه ففعل.
وبلغ خبره ابن علاّلْ صاحب طبربة فوصل ابن علال يده بصهر منه ونقله إلى بعض الحصون ببلده، وهي قلعة غنوش، وتظافروا على الإفساد. وخلفهما بنوهما من بعدهم إلى أن وصل عبد المؤمن إلى أفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة فمحا آثار
الفساد من جانب أفريقية، وكان أيضاً حماد بن خليفة اللخمي بمنزل رقطون من إقليم زغوان على مثل حال ابن علال وابن غنوش وابن بيزون وخلفه ولده في مثل ذلك إلى أن انقطع ذلك على يد عبد المؤمن. وكان عماد بن نصر الله الكلاعي بقلعة شقبناريّة قد صار إليه جند من أهل الدعارة وأوباش القبائل فحماها من العرب، واستغاث به ابن قليه شيخ الأريس من العرب وشكا إليه سوء ملكتهم، فزحف إليهم وأخرجهم من الأريس، وفرض عليهم مالاً يؤدونه إليه إلى أن مات وولي ابنه من بعده فجرى على سننه إلى أن دخل في طاعة عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه اهـ.
الخبر عن دولة آل حماد بالقلعة من ملوك صنهاجة الداعية لخلافة العبيديين وما كان لهم من الملك والسلطان بإفريقية والمغرب الأوسط إلى حين انقراضه بالموحدين هذه الدولة شعبة من دولة آل زيري، وكان المنصور بلكّين قد عقد لأخيه حماد على أشير والمسيلة، وكان يتداولها مع أخيه يطوفت وعمه أبي البهار. ثم استقل بها سنة سبع وثمانين وثلثمائة أيام باديس من أخيه المنصور ودفعه لحرب زناتة سنة خمس وتسعين وثلثمائة بالمغرب الأوسط من مغراوة وبني يفرن، وشرط له ولاية أشير والمغرب الأوسط وكل بلد يفتحه وأن لا يستقدمه. فعظم عناؤه فيها وأثخن في زناتة، وكان مظفراً عليهم. واختطّ مدينة القلعة بجبل كتامة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وهو جبل عجِيسَة وبه لهذا العهد قبائل عياض من عرب هلال. ونقل إليها أهل المسيلة وأهل حمزة وخربهما. ونقل جراوة من المغرب وأنزلهم بها، وتم بناؤها وتمصّرها على رأس المائة الرابعة. وشيد من بنيانها وأسوارها واستكثر فيها من المساجد والفنادق، فاستبحرت في العمارة واتسعت بالتمدّن. ورحل إليها من الثغور والقاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها. ولم يزل حمّاد أيام باديس هذا أميراً على الزاب والمغرب الأوسط ومتوليأ حروب زناتة. وكان نزوله ببلد أشير والقلعة متاخماً لملوك زناتة وأحيائهم البادية بضواحي
المجلد السادس
من صفحة 227 -352
تلمسا وتاهرت. وحاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين وثلثمائة وهم زاوي وماكسن وإخوانهما، فقتل ماكسن وابناه وألجأ زاوي وإخوته إلى جبل شنون وأجازهم البحر إلى الأندلس. ثم إن بطانة باديس ومن إليه من الأعجام والقرابة نفسوا على حفا رتبته وسعوا في مكانه من باديس، إلى أن فسد ذات بينهما. وطلب باديس أن يسلم عمل تيجسب وقسطنطينة لولده المعز لما قلده الحاكم ولاية عهد ابنه، فأبى حماد وخالف دعوة باديس وقتل الرافضة وأظهر السنة ورضي عن الشيخين ونبذ طاعة العُبَيديّين جملة ،وراجع دعوة آل العباس وذلك سنة خمس وأربعمائة وزحف إلى باجة فدخلها بالسيف ودسّ إلى أهل تونس الثورة على المشارقة والرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب، وعبى عساكره من القيروان، وخرج إليه فنزع عن حماد أكثر أصحابه مثل: بني أبي واليل أصحاب معرّة من زناتة، وبني حسن كبار صنهاجة، وبني يطوفت من زناتة، وبني غمرة أيضاً منهم، وفر حماد، وملك باديس أشير. ولحق حماد بشلف بني واليل وباديس في اتباعه، حتى نزل مواطين السرسّو من بلاد زناتة. ونزع إليه عطية بن داقلتن في قومه من بني توجين، لما كان حماد قتل أباه. وجاء على أثره ابن عمه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس واستظهر بهما على حماد.
ثم أجاز إليه باديس من وادي شلف وناجزه الحرب، ونزع إليه عامة أهل معسكره فانهزم وأغذ السير إلى القلعة، وباديس في أثره حتى نزل فحص المسيلة، وانحجر حماد في القلعة وحاصره. ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه وهو نائم بين أصحابه آخر ست وأربعمائة، فبايعت صنهاجة لابنه المعز صبياً ابن ثمان سنين. وتلاقوا أمر أشير، وبعثوا كرامة بن منصور لسدها فلم يقدر، واقتحمها عليه حماد. واحتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان. وبايعوا المعز بالبيعة العامة. وزحف إلى حماد بناحية قفصة، وأشفق حماد فبعث ابنه القائد لأحكام الصلح بينه وبين المعز، فوصل إلى القيروان سنة ثمان وأربعمائة بهدية جليلة. وأمضى له المعز ما سأله من الصلح ورجع إلى أببه.
وهلك حماد سنة تسعة عشر وأربعمائة فقام بأمره ابنه القائد، وكان جباراً فاختاره أخاه يوسف على المغرب وويغلان على حمزة، في بلد اخطته حمزة بن إدريس. وزحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين وأربعمائة، فخرج إليه القائد وسرب الأموال في زناتة. وأحس بذلك حمامة فصالحه ودخل في طاعته، ورجع إلى فاس. وزحف إليه المعز من القيروان سنة أربع وثلاثين ووأربعمائة وحاصره مدة طويلة. ثم صالح القائد وانصرف إلى أشير فحاصرها، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعأ. وراجع القائد طاعة العبيديين لما نقم عليه المعز ولقبوه شرف الدولة.
وهلك سنة ست وأربعين وستمائةوأربعمائة وولي ابنه محسن وكان جباراً، وخرج عليه عمه يوسف ولحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حماد، وبعث محسن في طلبه بلكّين ابن عمه محمد بن حمّاد، وأصحبه من العرب خليفة بن بكير وعطية الشريف وأموهما بقتل بلكّين في طريقهما، فأخبرا بلكين بذلك وتعاهدوا جميعاً على قتل محسن وأنذر بهم ففر إلى القلعة وأدركوه، فقتله بلكّين لتسعة أشهر من ولايته. وولي الأمر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وكان شهماً قرماً حازماً سفاكاً للدماء. وقتل وزير محسن الذي تولى قبله. وفي أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدم بسكرة لما أحس بنكثه، فخالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره. ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه عِلْنَاس بن حماد فقتلها، وأحفظ ذلك أخاها الناصر وطوى على التبييت. وكان بلكّين كثيراً ما يردد الغزو إلى المغرب. وبلغه استيلاء يوسف بن تاشفين والمرابطين على المصامدة فنهض نحوهم سنة أربع وخمسين وستمائة وأربعمائة، وفر المرابطون إلى الصحراء، وتوغل بلكين في ديار المغرب، ونزل بفاس، واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهناً على الطاعة. وانكفأ راجعاً إلى القلعة، فانتهز منه الناصر ابن عمه الفرصة في الثأر بأخته، ومالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلف المشقة بإبعاد الغزو والتوغل في أرض العدو فقتله بتسالة سنة أربع وخمسين وستمائة وأربعمائة.
وقام بالأمر من بعده، واستوزر أبا بكر أبي الفتوح، وعقد على المغرب لأخيه كباب وأنزله مليانة وعلى حمزة لأخيه رومان، وعلى نقاوس لأخيه خزر. وكان المعز
قد هدم سورها فأصلحه الناصر، وعقد على قسطنطينة لأخيه بلباز، وعلى الجزائر وسوس الدحاج لابنه عبد الله، وعلى أشير لابنه يوسف، وكتب إليه حمو بن مليك البرغواطي من صفاقس بالطاعة وبعث إليه بالهدية. ووفد عليه أهل قسطنطينة ومقدمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته، وأجزل صلتهم وردهم إلى أماكنهم، وعقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة ودخل أهل القيروان أيضاً في طاعته وكذلك أهل تونس.
وكان أهل بسكرة لما قتل بلكين مقدمهم جعفر بن أبي رمّان خلعوا طاعة آل حماد واستبدوا بأمر بلدهم، وعليهم بنو جعفر فسرح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره ووزير بلكّين قبله فنازلها وافتتحها عنوة، واحتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر وصلبهم، ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه، أنه لما بلغه خبر بلكّين أراد تولية أخيه معمّر، وشاورهم في ذلك فقتله الناصر وولى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح. ثم خرج الناصر ليتفقد المغرب فوثب علي بن راكان على تافربوست دار ملكهم.وكان لما قتل بلكين هرب إلى إخوانه من عجيسة، واهتبلوا الغرة في تافربوست لغيبة الناصر فطرقوها ليلا. وملكها علي فرجع الناصر من المسيلة وعاجلهم فسقط فني أيديهم وافتتحها عليهم عنوة، وذبح علي بن ركان نفسه بيده ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن وحروب ووفد عليه رجالات الأثبج صريخاً به على رياح فأجابهم ونهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة وزناتة حتى نزل للأربس، وتواقعوا بسببه فغدرت بهم زناتة وجروا عليه وعلى قومه الهزيمة بدسيسة ابن المعز بن زيري بن عطية وإغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر، واستباحوا خزائنه ومضاربه، وقتل أخوه القاسم وكاتبه ونجا إلى قسطنطينة في أتباعه. ثم لحق بالقلعة في فل من عسكره، لم يبلغوا مايتين. وبعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح فعقد بينهم وبينه صلحاً وتمّمه الناصر. ثم وفد عليه رسول تميم وسعى عنده بالوزير ابن أبي الفتوح، وأنه مائل إلى تميم فنكسه وقتله. وكان المستنصر
بن خزرون الزناتي خرج في أيام. الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر، ووصل إلى طرابلس فوجد بني عدي بها قد أخرجهم الأثبج وزغبة من أفريقية كما ذكرناه، فرغبهم في بلاد المغرب، وسار بهم حتى نزل المسيلة، ودخلوا أشير. وخرج إليه الناصر ففر إلى الصحراء ورجع، فرجع إلى مكانه من الإفساد فراسله الناصر في الصلح فأسعفه، وأقطعه ضواحي الزاب وريغة ،وأوعز، إلى عروس بن هندي رئيس بسكرة لعهده، وولي دولته أن يمكر، به فوصل المنتصر إلى بسكرة، وخرج إليه عروس بن هندي وأحمد نزله، وأشار إلى حشمه عند انكباب المنتصر وذويه على الطعام فبادروا مكبين لطعنه، وفر أتباعه وأخذوا رأسه وبعث به إلى الناصر فنصبه ببجايه وصلب شلوه بالقلعة وجعلوه عِظه لغيره. وقتل كثير من رؤساء زناتة فمن مِغْرَاوَة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس، وكانت له بلد لمدية ولمرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم، وقتل معنصر بن حماد منهم أيضأ ، وكان بناحية شفف فأجلب على عامل مليانة، وقتل شيوخ بني وريسفان من مغراوة فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلاً عنهم بشأن العرب، فزحفوا إلى معنصر وقتلوه، وبعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه على رأس المنتصر. وبعث إليه أهل الزاب أن عمر ومغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم، فبعث إبنه المنصور في العساكر ونزل وعلان بلد المنتصر بن خزرون وهدمها. وبعث سراياه وجيوشه إلى بلد واركلا وولى عليها، وقفل بالغنائم والسبي وبلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد وقطع السبيل، وأميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله فبعث إبنه المنصور إليهم بالعسكر، وتقبض على أمير بني ساكن بن عبد الله وحميد بن خزعل ولاحق بن جهان، وتقبض أيضاً على أمير بني توجين وأخيه زيري وعمهما الأغلب وحمامة، وأحضرهم فوبخهم وقدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد، وقتلهم جميعاً على الخلاف.
وفي سنة ستين وأربعمائة افتتح جبل بجاية، وكان له قبيل من البربر يسمون بهذا الاسم، إلا أن الكاف فيهم بلغتهم ليست كافاً بل هي بين الجيم والكاف، وهذا
القبيل من صنهاجة باقون لهذا العهد أوزاعاً في البربر، فلما افتتح هذا الجبل اختط به المدينة وسمّاها الناصرية، وتسمى عند الناس باسم القبيلة وهي بجاية وبنى بها قصر اللؤلؤة، وكان من أعجب قصور الدنيا ونقل إليها الناس، وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين وأربعمائة. وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم وشغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهدية، ولما أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم، وكثر الثوار عليهم والمنازعون من أهل دولتهم فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا، وعظم شأن أيامهم، فبنى المباني العجيبة المؤنقة، وشيد المدائن العظيمة، وردد الغزو إلى المغرب وتوغل فيهم.
ثم هلك سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وقام بالأمر من بعده إبنه المنصور بن الناصر. ونزل بجاية سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وأوطنها بعساكر وخاصة بعراعر منازل العرب، وما كانوا يسومونهم بالقلعة، من خطة الخسف وسوء العذاب بوطء ساحاتها والعيث في نواحيها، وتخطف الناس من حولها لسهولة طرقها على رواحلهم، وصعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار، فاتخذ بجاية هذه معقلاً وصيرها داراً لملكه، وجدد قصورها وشيد جامعها. وكان المنصور هذا جماعة مولعاً بالبناء، وهو الذي حضر ملك بني حماد، وتأنق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين. فبنى في القلعة قصر الملك والمنار والكوكب وقصر السلام وفي بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون. وكان أخوه يلباز على قسطينة منذ عهد الناصر أبيهما. وهم بالاستبداد لأول ولاية المنصور فسرح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر، وعقد له على قسطينة وبونة فتقبض على يلباز وأشخصه إلى القلعة، وأقام والياً على قسنطينة مكانه، وولى أخاه ويغلان على بونة. ثم بدا له في الخلاف على المنصور وثار بقسنطينة سنة سبع وثمانين وأأربعمائة. وبعث أخاه بن موتة إلى تميم بن المعز بالمهديّة، واستدعاه لولاية موتة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم، ونزل بونة مع ويغلان. وكاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى وجمعوا العرب على أمرهم. وسرح المنصور عساكره فحاصروا بونه سبعة أشهر. ثم اقتحموها غلاباً، وتقبضوا على أبي الفتوح
بن تميم وبعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة. ثم نازلت عساكره قسنطينة واضطرب أحوال ابن أبي يُكنى فخرج إلى قلعة بجبل أوراس، وتحصن بها. ونزل بقسنطينة صُلَيْصِل بن الأحمر من رجالات الأثبج. وداخل صليصل المنصور في أن يمكنه من قسنطينة على مال يبذله ففعل، واستولى عليها المنصور. وأقام أبو يُكنى بحصنه من أوراس، وردد الغارة على قسنطينة فتوجهت إليه العساكر وحاصروه بقلعته. ثم اقتحموها عليه وقتلوه. وكان بنو ومانو من زناتة حياً جميعاً وقوماً أعزة. وكانت إليهم رئاسة زناتة. وكان رئيسهم لعهده ماخوخ، وكان بينهم وبين آل حماد صهر فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر، وكانت أخرى عند المنصور. ولما تجددت الفتنة بينه وبين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة وحشوده، وجمع له ماخوخ ولقيه في زناتة فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ماخوخ التي كانت تحته. واستحكمت النفرة بين ماخوخ وبينه. وسار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة وحرضهم على بلاد صنهاجة، فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان. وذلك أن يوسف بن تاشفين لما ملك المغرب واستفحل به أمره سما إلى ملك تلمسان، فغلب عليها أولاد يُعْلَى سنة أربع وسبعين وأربعمائة على ما يأتي ذكره، وأنزلها محمد بن يغمر المسولي وصيرها ثغراً لملكه فاضطلع بأمرها ونازل بلاد صنهاجة وثغورهم، فزحف إليه المنصور وأخرب ثغوره وحصون ماخوخ، وضيق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين وصالحه. وقبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده فبعث إبنه الأمير عبد الله، وسمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده وزحفوا إلى مراكش. واحتل هو بالمغرب الأوسط فشن الغارة في بلاد بني ومانوا، وحاصر الجعبات، وفتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك، وعفا عن أهلها، ورجع إلى أبيه. ثم وقعت الفتنة بينه وبين ماخوخ. وقتل أخوه ولحق ابن ماخوخ بتلمسان، وظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره، وأجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين، فأعقبهما محمد بن يغمر صاحب تلمسان.
وولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر، فنهض إلى أشير وافتتحها فقام المنصور في ركائبه ومعه كافة صنهاجة. ومن العرب أحياء الأثبج وزغبة وربيعة، وهم المعقل، من زناتة أمماً كثيرة، ونهض إلى غزو تلمسان سنة ست وسبعين وأربعمائة في نحو عشرين ألفاً. ولقي أسطقسة وبعث العسكر في مقدمته، وجاء على أثرهم. وكان تاشفين قد أفرج عن تلمسان وخرج إلى تساله ولقيته عساكر المنصور فهزموه، ولجأ إلى جبل الصخرة. وعاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء، متوسلة بوشائج الصنهاجية، فأكبر قصدها إليه وأكرم موصلها، وأفرج عنهم صبيحة يومه. وانكفأ راجعاً إلى حضرته بالقلعة. وأثخن بعدها في زناتة وشردهم بنواحي الزاب والمغرب الأوسط. ورجع إلى بجاية وأثخن في نواحيها ودوخت عساكره قبائلها فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت والمنصورية والصهريج والناظور وحجر المعز، وقد كان أسلافه يرومون كثيراً عنها فتمتنع عليهم فاستقام أمره واستفحل ملكه.
وقدم عليه معز الدولة بن صمادح من ألمرية فاراً أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس، فنزل على المنصور وأقطعه تدلس وأنزله بها. وهلك سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فولي من بعده إبنه باديس، فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأول ولايته، وخرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاماً عامل بجاية. وهلك قبل أن يستكمل سنة، وولي من بعده أخوه العزيز. وقد كان عزله عن الجزائر وغربه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل، وبايعوه وصالح زناتة وأصهر إلى ماخوخ فأنكحه إبنته. وطال أمر، ملكه، وكانت أيامه هدنة وأمناً. وكان العلماء يتناظرون في ونازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه وأخذوا بطاعته. ونازل تونس وصالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز وأخذ بطاعته، وكبس العرب في أيامه القلعة وهم
غارون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها، وعظم عيثهم، وقاتلتهم الحامية فغلبوهم وأخرجوهم من البلد. ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر إلى العزيز فبعث إبنه يحيى وقائده على بن حمدون من بجاية في عسكر وتعبية، فوصل إلى القلعة وسكن الأحوال. وقد أمن العرب واستعتبوا فأعتبوا وانكفأ يحيى راجعاً إلى بجاية في عسكره. وعلى عهد العزيز هذا كان وصول مهدي الموحدين إلى بجاية قافلاً من المشرق سنة إثنتي عشرة وخمسمائة، وغيّر بها المنكر فسعى به عند العزيز وإئتمر به، فخرج إلى بني ورياكل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه. ونزل عليهم بملالة وأقام بها يدرس العلم. وطلبه العزيز فمنعوه وقاتلوه دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب.
وهلك العزيز سنة خمس عشرة وأربعمائة فولي من بعده إبنه يحيى، وطالت أيامه مستضعفاً مغلباً للنساء مولعاً بالصيد، على حين انقراض الدولة وذهاب الأيام بقبائل صنهاجة، واستحدث السكة ولم يحدثها أحد من قومه أدباً مع خلفائهم العبيديين ونقل ابن حماد أن سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه، فدائرة الوجه الواحد: "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا بظلمون " والسطور" لا إله إلا الله محمد رسول الله، يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز بالله الأمير المنصور. ودائرة الوجه الآخر" بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينار بالناصريّة سنة ثلاث وأربعين وستمائةوخمسمائة." وفي سطوره: الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العباسي. ووصل سنة ثلاث وأربعين وستمائةوخمسمائة إلى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي بها وانتقض عليه بنو زرا ابن مروان فجهز إليه الفقيه مطرف بن على بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة وتقبض على ابن مروان وأوصله إليه فسجنه بالجزائر إلى أن هلك فى معتقله ، وقيل قتله. وبعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها ونازل فى وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه، ورجع إلى بجاية. وتغلب النصارى على المهديّة، وقصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر وأنزله بها مع أخيه القائد، حتى إذا زحف الموحدون إلى بجاية وفر القائد من الجزائر وأسلمها. قدموا الحسن على أنفسهم. ولقي
عبد المؤمن فأمّنهم، وأخرج يحيى بن عبد العزيز أخاه سبع للقاء الموحدين فانهزم وملك الموحّدون بجاية.
وركب يحيى البحر إلى صقلية يروم الإجازة منها إلى بغداد. ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارث. ونكر عليه سوء صنيعه وإخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسنطينة فنزل على أخيه الحسن، فتخلى له عن الأمر. وفي خلال ذلك دخل الموحدون القلعة عنوة. وقتل حوشن بن العزيز وابن الدحامس من الأثبج معه وخربت القلعة. ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع وأربعين وستمائةوخمسمائة. ونزل عن قسنطينة واشترط لنفسه فوفّى له، ونقله إلى مراكش فسكنها. ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين وستمائة وخمسمائة فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته. وأما الحارث بن عبد العزيز صاحب بونة ففر إلى صقلية واستصرخ صاحبها فصارخه على أمره ورجع إلى بونة وملكها. ثم غلب عليها الموحدون وقتلوه صبراً. وانقرض ملك بني حماد والبقاء لله وحده ولم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم، وهم لهذا العهد في عداد الجند، ولهم اقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده، والله وارث الأرض ومن عليها اهـ.
خريطة ملوك بني حبوس الخبر عن ملوك بني حبوس بن ماكسن من بني زيري من صنهاجة بغرناطة من عدوة الأند لس و أولية ذلك ومصايره لما استبد باديس بن المنصور بن بلكّين بن زيري بن مناد بن هاد بولاية أفريقية سنة خمس وثمانين وثلثمائة ولى عمومته وقرابته ثغور عمله، فأنزل حماداً بأشير وأخاه يطوفت بتاهرت، وزحف زيري بن عطية صاحب فاس من مغراوة بدعوة المؤيد هشام خليفة قرطبة إلى عمل صنهاجة في جموع زناتة ونزل تاهرت وسرح باديس عساكره لنظر محمد بن أبي العون فالتقوا على تاهرت وانهزم صنهاجة فزحف باديس بنفسه للقائهم وخالف عليه فلفول بن سعيد بن خزرون صاحب طُبَنة. ثم أجفل زيري بن عطية امامه ورجع به إلى المغرب فرجع باديس إلى القيروان، وترك عمومته أولاد زيري بأشير معحماد وأخيه يطوفت وهم: زاوى وحلا ل وعرم ومعنين وأجمعوا على الخلاف والخروج على باديس سنة سبع وثمانين وثلثمائة، فأسلموا حماداً برمته واستولوا على جميع ما معه، واتصل الخبر بأبي البهار بن زيري وهم مع باديس فخشيه على نفسه ولحق بهم واجتمعوا في الخلاف، واشتغل باديس عنهم بحرب فلفول بن يانس مولى الحاكم القادم على طرابلس من قبله، وانفسح مجالهم في الفساد والعيث ووصلوا أيديهم بفلفول وعاقدوه. ثم رجع أبو البهار عنهم إلى باديس فتقبله وصالح له ثم رجعوا إلى حماد سنه إحدى وتسعين وثلثمائة، ولقيهم فهزمهم وقتل مساكن وابنه، ولحق زاوي بجبل شنوق، من ساحل مليانة، وأجاز البحر إلى الأندلس في بنيه وبني أخيه وحاشيته، ونزل على المنصور بن أبي عامر صاحب الدولة وكافل الخلافة الأموية فأحسن نزلهم وأكر وفادتهم، واصطنعهم لنفسه واتخذهم بطانة لدولته وأوليائه على ما يرومه من قهر الدوله والتغلب على الخلافة، ونظمهم في طبقات زناتة وسائر رجالات البربر الذين أدال بجموعهم من جنود السلطان وعساكر الأموية وقبائل العرب، واستغلظ أمر صنهاجة بالأندلس واستفحلت أمارتهم وحملوا دولة المنصور بن أبي عامر وولديه المظفر والناصر من بعده على كاهلهم.
ولما انقرض أمرهم واضمحلّت دولتهم ونشأت الفتنة بالأندلس بين البرابرة وأهلها فكان زاوي كبش تلك الوقائع ومحش حروبها. وتمرّس بقرطبة هو وقومه صنهاجة وكافة زناتة والبربر حتى أثبتوا قدم خليفتهم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر الذي أتوه ببيعتهم، وأعطوه على الطاعة صفقتهم كما ذكرناه في أخبارهم ثم اقتحموا به قرطبة عنوة واصطلموا عامة أهلها وأنزلوا المعرات بذوي الصون منها وبيوتات الستر من خواصها، فحدث الناس في ذلك بأخبارها. وتوصل زاوي عند استباحة قرطبة إلى رأس أبيه زيري بن مناد المتصور بجدران قصر قرطبة فأزاله وأصاره إلى قومه ليدفن في جدثه. ثم كان شأن بني حمود من العلويّة وافترق أمر البرابرة واضطرمت الأندلس ناراً، وامتلأت جوانبها فتنة، وأسرى الرؤساء من البرابرة ورجالات الدولة على النواحي والأمصار فملكوها، وتحيزت صنهاجة إلى ناحية ألبيرة فكانت ضواحيها لهم وحصل عليها استلاؤهم، وزاوي يومئذ عضد البرابرة فنزل غرناطة واتخذها داراً لملكته ومعتصماً لقومه.
ثم وقع في نفسه سوء أثر البربر بالأندلس أيام الفتنة، وحذر مغبة الفعلة واستعاضت الدولة فاعتزم على الرحلة واوى إلى سلطان قومه بالقيروان سنة عشر وأربعمائة بعد مغيبه عشرين سنة، وأنزل على المعز بن باديس حافد أخيه بلكين أجل ما كانت دولتهم بأمر أفريقية، وأترف وأوسع ملكاً وأوفر عدداً. فلقيه المعز بأحسن أحوال البر والتجلة، وأنزله أرفع المنازل من الدولة وقدمه على الأعمام والقرابة وأسكنه بقصره، وأبرز الحرم للقائة،
فيقال إنه لقيه من ذوات محارمه ألف امرأة لا تحل له واحدة منهن، ووارى إبراهيم مع شلوه بجدثه، وكان استخلف على عمله إبنه ونا، فظعن لأهل غرناطة فانتقضوا عليه، وبعثوا عن حبوس ابن عمه ماكسن بن زيري مكانه ببعض حصون عمله، فبادر إليهم ونزل بغرناطة فانتقضوا عليه وبايعوه، واستحدث بها ملكاً، وكان من أعظم ملوك الطوائف بالأندلس إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
وولي من بعده ابنه باديس بن حبوس ويلقب بالمظفر، ولم يزل مقيماً لدعوة آل حمّود أمراء مالقة بعد تخلفهم عن قرطبة سائر أيامه وزحف إليها العامري صاحب المرية سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فلقيه باديس بظاهر غرناطة فهزمه وقتله، وطالت
أيامه ومد ملوك الطوائف أيديهم جميعاً إلى مدده، فكان ممن استمده محمد بن عبد الله البرزالي لما حاصره إسمعيل بن القاضي بن عباد بعساكر أبيه، فأمده باديس بنفسه وقومه وصار إلى صريخه مع ابن بقية قائد إدريس بن حمود صاحب المالقة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ورجعوا من طريقهم، وطمع إسمعيل بن القاضي بن عباد مع صريخه فيهم فاتبعهم ولحق بباديس في قومه فاقتتلوا وفر عسكر إسمعيل وأسلموه فقتله صنهاجة، وحمل رأسه إلى ابن حمود.
وكان القادر بن ذي النون صاحب طليلة أيضاً يستدفع به وبقومه استطالة ابن عباد وأعوانه. وباديس هذا هو الذي مصّر غرناطة واختط قصبتها وشاد قصورها وشيد حصرنها، وآثاره في مبانيها ومصانعها باقية لهذا العهد. واستولى على مالقة عند انقراض بز حمود سنة تسع وأربعين وستمائةوأربعمائة وأضافها إلى عمله، وهلك سنة سبع وستين وأربعمائة. وظهر أمر المرابطين بالمغرب، واستفحل ملك يوسف بن تاشفين فولي من بعده حافده عبد الله بن بلكّين بن باديس. وتغلب المظفر وعقد لأخيه تميم على مالقة فاستقام أمرها إلى أن أجاز يوسف بن تاشفين إلى العدوة إجازته المعروفة كما نذكره في أخباره ونزل بغرناطة سنة ثلاث وثمانين فتقبض على عبد الله بن بلكين، واستصفى أمواله وذخيرته، وألحق به أخاه تميماً من مالقة واستصحبها إلى العدوة. فأنزل عبد الله وتميماً بالسوس الأقصى وأقطع لهما إلى أن هلكوا في إيالته. ويزعم بنو الماكسن من بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحل ملك بلكانة من صنهاجة ومن أفريقية والأندلس أجمع، والبقاء لله وحده. اهـ.
الطبقة الثانية من صنهاجة وهم الملثمون وما كان لهم بالمغرب من الملك والدولة: هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثّمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب، أبعدوا فى المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أوّلها، فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها، واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذاً عن العمران واستئناسا بالانفراد وتوحشاً بالعز عن الغلبة والقهر. فنزلوا من ريف الحبشة جواراً، وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزا، واتخذوا اللثام خطاماً تميزوا بشعاره بين الأمم، وعفوا في تلك البلاد وكثروا. وتعددت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوفة فوتريكة فناوكا فزغاوة ثم لمطة إخوة صنهاجة كلهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة. وللمتونة فيهم بطون كثيرة منهم: بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة، وكان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كأكدم، وكان دينهم جميعاً المجوسيّة شأن برابرة المغرب. ولم يزالوا مستقرين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس، وكانت الرياسة فيهم للمتونة. واستوسق لهم ملك ضخم منذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارثة ملوك منهم. تلاكاكين وورتكا وأوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدأ دولتهم، وطالت أعمارهم فيها إلى الثمانين ونحوها، ودوخوا تلك البلاد الصحراوية، وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام، فدان به كثيرهم. واتقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم وملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور ثيولوتان. (قال) ابن أبي زرع: أول من ملك الصحراء من لمتونة ثيولوتان، فدّوخ بلاد الصحراء واقتضى مغارم السودان. وكان يركب في مائة ألف نجيب. وتوفي سنة إثنتين وعشرين ومائتين، وملك بعده يلتان وقام بأمرهم وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست وثلثمائة وقتله صنهاجة وافترق
أمرهم. انتهى كلام ابن أبي زرع. وقال غيره: كان من أشهرهم تينزوا بن وانثبق بن بيزا وقيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة. وفي عهد عبيد الله وابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة، كان يركب في مائة ألف نجيب وعمله مسيرة شهرين في مثلها. ودان له عشرون ملكاً من ملوك السودان يعطونه الجزى، وملك من بعده بنوه ثم افترق أمرهم من بعد ذلك، وصار ملكهم طوائف ورياستهم شيعاً. قال ابن أبي زرع: افترق أمرهم بعد تميم بن بلتان مائة وعشرون سنة إلى أن قام فيهم أبو عبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني فاجتمعوا عليه وأحبوه وكان من أهل الدين والصلاح، وحج وهلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته. وقام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي. وبعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين. اهـ كلامه. وكان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب والأندلس أولاً، وبأفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه.
دولة المرابطين من لمتونة
الخبر عن دولة المرابطين من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك و أولية ذلك ومصايره كان هؤلاء الملثمون في صحاريهم كما قلناه وكانوا على دين المجوسيّة إلى أن فى فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه، وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم واستوسق لهم الملك. ثم افترقوا وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص. فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق بن منصور بن مصالة بن المنصور بن مزالت بن أميت بن رتمال بن ثلميت وهو لمتونة. ولما أفضت الرياسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي، وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء، وتظاهروا على أمرهم. وخرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين وأربعمائة، فلقوا في
منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي، واغتنموا ما متعوا به من هديه، وما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاويه.
وسأله الأمير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم. فندب تلميذه إلى ذلك حرصاً على إيصال الخير إليهم لما رأى من رغبتهم فيه، فاستوعروا مسغبة بلادهم. وكتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك بن زلوا اللمطي بسجلماسة من الاخذين عنه، وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه، ويروض نفسه على مسغبة أرضهم في معاشه، فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، ووصل معهم يعلمهم القرآن ويقيم لهم الدين. ثم هلك يحيى بن إبراهيم وافترق أمرهم، واطرحوا عبد الله بن ياسين، واستصعبوا علمه وتركوا الأخذ عنه لما تجشموا فيه من مشاق التكليف، فأعرض عنهم وترهب. وتنسّك معه يحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة وأخوه أبو بكر، فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحاً في المصيف وغمراً في الشتاء، فتعود جزراً منقطعة. فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة، وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير، فتسايلوا إليهم ودخلوا في دينهم وغيضتهم. ولما كمل معهم ألف من الرجالات، قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين إن ألفاً لن تغلب من قلة، وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه، فأخرجوا بنا لذلك، فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة ومهمومة، حتى أنابوا إلى الحق واستقاموا على الطريقة، وأذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين، وسماهم بالمرابطين وجعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر، فتخطوا الرمال الصحراوية إلى بلاد درعة وسجلماسة، فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا. ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين أمراء، سجلماسة من مغراوة وحرضهم على تغيير أمرهم، فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وستمائةوأربعمائة في عدد ضخم ركباناً على المهارى أكثرهم وعمدوا إلى درعة. لا بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز خمسين ألفاً ونحوها. ونهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة، وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها
وعن بلاده، فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل واستلحم عسكره مع
أموالهم، واستلحمهم ودوابهم وإبل الحمى التي كانت ببلد درعة. وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلاباً، وقتلوا من كان بها من فل مغراوة، وأصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس، واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم. فهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين وستمائة وستمائة، وقدم مكانه أخاه أبا بكر، وندب المرابطين إلى فتح المغرب فغزا بلاد السوس سنة ثمان وأربعين وستمائةوأربعمائة. وافتتح ماسة وتارودانت وجميع معاقله. ثم افتتح مدينة أغمات سنة تسع وأربعين وستمائةوأربعمائة وفر أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي إلى تادلاً، واستضاف إلى بني يفرن بها، ثم افتتح المرابطون بلاد المصامدة بجبال درن، وجاسوا خلالها سنة خمسين، ثم أغزوا تادلاً فاستباحوها واستلحموا بني يفرن ملوكها، وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب أغمات. وتزوج امرأته زينب بنت اسحق النفراوية، وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة، وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن واطاس، وكان شيخاً على وريكة وهي زوجة هيلانة في دولة أمغارن في بلاد المصامدة وهم الشيوخ. وتغلب بنو يفرن على وريكة وملكوا أغمات فتزوج لقوط زينب هذه، ثم تزوجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا. ثم دعا المرابطين إلى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا وإنفاً وجهات الريف الغربي فكانت لهم فيهم وقائع وأيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين وأربعمائة. وقدأم المرابطين بعده سليمان بن حرب ليرجعوا إليه في قضايا دينهم. واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم، ثم استأصل شأفتهم، ومحا أثر دعوتهم من المغرب وهلك في جهادهم سليمان بن عدو سنة إحدى وخمسين وستمائة وأربعمائة لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين. ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة إثنتين وخمسين وستمائة وأربعمائة. وبلغه وهو لم يستتم فتح المغرب بعدما وقع من الخلاف بين لمتونة ومسوفة ببلاد الصحراء، حيث أصل أعياصهم ووشايج أعراقهم ومنيع عددهم فخشي افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة، وتلافى أمره بالرحلة. وأكد ذلك زحف
بفكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث وخمسين وستمائة وأربعمائة لقتالهم، فارتحل أبو بكر إلى الصحراء، واستعمل على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين، ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحق، ولحق بقومه. ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة، وفتح باباً من جهاد السودان فاستولى على نحو تسعين مرحلة من بلادهم.
وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب، ونزل بلكّين صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة، وانكفأ راجعاً. فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوخ أقطار المغرب. ثم رجع أبو بكر إلى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبد عليه. وأشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله وأن يعد له متاع الصحراء وماعونها، ففطن لذلك الأمير أبو بكر، وتجافى عن المنازعة وسلم له الأمر، ورجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة. واختط يوسف مدينة مرّاكش سنة أربع وخمسين وستمائة وأربعمائة، ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه، وكمل تشييدها وأسوارها ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مرّاكش لنزله لعسكره وللتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشذ منهم ولا أكثر جمعاً. ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب، وجذب الحبل من أيديهم، وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم، فقد كانوا من ذلك على ألم( حدث المؤرخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه) فنازل أولاً قلعة فازاز، وبها مهدي بن توالي من بني يحفش. قال صاحب نظم الجواهر: وهم بطن من زناتة، وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده، فنازله يوسف بن تاشفين. ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكرنامي صاحب مكناسة بما كان عدواً لمعنصر المغراوي صاحب فاس،
فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس، وجمع إليه معنصر ففض جموعه، وارتحل يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها، وأقام عليها أياماً قلائل، وظفر بعاملها بكار بن إبراهيم فقتله. ثم نهض إلى صفروي فافتتحها وقتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين وستمائة وأربعمائة، ثم خرج إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيراً من بلادهم. وأشرف على طنجة، وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة وبقية الأمراء من موالي الحمّودية وأهل دعوتها. ثم رجع إلى منازلة قلعة فازاز، وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل عاملها.
واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما، وناجزه الحرب ففض جموعه وقتله، وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدته الحاجب سكوت البرغواطي. واستصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها وألحوا بالقتال عليها فمسهم الجهد. وبرز معنصر إلى مناجزة عدوه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك. واجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية، كانوا ملوكاً بتازا وتسول، فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي صفير فكان الظهور لزناتة. واستلحم كثير من المرابطين، واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي من بلاد فازاز فارتحل سنة ست وخمسين وستمائة وأربعمائة، ونزل عليها معسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب، فافتتح بني مراسن ثم قبولادة، ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين وستمائة وأربعمائة ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين وأربعمائة. وفي سنة إثنتين وستين وأربعمائة نازل فاس فحاصرها مدة ثم افتتحها عنوة وقتل بمفازتها ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات، وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان وأمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين والأندلسيين من عدوتيها، وصيرها
مصراً واحداً. وأدار عليها الأسوار، وحمل أهلها على الاستكثار من المساجد، ورتب بناءها. وارتحل سنة ثلاث وستين وأربعمائة إلى وادي ملوية فافتتح بلادها وحصون وطاط من نواحيها. ثم نهض سنة خمس وستين وأربعمائة إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة، ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة. ثم نهض سنة سبع وستين وأربعمائة إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحهما ودوخها. ثم اقتسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء تومه وذويه، ثم استدعاه المعتمد بن عباد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي وقومه من أولياء الدولة الحمودية بسبتة، فأعاد إليه ابن عباد الرسل بالمشايعة إليهم فجهز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة، فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه، ومعه إبنه ضياء الدولة فانكشف وقتل الحاجب سكوت، ولحق إبنه العزيز ضياء الدولة. وكتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين. ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قائده مزدلي بن تبلكان بن محمد بن وركوت من عشيره في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان، وبها يومئذ الأمير العباس بن بختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر، فدوخوا المغرب الأوسط وصاروا في بلاد زناتة وظفروا بيعلى بن الأمير العباسي فقتلوه، وانكفأوا راجعين من غزاتهم. ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بعدها إلى الريف، وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرب مدينة نكور فلم تعمر بعد، ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجدة وبلاد بني يزتاسن. ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة، وقتل العباس بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن تيعمر المستوفى بها في عساكر المرابطين، فصارت ثغراً لملكه. ونزل بعساكره واختط بها مدينة تاكرارت بمكان محلته، وهو إسم المحلة بلسان البربر. ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر، وانكفأ راجعاً إلى المغرب فاحتل مراكش سنة خمس وسبعين وأربعمائة. ولم يزل محمد بن تينعمر والياً بتلمسان إلى أن هلك، وولي بعده أخوه تاشفين.
ثم إن الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر، وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليلة، وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد، وتسلمها منه صلحا سنة ثمان وسبعين وأربعمائة على أن يملكه بلنسية، فبعث معه عسكراً من النصرانية فدخل بلنسية وتملكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليطلة. وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف، وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها. ثم نازل سرقسطة وضيق على ابن هود بها، وطال مقامه وامتد أمله إلى تملكها فخاطب المعتمد بن عباد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منتجزاً وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية.
وكاتبه أهل الأندلس في كافة من العلماء والخاصة فاهتز للجهاد وبعث إبنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها براً. وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحراً فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتقبض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبراً، وكتب إلى أبيه بالفتح. ثم أجاز ابن عباد البحر في جماعته والمرابطين، ولقيه بفاس مستنفراً للجهاد. وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضراء لتكون رباطاً لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ولقيه المعتمد ابن عباد وابن الأفطس صاحب بطليوس. وجمع ابن أدفونس ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله، ولقي المرابطين بالزلاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكراً بالإشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيره، ويعرف أبوه بالحاج وكان محمد من بطانته وأعاظم قواد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس، ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئاً فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد يوسف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة. وخلع ابن رشيق صاحب مرسية، وتمادى إلى دانية ففر علي بن مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه، ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغرياً بالقادر بن ذي النون فأنفذ معه
معسكراً وملك بلنسية، وقتل ابن في النون، وذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية، واتصل حصاره إياها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ثم استخلصتها عساكر المرابطين وولى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي، وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين وأربعمائة، وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم. من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فوجد عليهم، وعهد برفع المكوس وتحرى المعدلة، فلما أجاز انقبضوا عنه إلا ابن عباد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم، فتقبض على ابن رشيق فأمكن ابن عباد منه العداوة التي بينهما.
وبعث جيشاً إلى المرية ففر عنها ابن صمادح ونزل على المنصور بن الناصر ببجاية، وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلاته فساء نظره، وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل الغزالي والطرطوشي فعهد إلى غرناطة واستنزل "صاحبها عبيد الله بن بلكين بن باديس وأخاه تميما من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين. وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عباد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما. ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها وعقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس وأجازه فقدم عليها، وقعد ابن عباد عن تلقيه ومبرته فأحفظه ذلك، وطالبه بالطاعة للأمير يوسف والنزول عن الأمر ففسد ذات بينهما وغلبه على جميع عمله. واستنزل أولاد المأمون من قرطبة ويزيد الرايض من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم. وصمد إلى إشبيلية فحاصر المعتمد بها وضيق عليه، واستنجد الطاغية فعمد إلى استنقاذه من هذا الحصار فلم يغن عنه شيئاً وكان دفاع لمتونة مما فت في عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عليه عنوة سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وتقبض على المعتمد وقاده أسيراً إلى مراكش فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة، ثم عمد إلى بطليوس وتقبض على صاحبها
عمر بن الأفطس فقتله وإبنيه يوم الأضحى سنة تسع وثمانين بما صحّ عنده من مداخلتهم الطاغية وأن يملكوه مدينة بطليوس، ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وأربعمائة وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه وكان الظهور للمسلمين.
ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وانضمّ إليه محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر واقتحموا عامة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف، ولم يبق منها إلا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصماً بالنصارى. وغزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع. وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين، وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن واستولى على العدوتين، واتصلت هزائم النصارى على يد المرابطين مراراً وتسمى بأمير المسلمين، وخاطب المستنصر العباسي الخليفة لعهده ببغداد وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس فعقد له وتضمن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولاً في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم. وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله. ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وقد كان ما قدمناه في أخبار بني حماد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن يتنعمر وافتتاحه أكثر بلادهم، فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة وبعث إليهما مزدلي من بلنسية، وولي بلنسية عوضاً عنه أبا محمد ابن فاطمة، وكثرت غزواته في بلاد النصرانية. وهلك يوسف على رأس المائة الخامسة وقام بالأمر من بعده إبنه علي بن يوسف فكان خير ملك، وكانت أيامه صدراً منها وادعة ولدولته على الكفر وأهله ظهور وعزة وأجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدو
قتلاً وسبياً، وولى على الأندلس الأمير تميم بن... وجمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم، ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث ونازل طليطلة. وأثخن في بلاد النصارى ورجع، وعلى أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيداً وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه.
ثم كان سنة تسع وخمسمائة شأن برقة وتغلّب أهل جنوة عليها وأخلوها. ثم رجع العمران إليها على يد ابن تامرظست من قواد المرابطين كما مر في ذكرها عند ذكر الطوائف، ثم استمرت حال علي بن يوسف في ملكه وعظم شأنه، وعقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست وعشرين وخمسمائة وأنزله قرطبة وإشبيلية، وأجاز معه الزبير بن عمر، وحشد قومه وعقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوفي على شرق الأندلس وأنزله بلنسية، وهو ممدوح بن خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ. وعقد لابن غانية المسوقي على الجزائر الشرقية دانية وميورقة، واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحدين، فقيهاً منتحلاً للعلم والفتيا والتدريس، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر متعرضاً بذلك للمكروه في نفسه. ونالته ببجاية وتلمسان ومكناسة اذايات من الفسقة ومن الظالمين، وأحضره الأمير علي بن يوسف للمناظرة ففلج علي خصومه من الفقهاء بمجلسه، ولحق بقومه هرغة من المصامدة. واستدرك علي بن يوسف رأيه فتفقده وطالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرح إليهم البعث فأوقعوا به وتقاسم معهم هنتاتة وتينملل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم. وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقام بأمرهم عبد المؤمن بن عليّ الكومي كبير أصحابه بعهده إليه، وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مراراً. وفشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية، وظهر أمر الموحدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب. وهلك عليّ بن يوسف سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وقام بالأمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده، وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ
أمر الموحدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه.
وغزا عبد المؤمن غزوته الكبرى إلى جبال المغرب، ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان. ونازله عبد المؤمن والموحدون بكهف الضحاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها، ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب، وشرهوا إلى مدافعة الموحدين فغلبوهم. وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفر تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله. واتبعه ا الموحدون واقتحموا عليه البلد فهلك، يقال سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة. واستولى الموحدون على المغرب الأوسط واستلحموا لمتونة. ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفاً عاجزاً فخلع وبويع عمّه إسحق بن عليّ بن يوسف بن تاشفين. وعلى هيئة ذلك وصل الموحدون إليها وقد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه، فخرج إليهم في خاصته فقتلهم الموحدون، وأجاز عبد المؤمن والموحدون إلى الأندلس سنة إحدى وخمسين وستمائة خمسمائة وملكوا، واستحلموا أمراء لمتونة وكافتهم وفروا في كل وجه، ولحق فلهم بالجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جددوا من بعده للملك بناحية أفريقية، والله غالب على أمره.
دولة ابن غانية
الخبر عن دولة ابن غانية من بقية المرابطين وما كان له من الملك والسلطان بناحية قابس وطرابلس واجلابه علي الموحدين ومظاهرة قراقش الغزي له علي أمره وأولية ذلك ومصايره كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل الملثمين حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين أمامهم، وتحول عنهم إلى لمتونة وأقصر عن دعوته وتنسك وترهب كما قلناه، حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمر وأبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رئاسة لمتونة. واتبعهم الكثير من قومهم وجاهدوا معه سائر قبائل الملثمين، وكأن مسوفة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظ من الرئاسة والظهور. وكان يحيى المسوفي من رجالاتهم وشجعانهم، وكان مقدماً عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه. واتفق أنه قتل بعض رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهم فتثاور الحيان وفر هو إلى الصحراء ففدى يوسف بن تاشفين القتيل ووداه، واسترجع علياً من مفره لسنين من مغيبه، وأنكحه امرأة من أهل بيته تسمى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك فولدت منه محمداً ويحيى ونشأ في ظل يوسف بن تاشفين وحجر كفالته. ورعى لهما عليّ بن يوسف ذمام هذه الأواصر، وعقد ليحيى على غرب الأندلس وأنزله قرطبة. وعقد لمحمد على الجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة سنة عشرين وخمسائة، وانقرض بعد ذلك أمر المرابطين. وتقدم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن، وبعث معهم أبا إسحق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموحدين وعقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم، فملك إشبيلية واقتضى طاعة يحيى بن عليّ بن غانية، واستنزله عن قرطبة إلى جيان والقلعة فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمنونة، ويحملهم على طاعة الموحدين فهلك هنالك سنة ثلاث وأربعين وستمائةخمسمائة ودفن بقصر باديس. وأما محمد بن علي فلم يزل والياً إلى أن هلك وقام بأمره بعده ابنه عبد الله. ثم هلك وقام بالأمر أخوه إسحق بن محمد بن عليّ. وقيل إن إسحق ولي بعد ابنه محمد وأنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه فقتلهما معاً، واستبد بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين وخمسائة. وخلف ثمانية من الولد وهم محمد وعليّ ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة، فقام بالأمر إبنه محمد. ولما أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم، ولحين وصوله نكر ذلك إخوته وتقبضوا عليه واعتقلوه. وقام بالأمر أخوه عليّ بن محمد بن عليّ وتلوموا في رد ابن الزبرتبر إلى مرسله، وحالوا بينه وبين الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري استشهد في الجهاد بأركش من العدوة، وقام بالأمر ابنه يعقوب واعتقلوا
ابن الزبرتيروركبوا البحر في إثنتين وثلاثين قطعة من أساطيلهم وأسطوله، وركب معه إخوته يحيى وعبد الله والغازي وولي على ميورقة عمه أبا الزبير، وأقلعوا إلى بجاية فطرقوها على حيى غفلة من أهلها، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان بايميلول مر خارجها في بعض مذاهبه، فلم تمانعه أهل البلد واستولوا عليها من صفر سنة إحد وثمانين وخمسمائة، واعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن كان قافلا من أفريقية يؤم المغرب واكتسحوا ما كان بدار السادة والموحدين.
وكان والي القلعة قاصداً مراكش وهو يستخبر خبر بجاية فرجع وظاهر السيد الربيع، وزحف إليهما علي بن غانية فهزمهما، واستولى على أموالهم أسريا ولحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذ فى تحصين تلمسان ورم أسوارها وأقاما عند السيد يرومان الكرة من صاحب تلمسان. وعاس عليّ بن محمد بن غانية في الأموال وفرقها في ذؤبان العرب ومن انضاف إليهم، ورحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها يحيى بن أبي طلحة. ثم افتتح مازونة وانتهى إلى مليا فافتتحها وولى عليها بدر بن عائشة. ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثاً ودخلها عنوة وكانت له في المغرب خطة مشهورة. ثم قصد قسنطينة فامتنعت عليه واجتمعت عليه وفود العرب فاستنجدهم وجاؤا بأحلافهم. ولما اتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو سرح العساكر في البر لنظر السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وعقد له على المغرب الأوسط. وبعث الأساطيل إلى البحر وقائدها أحمد الصقلّي وعقد عليها لأبي محمد بر إبراهيم بن جامع وزحفت العساكر من كل جهة، فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة ومن معه وأمكنوا منهم السيد أبا يزيد فقتلهم على شلف وعفا عن يحيى لنجده عمه طلحة وكان بدر بن عائشة أسرى من مليانة واتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو فتقبضو عليه بعد قتال مع البرابرة حين أرادوا إجارته، وتادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله. وسبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية وفر إلى أخيه عليّ لمكانه من حصار قسنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها. ونزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية، وأطلى السيد أبا موسى من معتقله. ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة بعد أن كان أخذها ومضى شديداً في الصحراء، والموحدون في اتباعه حتى انتهوا إلى مغرة ونغارس. ثم نقلوا إلى بجاية واستنفر السيد أبا زيد بها وقصد علي
بن غانية في قفصة فملكها ونازل بورق وقصطيلة فامتنعت وارتحل إلى طرابلس وفيها قراقش الغزي المطغري، وكان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته أن صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن نكون له معقلاً يتحصّن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الذي كان صلاح الدين عمه من وزرائه. واستعجلوا النصر فخشوا عاديته. ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففر قراقش الأرمني بطائفة من جنوده. وفر إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظم نسبة للملك المعظم شمس الدولة ابن أيوب أخي صلاح الدين. فأما قراقش فلحق بسنترية، وافتتحها وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة وخطب فيها لصلاح الدين ولأستاذه تقي الدين. وكتب لهما بالفتح وافتتح زويلة وغلب بني خطاب الهواري على ملك فزان، وكانت ملكاً لعمه محمد بن الخطاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطاب وهو آخر ملوكهم، وكانت قاعدة ملكه زويلة. وتعرف زويلة ابن خطاب فتقبض عليه وغلبه على المال حتى هلك، ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل إلى طرابلس واجتمع عليه عرب ذياب بن سليم. ونهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه واستخلص أموال العرب واتصل به مسعود بن زمام شيخ الذواودة من رياح عند مفره من المغرب كما ذكرناه. واجتمعت أيديهم على طرابلس وافتتحها واجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال وسليم. وفرض لهم العطاء، واستبد بملك طرابلس وما وراءها، وكان قراقش من الأرمن، وكان يقال له المظفري لأنه مملوك المظفر والناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين. وكان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم، ويكتب علامة الظهيره بخطه: وثقت بالله وحده أسفل الكتاب. وأما إبراهيم بن قراقش صاحبه فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها وراسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن فدخلها وخطب للعباسي ولصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحدين.
رجع الخبر إلى ابن غانية: ولما وصل علي بن غانية إلى طرابلس ولقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحدين واستمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب وما جاورهم من مجالاتهم ببرقة وخالطوه في ولايتهم، واجتمع إليه من كان منحرفاً عن طاعة الموحّدين من قبائل هلال مثل: جشم ورياح والأثبج. وخالفتهم زغبة إلى الموحدين فاعتقلوا بطاعتهم سائر أيامهم. ولحق بابن غانية فل قومه من لمتونة ومنونة من أطراف البقاع، فانعقد أمره وتجدد بذلك القطر سلطان قومه. وجدد رسوم الملك واتخذ الآلة وافتتح كثيراً من بلاد الجريد وأقام فيها الدعوة العباسية. ثم بعث ولده وكاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيء ببغداد، مجدداً ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة والطاعة وطلب المدد والإعانة، فعقد له كما كان لقومه وكتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر والشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب، فجاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش واتصل أمرهما في إقامة الدعوة العباسية. وظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أبي الحسن، وولى عليها مولاه وجعل فيها ذخائره. ثم اتصل بها إلى أن وصل إلى قفصة خلعوا طاعة ابن غانية فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة. ثم رحل إلى توزر وقراقش في مظاهرته فافتتحها أيضاً. ولما اتصل بالمنصور ما نزل بأفريقية من أجلاب ابن غانية وقراقش على بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان وثمانين وخمسمائة لحسم هذا الداء واستنقاذ ما غلبوا عليه. ووصل إلى تونس فأراح بها وسرح في مقدمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحدين فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده فانهزم الموحدون وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم، وأسر علي بن الزبرتير في آخرين وامتلأت أملاك العدو من أسلابهم ومتاعهم. ووصل سرعان الناس إلى تونس، وصمد المنصور إليهم فأوقع
بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته. وأفلت ابن غانية وقراقش بحومة الوفر وبادر أهل قابس وكانت خالصة لقراقش دون ابن غانية فأتوا طاعتهم وأسلموا من كان عندهم من أصحابه وذويه فاحتملوا إلى مراكش، وقصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية. وبادر أهلها بالطاعة.
ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، وقتل من كان بها من الحشود. وقتل إبراهيم بن قراتكين. وأمتن على سائر الأعوان وخلى سبيلهم، وأمّن أهل البلد في أنفسهم وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة. ثم غزا العرب واستباح حللهم وأحياءهم حتى استقاموا على طاعته. وفر ذو المراس كثير الخلاف والفتنة منهم إلى المغرب مثل: جشم ورياح والعاصم كما قدمناه. وقفا إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ورجع ابن غانية وقراقش إلى حالهما من الأجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك علي في بعض حروبها مع أهل نفزاوة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك وعفى على قبره، وحمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها. وقام بالأمر أخوه بحيى بن إسحق بن محمد بن غانية وجرى في مظاهرة قراقش وموالاته على سنن أخيه علي. ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحدين سنة ست وثمانين وخمسمائة فهاجر إليهم بتونس وتقبله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأقام معه أياماً. ثم فر ووصل إلى قابس فدخلها مخادعة وقتل جماعة منهم، واستبد على أشياخ دباب والكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين. كان منهم محمود بن طوق أبو المحاميد، وحميد بن جارية أبو الجواري. ونهض إلى طرابلس فافتتحها ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها، ثم فسد ما بينه وبين يحيى بن غانية. وسار إليه يحيى فانتهز قراقش ولحق بالجبال وتوغل فيها، ثم فر إلى الصحراء ونزل ودان ولم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدة وجمع عليه أهل الثأر من ذباب، واقتحمه! عليه عنوة وقتله ولحق ابنه بالموحدين. ولم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر. ثم فر إلى ودان وأجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست وخمسين وستمائة وخمسمائة. (رجع الخبر): واستولى ابن غانية على الجريد، واستنزل ياقوت فولى قراقش من
طرده، كذا ذكره التجاني في رحلته. ولحق ياقوت بطرابلس، ونازله ابن غانية بها، وطال أمر حصاره. وبالغ ياقوت في المدافعة، وبعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمده أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس، وأشخص ياقوت إلى ميورقة واعتقل بها إلى أن أخذها الموحدون. وكان من خبر ميورقة أن عليّ بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية نرك أخاه محمداً وعلي بن الزبرتير في معتقلهما. فلما خلا الجو من أولاد غانية وكثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة، وثاروا بدعوة محمد وحاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحق فأطلق من معتقله، وصار
الأمر له فدخل في دعوة الموحّدين، ووفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور. وخالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحق، ركب البحر من أفريقية إلى صقلية وأمدوه بأسطول، ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها، ولم يزل بها والياً. وبعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه، وبعثوا إليه ياقوت فاعتقله عنوة إلى أن غلب عليه الموحدون سنة تسع وتسعين وخمسمائة فقتل. ومضى ياقوت إلى مراكش وبها مات. (رجع الخبر): ولما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولى عليها تاشفين ابن عمه الغازي، وقصد قابس فوجد بها عامل الموحدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، فاستدعاه أهلها لما فر عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس، وضيق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلي سبيل ابن تافراكين فعقد لهم ذلك وأمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأغرمهم ستين ألف دينار، وقصد المهدية سنة سبع وتسعين وخمسمائة فاستولى عليها وقتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الركراكي. (وكان من خبره) أنه نشأ بالمهدية وصار من جندها المرتدين وهو كوفي الأصل، وكانت له شجاعة معروفة فجمع لنفسه خيلاً ورجالاً، وصار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة وبعد في ذلك صيته وأمده الناس بالدعاء. وقدم أبو سعيد بن أبي حفص على أفريقية من قبل المنصور لأول ولايته، وولى على المهدية أخاه يونس. وطالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم. وامتنع
فأنزل به النكال وعاقبه بالسجن فدبر ابن عبد الكريم الثورة وداخل فيها بطانته وتقبض على أبي علي يونس سنة خمس وتسعين وخمسمائة واعتقله إلى أن فداه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العين واستبد ابن عبد الكريم بالمهدية ودعا لنفسه وتلقب المتوكل على الله. ثم وصل السيد أبو زيد بمن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن والياً على أفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست وتسعين وخمسمائة واضطرب معسكره بحلق الوادي وبرز إليه جيوش الموحدين فهزمهم وطال حصاره لهم. ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك، وارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدّة.
ثم ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في أتباعه، فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق بالمهدية، وحاصره ابن غانية بها سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأمده السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه وخرج إليه فقبض عليه ابن غانية وهلك في اعتقاله، واستولى على المهدية واستضافها إلى ما كان بيده من طرابلس وقائى وصفاقس والجريد. ثم نهض إلى الجانب الغربي من أفريقية فنازل باجة، ونصب عليها المجانيق، وافتتحها عنوة وخربها، وقتل عاملها عمر بن غالب، ولحق شريدها بالأربس وشقبنارية، وتركها خاوية على عروشها وبعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد فزحف إليها ابن غانية ثانية ونازلها، وزحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسنطينة، وانهزم الموحدون واستولى على معسكرهم. ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها وقطع أيدي أهلها وتقبض على حافظها أبي الحسن ابن أبي يعلى، وتملك بعدها بلنسية والقيروان وبايعه أهل بونة، ورجع إلى المهدية وقد استفحل ملكه، فأزمع على حصار تونس، وارتحل إليها سنة تسع وتسعين وخمسمائة، واستعمل على المهدية ابن عمه علي بن الغازي، ويعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية، ونزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس ونزل أخوه بحلق الوادي. ثم ضايقوها بمعسكرهم وردموا خندقها ونصبوا المجانيق والآلات، واقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة، وقبض على السيد أبي زيد وابنيه ومن كان معه من الموحّدين، وأخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار، وولى
بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور وأبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك، فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت واستعجل القتل فيما نقل أن إسمعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في بئر فهلك، فرفع الطلب ببقيتها عنهم.
وارتحل إلى نفوسة والسيد أبو زيد معتقل في معسكره، ففعل بهم مثل ذلك، وأغرمهم ألف ألف مرتين من الدنانير، وكثر عيثه وإضراره بالرعنة، وعظم طغيانه وعتوه. واتصل بالناصر بمراكش ما دهم أهل أفريقية منه ومن ابن عبد الكريم قبله، فامتعض لذلك ورحل إليها سنة إحدى وستمائة. وبلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهن على المظاهرة والدفاع. ونازل طرة من حصون مغراوة فاستباحها، وانتقل إلى حامة مطماطة. ونزل الناصر تونس ثم قفصة ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في جبل دمر، فرجع عنه إلى المهدية، وعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها. وسرح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحدين سنة إثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجورّا من نواحي قابس وأوقع به، وقتل أخاه جبارة بن إسحق واستنقذ السيد أبا زيد من معتقله، ثم افتتح الناصر المهديّة ودخل إليها علي بن الغازي في دعوته فتقبله، ورفع مكانه ووصله بهدية وافق وصولها من سبتة إليه على يد واصل مولاه وكان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله، ولم يزل معه إلى أن استشهد مجاهداً. وولى الناصر على المهدئة محمد بن يغمور من الموحدين ورجع إلى تونس. ثم نظر فيمن يوليه أمر أفريقية لسد فرجها والذب عنها، ومدافعة ابن غانية وجموعه دونها. فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره. ورجع الناصر إلى المغرب، وأجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحدين بتونس، وجمع ذؤبان العرب من الزواودة وغيرهم. وأوفد الزواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطان وتحيز بنو عوف بن سليم إلى الموحدين، والتقوا بشبرو من نواحي تبسة فانهزمت جموع ابن غانية، ولجأ إلى جهة طرابلس0
ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب والملثّمين فانتهى إلى سجلماسة، وامتلأت أيدي أتباعه من النهاب، وخرقوا الأرض بالعيث والفساد، وانكفأ إلى المغرب الأوسط وداخله المفسدون من زناتة، وأغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن، فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية، وقتله وأسر وافده وكر راجعاً إلى أفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد صاحب أفريقية في جموع الموحدين، واستنقذ الغنائم من أيديهم. ولجأ ابن غانية إلى جبال طرابلس، وهاجر أخوه سير بن إسحق إلى مراكش فقبله الناصر وأكرمه. ثم اجتمع إلى ابن غانية طوائف العرب من رياح وعوف وهيث ومن معهم من قبائل البربر، وعزم على دخول أفريقية. ونهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست وستمائة ولقيهم بجبل نفوسة ففلّ عسكرهم واستلحم أمرهم، وغنم ما كان معهم من الظهر والكراع والأسلحة. وقتل يومئذ محمد بن الغازي وجوار بن يفرن، وقتل معه ابن عمه من كتاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان، وهلك يومئذ من العرب الهلاليين أمير قرّة سمّاد بن نخيل.حكى ابن نخيل: أن مغانم الموحدين يومئذ من عساكر الملثّمين كانت ثمانية عشر ألفاً من الظهر فكان ذلك مما أوهن من شدته ووطى من بأسه. وثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه، وكان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم. وسار أبو محمد في نواحي أفريقية ودفع سلبهم واستثأر أشياخهم بأهلهم، وأسكنهم بتونس حسماً لفسادهم. وصلحت أحوال أفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة وستمائة، وولى أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن. ويقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد فاستطار بعد مهلكه ثور بن غانية، ونجم نفاقه وعيثه، فعابه رعيته ونهض إليه السيد أبو العلا ونزل قابس وأقام بقصر العروسيين وسرح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحدين إلى درج وغدامس، وسرح عسكراً آخر إلى ودان لحصار ابن غانية، فأرجف بهم العرب ونهضوا وهم بهم السيد أبو
العلا. وفر ابن غانية إلى الزاب، واتبعه السيد أبو زيد فنازل ببسكرة واقتحمها عليه. ونجا ابن غانية، وجمع أوباشاً من العرب والبربر، واتبعه السيد أبو زيد في الموحدين وقبائل هوارة، وتزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى وعشرين وستمائة فانهزم ابن غانية وجموعه، وقتل كثير من الملثّمين، وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم.
وكان لهوارة يومئذ، وأميرهم حناش بن بعرة بن ونيفن. في هذا الزحف أثر مذكور وبلاء حسن. وبلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس فانكف راجعاً، وأعيد بنوأبي حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بأفريقية. واستقل الأمير أبو زكريا منهم بأمرها، واقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن وتناولها من يد أخيه أبي محمد . عبد الله. وهذا الأمير أبو زكريا هو جد الخلفاء الحفصيّين وماهد أمرهم بأفريقية، فأحسن دفاع ابن غانية عنها وشرده في أقطارها. ورفع يده شيئاً فشيئاً عن النيل من أهلها ورعاياها. ولم يزل شريداً مع العرب بالقفار، فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب، والعقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية. واستولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة، وأوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة ومليانة، وقتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن وصلب شلوه بسور الجزائر. وكان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من أمارته سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقيل ثلاث وثلاثين، ودفن وعفى أثر مدفنه. يقال بوادي الرجوان قبلة الأربس ويقال بجهة مليانة من وادي شلف، ويقال بصحراء باديس ومديد من بلاد الزاب. وانقرض أمر الملثّمين من مسوقة ولمتونة ومن جميع بلاد أفريقية والمغرب والأندلس بمهلكه. وذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه وانقطاع أمره. وقد خلف بنات بعثهن زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر فوضعن في يده. وبلغه وفاة أبيهن وحسن ظنه في كفالته إياهنّ، فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهن، وبنى لهن بحضرته داراً لصونهن معروفة لهذا العهد
بقصر البنات.وأقمن تحت حراسته وفي سعة من رزقه موصولات لوصاة أبيهن بى بذلك منهن وحفظهنّ لوصاته. ولقد يقال إن ابن عم لهن خطب إحداهن فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها: هذا ابن عمك وأحق بك، فقالت لو كان ابن عمنا ما كفلنا الأجانب: إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ.
أخبرني والدي رحمه الله: أنه أدرك واحدة منهن أيام حياته في سني العشر والسبعمائة تناهز التسعين من السنين. (قال): ولقيتها وكانت من أشرف النساء نفساً وأسراهن خلقا وأزكاهن خلالاً والله وارث الأرض ومن عليها. ومضى هؤلاء الملثّمون وقبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السودان حجزاً بينهم وبين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين وأفريقية، وهم لهذا العهد متصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق. وهلك من قام بالملك منهم بالعدوتين، وهم قليل من مسوقة ولمتونة كما ذكرناه، أكلتهم الدولة وابتلعتهم الآفاق والأقطار، وأفناهم الرق واستلحمهم أمراء الموحدين. وبقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأول من افتراق الكلمة واختلاف البين، وهم الآن يعطون طاعة لملوك السودان، يجبون إليهم خراجهم وينفرون في معسكرهم. واتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب على بلاد المغربين وأفريقية. فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسان من المعقل عرب السوس الأقصى، ولمتونة وتريكة في مقابلة ذوي منصور وذوي عبد الله من المعقل أيضاً عرب المغرب الأقصى، ومسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط، ولمطة في مقابلة رياح عرب الزاب وبجاية وقسنطينة، وتاركاً في مقابلة سليم عرب أفريقية، وأكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم وحمل أثقالهم وركوبهم، والخيل قليلة لديهم أو معدومة. ويركبون من الإبل الفارهة ويسمونها النجيب، ويقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب، وسيرها هملجة، وتكاد تلحق بالركض وربما يغزوهم أهل القفر من العرب، وخصوصاً بنو سعيد من بادية رياح، فهم أكثر العرب غزوا إلى بلادهم
فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير. فإذا اتصل الصائح بأحيائهم، وركبوا في أتباعهم اعترضوهم على المياه قبل وصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون ويشتد الحرب بينهم فلا يخلص، العرب من غوائلهم إلا بعد جهد، وقد يهلك بعضهم، ولله الخلق والأمر. وإذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد المجاورين لملوك المغرب.
ملوك السودان الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين ووصف أحوالهم والإلمام بما اتصل بنا من دولتهم هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني، وما وراءه إلى آخر الأول بل وإلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب والمشرق، يجاورون بلاد البربر بالمغرب وأفريقية وبلاد اليمن والحجاز في الوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق، وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق الزنج والحبشة والنوبة، وأما أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعدما، ننسبهم فبنو حام بن نوح، بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام، والنوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي، وقال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر بن حام، والزنج من ولد زنجي بن كوش وأما سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فيما قاله ابن عبد البر، ويقال هو قبط بن حام.
وعد ابن سعيد من قبائلهم وأممهم تسع عشرة أمة، فمنهم في المشرق الزنج على بحر الهند، لهم مدينة فنقية وهم مجوس، وهم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد. قال: ويليهم مدينة بربرا، وهم الذين ذكرهم امرؤ القيس في شعره. والإسلام لها العهد فاش فيهم، ولهم مدينة مقدشوا على البحر الهندي بعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وجنوبهم الدمادم وهم حفاة عراة. قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج التتر إلى العراق فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان، وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزوا ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كعبر، وكانوا على دين النصرانية، وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح، والذي أسلم منهم لعهد النبي وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم، وصلى عليه النبي عندما نعي إليه كان إسمه النجاشي وهو بلسانهم: انكاش بالكاف المشمة بالجيم عربتها العرب جيما محضة وألحقتها ياء النسب، شأنها في الأسماء الأعجمية إذا تصرفت فيها، وليس هذا الاسم سمة لكل من تملك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا، ولو كان كذلك لشهروا إسمه إلى اليوم لأن ملكهم لم يتحول منهم.
وملكهم لهذا العهد إسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه، أو إسم العشيرة الذين فيهم الملك وفي غربية مدينة داموت وكان بها ملك من أعاظمهم وله ملك ضخم وفي شماليه ملك آخر منهم إسمه حق الدين محمد بن علي بن ولصمع في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة. وكان جده ولصمع مطيعاً لملك دامون، وأدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه واستولى على بلاده. ثم اتصلت الفتنة وضعف أمر الخطى فاسترجع بنو ولصمع بلادهم من الخطى وبنيه، واستولوا على وفات وخربوها. وبلغنا أن حق الدين هلك، وملك بعده أخوه سعد الدين وهم مسلمون ويعطون الطاعة للخطى أحياناً وينابذونه أخرى والله مالك الملك. (قال ابن سعيد): ويليهم البجاوة وهم نصارى ومسلمون، ولهم جزيرة بسواكن في بحر السوس، ويليهم النوبة إخوة الزنج والحبشة ولهم مدينة دنقلة غرب النيل، وأكثرهم مجاورون للديار المصرية، ومنهم رقيق. ويليهم زغاوة وهم مسلمون، ومن شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم وهم خلق عظيم، والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حميمي ولهم التغلب
على بلاد الصحراء إلى فزان. وكانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصّية منذ أولها، ويليهم من غربهم كوكو، وبعدهم نغالة والتكرور ولمى وتميم وجالي وكوري وأفكزار، ويتصلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب اهـ كلام ابن سعيد.
ولما فتحت أفريقية المغرب دخل التجار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية، كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب، وكانوا أعظم أمة ولهم أضخم ملك، وحاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم وأكثرها معتمراً، ذكرها مؤلف كتاب رجار وصاحب المسالك والممالك. وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صوصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين، ثم بعدها أمة أخرى تعرف مائي ثم بعدها أمة أخرى تعرف كوكو ويقال كاغو، ثم بعدها أمة أخرى تعرف بالتكرور. (وأخبرني) الشيخ عثمان فقيه أهل غانية وكبيرهم علماً وديناً وشهرة، قدم مصر سنة تسع وتسعين وستمائة حاجاً بأهله وولده ولقيته بها فقال إنهم يسمون التكرور زغاي ومالي أنكاريه اهـ. ثم إن أهل غانية ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه، وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم واقتضوا منهم الأتاوات والجزى، وحملوا كثيراً منهم على الإسلام فدانوا به. ثم اضمحل ملك أصحاب غانة وتغلب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك، واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو وملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانة إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين، يذكرون أن أول من أسلم منهم ملك اسمه برمندانة هكذا ضبطه الشيخ عثمان. وحج هذا الملك واقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده. وكان ملكهم الأعظم الذي تغلب على صوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الأمير الذي يكون من نسل السلطان وجاطة الأسد، واسم الحافد عندهم تكن، ولم يتصل بنا نسب هذا الملك. وملك
عليهم خمساً وعشرين سنة فيما ذكروه. ولما هلك ولي عليهم من بعده منساولي، ومعنى منسا السلطان، ومعنى ولي بلسانهم علي، وكان منسا ولي هذا من أعاظم ملوكهم. وحج أيام الظاهر بيبرس، وولي عليهم من بعده أخوه واتى. ثم بعده أخوهم خليفة وكان محمقاً راوياً، فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مجاناً، فوثبوا عليه فقتلوه. وولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمى بأبي بكر، وكان ابن بنته فملكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت. ولم يقع إلينا نسبه ونسب أبيه.
ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلب على ملكهم إسمه ساكورة. وقال الشيخ عثمان ضبطه بلسانهم أهل غانة سبكرة وحج أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجورا، وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلبوا على الأمم المجاورة لهم. وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي. واتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان، وارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب وأفريقية. وقال الحاج يونس ترجمان التكروري إن الذي فتح كوكو هو سغمنجة من قواد منسا موسى، وولي من بعده ساكورة هذا هو ابن السلطان ماري جاطة، ثم من بعده إبنه محمد بن قو، ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولي عليهم منسا موسى بن أبي بكر، وكان رجلاً صالحاً وملكاً عظيماً، له في العدل أخبار تؤثر عنه. وحج سنة أربع وعشرين وسبعمائة، لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحق إبراهيم الساحلي المعروف بالطويجن وصحبه إلى بلاده. وكان له اختصاص وعناية ورثها من بعده ولده إلى الآن وأوطنوا والاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب، ولقيه في منصرفه صاحبنا المعمّر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن، كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر، وأجلب عليهم بعصائب من العرب فكر به واركلا، واعتقله ثم خلى سبيله بعد حين فخاض القفر إلى السلطان منسا موسى مستجيشاً به عليهم، وقد كان بلغه توجهه للحج فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصراً على عدوه ومعونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال
ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا وقوة سلطانه فلقي منه مبرة وترحباً ووعده بالمظاهرة والقيام بثأره واستصحبه إلى بلدة أخرى وهو الثقة.
(قال كنا نواكبه أنا وأبو إسحق الطويجن دون وزرائه ووجوه قومه، نأخذ بأطراف الأحاديث حيث يتسع المقام، وكان يتحفنا) في كل منزل بالرف المآكل والحلاوات قال: والذي تحمل آلته وحربته من الوصائف خاصة إثنا عشر ألفاً لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني. (قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمة بمصر): جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملاً من التبر، كل حمل ثلاثة قناطير. قال: وإنما يحملون على الوصائف والرجال في أوطانهم فقط، وأما السفر البعيد كالحج فعلى المطايا. (قال أبو خديجة): ورجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتاً في قاعدة سلطانه محكم البناء مجللاً بالكلس لغرابته بأرضهم فأطرفه أبو إسحق الطويجن ببناء قبة مربعة الشكل استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين وأضفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبعة فجاء من أتقن المباني ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفاً من مثاقيل التبر مبثوثة عليها. إلى ما كان له من الأثرة والميل إليه والصلات السنية. وكان بين هذا السلطان منسا موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه، بعث بها مع علي بن غانم المغفل وأعيان من رجال دولته. وتوارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي واتصلت أيام منساً موسى هذا خمساً وعشرين سنة. ولما هلك ولي أمر مالي من بعده إبنه منسا مغا ومعنى مغا عندهم محمد، وهلك لأربع سنين من ولايته، وولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر وهو أخو موسى، واتصلت أيامه أربعاً وعشرين سنة. ثم هلك فولي بعده إبنه منسا بن سليمان، وهلك لتسعة من ولايته
فولي عليهم من بعده ماري جاطة بن منسا مغا بن منسا موسى، واتصلت أيامه أربعة عشر عاماً وكان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم. وأتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة إثنتين وستين وسبعمائة، وكان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة. تحدث الناس بما اجتمع فيه من متفرق الحلى والشبه في جثمانه ونعوته دهرأ.
(وأخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة. وكان أوطن بأرض كوكو من بلادهم، واستعملوه في خطة القضاء بما لقيه منذ سنة ست وسبعين وسبعمائة، فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته، وذكر لي عن هذا السلطان جاطة أنه افسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وكان أن ينتقض شأن سلطانهم. (قال): ولقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم، وهو حجر يزن عشرين قنطاراً منقولاً من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار، كانوا يرونه من أنفس الذخائر والغرائب لندور مثله في المعدن، فعرضه جاطة هذا الملك المسرف على تجار مصر المترددين إلى بلده، و أبتاعوه منه بأبخس ثمن إذ استهلك من ذخائر ملوكهم سرفأ وتبذيراً في سبيل الفسوق والتخلف. (قال): وأصابته علة النوم، وهو مرض كثيراً ما يطرق أهل ذلك الإقليم وخصوصاً الرؤساء منهم، يعتاده غشي النوم عامة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق ولا يستيقظ إلا في القليل من أوقاته ويضر صاحبه ويتصل سقمه إلى أن يهلك. قال: ودامت هذه العلة بخلطه مدة عامين إثنين، وهلك سنة خمس وسبعين[وسبعمائة]. وولوا من بعده إبنه موسى فأقبل على مذاهب العدل والنظر لهم، ونكب عن طرق أبيه جملة وهو الآن مرجو الهداية، ويغلب على دولته وزيره ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الوزير وجاطة تقدم وهو الآن قد حجر السلطان واستبد بالأمر عليه، ونظر في تجهيز العساكر وتجهيز الكتائب، ودوخ أقطار الشرق من بلادهم وتجاوز تخوم كوكو، وجهز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثمين كتائب نازلتها لأول الدولة، وأخذت بمخنقهما. ثم أفرجت عنها وحاطهم الآن هدنة. وتكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي، وفيها من الملثمين يعرف بالسلطان، وعليهم طريق الحاج من السودان، وبينه وبين أمير الزاب
وواركلا مهاداة ومراسلة. (قال): وحاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني... بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق، وهو الآن محط لركاب البحر من المغرب وأفريقية ومصر والبضائع مجلوبة إليها من كل قطر. ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع وثمانين وسبعمائة وولي بعده أخوه منسا مغا. ثم قتل لسنة أو نحوها وولي بعده صندكي زوج أم موسى صندكي الوزير. ووثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة. ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم وجاءهم رجل إسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي ابن ماري جاطة الأكبر فتغلب على الدولة وملك أمرهم سنة إثنتين وتسعين وسبعمائة ولقبه منسا مغا والخلق والأمر لله وحده.
الخبر عن لمطة وكزولة وهسكورة بني تصكي وهم إخوة هوارة وصنهاجة: هؤلاء القبائل الثلاث قد تقدم لنا أنهم أخوة لصنهاجه وأن أم الثلاثة تصكي العرجاء بنت زحيك بن مادغيس، فأما صنهاجة فمن ولد عاميل بن زعزاع، وأما هوارة فمن ولد أوريغ وهو ابنها ابن برنس، وأما الآخرون فلا تحقيق في نسبهم. (قال ابن حزم): إن صنهاجة ولمطة لا يعرف لهما أب، وهذه الأمم الثلاث موطنون بالسوس وما يليه من بلاد الصحراء وجبال درن ملأوا بسائطه وجباله. (فأما لمطة) فأكثرهم مجاورون الملثمين من صنهاجة، ولهم شعوب كثيرة وأكثرهم ظواعن أهل وبر. ومنهم بالسوس قبيلتا زكن ولخس، صاروا في عداد ذوي حسان من معقل، وبقايا لمطة بالصحراء مع الملثمين ومعظمهم قبيلة بين تلمسان وأفريقية وكان منهم الفقيه واكاك بن زبري صاحب أبي عمران الفاسي وكان نزل سجلماسة. ومن تلميذه كان عبد الله بن باسين صاحب الدولة اللمتونية على ما مر.
(وأما كزولة) فبطونهم كثيرة ومعظمهم بالسوس ويجاورون لمطة ويحاربونهم. ومنهم
الآن ظواعن بأرض السوس، وكان لهم مع المعقل حروب قبل أن يدخلوا السوس، فلما دخلوه تغلب عليهم، وهم الآن من خولهم وأخلافهم ورعاياهم.
(وأما هسكورة) وهم لهذا العهد في عداد المصامدة وينسبون إلى دعوة الموحدين وهم أمم كثيرة وبطون واسعة ومواطنهم بجبالهم متصلة من درن إلى تادلاً من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة، وكان دخول بعضهم في دعوة المهدي قبل فتح مراكش ولم يستكملوا الدخول في الدعوة إلا من بعده، لذلك لا يعدهم كثير من الناس في الموحدين، وإن عدوا فليسوا من أهل السابقة منهم لمخالفتهم الإمام أول الأمر. وما كان من حروبهم معه ومع أوليائه وشيعته، وكانوا ينادون بخلافهم وعداوتهم ويجهرون بلغنهم. فتقول خطباؤهم في مجامع صلواتهم: لعن الله هنتاتة وتينملل وهرنة وهرزجة، فلما استقاموا من بعد ذلك لم يكن لهم مزية السابقة كما كانت لهنتاتة وتينملل وهرغة وهزرجة، فاستقامتهم على الدعوة كان بعد فتح مراكش.
وبطون هسكورة هؤلاء متعددون، فمنهم مصطاوة وعجرامة وفطواكة وزمراوة واننيفت وبنو نفال وبنو رسكونت إلى آخرين لم يحضرني أسماؤهم. وكانت الرياسة عليهم آخر دولة الموحدين لعمر بن وقاريط المنتسب. وذكره في أخبار المأمون والرشيد من بني عبد المؤمن خلفاء الموحدين بمراكش. ثم كان من بعده مسعود بن كلداسن وهو القائم بأمر دبوس والمظاهر له على شأنه وأظنه جد بني مسعود بن كلداسن الرؤساء عليهم لهذا العهد من فطواكة المعروفين ببني خطاب لاتصال الرياسة في هذا البيت ولما انقرض أمر الموحدين استعصوا على بني مرين مدة، واختلفت حالهم معهم في الاستقامة والنفرة، وكانوا ملجأ للنازعين عن الطاعة من عرب جشم، ومأوى للثائرين منهم.
ثم استقاموا وأذعنوا لأداء الضرائب والمغارم وجبايتها من قومهم والخفوف إلى العسكرة مع السلطان متى دعوا إليها شأن غيرهم من سائر المصامدة.
وأما انتيفت فكانت رئاستهم في أولاد هنو، وكان يوسف بن كنون منهم، اتخذ لنفسه حصن تاقيوت، وامتنع به، ولم يزل ولده علي ومخلوف يشيدانه من بعده، وهلك يوسف وقام بأمره إبنه مخلوف، وجاهر بالنفاق سنة إثنتين وسبعمائة. ثم راجع الطاعة، وهو الذي تقبض على يوسف بن أبي عياد المتعدي على مراكش أيام أبي ثابت سنة سبع وسبعمائة كما نذكر في أخباره، لما احيط به فتقبض عليه مخلوف وأمكن منه. وكانت وسيلته من الطاعة، وكان من بعده إبنه هلال بن مخلوف، والرياسة فيهم متصلة لهذا العهد.
وأما بنو نفال فكانت رياستهم لأولاد تروميت، وكان منهم لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن كبيرهم علي بن محمد، وكان له في الخلاف والامتناع ذكر. واستنزله السلطان أبو الحسن من محله لأول ولايته بعد حصاره بمكانه، وأصاره في جملته تحت عنايته وأمرائه إلى أن هلك بتونس بعد واقعة القيروان في الطاعون الجارف. وولي بنوه من بعده أمر قومهم إلى أن انقرضوا، والرئاسة لهذا العهد في أهل بيتهم ولأهل عمومتهم.
(وأما فطواكة): وهم أوسع بطونهم وأعظمهم رئاسة فيهم، وأقربهم اختصاصاً بصاحب الملك واستعمالاً في خدمته. وكان بنو خطاب منذ انقراض أمر الموحدين قد جنحوا إلى بني عبد الحق، وأعطوهم المقادة واختصوا شيوخهم في بني خطاب بالولاية عليهم. وكان شيخهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب محمد بن مسعود وابنه عمر من بعده. وهلك عمر سنة أربع وسبعمائة بمكانه من محله، وولي بعده عمه موسى بن مسعود، وسخطه السلطان لتوقع خلافه فاعتقله. وكان خلاصه من الاعتقال سنة ست وسبعمائة، وقام بأمر هسكورة من بعده محمد بن عمر بن محمد بن مسعود.
ولما استفحل ملك بني مرين وذهب أثر الملك من المصامدة وبعد عهدهم، صار بنو مرين إلى استعمال رؤسائهم في جباية مغارمهم لكونهم من جلدتهم. ولم يكن فيهم أكبر رئاسة من أولاد تونس في هنتاتة. وبني خطاب هؤلاء في هسكورة فداولوا بينهم ولاية الأعمال المراكشيّة، وليها محمد بن عمر هذا من بعد موسى بن علي وأخيه محمد
شيوخ هنتاتة، فلم يزل والياً منها إلى أن هلك قبيل نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولحق ابنه إبراهيم بتلمسان ذاهبا إلى السلطان أبي الحسن. فلما دعا أبو عنان إلى نفسه رجع عنه إلى محله، وتمسك بما كان عليه من طاعة أبيه، ورعاه أبو عنان لعمه عبد الحق، وقفده الأعمال المراكشيّة فلم يغن في منازعه إلى أن لحق السلطان أبو الحسن بمراكش، فكان من أعظم دعاته، وأبلى في مظاهرته. فلما هلك السلطان أبو الحسن اعتقله أبو عنان وأودعه السجن، ثم قتله بين يدي نهوضه إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وستمائة وسبعمائة، وقام بأمره من بعده أخوه منصور بن محمد إلى أن ملك الأمير عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مراكش سنة ست وسبعين وسبعمائة، فاستقدمه وتقبض عليه، واعتقله بدار ابن عمه نحواً بن العلام بن مسرى بن مسعود بن خطاب كان في جملته، وكان هو وأبوه نازعاً إلى بني مرين خوفاً على أنفسهم من أولاد محمد بن عمر لترشحهم للأمر، فلما استمكن منه بداره معتقلاً وثب عليه فقتله واستلحم بنيه معه وسخطه السلطان لها فاعتقله قليلاً. ثم أطلقه واستقل برياسة هسكورة لهذا العهد والله قادر على ما يشاء.
الطبقة الثالثة من صنهاجة وهذه الطبقة ليس فيها ملك وهم لهذا العهد أوفر قبائل المغرب، فمنهم الموطنون بالجانب الشرقي من جبال درن ما بين تازي وتادلا ومعدن بني فازان حيث الثنية المفضية إلى آكرسلوين من بلاد النخل. وتفصل تلك الثنية بين بلادهم وبلاد المصامدة في المغرب من جبال درن. ثم اعتمروا قنن تلك الجبال وشواهقها وتنعطف مواطنهم من تلك الثنية إلى ناحية القبلة إلى أن تنتهي إلى آكرسلوين. ثم ترجع مغرباً من آكرسلوين إلى درعة إلى ضواحي السوس الأقصى، وأمصاره من تارودانت وأيفري إلى فونان وغيرها ويعرف هؤلاء كلهم بإسم صناكة حذفت الهاء من إسم صنهاجة، وأسموا صاده زاياً وأبدلوا الجيم بالكاف المتوسطة المخرج عند العرب لهذا العهد بين الكاف والقاف بين الكاف والجيم. وهي معرّبة النطق.
ولصنهاجة هؤلاء بين قبائل الغرب أوفر عدد وشدة بأس ومنعة، وأعزهم جانباً أهل الجبال المطلة على تادلاً، ورياستهم لهذا العهد في ولد عمران الصناكي ولهم اعتز على الدولة ومنعة عن الهضيمة والانقياد للمغرم. وتتصل بهم قبائل خباتة منهم ظواعن يسكنون بيوت الخص وينتجعون مواقع القطر في نواحي بلادهم يتغانيمين من قبيلة مكناسة إلى وادي أم ربيع من تامسنا في الجانب الشمالي من جانبي جبل درن ورياستهم في ولد هيبري من مشاهيرهم، ولهم اعتياد بالمغرم وروم على الذل. وتتصل بهم قبائل دكالة في وسط المغرب من عدوة أم ربيع إلى مراكش، ويتصل بهم من جهة المغرب على ساحل البحر المحيط قبيلة بناحية آزمور، وأخرى وافرة العد مندرجة في عداد المصامدة وطناً ونحلةً وجبايةً وعمالةً. ورياستهم لهذا العهد في دولة عزيز بن يبورك، ورئيسهم لأول دولة زناتة ويأتي ذكره ويعرف عقبه الآن ببني بطال، ومى قبائل صنهاجة بطون أخرى بجبال تازى وما والاها مثل بطوية وبخاصة وبني وارتين إلى جبل لكائي من جبال المغرب معروف ببني الكائي إحدى قبائلهم، يعطون المغرم عر عزة. وبطوية منهم ثلاثة بطون: بطوية على تازى، وبني ورياغل على ولد المزمة، وأولا علي بتافرسيت. وكان لأولاد علي ذمة مع بني عبد الحق ملوك بني مرين، وكانت أم يعقوب بن عبد الحق منهم فاستوزرهم. وكان منهم طلحة بن علي وأخوه عمر على ما يأتي ذكره في دولتهم.
ويتصل ببسيط بالمغرب ما بين جبال درن وجبال الريف من ساحل البحر الرومي حيث مساكن حماد الآتي ذكرهم قبائل أخرى من صنهاجة موطنون في هضاب وأوديه وبسائط يسكنون بيوت الحجارة والطين مثل قشتالة وسطه وبنو ورياكل وبنو
حميد وبنو مزكلدة وبنو عمران وبنو دركون وبنو رتزر وملوانة وبنو وامرد. وموطن هؤلاء كلهم بورغة وأمر كو يحترفون بالحياكة والحراثة، ويعرفون لذلك صنهاجة البز، وهم في عداد القبائل
المغارمة، ولغتهم في الأكثر عربية لهذا العهد وهم مجاورون بجبال غمارة. ويتصل بجبال غمارة من ناحيتهم جبل سريف موطن بني زروال من صنهاجة وبني مغالة لا يحترفون بمعاش ويسمون صنهاجة العز لما اقتضته منعة جبالهم. ويقولون لصنهاجة آزمور الذين قدمنا ذكرهم صنهاجة الذل، لما هم عليه من الذل والمغرم والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد يقال في بعض مزاعم البربر أن بني وديد من صنهاجة وبنو يزناسن وباطويه هم أخوال وأصل يزناسن أجناسن ومعناه بلغة العرب الجالس على الأرض. الخبر عن المصامدة من قبائل البربر وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب ومبدأ ذلك وتصاريفه: وأما المصامدة وهم من ولد مصمود بن يونس بن بربر فهم أكثر قبائل البربر وأوفرهم، من بطونهم برغواطة وغمارة وأهل جبل درن. ولم تزل مواطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة. وكان المتقدم فيهم قبيل الإسلام وصدره برغواطة. ثم صار التقدم بعد ذلك لمصامدة جبال درن إلى هذا العهد. وكان لبرغواطة في عصرهم دولة ولأهل درن منهم دولة أخرى أو دول حسبما نذكر، فلنذكر هذه الشعوب وما كان فيها من الدول بحسب ما تأدى إلينا من ذلك.
الخبر عن برغواطة من بطون المصامدة ودولتهم ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم:
وهم الجيل الأول منهم، كان لهم في صدر الإسلام التقدم والكثرة وكانوا شعوباً كثيرةً مفترقين، وكانت مواطنهم خصوصاً من بين المصامدة في بسائط تامستا وريف البحر المحبط من سلا وأزمور وأنفى وأسفى. وكان كبيرهم لأول المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صالح، وكان من قواد ميسرة الخفير طريف المصفري القائم بدعوة الصفرية ومعهما معزوز بن طالوت. ثم انقرض أمر ميسرة والصفرية وبقي طريف قائماً بأمرهم بتامستا ويقال أيضاً أنه تنبأ وشرع لهم الشرائع. ثم هلك وولي مكانه إبنه صالح وقد كان حضر مع أبيه حروب ميسرة وكان من أهل العلم والخير فيهم.
ثم انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة، وشرع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده، وهي معروفة في كتب المؤرّخين. وادعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سوراً منه، يسمي منها سورة الديك وسورة الجمل وسورة الفيل وسورة آدم وسورة نوح وكثير من الأنبياء، وسورة هاروت وماروت وإبليس، وسورة غرائب، الدنيا وفيها العلم العظيم بزعمهم، حرم فيها وحلّل وشرّع وقصّ وكانوا يقرأونه في صلواتهم، وكانوا يسمونه صالح المؤمنين كما حكاه البكري عن زمور بن صالح بن هاشم بن وراد الوافد منهم على الحكم المستنصر الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم أبي عيسى بن أبي الأنصاري سنة إثنتين وخمسين وستمائة وثلثمائة. وكان يترجم عنه بجميع خبره داود بن عمر المسطاسي. قال: وكان ظهور صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك سنة سبع وعشرين من المائة الثانية من الهجرة. وقد قيل إن ظهوره كان لأول الهجرة، وأنه إنما انتحل ذلك عناداً أو محاكاة لما بلغه شأن النبي والأول أصح. ثم زعم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان، وأن عيسى يكون صاحبه ويصلي خلفه، وأن إسمه في
العرب صالح وفي السريان مالك وفي الأعجمي عالم وفي العبراني روبيا وفي البربري وربا ومعناه الذي ليس بعده نبي، وخرج إلى المشرق بعد أن ملك أمرهم سبعاً وأربعين وستمائةسنة، ووعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم، وأوصى بدينه إلى إبنه إلياس، وعهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أميّة، وبإظهار دينه إذا قوي أمرهم.
وقام بأمره بعده إبنه إلياس، ولم يزل مظهرا للإسلام مسراً لما أوصاه به أبوه من كلمة كفرهم. وكان طاهراً عفيفاً زاهداً. وهلك لخمسين سنة من ملكه، وولي أمرهم من بعده إبنه يونس فأظهر دينهم ودعا إلى كفرهم، وقتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامستا وما والاها يقال إنه حرق ثلثمائة وثمانين مدينة، واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه، وقتل منهم بموضع يقال له تاملوكاف، وهو حجر عال نابت وسط الطريق فقتل سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين. (قال زمور): ورحل يونس إلى المشرق وحجّ، ولم يحج أحد من أهل بيته قبله ولا بعده، وهلك لأربع وأربعين وستمائةسنة من ملكه، وانتقل الأمر عن بنيه، وولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف، فاستولى على ملك برغواطة وأخذ بدين آبائه واشتدت شوكته وعظم أمره، وكانت له في البربر وقائع مشهورة وأيام مذكورة أشارإليها سعيد بن هشام المصمودي في قوله:
- قفي قبل التفرق وأخبرينا وقولي وأخبري خبراً يقينا
- وهذي أمة هلكوا وضلوا وغاروا لا سقوا ماء معينا
- يقولون: النبي أبو غفير فأخزى الله أم الكاذبينا
- ألم تسمع ولم تر لؤم بيت على آثار خيلهم ربينا
- وهن الباكيات فبين ثكلى وعادمة ومسقطة جنينا
- ستعلم أهل تامستا إذا ما أتوا يوم القيامة مقطعينا
- هنالك يونس وبنو أبيه يقودون البرا بر حائرينا
- إذا زر ياور طافت عليهم جبهتهم بأيدي المنكرينا
- فليس اليوم يومكم ولكن ليالي كنتم متيسرينا
واتخذ أبو غفير من الزوجات أربعاً وأربعين وستمائة وستمائة، وكان له من الولد مثلها وأكثر. وهلك أخريات الماية الثالثة لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده إبنه أبو الأنصار عبد الله فاقتفى سننه وكان كثير الدعة مهاباً عند ملوك عصره يهاودونه ويدافعونه بالمواصلة، وكان يلبس الملحفة والسراويل ولا يلبس المخيط ولا يعتم، ولا يعتم أحد في بلده إلا الغرباء. وكان حافظاً للجار وفياً بالعهد وهلك سنة إحدى وأربعين وستمائةمن المائة الرابعة لأربع وأربعين وستمائةسنة من ملكه، ودفن بأمسلاخت وبها قبره. وولي بعده إبنه أبو منصور عيسى ابن إثنين وعشرين سنة فسار بسيرة آبائه وادعى النبوة والكهانة، واشتد أمره وعلا سلطانه ودانت له قبائل المغرب. (قال زمور): وكان فيحا أوصاه به أبوه: يا بني ! أنت سابع الأمراء من أهل بيتك، وأرجو أن يأتيك صالح بن طريف. قال زمور: وكان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغراطة وعشرة آلاف من سواهم مثل جراوة وزواغة والبرانس ومجكصة ومضغرة ودمّر ومطماطة وبنو وارزكيت. وكان أيضاً بنو يفرن وإصادة وركانة وايزمن ورصافة ورغصرارة على دينهم، ولم يتخذ ملوكهم الآلة منذ كانوا، انتهى كلام زمور. وكان لملوك العدوتين في غزو برغواطة هؤلاء وجهادهم أثناء هذا وبعده آثار عظيمة من الأدارسة والأموية والشيعة. ولما أجاز جعفر بن علي من الأندلس إلى المغرب وقلده المنصور بن أبي عامرعمله سنة ست وستين وثلثمائة فنزل البصرة، ثم اختلف ذات بينه وبين أخيه يحيى واستمال عليه أخوه الجند وأمراء زناتة، فتجافى له جعفر عن العمل وصرف وجهه إلى جهاد برغواطة معتده من صالح عمله، وزحف إليهم في أهل المغرب وكافة الجند الأندلسيّين فلقوه وسط بلادهم، وكانت عليه الدبرة،
ونجا بنفسه في فل من جنده، ولحق بأخيه بالبصرة. ثم أجاز بعدها إلى المنصور باستدعائه، وترك أخاه يحيى على عمل المغرب. ثم حاربتهم أيضاً صنهاجة لما غزا بلكّين بن زيري المغرب سنة ثمان وستين وثلثمائة بعدها وأجفلت زناتة أمامه وارزوا إلى حائط سبتة، وامتنعوا منه بأوعارها، وانصرف عنهم إلى جهاد برغواطة، وزحف إليهم فلقيه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار في قومه، وكانت عليهم الهزيمة.
وقتل أبو منصور وأثخن فيهم بلكّين بالقتل، وبعث سبيهم إلى القيروان، وأقام بالمغرب يردد الغزو فيهم إلى سنة إثنتين وسبعين وثلثمائة وانصرف من المغرب فهلك في طريقه إلى القيروان. ولم أقف على من هلك أمرهم بعد أبي منصور. ثم حاربتهم أيضاً جنود المنصور بن أبي عامر لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح على المغرب عند قفوله من غزاة زيري بن عطية سنة تسع وثمانين وثلثمائة، فافتتح واضح أمره بغزو برغواطة هؤلاء فيمن قبله من الأجناد وأمراء النواحي وأهل الولاية، فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي، ثم حاربهم أيضاً بنو يفرن لما استقل بنو يعلى ابن محمد اليفرني من بعد ذلك بناحية سلا من بلاد المغرب، واقتطعوه من عمل أبناء زيري بن عطية المغراوي بعد ما كان بينهما من الحروب. وانتساب أمر أولاد يعلى هؤلاء إلى تميم بن زيري بن يعلى في أول المائة الخامسة، وكان موطناً بمدينة سلا مجاوراً لبرغواطة، فكان له أثر كثير في جهادهم، وذلك في سني عشرين وأربعمائة فغلبهم على تامستا وولى عليها من قبله بعد أن أثخن فيهم سبياً وقتلاً. ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة لمتونة وخرجوا من مواطنهم بالصحراء إلى بلاد المغرب، واقتحموا الكثير من معاقل السوس الأقصى وجبال المصامدة. ثم بدا لهم جهاد برغواطة بتامستا وما إليها من الريف الغربي فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه، وكانت له فيهم وقائع استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله بن ياسين الكزولي سنة خمسين وأربعمائة، واستمر أبو بكر وقومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم، ومحوا من الأرض آثارهم. وكان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف، فهلك في حروبهم. وعليه كان انقراض أمرهم وقطع دابرهم على،
يد هؤلاء المرابطين، والحمد لله رب العالمين. وقد يغلط بعض الناس في نسب برغواطة هؤلاء فيعدهم في قبائل زناتة، وآخرون بقولون في صالح أنه يهوديّ من ولد شمعون بن يعقوب نشأ ببرباط ورحل إلى المشرق، وقرأ على عبد الله المعتزلي واشتغل بالسحر، وجمع فنوناً، وقدم المغرب ونزل تامستا فوجد فيها قبائل جهّالاً من البربر، فأظهر لهم الزهد وسحرهم بلسانه، وموه عليهم فقصدوه واتبعوه، فادعى النبوّة وقيل له برباطي نسبة إلى الموطن الذي نشأ به، وهو برباط، واد بحصن شريش من بلاد الأندلس، فعربت العرب هذا الإسم وقالوا برغواط. ذكر ذلك كله صاحب كتاب نظم الجوهر وغيره من النسابيّن للبربر، وهو من الأغاليط البيّنة. وليس القوم من زناتة، ويشهد لذلك كله موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. وأما صالح بن طريف فمعروف منهم وليس من غيرهم، ولا يتم الملك والتغلب على النواحي والقبائل لمنقطع جذمة دخيل في نسبه. سنة الله في عباده، وإنما نسب الرجل في برغواطة وهم شعب من شعوب المصامدة معروف كما ذكرناه والله ولي التوفيق. الخبر عن غمارة من بطون المصامدة وما كان فيهم من الدول وتصاريف أحوالهم: هذا القبيل من بطون المصامدة من ولد غماربن مصمود، وقيل غماربن مسطاف بن مليل بن مصمود، وقيل غمار بن أصاد بن مصمود. ويقول بعض العامة أنهم
عرب غمروا في تلك الجبال فسموا غمارة، وهو مذهب عاميّ، وهم شعوب وقبائل أكثر من أن تحصر. والبطون المشهورة منهم بنو حميد ومثيوة وبنو فال واغصاوة، وبنور وزروال ومجكسة، وهم آخر مواطنهم يعتمرون جبال الريف بساحل البحر الرومي من عن يمين بسائط المغرب، من لدن غساسة، فنكور فبادس فتيكيساس فتيطّاوين فسبتة فالقصر إلى طنجة خمس مراحل أو أزيد، أوطنوا منها جبالاً شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجاً بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن يتخط إلى بسائط قصر كتامة ووادي ورغة عن بسائط المغرب، ترتد عنها الأبصار، وتزل في حافاتها الطيور لا بل الهوام، وينفسح في رؤوسها وبين قننها الفجاج، سبل السفر ومراتع السائمة وفدن الزراعة وأدواح الرياض.
ويتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة فيهم لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساكنين ما بين سبتة وطنجة، وإليهم ينسب قصر المجاز الذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف ويعضده أيضاً اتصال مواطنهم بموطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي وهو المحيط، إذ كان بنو حسان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن آزغر وأصيلاً إلى أنفى، ومن هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة ودكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة. فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلا قليلاً منها وغيرهم في البسائط. ولم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح، ولم يعلم ما قبل ذلك. وللمسلمين فيهم أزمان الفتح وقائع الملاحم وأعظمها لموسى بن نصير، وهو الذي حملهم على الإسلام واسترهن أبناءهم وأنزل منهم عسكراً مع طارق بطنجة. وكان أميرهم لذلك العهد يليان وهو الذي وفد عليه موسى بن نصير ورغبه في غزو الأندلس، وكان منزله سبتة كما نذكره، وذلك قبل استحواء نكور. وكانت في غمارة هؤلاء بعد الإسلام دول قاموا بها لغيرهم وكان فيهم متنبئون، ولم تزل الخوارج تقصد جبالهم للمنعة فيها والاعتصام كما نذكرهم إن شاء اللة تعالي
الخبر عن سبتة ودولة بني عصام بها
كانت سبتة هذه من الأمصار القديمة قبل الإسلام، كانت يومئذ منزل يليان ملك غمارة، ولما زحف إليه موسى بن نصير صانعه بالهدايا وأذعن للجزية، فأمره عليها واسترهن ابنه وأبناء قومه، وأنزل طارق بن زياد بطنجة وضرب عليهم العسكر للنزول معه. ثم كانت إجازة طارق إلى الأندلس فضرب عليهم البعوث، وكان الفتح الذي لا كفاء له كما مر في موضعه. ولما هلك يليان استولى العرب على مدينة سبتة صلحاً من ، أيدي قومه فعمروها. ثم كانت فتنة ميسرة الحقير وما دعى إليه من ضلالة الخارجية، واخذ بها الكثير من البرابرة من غمارة وغيرهم فزحف برابرة طنجة إلى سبتة وأخرجوا العرب منها وسبوها وخربوها فبقيت خلاء. ثم نزل بها ماجكس من رجالاتهم ووجوه قبائلهم، وبه سميت مجكسة فبناها ورجع بها الناس وأسلم. وسمع من أهل العلم إلى أن مات فقام بأمره ابنه عصام ووليها دهراً. ولما هلك قام بأمره إبنه مجير فلم يزل والياً عليها إلى أن هلك، ووليها أخوه الرضي ويقال أنه ابنه، وكانوا يعطون لبني إدريس طاعة مضعفة كما نذكره. ولما سما للناصر أمل في ملك المغرب، وتناول حبله من أيدي بني إدريس المالكين ببلاد لهبط وغمارة حين أجهضتهم مكناسة وزناتة عن ملكهم بفاس، وقاموا بدعوة الناصر وبثوها في أعمالهم نزلوا حينئذ للناصر عن سبتة، وأشاروا له إلى تناولها من بني عصام فسرح إليها عساكره وأساطيله مع قائده نجاح بن غفير، فكان فتحها سنة تسع عشرة وثلثمائة، ونزل له الرضي بن عصام عنها، وأتاه طاعته وانقرض أمر بني عصام. وصارت سبتة إلى الناصر حتى استولى عليها بعد حين بنو حماد، واستحدثوا بها دولة أخرى كما نذكره.
الخبر عن بني صالح بن منصور ملوك نكور ودولتهم في غمارة وتصاريف أحوالهم: لما استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب وعمالاته واقتسموه، وأمدهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر، وكان فيهم من كل القبائل من العرب. وكان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأول. وكان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه، وأقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى وتسعين للهجرة، قاله صاحب المقياس، حد بلد نكور ينتهي من المشرق إلى زواغة وجراوة بن أبي العيص مسافة خمسة أيام، وتجاوره من هنالك مطماطة، وأهل كدالة ومرنيسة وغساسة أهل جبل هرك، وقلوع جارة التي لبني ورتندي، وينتهي من الغرب إلى بني مروان من غمارة، وبني حميد، وإلى مسطاسة وصنهاجة ومن ورائهم أوربة، حزب فرحون وبني وليد وزناتة وبني يرنيان وبني واسن حزب قاسم صاحب صا والبحر جوفي نكور على خمسة أميال، فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها وكثر نسله، واجتمع إليه قبائل غمارة وصنهاجة مفتاح، وأسلموا على يده وقاموا بأمره، وملك تمسامان، وانتشر الإسلام فيهم، ثم ثقلت عليهم الشرائع والتكاليف، وارتدوا وأخرجوا صالحاً، وولوا عليهم رجلاً من نفزة يعرف بالرندي. ثم ثابوا وراجعوا الإسلام ورجعوا صالحاً فأقام فيهم إلى أن هلك بتمسامان سنة إثنتين وثلاثين ومائة. وولي أمرهم من بعده إبنه المعتصم بن صالح، وكان شهماً شريف النفس كثير العبادة. وكان يلي الصلاة والخطبة لهم بنفسه. ثم هلك لأيام،
يسيرة وولي من بعده أخوه إدريس فاختطّ مدينة نكور في عدوة الوادي ولم يكملها. وهلك سني ثلاث وأربعين وستمائةومائة وولي من بعده ابنه سعيد، واستفحل أمره. وكان ينزل مدينة تمسامان. ثم اختط مدينة نكور لأول ولايته ونزلها، وهي التي تسمى لهذا العهد المزمة بين نهرين أحدهما نكور ومخرجه من بلاد كزناية ومخرجه ومخرج وادي ورغة واحد، والثاني عيس ومخرجه من بلاد بني ورياغل، يجتمع النهران في أكدال. ثم يفترقان إلى البحر ويقال نكور من عدوة الأندلس بزليانة.
وغزا المجوس نكور هذه في أساطيلهم سنة أربع وأربعين وستمائةومائة فتغلبوا عليها واستباحوها ثمانياً. ثم اجتمع إلى سعيد البرانس، وأخرجوهم عنها، وانتقضت غمارة بعدها على سعيد فخلعوه وولوا عليهم رجلاً منهم إسمه سكن. وتزاحفوا فأظهره الله عليهم وفرق جماعتهم وقتل مقدمهم واستوسق أمره، إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين لسبع وثلاثين من ملكه. وقام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبل مذاهب سلفه في الاستقامة والاقتداء، وكانت له مع البربر حروب ووقائع إلى أن هلك سنة خمسين ومايتين لإثنين وسبعين سنة من ملكه. وقام من بعده ابنه سعيد بن صالح، وكان أصغر ولده، فخرج عليه أخوه عبيد الله وعمّه الرضي، وظفر بهما بعد حروب كثيرة فغرب أخاه إلى المشرق ومات بمكة، وأبقى على عمّه الرضي لذمة صهر بينهما. وقتل سائر من ظفر به من عمومته وقرابته وامتعض لهم سعادة الله بن هارون منهم، ولحق ببني يصلتن أهل جبل أبي الحسين، ودلهم على عورته، وبيتوا معسكره واستولوا عليه، وأخذوا آلالة وقتلوا آلافاً من مواليه، وحاصروا بنكور. ثم كانت له الكرة عليهم وقتل منهم خلقاً ونجا سعادة الله إلى تمسامان، وتقبض على أخيه ميمون فضرب عنقه. ثم صار سعادة الله إلى طلب الصلح فأسعفه وأنزله معه مدينة نكور. ثم غزا سعيد بقومه وأهل إيالته من غمارة بلاد بطوية ومرنيسة وقلوع جارة وبني ورتندي وأصهر بأخته إلى أحمد بن إدريس
بن محمد بن سليمان صاحب وأنزله مدينة نكور معه. وتوطد الأمر لسعيد في تلك النواحي إلى أن خاطبه عبيد الله المهدي يدعوه إلى أمره وفي أسفل كتابه:
- فإن تستقيموا استقم لصلاحكم وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلاً
- وأعلو بسيفي قاهراً لسيوفكم وادخلها عفواً وأملؤها قتلاً
فكتب إليه شاعره الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد:
- كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ولا علم الرحمن من قولك الفصلا
- وما أنص إلا جاهل ومنافق تمثل للجهال في السنة المثلى
- وهمّتنا العليا لدين محمد وقد جعل الرحمن همتك السفلى
فكتب عبيد الله إلى مصالة بن حبوس صاحب تاهرت، وأوغزى إليه بغزوه فغزاه سنة أربع وثلثمائة لأربع وخمسين وستمائة من دولته، فحاربه سعيد وقومه أياماً. ثم غلبهم مصالة وقتلهم، وبعث برؤوسهم إلى رقادة، فطيف بها وركب بقيتهم البحر إلى مالقة، فتوسع الناصر في إنزالهم وإجارتهم وبالغ في تكريمهم. وأقام مصالة بمدينة نكور ستة أشهر. ثم قفل إلى تاهرت وولى عليها دلول من كتامة، فانقبض العسكر من حوله، وبلغ الخبر إلى بني سعيد بن صالح، وقومهم بمالقة، وهم: إدريس المعتصم وصالح فركبوا السفن، إليها وسبق صالح منهم، فاجتمع إليه البربر بمرسى تكسامان، وبايعوه سنة خمس وثلثمائة، ولقبوه القيّم لصغره، وزحفوا إلى دلول فظفروا به وبمن معه وقتلوهم، وكتب صالح بالفتح إلى الناصر، وأقام دعوته بأعماله. وبعث إليه الناصر بالهدايا والتحف والآلة، ووصل إليه إخوته وسائر قومه وأتوا طاعته. ولم يزل على هدى أوليه من اقتداء، إلى أن هلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة. وولي بعده إبنه عبد البديع، ولقب المؤيد، وزحف إليه موسى بن أبي العافية القائم بدعوة العبيديّين بالمغرب، فحاصره وتغلب عليه فقتله، واستباح المدينة وخربها منة سبع عشرة وثلثمائة. ثم تراجع إليها فلهم، وقام بأمرهم أبو أيوب إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور، وأعاد المدينة التي بناها صالح بن منصور وعمرها وسكنها ثلاثاً. ثم أغزاه ميسور مولى أبي القاسم بن عبيد الله صندلاً مولاه عندما أناخ على فاس، فبعث عسكراً مع صندل هذا فحاصر جراوة، ثم
عطف على نكور وتحصن منه إسماعيل بن عبد الملك بقلعة أكد ى. وبعث إليه صندل رسله من طريقه فقتلهم فأغذ إليه السير وقاتله ثمانية أيام.
ثم ظفر به فقتله واستباح القلعة وسباها، واستخلف عليها من كتامة رجلأ إسمه مرمازو، ووصل صندل إلى فاس فتراجع أهل نكور وبايعوا لموسى بن المعتصم بن محمد بن قرة بن المعتصم بن صالح بن منصور. وكان بجبل أبي الحسين عند بني يصلتن وكان يعرف بابن رومي. وقال صاحب المقياس: هو موسى بن رومي بن عبد السميع بن إدريس بن صالح بن إدريس بن صالح بن منصور، فأخذ مرمازو ومن معه وضرب أعناقهم، وبعث برؤسهم إلى الناصر. ثم ثار عليه من أعياص بيته عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح بن منصور، فخلعه وأخرجه عن نكور سنة تسع وعشرين وثلثمائة، ولحق موسى بالأندلس ومعه أهله وولده وأخوه هارون بن رومي وكثير من عمومته وأهل بيته. فمنهم من نزل معه المريّة، ومنهم من نزل مالقة. ثم انتقض أهل نكور على عبد السميع وقتلوه. واستدعوا من مالقة جرثم بن أحمد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور، فبادر إليهم وبايعوه سنة ست وثلاثين وثلثمائة، فاستقامت له الأمور وكان على مذهب سلفه في الاقتداء والعمل بمذهب مالك إلى أن مات آخر سنة ستين وثلثمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه. واتصلت الولاية في بيته إلى أن غلب عليهم أزداجة المتغلبون على وهران، وزحف أميرهم يعلى بن فتوح الأزداجي سنة ست وأربعمائة، وقيل سنة عشر فغلبهم على نكور وخربها، وانقرض ملكهم بعد ثلثمائة سنة وأربع عشرة سنة من لدن ولاية صالح وبقيت في بني يعلى بن فتوح وأزداجة إلى أعوام ستين وأربعمائة والله مالك الأمور لا إله إلا هو.
خريطة
الخبر عن حاميم المتنبي من غمارة:
كان غمارة هؤلاء غريقين في الجهالة والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير، وتنبأ فيهم من مجكسة حاميم بن من الله بن حرير بن عمر بن رحفو بن أزروال بن مجكسة يكنى أبا محمد، وأبوه أبو خلف. تنبأ سنة ثلاث عشرة وثلثمائة بجبل حاميم المشتهر به قريبأ من تطوان. واجتمع إليه كثير منهم وأقروا بنبوته، وشرع لهم الشرائع والديانات من العبادات والأحكام، وصنع لهم قرآناً كان يتلوه عليهم بلسانهم من كلامه: "يا من يخلي البصر، ينطر في الدنيا، خلني من الذنوب. يا من أخرج موسى من البحر، آمنت بحاميم وبأبيه أبي خلف من الله. وآمن رأسي وعقلي وما يكنه صدري، وأحاط به دمي ولحمي وآمنت بتابعيت عمة حاميم أخت أبي خلف من الله، وكانت كاهنة ساحرة، إلى غير هذا، وكان يلقب المفتري، وكانت أخته دبّو ساحرة كاهنة، وكانوا يستغثون بها في الحروب والقحوط، وقتل في حروب مصمودة بأحواز طنجة سنة خمس عشرة وثلثمائة، وكان لابنه عيسى من بعده قدر جليل في غمارة، ووفد على الناصر. ورهطهم بنو رحفو موطنون بوادي لاو ووادي راس قرب تطوان، وكذلك تنبأ منهم بعد ذلك عاصم بن جميل اليزدجومي، وله أخبار مأثورة، وما زالوا ينتحلون السحر لهذا . وأخبرني المشيخة من أهل المغرب أن أكثر منتحلي السحر منهم النساء العواتق.
قال: ولهن قوة على استجلاب روحانية ما يشاؤنه من الكواكب، فإذا استولوا عليه وتكيفوا بتلك الروحانية تصرفوا منها في الأكوان بما شاءوا والله أعلم.
دولة الأدارسة
الخبر عن دولة الأدارسة في غمارة وتصاريف أحوالهم كان عمر بن إدريس عندما قسم محمد بن إدريس أعمال المغرب بين إخوته برأي جدته كنزة أم إدريس، اختص منها بتيكيساس وترغة وبلاد صنهاجة وغمارة، واختصّ القاسم بطنجة وسبتة والبصرة وما إلى ذلك من بلاد غمارة. ثم غلب عمر عليها عندما تنكر له أخوه محمد واستضافها إلى عمله كما ذكرنا في أخبارهم. ثم تراجع بنو محمد بن القاسم من بعد ذلك إلى عملهم الأول فملكوه، واختط منهم محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم قلعة حجر النسر الدانية من سبتة معقلاً لهم وثغراً لعملهم. وبقيت الإمارة بفاس وأعمال المغرب في ولد محمد بن إدريس. ثم أدالوا منهم بولد عمر بن إدريس، وكان آخرهم يحيى بن إدريس بن عمر وهو الذي بايع لعبيد الله الشيعي على يد مصالة بن حبوس قائده، وعقد له على فاس. ثم نكبه سنة تسع وثلثمائة. وخرج عليه سنة ثلاث عشرة وثلثمائة من بني القاسم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس، ويلقب بالحجام لطعنه في المحاجم، وكان مقداماً شجاعاً. وثار أهل فاس بريحان وملكوا الحسن، وزحف إليه موسى ففله ومات. واستولى ابن أبي العافية على فاس وأعمال المغرب وأجلى الأدارسة وأحجرهم بحصنهم حجر النسر، وتحيزوا إلى جبال غمارة وبلاد الريف. وكان لغمارة في التمسك بدعوتهم آثار ومقامات، واستجدوا بتلك الناحية ملكاً توزعوه قطعاً كان أعظمها لبني محمد هؤلاء ولبني عمر بتيكيسان ونكور وبلاد الريف. ثم سما الناصر عبد الرحمن إلى ملك العدوة ومدافعة الشيعة، فنزل له بنو محمد عن سبتة سنة تسع عشرة وثلثمائة وتناولها من يد الرضي بن عصام رئيس محكسة، كان يقيم فيها دعوة الأدارسة فأفرجوا له عنها ودانوا بطاعته وأخذها من يده. ولما أغزا أبو القاسم ميسوراً إلى المغرب لمحاربة ابن أبي العافية حين نقض طاعتهم، ودعا للمروانية وجد بنو محمد السبيل إلى النيل منه بمظاهرة ميسور عليه، ومالأهم على ذلك بنو عمر صاحب نكور. ولما استقل ابن أبي العافية من نكبته، ورجع من الصحراء سنة خمس وعشرين
وثلثمائة منصرف ميسور من المغرب نازل بني محمد وبني عمر، وهلك بعد ذلك. وأجاز الناصر وزيره القاسم بن محمد بن طملس سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة لحربهم، وكتب إلى ملوك مغراوة محمد بن خزر وابنه الخير بمظاهرة عساكره مع ابن أبي العافية عليهم، فتسارع أبو العيش بن إدريس بن عمر المعروف بابن مصالة إلى الطاعة، وأوفد رسله إلى الناصر فعقد له الأمان، وأوفد ابنه محمد بن أبي العيش مؤكداً للطاعة، فاحتفل لقدومه وأكد له العقد، وتقبل سائر الأدارسة من بني محمد مذهبهم. وسألوا مثل سؤالهم، فعقد لجميع بني محمد أيضاً. وكان وفد منهم محمد بن عيسى بن أحمد بن محمد والحسن بن القاسم بن إبراهيم بن محمد، وكان بنو إدريس يرجعون في رئاستهم إلى بني محمد هؤلاء منذ اسبتد بها أخوهم الحسن بن محمد الملقب بالحجام في ثورته على ابن أبي العافية، فقدموا على أنفسهم القاسم بن محمد الملقب بكنون بعد فرار موسى بن أبي العافية، وملك بلاد المغرب ما عدا فاس مقيماً لدعوة الشيعة إلى أن هلك بقلعة حجر النسر سنة سبع وثلاثين وثلثمائة وقام بأمرهم من بعده أبو العيش أحمد بن القاسم كنون، وكان فقيهاً عالماً بالأيام والأخبار شجاعاً كريماً ويعرف بأحمد الفاضل، وكان منه ميل للمروانية فدعا للناصر، وخطب له على منابر عمله، ونقفر طاعة الشيعة؛ وبايعه أهل المغرب كافة إلى سجلماسة. ولما بايعه أهل فاس استعمل عليهم محمد بن الحسن. ووفد محمد بن أبي العيش بن إدريس بن عمر بن مصالة على الناصر عن أبيه سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، فاتصلت به وفاة أبيه وهو بالحضرة فعقد له الناصر على عمله وسرحه، وهجم عيسى ابن عمه أبي العيش أحمد بن القاسم كنون على عمله بتيكيساس في غيبة محمد، فملكها واحتوى على مال ابن مصالة. ولما أقبل محمد من الحضرة زحف برابرة غمارة إلى عيسى المذكور ابن كنون ففظعوا به وأثخنوه جراحة، وقتلوا أصحابه ببلد غمارة. وأجاز الناصر قواده إلى المغرب. وكان أول من أجاز إلى بني محمد هؤلاء سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة أحمد بن بعلى من طبقة القواد، أجازه إليهم في العساكر ودعاهم إلى هدم تيطاوين فامتنعوا، ثم انقادوا وتنصلوا وأجابوا إلى هدمها. ورجع عنهم فانتقضوا فسرح إليهم حميد بن يصل المكناسي في العساكر سنة تسع
وثلاثين وثلثمائة، وزحفوا إليه بوادي لاو فأوقع بهم فأذعنوا من بعدها. وتغلب الناصر على طنجة من يد أبي العيش أمير بني محمد وبقي يصل على بيعة الناصر. ثم تخطت عساكر الناصر إلى بسائط المغرب فأذعن له أهله، وأخذ بدعوته فيه أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة كما ذكرناه، فضعف أمير بني محمد واستأذنه أميرهم أبو العيش في الجهاد فأذن له وأمر ببناء القصور له في كل مرحلة من الجزيرة إلى الثغر، فكانت ثلاثين مرحلة، فأجاز أبو العيش واستخلف على عمله أخاه الحسن بن كنون. وتلقاه الناصر بالمبرة وأجرى له ألف دينار في كل يوم وهلك شهيداً في مواقف الجهاد سنة ثلاث وأربعين وستمائةوثلثمائة.
ولما أغزا معد قائده جوهراً الكاتب إلى المغرب واستنزل عماله، وتحصن الحسن بن كنون منه بقلعة النسر معقلهم. وبعث إليه بطاعته فلم يعرض له جوهر. ولما قفل من المغرب راجع الحسن طاعة الناصر إلى أن هلك سنة خمسين وثلثمائة، فاستجد الحكم عزمه في سد ثغور المغرب وإحكام دعوتهم فيه. وشحذ لها عزائم أوليائهم من ملوك زناتة فكان بينهم وبين زيري وبلكين ما ذكرناه. ثم أغزا معد بلكين بن زيري المغرب سنة إثنتين وستين وثلثمائة أولى غزواته، فأثخن في زناتة وأوغل في ديار المغرب. وقام الحسن بن كنون بدعوة الشيعة، ونقض طاعة المروانية، فلما انصرف بلكين أجاز الحكم عساكره إلى العدوة مع وزيره محمد بن قاسم بن طملس منه اثنتين وستين وثلثمائة لقتال الحسن بن كنون وبني محمد، فكان الظهور والفلاح للحسن على عسكر الحكم.
وقتل قائده محمد بن طملس وخلقاً كثيراً من عسكره وأوليائه. ودخل ففهم إلى
سبتة، واستصرخوا الحكم فبعث غالباً مولاه البعيد الصيت المعروف الشهامة، وأمده بكفاء ذلك من الأموال والجنود، وأمره باستنزال الأدارسة وإجازبهم إليه وقال له: سريا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلا حياً منصوراً، أو ميتاً معذوراً. واتصل خبره بالحسن بن كنون فأفرج عن مدينة البصرة واحتمل منها أمواله وحرمه وذخيرته إلى حجر النسر معقلهم القرب من سبتة، ونازله غالب بقصر مصمودة فاتصلت الحرب بينهم أياماً.
ثم بث غالب المال في رؤساء البربر من غمارة ومن معه من الجنود ففروا وأسلموه، وانحجز بقلعة حجر النسر، ونازله غالب وأمده الحكم بعرب الدولة ورجال الثغور.
وأجازهم مع وزيره صاحب الثغر الأعلى يحيى بن محمد بن هاشم التجيبي فيمن من أهل بيته وحشمه سنة ثلاث وستين وثلثمائة، فاجتمع مع غالب على القلعة واشتد الحصارعلى الحسن، وطلب من غالب الأمان فعقد له وتسلم الحصن من يده. ثم عطف على من بقي من الأدارسة ببلاد الريف فأزعجهم وسيرهم شرداً أسوة اين عمهم، واستنزل جميع الأدارسة من معاقلهم. وسار إلى فاس فملكها واستعمل عليها محمد سبن علي بن قشوش في عدوة القرويين، وعبد الكريم بن ثعلبة الجذامي في عدوة الأندلس. وانصرف غالب إلى قرطبة ومعه الحسن بن كنون وسائر ملوك الأدارسة، وقد مهد المغرب وفرق عماله في جهاته، وقطع دعوة الشيعة، وذلك سنة أربع وستين وثلثمائة. وتلقاهم الحكم وأركب الناس للقائهم. وكان يوم دخولهم إلى قرطبة أحفل أيام الدولة.
وعفا عن الحسن بن كنون ووفى له بالعهد، وأجزل له ولرجاله العطاء والخلع والجعالات، وأوسع عليهم الجراية، وأسنى لهم الأرزاق ورتب من حاشيتهم في الديوان سبعمائة من أنجاد المغاربة. وتجنى عليه بعد ثلاث سنين بسؤاله من الحسن قطعة عنبر عظيمة تأدت إليه من بعض سواحل عمله بالمغرب أيام ملكه، فاتخذ منها أريكة يرتفقها ويتوسدها، فسأله حملها إليه على أن يحكمه فى رضاه، فأبى عليه مع سعاية بني عمه فيه عند الخليفة، وسوء خلق الحسن ولجاجه، فنكبه واستصفى ما لديه من قطعة العنبر وسواها. واستقام أمر المغرب للحكم وتظافر أمراؤه على مدافعة بلكّين، وعقد الوزير المصحفي لجعفر بن علي عليم المغرب، واسترجع يحيى بن محمد بن هاشم. وغرب الحسن بن كثون والأدارسة جميعاً إلى المشرق اسثقالاً لنفقاتهم. وشرط عليهم الأ يعودوا فعبروا البحر من المرية سنة خمس وستين وثلثمائة، ونزلوا من جوار العزيز بن معذ بالقاهرة خير نزل، وبالغ في الكرامة، ووعد بالنصرة والترة. ثم بعث الحسن بن كنون إلى المغرب، وكتب له إلى آل زيري بن مناد بالقيروان بالمظاهرة، فلحق بالمغرب ودعا لنفسه. وبعث المنصور بن أبي عامر العساكر لمدافعته فغلبوه وتقبضوا عليه، وأشخصوه إلى الأندلس فقتل في طريقه سنة... كما ذكرناه في أخبارهم. وانقرض ملك
الأدارسة من المغرب أجمع إلى أن كان رجوع الأمر ليني حمود منهم ببلاد غمارة وسبتة وطنجة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
خريطة
الخبر عن دولة بني حمود ومواليهم بسبتة وطنجة وتصاريف أحوالهم و أحوال غمارة من بعدهم: كان الأدارسة لما أجلاهم الحكم المستنصر عن العدوة إلى الشرق، ومحا أثرهم من سائر بلاد المغرب، واستقامت غمارة على طاعة المروانية، وأدعنوا لجند الأندلسيين، ورجع الحسن بن كنون لطلب أمرهم فهلك على يد المنصور بن أبي عامر فانقرض أمرهم، وافترق الأدارسة في القبائل وانتشروا في الأرض، ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب واستحالت صبغتهم منه إلى البداوة. ولحق بالأندلس في جملة البرابرة من ولد عمر بن إدريس رجلان منهم، وهما: علي والقاسم ابنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس، فطار لهم ذكر في الشجاعة والإقدام ولما كانت الفتنة البربرية بالأندلس بعد انقراض الدولة العامرية، ونصب البرابرة سليمان بن الحكم ولقبوه المستعين، واختص به أبناء حمود هذان، وأحسنوا الغناء في ولايته، حتى إذا استولى على ملكه بقرطبة وعقد للمغاربة الولايات، عقد لعلي بن حمود هذا على طنجة وأعمال غمارة فنزلها وراجع عهده معهم فيها. ثم انتقض ودعا لنفسه وأجاز إلى الأندلس، وولي الخلافة بقرطبة كما ذكرناه فعقد على عمله بطنجة لابنه يحيى. ثم أجاز يحيى إلى الأندلس بعد مهلك أبيه عليّ منازعاً لعمه القاسم، واستقل أخوه إدريس من بعده بولاية طنجة وسائر أعمال أبيه بالعدوة من مواطن كمارة. ثم أجاز بعد مهلك أخيه يحيى بمالقة فاستدعى رجال دولتهم، وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على عملهم بسبتة وطنجة، وأنفذ نجا الخادم معه ليكون تحت نظره واستبداده. ولما هلك إدريس واعتزم ابن بقنة على الاستبداد بمالقة أجاز نجا الخادم بحسن بن يحيى من طنجة فملك مالقة وربت أمره في خلافته ورجع إلى سبتة. وعقد له حسن على عملهم في مواطن غمارة، حتى إذا هلك حسن أجاز نجا إلى الأندلس يروم الاستبداد. واستخلف على العمل من وثق به من موالي الصقالبة، فلم يزل إلى نطرهم واحداً بعد آخر إلى أن استقل بسبتة وطنجة من موالي بني حمود هؤلاء الحاجب سكوت البرغواطي، وكان عبدا للشيخ حداد من مواليهم اشتراه من سبي برغواطة في بعض أيام جهادهم. ثم صار إلى علي بن حمود فأخذ
النجابة بطبعه إلى أن استقل بأمرهم واقتعد كرسي عملهم بسبتة وطنجة، وأطاعته قبائل غمارة.
واتصلت أيامه إلى أن كانت دولة المرابطين، وتغلب يوسف بن تاشفين على مغراوة بفاس. ونجا ففهم إلى بلد الدمنة من آخر بسيط المغرب مما يلي بلاد غمارة. ونازلهم يوسف بن تاشفين سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، ودعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم، فهم بالانحياش ومظاهرته على عدوه. ثم ثناه عن ذلك إبنه الفائل الرأي. فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الدمنة وأوقع بهم وافتتح حصن علودان من حصون غمارة من ورائه، وانقاد المغرب لحكمه، صرف وجهه إلى سكوت فجهز إليه العساكر وعقد عليها للقائد صالح بن عمران من رجال لمتونة فتباشرت الرعايا بمقدمهم وانثالوا عليهم. وبلغ الخبر إلى الحاجب سكوت فأقسم أن لا يسمع أحداً من رعيته هدير طبولهم، ولحق هو بمدينة طنجة ثغر عمله. وقد كان عليها من قبله ابنه ضياء الدولة المعز، وبرز للقائهم فالتقى الجمعان بظاهر طنجة، وانكشفت عساكر سكوت، وطحنت رحى المرابطين، وسالت نفسه على ظباهم، ودخلوا طنجة واستولوا عليها. ولحق ضياء الدولة بسبتة.
ولما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس، وبعث ابن عباد صريخه إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مستنجزاً وعده في جهاد الطاغية والذب عن المسلمين، وكاتبه أهل الأندلس كافة اهتز إلى الجهاد، وبعث ابنه المعز سنة ست وسبعين وأربعمائة في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها براً، وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحرا، واقتحموها عنوةً. وتقبض على ضياء الدولة، واقتيد إلى المعز فطالبه بالمال فأساء إيجابه فقتله لوقته، وعثر على ذخائره وفيها خاتم يحيى بن علي بن حمود. وكتب إلى أبيه بالفتح، وانقرضت دولة آل حمود وامحى أثر سلطانهم من بلاد غمارة، وأقاموا في طاعة لمتونة سائر أيامهم.
ولما نجم المهدي بالمغرب واستفحل أمر الموحدين بعد مهلكه تنقل خليفته عبد المؤمن في بلادهم في غزاته الكبرى لفتح المغرب سني سبع وثلاثين وما بعدها قبل استيلائه على مراكش كما نذكره في أخبارهم، فوحدوا صفوفهم، واتبعوا أمره، ونازلوا سبتة في عساكره
. وامتنعت عليهم، وتولى كبر امتناعها قائدهم عيّاض الطائر الذكر رئيسهم لذلك العهد بدينه وابوته وعلمه ومنصبه. ثم افتتحت بعد فتح مراكش سنة إحدى وأربعين وستمائةفكانت لغمارة هؤلاء السابقة التي رعيت لهم سائر أيام الدولة. ولما فشل أمر بني عبد المؤمن، وذهبت ريحهم، وكثر الثوار بالقاصية، ثار فيهم محمد بن محمد الكتامي سنة خمس وعشرين. كان أبوه من قصر كتامة منقبضاً عن الناس، وكان ينتحل الكيميا، وتلقنه عنه ابنه محمد هذا. وكان يلقب أبا الطواحن فارتحل إلى سبتة ونزل إلى بني سعيد، وادعى صناعة الكيمياء فاتبعه الغوغاء. ثم ادعى النبوة وشرع شرائع وأظهر أنواعاً من الشعوذة، فكثر تابعه. ثم اطلعوا على خبثه ونبذوا إليه عهده. وزحفت عساكر سبتة إليه ففر عنها، وقتله بعض البرابرة غيلة. ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب وأمصاره سني أربعين وستمائة، واستولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان وستين وستمائة، فامتنع قبائل غمارة من طاعتهم واستعصوا عليهم، وأقاموا بمنجاة من الطاعة، وعلى ثبج من الخلاف. وامتنعت سبتة من ورائهم على ملوك بني مرين بسبب امتناعهم. وصار أمرها إلى الشورى، واستبد بها الفقيه أبو القاسم العزفي من مشيختهم. كما نذكر ذلك كله، إلى أن وقع بين قبائل غمارة ورؤسائهم فتن وحروب، ونزعت إحدى الطائفتين إلى طاعة السلطان بالمغرب من بني مربن فأتوها طواعية. ودخل الآخرون في الطاعة تلوهم طوعاً أو كرهاً. فملك بنو مرين أمرهم، واستعملوا عليهم، وتخطوا إلى سبتة من ورائهم فملكوها من أيدي العزفيّين سنة تسع وعشرين وسبعمائة على ما نذكره بعد عند ذكر دولتهم. وهم الآن على أحسن أحوالهم من الاعتزاز والكثرة يؤتون طاعتهم وجبايتهم عند استقلال الدولة، ويمرضون فيها عند التياثها بفشل أو شغل بخارج، فيجهز البعوث إليهم من الحضرة حتى يستقيموا على الطاعة. ولهم بوعورة جبالهم عز ومنعة وجوار لمن لحق بهم من أعياص الملك، ومستأمني الخوارج إلى هذا العهد. ولبني يكم من بينهم الحظ الوافر من ذلك، لأشراف جبلهم على سائرها وسمو بقاعة إلى مجاري السحب دونها وتوغر مسالكه بهبوب الرياح فبها. وهذا الجبل مطل على سبتة من غربيها ورئيسه منهم وصاحب
أمره يوسف بن عمر وبنوه، ولهم فيه عزة وثروة، وقد اتخذوا به المصانع والغروس وفرض لهم السلطان بدبوان سبتة العطاء. وأقطعهم ببسيط طنجة الضياع والفدن استئلافاً بهم وحسماً لزبون سائر غمارة بإيناس طاعتهم، ولله الخلق والأمر بيده ملك السموات والأرض.
الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصي من بطون المصامدة وما كان لهم من الظهور والأحوال ومباديء أمورهم وتصار يفها: هذه الجبال بقاسية المغرب من أعظم جبال المعمور بنا أعرق في الثرى أصلها وذهبت في السماء فروعها، وملأت الجو هياكلها، ومثلت سياجاً على ريف المغرب سطورها تبتدىء من ساحل البحر المحيط عند أسفى وما إليها، وتذهب في الشرق إلى غير نهاية. ويقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة، وهي في الجانب مما يلي مراكش ؤر ركب بعضها بعضاً متتالية على نسق من الصحراء إلى التل. يسير الراكب فيها معترضاً من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعة من القبلة ثماني مراحل وأزيد تفجرت فيها الأنهار، وجلل الأرض خمر الشعراء، وتطابقت بينها ظلال الأدواح. وزكت فيها مواد الزرع والضرع، وانفسحت مسارح الحيوان ومراقع الصيد، وطابت منابت الشجر، ودرت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلا خالقهم، قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيدو المباني والقصور واستغنوا بقطرهم منها عن أقطار العالم، فرحل إليهم التجر من الآفاق، واختلفت إليهم أهل النواحي والأمصار، ولم يزالوا منذ أول الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد اوطنوا منها أقطارا بل أقاليم تعددت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم، وافترقت أسماؤها بافتراق أحيائهم. تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازان حيث تبتدىء مواطن صناهاجة، ويحفون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس. وقبائل هؤلاء
المصامدة بهذه المواطن كثير فمنهم: هرغة وهنتاتة وتينملل وكدميوية وكنفيسة ووريكة وركراكة وهزميرة ودكالة وحاحة وأصادن وبنو وازكيت وبنو ماكر وإيلانة ويقال هيلانة بالهاء. ويقال أيضاً إن إيلان هو ابن بر، أصهر المصامدة فكانوا خلفاءهم. ومن بطون أصادن مصفاوة وماغوس، ومن مصفاوة دغاغة وبوطنان. ويقال إن غمارة ورهون وأمل من أمادين والله أعلم.
ويقال إن من بطون حاحة زكن وولخصن الظواعن الآن بأرض السوس أحلافاً لذوي حسان المتغلبيّن. عليها من عرب المعقل. ومن بطون كنفيسة أيضاًَ قبيلة سكسيوة الموطنون بأمنع المعاقل من هذه الجبال يطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة وعلى ساحل البحر المحيط من الغرب، ولهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم حسبما نذكره بعد. وكان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم. وكان من مشاهيرهم كسير بن وسلاس بن شملال من أمادة، وهو جد يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك. ودخل الأندلس وشهد الفتح مع طارق، في آخرين من مشاهيرهم استقروا بالأندلس، وكان لأعقابهم بها ذكر في دولة الأموية. وكذلك كان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء. ولهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن سائر أيامهم، حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين، ومن صنهاجة بأفريقية حسبما هو مشهور ونأتي الآن بذكره إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق ،لا رب سواه، ولا معبود إلا إياه0
خريطة
الخبر عن مبدأ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها علي يد بني عبد المؤمن من السلطان والدولة بالعدوتين وأفريقية وبداية ذلك وتصاريفه:
لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيماً، وجماعتهم موفورة وبأسهم قوياً، وفي أخبار الفتح من حروبهم مع عقبة بن نافع، وموسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور، إلى أن أظلتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلاً، وشأنهم على أهل السلطان والدولة مهماً، حتى لقد اختطّوا مدينة مراكش لنزلهم جوار
مواطنهم من درن ليتمرسوا بهم، ويذللوا من صعابهم. وفي عنفوان تلك الدولة على عهد علي بى يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت صاحب دولة الموحّدين المشتهر بالمهدي، أصله من هرغة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمى أبوه عبد الله وتومرت وكان يلقب في صغره أيضاً أمغار، وهو محمد بن عبد الله بن وجليد ابن بامصال بن حمزة بن عيسى فيما ذكره ابن رشيق وحققه ابن القطّان. وذكر بعض مؤرخى المغرب أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا بن مسيغون بن إيكلديس بن خالد.
وزعم كثير من المؤرخين أن نسبه في أهل البيت. وأنه محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن سفيان بن صفوار ابن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر الواقع نسب الكثير من بنيه في المصامدة وأهل السوس. كذا ذكر ابن نحيل في سليمان هذا، وأنه لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس، ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب. قال: فمن ولده كل طالبى بالسوس، وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب، وإن رباحاً الذي فى عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن وعلى الأمرين، فإن نسبه الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة. ورسبت عروقه فيهم والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم، وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم. وكان أهل بيته أهل نسك ورباط وشب محمد هذا قارئاً محباً للعلم، وكان يسمى أسافو، ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرح من القناديل بالمساجد لملازمتها. وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائه الخامسة. ومرة بالأندلس، ودخل قرطبة، وهي إذ ذاك دار علم. ثم أجاز إلى الإسكندر وحج ودخل العراق ولقي جملة العلماء
يومئذ، وفحول النظار. وأفاد علماً واسعاً وكان يحدث نفسه بالدولة لقومه على يده لما كان الكهّان والحزّاء يتحينون ظهور دولة يومئذ بالمغرب، ولقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي، وفاوضه بذات صدره في ذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة، وتقويض أركان السلطان الجامع الأمة المقيم للملة بعد أن سأله عمن له من العصابة والقبائل التي تكون بها الاعتزاز والمنعة، وبشأنها يتم أمر الله في درك البغية وظهور الدعوة. وانطلق هذا الإمام راجعاً إلى المغرب بحراً منفجراً من العلم، وشهاباً وارياً من الدين. وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة وأخذ عنهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفّية، والذب عنها بالحجج العقليّة الدافعة في صدور أهل البدعة. وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث، بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل، وإمرار التشابهات كما جاءت، ففطن على أهل المغرب في ذلك وحملهم على القوم بالتأويل، والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم، وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة والتوحيد. وكان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة. وألف في ذلك كتابه في الإمامية الذي افتتحه بقوله: أعز ما يطلب. وصار هذا المفتتح لقباً على ذلك الكتاب، واحتل بطرابلس أول بلاد المغرب معنياً بمذهبه ذلك، مظهراً النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه. وأخذ نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مط استطاع، حتى لقد لقي بسبب ذلك أذايات في نفسه احتسبها من صالح أعماله. ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد من أمراء صنهاجة. وكان من المترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير. وتعرض يوماً لتغيير بعض المنكرات في الطرق فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به، فخرج منها خائفاً ولحق بملالة على فرسخ منها وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة. وكان لهم اعتزاز ومنعة، فآووه وأجاروه. وطالبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه، فأبوا وأسخطوه، وأقام بينهم يدرس العلم أياماً. وكان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريباً من ديار ملالة، وهي لهذا العهد،
معروفة. وهنالك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجاً مع عمه فأعجب بعلمه، وألى عزمه عن وجهه ذلك، واختصّ به، وشمّر للأخذ عنه. وارتحل المهدي إلى المغرب وهو في جملته. ولحق بوانشرس. وصحبه منها البشير من جلة أصحابه. ثم لحق بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة، ووبخه على منتحله ذلك وخلافه لأهل قطره. وظن أن العذل يزعه عن ذلك، فصم عن قبوله. واستمر على طريقه إلى فاس، ثم إلى مكناسة ونهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء، وأوجموه ضرباً، ولحق بمراكش، وأقام بها آخذاً في شأنه. ولقي علي بن يوسف بالمسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له القول. ولقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي نسائهم فوبخها، ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه، ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته. وكان ملئوا منه حسداً وحفيظةً لما كان ينتحل مذهب الأشعريّة في تأويل المتشابه، وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إمراره كما جاء، ويرى أن الجمهور لقنوه تجسيماً، ويذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأشعرية في التكفير بمآل الرأي، فأغروا الأمير به وأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح والظهور عليهم، وخرج من مجلسه ونذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات، وغير المناكير على عادته، وأغرى به أهلها علي بن يوسف، وطيروا إليه بخبره فخرج عنها هو وتلميذه الذين كانوا في صحابته. ودعا إسماعيل بن إيكيك من أصحابه مايتين من أنجاد قومه، وخرج به إلى منجاة من جبال المصامدة. ولحق أولاً بمسفيوة، ثم بهنتاتة. ولقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي، وهو الشيخ أبو حفص ويعرف بيته بين هنتاتة ببني فاصكات. وتقول نسّابتهم: إن فاصكات هو جد وانودين، ويقال لهنتاتة بلسانهم ينتى فلذلك كان يعرف عمر بهنتي وسيأتي الكلام في تحقيق نسبه عند ذكر دولتهم. ثم ارتحل المهدي عنهم إلى إيكيلين من بلاد هرغة، فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة. وبنى رابطة للعبادة، واجتمعت إليه الطلبة والقبائل، فأعلمهم المرشدة والتوحيد باللسان البربري. وشاع أمره في صحبته. واستدرك رئيس الفئة العلمية بمجلس
الأمير علي بن يوسف، وهو مالك بن وهيب، أغراه به. وكان جزاء ينظر في النجوم، وكان الكفان يتحدثون بأن ملكاً كائن بالمغرب لأمة من البربر، ويتغير فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويين من السيارة، يقتضي ذلك في أحكامهم، وكان الأمير يتوقعها فقال له: احتفظ بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران.
والدرهم المربع في كلام سفساف بسجع سوقي يتناقلها الناس نصه وهو: أجعل على رجله كبلاً، ليلاً يسمعك طبلاً. وأظنه صاحب الدرهم المربّع، فطلبه علي بن يوسف ففقده، وسرح الخيالة في طلبه ففاتهم ، وداخل عامل السوس، وهو أبو بكر بن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله، ونذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل امتناعهم، وقتلوا من داخل في أمره. ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد، وقتال المجسمين دونه سنة خمس عشرة وخمسمائة، فتقدم إليها رجالاتهم من العشرة وغيرهم. وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن بكيت ويوسف بن وانودين وابن يغمور، ومن تينملل أبو حفص عمر بن علي الصناكي ومحمد بى سليمان وعمر بن تافركين وعبد الله بن ملويات. وأهب قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم،. ثم دخل معهم كدميوه وكنفيسة. ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي، وكان لقبه قبلها الإمام وكان يسمي أصحابه الطلبة، وأهل دعوته الموحدين. ولما تم له خمسون من أصحابه سماهم آيت الخمسين. وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح. وكان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وترددت عساكر لمتونة إليهم مدة بعد أخرى ففضوهم. وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تينملل فأوطنه، وبنى داره ومسجده بينهم، حوالي منبع وادي نفيس. وقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا: هزرجة وأوقع بهم مراراً، ودانوا بالطاعة. ثم قاتل هسكورة ومعهم أبو درقة اللمتوني فغلبهم وقفل، فاتبعه
بنو واسكيت فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً. ثم غزا بلد عجدامة وكن قد افتتحه وترك به الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به وقتلوه فغزاهم واستباحهم. ورجع إلى تينملل وأقام بها إلى أن كان شأن البشير، وميز الموحد من المنافق. وكانوا يسمون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم، وجمع كافة أهل دعوته من المصامدة. وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم إلى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن على بن يوسف، وإبراهيم بن تاعباشت، فهزمهم الموحدون. وقتل إبراهيم واتبعوهم إلى مراكش، فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفاً كلهم راجلين، إلا أربعمائة فارس.
واحتفل علي بن يوسف في الاحتشاد وبرز إليهم لأربعين من نزولهم عليه من باب إيلان فهزمهم وثخن ليهم قتلاً وسبياً، وفقد البشير من أصحابه. واستحر القتل ني هيلانة، وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء. وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها. وكان يسمي أتباعه بالموحدين تعريضاً بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم. وكان حصوراً لا يأتي النساء. وكان يلبس العباءة المرقعة. وله قدم في التقشّف والعبادة، ولم يحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم والله تعالي أعلم. الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بيته ووصف لحالهم ومصاير أمورهم لما هلك المهدي سنة إثنتين وعشرين وخمسمائة كما ذكرناه وقد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المتقدم ذكره ونسبه عند ذكر قومه، فقبر بمسجده لصق داره من تينملل. وخشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن لكونه من غير جلدتهم، فأرجأوا الأمر إلى أن تخالط بشاشة الدعوة قلوبهم، وكتموا موته، زعموا ثلاث سنين
يموّهون بمرضه، ويقيمون سنته في الصلاة والحزب الراتب. ويدخل صحابته إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته، فيجلسون حفافي قبره ويتفاوضون في شؤونهم بمحضر أخته زينب، ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه، ويتولاه عبد المؤمن بتلقينهم. حتى إذا استحكم أمرهم، وتمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم، وتمالاً من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن. وتولى كبر ذلك الشيخ أبو حفص، وأراد هنتاتة وسائر المصامدة عليه فأظهروا للناس موت المهدي، وعهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك.
وروى يحيى بن يغمور عن الإمام أنه يقول في دعائه إثر صلواته: "اللهم بارك لي في الصاحب الأفضل" فرضي الكافة وانقادوا وأجمعوا على بيعته بمدينة تينملل سنة أربع وعشرين وخمسمائة، فقام بأمر الموحدين وأبعد في الغزوات فصبح تادلاً، وأصاب منهم. ثم غزا درعة واستولى عليها سنة ست وعشرين وخمسمائة. ثم غزا تاشعبوت وافتتحها وقتل واليها أبا بكر بن مزروال ومن كان معه من قومه غمارة بني ونام وبني مزردع. ثم تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجاً، وانتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة، وسرح علي بن يوسف إبنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث وستين وخمسمائة، فجاءهم من ناحية أرض السوس، واحتشد معه قبائل كزولة وجعلهم في مقدمته فلقيهم الموحدون بأوائل جبلهم وهزموهم. ورجع تاشفين ولم يلق حرباً، ودخل كزولة من بعدها في دولة الموحدين. وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب، فغزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين وخمسمائة إلى سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة، ولما يراجع فيها تينملل حتى انقضت بالفتح والاستيلاء على المغربين، خرج إليها من تينملل، وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسائط، والناس يفرون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل، والحطب للدفء، إلى أن وصل إلى جبال غمارة، واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب، وامتنعت الرعايا من المغرم، والخ الطاغية على المسلمين بالعدوة. وهلك خلال ذلك علي بن يويسف أمير لمتونة وملك العدوتين سنة سبع وثلاثين
وخمسمائة، وولي أمرهم تاشفين إبنه وهو في غزاته هذه، وقد أحيط به. وحدث بعد موت أبيه فتنة بين لمتونة ومسوفة، ففزع أمراء مسوفة مثل براز بن محمد ويحيى بن تاكفت ويحيى بن إسحاق المعروف بأنكار، وكان والي تلمسان. ولحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة، ودخلوا في دعوته ونبذ إليهم لمتونة العهد، وإلى سائر مسوفة. واستمر عبد المؤمن على حاله، فنازل سبتة وامتنعت عليه، وتولى كبر دفاعه عنها القاضي عياض الشهير الذكر. كان رئيسها يومئذ بدينه وابوته ومنصبه. ولذلك سخطته الدولة آخر الأيام، حتى مات مغرباً عن سبتة بتادلاً مستعملاً في خطة القضاء بالبادية وتمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثة وبطوية فافتتحها، ثم نزل ملويّة فافتتح حصونها. ثم تخطى إلى بلاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة. وكان بعث إليهم عسكر من الموحدين إلى نظر يوسف بن وانودين وابن يرمور فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانوا عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونة وزناتة فهزمهم الموحدون وقتل ابن فانوا. وانفض عسكر زناتة، ورجعوا إلى بلادهم.
وولى ابن تاشفين على تلمسان أبا بكر بن مزدلي، ووصل إلى عبد المؤمن بمكانه . الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن يدر أمراء بني ومانوا، فبعث معهم ابن يغمور وابن وانودين في عسكرهم من الموحدين، فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد وبني يلومي سبياً وأسراً، وأمدتهم عساكر لمتونة ومعهم الزبرتير قائد الروم فنزلوا منداس، واجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي وبني عبد الواد، وشيخهم حمامة بن مطهر، وبني ينكاسن وبني ورسفان وبني توجين، فأوقعوا ببني ومانوا واستنقذوا غنائمهم من أيديهم. وقتلوا أبا بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه. وتحصن الموحّدون وابن وانودين بجبال سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخاً على لمتونة وزناتة،. فارتحل معه إلى تلمسان. ثم أجاز إلى سيرات وقصد محلة لمتونة وزناتة،
فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل بني ورنيد. ونزل تاشفين باصطفصف ووصل مدده صنهاجة من قبل يحيى بن العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قواده، أمدوا به تاشفين وقومه لصبية الصنهاجية. وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحدين، وكان يدل بإقدام وبأس فزارى بلمتونة وأميرهم لقعودهم عن مناحزة الموحدين، وقال: إنما جئتكم لأمكنكم من صاحبكم عبد المؤمن هذا، وأرجع إلى قومي.، فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة، فحمل على القوم فركبوا وصمموا للقائه، فكان آخر العهد به وبعسكره. وكان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه، فأغار على بني سنوس وزناتة الذين كانوا في بسيطهم، ورجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من معسكر عبد المؤمن فقتلوهم، وقتل الزبرتير وصلب. ثم بعث بعثاً آخر إلى بلاد بني ومانوا فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه من الموحدين وأوقعوا بهم. واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل. وتوالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران، وبعث إبنه إبراهيم ولي عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة، وبعث كاتباً معه أحمد بن عطية. ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأقام عليها شهراً ينتظر قائد أسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل، فأرساها قريباً من معسكره. وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى. ولجني ومانوا من زناتة فتقدموا إلى بلاد بني يلومي وبني عبد الواد وبني ورسيفن وبني توجين وأثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم. ووفد على عبد المؤمن برؤسائهم، وكان منهم سيد الناس ابن أمير الناس شيخ. بني يلومي فتلقاهم بالقبول، وسار في جموع الموحدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضوهم، ولجأ تاشفين إلى رابطة هنالك فأحدقوا بها وأضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل، فخرج تاشفين من الحصن راكباً على فرسه فتردى من بعد حافات الجبل، وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
وبعث برأسه إلى تينملل. ولجأ فل العسكر إلى وهران فانحصروا مع أهلها. حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعاً على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة. وبلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فل لمتونة، وفيهم أبو بكر بن ويحى وسير بن الحاج وعليّ بن فيلو، في آخرين من أعيانهم، ففر معهم من كان بها من لمتونة. وقدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم، فلقيهم يصلين من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم جميعاً.
ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم، وعفا عن أهل تلمسان، ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولى عليها سليمان بن محمد بن وانودين، وقيل يوسف بن وانودين. وفيما نقل بعض المؤرخين أنه لم يزل محاصراً لتلمسان، والفتوح ترد عليه، وهناك وصلته بيعة سجلماسة. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب، وترك إبراهيم بن جامع محاصراً لتلمسان، فقصد فاس سنة إحدى أربعين وخمسمائة، وقد تحصن بها يحيى الصحراوي. ولحق بها من فل تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن، وبعث عسكراً لحصار مكناسة، ثم رحل في أتباعه، وترك عسكراً من الموحدين على فاس، وعليهم الشيخ أبو حفص وأبو إبراهيم من صحابة المهدي العشرة فحاصروها سبعة أشهر. ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد، وأدخل الموحدين ليلاً، وفر الصحراوي إلى طنجة وأجاز منها ابن غانية بالأندلس، وبلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة، فرجع إليها وولى عليها إبراهيم بن جامع، وولى على حصار مكناسة يحيى بن يغمور، ورحل إلى مراكش وكان إبراهيم بن جامع لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن وهو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضب بن عسكر أمير بني مرين باد سيف ونالوا منه ومن رفقته، فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين بن عامل تلمسان أن يجهز إليهم العساكر، فبعثها صحبة عبد الحق بن منغفاد شيخ نجني عبد الواد، فأوقعوا ببني مرين، وقتل المخضب أميرهم. ولما ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته في طريقه بيعة أهل سبتة، فولى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة، ومر على بسلا فافتتحها بعد مواقعة
قليلة، ونزل منها بدار ابن عشرة، ثم تمادى إلى مراكش. وسرح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع. ولقيه في طريقه ووصلوا جميعاً إلى مراكش وقد ضموا إليها جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلاً، واكتسحوا أموالهم وظعائنهم. وأقاموا على مراكش سبعة أشهر وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف بايعوه صبياً صغيراً عند بلوغ خبر أبيه. ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين فانهزموا وتتبعهم الموحدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوال سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة وقتل عامة الملثمين. ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحدين، وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم وامحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع بلاد المغرب.
ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود وتلقب بالهادي، وظهر في رباط ماسة فأقبل إليه الشرار من كل جانب، وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الافاق، وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة وركراكه وقبائل تامسنا وهوارة. وفشت ضلالته في جميع المغرب، فسرح إليه عبد المؤمن عسكراً من الموحدين لنظر يحيى انكمار المسوفي النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي. ولقي هذا الثائر المآسي، ورجع مهزوماً إلى عبد المؤمن، فسرح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وأشياخ الموحدين، واحتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة. وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفاً من الرجال وسبعمائة من الفرسان، فهزمهم الموحدون وقتل داعيتهم في المعركة مع أكثر أتباعه، وذلك في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة. وكتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي جعفر بن عطية الشهير الذكر، كان أبوه أبو أحمد كاتباً لعلي بن يوسف وإبنه تاشفين ، وتحصل في قبضة الموحدين فعفا عنه عبد المؤمن. ولما نزل على فاس اعتزم أبو أحمد هذا على الفرار فقبض عليه في طريقه، واعتذر فلم يقبل عذره وقتل. وكان إبنه أحمد كاتباً لإسحاق بن علي بمراكش
فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفل، وخرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجهته هذه وطلبه للكتاب في ذلك، فأجاد واستحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولاً. ثم ارتفع عنده بخلاله فاستوزره، وبعد في الدولة صيته، وقاد العساكر وجمع الأموال وبذلها ونال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولتهم إلى أن دبت عقارب السعاية إلى مهاده الوثير، فكان فيها حتفه ونكبه الخليفة سنة ثلاث وخمسين وستمائة وخمسمائة وقتله بمحبسه حسبما هو مشهور.
ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياماً. ثم خرج غازياً إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن، فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم بالقتل والسبي حتى أذعنوا بالطاعة ورجع. ثم خرج إلى هسكورة وأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم. ثم نهض إلى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش، ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدة ثم هزموه. واضطرمت نار الفتنة في المغرب، وانتقض أهل سبتة، وأخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي وقتلوه ومن كان معه من الموحدين وأجاز القاضي عياض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوقي الوالي بالأندلس فلقيه بالخضراء، وطلب منه والياً على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها. وذكرنا أنه لحق بطنجة فأجاز البحر إلى الأندل ولحق بابن غانية بقرطبة وصار في جملته. وبعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه. وقام بأمرها ووصل يد بالقبائل الناكثة لطاعة الموحدين من برغواطة ودكالة على حين هزيمتهم للموحدين ين كما ذكرناه. ولحق بهم من مكانه بسبتة وخرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة إثتين وأربعين وستمائةوخمسمائة فدوخ بلادهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرأوا من يحيى الصحراوي ولمتونة، ورجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه، ووصلته الرغبة من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه وصلحت أحوال المغرب. وراجع أهل سبتة طاعتهم فتقبل منهم، وكذلك أهل سلا فصفح عنهم وأمر بهدم سورهم. والله أعلم
فتح الأندلس
فتح الأندلس وشؤنها
ثم صرف عبد المؤمن نظره إلى الأندلس، وكان من خبرها أنه اتصل بالملثمين مقتل تاشفين بن عليّ، ومنازلة الموحدين مدينة فاس. وكان علي بن عيسى بن ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة وانتزى بجزيرة قادس، فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس، ودخل في دعوته وخطب له بجامع قادس أول خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين وخمسمائة. وبعث أحمد بن قسي صاحب مرتلة ومقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس رسولاً إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان وادى كتاب صاحبه، فأنكر ما تضمنه من النعت بالمهدي، ولم يجاوب. وكان سداري بن وزير صاحب بطليوس وباجة وغرب الأندلس قد تغلب على أحمد بن قسي هذا، وغلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قسي البحر إلى عبد المؤمن بعد فتح مراكش لمداخلة علي بن عيسى بن ميمون ونزل بسبتة فجهزه يوسف بن مخلوف، ولحق بعبد المؤمن، ورغبه في ملك الأندلس، وأغراه بالملثمين فبعث معه عساكر الموحدين لنظر براز بن محمد المسوفي النازع إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين، وعقد له على حرب من بها من لمتونة والثوار وأمده بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد، وبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي ولما أجازوا إلى الأندلس نازلوا أبا الغمر بن عزون من الثوار بشريش، وكانت له مع رلدة.
ثم قصدوا لبلة وبها من الثوار يوسف بن أحمد البطورجي فأعطاهم الطاعة ثم
قصدوا مرتلة، وهي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قسي. ثم قصدوا شلب فافتتحوها وأمكنوا منها ابن قسي. ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس فأطاعهم صاحبها سداري بن وزير. ثم رجع براز في عسكر الموحدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة
إشبيلية فأطاعه أهل طليطلة وحصن القصر، واجتمع إليه سائر الثوار وحاصروا إشبيلية براً وبحراً إلى أن اقتحموها في شعبان سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة. وفر الملثمون بها إلى قرمونة وقتل من أدرك منهم. وأنى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربي في هيعة تلك الدخلة من غير قصد. وكتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن علي. وقدم عليه وفدهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبل طاعتهم وانصرفوا بالجوائز والإقطاعات لجميع الوفد سنة إثنتين وأربعين وستمائة وخمسمائة.
وهلك القاضي أبو بكر في طريقه ودفن بمقبرة فاس. وكان عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بإشبيلية فساء أثرهما في البلد واستطالت أيديهما على أهله، واستباحوا الدماء والأموال. ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحدين الذين بها وحول الدعوة عنهم. وبعث إلى طليطلة وحصن القصر ووصل يده بالملثمين الذين كانوا بالعدوة؟ وارتد ابن قسي في مدينة شلب، وعلي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس، ومحمد بن علي بن الحجام بمدينة بطليوس. وثبت أبو الغمر بن عزون على طاعة الموحدين بشريش ورندة وجهاتها. وتغلب ابن غانية على الجزيرة الخضراء، وانتقض أهل سبتة كما ذكرناه وضاقت أحوال الموحدين بإشبيلية فخرج منها عيسى وعبد العزيز أخوا المهدي وابن عمهما يصليتن بمن كان معهم. ولحقوا بجبل بستر جاءهم أبو الغمر بن عزون واتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوها وقتلوا من كان بها من لمتونة ولحق أخوا المهدي بمراكش وبعث عبد المؤمن على إشبيلة يوسف بن سليمان في
عسكر من الموحدين وأبقى براز بن محمد على الجباية فخرج يوسف ودوخ أعمال البطروجي بلبلة وطليطلة وعمل ابن قسي بشلب ثم أغار على طلبيرة وأطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنتمرية وغزا معهم وأرسل محمد بن عليّ بن الحجام صاحب بطليوس بهداياه فتقبلت ورعيت له، ورجع يوسف إلى إشبيلية، وفي أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن علي بن غانية بقرطبة ولج على جهاته حتى نزل له عن بياسة وأبدة وتغلب على الأشبونة وطرطوشة ولاردة وأفراغة وشنتمرية وغيرها من حصون الأندلس وطالب ابن غانية بالزيادة في ضريبته أو الإفراج له عن قرطبة فراسل ابن غانية براز بن محمد واجتمعا باستجة وضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلى عن قرطبة وقرمونة ويدال منها بجيان فرضي بذلك وتم العقد ووصل خطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان ونازله الطاغية بها فغدر بأقماطه واقتلعهم بقلعة ابن سعيد وأفرج الطاغية عن جيان ولحق هذا بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحدين فكان مهلكه بها بشعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائةوخمسمائة وقبره بها معروف لهذا العهد. وانتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها، ودفع الموحدون بإشبيلية أبا الغمر بن عزون لحمايتها، ووصل إليه مدد يوسف البطروجي من لبلة. وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكراً من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور. ولما دخلها أفرج عنها الطاغية لأيام من مدخله، وبادر الثوار إلى يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن. ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبلهم وصفح لهم، ونهض إلى مدينة سلا سنة خمس وأربعين وستمائةوخمسمائة. واستدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه وبايعوه جميعاً، وبايعه الرؤساء من الثوار على الانخلاع من الأمر مثل: سداراي بن وزير صاحب باجة، وبابورة والبطروجي صاحب لبلة، وابن عزون صاحب شريش ورندة، وابن الحجّام صاحب بطليوس وعامل ابن منيب صاحب طابيرة. وتخفف ابن قسي وأهل شلب عن هذا الجمع، فكان سبباً لقتله من بعد. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم واستصحب الثوار فلم يزالوا بحضرته والله تعالى أعلم.
فتح أفريقية فتح أفريقية وشؤنها ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه أفريقية من اختلاف الأمراء واستطالة العرب عليها بالعيث والفساد، وأنهم حاصروا مدينة القيروان وأن موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة وملكها، فأجمع الرحلة إلى غزو أفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه. وخرج من مراكش سنة ست وأربعين وستمائةوخمسمائة مورياً بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة، واستوضح أحوال أهل الأندلس ثم رحل عن سبتة مورياً بمراكش، وأغذّ السير إلى بجاية فدخل الجزائر على حين غفلة وخرج إليه الحسن بن عليّ صاحب المهدئة فصحبه واعترضته جيوش صنهاجة بأم العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلها. وركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدهما لذلك، واحتمل فيها ذخائره وأمواله، ولحق بقسنطينة إلى أن نزل بعد ذلك عنها على أمان عبد المؤمن واستقر
بمراكش تحت الجراية والعناية إلى أن هلك رحمه الله.
ثم سرح عبد المؤمن عساكر الموحدين وعليهم إبنه عبد الله إلى القلعة، وبها جوشن بن العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها واستلحم من كان بها منهم، وأضرم النار في مساكنها وقتل جوشن. ويقال إن القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفاً، وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم والسبي، وبلغ الخبر إلى العرب بأفريقية من الأثبج وزغبة ورياح وقسرة فعسكروا بظاهر باجة، وتدامروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز وارتحلوا إلى سطيف. وزحف إليهم عبد الله بن عبد المؤمن في الموحدين الذين معه. وكان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب ونزل متيجة فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله والتقى الفريقان بسطيف واقتلوا ثلاثاً، ثم انفضت جموع العرب واستلحموا وسبيت نساؤهم واكتسحت أموالهم وأسر أبناؤهم. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع وأربعين وستمائةوخمسمائة، ووفد عليه كبراء العرب من أهل أفريقية طائعين فوصلهم ورجعهم إلى قومهم. وعقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن، واستوزر له يوسف بن سليمان. وعقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص، واستوزر له أبا محمد بن وانودين. وعلى سبتة للسيد أبي سعيد، واستوزر له محمد بن سليمان. وعلى بجاية للسيد أبي محمد عبد الله. واستوزر له يخلف بن الحسين. واختص ابنه عبد الله بولاية عهده. وتقلب بذلك كله ضمائر عبد العزيز ويحيى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر، وأدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين وقتلوه بمكانه من القصبة. ووصل على أثرهما الوزير أبو جعفر بن عطية وعبد المؤمن على أثره فأطفآ نار تلك الثورة وقتل أخوا المهدي ومن داخلهم فيها والله أعلم. فتح بقية الأندلس: وبلغه بمراكش سنة تسع وأربعين وستمائةوخمسمائة أن يحيى بن يغمور صاحب إشبيلية قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها، ولم يقبل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور وعزله عن إشبيلية بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن عليّ التينمللي، وعن
قرطبة بأبي زيد بن بكيت وبعث عبد الله بن سليمان، فجاء بابن يغمور معتقلاً إلى الحضرة وألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان واستقام أمر الأندلس. وخرج ميمون بن يدر اللمتوني عن غرناطة للموحدين فملكوها، وأجاز إليها السيد أبو سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك. ولحق الملثمون بمراكش ونازل السيد أبو سعيد مدينة المرية حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان. وحضر لذلك الوزير أبو جعفر بن عطية بعد أن أمدهم ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس والطاغية معه، وعجزوا جميعاً عن المدافعة. ثم وفد أشياخ إشبيلية سنة إحدى وخمسين وستمائة وخمسمائة ورغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها، وافتتح أمره بمنازلة عليّ الوهبي الثائر بطبيرية ومعه الوزير أبو جعفر بن عطية، حتى استقام على الطاعة. ثم استولى على عمل ابن وزير وابن قسي، واستنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة إثنتين وخمسين وستمائة وخمسمائة، وكان الذي أمكن الملثمين منها ابن قسي واستتم الفتح. ورجع السيد إلى إشبيلية، وانصرف أبو جعفر بن عطية إلى مراكش فكانت نكبته ومقتله. واستوزر عبد المؤمن بعده عبد السلام الكومي كان يمت إليه بذمة صهر فلم يزل على و زارته.والله أعلم0
بقية فتح أفريقية: لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث وخمسين وستمائة وخمسمائة ما كان من إيقاع الطاغية بإبنه السيد أبي يعقوب بظاهر إشبيلية، ومن استشهد من أشياخ الموحدين وحفاظهم، ومن الثوار مثل ابن عزون وابن الحجام، نهض يريد الجهاد واحتل سلا فبلغه
انتقاض أفريقية، وأهمه شأن النصارى بالمهدية. فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس، ونهض يغذ السير حتى نازل المهدية ومن بها من نصارى أهل صقلية فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين وستمائة وخمسمائة. واستنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس وطرابلس من أيدي العدو. وبعث إبنه عبد الله من مكان حصاره للمهدية إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان بعض بطون رياح. واستخلص قفصة من يد بني الورد، وزرعة من يد بني بروكسن، وطبرقة من يد علال وجبل زغوان من يد بني حماد بن خليفة وشقبناريّة من يد بني عبّاد بن نصر الله. ومدينة الأربص من يد ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة. ولما استكمل الفتح وثنى عنانه إلى المغرب سنة ست وخمسين وستمائة وخمسمائة بلغه أن الأعراب بأفريقية انتقضوا عليه، فرجع إليهم عسكراً من الموحدين، فنهضوا إلى القيروان، وأوقعوا بالعرب، وقتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني عليّ إحدى بطون رياح.والله أعلم . أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس: كان بلغ عبد المؤمن وهو بأفريقية أن محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية ونازل جيان. وأطاعه واليها محمد ببن عليّ الكومي. ثم نازل بعدها قرطبة ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها، ثم رجع إلى قرطبة. وخرج ابن بكيت لحربه فهزمه وقتله، فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح أفريقية، وأنه واصل إليهم وعبر البحر إلى جبل الفتح. واجتمع إليه أهل الأندلس ومن بها من الموحدين ثم رجع إلى مراكش وبعث عساكره إلى الجهاد، ولقيهم الطاغية فهزموه. وتغلب السيد أبو يعقوب على
قرمونة من يد ابن هشمك صهر ابن مردنيش. وكان السيدان أبو يعقوب صاحب إشبيلية وأبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش، فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة وغدر بها ليلاً بمداخلة من بعض أهلها. واستولى عليها وانحصر الموحدون بقبضها، وخرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا.
وقدم السيد أبا سعيد فأجاز البحر ولقيه عامل إشبيلية عبد الله بن أبي حفص بن علي، ونهضوا جميعاً إلى غرناطة، فنهض إليهم ابن همشك وهزمهم. ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة، وردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحدين، ونهضوا إلى غرناطة، وكان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مدداً لابن همشك، فلقيهم الموحدون بفحص غرناطة وهزموهم. وفر ابن مردنيش إلى مكانه من المشرق، ولحق ابن همشك بجيان فنازله الموحدون. وارتحل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعى السيد أبو يعقوب إلى مراكش سنة ثمان وخمسين وستمائة وخمسمائة لولاية العهد، والإدالة به من أخيه محمد، فلحق بمراكش وخرج في ركاب أبيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد. وأدركته المنية بسلا في جمادى الآخرة من هذه السنة وقبر بتينملل إلى جانب المهدي والله أعلم. دولة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن: لما هلك عبد المؤمن أخذ البيعة على الناس السيد أبوحفص لأخيه أبي يعقوب باتفاق من الموحدين كافة، ورضي من الشيخ أبي حفص خاصة، واستقل في رتبة وزارته ورجعوا إلى مراكش. وكان السيد أبو حفص هذا وزيراً لأبيه عبد المؤمن، استوزره عند نكبة عبد السلام الكومي فرجعه من أفريقية سنة خمس وخمسين وستمائة وخمسمائة. وكان أبو العلى بن جامع متصرفاً بين يديه في رسم الوزارة إلى أن هلك عبد المؤمن فأخذ أبو حفص البيعة لأخيه أبي يعقوب. ثم هلك إثر وفاة عبد المؤمن ابنه السيد أبو الحسن صاحب فاس، والسيد أبو محمد صاحب بجاية في طريقه إلى الحضرة. ثم استقدم أبو يعقوب السيد أبا سعيد من كرناطة سنة ستين وخمسمائة فقدم ولقيه السيد
أبوحفص بسبتة.
ثم صرح الخليفة أبو يعقوب معه أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس في عساكر الموحدين لما بلغه من إلحاح ابن مردنيش على قرطبة، بعد أن احتشد معه قبائل العرب من زغبة ورياح والاثبج، فاجتاز البحر وقصد ابن مردنيش، وقد جمع جموعه وأولياءه من النصارى. ولقيهم عساكر الموحدين بفحص مرسية، فانهزم ابن مردنيش وأصحابه وفر إلى مرسية، ونازله الموحدون بها ودوخوا نواحيه. وانصرف السيد أبو حفص وأخوه أبو سعيد سنة إحدى وستين وخمسمائة إلى مراكش وخمدت نار الفتنة من ابن مردنيش. وعقد الخليفة على بجاية لأخيه السيد أبي زكريا، وعلى إشبيلية للشيخ أبي عبد الله بن إبراهيم. ثم أدال منه بأخيه السيد أبي إبراهيم، وأقر الشيخ أبا عبد الله على وزارته. وعقد على قرطبة للسيد أبي إسحق، وأقر السيد أبا سعيد على غرناطة ثم نظر الموحدون في وضع العلامة في المكتوبات بخط الخليفة فاختاروا: "الحمد لله وحده " لما وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته، فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم والله تعالىأعلم0
فتنة غمارة
وفي سنة إثنتين وستين وخمسمائة تحرك الأمير أبو يعقوب إلى جبال غمارة، لما كان ظهر بها من الفتنة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد منهم. وناغاهم في الفتنة صنهاجة جيرانهم، فبعث الأمير أبو يعقوب عساكر الموحدين لنظر الشيخ أبى حفص، ثم تعاظمت فتن غمارة وصنهاجة فخرج إليهم بنفسه وأوقع بهم واستأصلهم وقتل سبع بن منغفاد وانحسم داؤهم، وعقد لأخيه السيد أبي علي الحسن على سبتة وسائر بلادهم. وفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة اجتمع الموحدون على تجديد البيعة واللقب بأمير المؤمنين، وخاطب العرب بأفريقية يستدعيهم إلى الغزو ويحرضهم. وكتب إليهم في ذلك قصيدة ورسالة مشهورة بين الناس، وكان من إجابتهم ووفودهم عليه ما هو معروف.
أخبار الأندلس:
لما استوسق الأمر للخليفة أبي يعقوب بالعدوة وصرف نظره إلى الأندلس والجهاد، واتصل به ما كان من غدر العدو، دمّره الله، بمدينة ترجالة. ثم مدينة يابرة، ثم حصن شبرمة، ثم حصن جلمانية إزاء بطليوس، ثم مدينة بطليوس، فسرّح الشيخ أبا حفص في عساكر من الموحدين احتفل في انتقائهم. وخرج سنة أربع وستين وخمسمائة لاستنقاذ بطليوس من هوة الحصار، فلما وصل إلى إشبيلية بلغه أن الموحدين ببطليوس هزموا ابن الرنك الذي كان يحاصرهم بإعانة ابن أذفونش. وأن ابن الرنك تحصل في قبضتهم أسيراً، وفر جراندة الجلّيقي إلى حصنه، فقصد الشيخ أبو حفص مدينة قرطبة وبعث إليه إبراهيم بن همشك من جيان بطاعته وتوحيده ومفارقته صاحبه ابن مردنيش، لما حدث بينهما من الشحناء والفتنة، فألح عليه ابن مردنيش بالحرب، وردد إليه الغزو، فبعث إلى الشيخ أبي حفص بطاعته. وكتب الشيخ أبو حفص بذلك إلى الخليفة، وبما كان من عيث النصارى بجوانب الأندلس، فسرح أخاه ووزيره أبا حفص في عساكر الموحدين، فنهض من مراكش سنة خمس وستين وخمسمائة، وفي جملته السيد أبو سعيد أخوه، فوصل إشبيلية وبعث أخاه أبا سعيد إلى بطليوس، فعقد الصلح مع الطاغية وانصرف، ونهضوا جميعاً إلى مرسية ومعهم ابن همشك فحاصروا ابن مردنيش. وثار أهل لورقة بدعوة الموحدين، فملكها السيد أبو حفص. ثم افتتح مدينة بسطة، وطاع ابن عمه محمد بن مردنيش
صاحب المرية، فحمق بذلك جناحه.
واتصل الخبر بالخليفة بمراكش، وقد توافت عنده جموع العرب من أفريقية صحبة السيد أبي زكريا صاحب بجاية والسيد أبي عمران صاحب تلمسان، وكان يوم قدومهم عليه يوماً مشهوداً، فاعترضهم وسائر عساكره، ونهض إلى الأندلس. واستخلف على مراكش السيد أبا عمران أخاه فاحتل بقرطبة سنة سبع وستين وخمسمائة. ثم ارتحل بعدها إلى إشبيلية، ولقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفاً من غزاته. وكان ابن مردنيش لما طال عليه الحصار ارتاب ففتك بهم، وبادر أخوه أبو الحجاج إلى الطاعة، وهلك هو في رجب من هذه السنة. ودخل إبنه هلال في الطاعة، وبادر السيد أبو حفص إلى مرسية فدخلها وخرج هلال في جملته، وبعثه إلى الخليفة بأشبيلية. ثم ارتحل الخليفة غازياً إلى بلاد العدو فنازل رندة أيامأ، وارتحل عنها إلى مرسية. ثم رجع إلى إشبيلية سنة ثمان وستين وخمسمائة، واستصحب هلال بن مردنيش وأصهر إليه في ابنته، وولى عمه يوسف على بلنسية وعقد لأخيه السيد أبي سعيد على غرناطة. ثم بلغه خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب، فخرج للقائهم وأوقع بهم بناحية قلعة رياح، وأثخن فيهم ورجع إلى أشبيلية، وأمر ببناء حصن بالقلعة ليحصن جهاتها، وقد كانت خراباً منذ فتنة ابن حجاج فيه مع كريب بن خلدون بمورة، أزمان المنذر بن محمد وأخيه عبد فى من أمراء بني أمية. ثم انتقض ابن أذفونيش وأغار على بلاد المسلمين، فاحتشد الخليفة وسرح السيد أبا حفص إليه فغزاه بعقر داره، وافتتح قنطرة السيف، وهزم جموعه في كل جهة. ثم ارتحل الخليفة من أشبيلية راجعأ إلى مراكش سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لخمس سنين من إجازته إلى الأندلس، وعقد على قرطبة لأخيه الحسن، وعلى أشبيلية لأخيه علي، وأصاب مراكش الطاعون فهلك من السادة أبو عمران وأبو سعي ، وأبو زكريا، وقدم الشيخ أبو حفص، من قرطبة فهلك في طريقه، ودفن بسلا. واستدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي وأبا الحسن؟ فعقد لأبي علي على سجلماسة، ورجع أبو الحسن إلى قرطبة، وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص:
لأبي زيد منهما على غرناطة، ولأبي محمد عبد الله على مالقة. وفي سنة ثلاث وسبعين وحمسمائة سطا بوزرائه بني جامع وغربهم إلى ماردة. وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة عقد لغانم بن محمد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مدينة الأشبوبة، فغنم ورجع. وفيها كانت وفاة أخيه السيد الوزير أبي حفص بعدما أبلى في الجهاد وأبلغ في نكاية العدو. وقدم ابناه من الأندلس وأخبرا الخليفة بانتقاض الطاغية، واعتزم على الجهاد وأخذ في استدعاء العرب من أفريقية والله تعالى أعلم. الخبر عن انتفاض قفصة واسترجاعها: كان عليّ بن المعز ويعرف بالطويل، من أعقاب بني الرند ملوك قفصة قد ثار سنة خمس وسبعين وخمسمائة كما ذكرناه في أخبارهم. وبلغ الخليفة خبره فنهض إليه من مراكش وصار إلى بجاية وسعى عنده بعلي بن المنتصر الذي كان عبد المؤمن استنزله من قفصة أنه يواصل قريبه الثائر بها ويخاطب العرب، فتقبض عليه، ووجدت مخاطبات عنده شاهدة بتلك السعاية واستصفى ما كان بيده، وارتحل إلى فقصة ونازلها. ووفدت عليه مشيخة العرب من رياح بالطاعة فتقبلهم ولم يزل محاصراً لقفصة إلى أن نزل على ابن المعز. وانكفأ راجعاً إلى تونس. وأنفذ عساكر العرب إلى المغرب، وعقد على أفريقية والزاب للسيد أبي علي أخيه وعلى بجاية للسيد أبي موسى وقفل إلى الحضرة والله تعالى اعلم.
معـاودة الجهاد
لما قفل من فتح قفصة سنة سبع وسبعين وخمسمائة وفد عليه أخوه السيد أبو إسحق من أشبيلية، والسيد أبو عبد الرحمن يعقوب من مرسية وكافة الموحدين ورؤساء الأندلس يهنونه بالإياب فأكرم موصلهم وانصرفوا إلى بلادهم. واتصل به أن محمد بن يوسف بن وانودين غزا بالموحدين من أشبيلية إلى أرض العدو فنازل مدينة يابرة وغنم ما حولها وافتتح بعض حصونها ورجع إلى أشبيلية، وإن عبد الله بن إسحق بن جامع قائد الأسطول بأشبيلية التقى بأسطول أهل أشبونة في البحر فهزمهم وأخذوا عشرين من قطائعهم مع السبي والغنائم. ثم بلغ الخبر بأن أذفونس بن شانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهة مالقة ورندة وغرناطة. ثم نازل أستجة وتغلب على حصن شنغيلة. وأسكن بها النصارى وانصرف، فاستنفر السيد أبو إسحق سائر الناس للغزو، ونازل الحصن تحو أربعين يوماً. ثم بلغه خروج أذفونش من طليطلة لمدده فانكفأ راجعاً. وخرج محمد بن يوسف بن وانودين من أشبيلية في جموع الموحدين ونازل طلبيرة، وبرز إليه أهلها فأوقع بهم وانصرف بالغنائم، فاعتزم الخليفة أبو يوسف على معاودة الجهاد، وولى على الأندلس أبناءه وقدمهم للاحتشاد، فعقد لابنه أبي إسحق على أشبيلية كما كان، ولابنه السيد أبي يحيى على قرطبة ولابنه السيد أبي زيد الحرضاني على غرناطة ولابنه السيد أبي عبد الله على مرسية. ونهض سنة تسع وسبعين وخمسمائة إلى سلا، ووافاه بها أبو محمد بن أبي إسحق بن جامع من أفريقية بحشود العرب. وسار إلى فاس، وبعث في مقدمته هنتاتة وتيمنلل
وحشود العرب، وأجاز البحر من سبتة في صفر من سنة ثمانين وخمسمائة
، فاحتل جبل الفتح، وسار إلى أشبيلية فوافته بها حشود الأندلس. وسخط محمد بن وانودين وغربه إلى حصن غافق، ورحل غازياً إلى شنترين فحاصرها أياماً. ثم أقلع عنها وأسحر الناس يوم إقلاعه، وخرج النصارى من الحصن فوجدوا الخليفة في غير أهبة ولا استعداد، فأبلى في الجهاد هو ومن حضره، وانصرفوا بعد جولة شديدة. وهلك في ذلك اليوم الخليفة يقال من سهم أصابه في حومة القتال، وقيل من مرض طرقه عفا الله عنه. دولة ابنه يعقوب المنصور: لما هلك الخليفة أبو يعقوب على حصن شنترين سنة ثمانين وخمسمائة بويع إبنه يعقوب، ورجع بالناس إلى أشبيلية واستكمل البيعة. واستوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص، واستنفر الناس للغزو مع أخيه السيد أبي يحيى فأخذ بعض الحصون وأثخن في بلاد الكفار. ثم أجاز البحر إلى الحضرة ولقيه بقصر مصمودة السيد أبو زكريا ابن السيد أبي حفص قادماً من تلمسان مع مشيخة زغبة، ومضى إلى مراكش فقطع المناكر وبسط العدل وباشر الأحكام، وكان أول الأحداث في دوله شأن ابن غانية. الخبر عن شأن ابن غانية: كان علي بن يوسف بن تاشفين لما تغلب العدو على جزيرة ميورقة وهلك واليها من موالي مجاهد وهو مبشر، وبقي أهلها فوضى، وقد كان مبشّر بعث إليه بالصريخ، والعدو محاصر له. فلما أخذها العدو وغنم وأحرق وأقلع، وبعث عليّ بن يوسف والياً عليها وأنور بن أبي بكر من رجالات لمتونة، وبعث معه خمسمائة فارس من
عسكره، فأرهف لهم حدّة، وأرادهم في بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فامتنعوا، وقتل مقدمهم فثاروا به وحبسوه. ومضوا إلى علي بن يوسف فأعفاهم منه، وولى عليهم محمد بن علي بن يحيى المسوقي المعروف بابن غانية. وكان أخوه يحيى على غرب الأندلس، وكان نزله بأشبيلية.
واستعمل محمد أخاه على قرطبة، فكتب إليه علي بن يوسف يأمره بصرف أخيه محمد إلى ولاية ميورقة، فارتحل إليها من قرطبة ومعه أولاده عبد الله وعلي وإسحاق والزبير وإبراهيم وطلحة، وكان عبد الله وإسحاق في تربية عمهما يحيى وكفالته فتبناهما. ولما وصل محمد بن علي بن غانية إلى ميورقة قبض على أنور وبعثه مصفداً الى مراكش، وأقام على ذلك عشراً. وهلك يحيى بن غانية وقد ولى عبد الله ابن أخيه محمد على غرناطة، وأخاه إسحاق بن محمد على قرمونة. ثم هلك علي بن يوسف، وضعف أمر لمتونة، وظهر عليهم الموحدون فبعث محمد عن ابنيه عبد الله وإسحق فوصلا إليه في الأسطول وانقضى ملك لمتونة. ثم عهد محمد إلى إبنه عبد الله فنافسه أخوه إسحاق، وداخل جماعة من لمتونة في قتله فقتلوه، وقتلوا أباه محمداً. ثم أجمعوا على الفتك به فارتاب بهم وداخل لبّ بن ميمون قائد البحر في أمرهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم. وتفت بيعته سنة ست وأربعين وستمائةوخمسمائة، وبقي أميراً لميورقة. واشتغل أول أمره بالبناء والغراسة، وضجر منه الناس لسوء ملكته، وفر عنه لبّ بن ميمون إلى الموحدين. ثم رجع آخرا إلى الغزو، وكان يبعث بالأسرى والعلوج للخليفة أبي يعقوب إلى أن هلك قبيل مهلكه سنة ثمانين وخمسمائة. وخلف من الولد محمداً وعلياً ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة وتاشفين وطلحة وعمر ويوسف والحسن، فولى ابنه محمد وبعث إلى الخليفة أبي يعقوب بطاعته، فبعث هو علي بن الزبرتير لاختبار ذلك منه وأحس بذلك إخوته فنكروه وتقبضوا عليه، وقدموا علياً منهم. وبلغهم مهلك الخليفة وولاية ابنه المنصور فاعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية. وولى على ميورقة أخاه طلحة، وطرق بجاية في أسطوله على حين غفلة وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان خارجها في بعض مذاهبه فاستولوا عليها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وتقبضوا على السيد أبي الربيع والسيد أبي موسى عمران بن عبد المؤمن صاحب أفريقية، وكان بها مجتازاً واستعمل أخاه يحيى على بجاية ومضى إلى الجزائر فافتتحها، وولى عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم إلى مليانة فولى عليها بدر بن عائشة. ونهض إلى القلعة
ثم إلى قسنطينة فنازلها. واتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، فسرح السيد أبا زيد ابن عمه السيد أبي حفص، وعقد له على حرب ابن غانية. وعقد لمحمد بن أبي إسحاق بن
جامع على الأساطيل، وإلى نظره أبو محمد بن عطوش وأحمد الصقلي. وانتهى السيد أبو زيد إلى تلمسان، وأخوه يومئذ السيد أبو الحسن واليها، وقد أنعم النظر في تحصينها، ثم ارتحل بعساكره من تلمسان ونادى بالعفو في الرعية فثار هل مليانة على ابن غانية فأخرجوه، وسبقت الأساطيل إلى الجزائر فملكوها وقبضوا على يحيى بن طلحة، وسيق يدر ابن عائشة من أم العلو فقتلوا جميعاً بشلف. وتقدم القائد أحمد الصقلي بأسطوله إلى بجاية فملكها ولحق يحيى بن غانية بأخيه علي بمكانه من حصار قسنطينة فاقلع عنها. ونزل السيد أبو زيد بتكلات. وهرج السيد أبو موسى من اعتقاله فلقيه هنالك. ثم ارتحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة، وخرج إلى الصحراء، واتبعه الموحدون إلى مقرة وبفاس. ثم قفلوا إلى بجاية، واستقر السيد أبو زيد بها وقصد علي بن غانية قفصة فملكها، ونازل توزر فامتنعت عليه، ولحق بطرابلس. وخرج غزي الصنهاجي من جموع ابن غانية في بعض أحياء العرب فتغلب على أشير، وسرّح إليهم السيد أبو زيد إبنه أبا حفص عمر، ومعه غانم بن مردنيش فأوقعوا بهم واستولوا على حللهم. وقتل غزي وسيق رأسه إلى بجاية ونصب بها، وألحق به عبد الله أخوه. وفرب بنو حمدون من ببجاية إلى سلا لاتهامهم بالدخول في أمر ابن غانية. واستقدم الخليفة السيد أبا زيد من مكانه ببجاية، وقدم مكانه أخاه السيد أبا عبد الله وانصرف إلى الحضرة. وبلغ الخبر أثناء ذلك باستيلاء علي بن الزبرتير على ميورقة. وكان من خبره أن الأمير يوسف بن عبد المؤمن بعثه إلى ميورقة لدعاء بني غانية إلى أمره لما كان أخوهم محمد خاطبه بذلك، فلما وصل ابن الزبرتير، إليهم نكروا شأنه على أخيهم محمد واجتمعوا دونه وتقبضوا عليه وعلى ابن الزبرتير، وقدموا عليهم أخاه علياً، وركبوا الأساطيل إلى بجاية. فلما خلا الجو منهم دبر ابن الزبرتير في أمره، وداخل مواليهم من العلوج في تخلية سبيله من معتقله على أن يخلي سبيلهم بأهليهم وولدهم إلى أرضهم فتم له مراده منهم، وثار بقفصة واستنفذ
محمد بن إسحاق من مكان اعتقاله، ولحقوا جميعاً بالحضرة. وبلغ الخبر علي بن غانية بمكانه من طرابلس فبعث أخاه عبد الله إلى صقليّة، وركب منها إلى ميورقة ونزل في بعض قراها. وعمل الحيلة في تملك البلد فاستولى عليه واضطرمت نار الفتنة بأفريقية.
ونازل علي بن غانية بلاد الجريد وتغلب على الكثير منها، وبلغ الخبر باستيلائه على قفصة فخرج إليه المنصور من مراكش سنة إثنين وثمانين وخمسمائة، ووصل فاس فأراح بها، وسار إلى رباط تازى. ثم سار على التبعية إلى تونس، وجمع ابن غانية من إليه من الملثّمين والأعراب، وجاء معه قراقش الغزي صاحب طرابلس، فسرح إليهم المنصور عساكره لنظر السيد أبي يوسف بن السيد أبي حفص ولقيهم بغمرة فانفضت جموع الموحدين وانجلت المعركة عن قتل علي بن الزبرتير وأبي علي بن يغمور، وفقد الوزير عمر بن أبي زيد ولحق ففهم بقفصة فأثخنوا فيهم قتلاً، ونجا الباقون إلى تونس. وخرج المنصور متلافياً جبر الحال في هذه الوقائع، ونزل القيروان، وأغذ السير إلى الحامّة فتشاور الفريقان وتزاحفوا فكانت الدبرة على ابن غانية وأحزابه، وأفلت من المعركة بدماء نفسه ومعه خليله قراقش، وأتى القتل على كثيرهم وصبح المنصور قابس فافتتحها ونقل من كان بها من حرم ابن غانية وذويه في البحر إلى تونس. وثنى العنان إلى توزر فافتتحها وقتل من وجد بها، ثم إلى قفصة فنازلها أياماً حتى نزلوا على حكمه. وأمن أهل البلد والأغراب أصحاب قراقش، وقتل سائر الملثمين ومن كان معهم من الحشود، وهدم أسوارها وانكفأ راجعاً إلى تونس؟ فعقد على أفريقية للسيد أبي زيد، وفصل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ومر بالمهدية، وأصحر على طريق تاهرت، والعباس بن عطية أمير بني توجين دليله على تلمسان، فنكب بها عمّه السيد أبا إسحق لشيء بلغه عنه وأحفظه. ثم ارتحل إلى مراكش، ورفع إليه أن أخاه السيد أبي حفص والي مرسية الملقب بالرشيد، وعنه السيد أبا الربيع والي تادلاً عندما بلغهم خبر الوقيعة بغمرة حدثوا أنفسهم بالتوثّب على الخلافة، فلما قدموا عليه للتهنئة أمر باعتقالهما برباط الفتح خلال ما استجلى أمرهما. ثم قتلهما وعقد للسيد أبي الحسن بن السيد أبي حفص
على بجاية، وقصد بحيى بن غانية قسنطينة فزحف إليه السيد أبو الحسن من بجاية فهزمه ودخل قسنطينة، وارتحل ابن غانية إلى بسكرة فقطع نخلها وافتتحها عنوة. ثم حاصر قسنطينة وامتنعت عليه فارتحل إلى بجاية وحاصرها، وكثر عيثه إلى أن كان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
أخباره في الجهاد: مفا بلغه تغلب العدو على قاعدة شلّب، وأنه أوقع بعسكر أشبيلية وترددت سراياهم على نواحيها، وافتتح كثيرا من حصونها، وخاطبه السيد أبو يوسف بن أبي حفص صاحب أشبيلية بذلك. استنفر الناس للجهاد وخرج سنة ست وثمانين وخمسمائة إلى قصر مصمودة فأراح به. ثم أجاز إلى طريف، وأغذ السير منها إلى شلّب، ووافته بها حشود الأندلس فتركهم لحصارها. وفذحف إلى حصن طرش فافتتحه ورجع إلى أشبيلية. ثم رجع إلى منازلة شلب سنة سبع وثمانين فافتتحه. وقدم عليه ابن وزير بعد أن كان افتتح في طريقه إليه حصوناً أخرى. ثم قفل إلى حضرته بعد استكمال غزاته. وكتب بعهده لابنه الناصر. وقدم عليه سنة ثمان وثمانين وخمسمائة السيد أبو زيد صاحب أفريقية، ومعه مشيخة العرب من هلال وسليم فلقاهم مبرة وتكريماً، وانقلب وفدهم إلى بلادهم. ثم بلغه سنة تسعين وخمسمائة استفحال ابن غانية بأفريقية وكثرة العيث والفساد بها، فاعتزم على النهوض إليها ووصل إلى مكناسة فبلغه من أمر الأندلس ما أهمه فصرف وجهه إليها، ووصل قرطبة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فأراح بها ثلاثأ وأمداد الحشود تتلاحق به من كل ناحية. ثم ارتحل للقاء العدو ونزل بالأرك من نواحي بطليوس، وزحف إليه العدو من النصارى وأمراؤهم يومئذ ثلاثة: ابن أذفونش وابن الرنك ولببوج. وكان اللقاء يوم كذا سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وأبو محمد ابن أبي حفص يومئذ على المطّوعة، وأخوه أبو يحيى على العساكر والموحدين، فكانت
الهزيمة المشهورة على النصارى واستلحم منهم ثلاثون ألفأ بالسيف.
واعتصم فلهم بحصن الأرك وكانوا خمسة آلاف من زعمائهم، فاستنزلهم المنصور على حكمه وفودي بهم عددهم من المسلمين. واستشهد في هذا اليوم أبو يحيى بن الشيخ أبي حفص بعد أن أبلى بلاء حسناً وعرف بنوه بعدها ببني الشهيد. وانكفأ المنصور راجعاً إلى أشبيلية. ثم خرج منها سنة إثنتين وتسعين وخمسمائة غازياً إلى بلاد الجوف فافتتح حصوناً ومدنا وخربها، كان مها ترجالة وطلبيرة. وأطل على نواحي طليطلة فخرب بسائطها واكتسح مسارحها، وقفل إلى أشبيلية سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه وعقله. وربما ألفّ بعضها في خطه فحبس. ثم أطلق، وإشخص إلى الحضره وبها كانت وفاته. ثم خرج المنصور من أشبيلية غازياً إلى بلاد ابن أذفونش حتى احتل بساحة طليطلة، وبلغه أن صاحب برشلونة أمد ابن أذفونش بعساكره وأنهم جميعاً بحصن مجريط، فنهض إليهم. ولما أطل عليهم انفضت جموع ابن أذفونش من قبل القتال وانكفأ المنصور راجعاً إلى أشبيلية. ثم رغب إليه الملوك النصرانيّة في السلم فبذله لهم. وعقد على إشبيلية للسيد أبي زيد ابن الخليفة. وعلى مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع بن السيد أبي حفص، وعلى المغرب للسيد أبي عبد الله بن السيد أبي حفص. وأجاز إلى حضرته سنة أربع وتسعين وخمسمائة فطرقه المرض الذي كان منه حمامه، وأوصى وصيته التي تناقلها الناس. وحضر لوصيته عيسى ابن الشيخ أبي حفص. وهلك رحمه الله سنة خمس وتسعين وخمسمائة آخر ربيعها، والله تعالى أعلم. الخبر عن وصول ابن منقذ بالهدية من قبل صاحب الديار المصرية: كان الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيدية منذ تسعين سنة وملكوا بيت المقدس، فلما استولى صلاح الدين بن أيوب على ديار مصر والشام اعتزم على جهادهم. وكان يفتتح حصونها واحداً بعد واحد حتى أتى على جميعها. وافتتح
بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وهدم الكنيسة التي بنوها عليها. وامتعضت أمم النصرانية من كل جهة، واعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر فبعث صريخه إلى المنصور سنة خمس وثمانين وخمسمائة يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكّا وصور وطرابلس. ووفد عليه أبو الحارث عبد الرحمن بن منقذ بقية امراء شيزر من حصون الشام. كانوا اشروا به عند اختلال الدولة العبيدية. فلما استقام الأمر على يد صلاح الدين، وانتظم ملك مصر والشام، واستنزل بني منقذ هؤلاء ورعى لهم سابقتهم، وبعثه في هذه إلى المنصور بالمغرب بهدية تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين، ووزن ماية درهم من دهن البلسان، وعشرين رطلاً من العود، وستمائة مثقال من المسك والعنبر، وخمسين وستمائة قوساً أعرابية بأوتارها، وعشرين من النصول الهندية وسروج عدة ثقيلة. ووصل إلى المغرب، ووجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى إليه الرسالة فاعتذر له عن الأسطول وانصرف. ويقال أنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولاً، ومنع النصارى من سواحل الشام.
دولة الناصر بن المنصور: لما هلك المنصور قام بأمره ابنه محمد ولي عهده، وتلقب الناصر لدين الله. واستوزر أبا زيد بن يوجان، وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص. ثم استوزر أبا محمد بن الشيخ أبي حفص، وعقد للسيد أبي الحسن بن السيد أبي حفص على بجاية وفوض إليه في شؤونها. وبلغه سنة ست وتسعين وخمسمائة إجحاف العدو بأفريقية، وفساد الأعراب في نواحيها، ورجوع السيد أبي الحسن من قسنطينة منهزماً أمام ابن غانية، فأنفذ اليد أبا زيد بن أبي حفص إلى تونس في عسكر من الموحدين لسد ثغورها. وأنفذ أبا سعيد بن الشيخ أبي حفص رديفاً له، وتغلب ابن غانية خلال ذلك على حصن المهدية. وثار بالسوس سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ثائر من كزولة يعرف بأبي
قفصة، فسرح الناصر إليه عساكر الموحدين فقصدوا جموعه وقتل. وفي أيامه كان فتح ميورقة على ما يتلو من خبرها. فتح افريقيا:
وكان من خبرها أن محمد بن إسحق لما فصل إخوته علي ويحيى إلى أفريقية، وولوا على ميورقة أخاهم طلحة، داخل محمد بعض الحاشية، وخرج من الاعتقال هو وابن الزبرتير، وقام بدعوة المنصور، وبعث بها مع ابن الزبرتير فبعث المنصور أسطوله مع أبي العلى بن جامع لتملك ميورقة، فأبى محمد عن ذلك. وراسل طاغية برشلونة في المدد بجند من النصارى يستخدمهم فأجابه، وانتقض عليه أهل ميورقة لذلك، وخشوا عادية المنصور فطردوا محمد بن إسحق وولوا عليهم أخاه تاشفين. وبلغ ذلك علياً، وهو على قسنطينة فبعث أخويه عبد الله والغازي فداخلوا بعض أهل البلد وعزلوا تاشفين وولي عبد الله وبعث المنصور أسطوله مراراً مع أبي العلى بن جامع. ثم مع يحيى ابن الشيخ أبي إبراهيم الهزرجي فامتنعوا منهم، وقتلوا منهم خلقأ كثيراً. وقوي أمره، وذلك سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ثم لما هلك المنصور بعث الناصر أسطوله مع عمه السيد أبي العلى، والشيخ أبي سعيد بن أبي حفص فنازلوه وانخذل عنه أخوه تاشفين بالناس، ودخل البلد عنوة، واستفتحت وقتل. وانصرف السيد إلى مراكش، وولى عبد الله بن طاع الله الكومي. ثم ولى الناصر عليها أبا زيد، وجعل ابن طاع الله على قيادة البحر. وبعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، ثم أبو يحيى بن علي بن أبي عمران التينمللي، ومن يده أخذها النصارى لسنة سبع وعشرين وستمائة والله تعالى أعلم. خبر أفريقية وتغلب ابن غانية عليها وولاية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص: لما هلك المنصور قوي أمر ابن غانية بأفريقية، وولى الناصر السيد أبا زيد والشيخ
أبا سعيد بن أبي حفص، ويقال إن المنصور ولأهما، وكثر الهرج بأفريقية. وثار بالمهديّة محمد بن عبد الكريم الركراكي، ودعا لنفسه ونازع ابن غانية والموحدين الأمر، وتسمى صاحب قبة الأديم محمد بن عبد الكريم. ونازل تونس وعاث في قراها سنة ست وتسعين وخمسمائة. ونازل ابن غانية بفاس فامتنع عليه، وكان محمد بن مسعود البلط شيخ رياح من أشياعه فانتقض عليه، وراجع ابن غانية فأتيح له الظهور على محمد بن عبد الكريم وقصده وهو على قفصة فهزمه. واتبعه إلى المهدية فنازله بها. وبعث إلى صاحب تونس في المدد بأسطوله فأمده فضاقت حال ابن عبد الكريم فسأل الأمان من ابن غانية فأمنه. وخرج إليه فتقبض عليه واستولى على المهدية سنة تسع وتسعين وخمسمائة وقتله. وبعث الناصر أسطوله في البحر مع عمه أبي العلى وعساكر الموحّدين مع السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن. ونازلوا ابن عبد الكريم قبل استيلاء ابن غانية عليها، فاعتذر ابن عبد الكريم بأنه حافظ للحصن من العدو، ولا يمكنه إلا لثقة الخليفة. وانصرف السيد أبو الحسن إلى بجاية موضع عمله، وقسم العسكر بينه وبين أخيه السيد أبي زيد صاحب تونس وصلحت الأحوال. ثم إن ابن غانية لما تغلب على المهدية وعلى قراقش الغزيّ صاحب عمل طرابلس، وقد مرت أخباره في أخبار ابن غانية. ثم تغلب على بلاد الجريد، ثم نازل تونس سنة تسع وتسعين وحمسمائة وافتتحها عنوة، وتقبض على السيد أبي زيد، وطالب أهل تونس بالنفقة التي أنفق وبسط عليهم العذاب. وتولى ذلك فيهم كاتبه ابن عصفور حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم. ثم دخل في دعوته أهل بونة وبنزرت وشقبنارية والأربص والقيروان وتبسة وصفاقس وقابس وطرابلس. وانتظمت له أعمال أفريقية وفرق العمال وخطب للعباسي كما ذكرناه في أخباره. ثم ولى على تونس أخاه الغازي، ونهض إلى جبال طرابلس فأغرمهم ألف ألف دينار مكررة مرتين ورجع إلى تونس. واتصل بالناصر كثرة الهرج بأفريقية واستيلاء ابن غانية عليها وحصول السيد أبي زيد في قبضته، فشاور الموحدين في أمره فأشاروا بمسألة ابن غانية. وأشار أبو محمد ابن الشيخ أبي حفص بالنهوض إليها والمدافعة عنها فعمل على رأيه، ونهض من مراكش سنة إحدى وستمائة. وبعث الأسطول فى البحر لنظر أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجي، فبعث ابن غانية ذخيرته وحرمه إلى المهدية مع علي بن الغازي بن محمد بن علي.
وانتقض أهل طرابلس على ابن غانية وأخرجوا عاملهم تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي بن غانية. وقصدهم ابن غانية فاقتحمها وخرّبها. ووصل أسطول الناصر إلى تونس فدخلوها وقتلوا من كان بها من أشياع ابن غانية، ونهض الناصر في أتباع ابن غانية فأعجزه ونازل المهدية، وبعث أبا محمد ابن الشيخ أبي حفص للقاء ابن غانية فلقيه بتاجرا فأوقع به وقتل أخاه جبارة. وكاتبه ابن اللمطي وعامله الفتح بن محمد. قال ابن نخيل: وكانت الغنائم من عسكره يومئذ ثمانية عشر ألفاً من أحمال المال والمتاع والخرثى والآلة. ونجا بأهله وولده وأطلق السيد أبو زيد الاعتقال بعد أن هم حرسه بقتله عند الهزيمة. ثم تسلم الناصر المهدية من يد علي بن الغازي المعروف بالحاج الكافي على أن يلحق بابن عمّه فقبل شرطه ومضى لوجهه. ثم رجع من طريقه واختار التوحيد فقبل وناله من الكرامة والتقريب ما لا فوقه. وهلك في يوم العقاب الآتي ذكره. ثم قوض الناصر عن المهدية، واستعمل عليها محمد بن يغمور الهرغي، وعلى طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع، ورجع إلى تونس فأقام إلى سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أخاه السيد أبي إسحق في عسكر من الموحدين لأتباع العدو فدوخوا ما وراء طرابلس. واستأصلوا بني دفر ومطماطة وجبال نفوسة وتجاوزها إلى سويقة بني مذكور. وقفل السيد أبو إسحق بهم إلى أخيه الناصر بتونس وقد كمل الفتح. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وأجمع رأيه على تولية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وكان شيخ دولته وصاحب رأيه فامتنع، إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف فأكبر مجيئه وأناب لذلك على أن يقيم بأفريقية ثلاث سنين خاصة خلاف ما يستحكم صلاحها، وأن يحكم فيمن يقيم معه من العسكر فتقبّل شرطه. ورجع الناصر إلى مراكش فدخلها في ربيع سنة أربع وستمائة، وقدم عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاتي على الأشغال بالعدوتين وكان على الوزارة أبو سعيد بن جامع وكان صديقأ لابن عبد العزيز. وعند مرجعه من أفريقية توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن صاحب تلمسان وسجلماسة، والسيد أبو الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن صاحب بجاية، وقد كان أبو الربيع هذا ولي بجاية من قبل وهو الذي جدد الرفيع والبديع من رياضها. وكان بنو حماد شيدوها من قبل فأصابها الخراب وجددها
السيد أبو الربيع. وفي سنة خمس وستمائة بعدها عقد للسيد أبي عمران بن يوسف بن عبد المؤمن على تلمسان، أدال به من السيد الحسن فوصل إلى تلمسان في عساكر الموحدين وتطوف بأقطارها. وزحف إليه ابن غانية هنالك فانفضّ الموحدون وقتل السيد أبو عمران. وارتاع أهل تلمسان وأسرع السيد أبو زكرياء من فاس إليها فسكن نفوسهم خلال ما عقد الناصر لأبي زيد بن يوجان على تلمسان وسرحه في العساكر فنزل بها. وفر ابن غانية إلى مكانه من قاصية أفريقية، ومعه محمد بن مسعود البلط شيخ الزواودة من رياح، وغيره من أعراب رياح وسليم. واعترضهم أبو محمد بن أبي حفص فانكشفوا واستولى الموحدون على محلاتهم وما بأيديهم، ولحقوا بجهات طرابلس. ورجع عنهم سير بن إسحاق آخذاً بدعوة الموحدين. وفي هذه السنة عقد الناصر على جزيرة ميورقة لأبي يحيى بن أبي الحسن بن أبي عمران، أدال به من السيد أبي عبد الله بن أبي حفص، وعقد له على بلنسية، وعقد على مرسية لأبي عمران بن ياسين الهنتاتي، أدال به من أبي الحسن بن واكاك. وعقد للسيد أبي زيد على كورة جيان، أدال به من أبي موسى بن أبي حفص، وعقد للسيد أبي إبراهيم بن يوسف على أشبيلية ولأبي عبد الله بن أبي يحيى ابن الشيخ أبي حفص على غرناطة إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى.
أخباره في الجهاد: لما بلغ الناصر تغلب العدو على كثير من حصون بلنسية أهمه ذلك وأقلقه، وكتب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي حفص يستشيره في الغزو فأبى عليه فخالفه، وخرج من مراكش سنة تسع وستمائة ووصل أشبيلية واستقّر بها واستعد للغزو. ثم خرج من أشبيلية وقصد بلاد ابن أذفونش فافتتح قلعة شلبطرة وأثلج في طريقه. ونازل الطاغية قلعة رباح، وبها يوسف بن قادس وأخذ بمخنقه فصالحه على النزول، ووصل إلى الناصر فقتله وصار على التعبئة إلى الموضع المعروف بالعقاب. وتد استعد له
الطاغية، وجاءه طاغية برشلونة مددا بنفسه فكانت الدبرة على المسلمين. وانكشفوا في يوم بلاء وتمحيص أواخر صفر سنة تسع وستماية. وانكفأ راجعا إلى مراكش فهلك في شعبان من السنة بعدها. وكان ابن أذفونش قد باطن ابن عفه الببوج صاحب ليون في أن يوالي للناصر ويجري الهزيمة على المسلمين ففعل ذلك. ثم رجعوا إلى الأندلس بعد الكائنة للإغارة على بلاد المسلمين،
فلقيهم السيد أبو زكرياء بن أبي حفص بن عبد المؤمن قريبا من إشبيلية فهزمهم وانتعش المسلمون بها واتصلت الحال على ذلك. ثورة ابن الفرس: كان عبد الرحيم بن عبد الرمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس ويعرف بالمهر وحضر مجلس المنصور في بعض الأيام وتكلم بها حتى خشي عاقبته في عقده وخرج من المجلس فاختفى مدة ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة وانتحل الإمامة وادعى أنه القحطاني المراد في قوله "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يقود الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جورا " إلى آخر الحديث، وكان مما ينسب له من الشعر:
قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي تأهبوا الوقوع الحادث الجلل قد جاء سيد قحطان وعاملها ومنتهى القول والغلاب للدول والناس طوعأ عصاه وهو سائقهم بالأمر والنهي بحر العلم والعمل تبادروا أمره فالله ناصره والله خاذل أهل الزيغ والميل فبعث الناصر إليه الجيوش فهزموه، وقتل وسيق رأسه إلى مراكش فنصب بها والله أعلم0
دولة المستنصر بن الناصر: لما هلك محمد الناصر بويع إبنه يوسف سنة إحدى عشرة وستمائة، وهو ابن ست عشرة سنة ولقب المستنصر بالله، وغلب عليه ابن جامع ومشيخة الموحدين فقاموا بأمره. وتأخرت بيعة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص من أفريقية لصغر سن المستنصر. ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن جامع وصاحب الأشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته، واشتغل المستنصر عن التدبير بما يقتضيه الشباب، وعقد للسادة على عمالات ملكه: فعقد للسيد أبي إبراهيم أخي المنصور، وتلقب بالظاهر، على فاس، وهو أبو المرتضى. وعقد على أشبيلية لعمه السيد أبي إسحاق الأحول. واستولى ألفنش على المعاقل التي أخذها الموحدون، وهزم حامية الأندلس، ووفد رسوله ابن الفخار فحاوله ابن جامع في السلم فعقده. ثم صرف ابن جامع عن الوزارة بعد مهلك ابن أبي زيد بسعاية أبي زيد بن يوجان، واستوزر أبا يحيى الهزرجي، وولى على الأشغال أبا علي بن أشرفي. ثم رضي عن ابن جامع وأعاده، وعزل أبا زيد بن يوجان من ولاية تلمسان بأبي سعيد بن المنصور، وبعثه إلى مرسية فاعتقل بها. واستمرت أيام المستنصر في هدنة وموادعة إلى أن ظهر بنو مرين بجهات فاس سنة ثلاث عشرة وستمائة، فخرج إليهم واليها السيد أبو إبراهيم في جموع الموحدين فهزموه وأسروه. ثم عرفوه وأطلقوه، ثم وصل الخبر بمهلك أبي محمد بن أبي حفص صاحب أفريقية فولى عليها السيد أبا العلى أخا المنصور، وكان والياً بأشبيلية فعزل. وولى على أفريقية بسعاية ابن مثنى خاصة السلطان، فتوجه إليها كما نذكر في أخبار بني أبي حفص. وخرج بناحية فاس رجل من العبيديين انتسب للعاضد، وتسمى بالمهدي، فبعث السيد أبو إبراهيم أخو المنصور والي فاس إلى شيعته وبذل لهم المال فتقبضوا عليه، وساقوه إليه فقتل. وفي سنة تسع عشرة وستمائة عقد المستنصر لعمه أبي محمد المعروف بالعادل على مرسية، وعزله عن غرناطة. وهلك سنة عشرين وستمائة وقد التاثت الأمور فكان ما نذكر، والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة المخلوع أفي المنصور:
لما هلك المستنصر في الأضحى من سنة عشرين وستمائة اجتمع ابن جامع والموحدون وبايعوا للسيد أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور، فقام بالأمر وأمر بمطالبة ابن أشرفي بالمال. وكتب لأخيه أبي العلى بتجديد الولاية على أفريقية بعد أن كان المستنصر أوعز بعزله، فأدركته الولاية ميتأ فاستبد بها ابنه أبو زيد المشفر كما نذكره في أخبار أفريقية. وأنفذ المخلوع أمره بإطلاق ابن يوجان فأطلق. ثم صده ابن جامع عن ذلك وأنفذ أخاه أبا إسحق في الأسطول ليغربه إلى ميورقة كما كان المستنصر أنفذ قبل وفاته. وكان الوالي بمرسية أبو محمد عبد الله بن المنصور فأغراه ابن يوجان بالتوثب على الأمر، وشهد له أنه سمع من المنصور العهد له بالخلافة من بعد الناصر. وكان الناس على كره ابن جامع. وولاة الأندلس كلهم بنو المنصور فأصغى إليه، وكان متردداً في بيعة عمه فدعا لنفسه وتسمى بالعادل. وكان إخوته أبو العلى صاحب قرطبة وأبو الحسن صاحب غرناطة وأبو موسى صاحب مالقة، فبايعوه سراً.
وكان أبو محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان، وعزله المخلوع بعمه أبي الربيع بن أبي حفص، فانتقض وبايع للعادل. وزحف مع أبي العلى صاحب قرطبة وهو أخو العادل إلى أشبيلية، وبها عبد العزيز أخو المنصور والمخلوع فدخل في دعوتهم. وامتنع السيد أبو زيد بن أبي عبد الله أخي البياسي عن بيعة العادل، وتمسك بطاعة المخلوع. وخرج العادل من مرسية إلى أشبيلية فدخلها مع أبي زيد بن يوجان، وبلغ الخبر إلى مراكش فاختلف الموحدون على المخلوع، وبادروا بعزل ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة. وقام بأمر هنتاتة أبو زكرياء يحيى بن أبي يحيى الشهيد ابن أبي حفص، وبأمر تينملل يوسف بن علي، وبعث على أسطول البحر أبا إسحق بن جامع وأنفذه لمنع الجواز من الزقاق. وكان أسر إلى ابن جامع حين خرج إلى هسكورة أن يحاول عليه من هنالك فلم يتم أمره، وقتل بمكان خفي ربيع سنة إحدى وعشرين وستمائة، وبعث الموحدون بيعتهم إلى العادل والله أعلم.
الخبر عن دولة العادل بن المنصور:
لمّا بلغت بيعة الموحدين للعادل وكتاب ابن زكريا بن الشيهد بقصة المخلوع،
قارن ذلك تغييره للبيّاسي فانتقض عليه، ودعا لنفسه ببيّاسة، وتلقب الظافر وشغل بشأنه. وبعث أخاه أبا العلى لحصاره فامتنع عليه، وبعث بعده إبنه أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فامتنع عليه أيضاً. واختلفت الأحوال بالأندلس على العادل. وكثرت إغارة النصارى على أشبيلية ومرسية، وهو مقيم بها. وانهزمت جيوش الموحدين على طليطلة، وأغراه خاصته بابن يوجان فأخذ إلى سبتة. وعظم أمر البياسي بالأندلس وظاهره النصارى على شأنه، فأجاز العادل إلى العدوة وولى أخاه أبا العلى على الأندلس. ولما كان بقصر المجاز دخل عليه عبّو بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص فقال له كيف حالك؟ فأنشد:
حال متى علم ابن منصور بها جاء الزمان إليه منها تائبا فاستحسن ذلك وولاه أفريقية. وكتب للسيد أبي زيد ابن عمه بالقدوم، ووصل إلى سلا وأقام بها. وبعث عن شيوخ جشم، وكان لابن يوجان عناية واختصاص يهلال بن حميدان بن مقدم أمير الخلط، فتثاقل ابن جرمون أمير سفيان عن الوصول، وأقبل الخلط وسفيان، وبادر العادل إلى مراكش فدخلها واستوزر أبا زيد بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، وتغير لابن يوجان ففسد باطنه. وتغلب على الدولة ابن الشهيد، ويوسف بن علي شيخا هنتاتة وتينملل. ثم خالفت هسكورة والخلط وعاثوا في نواحي مراكش، وخرج إليهم ابن يوجان فلم يغن شيئاً، فخربوا بلاد دكالة، فأنفذ إليهم العادل عسكراً من الموحدين لنظر إبراهيم بن إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص، وهو الذي كان نازع أولاد الشيخ أبي محمد بأفريقية كما نذكره فانهزم وقتل. وخرج ابن الشهيد ويوسف بن علي إلى قبائلهما للحشد ومدافعة هسكورة، فاتفقا على خلع العادل والبيعة ليحيى بن الناصر، وقصدوا مراكش فاقتحموا عليه القصر ونهبوه، وقتل العادل خنقاً أيام الفطر سنة أربع وعشرين وستمائة والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة المأمون بن المنصور ومزاحمة يحيي بن الناصر له: كان المأمون لما بلغه انتقاض الموحدين والعرب على أخيه وتلاشي أمره دعا لنفسه بأشبيلية، فبويع وأجابه أكثر أهل الأندلس. وبايع له السيد أبو زيد صاحب بلنسية وشرق الأندلس. ثم كان ما قدمناه من انتقاض الموحدين على العادل وقتله بالقصر وبيعتهم ليحيى ابن أخيه الناصر، فكاتب ابن يوجان سراً وعمل على إفساد الدولة، فداخل هسكورة والعرب في الغارة على مراكش وهزموا عساكر الموحدين. وفطن ابن الشهيد لتدبير ابن يوجان فقتله بداره. وخرج يحيى بن الناصر إلى معتصمه كما ذكرناه فخلع الموحدون العادل وبعثوا ببيعتهم إلى المأمون. وتولى كبر ذلك الحسن أبو عبد الله الغريغر والسيد أبوحفص بن أبي حفص فبلغ خبرهم إلى يحيى بن الناصر وابن الشهيد، فنزلوا إلى ماركش سنة ست وعشرين وستمائة وقتلوهم. وبايع للمأمون صاحب فاس وصاحب تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان وصاحب سبتة أبو موسى بن المنصور وصاحب بجاية ابن أخيه ابن الأطاس. وامتنع صاحب أفريقية وكان ذلك سبباً لاستبداد الأمير أبي زكريا على ما نذكر. ولم يبق على دعوة يحيى بن الناصر إلا أفريقية وسجلماسة. وزحف البياسي إلى قرطبة فملكها، ثم زحف إلى أشبيلية فنازل بها المأمون والطاغية معه، بعد أن نزل له عن قجاطة وغيرها من حصون المسلمين فهزمهم المأمون بنواحي أشبيلية ولحق البيّاسي بقرطبة فثاروا به، ونجا إلى حصن المدور، فغدر به وزيره أبو يبورك. وجاء برأسه إلى المأمون بأشبيلية. ثم ثار محمد بن يوسف بن هود وملك مرسية، واستولى على الكثير من شرق الأندلس كما ذكرناه في أخباره. وزحف إليه المأمون وحاصره فامتنع عليه فرجع إلى أشبيلية، ثم خرج سنة ست وعشرين وستمائة
إلى مراكش لما استدعاه أهل المغرب، وبعثوا إليه بيعاتهم. وبعث إليه هلال بن حميدان أمير الخلط يستدعيه. واستمد الطاغية عسكراً من النصارى فأمده على شروط تقبلها منه المأمون، وأجاز إلى العدوة. وبادر أهل أشبيلية بالبيعة لابن هود، واعترضه يحيى بن الناصر فهزمه المأمون واستلحم من كان معه من الموحدين والعرب، ولحق يحيى بجبل هنتاتة. ثم دخل المأمون الحضرة، وأحضر مشيخة الموحدين وعدد عليهم فعلاتهم، وتقبض على مائة من أعيانهم فقتلهم، وأصدر كتابه إلى البلدان بمحو إسم المهدي من السكّة والخطبة، والنعي عليه في النداء للصلاة باللغة البربرية، وزيادة النداء لطلوع الفجر وهو: "أصبح ولله الحمد" وغير ذلك من السنن التي اختص بها المهدي وعبد المؤمن، وجرى على سننها أبناؤه. فأوعز بالنهي عن ذلك كله. وشنع عليهم في وصفهم الإمام المهدي بالمعصوم، وأعاد في ذلك وأبدى.
وأذن للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة بمراكش على شرطهم، فضربوا بها نواقيسهم. واستولى ابن هود بعده على الأندلس، وأخرج منها سائر الموحدين، وقتلهم العامة في كل مطر. وقتل السيد أبو الربيع ابن أخي المنصور كان المأمون تركه والياً بقرطبة. واستبد الأمير أبو زكريا ابن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بأفريقية، وخلع طاعته سنة سبع وعشرين وستمائة فعقد للسيد أبي عمران ابن عمه محمد الحرضاني على بجاية مع أبي عبد الله اللحياني أخي الأمير أبي زكريا. وزحف إليه يحيى بن الناصر فانهزم، ثم ثانية كذلك، واستلحم من كان معه، ونصبت رؤوسهم بأسوار الحضرة. ولحق يحيى بن الناصر ببلاد درعة وسجلماسة. ثم انتقض على المأمون أخوه أبو موسى ودعا لنفسه بسبتة وتسمى بالمؤيد، فخرج المأمون من مراكش وبلغه في طريقه أن قبائل بني فازاز ومكلاتة حاصروا مكناسة وعاثوا في نواحيها فسار إليها وحسم عاملها واستمر إلى سبتة فحاصرها ثلاثة أشهر، واستمد أخوه أبو موسى صاحب الأندلس ابن هود فأمده بأساطيله. وخالد يحيى بن الناصر المأمون إلى الحضرة فاقتحمها مع عرب سفيان وشيخهم
جرمون بن عيسى، ومعهم أبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة وعاثوا فيها فأقلع المأمون عن سبتة يريد الحضرة، وهلك في طريقه بوادي أم ربيع مفتتح سنة ثلاثين وستمائة، ولحين إقلاعه دخل أخوه السيد أبو موسى في طاعة ابن هود، وأمكنه من سبتة فأداله منها والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة الرشيد بن المأمون: لما هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد ولقب بالرشيد، وكتموا موت أبيه وأغذوا السير إلى مراكش، ولقيهم يحيى بن الناصر في طريقهم بعد أن استخلف بمراكش أبا سعيد بن وانودين فهزموه، وقتل أكثر من معه. وصبح الرشيد مراكش فامتنعوا عليه ساعة، ثم خرجوا إليه واستقاموا على بيعته. وكان وصل في صحبته عمه السيد أبو محمد سعد فحل من الدولة بمكان، وكان إليه التدبير والحل والعقد. وبعد استقرار الرشيد بالحضرة وصل إليه عمر بن وقاريط كبير الهساكرة بمن كان عنده من أولاد المأمون السيد وإخوته جاؤا من أشبيلية عند ثورة أهلها بهم، واستقروا بسبتة عند عمهم أبي موسى، ومنها إلى الحضرة عند استيلاء ابن هود على سبتة ومروا بهسكورة، وكان ابن وقاريط حذراً من المأمون ومعتقدأ أن لا يعود إليه فتذمم بصحابة هؤلاء الولد، وقدم عليالرشيد فتقبله، واعتلق بوصلة من السيد أبي محمد سعد وصحابة لمسعود بن حميدان كبير الخلط. ولما هلك السيد أبو محمد لحق ابن وقاريط بقومه ومعتصمه وكشف وجه الخلاف، وأخذ بدعوة يحيى بن الناصر، واستنفر له قبائل الموحدين ونهض إليهم الرشيد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، واستخلف على الحضرة صهره أبا العلى إدريس وصعد إليهم الجبل، فأوقع بيحيى وجموعه بمكانهم من هزرجة واستولى على معسكرهم. ولحق يحيى بسجلماسة، وانكفأ الرشيد راجعاً إلى حضرته، واستأمن له كثير من الموحدين الذين كانوا مع يحيى بن الناصر فأمنهم ولحقوا بحضرته. وكان كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا الكدميوي، وجاء الباقون على أثره وبسعيه بعد أن شرطوا عليه
إعادة ما كان أزاله المأمون من رسوم المهدي فاعيدت. وقدم فيهم أبو بكر بن يعزى التينمللي رسولأ عن يوسف بن علي بن يوسف شيخ تينملل، ومحمد بن يوزيكن الهنتاني رسولأ عن أبي علي بن عزوز، ورجعا إلى مرسليهما بالقبول، فقدما على الحضرة وقدم معهم موسى بن الناصر أخو يحيى وكبيره. وجاء على أثرهم أبو محمد بن أبي زكريا وأنسوا لإعادة رسوم الدعوة المهدية.
وكان مسعود بن حميدان الخلطي قد أغراه عمر بن وقاريط بالخلاف لصحبة بينهما، وكان مدلًا ببأسه وكثرة جموعه. يقال إن الخلط كانوا يومئذ يناهزون إثني عشر ألفاً سوى الرجّل والأتباع والحشود، فمرض في الطاعة وتثاقل عن الوفادة. ولما علم بمقام الموحدين أجمع اعتراضهم وقتلهم تمكينأ للفرقة والشتات في الدولة، فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه، وصرف عساكره إلى حاجة لنظر وزيره السيد أبي محمد، حتى خلا لابن حميدان الحو، وذهب عنه الريب، واستقدمه فأسرع اللحاق بالحضرة، وقدم معه معاوية عم عمر بن وقاريط، فتقبض عليه وقتل لحينه. واستدعى مسعود بن حميدان إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبض عليه وعلى أصحابه وقتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة، وقضى الرشيد حاجة نفسه فيهم. واستقدم وزيره وعساكره من باجة فقدموا ولما بلغ خبر مقتلهم إلى قومهم قدموا عليهم يحيى بن هلال بن جميدان، وأجلبوا على سائر النواحي، وأخذوا بدعوة يحيى واستقدموه من مكانه بقاصية الصحراء. وداخلهم في ذلك عمر بن وقاريط، وزحفوا لحصار الحضرة، وخرجت العساكر لقتالهم ومعهم عبد الصمد بن يلولان فرجع ابن وقاريط في جموعه من العساكر فانهزموا، وأحيط بجند النصارى فقتلوا وتفاقم الأمر بالحضرة، وعدمت الأقوات. واعتزم الرشيد على الخروج إلى جبال الموحّدين فخرج إليها. وسار منها إلى سجلماسة فملكها، واشتد الحصار على مراكش وافتتحها يحيى بن الناصر وقومه من هسكورة والخلط، وساء أثرهم فيها وتغيرت أحوال الخلافة. وتغلب على السلطان السيد
أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقب بأبي حاقة. وفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة خرج الرشيد من سجلماسة بقصد مراكش وخاطب جرمون بن عيسى وقومه من سفيان، فأجاز وادي أم ربيع وبرز إليه يحيى في جموعه، والتقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى واستحر القتل فيهم، ودخل الرشيد إلى الحضرة ظافراً.
وأشار يحيى بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس، والأخذ بدعوته فنكثوا بيعة يحيى، وبعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة عمر بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ فاستقّر هنالك. وخرج الرشيد من مراكش وفر الخلط أمامه، وسار إلى فاس وسرح وزيره السيد أبا محمد إلى غمارة وفازاز لجباية أموالها. وكان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب المعقل فأجاوره ووعدوه النصرة، واشتطّوا عليه في المطالب، وأسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهات تازى، وسيق رأسه إلى الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش وأوعز إلى نائبه بها أبي علي بن عبد العزيز بقتل العرب الذين كانوا في اعتقاله وهم: حسن بن زيد شيخ العاصم، وفائد وفائد إبنا عامر شيخا بني جابر، فقتلهم وانكفأ راجعاً إلى حضرته سنة أربع وثلاثين وستمائة. وبلغه استيلاء صاحب درعة أبي محمد بن وانودين على سجلماسة، وذلك أن الرشيد لما فصل من سجلماسة استخلف عليها يوسف بن علي بن يوسف التينمللي فاستعمل ابن خالته من بني مردنيش، وهو يحيى بن أرقم بن محمد بن مردنيش، فثار عليه ثائر من صنهاجة وقتله في خبائه. وقام إبنه أرقم يطلب الثأر، وبلغ منه ما أراد. ثم حدثته نفسه بالانتقاض خوفاً من عزلة الرشيد إياه فانتقض. ونهض إليه الرشيد سنة إثنتين وثلاثين وستمائة فلم يزل أبو محمد بن وانودين يعمل الحيلة في استخلاصها حتى تمكن منها وعفاً عن أرقم. وكان ابن وقاريط لما فصل إلى ابن هود سنة أربع وثلاثين وستمائة ركب البحر في أسطول ابن هود، وقصد سلا وبها السيد أبو العلى صهر الرشيد، فكاد أن يغلب عليها. وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة بايع أهل أشبيلية للرشيد، ونقضوا طاعة ابن هود، وتولى كبر ذلك أبو عمر بن الجد وأشخص بني حجاج إلى سبتة، ووصل وفدهم إلى الحضرة ومروا في طريقهم بسبتة، فاقتدى أهلها بهم في بيعة الرشيد. وخلعوا أميرهم اليانشي الثائر بها
على ابن هود وقدموا على الحضرة. وولى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم. ولأيام من مقدمهم وصل عمر بن وقاريط معتقلاً من
أشبيلية، أغراهم بالقبض عليه القاضي أبو عبد الله المؤمناني، كان توجه رسولأ إلى ابن هود عن الرشيد، فأمكنهم من ابن وقاريط. وبعثه إلى الرشيد في وفد من رسله فاعتقله بأزمور وقتل وصلب برباط هسكورة، بعد أن طيف به على جمل. وانصرف وفد أشبيلية وسبتة، واستقدم الرشيد رؤساء الخلط فتقبض عليهم وبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحياءهم. ثم أمر بقتل مشيختهم وقتل معهم ابن وقاريط، وقطع دابرهم. وفي سنة ست وثلاثين ووستمائة وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الثائر بالأندلس على ابن هود. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة اشتدت الفتنة بالمغرب، وانتشر بنو مرين في بسائطه، وقاتلهم رياح بازغار وشيخهم عثمان بن نصر، فهزمهم بنو مرين وقتلوهم قتلاً ذريعاً. وكان الرشيد استقدم أبا محمد بن وانودين من سجلماسة سنة خمس وثلاثين وستمائة، وعقد له على فاس وسجلماسة وغمارة ونواحيها من أرض المغرب، فكان هنالك. ولما انتشر بنو مرين بالمغرب زحف إليهم فهزموه، ثم زحف ثانية وثالثة فهزموه وأقام في محاربتهم سنتين، ورجع إلى الحضرة. واشتد عدوان بني مرين بالمغرب وألحوا على مكناسة حتى أعطوا الأتاوة لبني حمامة منهم فأسفوا بني عسكر بذلك، واتصل عيثهم في نواحيها. وفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة قتل الرشيد كاتبه ابن المؤمناني لمداخلة له مع بعض السادة وهو عمر ابن عبد العزيز أخي المنصور، وقف على كتابه إليه بخطه. وغلظ الرسول بها فدفعها بدار الخليفة. وفي سنة أربعين وستمائة بعدها كانت وفاة الرشيد غريقاً، زعموا في بعض حوائز القصر. ويقال إنه أخرج من الماء وحم لوقته وكان فيها مهلكه، والله تعالى أعلم الخبر عن دولة السعيد المأمون: لما هلك الرشيد بويع أخوه أبو الحسن السعيد بتعيين أبي محمد بن وانودين وتلقب المعتضد بالله. واستوزر السيد أبا إسحاق بن السيد أبي إبراهيم ويحيى بن عطوش.
وتقبض على جملة من مشيخة الموحدين، واستصفى أموالهم واستخلص لنفسه رؤساء العرب من جشم. واستظهر بجموعهم على أمره وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون كبير مجلسه، ولأول بيعته انتقض عليه أبو علي بن خلاط البلنسي صاحب سبتة، وكذلك أهل أشبيلية وبايعوا جميعاً للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية.
ثم انتقض عليه بسجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي لمقالة كانت منه يوم بيعة الرشيد أسرها له فبايع للأمير أبي زكريا. ثم وصلته في هذه السنة هدية يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان فنهض الأمير أبو زكريا صاحب أفريقية بسبب ذلك إلى تلمسان، واستولى عليها. ثم عقد عليها ليغمراسن حسبما نذكر في أخباره. وخرج السعيد من مراكش لتمهيد بلاد المغرب سنة إثنتين وأربعين وستمائةوتغير لسعيد بن زكريا الكدميوي فتقبض عليه في معسكره بتانسفت وفر أخوه أبو زيد ومعه أبو سعيد العود الرطب، ولحقوا بسجلماسة فاستصفى أموالهم بمراكش، وارتحل بقصد سجلماسة وأخذ واليها عبد الله الهزرجي في أسباب الامتناع، فغدر به أبو زيد بن زكريا الكدميوي وداخل أهل سجلماسة في الثورة عليه، وملك البلد. واستدعى السعيد لها فوصل وقتل الهزرجي. وفر أبو سعيد العود الرطب إلى تونس. ثم رجع السعيد إلى المغرب وقتل سعيد بن زكريا، ونزل المقرمدة من أحواز فاس. وعقد المهادنة مع بني مرين، وقفل إلى مراكش فتقبض على أبي محمد بن وانودين، واعتقله بأزمور. واعتقل معه يحيى بن مزاحم ويحيى بن عطوش لنظر ابن ماكسن، فأعمل الحيلة في الفرار من معتقله. وخلص ليلاً إلى كانون بن جرمون فأركبه وبعث معه من عرب سفيان من أوصله إلى قومه هنتاتة. وراسله السعيد على أثرها وسكنه واعتذر له، وأسعفه بسكنى تافيوت من حصون جبلة بأهله وولده. ثم انتقض على السعيد كانون بن جرمون وسفيان، وخالفهم إليه بنو جابر والخلط، وخرج من مراكش واستوزر السيد أبا إسحق بن السيد أبي إبراهيم إسحق أخي المنصور. واستخلف أخاه أبا زيد على مراكش، وأخاهما أبا حفص عمر على سلا وفصل من مراكش سنة. وجمع له أبو يحيى بن عبد الحق جموع بني
راشد وبني وراو سفيان، حتى إذا تراءى الفريقان للقاء، خالف كانون بن جرمون الموحّدين إلى أزمور. واستولى عليها ورجع السعيد أدراجه في أتباعه، ففرّ كانون، واعترضه السعيد فأوقع به، واستلحم كثيراً من سفيان قومه، واستولى على ما له من مال وماشية. ولحق كانون في فلّ بني مَرين ورجع السعيد إلى الحضرة. وفي سنة ثلاث وأربعين وستمائةثارت العامة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فقتلوه. وحذر مشيختها من سطوته فحوَّلوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حَفْص صاحب أفريقية، وبعثوا إليه بيعتهم، وكانت من إنشاء أبي مطرف بن عميرة، وذلك بمداخلة أبي يحيى بن عبد الحق أمير بني مَرين ووفاقه لهم على ذلك. وشارطوا أبا يحيى بن عبد الحق بمال دفعوه إليه على الحماية.
ثم راجعوا أمرهم وأوفدوا صلحاءهم ببيعتهم فرضي عنهم السعيد ورضوا عنه. وفي هذه السنة بعث أهل إشبيلية وأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية. وبعث ابن خلاص بهديته مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند إقلاعه من المرسى. وفي سنة ست وأربعين وستمائةكان استيلاء الطاغية على إشبيلية لسبع وعشرين من رمضان. ولمّا بلغ السيّد بيعة أهل إشبيلية وسبتة للأمير أبي زكريا إلى ما كان من تغلّبه على تلمسان، وأخذ يغمراسن بدعوته، ثم ما كان من بيعة أهل مكناسة وأهل سجلماسة له أعمل نظره في الحركة إلى تلمسان ثم إلى أفريقية. وخرج من مراكش في ذي الحجّة في سنة خمس وأربعين وستمائةووافاه كانون بن جرمون فعاود الطاعة واستحشد سفيان وجاء في جملة السعيد مع سائر القبائل من جَشْم. ولمّا احتلّ السعيد بتازى وافاه وفد بني مَرين عن أميرهم أبى يحيى بن عبد الحق، فأعطوه الطاعة وبعثوا معه عسكراً من قومهم مدداً له. ثم سار السعيد إلى تلمسان فكان مهلكه بتامْزَرْدكْت على يد بني عبد الواد في صفر سنة ست وأربعين وستمائةحسبما يشرح في أخبارهم. ويقال إنّ ذلك كان بمداخلة من الخلط فاستولوا على المحلة وقتلوا عدوّهم كانون، وانفضّ العسكر إلى المغرب وقد اجتمعوا إلى عبد الله بن السعيد واعترضهم بنو مَرين بجهات تازى، فقتلوا عبد الله بن السعيد ولحق الفلّ بمراكش فبايعوا للمرتضى كماَ نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن دولة المرتض ابن أخي المنصور:
لما لحق فلّ العسكر بعد مهلك السعيد بمراكش، اجتمع الموحّدون على بيعة السيد أبي حفص عمر بن السيد أبي إبراهيم إسحق أخي المنصور، واستقدموه لها من سلا، فلقيه وافدهم بتَامِسنا من طريقه ومعه أشياخ العرب فبايعوه وتلقّب المرتضى. وعقد ليعقوب بن كانون على بني جابر ولعمّه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعدأ ن كان قومه قدّموه عليهم، ودخل الحضرة فاستوزر أبا محمد بن يونس وتقبّض علي حاشية السعيد، ثم وصل أخوه السيد أبو إسحق من الفلّ آخذاً على طريق سجلماسة فاستوزره واستبدّ عليه واستولى أبو يحيى بن عبد الحق وبنو مَرين إثر مهلك السعيد على رباط تازى من يد السيد أبي علي أخي أبي دبّوس وأخرجوه فلحق بمراكش. ثم استولوا بعدها على مدينة فاس سنة سبع وأربعين وستمائة كما يذكر في أخبارهم بعد. وفي هذه السنة ثار بسبتة أبو القاسم العزفي وأخرج ابن الشهيد الوالي على سبته من قرابة الأمير أبي زكريّا صاحب أفريقية، وحوّل الدعوة للمرتضى حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية وأخبار بني العزفي. وفي سنة تسع وأربعين وستمائة وفد على المرتضى موسى بن زيّان الونكاسي وأخوه على من قبائل بني مَرين وأغروه بقتال بني عبد الحق فخرج إليهم ولما انتهى إلى أمان يملولن أشاع يعقوب بن جرمون قضية الصلح بينهما فأصبحوا راحلين، وقد استولى الجزع على قلوبهم فانفضّوا ووقعت الهزيمة من غير قتال. ووصل المرتضى إلى الحضرة فعزل أبا محمد بن يونس عن الوزارة لشئ بلغه عنه، وأسكنه بحملتة مع حاشيته، وفر من حملته عليّ بن بدر إلى السوس سنة إحدى وخمسين وستمائة، وجاهر بالعناد. وسرّح إليه السلطان عسكراً من الجند فرجعوا عنه ولم يظفروا به. وتقاقم أمره عنة إثنين وخمسين وستمائة. وجمع أعراب الشبانات وبني حسان وحمل أموال ونازل تارودنت . فحاصر من كان بها. وسرح المرتضى إليه عسكراً من الموحدين فأفرج عنها. ثم رجع قفولهم إلى حاله، وعثر على خطابه لقريبة ابن يونس وكتاب ابن يونس إليه بخطه، فاعتقل هو
وأولاده ثم قتل. وفي هذه السنة استدعى مشيخة الخلط إلى الحضرة وقتلوا لما كان منهم في مهلك السعيد.. وفيها خرج أبو الحسن بن يعلو في معسكر من الموحدين إلى تامستا ليكشف أحوال العرب، ومعه يعقوب بن جرمون، وعهد إليه المرتضى بالقبض على يعقوب بن محمد بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليه وعلى وزيره ابن مسلم وطير بهما إلى الحضرة معتقلين. وفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس ونواحيها من أيدى بني مرين المتغلّبين عليها فوصل إلى بني بهلول، وزحف إليه بنو مرين وأميرهم أبو يحيي فكانت الهزيمة على الموحدين بذلك الموضع. ورجع المرتضى مفلولاً إلى مراكش، ووادع بني مرين من بعد ذلك سائرأ أيامه. واستبد العزفي بسبتة، وابن الأمير ...بطنجة كما نذكره في أخبارهم. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة بعث المرتضى إلى السوس عسكراً من الموحدين لنظر أبى محمد بن أصناك فلقيهم عليّ بن بدر وهزمهم واستبد بأمره في السوس. وفي هذه السنة استولى أبو يحيى بن عبد الحق على سجلماسة، وتقبّض على واليها عبد الحق بن أصكو بمداخلة من خديم له يعرف بمحمد القطراني، كان أبوه تاجراً في القطران بنواحي سلا، فصرف عبد الحق ابنه محمداً هذا في مهمة وقربه من بين أهل خدمته، وحدثته نفسه بالثورة فاستمال عرب المعقل أولاً بالمشاركة في حاجتهم عند مخدومه، والإحسان إليهم حتى اشتملوا عليه. ثم داخل أبا يحيى بن عبد الحق في تمكينه من البلد فجاء بجملته، وقدم وفده إلى البلد رسلاً في بعض الحديث فتقبّض محمد القطراني على عبد الحق بن أصكو وأخرجه إلى أبي يحيى بن عبد الحق، فقاده وسرحه إلى مراكش. وكان القطراني شرط على أبي يحيى أن يكون والي سجلماسة فأمضى له شرطه، وأنزل معه بها من رجالات بني مرين، حتى إذا هلك أبو يحيى بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني واستبد بأمر سجلماسة، وراجع دعوة المرتضى واعتذر إليه، واشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلاّ في الأحكام الشرعية.
وبعث أبا عمر بن حجاج قاضياً من الحضرة، وبعفى السادات للسكنى في القصبة، وقائداً من النصارى بعسكر للحماية، فعمل ابن حجاج الحيلة في قتل القطراني وتولاّه قائد النصارى. واستبد السيد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى، واستفحل أمر بني مرين أثناء ذلك. ونزل يعقوب بن عبد الحق بسائط تامستا فسرّح إليهم المرتضى عسكر الموحدين لنظر يحيى بن وانودين فأجفلوا إلى وادي أمّ ربيع، واتبعهم الموحدون فرجعوا إليهم، وغدر بهم بنو جابر فانهزم الموحدون بأمر الرجلين. ولحق شيخ الخلط علي بن أبي علي ببني مرين وارتحلوا إلى أوطانهم.
وكان المرتضى قدم يعقوب بن جرمون على قبائل سفيان وكان يعقوب ابن أخيه كانون يناهضه في رياسة قومه، وغصّ به فقتله. وثار به أخواه مسعود، وعليّ بفدفد حين فقتلاه. وولّى المرتضى مكانه ابنه عبد الرحمن، فاستوزر يوسف بن وارزك ويعقوب بن علوان. وشغل بلذّاته وتصدّى لقطع السابلة ثم نكث الطاعة ولحق ببني مرين فولّى مكانه عمّه عبيد الله بن جرمون ويكنّى بأبي زمام. وعقد له المرتضى، ثم أدال منه بأخيه مسعود لعجزه. ووفد على المرتضى عواج بن هلال من أمراء الخلط نازعاً إلى طاعته ومفارقاً لبني مرين، فأنزل مع أصحابه بمراكش وجاء على أثره عبد الرحمن بن يعقوب بن جرمون فتقبض على عواج ودفعه إلى علي بن أبي علي فقتله، وكان تقبض معه على عبد الرحمن بن يعقوب ووزيريه فقتلوا جميعاً واستبد برياسة سفيان مسعود بن كانون وبرياسة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون.
وفي سنة ستين وستمائة عند رجوع يحيّى بن وانودين من واقعة أمّ الرجلين خرج عسكرمن الموحدين إلى السوس لنظر محمد بن علي الزلماط. ولقبه علي بن يدر فهزم جموعه وقتله، وعقد المرتضى من بعده على حرب علي بن يدر للوزير أبي زيد بن بكيت، وسرّح معه عسكراً من الجند، وكان فيهم دنلب من زعماء النصرانية، فدارت الحرب بين الفريقين، ولم يكن للموحدين فيها ظهور على كثرتهم وقوة جلدهم وحسن بلائهم، قعد بهم عن ذلك تكاسل دنلب وخروجه عن طاعة
الوزير. وكتب بذلك للمرتضى فاستقدمه، وأمر أبا زيد بن يحيى الكدميوي باعتراضه في طريقه وقتله. وفي سنة إثنتين وستين وستمائة أقبل يعقوب بن عبد الحق في جموع بني مرين فنازلوا مراكش واتصلت الحرب بينهم وبين الموحدين بظاهرها أياماً هلك فيها عبد الله أنعجوب بن يعقوب، فبعث المرتضى إلى أبيه بالتعزية ولاطفه وضرب له أتاوة يبعث بها إليه في كل عام فرضي وارتحل عنهم والله أعلم. الخبر عن انتقاض أبي دبوس وتغلبه عفي مراكش ومهلك المرتضي وما كان في دولته من الأحداث: لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فرّ من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملّقب بأبي دبوس بن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكّنت فيه عند المرتضى، وصحبه ابن عمه السيّد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة، فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجاره. ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخاً به على شأنه واشترط له المقاسمة في العمالة والذخيرة فأمده بالمال، يقال خمسة آلاف دينار عشرية. وأوعز إلى علي بن أبي عليّ الخلطي بمظاهرته وإعطاه الآلات. ورجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمدّ بقومه. ثم سار إلى هسكورة ونزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة وهزرجة. وبعث إليه عزوز بن يبورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور، وكان منحرفاً عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق، ووفد عليه جماعة من السادة والموحدين والجند والنصارى. وارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان وبإسمعيل بن نبطون شيخ بني جابر فتقبض عليهما واعتقلهما، وصار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس. وتتل إسمعيل بن قيطون في معتقله فانتقض أخوه ثائراً ولحق بهم، وحذر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم، وزحف أبو العلى إلى مراكش. ولما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا زيد بن بكيت في عسكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت وقتل عامة أصحابه. وسار أبو دبوس إلى مراكش، وأغار علوش بن كانون على باب الشريعة والناس في صلاة الجمعة، وركز رمحه بمصراعه.
ودخلت سنة خمس وستين وستمائة والمرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس، والأسوار خالية من الحراس والحامية، فقصد أبو دبوس باب أغمات فتسور البلد من هنالك، ودخلها على حين غفلة. وقصد القصبة فدخلها من باب الطبول وفرّ المرتضى ومعه الوزيران أبو زيد بن يعلو الكومي، وأبو موسى بن عزوز الهنتاتي، فلحقوا بهنتاتة وألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة ومر في طريقه بعلي بن زكداز الونكاسي، كان نزع إليه عن قومه ولم يفد عليه بعد، فنزل به المرتضى ورحل معه علي بمن معه إلى كدميوة، وكان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم، فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله، فسار إلى شفشاوة، ووجد بها عددا من الظهر فمنحها علي بن زكداز. وكتب إلى ابن وانودين بمسكره من حاحة. وإلى عصوش بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة.
وخاطب أبو دبوس علي بن زكداز يرغبه في القدوم عليه، فارتاب المرتضى لذلك ولحق بأزمور فتقبّض عليها واليها ابن عطوش. وكان أصهره واعتقله وطيّر الخبر إلى أبي دبوس، فأمر وزيره السيد أبا موسى أن يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة، فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئاً عندهم، والحلف على ذلك. وسألهم بالرحم، فعطف أبو دبوس عليه، وجنح إلى الإبقاء. وبعث وزيره السيد أبا مسعود بن كانون في إزعاجه إليه.
ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادات، فكتب خطه إلى السيد أبي موسى بقتله، فقتله واستقل أبو دبوس بالأمر وتلقب الواثق بالله والمعتمد على الله. واستوزر السيد موسى وأخاه السيد أبا زيد وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعيّة وحدث بينه وبين مسعود بن كلداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها. وقدم عبد العزيز بن عطوش سفيراً إليه في ذلك. وبلغه أن يعقوب بن عبد الحق نزل تامستا فأوفد عليه حميدي بن مخلوف الهسكوري بهدية فقبلها، وأكد بينهما العهد وانكفأ راجعاً إلى وطنه. ورجع حميدي إلى الواثق، ووافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن، فرجع أبو دبوس إلى
المجلد السادس من صفحة 227 -352
تلمسا وتاهرت. وحاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين وثلثمائة وهم زاوي وماكسن وإخوانهما، فقتل ماكسن وابناه وألجأ زاوي وإخوته إلى جبل شنون وأجازهم البحر إلى الأندلس. ثم إن بطانة باديس ومن إليه من الأعجام والقرابة نفسوا على حفا رتبته وسعوا في مكانه من باديس، إلى أن فسد ذات بينهما. وطلب باديس أن يسلم عمل تيجسب وقسطنطينة لولده المعز لما قلده الحاكم ولاية عهد ابنه، فأبى حماد وخالف دعوة باديس وقتل الرافضة وأظهر السنة ورضي عن الشيخين ونبذ طاعة العُبَيديّين جملة ،وراجع دعوة آل العباس وذلك سنة خمس وأربعمائة وزحف إلى باجة فدخلها بالسيف ودسّ إلى أهل تونس الثورة على المشارقة والرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب، وعبى عساكره من القيروان، وخرج إليه فنزع عن حماد أكثر أصحابه مثل: بني أبي واليل أصحاب معرّة من زناتة، وبني حسن كبار صنهاجة، وبني يطوفت من زناتة، وبني غمرة أيضاً منهم، وفر حماد، وملك باديس أشير. ولحق حماد بشلف بني واليل وباديس في اتباعه، حتى نزل مواطين السرسّو من بلاد زناتة. ونزع إليه عطية بن داقلتن في قومه من بني توجين، لما كان حماد قتل أباه. وجاء على أثره ابن عمه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس واستظهر بهما على حماد.
ثم أجاز إليه باديس من وادي شلف وناجزه الحرب، ونزع إليه عامة أهل معسكره فانهزم وأغذ السير إلى القلعة، وباديس في أثره حتى نزل فحص المسيلة، وانحجر حماد في القلعة وحاصره. ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه وهو نائم بين أصحابه آخر ست وأربعمائة، فبايعت صنهاجة لابنه المعز صبياً ابن ثمان سنين. وتلاقوا أمر أشير، وبعثوا كرامة بن منصور لسدها فلم يقدر، واقتحمها عليه حماد. واحتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان. وبايعوا المعز بالبيعة العامة. وزحف إلى حماد بناحية قفصة، وأشفق حماد فبعث ابنه القائد لأحكام الصلح بينه وبين المعز، فوصل إلى القيروان سنة ثمان وأربعمائة بهدية جليلة. وأمضى له المعز ما سأله من الصلح ورجع إلى أببه.
وهلك حماد سنة تسعة عشر وأربعمائة فقام بأمره ابنه القائد، وكان جباراً فاختاره أخاه يوسف على المغرب وويغلان على حمزة، في بلد اخطته حمزة بن إدريس. وزحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين وأربعمائة، فخرج إليه القائد وسرب الأموال في زناتة. وأحس بذلك حمامة فصالحه ودخل في طاعته، ورجع إلى فاس. وزحف إليه المعز من القيروان سنة أربع وثلاثين ووأربعمائة وحاصره مدة طويلة. ثم صالح القائد وانصرف إلى أشير فحاصرها، ثم أقلع عنها وانكفأ راجعأ. وراجع القائد طاعة العبيديين لما نقم عليه المعز ولقبوه شرف الدولة.
وهلك سنة ست وأربعين وستمائةوأربعمائة وولي ابنه محسن وكان جباراً، وخرج عليه عمه يوسف ولحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حماد، وبعث محسن في طلبه بلكّين ابن عمه محمد بن حمّاد، وأصحبه من العرب خليفة بن بكير وعطية الشريف وأموهما بقتل بلكّين في طريقهما، فأخبرا بلكين بذلك وتعاهدوا جميعاً على قتل محسن وأنذر بهم ففر إلى القلعة وأدركوه، فقتله بلكّين لتسعة أشهر من ولايته. وولي الأمر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وكان شهماً قرماً حازماً سفاكاً للدماء. وقتل وزير محسن الذي تولى قبله. وفي أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدم بسكرة لما أحس بنكثه، فخالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره. ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه عِلْنَاس بن حماد فقتلها، وأحفظ ذلك أخاها الناصر وطوى على التبييت. وكان بلكّين كثيراً ما يردد الغزو إلى المغرب. وبلغه استيلاء يوسف بن تاشفين والمرابطين على المصامدة فنهض نحوهم سنة أربع وخمسين وستمائة وأربعمائة، وفر المرابطون إلى الصحراء، وتوغل بلكين في ديار المغرب، ونزل بفاس، واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهناً على الطاعة. وانكفأ راجعاً إلى القلعة، فانتهز منه الناصر ابن عمه الفرصة في الثأر بأخته، ومالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلف المشقة بإبعاد الغزو والتوغل في أرض العدو فقتله بتسالة سنة أربع وخمسين وستمائة وأربعمائة.
وقام بالأمر من بعده، واستوزر أبا بكر أبي الفتوح، وعقد على المغرب لأخيه كباب وأنزله مليانة وعلى حمزة لأخيه رومان، وعلى نقاوس لأخيه خزر. وكان المعز
قد هدم سورها فأصلحه الناصر، وعقد على قسطنطينة لأخيه بلباز، وعلى الجزائر وسوس الدحاج لابنه عبد الله، وعلى أشير لابنه يوسف، وكتب إليه حمو بن مليك البرغواطي من صفاقس بالطاعة وبعث إليه بالهدية. ووفد عليه أهل قسطنطينة ومقدمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته، وأجزل صلتهم وردهم إلى أماكنهم، وعقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة ودخل أهل القيروان أيضاً في طاعته وكذلك أهل تونس.
وكان أهل بسكرة لما قتل بلكين مقدمهم جعفر بن أبي رمّان خلعوا طاعة آل حماد واستبدوا بأمر بلدهم، وعليهم بنو جعفر فسرح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره ووزير بلكّين قبله فنازلها وافتتحها عنوة، واحتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر وصلبهم، ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه، أنه لما بلغه خبر بلكّين أراد تولية أخيه معمّر، وشاورهم في ذلك فقتله الناصر وولى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح. ثم خرج الناصر ليتفقد المغرب فوثب علي بن راكان على تافربوست دار ملكهم.وكان لما قتل بلكين هرب إلى إخوانه من عجيسة، واهتبلوا الغرة في تافربوست لغيبة الناصر فطرقوها ليلا. وملكها علي فرجع الناصر من المسيلة وعاجلهم فسقط فني أيديهم وافتتحها عليهم عنوة، وذبح علي بن ركان نفسه بيده ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن وحروب ووفد عليه رجالات الأثبج صريخاً به على رياح فأجابهم ونهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة وزناتة حتى نزل للأربس، وتواقعوا بسببه فغدرت بهم زناتة وجروا عليه وعلى قومه الهزيمة بدسيسة ابن المعز بن زيري بن عطية وإغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر، واستباحوا خزائنه ومضاربه، وقتل أخوه القاسم وكاتبه ونجا إلى قسطنطينة في أتباعه. ثم لحق بالقلعة في فل من عسكره، لم يبلغوا مايتين. وبعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح فعقد بينهم وبينه صلحاً وتمّمه الناصر. ثم وفد عليه رسول تميم وسعى عنده بالوزير ابن أبي الفتوح، وأنه مائل إلى تميم فنكسه وقتله. وكان المستنصر
بن خزرون الزناتي خرج في أيام. الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر، ووصل إلى طرابلس فوجد بني عدي بها قد أخرجهم الأثبج وزغبة من أفريقية كما ذكرناه، فرغبهم في بلاد المغرب، وسار بهم حتى نزل المسيلة، ودخلوا أشير. وخرج إليه الناصر ففر إلى الصحراء ورجع، فرجع إلى مكانه من الإفساد فراسله الناصر في الصلح فأسعفه، وأقطعه ضواحي الزاب وريغة ،وأوعز، إلى عروس بن هندي رئيس بسكرة لعهده، وولي دولته أن يمكر، به فوصل المنتصر إلى بسكرة، وخرج إليه عروس بن هندي وأحمد نزله، وأشار إلى حشمه عند انكباب المنتصر وذويه على الطعام فبادروا مكبين لطعنه، وفر أتباعه وأخذوا رأسه وبعث به إلى الناصر فنصبه ببجايه وصلب شلوه بالقلعة وجعلوه عِظه لغيره. وقتل كثير من رؤساء زناتة فمن مِغْرَاوَة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس، وكانت له بلد لمدية ولمرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم، وقتل معنصر بن حماد منهم أيضأ ، وكان بناحية شفف فأجلب على عامل مليانة، وقتل شيوخ بني وريسفان من مغراوة فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلاً عنهم بشأن العرب، فزحفوا إلى معنصر وقتلوه، وبعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه على رأس المنتصر. وبعث إليه أهل الزاب أن عمر ومغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم، فبعث إبنه المنصور في العساكر ونزل وعلان بلد المنتصر بن خزرون وهدمها. وبعث سراياه وجيوشه إلى بلد واركلا وولى عليها، وقفل بالغنائم والسبي وبلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد وقطع السبيل، وأميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله فبعث إبنه المنصور إليهم بالعسكر، وتقبض على أمير بني ساكن بن عبد الله وحميد بن خزعل ولاحق بن جهان، وتقبض أيضاً على أمير بني توجين وأخيه زيري وعمهما الأغلب وحمامة، وأحضرهم فوبخهم وقدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد، وقتلهم جميعاً على الخلاف.
وفي سنة ستين وأربعمائة افتتح جبل بجاية، وكان له قبيل من البربر يسمون بهذا الاسم، إلا أن الكاف فيهم بلغتهم ليست كافاً بل هي بين الجيم والكاف، وهذا
القبيل من صنهاجة باقون لهذا العهد أوزاعاً في البربر، فلما افتتح هذا الجبل اختط به المدينة وسمّاها الناصرية، وتسمى عند الناس باسم القبيلة وهي بجاية وبنى بها قصر اللؤلؤة، وكان من أعجب قصور الدنيا ونقل إليها الناس، وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين وأربعمائة. وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم وشغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهدية، ولما أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم، وكثر الثوار عليهم والمنازعون من أهل دولتهم فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا، وعظم شأن أيامهم، فبنى المباني العجيبة المؤنقة، وشيد المدائن العظيمة، وردد الغزو إلى المغرب وتوغل فيهم.
ثم هلك سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وقام بالأمر من بعده إبنه المنصور بن الناصر. ونزل بجاية سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وأوطنها بعساكر وخاصة بعراعر منازل العرب، وما كانوا يسومونهم بالقلعة، من خطة الخسف وسوء العذاب بوطء ساحاتها والعيث في نواحيها، وتخطف الناس من حولها لسهولة طرقها على رواحلهم، وصعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار، فاتخذ بجاية هذه معقلاً وصيرها داراً لملكه، وجدد قصورها وشيد جامعها. وكان المنصور هذا جماعة مولعاً بالبناء، وهو الذي حضر ملك بني حماد، وتأنق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين. فبنى في القلعة قصر الملك والمنار والكوكب وقصر السلام وفي بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون. وكان أخوه يلباز على قسطينة منذ عهد الناصر أبيهما. وهم بالاستبداد لأول ولاية المنصور فسرح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر، وعقد له على قسطينة وبونة فتقبض على يلباز وأشخصه إلى القلعة، وأقام والياً على قسنطينة مكانه، وولى أخاه ويغلان على بونة. ثم بدا له في الخلاف على المنصور وثار بقسنطينة سنة سبع وثمانين وأأربعمائة. وبعث أخاه بن موتة إلى تميم بن المعز بالمهديّة، واستدعاه لولاية موتة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم، ونزل بونة مع ويغلان. وكاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى وجمعوا العرب على أمرهم. وسرح المنصور عساكره فحاصروا بونه سبعة أشهر. ثم اقتحموها غلاباً، وتقبضوا على أبي الفتوح
بن تميم وبعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة. ثم نازلت عساكره قسنطينة واضطرب أحوال ابن أبي يُكنى فخرج إلى قلعة بجبل أوراس، وتحصن بها. ونزل بقسنطينة صُلَيْصِل بن الأحمر من رجالات الأثبج. وداخل صليصل المنصور في أن يمكنه من قسنطينة على مال يبذله ففعل، واستولى عليها المنصور. وأقام أبو يُكنى بحصنه من أوراس، وردد الغارة على قسنطينة فتوجهت إليه العساكر وحاصروه بقلعته. ثم اقتحموها عليه وقتلوه. وكان بنو ومانو من زناتة حياً جميعاً وقوماً أعزة. وكانت إليهم رئاسة زناتة. وكان رئيسهم لعهده ماخوخ، وكان بينهم وبين آل حماد صهر فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر، وكانت أخرى عند المنصور. ولما تجددت الفتنة بينه وبين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة وحشوده، وجمع له ماخوخ ولقيه في زناتة فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ماخوخ التي كانت تحته. واستحكمت النفرة بين ماخوخ وبينه. وسار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة وحرضهم على بلاد صنهاجة، فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان. وذلك أن يوسف بن تاشفين لما ملك المغرب واستفحل به أمره سما إلى ملك تلمسان، فغلب عليها أولاد يُعْلَى سنة أربع وسبعين وأربعمائة على ما يأتي ذكره، وأنزلها محمد بن يغمر المسولي وصيرها ثغراً لملكه فاضطلع بأمرها ونازل بلاد صنهاجة وثغورهم، فزحف إليه المنصور وأخرب ثغوره وحصون ماخوخ، وضيق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين وصالحه. وقبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده فبعث إبنه الأمير عبد الله، وسمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده وزحفوا إلى مراكش. واحتل هو بالمغرب الأوسط فشن الغارة في بلاد بني ومانوا، وحاصر الجعبات، وفتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك، وعفا عن أهلها، ورجع إلى أبيه. ثم وقعت الفتنة بينه وبين ماخوخ. وقتل أخوه ولحق ابن ماخوخ بتلمسان، وظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره، وأجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين، فأعقبهما محمد بن يغمر صاحب تلمسان.
وولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر، فنهض إلى أشير وافتتحها فقام المنصور في ركائبه ومعه كافة صنهاجة. ومن العرب أحياء الأثبج وزغبة وربيعة، وهم المعقل، من زناتة أمماً كثيرة، ونهض إلى غزو تلمسان سنة ست وسبعين وأربعمائة في نحو عشرين ألفاً. ولقي أسطقسة وبعث العسكر في مقدمته، وجاء على أثرهم. وكان تاشفين قد أفرج عن تلمسان وخرج إلى تساله ولقيته عساكر المنصور فهزموه، ولجأ إلى جبل الصخرة. وعاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء، متوسلة بوشائج الصنهاجية، فأكبر قصدها إليه وأكرم موصلها، وأفرج عنهم صبيحة يومه. وانكفأ راجعاً إلى حضرته بالقلعة. وأثخن بعدها في زناتة وشردهم بنواحي الزاب والمغرب الأوسط. ورجع إلى بجاية وأثخن في نواحيها ودوخت عساكره قبائلها فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت والمنصورية والصهريج والناظور وحجر المعز، وقد كان أسلافه يرومون كثيراً عنها فتمتنع عليهم فاستقام أمره واستفحل ملكه.
وقدم عليه معز الدولة بن صمادح من ألمرية فاراً أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس، فنزل على المنصور وأقطعه تدلس وأنزله بها. وهلك سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فولي من بعده إبنه باديس، فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأول ولايته، وخرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاماً عامل بجاية. وهلك قبل أن يستكمل سنة، وولي من بعده أخوه العزيز. وقد كان عزله عن الجزائر وغربه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل، وبايعوه وصالح زناتة وأصهر إلى ماخوخ فأنكحه إبنته. وطال أمر، ملكه، وكانت أيامه هدنة وأمناً. وكان العلماء يتناظرون في ونازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه وأخذوا بطاعته. ونازل تونس وصالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز وأخذ بطاعته، وكبس العرب في أيامه القلعة وهم
غارون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها، وعظم عيثهم، وقاتلتهم الحامية فغلبوهم وأخرجوهم من البلد. ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر إلى العزيز فبعث إبنه يحيى وقائده على بن حمدون من بجاية في عسكر وتعبية، فوصل إلى القلعة وسكن الأحوال. وقد أمن العرب واستعتبوا فأعتبوا وانكفأ يحيى راجعاً إلى بجاية في عسكره. وعلى عهد العزيز هذا كان وصول مهدي الموحدين إلى بجاية قافلاً من المشرق سنة إثنتي عشرة وخمسمائة، وغيّر بها المنكر فسعى به عند العزيز وإئتمر به، فخرج إلى بني ورياكل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه. ونزل عليهم بملالة وأقام بها يدرس العلم. وطلبه العزيز فمنعوه وقاتلوه دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب.
وهلك العزيز سنة خمس عشرة وأربعمائة فولي من بعده إبنه يحيى، وطالت أيامه مستضعفاً مغلباً للنساء مولعاً بالصيد، على حين انقراض الدولة وذهاب الأيام بقبائل صنهاجة، واستحدث السكة ولم يحدثها أحد من قومه أدباً مع خلفائهم العبيديين ونقل ابن حماد أن سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه، فدائرة الوجه الواحد: "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا بظلمون " والسطور" لا إله إلا الله محمد رسول الله، يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز بالله الأمير المنصور. ودائرة الوجه الآخر" بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينار بالناصريّة سنة ثلاث وأربعين وستمائةوخمسمائة." وفي سطوره: الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العباسي. ووصل سنة ثلاث وأربعين وستمائةوخمسمائة إلى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي بها وانتقض عليه بنو زرا ابن مروان فجهز إليه الفقيه مطرف بن على بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة وتقبض على ابن مروان وأوصله إليه فسجنه بالجزائر إلى أن هلك فى معتقله ، وقيل قتله. وبعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها ونازل فى وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه، ورجع إلى بجاية. وتغلب النصارى على المهديّة، وقصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر وأنزله بها مع أخيه القائد، حتى إذا زحف الموحدون إلى بجاية وفر القائد من الجزائر وأسلمها. قدموا الحسن على أنفسهم. ولقي
عبد المؤمن فأمّنهم، وأخرج يحيى بن عبد العزيز أخاه سبع للقاء الموحدين فانهزم وملك الموحّدون بجاية.
وركب يحيى البحر إلى صقلية يروم الإجازة منها إلى بغداد. ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارث. ونكر عليه سوء صنيعه وإخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسنطينة فنزل على أخيه الحسن، فتخلى له عن الأمر. وفي خلال ذلك دخل الموحدون القلعة عنوة. وقتل حوشن بن العزيز وابن الدحامس من الأثبج معه وخربت القلعة. ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع وأربعين وستمائةوخمسمائة. ونزل عن قسنطينة واشترط لنفسه فوفّى له، ونقله إلى مراكش فسكنها. ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين وستمائة وخمسمائة فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته. وأما الحارث بن عبد العزيز صاحب بونة ففر إلى صقلية واستصرخ صاحبها فصارخه على أمره ورجع إلى بونة وملكها. ثم غلب عليها الموحدون وقتلوه صبراً. وانقرض ملك بني حماد والبقاء لله وحده ولم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم، وهم لهذا العهد في عداد الجند، ولهم اقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده، والله وارث الأرض ومن عليها اهـ.
خريطة ملوك بني حبوس الخبر عن ملوك بني حبوس بن ماكسن من بني زيري من صنهاجة بغرناطة من عدوة الأند لس و أولية ذلك ومصايره لما استبد باديس بن المنصور بن بلكّين بن زيري بن مناد بن هاد بولاية أفريقية سنة خمس وثمانين وثلثمائة ولى عمومته وقرابته ثغور عمله، فأنزل حماداً بأشير وأخاه يطوفت بتاهرت، وزحف زيري بن عطية صاحب فاس من مغراوة بدعوة المؤيد هشام خليفة قرطبة إلى عمل صنهاجة في جموع زناتة ونزل تاهرت وسرح باديس عساكره لنظر محمد بن أبي العون فالتقوا على تاهرت وانهزم صنهاجة فزحف باديس بنفسه للقائهم وخالف عليه فلفول بن سعيد بن خزرون صاحب طُبَنة. ثم أجفل زيري بن عطية امامه ورجع به إلى المغرب فرجع باديس إلى القيروان، وترك عمومته أولاد زيري بأشير معحماد وأخيه يطوفت وهم: زاوى وحلا ل وعرم ومعنين وأجمعوا على الخلاف والخروج على باديس سنة سبع وثمانين وثلثمائة، فأسلموا حماداً برمته واستولوا على جميع ما معه، واتصل الخبر بأبي البهار بن زيري وهم مع باديس فخشيه على نفسه ولحق بهم واجتمعوا في الخلاف، واشتغل باديس عنهم بحرب فلفول بن يانس مولى الحاكم القادم على طرابلس من قبله، وانفسح مجالهم في الفساد والعيث ووصلوا أيديهم بفلفول وعاقدوه. ثم رجع أبو البهار عنهم إلى باديس فتقبله وصالح له ثم رجعوا إلى حماد سنه إحدى وتسعين وثلثمائة، ولقيهم فهزمهم وقتل مساكن وابنه، ولحق زاوي بجبل شنوق، من ساحل مليانة، وأجاز البحر إلى الأندلس في بنيه وبني أخيه وحاشيته، ونزل على المنصور بن أبي عامر صاحب الدولة وكافل الخلافة الأموية فأحسن نزلهم وأكر وفادتهم، واصطنعهم لنفسه واتخذهم بطانة لدولته وأوليائه على ما يرومه من قهر الدوله والتغلب على الخلافة، ونظمهم في طبقات زناتة وسائر رجالات البربر الذين أدال بجموعهم من جنود السلطان وعساكر الأموية وقبائل العرب، واستغلظ أمر صنهاجة بالأندلس واستفحلت أمارتهم وحملوا دولة المنصور بن أبي عامر وولديه المظفر والناصر من بعده على كاهلهم.
ولما انقرض أمرهم واضمحلّت دولتهم ونشأت الفتنة بالأندلس بين البرابرة وأهلها فكان زاوي كبش تلك الوقائع ومحش حروبها. وتمرّس بقرطبة هو وقومه صنهاجة وكافة زناتة والبربر حتى أثبتوا قدم خليفتهم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر الذي أتوه ببيعتهم، وأعطوه على الطاعة صفقتهم كما ذكرناه في أخبارهم ثم اقتحموا به قرطبة عنوة واصطلموا عامة أهلها وأنزلوا المعرات بذوي الصون منها وبيوتات الستر من خواصها، فحدث الناس في ذلك بأخبارها. وتوصل زاوي عند استباحة قرطبة إلى رأس أبيه زيري بن مناد المتصور بجدران قصر قرطبة فأزاله وأصاره إلى قومه ليدفن في جدثه. ثم كان شأن بني حمود من العلويّة وافترق أمر البرابرة واضطرمت الأندلس ناراً، وامتلأت جوانبها فتنة، وأسرى الرؤساء من البرابرة ورجالات الدولة على النواحي والأمصار فملكوها، وتحيزت صنهاجة إلى ناحية ألبيرة فكانت ضواحيها لهم وحصل عليها استلاؤهم، وزاوي يومئذ عضد البرابرة فنزل غرناطة واتخذها داراً لملكته ومعتصماً لقومه.
ثم وقع في نفسه سوء أثر البربر بالأندلس أيام الفتنة، وحذر مغبة الفعلة واستعاضت الدولة فاعتزم على الرحلة واوى إلى سلطان قومه بالقيروان سنة عشر وأربعمائة بعد مغيبه عشرين سنة، وأنزل على المعز بن باديس حافد أخيه بلكين أجل ما كانت دولتهم بأمر أفريقية، وأترف وأوسع ملكاً وأوفر عدداً. فلقيه المعز بأحسن أحوال البر والتجلة، وأنزله أرفع المنازل من الدولة وقدمه على الأعمام والقرابة وأسكنه بقصره، وأبرز الحرم للقائة،
فيقال إنه لقيه من ذوات محارمه ألف امرأة لا تحل له واحدة منهن، ووارى إبراهيم مع شلوه بجدثه، وكان استخلف على عمله إبنه ونا، فظعن لأهل غرناطة فانتقضوا عليه، وبعثوا عن حبوس ابن عمه ماكسن بن زيري مكانه ببعض حصون عمله، فبادر إليهم ونزل بغرناطة فانتقضوا عليه وبايعوه، واستحدث بها ملكاً، وكان من أعظم ملوك الطوائف بالأندلس إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
وولي من بعده ابنه باديس بن حبوس ويلقب بالمظفر، ولم يزل مقيماً لدعوة آل حمّود أمراء مالقة بعد تخلفهم عن قرطبة سائر أيامه وزحف إليها العامري صاحب المرية سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فلقيه باديس بظاهر غرناطة فهزمه وقتله، وطالت
أيامه ومد ملوك الطوائف أيديهم جميعاً إلى مدده، فكان ممن استمده محمد بن عبد الله البرزالي لما حاصره إسمعيل بن القاضي بن عباد بعساكر أبيه، فأمده باديس بنفسه وقومه وصار إلى صريخه مع ابن بقية قائد إدريس بن حمود صاحب المالقة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ورجعوا من طريقهم، وطمع إسمعيل بن القاضي بن عباد مع صريخه فيهم فاتبعهم ولحق بباديس في قومه فاقتتلوا وفر عسكر إسمعيل وأسلموه فقتله صنهاجة، وحمل رأسه إلى ابن حمود.
وكان القادر بن ذي النون صاحب طليلة أيضاً يستدفع به وبقومه استطالة ابن عباد وأعوانه. وباديس هذا هو الذي مصّر غرناطة واختط قصبتها وشاد قصورها وشيد حصرنها، وآثاره في مبانيها ومصانعها باقية لهذا العهد. واستولى على مالقة عند انقراض بز حمود سنة تسع وأربعين وستمائةوأربعمائة وأضافها إلى عمله، وهلك سنة سبع وستين وأربعمائة. وظهر أمر المرابطين بالمغرب، واستفحل ملك يوسف بن تاشفين فولي من بعده حافده عبد الله بن بلكّين بن باديس. وتغلب المظفر وعقد لأخيه تميم على مالقة فاستقام أمرها إلى أن أجاز يوسف بن تاشفين إلى العدوة إجازته المعروفة كما نذكره في أخباره ونزل بغرناطة سنة ثلاث وثمانين فتقبض على عبد الله بن بلكين، واستصفى أمواله وذخيرته، وألحق به أخاه تميماً من مالقة واستصحبها إلى العدوة. فأنزل عبد الله وتميماً بالسوس الأقصى وأقطع لهما إلى أن هلكوا في إيالته. ويزعم بنو الماكسن من بيوتات طنجة لهذا العهد أنهم من أعقابهم، فاضمحل ملك بلكانة من صنهاجة ومن أفريقية والأندلس أجمع، والبقاء لله وحده. اهـ.
الطبقة الثانية من صنهاجة وهم الملثمون وما كان لهم بالمغرب من الملك والدولة: هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثّمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب، أبعدوا فى المجالات هنالك منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أوّلها، فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها، واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذاً عن العمران واستئناسا بالانفراد وتوحشاً بالعز عن الغلبة والقهر. فنزلوا من ريف الحبشة جواراً، وصاروا ما بين بلاد البربر وبلاد السودان حجزا، واتخذوا اللثام خطاماً تميزوا بشعاره بين الأمم، وعفوا في تلك البلاد وكثروا. وتعددت قبائلهم من كذالة فلمتونة فمسوفة فوتريكة فناوكا فزغاوة ثم لمطة إخوة صنهاجة كلهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة. وللمتونة فيهم بطون كثيرة منهم: بنو ورتنطق وبنو زمال وبنو صولان وبنو ناسجة، وكان موطنهم من بلاد الصحراء يعرف كأكدم، وكان دينهم جميعاً المجوسيّة شأن برابرة المغرب. ولم يزالوا مستقرين بتلك المجالات حتى كان إسلامهم بعد فتح الأندلس، وكانت الرياسة فيهم للمتونة. واستوسق لهم ملك ضخم منذ دولة عبد الرحمن بن معاوية الداخل توارثة ملوك منهم. تلاكاكين وورتكا وأوراكن بن ورتنطق جد أبي بكر بن عمر أمير لمتونة في مبتدأ دولتهم، وطالت أعمارهم فيها إلى الثمانين ونحوها، ودوخوا تلك البلاد الصحراوية، وجاهدوا من بها من أمم السودان وحملوهم على الإسلام، فدان به كثيرهم. واتقاهم آخرون بالجزية فقبلوها منهم وملك عليهم بعد تلاكاكين المذكور ثيولوتان. (قال) ابن أبي زرع: أول من ملك الصحراء من لمتونة ثيولوتان، فدّوخ بلاد الصحراء واقتضى مغارم السودان. وكان يركب في مائة ألف نجيب. وتوفي سنة إثنتين وعشرين ومائتين، وملك بعده يلتان وقام بأمرهم وتوفي سنة سبع وثمانين ومائتين، وقام بأمرهم بعده ابنه تميم إلى سنة ست وثلثمائة وقتله صنهاجة وافترق
أمرهم. انتهى كلام ابن أبي زرع. وقال غيره: كان من أشهرهم تينزوا بن وانثبق بن بيزا وقيل برويان بن واشنق بن يزار ملك الصحراء بأسرها على عهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر في المائة الرابعة. وفي عهد عبيد الله وابنه أبي القاسم من خلفاء الشيعة، كان يركب في مائة ألف نجيب وعمله مسيرة شهرين في مثلها. ودان له عشرون ملكاً من ملوك السودان يعطونه الجزى، وملك من بعده بنوه ثم افترق أمرهم من بعد ذلك، وصار ملكهم طوائف ورياستهم شيعاً. قال ابن أبي زرع: افترق أمرهم بعد تميم بن بلتان مائة وعشرون سنة إلى أن قام فيهم أبو عبيد الله بن تيفاوت المعروف بناشرت اللمتوني فاجتمعوا عليه وأحبوه وكان من أهل الدين والصلاح، وحج وهلك لثلاثة أعوام من رياسته في بعض غزواته. وقام بأمرهم صهره يحيى بن إبراهيم الكندالي. وبعده يحيى بن عمر بن تلاكاكين. اهـ كلامه. وكان لهذه الطبقة ملك ضخم بالمغرب والأندلس أولاً، وبأفريقية بعده فنذكره الآن على نسقه.
دولة المرابطين من لمتونة الخبر عن دولة المرابطين من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك و أولية ذلك ومصايره كان هؤلاء الملثمون في صحاريهم كما قلناه وكانوا على دين المجوسيّة إلى أن فى فيهم الإسلام لعهد المائة الثالثة كما ذكرناه، وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه فدانوا لهم واستوسق لهم الملك. ثم افترقوا وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص. فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق بن منصور بن مصالة بن المنصور بن مزالت بن أميت بن رتمال بن ثلميت وهو لمتونة. ولما أفضت الرياسة إلى يحيى بن إبراهيم الكندالي، وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلاء، وتظاهروا على أمرهم. وخرج يحيى بن إبراهيم لقضائه فرصة في رؤساء من قومه في سني أربعين وأربعمائة، فلقوا في
منصرفهم بالقيروان شيخ المذهب المالكي أبو عمران الفاسي، واغتنموا ما متعوا به من هديه، وما شافههم به من فروض أعيانهم من فتاويه.
وسأله الأمير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم. فندب تلميذه إلى ذلك حرصاً على إيصال الخير إليهم لما رأى من رغبتهم فيه، فاستوعروا مسغبة بلادهم. وكتب لهم الفقيه أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك بن زلوا اللمطي بسجلماسة من الاخذين عنه، وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه، ويروض نفسه على مسغبة أرضهم في معاشه، فبعث معهم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، ووصل معهم يعلمهم القرآن ويقيم لهم الدين. ثم هلك يحيى بن إبراهيم وافترق أمرهم، واطرحوا عبد الله بن ياسين، واستصعبوا علمه وتركوا الأخذ عنه لما تجشموا فيه من مشاق التكليف، فأعرض عنهم وترهب. وتنسّك معه يحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة وأخوه أبو بكر، فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحاً في المصيف وغمراً في الشتاء، فتعود جزراً منقطعة. فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة، وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير، فتسايلوا إليهم ودخلوا في دينهم وغيضتهم. ولما كمل معهم ألف من الرجالات، قال لهم شيخهم عبد الله بن ياسين إن ألفاً لن تغلب من قلة، وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه، فأخرجوا بنا لذلك، فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة ومهمومة، حتى أنابوا إلى الحق واستقاموا على الطريقة، وأذن لهم في أخذ الصدقات من أموال المسلمين، وسماهم بالمرابطين وجعل أمرهم في العرب إلى الأمير يحيى بن عمر، فتخطوا الرمال الصحراوية إلى بلاد درعة وسجلماسة، فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا. ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين أمراء، سجلماسة من مغراوة وحرضهم على تغيير أمرهم، فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وستمائةوأربعمائة في عدد ضخم ركباناً على المهارى أكثرهم وعمدوا إلى درعة. لا بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز خمسين ألفاً ونحوها. ونهض إليهم مسعود بن وانودين أمير مغراوة، وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها
وعن بلاده، فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل واستلحم عسكره مع
أموالهم، واستلحمهم ودوابهم وإبل الحمى التي كانت ببلد درعة. وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلاباً، وقتلوا من كان بها من فل مغراوة، وأصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس، واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم. فهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين وستمائة وستمائة، وقدم مكانه أخاه أبا بكر، وندب المرابطين إلى فتح المغرب فغزا بلاد السوس سنة ثمان وأربعين وستمائةوأربعمائة. وافتتح ماسة وتارودانت وجميع معاقله. ثم افتتح مدينة أغمات سنة تسع وأربعين وستمائةوأربعمائة وفر أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي إلى تادلاً، واستضاف إلى بني يفرن بها، ثم افتتح المرابطون بلاد المصامدة بجبال درن، وجاسوا خلالها سنة خمسين، ثم أغزوا تادلاً فاستباحوها واستلحموا بني يفرن ملوكها، وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي صاحب أغمات. وتزوج امرأته زينب بنت اسحق النفراوية، وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة، وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن واطاس، وكان شيخاً على وريكة وهي زوجة هيلانة في دولة أمغارن في بلاد المصامدة وهم الشيوخ. وتغلب بنو يفرن على وريكة وملكوا أغمات فتزوج لقوط زينب هذه، ثم تزوجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا. ثم دعا المرابطين إلى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا وإنفاً وجهات الريف الغربي فكانت لهم فيهم وقائع وأيام استشهد عبد الله بن ياسين في بعضها سنة خمسين وأربعمائة. وقدأم المرابطين بعده سليمان بن حرب ليرجعوا إليه في قضايا دينهم. واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه على جهادهم، ثم استأصل شأفتهم، ومحا أثر دعوتهم من المغرب وهلك في جهادهم سليمان بن عدو سنة إحدى وخمسين وستمائة وأربعمائة لسنة من وفاة عبد الله بن ياسين. ثم نازل أبو بكر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة إثنتين وخمسين وستمائة وأربعمائة. وبلغه وهو لم يستتم فتح المغرب بعدما وقع من الخلاف بين لمتونة ومسوفة ببلاد الصحراء، حيث أصل أعياصهم ووشايج أعراقهم ومنيع عددهم فخشي افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة، وتلافى أمره بالرحلة. وأكد ذلك زحف
بفكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلاث وخمسين وستمائة وأربعمائة لقتالهم، فارتحل أبو بكر إلى الصحراء، واستعمل على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين، ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحق، ولحق بقومه. ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة، وفتح باباً من جهاد السودان فاستولى على نحو تسعين مرحلة من بلادهم.
وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب، ونزل بلكّين صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة، وانكفأ راجعاً. فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوخ أقطار المغرب. ثم رجع أبو بكر إلى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبد عليه. وأشارت عليه زينب أن يريه الاستبداد في أحواله وأن يعد له متاع الصحراء وماعونها، ففطن لذلك الأمير أبو بكر، وتجافى عن المنازعة وسلم له الأمر، ورجع إلى أرضه فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة. واختط يوسف مدينة مرّاكش سنة أربع وخمسين وستمائة وأربعمائة، ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه، وكمل تشييدها وأسوارها ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مرّاكش لنزله لعسكره وللتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشذ منهم ولا أكثر جمعاً. ثم صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب، وجذب الحبل من أيديهم، وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم، فقد كانوا من ذلك على ألم( حدث المؤرخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه) فنازل أولاً قلعة فازاز، وبها مهدي بن توالي من بني يحفش. قال صاحب نظم الجواهر: وهم بطن من زناتة، وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده، فنازله يوسف بن تاشفين. ثم استجاش به على فاس مهدي بن يوسف الكرنامي صاحب مكناسة بما كان عدواً لمعنصر المغراوي صاحب فاس،
فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس، وجمع إليه معنصر ففض جموعه، وارتحل يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها، وأقام عليها أياماً قلائل، وظفر بعاملها بكار بن إبراهيم فقتله. ثم نهض إلى صفروي فافتتحها وقتل من كان بها من أولاد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين وستمائة وأربعمائة، ثم خرج إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيراً من بلادهم. وأشرف على طنجة، وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة وبقية الأمراء من موالي الحمّودية وأهل دعوتها. ثم رجع إلى
منازلة قلعة فازاز، وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل عاملها. واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ليستجيش به على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما، وناجزه الحرب ففض جموعه وقتله، وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدته الحاجب سكوت البرغواطي. واستصرخ أهل مكناسة بالأمير يوسف بن تاشفين فسرح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها وألحوا بالقتال عليها فمسهم الجهد. وبرز معنصر إلى مناجزة عدوه لإحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك. واجتمع زناتة من بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية، كانوا ملوكاً بتازا وتسول، فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي صفير فكان الظهور لزناتة. واستلحم كثير من المرابطين، واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي من بلاد فازاز فارتحل سنة ست وخمسين وستمائة وأربعمائة، ونزل عليها معسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلاد المغرب، فافتتح بني مراسن ثم قبولادة، ثم بلاد ورغة سنة ثمان وخمسين وستمائة وأربعمائة ثم افتتح بلاد غمارة سنة ستين وأربعمائة. وفي سنة إثنتين وستين وأربعمائة نازل فاس فحاصرها مدة ثم افتتحها عنوة وقتل بمفازتها ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زناتة حتى أعوزت مدافنهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات، وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلاد تلمسان وأمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين القرويين والأندلسيين من عدوتيها، وصيرها
مصراً واحداً. وأدار عليها الأسوار، وحمل أهلها على الاستكثار من المساجد، ورتب بناءها. وارتحل سنة ثلاث وستين وأربعمائة إلى وادي ملوية فافتتح بلادها وحصون وطاط من نواحيها. ثم نهض سنة خمس وستين وأربعمائة إلى مدينة الدمنة فافتتحها عنوة، ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة. ثم نهض سنة سبع وستين وأربعمائة إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحهما ودوخها. ثم اقتسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء تومه وذويه، ثم استدعاه المعتمد بن عباد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي وقومه من أولياء الدولة الحمودية بسبتة، فأعاد إليه ابن عباد الرسل بالمشايعة إليهم فجهز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة، فلقيه سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه، ومعه إبنه ضياء الدولة فانكشف وقتل الحاجب سكوت، ولحق إبنه العزيز ضياء الدولة. وكتب صالح بن عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين. ثم أغزى الأمير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الأوسط سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قائده مزدلي بن تبلكان بن محمد بن وركوت من عشيره في عساكر لمتونة لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان، وبها يومئذ الأمير العباس بن بختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن خزر، فدوخوا المغرب الأوسط وصاروا في بلاد زناتة وظفروا بيعلى بن الأمير العباسي فقتلوه، وانكفأوا راجعين من غزاتهم. ثم نهض يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بعدها إلى الريف، وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلاد الريف وخرب مدينة نكور فلم تعمر بعد، ثم نهض في عساكره المرابطين إلى بلاد المغرب الأوسط فافتتح مدينة وجدة وبلاد بني يزتاسن. ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة، وقتل العباس بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن تيعمر المستوفى بها في عساكر المرابطين، فصارت ثغراً لملكه. ونزل بعساكره واختط بها مدينة تاكرارت بمكان محلته، وهو إسم المحلة بلسان البربر. ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر، وانكفأ راجعاً إلى المغرب فاحتل مراكش سنة خمس وسبعين وأربعمائة. ولم يزل محمد بن تينعمر والياً بتلمسان إلى أن هلك، وولي بعده أخوه تاشفين.
ثم إن الطاغية تكالب على بلاد المسلمين وراء البحر، وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليلة، وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد، وتسلمها منه صلحا سنة ثمان وسبعين وأربعمائة على أن يملكه بلنسية، فبعث معه عسكراً من النصرانية فدخل بلنسية وتملكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليطلة. وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف، وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها. ثم نازل سرقسطة وضيق على ابن هود بها، وطال مقامه وامتد أمله إلى تملكها فخاطب المعتمد بن عباد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منتجزاً وعده في صريخ الإسلام بالعدوة وجهاد الطاغية.
وكاتبه أهل الأندلس في كافة من العلماء والخاصة فاهتز للجهاد وبعث إبنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها براً. وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحراً فاقتحموها عنوة في ربيع الآخر سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتقبض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبراً، وكتب إلى أبيه بالفتح. ثم أجاز ابن عباد البحر في جماعته والمرابطين، ولقيه بفاس مستنفراً للجهاد. وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضراء لتكون رباطاً لجهاده فأجاز البحر في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ولقيه المعتمد ابن عباد وابن الأفطس صاحب بطليوس. وجمع ابن أدفونس ملك الجلالقة أمم النصرانية لقتاله، ولقي المرابطين بالزلاقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكراً بالإشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيره، ويعرف أبوه بالحاج وكان محمد من بطانته وأعاظم قواد تكاليب الطاغية على شرق الأندلس، ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئاً فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد يوسف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة. وخلع ابن رشيق صاحب مرسية، وتمادى إلى دانية ففر علي بن مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه، ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغرياً بالقادر بن ذي النون فأنفذ معه
معسكراً وملك بلنسية، وقتل ابن في النون، وذلك سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية، واتصل حصاره إياها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ثم استخلصتها عساكر المرابطين وولى عليها يوسف بن تاشفين الأمير مزدلي، وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين وأربعمائة، وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيره عليهم لما يسمون به عليهم. من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم فوجد عليهم، وعهد برفع المكوس وتحرى المعدلة، فلما أجاز انقبضوا عنه إلا ابن عباد فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم، فتقبض على ابن رشيق فأمكن ابن عباد منه العداوة التي بينهما.
وبعث جيشاً إلى المرية ففر عنها ابن صمادح ونزل على المنصور بن الناصر ببجاية، وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلاته فساء نظره، وأفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل الغزالي والطرطوشي فعهد إلى غرناطة واستنزل "صاحبها عبيد الله بن بلكين بن باديس وأخاه تميما من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين. وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عباد عند ذلك منه وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما. ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها وعقد للأمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على الأندلس وأجازه فقدم عليها، وقعد ابن عباد عن تلقيه ومبرته فأحفظه ذلك، وطالبه بالطاعة للأمير يوسف والنزول عن الأمر ففسد ذات بينهما وغلبه على جميع عمله. واستنزل أولاد المأمون من قرطبة ويزيد الرايض من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم. وصمد إلى إشبيلية فحاصر المعتمد بها وضيق عليه، واستنجد الطاغية فعمد إلى استنقاذه من هذا الحصار فلم يغن عنه شيئاً وكان دفاع لمتونة مما فت في عضده واقتحم المرابطون إشبيلية عليه عنوة سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وتقبض على المعتمد وقاده أسيراً إلى مراكش فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة، ثم عمد إلى بطليوس وتقبض على صاحبها
عمر بن الأفطس فقتله وإبنيه يوم الأضحى سنة تسع وثمانين بما صحّ عنده من مداخلتهم الطاغية وأن يملكوه مدينة بطليوس، ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وأربعمائة وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم النصارى أمامه وكان الظهور للمسلمين.
ثم أجاز الأمير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وانضمّ إليه محمد بن الحاج وسير بن أبي بكر واقتحموا عامة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف، ولم يبق منها إلا سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصماً بالنصارى. وغزا الأمير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع. وانتظمت بلاد الأندلس في ملكة يوسف بن تاشفين، وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن واستولى على العدوتين، واتصلت هزائم النصارى على يد المرابطين مراراً وتسمى بأمير المسلمين، وخاطب المستنصر العباسي الخليفة لعهده ببغداد وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس فعقد له وتضمن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولاً في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم. وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم الله. ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الأندلس سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وقد كان ما قدمناه في أخبار بني حماد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن يتنعمر وافتتاحه أكثر بلادهم، فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن تلمسان سنة سبع وتسعين وأربعمائة وبعث إليهما مزدلي من بلنسية، وولي بلنسية عوضاً عنه أبا محمد ابن فاطمة، وكثرت غزواته في بلاد النصرانية. وهلك يوسف على رأس المائة الخامسة وقام بالأمر من بعده إبنه علي بن يوسف فكان خير ملك، وكانت أيامه صدراً منها وادعة ولدولته على الكفر وأهله ظهور وعزة وأجاز إلى العدوة فأثخن في بلاد العدو
قتلاً وسبياً، وولى على الأندلس الأمير تميم بن... وجمع الطاغية للأمير تميم فهزمه تميم، ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلاث ونازل طليطلة. وأثخن في بلاد النصارى ورجع، وعلى أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيداً وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه.
ثم كان سنة تسع وخمسمائة شأن برقة وتغلّب أهل جنوة عليها وأخلوها. ثم رجع العمران إليها على يد ابن تامرظست من قواد المرابطين كما مر في ذكرها عند ذكر الطوائف، ثم استمرت حال علي بن يوسف في ملكه وعظم شأنه، وعقد لولده تاشفين على غرب الأندلس سنة ست وعشرين وخمسمائة وأنزله قرطبة وإشبيلية، وأجاز معه الزبير بن عمر، وحشد قومه وعقد لأبي بكر بن إبراهيم المسوفي على شرق الأندلس وأنزله بلنسية، وهو ممدوح بن خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ. وعقد لابن غانية المسوقي على الجزائر الشرقية دانية وميورقة، واستقامت أيامه، ولأربع عشرة سنة من دولته كان ظهور الإمام المهدي صاحب دعوة الموحدين، فقيهاً منتحلاً للعلم والفتيا والتدريس، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر متعرضاً بذلك للمكروه في نفسه. ونالته ببجاية وتلمسان ومكناسة اذايات من الفسقة ومن الظالمين، وأحضره الأمير علي بن يوسف للمناظرة ففلج علي خصومه من الفقهاء بمجلسه، ولحق بقومه هرغة من المصامدة. واستدرك علي بن يوسف رأيه فتفقده وطالب هرغة بإحضاره فأبوا عليه فسرح إليهم البعث فأوقعوا به وتقاسم معهم هنتاتة وتينملل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم. وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وخمسمائة وقام بأمرهم عبد المؤمن بن عليّ الكومي كبير أصحابه بعهده إليه، وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مراراً. وفشل ريح لمتونة بالعدوة الأندلسية، وظهر أمر الموحدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب. وهلك عليّ بن يوسف سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وقام بالأمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده، وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين استغلظ
أمر الموحدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه.
وغزا عبد المؤمن غزوته الكبرى إلى جبال المغرب، ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن نزل تلمسان. ونازله عبد المؤمن والموحدون بكهف الضحاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها، ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب، وشرهوا إلى مدافعة الموحدين فغلبوهم. وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفر تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله. واتبعه ا الموحدون واقتحموا عليه البلد فهلك، يقال سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة. واستولى الموحدون على المغرب الأوسط واستلحموا لمتونة. ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفاً عاجزاً فخلع وبويع عمّه إسحق بن عليّ بن يوسف بن تاشفين. وعلى هيئة ذلك وصل الموحدون إليها وقد ملكوا جميع بلاد المغرب عليه، فخرج إليهم في خاصته فقتلهم الموحدون، وأجاز عبد المؤمن والموحدون إلى الأندلس سنة إحدى وخمسين وستمائة خمسمائة وملكوا، واستحلموا أمراء لمتونة وكافتهم وفروا في كل وجه، ولحق فلهم بالجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جددوا من بعده للملك بناحية أفريقية، والله غالب على أمره. دولة ابن غانية الخبر عن دولة ابن غانية من بقية المرابطين وما كان له من الملك والسلطان بناحية قابس وطرابلس واجلابه علي الموحدين ومظاهرة قراقش الغزي له علي أمره وأولية ذلك ومصايره كان أمر المرابطين من أوله في كدالة من قبائل الملثمين حتى هلك يحيى بن إبراهيم فاختلفوا على عبد الله بن ياسين أمامهم، وتحول عنهم إلى لمتونة وأقصر عن دعوته وتنسك وترهب كما قلناه، حتى إذا أجاب داعية يحيى بن عمر وأبي بكر بن عمر من بني ورتانطق بيت رئاسة لمتونة. واتبعهم الكثير من قومهم وجاهدوا معه سائر قبائل الملثمين، وكأن مسوفة قد دخل في دعوة المرابطين كثير منهم فكان لهم بذلك في تلك الدولة حظ من الرئاسة والظهور. وكان يحيى المسوفي من رجالاتهم
وشجعانهم، وكان مقدماً عند يوسف بن تاشفين لمكانه في قومه. واتفق أنه قتل بعض رجالات لمتونة في ملاحاة وقعت بينهم فتثاور الحيان وفر هو إلى الصحراء ففدى يوسف بن تاشفين القتيل ووداه، واسترجع علياً من مفره لسنين من مغيبه، وأنكحه امرأة من أهل بيته تسمى غانية بعهد أبيها إليه في ذلك فولدت منه محمداً ويحيى ونشأ في ظل يوسف بن تاشفين وحجر كفالته.
ورعى لهما عليّ بن يوسف ذمام هذه الأواصر، وعقد ليحيى على غرب الأندلس وأنزله قرطبة. وعقد لمحمد على الجزائر الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة سنة عشرين وخمسائة، وانقرض بعد ذلك أمر المرابطين. وتقدم وفد الأندلس إلى عبد المؤمن، وبعث معهم أبا إسحق براق بن محمد المصمودي من رجالات الموحدين وعقد له على حرب لمتونة كما يذكر في أخبارهم، فملك إشبيلية واقتضى طاعة يحيى بن عليّ بن غانية، واستنزله عن قرطبة إلى جيان والقلعة فسار منها إلى غرناطة يستنزل من بها من لمنونة، ويحملهم على طاعة الموحدين فهلك هنالك سنة ثلاث وأربعين وستمائةخمسمائة ودفن بقصر باديس. وأما محمد بن علي فلم يزل والياً إلى أن هلك وقام بأمره بعده ابنه عبد الله. ثم هلك وقام بالأمر أخوه إسحق بن محمد بن عليّ. وقيل إن إسحق ولي بعد ابنه محمد وأنه قتله غيرة من أخيه عبد الله لمكان أبيه منه فقتلهما معاً، واستبد بأمره إلى أن هلك سنة ثمانين وخمسائة. وخلف ثمانية من الولد وهم محمد وعليّ ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة، فقام بالأمر إبنه محمد. ولما أجاز يوسف بن عبد المؤمن بن علي إلى ابن الزبرتير لاختبار طاعتهم، ولحين وصوله نكر ذلك إخوته وتقبضوا عليه واعتقلوه. وقام بالأمر أخوه عليّ بن محمد بن عليّ وتلوموا في رد ابن الزبرتبر إلى مرسله، وحالوا بينه وبين الأسطول حين بلغهم أن الخليفة يوسف القسري استشهد في الجهاد بأركش من العدوة، وقام بالأمر ابنه يعقوب واعتقلوا
ابن الزبرتيروركبوا البحر في إثنتين وثلاثين قطعة من أساطيلهم وأسطوله، وركب معه إخوته يحيى وعبد الله والغازي وولي على ميورقة عمه أبا الزبير، وأقلعوا إلى بجاية فطرقوها على حيى غفلة من أهلها، وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان بايميلول مر خارجها في بعض مذاهبه، فلم تمانعه أهل البلد واستولوا عليها من صفر سنة إحد وثمانين وخمسمائة، واعتقلوا بها السيد أبا موسى بن عبد المؤمن كان قافلا من أفريقية يؤم المغرب واكتسحوا ما كان بدار السادة والموحدين.
وكان والي القلعة قاصداً مراكش وهو يستخبر خبر بجاية فرجع وظاهر السيد الربيع، وزحف إليهما علي بن غانية فهزمهما، واستولى على أموالهم أسريا ولحقا بتلمسان فنزلا بها على السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذ فى تحصين تلمسان ورم أسوارها وأقاما عند السيد يرومان الكرة من صاحب تلمسان. وعاس عليّ بن محمد بن غانية في الأموال وفرقها في ذؤبان العرب ومن انضاف إليهم، ورحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها يحيى بن أبي طلحة. ثم افتتح مازونة وانتهى إلى مليا فافتتحها وولى عليها بدر بن عائشة. ثم نهض إلى القلعة فحاصرها ثلاثاً ودخلها عنوة وكانت له في المغرب خطة مشهورة. ثم قصد قسنطينة فامتنعت عليه واجتمعت عليه وفود العرب فاستنجدهم وجاؤا بأحلافهم. ولما اتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو سرح العساكر في البر لنظر السيد أبي زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وعقد له على المغرب الأوسط. وبعث الأساطيل إلى البحر وقائدها أحمد الصقلّي وعقد عليها لأبي محمد بر إبراهيم بن جامع وزحفت العساكر من كل جهة، فثار أهل الجزائر على يحيى بن أبي طلحة ومن معه وأمكنوا منهم السيد أبا يزيد فقتلهم على شلف وعفا عن يحيى لنجده عمه طلحة وكان بدر بن عائشة أسرى من مليانة واتبعه الجيش فلحقوه أمام العدو فتقبضو عليه بعد قتال مع البرابرة حين أرادوا إجارته، وتادوه إلى السيد أبي يزيد فقتله. وسبق الأسطول إلى بجاية فثار بيحيى بن غانية وفر إلى أخيه عليّ لمكانه من حصار قسنطينة بعد أن كان أخذ بمخنقها. ونزل السيد أبو زيد بعساكره بتكلات من ظاهر بجاية، وأطلى السيد أبا موسى من معتقله. ثم رحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة بعد أن كان أخذها ومضى شديداً في الصحراء، والموحدون في اتباعه حتى انتهوا إلى مغرة ونغارس. ثم نقلوا إلى بجاية واستنفر السيد أبا زيد بها وقصد علي
بن غانية في قفصة فملكها ونازل بورق وقصطيلة فامتنعت وارتحل إلى طرابلس وفيها قراقش الغزي المطغري، وكان من خبره على ما نقل أبو محمد التيجاني في كتاب رحلته أن صلاح الدين صاحب مصر بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن نكون له معقلاً يتحصّن فيه من مطالبة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام الذي كان صلاح الدين عمه من وزرائه. واستعجلوا النصر فخشوا عاديته. ثم رجع تقي الدين من طريقه لأمر عرض له ففر قراقش الأرمني بطائفة من جنوده. وفر إبراهيم بن قراتكين سلاح دار المعظم نسبة للملك المعظم شمس الدولة ابن أيوب أخي صلاح الدين. فأما قراقش فلحق بسنترية، وافتتحها وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة وخطب فيها لصلاح الدين ولأستاذه تقي الدين. وكتب لهما بالفتح وافتتح زويلة وغلب بني خطاب الهواري على ملك فزان، وكانت ملكاً لعمه محمد بن الخطاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطاب وهو آخر ملوكهم، وكانت قاعدة ملكه زويلة. وتعرف زويلة ابن خطاب فتقبض عليه وغلبه على المال حتى هلك، ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل إلى طرابلس واجتمع عليه عرب ذياب بن سليم. ونهض بهم إلى جبل نفوسة فملكه واستخلص أموال العرب واتصل به مسعود بن زمام شيخ الذواودة من رياح عند مفره من المغرب كما ذكرناه. واجتمعت أيديهم على طرابلس وافتتحها واجتمع إليه ذؤبان العرب من هلال وسليم. وفرض لهم العطاء، واستبد بملك طرابلس وما وراءها، وكان قراقش من الأرمن، وكان يقال له المظفري لأنه مملوك المظفر والناصري لأنه يخطب للناصر صلاح الدين. وكان يكتب في ظهائره ولي أمير المؤمنين بسكون الميم، ويكتب علامة الظهيره بخطه: وثقت بالله وحده أسفل الكتاب. وأما إبراهيم بن قراقش صاحبه فإنه سار مع العرب إلى قفصة فملك جميع منازلها وراسل بني الزند رؤساء قفصة فأمكنوه من البلد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن فدخلها وخطب للعباسي ولصلاح الدين إلى أن قتله المنصور عند فتح قفصة كما نذكره في أخبار الموحدين.
رجع الخبر إلى ابن غانية: ولما وصل علي بن غانية إلى طرابلس ولقي قراقش اتفقا على المظاهرة على الموحدين واستمال ابن غانية كافة بني سليم من العرب وما جاورهم من مجالاتهم ببرقة وخالطوه في ولايتهم، واجتمع إليه من كان منحرفاً عن طاعة الموحّدين من قبائل هلال مثل: جشم ورياح والأثبج. وخالفتهم زغبة إلى الموحدين فاعتقلوا بطاعتهم سائر أيامهم. ولحق بابن غانية فل قومه من لمتونة ومنونة من أطراف البقاع، فانعقد أمره وتجدد بذلك القطر سلطان قومه. وجدد رسوم الملك واتخذ الآلة وافتتح كثيراً من بلاد الجريد وأقام فيها الدعوة العباسية. ثم بعث ولده وكاتبه عبد المؤمن من فرسان الأندلس إلى الخليفة الناصر بن المستضيء ببغداد، مجدداً ما سلف لقومه من المرابطين بالمغرب من البيعة والطاعة وطلب المدد والإعانة، فعقد له كما كان لقومه وكتب الكتاب من ديوان الخليفة إلى ملك مصر والشام النائب عن الخليفة بها صلاح الدين يوسف بن أيوب، فجاء إلى مصر فكتب له صلاح الدين إلى قراقش واتصل أمرهما في إقامة الدعوة العباسية. وظاهره ابن غانية على حصار قابس فافتتحها قراقش من يد سعيد بن أبي الحسن، وولى عليها مولاه وجعل فيها ذخائره. ثم اتصل بها إلى أن وصل إلى قفصة خلعوا طاعة ابن غانية فظاهره قراقش عليها فافتتحها عنوة. ثم رحل إلى توزر وقراقش في مظاهرته فافتتحها أيضاً. ولما اتصل بالمنصور ما نزل بأفريقية من أجلاب ابن غانية وقراقش على بلاد الجريد نهض من مراكش سنة ثمان وثمانين وخمسمائة لحسم هذا الداء واستنقاذ ما غلبوا عليه. ووصل إلى تونس فأراح بها وسرح في مقدمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحدين فلقيهم ابن غانية في جموعه بعهده فانهزم الموحدون وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم، وأسر علي بن الزبرتير في آخرين وامتلأت أملاك العدو من أسلابهم ومتاعهم. ووصل سرعان الناس إلى تونس، وصمد المنصور إليهم فأوقع
بهم بظاهر الحامة في شعبان من سنته. وأفلت ابن غانية وقراقش بحومة الوفر وبادر أهل قابس وكانت خالصة لقراقش دون ابن غانية فأتوا طاعتهم وأسلموا من كان عندهم من أصحابه وذويه فاحتملوا إلى مراكش، وقصد المنصور إلى توزر فحاصرها فأسلموا إليه من كان فيها من أصحاب ابن غانية. وبادر أهلها بالطاعة.
ثم رجع إلى قفصة فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، وقتل من كان بها من الحشود. وقتل إبراهيم بن قراتكين. وأمتن على سائر الأعوان وخلى سبيلهم، وأمّن أهل البلد في أنفسهم وجعل أملاكهم بأيديهم على حكم المساقاة. ثم غزا العرب واستباح حللهم وأحياءهم حتى استقاموا على طاعته. وفر ذو المراس كثير الخلاف والفتنة منهم إلى المغرب مثل: جشم ورياح والعاصم كما قدمناه. وقفا إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ورجع ابن غانية وقراقش إلى حالهما من الأجلاب على بلاد الجريد إلى أن هلك علي في بعض حروبها مع أهل نفزاوة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك وعفى على قبره، وحمل شلوه إلى ميورقة فدفن بها. وقام بالأمر أخوه بحيى بن إسحق بن محمد بن غانية وجرى في مظاهرة قراقش وموالاته على سنن أخيه علي. ثم نزع قراقش إلى طاعة الموحدين سنة ست وثمانين وخمسمائة فهاجر إليهم بتونس وتقبله السيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن وأقام معه أياماً. ثم فر ووصل إلى قابس فدخلها مخادعة وقتل جماعة منهم، واستبد على أشياخ دباب والكعوب من بني سليم فقتل سبعين منهم بقصر العروسيين. كان منهم محمود بن طوق أبو المحاميد، وحميد بن جارية أبو الجواري. ونهض إلى طرابلس فافتتحها ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها، ثم فسد ما بينه وبين يحيى بن غانية. وسار إليه يحيى فانتهز قراقش ولحق بالجبال وتوغل فيها، ثم فر إلى الصحراء ونزل ودان ولم يزل بها إلى أن حاصره ابن غانية من بعد ذلك بمدة وجمع عليه أهل الثأر من ذباب، واقتحمه! عليه عنوة وقتله ولحق ابنه بالموحدين. ولم يزل بالحضرة إلى أيام المستنصر. ثم فر إلى ودان وأجلب في الفتنة فبعث إليه ملك كام من قتله لسنة ست وخمسين وستمائة وخمسمائة. (رجع الخبر): واستولى ابن غانية على الجريد، واستنزل ياقوت فولى قراقش من
طرده، كذا ذكره التجاني في رحلته. ولحق ياقوت بطرابلس، ونازله ابن غانية بها، وطال أمر حصاره. وبالغ ياقوت في المدافعة، وبعث يحيى عن أسطول ميورقة فأمده أخوه عبد الله بقطعتين منه فاستولى على طرابلس، وأشخص ياقوت إلى ميورقة واعتقل بها إلى أن أخذها الموحدون. وكان من خبر ميورقة أن عليّ بن غانية لما نهض إلى فتح بجاية نرك أخاه محمداً وعلي بن الزبرتير في معتقلهما. فلما خلا الجو من أولاد غانية وكثير من الحامية داخل ابن الزبرتير في معتقله نفر من أهل الجزيرة، وثاروا بدعوة محمد وحاصروا القصيبة إلى أن صالحهم أهلها على إطلاق محمد بن إسحق فأطلق من معتقله، وصار
الأمر له فدخل في دعوة الموحّدين، ووفد مع علي بن الزبرتير على يعقوب المنصور. وخالفهم إلى ميورقة عبد الله بن إسحق، ركب البحر من أفريقية إلى صقلية وأمدوه بأسطول، ووصل إلى ميورقة عند وفادة أخيه على المنصور فملكها، ولم يزل بها والياً. وبعث إلى أخيه علي بالمدد إلى طرابلس كما ذكرناه، وبعثوا إليه ياقوت فاعتقله عنوة إلى أن غلب عليه الموحدون سنة تسع وتسعين وخمسمائة فقتل. ومضى ياقوت إلى مراكش وبها مات. (رجع الخبر): ولما فرغ ابن غانية من أمر طرابلس ولى عليها تاشفين ابن عمه الغازي، وقصد قابس فوجد بها عامل الموحدين ابن عمر تافراكين بعثه إليهم صاحب تونس الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، فاستدعاه أهلها لما فر عنهم نائب قراقش أخذ ابن غانية لطرابلس فنازل قابس، وضيق عليها حتى سألوه الأمان على أن يخلي سبيل ابن تافراكين فعقد لهم ذلك وأمكنوه من البلد فملكها سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأغرمهم ستين ألف دينار، وقصد المهدية سنة سبع وتسعين وخمسمائة فاستولى عليها وقتل الثائر بها محمد بن عبد الكريم الركراكي. (وكان من خبره) أنه نشأ بالمهدية وصار من جندها المرتدين وهو كوفي الأصل، وكانت له شجاعة معروفة فجمع لنفسه خيلاً ورجالاً، وصار يغير على المفسدين من الأعراب بالأطراف فداخلهم هيبة وبعد في ذلك صيته وأمده الناس بالدعاء. وقدم أبو سعيد بن أبي حفص على أفريقية من قبل المنصور لأول ولايته، وولى على المهدية أخاه يونس. وطالب محمد بن عبد الكريم بالسهمان في المغانم. وامتنع
فأنزل به النكال وعاقبه بالسجن فدبر ابن عبد الكريم الثورة وداخل فيها بطانته وتقبض على أبي علي يونس سنة خمس وتسعين وخمسمائة واعتقله إلى أن فداه أخوه أبو سعيد بخمسمائة دينار من الذهب العين واستبد ابن عبد الكريم بالمهدية ودعا لنفسه وتلقب المتوكل على الله. ثم وصل السيد أبو زيد بمن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن والياً على أفريقية فنازل ابن عبد الكريم بتونس سنة ست وتسعين وخمسمائة واضطرب معسكره بحلق الوادي وبرز إليه جيوش الموحدين فهزمهم وطال حصاره لهم. ثم سألوه الإفراج عنهم فأجاب لذلك، وارتحل عنهم إلى حصار يحيى بن غانية بفاس فنازله مدّة.
ثم ارتحل إلى قفصة وخرج ابن غانية في أتباعه، فانهزم ابن عبد الكريم أمامه ولحق بالمهدية، وحاصره ابن غانية بها سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأمده السيد أبو زيد بقطعتين من الغزاة حتى سأل ابن عبد الكريم النزول على حكمه وخرج إليه فقبض عليه ابن غانية وهلك في اعتقاله، واستولى على المهدية واستضافها إلى ما كان بيده من طرابلس وقائى وصفاقس والجريد. ثم نهض إلى الجانب الغربي من أفريقية فنازل باجة، ونصب عليها المجانيق، وافتتحها عنوة وخربها، وقتل عاملها عمر بن غالب، ولحق شريدها بالأربس وشقبنارية، وتركها خاوية على عروشها وبعد مدة تراجع إليها ساكنها بأمن السيد أبي زيد فزحف إليها ابن غانية ثانية ونازلها، وزحف إليه السيد أبو الحسن أخو السيد أبي زيد فلقيه بقسنطينة، وانهزم الموحدون واستولى على معسكرهم. ثم نهض إلى بسكرة واستولى عليها وقطع أيدي أهلها وتقبض على حافظها أبي الحسن ابن أبي يعلى، وتملك بعدها بلنسية والقيروان وبايعه أهل بونة، ورجع إلى المهدية وقد استفحل ملكه، فأزمع على حصار تونس، وارتحل إليها سنة تسع وتسعين وخمسمائة، واستعمل على المهدية ابن عمه علي بن الغازي، ويعرف بالكافي بن عبد الله بن محمد بن علي بن غانية، ونزل بالجبل الأحمر من ظاهر تونس ونزل أخوه بحلق الوادي. ثم ضايقوها بمعسكرهم وردموا خندقها ونصبوا المجانيق والآلات، واقتحموها لأربعة أشهر من حصارها في ختام المائة السادسة، وقبض على السيد أبي زيد وابنيه ومن كان معه من الموحّدين، وأخذ أهل تونس بغرم مائة ألف دينار، وولى
بقبضها منهم كاتبه ابن عصفور وأبا بكر بن عبد العزيز بن السكاك، فأرهقوا الناس بالطلب حتى لاذ معظمهم بالموت واستعجل القتل فيما نقل أن إسمعيل بن عبد الرفيع من بيوتاتها ألقى بنفسه في بئر فهلك، فرفع الطلب ببقيتها عنهم.
وارتحل إلى نفوسة والسيد أبو زيد معتقل في معسكره، ففعل بهم مثل ذلك، وأغرمهم ألف ألف مرتين من الدنانير، وكثر عيثه وإضراره بالرعنة، وعظم طغيانه وعتوه. واتصل بالناصر بمراكش ما دهم أهل أفريقية منه ومن ابن عبد الكريم قبله، فامتعض لذلك ورحل إليها سنة إحدى وستمائة. وبلغ يحيى بن غانية خبر زحفه إليه فخرج من تونس إلى القيروان ثم إلى قفصة واجتمع إليه العرب وأعطوه الرهن على المظاهرة والدفاع. ونازل طرة من حصون مغراوة فاستباحها، وانتقل إلى حامة مطماطة. ونزل الناصر تونس ثم قفصة ثم قابس، وتحصّن منه ابن غانية، في جبل دمر، فرجع عنه إلى المهدية، وعسكر عليها واتخذ الآلة لحصارها. وسرح الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال ابن غانية في أربعة آلاف من الموحدين سنة إثنتين وستمائة فلقيه بجبل تاجورّا من نواحي قابس وأوقع به، وقتل أخاه جبارة بن إسحق واستنقذ السيد أبا زيد من معتقله، ثم افتتح الناصر المهديّة ودخل إليها علي بن الغازي في دعوته فتقبله، ورفع مكانه ووصله بهدية وافق وصولها من سبتة إليه على يد واصل مولاه وكان بها ثوبان منسوجان بالجواهر فوصله بذلك كله، ولم يزل معه إلى أن استشهد مجاهداً. وولى الناصر على المهدئة محمد بن يغمور من الموحدين ورجع إلى تونس. ثم نظر فيمن يوليه أمر أفريقية لسد فرجها والذب عنها، ومدافعة ابن غانية وجموعه دونها. فوقع اختياره على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فعقد له على ذلك سنة ثلاث كما ذكرناه في أخباره. ورجع الناصر إلى المغرب، وأجمع ابن غانية النهوض لقتال الموحدين بتونس، وجمع ذؤبان العرب من الزواودة وغيرهم. وأوفد الزواودة يومئذ محمد بن مسعود بن سلطان وتحيز بنو عوف بن سليم إلى الموحدين، والتقوا بشبرو من نواحي تبسة فانهزمت جموع ابن غانية، ولجأ إلى جهة طرابلس0
ثم نهض إلى المغرب في جموعه من العرب والملثّمين فانتهى إلى سجلماسة، وامتلأت أيدي أتباعه من النهاب، وخرقوا الأرض بالعيث والفساد، وانكفأ إلى المغرب الأوسط وداخله المفسدون من زناتة، وأغزوا به صاحب تلمسان السيد أبا عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن، فلقيه بتاهرت فهزمه ابن غانية، وقتله وأسر وافده وكر راجعاً إلى أفريقية فاعترضه الشيخ أبو محمد صاحب أفريقية في جموع الموحدين، واستنقذ الغنائم من أيديهم. ولجأ ابن غانية إلى جبال طرابلس، وهاجر أخوه سير بن إسحق إلى مراكش فقبله الناصر وأكرمه. ثم اجتمع إلى ابن غانية طوائف العرب من رياح وعوف وهيث ومن معهم من قبائل البربر، وعزم على دخول أفريقية. ونهض إليهم الشيخ أبو محمد سنة ست وستمائة ولقيهم بجبل نفوسة ففلّ عسكرهم واستلحم أمرهم، وغنم ما كان معهم من الظهر والكراع والأسلحة. وقتل يومئذ محمد بن الغازي وجوار بن يفرن، وقتل معه ابن عمه من كتاب ابن أبي الشيخ ابن عساكر بن سلطان، وهلك يومئذ من العرب الهلاليين أمير قرّة سمّاد بن نخيل.حكى ابن نخيل: أن مغانم الموحدين يومئذ من عساكر الملثّمين كانت ثمانية عشر ألفاً من الظهر فكان ذلك مما أوهن من شدته ووطى من بأسه. وثارت قبائل نفوسة بكاتبه ابن عصفور فقتلوا ولديه، وكان ابن غانية يبعثه عليهم للمغرم. وسار أبو محمد في نواحي أفريقية ودفع سلبهم واستثأر أشياخهم بأهلهم، وأسكنهم بتونس حسماً لفسادهم. وصلحت أحوال أفريقية إلى أن هلك الشيخ أبو محمد سنة ثمان عشرة وستمائة، وولى أبو محمد السيد أبو العلا إدريس بن يونس بن عبد المؤمن. ويقال بل وليها قبيل مهلك الشيخ أبي محمد فاستطار بعد مهلكه ثور بن غانية، ونجم نفاقه وعيثه، فعابه رعيته ونهض إليه السيد أبو العلا ونزل قابس وأقام بقصر العروسيين وسرح ولده السيد أبا زيد بعسكر من الموحدين إلى درج وغدامس، وسرح عسكراً آخر إلى ودان لحصار ابن غانية، فأرجف بهم العرب ونهضوا وهم بهم السيد أبو
العلا. وفر ابن غانية إلى الزاب، واتبعه السيد أبو زيد فنازل ببسكرة واقتحمها عليه. ونجا ابن غانية، وجمع أوباشاً من العرب والبربر، واتبعه السيد أبو زيد في الموحدين وقبائل هوارة، وتزاحفوا بظاهر تونس سنة إحدى وعشرين وستمائة فانهزم ابن غانية وجموعه، وقتل كثير من الملثّمين، وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم.
وكان لهوارة يومئذ، وأميرهم حناش بن بعرة بن ونيفن. في هذا الزحف أثر مذكور وبلاء حسن. وبلغ السيد أبا زيد إثر هذه الوقيعة خبر مهلك أبيه بتونس فانكف راجعاً، وأعيد بنوأبي حفص إلى مكان أبيهم الشيخ أبي محمد بن أثال بأفريقية. واستقل الأمير أبو زكريا منهم بأمرها، واقتلعها عن ملكه إلى عبد المؤمن وتناولها من يد أخيه أبي محمد . عبد الله. وهذا الأمير أبو زكريا هو جد الخلفاء الحفصيّين وماهد أمرهم بأفريقية، فأحسن دفاع ابن غانية عنها وشرده في أقطارها. ورفع يده شيئاً فشيئاً عن النيل من أهلها ورعاياها. ولم يزل شريداً مع العرب بالقفار، فبلغ سجلماسة من أقصى المغرب، والعقبة الكبرى من تخوم الديار المصرية. واستولى على ابن مذكور صاحب السويقة من تخوم برقة، وأوقع بمغراوة بواجر ما بين متيجة ومليانة، وقتل أميرهم منديل بن عبد الرحمن وصلب شلوه بسور الجزائر. وكان يستخدم الجند فإذا سئموا الخدمة تركهم لسبيلهم إلى أن هلك لخمسين سنة من أمارته سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقيل ثلاث وثلاثين، ودفن وعفى أثر مدفنه. يقال بوادي الرجوان قبلة الأربس ويقال بجهة مليانة من وادي شلف، ويقال بصحراء باديس ومديد من بلاد الزاب. وانقرض أمر الملثّمين من مسوقة ولمتونة ومن جميع بلاد أفريقية والمغرب والأندلس بمهلكه. وذهب ملك صنهاجة من الأرض بذهاب ملكه وانقطاع أمره. وقد خلف بنات بعثهن زعموا إلى الأمير أبي زكريا لعهده بذلك إلى علجه جابر فوضعن في يده. وبلغه وفاة أبيهن وحسن ظنه في كفالته إياهنّ، فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهن، وبنى لهن بحضرته داراً لصونهن معروفة لهذا العهد
بقصر البنات.وأقمن تحت حراسته وفي سعة من رزقه موصولات لوصاة أبيهن بى بذلك منهن وحفظهنّ لوصاته. ولقد يقال إن ابن عم لهن خطب إحداهن فبعث إليها الأمير أبو زكريا فقال لها: هذا ابن عمك وأحق بك، فقالت لو كان ابن عمنا ما كفلنا الأجانب: إلى أن هلكن عوانس بعد أن متعن من العمر بحظ.
أخبرني والدي رحمه الله: أنه أدرك واحدة منهن أيام حياته في سني العشر والسبعمائة تناهز التسعين من السنين. (قال): ولقيتها وكانت من أشرف النساء نفساً وأسراهن خلقا وأزكاهن خلالاً والله وارث الأرض ومن عليها. ومضى هؤلاء الملثّمون وقبائلهم لهذا العهد بمجالاتهم من جوار السودان حجزاً بينهم وبين الرمال التي هي تخوم بلاد البربر من المغربين وأفريقية، وهم لهذا العهد متصلون من ساحل البحر المحيط في المغرب إلى ساحل النيل بالمشرق. وهلك من قام بالملك منهم بالعدوتين، وهم قليل من مسوقة ولمتونة كما ذكرناه، أكلتهم الدولة وابتلعتهم الآفاق والأقطار، وأفناهم الرق واستلحمهم أمراء الموحدين. وبقي من أقام بالصحراء منهم على حالهم الأول من افتراق الكلمة واختلاف البين، وهم الآن يعطون طاعة لملوك السودان، يجبون إليهم خراجهم وينفرون في معسكرهم. واتصل بنيانهم على بلاد السودان إلى المشرق مناظر السلع العرب على بلاد المغربين وأفريقية. فكدالة منهم في مقابلة ذوي حسان من المعقل عرب السوس الأقصى، ولمتونة وتريكة في مقابلة ذوي منصور وذوي عبد الله من المعقل أيضاً عرب المغرب الأقصى، ومسوقة في مقابلة زغبة عرب المغرب الأوسط، ولمطة في مقابلة رياح عرب الزاب وبجاية وقسنطينة، وتاركاً في مقابلة سليم عرب أفريقية، وأكثر ما عندهم من المواشي الإبل لمعاشهم وحمل أثقالهم وركوبهم، والخيل قليلة لديهم أو معدومة. ويركبون من الإبل الفارهة ويسمونها النجيب، ويقاتلون عليها إذا كانت بينهم حرب، وسيرها هملجة، وتكاد تلحق بالركض وربما يغزوهم أهل القفر من العرب، وخصوصاً بنو سعيد من بادية رياح، فهم أكثر العرب غزوا إلى بلادهم
فيستبيحون من صحبوه منهم يرمونه في بطون مغاير. فإذا اتصل الصائح بأحيائهم، وركبوا في أتباعهم اعترضوهم على المياه قبل وصولهم من تلك البلاد فلا يكادون يخلصون ويشتد الحرب بينهم فلا يخلص، العرب من غوائلهم إلا بعد جهد، وقد يهلك بعضهم، ولله الخلق والأمر. وإذ عرض لنا ملوك السودان فلنذكر ملوكهم لهذا العهد المجاورين لملوك المغرب.
ملوك السودان الخبر عن ملوك السودان المجاورين للمغرب من وراء هؤلاء الملثمين ووصف أحوالهم والإلمام بما اتصل بنا من دولتهم هذه الأمم السودان من الآدميين هم أهل الإقليم الثاني، وما وراءه إلى آخر الأول بل وإلى آخر المعمورة متصلون ما بين المغرب والمشرق، يجاورون بلاد البربر بالمغرب وأفريقية وبلاد اليمن والحجاز في الوسط، والبصرة وما وراءها من بلاد الهند بالمشرق، وهم أصناف وشعوب وقبائل أشهرهم بالمشرق الزنج والحبشة والنوبة، وأما أهل المغرب منهم فنحن ذاكروهم بعدما، ننسبهم فبنو حام بن نوح، بالحبش من ولد حبش بن كوش بن حام، والنوبة من ولد نوبة بن كوش بن كنعان بن حام فيما قاله المسعودي، وقال ابن عبد البر إنهم من ولد نوب بن قوط بن مصر بن حام، والزنج من ولد زنجي بن كوش وأما سائر السودان فمن ولد قوط بن حام فيما قاله ابن عبد البر، ويقال هو قبط بن حام.
وعد ابن سعيد من قبائلهم وأممهم تسع عشرة أمة، فمنهم في المشرق الزنج على بحر الهند، لهم مدينة فنقية وهم مجوس، وهم الذين غلب رقيقهم بالبصرة على ساداتهم مع دعي الزنج في خلافة المعتمد. قال: ويليهم مدينة بربرا، وهم الذين ذكرهم امرؤ القيس في شعره. والإسلام لها العهد فاش فيهم، ولهم مدينة مقدشوا على البحر الهندي بعمرها تجار المسلمين ومن غربيهم وجنوبهم الدمادم وهم حفاة عراة. قال: وخرجوا إلى بلاد الحبشة والنوبة عند خروج التتر إلى العراق فعاثوا فيها ثم رجعوا. قال: ويليهم الحبشة وهم أعظم أمم السودان، وهم مجاورون لليمن على شاطئ البحر الغربي ومنه غزوا ملك اليمن ذي نواس وكانت دار مملكتهم كعبر، وكانوا على دين النصرانية، وأخذ بالإسلام واحد منهم زمن الهجرة على ما ثبت في الصحيح، والذي أسلم منهم لعهد النبي وهاجر إليه الصحابة قبل الهجرة إلى المدينة فآواهم ومنعهم، وصلى عليه النبي عندما نعي إليه كان إسمه النجاشي وهو بلسانهم: انكاش بالكاف المشمة بالجيم عربتها العرب جيما محضة وألحقتها ياء النسب، شأنها في الأسماء الأعجمية إذا تصرفت فيها، وليس هذا الاسم سمة لكل من تملك منهم كما يزعم كثير من الناس ممن لا علم له بهذا، ولو كان كذلك لشهروا إسمه إلى اليوم لأن ملكهم لم يتحول منهم.
وملكهم لهذا العهد إسمه الخطى ما أدري اسم السلطان نفسه، أو إسم العشيرة الذين فيهم الملك وفي غربية مدينة داموت وكان بها ملك من أعاظمهم وله ملك ضخم وفي شماليه ملك آخر منهم إسمه حق الدين محمد بن علي بن ولصمع في مدينة أسلم أولوه في تواريخ مجهولة. وكان جده ولصمع مطيعاً لملك دامون، وأدركت الخطى الغيرة من ذلك فغزاه واستولى على بلاده. ثم اتصلت الفتنة وضعف أمر الخطى فاسترجع بنو ولصمع بلادهم من الخطى وبنيه، واستولوا على وفات وخربوها. وبلغنا أن حق الدين هلك، وملك بعده أخوه سعد الدين وهم مسلمون ويعطون الطاعة للخطى أحياناً وينابذونه أخرى والله مالك الملك. (قال ابن سعيد): ويليهم البجاوة وهم نصارى ومسلمون، ولهم جزيرة بسواكن في بحر السوس، ويليهم النوبة إخوة الزنج والحبشة ولهم مدينة دنقلة غرب النيل، وأكثرهم مجاورون للديار المصرية، ومنهم رقيق. ويليهم زغاوة وهم مسلمون، ومن شعوبهم تاجرة ويليهم الكانم وهم خلق عظيم، والإسلام غالب عليهم ومدينتهم حميمي ولهم التغلب
على بلاد الصحراء إلى فزان. وكانت لهم مهادنة مع الدولة الحفصّية منذ أولها، ويليهم من غربهم كوكو، وبعدهم نغالة والتكرور ولمى وتميم وجالي وكوري وأفكزار، ويتصلون بالبحر المحيط إلى غانية في الغرب اهـ كلام ابن سعيد.
ولما فتحت أفريقية المغرب دخل التجار بلاد المغرب فلم يجدوا فيهم أعظم من ملوك غانية، كانوا مجاورين للبحر المحيط من جانب الغرب، وكانوا أعظم أمة ولهم أضخم ملك، وحاضرة ملكهم غانية مدينتان على حافتي النيل من أعظم مدائن العالم وأكثرها معتمراً، ذكرها مؤلف كتاب رجار وصاحب المسالك والممالك. وكانت تجاورهم من جانب الشرق أمة أخرى فيما زعم الناقلون تعرف صوصو بصادين مضمومتين أو سينين مهملتين، ثم بعدها أمة أخرى تعرف مائي ثم بعدها أمة أخرى تعرف كوكو ويقال كاغو، ثم بعدها أمة أخرى تعرف بالتكرور. (وأخبرني) الشيخ عثمان فقيه أهل غانية وكبيرهم علماً وديناً وشهرة، قدم مصر سنة تسع وتسعين وستمائة حاجاً بأهله وولده ولقيته بها فقال إنهم يسمون التكرور زغاي ومالي أنكاريه اهـ. ثم إن أهل غانية ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جانب الشمال مما يلي البربر كما ذكرناه، وعبروا على السودان واستباحوا حماهم وبلادهم واقتضوا منهم الأتاوات والجزى، وحملوا كثيراً منهم على الإسلام فدانوا به. ثم اضمحل ملك أصحاب غانة وتغلب عليهم أهل صوصو المجاورون لهم من أمم السودان واستعبدوهم وأصاروهم في جملتهم. ثم إن أهل مالي كثروا أمم السودان في نواحيهم تلك، واستطالوا على الأمم المجاورين لهم فغلبوا على صوصو وملكوا جميع ما بأيديهم من ملكهم القديم، وملك أهل غانة إلى البحر المحيط من ناحية الغرب وكانوا مسلمين، يذكرون أن أول من أسلم منهم ملك اسمه برمندانة هكذا ضبطه الشيخ عثمان. وحج هذا الملك واقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده. وكان ملكهم الأعظم الذي تغلب على صوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الأمير الذي يكون من نسل السلطان وجاطة الأسد، واسم الحافد عندهم تكن، ولم يتصل بنا نسب هذا الملك. وملك
عليهم خمساً وعشرين سنة فيما ذكروه. ولما هلك ولي عليهم من بعده منساولي، ومعنى منسا السلطان، ومعنى ولي بلسانهم علي، وكان منسا ولي هذا من أعاظم ملوكهم. وحج أيام الظاهر بيبرس، وولي عليهم من بعده أخوه واتى. ثم بعده أخوهم خليفة وكان محمقاً راوياً، فكان يرسل السهام على الناس فيقتلهم مجاناً، فوثبوا عليه فقتلوه. وولي عليهم من بعده سبط من أسباط ماري جاطة يسمى بأبي بكر، وكان ابن بنته فملكوه على سنن الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت. ولم يقع إلينا نسبه ونسب أبيه.
ثم ولي عليهم من بعده مولى من مواليهم تغلب على ملكهم إسمه ساكورة. وقال الشيخ عثمان ضبطه بلسانهم أهل غانة سبكرة وحج أيام الملك الناصر وقتل عند مرجعه بتاجورا، وكانت دولته ضخمة اتسع فيها نطاق ملكهم وتغلبوا على الأمم المجاورة لهم. وافتتح بلاد كوكو وأصارها في ملكة أهل مالي. واتصل ملكهم من البحر المحيط وغانة بالمغرب إلى بلاد التكرور في المشرق، واعتز سلطانهم وهابتهم أمم السودان، وارتحل إلى بلادهم التجار من بلاد المغرب وأفريقية. وقال الحاج يونس ترجمان التكروري إن الذي فتح كوكو هو سغمنجة من قواد منسا موسى، وولي من بعده ساكورة هذا هو ابن السلطان ماري جاطة، ثم من بعده إبنه محمد بن قو، ثم انتقل ملكهم من ولد السلطان ماري جاطة إلى ولد أخيه أبي بكر فولي عليهم منسا موسى بن أبي بكر، وكان رجلاً صالحاً وملكاً عظيماً، له في العدل أخبار تؤثر عنه. وحج سنة أربع وعشرين وسبعمائة، لقيه في الموسم شاعر الأندلس أبو إسحق إبراهيم الساحلي المعروف بالطويجن وصحبه إلى بلاده. وكان له اختصاص وعناية ورثها من بعده ولده إلى الآن وأوطنوا والاتر من تخوم بلادهم من ناحية المغرب، ولقيه في منصرفه صاحبنا المعمّر أبو عبد الله بن خديجة الكومي من ولد عبد المؤمن، كان داعية بالزاب للفاطمي المنتظر، وأجلب عليهم بعصائب من العرب فكر به واركلا، واعتقله ثم خلى سبيله بعد حين فخاض القفر إلى السلطان منسا موسى مستجيشاً به عليهم، وقد كان بلغه توجهه للحج فأقام في انتظاره ببلد غدامس يرجو نصراً على عدوه ومعونة على أمره لما كان عليه منسا موسى من استفحال
ملكه بالصحراء الموالية لبلد واركلا وقوة سلطانه فلقي منه مبرة وترحباً ووعده بالمظاهرة والقيام بثأره واستصحبه إلى بلدة أخرى وهو الثقة.
(قال كنا نواكبه أنا وأبو إسحق الطويجن دون وزرائه ووجوه قومه، نأخذ بأطراف الأحاديث حيث يتسع المقام، وكان يتحفنا) في كل منزل بالرف المآكل والحلاوات قال: والذي تحمل آلته وحربته من الوصائف خاصة إثنا عشر ألفاً لابسات أقبية الديباج والحرير اليماني. (قال الحاج يونس ترجمان هذه الأمة بمصر): جاء هذا الملك منسا موسى من بلده بثمانين حملاً من التبر، كل حمل ثلاثة قناطير. قال: وإنما يحملون على الوصائف والرجال في أوطانهم فقط، وأما السفر البعيد كالحج فعلى المطايا. (قال أبو خديجة): ورجعنا معه إلى حضرة ملكه فأراد أن يتخذ بيتاً في قاعدة سلطانه محكم البناء مجللاً بالكلس لغرابته بأرضهم فأطرفه أبو إسحق الطويجن ببناء قبة مربعة الشكل استفرغ فيها إجادته. وكان صناع اليدين وأضفى عليها من الكلس ووالى عليها بالأصباغ المشبعة فجاء من أتقن المباني ووقعت من السلطان موقع الاستغراب لفقدان صنعة البناء بأرضهم، ووصله باثني عشر ألفاً من مثاقيل التبر مبثوثة عليها. إلى ما كان له من الأثرة والميل إليه والصلات السنية. وكان بين هذا السلطان منسا موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلة ومهاداة سفرت بينهما فيها الأعلام من رجال الدولتين واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس على ما نذكره عند موضعه، بعث بها مع علي بن غانم المغفل وأعيان من رجال دولته. وتوارثت تلك الوصلة أعقابهما كما سيأتي واتصلت أيام منساً موسى هذا خمساً وعشرين سنة. ولما هلك ولي أمر مالي من بعده إبنه منسا مغا ومعنى مغا عندهم محمد، وهلك لأربع سنين من ولايته، وولي أمرهم من بعده منسا سليمان بن أبي بكر وهو أخو موسى، واتصلت أيامه أربعاً وعشرين سنة. ثم هلك فولي بعده إبنه منسا بن سليمان، وهلك لتسعة من ولايته
فولي عليهم من بعده ماري جاطة بن منسا مغا بن منسا موسى، واتصلت أيامه أربعة عشر عاماً وكان أشر وال عليهم بما سامهم من النكال والعسف وإفساد الحرم. وأتحف ملك المغرب لعهده السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن بالهدية المذكورة سنة إثنتين وستين وسبعمائة، وكان فيها الحيوان العظيم الهيكل المستغرب بأرض المغرب المعروف بالزرافة. تحدث الناس بما اجتمع فيه من متفرق الحلى والشبه في جثمانه ونعوته دهرأ.
(وأخبرني القاضي الثقة أبو عبد الله محمد بن وانسول من أهل سجلماسة. وكان أوطن بأرض كوكو من بلادهم، واستعملوه في خطة القضاء بما لقيه منذ سنة ست وسبعين وسبعمائة، فأخبرني عن ملوكهم بالكثير مما كتبته، وذكر لي عن هذا السلطان جاطة أنه افسد ملكهم وأتلف ذخيرتهم وكان أن ينتقض شأن سلطانهم. (قال): ولقد انتهى الحال به في سرفه وتبذيره أن باع حجر الذهب الذي كان في جملة الذخيرة عن أبيهم، وهو حجر يزن عشرين قنطاراً منقولاً من المعدن من غير علاج بالصناعة ولا تصفية بالنار، كانوا يرونه من أنفس الذخائر والغرائب لندور مثله في المعدن، فعرضه جاطة هذا الملك المسرف على تجار مصر المترددين إلى بلده، و أبتاعوه منه بأبخس ثمن إذ استهلك من ذخائر ملوكهم سرفأ وتبذيراً في سبيل الفسوق والتخلف. (قال): وأصابته علة النوم، وهو مرض كثيراً ما يطرق أهل ذلك الإقليم وخصوصاً الرؤساء منهم، يعتاده غشي النوم عامة أزمانه حتى يكاد أن لا يفيق ولا يستيقظ إلا في القليل من أوقاته ويضر صاحبه ويتصل سقمه إلى أن يهلك. قال: ودامت هذه العلة بخلطه مدة عامين إثنين، وهلك سنة خمس وسبعين[وسبعمائة]. وولوا من بعده إبنه موسى فأقبل على مذاهب العدل والنظر لهم، ونكب عن طرق أبيه جملة وهو الآن مرجو الهداية، ويغلب على دولته وزيره ماري جاطة، ومعنى ماري عندهم الوزير وجاطة تقدم وهو الآن قد حجر السلطان واستبد بالأمر عليه، ونظر في تجهيز العساكر وتجهيز الكتائب، ودوخ أقطار الشرق من بلادهم وتجاوز تخوم كوكو، وجهز إلى منازلة تكرت بما وراءها من بلاد الملثمين كتائب نازلتها لأول الدولة، وأخذت بمخنقهما. ثم أفرجت عنها وحاطهم الآن هدنة. وتكرت هذه على سبعين مرحلة من بلد واركلا في الجانب القبلي الغربي، وفيها من الملثمين يعرف بالسلطان، وعليهم طريق الحاج من السودان، وبينه وبين أمير الزاب
وواركلا مهاداة ومراسلة. (قال): وحاضرة الملك لأهل مالي هو بلد بني... بلد متسع الخطة معين على الزرع مستبحر العمارة نافق الأسواق، وهو الآن محط لركاب البحر من المغرب وأفريقية ومصر والبضائع مجلوبة إليها من كل قطر. ثم بلغنا لهذا العهد أن منسا موسى توفي سنة تسع وثمانين وسبعمائة وولي بعده أخوه منسا مغا. ثم قتل لسنة أو نحوها وولي بعده صندكي زوج أم موسى صندكي الوزير. ووثب عليه بعد أشهر رجل من بيت ماري جاطة. ثم خرج من بلاد الكفرة وراءهم وجاءهم رجل إسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي ابن ماري جاطة الأكبر فتغلب على الدولة وملك أمرهم سنة إثنتين وتسعين وسبعمائة ولقبه منسا مغا والخلق والأمر لله وحده.
الخبر عن لمطة وكزولة وهسكورة بني تصكي وهم إخوة هوارة وصنهاجة: هؤلاء القبائل الثلاث قد تقدم لنا أنهم أخوة لصنهاجه وأن أم الثلاثة تصكي العرجاء بنت زحيك بن مادغيس، فأما صنهاجة فمن ولد عاميل بن زعزاع، وأما هوارة فمن ولد أوريغ وهو ابنها ابن برنس، وأما الآخرون فلا تحقيق في نسبهم. (قال ابن حزم): إن صنهاجة ولمطة لا يعرف لهما أب، وهذه الأمم الثلاث موطنون بالسوس وما يليه من بلاد الصحراء وجبال درن ملأوا بسائطه وجباله. (فأما لمطة) فأكثرهم مجاورون الملثمين من صنهاجة، ولهم شعوب كثيرة وأكثرهم ظواعن أهل وبر. ومنهم بالسوس قبيلتا زكن ولخس، صاروا في عداد ذوي حسان من معقل، وبقايا لمطة بالصحراء مع الملثمين ومعظمهم قبيلة بين تلمسان وأفريقية وكان منهم الفقيه واكاك بن زبري صاحب أبي عمران الفاسي وكان نزل سجلماسة. ومن تلميذه كان عبد الله بن باسين صاحب الدولة اللمتونية على ما مر.
(وأما كزولة) فبطونهم كثيرة ومعظمهم بالسوس ويجاورون لمطة ويحاربونهم. ومنهم
الآن ظواعن بأرض السوس، وكان لهم مع المعقل حروب قبل أن يدخلوا السوس، فلما دخلوه تغلب عليهم، وهم الآن من خولهم وأخلافهم ورعاياهم.
(وأما هسكورة) وهم لهذا العهد في عداد المصامدة وينسبون إلى دعوة الموحدين وهم أمم كثيرة وبطون واسعة ومواطنهم بجبالهم متصلة من درن إلى تادلاً من جانب الشرق إلى درعة من جانب القبلة، وكان دخول بعضهم في دعوة المهدي قبل فتح مراكش ولم يستكملوا الدخول في الدعوة إلا من بعده، لذلك لا يعدهم كثير من الناس في الموحدين، وإن عدوا فليسوا من أهل السابقة منهم لمخالفتهم الإمام أول الأمر. وما كان من حروبهم معه ومع أوليائه وشيعته، وكانوا ينادون بخلافهم وعداوتهم ويجهرون بلغنهم. فتقول خطباؤهم في مجامع صلواتهم: لعن الله هنتاتة وتينملل وهرنة وهرزجة، فلما استقاموا من بعد ذلك لم يكن لهم مزية السابقة كما كانت لهنتاتة وتينملل وهرغة وهزرجة، فاستقامتهم على الدعوة كان بعد فتح مراكش.
وبطون هسكورة هؤلاء متعددون، فمنهم مصطاوة وعجرامة وفطواكة وزمراوة واننيفت وبنو نفال وبنو رسكونت إلى آخرين لم يحضرني أسماؤهم. وكانت الرياسة عليهم آخر دولة الموحدين لعمر بن وقاريط المنتسب. وذكره في أخبار المأمون والرشيد من بني عبد المؤمن خلفاء الموحدين بمراكش. ثم كان من بعده مسعود بن كلداسن وهو القائم بأمر دبوس والمظاهر له على شأنه وأظنه جد بني مسعود بن كلداسن الرؤساء عليهم لهذا العهد من فطواكة المعروفين ببني خطاب لاتصال الرياسة في هذا البيت ولما انقرض أمر الموحدين استعصوا على بني مرين مدة، واختلفت حالهم معهم في الاستقامة والنفرة، وكانوا ملجأ للنازعين عن الطاعة من عرب جشم، ومأوى للثائرين منهم.
ثم استقاموا وأذعنوا لأداء الضرائب والمغارم وجبايتها من قومهم والخفوف إلى العسكرة مع السلطان متى دعوا إليها شأن غيرهم من سائر المصامدة.
وأما انتيفت فكانت رئاستهم في أولاد هنو، وكان يوسف بن كنون منهم، اتخذ لنفسه حصن تاقيوت، وامتنع به، ولم يزل ولده علي ومخلوف يشيدانه من بعده، وهلك يوسف وقام بأمره إبنه مخلوف، وجاهر بالنفاق سنة إثنتين وسبعمائة. ثم راجع الطاعة، وهو الذي تقبض على يوسف بن أبي عياد المتعدي على مراكش أيام أبي ثابت سنة سبع وسبعمائة كما نذكر في أخباره، لما احيط به فتقبض عليه مخلوف وأمكن منه. وكانت وسيلته من الطاعة، وكان من بعده إبنه هلال بن مخلوف، والرياسة فيهم متصلة لهذا العهد.
وأما بنو نفال فكانت رياستهم لأولاد تروميت، وكان منهم لعهد السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن كبيرهم علي بن محمد، وكان له في الخلاف والامتناع ذكر. واستنزله السلطان أبو الحسن من محله لأول ولايته بعد حصاره بمكانه، وأصاره في جملته تحت عنايته وأمرائه إلى أن هلك بتونس بعد واقعة القيروان في الطاعون الجارف. وولي بنوه من بعده أمر قومهم إلى أن انقرضوا، والرئاسة لهذا العهد في أهل بيتهم ولأهل عمومتهم.
(وأما فطواكة): وهم أوسع بطونهم وأعظمهم رئاسة فيهم، وأقربهم اختصاصاً بصاحب الملك واستعمالاً في خدمته. وكان بنو خطاب منذ انقراض أمر الموحدين قد جنحوا إلى بني عبد الحق، وأعطوهم المقادة واختصوا شيوخهم في بني خطاب بالولاية عليهم. وكان شيخهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب محمد بن مسعود وابنه عمر من بعده. وهلك عمر سنة أربع وسبعمائة بمكانه من محله، وولي بعده عمه موسى بن مسعود، وسخطه السلطان لتوقع خلافه فاعتقله. وكان خلاصه من الاعتقال سنة ست وسبعمائة، وقام بأمر هسكورة من بعده محمد بن عمر بن محمد بن مسعود.
ولما استفحل ملك بني مرين وذهب أثر الملك من المصامدة وبعد عهدهم، صار بنو مرين إلى استعمال رؤسائهم في جباية مغارمهم لكونهم من جلدتهم. ولم يكن فيهم أكبر رئاسة من أولاد تونس في هنتاتة. وبني خطاب هؤلاء في هسكورة فداولوا بينهم ولاية الأعمال المراكشيّة، وليها محمد بن عمر هذا من بعد موسى بن علي وأخيه محمد
شيوخ هنتاتة، فلم يزل والياً منها إلى أن هلك قبيل نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. ولحق ابنه إبراهيم بتلمسان ذاهبا إلى السلطان أبي الحسن. فلما دعا أبو عنان إلى نفسه رجع عنه إلى محله، وتمسك بما كان عليه من طاعة أبيه، ورعاه أبو عنان لعمه عبد الحق، وقفده الأعمال المراكشيّة فلم يغن في منازعه إلى أن لحق السلطان أبو الحسن بمراكش، فكان من أعظم دعاته، وأبلى في مظاهرته. فلما هلك السلطان أبو الحسن اعتقله أبو عنان وأودعه السجن، ثم قتله بين يدي نهوضه إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وستمائة وسبعمائة، وقام بأمره من بعده أخوه منصور بن محمد إلى أن ملك الأمير عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مراكش سنة ست وسبعين وسبعمائة، فاستقدمه وتقبض عليه، واعتقله بدار ابن عمه نحواً بن العلام بن مسرى بن مسعود بن خطاب كان في جملته، وكان هو وأبوه نازعاً إلى بني مرين خوفاً على أنفسهم من أولاد محمد بن عمر لترشحهم للأمر، فلما استمكن منه بداره معتقلاً وثب عليه فقتله واستلحم بنيه معه وسخطه السلطان لها فاعتقله قليلاً. ثم أطلقه واستقل برياسة هسكورة لهذا العهد والله قادر على ما يشاء.
الطبقة الثالثة من صنهاجة وهذه الطبقة ليس فيها ملك وهم لهذا العهد أوفر قبائل المغرب، فمنهم الموطنون بالجانب الشرقي من جبال درن ما بين تازي وتادلا ومعدن بني فازان حيث الثنية المفضية إلى آكرسلوين من بلاد النخل. وتفصل تلك الثنية بين بلادهم وبلاد المصامدة في المغرب من جبال درن. ثم اعتمروا قنن تلك الجبال وشواهقها وتنعطف مواطنهم من تلك الثنية إلى ناحية القبلة إلى أن تنتهي إلى آكرسلوين. ثم ترجع مغرباً من آكرسلوين إلى درعة إلى ضواحي السوس الأقصى، وأمصاره من تارودانت وأيفري إلى فونان وغيرها ويعرف هؤلاء كلهم بإسم صناكة حذفت الهاء من إسم صنهاجة، وأسموا صاده زاياً وأبدلوا الجيم بالكاف المتوسطة المخرج عند العرب لهذا العهد بين الكاف والقاف بين الكاف والجيم. وهي معرّبة النطق.
ولصنهاجة هؤلاء بين قبائل الغرب أوفر عدد وشدة بأس ومنعة، وأعزهم جانباً أهل الجبال المطلة على تادلاً، ورياستهم لهذا العهد في ولد عمران الصناكي ولهم اعتز على الدولة ومنعة عن الهضيمة والانقياد للمغرم. وتتصل بهم قبائل خباتة منهم ظواعن يسكنون بيوت الخص وينتجعون مواقع القطر في نواحي بلادهم يتغانيمين من قبيلة مكناسة إلى وادي أم ربيع من تامسنا في الجانب الشمالي من جانبي جبل درن ورياستهم في ولد هيبري من مشاهيرهم، ولهم اعتياد بالمغرم وروم على الذل. وتتصل بهم قبائل دكالة في وسط المغرب من عدوة أم ربيع إلى مراكش، ويتصل بهم من جهة المغرب على ساحل البحر المحيط قبيلة بناحية آزمور، وأخرى وافرة العد مندرجة في عداد المصامدة وطناً ونحلةً وجبايةً وعمالةً. ورياستهم لهذا العهد في دولة عزيز بن يبورك، ورئيسهم لأول دولة زناتة ويأتي ذكره ويعرف عقبه الآن ببني بطال، ومى قبائل صنهاجة بطون أخرى بجبال تازى وما والاها مثل بطوية وبخاصة وبني وارتين إلى جبل لكائي من جبال المغرب معروف ببني الكائي إحدى قبائلهم، يعطون المغرم عر عزة. وبطوية منهم ثلاثة بطون: بطوية على تازى، وبني ورياغل على ولد المزمة، وأولا علي بتافرسيت. وكان لأولاد علي ذمة مع بني عبد الحق ملوك بني مرين، وكانت أم يعقوب بن عبد الحق منهم فاستوزرهم. وكان منهم طلحة بن علي وأخوه عمر على ما يأتي ذكره في دولتهم.
ويتصل ببسيط بالمغرب ما بين جبال درن وجبال الريف من ساحل البحر الرومي حيث مساكن حماد الآتي ذكرهم قبائل أخرى من صنهاجة موطنون في هضاب وأوديه وبسائط يسكنون بيوت الحجارة والطين مثل قشتالة وسطه وبنو ورياكل وبنو
حميد وبنو مزكلدة وبنو عمران وبنو دركون وبنو رتزر وملوانة وبنو وامرد. وموطن هؤلاء كلهم بورغة وأمر كو يحترفون بالحياكة والحراثة، ويعرفون لذلك صنهاجة البز، وهم في عداد القبائل
المغارمة، ولغتهم في الأكثر عربية لهذا العهد وهم مجاورون بجبال غمارة. ويتصل بجبال غمارة من ناحيتهم جبل سريف موطن بني زروال من صنهاجة وبني مغالة لا يحترفون بمعاش ويسمون صنهاجة العز لما اقتضته منعة جبالهم. ويقولون لصنهاجة آزمور الذين قدمنا ذكرهم صنهاجة الذل، لما هم عليه من الذل والمغرم والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد يقال في بعض مزاعم البربر أن بني وديد من صنهاجة وبنو يزناسن وباطويه هم أخوال وأصل يزناسن أجناسن ومعناه بلغة العرب الجالس على الأرض. الخبر عن المصامدة من قبائل البربر وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب ومبدأ ذلك وتصاريفه: وأما المصامدة وهم من ولد مصمود بن يونس بن بربر فهم أكثر قبائل البربر وأوفرهم، من بطونهم برغواطة وغمارة وأهل جبل درن. ولم تزل مواطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة. وكان المتقدم فيهم قبيل الإسلام وصدره برغواطة. ثم صار التقدم بعد ذلك لمصامدة جبال درن إلى هذا العهد. وكان لبرغواطة في عصرهم دولة ولأهل درن منهم دولة أخرى أو دول حسبما نذكر، فلنذكر هذه الشعوب وما كان فيها من الدول بحسب ما تأدى إلينا من ذلك.
الخبر عن برغواطة من بطون المصامدة ودولتهم ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم:
وهم الجيل الأول منهم، كان لهم في صدر الإسلام التقدم والكثرة وكانوا شعوباً كثيرةً مفترقين، وكانت مواطنهم خصوصاً من بين المصامدة في بسائط تامستا وريف البحر المحبط من سلا وأزمور وأنفى وأسفى. وكان كبيرهم لأول المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صالح، وكان من قواد ميسرة الخفير طريف المصفري القائم بدعوة الصفرية ومعهما معزوز بن طالوت. ثم انقرض أمر ميسرة والصفرية وبقي طريف قائماً بأمرهم بتامستا ويقال أيضاً أنه تنبأ وشرع لهم الشرائع. ثم هلك وولي مكانه إبنه صالح وقد كان حضر مع أبيه حروب ميسرة وكان من أهل العلم والخير فيهم.
ثم انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة، وشرع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده، وهي معروفة في كتب المؤرّخين. وادعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سوراً منه، يسمي منها سورة الديك وسورة الجمل وسورة الفيل وسورة آدم وسورة نوح وكثير من الأنبياء، وسورة هاروت وماروت وإبليس، وسورة غرائب، الدنيا وفيها العلم العظيم بزعمهم، حرم فيها وحلّل وشرّع وقصّ وكانوا يقرأونه في صلواتهم، وكانوا يسمونه صالح المؤمنين كما حكاه البكري عن زمور بن صالح بن هاشم بن وراد الوافد منهم على الحكم المستنصر الخليفة بقرطبة من قبل ملكهم أبي عيسى بن أبي الأنصاري سنة إثنتين وخمسين وستمائة وثلثمائة. وكان يترجم عنه بجميع خبره داود بن عمر المسطاسي. قال: وكان ظهور صالح هذا في خلافة هشام بن عبد الملك سنة سبع وعشرين من المائة الثانية من الهجرة. وقد قيل إن ظهوره كان لأول الهجرة، وأنه إنما انتحل ذلك عناداً أو محاكاة لما بلغه شأن النبي والأول أصح. ثم زعم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان، وأن عيسى يكون صاحبه ويصلي خلفه، وأن إسمه في
العرب صالح وفي السريان مالك وفي الأعجمي عالم وفي العبراني روبيا وفي البربري وربا ومعناه الذي ليس بعده نبي، وخرج إلى المشرق بعد أن ملك أمرهم سبعاً وأربعين وستمائةسنة، ووعدهم أنه يرجع إليهم في دولة السابع منهم، وأوصى بدينه إلى إبنه إلياس، وعهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أميّة، وبإظهار دينه إذا قوي أمرهم.
وقام بأمره بعده إبنه إلياس، ولم يزل مظهرا للإسلام مسراً لما أوصاه به أبوه من كلمة كفرهم. وكان طاهراً عفيفاً زاهداً. وهلك لخمسين سنة من ملكه، وولي أمرهم من بعده إبنه يونس فأظهر دينهم ودعا إلى كفرهم، وقتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامستا وما والاها يقال إنه حرق ثلثمائة وثمانين مدينة، واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه، وقتل منهم بموضع يقال له تاملوكاف، وهو حجر عال نابت وسط الطريق فقتل سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين. (قال زمور): ورحل يونس إلى المشرق وحجّ، ولم يحج أحد من أهل بيته قبله ولا بعده، وهلك لأربع وأربعين وستمائةسنة من ملكه، وانتقل الأمر عن بنيه، وولي أمرهم أبو غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف، فاستولى على ملك برغواطة وأخذ بدين آبائه واشتدت شوكته وعظم أمره، وكانت له في البربر وقائع مشهورة وأيام مذكورة أشارإليها سعيد بن هشام المصمودي في قوله:
- قفي قبل التفرق وأخبرينا وقولي وأخبري خبراً يقينا
- وهذي أمة هلكوا وضلوا وغاروا لا سقوا ماء معينا
- يقولون: النبي أبو غفير فأخزى الله أم الكاذبينا
- ألم تسمع ولم تر لؤم بيت على آثار خيلهم ربينا
- وهن الباكيات فبين ثكلى وعادمة ومسقطة جنينا
- ستعلم أهل تامستا إذا ما أتوا يوم القيامة مقطعينا
- هنالك يونس وبنو أبيه يقودون البرا بر حائرينا
- إذا زر ياور طافت عليهم جبهتهم بأيدي المنكرينا
- فليس اليوم يومكم ولكن ليالي كنتم متيسرينا
واتخذ أبو غفير من الزوجات أربعاً وأربعين وستمائة وستمائة، وكان له من الولد مثلها وأكثر. وهلك أخريات الماية الثالثة لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده إبنه أبو الأنصار عبد الله فاقتفى سننه وكان كثير الدعة مهاباً عند ملوك عصره يهاودونه ويدافعونه بالمواصلة، وكان يلبس الملحفة والسراويل ولا يلبس المخيط ولا يعتم، ولا يعتم أحد في بلده إلا الغرباء. وكان حافظاً للجار وفياً بالعهد وهلك سنة إحدى وأربعين وستمائةمن المائة الرابعة لأربع وأربعين وستمائةسنة من ملكه، ودفن بأمسلاخت وبها قبره. وولي بعده إبنه أبو منصور عيسى ابن إثنين وعشرين سنة فسار بسيرة آبائه وادعى النبوة والكهانة، واشتد أمره وعلا سلطانه ودانت له قبائل المغرب. (قال زمور): وكان فيحا أوصاه به أبوه: يا بني ! أنت سابع الأمراء من أهل بيتك، وأرجو أن يأتيك صالح بن طريف. قال زمور: وكان عسكره يناهز الثلاثة آلاف من برغراطة وعشرة آلاف من سواهم مثل جراوة وزواغة والبرانس ومجكصة ومضغرة ودمّر ومطماطة وبنو وارزكيت. وكان أيضاً بنو يفرن وإصادة وركانة وايزمن ورصافة ورغصرارة على دينهم، ولم يتخذ ملوكهم الآلة منذ كانوا، انتهى كلام زمور. وكان لملوك العدوتين في غزو برغواطة هؤلاء وجهادهم أثناء هذا وبعده آثار عظيمة من الأدارسة والأموية والشيعة. ولما أجاز جعفر بن علي من الأندلس إلى المغرب وقلده المنصور بن أبي عامرعمله سنة ست وستين وثلثمائة فنزل البصرة، ثم اختلف ذات بينه وبين أخيه يحيى واستمال عليه أخوه الجند وأمراء زناتة، فتجافى له جعفر عن العمل وصرف وجهه إلى جهاد برغواطة معتده من صالح عمله، وزحف إليهم في أهل المغرب وكافة الجند الأندلسيّين فلقوه وسط بلادهم، وكانت عليه الدبرة،
ونجا بنفسه في فل من جنده، ولحق بأخيه بالبصرة. ثم أجاز بعدها إلى المنصور باستدعائه، وترك أخاه يحيى على عمل المغرب. ثم حاربتهم أيضاً صنهاجة لما غزا بلكّين بن زيري المغرب سنة ثمان وستين وثلثمائة بعدها وأجفلت زناتة أمامه وارزوا إلى حائط سبتة، وامتنعوا منه بأوعارها، وانصرف عنهم إلى جهاد برغواطة، وزحف إليهم فلقيه أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار في قومه، وكانت عليهم الهزيمة.
وقتل أبو منصور وأثخن فيهم بلكّين بالقتل، وبعث سبيهم إلى القيروان، وأقام بالمغرب يردد الغزو فيهم إلى سنة إثنتين وسبعين وثلثمائة وانصرف من المغرب فهلك في طريقه إلى القيروان. ولم أقف على من هلك أمرهم بعد أبي منصور. ثم حاربتهم أيضاً جنود المنصور بن أبي عامر لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح على المغرب عند قفوله من غزاة زيري بن عطية سنة تسع وثمانين وثلثمائة، فافتتح واضح أمره بغزو برغواطة هؤلاء فيمن قبله من الأجناد وأمراء النواحي وأهل الولاية، فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي، ثم حاربهم أيضاً بنو يفرن لما استقل بنو يعلى ابن محمد اليفرني من بعد ذلك بناحية سلا من بلاد المغرب، واقتطعوه من عمل أبناء زيري بن عطية المغراوي بعد ما كان بينهما من الحروب. وانتساب أمر أولاد يعلى هؤلاء إلى تميم بن زيري بن يعلى في أول المائة الخامسة، وكان موطناً بمدينة سلا مجاوراً لبرغواطة، فكان له أثر كثير في جهادهم، وذلك في سني عشرين وأربعمائة فغلبهم على تامستا وولى عليها من قبله بعد أن أثخن فيهم سبياً وقتلاً. ثم تراجعوا من بعده إلى أن جاءت دولة لمتونة وخرجوا من مواطنهم بالصحراء إلى بلاد المغرب، واقتحموا الكثير من معاقل السوس الأقصى وجبال المصامدة. ثم بدا لهم جهاد برغواطة بتامستا وما إليها من الريف الغربي فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه، وكانت له فيهم وقائع استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله بن ياسين الكزولي سنة خمسين وأربعمائة، واستمر أبو بكر وقومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم، ومحوا من الأرض آثارهم. وكان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي غفير محمد بن معاد بن إليسع بن صالح بن طريف، فهلك في حروبهم. وعليه كان انقراض أمرهم وقطع دابرهم على،
يد هؤلاء المرابطين، والحمد لله رب العالمين. وقد يغلط بعض الناس في نسب برغواطة هؤلاء فيعدهم في قبائل زناتة، وآخرون بقولون في صالح أنه يهوديّ من ولد شمعون بن يعقوب نشأ ببرباط ورحل إلى المشرق، وقرأ على عبد الله المعتزلي واشتغل بالسحر، وجمع فنوناً، وقدم المغرب ونزل تامستا فوجد فيها قبائل جهّالاً من البربر، فأظهر لهم الزهد وسحرهم بلسانه، وموه عليهم فقصدوه واتبعوه، فادعى النبوّة وقيل له برباطي نسبة إلى الموطن الذي نشأ به، وهو برباط، واد بحصن شريش من بلاد الأندلس، فعربت العرب هذا الإسم وقالوا برغواط. ذكر ذلك كله صاحب كتاب نظم الجوهر وغيره من النسابيّن للبربر، وهو من الأغاليط البيّنة. وليس القوم من زناتة، ويشهد لذلك كله موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. وأما صالح بن طريف فمعروف منهم وليس من غيرهم، ولا يتم الملك والتغلب على النواحي والقبائل لمنقطع جذمة دخيل في نسبه. سنة الله في عباده، وإنما نسب الرجل في برغواطة وهم شعب من شعوب المصامدة معروف كما ذكرناه والله ولي التوفيق. الخبر عن غمارة من بطون المصامدة وما كان فيهم من الدول وتصاريف أحوالهم: هذا القبيل من بطون المصامدة من ولد غماربن مصمود، وقيل غماربن مسطاف بن مليل بن مصمود، وقيل غمار بن أصاد بن مصمود. ويقول بعض العامة أنهم
عرب غمروا في تلك الجبال فسموا غمارة، وهو مذهب عاميّ، وهم شعوب وقبائل أكثر من أن تحصر. والبطون المشهورة منهم بنو حميد ومثيوة وبنو فال واغصاوة، وبنور وزروال ومجكسة، وهم آخر مواطنهم يعتمرون جبال الريف بساحل البحر الرومي من عن يمين بسائط المغرب، من لدن غساسة، فنكور فبادس فتيكيساس فتيطّاوين فسبتة فالقصر إلى طنجة خمس مراحل أو أزيد، أوطنوا منها جبالاً شاهقة اتصل بعضها ببعض سياجاً بعد سياج خمس مراحل أخرى في العرض إلى أن يتخط إلى بسائط قصر كتامة ووادي ورغة عن بسائط المغرب، ترتد عنها الأبصار، وتزل في حافاتها الطيور لا بل الهوام، وينفسح في رؤوسها وبين قننها الفجاج، سبل السفر ومراتع السائمة وفدن الزراعة وأدواح الرياض.
ويتبين لك أنهم من المصامدة بقاء هذا النسب المحيط سمة فيهم لبعض شعوبهم يعرفون بمصمودة ساكنين ما بين سبتة وطنجة، وإليهم ينسب قصر المجاز الذي يعبر منه الخليج البحري إلى بلد طريف ويعضده أيضاً اتصال مواطنهم بموطن برغواطة من شعوب المصامدة بريف البحر الغربي وهو المحيط، إذ كان بنو حسان منهم موطنين بذلك الساحل من لدن آزغر وأصيلاً إلى أنفى، ومن هنالك تتصل بهم مواطن برغواطة ودكالة إلى قبائل درن من المصامدة فما وراءها من بلاد القبلة. فالمصامدة هم أهل الجبال بالمغرب الأقصى إلا قليلاً منها وغيرهم في البسائط. ولم تزل غمارة هؤلاء بمواطنهم هذه من لدن الفتح، ولم يعلم ما قبل ذلك. وللمسلمين فيهم أزمان الفتح وقائع الملاحم وأعظمها لموسى بن نصير، وهو الذي حملهم على الإسلام واسترهن أبناءهم وأنزل منهم عسكراً مع طارق بطنجة. وكان أميرهم لذلك العهد يليان وهو الذي وفد عليه موسى بن نصير ورغبه في غزو الأندلس، وكان منزله سبتة كما نذكره، وذلك قبل استحواء نكور. وكانت في غمارة هؤلاء بعد الإسلام دول قاموا بها لغيرهم وكان فيهم متنبئون، ولم تزل الخوارج تقصد جبالهم للمنعة فيها والاعتصام كما نذكرهم إن شاء اللة تعالي
الخبر عن سبتة ودولة بني عصام بها:
كانت سبتة هذه من الأمصار القديمة قبل الإسلام، كانت يومئذ منزل يليان ملك غمارة، ولما زحف إليه موسى بن نصير صانعه بالهدايا وأذعن للجزية، فأمره عليها واسترهن ابنه وأبناء قومه، وأنزل طارق بن زياد بطنجة وضرب عليهم العسكر للنزول معه. ثم كانت إجازة طارق إلى الأندلس فضرب عليهم البعوث، وكان الفتح الذي لا كفاء له كما مر في موضعه. ولما هلك يليان استولى العرب على مدينة سبتة صلحاً من ، أيدي قومه فعمروها. ثم كانت فتنة ميسرة الحقير وما دعى إليه من ضلالة الخارجية، واخذ بها الكثير من البرابرة من غمارة وغيرهم فزحف برابرة طنجة إلى سبتة وأخرجوا العرب منها وسبوها وخربوها فبقيت خلاء.
ثم نزل بها ماجكس من رجالاتهم ووجوه قبائلهم، وبه سميت مجكسة فبناها ورجع بها الناس وأسلم. وسمع من أهل العلم إلى أن مات فقام بأمره ابنه عصام ووليها دهراً. ولما هلك قام بأمره إبنه مجير فلم يزل والياً عليها إلى أن هلك، ووليها أخوه الرضي ويقال أنه ابنه، وكانوا يعطون لبني إدريس طاعة مضعفة كما نذكره. ولما سما للناصر أمل في ملك المغرب، وتناول حبله من أيدي بني إدريس المالكين ببلاد لهبط وغمارة حين أجهضتهم مكناسة وزناتة عن ملكهم بفاس، وقاموا بدعوة الناصر وبثوها في أعمالهم نزلوا حينئذ للناصر عن سبتة، وأشاروا له إلى تناولها من بني عصام فسرح إليها عساكره وأساطيله مع قائده نجاح بن غفير، فكان فتحها سنة
تسع عشرة وثلثمائة، ونزل له الرضي بن عصام عنها، وأتاه طاعته وانقرض أمر بني عصام. وصارت سبتة إلى الناصر حتى استولى عليها بعد حين بنو حماد، واستحدثوا بها دولة أخرى كما نذكره.
الخبر عن بني صالح بن منصور ملوك نكور ودولتهم في غمارة وتصاريف أحوالهم: لما استولى المسلمون أيام الفتح على بلاد المغرب وعمالاته واقتسموه، وأمدهم الخلفاء بالبعوث إلى جهاد البربر، وكان فيهم من كل القبائل من العرب. وكان صالح بن منصور الحميري من عرب اليمن في البعث الأول. وكان يعرف بالعبد الصالح فاستخلص نكور لنفسه، وأقطعه إياها الوليد بن عبد الملك في أعوام إحدى وتسعين للهجرة، قاله صاحب المقياس، حد بلد نكور ينتهي من المشرق إلى زواغة وجراوة بن أبي العيص مسافة خمسة أيام، وتجاوره من هنالك مطماطة، وأهل كدالة ومرنيسة وغساسة أهل جبل هرك، وقلوع جارة التي لبني ورتندي، وينتهي من الغرب إلى بني مروان من غمارة، وبني حميد، وإلى مسطاسة وصنهاجة ومن ورائهم أوربة، حزب فرحون وبني وليد وزناتة وبني يرنيان وبني واسن حزب قاسم صاحب صا والبحر جوفي نكور على خمسة أميال، فأقام صالح هنالك لما اقتطع أرضها وكثر نسله، واجتمع إليه قبائل غمارة وصنهاجة مفتاح، وأسلموا على يده وقاموا بأمره، وملك تمسامان، وانتشر الإسلام فيهم، ثم ثقلت عليهم الشرائع والتكاليف، وارتدوا وأخرجوا صالحاً، وولوا عليهم رجلاً من نفزة يعرف بالرندي. ثم ثابوا وراجعوا الإسلام ورجعوا صالحاً فأقام فيهم إلى أن هلك بتمسامان سنة إثنتين وثلاثين ومائة. وولي أمرهم من بعده إبنه المعتصم بن صالح، وكان شهماً شريف النفس كثير العبادة. وكان يلي الصلاة والخطبة لهم بنفسه. ثم هلك لأيام،
يسيرة وولي من بعده أخوه إدريس فاختطّ مدينة نكور في عدوة الوادي ولم يكملها. وهلك سني ثلاث وأربعين وستمائةومائة وولي من بعده ابنه سعيد، واستفحل أمره. وكان ينزل مدينة تمسامان. ثم اختط مدينة نكور لأول ولايته ونزلها، وهي التي تسمى لهذا العهد المزمة بين نهرين أحدهما نكور ومخرجه من بلاد كزناية ومخرجه ومخرج وادي ورغة واحد، والثاني عيس ومخرجه من بلاد بني ورياغل، يجتمع النهران في أكدال. ثم يفترقان إلى البحر ويقال نكور من عدوة الأندلس بزليانة.
وغزا المجوس نكور هذه في أساطيلهم سنة أربع وأربعين وستمائةومائة فتغلبوا عليها واستباحوها ثمانياً. ثم اجتمع إلى سعيد البرانس، وأخرجوهم عنها، وانتقضت غمارة بعدها على سعيد فخلعوه وولوا عليهم رجلاً منهم إسمه سكن. وتزاحفوا فأظهره الله عليهم وفرق جماعتهم وقتل مقدمهم واستوسق أمره، إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين لسبع وثلاثين من ملكه. وقام بأمره ابنه صالح بن سعيد فتقبل مذاهب سلفه في الاستقامة والاقتداء، وكانت له مع البربر حروب ووقائع إلى أن هلك سنة خمسين ومايتين لإثنين وسبعين سنة من ملكه. وقام من بعده ابنه سعيد بن صالح، وكان أصغر ولده، فخرج عليه أخوه عبيد الله وعمّه الرضي، وظفر بهما بعد حروب كثيرة فغرب أخاه إلى المشرق ومات بمكة، وأبقى على عمّه الرضي لذمة صهر بينهما. وقتل سائر من ظفر به من عمومته وقرابته وامتعض لهم سعادة الله بن هارون منهم، ولحق ببني يصلتن أهل جبل أبي الحسين، ودلهم على عورته، وبيتوا معسكره واستولوا عليه، وأخذوا آلالة وقتلوا آلافاً من مواليه، وحاصروا بنكور. ثم كانت له الكرة عليهم وقتل منهم خلقاً ونجا سعادة الله إلى تمسامان، وتقبض على أخيه ميمون فضرب عنقه. ثم صار سعادة الله إلى طلب الصلح فأسعفه وأنزله معه مدينة نكور. ثم غزا سعيد بقومه وأهل إيالته من غمارة بلاد بطوية ومرنيسة وقلوع جارة وبني ورتندي وأصهر بأخته إلى أحمد بن إدريس
بن محمد بن سليمان صاحب وأنزله مدينة نكور معه. وتوطد الأمر لسعيد في تلك النواحي إلى أن خاطبه عبيد الله المهدي يدعوه إلى أمره وفي أسفل كتابه:
- فإن تستقيموا استقم لصلاحكم وإن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلاً
- وأعلو بسيفي قاهراً لسيوفكم وادخلها عفواً وأملؤها قتلاً
فكتب إليه شاعره الأحمس الطليطلي بأمر يوسف بن صالح أخي الأمير سعيد:
- كذبت وبيت الله ما تحسن العدلا ولا علم الرحمن من قولك الفصلا
- وما أنص إلا جاهل ومنافق تمثل للجهال في السنة المثلى
- وهمّتنا العليا لدين محمد وقد جعل الرحمن همتك السفلى
فكتب عبيد الله إلى مصالة بن حبوس صاحب تاهرت، وأوغزى إليه بغزوه فغزاه سنة أربع وثلثمائة لأربع وخمسين وستمائة من دولته، فحاربه سعيد وقومه أياماً. ثم غلبهم مصالة وقتلهم، وبعث برؤوسهم إلى رقادة، فطيف بها وركب بقيتهم البحر إلى مالقة، فتوسع الناصر في إنزالهم وإجارتهم وبالغ في تكريمهم. وأقام مصالة بمدينة نكور ستة أشهر. ثم قفل إلى تاهرت وولى عليها دلول من كتامة، فانقبض العسكر من حوله، وبلغ الخبر إلى بني سعيد بن صالح، وقومهم بمالقة، وهم: إدريس المعتصم وصالح فركبوا السفن، إليها وسبق صالح منهم، فاجتمع إليه البربر بمرسى تكسامان، وبايعوه سنة خمس وثلثمائة، ولقبوه القيّم لصغره، وزحفوا إلى دلول فظفروا به وبمن معه وقتلوهم، وكتب صالح بالفتح إلى الناصر، وأقام دعوته بأعماله. وبعث إليه الناصر بالهدايا والتحف والآلة، ووصل إليه إخوته وسائر قومه وأتوا طاعته. ولم يزل على هدى أوليه من اقتداء، إلى أن هلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة. وولي بعده إبنه عبد البديع، ولقب المؤيد، وزحف إليه موسى بن أبي العافية القائم بدعوة العبيديّين بالمغرب، فحاصره وتغلب عليه فقتله، واستباح المدينة وخربها منة سبع عشرة وثلثمائة. ثم تراجع إليها فلهم، وقام بأمرهم أبو أيوب إسماعيل بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور، وأعاد المدينة التي بناها صالح بن منصور وعمرها وسكنها ثلاثاً. ثم أغزاه ميسور مولى أبي القاسم بن عبيد الله صندلاً مولاه عندما أناخ على فاس، فبعث عسكراً مع صندل هذا فحاصر جراوة، ثم
عطف على نكور وتحصن منه إسماعيل بن عبد الملك بقلعة أكد ى. وبعث إليه صندل رسله من طريقه فقتلهم فأغذ إليه السير وقاتله ثمانية أيام.
ثم ظفر به فقتله واستباح القلعة وسباها، واستخلف عليها من كتامة رجلأ إسمه مرمازو، ووصل صندل إلى فاس فتراجع أهل نكور وبايعوا لموسى بن المعتصم بن محمد بن قرة بن المعتصم بن صالح بن منصور. وكان بجبل أبي الحسين عند بني يصلتن وكان يعرف بابن رومي. وقال صاحب المقياس: هو موسى بن رومي بن عبد السميع بن إدريس بن صالح بن إدريس بن صالح بن منصور، فأخذ مرمازو ومن معه وضرب أعناقهم، وبعث برؤسهم إلى الناصر. ثم ثار عليه من أعياص بيته عبد السميع بن جرثم بن إدريس بن صالح بن منصور، فخلعه وأخرجه عن نكور سنة تسع وعشرين وثلثمائة، ولحق موسى بالأندلس ومعه أهله وولده وأخوه هارون بن رومي وكثير من عمومته وأهل بيته. فمنهم من نزل معه المريّة، ومنهم من نزل مالقة. ثم انتقض أهل نكور على عبد السميع وقتلوه. واستدعوا من مالقة جرثم بن أحمد بن زيادة الله بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور، فبادر إليهم وبايعوه سنة ست وثلاثين وثلثمائة، فاستقامت له الأمور وكان على مذهب سلفه في الاقتداء والعمل بمذهب مالك إلى أن مات آخر سنة ستين وثلثمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه. واتصلت الولاية في بيته إلى أن غلب عليهم أزداجة المتغلبون على وهران، وزحف أميرهم يعلى بن فتوح الأزداجي سنة ست وأربعمائة، وقيل سنة عشر فغلبهم على نكور وخربها، وانقرض ملكهم بعد ثلثمائة سنة وأربع عشرة سنة من لدن ولاية صالح وبقيت في بني يعلى بن فتوح وأزداجة إلى أعوام ستين وأربعمائة والله مالك الأمور لا إله إلا هو.
خريطة
الخبر عن حاميم المتنبي من غمارة:
كان غمارة هؤلاء غريقين في الجهالة والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير، وتنبأ فيهم من مجكسة حاميم بن من الله بن حرير بن عمر بن رحفو بن أزروال بن مجكسة يكنى أبا محمد، وأبوه أبو خلف. تنبأ سنة ثلاث عشرة وثلثمائة بجبل حاميم المشتهر به قريبأ من تطوان. واجتمع إليه كثير منهم وأقروا بنبوته، وشرع لهم الشرائع والديانات من العبادات والأحكام، وصنع لهم قرآناً كان يتلوه عليهم بلسانهم من كلامه: "يا من يخلي البصر، ينطر في الدنيا، خلني من الذنوب. يا من أخرج موسى من البحر، آمنت بحاميم وبأبيه أبي خلف من الله. وآمن رأسي وعقلي وما يكنه صدري، وأحاط به دمي ولحمي وآمنت بتابعيت عمة حاميم أخت أبي خلف من الله، وكانت كاهنة ساحرة، إلى غير هذا، وكان يلقب المفتري، وكانت أخته دبّو ساحرة كاهنة، وكانوا يستغثون بها في الحروب والقحوط، وقتل في حروب مصمودة بأحواز طنجة سنة خمس عشرة وثلثمائة، وكان لابنه عيسى من بعده قدر جليل في غمارة، ووفد على الناصر. ورهطهم بنو رحفو موطنون بوادي لاو ووادي راس قرب تطوان، وكذلك تنبأ منهم بعد ذلك عاصم بن جميل اليزدجومي، وله أخبار مأثورة، وما زالوا ينتحلون السحر لهذا . وأخبرني المشيخة من أهل المغرب أن أكثر منتحلي السحر منهم النساء العواتق.
قال: ولهن قوة على استجلاب روحانية ما يشاؤنه من الكواكب، فإذا استولوا عليه وتكيفوا بتلك الروحانية تصرفوا منها في الأكوان بما شاءوا والله أعلم.
دولة الأدارسة
الخبر عن دولة الأدارسة في غمارة وتصاريف أحوالهم
كان عمر بن إدريس عندما قسم محمد بن إدريس أعمال المغرب بين إخوته برأي
جدته كنزة أم إدريس، اختص منها بتيكيساس وترغة وبلاد صنهاجة وغمارة، واختصّ القاسم بطنجة وسبتة والبصرة وما إلى ذلك من بلاد غمارة. ثم غلب عمر عليها عندما تنكر له أخوه محمد واستضافها إلى عمله كما ذكرنا في أخبارهم. ثم تراجع بنو محمد بن القاسم من بعد ذلك إلى عملهم الأول فملكوه، واختط منهم محمد بن إبراهيم بن محمد بن القاسم قلعة حجر النسر الدانية من سبتة معقلاً لهم وثغراً لعملهم. وبقيت الإمارة بفاس وأعمال المغرب في ولد محمد بن إدريس. ثم أدالوا منهم بولد عمر بن إدريس، وكان آخرهم يحيى بن إدريس بن عمر وهو الذي بايع لعبيد الله الشيعي على يد مصالة بن حبوس قائده، وعقد له على فاس. ثم نكبه سنة تسع وثلثمائة.
وخرج عليه سنة ثلاث عشرة وثلثمائة من بني القاسم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس، ويلقب بالحجام لطعنه في المحاجم، وكان مقداماً شجاعاً. وثار أهل فاس بريحان وملكوا الحسن، وزحف إليه موسى ففله ومات. واستولى ابن أبي العافية على فاس وأعمال المغرب وأجلى الأدارسة وأحجرهم بحصنهم حجر النسر، وتحيزوا إلى جبال غمارة وبلاد الريف. وكان لغمارة في التمسك بدعوتهم آثار ومقامات، واستجدوا بتلك الناحية ملكاً توزعوه قطعاً كان أعظمها لبني محمد هؤلاء ولبني عمر بتيكيسان ونكور وبلاد الريف. ثم سما الناصر عبد الرحمن إلى ملك العدوة ومدافعة الشيعة، فنزل له بنو محمد عن سبتة سنة تسع عشرة وثلثمائة وتناولها من يد الرضي بن عصام رئيس محكسة، كان يقيم فيها دعوة الأدارسة فأفرجوا له عنها ودانوا بطاعته وأخذها من يده. ولما أغزا أبو القاسم ميسوراً إلى المغرب لمحاربة ابن أبي العافية حين نقض طاعتهم، ودعا للمروانية وجد بنو محمد السبيل إلى النيل منه بمظاهرة ميسور عليه، ومالأهم على ذلك بنو عمر صاحب نكور. ولما استقل ابن أبي العافية من نكبته، ورجع من الصحراء سنة خمس وعشرين
وثلثمائة منصرف ميسور من المغرب نازل بني محمد وبني عمر، وهلك بعد ذلك. وأجاز الناصر وزيره القاسم بن محمد بن طملس سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة لحربهم، وكتب إلى ملوك مغراوة محمد بن خزر وابنه الخير بمظاهرة عساكره مع ابن أبي العافية عليهم، فتسارع أبو العيش بن إدريس بن عمر المعروف بابن مصالة إلى الطاعة، وأوفد رسله إلى الناصر فعقد له الأمان، وأوفد ابنه محمد بن أبي العيش مؤكداً للطاعة، فاحتفل لقدومه وأكد له العقد، وتقبل سائر الأدارسة من بني محمد مذهبهم. وسألوا مثل سؤالهم، فعقد لجميع بني محمد أيضاً. وكان وفد منهم محمد بن عيسى بن أحمد بن محمد والحسن بن القاسم بن إبراهيم بن محمد، وكان بنو إدريس يرجعون في رئاستهم إلى بني محمد هؤلاء منذ اسبتد بها أخوهم الحسن بن محمد الملقب بالحجام في ثورته على ابن أبي العافية، فقدموا على أنفسهم القاسم بن محمد الملقب بكنون بعد فرار موسى بن أبي العافية، وملك بلاد المغرب ما عدا فاس مقيماً لدعوة الشيعة إلى أن هلك بقلعة حجر النسر سنة سبع وثلاثين وثلثمائة وقام بأمرهم من بعده أبو العيش أحمد بن القاسم كنون، وكان فقيهاً عالماً بالأيام والأخبار شجاعاً كريماً ويعرف بأحمد الفاضل، وكان منه ميل للمروانية فدعا للناصر، وخطب له على منابر عمله، ونقفر طاعة الشيعة؛ وبايعه أهل المغرب كافة إلى سجلماسة. ولما بايعه أهل فاس استعمل عليهم محمد بن الحسن. ووفد محمد بن أبي العيش بن إدريس بن عمر بن مصالة على الناصر عن أبيه سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، فاتصلت به وفاة أبيه وهو بالحضرة فعقد له الناصر على عمله وسرحه، وهجم عيسى ابن عمه أبي العيش أحمد بن القاسم كنون على عمله بتيكيساس في غيبة محمد، فملكها واحتوى على مال ابن مصالة. ولما أقبل محمد من الحضرة زحف برابرة غمارة إلى عيسى المذكور ابن كنون ففظعوا به وأثخنوه جراحة، وقتلوا أصحابه ببلد غمارة. وأجاز الناصر قواده إلى المغرب. وكان أول من أجاز إلى بني محمد هؤلاء سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة أحمد بن بعلى من طبقة القواد، أجازه إليهم في العساكر ودعاهم إلى هدم تيطاوين فامتنعوا، ثم انقادوا وتنصلوا وأجابوا إلى هدمها. ورجع عنهم فانتقضوا فسرح إليهم حميد بن يصل المكناسي في العساكر سنة تسع
وثلاثين وثلثمائة، وزحفوا إليه بوادي لاو فأوقع بهم فأذعنوا من بعدها. وتغلب الناصر على طنجة من يد أبي العيش أمير بني محمد وبقي يصل على بيعة الناصر. ثم تخطت عساكر الناصر إلى بسائط المغرب فأذعن له أهله، وأخذ بدعوته فيه أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة كما ذكرناه، فضعف أمير بني محمد واستأذنه أميرهم أبو العيش في الجهاد فأذن له وأمر ببناء القصور له في كل مرحلة من الجزيرة إلى الثغر، فكانت ثلاثين مرحلة، فأجاز أبو العيش واستخلف على عمله أخاه الحسن بن كنون. وتلقاه الناصر بالمبرة وأجرى له ألف دينار في كل يوم وهلك شهيداً في مواقف الجهاد سنة ثلاث وأربعين وستمائةوثلثمائة.
ولما أغزا معد قائده جوهراً الكاتب إلى المغرب واستنزل عماله، وتحصن الحسن بن كنون منه بقلعة النسر معقلهم. وبعث إليه بطاعته فلم يعرض له جوهر. ولما قفل من المغرب راجع الحسن طاعة الناصر إلى أن هلك سنة خمسين وثلثمائة، فاستجد الحكم عزمه في سد ثغور المغرب وإحكام دعوتهم فيه. وشحذ لها عزائم أوليائهم من ملوك زناتة فكان بينهم وبين زيري وبلكين ما ذكرناه. ثم أغزا معد بلكين بن زيري المغرب سنة إثنتين وستين وثلثمائة أولى غزواته، فأثخن في زناتة وأوغل في ديار المغرب. وقام الحسن بن كنون بدعوة الشيعة، ونقض طاعة المروانية، فلما انصرف بلكين أجاز الحكم عساكره إلى العدوة مع وزيره محمد بن قاسم بن طملس منه اثنتين وستين وثلثمائة لقتال الحسن بن كنون وبني محمد، فكان الظهور والفلاح للحسن على عسكر الحكم.
وقتل قائده محمد بن طملس وخلقاً كثيراً من عسكره وأوليائه. ودخل ففهم إلى
سبتة، واستصرخوا الحكم فبعث غالباً مولاه البعيد الصيت المعروف الشهامة، وأمده بكفاء ذلك من الأموال والجنود، وأمره باستنزال الأدارسة وإجازبهم إليه وقال له: سريا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلا حياً منصوراً، أو ميتاً معذوراً. واتصل خبره بالحسن بن كنون فأفرج عن مدينة البصرة واحتمل منها أمواله وحرمه وذخيرته إلى حجر النسر معقلهم القرب من سبتة، ونازله غالب بقصر مصمودة فاتصلت الحرب بينهم أياماً.
ثم بث غالب المال في رؤساء البربر من غمارة ومن معه من الجنود ففروا وأسلموه، وانحجز بقلعة حجر النسر، ونازله غالب وأمده الحكم بعرب الدولة ورجال الثغور.
وأجازهم مع وزيره صاحب الثغر الأعلى يحيى بن محمد بن هاشم التجيبي فيمن من أهل بيته وحشمه سنة ثلاث وستين وثلثمائة، فاجتمع مع غالب على القلعة واشتد الحصارعلى الحسن، وطلب من غالب الأمان فعقد له وتسلم الحصن من يده. ثم عطف على من بقي من الأدارسة ببلاد الريف فأزعجهم وسيرهم شرداً أسوة اين عمهم، واستنزل جميع الأدارسة من معاقلهم. وسار إلى فاس فملكها واستعمل عليها محمد سبن علي بن قشوش في عدوة القرويين، وعبد الكريم بن ثعلبة الجذامي في عدوة الأندلس. وانصرف غالب إلى قرطبة ومعه الحسن بن كنون وسائر ملوك الأدارسة، وقد مهد المغرب وفرق عماله في جهاته، وقطع دعوة الشيعة، وذلك سنة أربع وستين وثلثمائة. وتلقاهم الحكم وأركب الناس للقائهم. وكان يوم دخولهم إلى قرطبة أحفل أيام الدولة.
وعفا عن الحسن بن كنون ووفى له بالعهد، وأجزل له ولرجاله العطاء والخلع والجعالات، وأوسع عليهم الجراية، وأسنى لهم الأرزاق ورتب من حاشيتهم في الديوان سبعمائة من أنجاد المغاربة. وتجنى عليه بعد ثلاث سنين بسؤاله من الحسن قطعة عنبر عظيمة تأدت إليه من بعض سواحل عمله بالمغرب أيام ملكه، فاتخذ منها أريكة يرتفقها ويتوسدها، فسأله حملها إليه على أن يحكمه فى رضاه، فأبى عليه مع سعاية بني عمه فيه عند الخليفة، وسوء خلق الحسن ولجاجه، فنكبه واستصفى ما لديه من قطعة العنبر وسواها. واستقام أمر المغرب للحكم وتظافر أمراؤه على مدافعة بلكّين، وعقد الوزير المصحفي لجعفر بن علي عليم المغرب، واسترجع يحيى بن محمد بن هاشم. وغرب الحسن بن كثون والأدارسة جميعاً إلى المشرق اسثقالاً لنفقاتهم. وشرط عليهم الأ يعودوا فعبروا البحر من المرية سنة خمس وستين وثلثمائة، ونزلوا من جوار العزيز بن معذ بالقاهرة خير نزل، وبالغ في الكرامة، ووعد بالنصرة والترة. ثم بعث الحسن بن كنون إلى المغرب، وكتب له إلى آل زيري بن مناد بالقيروان بالمظاهرة، فلحق بالمغرب ودعا لنفسه. وبعث المنصور بن أبي عامر العساكر لمدافعته فغلبوه وتقبضوا عليه، وأشخصوه إلى الأندلس فقتل في طريقه سنة... كما ذكرناه في أخبارهم. وانقرض ملك
الأدارسة من المغرب أجمع إلى أن كان رجوع الأمر ليني حمود منهم ببلاد غمارة وسبتة وطنجة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
خريطة
الخبر عن دولة بني حمود ومواليهم بسبتة وطنجة وتصاريف أحوالهم و أحوال غمارة من بعدهم: كان الأدارسة لما أجلاهم الحكم المستنصر عن العدوة إلى الشرق، ومحا أثرهم من سائر بلاد المغرب، واستقامت غمارة على طاعة المروانية، وأدعنوا لجند الأندلسيين، ورجع الحسن بن كنون لطلب أمرهم فهلك على يد المنصور بن أبي عامر فانقرض أمرهم، وافترق الأدارسة في القبائل وانتشروا في الأرض، ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب واستحالت صبغتهم منه إلى البداوة. ولحق بالأندلس في جملة البرابرة من ولد عمر بن إدريس رجلان منهم، وهما: علي والقاسم ابنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس، فطار لهم ذكر في الشجاعة والإقدام ولما كانت الفتنة البربرية بالأندلس بعد انقراض الدولة العامرية، ونصب البرابرة سليمان بن الحكم ولقبوه المستعين، واختص به أبناء حمود هذان، وأحسنوا الغناء في ولايته، حتى إذا استولى على ملكه بقرطبة وعقد للمغاربة الولايات، عقد لعلي بن حمود هذا على طنجة وأعمال غمارة فنزلها وراجع عهده معهم فيها. ثم انتقض ودعا لنفسه وأجاز إلى الأندلس، وولي الخلافة بقرطبة كما ذكرناه فعقد على عمله بطنجة لابنه يحيى. ثم أجاز يحيى إلى الأندلس بعد مهلك أبيه عليّ منازعاً لعمه القاسم، واستقل أخوه إدريس من بعده بولاية طنجة وسائر أعمال أبيه بالعدوة من مواطن كمارة. ثم أجاز بعد مهلك أخيه يحيى بمالقة فاستدعى رجال دولتهم، وعقد لحسن ابن أخيه يحيى على عملهم بسبتة وطنجة، وأنفذ نجا الخادم معه ليكون تحت نظره واستبداده. ولما هلك إدريس واعتزم ابن بقنة على الاستبداد بمالقة أجاز نجا الخادم بحسن بن يحيى من طنجة فملك مالقة وربت أمره في خلافته ورجع إلى سبتة. وعقد له حسن على عملهم في مواطن غمارة، حتى إذا هلك حسن أجاز نجا إلى الأندلس يروم الاستبداد. واستخلف على العمل من وثق به من موالي الصقالبة، فلم يزل إلى نطرهم واحداً بعد آخر إلى أن استقل بسبتة وطنجة من موالي بني حمود هؤلاء الحاجب سكوت البرغواطي، وكان عبدا للشيخ حداد من مواليهم اشتراه من سبي برغواطة في بعض أيام جهادهم. ثم صار إلى علي بن حمود فأخذ
النجابة بطبعه إلى أن استقل بأمرهم واقتعد كرسي عملهم بسبتة وطنجة، وأطاعته قبائل غمارة.
واتصلت أيامه إلى أن كانت دولة المرابطين، وتغلب يوسف بن تاشفين على مغراوة بفاس. ونجا ففهم إلى بلد الدمنة من آخر بسيط المغرب مما يلي بلاد غمارة. ونازلهم يوسف بن تاشفين سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، ودعا الحاجب سكوت إلى مظاهرته عليهم، فهم بالانحياش ومظاهرته على عدوه. ثم ثناه عن ذلك إبنه الفائل الرأي. فلما فرغ يوسف بن تاشفين من أهل الدمنة وأوقع بهم وافتتح حصن علودان من حصون غمارة من ورائه، وانقاد المغرب لحكمه، صرف وجهه إلى سكوت فجهز إليه العساكر وعقد عليها للقائد صالح بن عمران من رجال لمتونة فتباشرت الرعايا بمقدمهم وانثالوا عليهم. وبلغ الخبر إلى الحاجب سكوت فأقسم أن لا يسمع أحداً من رعيته هدير طبولهم، ولحق هو بمدينة طنجة ثغر عمله. وقد كان عليها من قبله ابنه ضياء الدولة المعز، وبرز للقائهم فالتقى الجمعان بظاهر طنجة، وانكشفت عساكر سكوت، وطحنت رحى المرابطين، وسالت نفسه على ظباهم، ودخلوا طنجة واستولوا عليها. ولحق ضياء الدولة بسبتة.
ولما تكالب الطاغية على بلاد الأندلس، وبعث ابن عباد صريخه إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مستنجزاً وعده في جهاد الطاغية والذب عن المسلمين، وكاتبه أهل الأندلس كافة اهتز إلى الجهاد، وبعث ابنه المعز سنة ست وسبعين وأربعمائة في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز، فنازلها براً، وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحرا، واقتحموها عنوةً. وتقبض على ضياء الدولة، واقتيد إلى المعز فطالبه بالمال فأساء إيجابه فقتله لوقته، وعثر على ذخائره وفيها خاتم يحيى بن علي بن حمود. وكتب إلى أبيه بالفتح، وانقرضت دولة آل حمود وامحى أثر سلطانهم من بلاد غمارة، وأقاموا في طاعة لمتونة سائر أيامهم.
ولما نجم المهدي بالمغرب واستفحل أمر الموحدين بعد مهلكه تنقل خليفته عبد المؤمن في بلادهم في غزاته الكبرى لفتح المغرب سني سبع وثلاثين وما بعدها قبل استيلائه على مراكش كما نذكره في أخبارهم، فوحدوا صفوفهم، واتبعوا أمره، ونازلوا سبتة في عساكره
. وامتنعت عليهم، وتولى كبر امتناعها قائدهم عيّاض الطائر الذكر رئيسهم لذلك العهد بدينه وابوته وعلمه ومنصبه. ثم افتتحت بعد فتح مراكش سنة إحدى وأربعين وستمائةفكانت لغمارة هؤلاء السابقة التي رعيت لهم سائر أيام الدولة. ولما فشل أمر بني عبد المؤمن، وذهبت ريحهم، وكثر الثوار بالقاصية، ثار فيهم محمد بن محمد الكتامي سنة خمس وعشرين. كان أبوه من قصر كتامة منقبضاً عن الناس، وكان ينتحل الكيميا، وتلقنه عنه ابنه محمد هذا. وكان يلقب أبا الطواحن فارتحل إلى سبتة ونزل إلى بني سعيد، وادعى صناعة الكيمياء فاتبعه الغوغاء. ثم ادعى النبوة وشرع شرائع وأظهر أنواعاً من الشعوذة، فكثر تابعه. ثم اطلعوا على خبثه ونبذوا إليه عهده. وزحفت عساكر سبتة إليه ففر عنها، وقتله بعض البرابرة غيلة. ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب وأمصاره سني أربعين وستمائة، واستولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان وستين وستمائة، فامتنع قبائل غمارة من طاعتهم واستعصوا عليهم، وأقاموا بمنجاة من الطاعة، وعلى ثبج من الخلاف. وامتنعت سبتة من ورائهم على ملوك بني مرين بسبب امتناعهم. وصار أمرها إلى الشورى، واستبد بها الفقيه أبو القاسم العزفي من مشيختهم. كما نذكر ذلك كله، إلى أن وقع بين قبائل غمارة ورؤسائهم فتن وحروب، ونزعت إحدى الطائفتين إلى طاعة السلطان بالمغرب من بني مربن فأتوها طواعية. ودخل الآخرون في الطاعة تلوهم طوعاً أو كرهاً. فملك بنو مرين أمرهم، واستعملوا عليهم، وتخطوا إلى سبتة من ورائهم فملكوها من أيدي العزفيّين سنة تسع وعشرين وسبعمائة على ما نذكره بعد عند ذكر دولتهم. وهم الآن على أحسن أحوالهم من الاعتزاز والكثرة يؤتون طاعتهم وجبايتهم عند استقلال الدولة، ويمرضون فيها عند التياثها بفشل أو شغل بخارج، فيجهز البعوث إليهم من الحضرة حتى يستقيموا على الطاعة. ولهم بوعورة جبالهم عز ومنعة وجوار لمن لحق بهم من أعياص الملك، ومستأمني الخوارج إلى هذا العهد. ولبني يكم من بينهم الحظ الوافر من ذلك، لأشراف جبلهم على سائرها وسمو بقاعة إلى مجاري السحب دونها وتوغر مسالكه بهبوب الرياح فبها. وهذا الجبل مطل على سبتة من غربيها ورئيسه منهم وصاحب
أمره يوسف بن عمر وبنوه، ولهم فيه عزة وثروة، وقد اتخذوا به المصانع والغروس وفرض لهم السلطان بدبوان سبتة العطاء. وأقطعهم ببسيط طنجة الضياع والفدن استئلافاً بهم وحسماً لزبون سائر غمارة بإيناس طاعتهم، ولله الخلق والأمر بيده ملك السموات والأرض.
الخبر عن أهل جبال درن بالمغرب الأقصي من بطون المصامدة وما كان لهم من الظهور والأحوال ومباديء أمورهم وتصار يفها: هذه الجبال بقاسية المغرب من أعظم جبال المعمور بنا أعرق في الثرى أصلها وذهبت في السماء فروعها، وملأت الجو هياكلها، ومثلت سياجاً على ريف المغرب سطورها تبتدىء من ساحل البحر المحيط عند أسفى وما إليها، وتذهب في الشرق إلى غير نهاية. ويقال إنها تنتهي إلى قبلة برنيق من أرض برقة، وهي في الجانب مما يلي مراكش ؤر ركب بعضها بعضاً متتالية على نسق من الصحراء إلى التل. يسير الراكب فيها معترضاً من تامسنا وسواحل مراكش إلى بلاد السوس ودرعة من القبلة ثماني مراحل وأزيد تفجرت فيها الأنهار، وجلل الأرض خمر الشعراء، وتطابقت بينها ظلال الأدواح. وزكت فيها مواد الزرع والضرع، وانفسحت مسارح الحيوان ومراقع الصيد، وطابت منابت الشجر، ودرت أفاويق الجباية يعمرها من قبائل المصامدة أمم لا يحصيهم إلا خالقهم، قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيدو المباني والقصور واستغنوا بقطرهم منها عن أقطار العالم، فرحل إليهم التجر من الآفاق، واختلفت إليهم أهل النواحي والأمصار، ولم يزالوا منذ أول الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد اوطنوا منها أقطارا بل أقاليم تعددت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم، وافترقت أسماؤها بافتراق أحيائهم. تنتهي ديارهم من هذه الجبال إلى ثنية المعدن المعروفة ببني فازان حيث تبتدىء مواطن صناهاجة، ويحفون بهم كذلك من ناحية القبلة إلى بلاد السوس. وقبائل هؤلاء
المصامدة بهذه المواطن كثير فمنهم: هرغة وهنتاتة وتينملل وكدميوية وكنفيسة ووريكة وركراكة وهزميرة ودكالة وحاحة وأصادن وبنو وازكيت وبنو ماكر وإيلانة ويقال هيلانة بالهاء. ويقال أيضاً إن إيلان هو ابن بر، أصهر المصامدة فكانوا خلفاءهم. ومن بطون أصادن مصفاوة وماغوس، ومن مصفاوة دغاغة وبوطنان. ويقال إن غمارة ورهون وأمل من أمادين والله أعلم.
ويقال إن من بطون حاحة زكن وولخصن الظواعن الآن بأرض السوس أحلافاً لذوي حسان المتغلبيّن. عليها من عرب المعقل. ومن بطون كنفيسة أيضاًَ قبيلة سكسيوة الموطنون بأمنع المعاقل من هذه الجبال يطل جبلهم على بسيط السوس من القبلة وعلى ساحل البحر المحيط من الغرب، ولهم بمنعة معقلهم ذلك اعتزاز على أهل جلدتهم حسبما نذكره بعد. وكان لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم. وكان من مشاهيرهم كسير بن وسلاس بن شملال من أمادة، وهو جد يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن مالك. ودخل الأندلس وشهد الفتح مع طارق، في آخرين من مشاهيرهم استقروا بالأندلس، وكان لأعقابهم بها ذكر في دولة الأموية. وكذلك كان منهم قبل الإسلام ملوك وأمراء. ولهم مع لمتونة ملوك المغرب حروب وفتن سائر أيامهم، حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة أدالت من لمتونة بالعدوتين، ومن صنهاجة بأفريقية حسبما هو مشهور ونأتي الآن بذكره إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق ،لا رب سواه، ولا معبود إلا إياه0
خريطة
الخبر عن مبدأ أمر المهدي ودعوته وما كان للموحدين القائمين بها علي يد بني عبد المؤمن من السلطان والدولة بالعدوتين وأفريقية وبداية ذلك وتصاريفه:
لم يزل أمر هؤلاء المصامدة بجبال درن عظيماً، وجماعتهم موفورة وبأسهم قوياً، وفي أخبار الفتح من حروبهم مع عقبة بن نافع، وموسى بن نصير حتى استقاموا على الإسلام ما هو معروف مذكور، إلى أن أظلتهم دولة لمتونة فكان أمرهم فيها مستفحلاً، وشأنهم على أهل السلطان والدولة مهماً، حتى لقد اختطّوا مدينة مراكش لنزلهم جوار
مواطنهم من درن ليتمرسوا بهم، ويذللوا من صعابهم. وفي عنفوان تلك الدولة على عهد علي بى يوسف منها نجم إمامهم العالم الشهير محمد بن تومرت صاحب دولة الموحّدين المشتهر بالمهدي، أصله من هرغة من بطون المصامدة الذين عددناهم يسمى أبوه عبد الله وتومرت وكان يلقب في صغره أيضاً أمغار، وهو محمد بن عبد الله بن وجليد ابن بامصال بن حمزة بن عيسى فيما ذكره ابن رشيق وحققه ابن القطّان. وذكر بعض مؤرخى المغرب أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا بن مسيغون بن إيكلديس بن خالد.
وزعم كثير من المؤرخين أن نسبه في أهل البيت. وأنه محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن سفيان بن صفوار ابن جابر بن عطاء بن رباح بن محمد من ولد سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي إدريس الأكبر الواقع نسب الكثير من بنيه في المصامدة وأهل السوس. كذا ذكر ابن نحيل في سليمان هذا، وأنه لحق بالمغرب إثر أخيه إدريس، ونزل تلمسان وافترق ولده في المغرب. قال: فمن ولده كل طالبى بالسوس، وقيل بل هو من قرابة إدريس اللاحقين به إلى المغرب، وإن رباحاً الذي فى عمود هذا النسب إنما هو ابن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن وعلى الأمرين، فإن نسبه الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة. ورسبت عروقه فيهم والتحم بعصبيتهم فلبس جلدتهم، وانتسب بنسبتهم وصار في عدادهم. وكان أهل بيته أهل نسك ورباط وشب محمد هذا قارئاً محباً للعلم، وكان يسمى أسافو، ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرح من القناديل بالمساجد لملازمتها. وارتحل في طلب العلم إلى المشرق على رأس المائه الخامسة. ومرة بالأندلس، ودخل قرطبة، وهي إذ ذاك دار علم. ثم أجاز إلى الإسكندر وحج ودخل العراق ولقي جملة العلماء
يومئذ، وفحول النظار. وأفاد علماً واسعاً وكان يحدث نفسه بالدولة لقومه على يده لما كان الكهّان والحزّاء يتحينون ظهور دولة يومئذ بالمغرب، ولقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي، وفاوضه بذات صدره في ذلك فأراده عليه لما كان فيه الإسلام يومئذ بأقطار المغرب من اختلال الدولة، وتقويض أركان السلطان الجامع الأمة المقيم للملة بعد أن سأله عمن له من العصابة والقبائل التي تكون بها الاعتزاز والمنعة، وبشأنها يتم أمر الله في درك البغية وظهور الدعوة. وانطلق هذا الإمام راجعاً إلى المغرب بحراً منفجراً من العلم، وشهاباً وارياً من الدين. وكان قد لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة وأخذ عنهم واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد السلفّية، والذب عنها بالحجج العقليّة الدافعة في صدور أهل البدعة. وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث، بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداء بالسلف في ترك التأويل، وإمرار التشابهات كما جاءت، ففطن على أهل المغرب في ذلك وحملهم على القوم بالتأويل، والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم، وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة والتوحيد. وكان من رأيه القول بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة. وألف في ذلك كتابه في الإمامية الذي افتتحه بقوله: أعز ما يطلب. وصار هذا المفتتح لقباً على ذلك الكتاب، واحتل بطرابلس أول بلاد المغرب معنياً بمذهبه ذلك، مظهراً النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه. وأخذ نفسه بتدريس العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مط استطاع، حتى لقد لقي بسبب ذلك أذايات في نفسه احتسبها من صالح أعماله. ولما دخل بجاية وبها يومئذ العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد من أمراء صنهاجة. وكان من المترفين فأغلظ له ولأتباعه بالنكير. وتعرض يوماً لتغيير بعض المنكرات في الطرق فوقعت بسببها هيعة نكرها السلطان والخاصة وائتمروا به، فخرج منها خائفاً ولحق بملالة على فرسخ منها وبها يومئذ بنو ورياكل من قبائل صنهاجة. وكان لهم اعتزاز ومنعة، فآووه وأجاروه. وطالبهم السلطان صاحب بجاية بإسلامه إليه، فأبوا وأسخطوه، وأقام بينهم يدرس العلم أياماً. وكان يجلس إذا فرغ على صخرة بقارعة الطريق قريباً من ديار ملالة، وهي لهذا العهد،
معروفة. وهنالك لقيه كبير صحابته عبد المؤمن بن علي حاجاً مع عمه فأعجب بعلمه، وألى عزمه عن وجهه ذلك، واختصّ به، وشمّر للأخذ عنه. وارتحل المهدي إلى المغرب وهو في جملته. ولحق بوانشرس. وصحبه منها البشير من جلة أصحابه. ثم لحق بتلمسان وقد تسامع الناس بخبره فأحضره القاضي بها ابن صاحب الصلاة، ووبخه على منتحله ذلك وخلافه لأهل قطره. وظن أن العذل يزعه عن ذلك، فصم عن قبوله. واستمر على طريقه إلى فاس، ثم إلى مكناسة ونهى بها عن بعض المناكير فأوقع به الشرار من الغوغاء، وأوجموه ضرباً، ولحق بمراكش، وأقام بها آخذاً في شأنه. ولقي علي بن يوسف بالمسجد الجامع في صلاة الجمعة فوعظه وأغلظ له القول. ولقي ذات يوم الصورة أخت علي بن يوسف حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي نسائهم فوبخها، ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه، ففاوض الفقهاء في شأنه بما وصل إليه من شهرته. وكان ملئوا منه حسداً وحفيظةً لما كان ينتحل مذهب الأشعريّة في تأويل المتشابه، وينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف في إمراره كما جاء، ويرى أن الجمهور لقنوه تجسيماً، ويذهب إلى تكفيرهم بذلك أحد قولي الأشعرية في التكفير بمآل الرأي، فأغروا الأمير به وأحضره للمناظرة معهم فكان له الفتح والظهور عليهم، وخرج من مجلسه ونذر بالشر منهم فلحق من يومه بأغمات، وغير المناكير على عادته، وأغرى به أهلها علي بن يوسف، وطيروا إليه بخبره فخرج عنها هو وتلميذه الذين كانوا في صحابته. ودعا إسماعيل بن إيكيك من أصحابه مايتين من أنجاد قومه، وخرج به إلى منجاة من جبال المصامدة. ولحق أولاً بمسفيوة، ثم بهنتاتة. ولقيه من أشياخهم عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي، وهو الشيخ أبو حفص ويعرف بيته بين هنتاتة ببني فاصكات. وتقول نسّابتهم: إن فاصكات هو جد وانودين، ويقال لهنتاتة بلسانهم ينتى فلذلك كان يعرف عمر بهنتي وسيأتي الكلام في تحقيق نسبه عند ذكر دولتهم. ثم ارتحل المهدي عنهم إلى إيكيلين من بلاد هرغة، فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة. وبنى رابطة للعبادة، واجتمعت إليه الطلبة والقبائل، فأعلمهم المرشدة والتوحيد باللسان البربري. وشاع أمره في صحبته. واستدرك رئيس الفئة العلمية بمجلس
الأمير علي بن يوسف، وهو مالك بن وهيب، أغراه به. وكان جزاء ينظر في النجوم، وكان الكفان يتحدثون بأن ملكاً كائن بالمغرب لأمة من البربر، ويتغير فيه شكل السكة لقران بين الكوكبين العلويين من السيارة، يقتضي ذلك في أحكامهم، وكان الأمير يتوقعها فقال له: احتفظ بالدولة من الرجل فإنه صاحب القران.
والدرهم المربع في كلام سفساف بسجع سوقي يتناقلها الناس نصه وهو: أجعل على رجله كبلاً، ليلاً يسمعك طبلاً. وأظنه صاحب الدرهم المربّع، فطلبه علي بن يوسف ففقده، وسرح الخيالة في طلبه ففاتهم ، وداخل عامل السوس، وهو أبو بكر بن محمد اللمتوني بعض هرغة في قتله، ونذر بهم إخوانهم فنقلوا الإمام إلى معقل امتناعهم، وقتلوا من داخل في أمره. ثم دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد، وقتال المجسمين دونه سنة خمس عشرة وخمسمائة، فتقدم إليها رجالاتهم من العشرة وغيرهم. وكان فيهم من هنتاتة أبو حفص عمر بن يحيى وأبو يحيى بن بكيت ويوسف بن وانودين وابن يغمور، ومن تينملل أبو حفص عمر بن علي الصناكي ومحمد بى سليمان وعمر بن تافركين وعبد الله بن ملويات. وأهب قبيلة هرغة فدخلوا في أمره كلهم،. ثم دخل معهم كدميوه وكنفيسة. ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي، وكان لقبه قبلها الإمام وكان يسمي أصحابه الطلبة، وأهل دعوته الموحدين. ولما تم له خمسون من أصحابه سماهم آيت الخمسين. وزحف إليهم عامل السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني بمكانهم من هرغة، فاستجاشوا بإخوانهم من هنتاتة وتينملل فاجتمعوا إليهم وأوقعوا بعسكر لمتونة فكانت مقدمة الفتح. وكان الإمام يعدهم بذلك فاستبصروا في أمره، وتسابق كافتهم إلى الدخول في دعوته، وترددت عساكر لمتونة إليهم مدة بعد أخرى ففضوهم. وانتقل لثلاث سنين من بيعته إلى جبل تينملل فأوطنه، وبنى داره ومسجده بينهم، حوالي منبع وادي نفيس. وقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا فقاتل أولا: هزرجة وأوقع بهم مراراً، ودانوا بالطاعة. ثم قاتل هسكورة ومعهم أبو درقة اللمتوني فغلبهم وقفل، فاتبعه
بنو واسكيت فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً. ثم غزا بلد عجدامة وكن قد افتتحه وترك به الشيخ أبا محمد عطية من أصحابه فغدروا به وقتلوه فغزاهم واستباحهم. ورجع إلى تينملل وأقام بها إلى أن كان شأن البشير، وميز الموحد من المنافق. وكانوا يسمون لمتونة الحشم فاعتزم على غزوهم، وجمع كافة أهل دعوته من المصامدة. وزحف إليهم فلقوه بكيك، وهزمهم الموحدون واتبعوهم إلى أغمات فلقيهم هنالك زحوف لمتونة مع بكر بن على بن يوسف، وإبراهيم بن تاعباشت، فهزمهم الموحدون. وقتل إبراهيم واتبعوهم إلى مراكش، فنزلوا البحيرة في زهاء أربعين ألفاً كلهم راجلين، إلا أربعمائة فارس.
واحتفل علي بن يوسف في الاحتشاد وبرز إليهم لأربعين من نزولهم عليه من باب إيلان فهزمهم وثخن ليهم قتلاً وسبياً، وفقد البشير من أصحابه. واستحر القتل ني هيلانة، وأبلى عبد المؤمن في ذلك اليوم أحسن البلاء. وكانت وفاة المهدي لأربعة أشهر بعدها. وكان يسمي أتباعه بالموحدين تعريضاً بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم. وكان حصوراً لا يأتي النساء. وكان يلبس العباءة المرقعة. وله قدم في التقشّف والعبادة، ولم يحفظ عنه فلتة في البدعة إلا ما كان من وفاقه الإمامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم والله تعالي أعلم. الخبر عن دولة عبد المؤمن خليفة المهدي والخلفاء الأربعة من بيته ووصف لحالهم ومصاير أمورهم لما هلك المهدي سنة إثنتين وعشرين وخمسمائة كما ذكرناه وقد عهد بأمره من بعده لكبير صحابته عبد المؤمن بن علي الكومي المتقدم ذكره ونسبه عند ذكر قومه، فقبر بمسجده لصق داره من تينملل. وخشي أصحابه من افتراق الكلمة وما يتوقع من سخط المصامدة ولاية عبد المؤمن لكونه من غير جلدتهم، فأرجأوا الأمر إلى أن تخالط بشاشة الدعوة قلوبهم، وكتموا موته، زعموا ثلاث سنين
يموّهون بمرضه، ويقيمون سنته في الصلاة والحزب الراتب. ويدخل صحابته إلى البيت كأنه اختصهم بعبادته، فيجلسون حفافي قبره ويتفاوضون في شؤونهم بمحضر أخته زينب، ثم يخرجون لإنفاذ ما أبرموه، ويتولاه عبد المؤمن بتلقينهم. حتى إذا استحكم أمرهم، وتمكنت الدعوة من نفوس كافتهم كشفوا حينئذ القناع عن حالهم، وتمالاً من بقي من العشرة على تقديم عبد المؤمن. وتولى كبر ذلك الشيخ أبو حفص، وأراد هنتاتة وسائر المصامدة عليه فأظهروا للناس موت المهدي، وعهده لصاحبه وانقياد بقية أصحابه لذلك.
وروى يحيى بن يغمور عن الإمام أنه يقول في دعائه إثر صلواته: "اللهم بارك لي في الصاحب الأفضل" فرضي الكافة وانقادوا وأجمعوا على بيعته بمدينة تينملل سنة أربع وعشرين وخمسمائة، فقام بأمر الموحدين وأبعد في الغزوات فصبح تادلاً، وأصاب منهم. ثم غزا درعة واستولى عليها سنة ست وعشرين وخمسمائة. ثم غزا تاشعبوت وافتتحها وقتل واليها أبا بكر بن مزروال ومن كان معه من قومه غمارة بني ونام وبني مزردع. ثم تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجاً، وانتقض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة، وسرح علي بن يوسف إبنه تاشفين لقتالهم سنة ثلاث وستين وخمسمائة، فجاءهم من ناحية أرض السوس، واحتشد معه قبائل كزولة وجعلهم في مقدمته فلقيهم الموحدون بأوائل جبلهم وهزموهم. ورجع تاشفين ولم يلق حرباً، ودخل كزولة من بعدها في دولة الموحدين. وأجمع عبد المؤمن على غزو بلاد المغرب، فغزا غزاته الطويلة منذ سنة أربع وثلاثين وخمسمائة إلى سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة، ولما يراجع فيها تينملل حتى انقضت بالفتح والاستيلاء على المغربين، خرج إليها من تينملل، وخرج تاشفين بعساكره يحاذيه في البسائط، والناس يفرون منه إلى عبد المؤمن وهو ينتقل في الجبال في سعة من الفواكه للأكل، والحطب للدفء، إلى أن وصل إلى جبال غمارة، واشتعلت نار الفتنة والغلاء بالمغرب، وامتنعت الرعايا من المغرم، والخ الطاغية على المسلمين بالعدوة. وهلك خلال ذلك علي بن يويسف أمير لمتونة وملك العدوتين سنة سبع وثلاثين
وخمسمائة، وولي أمرهم تاشفين إبنه وهو في غزاته هذه، وقد أحيط به. وحدث بعد موت أبيه فتنة بين لمتونة ومسوفة، ففزع أمراء مسوفة مثل براز بن محمد ويحيى بن تاكفت ويحيى بن إسحاق المعروف بأنكار، وكان والي تلمسان. ولحقوا بعبد المؤمن فيمن إليهم من الجملة، ودخلوا في دعوته ونبذ إليهم لمتونة العهد، وإلى سائر مسوفة. واستمر عبد المؤمن على حاله، فنازل سبتة وامتنعت عليه، وتولى كبر دفاعه عنها القاضي عياض الشهير الذكر. كان رئيسها يومئذ بدينه وابوته ومنصبه. ولذلك سخطته الدولة آخر الأيام، حتى مات مغرباً عن سبتة بتادلاً مستعملاً في خطة القضاء بالبادية وتمادى عبد المؤمن في غزاته إلى جبال غياثة وبطوية فافتتحها، ثم نزل ملويّة فافتتح حصونها. ثم تخطى إلى بلاد زناتة فأطاعته قبائل مديونة. وكان بعث إليهم عسكر من الموحدين إلى نظر يوسف بن وانودين وابن يرمور فخرج إليهم محمد بن يحيى بن فانوا عامل تلمسان فيمن معه من عساكر لمتونة وزناتة فهزمهم الموحدون وقتل ابن فانوا. وانفض عسكر زناتة، ورجعوا إلى بلادهم.
وولى ابن تاشفين على تلمسان أبا بكر بن مزدلي، ووصل إلى عبد المؤمن بمكانه . الريف أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن يدر أمراء بني ومانوا، فبعث معهم ابن يغمور وابن وانودين في عسكرهم من الموحدين، فأثخنوا في بلاد بني عبد الواد وبني يلومي سبياً وأسراً، وأمدتهم عساكر لمتونة ومعهم الزبرتير قائد الروم فنزلوا منداس، واجتمعت عليهم زناتة في بني يلومي وبني عبد الواد، وشيخهم حمامة بن مطهر، وبني ينكاسن وبني ورسفان وبني توجين، فأوقعوا ببني ومانوا واستنقذوا غنائمهم من أيديهم. وقتلوا أبا بكر بن ماخوخ في ستمائة من قومه. وتحصن الموحّدون وابن وانودين بجبال سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ بعبد المؤمن صريخاً على لمتونة وزناتة،. فارتحل معه إلى تلمسان. ثم أجاز إلى سيرات وقصد محلة لمتونة وزناتة،
فأوقع بهم ورجع إلى تلمسان فنزل ما بين الصخرتين من جبل بني ورنيد. ونزل تاشفين باصطفصف ووصل مدده صنهاجة من قبل يحيى بن العزيز صاحب بجاية لنظر طاهر بن كباب من قواده، أمدوا به تاشفين وقومه لصبية الصنهاجية. وفي يوم وصوله أشرف على معسكر الموحدين، وكان يدل بإقدام وبأس فزارى بلمتونة وأميرهم لقعودهم عن مناحزة الموحدين، وقال: إنما جئتكم لأمكنكم من صاحبكم عبد المؤمن هذا، وأرجع إلى قومي.، فامتعض تاشفين لكلمته وأذن له في المناجزة، فحمل على القوم فركبوا وصمموا للقائه، فكان آخر العهد به وبعسكره. وكان تاشفين بعث من قبل ذلك قائده على الروم الزبرتير في عسكر ضخم كما قلناه، فأغار على بني سنوس وزناتة الذين كانوا في بسيطهم، ورجع بالغنائم فاعترضه الموحدون من معسكر عبد المؤمن فقتلوهم، وقتل الزبرتير وصلب. ثم بعث بعثاً آخر إلى بلاد بني ومانوا فلقيهم تاشفين بن ماخوخ ومن كان معه من الموحدين وأوقعوا بهم. واعترضوا عسكر بجاية عند رجوعهم فنالوا منهم أعظم النيل. وتوالت هذه الوقائع على تاشفين فأجمع الرحلة إلى وهران، وبعث إبنه إبراهيم ولي عهده إلى مراكش في جماعة من لمتونة، وبعث كاتباً معه أحمد بن عطية. ورحل هو إلى وهران سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأقام عليها شهراً ينتظر قائد أسطوله محمد بن ميمون إلى أن وصله من المرية بعشرة أساطيل، فأرساها قريباً من معسكره. وزحف عبد المؤمن من تلمسان وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى. ولجني ومانوا من زناتة فتقدموا إلى بلاد بني يلومي وبني عبد الواد وبني ورسيفن وبني توجين وأثخنوا فيهم حتى دخلوا في دعوتهم. ووفد على عبد المؤمن برؤسائهم، وكان منهم سيد الناس ابن أمير الناس شيخ. بني يلومي فتلقاهم بالقبول، وسار في جموع الموحدين إلى وهران ففجعوا لمتونة بمعسكرهم ففضوهم، ولجأ تاشفين إلى رابطة هنالك فأحدقوا بها وأضرموا النيران حولها حتى غشيهم الليل، فخرج تاشفين من الحصن راكباً على فرسه فتردى من بعد حافات الجبل، وهلك لسبع وعشرين من رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
وبعث برأسه إلى تينملل. ولجأ فل العسكر إلى وهران فانحصروا مع أهلها. حتى جهدهم العطش ونزلوا جميعاً على حكم عبد المؤمن يوم الفطر من تلك السنة. وبلغ خبر مقتل تاشفين إلى تلمسان مع فل لمتونة، وفيهم أبو بكر بن ويحى وسير بن الحاج وعليّ بن فيلو، في آخرين من أعيانهم، ففر معهم من كان بها من لمتونة. وقدم عبد المؤمن فقتل من وجد بتاكرارت بعد أن كانوا بعثوا ستين من وجوههم، فلقيهم يصلين من مشيخة بني عبد الواد فقتلهم جميعاً.
ولما وصل عبد المؤمن إلى تلمسان استباح أهل تاكرارت لما كان أكثرهم من الحشم، وعفا عن أهل تلمسان، ورحل عنها لسبعة أشهر من فتحها بعد أن ولى عليها سليمان بن محمد بن وانودين، وقيل يوسف بن وانودين. وفيما نقل بعض المؤرخين أنه لم يزل محاصراً لتلمسان، والفتوح ترد عليه، وهناك وصلته بيعة سجلماسة. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب، وترك إبراهيم بن جامع محاصراً لتلمسان، فقصد فاس سنة إحدى أربعين وخمسمائة، وقد تحصن بها يحيى الصحراوي. ولحق بها من فل تاشفين من تلمسان فنازلها عبد المؤمن، وبعث عسكراً لحصار مكناسة، ثم رحل في أتباعه، وترك عسكراً من الموحدين على فاس، وعليهم الشيخ أبو حفص وأبو إبراهيم من صحابة المهدي العشرة فحاصروها سبعة أشهر. ثم داخلهم ابن الجياني مشرف البلد، وأدخل الموحدين ليلاً، وفر الصحراوي إلى طنجة وأجاز منها ابن غانية بالأندلس، وبلغ خبر فاس إلى عبد المؤمن وهو بمكانه من حصار مكناسة، فرجع إليها وولى عليها إبراهيم بن جامع، وولى على حصار مكناسة يحيى بن يغمور، ورحل إلى مراكش وكان إبراهيم بن جامع لما افتتح تلمسان ارتحل إلى عبد المؤمن وهو محاصر لفاس فاعترضه في طريقه المخضب بن عسكر أمير بني مرين باد سيف ونالوا منه ومن رفقته، فكتب عبد المؤمن إلى يوسف بن وانودين بن عامل تلمسان أن يجهز إليهم العساكر، فبعثها صحبة عبد الحق بن منغفاد شيخ نجني عبد الواد، فأوقعوا ببني مرين، وقتل المخضب أميرهم. ولما ارتحل عبد المؤمن من فاس إلى مراكش وصلته في طريقه بيعة أهل سبتة، فولى عليهم يوسف بن مخلوف من مشيخة هنتاتة، ومر على بسلا فافتتحها بعد مواقعة
قليلة، ونزل منها بدار ابن عشرة، ثم تمادى إلى مراكش. وسرح الشيخ أبا حفص لغزو برغواطة فأثخن فيهم ورجع. ولقيه في طريقه ووصلوا جميعاً إلى مراكش وقد ضموا إليها جموع لمطة فأوقع بهم الموحدون وأثخنوا فيهم قتلاً، واكتسحوا أموالهم وظعائنهم. وأقاموا على مراكش سبعة أشهر وأميرهم إسحاق بن علي بن يوسف بايعوه صبياً صغيراً عند بلوغ خبر أبيه. ولما طال عليهم الحصار وجهدهم الجوع برزوا إلى مدافعة الموحدين فانهزموا وتتبعهم الموحدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة في أخريات شوال سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة وقتل عامة الملثمين. ونجا إسحاق في جملته وأعيان قومه إلى القصبة حتى نزلوا على حكم الموحدين، وأحضر إسحاق بين يدي عبد المؤمن فقتله الموحدون بأيديهم وتولى كبر ذلك أبو حفص بن واكاك منهم وامحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع بلاد المغرب.
ثم خرج عليهم بناحية السوس ثائر من سوقة سلا يعرف محمد بن عبد الله بن هود وتلقب بالهادي، وظهر في رباط ماسة فأقبل إليه الشرار من كل جانب، وانصرفت إليه وجوه الأغمار من أهل الافاق، وأخذ بدعوته أهل سجلماسة ودرعة وقبائل دكالة وركراكه وقبائل تامسنا وهوارة. وفشت ضلالته في جميع المغرب، فسرح إليه عبد المؤمن عسكراً من الموحدين لنظر يحيى انكمار المسوفي النازع إليه من إيالة تاشفين بن علي. ولقي هذا الثائر المآسي، ورجع مهزوماً إلى عبد المؤمن، فسرح الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى وأشياخ الموحدين، واحتفل في الاستعداد فنهضوا إلى رابطة ماسة. وبرز إليهم الثائر في نحو ستين ألفاً من الرجال وسبعمائة من الفرسان، فهزمهم الموحدون وقتل داعيتهم في المعركة مع أكثر أتباعه، وذلك في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة. وكتب الشيخ أبو حفص بالفتح إلى عبد المؤمن من إنشاء أبي جعفر بن عطية الشهير الذكر، كان أبوه أبو أحمد كاتباً لعلي بن يوسف وإبنه تاشفين ، وتحصل في قبضة الموحدين فعفا عنه عبد المؤمن. ولما نزل على فاس اعتزم أبو أحمد هذا على الفرار فقبض عليه في طريقه، واعتذر فلم يقبل عذره وقتل. وكان إبنه أحمد كاتباً لإسحاق بن علي بمراكش
فشمله عفو السلطان فيمن شمله من ذلك الفل، وخرج في جملة الشيخ أبي حفص في وجهته هذه وطلبه للكتاب في ذلك، فأجاد واستحسن كتابه عبد المؤمن لما وقف عليه فاستكتبه أولاً. ثم ارتفع عنده بخلاله فاستوزره، وبعد في الدولة صيته، وقاد العساكر وجمع الأموال وبذلها ونال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولتهم إلى أن دبت عقارب السعاية إلى مهاده الوثير، فكان فيها حتفه ونكبه الخليفة سنة ثلاث وخمسين وستمائة وخمسمائة وقتله بمحبسه حسبما هو مشهور.
ولما انصرف الشيخ أبو حفص من غزاة ماسة أراح بمراكش أياماً. ثم خرج غازياً إلى القائمين بدعوة الماسي بجبال درن، فأوقع بأهل نفيس وهيلانة وأثخن فيهم بالقتل والسبي حتى أذعنوا بالطاعة ورجع. ثم خرج إلى هسكورة وأوقع بهم وافتتح معاقلهم وحصونهم. ثم نهض إلى سجلماسة فاستولى عليها ورجع إلى مراكش، ثم خرج ثالثة إلى برغواطة فحاربوه مدة ثم هزموه. واضطرمت نار الفتنة في المغرب، وانتقض أهل سبتة، وأخرجوا يوسف بن مخلوف التينمللي وقتلوه ومن كان معه من الموحدين وأجاز القاضي عياض البحر إلى يحيى بن علي بن غانية المسوقي الوالي بالأندلس فلقيه بالخضراء، وطلب منه والياً على سبتة فبعث معه يحيى بن أبي بكر الصحراوي الذي كان بفاس منذ منازلة عبد المؤمن لها. وذكرنا أنه لحق بطنجة فأجاز البحر إلى الأندل ولحق بابن غانية بقرطبة وصار في جملته. وبعثه ابن غانية إلى سبتة مع القاضي عياض كما ذكرناه. وقام بأمرها ووصل يد بالقبائل الناكثة لطاعة الموحدين من برغواطة ودكالة على حين هزيمتهم للموحدين ين كما ذكرناه. ولحق بهم من مكانه بسبتة وخرج إليهم عبد المؤمن بن علي سنة إثتين وأربعين وستمائةوخمسمائة فدوخ بلادهم واستأصل شأفتهم حتى انقادوا للطاعة وتبرأوا من يحيى الصحراوي ولمتونة، ورجع إلى مراكش لستة أشهر من خروجه، ووصلته الرغبة من مشيخة القبائل في يحيى الصحراوي فعفا عنه وصلحت أحوال المغرب. وراجع أهل سبتة طاعتهم فتقبل منهم، وكذلك أهل سلا فصفح عنهم وأمر بهدم سورهم. والله أعلم
فتح الأندلس
فتح الأندلس وشؤنها
ثم صرف عبد المؤمن نظره إلى الأندلس، وكان من خبرها أنه اتصل بالملثمين مقتل تاشفين بن عليّ، ومنازلة الموحدين مدينة فاس. وكان علي بن عيسى بن ميمون قائد أسطولهم قد نزع طاعة لمتونة وانتزى بجزيرة قادس، فلحق بعبد المؤمن بمكانه من حصار فاس، ودخل في دعوته وخطب له بجامع قادس أول خطبة خطبت لهم بالأندلس عام أربعين وخمسمائة. وبعث أحمد بن قسي صاحب مرتلة ومقيم الدعوة بالأندلس أبا بكر بن حبيس رسولاً إلى عبد المؤمن فلقيه على تلمسان وادى كتاب صاحبه، فأنكر ما تضمنه من النعت بالمهدي، ولم يجاوب. وكان سداري بن وزير صاحب بطليوس وباجة وغرب الأندلس قد تغلب على أحمد بن قسي هذا، وغلبه على مرتلة فأجاز أحمد بن قسي البحر إلى عبد المؤمن بعد فتح مراكش لمداخلة علي بن عيسى بن ميمون ونزل بسبتة فجهزه يوسف بن مخلوف، ولحق بعبد المؤمن، ورغبه في ملك الأندلس، وأغراه بالملثمين فبعث معه عساكر الموحدين لنظر براز بن محمد المسوفي النازع إلى عبد المؤمن من جملة تاشفين، وعقد له على حرب من بها من لمتونة والثوار وأمده بعسكر آخر لنظر موسى بن سعيد، وبعده بعسكر آخر لنظر عمر بن صالح الصنهاجي ولما أجازوا إلى الأندلس نازلوا أبا الغمر بن عزون من الثوار بشريش، وكانت له مع رلدة.
ثم قصدوا لبلة وبها من الثوار يوسف بن أحمد البطورجي فأعطاهم الطاعة ثم
قصدوا مرتلة، وهي تحت الطاعة لتوحيد صاحبها أحمد بن قسي. ثم قصدوا شلب فافتتحوها وأمكنوا منها ابن قسي. ثم نهضوا إلى باجة وبطليوس فأطاعهم صاحبها سداري بن وزير. ثم رجع براز في عسكر الموحدين إلى مرتلة حتى انصرم فصل الشتاء فخرج إلى منازلة
إشبيلية فأطاعه أهل طليطلة وحصن القصر، واجتمع إليه سائر الثوار وحاصروا إشبيلية براً وبحراً إلى أن اقتحموها في شعبان سنة إحدى وأربعين وستمائةوخمسمائة. وفر الملثمون بها إلى قرمونة وقتل من أدرك منهم. وأنى القتل على عبد الله بن القاضي أبي بكر بن العربي في هيعة تلك الدخلة من غير قصد. وكتبوا بالفتح إلى عبد المؤمن بن علي. وقدم عليه وفدهم بمراكش يقدمهم القاضي أبو بكر فتقبل طاعتهم وانصرفوا بالجوائز والإقطاعات لجميع الوفد سنة إثنتين وأربعين وستمائة وخمسمائة.
وهلك القاضي أبو بكر في طريقه ودفن بمقبرة فاس. وكان عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي من مشيخة العسكر بإشبيلية فساء أثرهما في البلد واستطالت أيديهما على أهله، واستباحوا الدماء والأموال. ثم اعتزما على الفتك بيوسف البطروجي صاحب لبلة فلحق ببلده وأخرج الموحدين الذين بها وحول الدعوة عنهم. وبعث إلى طليطلة وحصن القصر ووصل يده بالملثمين الذين كانوا بالعدوة؟ وارتد ابن قسي في مدينة شلب، وعلي بن عيسى بن ميمون بجزيرة قادس، ومحمد بن علي بن الحجام بمدينة بطليوس. وثبت أبو الغمر بن عزون على طاعة الموحدين بشريش ورندة وجهاتها. وتغلب ابن غانية على الجزيرة الخضراء، وانتقض أهل سبتة كما ذكرناه وضاقت أحوال الموحدين بإشبيلية فخرج منها عيسى وعبد العزيز أخوا المهدي وابن عمهما يصليتن بمن كان معهم. ولحقوا بجبل بستر جاءهم أبو الغمر بن عزون واتصلت أيديهم على حصار الجزيرة حتى افتتحوها وقتلوا من كان بها من لمتونة ولحق أخوا المهدي بمراكش وبعث عبد المؤمن على إشبيلة يوسف بن سليمان في
عسكر من الموحدين وأبقى براز بن محمد على الجباية فخرج يوسف ودوخ أعمال البطروجي بلبلة وطليطلة وعمل ابن قسي بشلب ثم أغار على طلبيرة وأطاعه عيسى بن ميمون صاحب شنتمرية وغزا معهم وأرسل محمد بن عليّ بن الحجام صاحب بطليوس بهداياه فتقبلت ورعيت له، ورجع يوسف إلى إشبيلية، وفي أثناء ذلك استغلظ الطاغية على يحيى بن علي بن غانية بقرطبة ولج على جهاته حتى نزل له عن بياسة وأبدة وتغلب على الأشبونة وطرطوشة ولاردة وأفراغة وشنتمرية وغيرها من حصون الأندلس وطالب ابن غانية بالزيادة في ضريبته أو الإفراج له عن قرطبة فراسل ابن غانية براز بن محمد واجتمعا باستجة وضمن له براز إمداد الخليفة على أن يتخلى عن قرطبة وقرمونة ويدال منها بجيان فرضي بذلك وتم العقد ووصل خطاب عبد المؤمن بإمضائه فارتحل ابن غانية إلى جيان ونازله الطاغية بها فغدر بأقماطه واقتلعهم بقلعة ابن سعيد وأفرج الطاغية عن جيان ولحق هذا بغرناطة وبها ميمون بن بدر اللمتوني في جماعة من المرابطين قصده ابن غانية ليحمله على مثل حاله مع الموحدين فكان مهلكه بها بشعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائةوخمسمائة وقبره بها معروف لهذا العهد. وانتهز الطاغية فرصته في قرطبة فزحف إليها، ودفع الموحدون بإشبيلية أبا الغمر بن عزون لحمايتها، ووصل إليه مدد يوسف البطروجي من لبلة. وبلغ الخبر عبد المؤمن فبعث إليها عسكراً من الموحدين لنظر يحيى بن يغمور. ولما دخلها أفرج عنها الطاغية لأيام من مدخله، وبادر الثوار إلى يحيى بن يغمور في طلب الأمان من عبد المؤمن. ثم تلاحقوا به بمراكش فتقبلهم وصفح لهم، ونهض إلى مدينة سلا سنة خمس وأربعين وستمائةوخمسمائة. واستدعى منها أهل الأندلس فوفدوا عليه وبايعوه جميعاً، وبايعه الرؤساء من الثوار على الانخلاع من الأمر مثل: سداراي بن وزير صاحب باجة، وبابورة والبطروجي صاحب لبلة، وابن عزون صاحب شريش ورندة، وابن الحجّام صاحب بطليوس وعامل ابن منيب صاحب طابيرة. وتخفف ابن قسي وأهل شلب عن هذا الجمع، فكان سبباً لقتله من بعد. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم واستصحب الثوار فلم يزالوا بحضرته والله تعالى أعلم.
فتح أفريقية فتح أفريقية وشؤنها ثم بلغ عبد المؤمن ما هي عليه أفريقية من اختلاف الأمراء واستطالة العرب عليها بالعيث والفساد، وأنهم حاصروا مدينة القيروان وأن موسى بن يحيى الرياحي المرداسي دخل مدينة باجة وملكها، فأجمع الرحلة إلى غزو أفريقية بعد أن شاور الشيخ أبا حفص وأبا إبراهيم وغيرهما من المشيخة فوافقوه. وخرج من مراكش سنة ست وأربعين وستمائةوخمسمائة مورياً بالجهاد حتى انتهى إلى سبتة، واستوضح أحوال أهل الأندلس ثم رحل عن سبتة مورياً بمراكش، وأغذّ السير إلى بجاية فدخل الجزائر على حين غفلة وخرج إليه الحسن بن عليّ صاحب المهدئة فصحبه واعترضته جيوش صنهاجة بأم العلو فهزمهم وصبح بجاية من الغد فدخلها. وركب يحيى بن العزيز البحر في أسطولين كان أعدهما لذلك، واحتمل فيها ذخائره وأمواله، ولحق بقسنطينة إلى أن نزل بعد ذلك عنها على أمان عبد المؤمن واستقر
بمراكش تحت الجراية والعناية إلى أن هلك رحمه الله.
ثم سرح عبد المؤمن عساكر الموحدين وعليهم إبنه عبد الله إلى القلعة، وبها جوشن بن العزيز في جموع صنهاجة فاقتحمها واستلحم من كان بها منهم، وأضرم النار في مساكنها وقتل جوشن. ويقال إن القتلى بها كانوا ثمانية عشر ألفاً، وامتلأت أيدي الموحدين من الغنائم والسبي، وبلغ الخبر إلى العرب بأفريقية من الأثبج وزغبة ورياح وقسرة فعسكروا بظاهر باجة، وتدامروا على الدفاع عن ملكهم يحيى بن العزيز وارتحلوا إلى سطيف. وزحف إليهم عبد الله بن عبد المؤمن في الموحدين الذين معه. وكان عبد المؤمن قد قفل إلى المغرب ونزل متيجة فلما بلغه الخبر بعث المدد لابنه عبد الله والتقى الفريقان بسطيف واقتلوا ثلاثاً، ثم انفضت جموع العرب واستلحموا وسبيت نساؤهم واكتسحت أموالهم وأسر أبناؤهم. ورجع عبد المؤمن إلى مراكش سنة سبع وأربعين وستمائةوخمسمائة، ووفد عليه كبراء العرب من أهل أفريقية طائعين فوصلهم ورجعهم إلى قومهم. وعقد على فاس لابنه السيد أبي الحسن، واستوزر له يوسف بن سليمان. وعقد على تلمسان لابنه السيد أبي حفص، واستوزر له أبا محمد بن وانودين. وعلى سبتة للسيد أبي سعيد، واستوزر له محمد بن سليمان. وعلى بجاية للسيد أبي محمد عبد الله. واستوزر له يخلف بن الحسين. واختص ابنه عبد الله بولاية عهده. وتقلب بذلك كله ضمائر عبد العزيز ويحيى أخوي المهدي فلحقا بمراكش مضمرين الغدر، وأدخلوا بعض الأوغاد في شأنهم فوثبوا بعمر بن تافراكين وقتلوه بمكانه من القصبة. ووصل على أثرهما الوزير أبو جعفر بن عطية وعبد المؤمن على أثره فأطفآ نار تلك الثورة وقتل أخوا المهدي ومن داخلهم فيها والله أعلم.
فتح بقية الأندلس
وبلغه بمراكش سنة تسع وأربعين وستمائةوخمسمائة أن يحيى بن يغمور صاحب إشبيلية قتل أهل لبلة بما كان من غدر الوهبي لها، ولم يقبل معذرتهم في ذلك فسخط يحيى بن يغمور وعزله عن إشبيلية بأبي محمد عبد الله بن أبي حفص بن عليّ التينمللي، وعن
قرطبة بأبي زيد بن بكيت وبعث عبد الله بن سليمان، فجاء بابن يغمور معتقلاً إلى الحضرة وألزمه منزله إلى أن بعثه مع ابنه السيد أبي حفص إلى تلمسان واستقام أمر الأندلس. وخرج ميمون بن يدر اللمتوني عن غرناطة للموحدين فملكوها، وأجاز إليها السيد أبو سعيد صاحب سبتة بعهد أبيه عبد المؤمن إليه بذلك. ولحق الملثمون بمراكش ونازل السيد أبو سعيد مدينة المرية حتى نزل من كان بها من النصارى على الأمان. وحضر لذلك الوزير أبو جعفر بن عطية بعد أن أمدهم ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس والطاغية معه، وعجزوا جميعاً عن المدافعة. ثم وفد أشياخ إشبيلية سنة إحدى وخمسين وستمائة وخمسمائة ورغبوا من عبد المؤمن ولاية بعض أبنائه عليهم فعقد لابنه السيد أبي يعقوب عليها، وافتتح أمره بمنازلة عليّ الوهبي الثائر بطبيرية ومعه الوزير أبو جعفر بن عطية، حتى استقام على الطاعة. ثم استولى على عمل ابن وزير وابن قسي، واستنزل تاشفين اللمتوني من مرتلة سنة إثنتين وخمسين وستمائة وخمسمائة، وكان الذي أمكن الملثمين منها ابن قسي واستتم الفتح. ورجع السيد إلى إشبيلية، وانصرف أبو جعفر بن عطية إلى مراكش فكانت نكبته ومقتله. واستوزر عبد المؤمن بعده عبد السلام الكومي كان يمت إليه بذمة صهر فلم يزل على و زارته.والله أعلم0
بقية فتح أفريقية
لما بلغ عبد المؤمن سنة ثلاث وخمسين وستمائة وخمسمائة ما كان من إيقاع الطاغية بإبنه السيد أبي يعقوب بظاهر إشبيلية، ومن استشهد من أشياخ الموحدين وحفاظهم، ومن الثوار مثل ابن عزون وابن الحجام، نهض يريد الجهاد واحتل سلا فبلغه
انتقاض أفريقية، وأهمه شأن النصارى بالمهدية. فلما توافت العساكر بسلا استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وعقد ليوسف بن سليمان على مدينة فاس، ونهض يغذ السير حتى نازل المهدية ومن بها من نصارى أهل صقلية فافتتحها صلحاً سنة خمس وخمسين وستمائة وخمسمائة. واستنقذ جميع البلاد الساحلية مثل صفاقس وطرابلس من أيدي العدو. وبعث إبنه عبد الله من مكان حصاره للمهدية إلى قابس فاستخلصها من يد بني كامل المتغلبين عليها من دهمان بعض بطون رياح. واستخلص قفصة من يد بني الورد، وزرعة من يد بني بروكسن، وطبرقة من يد علال وجبل زغوان من يد بني حماد بن خليفة وشقبناريّة من يد بني عبّاد بن نصر الله. ومدينة الأربص من يد ملكها من العرب حسبما ذلك مذكور في أخبار هؤلاء الثوار في دولة صنهاجة. ولما استكمل الفتح وثنى عنانه إلى المغرب سنة ست وخمسين وستمائة وخمسمائة بلغه أن الأعراب بأفريقية انتقضوا عليه، فرجع إليهم عسكراً من الموحدين، فنهضوا إلى القيروان، وأوقعوا بالعرب، وقتل كبيرهم محرز بن زياد الفارغي من بني عليّ إحدى بطون رياح.والله أعلم .
أخبار ابن مردنيش الثائر بشرق الأندلس
كان بلغ عبد المؤمن وهو بأفريقية أن محمد بن مردنيش الثائر بشرق الأندلس خرج من مرسية ونازل جيان. وأطاعه واليها محمد ببن عليّ الكومي. ثم نازل بعدها قرطبة ورحل عنها وغدر بقرمونة وملكها، ثم رجع إلى قرطبة. وخرج ابن بكيت لحربه فهزمه وقتله، فكتب إلى عماله بالأندلس بفتح أفريقية، وأنه واصل إليهم وعبر البحر إلى جبل الفتح. واجتمع إليه أهل الأندلس ومن بها من الموحدين ثم رجع إلى مراكش وبعث عساكره إلى الجهاد، ولقيهم الطاغية فهزموه. وتغلب السيد أبو يعقوب على قرمونة من يد ابن هشمك صهر ابن مردنيش. وكان السيدان أبو يعقوب صاحب إشبيلية وأبو سعيد صاحب غرناطة ارتحلا لزيارة الخليفة بمراكش، فخالف ابن همشك إلى مدينة غرناطة وغدر بها ليلاً بمداخلة من بعض أهلها. واستولى عليها وانحصر الموحدون بقبضها، وخرج عبد المؤمن من مراكش لاستنقاذها فوصل إلى سلا. وقدم السيد أبا سعيد فأجاز البحر ولقيه عامل إشبيلية عبد الله بن أبي حفص بن علي، ونهضوا جميعاً إلى غرناطة، فنهض إليهم ابن همشك وهزمهم. ورجع السيد أبو سعيد إلى مالقة، وردفه عبد المؤمن بأخيه السيد أبي يعقوب في عساكر الموحدين، ونهضوا إلى غرناطة، وكان قد وصلها ابن مردنيش في جموع من النصارى مدداً لابن همشك، فلقيهم الموحدون بفحص غرناطة وهزموهم. وفر ابن مردنيش إلى مكانه من المشرق، ولحق ابن همشك بجيان فنازله الموحدون. وارتحل السيدان إلى قرطبة فأقاما بها إلى أن استدعى السيد أبو يعقوب إلى مراكش سنة ثمان وخمسين وستمائة وخمسمائة لولاية العهد، والإدالة به من أخيه محمد، فلحق بمراكش وخرج في ركاب أبيه الخليفة عبد المؤمن لما نهض للجهاد. وأدركته المنية بسلا في جمادى الآخرة من هذه السنة وقبر بتينملل إلى جانب المهدي والله أعلم.
دولة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن
لما هلك عبد المؤمن أخذ البيعة على الناس السيد أبوحفص لأخيه أبي يعقوب باتفاق من الموحدين كافة، ورضي من الشيخ أبي حفص خاصة، واستقل في رتبة وزارته ورجعوا إلى مراكش. وكان السيد أبو حفص هذا وزيراً لأبيه عبد المؤمن، استوزره عند نكبة عبد السلام الكومي فرجعه من أفريقية سنة خمس وخمسين وستمائة وخمسمائة. وكان أبو العلى بن جامع متصرفاً بين يديه في رسم الوزارة إلى أن هلك عبد المؤمن فأخذ أبو حفص البيعة لأخيه أبي يعقوب. ثم هلك إثر وفاة عبد المؤمن ابنه السيد أبو الحسن صاحب فاس، والسيد أبو محمد صاحب بجاية في طريقه إلى الحضرة. ثم استقدم أبو يعقوب السيد أبا سعيد من كرناطة سنة ستين وخمسمائة فقدم ولقيه السيد أبوحفص بسبتة. ثم صرح الخليفة أبو يعقوب معه أخاه السيد أبا حفص إلى الأندلس في عساكر الموحدين لما بلغه من إلحاح ابن مردنيش على قرطبة، بعد أن احتشد معه قبائل العرب من زغبة ورياح والاثبج، فاجتاز البحر وقصد ابن مردنيش، وقد جمع جموعه وأولياءه من النصارى. ولقيهم عساكر الموحدين بفحص مرسية، فانهزم ابن مردنيش وأصحابه وفر إلى مرسية، ونازله الموحدون بها ودوخوا نواحيه. وانصرف السيد أبو حفص وأخوه أبو سعيد سنة إحدى وستين وخمسمائة إلى مراكش وخمدت نار الفتنة من ابن مردنيش. وعقد الخليفة على بجاية لأخيه السيد أبي زكريا، وعلى إشبيلية للشيخ أبي عبد الله بن إبراهيم. ثم أدال منه بأخيه السيد أبي إبراهيم، وأقر الشيخ أبا عبد الله على وزارته. وعقد على قرطبة للسيد أبي إسحق، وأقر السيد أبا سعيد على غرناطة ثم نظر الموحدون في وضع العلامة في المكتوبات بخط الخليفة فاختاروا: "الحمد لله وحده " لما وقفوا عليها بخط الإمام المهدي في بعض مخاطباته، فكانت علامتهم إلى آخر دولتهم والله تعالىأعلم0
فتنة غمارة
وفي سنة إثنتين وستين وخمسمائة تحرك الأمير أبو يعقوب إلى جبال غمارة، لما كان ظهر بها من الفتنة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد منهم. وناغاهم في الفتنة صنهاجة جيرانهم، فبعث الأمير أبو يعقوب عساكر الموحدين لنظر الشيخ أبى حفص، ثم تعاظمت فتن غمارة وصنهاجة فخرج إليهم بنفسه وأوقع بهم واستأصلهم وقتل سبع بن منغفاد وانحسم داؤهم، وعقد لأخيه السيد أبي علي الحسن على سبتة وسائر بلادهم. وفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة اجتمع الموحدون على تجديد البيعة واللقب بأمير المؤمنين، وخاطب العرب بأفريقية يستدعيهم إلى الغزو ويحرضهم. وكتب إليهم في ذلك قصيدة ورسالة مشهورة بين الناس، وكان من إجابتهم ووفودهم عليه ما هو معروف.
أخبار الأندلس
لما استوسق الأمر للخليفة أبي يعقوب بالعدوة وصرف نظره إلى الأندلس والجهاد، واتصل به ما كان من غدر العدو، دمّره الله، بمدينة ترجالة. ثم مدينة يابرة، ثم حصن شبرمة، ثم حصن جلمانية إزاء بطليوس، ثم مدينة بطليوس، فسرّح الشيخ أبا حفص في عساكر من الموحدين احتفل في انتقائهم. وخرج سنة أربع وستين وخمسمائة لاستنقاذ بطليوس من هوة الحصار، فلما وصل إلى إشبيلية بلغه أن الموحدين ببطليوس هزموا ابن الرنك الذي كان يحاصرهم بإعانة ابن أذفونش. وأن ابن الرنك تحصل في قبضتهم أسيراً، وفر جراندة الجلّيقي إلى حصنه، فقصد الشيخ أبو حفص مدينة قرطبة وبعث إليه إبراهيم بن همشك من جيان بطاعته وتوحيده ومفارقته صاحبه ابن مردنيش، لما حدث بينهما من الشحناء والفتنة، فألح عليه ابن مردنيش بالحرب، وردد إليه الغزو، فبعث إلى الشيخ أبي حفص بطاعته. وكتب الشيخ أبو حفص بذلك إلى الخليفة، وبما كان من عيث النصارى بجوانب الأندلس، فسرح أخاه ووزيره أبا حفص في عساكر الموحدين، فنهض من مراكش سنة خمس وستين وخمسمائة، وفي جملته السيد أبو سعيد أخوه، فوصل إشبيلية وبعث أخاه أبا سعيد إلى بطليوس، فعقد الصلح مع الطاغية وانصرف، ونهضوا جميعاً إلى مرسية ومعهم ابن همشك فحاصروا ابن مردنيش. وثار أهل لورقة بدعوة الموحدين، فملكها السيد أبو حفص. ثم افتتح مدينة بسطة، وطاع ابن عمه محمد بن مردنيش
صاحب المرية، فحمق بذلك جناحه.
واتصل الخبر بالخليفة بمراكش، وقد توافت عنده جموع العرب من أفريقية صحبة السيد أبي زكريا صاحب بجاية والسيد أبي عمران صاحب تلمسان، وكان يوم قدومهم عليه يوماً مشهوداً، فاعترضهم وسائر عساكره، ونهض إلى الأندلس. واستخلف على مراكش السيد أبا عمران أخاه فاحتل بقرطبة سنة سبع وستين وخمسمائة. ثم ارتحل بعدها إلى إشبيلية، ولقيه السيد أبو حفص هنالك منصرفاً من غزاته. وكان ابن مردنيش لما طال عليه الحصار ارتاب ففتك بهم، وبادر أخوه أبو الحجاج إلى الطاعة، وهلك هو في رجب من هذه السنة. ودخل إبنه هلال في الطاعة، وبادر السيد أبو حفص إلى مرسية فدخلها وخرج هلال في جملته، وبعثه إلى الخليفة بأشبيلية. ثم ارتحل الخليفة غازياً إلى بلاد العدو فنازل رندة أيامأ، وارتحل عنها إلى مرسية. ثم رجع إلى إشبيلية سنة ثمان وستين وخمسمائة، واستصحب هلال بن مردنيش وأصهر إليه في ابنته، وولى عمه يوسف على بلنسية وعقد لأخيه السيد أبي سعيد على غرناطة. ثم بلغه خروج العدو إلى أرض المسلمين مع القومس الأحدب، فخرج للقائهم وأوقع بهم بناحية قلعة رياح، وأثخن فيهم ورجع إلى أشبيلية، وأمر ببناء حصن بالقلعة ليحصن جهاتها، وقد كانت خراباً منذ فتنة ابن حجاج فيه مع كريب بن خلدون بمورة، أزمان المنذر بن محمد وأخيه عبد فى من أمراء بني أمية. ثم انتقض ابن أذفونيش وأغار على بلاد المسلمين، فاحتشد الخليفة وسرح السيد أبا حفص إليه فغزاه بعقر داره، وافتتح قنطرة السيف، وهزم جموعه في كل جهة. ثم ارتحل الخليفة من أشبيلية راجعأ إلى مراكش سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لخمس سنين من إجازته إلى الأندلس، وعقد على قرطبة لأخيه الحسن، وعلى أشبيلية لأخيه علي، وأصاب مراكش الطاعون فهلك من السادة أبو عمران وأبو سعي ، وأبو زكريا، وقدم الشيخ أبو حفص، من قرطبة فهلك في طريقه، ودفن بسلا. واستدعى الخليفة أخويه السيدين أبا علي وأبا الحسن؟ فعقد لأبي علي على سجلماسة، ورجع أبو الحسن إلى قرطبة، وعقد لابني أخيه السيد أبي حفص:
لأبي زيد منهما على غرناطة، ولأبي محمد عبد الله على مالقة. وفي سنة ثلاث وسبعين وحمسمائة سطا بوزرائه بني جامع وغربهم إلى ماردة. وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة عقد لغانم بن محمد بن مردنيش على أسطوله وأغزاه مدينة الأشبوبة، فغنم ورجع. وفيها كانت وفاة أخيه السيد الوزير أبي حفص بعدما أبلى في الجهاد وأبلغ في نكاية العدو. وقدم ابناه من الأندلس وأخبرا الخليفة بانتقاض الطاغية، واعتزم على الجهاد وأخذ في استدعاء العرب من أفريقية والله تعالى أعلم. الخبر عن انتفاض قفصة واسترجاعها: كان عليّ بن المعز ويعرف بالطويل، من أعقاب بني الرند ملوك قفصة قد ثار سنة خمس وسبعين وخمسمائة كما ذكرناه في أخبارهم. وبلغ الخليفة خبره فنهض إليه من مراكش وصار إلى بجاية وسعى عنده بعلي بن المنتصر الذي كان عبد المؤمن استنزله من قفصة أنه يواصل قريبه الثائر بها ويخاطب العرب، فتقبض عليه، ووجدت مخاطبات عنده شاهدة بتلك السعاية واستصفى ما كان بيده، وارتحل إلى فقصة ونازلها. ووفدت عليه مشيخة العرب من رياح بالطاعة فتقبلهم ولم يزل محاصراً لقفصة إلى أن نزل على ابن المعز. وانكفأ راجعاً إلى تونس. وأنفذ عساكر العرب إلى المغرب، وعقد على أفريقية والزاب للسيد أبي علي أخيه وعلى بجاية للسيد أبي موسى وقفل إلى الحضرة والله تعالى اعلم.
معـاودة الجهاد
لما قفل من فتح قفصة سنة سبع وسبعين وخمسمائة وفد عليه أخوه السيد أبو إسحق من أشبيلية، والسيد أبو عبد الرحمن يعقوب من مرسية وكافة الموحدين ورؤساء الأندلس يهنونه بالإياب فأكرم موصلهم وانصرفوا إلى بلادهم. واتصل به أن محمد بن يوسف بن وانودين غزا بالموحدين من أشبيلية إلى أرض العدو فنازل مدينة يابرة وغنم ما حولها وافتتح بعض حصونها ورجع إلى أشبيلية، وإن عبد الله بن إسحق بن جامع قائد الأسطول بأشبيلية التقى بأسطول أهل أشبونة في البحر فهزمهم وأخذوا عشرين من قطائعهم مع السبي والغنائم. ثم بلغ الخبر بأن أذفونس بن شانجة نازل قرطبة وشن الغارات على جهة مالقة ورندة وغرناطة. ثم نازل أستجة وتغلب على حصن شنغيلة. وأسكن بها النصارى وانصرف، فاستنفر السيد أبو إسحق سائر الناس للغزو، ونازل الحصن تحو أربعين يوماً. ثم بلغه خروج أذفونش من طليطلة لمدده فانكفأ راجعاً. وخرج محمد بن يوسف بن وانودين من أشبيلية في جموع الموحدين ونازل طلبيرة، وبرز إليه أهلها فأوقع بهم وانصرف بالغنائم، فاعتزم الخليفة أبو يوسف على معاودة الجهاد، وولى على الأندلس أبناءه وقدمهم للاحتشاد، فعقد لابنه أبي إسحق على أشبيلية كما كان، ولابنه السيد أبي يحيى على قرطبة ولابنه السيد أبي زيد الحرضاني على غرناطة ولابنه السيد أبي عبد الله على مرسية. ونهض سنة تسع وسبعين وخمسمائة إلى سلا، ووافاه بها أبو محمد بن أبي إسحق بن جامع من أفريقية بحشود العرب. وسار إلى فاس، وبعث في مقدمته هنتاتة وتيمنلل
وحشود العرب، وأجاز البحر من سبتة في صفر من سنة ثمانين وخمسمائة
، فاحتل جبل الفتح، وسار إلى أشبيلية فوافته بها حشود الأندلس. وسخط محمد بن وانودين وغربه إلى حصن غافق، ورحل غازياً إلى شنترين فحاصرها أياماً. ثم أقلع عنها وأسحر الناس يوم إقلاعه، وخرج النصارى من الحصن فوجدوا الخليفة في غير أهبة ولا استعداد، فأبلى في الجهاد هو ومن حضره، وانصرفوا بعد جولة شديدة. وهلك في ذلك اليوم الخليفة يقال من سهم أصابه في حومة القتال، وقيل من مرض طرقه عفا الله عنه. دولة ابنه يعقوب المنصور: لما هلك الخليفة أبو يعقوب على حصن شنترين سنة ثمانين وخمسمائة بويع إبنه يعقوب، ورجع بالناس إلى أشبيلية واستكمل البيعة. واستوزر الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص، واستنفر الناس للغزو مع أخيه السيد أبي يحيى فأخذ بعض الحصون وأثخن في بلاد الكفار. ثم أجاز البحر إلى الحضرة ولقيه بقصر مصمودة السيد أبو زكريا ابن السيد أبي حفص قادماً من تلمسان مع مشيخة زغبة، ومضى إلى مراكش فقطع المناكر وبسط العدل وباشر الأحكام، وكان أول الأحداث في دوله شأن ابن غانية. الخبر عن شأن ابن غانية: كان علي بن يوسف بن تاشفين لما تغلب العدو على جزيرة ميورقة وهلك واليها من موالي مجاهد وهو مبشر، وبقي أهلها فوضى، وقد كان مبشّر بعث إليه بالصريخ، والعدو محاصر له. فلما أخذها العدو وغنم وأحرق وأقلع، وبعث عليّ بن يوسف والياً عليها وأنور بن أبي بكر من رجالات لمتونة، وبعث معه خمسمائة فارس من
معسكره، فأرهف لهم حدّة، وأرادهم في بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فامتنعوا، وقتل مقدمهم فثاروا به وحبسوه. ومضوا إلى علي بن يوسف فأعفاهم منه، وولى عليهم محمد بن علي بن يحيى المسوقي المعروف بابن غانية. وكان أخوه يحيى على غرب الأندلس، وكان نزله بأشبيلية.
واستعمل محمد أخاه على قرطبة، فكتب إليه علي بن يوسف يأمره بصرف أخيه محمد إلى ولاية ميورقة، فارتحل إليها من قرطبة ومعه أولاده عبد الله وعلي وإسحاق والزبير وإبراهيم وطلحة، وكان عبد الله وإسحاق في تربية عمهما يحيى وكفالته فتبناهما. ولما وصل محمد بن علي بن غانية إلى ميورقة قبض على أنور وبعثه مصفداً الى مراكش، وأقام على ذلك عشراً. وهلك يحيى بن غانية وقد ولى عبد الله ابن أخيه محمد على غرناطة، وأخاه إسحاق بن محمد على قرمونة. ثم هلك علي بن يوسف، وضعف أمر لمتونة، وظهر عليهم الموحدون فبعث محمد عن ابنيه عبد الله وإسحق فوصلا إليه في الأسطول وانقضى ملك لمتونة. ثم عهد محمد إلى إبنه عبد الله فنافسه أخوه إسحاق، وداخل جماعة من لمتونة في قتله فقتلوه، وقتلوا أباه محمداً. ثم أجمعوا على الفتك به فارتاب بهم وداخل لبّ بن ميمون قائد البحر في أمرهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم. وتفت بيعته سنة ست وأربعين وستمائةوخمسمائة، وبقي أميراً لميورقة. واشتغل أول أمره بالبناء والغراسة، وضجر منه الناس لسوء ملكته، وفر عنه لبّ بن ميمون إلى الموحدين. ثم رجع آخرا إلى الغزو، وكان يبعث بالأسرى والعلوج للخليفة أبي يعقوب إلى أن هلك قبيل مهلكه سنة ثمانين وخمسمائة. وخلف من الولد محمداً وعلياً ويحيى وعبد الله والغازي وسير والمنصور وجبارة وتاشفين وطلحة وعمر ويوسف والحسن، فولى ابنه محمد وبعث إلى الخليفة أبي يعقوب بطاعته، فبعث هو علي بن الزبرتير لاختبار ذلك منه وأحس بذلك إخوته فنكروه وتقبضوا عليه، وقدموا علياً منهم. وبلغهم مهلك الخليفة وولاية ابنه المنصور فاعتقلوا ابن الزبرتير وركبوا البحر في أسطولهم إلى بجاية. وولى على ميورقة أخاه طلحة، وطرق بجاية في أسطوله على حين غفلة وعليها السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان خارجها في بعض مذاهبه فاستولوا عليها سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وتقبضوا على السيد أبي الربيع والسيد أبي موسى عمران بن عبد المؤمن صاحب أفريقية، وكان بها مجتازاً واستعمل أخاه يحيى على بجاية ومضى إلى الجزائر فافتتحها، وولى عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم إلى مليانة فولى عليها بدر بن عائشة. ونهض إلى القلعة
ثم إلى قسنطينة فنازلها. واتصل الخبر بالمنصور وهو بسبتة مرجعه من الغزو، فسرح السيد أبا زيد ابن عمه السيد أبي حفص، وعقد له على حرب ابن غانية. وعقد لمحمد بن أبي إسحاق بن
جامع على الأساطيل، وإلى نظره أبو محمد بن عطوش وأحمد الصقلي. وانتهى السيد أبو زيد إلى تلمسان، وأخوه يومئذ السيد أبو الحسن واليها، وقد أنعم النظر في تحصينها، ثم ارتحل بعساكره من تلمسان ونادى بالعفو في الرعية فثار هل مليانة على ابن غانية فأخرجوه، وسبقت الأساطيل إلى الجزائر فملكوها وقبضوا على يحيى بن طلحة، وسيق يدر ابن عائشة من أم العلو فقتلوا جميعاً بشلف. وتقدم القائد أحمد الصقلي بأسطوله إلى بجاية فملكها ولحق يحيى بن غانية بأخيه علي بمكانه من حصار قسنطينة فاقلع عنها. ونزل السيد أبو زيد بتكلات. وهرج السيد أبو موسى من اعتقاله فلقيه هنالك. ثم ارتحل في طلب العدو فأفرج عن قسنطينة، وخرج إلى الصحراء، واتبعه الموحدون إلى مقرة وبفاس. ثم قفلوا إلى بجاية، واستقر السيد أبو زيد بها وقصد علي بن غانية قفصة فملكها، ونازل توزر فامتنعت عليه، ولحق بطرابلس. وخرج غزي الصنهاجي من جموع ابن غانية في بعض أحياء العرب فتغلب على أشير، وسرّح إليهم السيد أبو زيد إبنه أبا حفص عمر، ومعه غانم بن مردنيش فأوقعوا بهم واستولوا على حللهم. وقتل غزي وسيق رأسه إلى بجاية ونصب بها، وألحق به عبد الله أخوه. وفرب بنو حمدون من ببجاية إلى سلا لاتهامهم بالدخول في أمر ابن غانية. واستقدم الخليفة السيد أبا زيد من مكانه ببجاية، وقدم مكانه أخاه السيد أبا عبد الله وانصرف إلى الحضرة. وبلغ الخبر أثناء ذلك باستيلاء علي بن الزبرتير على ميورقة. وكان من خبره أن الأمير يوسف بن عبد المؤمن بعثه إلى ميورقة لدعاء بني غانية إلى أمره لما كان أخوهم محمد خاطبه بذلك، فلما وصل ابن الزبرتير، إليهم نكروا شأنه على أخيهم محمد واجتمعوا دونه وتقبضوا عليه وعلى ابن الزبرتير، وقدموا عليهم أخاه علياً، وركبوا الأساطيل إلى بجاية. فلما خلا الجو منهم دبر ابن الزبرتير في أمره، وداخل مواليهم من العلوج في تخلية سبيله من معتقله على أن يخلي سبيلهم بأهليهم وولدهم إلى أرضهم فتم له مراده منهم، وثار بقفصة واستنفذ
محمد بن إسحاق من مكان اعتقاله، ولحقوا جميعاً بالحضرة. وبلغ الخبر علي بن غانية بمكانه من طرابلس فبعث أخاه عبد الله إلى صقليّة، وركب منها إلى ميورقة ونزل في بعض قراها. وعمل الحيلة في تملك البلد فاستولى عليه واضطرمت نار الفتنة بأفريقية.
ونازل علي بن غانية بلاد الجريد وتغلب على الكثير منها، وبلغ الخبر باستيلائه على قفصة فخرج إليه المنصور من مراكش سنة إثنين وثمانين وخمسمائة، ووصل فاس فأراح بها، وسار إلى رباط تازى. ثم سار على التبعية إلى تونس، وجمع ابن غانية من إليه من الملثّمين والأعراب، وجاء معه قراقش الغزي صاحب طرابلس، فسرح إليهم المنصور عساكره لنظر السيد أبي يوسف بن السيد أبي حفص ولقيهم بغمرة فانفضت جموع الموحدين وانجلت المعركة عن قتل علي بن الزبرتير وأبي علي بن يغمور، وفقد الوزير عمر بن أبي زيد ولحق ففهم بقفصة فأثخنوا فيهم قتلاً، ونجا الباقون إلى تونس. وخرج المنصور متلافياً جبر الحال في هذه الوقائع، ونزل القيروان، وأغذ السير إلى الحامّة فتشاور الفريقان وتزاحفوا فكانت الدبرة على ابن غانية وأحزابه، وأفلت من المعركة بدماء نفسه ومعه خليله قراقش، وأتى القتل على كثيرهم وصبح المنصور قابس فافتتحها ونقل من كان بها من حرم ابن غانية وذويه في البحر إلى تونس. وثنى العنان إلى توزر فافتتحها وقتل من وجد بها، ثم إلى قفصة فنازلها أياماً حتى نزلوا على حكمه. وأمن أهل البلد والأغراب أصحاب قراقش، وقتل سائر الملثمين ومن كان معهم من الحشود، وهدم أسوارها وانكفأ راجعاً إلى تونس؟ فعقد على أفريقية للسيد أبي زيد، وفصل إلى المغرب سنة أربع وثمانين وخمسمائة ومر بالمهدية، وأصحر على طريق تاهرت، والعباس بن عطية أمير بني توجين دليله على تلمسان، فنكب بها عمّه السيد أبا إسحق لشيء بلغه عنه وأحفظه. ثم ارتحل إلى مراكش، ورفع إليه أن أخاه السيد أبي حفص والي مرسية الملقب بالرشيد، وعنه السيد أبا الربيع والي تادلاً عندما بلغهم خبر الوقيعة بغمرة حدثوا أنفسهم بالتوثّب على الخلافة، فلما قدموا عليه للتهنئة أمر باعتقالهما برباط الفتح خلال ما استجلى أمرهما. ثم قتلهما وعقد للسيد أبي الحسن بن السيد أبي حفص
على بجاية، وقصد بحيى بن غانية قسنطينة فزحف إليه السيد أبو الحسن من بجاية فهزمه ودخل قسنطينة، وارتحل ابن غانية إلى بسكرة فقطع نخلها وافتتحها عنوة. ثم حاصر قسنطينة وامتنعت عليه فارتحل إلى بجاية وحاصرها، وكثر عيثه إلى أن كان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
أخباره في الجهاد: مفا بلغه تغلب العدو على قاعدة شلّب، وأنه أوقع بعسكر أشبيلية وترددت سراياهم على نواحيها، وافتتح كثيرا من حصونها، وخاطبه السيد أبو يوسف بن أبي حفص صاحب أشبيلية بذلك. استنفر الناس للجهاد وخرج سنة ست وثمانين وخمسمائة إلى قصر مصمودة فأراح به. ثم أجاز إلى طريف، وأغذ السير منها إلى شلّب، ووافته بها حشود الأندلس فتركهم لحصارها. وفذحف إلى حصن طرش فافتتحه ورجع إلى أشبيلية. ثم رجع إلى منازلة شلب سنة سبع وثمانين فافتتحه. وقدم عليه ابن وزير بعد أن كان افتتح في طريقه إليه حصوناً أخرى. ثم قفل إلى حضرته بعد استكمال غزاته. وكتب بعهده لابنه الناصر. وقدم عليه سنة ثمان وثمانين وخمسمائة السيد أبو زيد صاحب أفريقية، ومعه مشيخة العرب من هلال وسليم فلقاهم مبرة وتكريماً، وانقلب وفدهم إلى بلادهم. ثم بلغه سنة تسعين وخمسمائة استفحال ابن غانية بأفريقية وكثرة العيث والفساد بها، فاعتزم على النهوض إليها ووصل إلى مكناسة فبلغه من أمر الأندلس ما أهمه فصرف وجهه إليها، ووصل قرطبة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فأراح بها ثلاثأ وأمداد الحشود تتلاحق به من كل ناحية. ثم ارتحل للقاء العدو ونزل بالأرك من نواحي بطليوس، وزحف إليه العدو من النصارى وأمراؤهم يومئذ ثلاثة: ابن أذفونش وابن الرنك ولببوج. وكان اللقاء يوم كذا سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وأبو محمد ابن أبي حفص يومئذ على المطّوعة، وأخوه أبو يحيى على العساكر والموحدين، فكانت
الهزيمة المشهورة على النصارى واستلحم منهم ثلاثون ألفأ بالسيف.
واعتصم فلهم بحصن الأرك وكانوا خمسة آلاف من زعمائهم، فاستنزلهم المنصور على حكمه وفودي بهم عددهم من المسلمين. واستشهد في هذا اليوم أبو يحيى بن الشيخ أبي حفص بعد أن أبلى بلاء حسناً وعرف بنوه بعدها ببني الشهيد. وانكفأ المنصور راجعاً إلى أشبيلية. ثم خرج منها سنة إثنتين وتسعين وخمسمائة غازياً إلى بلاد الجوف فافتتح حصوناً ومدنا وخربها، كان مها ترجالة وطلبيرة. وأطل على نواحي طليطلة فخرب بسائطها واكتسح مسارحها، وقفل إلى أشبيلية سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه وعقله. وربما ألفّ بعضها في خطه فحبس. ثم أطلق، وإشخص إلى الحضره وبها كانت وفاته. ثم خرج المنصور من أشبيلية غازياً إلى بلاد ابن أذفونش حتى احتل بساحة طليطلة، وبلغه أن صاحب برشلونة أمد ابن أذفونش بعساكره وأنهم جميعاً بحصن مجريط، فنهض إليهم. ولما أطل عليهم انفضت جموع ابن أذفونش من قبل القتال وانكفأ المنصور راجعاً إلى أشبيلية. ثم رغب إليه الملوك النصرانيّة في السلم فبذله لهم. وعقد على إشبيلية للسيد أبي زيد ابن الخليفة. وعلى مدينة بطليوس للسيد أبي الربيع بن السيد أبي حفص، وعلى المغرب للسيد أبي عبد الله بن السيد أبي حفص. وأجاز إلى حضرته سنة أربع وتسعين وخمسمائة فطرقه المرض الذي كان منه حمامه، وأوصى وصيته التي تناقلها الناس. وحضر لوصيته عيسى ابن الشيخ أبي حفص. وهلك رحمه الله سنة خمس وتسعين وخمسمائة آخر ربيعها، والله تعالى أعلم. الخبر عن وصول ابن منقذ بالهدية من قبل صاحب الديار المصرية: كان الفرنج قد ملكوا سواحل الشام في آخر الدولة العبيدية منذ تسعين سنة وملكوا بيت المقدس، فلما استولى صلاح الدين بن أيوب على ديار مصر والشام اعتزم على جهادهم. وكان يفتتح حصونها واحداً بعد واحد حتى أتى على جميعها. وافتتح
بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وهدم الكنيسة التي بنوها عليها. وامتعضت أمم النصرانية من كل جهة، واعترضوا أسطول صلاح الدين في البحر فبعث صريخه إلى المنصور سنة خمس وثمانين وخمسمائة يطلب إعانته بالأساطيل لمنازلة عكّا وصور وطرابلس. ووفد عليه أبو الحارث عبد الرحمن بن منقذ بقية امراء شيزر من حصون الشام. كانوا اشروا به عند اختلال الدولة العبيدية. فلما استقام الأمر على يد صلاح الدين، وانتظم ملك مصر والشام، واستنزل بني منقذ هؤلاء ورعى لهم سابقتهم، وبعثه في هذه إلى المنصور بالمغرب بهدية تشتمل على مصحفين كريمين منسوبين، ووزن ماية درهم من دهن البلسان، وعشرين رطلاً من العود، وستمائة مثقال من المسك والعنبر، وخمسين وستمائة قوساً أعرابية بأوتارها، وعشرين من النصول الهندية وسروج عدة ثقيلة. ووصل إلى المغرب، ووجد المنصور بالأندلس فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى إليه الرسالة فاعتذر له عن الأسطول وانصرف. ويقال أنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولاً، ومنع النصارى من سواحل الشام.
دولة الناصر بن المنصور: لما هلك المنصور قام بأمره ابنه محمد ولي عهده، وتلقب الناصر لدين الله. واستوزر أبا زيد بن يوجان، وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص. ثم استوزر أبا محمد بن الشيخ أبي حفص، وعقد للسيد أبي الحسن بن السيد أبي حفص على بجاية وفوض إليه في شؤونها. وبلغه سنة ست وتسعين وخمسمائة إجحاف العدو بأفريقية، وفساد الأعراب في نواحيها، ورجوع السيد أبي الحسن من قسنطينة منهزماً أمام ابن غانية، فأنفذ اليد أبا زيد بن أبي حفص إلى تونس في عسكر من الموحدين لسد ثغورها. وأنفذ أبا سعيد بن الشيخ أبي حفص رديفاً له، وتغلب ابن غانية خلال ذلك على حصن المهدية. وثار بالسوس سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ثائر من كزولة يعرف بأبي
قفصة، فسرح الناصر إليه عساكر الموحدين فقصدوا جموعه وقتل. وفي أيامه كان فتح ميورقة على ما يتلو من خبرها. فتح افريقيا:
وكان من خبرها أن محمد بن إسحق لما فصل إخوته علي ويحيى إلى أفريقية، وولوا على ميورقة أخاهم طلحة، داخل محمد بعض الحاشية، وخرج من الاعتقال هو وابن الزبرتير، وقام بدعوة المنصور، وبعث بها مع ابن الزبرتير فبعث المنصور أسطوله مع أبي العلى بن جامع لتملك ميورقة، فأبى محمد عن ذلك. وراسل طاغية برشلونة في المدد بجند من النصارى يستخدمهم فأجابه، وانتقض عليه أهل ميورقة لذلك، وخشوا عادية المنصور فطردوا محمد بن إسحق وولوا عليهم أخاه تاشفين. وبلغ ذلك علياً، وهو على قسنطينة فبعث أخويه عبد الله والغازي فداخلوا بعض أهل البلد وعزلوا تاشفين وولي عبد الله وبعث المنصور أسطوله مراراً مع أبي العلى بن جامع. ثم مع يحيى ابن الشيخ أبي إبراهيم الهزرجي فامتنعوا منهم، وقتلوا منهم خلقأ كثيراً. وقوي أمره، وذلك سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ثم لما هلك المنصور بعث الناصر أسطوله مع عمه السيد أبي العلى، والشيخ أبي سعيد بن أبي حفص فنازلوه وانخذل عنه أخوه تاشفين بالناس، ودخل البلد عنوة، واستفتحت وقتل. وانصرف السيد إلى مراكش، وولى عبد الله بن طاع الله الكومي. ثم ولى الناصر عليها أبا زيد، وجعل ابن طاع الله على قيادة البحر. وبعد السيد أبي زيد وليها السيد أبو عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، ثم أبو يحيى بن علي بن أبي عمران التينمللي، ومن يده أخذها النصارى لسنة سبع وعشرين وستمائة والله تعالى أعلم. خبر أفريقية وتغلب ابن غانية عليها وولاية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص: لما هلك المنصور قوي أمر ابن غانية بأفريقية، وولى الناصر السيد أبا زيد والشيخ أبا
سعيد بن أبي حفص، ويقال إن المنصور ولأهما، وكثر الهرج بأفريقية. وثار بالمهديّة محمد بن عبد الكريم الركراكي، ودعا لنفسه ونازع ابن غانية والموحدين الأمر، وتسمى صاحب قبة الأديم محمد بن عبد الكريم. ونازل تونس وعاث في قراها سنة ست وتسعين وخمسمائة. ونازل ابن غانية بفاس فامتنع عليه، وكان محمد بن مسعود البلط شيخ رياح من أشياعه فانتقض عليه، وراجع ابن غانية فأتيح له الظهور على محمد بن عبد الكريم وقصده وهو على قفصة فهزمه. واتبعه إلى المهدية فنازله بها. وبعث إلى صاحب تونس في المدد بأسطوله فأمده فضاقت حال ابن عبد الكريم فسأل الأمان من ابن غانية فأمنه. وخرج إليه فتقبض عليه واستولى على المهدية سنة تسع وتسعين وخمسمائة وقتله. وبعث الناصر أسطوله في البحر مع عمه أبي العلى وعساكر الموحّدين مع السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن. ونازلوا ابن عبد الكريم قبل استيلاء ابن غانية عليها، فاعتذر ابن عبد الكريم بأنه حافظ للحصن من العدو، ولا يمكنه إلا لثقة الخليفة. وانصرف السيد أبو الحسن إلى بجاية موضع عمله، وقسم العسكر بينه وبين أخيه السيد أبي زيد صاحب تونس وصلحت الأحوال. ثم إن ابن غانية لما تغلب على المهدية وعلى قراقش الغزيّ صاحب عمل طرابلس، وقد مرت أخباره في أخبار ابن غانية. ثم تغلب على بلاد الجريد، ثم نازل تونس سنة تسع وتسعين وحمسمائة وافتتحها عنوة، وتقبض على السيد أبي زيد، وطالب أهل تونس بالنفقة التي أنفق وبسط عليهم العذاب. وتولى ذلك فيهم كاتبه ابن عصفور حتى هلك في الامتحان كثير من بيوتاتهم. ثم دخل في دعوته أهل بونة وبنزرت وشقبنارية والأربص والقيروان وتبسة وصفاقس وقابس وطرابلس. وانتظمت له أعمال أفريقية وفرق العمال وخطب للعباسي كما ذكرناه في أخباره. ثم ولى على تونس أخاه الغازي، ونهض إلى جبال طرابلس فأغرمهم ألف ألف دينار مكررة مرتين ورجع إلى تونس. واتصل بالناصر كثرة الهرج بأفريقية واستيلاء ابن غانية عليها وحصول السيد أبي زيد في قبضته، فشاور الموحدين في أمره فأشاروا بمسألة ابن غانية. وأشار أبو محمد ابن الشيخ أبي حفص بالنهوض إليها والمدافعة عنها فعمل على رأيه، ونهض من مراكش سنة إحدى وستمائة. وبعث الأسطول فى البحر لنظر أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجي، فبعث ابن غانية ذخيرته وحرمه إلى المهدية مع علي بن الغازي بن محمد بن علي. وانتقض
أهل طرابلس على ابن غانية وأخرجوا عاملهم تاشفين بن الغازي بن محمد بن علي بن غانية. وقصدهم ابن غانية فاقتحمها وخرّبها. ووصل أسطول الناصر إلى تونس فدخلوها وقتلوا من كان بها من أشياع ابن غانية، ونهض الناصر في أتباع ابن غانية فأعجزه ونازل المهدية، وبعث أبا محمد ابن الشيخ أبي حفص للقاء ابن غانية فلقيه بتاجرا فأوقع به وقتل أخاه جبارة. وكاتبه ابن اللمطي وعامله الفتح بن محمد. قال ابن نخيل: وكانت الغنائم من عسكره يومئذ ثمانية عشر ألفاً من أحمال المال والمتاع والخرثى والآلة. ونجا بأهله وولده وأطلق السيد أبو زيد الاعتقال بعد أن هم حرسه بقتله عند الهزيمة. ثم تسلم الناصر المهدية من يد علي بن الغازي المعروف بالحاج الكافي على أن يلحق بابن عمّه فقبل شرطه ومضى لوجهه. ثم رجع من طريقه واختار التوحيد فقبل وناله من الكرامة والتقريب ما لا فوقه. وهلك في يوم العقاب الآتي ذكره. ثم قوض الناصر عن المهدية، واستعمل عليها محمد بن يغمور الهرغي، وعلى طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع، ورجع إلى تونس فأقام إلى سنة ثلاث وستمائة. وسرّح أخاه السيد أبي إسحق في عسكر من الموحدين لأتباع العدو فدوخوا ما وراء طرابلس. واستأصلوا بني دفر ومطماطة وجبال نفوسة وتجاوزها إلى سويقة بني مذكور. وقفل السيد أبو إسحق بهم إلى أخيه الناصر بتونس وقد كمل الفتح. ثم اعتزم على الرحيل إلى المغرب وأجمع رأيه على تولية أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وكان شيخ دولته وصاحب رأيه فامتنع، إلى أن بعث إليه الناصر في ذلك بابنه يوسف فأكبر مجيئه وأناب لذلك على أن يقيم بأفريقية ثلاث سنين خاصة خلاف ما يستحكم صلاحها، وأن يحكم فيمن يقيم معه من العسكر فتقبّل شرطه. ورجع الناصر إلى مراكش فدخلها في ربيع سنة أربع وستمائة، وقدم عبد العزيز بن أبي زيد الهنتاتي على الأشغال بالعدوتين وكان على الوزارة أبو سعيد بن جامع وكان صديقأ لابن عبد العزيز. وعند مرجعه من أفريقية توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن صاحب تلمسان وسجلماسة، والسيد أبو الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن صاحب بجاية، وقد كان أبو الربيع هذا ولي بجاية من قبل وهو الذي جدد الرفيع والبديع من رياضها. وكان بنو حماد شيدوها من قبل فأصابها الخراب وجددها
السيد أبو الربيع. وفي سنة خمس وستمائة بعدها عقد للسيد أبي عمران بن يوسف بن عبد المؤمن على تلمسان، أدال به من السيد الحسن فوصل إلى تلمسان في عساكر الموحدين وتطوف بأقطارها. وزحف إليه ابن غانية هنالك فانفضّ الموحدون وقتل السيد أبو عمران. وارتاع أهل تلمسان وأسرع السيد أبو زكرياء من فاس إليها فسكن نفوسهم خلال ما عقد الناصر لأبي زيد بن يوجان على تلمسان وسرحه في العساكر فنزل بها. وفر ابن غانية إلى مكانه من قاصية أفريقية، ومعه محمد بن مسعود البلط شيخ الزواودة من رياح، وغيره من أعراب رياح وسليم. واعترضهم أبو محمد بن أبي حفص فانكشفوا واستولى الموحدون على محلاتهم وما بأيديهم، ولحقوا بجهات طرابلس. ورجع عنهم سير بن إسحاق آخذاً بدعوة الموحدين. وفي هذه السنة عقد الناصر على جزيرة ميورقة لأبي يحيى بن أبي الحسن بن أبي عمران، أدال به من السيد أبي عبد الله بن أبي حفص، وعقد له على بلنسية، وعقد على مرسية لأبي عمران بن ياسين الهنتاتي، أدال به من أبي الحسن بن واكاك. وعقد للسيد أبي زيد على كورة جيان، أدال به من أبي موسى بن أبي حفص، وعقد للسيد أبي إبراهيم بن يوسف على أشبيلية ولأبي عبد الله بن أبي يحيى ابن الشيخ أبي حفص على غرناطة إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى.
أخباره في الجهاد: لما بلغ الناصر تغلب العدو على كثير من حصون بلنسية أهمه ذلك وأقلقه، وكتب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي حفص يستشيره في الغزو فأبى عليه فخالفه، وخرج من مراكش سنة تسع وستمائة ووصل أشبيلية واستقّر بها واستعد للغزو. ثم خرج من أشبيلية وقصد بلاد ابن أذفونش فافتتح قلعة شلبطرة وأثلج في طريقه. ونازل الطاغية قلعة رباح، وبها يوسف بن قادس وأخذ بمخنقه فصالحه على النزول، ووصل إلى الناصر فقتله وصار على التعبئة إلى الموضع المعروف بالعقاب. وتد استعد له
الطاغية، وجاءه طاغية برشلونة مددا بنفسه فكانت الدبرة على المسلمين. وانكشفوا في يوم بلاء وتمحيص أواخر صفر سنة تسع وستماية. وانكفأ راجعا إلى مراكش فهلك في شعبان من السنة بعدها. وكان ابن أذفونش قد باطن ابن عفه الببوج صاحب ليون في أن يوالي للناصر ويجري الهزيمة على المسلمين ففعل ذلك. ثم رجعوا إلى الأندلس بعد الكائنة للإغارة على بلاد المسلمين، فلقيهم السيد أبو زكرياء بن أبي حفص بن عبد المؤمن قريبا من إشبيلية فهزمهم وانتعش المسلمون بها واتصلت الحال على ذلك.
ثورة ابن الفرس: كان عبد الرحيم بن عبد الرمن بن الفرس من طبقة العلماء بالأندلس ويعرف بالمهر وحضر مجلس المنصور في بعض الأيام وتكلم بها حتى خشي عاقبته في عقده وخرج من المجلس فاختفى مدة ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة وانتحل الإمامة وادعى أنه القحطاني المراد في قوله "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يقود الناس بعصاه يملأها عدلا كما ملئت جورا " إلى آخر الحديث، وكان مما ينسب له من الشعر:
- قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي تأهبوا الوقوع الحادث الجلل
- قد جاء سيد قحطان وعاملها ومنتهى القول والغلاب للدول
- والناس طوعأ عصاه وهو سائقهم بالأمر والنهي بحر العلم والعمل
- وببادروا أمره فالله ناصره والله خاذل أهل الزيغ والميل
فبعث الناصر إليه الجيوش فهزموه، وقتل وسيق رأسه إلى مراكش فنصب بها والله أعلم0
دولة المستنصر بن الناصر
لما هلك محمد الناصر بويع إبنه يوسف سنة إحدى عشرة وستمائة، وهو ابن ست عشرة سنة ولقب المستنصر بالله، وغلب عليه ابن جامع ومشيخة الموحدين فقاموا بأمره. وتأخرت بيعة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص من أفريقية لصغر سن المستنصر. ثم وقعت المحاولة من الوزير ابن جامع وصاحب الأشغال عبد العزيز بن أبي زيد فوصلت بيعته، واشتغل المستنصر عن التدبير بما يقتضيه الشباب، وعقد للسادة على عمالات ملكه: فعقد للسيد أبي إبراهيم أخي المنصور، وتلقب بالظاهر، على فاس، وهو أبو المرتضى. وعقد على أشبيلية لعمه السيد أبي إسحاق الأحول. واستولى ألفنش على المعاقل التي أخذها الموحدون، وهزم حامية الأندلس، ووفد رسوله ابن الفخار فحاوله ابن جامع في السلم فعقده. ثم صرف ابن جامع عن الوزارة بعد مهلك ابن أبي زيد بسعاية أبي زيد بن يوجان، واستوزر أبا يحيى الهزرجي، وولى على الأشغال أبا علي بن أشرفي. ثم رضي عن ابن جامع وأعاده، وعزل أبا زيد بن يوجان من ولاية تلمسان بأبي سعيد بن المنصور، وبعثه إلى مرسية فاعتقل بها. واستمرت أيام المستنصر في هدنة وموادعة إلى أن ظهر بنو مرين بجهات فاس سنة ثلاث عشرة وستمائة، فخرج إليهم واليها السيد أبو إبراهيم في جموع الموحدين فهزموه وأسروه. ثم عرفوه وأطلقوه، ثم وصل الخبر بمهلك أبي محمد بن أبي حفص صاحب أفريقية فولى عليها السيد أبا العلى أخا المنصور، وكان والياً بأشبيلية فعزل. وولى على أفريقية بسعاية ابن مثنى خاصة السلطان، فتوجه إليها كما نذكر في أخبار بني أبي حفص. وخرج بناحية فاس رجل من العبيديين انتسب للعاضد، وتسمى بالمهدي، فبعث السيد أبو إبراهيم أخو المنصور والي فاس إلى شيعته وبذل لهم المال فتقبضوا عليه، وساقوه إليه فقتل. وفي سنة تسع عشرة وستمائة عقد المستنصر لعمه أبي محمد المعروف بالعادل على مرسية، وعزله عن غرناطة. وهلك سنة عشرين وستمائة وقد التاثت الأمور فكان ما نذكر، والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة المخلوع أفي المنصور:
لما هلك المستنصر في الأضحى من سنة عشرين وستمائة اجتمع ابن جامع والموحدون وبايعوا للسيد أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور، فقام بالأمر وأمر بمطالبة ابن أشرفي بالمال. وكتب لأخيه أبي العلى بتجديد الولاية على أفريقية بعد أن كان المستنصر أوعز بعزله، فأدركته الولاية ميتأ فاستبد بها ابنه أبو زيد المشفر كما نذكره في أخبار أفريقية. وأنفذ المخلوع أمره بإطلاق ابن يوجان فأطلق. ثم صده ابن جامع عن ذلك وأنفذ أخاه أبا إسحق في الأسطول ليغربه إلى ميورقة كما كان المستنصر أنفذ قبل وفاته. وكان الوالي بمرسية أبو محمد عبد الله بن المنصور فأغراه ابن يوجان بالتوثب على الأمر، وشهد له أنه سمع من المنصور العهد له بالخلافة من بعد الناصر. وكان الناس على كره ابن جامع. وولاة الأندلس كلهم بنو المنصور فأصغى إليه، وكان متردداً في بيعة عمه فدعا لنفسه وتسمى بالعادل. وكان إخوته أبو العلى صاحب قرطبة وأبو الحسن صاحب غرناطة وأبو موسى صاحب مالقة، فبايعوه سراً.
وكان أبو محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي صاحب جيان، وعزله المخلوع بعمه أبي الربيع بن أبي حفص، فانتقض وبايع للعادل. وزحف مع أبي العلى صاحب قرطبة وهو أخو العادل إلى أشبيلية، وبها عبد العزيز أخو المنصور والمخلوع فدخل في دعوتهم. وامتنع السيد أبو زيد بن أبي عبد الله أخي البياسي عن بيعة العادل، وتمسك بطاعة المخلوع. وخرج العادل من مرسية إلى أشبيلية فدخلها مع أبي زيد بن يوجان، وبلغ الخبر إلى مراكش فاختلف الموحدون على المخلوع، وبادروا بعزل ابن جامع وتغريبه إلى هسكورة. وقام بأمر هنتاتة أبو زكرياء يحيى بن أبي يحيى الشهيد ابن أبي حفص، وبأمر تينملل يوسف بن علي، وبعث على أسطول البحر أبا إسحق بن جامع وأنفذه لمنع الجواز من الزقاق. وكان أسر إلى ابن جامع حين خرج إلى هسكورة أن يحاول عليه من هنالك فلم يتم أمره، وقتل بمكان خفي ربيع سنة إحدى وعشرين وستمائة، وبعث الموحدون بيعتهم إلى العادل والله أعلم.
الخبر عن دولة العادل بن المنصور:
لمّا بلغت بيعة الموحدين للعادل وكتاب ابن زكريا بن الشيهد بقصة المخلوع،
قارن ذلك تغييره للبيّاسي فانتقض عليه، ودعا لنفسه ببيّاسة، وتلقب الظافر وشغل بشأنه. وبعث أخاه أبا العلى لحصاره فامتنع عليه، وبعث بعده إبنه أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص فامتنع عليه أيضاً. واختلفت الأحوال بالأندلس على العادل. وكثرت إغارة النصارى على أشبيلية ومرسية، وهو مقيم بها. وانهزمت جيوش الموحدين على طليطلة، وأغراه خاصته بابن يوجان فأخذ إلى سبتة. وعظم أمر البياسي بالأندلس وظاهره النصارى على شأنه، فأجاز العادل إلى العدوة وولى أخاه أبا العلى على الأندلس. ولما كان بقصر المجاز دخل عليه عبّو بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص فقال له كيف حالك؟ فأنشد:
حال متى علم ابن منصور بها جاء الزمان إليه منها تائبا فاستحسن ذلك وولاه أفريقية. وكتب للسيد أبي زيد ابن عمه بالقدوم، ووصل إلى سلا وأقام بها. وبعث عن شيوخ جشم، وكان لابن يوجان عناية واختصاص يهلال بن حميدان بن مقدم أمير الخلط، فتثاقل ابن جرمون أمير سفيان عن الوصول، وأقبل الخلط وسفيان، وبادر العادل إلى مراكش فدخلها واستوزر أبا زيد بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، وتغير لابن يوجان ففسد باطنه. وتغلب على الدولة ابن الشهيد، ويوسف بن علي شيخا هنتاتة وتينملل. ثم خالفت هسكورة والخلط وعاثوا في نواحي مراكش، وخرج إليهم ابن يوجان فلم يغن شيئاً، فخربوا بلاد دكالة، فأنفذ إليهم العادل عسكراً من الموحدين لنظر إبراهيم بن إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص، وهو الذي كان نازع أولاد الشيخ أبي محمد بأفريقية كما نذكره فانهزم وقتل. وخرج ابن الشهيد ويوسف بن علي إلى قبائلهما للحشد ومدافعة هسكورة، فاتفقا على خلع العادل والبيعة ليحيى بن الناصر، وقصدوا مراكش فاقتحموا عليه القصر ونهبوه، وقتل العادل خنقاً أيام الفطر سنة أربع وعشرين وستمائة والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة المأمون بن المنصور ومزاحمة يحيي بن الناصر له: كان المأمون لما بلغه انتقاض الموحدين والعرب على أخيه وتلاشي أمره دعا لنفسه بأشبيلية، فبويع وأجابه أكثر أهل الأندلس. وبايع له السيد أبو زيد صاحب بلنسية وشرق الأندلس. ثم كان ما قدمناه من انتقاض الموحدين على العادل وقتله بالقصر وبيعتهم ليحيى ابن أخيه الناصر، فكاتب ابن يوجان سراً وعمل على إفساد الدولة، فداخل هسكورة والعرب في الغارة على مراكش وهزموا عساكر الموحدين. وفطن ابن الشهيد لتدبير ابن يوجان فقتله بداره. وخرج يحيى بن الناصر إلى معتصمه كما ذكرناه فخلع الموحدون العادل وبعثوا ببيعتهم إلى المأمون. وتولى كبر ذلك الحسن أبو عبد الله الغريغر والسيد أبوحفص بن أبي حفص فبلغ خبرهم إلى يحيى بن الناصر وابن الشهيد، فنزلوا إلى ماركش سنة ست وعشرين وستمائة وقتلوهم. وبايع للمأمون صاحب فاس وصاحب تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان وصاحب سبتة أبو موسى بن المنصور وصاحب بجاية ابن أخيه ابن الأطاس. وامتنع صاحب أفريقية وكان ذلك سبباً لاستبداد الأمير أبي زكريا على ما نذكر. ولم يبق على دعوة يحيى بن الناصر إلا أفريقية وسجلماسة. وزحف البياسي إلى قرطبة فملكها، ثم زحف إلى أشبيلية فنازل بها المأمون والطاغية معه، بعد أن نزل له عن قجاطة وغيرها من حصون المسلمين فهزمهم المأمون بنواحي أشبيلية ولحق البيّاسي بقرطبة فثاروا به، ونجا إلى حصن المدور، فغدر به وزيره أبو يبورك. وجاء برأسه إلى المأمون بأشبيلية. ثم ثار محمد بن يوسف بن هود وملك مرسية، واستولى على الكثير من شرق الأندلس كما ذكرناه في أخباره. وزحف إليه المأمون وحاصره فامتنع عليه فرجع إلى أشبيلية، ثم خرج سنة ست وعشرين وستمائة
إلى مراكش لما استدعاه أهل المغرب، وبعثوا إليه بيعاتهم. وبعث إليه هلال بن حميدان أمير الخلط يستدعيه. واستمد الطاغية عسكراً من النصارى فأمده على شروط تقبلها منه المأمون، وأجاز إلى العدوة. وبادر أهل أشبيلية بالبيعة لابن هود، واعترضه يحيى بن الناصر فهزمه المأمون واستلحم من كان معه من الموحدين والعرب، ولحق يحيى بجبل هنتاتة. ثم دخل المأمون الحضرة، وأحضر مشيخة الموحدين وعدد عليهم فعلاتهم، وتقبض على مائة من أعيانهم فقتلهم، وأصدر كتابه إلى البلدان بمحو إسم المهدي من السكّة والخطبة، والنعي عليه في النداء للصلاة باللغة البربرية، وزيادة النداء لطلوع الفجر وهو: "أصبح ولله الحمد" وغير ذلك من السنن التي اختص بها المهدي وعبد المؤمن، وجرى على سننها أبناؤه. فأوعز بالنهي عن ذلك كله. وشنع عليهم في وصفهم الإمام المهدي بالمعصوم، وأعاد في ذلك وأبدى.
وأذن للنصارى القادمين معه في بناء الكنيسة بمراكش على شرطهم، فضربوا بها نواقيسهم. واستولى ابن هود بعده على الأندلس، وأخرج منها سائر الموحدين، وقتلهم العامة في كل مطر. وقتل السيد أبو الربيع ابن أخي المنصور كان المأمون تركه والياً بقرطبة. واستبد الأمير أبو زكريا ابن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بأفريقية، وخلع طاعته سنة سبع وعشرين وستمائة فعقد للسيد أبي عمران ابن عمه محمد الحرضاني على بجاية مع أبي عبد الله اللحياني أخي الأمير أبي زكريا. وزحف إليه يحيى بن الناصر فانهزم، ثم ثانية كذلك، واستلحم من كان معه، ونصبت رؤوسهم بأسوار الحضرة. ولحق يحيى بن الناصر ببلاد درعة وسجلماسة. ثم انتقض على المأمون أخوه أبو موسى ودعا لنفسه بسبتة وتسمى بالمؤيد، فخرج المأمون من مراكش وبلغه في طريقه أن قبائل بني فازاز ومكلاتة حاصروا مكناسة وعاثوا في نواحيها فسار إليها وحسم عاملها واستمر إلى سبتة فحاصرها ثلاثة أشهر، واستمد أخوه أبو موسى صاحب الأندلس ابن هود فأمده بأساطيله. وخالد يحيى بن الناصر المأمون إلى الحضرة فاقتحمها مع عرب سفيان وشيخهم
جرمون بن عيسى، ومعهم أبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة وعاثوا فيها فأقلع المأمون عن سبتة يريد الحضرة، وهلك في طريقه بوادي أم ربيع مفتتح سنة ثلاثين وستمائة، ولحين إقلاعه دخل أخوه السيد أبو موسى في طاعة ابن هود، وأمكنه من سبتة فأداله منها والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة الرشيد بن المأمون: لما هلك المأمون بويع ابنه عبد الواحد ولقب بالرشيد، وكتموا موت أبيه وأغذوا السير إلى مراكش، ولقيهم يحيى بن الناصر في طريقهم بعد أن استخلف بمراكش أبا سعيد بن وانودين فهزموه، وقتل أكثر من معه. وصبح الرشيد مراكش فامتنعوا عليه ساعة، ثم خرجوا إليه واستقاموا على بيعته. وكان وصل في صحبته عمه السيد أبو محمد سعد فحل من الدولة بمكان، وكان إليه التدبير والحل والعقد. وبعد استقرار الرشيد بالحضرة وصل إليه عمر بن وقاريط كبير الهساكرة بمن كان عنده من أولاد المأمون السيد وإخوته جاؤا من أشبيلية عند ثورة أهلها بهم، واستقروا بسبتة عند عمهم أبي موسى، ومنها إلى الحضرة عند استيلاء ابن هود على سبتة ومروا بهسكورة، وكان ابن وقاريط حذراً من المأمون ومعتقدأ أن لا يعود إليه فتذمم بصحابة هؤلاء الولد، وقدم عليالرشيد فتقبله، واعتلق بوصلة من السيد أبي محمد سعد وصحابة لمسعود بن حميدان كبير الخلط. ولما هلك السيد أبو محمد لحق ابن وقاريط بقومه ومعتصمه وكشف وجه الخلاف، وأخذ بدعوة يحيى بن الناصر، واستنفر له قبائل الموحدين ونهض إليهم الرشيد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، واستخلف على الحضرة صهره أبا العلى إدريس وصعد إليهم الجبل، فأوقع بيحيى وجموعه بمكانهم من هزرجة واستولى على معسكرهم. ولحق يحيى بسجلماسة، وانكفأ الرشيد راجعاً إلى حضرته، واستأمن له كثير من الموحدين الذين كانوا مع يحيى بن الناصر فأمنهم ولحقوا بحضرته. وكان كبيرهم أبو عثمان سعيد بن زكريا الكدميوي، وجاء الباقون على أثره وبسعيه بعد أن شرطوا عليه
إعادة ما كان أزاله المأمون من رسوم المهدي فاعيدت. وقدم فيهم أبو بكر بن يعزى التينمللي رسولأ عن يوسف بن علي بن يوسف شيخ تينملل، ومحمد بن يوزيكن الهنتاني رسولأ عن أبي علي بن عزوز، ورجعا إلى مرسليهما بالقبول، فقدما على الحضرة وقدم معهم موسى بن الناصر أخو يحيى وكبيره. وجاء على أثرهم أبو محمد بن أبي زكريا وأنسوا لإعادة رسوم الدعوة المهدية.
وكان مسعود بن حميدان الخلطي قد أغراه عمر بن وقاريط بالخلاف لصحبة بينهما، وكان مدلًا ببأسه وكثرة جموعه. يقال إن الخلط كانوا يومئذ يناهزون إثني عشر ألفاً سوى الرجّل والأتباع والحشود، فمرض في الطاعة وتثاقل عن الوفادة. ولما علم بمقام الموحدين أجمع اعتراضهم وقتلهم تمكينأ للفرقة والشتات في الدولة، فأعمل الرشيد الحيلة في استدعائه، وصرف عساكره إلى حاجة لنظر وزيره السيد أبي محمد، حتى خلا لابن حميدان الحو، وذهب عنه الريب، واستقدمه فأسرع اللحاق بالحضرة، وقدم معه معاوية عم عمر بن وقاريط، فتقبض عليه وقتل لحينه. واستدعى مسعود بن حميدان إلى المجلس الخلافي للحديث فتقبض عليه وعلى أصحابه وقتلوا ساعتئذ بعد جولة وهيعة، وقضى الرشيد حاجة نفسه فيهم. واستقدم وزيره وعساكره من باجة فقدموا ولما بلغ خبر مقتلهم إلى قومهم قدموا عليهم يحيى بن هلال بن جميدان، وأجلبوا على سائر النواحي، وأخذوا بدعوة يحيى واستقدموه من مكانه بقاصية الصحراء. وداخلهم في ذلك عمر بن وقاريط، وزحفوا لحصار الحضرة، وخرجت العساكر لقتالهم ومعهم عبد الصمد بن يلولان فرجع ابن وقاريط في جموعه من العساكر فانهزموا، وأحيط بجند النصارى فقتلوا وتفاقم الأمر بالحضرة، وعدمت الأقوات. واعتزم الرشيد على الخروج إلى جبال الموحّدين فخرج إليها. وسار منها إلى سجلماسة فملكها، واشتد الحصار على مراكش وافتتحها يحيى بن الناصر وقومه من هسكورة والخلط، وساء أثرهم فيها وتغيرت أحوال الخلافة. وتغلب على السلطان السيد
أبو إبراهيم بن أبي حفص الملقب بأبي حاقة. وفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة خرج الرشيد من سجلماسة بقصد مراكش وخاطب جرمون بن عيسى وقومه من سفيان، فأجاز وادي أم ربيع وبرز إليه يحيى في جموعه، والتقى الفريقان فانهزمت جموع يحيى واستحر القتل فيهم، ودخل الرشيد إلى الحضرة ظافراً.
وأشار يحيى بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ بابن هود صاحب الأندلس، والأخذ بدعوته فنكثوا بيعة يحيى، وبعثوا وفدهم إلى ابن هود صحبة عمر بن وقاريط على الخلط بالاستصراخ فاستقّر هنالك. وخرج الرشيد من مراكش وفر الخلط أمامه، وسار إلى فاس وسرح وزيره السيد أبا محمد إلى غمارة وفازاز لجباية أموالها. وكان يحيى بن الناصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب المعقل فأجاوره ووعدوه النصرة، واشتطّوا عليه في المطالب، وأسف بعضهم بالمنع فاغتاله في جهات تازى، وسيق رأسه إلى الرشيد بفاس فبعثه إلى مراكش وأوعز إلى نائبه بها أبي علي بن عبد العزيز بقتل العرب الذين كانوا في اعتقاله وهم: حسن بن زيد شيخ العاصم، وفائد وفائد إبنا عامر شيخا بني جابر، فقتلهم وانكفأ راجعاً إلى حضرته سنة أربع وثلاثين وستمائة. وبلغه استيلاء صاحب درعة أبي محمد بن وانودين على سجلماسة، وذلك أن الرشيد لما فصل من سجلماسة استخلف عليها يوسف بن علي بن يوسف التينمللي فاستعمل ابن خالته من بني مردنيش، وهو يحيى بن أرقم بن محمد بن مردنيش، فثار عليه ثائر من صنهاجة وقتله في خبائه. وقام إبنه أرقم يطلب الثأر، وبلغ منه ما أراد. ثم حدثته نفسه بالانتقاض خوفاً من عزلة الرشيد إياه فانتقض. ونهض إليه الرشيد سنة إثنتين وثلاثين وستمائة فلم يزل أبو محمد بن وانودين يعمل الحيلة في استخلاصها حتى تمكن منها وعفاً عن أرقم. وكان ابن وقاريط لما فصل إلى ابن هود سنة أربع وثلاثين وستمائة ركب البحر في أسطول ابن هود، وقصد سلا وبها السيد أبو العلى صهر الرشيد، فكاد أن يغلب عليها. وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة بايع أهل أشبيلية للرشيد، ونقضوا طاعة ابن هود، وتولى كبر ذلك أبو عمر بن الجد وأشخص بني حجاج إلى سبتة، ووصل وفدهم إلى الحضرة ومروا في طريقهم بسبتة، فاقتدى أهلها بهم في بيعة الرشيد. وخلعوا أميرهم اليانشي الثائر بها
على ابن هود وقدموا على الحضرة. وولى عليهم الرشيد أبا علي بن خلاص منهم. ولأيام من مقدمهم وصل عمر بن وقاريط معتقلاً من
أشبيلية، أغراهم بالقبض عليه القاضي أبو عبد الله المؤمناني، كان توجه رسولأ إلى ابن هود عن الرشيد، فأمكنهم من ابن وقاريط. وبعثه إلى الرشيد في وفد من رسله فاعتقله بأزمور وقتل وصلب برباط هسكورة، بعد أن طيف به على جمل. وانصرف وفد أشبيلية وسبتة، واستقدم الرشيد رؤساء الخلط فتقبض عليهم وبعث عساكره فاستباحوا حللهم وأحياءهم. ثم أمر بقتل مشيختهم وقتل معهم ابن وقاريط، وقطع دابرهم. وفي سنة ست وثلاثين ووستمائة وصلت بيعة محمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر الثائر بالأندلس على ابن هود. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة اشتدت الفتنة بالمغرب، وانتشر بنو مرين في بسائطه، وقاتلهم رياح بازغار وشيخهم عثمان بن نصر، فهزمهم بنو مرين وقتلوهم قتلاً ذريعاً. وكان الرشيد استقدم أبا محمد بن وانودين من سجلماسة سنة خمس وثلاثين وستمائة، وعقد له على فاس وسجلماسة وغمارة ونواحيها من أرض المغرب، فكان هنالك. ولما انتشر بنو مرين بالمغرب زحف إليهم فهزموه، ثم زحف ثانية وثالثة فهزموه وأقام في محاربتهم سنتين، ورجع إلى الحضرة. واشتد عدوان بني مرين بالمغرب وألحوا على مكناسة حتى أعطوا الأتاوة لبني حمامة منهم فأسفوا بني عسكر بذلك، واتصل عيثهم في نواحيها. وفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة قتل الرشيد كاتبه ابن المؤمناني لمداخلة له مع بعض السادة وهو عمر ابن عبد العزيز أخي المنصور، وقف على كتابه إليه بخطه. وغلظ الرسول بها فدفعها بدار الخليفة. وفي سنة أربعين وستمائة بعدها كانت وفاة الرشيد غريقاً، زعموا في بعض حوائز القصر. ويقال إنه أخرج من الماء وحم لوقته وكان فيها مهلكه، والله تعالى أعلم
الخبر عن دولة السعيد المأمون
لما هلك الرشيد بويع أخوه أبو الحسن السعيد بتعيين أبي محمد بن وانودين وتلقب المعتضد بالله. واستوزر السيد أبا إسحاق بن السيد أبي إبراهيم ويحيى بن عطوش.
وتقبض على جملة من مشيخة الموحدين، واستصفى أموالهم واستخلص لنفسه رؤساء العرب من جشم. واستظهر بجموعهم على أمره وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون كبير مجلسه، ولأول بيعته انتقض عليه أبو علي بن خلاط البلنسي صاحب سبتة، وكذلك أهل أشبيلية وبايعوا جميعاً للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية.
ثم انتقض عليه بسجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي لمقالة كانت منه يوم بيعة الرشيد أسرها له فبايع للأمير أبي زكريا. ثم وصلته في هذه السنة هدية يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان فنهض الأمير أبو زكريا صاحب أفريقية بسبب ذلك إلى تلمسان، واستولى عليها. ثم عقد عليها ليغمراسن حسبما نذكر في أخباره. وخرج السعيد من مراكش لتمهيد بلاد المغرب سنة إثنتين وأربعين وستمائةوتغير لسعيد بن زكريا الكدميوي فتقبض عليه في معسكره بتانسفت وفر أخوه أبو زيد ومعه أبو سعيد العود الرطب، ولحقوا بسجلماسة فاستصفى أموالهم بمراكش، وارتحل بقصد سجلماسة وأخذ واليها عبد الله الهزرجي في أسباب الامتناع، فغدر به أبو زيد بن زكريا الكدميوي وداخل أهل سجلماسة في الثورة عليه، وملك البلد. واستدعى السعيد لها فوصل وقتل الهزرجي. وفر أبو سعيد العود الرطب إلى تونس. ثم رجع السعيد إلى المغرب وقتل سعيد بن زكريا، ونزل المقرمدة من أحواز فاس. وعقد المهادنة مع بني مرين، وقفل إلى مراكش فتقبض على أبي محمد بن وانودين، واعتقله بأزمور. واعتقل معه يحيى بن مزاحم ويحيى بن عطوش لنظر ابن ماكسن، فأعمل الحيلة في الفرار من معتقله. وخلص ليلاً إلى كانون بن جرمون فأركبه وبعث معه من عرب سفيان من أوصله إلى قومه هنتاتة. وراسله السعيد على أثرها وسكنه واعتذر له، وأسعفه بسكنى تافيوت من حصون جبلة بأهله وولده.
ثم انتقض على السعيد كانون بن جرمون وسفيان، وخالفهم إليه بنو جابر والخلط، وخرج من مراكش واستوزر السيد أبا إسحق بن السيد أبي إبراهيم إسحق أخي المنصور. واستخلف أخاه أبا زيد على مراكش، وأخاهما أبا حفص عمر على سلا وفصل من مراكش سنة. وجمع له أبو يحيى بن عبد الحق جموع بني
راشد وبني وراو سفيان، حتى إذا تراءى الفريقان للقاء، خالف كانون بن جرمون الموحّدين إلى أزمور. واستولى عليها ورجع السعيد أدراجه في أتباعه، ففرّ كانون، واعترضه السعيد فأوقع به، واستلحم كثيراً من سفيان قومه، واستولى على ما له من مال وماشية. ولحق كانون في فلّ بني مَرين ورجع السعيد إلى الحضرة. وفي سنة ثلاث وأربعين وستمائةثارت العامة بمكناسة على واليها من قبل السعيد فقتلوه. وحذر مشيختها من سطوته فحوَّلوا الدعوة إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حَفْص صاحب أفريقية، وبعثوا إليه بيعتهم، وكانت من إنشاء أبي مطرف بن عميرة، وذلك بمداخلة أبي يحيى بن عبد الحق أمير بني مَرين ووفاقه لهم على ذلك. وشارطوا أبا يحيى بن عبد الحق بمال دفعوه إليه على الحماية.
ثم راجعوا أمرهم وأوفدوا صلحاءهم ببيعتهم فرضي عنهم السعيد ورضوا عنه. وفي هذه السنة بعث أهل إشبيلية وأهل سبتة بطاعتهم للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية. وبعث ابن خلاص بهديته مع ابنه في أسطول أنشأه لذلك فغرق عند إقلاعه من المرسى. وفي سنة ست وأربعين وستمائةكان استيلاء الطاغية على إشبيلية لسبع وعشرين من رمضان. ولمّا بلغ السيّد بيعة أهل إشبيلية وسبتة للأمير أبي زكريا إلى ما كان من تغلّبه على تلمسان، وأخذ يغمراسن بدعوته، ثم ما كان من بيعة أهل مكناسة وأهل سجلماسة له أعمل نظره في الحركة إلى تلمسان ثم إلى أفريقية. وخرج من مراكش في ذي الحجّة في سنة خمس وأربعين وستمائةووافاه كانون بن جرمون فعاود الطاعة واستحشد سفيان وجاء في جملة السعيد مع سائر القبائل من جَشْم. ولمّا احتلّ السعيد بتازى وافاه وفد بني مَرين عن أميرهم أبى يحيى بن عبد الحق، فأعطوه الطاعة وبعثوا معه عسكراً من قومهم مدداً له. ثم سار السعيد إلى تلمسان فكان مهلكه بتامْزَرْدكْت على يد بني عبد الواد في صفر سنة ست وأربعين وستمائةحسبما يشرح في أخبارهم. ويقال إنّ ذلك كان بمداخلة من الخلط فاستولوا على المحلة وقتلوا عدوّهم كانون، وانفضّ العسكر إلى المغرب وقد اجتمعوا إلى عبد الله بن السعيد واعترضهم بنو مَرين بجهات تازى، فقتلوا عبد الله بن السعيد ولحق الفلّ بمراكش فبايعوا للمرتضى كماَ نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن دولة المرتض ابن أخي المنصور:
لما لحق فلّ العسكر بعد مهلك السعيد بمراكش، اجتمع الموحّدون على بيعة السيد أبي حفص عمر بن السيد أبي إبراهيم إسحق أخي المنصور، واستقدموه لها من سلا، فلقيه وافدهم بتَامِسنا من طريقه ومعه أشياخ العرب فبايعوه وتلقّب المرتضى. وعقد ليعقوب بن كانون على بني جابر ولعمّه يعقوب بن جرمون على عرب سفيان بعدأ ن كان قومه قدّموه عليهم، ودخل الحضرة فاستوزر أبا محمد بن يونس وتقبّض علي حاشية السعيد، ثم وصل أخوه السيد أبو إسحق من الفلّ آخذاً على طريق سجلماسة فاستوزره واستبدّ عليه واستولى أبو يحيى بن عبد الحق وبنو مَرين إثر مهلك السعيد على رباط تازى من يد السيد أبي علي أخي أبي دبّوس وأخرجوه فلحق بمراكش. ثم استولوا بعدها على مدينة فاس سنة سبع وأربعين وستمائة كما يذكر في أخبارهم بعد. وفي هذه السنة ثار بسبتة أبو القاسم العزفي وأخرج ابن الشهيد الوالي على سبته من قرابة الأمير أبي زكريّا صاحب أفريقية، وحوّل الدعوة للمرتضى حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية وأخبار بني العزفي. وفي سنة تسع وأربعين وستمائة وفد على المرتضى موسى بن زيّان الونكاسي وأخوه على من قبائل بني مَرين وأغروه بقتال بني عبد الحق فخرج إليهم ولما انتهى إلى أمان يملولن أشاع يعقوب بن جرمون قضية الصلح بينهما فأصبحوا راحلين، وقد استولى الجزع على قلوبهم فانفضّوا ووقعت الهزيمة من غير قتال. ووصل المرتضى إلى الحضرة فعزل أبا محمد بن يونس عن الوزارة لشئ بلغه عنه، وأسكنه بحملتة مع حاشيته، وفر من حملته عليّ بن بدر إلى السوس سنة إحدى وخمسين وستمائة، وجاهر بالعناد. وسرّح إليه السلطان عسكراً من الجند فرجعوا عنه ولم يظفروا به. وتقاقم أمره عنة إثنين وخمسين وستمائة. وجمع أعراب الشبانات وبني حسان وحمل أموال ونازل تارودنت . فحاصر من كان بها. وسرح المرتضى إليه عسكراً من الموحدين فأفرج عنها. ثم رجع قفولهم إلى حاله، وعثر على خطابه لقريبة ابن يونس وكتاب ابن يونس إليه بخطه، فاعتقل هو
وأولاده ثم قتل. وفي هذه السنة استدعى مشيخة الخلط إلى الحضرة وقتلوا لما كان منهم في مهلك السعيد.. وفيها خرج أبو الحسن بن يعلو في معسكر من الموحدين إلى تامستا ليكشف أحوال العرب، ومعه يعقوب بن جرمون، وعهد إليه المرتضى بالقبض على يعقوب بن محمد بن قيطون شيخ بني جابر، فتقبّض عليه وعلى وزيره ابن مسلم وطير بهما إلى الحضرة معتقلين. وفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة خرج المرتضى من مراكش لاسترجاع فاس ونواحيها من أيدى بني مرين المتغلّبين عليها فوصل إلى بني بهلول، وزحف إليه بنو مرين وأميرهم أبو يحيي فكانت الهزيمة على الموحدين بذلك الموضع. ورجع المرتضى مفلولاً إلى مراكش، ووادع بني مرين من بعد ذلك سائرأ أيامه. واستبد العزفي بسبتة، وابن الأمير ...بطنجة كما نذكره في أخبارهم. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة بعث المرتضى إلى السوس عسكراً من الموحدين لنظر أبى محمد بن أصناك فلقيهم عليّ بن بدر وهزمهم واستبد بأمره في السوس. وفي هذه السنة استولى أبو يحيى بن عبد الحق على سجلماسة، وتقبّض على واليها عبد الحق بن أصكو بمداخلة من خديم له يعرف بمحمد القطراني، كان أبوه تاجراً في القطران بنواحي سلا، فصرف عبد الحق ابنه محمداً هذا في مهمة وقربه من بين أهل خدمته، وحدثته نفسه بالثورة فاستمال عرب المعقل أولاً بالمشاركة في حاجتهم عند مخدومه، والإحسان إليهم حتى اشتملوا عليه. ثم داخل أبا يحيى بن عبد الحق في تمكينه من البلد فجاء بجملته، وقدم وفده إلى البلد رسلاً في بعض الحديث فتقبّض محمد القطراني على عبد الحق بن أصكو وأخرجه إلى أبي يحيى بن عبد الحق، فقاده وسرحه إلى مراكش. وكان القطراني شرط على أبي يحيى أن يكون والي سجلماسة فأمضى له شرطه، وأنزل معه بها من رجالات بني مرين، حتى إذا هلك أبو يحيى بن عبد الحق أخرجهم محمد القطراني واستبد بأمر سجلماسة، وراجع دعوة المرتضى واعتذر إليه، واشترط عليه الاستبداد فأمضى له شرطه إلاّ في الأحكام الشرعية.
وبعث أبا عمر بن حجاج قاضياً من الحضرة، وبعفى السادات للسكنى في القصبة، وقائداً من النصارى بعسكر للحماية، فعمل ابن حجاج الحيلة في قتل القطراني وتولاّه قائد النصارى. واستبد السيد بأمر سجلماسة بدعوة المرتضى، واستفحل أمر بني مرين أثناء ذلك. ونزل يعقوب بن عبد الحق بسائط تامستا فسرّح إليهم المرتضى عسكر الموحدين لنظر يحيى بن وانودين فأجفلوا إلى وادي أمّ ربيع، واتبعهم الموحدون فرجعوا إليهم، وغدر بهم بنو جابر فانهزم الموحدون بأمر الرجلين. ولحق شيخ الخلط علي بن أبي علي ببني مرين وارتحلوا إلى أوطانهم.
وكان المرتضى قدم يعقوب بن جرمون على قبائل سفيان وكان يعقوب ابن أخيه كانون يناهضه في رياسة قومه، وغصّ به فقتله. وثار به أخواه مسعود، وعليّ بفدفد حين فقتلاه. وولّى المرتضى مكانه ابنه عبد الرحمن، فاستوزر يوسف بن وارزك ويعقوب بن علوان. وشغل بلذّاته وتصدّى لقطع السابلة ثم نكث الطاعة ولحق ببني مرين فولّى مكانه عمّه عبيد الله بن جرمون ويكنّى بأبي زمام. وعقد له المرتضى، ثم أدال منه بأخيه مسعود لعجزه. ووفد على المرتضى عواج بن هلال من أمراء الخلط نازعاً إلى طاعته ومفارقاً لبني مرين، فأنزل مع أصحابه بمراكش وجاء على أثره عبد الرحمن بن يعقوب بن جرمون فتقبض على عواج ودفعه إلى علي بن أبي علي فقتله، وكان تقبض معه على عبد الرحمن بن يعقوب ووزيريه فقتلوا جميعاً واستبد برياسة سفيان مسعود بن كانون وبرياسة بني جابر إسماعيل بن يعقوب بن قيطون.
وفي سنة ستين وستمائة عند رجوع يحيّى بن وانودين من واقعة أمّ الرجلين خرج عسكرمن الموحدين إلى السوس لنظر محمد بن علي الزلماط. ولقبه علي بن يدر فهزم جموعه وقتله، وعقد المرتضى من بعده على حرب علي بن يدر للوزير أبي زيد بن بكيت، وسرّح معه عسكراً من الجند، وكان فيهم دنلب من زعماء النصرانية، فدارت الحرب بين الفريقين، ولم يكن للموحدين فيها ظهور على كثرتهم وقوة جلدهم وحسن بلائهم، قعد بهم عن ذلك تكاسل دنلب وخروجه عن طاعة
الوزير. وكتب بذلك للمرتضى فاستقدمه، وأمر أبا زيد بن يحيى الكدميوي باعتراضه في طريقه وقتله. وفي سنة إثنتين وستين وستمائة أقبل يعقوب بن عبد الحق في جموع بني مرين فنازلوا مراكش واتصلت الحرب بينهم وبين الموحدين بظاهرها أياماً هلك فيها عبد الله أنعجوب بن يعقوب، فبعث المرتضى إلى أبيه بالتعزية ولاطفه وضرب له أتاوة يبعث بها إليه في كل عام فرضي وارتحل عنهم والله أعلم. الخبر عن انتقاض أبي دبوس وتغلبه عفي مراكش ومهلك المرتضي وما كان في دولته من الأحداث: لما ارتحل بنو مرين عن مراكش بعد مهلك أنعجوب فرّ من الحضرة قائد حروبه السيد أبو العلى الملّقب بأبي دبوس بن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن لسعاية تمكّنت فيه عند المرتضى، وصحبه ابن عمه السيّد أبو موسى عمران بن عبد الله بن الخليفة، فلحقا بمسعود بن كلداسن كبير هسكورة فأجاره. ثم لحق بيعقوب بن عبد الحق بفاس صريخاً به على شأنه واشترط له المقاسمة في العمالة والذخيرة فأمده بالمال، يقال خمسة آلاف دينار عشرية. وأوعز إلى علي بن أبي عليّ الخلطي بمظاهرته وإعطاه الآلات. ورجع إلى علي بن أبي علي الخلطي فأمدّ بقومه. ثم سار إلى هسكورة ونزل على صاحبه مسعود بن كلداسن فأطاعه قبائل هسكورة وهزرجة. وبعث إليه عزوز بن يبورك كبير صنهاجة في ناحية أزمور، وكان منحرفاً عن طاعة المرتضى إلى جملة يعقوب بن عبد الحق، ووفد عليه جماعة من السادة والموحدين والجند والنصارى. وارتاب المرتضى بمسعود بن كانون شيخ سفيان وبإسمعيل بن نبطون شيخ بني جابر فتقبض عليهما واعتقلهما، وصار الكثير من قومهما إلى أبي دبوس. وتتل إسمعيل بن قيطون في معتقله فانتقض أخوه ثائراً ولحق بهم، وحذر علوش بن كانون مثلها على أخيه فاتبعهم، وزحف أبو العلى إلى مراكش. ولما بلغ أغمات وجد بها الوزير أبا زيد بن بكيت في عسكر لحمايتها فناجزه الحرب فانهزم ابن بكيت وقتل عامة أصحابه. وسار أبو دبوس إلى مراكش، وأغار علوش بن كانون على باب الشريعة والناس في صلاة الجمعة، وركز رمحه بمصراعه.
ودخلت سنة خمس وستين وستمائة والمرتضى بمراكش غافل عن شأن أبي دبوس، والأسوار خالية من الحراس والحامية، فقصد أبو دبوس باب أغمات فتسور البلد من هنالك، ودخلها على حين غفلة. وقصد القصبة فدخلها من باب الطبول وفرّ المرتضى ومعه الوزيران أبو زيد بن يعلو الكومي، وأبو موسى بن عزوز الهنتاتي، فلحقوا بهنتاتة وألفوهم قد بعثوا بطاعتهم فرحل إلى كدميوة ومر في طريقه بعلي بن زكداز الونكاسي، كان نزع إليه عن قومه ولم يفد عليه بعد، فنزل به المرتضى ورحل معه علي بمن معه إلى كدميوة، وكان فيها وزيره أبو زيد عبد الرحمن بن عبد الكريم، فأراد النزول عليه فمنعه ابن سعد الله، فسار إلى شفشاوة، ووجد بها عددا من الظهر فمنحها علي بن زكداز. وكتب إلى ابن وانودين بمسكره من حاحة. وإلى عصوش بمعسكره من ركراكة باللحاق به فأقلعا إلى الحضرة.
وخاطب أبو دبوس علي بن زكداز يرغبه في القدوم عليه، فارتاب المرتضى لذلك ولحق بأزمور فتقبّض عليها واليها ابن عطوش. وكان أصهره واعتقله وطيّر الخبر إلى أبي دبوس، فأمر وزيره السيد أبا موسى أن يكاتبه في كشف أماكن الذخيرة، فأجابه بإنكار أن يكون ذخر شيئاً عندهم، والحلف على ذلك. وسألهم بالرحم، فعطف أبو دبوس عليه، وجنح إلى الإبقاء. وبعث وزيره السيد أبا مسعود بن كانون في إزعاجه إليه.
ثم بدا له في استحيائه بإشارة بعض السادات، فكتب خطه إلى السيد أبي موسى بقتله، فقتله واستقل أبو دبوس بالأمر وتلقب الواثق بالله والمعتمد على الله. واستوزر السيد موسى وأخاه السيد أبا زيد وبذل العطاء ونظر في الولايات ورفع المكوس عن الرعيّة وحدث بينه وبين مسعود بن كلداسن وحشة فارتحل إليه لإزالتها. وقدم عبد العزيز بن عطوش سفيراً إليه في ذلك. وبلغه أن يعقوب بن عبد الحق نزل تامستا فأوفد عليه حميدي بن مخلوف الهسكوري بهدية فقبلها، وأكد بينهما العهد وانكفأ راجعاً إلى وطنه. ورجع حميدي إلى الواثق، ووافق وصول عبد العزيز بن عطوش بطاعة مسعود بن كلداسن، فرجع أبو دبوس إلى
المجلد السادس من صفحة 353 -375
مراكش بعد أن عقد لأبي موسى بن عزوز على بلاد حاحة. وبلغه في طريقه عن عبد العزيز بن السعيد أنه حدّث نفسه بالملك، وأن ابن بكيت وابن كلداسن داخلوه في ذلك. وساءل عن ذلك السيد أبا زيد بن السيد أبي عمران خليفته، وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله، فأنفذ ذلك. ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده، وحسم علل ابن يدر فيه. وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم وسار يتقرى المنازل ويستنفر القبائل، ومر بتارودنت فوجدها قُفرا خلاءً إلا قلائل من الدور بخارجها. ونزل على حميدي صهر علي بن يدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن يدر وملكه فنازله أبو دبوس وحاصره أياماً، وهزم فيها جموعه وداخل حميدي علي بن زكداز في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه، فأعجله الفتح عن ذلك ونجا بدمائه إلى بيته. وطولب بالمال، وبقي معتقلا عند ابن زكداز، وامتنع ابن يدر بحصنه. ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته، فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة . وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنه زاحف إلى فبعث بهديته إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطرال وابن أبي عثمان رسول يغمراسن، وخرج بهم من مراكش ابن أبي مديون السكاسني دليلا. وسلك بهم على القفر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن، فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه فألفوه بجهة مليانة، فأقام أبم قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين وعسكر المغرب، ونزل بضواحي مراكش وأطاعه أهل النواحي ونهض إليه أبو دبوس في عساكر الموحدين فاستجره يعقوب إلى وادي أغفو، ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه وفر عسكره. وانهزم يريد مراكش، والقوم في أتباعه فأُدرك وقُتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وفر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا بايعوا عبد الواحد بن أبي دبوس، وسفوه المعتصم مدة خمسة أيام وخرج في جملتهم، وانقرض أمر بني عبد المؤمن والبقاء لله وحده.
الخبر عن هسكورة: وأما هسكورة وهم أكثر قبائل المصامدة، وفيهم بطون كثيرة أوسعها بطن هسكورة. وأما سواهم من بطون كنفيسة فأنفقتهم الدولة بما تولوا من مشايعتها وإبرام عقدتها، فهلك رجالاتهم في إنفاقها سبل الأمم قبلهم في دولهم. وأما هسكورة فكان لهم بين الموحدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم إلا أنهم كانوا أهل بدو ولم يخالطوهم في ترفهم ولا أنغمسوا في نعيمهم. وكان جبلهم الذي أوطنوه من حالة دون القنة منها والذروة. واعتصموا منه بالآفاق الفدد واليفاع الأشمّ والطود الشاهق، قد لمس الأفلاك بيده ونظم النجوم في مفرقه وتلفع بالسحاب في مروطه، وآوى الرياح العواصف الدجوة وألقى إلى خبر السماء بإذنه، وأظل على البحر الأخضر بشماريخه، واستدبر القفر من بلاد السوس بظهره، وأقام سائر جبال درن في حجره. ولما انقرض أمر الموحدين وتغلب بنو مرين على المصامدة أجمع، وساموهم خطة الخسف في وضع الضرائب، والمغارم عليهم فاستكانوا لعزهم وأعطوهم يد الطواعية، واعتصم هسكورة هؤلاء بمعقلهم واعتزوا فيه بمنعتهم ؛ فلم يغمسوا في خدمتهم يداً ولا أعطوهم مقاداً ولا رفعوا بدعوتهم راية إنما هي منابذة لأمرهم وامتناع عليهم سائر الأيام. فإذا زحفت الحشود وتمرّست بهم العساكر دافعوهم بطاعة معروفة وأتاوة غير ملتزمة ورئيسهم مع ذلك يستخلص جبايتهم لنفسه ويدفعهم في المضايق لحمايته، وربما تخطاهم إلى بعض قبائل الجبل ومن قاربه من أهل بسائط السوس يعسكر بذلك للرجل من قومه هكسورة وكنفيسة، وبالحشد من العرب الموطنين بأرض السوس. وسفيان وهم بطن الحارث ومن المعقل وهم بطن الثبانات، وكان رئيسهم في ما ذكرنا- بعد انقراض عبد المؤمن بن يوسف، وحرروا لسان الأعجمين هو عبد الواحد، وكان له في الاستبداد والصرامة ذكر. وهلك سنة ثمانين وستمائة، وكان منتحلاً للعلم واعية له جماعة لكتبه ودواوينه حافظاً لفروع الفقه. يقال إن الأحاديث المدونة كانت من محفوظاته، محباً في الفلسفة مطالعاً لكتبها حريصاً على نتائجها من علم الكيمياء والسيمياء والسحر والشعوذة، مطلعاً على الشرائع القديمة والكتب المنزلة بكتب
التوراة. ويجالس أحبار اليهود حتى لقد اتهم في عقيدته ورمي بالرغبة عن دينه. ثم ولي من بعده ابنه عبد الله، وكان مقتفياً سنن أبيه في ذلك، وخصوصاً في انتحال السحر والاستشراف إلى صنعة الكيمياء. ولما فرغ السلطان أبو حسن من شأن أخيه عمر، وسكن فتنة المغرب، ودوخ أقطاره وحل معتصمه بالعساكر وأوطأ ساحاته لكتائب رجاله دون من يمده من أعراب السوس من ورائه، بما كان من تغلبه على بلادهم واقتضائه بطاعتهم وإنزال عماله بالعساكر بينهم، فلاذ منه عبد الله السكسيوي بطاعة معروفة، رهن فيها ابنه، واشترط للسلطان الهدية والضيافة فتقبل منه، ومنحه جانب الرضى.
ولما كانت نكبة السلطان بالقيروان، واضطراب المغرب فتنة وخلا جّو البلاد المراكشية من المشايخ اجتمع رأي الملأ من المصامدة على النزول إلى مراكش وأحكموا عقد الاتفاق بينهم وأجمعوا تخريبها بما كانت داراً للإمرة ولمقام الكتائب المجمرة، وزعم عبد الله السكسيوي هذا بإنفاذ ذلك فيها، وضمن هو تخريب المساجد لتجافيهم عنها فكانت مذكورة على الأيام. ثم انحل عزمهم وافترقت جماعتهم وكلمتهم بما كانت من استقامة الدولة بفاس واجتماع بني مرين علن السلطان أبي عنّان كما يذكر بعد فانحجر كل منهم بوجاره. ولما فرغ أبو عنّان من شأن أبيه، واستولى على المغرب الأوسط وغلب عليه بنو عبد الواد. ولحق أخوه أبو الفضل بن مطرح اغترابه في الأندلس بالطاعة يروم الإجازة إلى المغرب لطلب حقه، فأركبه السفير إلى مراحل السوس فنزل به، ولحق بعبد الله السكسيوي فأواه وظاهره على أمره. فجرد أبو عنان العزائم إليهم وعقد لوزيره فارس بن ميمون بن وادرار على حربهم. واستخرج جيوش المغرب وأناخ بساحته سنة أربع وخمسين وستمائة واختط بسفح الجبل مدينة لحصاره سماها القاهرة. وأخذت بمخنقه وزاحت بمناكبها أركان معقله حتى لاذت للسلم، واشترط أن ينبذ العهد إلى أبي الفضل المصري عنده يذهب حيث يشاء فتقبل منه، وعقد له سلماً على عادته وأفرج عنه. وخرج على عبد الله السكسيوي لأيام السلطان أبي سالم إبنه محمد المعروف في لغتهم أيزم ومعناه الأسد، فغلبه على أمره ولحق عبد الله بعامر بن الهنتاتي كبير المصامدة لعهده وعامل السلطان عليهم، فاستجاش به ووعده عامر النصرة وأمهله عاماً ونضه حتى وفد على السلطان، واستوهب في ذلك. ثم أجمع
على نصره من عدوه فجمع له الناس وخاطب أهل ولايته أن يكون معه يدا. وزحف عبد الله حتى نزل بالقاهرة، وأخذ بمخنق أبيه وأشياعه. ثم داخله بعض بطانته ودله على بعض العورات اقتحم منها الجبل وثاروا بإبنه أيزم فصاح به عبد الله وقومه. وفر محمد أمامهم فأدرك بتلاسف من نواحي الجبل وقتل واسترجع عبد الله ملكه، واستقلت قدمه إلى أن مكر به ابن عمه يحيى بن سليمان حين بلغ استبداد الوزير عمر ين عبد الله على سلطان المغرب واستبداد عامر بن محمد بولاية مراكش وثأر منه يحيى هذا بأبيه سليمان وهو عم عبد الله، وكان قتله أيام إمارته الأولى. وأقام مملكاً على سكسيوة إلى سنة خمس وسبعين وستمائة فثار عليه أبو بكر بن عمر بن خرو فقتله بأخيه عبد الله، واستقل بأمر سكسيوة ومن إليهم. ثم خرج عليهم لأعوام من استقلاله ابن عم له من أهل بيته لم ينقل لي من تعريفه إلا أن إسمه عبد الرحمن، لأن ثورته كانت بعد رحلتي الثانية من المغرب سنة ست وسبعين وستمائة، فأخبرني الثقة بأمره وأنه ظفر بأبي بكر بن عمر وقتله. واستبد بأمر الجبل إلى هذا العهد فيما زعم وهو سنة تسع وسبعين وستمائة. ثم بلغني سنة ثمان وثمانين وستمائة أن عبد الرحمن هذا ويعرف بأبي زيد بن مخلوف بن عمر آجليد قتله يحيى بن عبد الله بن عمر، واستبد بأمر هذا الجبل وهو الآن مالكه، وهو أخو أيزم بن عبد اله. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. بقية قبائل المصامدة: (وأبا بقة قبائل المصامدة) من سوى هؤلاء السبع مثل هيلانة وحاحة ودكالة وغيرهم مفن أوطن هضاب الجبل أو ساحته فهم امم لا تنحصر. ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفى المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة وتجاورهم من جانب الغرب في بسيط ينعطف ما بين ساحل البحر وجبل درن في بسيط هناك يفضي إلى السوس، يعثره من حاحة هؤلاء خلق أكثرهم في خفر الشعراء من الشجر المعروف بأرجان، يتحصنون بملتفها وأدواحها ، ويعتصرون الزيت لأدامهم من ثمارها. وهو زيت شريف طيب اللون والرائحة والطعم يبعث منه العمال إلى دار الملك في هداياهم فيطرفون به. وبأخر مواطنهم مما يلي أرض السوس، وفي القبلة عن جبل درن بلدة دنست وبها معظم هذه الشعراء ينزلها رؤساؤهم، ورياستهم في بطن منهم يعرفون بمغراوة، وكان شيخهم
لعهد السلطان أبي عنان إبراهيم بن حسين بن حماد بن حسين، وبعده ابنه محمد بن إبراهيم بن حسين، وبعده ابن عمهم خالد بن عيسى بن حماد. واستمرت رياسته عليهم إلى أعوام ست وسبعين وسبعمائة أيام استيلاء السلطان عبد الرحمن بن بطوسن على مراكش، فقتله شيخ بني مرين ير بن عمر الورتاجي من بني ويغلان منهم وما أدري لمن صارت رياستهم من بعده وهم دكالة جميعاً أهل مغرم واسع وجباية موفورة فيما علمناه، ولله الخلق والأمر وهو خير الوارثين. كان الواثق جهز لحرب أحد أمراء المصامدة ، فكان وزيره داخله في ذلك السيد أبا زيد بن السيد أبي عمران خليفته وأخبره بما سمع، وأمره بالقبض عليه وقتله فأنفذ ذلك. ثم ارتحل إلى السوس لتمهيده، وحسم هلال بن يدر فيه علله، وقدم يحيى بن وانودين لاستنفار قبائل السوس من كزولة ولمطة وكنفيسة وصناكة وغيرهم، وسار يتعدى المنازل ويستنفر القبائل وهو بتارودنت فوجدها قفراً خلاء إلا قليلاً من الدور بخارجها. ونزل على حميدين صهر علي بن يدر وقريبه بحصن تيسخت على وادي السوس، كان لصنهاجة فغلبهم عليه ابن يدر وملكه فنازله أبو دبوس وحاصره أياماً وهزم فيها جموعه. وداخل محمد بن علي بن زكدان في إفراج أبي دبوس على سبعين ألف دينار يؤديها إليه، فأعجله الفتح من ذلك ونجا بدمائه إلى بيته، وطولب بالمال وبقي معتقلاً عند ابن زكدان، وامتنع علي بن يدر بحصنه، ثم أطاع ووصلت رسله بطاعته فانصرف الواثق إلى حضرته ودخلها سنة خمس وستين وستمائة، وبلغه الخبر بانتقاض يعقوب بن عبد الحق وأنهى إليه فبعث بمرتبه إلى تلمسان صحبة أبي الحسن بن قطران وابن أبي عثمان رسول يغمراسن. خرج إليهم من مراكش ابن أبي مديون الونكاسي دليلاً وسلك بهم على الثغر إلى سجلماسة، وبها يحيى بن يغمراسن فبعثهم مع بعض المعقل إلى أبيه، وألفوه بجهة مليانة فأقام ابن قطرال بتلمسان ينتظره. وكان يعقوب بن عبد الحق لما بلغه ذلك نهض إلى مراكش بجيوش بني مرين ونزل بضواحي مراكش وأطاعه على النواحي ونهض إليه أبو دبوس بعساكر الموحدين فاستجره يعقوب إلى وادي أعفر. ثم ناجزه الحرب فاختل مصافه وفر عساكره وانهزم يريد مراكش والقوم في أتباعه فأدرك وقتل. وبادر يعقوب بن عبد الحق فدخل مراكش في المحرّم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة وفر بقية المشيخة من الموحدين إلى معاقلهم بعد أن كانوا
بايعوا عبد الحق أحد بني أبي دبوّس وسموه المعتصم مدّة من خمسة أيام وخرج في جملتهم وانقرض مر بني عبد المؤمن والبقاء لله وحده .
الخبر عن بقايا قبائل الموحدين من المصامدة بجبال درن بعد انقراض دولتهم بمراكش وتصاريف أحوالهم لهذا العهد:
لما دعا المهدي إلى أمره في قومه من المصامدة بجبال درن، وكان أصل دعوته نفي التجسيم الذي إليه مذهب أهل المغرب باعتمادهم ترك التآويل في المتشابه من الشريعة، وصرح بتكفير من أبى ذلك أخذا بمذهب التكفير بالمثال. فسمى لذلك دعوته دعوة التوحيد، وأتباعه بالموحدين، نعياً على الملثمين مثال مذاهبهم إلى اعتقاد الجسمية، وخص بالمزية من دخل في دعوته قبل تمكنها، وجعل علامة تمكنها فتح مراكش، فكان إنما اختص بهذا اللقب أهل السابقة قبل ذلك الفتح. وكان أهل تلك السابقة قبل فتح مراكش ثماني قبائل، سبعة من المصامدة: هرغة وهم قبيلة الإمام المهدي، وهنتاتة، وتينملل وهم الذين بايعوه مع هرغة على الإجارة والحماية، وكنفيسة، وهزرجة وكدميوة ووريكة.
وثمانية قبائل الموحدين: كومية قبيلة عبد المؤمن كبير صحابته، دخلوا في دعوته قبل الفتح فكانت لهم المزية بسابقة عبد المؤمن وسابقتهم فاختص هؤلاء القبائل بمزية هذه السابقة وإسمها. وقاموا بالأمر وحملوا سريره وأنفقوا في مذاهبه وممالكه في سائر الأقطار على نسبة قربهم من صاحب الأمر وبعدهم. وبقي من بقي منهم بجبالهم ومعاقلهم بقية حتوف. وجرت عليهم ذيل زناتة من بعد الملك أذيال الغلب والقهر حتى ألقوهم بالأتاوات وانتظموا في عداد الغارمين من الرعايا، وصاروا يولون عليهم من زناتة ومن رجالاتهم أخرى، وفي ذلك عبرة وذكرى لأولي الألباب والملك لله يورثه من يشاء.
هرغة
فأما هرغة وهم قبيل الإمام المهدي قد دثروا وتلاشوا وانتفقوا في القاصية من كل وجه، لما كانوا أشد القوم بلاء في القيام بالدعوة، وأصلاهم لنارها بقرابتهم من صاحبها،
وتعصبهم على أمره. ولم يبق منهم إلا أخلاط وأوشاب أمرهم إلى غيرهم من رجالات المصامدة لا يملكون عليهم منه شيئاً.
تينملل وكذا تينملل إخوانهم في التعصب على دعوة المهدي والاشتمال عليه والقيام بأمره حتى تهيز إليهم وبنى داره ومسجده بينهم، فكان يعطيهم من الفيء بمقدار حظهم من الاستيلاء، وأبعدوا في ممالك الدولة وعمالاتها فانقرض رجالاتهم، وملك غيرهم من المصامدة أمرهم عليهم، وقبر الإمام بينهم لهذا العهد على حاله من التجلة والتعظيم وقراءة القرآن عليه أحزاباً بالغدو والعشي، وتعاهده بالزيارة وقيام الحجاب دون الزائرين من الغرباء لتسهيل الإذن، واستشعار الأّبهة وتقديم الصدقات بين أيدي زيارته على الرسم المعروف في احتفال الدولة، وهم مصممون مع ذلك وكافة المصامدة أن الأمر سيعود، وإن الدولة ستظهر على أهل المشرق والمغرب وتملأ الأرض كما وعدهم المهدي لا يشكون في ذلك ولا يستريبون فيه. هنتاتة وأما هنتاتة وهم تلو القبيلتين في الأمر، وكل من بعدهم فإنما جاء على أثرهم وتبعاً لهم، بما كانوا عليه من الكثرة والبأس، ومكان شيخهم أبي حفص عمر بن يحيى من صحابة الإمام والاعتزاز على المصامدة. وكانت لهم بأفريقية دولة كما نذكره، فأنفقت الدولتان منهم عوالم في سبيل الاستظهار بهم، وبقي بموطنهم المعروف بهم من جبال درن، وهو الجبل المتاخم لمراكش على توسط من الاستبداد والخضوع. ولهم في قومهم مكان بامتناع معقلهم وإطلاله على مراكش. ولما تغلب بنو مرين على المصامدة، وقطعوا عنهم أسباب الدعوة كان لرؤسائهم أولاد يونس انحياش إليهم بما
كانوا مسخوطين في آخر دولة بني عبد المؤمن، فاختصوهم بالأثرة والمخالصة. وكان علي بن محمد كبيرهم لعهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق خالصة له من بين قومه. وهلك سنة سبع وسبعين وستمائة على يد ابن الملياني الكاتب بكتاب لبس فيه، وأنفذه عن السلطان لابنه أمير مراكش بقتل رهط من مشيخة المصامدة في اعتقاله، كان منهم: علي بن محمد فقام السلطان لها في ركائبه، وندم على ما فرط من أمره في إفلات ابن الملياني على ما نذكره من أمر هذه الواقعة في أخبار السلطان يوسف بن يعقوب. ولما ولي السلطان أبو سعيد وانقطع عن المصامدة ما كان لهم من أثر الملك والسلطان، وانقادوا للدولة رجع بنو مرين إلى التولية عليهم من رجالاتهم، وتداولوا بينهم في ذلك واختار السلطان بعد صدر من دولته موسى بن علي بن محمد للولاية على المصامدة هـجبايتهم، فعقد له وأنزله مراكشن فاضطلع بهذه الولاية سنين رسخت فيها قدمه، وأورثها أهل بيته، وصار لهم بها في الدولة مكان انتظموا به في الولاية، وترشحوا للوزارة.
ولما هلك موسى عقد السلطان من بعده لأخيه محمد، وأجراه على سننه إلى أن هلك فاستعمل السلطان بنيه في وجوه خدمته، وعقد لعامر منهم على قومه. ولما ارتحل السلطان أبو الحسن إلى أفريقية صحبة عامر فيمن صحبه من أمراء المصامدة وكافة الوجوه، حتى إذا كانت نكبة القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة عقد له على الشرطة بتونس على رسم الموحدين من تنويه الخطة وسعة الرزق. واستنام إليه فيها فكفاه همّها. ولما فصل من تونس ركب الكثير من حرمه وخطاياه السفن لنظر عامر هذا، حتى إذا غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن بما أصابهم من عاصف الريح رمى الموج بالسفينة التي كانوا بها إلى المريّة من ثغور الأندلس، فأنزل بها كرائم السلطان لنظره وبعث عنهن ابنه أبو عنان المستبد على أبيه بملك المغرب، فامتنع من إسلامهن إليه وفاء بأمانته في خدمتهم. وخلص السلطان أبو الحسن بعد النكبة البحرية إلى الجزائر سنة خمسين وسبعمائة، وزحف إلى بني عبد الواد ففلّوه ونهض إلى المغرب، وسلك إليه القفر حتى نزل بسجلماسة فقصده أبو عنان فخرج عنها إلى مراكش وقام بدعوته المصامدة وعرب جشم، فاحتشد، ولقي ابنه أبا عنان بجهات ام ربيع فكانت الدبرة عليه، ونجا إلى
جبل هنتاتة. وكان عبد العزيز بن محمد شيخاً عليهم منذ مغيب عامر، وكان في جملته، وخلص معه فأنزله عبد العزيز بداره، وتدامر هو وقومه على إجارته والموت دونه فاعتصم بمعقلهم. وجاء السلطان أبو عنان في كافة بني مرين إلى مراكش فخيم بظاهرها واحتشد لحصارهم أشهراً حتى هلك السلطان أبو الحسن كما نذكره بعد، فحملوه على الأعواد ونزلوا على حكم أبي عنان فكرمهم ورعى لهم وسيلة هذا الوفاء، وعقد لعبد العزيز على إمارته، واستقدم عامراً كبيره من مكانه بالمرية، فقدم بمن لأمانته من حظايا السلطان وحرمه فلقاه السلطان مبرة وتكريماً ، وأناله من اعتنائه حظاً.
وتخفى له أخوه عبد العزيز عن الأمر فأقره نائبا. ثم عقد السلطان لعامر سنة أربع وخمسين وسبعمائة على سائر المصامدة، واستعمله لجبايتهم فقام بها مضطلعاً، وكفاه مهم الأعمال المراكشية حتى عرف عناءه فيها وشكر له كفايته. وهلك السلطان أبو عنان، واستبد على ابنه السعيد وزيره الحسن بن عمر المودودي وكان ينفس عليه ما كان له من الترشيح للرتبة، وبينهما في ذلك شحناء، فخشي بادرته وخرج من مراكش إلى معقله في جبل هنتاتة، وحمل معه ابن السلطان أبي عنان الملقب بالمعتمد. وكان أبوه عقد له يافعاً قبيل وفاته على مراكش لنظر عامر فخلص به إلى الجبل، حش إذا استوت قدم السلطان أبي سالم في الأمر، واستقل بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة. وفد عليه عامر بن محمد مع رسله إليه، وأوفد ابن أخيه محمد المعتمد فتقيل السلطان وفادته، وشكر وفاءه، وأقام ببابه مدة. ثم عقد له على قومه، ثم استنفره معه إلى تلمسان، ولم يزل مقيماً ببابه إلى قبيل وفاته فأنفذه لمكان إمارته. ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد بالمغرب بعده عمر بن عبد الله بن علي على ما نذكره، وكانت بينه وبين عامر بباب السلطان صداقة وملاطفة وصل يده بيده، وأكد العهد معه على سد تلك الفرجة، وحوّل عليه في حوط البلاد المراكشية وأن لا يؤتى من قبله، وكان زعيماً بذلك، وعقد له على الأعمال المراكشية وما إليها إلى وادي أم ربيع. وفوض إليه أمر تلك الناحية، واقتسما المغرب شق الأبلمة وخلص إليه الأعياص من ولد السلطان أبي سعيد أبو الفضل بن السلطان أبي سالم، وعبد
المؤمن بن السلطان أبي علي، فاعتقل عبد المؤمن وأمكن أبا الفضل من إمارته على ما نذكر بعد. وساءت الحال بينه وبين عمر ونهض إليه من فاس بجموع بني مرين وكافة العسكر، واعتصم بجبلة وقومه واستبد على الأميرين عنده. وحل عبد المؤمن من معتقله يجاجىء به بني مرين لما كانوا يؤملون من ولايته واستبداده لما أسفهم من حجر الوزراء لملوكهم. فلما رأوا استبداد عامل عليه أعرضوا عنه، وانعقد السلم بينه وبين عمر بن عبد الله على ما كان عليه من مقاسمته إياه في أعمال المغرب، ورجع. واستقل عامر بناحية مراكش وأعمالها، حتى إذا هلك عمر بن عبد الله بيد عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما نذكره، حدثت أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم نفسه بالهتك بعامر بن محمد، كما فتك عمه بعمر بن عبد الله. ونذر بذلك فاحتمل كرائمه وصعد إلى داره بالجبل، ففتك أبو الفضل بعبد المؤمن ابن عمه، كان معتقلاً بمراكش. واستحكمت لذلك السفرة بينه وبين عامر بن محمد. وبعث إلى السلطان عبد العزيز فنهض من فاس في جموعه سنة تسع وستين وسبعمائة. وفر أبو الفضل فلحق بتادلاّ، وتقبض عليه عمه السلطان عبد العزيز وقتله كما نذكر في أخباره. وطلب عامراً في الوفادة فخشيه على نفسه واعتصم بمعقله فرجع إلى حضرته، واستجمع عزائمه. وعقد على مراكش وأعمالها لعلي بن أخانا من صنائع دولتهم، وأوعز إليه بمنازلة عامر فدافعه عامر وقومه عن معتصمه ، وأوقع به وتقبض على طائفة من بني مرين وصنائع السلطان في المعركة أودعهم سجنه، فحرك بها عزائم السلطان، ونهض إليه في قومه من بني مرين وعساكر المغرب، وأحاط به ونازله حولاً كريتاً. ثم تغلب عليه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وانفضت جموعه. وتقبض عليه عند اقتحام فسيق أسيراً إلى السلطان فقئده، وقفل به إلى الحضرة. ولفا قضى نسك الفطر من سنته أحضره ووبخه. ثم أمر به فتل إلى مصرعه، وامتحن جلداً بالسياط وضرباً بالمقارع حتى فاض عفا الله عنه. وعقد السلطان على قومه لفارس ابن أخيه العزيز كان نزع إليه بين يدي مهلك عمه وعفا عن ابنه أبي يحيى بسابقته إلى الطاعة قبيل اقتحام الجبل عليهم، أشار
عليه بذلك أبوه نظراً له فظفر من السلامة بحظ، وأصاره السلطان في جملته.
ثم هلك بعد ذلك فارس بن عبد العزيز، واضطرم المغرب فتنة بعد مهلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين سبعمائة. وصارت أعمال مراكش في إيالة السلطان عبد الرحمن بن علي الملقب بأبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي. ونزع إليه أبو يحيى بن عامر فعقد له على قومه. ثم اتّهمه باحتجاز الأموال منذ عهد أبيه، وشره إلى استصفائه، ونذر به ابن عامر فلحق ببعض قبائل المصامدة جيرانهم بأطراف السوس، ونزل عليهم. وكان مهلكه فيهم أعوام ثمانين وسبعمائة والله وارث الأرض ومن عليها. كدميوة وأما كدميوة وكانوا تبعاً لهنتاتة وتينملل في الأمر، وجبلهم لصق جبل هنتاتة. وكان رؤساؤهم لعهد الموحدين بنو سعد الله. ولما تغلب بنو مرين على المصامدة، ووضعوا عليهم الضرائب، وامتنع يحيى بن سعد الله بعض الشيء بحصن تافرجا وتيسخت من جبلهم، وخالفه عبد الكريم بن عيسى وقومه إلى طاعة بني مرين، واختلفت إليهم العساكر إلى أن هلك يحيى بن سعد الله سنة أربع وتسعين وستمائة، وعساكر يوسف بن يعقوب مجهزة على حصاره، فهدموا حصونه، وأذلوا من قومه. واستخلص السلطان يوسف بن يعقوب عبد الكريم بن عيسى منذ عهد أبيه فعقد له عليهم. ثم تقبض على أمراء المصامدة، واعتقله فيمن اعتقل منهم، حتى إذا فعل ابن الملياني فعلته في استهلاكهم لعداوة عمه بتلبيس الكتاب على لسان السلطان لابنه على أمير مراكش، فقتل عبد الكريم فيمن قتل منهم، وقتل معه بنوه عيسى وعلي ومنصور، وابن أخيه عبد العزيز بن محمد. وامتعض السلطان لذلك وأفلت ابن الملياني من عسكره لحصار تلمسان فدخلها.
ثم قام بأمر كدميوة عبد الحق بن.. من بيت بني سعد الله أيام السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان. وكانت بينه وبين عامر بن محمد فتنة جرها لصق العمالة، شأن المجاورين من القبائل، وقديم العداوة بين السلف. فلما استفحل أمر عامر بالولاية على مراكش وسائر المصامدة، نبذ إلى عبد الحق العهد ونحلة الخلاف والمداخلة للسكسيوي شيخ الفتنة المستعصي منذ أول الدولة، فصمد إليه سنة سبع وخمسين وسبعمائة في قومه ومشايخ السلطان التي كانت بمراكش لنظره، فافتتح عليه معقله عنوة وقتله. واستولى على كدميوة ولحق بنو سعد الله بفاس، وأقاموا بها، حتى إذا خاض السلطان أبو سالم البحر إلى ملكه بعد أخيه أبي عنان ونزل بغمارة، نزع إليه يوسف بن سعد الله واعتقد منه ذمة بسابقيته تلك. فلما استولى على البلد الجديد واستقل بسلطانه،
عقد له على قومه رعياً لوسيلته فأقام في ولايته مدة السلطان أبي سالم. وكان عامل مراكش محمد بن أبي العلى من حاشية السلطان. وبيوت الولاة بالمغرب معولاً فيها على مظاهرته. ولما هلك السلطان أبو سالم واستبد عمر بن عبد الله على الملوك بعده، بادر لحين ثورته بالعقد لعامر على أعمال مراكش ليستظهر به، وطير إليه الكتاب بذلك فنزل إلى مراكش وقتل بها يوسف بن سعد الله، ونكب بأبي العلى ثم قتله وألحقه بأبي عبد الحق. وذهبت الرئاسة من كدميوة برهة من الدهر، ثم رجعت إليهم في بني سعد الله، والله قادر على ما يشاء وبيده تصاريف الأمور لا رب سواه ،ولا معبود إلا إيّاه. وريكة وأما وريكة فهم مجاورون لهنتاتة، وبينهم فتنة قديمة وحرب متصلة ودماء مطلولة، كانت بينهم سجالاً. وهلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم هم بالولاية،
فخضدوا منهم الشوكة وأصاروهم في الجملة والله وارث الأرض ومن عليها والله تعالى أعلم بغيبه وهو على كل شيء قدير.
بنو يدر أمراء السوس الخبر عن بني يذر أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن وتصاريف أحوالهم كان أبو محمد بن يونس من علية وزراء الموحدين من هنتاتة، وكان المرتضى قد استوزره، ثم سخطه وعزله سنة خمسين وستمائة وألزمه داره بتامصلحت، وفر عنه قومه وحاشيته وقرابته. وكان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداس ففر إلى السوس وجاهر بالخلاف سنة إحدى وخمسين وستمائة ، ونزل بحصن تانصاحت سفح الجبل حيث يدفع وادي السوس من درن، وشيّده وحصّنه، وتغلّب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة وشيده، وأنزل فيه ابن عمه بو حمدين. ثم تغلب على بسيط السوس وجأجأ بني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم من نواحي ملوية إلى بلاد الريف، فارتحلوا إليه وعاث بهم في نواحي السوس، وأطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم. وأجلب على عامل الموحدين بتارودنت، وضيق عليه المسالك، وتفاقم أمره. واتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته، وعثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر المرتضى باعتقاله وقتله سنة إثنتين وخمسين وستمائة. وأغزى أبا محمد بن أصناك إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين والجند، وعقد له عليها فنزل تاودنت وتحصّن علي بن يدر تيونودين، وزحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر وقتل كثيراً منهم، ورجع إلى مراكش مقلولاً. وأقام علي بن يدر على حاله من الخلاق، وأغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين وستمائة فهزمهم وقتل ابن زلماط، فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه، ودارت الحرب بينهما ملياً، وانقلب من غير ظفر. واستفحل أمر ابن يدر ببلاد السوس واستخدم الأعراب من بني الشبانات وذوي حسان. وأطاعته القبائل من كزولة ولمطة وزكن ولخس من شعوب لمطة وصناكة. وجبى الأموال واستخدام الرجال يقال- كان جنده ألف فارس وكان بينه وبين كزولة فتن
وحروب يستظهر في أكثرها بذوي حسّان.
ولما استولى أبو دبوس على مراكش سنة خمس وستين وستمائة، وفرغ من تمهيد ملكه بها اعتزم على الحركة إلى السوس ورحل من مراكش، ، وقدم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل، ومر بالجبل ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس، ونزق على بنى باداسن قبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونودين. وقصد تيزخت ومر بتارودنت وعاين أثر الخراب الذي بها من عيث ابن يدر ولما بلغ حصن تيزخت خيم بساحته وحشر أمماً من القبائل لحصاره، وكان به حمدين ابن عم علي بن يدر فحاصره أياماً. ولما اشتد عليه الحصار داخل علي بن زكداز من مشيخة بني مرين كان في جملة أبي دبوّس فداخله في الطاعة، وتقبل السلطان طاعته على النزول عن حصنه. ثم أعجلته الحرب واقتحم عليهم الجبل ولجوا إلى الحصن، وفر حمدين إلى بيت علي بن زكداز فأمره السلطان باعتقاله. واستولى السلطان على الحصن وأنزل به بعض السادات لولايته. وارتحل أبو دبوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياماً، ونصب عليه المجانيق. ولما اشتد عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة فتقبل وأقلع السلطان عن حصاره وقفل إلى حضرته. ولما استولى بنو مرين على مراكش سنة ثمان وستين وستمائة استبد علي بن يدر بملك السوس، واستولى على تارودنت وإيفري وسائر أمصاره وقواعده ومعاقله وأرهف حده للأعراب. فزحفوا إليه، وكانت عليه الدبرة وقتل سنة ثمان وستين وستمائة، وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدة. ثم هلك وقام بأمرهم أخوه علي بن الحسن بن يدر. ولما صار أبو علي ابن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة بصلح عقده مع أبيه كما نذكر في أخبارهم، فنزلها وشيد ملكه بها، واستخدم كافة عرب المعقل فغزاه في ملك السوس وأطمعوه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة. وفر ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة. واستولى السلطان أبو علي على حصنه نانصاصت وسائر أمصار السوس، واستصفى ذخيرته وأمواله، ورجع إلى سجلماسة. ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه وانقرض ملك بني يدر. ولحق به
عبد الرحمن بن علي بن الحسن، وصار فى جملته. وأنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه، وعقد له على تلك العمالة إلى أن هلك. وعقد لأخيه حسّون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان. وهلك حسّون وانفض العسكر من هنالك، وتغلب عليه العرب من بني حسان والشبانات، ووضعوا على قبائله الأتاوات والضرائب. ولما استبد أبو عنان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست وخمسين وستمائة فملكه، واستخدم القبائل والعرب من أهله، ورتّب المسالح بأمصاره وقفل إلى مكان وزارته فانفضّت المسالح ولحقت به. وبقي عمل السوس ضاحياً من ظلّ الملك لهذا العهد، وهو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية وهوائها المتصل من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الإسكندرية. وهذا الوطن، قبلة جبال درن ذو عمائر وقرى ومزارع وفدن وأمصار وجبال وحصون، يحدّق وادي السوس ينصب من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة وسيكسيوة، ويدفع إلى بسيطه، ثم يمرّ مغرباً إلى أن ينصب في البحر المحيط والعمائر متصلة حفافي هذا الوادي ذات الفدن والمزارع وأهلها يتخذون فيها قصب السكر. وعند مصب هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت. وبين مصب هذا الوادي في البحر ومصب وادي ماسة مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر، وهنالك رباط ماسة الشهير المعروف بتردد الأولياء وعبادتهم. وتزعم العامة أنّ خروج الفاطمي منه. ومنه أيضاً إلى زوايا أولاد بنو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر، وبعدها على مراحل مصب الساقية الحمراء وهي منتهى مجالات المعقل في مشايتهم. وفي رأس وادي السوس جبل زكندر قبلة جبل الكلاوي. وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعة ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمرّ مغرباً إلى أن يصب في البحر. وعلى هذا
الوادي بلد تاكاوصت محطّ الرقاق والبضائع بالقبلة، وبها سوق في يوم واحد من السنة يقصده التجر من الآفاق، وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان. وبلد إيفري بسفح جبل نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان، وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة. فلمطة منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر. ولما تغلب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن، فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن. وصارت قبائل لمطة من أحلافهم، وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسان. والأمر على ذلك لهذا العهد وبيد الله تصاريف الأمور،لا رب سواه، ولا معبود إلاّ إيّاه
دولة بني أبي حفص الخبر عن دولة بني أبي حفص ملوك أفريقية من الموحدين ومبد أ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد قدمنا أنّ قبائل المصامدة بجبل درن وما حوله كثير مثل: هنتاتة وتينملل وهرغة وكنفيسة وسكسيوة وكدميوة وهزرجة ووريكة وهزميرة وركراكة وحاحة وبني ماغوس وكلاوة، وغيرهم ممن لا يحصى. وكان منهم قبل الإسلام وبعده رؤساء وملوك. وهنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم وأكثرها جمعاً وأشدّها قوةً، وهم السابقون للقيام بدعوة الإمام المهديّ والممّهدون لأمره وأمر عبد المؤمن من بعده، كما ذكرناه في أخباره. وإسم هنتات جدهم بلسان المصامدة بنتي، وكان كبيرهم لعهد الإمام المهديّ الشيخ أبو حفص عمر، ونقل البيذق أنّ إسمه بلسانهم فاصكات. وهنتاتة لهذا العهد يقولون أنه إسم جدّهم وكان عظيماً فيهم متبوع غير مدافع، وهو أوّل من بايع للإمام المهدي من قومه، فجاء يوسف بن وانودين وأبو يحيى بن بكيت
وابن يغمور وغيرهم منهم على أثره. واختصّ بصحابة المهديّ فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته. وكان تلو عبد المؤمن فيهم، ولم يكن مزية عبد المؤمن عليه إلا من حيث صحابة المهدي.
وأمّا في المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع، وكان يسمى بين الموحدين بالشيخ كما كان المهديّ يسمى بالإمام، وعبد المؤمن بالخليفة. سمات لهؤلاء الثلاثة من بين أهل الدعوة تدل على اشتراكهم في الجلالة. وأما نسبه فهو عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن إليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد بن نحية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، هكذا نسبه ابن نخيل وغيره من الموحدين. ويظهر منه أنّ هذا النسب القُرشيّ وقع في المصامدة والتحم به، واشتملت عليه عصبيّته شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم كما قلناه أول الكتاب. ولما هلك الإمام وعهد بأمره إلى عبد المؤمن، وكان بعيداً عن عصبية المصامدة، إلا ما كان له من أثرة المهد في واختصاصه فكتم موت المهديّ وعهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة. وتوقف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين، ثم قال له أبو حفص نقدّمك كما كان الإمام يقدّمك فاعلم أنّ أمره منعقد. ثم أعلن بيعته وأمضى عهد الإمام بتقديمه وحمل المصامدة على طاعته فلم يختلف عليه إثنان. وكان الحل والعقد في المهفات اليه سائر أيام عبد المؤمن وابنه يوسف، واستكفوا به نائب الدعوة فكفاهم همّها. وكان عبد المؤمن يقدّمه في المواقف فيجلي فيهم. وبعثه على مقدمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وزناتة كلّهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحدين مثل: بني ومانوا وبني عبد الواد وبني ورسيغان وبني توجين وغيرهم، فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم. ولأول دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة، وانصرفت إليه وجوه الغوغاء وانتشرت ضلالته في النواحي وتفاقم أمره، فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه ومحا أثر غوايته. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى أفريقية حركته الأولى لم يقدم شيئاً على استشارة أبي حفص. ولما رجع منها وعهد إلى ابنه محمد خالفه الموحدون، ونكروا ولابته ابنه فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس، وحمل الموحدين على البيعة له.
وأشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله، وتم أمر العهد لابنه محمد. ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى أفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة حركته الثانية لفتح المهدية استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب، وينقل من وصاة عبد المؤمن لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلا عمر بن يحيى ويوسف بن سليمان. فأما عمر فإنه من أوليائكم، وأما يوسف فجهزه بعسكرة إلى الأندلس تستريح منه. وكذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة. وأما ابن مردنيش فاتركه ما تركك وتربص به ريب المنون، واخل أفريقية من العرـب وأجلهم إلى بلاد المغرب، وأذخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلف الشيخ أبو حفص عن بيعته، ووجم الموحدون لتخففه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه، وأعجب بفضله فأعطاه صفقة يمينه، وأعلن بالرضى بخلافته، فكانت عند يوسف وقومه من أعظم البشائر، وتسمى لها بأمير المؤمنين سنة ثلاث وستين وخمسمائة. ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن، وتحركت الفتنة بجبال غمارة وصنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد سنة إثنتين وستين وخمسمائة، عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك. ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم، وكمل الفتح كما ذكرناه. ولما بلغه سنة أربع وستين وخمسمائة تكالب الطاغية على الأندلس وغدره بمدينة بطليوس، واعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص، ونزل قرطبة، وأمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه، فاستنقذ بطليوس من هوة الحصار، وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مذكورة. ولما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا ودفن بها، وكان أبناؤه من بعده يتناولون الإمارة بالأندلس والمغرب وأفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن، فولى المنصور ابنه أبا سعيد على أفريقية لأول ولايته، وكان من خبرة مع عبد الكريم المنتزي بالمهدية ما ذكرناه. واستوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد، وكان في مقدمته يوم الأركة سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فجلى عن المسلمين، وكان له في ذلك الموقف من الصبر والثبات ما طار له به ذكر. واستشهد في ذلك الموقف وعرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر، وهم لهذا العهد بتونس. ولما نهض الناصر إلى أفريقية سنة إحدى وستمائة، لما بلغه من تغلب ابن غانيةعلى
تونس فاسترجعها، ثم نازل المهديّة فتعاوت عليه ذئات الأغراب. وجمعهم ابن غانية ونزل قابس، فسرح الناصر إليهم أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين، فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة إثنتين وستمائة، وقتل جبارة أخو ابن عانية، وأثخن فيهم قتلاً وسبياً، واستنقذ منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس، وأسره ابن غانية، ورجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية، فكانت سبباً في فتحها. وكان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بأفريقية حسبما نذكره إن شاء الله.
الخبر عن إمارة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بأفريقية وهي أولية أمرهم بها
لما تكالب ابن غانية وأتباعه على أفريقية واستولى على أمصارها، وحاصر تونس وملكها، وأسر السيد أبا زيد أميرها، ونهض الناصر من المغرب سنة إحدى وستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم وشردهم عن نواحيها. وخيم على المهدية يحاصرها، وقد أنزل ابن غانية ذخيرته وولده بها وأجلب في جموعه خلال ذلك على قابس، فسرح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين. وزحف إليهم بتاجراً من جهات قابس فهزمهم واستولى على معسكرهم وما كان بأيديهم، وأثخن فيهم بالقتل والسبي، واستنقذ السيد أبا زيد من أسرهم، ورجع إلى الناصر بعسكره من حصار المهدية ظافراً ظاهراً. وعاين أهل المهدية يوم مقدمه بالغنائم والأسرى فبهتوا وسقط في أيديهم، وسألوا النزول على الأمان. وكمل فتح المهدية، ورجع الناصر إلى تونس فأقام بها حولاً إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة. وسرح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحق ليتتبع المفسدين، ويمحو مواقع عيثهم فدوخ ما وراء طرابلس، وأثخن في بني دمر ومطماطة ونفوسة، وشارف أرض سرت وبرقة، وانتهى إلى سويقة ابن مذكور. وفر ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره. وانكفأ السيد راجعاً إلى تونس. واعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب وقد أفاء على أفريقية ظل الأمر، وضرب عليهم سرادق الحماية. وبدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها، وأن مراكش بعيد عن الصريخ، وأنه لا بد من رجل يسد فيها مسدّ الخلافة ويقيم بها سوق الملك، فوقف اختياره على أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص، ولم يكن ليبعدوه لما كان عليه هو وأبوه في دولتهم من الجلالة، وأن أمر بني عبد المؤمن إنما تم بوفاق الشيخ أبي حفص ومظاهرته، وأنا أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به وبإخوته. وكان يوليه صلاة الصبح إذا حضر شغل وأمثال ذلك. وسرى الخبر بذلك إلى أبي محمد فامتنع، وشافهه الناصر به فاعتذر، فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله. وأجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات أفريقية في ثلاث سنين، وأن يختار عليهم من رجالات الموحدين، وأن لا يتعقب عليه في تولية ولا عزل، فقبل شرطه فنودي في الناس بولايته، ورفعت بين الموحدين رايته. وارتحل الناصر إلى المغرب، ورجع عنه الشيخ أبو محمد من باجة فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوال سنة ثلاث وستمائة، وأنفذ أوامره، واستكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل ورجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس، فجمع أحزابه وأتباعه من العرب من سليم وهلال. وكان فيهم محمد بن مسعود البلط في قومه من الذواودة، وعاودوا عيثهم، وخرج إليهم أبو محمد سنة أربع وستمائة في عساكر الموحدين. وتحيز إليه بنو عوف من سليم وهم: مرادس وعلاق فلقيهم بشبرو، وتواقعوا واحتربوا عامة يومهم، ونزل الصبر. ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار، واتبعهم الموحدون والعرب واكتسحوا أموالهم، وأفلت ابن غانية جريحاً إلى أقصى مفره. ورجع أبو محمد إلى تونس بالظفر والغنيمة. وخاطب الناصر بالفتح واستنجاز وعده في التحول عن الولاية فخاطبه بالشكر والعذر بمهمات المغرب عن إدالته، وأنه يستأنف النظر في ذلك. وبعث إليه بالمال والخيل والكساء للإنفاق والعطاء. كان مبلغها مايتا ألف دينار إثنتان وألف وثمان مائة كسوة، وثلثمائة سيف، وماية فرس، غير ما كان أنفذ إليه من سبتة وبجاية، ووعده
بالزيادة. وكان تاريخ الكتب سنة خمس وستمائة فاستمر أبو محمد على شأنه وترادفت الوقائع بينه وبين يحيى الميورقي كما نذكره إن شاء الله.
وقيعة تاهرت وما كان من أبي محمد في تلافيها واستنقاذ غنائمها: كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة شبرو بدا له ليقصدن بلاد زناتة بنواحي تلمسان، وقارن ذلك وصول السيد أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن والياً عليها من مراكش، وخروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم وجباية مغارمهم. وكتب إليه الشيخ أبو محمد نذيراً بشأنه، وأن لا يتعرض له وأنه في أتباعه فأبى من ذلك، وارتحل إلى تاهرت وصحبه بها ابن غانية فانفض معسكره. وفرت زناتة في حصونها، وقتل السيد أبو عمران. واستبيحت تاهرت فكان آخر العهد بعمرانها، وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي، وانقلبوا إلى أفريقية فاعترضهم الشيخ أبو محمد بموضع فأوقع بهم واستنقذ الأسرى من أيديهم، واكتسح سائر مغانمهم، وقتل فيها كثير من الملثمين. ولحق فلهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. واقعة نفوسة ومهلك العرب والملثمين بها: كان ابن غانية بعد واقعة شبرو واستفتاح أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهات طرابلس، وتلاحق به فلّ الملثمين وأوليائه من العرب. وكان المجلي معه في مواقف الدواودة من رياح، وكبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا واعتزموا على معاودة الحرب، وتعاقدوا الثبات والصبر وانطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية،
المجلد السادس من صفحة 376 -
حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم من رياح وزغب والشريد وعوف ودباب ونغاث. واختلفوا في الاحتشاد وأجمعوا دخول أفريقية فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليها. وخرج من تونس سنة ست وستمائة وأغذّ السير إليهم، وتزاحفوا عند جبل نفوسة، واشتدت الحرب. ولما حمي الوطيس ضرب أبو محمد أبنتيه وفسطاطه. وتحيز إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم واحتل مصاف ابن غانية. واتبعه الموحدون إلى أن دخل في غيابات الليل وامتلأت أيديهم بالأسرى والغنائم، وسيقت ظعائن العرب. وقد كانوا قدموها بين أيديهم للحفيظة وأفذاذاً في الكّر والفرّ فأصبحت مغنما للموحدين وربات خدورهم سبياً.
وهلك في المعركة خلق من الملثمين وزناتة والعرب، كان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان وشيخ الدواودة، وابن عمه حركات بن أبي شيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ بني قرة وجرار بن ويغزن كبير مغراوة ومحمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم. وانصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحدّ عفوفاً بالبأس من جميع جهاته، وانقلب أبو محمد والموحدون أعزةً ظاهرين، واستفحل أمر أبي محمد بأفريقية وحسم علل الفساد منها واستوفى جبايتها. وطالت مواقف حروبه ولم تهزم له فيها راية. وهلك الناصر وولي ابنه يوسف المستنصر، واستبد عليه المشيخة لمكان صغره، وشغلوا بفتنة بني مَرين وظهورهم بالمغرب، فاستكفى بالشيخ أبي محمد في أفريقية وعول على غنائه فيها، وضبطه لأحوالها وقيامه بملكها فأبقاه على عملها، وسرب إليه الأموال لنفقاتها وأعطياتها، ولم يزل بها إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة والله أعلم. الخبر عن مهلك الشيخ أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وولاية إبنه عبد الرحمن: كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة وستمائة. ولما هلك ارتاع الناس لمهلكه، وافترق الموحدون في الشورى فريقين بين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي
محمد وإبراهيم ابن عمه إسمعيل ابن الشيخ أبي حفص، فترددوا ملياً ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن إبنه، وأعطوه صفقة أيمانهم، وأقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة، فسكن الثائر وشمّر للقيام بالأمر عزائمه. وأفاض العطاء وأجاز الشعراء. واستكتب أبا عبد الله بن أبي الحسين، وخاطب المستنصر بالشأن. وخرج في عساكره لتمهيد النواحي وحماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزله لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره، فارتحل إلى المغرب ومعه إخوانه. وكاتبه ابن أبي الحسين ولحق بالحضرة.
الخبر عن ولاية السيد أبي العلا علي أفريقية وابنه أبي زيد من بعده وأخبارهم فيها واعتراضاتهم في الدولة الحفصية: لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص، وقارن ذلك عزلة السيد أبي العلا من أشبيلية، ووصوله إلى الحضرة مسخوطاً: وهو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور، وعبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك. وعول على الوزير ابن المثنى في جبر حاله فسعى له عند الخليفة، وعقد له على أفريقية، ووصل الخطاب بولايته ونيابة إبراهيم بن إسمعيل ابن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل، واستقدام أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة. وقرىء الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة وستمائة، فقام الشيخ بالنيابة في أمره، واستعمل أحمد المشطب في وزارته، وغلب عليه بطانته، وأساء في الموالاة لقرابته. واختصّ أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة، وظن امتداد الدولة له. ووصل السيل أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة، فنزل بالقصبة ونزل إبنه السيد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد، ورتب الأمور ونهج السنن. ولشهر من وصوله تقبض على محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد، وعلى أخويه
أبي بكر ويحيى، واستصفى أموالهم واحتاز عقارهم وضياعهم. وكان المستنصر عهد إليه بذلك، لما كان اشفه بفلتات من القول والكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد، فاعتقلهم السيد أبو العلا، ثم قتله وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فر من سجنه وتقبض فقتل. ونقل أبو بكر إلى مطبق المهدية فأردع به.
وخرج السيد أبو العلا من تونس سمة تسع عشرة وستمائة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها، فنزل قصر العروسيين، وسرح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج وغدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها وجبايتها. وقدم بين يده عسكراً. آخراً لمنازلة ابن غانية بودّان، وواعدهم هناك منصرفه من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية. ومال بذله في ذلك فانفض العسكر، وزحفوا إلى قابس. وأهمل السيد أبو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرهم. فلحق بأبيه وأخبره بالجلّى في أمرهم، فسخط قائد العسكر وهم بقتله. وطرق السيد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس. وبلغه أن ابن غانية نهض من ودّان إلى الزاب، وأن أهل بسكرة أطاعوه فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحدين إليه، ودخل ابن غانية الرمل فأعجزهم. ورجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب والتخريب، ورجع إلى تونس. ثم بلغه أن ابن غانية قد رجع إلى جوانب أفريقية، واجتمع إليه أخلاط من العرب والبربر، فسرح السيد أبا زيد إليه في العساكر ونزل بالقيروان، وخالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد ومعه العرب وهوّارة بظعائنهم ومواشيهم. وتزاحفوا بمجدول فاتح إحدى وعشرين وستمائة، واشتد القتال وعضت الموحدون الحرب، وأبلى هوّارة وشيخهم بعرة ابن حناش بلاء جميلاً. وضرب بنتيه وتناغوا في الثبات والصبر فانهزم الملثّمون وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية، واستولى الموحدون على معسكرهم. وكان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين وستمائة. فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس وأقصر عن متابعته. وخاطب المستنصر بمهلك أبيه وواقعه الملثّمين، وكان المستنصر قد عزله واستبدل منه بأبي
يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة، ولم يصل إليه الخبر بعزله بعد. وهلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين وستمائة، وولي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة، وكتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله، ونقض ما أصدر المستنصر من عزله، فأرسل عنانه في الولاية، وبسط يده في الناس بمكروهه، وتنكرت له الوجوه، وانحرف عنه الناس، بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمّد بن أبي حفص وولده، إلى أن عزل واستبدل بهم كما نذكره، وركب البحر بذخائره وأهله فلحق بالحضرة.
الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وما كان فيها من الأحداث: لما هلك المخلوع وولي العادل، ولى على أفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد. وولى على بجاية يحيى بن الأطاس التينمللي، وعزل عنها ابن يغمور. وكتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم. وكتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمه موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل، فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، واستقل أبو عمران موسى بأمر أفريقية، واستمرت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر. وخرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى أفريقية. ولما انتهى إلى بجاية قدم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريا ليعترضه طبقات الناس للقائه، فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة. وكان أولاد شدّاد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة، فسرح أخاه الأمير أبا زكريّا لحسم دائهم ولخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان كذلك. وخرج في رمضان من سنته، وخرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف، ووصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة، وتزحزح أبو عمران عن النيابة. ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع وعشرين وستمائة، فعقد له على بلاد قسطيلية وعقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس وما إليها، وذلك في جمادى من
هذه السنة.
وبعد استقراره بتونس بلغه أن ابن غانية دخل بجاية عنوة، ثم تخطى كذلك إلى تدلس، وأنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس وعقد لأخويه كما ذكرناه. وأغذّ السير إلى فحص أبة فصبح به هوّارة، وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد، فأطلق فيهم أيدي عسكره، واعتقل مشايخهم وأنفذهم إلى المهدية. ثم مر في أتباع ابن غانية، فانتهى إلى بجاية، وسكن أحوالها، ثم إلى متيحة ومليانة فأدركه الخبر أن ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعاً إلى تونس ودخلها في رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة، ولم يزل مستبداً بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا، وغلبه على الأمر كما نذكر. الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بأفريقية ورافع الراية لهم بالملك وأولية ذلك وبدايته: لما قتل العادل بمراكش سنة أربع وعشرين وستمائة، وبويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحدين. وكان المأمون قد فتح أمره بالخلاف، ودعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام، فامتنع أبو محمد ورد رسله إليه، فكتب بذلك لأخيّه الأمير أبي زكريا وهو بمكانه من ولاية قابس. وعقد له على أفريقية فأخذ له البيعة على من إليه، وداخله في شأنها ابن مكي كبير المشيخة بقابس. واتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم. ولما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحدون نهوضه إلى حرب أخيه، وانتقضوا عليه وعزلوه. وطير بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملاً في اللحاق برخاب بن محمد وأعراب طرابلس، فبايعوه ووصلوا به إلى معسكرهم. وخلع أبو محمد نفسه، ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس وعشرين وستمائة، وأنزل أخاه
أبا محمد بقصر ابن فاخر، وتقبض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس. واستكتبه أبو محمد فغلب على هوّاه، وكان يغريه بأخيه، فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك. ثم بعث أخاه أبا محمد في البحر إلى المغرب فاستبد بملكه، واستوزر ميمون بن موسى الهنتاتي، واستقامت أموره.
الخبر عن استبداد الأمير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن: لما اتصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحدين بمراكش، وخصوصاً هنتاتة وتينملل. وكان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع وإبراهيم، وأنه أشاع النكير على المهديّ في العصمة، وفي وضع العقائد والنداء للصلوات باللسان البربري، وإحداث النداء للصبح وتربيع شكل الدرهم وغير ذلك من سننه. وأنه غير رسوم الدعوة، وبدل أصول الدولة. وأسقط إسم الإمام من الخطبة والسكّة وأعلن بلعنه. ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم، وأعلن بخلعه سنة ست وعشرين وستمائة. وحول الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة. ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى واستقلاله، فأغفله واقتصر على ذكر الإمام المهدي، وتلقب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته. ثم جدد البيعة لنفسه سنة أربع وثلاثين وستمائة، وثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصراً على لفظ الأمير لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين. وخاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها:
- الأصل بالأمير المؤمنينا فأنت بها أحق العالمينا
فزحزحهم عن ذلك وأبى عنه، ولم يزل على ذلك إلى آخر دولته. الخبر عن فتح بجاية وقسطنطينة: لما استقل الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس، وخلع بني عبد المؤمن، نهض إلى قسنطينة
سنة ست وعشرين وستمائة، فنزل بساحتها وحاصرها أياماً. ثم داخله ابن علناس في شأنها وأمكنه من غرتها فدخلها، وتقبض على واليها السيد ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري. ووئى عليها ابن النعمان. ورحل إلى بجاية فافتتحها، وتقبّض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني وصيرهما معتقلين في البحر إلى المهديّة. واجريت عليهما هنالك الأرزاق، وبعث بأهلهما وولدهما مع ابن أوماز إلى الأندلس، فنزلوا بأشبيلية. وبعث معهما إلى المهدية في الاعتقال محمد بن جامع وابنه وابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف، وابن أبي الشيخ بن عساكر من شيوخ الذواودة، فاعتقلوا بمطبق المهدية وكان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته، وولاه بعدها الولايات الجليلة، وكان يستخلفه بتونس في مغيبه. وفي هذه السنة تقبض على وزيره ميمون بن موسى واستصفى أمواله، وأشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة. ثم غربه إلى الإسكندرية، واستوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع، إلى أن هلك؛ فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الاخر محمد إلى أن هلك.
الخبر عن مهلك ابن غانية وحركة السلطان إلى بجاية وولاية ابنه الأمير أبي يحيي زكريا عليها: لما استقل الأمير أبو زكريا بأفريقية وخلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله، فكانت له في ذلك مقامات مذكورة، وشرده عن جهات طرابلس والزاب وواركلا. واختطّ بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه، وأنزل بالأطراف عساكره وعماله لمنعها دونه. ولم يزل ابن غانية وأتباعه من العرب من أفاريق سليم وهلال وغيرهم على حالهم من التشريد والجلاء، إلى أن هلك سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وانقطع عقبه فانقطع ذكره، ومحا الله آثار فتنته من الأرض. واستقام أمر الدولة ونبضت منها عروق الاستيلاء واتساع نطاق الملك.
ونهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة إثنتين وثلاثين وستمائة يؤم بلاد زناتة بالمغرب الأوسط. وأغذ السير إلى بجاية فتلّوم بها. ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولّى عليها. ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن. وجاهر بنو توجين بخلافه فنزل البطحاء وأوقع بهم. وتقبض على رئيسهم عبد القوي بن العباس فاعتقله، وبعث به إلى تونس ودوخ المغرب الأوسط وقفل راجعاً إلى حضرته. وعقد مرجعه من المغرب لابنه الأمير أبي يحيى زكريا علي بجاية وأنزله بها. واستوزر له يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاتي وجعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى، وجبايته لعبد الحق بن ياسين، وكلهم من هنتاتة. وكتب إليه بوصيته مشتملة على جوامع الخلال في الدين والملك والسياسة، يجب إثباتها لشرف مغزاها وغرابة معناها ويأتي نصّها فيما بعد.
الخبر عن سطوة السلطان بهوارة: كان لهوّارة هؤلاء بأفريقية ظهور وعدد منذ عهد الفتح، وكانت دولة العبيديّين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم. وبقي منهم فلّ بجبل أوراس وما بعده من بلاد أفريقية وبسائطها إلى أبّة ومرماجنة وسبيبة وتبرسق. ولما انقرض ملك صنهاجة بالموحدين وتغلب الأعراب من هلال وسليم على سائر النواحي بأفريقية، وكثروا ساكنها، وتغلبوا عليهم أخذ هذا الفل بمدهب العرب وشعارهم وشارتهم في اللبوس والزي والظعون وسائر العوائد. وهجروا لغتهم العجمية إلى لغتهم، ثم نسوها كأن لم تكن لهم، شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه. ثم كان لهم انحياش أول الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن وقومه. فلما استبد الأمير أبو زكريا، وانقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة، وامتناع عن المغرم، وأضرار بالسابلة، فاعتمل السلطان في أمرهم. وخرج من تونس سنة ست وثلاثين وستمائة مورياً بالغزو إلى أهل أوراس، وبعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره. ثم صبحهم في عسكره من الموحدين والعرب ففتك بهم قتلأ وسبياً، واكتسح أموالهم وقتل كبيرهم أبو الطيب بعرة ابن حناش وأفلت من أفلت منهم ناجياً
بنفسه، عارياً من كسبه، فألانت هذه البطشة من حدّهم وخضّدت من شوكتهم، واستقاموا على الطاعة بعد.
الخبر عن ثورة الهرغي بطرابلس ومآل أمره: كان هذا الرجل من مشيخة الموحدين وهو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي ويكنّى بأبي عبد الرحمن، وكان الأمير أبو زكريا وقد عقد له على طرابلس وجهاتها، وسرّح معه معسكراً من الموحدين لحمايتها من أعراب دباب من بني سليم، فقام بأمرها واضطلع بجباية رعاياها. واستخدم العرب والبربر الذين بساحتها وكان بينه وبين الجوهري مصدوقة ود. فلما قتل الجوهري سنة تسع وثلاثين وستمائة كما قدّمناه استوحش لها يعقوب الهرغي واستقدمه السلطان فتلكّأ، وبعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره، وحدثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية وشعر لها أهل البلد. فانطلقوا وهم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره، فتقبّضوا عليه وعلى أخيه وعلى أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها. وطيّروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا، وبعث برؤوسهم إلى باب السلطان، ونصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس، وأصبحوا عبرةّ للمعتبرين وأنشد الشعراء في التهنية بهم وقامت للبشائر سوق لكائنتهم. وكان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران. وصل علقا إلى تونس وقصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي، ونمى عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه. وكان بالمهديّة رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء اشتهر بالنجدة في غزو البحر وقدّم على الأسطول فردّد الغزو حتى هابه الغزّى من امم الكفر، وأمنت سواحل المسلمين من طروقهم. وطار له فيها ذكر ونمي أنه كان مداخلاً للجواهري والهرغي، وأن القاضي بالمهدية أبا زكريا البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك، فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي
حفص بقتل ابن أبي الأحمر، وإشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلاً، فأمضى عهده. ولما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرىء من مداخلتهم، فسرّحه وأعاده إلى بلده. وقتل بالحضرة رجل آخر من الجند اتهم بمداخلتهم وسعايته في قيامهم، وكان له تعلق برحاب بن محمود أمير دباب، فأوعز السلطان إلى بعض الدعار من زناتة، فقتله غيلة ثم أهدر دمه. وتتبع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء، ومحا شوائب الفتنة. الخبر عن بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم: لما استقلّ أبو جميل زيّان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجّاج بن سعد ابن مردنيش بملك بلنسية، وغلب عليها السيّد أبا زيد ابن السيد أبي حفص، وذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس، وخروج ابن هود على المأمون، ثم فتنته هو مع ابن هود، وثورة ابن الأحمر بأرجونة، واضطراب الأندلس بالفتنة. وأسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب. وزحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها وكانت للعدو سنة ثلاث وثلاثين وستمائة سبع محلاّت لحصار المسلمين: إثنتان منها على بلنسية، وجزيرة شقر وشاطبة. ومحلة بجيان ومحلة بطبيرة ومحلة بمرسية ومحلة بلبلة، وأهل جنوة من وراء ذلك على سبتة. ثم تملّك طاغية قشتالة مدينة قرطبة، وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة، وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية. وأنزل بها عسكره وانصرف، فاعتزم زيان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره، واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم فانكشف المسلمون، واصيب كثير منهم. واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدثين بالأندلس، وكان يوماً عظيماً، وعنواناً على أخذ بلنسية ظاهراً. ثم ترددت عليها سرايا العدو. ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين وستمائة فحاصرها واستبلغ في نكايتها. وكان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم، وظهر أمر بني أبي حفص بأفريقية، فأمّل ابن مردنيش وأهل شرق
الأندلس الأمير أبا زكريا للكّرة، وبعثوا إليه بيعتهم، وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخاً، فوفد وأدّى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة، وأنشد في ذلك المحفل قصيدته على روي السين، يستصرخه فيها للمسلمين وهي هذه:
- أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درس
- وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عزالنصرملتمسا
- عاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صياح مسا
- يا للجزيرة اضحى اهلها جزراً للنائبات وامسى جدّها تعسا
- في كلّ شارقة إلمام بائقةٍ يعود مأتمها عند العدى عرسا
- وكلّ غاربةٍ أجحاف نائبةٍ تثني الامان حذاراً والسرور أسا
- قاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة ما الأنسا
- وفي بلنسيةٍ منها وقرطبة ما يذهب النفس او ما ينزف النفسا
- مدائن حلّها الأشراك مبتسماً جذلان وارتحل الإيمان منبئسا
- وصيّرتها العوادي عائثات بها يستوحش الطرف منها ضعف ما إنسا
- ما للمساجد عادت للعدى بيعاً وللنداء يرى أثناءها جرسا
- لهفاً عليها إلي استرجاع فائتها مدارساً للمثاني اصبحت درسا
- وأربعاً غنمت ايدي الربيع بها ما شئت خلعً من موشيّةٍ وكسا
- كانت حدائق للاحداق مونقةً فصوخ النضر من أدواحها وعسا
- وحال ماحولها من منظرٍ عجبٍ يستوقف الركب او يستركب الجلسا
- سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا عيث الدبا في مغانيها التي كبسا
- وابتزّ بزتها مما تحيّفها تحيف الأسد الضاري لما افترسا
- فأين عيش جنيناه بها خضراً واين غصن جنيناه بها سلسا
- محا محاسنها طاغً اتيح لها ما نام عن هضمها حيناً وما نعسا
- ورج أرجاءها لمّا أحاط بها فغادر الشمّ من أعلامها خنسا
- خلا له الجوّ وامتدّت يداه إلى إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا
- وأكثر الزعم بالتثليث منفرداً ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
- صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلاً ولا مرسا
- وأحي ما طمست منها العداة كما احييت من دعوة المهديً ما طمسا
- أيام صرت لنصر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا
- وقمت فيها لامر الفه منتصراً كالصارم اهتزّأو كالعارض انبجسا
- تمحو الذي كتب التجسيم من ظلمً والصبح ماحية أنواره الغلسا
- هذي رسائلها تدعوك من كتب وأنت أفضل مرجوّ لمن يئسا
- وافتك جارية بالنجح راجية منك الأمير الرضي والسيّد الندسا
- خاضت خضارة يعلوها ويخفضها عبابه فتعاني اللين والشرسا
- وربما سبحت والريح عاتية كما طلبت بأقصى شدة الفرسا
- تؤمّ يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص مقبلة من تربه القدسا
- ملك تقلّدت الاملاك طاعته دنياً ودنيا فغشّاها الرضي لبسا
- من كلّ غادٍ على يمناه مستلما وكل صادٍ إلى نعماه ملتمسا
- مؤيّد لورمى نجما لأثبته ولودعا أفقاً لبّى وما احتبسا
- أمارة تحمل المقدار رايتها ودولة عزها يستصحب القعسا
- يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ويطلع الليل من ظلمائه لعسا
- كأنّه البدر والعلياء حالته تحفّ من حوله شهب القنا حرسا
- له الثرى والثريّا خطّتان فلا اعزّمن خطّتيه ما سما ورسا
- يأيّها الملك المنصور انت لها علياء توسع أعداء الفدى تعسا
- وقد تواترت الانباء أنّك من يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا
- طهّر بلادك منهم إنّهم نجس ولا طهارة ما لم تغسل النجسا
- وأوطئ الفيلق الجرّار أرضهم حتّى يطأطىء رأس كل من رأسا
- وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت عيونهم أدمعا تهمي زكا وخسا
- هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت داءً متى لم تباشر حسمه انتكسا
- اما هنيئاً لك التمكين ساحتها جردا سلاهب او خطّية دعسا
- واضرب لها موعداً بالفتح ترقبه لعلّ يوم الأعادي قد أتى وعسا
فأجاب الأمير أبو زكريا داعيتهم، وبعث إليهم أسطوله مشحوناً بمدد الطعام والأسلحة والمال، مع أبي يحيى بن يحيى ابن الشهيد أبي إسحاق بن أبي حفص. وكانت قيمة ذلك مائة ألف دينار. وجاءهم الأسطول بالمدد وهم في هذا الحصار، فنز Gبمرسى دانية واستفرغ المدد بها ورجع بالناضّ إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلمه. واشتد الحصار على أهل بلنسية، وعدمت الأقوات وكثر الهلاك من الجوع، فوقعت المراوضة على إسلام البلد فتسلّمها جاقمة ملك أرغون في صفر سنة ست وثلاثين وستمائة، وخرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر، فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريا. ورجع ابن الأبّار إلى تونس، فنزل على السلطان وصار في جملته، وألحّ العدو على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر، وأزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته، وأخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكريا. ثم داخل أهل مرسية، وقد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن خطاب في مفتتح السنة، فافتتحها عليه في رمضان من سنته وقتله، وبعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكريا. وانتظمت البلاد الشرقية في طاعته، وانقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع وثلاثين وستمائة، ولم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود
على مرسية، وخرج عنها إلى لقنص الحصون سنة ثمان وثلاثين وستمائة، إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع وأربعين وستمائة، وأجاز إلى تونس، والبقاء لله.
الخبر عن المجوسي وأوليته ومال أمره
اسم هذا الرجل: محمد بن محمد الجوهري، وكان مشتهراً بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب. وكان حسن الضبط مترامياً إلى الرياسة. ولما ورد على تونس وتعلق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه فوجد جباية أهل الخيام بأفريقية من البرابرة الموّطنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة في ديوان، فنبه على أنها مأكلة للعمّال ونهبة للولاة، فدفع إليها فأنمى جبايتها وقرر ديوانها، وصارت عملاً منفرداً يسمى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر، جذب له السلطان أبو زكريا بضبعه، وعوّل على نصيحته وأثره باختصاصه. ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر صاحب الأشغال بالحضرة، فاستعمل مكانه وكان لا يلي ذلك الخطّة إلا كبير من مشيخة الموحدين فرشحه السلطان لها لكفايته وعنائه، فظفر منها بحاجة نفسه، واعتدها ذريعة إلى امنيته، فاتخذ شارة أرباب السيوف، وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها. وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما، فنصبا له، وأغريا به السلطان، وحذّراه غائلة عصيانه. وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه، ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان فقال له: عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم، فأعرض عنه السلطان واعتدّها عليه. وجعلها مصداقاً لما نمي عنه. ولما
قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكريا ابن السلطان، أظهر له الجوهري أن ذلك بسعايته، وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكريا فقام لها وقعد، وأنف من استبداد الجوهري عليه. ولم تزل هذه وأمثالها تعذ عليه حتى حق عليه القول فسطا به الأمير أبو زكريا وتقبض عليه سنة تسع وثمانين وستمائة وستمائة وستمائة وستمائة، ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن برعان والندرومي، فتجلد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتاً بمحبسه. ويقال خنق نفسه والقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العيث به، وإلى الله المصير.
الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية: كان الأمير أبو زكريا منذ استقل بأمر أفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولاً إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة. وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مَرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة. وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزاً إليهم سلماً لوليهم وحرباً على عدوهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تيمماً لمسراته، وميلاً إليه عن جانب أقتاله بني مَرين المجلبين على المغرب والدولة، فاستكبر السلطان أبو زكريا اتصال الرشيد هذا بيغمراسن وآله، وهم جواره بالمحل القريب. وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخاً على يغمراسن فسهلوا له أمره، وسوّلوا له الاستبداد على تلمسان. وجمع كلمة زناتة، وإعداد ذلك ركاباً لما يرومه من امتطاء ملك
الموحدين بمراكش وانتظامه في أمره وسلماً لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وباباً لولوج المغرب على أهله، فحركه أملاؤهم وهزّه إلى النعرة صريخهم، وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان. واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم، فأهطعوا لداعيه. ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة. وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم من العرب. وضرب معهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب، تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان، وتلووا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكريا الحيلة. زعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم، فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة، فرجعهم بالخيبة. ولما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد، وبرز يغمراسن وجموعه للقاء بصحبتهم ناشية السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد احيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفاً في ذوبه وخاصته. واعترضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له، ولحقوا بالصحراء ونسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال.
ولما تجلى غشي تلك الهيعة، وحسر تيار الصدمة، وخمدت نار الحرب، راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكريا نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها. واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبّرأ أمراء زناتة ضعفاً عن مقاومة يغمراسن علماً بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه، ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته. وسرّح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله، واطلعوا من
المراقب عليه. ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق، واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وأفريقية. وأن يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك. ووفدت أمّه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها، وأحسن وفادتها ومنقلبها، وسوّغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بأفريقية، وأطلق أيدي عماله على جبايته، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله.
وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره، ومعترضاً عن مرامه، وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه، فأجابهم وقلد كلاًّ من عبد القوي بن عطية التوجيني، والعباس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه، وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين. وأقاموا مراسمها ببابه. وأغذّ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه، وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه، وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته، فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح، وأسنى جوائزهم وتطاولت إليه أعناق الآفاق كما نذكره. الخبر عن دخول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية ووصول بيعة إشبيلة وكثير من أمصارها: كان بأشبيلية أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد وأبو عمرو بن الجدّ من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر، ورثا التجلّة عن جذهما وأجراهما الخلفاء على سننهم. وكانا مسمتين وقورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما. وكان السادة من بني عبد المؤمن يعولون على شوراهما في مصرهما. وكان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر، وانتزى بها السادة وافترقوا. وثار بشرق الأندلس ابن هود وزيان بن مردنيش، وبغربها ابن الأحمر. وغلب ابن هود الموحدين
وأخرجهم عنها. وملك ابن هود أشبيلية سنة ست وعشرين وستمائة واعتقل من كان بها من الموحدين. ثم انتقضوا عليه سنة تسع وستمائة بعدها وأخرجوا أخاه أبا النجاة سالماً، وبايعوا الباجي وتسمى بالمعتضد، واستوزر أبا بكر بن صاحب الرد، ودخلت في بيعته قرمونة وحاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة وجيان بعد أن ملك قرطبة.
وزحف ابن هود إليهم فلقوه وهزموه، ورجعوا ظافرين، فدخل الباجي إلى أشبيلة وعسكر بخارجها، ثم انتهز فرصته في أشبيلية وبعث قريبه ابن أشقيلولة مع أهل أرجونة والنصارى إلى فسطاط الباجي فتقبضوا عليه وعلى وزيره وقتلوهما سنة إحدى وثلاثين وستمائة. ودخل ابن الأحمر أشبيلية، ولشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها ورجعوا إلى طاعة ابن هود، وولى عليهم أخاه أبا النجاة سالما. ولما هلك محمد بن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة صرف أهل أشبيلية طاعتهم إلى الرشيد بمراكش، وولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الذي قدمنا أنه كان والياًً بقسنطينة، وأن الأمير أبا زكريا غلبه عليها واعتقله، وبعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة امه بأشبيلية. ولما سار أهل أشبيلية للرشيد قدموه على أنفسهم، وتولى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد، وبعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقر السيد أبا عبد الله على ولايتهم. واستمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين وستمائة. وقد ملك الأمير أبو زكريا تلمسان وأشرف على أعمال المغرب، فاقتدوا بمن تقدم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسيه ومرسية، وبايعوا للأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص واقتدى بهم أهل شريش وطريف، وبعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى وأربعين وستمائة. وسألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس ابن الشيخ أبي حفمص، فقدم أشبيلية وقام بأمرها، وسلم له ابن الجد فى نقضها وإبرامها. ثم انتقض عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة وطرده من البلد إلى سبتة واستبد بأمر أشبيلية، ووصل يده بالطاغية. وعقد له السلم وضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند وأسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف واستقل بأمر أشبيلية.
ورجّع أبا فارس بن أبي حفص وولاه بدعوة الأمير أبي زكريا فسخطهم الطاغية لذلك وانتقض عليهم وملك قرمونة ومرشانة. ثم زحف إلى حصرهم وسألوه الصلح فامتنع. وصار أمر البلد شورى بين القائد شفاف وابن شعيب ويحيى بن خلدون ومسعود بن خيار وأبي بكر بن شريح، ويرجعون في أمرهم آخراً إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص.
وأقاموا في هذا الحصار سنتين ونازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية، وبعث إليهم الأمير أبو زكريا المدد، وجهّز له الأسطول لنظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي. وأوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي أشبيلية، وغلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع. واستولى العدو عليها صلحاً سنة ست وأربعين وستمائة بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده وميرته. وقدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن، والأمر لله. الخبر عن بيعة أهل سبتة وطنجة وقصر ابن عبد الكريم وتصاريف أحوالهم ومال أمرهم: كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم، ونزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا وأخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود، وقدموا عليهم أحمد الينشتي وتسمى بالموفق. ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عندما بايعه أهل أشبيلية سنة خمس وثلاثين وستمائة. وتقبضوا على الينشتي وابنه وأدخلوا السيّد أبا العباس ابن السيد أبي سعيد، كان والياً بغمراة فولوه عليهم. ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي عليّ بن خلاص، كان من أهل بلنسية واتصل بخدمة الرشيد فجلى فيها، ودفعه إلى الأعمال فضبطها فوّلاه سبتة فاستقل بها. وولّى على طنجة يوسف ابن الأمير قائداً على الرحل الأندلسي وضابطاً لقصبتها. حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين وستمائة، وقد استفحل أمر الأمير أبي زكريا بأفريقية، واستولى على تلمسان وبايعه الكثير من أمصار الأندلس، فصرف ابن خلاص وجهه إليه. وكان قد اقتنى الأموال واصطنع الرجال فدخل في دعوته، وبعث الوفد ببيعته. واقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا. وعقد
لابن خلاص على سبتة وما إليها، فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سمّاه الميمون، وأركب إبنه أبا القاسم فيه وافداً على السلطان، ومعه الأديب إبراهيم بن سهل، فعطب عند إقلاعه. ولما رجع الأسطول من أشبيلية كما قدمناه على بقية هذا العطب وحزن أبي علي بن خلاص على إبنه، رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة، فانتقل بأهله واحتمل زخيرته. ولما مر الأسطول بمرسى وهران نزل بساحلها فأراح، واحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجاءة سنة ست وأربعين وستمائة. وعقد السلطان على سبتة لأبي يحيى بن زكريا ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص. وبعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الأشبيلي، كان صديقاً لشفاف وعدوّاً لابن الجد. ولما قتل شفاف لحق بالحضرة فولاّه الأمير أبو زكريا أشغال سبتة، واستمرت الحال إلى أن كان من استبداد العزفي بسبتة ما نذكره.
الخبر في بيعة المرية: لما هلك محمد بن هود بالمريّة سنة خمس وثلاثين وستمائة كما ذكرناه واسبتدّ وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها، وضبها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين وستمائة إلى الأمير أبي زكريا حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته. ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلب عليه سنة ثلاث وأربعين وستمائة كما ذكرناه في أخباره. وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته، وأحله أبو علي بن خلاص محلّ البّر والتكرمة، وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيونش، وأجمع الثورة بأبي خلاص، فنذر به وتغير له. قلما رجع الأسطول من أشبيلية ركبه الرميمي ولحق بتونس، فنزل على الأمير أبي زكريا وحل من حضرته محل التكرمة. واستوطن تونس، وتملك بها الضياع والقرى، وشيدّ القصور إلى أن هلك والبقاء لله وحده. الخبر عن بيعة ابن الأحمر: كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة، وتملك جيان وقرطبة
وأشبيلية وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته. ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين وستمائة عندما بايعه أهل أشبيلية وسبته، فلم يزل على يذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكريا بأفريقية وتأميله للنصرة والكرة، فحول ابن الأحمر إليه الدعوة، وأوفد بها أبا بكر بن عيّاش من مشيخة مالقّة فرجعهم الأمير أبو زكريا بالأموال للنفقات الجهادية. ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وستمائة، فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبد بسلطانه.
الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها: كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحدين والياً بسلجماسة لبني عبد المؤمن. ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين وستمائة، ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتباً فلم يعتبه. ومزق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه، واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ونواحيها، فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته، فعقد له الأمير أبو زكريا على سجلماسة وأنحائها، وفوّض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها. وخطب له عبد الله بسجلماسة، وفر إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك، وأبو سعيد العود الرطب، فلحق بتونس. وأقام أبو زيد معه بسجلماسة. وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وستمائة، وقيل سنة أربعين، ومن معسكره كان مفر أولئك المشيخة. وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به، فخرج من سجلماسة وأسلمها وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي. وطيّر بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته، وغفر له سالفته. وتقبض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب، وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها، ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه.
الخبر عن بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بنى مَرين:
كان بين بني عبد الواد وبين بني مَرين منذ أوليتهم وتقلبهم في القفار فتن وحروب، ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع. فلما التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه، وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد لبعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل. ولما استبد الأمير أبو زكريا بأمر أفريقية، ودوخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان، وأطاعه بنو عبد الواد، حذر بنو مَرين حينئذٍ غائلتهم. وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكريا عليهم، فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة، وخاطبوه بالتمويل، وأوجبوا له حق الخلافة، ووعدوه أن يكونوا أنصاراً لدعوته وأعواناً في أمره، ومقدّمة في عسكره إلى مراكش وزحفه. وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم، والاعتصام ببيعتهم ولم تزل المخاطبات بينهم وبين الأمير أبي زكريا في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده. ورسلهم تفد. عليه بذلك مرة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد. وقد استولى الأمير أبو زكريا على تلمسان، ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته. وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي بحبى بن عبد الحق، وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثّبوا به وقتلوه. وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، فحملهم على بيعة الأمير أبي زكريا فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده. وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حده واعتزم على النهوض إليهم فخامهم الرعب، وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريرة، فتقبل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف.
الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيي زكريا ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد إلى أخيه محمد:
كان الأمير أبو زكريا قد عقد لإبنه أبي يحيى زكريا على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حماد، وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة كما ذكرناه، فاستقل بذلك، وكان بمكان من الترشيح للخلاف بنفسه وجلاله، وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل. فولاه الأمير أبو زكريا عهده سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه، وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره. وكتب إليه بالوصيّة التي تداولها الناس من كلامة ونصه:
أعلم سدّدك الله وأرشدك، وهداك لما يرضيه وأسعدك، وجعلك محمود السيرة، مأمون السريرة. إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه، وجعله مسؤولاً عن رعيته في جل أمرهم ودقه، أن يقدم رضى الله عز وجل في كل أمر يحاوله، وأن يكل أمره وحوله وقوّته لله، ويكون عمله وسعيه وذبّه عن المسلمين، وحربه وجهاده للمؤمنين، بعد التوكل عليه، والبراءة من الحول والقوة إليه. ومتى فاجأ ك أمر مقلق، أو ورد عليك نبأ مرهق، فريّض لبّك، وسكن جأشك، وارع عواقب أمر تأتيه، وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه. ولا تقدم إقدام الجاهل، ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل. وأعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله، وقصر عن مقاومته رجاله، فمفتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء لجيش ورؤسائهم، وذي التجارب من نبهائهم. ثم الإقدام عليه، والتوكل على الله فيما لديه، والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره، والصغير على قدره. ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك، وتغلّطه في نفسه وتفسد نيّة الكبير وتؤثره عليك، فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين، ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك.
واتخذ كبيرهم أبا وصغيرهم إبناً، وأخفض لهم جناح الذل من الرحمة، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين. واتخذ نفسك صغيرة، وذاتك حقيرة، وحقر أمورك، ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين، بأنك
أعظم الناس قدراً، وأكثرهم بذلاً، وأحسنهم سيرة وأجملهم صبراً، فذاك غرور وبهتان وزور. واعلم أنّ من تواضع لله رفعه الله. وعليك بتفقد أحوال رعيتك والبحث عن عمالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم، ولا تنمّ عن مصالحهم، ولا تسامح أحداً فيهم. ومهما دعيت لكشف ملمّةٍ فاكشفها عنهم، ولا تراع فيهم كبيراً ولا صغيراً إذا عدل عن الحق. ولا تراع في فاجر ولا متصرف إلا ولا ذمّةً، ولا تقتصر على شخص واحد في رفع مسائل الرعيّة والمتظلمين. ولا تقف عند مراده في أحوالهم. واتخذ لنفسك ثقاة صادقين مصدقين، لهم في جانب الله أوفر نصيب، وفي رفع مسائل خلقه إليك أسرع مجيب. وليكن سؤالك لهم أفذاذ، فإنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه، حمله الهوى على الميل، ودعته الحميّة إلى تجنب الحق، وترك قول الصدق. وإذا رفع إليك أحد مظلمة، وأنت على طريق، فادعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك. وجاوبه جواب مشفقٍ مصمغ إلى قوله، مصيخ إلى نازلته ونقله، ففي إصاختك له وحنوّك عليه أكبرتأنيس، وللسياسة والرياسة في نفوس الخاصّة والعامّة، والجمهور أعظم تأسيس. وأعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن بالته واليوم الآخر إلا في حق أوجبه الكتاب والسنّة، وعضدته أقاويل الشرعية والحجّة، أو في مفسد عاثت في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاحهم وأحوالهم، فليس إلا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء، ولا تقل عثرة حسود على النعم، عاجز عن السعي، فإن إقالته تحمله على القول، والقول يحمله على الفعل، ووبال عمله عائد عليك. فاحسم داءه قبل انتشاره، وتدارك أفره قبل إظهاره، واجعل الموت نصب عينيك، ولا تغتر بالدنيا وإن كانت في يدنك. لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح. وأعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب، والقناعة مال لا ينفد. وقد قال بعض المفسرين في قوله عز من قائل: (وتركنا عليه في الآخرين ) إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلد فيها من الأعمال المشكورة، والفعلات الصالحة المذكورة.
فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذب به عن عباده. وأرجو بك متى جعلت وصيتي هذه نصب عينيك، لم تعدم من ربّك فتحاً ييسره على يديك، وتأييداً ملازماً لا يبرح عنك إلا إليك، بمن الله وحوله وطوله. والله يجعلك ممن سمع فوعى، ولبى داعي الرشد إذا دعا، إنه على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تمت الوصيّة المباركة، فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك، وعلا في الدولة كعبه، وقوي عند الكافة تأميله، وهو بحالة من النظر في العلم والجنوح للدين، إلى أن هلك سنة ست وأربعين وستمائة، فأسى له السلطان، واحتفل الشعراء في ريائه وتأبينه، فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان، ويبعثون حزنه، وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد، بحضور الملأ، وإيداع الخاصة كتابهم بذلك في السجل، إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعد. الخبر عن مهلك السلطان أبي زكريا وما كان عقبه من الأحداث: كان السلطان أبو زكريا قد خرج من تونس إلى جهة قسنطينة للإشراف على أحوالها، ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها، ووافته هنالك الذواودة، وشيخهم موسى بن محمد. وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام. وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسنطينة. ثم أبلّ من مرضه، ووصل منها إلى بونة، فراجعه المرض. ولما نزل بظاهر بونة اشتدّ به مرضه. وهلك لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة لإثنتين وعشرين سنة من ولايته، ودفن بجامع بونة. ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسنطينة سنة ست وستين وستمائة وستمائة بين يدي حصار النصارى تونس. وبويع إثر مهلكة إبنه ولي عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره. وطار خبر مهلكه في الافاق، فانتقض كثير من أهل القاصية، ونبذوا الدعوة الحفصية، وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصّية. وتمسك بها يغمراسن بن زيان صاحب المغرب الأوسط، فلم
يزالوا عليها حيناً من الدهر، إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره. ولما بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة، وكان بها أبو يحيى ابن الشهيد من قبل الأمير أبي زكريا كما نذكره، وأبو عمرو بن أبي خالد، والقائد شفاف، فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف، وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس. وتولّى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي.
واتفق الملأ على ولاية العزفي، وحوّلوا الدعوة للمرتضى، وذلك سنة سبع وأربعين وستمائة. وتبعهم أهل طنجة في الدعوة، واستبد بها ابن الأمير، وهو يوسف بن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمداني، كان والياً عليها من قبل أبي علي بن خلاص. فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي، خالفهم هو إلى الدعوة الحفصية، واستبد عليهم. ثم خطب للعباسي وأشرك نفسه معه في الدعاء، إلى أن قتله بنو مَرين غدراً كما نذكره، وانتقل بنوه إلى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة، انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء، فنزلوا بها وأصهر إليهم بنو الأمير، وارتحلوا معهم إلى تونس. وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثاثق، واستعمل في خطة القضاء بالحضرة أيام السلطان، وكان له في ذكر. ولمّا بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكريا إلى صقلية أيضاً، وكان المسلمون بها في مدينة بلغ قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الإشراك في البلد والضاحية، فتساكنوا حتى إذا بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجوا إلى الحصون والأوعار، ونصبوا عليهم ثائراً من بني عبس، وحاصرهم طاغية صقلية بمعقلهم من الجبل. وأحاط بهم حتى استنزلهم. وأجازهم البحر إلى عدوته، وأنزلهم بوجاره من عمائرها. ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها، وألحقهم بإخوانهم. واستولى الطاغية على صقلية وجزائرها. ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره، والله غالب على أمره.
الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر وما كان في أيامه من الحوادث :
لما هلك الأمير أبو زكريا بظاهر بونة سنة سبع وأربعين وستمائة كما قدمناه اجتمع الناس على إبنه الأمير أبي عبد الله، وأخذ له البيعة عمّه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر، وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة، فجدد بيعته يوم وصوله وتلقّب المستنصر بالله. ثم جدد البيعة بعد حين، واختار لوضع علامته: الحمد لله، والشكر لله وقام باعباء ملكه، وتقبّض على خاصة أبيه الخصي كافور، كان قهرمان داره، فأشخصه إلى المهديّة، وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب. واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي، واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلم ولد عمّه محمد اللحياني الثائر عليه كما نذكره والله تعالى أعلم.
الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله ومقتل أبيه:
كان للأمير أبي زكريا من الإخوة ‘إثنان: محمد وكان أسنّ منه ويعرف باللحياني لطول لحيته، والآخر أبو إبراهيم، وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه. ولما هلك الأمير أبو زكريا، وقام بالأمر إبنه أبو عبد الله المستنصر، واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي، وكان عظيماً في قومه، فأمل أن يستبد عليه لمكان صغره، إذ كان في سن العشرين ونحوها. واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين، والصنائع من بيوت الأندلس. فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالأ، ورنب جنداص كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة. فداخل ابن أبي مهدي أخوي السلطان، وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر، فلم يجد عندهما ما
أمل من ذلك. فرجع إلى ابن محمد اللحياني، فأجابه إلى ذلك. وبايعه ابن أبي مهدي سراً، ووعده المظاهرة. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمّه محمد اللحياني وحذره من غائلة إبنه، وأبلغه ذلك أيضاً القاضي أبو زيد التوزري منتصحاً.
وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وستمائة، وتقبض على الوزير أبي زيد بن جامع. وخرج ومشيخة الموحدين معه، فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره، واستركب السلطان أولياءه. وعقد للعاقد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء، ولقي الموحدين بالمصلّى خارج البلد، ففض جمعهم، وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عمّ السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة، وحمل رؤوسهما إلى السلطان. وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه، وانتهب منازل الموحدين وخربت. ثم سكنت الهيعة وهدأت الثائرة، وعطف السلطان على الجند والأولياء وجهل الاصطناع، فأدر أرزاقهم ووصل تفقدهم. وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجر أول الدولة، وتزحزح لابن أبي مهدي عن رتبته، وتضاءل لاستطالته، فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك. ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر، وقبحوا عنده ما أتاه من الأفتيات في قتل عميه من غير جرم. ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة، وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه، فقعد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريداً، إلى أن كان من أمره ما كان. الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه: فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكية، وأولها المصيد بناحية بنزرت. اتخذه للصيد سنة خمسين وستمائة، فأدار سياجاً على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد، بحيث لا يراع فيه سرب الوحش، فإذا ركب للصيد تخطّى ذلك السياج إلى قوره في لمة من مواليه المتخصين وأصحاب بيزرته، بما معهم من
الجوارح بزاة وصقوراً وكلاباً سلوقية وفهوداً، فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء، وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطراً من ذلك القنيص سائر يومه، فكان دلك من أفخم ما عمل في مثلها. ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة بحائطين ممتدّين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقاً سالكاً ما بينهما، وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهنّ إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهن، فكان ذلك مصنعاً فخماً وأثراً على أيام الدولة خالداً. ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك. وأساراك باللسان المصمودي هو القوراء الفسيحة. وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السمك متباعد الأقطار متسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب، وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحة وغلقه بالعصبة اولي القوة. ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب إلى معارج قد نصت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الإيوان، يناهز عددها الخمسين أو نحوها، ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء. ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود ومشاهد الأعياد، فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي لشهد بأبهة الملك وجلالة الدولة. واتخذ أيضاً بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر، يشتمل على جناتٍ وغير معروشات، اغترس فيها من شجره كل فاكهةٍ من أصناف التين والزيتون والرمّان والنخيل والأعناب، وسائر الفواكه وأصناف الشجر. ونضد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السدر والطلح والشجر البريّ، وسمّى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والجوائز وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والريحان، وشجر الياسمين والخيري والنيلوفر وأمثاله. وجعل وسط هذه الرياض روضا فسيح الساحة، وصنع فيه للماء حائزاً من عداد البحور، جلب إليه الماء في القناة القديمة، كانت ما بين عيون زغوان
وقرطاجنة تسلك بطن الأرض في أماكن، وتركب البناء العاديّ ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى، فعطف هذه القناة من أقرب السماوات إلى هذا البستان. وأمطاها حائطاً وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى، زصيف البناء متباعد الأقطار مربّع القنا مجلل بالكلس، إلى أن يقمعه الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية، فتنبعث في الصهريج إلى أن يفهق حوضه، وتضطرب أمواجه تترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهنّ تباري الفتح، ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبّتان متقابلتان كبراً وصغراً على أعمدة المرمر، مشيدة جوانبها بالرخام المنجّد، ورفعت سقفها من الخشب المفدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمّقة، إلى ما اشتملت عليه هذه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور غرفا من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار، وتأّنق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزهاته مى هذه، فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الآفاق.
الخبر عن فرار أبي إسحاق وبيعة رياح له وما قارن ذلك من الأحداث: كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر، وكان يعاني من خلقه وملكته عليه شدة، وكان السلطان يخافه على أمره وخرج سنة إحدى وخمسين وستمائة وستمائة لبعض الوجوه السلطانيّة، ففرّ الأمير أبو إسحاق من معسكره، ولحق بالدواودة من رياح، فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس، واجتمعوا على أمره. وبايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم واعتقد منه الذمّة والرتبة، وقصدوا بسكرة وحاصروها، ونادى بشعار طاعتهم فضل بن علي بن الحسن بن مزني من مشيختها. وائتمر به الملأ ليقتلوه، ففر إليه وصار في جملته. ثم بايع له أهل بسكرة ودخلوا في طاعته. ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها، واجتمعت عليه الأعراب من كل أوب. وأهم السلطان شأنه، وتقبض على ولده فحبسهم بالقصبة جميعاً. ووكًل بهم من يحوطهم وألطف ابن أبي الحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق ومولاه ظافر، بتحذير ألقاه إلى أخته بالحضرة تنصحاً، فبعثت به إلى أخيها، فتنكّر لظافر وفارقه، وسار إلى المغرب. ثم لحق بالأندلس، وافترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان، وأجاز منها إلى الأندلس. ونزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه، وأسنى له الجراية. وشهد هنالك الوقائع، وأبلى في الجهاد. ولم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر وبهاديه، ويوفد عليه مشيخة الموحدين مصانعة في شأن أخيه واستجلاءً لحاله، إلى أن هلك. وكان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر. ولحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية. وأوفد ولده علي الواثق مستعتباً وراغباص في السبيل إلى الحج. وقلق المستولي على الدولة بمكانه، وراسل شيخ الموحدين أبا هلال عياد بن محمد الهنتاتي صاحب بجاية في اغتياله عن قصده، فذهب دمه هدراً وبقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق، وبيد الله تصاريف الأمور.
الخبر عن بني النعمان ونكبتهم والخروج أثرها إلي الزاب
كان بنو النعمان هؤلاء من مشيخة هنتاتة ورؤسائهم، وكان لهم في دولة الأمير أبي زكريا ظهور ومكان، وخلصت ولاية قسنطينة لهم يستعملون عليها من قرابتهم. واتصل لهم ذلك أول دولة المستنصر، وكان كبيرهم أبو علي وتلوه ميمون وعبد الواحد، وكان لهم في مداخلة اللحياني أثر. فلما استوسق للسلطان أمره، وتمهّدت دولته نكبهم وتقبض عليهم سنة إحدى وخمسين وستمائة وستمائة، فأشخص أبا علي إلى الإسكندريّة، وقتل ميمون وانقرض أمرهم. وظهر أثر ذلك بالزاب خارج تسمّى بأبي حمّارة، فخرج السلطان من تونس وقصده بالزاب، فأوقع به وبمجموعه وتقبض عليه، وسيق إلى السلطان فقتله، وبعث برأسه إلى تونس فنصب بها. وقفل السلطان إلى مقره فنزل بها، وسخط وجوهاً من سليم: من مرداس ودباب، كان فيهم رحاب بن محمود وابنه، فاعتقلهم وأشخصهم إلى المهدية فأودعهم بمطبقها ورجع إلى تونس ظافراً غانماً. الخبر عن دعوة مكة ودخول أهلها في الدعوة الحفصية: كان صاحب مكّة ومتوّلي أمرها من سادة الخلق وشرفائهم ولد فاطمة، ثم من ولد إبنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين، أبو نمي وأخوه إدريس، وكانوا قائمين بالدعوة العباس ية منذ حولّها إليهم بمصر والشام والحجاز صلاح الدين يوسف بن أيوب الكردي، وأمر الموسم وولايته راجعة إليه، وإلى بنيه ومواليه من بعده إلى هذا العهد. وجرت بينهم وبين الشريف صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد، ومحوهم رسم الخلافة بها، وظهور الدعوة الحفصيّة بأفريقية، وتأميل أهل الافاق فيها وامتداد الأيدي إليها بالطاعة. وكان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلاً بمكة، بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس، وكان حافظاً للعلوم الشرعية والعقلية، وسالكاً مرتاضاً بزعمه على طريقة الصوفية. ويتكلم بمذاهب غريبة منها، ويقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوّفة الغلاة، ويزعم بالتصوّف في الأكوان على الجملة، فأرهق في عقيدته، ورمي بالكفر أو الفسق في كلماته، وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له شيخ المتكلمين بأشبيلية ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكوني، فتنمّر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنّة وسخطوا حالته. وخشي أن تأسره البيّنات فلحق بالمشرق ونزل مكة، وتذمّم بجوار الحرم الأمين، ووصل يده بالشريف صاحبها. فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب أفريقية، داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين وحرّضه عليه، وأملى رسالة بيعتهم، وكتبها بخطه تنويهاً بذكره عند السلطان والكافة، وتأميلاً للكرة ونصفا: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على الأسوة المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. {إنا فتحناً لك فتحاً مبيناً، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً، وينصرك الله نصراً
عزيزاً، هو الّذي أنزل السّكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانهم لله جنود السماوات والأرض، وكان الله عليماً حكيماً.}
هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن وخارجه، وهو الذي خصت به مكة، وهو أعظم فتح نذر في أيام الدهر والزمان الفرد منه خير من أيام الشهر، وبه تتم النعمة، ويستقيم صراط الهداية، وتحفظ النهاية، وتغفر ذنوب البداية، ويحصل النصر العزيز، ونور السكينة، وتتمكن قواعد مكة والمدينة. وكلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان. ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء، ولا في مكان دون مكان. وهذا الفتح قد كان بالقصد الأول والقدر الأكمل، للمتبوع الذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني، فإنه هو الأسوة ، وكل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته وعلى يديه. وإن كانت نصبة مولده ورسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الذي نحن فيه، وإمامنا فيه هو ختم الأولياء. فمن فتح عليه بفتح مكة تمت له النعمة، ورفعت له الدرجة، وضفت عليه الرحمة. ومن وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد وسار على صراطه، ورجح ميزان ترجيحه على أقرانه وإرهاطه. ومن حرم هذا فقد حرم من ذلك، والأمر هكذا. وسنة الله كذلك، وصفى الله على رسوله الذي طلع المجد من مدينته بعد ما أطلعه من بلده، ورضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه، ثم من عمر صاحبه ووليه والحمد لله على نعمه. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيد ولد آدم محمد. {حم، والكتاب المبين، إنا أنزلناه في ليلة مباركة، إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمرٍ حكيم. أمراً من عندنا، إنّا كنّا مرسلين. رحمةّ من ربّك، إنّه هو السّميع العليم}. قد صح أن هذه الليلة فيها تنزل الآيات وترتقب البيذنات، وفيها تخصيص القضايا الممكنة وأحكام الأكوان ويفرق الأمر، ويفسر الملك الموكل بقبض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان، وفيها تقرر خطة الإمامة والملك، وتقيض الإمامه بالهلك، وهي في القول الأظهر في أفضل الشهور، وفي السابع والعشرين منه كما ورد في الحديث المشهور. ثم هي في امّ القرى وفي حرمها تقدّر بقدر زائد، ويعم فضلها إلا للحائد عن الفائد،
وإنما قلت هذا ورسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها، والليلة التي فيها قرأتها، أنها من أفضل المطالب التي قصدت، وإن القرائن التي اجتمعت فيها ولها، زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت، وأيضاً تأخر فيها مجد إمام عن إمام، وبعد مجد إمامه وراء إمام هو وراء الامام، ورحمت فيها نفس خليفة عبرت وتلقب وعظمت فيها ذات خليفة تحي التي سفت، فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرر حدها ويتحقق مجدها، ولا يقذر قدرها فإنها ليلة قدر، ليلة قدرها. والحمد لله حمداً واصلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على واحد الله في عنايته سيدنا محمد (طسم، تلك آيات الكتاب المبين ) إلى قوله: (منهم ما كانوا يحذرون) الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته، وفي سنة الله التي لا تحول ولا تبدل والمتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدّل ولا تعدّل، إن لكل هداية نبوية ضلالة فرعونيّة، وكذا الحال في الأوليّاء، ومع كل مصيبة فرج، ولا ينعكس الأمر في الأتقياء. ولكل ظلم ظالم متجبر قهر قاهر متكبر، وعند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل. وفي عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب، وفي كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها ولا تطلب، وكواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفلة، وكلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة. وإنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة. وليعلم كل مؤمن أن كلمة الله متصلة الاستصحاب والسبب، وعاملة في الأشياء مع الأزمان والحقب، وأن رجال الملة الحنفية أعلى المنازل والرتب. ولذلك يقول في نوع فرعون الأذل، ونوع موسى الأجل: أشخاصها متعددة، وأكوانها متحدة، والله غالب على أمره. وقد قيل إن الملّة الحنفيّة المضريّة تنصرها السيرة العمريّة المحمديّة المستنصريّة.
ولعل الذي أقام الدين وأطلعه من المشرق وأتلفه منه، يجيره من المغرب ولا ينقله عنه، فينبغي لمن آمن بالته وملائكته وكتبه ورسله، وبما يجب كما يجب أن لا يتغير قصده ولا يتوقف عند سماع المهلكات حمده، قد قيدت إقدام قوم بشرك الشرك، وحملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع كيد الكنود هلك كنعان وكل بصر
بصيرته، ولبس لهم ثوب الذل بالعرض، وجعل مصيبة الدين تفئته مع جحوده لسلطان السنة والفرض. وأما هامان المرتّدين فليس هم بالمؤمنين، وعلا فرعون الشر في الأرض، والله يمن على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده، ويهلك المفسدين بجند من رفده. وينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام، فإنها تزلزل الطبع وتحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام ونكبر أربع تكبيرات على الإنس ويوح بعد ذلك وعد وسلام، وينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين والإسلام، والحمد لله على كل حال.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على الذي أعجزت خصاله العدّ والحدّ، مسلم والطبقة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : << يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعدّه عداً>> . وقال صلى الله عليه وسلم : << يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعد >> زاد أبو العباس الهمداني، وأشار بيده إلى المغرب. وذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صححته روايته، ولا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العمليّة إلا ما أبرزته درايته. ولا يعتبر من الأعلام الدينيّة إلى ما أدركته هدايته. قال في الترجمة الأولى: إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد، ويستقيم ملك المغرب وتبسط كلمته في الأقطار، ويخطب له على منابر خلفاء بني العباس ، ويكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند. ذكرت هذا ليعلم المقام أيده الله أنه هو المشار إليه، وأنه الذي يعول في إصلاح ما فسد بحول الله عليه. ومن تأمل قوله صلى الله عليه وسلم : "يكون في اخر الزمان " الحديث، تبين له ما أردناه وذلك يظهر من وجوه، منها: أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم، ولا ذكر في الدول الماضية، ولو ذكر لرددنا القول به وأهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان. والثاني: أن آخر الزمان الذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة، وأكثر العلامات المنذرة بالساعة هو هذا بعينه. الثالث: لا خليفة لأهل الملة في وقتنا هذا غير الذي قصدناه. وهذه أقطار الملّة منحصرة ومعلومة لنا من كل الجهات، والذي يشاركه في الإسم ويقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه، إذ هو أضعف من ذرة في كرّة، ومن نملة في رملة. وأفقر من قصد طالب السراب، ويده مع هذا أيبس من التراب فصح
بالى جر والتقسيم، وبتصفح الموجودات والأزمان والدول والمراتب والنعوت أنه هو لا شريك له فيها، والمصحّح لذلك كله، والذي يصدق وينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الذي يعجز عنه الحد، ولا يتوقف فيه العد. وهذا خليفة الملّة كذلك، وهذه دلائله هي أوضح من نار على علم. وهذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف والقلم، وهذه خزائنه تغلب الطالب وتعجز عن الدافع، وهذه سعوده في صعوده، وهذه متاجر تعويله على الله رابحة وهذه أحواله بالكلية صالحة، وهذه سعايته ناجحة. ثم هذه موازين ترجيحه راجحة، والحمد لله كما يجب. وما النصر إلا من عند الله وصلى الله على عبده محمد بن عبد الله أنه من بكة وأنه للحق وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، وأنه إلى خضر لا تحصر الخصر ويحدر فيها الندر ويحافظ على سنة الرؤوف الرحيم. صفى الله عليه وسلم أما بعد فبهداهم اقتده، الحمد لله الذي أحسن بمقام الإحسان وتمم النعمة، وبيّن لمن تبيّن علم البيان، وحكم لمن أحكم الحكمة وسبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة وذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة، هو الرؤوف بالبرية وهو الرحيم والحفي بالحنفية، وهو القاهر الماضي المشيئة الذي يقبض ويبسط ويمضي المشيئة. شهد له بالكمال الممكن الذي أبرزه وخصّصه وعرّفه بالجلال من يسره لذلك وخلصه. هو الذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة والفرض، وأعمى من أهلها من توسل له بنية العرض وأعتق العقاب وسر العقاب وأهمل العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور، وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام بخر المجد في بحر خصاله يعذ بعض البعض. سُنته محمديّة، وسيرته بكريّة وسريرته علويّة، وسلالته عمريّة. فهذه ذرية وأنواع مجد بعضها من بعض، بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض. عرف بالرياسة العالية، ووصف بالنفاسة السالية، وشهد له بذلك الخاص والعام ونزه من النقائص. النزيه النفس ومن نزهه في سلطانه علمه العام. صلى الله على الأسوة الرؤوف بالمؤمنين، سيّدنا محمد الذي أنزل عليه التنزيل، وكتب اسمه في صحيح القصص والنصوص، ونبي الله به وبأئمة أمته الذين شبههم بالبنيان المرصوص،
وعلى آله وصحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم وطهرهم، ثم أيّدهم فطهروا الأرض من الكفرة الفجرة. وأخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين) ظهرهم، ويسر بهم السبيل ثم السبيل يسرّهم.
ومنهم الخليفة المستنجد بالله المفضّل على الناس، ولكن أكثرهم ورضي الله عنهم وعنه، وضاعف للمحب الثواب الدائم منهم ومنه. وبعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد والتصلية والدعاء للدولة الدالة على قبول الدعوة أصلية، تحيّة بعضها مكية وكلها ملكوتّية، وروضة ريحها حضرة القدس ونشرها يدرك فيه صحبة النفث، روح القدس. وتكبر عن أن تشتبه بالعنبر والند والورد وأزهار الربى والرياض. لأن المفارق للمادة مفارق لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض. ثم هي مع هذا واجبة القصد عذبة الورد، تذكر الذاكر الذكي بعرفها الذكي لمدركات جنة الخلد والنعيم. وفي مثل هذه فليتنافس المتنافسون. وتدرك النفس النفيسة لذة النعيم لأنها ظاهرةً طيبة، وكريمة صبيّة، واقفة على حضرة الملك والسلطان، ومدار فلك النسك ومستقر الإمامة والجلالة، ومعقل الهداية والدلالة، وأصل الأصالة ودار المتقين، وبيت العدالة وحزب اليقين. وإنسانها الأعظم معلي الموحدين على الملحدين وقائم الدين وقيمه، ومقر الإسلام ومقدمه، القائم بالدعوة العامة بعد أبيه إمام المجد والفخر، ثم الأمة الذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل، اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوة، وأن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسيريسره سعده وساعده ساعد القوة وإن سمع بالحمد في جهة حدبه بخاصة خصاله بعد مجد الأبّوة وفخر النبّوة، لا يذكر معه ولا عنده صعب الأمور إلا بالضد، فإنه مظهر العناية الإلهية، ومرءاة المجد والجد. هو علم العلم ثم هو محل الحلم، إسمه متوحد في مدلوله كالإسم العلم، وعهده لا يتوقف على اللسان ولا على رسوم القلم. كتب في السماء وسمع به في الكرسي، وكذلك العرش، وما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى. وإن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش. ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تتنقل من الإنسان إلى الأسد. ولا يقال هذا بحر العلم
فينقل من الطبيعة إلى بحر الخلد، لأن ذلك كله فيه بوجه أكمل وبه وعليه، وفي يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة، بالمطالب العالية وحصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية. وبلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره ونال غاية الإنسان، ويتعجّب منه في القيامة عمره، ويسره أمره طلعت سعوده على مولده، ومطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك وطالعه. إن حرر القول فيه وفهم شأنه، قيل هو من فوق الأطلس والمكوكب، وإن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع المركب. أي غاية تطلب بعد طاعته، وأي تجارة تنظر مع بضاعته، له الحمد بيده الملك والأمانة، بل له الكل بفضل الله وفيه المقصد والسلامة، لا بل له الفتح المبين وتتميم النعمة والهداية ونور السكينة، وفيه الإمارة والعلامة. منير منكة بإزاء بيت بكة خطب بخطبته، والذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السر تطير إذا سمعت بذكره، والمهندات البتر تلين لباس ساعده. ويقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد، توحدت له إذ هو واحدها الأوحد، وسياسة التسديد تحكمت له فهو مدبرها الأرشد. ومع هذا كتابته أهملت صيت الصادين، وكورت شمس الفتح، ثم الفتح والصادين.
وكذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الإعجاز على الصدور، فإنه الذي يعتبر في ذلك والذي يصدر عنه هو واقع في الصدور، وافعل في طباع المهرة وفي نفوس الصدور يتأخر عن شعره شعر الرجلين. وبعده نذكر الطبقة، ثم شعراء نجد، والخبب والجبلي والولد بعده والهذلي، والمؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك. والهذلي علوم الأدب، الخمسة تممها وسادسها وسابعها زاده من عند نفسه. وخليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه وجنسه، والفارسي تلميذه ثم الاخر بعده والأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب. وأقام أئمّة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه، ثم لا يكون كالمصيب. وكل كوفي بل كل بصري يجب الظهور إذا سمع به اختفى، والمنصف منهم هو الذي بنحوه اكتفى. أقيسة الفقه الثلاثة هذبها وحصلها، وأصوله كما يجب علمها وفضلها. والمسائل الطبولية تكلم على مفصلها ومجملها، وسهل الصعب من مخصّصها ومهملها.
وإن فسر كتاب الله المعجز عجز أرباب البلاغة بإعجاز بعد إعجازه، وإن تعرّض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره وإيجازه. وإن شرع في شرح قصصه وجدله، وفي تفسير ترغيبه وترهيبه. ومثله يبصر الناظر فيه والمستمع لما لم يسمع وما لم يبصر، فإنه سلك بقدم كماله وتكميله على قنطرة بعد لم تعبر ويضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى، وبعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى وإلى الله في الأخرى. وإن تكلّم عن متشابهه ومحكمه علم الاصطلاح. ثم بيان النوع للخبير به وبمحكمه، وكذلك القول على الناسخ والمنسوخ والوعد والوعيد. وإن يشاء طول في مطولاتهم واختصر من مختصراتهم، فبيده الزيادة وضد المزيد، وأما تحرير أمره ونهيه وأسراره ورقائقه، وفواتح سوره وحقائقه. والذي يقال إنه لا من جنس الذي يكتسب والذي هو أعظم من الذي يرد، وإليه الأحوال تنتسب فهو الشارح لها والخبير بها، وإن تأخَّر. وينوّع في ذلك ويزيد غير الأول وإن تكرر. وأما علوم الحديث وأنواعها السبعة فهو بعلمها، وصناعته بجملتها للعلماء يعلمها. والوارقة والضبط والخط وقفت عليه مهنة غايتها، وحمله الأمر علوم الشريعة كلها عرفها ووعاها ورعاها حق رعايتها. وكل العلوم العقليّة والنقليّة ورجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان، والمقامات السنية المستنزلات العلويّة أدركها بعد التبيان. فمن أراد أن يمدحه ويعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب. ومن ذكره ولم يتلذذ بذلك فقد جاء بما ينضح حمله الخبب، ونعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل، وحضرة جلاله محفوظة بجدِّها وجَدِّها وقاطعها المنفصل. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قل اللهم مالك الملك، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
هذه كلّها. آياته والرابعة: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } فإنها هباته إن حدث المحدث بكرمه يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده، ونصر الله إذا جاء لا يرده، وفتحه من ذا الذي عن السعيد يصدّه، والمؤرّخ يتذكّر بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب، إذ قال وقد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام وفيه أربعة وهو واحدها حتى في رفع التشبيه وقطع السبب، العلم والحلم والشجاعة وفضل الحسب، يسرّ بحكمته ويغبط بها متى يتبع جملته، الباحث الحكيم ولا يشعر بشعره إذا تصفّح نعوته الشاعر العليم، وينشد طبعه في الحين والوقت والحزة وبخرج الحروف من مخارج الهمزة.
- شهدتُ لقد أوتيـتَ جامِـعَ فَضْلـِه وأْنَت على عِلْمي بذاكَ شَهيدُ
- ولو طُلِبَتْ في الَغْيبِ مِنك سجيَّةٌ لَقـَدْ فَرَّ مَوْجودٌ وعَـزَّ وُجـُودُ
أدام الله له المجد الذي يسلك به على النجدين، وحفظ عليه مقامه الذي لا يحتقر فيه إلاّ جوهر النقدين، وبسط له في العلم والقدرة، وبارك له في نصيب النصرة، وجهَّز به العسرة، ورد به على الشرك والفتن الكرَّة، وعرفه في كل ما يعتزمه صنعاً جميلاً، ولطفاً خفياً جليلاً. وكفاه الشرّ المحض وخير الشرين، كما كشف له عن الخير المحض وعلم السرِّين، وأيَّده بروح منه في السّر والسريرة، وحفظه في حركاته وسكناته من الصغيرة والكبيرة. وجعل كلمته غالبة للضد والجند، وبلغ صيته الجزائر والبربر، ثم إلى السند والهند. وخلّد ملكه وسلّم فلكه، ورفعه على أوج المجد بحدّه الطويل العريض. وأهبط عدوه من شرف الأعلى إلى الحضيض. وفتح الله به باب الفتح في المشرق والمغرب بعد فتح الثغور، وشرح بنصره وفتحه أوساط الصدور، وما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور وجبر به كسر الظفر، ووصل به ما انقطع من الأسباب. وعصم جنده من ضد الدنف الأنف، وردّهم إلى ردم الأبواب وقدّس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدّس، وسلك به مسلك السبل في المقيل والمعرس. وبعد هذا فهذه أدعيتنا، بل هذه أوديتنا، وهذه مسائلنا بل هذه وسائلنا، وهذه تحيّة حيّاها ذو الفطرة السليمة، وهذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العليمة. واستنبت فيها الكتاب واستثبت فيها الجواب، والموجب لإصدارها محبّة أصلها ثابت وفرعها في العلى وحفز عليها حافزان: شوق قديم، ورعاية الآخرة والأولى، بل الأمر الذي هو في خير الأمور من أوسطها، وإذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها، فإنه يحكي أحكام الشأن والقصّة، ويعلم المقام أيَّده الله الذي حصل له في حرم الله وحرم نبيه من النصيب والحصة، وفيه ينبغي أن تذهب الألفاظ وتلحظ عيون الأغراض وينفح المقاصد ويحمل على جواهر
الكمالات كالأعراض، فمن ذلك ذكر الملّة التي كملت وكبرت، والأخرى التي كانت ثم غمرت وصغرت. والمنبر الذي صعد خطب خطبته على الخطيب، وعرج إلى سماء السمو وهو على درجه، والآخر الذي درج عنه خطيبه وضاق صدره الأمر حرجه، وقرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر، لا بحرف المستعصم بن المستنصر. بسط القول وأطلق ترجمة عبد الله بعد ما قبضه الذي أمات وأحيا، وقبض على مقامه ودفع للإمام محمد بن يحيى، وكان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الاختبار، ثم في ليلة الآيات والاعتبار. ومن ذلك أيضاً بنعمة الحمد والدعاء الظاهر القول والمقبول في الحرم الشريف، وانقياد الذي ظهر على طائفة الحق والسيد الشريف. ومن ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحجّ ومقرّ وفوق الحاج، ووقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج، وذكر كما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك، وعرف هنالك أنه الإمام والمالك لكل مالك. وتعرّفت نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة، وتعارف بها من تعارف معه هناك ونعم التعارف والمعرفة. ثم ذكر عند المشعر الحرام وفي جهات حدود حرم المسجد الحرام، وعظم اسمه بعد ذكر الله وذكر الوالدين، وطلع الذاكر بالتركيب إلى الجدّين الساكنين في الخلد والخالدين. فلما وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات، ذكر مع السبع الأولى سبع مرات. وكذلك عند الركوع في مسجد الخيف، وكل كلمات تمجيده بالكم والكيف، وعند التوجّه من هناك ويوم النفر قرّرت آياته المذكورة في كتاب الجَفر. ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد والشكر. فلمّا وصل العلم بانتقال بيت الملك والسلطان من بغداد في شهر رمضان، أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح والقرآن، وكان الخادم في الزمان الأول وفي الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق والمغرب. والان وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب والعرب. والذي حمل على هذا كله طاعة كاملة وغبطة عاملة، والله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند، فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد والمكابد، ومعاد التحيّة على المقام الأرفع والمقرّ الأَنفع، وعلى خدام حضرته العلية، وأرباب دعوته الجلية وأنواع رحمته تعالى وبركاته. والحمد لله كما يجب وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وسلم.
كتب تجاه الكعبة المعظمة في الجانب الغربي من الحرم الشريف، والحمد لله ربّ العالمين. ولما وصلت هذه البيعة استحضر لها السلطان الملأ والكافة، وقرئت بمجمعهم وقام خطيبهم القاضي أبو البراء في ذلك المحفل فاسحنفر في تعظيمها والإشادة بحسن موقعها، وإظهار رفعة السلطان ودولته بطاعة أهل البيت والحرم ودخولهم في دعوته. ثم جار بالدّعاء للسلطان وانفضّ الجمع فكان من الأيام المشهودة في الدولة. الخبر عن الوفود من بني مَرين والسودان وغيرهم كان بنو مَرين كما قدَّمناه قد تمسّكوا بطاعة الأمير أبي زكريا ودخلوا في الدعوة الحفصيّة، وحملوا عليها من تحت أيديهم من الرعايا مثل: أهل مكناسة وتازى والقصر، وخاطبوا السلطان بالتمويل والخضوع. ولمّا هلك السلطان وولي ابنه المستنصر، وقارن ذلك ولاية المرتضى بمراكش. ثم كان بينهم وبين المرتضى من الفتنة والحرب ما ذكرناه ونذكره، فاتصل ذلك بينهم وبعث الأمير أبو يحيى بن عبد الحق بيعة أهل فاس، وأوفد بها مشيخة بني مَرين على السلطان وذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة فكان لها موقع من السلطان والدولة. وقابلهم من الكرامة كل على قدره، وانصرفوا محبورين إلى مرسلهم. ولما هلك أبو يحيى بن عبد الحق، واستقل أخوه يعقوب بالأمر أوفد إليه ثانية رسله وهديّته، وطلب الإعانة من السلطان على المرتضى وأمر أهل مراكش على أن يقيموا بها الدعوة له عند فتحها. ولم يزل دأبهم هذا إلى أن كان الفتح. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة وصلت هدية ملك كانم من ملوك السودان، وهو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس، وكان فيها الزرافة وهو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلى والشيات، فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غصّ بها الفضاء، وطال إعجابهم بشكل هذا الحيوان وتباين نعوته، وأخذها من كل حيوان بشبه. وفي سنة ثمان وخمسين وستمائة وصل دون الرنك أخو ملك قشتالة مغاضباً لأخيه، ووفد- على السلطان بتونس فتلقّاه من المبرّة والحباء بما يلقى به
كرام القوم وعظماء الملوك، ونزل من دولته بأعزّ مكان. وكان تتابع هذه الوافدات مما شاد بذكر الدولة ورفع من قدرها.
الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته
كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية، وكان علاَّمة في الحديث ولسان العرب، وبليغاً في الترسيل والشعر. وكتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية. ثم عن ابنه السيد أبي زيد. ثم دخل معه دار الحرب حين . نزع إلى دين النصرانية، ورجع عنه قبل أن يأخذ به. ثم كتب عن ابن مردنيش. ولما دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيّان بوفده بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ، فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على رويّ السين يستصرخه، فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسي فوجدهم في هوّة الحصار، إلى أن تغلّب الطاغية على بلنسية. ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه فنزل منه بخير مكان، ورشّحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته، فكتبها مدّة. ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العباس الغسّاني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي، وكان آثر عنده من الخطّ المغربي فسخط ابن الأبار إنفة من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالردّ ووضعها استبداداً وأنفة، وعوتب على ذلك فاستشاط غضباً ورمى بالقلم وأنشد متمثّلاً:
- واطْلُبِ العزَّ في لَظى وَذَرِ الذُل ولَو كانَ في جِنان الخُلودِ
فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه اليه عدَّ فيه من عوتب من الكتاب، واعتب. وسمّاه أعتاب الكتاب. واستشفع فيه بإبنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة. ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس وأهل تونس، وكان في ابن الأبار أنَفَةٌ وبَأْوٌ وضيق خلق، فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه، فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه.
وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم، سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت، وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته، ووصف أباه في عنوان مكتوبه بالمرحوم. ونبّه على ذلك فاستضحك وقال: إن أباً لا تعرف حياته من موته لأب خامل. ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرّها في نفسه، ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية. ثم رضي عنه واستقدمه ورجّعه إلى مكانه من المجلس. وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم، فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها، فاتهم بتوقع المكروه للدولة والتربص بها كما كان أعداؤه يشنّعون عليه، لما كان ينظر في النجوم فتقبّض عليه. وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع، وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبياتٍ أوّلها:
- طغى بتونِس حلف سموه ظلماً خَليفة
فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه ثم بقتله قعصاً بالرماح وسط محرم من سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فاحرقت معه.
- (الخبر عن مقتل اللياني وأوليته وتصاريف أحواله ) *
أصل هذا الرجل من لُلِيانة قرية من قرى المهديّة، مضمومة اللام مكسورة الثانية، وكان أبوه عاملاً بالمهديّة، وبها نشأ ابنه أبو العباس . وكان ينتحل القراءة والكتاب حتى حذق في علوم اللسان. وتفقّه على أبي زكريَّا البرقي. ثم طالع مذاهب الفلاسفة، ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية. ثم صودر في ولايته على مال أعطاه وتخلَّص من نكبته، فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل
في عمله بما أظهر من كفايته وتنميته للأموالى حتى قصر بهم وأديل منهم.
وكان الكثير منهم متعلّقاً من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمّة خدمة، فأسفه بذلك وأغرى به بطانة السلطان ومواليه، حتى سعوا به عند السلطان، وأنه يروم الثورة بالمهديَّة، حتى خشن له باطن السلطان. فدخل عليه ذات يوم أبو العباس الغسّاني فاستجازه السلطان في قوله: "اليوم يوم المطر" فقال الغسّاني: "ويوم رفع الضرر" فتنبّه السلطان واستزاده فأنشد: "والعام تسعة كمثل عام الجوهري " فكانت إغراء باللياني، فأمر أن يتقبض عليه وعلى عدوه ابن العطار، وكان عاملاً. وأمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذبهما حتى استصفى أموالهما، والميل في ذلك على اللياني. وكان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله. ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلية، وبوحث بعض من داخله في ذلك فأقر عليه، فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله، ورمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به وقطعوا رأسه، ثم تتبع أقاربه وذووه بالنكال إلى أن استنفدوا. ( الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة علي يد الأمير أبي حفص) كان المغرب الأوسط من تلمسان وأعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلّب أبوه الأمير أبو زكريا عليه، وفتح تلمسان وأطاعه يُغمُراسن وكان بين زناتة بتلك الجهات فتن وحروب شأن القبائل اليعاسيب، وكان مليانة من قسمة مِغرَاوَة بني ورسيفان، وكانوا أهل بادية. وتقلص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشئ. وكان أبو العباس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه ورواية وسمت ودين، رحل إليه الأعلام وأخذ عنه العلماء، وانتهت إليه رئاسة الشورى ببلده. ونشأ ابنه أبو علية علي من الخلال متهالكاً في الرياسة متبعاً غواية الشبيبة، فلما رأى تقلَّص ظل الدولة وفتن مغراوة مع يغمراسن ومزاحمته لهم، حدَّثَته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص ونبذ دعوتهم، وانبرى بها داعياً لنفسه. وبلغ الخبر إلى السلطان فسرّح إليه أخاه الأمير أبا حفص، ومعه الأمير أبو زيد بن جامع، ودن الرنك أخو الفنش،
وطبقات الجند. فخرج من تونس سنة تسع وخمسين وستمائة وأغذَّ السير إلى مليانة فنازلها مدة، وشد حصارها حتى اقتحموها غلاباً. وفر أبو علي الملياني ولحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه وأجازوه إلى المغرب الأقصى، إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد.
ودخل الأمير أبو حفص مليانة ومهَّد نواحيها وعقد عليها إلى ابن مَنديل أمير مِغرَاوة فملكها مقيماً فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة. وقفل الأمير أبو حفص إلى تونس، ولقيه بطريقه كتاب السلطان بالعقد له على بجاية وأمارتها، فكره ذلك غبطة بجوار السلطان. وتردَّدت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهِنتَاتِيّ، وعقد له على بجاية. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكر بعد. وهلك شقيقه أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى أ وستين وستمائة، فتفجَّع له الخليفة والقرابة والناس وشهد السلطان جنازته، والبقاء لله وحده.
- (الخبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد وخروجه في رياح ) *
كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة، وتحت جرايته، وأبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد. ولحق بالمغرب. وجاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا، وأوصى به إبنه إلى أن حدّثته نفسه بالتوثّب والخروج. وخامره الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء، سببها أن السلطان استحدث سكّة من النحاس مقدرة على قيمته من الفضة، حاكى بها سكّة الفلوس بالمشرق تسهيلاً على الناس في المعاملات بإسرافها وتيسيراً لاقتضاء حاجاتهم. ولما كان لحق سكّة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها وصوغها، وسمى سكّته التي استحدثها بالحندوس. ثم أفسدها الناس بالتدليس وضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن، وفشا فيها الفساد. واشتد السلطان في العقوبة عليها فقطّع وقتل، وصارت ريبة لمن تناولها. وأعلن الناس بالنكير في شأنها وتنادوا بالسلطان في قطعها وكثر الخوض في ذلك وتوقّعت الفتنة. وأشيع من طريق الحدثان الذي تكلف به العامة أن الخارج الذي
يثير الفتنة هو أبو القاسم بن أبي زيد، فأزال السلطان تلك السكّة وعفا عليه، وأهمَّه شأن أبي القاسم ابن عمه، وبلغه الخبر فخامره الرعب إلى ما كان يحدّث نفسه من الخروج، ففرّ من الحضرة سنة إحدى وستين وستمائة، ولحق برياح ونزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة، فبايع له وقام بأمره. ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته واضطرب أمر العرب من قبيله. ولما أحسَّ أبو القاسم باضطرابهم وخشي أن يسلّموه إذا أزادهم السلطان عليها، تحوَّل عنهم ولحق بتلمسان وأجاز البحر منها إلى الأندلس، وصحب الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس. ثم ساءت أفعاله وعظم استهتاره. وفشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب وأقام بتينملل مدة. ثم رجع إلى تلمسان، وبها مات. وقام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره.
- (الخبر عن خروج السلطان إلى المسيلة )*
لما اتصل بالسلطان شأن أبى قاسم ابن عفه أبي زيد وفصاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم بيعته، وأجلابهم على البلاد معه، خرج من تونس سنة أربع وستين وستمائة في عساكر الموحدين وطبقات الجند لتمهيد الوطن، ومحو آثار الفساد منه، وتقويم العرب على الطاعة. وتنقل في الجهات إلى أن وصل بلاد رياح فدوخها ومهد أرجاءها، وفر شبل بن موسى وقومه الدواودة إلى القفر، واحتل السلطان بالمسيلة آخر وطن رياح. ووافاه هنالك محمد بن عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجدداً لطاعته، ومتبركاً بزيارته، فتلقاه من البرور تلقي أمثاله، وأثقل كاهله بالحباء والجوائز، وجنب له الجياد المقربات بالمراكب المثقلة بالذهب، واللجم المحلات. وضرب له الفساطيط الفسيحة الأرجاء من ثياب الكتان وجدل القطن، إلى ما يتبع ذلك من المال والظهر والكراع والأسلحة. وأقطع له مدينة مقرة وبلد أوماش من عمل الزاب، وانقلب عنه إلى وطنه. ورجع السلطان إلى تونس وفي نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره، ولثانية احتلاله بالحضرة سنة خمس وستين وستمائة كان مهلك مولاه هلال، ويعرف بالقائد،
وكان له في الدولة مكان بما كان تلادا للسلطان، وكان شجاعا جواداً خيّراً محباً سهلاً مقبلاً على أهل العلم وذوي الحاجات، وله في سبيل الخير آثار منقولة صار له بها ذكر، فارتمض السلطان لمهلكه والله أعلم .
- (الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة)*
كان شبل بن موسى وقومه من الدواودة قد فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاغية، ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك، فبايعوا أولاً للأمير أبى إسحق كما ذكرناه. ثم بعده لأبي القاسم ابن عمّه أبي زيد. وخرج إليهم السلطان سنة أربع وستين وستمائة ودوّخ أوطانهم، ولحقوا بالصحراء ودافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبّلها، وطوى لهم على اابتّ ورجع إلى تونس فأوعز إلى أبى هلال عبّاد عامل بجاية من مشيخة الموحّدين باصطناعهم واستئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد. وجمع السلطان أحلافه من كعوب بني سُلَيم ودباب وأفاريق بني هلال. وخرج من تونس سنة ست وستين وستمائة في عساكر الموحّدين وطبقات الجند. ووافاه بنو عساكر ابن سلطان إخوة بني مسعود بن السلطان من الدواودة فعقد لمهدي بن عساكر على أمارة قومه وغيرهم من رياح. وفرّ بنو مسعود بن السلطان مصحرين في أثرهم حتى نزل نقاوس وعسكروا بثنايا الزاب، ورسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناساً للمراجعة على يده للدخلة في الساحة، فأشار عليهم بالوفادة على السلطان وفاء بقصده من ذلك، فتقبلوا إشارته. ووفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخوه يحيى، وبنو عمهما أولاد زيد بن مسعود: سباع بن يحيى بن دريد، وابنه، وطلحة بن ميمون بن دريد، وحداد بن مولاهم ابن خنفر بن مسعود وأخوه، فتقبّض عليهم لحينهم، وعلى دريد ابن تازير من شيوخ كرفة. وانتهبت أسلابهم وضربت أعناقهم ونصبت أشلاؤهم بزواية من خهات نقااوس حيث كانت
بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد، وبعث برؤوسهم إلى بسكرة فنصبها بها، وأغذّ السير غازياً إلى أحيائهم وأحّلهم بمكانها من ثناية الزاب.
وصبحهم هنالك فأجفلوا وتركوا الظهر والكراع والأبنية، فامتلأت أيدي العساكر وسدويكش منها، ونجوا بالعيال والولد على الأقتاب، والعساكر في أتباعهم، إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب، وهو الوادي الذي يخرج أصله منه جبل راشد قبلة المغرب الأوسط، ويمرّ إلى ناحية الشرق مجتازاً بالزاب إلى أن يصبّ في سبخة نفزاوة من بلاد الجريد. فلما جاز فلّهم الوادي أصحروا إلى المفازة المعطشة والأرض الحّرة السوداء المستحجرة المسمّاة بالحمادة، فرجعت العساكر عنهم وانقلب السلطان من غماته ظافراً ظاهراً، وأنشده الشعراء في التهنئة، ولحق فلّ الدواودة بملوك زناتة، فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيّان، وبنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق، فأجاروهم وأوسعوهم حباء وملؤا أيديهم بالصلات، ومرابطهم بالخيل، وأحياءهم بالإبل، ورجعوا إلى مواطنهم فتغلبوا على واركلة وقصور ريغة واقتطعوها من إيالة السلطان. ثم زحفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتّو وكان موطناً بمقرة، ولقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه واتبعوه إلى بطاوة فقتلوه عندها، واستطالوا على الزاب وجبل أوراس، وبلاد الحضنة إلى أن اقتطعتهم الدول إياها من بعد ذلك، فصارت ملكا لهم، والله تعالى أعلم .
- (الخبر عن طاغية الإفرنجة ومنازلته تونس في أهل نصرانيته) *
هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة، وتسميها العامة بالافرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى افرانسة. ونسبهم إلى يافث بن نوح، وهم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس وخليج قسطنطينة، مجاورون الروم من جانب الشرق والجلالقة من جانب الغرب. وكانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع
الروم، ومنهم لُقِّنوا دينها. واستفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم، وأجازوا البحر إلى أفريقية مع الروم فملكوها ونزلوا أمصارها العظيمة مثل: سُبَيطِلَة وجَلولا وقرطاجنّةومرناق وباغاية ولمس وغيرها من الأمصار. وغلبوا على كل من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم وأعطوهم طاعة الانقياد.
ثم جاء الإسلام وكان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار أفريقية، والعدوة الشرقية والجزر المجرية مثل أقريطش ومالطة وصقلية وميورقة ورجوعهم إلى عدوتهم. ثم أجازوا خليج طنجة، وغلبوا القوط والجلالقة والبشكنس، وملكوا جزيرة الأندلس وخرجوا من ثناياها ودورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوّخوها وعاثوا فيها. ولم تزل الصوائف تتردّد إليها صدراً من دولة بني أميّة بالأندلس، وكان ولاة أفريقية من الأغالبة ومن قبلهم أيضاً يردّدون عساكر المسلمين وأساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية، ونازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن، فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها. وكان الربع أقرب إلى سواحل الشام وطمع فيها. فلما وصل أمر الروم بالقسطنطينية ورومة، واستفحل ملك الفرنجة هؤلاء، وكان ذلك على هيئة سموّ الخلافة بالمشرق، فسموا حينئذ إلى التغلّب على معاقل الشام وثغوره، وزحفوا إليها وملكوا الكثير منها واستولوا على المسجد الأقصى وبنوا فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد، ونازلوا مصر والقاهرة مراراً حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر والشام في أواسط المائة السادسة جنّة واقية، وعذابا على أهل الكفر مصبوباً، فأبلى في جهادهم وارتجع ما ملكوه، وطهّر المسجد الأقصى من إفكهم وكفرهم، وهلك على حين غرّة من الغزو والجهاد. ثم عاودوا الكرّة ونازعوا مصر في المائة السابعة على عهد المالك الصالح صاحب مصر والشام، وأيام الأمير أبي زكريا بتونس، فضربوا أبنيتهم بدمياط وافتتحوها وتغلّبوا في قرى مصر. وهلك الملك الصالح خلال ذلك، وولي ابنه المعظّم وأمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل، ففتحوا الغياض وأزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم وهلك منهم عالم، وقيد سلطانهم أسيراً
من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية، حتى مرّ عليه بعد حين من الدهر وأطلقه على أن يمكّنوا المسلمين من دمياط فوفّوا له. ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة، واعتزم على الحركة إلى تونس متجنّياً عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجّار أرضهم، وأنهم أقرضوا اللياني فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال وهو نحو ثلاثمائة دينار بغير موجب يستندون إليه، فغضبوا لذلك واشتكوا إلى طاغيتهم فامتعض لهم ورغّبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة والموتان.
فأرسل الفرنسيس طاغية الافرنج واسمه سنلويس بن لويس وتلقّب بلغة الافرنج روا فرنس ومعناه ملك افرنس، فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها، وأرسل إلى القائد خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية بمظاهرته، وأطلق يده في أموال الكنائس مدداً له. وشاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم، وكان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الانكثار وملك اسكوسيا وملك تورك وملك برشلونة واسمه ريدراكون وجماعة آخرون من ملوك الإفرنج، هكذا ذكر ابن الأثير وأهم المسلمين بكل ثغر شأنهم وأمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدّة، وأرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار واختزان الحبوب، وانقبض تجّار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين. وأوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار رحاله ومشارطته على ما يكف عزمه. وحملوا ثمانين ألفاً من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا، فأخذ المال من أيديهم وأخبرهم أنّ غزوه إلى أرضهم. فلما طلبوا المال اعتلّ عليهم بأنه لم يباشر قبضه ووافق شأنهم معه وصول رسول عن صاحب مصر، فأحضر عند الفرنسيس واستجلس فأبى وأنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر:
- قـل للـفَـَرنْسيس إذا جئتـَـه مقالَ صِدقٍ من وزيرٍ نَصيـح
- آجـرك الله على مــا جرى من قَتلِ عباد نصارى المسيح
- أتيت مصراً تبتغي ملكهــا تحسب أن الزمر بالطبل ريح
- فسـاقك الحين إلى أدهـم ضاق به عن ناظِرَيْك الفسيح
- وكل أصحـابـك أودَعتَهُـم بسوء تَدبيرك بَطن الضَرِيح
- سبعون ألفاً لا يُرى منهم إلاّ قـتيـــل أو أسـير جريــح
- أَلـَهـمَكَ اللهُ إلى مِثلِهــــــا لعـلّ عيسى منكم يـستـريــح
- إن كان باباكم بذا راضيـاً فربّ غّشٍّ قد أتى من نصيح
- فـــاتخذوه كـــاهنــــاً إنه أنصح من شقٍّ لكم أو سطيح
- وقل لهم إن أزمعوا عودةً لأخـذ ثأرٍ أو لشغـــلٍ قبيــــح
- دار ابن لقمان على حالها والقيد باقٍ والطواشي صبيـح
يعني بدار ابن لقمان موضع اعتقاله بالإسكندرية، والطواشي في عرف أهل مصر هو الخصي. فلما استكمل إنشاده لم يزد ذلك الطاغية إلا عتوّاً واستكباراً، واعتذر عن نقض العهد في غزو تونس بما يسمع عنهم من المخالفات، عذراً دافعهم به، وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه. فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم، وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين وستمائة، فاجتمعوا بسردانية وقيل بصقلية. ثم واعدهم بمرسى تونس وأقلعوا ونادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو والاستعداد له، والنفير إلى أقرب المدائن، وبعث الشواني لاستطلاع الخبر ، واستفهم أياما. ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنّة، وتفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس والموحّدين في تخليتهم وشأنهم من النزول بالساحل أو صدّهم عنه، فأشار بعضهم بصدّهم حتى تنفذ ذخيرتهم من الزاد والماء، فيضطرون إلى الإقلاع. وقال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية والعدد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه واستباحوه، واستصعبت مغالبتهم عليه فوافق السلطان على هذا وخلوا وشأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنّةبعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس، لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة. ولما نزل النصارى بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس، وثلاثين ألفا من الرجّالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله. قال: وكانت أساطيلهم ثلثمائة بين كبار وصغار،
وكانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس وإخوة جرون صاحب صقلية وصاحب الجزر، والعلجة زوج الطاغية تسمى الرينة، وصاحب البر الكبير، وتسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكاً ويعنون أنهم متباينون إذ ظاهروا على غزو تونس، وليس كذلك. وإنما كان ملكاً واحداً وهو طاغية الفرنجة وإخوته وبطارقته، عدّ كل واحد منهم ملكاّ لفضل قوته وشدة بأسه، فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنّة، وكانت ماثلة الجدران اضطرم المعسكر بداخلها، ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضّدوا شرفاتها، وأداروا على السور خندقاً بعيد المهوى وتحصّنوا. وندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها. وأقام ملك الفرنجة وقومه متمرسين بتونس ستة أشهر، والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلية والعدوة بالرجل والأسلحة والأقوات.
وسلك بعض المسلمين طريقاً في البحرية، واتبعهم العرب فأصابوا غرّة في العدوّ فظفروا وغنموا وشعروا بمكانهم، فكلّفوا بحراسة البحيرة وبعثوا فيها الشواني بالرماة ومنعوا الطريق إليهم وبعث السلطان في ممالكه حاشداً فوافته الأمداد من كل ناحية، ووصل أبو هلال صاحب بجاية وجاءت جموع العرب وسدويكش وولهاصة وهوارة حتى أمدّه ملوك المغرب من زناتة وسرّح إليه محمد بن عبد القوي عسكر بني توجين لنظر ابنه زيّان. وأخرج السلطان ابنتيه وعقد لسبعة من الموحّدين على سائر الجند من المرتزقة والمطّوعة وهم: إسمعيل بن أبي كلداسن وعيسى بن داود ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن صالح وأبو هلال عياد صاحب بجاية ومحمد بن عبو، وأمرهم كلّهم راجع ليحيى بن صالح ويحيى بن أبي بكر منهم. واجتمع من المسلمين عددٌ لا يحصى، وخرج الصلحاء والفقهاء والمرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم والتزم السلطان القعود بإيوانه مع بطانته وأهل اختصاصه وهم : الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود، وابن أبي الحسين وقاضيه أبو القاسم بن البراء وأخو العيش. واتصلت الحرب، والتقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف، فزحف يومئذ يحيى صالح وجرون. فمات من الفريقين خلق، وهجموا على المعسكر بعد العشاء وتدامر المسلمون عنده ثم غلبوا عليه بعد أن قتل من النصارى زهاء
خمسمائة، فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت. وأمر بالخندق على المعسكر فتعاورته الأيدي، واحتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه، وابتلي المسلمون بتونس، وظنّوا الظنون. واتّهم السلطان بالتحوّل عن تونس إلى القيروان. ثم إنّ الله أهلك عدوّهم وأصبح ملك الفرنجة ميتاً يقال حتف أنفه، ويقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف بأبته ويقال أصابه مرض الوباء، ويقال وهو بعيد أنّ السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم وكان فيه مهلكه. ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط، سفي بذلك لميلاده بها فبايعوه، واعتزموا على الإقلاع. وكان أمرهم راجعاً إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم، وترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم.
وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأوّل سنة تسع وستين وستمائة فتولّى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاماً. وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، واختصّ جرون صاحب صقلية بسلم عقده على جزيرته. وأقلع النصارى بأساطيلهم، وأصابهم عاصف من الريح أشرفوا على العطب، وهلك الكثير منهم. وأغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية. يقال إنه عشرة أحمال من المال، وترك النصارى بقرطاجنّة تسعين منجنيقاً. وخاطب السلطان صاحب المغرب وملوك النواحي بالخبر ودفاعه عن المسلمين وما عقده من الصلح، وأمر بتخريب قرطاجنّةوأن يؤتى بنيانها من القواعد، فصير أبنتيها طامسة ورجع الفرنجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور والاستفحال، ولم يزالوا في تناقص وضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات. واستبد صاحب صقلية لنفسه، وكذا صاحب نايل وجنوة وسردانية، وبقي بيت ملكهم الأقدم لهذا العهد على غاية من الفشل والوهن. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الخبر عن مهلك رئيس الدولة أبي عبد الله بن أبي الحسين وأبي سعيد العود الرطب: أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤساء القلعة المجاورة لغرناطة، وكان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحدين بالعدوتين، وكان جذه أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان. ونشأ حافده هذا في كفالته. ولما عزل وقفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع وستمائة، ورجع حافده محمد إلى تونس والشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب أفريقية لذلك العهد فاعتلق بخدمة ابنه أبي زيد. ولما ولي الأمر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه. ثم جاء السيد أبو علي من مراكش على أفريقية، وارتحل أبو زيد إلى مراكش ومحمد بن أبي الحسين إلى تونس، واتصل الأمير أبي زكريا لأول استبداده فغلب على هواه، وكان مبختاً في صحابة الملوك. ولما ولي المستنصر أجراه على سننه برهة، ثم تنكر له إثر كائنه اللحياني، وعظمت سعاية أعدائه من البطانة وأشاعوا بمداخلته لأبي القاسم ابن مخدومه أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد، فنكبه السلطان واعتقله بداره تسعة أشهر. ثم سرحه وأعاده إلى مكانه وثار من أعدائه، واستولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين وستمائة. وكان ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن صاحب أشغال الحضرة، وكان قد أفنى مالاً جسيماً، ونال من الحضرة منالاً.وعظيماً وكان الرئيس أبو عبد الله متفنناً في العلوم مجيداً في اللغة. يقرض الشعرفيحسن، ويرسل فيجيد وينثر فيحسن. وله من التواليف: كتاب ترتيب المحكم لابن سيدة على نسق الصحاح للجوهري واختصاره، وسمّاه الخلاصة. وكان في رياسته صليب الرأي قوي الشكيمة عالي الهمة، شديد المراقبة والحزم في الخدمة، وله شعر نقل منه التجاني وغيره. ومن أشهر ما نقل عنه من شعره يخاطب عنان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف واتبع ابن غانية، وهي على روي الراء، كان قبلها أخرى على روي
الدال. وكان له ولد إسمه سعيد، وترقّى فى حياة أبيه المراتب السلطانية. ثم اغتبظ دون غايته. وفي ثالثة مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاتي المعروف بالعود الرطب، ويعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد. وكان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فرّ من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته، ولحق بسجلماسة سنة إحدى وأربعين. وقد كان انتزى بها عبدالله الهزرجي، وبايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس، ونزل على الأمير أبي زكريا ونظمّه في طبقات مشيخة الموحدين وأهل مجلسه. ثم حظي عند إبنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا كفاء لها. واستولى على الرأي والتدبير إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين وستمائة فشيع طيّب الذكر ملحفا بالرضوان من الخاصة والكافة، والله مالك الأمور.
الخبر عن انتقاض أهل الجزائر وفتحها: كان أهل الجزائر لما رأوا تقلّص ظلّ الدولة عن زناتة وأهل المغرب الأوسط حدّثوا أنفسهم بالاستبداد والقيام على أمرهم، وخلع ربقة الطاعة من أعناقهم فجاهروا بالخلعان. وسرح السلطان إليهم العساكر سنة تسع وستين وستمائة، وأوعز إلى صاحب ثغر بجاية، وهو أبو هلال عياد بن سعيد الهنتاتي فزحف إليها في عساكر الموحدين سنة إحدى وسبعين وستمائة، ونازلها مدة حول. وامتنعت عليه فأقلع عنها ورجع إلى بجاية، وهلك بمعسكره ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة. ثم إن السلطان صرف عزمه إلى منازلتهم سنة أربع وسبعين وستمائة وسرّح إليهم العساكر في البر، وأنفذ الأساطيل في البحر وعقد على عسكر تونس لأبي الحسن بن ياسين، وأوعز إلى عامل بجاية بإنفاذ عسكر آخر فأنفذه لنظر أبي العباس بن أبي الأعلام، ونهضت هذه العساكر براً وبحراً إلى أن نازلتها وأحاطت بها من كل جانب، واشتد حصارها. ثم اقتحمت عنوة واستحر فيهم القتل، وانتهبت المنازل، وافتضح الكرائم في أبكارهنّ. وتقبض على مشيخة البلد فنقلوا إلى تونس صفدين، واعتقلوا بالقصبة إلى أن سرحهم الواثق بعد مهلك السلطان والله تعالى أعلم.
الخبر عن مهلك السلطان المستنصر ووصف شيء من أحواله:
كان السلطان بعد فتح الجزائر قد خرج من تونس للصيد وتفقد العمالات، فأصابه في سفره مرض ورجع إلى داره، واشتدت عمته وكثر الإرجاف بموته. وخرج يوم الأضحى سنة خمس وسبعين وستمائة يتهادى بين رجلين، ورجلاه لا يخطان الأرض. وجلس للناس في منبر متجلداً. ثم دخل بيته وهلك لليلته رضوان الله عليه، وكان شأن هذا المستنصر في ملوك آل أبي حفص عظيماً. وشهرته طائرة الذكر بما انفسح أمد سلطانه، ومدت إليه ثغور القاصية من العدوتين يد الاعتصام به. وما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على أبيه وخصوصا الأندلس، من شاعر مفلق وكاتب بليغ وعالم نحرير وملك أروع وشجاع أهيش، متفيئين ظلّ ملكه متناغين في اللياذ به، لطموس معالم الخلافة شرقاً وغربا على عهده، وخفوت صوت الملك إلا في إيوانه.
فقد كان الطاغية التهم قواعد الملك بشرق الأندلس وغربها، فأخذت قرطبة سنة
ثلاث وثلاثين وستمائة، وبلنسية سنة ست وثلاثين وستمائة بعدها، وأشبيلية سنة ست وأربعين وستمائة. واستولى الططر على بغداد دار خلافة العرب بالمشرق وحاضرة الإسلام سنة ست وخمسين وستمائة، وانتزع بنو مَرين ملك بني عبد المؤمن. واستولوا على حضرة مراكش دار خلافة الموحدين سنة ثمان وستين وستمائة، كل ذلك على عهده وعهد أبيه ودولتهم أشد ما كانت قوة وأعظم رفاهية وجباية، وأوفر قبيلاً وعصابة وأكثر عساكر وجنداً، فأمله أهل العالم للكرة، وأجفلوا إلى الإمساك بحقويه. وكانت له في الأبهة والجلال أخبار، وفي الحروب والفتوح آثار مشهورة، وفي أيامه عظمت حضارة تونس، وكثر ترف ساكنها. وتأنق الناس في الملابس والمراكب والمباني
والماعون والأبنية، فاستجادوها وتناغوا في اتخاذها وانتقائها إلى أن بلغت غايتها. ثم رجعت من بعده أدراجها، والله مالك الأمور ومصرفها.
الخبر عن بيعة الواثق يحيي بن المستنصر وهو المشهور بالمخلوع وذكر أحواله: لما هلك السلطان المستنصر سنة خمس وسبعين وستمائة كما قدمناه، اجتمع الموحدون وسائر الناس على طبقاتهم إلى ابنه يحيى، فبايعوه ليلة مهلك أبيه، وفي غدها وتلقب الواثق. وافتتح أمره برفع المظالم وتسريح أهل السجون وإفاضة العطاء في الجند وأهل الديوان، وإصلاح المساجد، وإزالة كثير من الوظائف عن الناس. وامتدحه الشعراء فأسنى جوائزهم، وأطلق عيسى بن داود من اعتقاله، وردّه إلى حاله. وكان المتولّي لأخذ البيعة على الناس والقيام بأمره سعيد بن يوسف بن أبي الحسين لمكانه من الدولة ورسوخه في الشهرة، فقام بالأمر ولم يزل على ذلك إلى أن نكبه وأدال منه بالحببّر والله أعلم. الخبر عن نكبة ابن أبي الحسين واستبداد ابن ا الحببر على الدولة: كان هذا وإسمه يحيى بن عبد الملك الغافقي وكنيته أبو الحسن أندلسياً من أعمال مرسية، وفد مع الجالية من شرق الأندلس أيام استيلاء العدو، وكان يحسن الكتاب ولم يكن له من الخلال سواها، فصرف في الأعمال ثم ارتقى إلى خدمة ابن أبي الحسين فاستكتبه، ثم رقّاه إلى ولاية الديوان فعظمت حاله وكانت له أثناء ذلك مداخلة للواثق ابن السلطان اعتدّها له سابقة. فلما استوسق الأمر للواثق رفع منزلته واختصّه بالشورى، وقلّده كتاب علامته. وكان سعيد بن أبي الحسين مزاحماً له منافساً لما كان أسف منه بقديمه. فأغرى به السلطان ورغبه في ماله فتقبض على سعيد بن أبي الحسين لستة أشهر من الدولة سنة ست وسبعين وستمائة واعتقل
بالقصبة. وتقبض على نقله ابن ياسين وابن صياد الرجّالة وغيرهم، وقدم على الأشغال مدافعاً من الموالي العلوجي. ووكّل أبو زيد بن أبي الأعلام من الموحدين بمصادرة ابن أبي الحسين على المال وامتحانه.
ولم يزل يستخرج منه حتى ادّعى الإملاق واستحلف فحلف، ثم ضرب فادعى مؤتمناً من ماله عند قوم استكشفوا عنه فأدوه. ثم دلّ بعض مواليه على ذخيرة بداره دفينة فاستخرج منها زهاء ستماية ألف من الدنانير، فلم يقبل بعدها مقاله، وبسط عليه العذاب إلى أن هلك في ذي الحجة من سنته، ودفن شلوه بحيث لم يعرف مدفنه واستبد أبو الحسن الحببر على الدولة والسلطان، وبعث أخاه أبا العلى واليا على بجاية، وأسف المشيخة والبطانة بعتوه واستبداده وما يتحشمونه من مباكرة بابه، إلى أن عاد وبال ذلك على الدولة كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن إجازة السلطان أبي إسحق من الأندلس ودخول أهل بجاية في طاعته: كان السلطان المستنصر قد عقد على بجاية سنة ستين وستمائة لأبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي، وأدال به من أخيه الأمير أبي حفص، فأقام والياً عليها إلى أن هلك ببني ورا سنة ثلاث وسبعين وستمائة كما ذكرناه. وعقد عليها من بعده لإبنه محمد، فكان له غناء في ولايته، واضطلع بأمره إلى أن هلك المستنصر، وولى إبنه الواثق فبادر إلى إيتاء طاعته، وبعث وفد بجاية بيعتهم. ثم قلد أبو الحسن الحببر القائم بالدولة أخاه إدريس ولاية الأشغال ببجاية، فقام بها واقتنى الأموال، وتحكم في المشيخة. وأنف محمد بن أبي هلال من استبداده عليه، فهمّ إدريس بنكبته فخشي محمد بن أبي هلال بادرته، وداخل بعض بطانته في قتله. وفاوض الملك فيه فعدوا عليه لأوّل ذي القعدة سنة سبع وسبعين وستمائة بمقعده من باب السلطان، فقتلوه ورموا برأسه إلى الغوغاء والزعانف فعبثوا به.
ووافق ذلك حلول السلطان أبي إسحق بتلمسان وكان عند بلوغ الخبر إليه بمهلك أخيه المستنصر، أجمع أمره على الإجازة لطلب حقه بعدما تردد برهة. ثم اعتزم وأجاز إلى تلمسان، ونزل على يغمراسن ابن زيّان فقام لمورده، واحتفل في مبّرته. وفعل أهل بجاية وابن أبي هلال فعلتهم، وخشوا بوادر السلطان بالحضرة فخاطبوا السلطان أبا إسحق، وأتوه بيعتهم وبعثوا وفدهم يستحثّونه للملك، فأجابهم ودخل إليهم آخر ذي القعدة من سنته، فبايعه الموحدون والملأ من أهل بجاية. وقام بأمره محمد بن أبي هلال. ثم زحف في عساكره إلى قسنطينة فنازلها، وبها عبد العزيز بن عيسى بن داود، فامتنعت عليه فأقلع عنها إلى أن كان من أمره ما نذكره.
الخبر عن خروج الأمير أبي حفص بالعساكر للقاء السلطان أبي إسحاق ثم دخوله في طاعته وخلع الواثق:
لما بلغ الخبر إلى الواثق ووزيره المستبدّ عليه ابن الحببّر بدخول السلطان أبي إسحق بجاية، سرح العساكر إلى حربه، وعقد عليها لعمّه أبي حفص. واستوزر له أبا زيد بن جامع، فخرج من تونس واضطرب معسكره ببجاية. وعقد الواثق على قسنطينة لعبد العزيز بن عيسى بن داود لذمة صهر كانت له من ابن الحببر، فتقدم إلى قسنطينة، ومانع عنها الأمير أبا إسحق كما ذكرناه. ثم اضطرب رأي ابن الحببر في خروج الأمير أبي حفص، وأراد انفضاض عسكره فكتب الواثق إلى أبي حفص ووزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه، فتفاوضا واتفقا على الدعاء للأمير أبي إسحق، وبعثوا إليه بذلك. واتصل الخبر بالواثق وهو بتونس منتبذا عن الحامية والبطانة، فاستيقن ذهاب ملكه، وأشهد الملأ، وانخلع عن الأمر لعمه السلطان أبي إسحق غرّة ربيع الأول من سنة ثمان وسبعين وستمائة، وتحوّل عن قصور الملك بالقصبة إلى دار الأقوري وانقرضت دولته وأمره، والبقاء لله وحده.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحق علي الحضرة:
لما بلغ السلطان أبا إسحق كتاب أخيه الأمير أبي حفص وابن جامع من باجة،
بادر مغذاً إليهم. ثم وافاه خبر انخلاع الواثق ابن أخيه بتونس، فارتحلوا جميعاً وتسايل أهل الحضرة على طبقاتهم إلى لقائه، وأتوه طاعتهم. ودخل الحضرة منتصف ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة، ومحمد بن أبي هلال شيخ دولته. وعقد على حجابته لأبي القاسم ابن شيخ كاتب ابن أبي الحسني، وعلى خطة الأشغال لابن أبي الحسن بن خلدون. كان مع وند أبيه الحسن على الأمير أبي زكريا من أشبيلية لذمة رعاها لهم، بما كانت أمّ ولده امّ الخلائف من هدايا ابن المحتسب أبي زكريا محلهم ورحل الحسن إلى المشرق ومات هنالك، وبقي ابنه أبو بكر بالحضرة، فاستعمله الأمير أبو إسحق لأوّل دخوله في خطة الأشغال، ولم يكن يليها إلا الموحدون كما قلناه. وعقد لفضل بن علي بن مزني على الزاب، ولم يكن أيضاً يليها إلا الموحدون. لكن رعى لفضل بن مزني ذفة اغترابه معه إلى الأندلس، فعقد له على الزاب، ولأخيه عبد الواحد على بلاد قسطيلية. ثم تقبض على ابن الحببر، وأمر باعتقاله ودفعه إلى موسى بن محمد بن ياسين للمصادرة والامتحان. ووجد مكان التمائم عليه طوابع وطلسمات مختلفة الأشكال والصور، تسحر بها فيما زعموا مخدومه فحاق به وبالها. وكان شأنه في الامتحان والاستحلاف والهلاك بالعذاب، شأن سعيد بن أبي الحسين منكوبه أيام دولته، إلى أن هلك شهر جمادى الأولى من سنته، والله لا يظلم مثقال ذرة.
ولما اقتعد السلطان أبو إسحق كرسيّ ملكه، واستوثقت عرى خلافته، تقبض على محمد بن أبي هلال، وقتله لحين نكبته سنة ست وسبعين وستمائة، لما كان يتوقع منه من المكروه في الدولة، وما عرف به من المساعي في الفتنة والله أعلم.
الخبر عن مقتل الواثق وولده
لما انخلع الواثق عن الأمر وتحول إلى دار الأقوري فأقام بها أياماً، وكان له ثلاثة من الولد أصاغر: الفضل والطاهر، والطيب، فكانوا معه. ثم نمي عنه للسلطان أبي إسحق أنه يروم الثورة، وأنه داخل في ذلك بعض رؤساء النصارى الجند، فأقلق السلطان مكان ترشيحه، واعتقله بمكان اعتقال بنيه هو من القصبة أي ام أخيه المستنصر. ثم بعث إليهم لليلته فذبحوا جميعاً شهر صفر سنة تسع وتسعين وستمائة. واستوسق له الأمر، وأطلق من عنان الإمارة لولده، إلى أن كان من شأنهم ما يذكر إن شاء الله تعالى . الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس افي السلطان أبي إسحق علي بجاية بعهد أبيه والسبب في ذلك: كان للسلطان أبي إسحق من الأبناء خمسة: أبو فارس عبد العزيز، وكان أكبرهم، وأبو محمد عبد الواحد، وأبو زكريا يحيى، وخالد وعمر. وكان السلطان المستنصر قد حبسهم، عند فرار أبيهم إلى رياح في أيامه، ببعض حجر القصر وأجرى عليهم رزقاً فنشئوا في ظل كفالته وجميم رزقه، إلى أن استولى أبوهم السلطان أبو إسحق على الملك فطلعوا بآفاقه. وطالت فروعهم في دوحه، واشتملوا على العز، واصطنعوا أهل السوابق من الرجال، وأرخى السلطان لهم. ظلهم في ذلك. وكان المجلّي فيها كبيرهم أبو فارس بما كان مرشحاً لولاية العهد، وكان ممن اصطنعه وألقى عليه رداء محبته في الناس وعنايته، أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري، وأخوه أبو الحسين، لسابقة رعاها لهما.. وذلك أنّ أباهما أبا بكر بن سيد الناس، كان من بيوت أشبيلية حافظاً بالحديث رواية له. ظاهرياً في فقهه على مذهب داود وأصحابه. وكانت لأهل أشبيلية خصوصاً من بين الأندلس وصلة بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه، منذ ولايته غرب الأندلس.
فلمّا تكالب الطاغية على الدولة، والتهم ثغورها واكتسح بسائطها. وأشفّ إلى قواعدها وأمصارها، أجاز الأعلام وأهل البيوت إلى أرض المغربين وأفريقية. وكان تصدهم إلى تونسى أكثر لاستفحال الدولة الحفصية بها . فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس وقبح مصائرها، فى خفّة ساكنها، أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء. فأجاز البحر ونزل بتونس، فلقاه السلطان تكرمة، وجعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهوا التى أسستها أمّه أمّ الخلائف.
ونشأ بنوه أحمد وأبو الحسين في جو الدولة وحجر كفالتها للاختصاص الذي كان لأبيهم بها. وعدلوا عن طلب العلم إلى طلب الدنيا، وتشوّقوا إلى مراتب السلطان، واتصلوا بأبناء السلطان أبي إسحق بمكانهم من حجر القصر، حيث أنزلهم عمهم بعد مذهب أبيهم فخالطوهم واستخدموا لهم. ولما استولى السلطان على الأمر ورشّح إبنه أبا فارس العهد، وأجراه على سنن الوزإرة، فاصطنع أحمد بن سيّد الناس، ونوه باسمه وخلع عليه لبوس كرامته. واختصه بلقب حجابته، وأخوه أبو الحسين يناهضه في ذلك عنده. ونفس ذلك عليهما البطانة فأغروا السلطان أبا إسحق بإبنه، وخوّفوه شأنه. وإن أحمد بن سيد الناس داخله في التوثب بالدولة. وتولى كبر هذه السعاية عبد الوهاب بن قائد الكلاعي من علية الكتاب ووجوههم. كان يكتب للعامة يومّئذ، فسطا السلطان بابن سمد الناس سنة تسع وستين وستمائة آخر ربيع، استدعي إلى باب القصر فتعاورته السيوف هبراً، ووري شلوه ببعض الحفر. وبلغ الخبر إلى الأمير أبي فارس فركب إلى أبيه في لبوس
الحزن، فعزّاه أبوه عن ذلك بأنه ظهر لابن سيّد الناس على المكر والخديعة بالدولة. وأماط سواده بيده، ونجا أبو الحسين من هذه المهلكة. واعتقل في لفة من رجال الأمير أبي فارس وبطانته، بعد أن توارى أياماً إلى أن أطلق من حبسه، وكان من أمره ما نذكره بعد. واستبلغ السلطان في تأنيس إبنه، ومسح الضغينة عن صدره، وعقد له على بجاية وأعمالها، وأنفذه إليها أميراً مستقلاً. وأنفذ معه في رسم الحجابة جدي محمد ابن صاحب أشغاله أبي بكر بن
الحسن بن خلدون، فخرج إليها سنة تسع وستين وستمائة، وقام بأمرها ولم يزل أميراً بها إلى آخر دولته كما نذكره والله أعلم. الخبر عن ثورة ابن الوزير بقسنطينة ومقتله: اسم هذا الرجل أبو بكر بن موسى بن عيسى، ونسبته في كومية من بيوت الموحدين. كان مستخدماً لابن كلداسن الوالي بقسنطينة بعد ابن النعمان من مشيخة الموحدين أيام المتنصر. ووفد ابن كلداسن على الحضرة، وأقام ابن وزير نائباً عنه بقسنطينة ، فكان له غناً وصرامة. وولاّه السلطان حافظاً على قسنطينة. واتصلت ولأيته، وهلك المستنصر، واضطربت الأحوال. ثم ولأه الواثق، ثم السلطان أبو إسحق وكان ابن وزير هذا طموحاً جموح الأمل، وعلم أن قسنطينة معقل ذلك القطر وحصنه فحدّثته نفسه بالامتناع بها، والاستبداد على الدولة. وساء أثره في أهلها فرفعوا أمرهم إلى السلطان أبي إسحق، واستعدوه فلم يعدهم لما رأى من مخايل انحرافه عن الطاعة. وكتب هو بالاعتذار والنكير لما جاءوا به فتقبل وأغضى له عن هناته. ولما مر به الأمير أبو فارس إلى محل إمارته من بجاية سنة تسع وسبعين وستمائة، قعد عن لقائه وأوفد عليه جمعاً من الصلحاء بالمعاذير والاستعطاف، فمنحه من ذلك كفاء مرضاته، حتى إذا أبعد الأمير أبو فارس إلى بجاية، اعتزم هو على الانتزاء. وكاتب ملك أرغون في جيش النصارى يكون معه في ثغره، يردد بهم الغزو على أن يكون فيما زعموا داعيةً له فأجابه ووعده ببعث الأسطول إليه، فجاهر بالخلعان، وانتزى بثغر قسنطينة داعياً لنفسه آخر سنة ثمانين وستمائة. وزحف إليه الأمير أبو فارس من بجاية في ساكره، واحتشد الأعراب وفرسان
القبائل إلى أن احتل بميلة. ووفد عليه مشيخة من أهل قسنطينة بمكر من الرغبة والتوسل، بعثهم بها ابن وزير، فأعرض عنهم وصبح قسنطينة في أول ربيع سنة إحدى وثمانين وستمائة، فنازلها وجمع الأيدي على حصارها. ونصب المجانيق وقرب مقاعد الرماة، وقاتلها يوماً أو بعض يوم، وتسوّر عليهم المعقل من بعض جهاته. وكان المتولي لتسوّره حاجبه محمد بن أبي بكر بن خلدون، وأبلى ابن وزير عند الصدمة حتى احيط به، وقتل هو وأخوه وأشياعهما، ونصبت رؤوسهم بسور البلد. وتمشى الأمير في سكك البلد مسكناً ومؤنساً، وأمر برئم ما تثلّم من الأسوار وبإصلاح القناطر. ودخل إلى القصر، وبعث بالفتح إلى أبيه بالحضرة. وجاء أسطول النصارى إلى مرسى القل في مواعدة ابن وزير، فأخفق مسعاهم، وارتحل لأمير أبو فارس ثالثة الفتح إلى بجاية، فدخلها آخر ربيع من سنته، والله أعلم. الخبر عن قيادة أبناء السلطان العساكر إلى الجهات: كان السلطان يؤثر أبناءه بمراتب ملكه، ويوليهم خطط سلطانه شغفاً بهم وترشيحاً لهم، فعقد في رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة وستمائة وستمائة لإبنه أبي زكريا على عسكر من الموحدين والجند، وبعثه إلى قفصة للإشراف على جهاتها. وضم مجابيها فخرج إليها وقضى شأنه من حركته، وانصرف إلى تونس في رمضان من سنته. ثم عقد لإبنه الاخر أبي محمد عبد الواحد على عسكره، وأنفذه إلى وطن هوارة لاقتضاء مغارمهم وجباية ضرائبهم وفرائضهم، وبعث معه عبد الوهاب ابن قائد الكلاعي مباشراً لذلك وواسطة بينه وبين الناس، فانتهى إلى القيروان، وبلغه شأن الدعي وظهوره في دباب بنواحي طرابلس ، فطيّر بالخبر إلى السلطان وأقبل على شأنه. ثم انتشر أمر الدعي فانكفأ راجعاً إلى تونس، والله تعالى أعلم.
الخبر عن صهر السلطان مع عثمان بن يغمراسن:
كان السلطان لما أجاز البحر من الأندلس لطلب ملكه، ونزل على يغمراسن بن زيان بتلمسان، فاحتفل لقدومه، وأركب الناس للقائه، وأتاه ببيعته على عادته من سلفه لما علم أنه أحق بالأمر، ووعد النصرة من عدّوه والمؤازرة على أمره، وأصهر إليه في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان تشريفاً خطبه منه، فولاه الإسعاف به. ولما استولى السلطان على حضرته واستبد بأحوال ملكه بعث يغمراسن إبنه إبراهيم المكنى بأبي عامر في وفد من قومه لإتمام ذلك العقد، فاعتمد السلطان مبّرتهم وأسعف فئ وأقاموا بالحضرة أياماً. وظهر من إقدامهم في فتن الدعي مقامات، وانصرفوا
بظعينهم سنة أحدى وثمانين وستمائة مجبورين محبورين. وابتنى بها عثمان لحين وصولها فكانت من عقائل قصورهم ومفاخر دولتهم، وذكراً لهم ولقومهم آخر الأيام.
الخبر عن ظهور الدعي ابن أبي عمارة وما وقع من الغريب في أمره:
كان أحمد بن مرزوق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسبلة، ونشأ ببجاية وسيما محترفاً بصناعة الخياطة غراً غمراً. وكان يحدّث نفسه بالملك لما كان العارفين زعم يخبرونه بذلك. وكان هو بخط فيريه خطه ذلك. ثم اغترب عن بلده ولحق بصحراء سجلماسة، واختلط بعرب المعقل وانتمى إلى أهل البيت، وادعى أنه الفاطمي المنتظر عند الأغمار، وأنه يحيل المعادن إلى الذهب بالصناعة فاشتملوا عليه وتحدثوا بشأنه أياماً. أخبرني طلحة بن مظفر من شيوخ العماريّة إحدى بطون المعقل أنه رآه أيام ظهوره في المعقل ملتبساً بتلك الدعوى حتى فضحه العجز. ثم لما زهدوا فيه لعجز مدعاه ذهب يتقلب في الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس، ونزل
على دباب وصحب بينهم الفتى نصيراً مولى الواثق بن المستنصر، ويلقّب نوبى. ولما رآه تبين فيه شبهاً من الفضل ابن مولاه فطفق يبكي ويقبل قدميه فقال له ابن أبي عمارة: ما شأنك؟ فقص عليه الخبر فقال له: صدقني في هذه الدعوى وأنا أثئرك من قاتلهم. وأقبل نصير على أمراء العرب مناديا بالسرور بابن مولاه، حتى خيل عليهم. ثم لبس بما دس إلى ابن عمارة من محاورات وقعت بين العرب وبين الواثق، قضها عليهم ابن أبي عمارة نفياً للريب بأمره فصدقوا واطمأنوا وأتوه بيعتهم. وقام بأمره مرعم بن صابر بن عسكر أمير دباب. وجمع له العرب ونازلوا طرابلس، وبها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتي ويشهر بعنق الفضة فامتنعت عليهم، ورحلوا إلى مجريس الموطنين بزنزور وجهاتها من هوارة فأوقعوا بهم. ثم سار في تلك النواحي واستوفى جبايته ولماية وزوارة وزواغة، وأغرم نفوسه وغريان ومقر من بطون هوارة وضائع ألزمهم إياها واستوفاها. ثم زحف إلى قابس فبايع له عبد الملك بن مكي في رجب سنة إحدى وثمانين وستمائة، وأعطاه صفقته طواعية، وفاه بحق آبائه فيما طوقوه ذريعة إلى الاستقلال الذي كان يؤمله، وأعلن بخلافته ونادى في قومه واستخدم له بني كعب من سليم ورياستهم اذ ذاك في بني شيحة لعبد الرحمن بن شيحة، فأجابوا داعية وأنابوا إلى خدمته. وتوافت اليه بيعة أهل جربة والحامة وقرى نفزاوة. ثم زحف إلى توزر وبلاد قسطيلية فأطاعوه. ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها، وعظم أمره وعلا صيته. فجهز إليه السلطان أبو إسحق العساكر من تونس كما نذكره والله تعالى أعلم. الخبر عن انفضاض عساكر السلطان وتقويضه عن تونس: لما تفاقم أمر الدعي بنواحي طرابلس، ودخل الكثير من أهل الأمصار في طاعته
جهز السلطان عساكره وعقد لابنه الأمير أبي زكريا على حربه، فخرج من تونس ونزل القيروان، واقتضى منها غرامات ووضائع واستأثر منها بأموال. ثم ارتحل إلى لقاء الدعي وانتهى إلى تمودة، وبلغه هنالك ما كان من استيلاء الدعي على قفصة، فأرجف به المعسكر وانفضوا من حوله. ورجع إلى تونس فدخلها آخر يوم من رمضان من سنته، وارتحل الدعي على أثره من قفصة واحتل بالقيروان، فبايع له أهلها واقتدى بهم أهل المهدية وصفاقس وسوسة فبايعوا له وكثر الإرجاف بتونس، فاضطرب السلطان معسكره بظاهر البلد وسط شوال. وضرب الغزو على الناس واستكثر من العدد، وخرج إلى معسكره بالمهديّة وتلوم بها لإزاحة العلل. وارتحل الدعي من القيروان زاحفاً إليه فتسربت إليه طبقات الجنود ومشيخة الموحدين، رضي بمكانه وصاغية إلى بني المستنصر خليفتهم الطويل أمد الولاية عليهم، ورحمة لما نال الواثق وأبناءه من عمهم. ثم انفض عن السلطان كبير الدولة موسى بن ياسين في معظم الموحدين ولقي الدعي بطريقه فاختل أمر السلطان وانتقضت على ملكه وفر إلى بجاية كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن لحاق السلطان أبي إسحق ببجاية ودخول الدعي ابن أبي عمارة إلى تونس وما كان أمره بها: ولما انفض معسكر السلطان أبي إسحق آخر شوّال من سنة إحدى وثمانين وستمائة ركب في خاصته وبعض جنوده ذاهباً إلى بجاية، ومر بتونس فوقف عندها حتى احتمل أهله وولده، وسار في كلب البرد فكان يعاني من قلة الأقوات وتعاور المطر والثلج شدة. وكان يصانع القبائل في طريقه ببذل ماله. ثم مر بقسنطينة فمنعه عاملها عبد الله بن يوقيان الهرغي من دخولها، وقرّب إليه بعض القرى من الأقوات، وارتحل إلى بجاية
فكان من أمره ما يذكر. ودخل الدعي ابن أبي عمارة إلى الحضرة، وقلد موسى بن ياسين وزارته وأبا القاسم أحمد ابن الشيخ حجابته. وتقبض على صاحب الأشغال أبي بكر بن الحسن بن خلدون فاستصفاه وصادره على مال امتحنه عليه. ثم قتله خنقاً، وصرف خطة الجباية إلى عبد الملك بن مكي رئيس قابس. واستكمل ألقاب الملك، وقسم الخطط بين رجال الدولة وصرف همّه إلى غزو بجاية.
الخبر عن استبداد الأمير أبي فارس بالأمر عند وصول أبيه إليه: لما وصل السلطان أبو إسحق إلى بجاية شهر ذي القعدة من سنته طريداً عن ملكه عاطلا عن حلى سلطانه، انتقض عليه إبنه الأمير أبو فارس ومنعه من الدخول إلى قصره، فنزل بروض الرفيع، وأراده على الخلع فانخلع له. وأشهد الملأ من الموحدين ومشيخة بجاية بذلك، وأنزله قصر الكوكب ودعا الناس إلى بيعته آخر ذي القعدة، فبايعوه وتلقب المعتمد على الله. ونادى في أوليائه من رياح وسدويكش. وخرج من بجاية زاحفاً إلى الدعي، واستخلف عليها أخاه الأمير أبا زكريا. وخرج معه عمه الأمير أبو حفص وإخوته، فكان من أمرهم ما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن زحف الأمير أبي فارس للقاء الدعي ثم انهزامه أمامه واستلحامه وإخوته في المعركة وما كان أثر ذلك من مهلك أبيهم السلطان أبي اسحق وفرار أخيهم الأمير أبي زكريا إلى تلمسان: لما بلغ الخبر إلى الدعي باستبداد الأمير أبي فارس على أبيه واستعداده للقائه
تقبض على أهل البيت الحفصي، فاعتقلهم بعد أن هم بقتلهم. وخرج من تونس في عساكره من الموحدين وطبقات الجند في صفر سنة إثنتين وثمانين وستمائة، فانتهى إلى مرماجنة، وتراءى الجمعان ثالث ربيع الأول فاقتتلوا علية يومهم. ثم اختل مصاف الأمير أبي فارس. وتخاذل أنصاره فقتل في المعركة، وانتهب معسكره وقتل أخواته جميعاً صبراً: عبد الواحد قتله الدعي بيده، وعمر وخالد ومحمد بن عبد الواحد. وبعث برؤوسهم إلى تونس، فطيف بها على الرماح ونصبت بأسوار البلد. وتخلص عمه الأمير أبو حفص من الواقعة إلى أن كان من أمره ما نذكر.وبلغ خبر الواقعة إلى بجاية فاضطرب أهلها وماجوا بعضهم في بعض. وجمعهم قاضيهم أبو محمد عبد المنعم بن عتيق الجزائري للحديث في الشأن فتكالبوا، وزجرهم ابنه فقتلوا. ثم أشخصوا القاضي إلى بلده في البحر. وخرج السلطان أبو إسحق وإبنه الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، فقدم أهل بجاية عليهم محمد بن أسرعين قائماً فيهم بطاعة الدعيّ، وخرج في أتباع السلطان فأدركه بجبل بني غبرين من زواوة، فتقبض عليه، ونجا الأمير أبو زكريا إلى تلمسان، وبقي السلطان أبو إسحق ببجاية معتقلاً ريثما بلغ الخبر إلى تونس، وأرسل الدعي محمد بن عيسى بن داود فقتله آخر ربيع الأول سنة إثنتين وثمانين وستمائة، وانقضى أمره ولله عاقبة الأمور لا رب غيره ولا رب سواه.
الخبر عن ظهور الأمير أبي حفص وبيعته وما كان علي أثر ذلك من الأحداث: قد ذكرنا أن الأمير أبا حفص حضر واقعة بني أخيه مع الدعي بمرماجّنة، فخلص من المعركة راجلاً، ونجا إلى قلعة سنان معقل هوّارة القريب من مكان الملحمة، ولاذ به في ذهابه إلى منجاته ثلاثة من صنائعهم: أبو الحسين بن أبي بكر بن سيد الناس، ومحمد بن القاسم بن إدريس الفازازي، ومحمد بن أبي بكر بن خلدون، وهو جذ المؤلف الأقرب. وربما كانوا يتناقلونه على ظهورهم إذا أصابه الكلال. ولما نجا إلى قلعة سنان تحدث به الناس، وشاع خبر منجاته إليها. وكان الدعيّ قد أسف العرب وثقلت وطأته عليهم بما كان يسيء الملكة فيهم. فليوم دخوله شكى إليه الناس
عيثهم فتقبض على ثلاثة منهم وقتلهم وصلبهم. ثم سرح شيخ الموحدين عبد الحق بن تافراكين لحسم عللهم وأوعز إليه بالإثخان فيهم، فاستلحم لمن لقي منهم. ثم تقبض على مشايخ بني علاق، وأودع سجونه منهم نيفاً على ثمانين، فساء أثره فيهم وتطلبوا أعياص البيت، وتسامعوا بخبر الأمير أبي حفص بمكانه من قلعة سنان، فدخلوا إليه وأتوه بيعتهم في ربيع سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وجمعوا له شيئاً من الآلة والأخبية وقام بأمره أبو الليل بن أحمد أميرهم. وبلغ الخبر إلى الدعي فداخلته الظنة في أهل دولته. وتقبض على أبى عمران بن ياسين شيخ دولته، وعلى أبي الحسن بن ياسين وابن وانودين، وعلى الحسين بن عبد الرحمن يعسوب زناتة فامتحنهم واستصفى موالهم. ثم قتلهم آخراً، وتوجع لهم الناس واضطرب أمر الدعي إلى أن كان ما نذكره انتهى.
الخبر عن خروج الدعي ورجوعه واستيلاء السلطان أبي حفص علي ملكه وغلبه ومهلكه: لما ظهر السلطان أبو حفص وبايعه العرب تسامع أهل الحضرة واجتمع إليه الناس، وأوقع الدعيّ بأهل الدولة فمقتوه. وخرج من تونس يريد قتاله فأرجف به أهل معسكره ورجع منهزماً. ودخلت البلاد في طاعة السلطان أبي حفص ونهض إلى تونس فنزل بسحوم قريباً منها. وعسكر الدعي بظاهر البلد تجاهه، وطالت بينهما الحرب أياماً والناس في كل يوم يستوضحون خبء الدعي ومكره إلى أن تبراوا منه وأسلموه، ودخل من مكان معسكره ولاذ بالاختفاء. ودخل السلطان البلد في ربيع الاخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة واستولى على سرير ملكه وطهّر من الدنس فاضحه ودعيه، واختفى الدعي بتونس وغاص في لجّة ساكنها وأحاط به البحث فعثر عليه لليال من مدخل السلطان بدول بعض السوقة يعرف بأبي القاسم القرمادي فهدمت لحينها. وتل إلى السلطان فأحضر له الملأ ووبخه وساءله فاعترف بادعائه في بيتهم فأمر بامتحانه وقتله. وذهب في غير سبيل مرحمة، وطيف بشلوه، ونصب
رأسه. وكان عبد الله بن يغمور المباشر لقتله، وكان خبره من المثلات. واستبد السلطان بملكه وتلقب المستنصر بالله. وبادر الناس إلى الدخول في طاعته. وبعث أهل القاصية بيعتهم من طرابلس وتلمسان وما بينهما. وعقد للشيخ أبي عبد الله الفازازي على عسكره وعلى الحروب والضاحية، وأقطع البلاد والمغارم للعرب رعياً لذمة قيامهم بأمره، ولم يكن لهم قبلها إقطاع. وكان الخلفاء قبله يتحامون عن ذلك ولا يفتحون فيه على أنفسهم باباً، وأقام متحلياً ملكه وادعاً في حضرته إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن استيلاء العدو علي جزيرة جربة وميورقة ومنازلته المهدية وأجلابه علي السواحل: كان من أعظم الحوادث في أيام هذا السلطان تكالب العدو على الجزر البحرية فاستولت أساطيلهم على جزيرة جربة في رجب من سنة ثلاث وثمانين وستمائة ورياستها يومئذ من محمد بن سمون شيخ الوهبيّة، ويخلف بن أمغار شيخ النكارة، وهما فرقتا الخوارج. وزحف إليها المراكيا صاحب صقلية نائباً عن الغدريك بن الريداكون ملك برشلونة في أساطيله البحرية، وكانوا فيما قيل سبعين أسطولاً من غربان وشواني، وضايقهم مراراً. ثم تغلبوا عليها فانتهبوا أموالها واحتملوا أهلها أسرى وسبياً، يقال أنهم بلغوا ثمانية آلاف بعد أن رموا بالرضّع في الجبوب، فكانت هذه الواقعة من أشجى الوقائع للمسلمين. ثم بنوا بساحلها حصناً واعتمروه وشحنوه حاميةً وسلاحاً. وفرض عليهم المغرم ماية ألف دينار في سنة، وأقاموا على ذلك. وهلك المراكيا على رأس المائة، وبقيت الجزيرة في ملكة النصارى إلى أن أعادها الله في أواخر الأربعين والسبعماية كما نذكر.
وفي سنة خمس وثمانين وستمائة ظفر العدوّ بجزيرة ميورقة ركب إليها طاغية برشلونة في أساطيله في عشرين ألفا من الرجال المقاتلة، ومروا بميورقة كأنهم سفر من التجار وطلبوا من أبي عمر بن حكم رئيسها النزول للاستقاء فأذن لهم. فلما تساحلوا آذنوا أهلها بالحرب فتزاحفوا ثلاثاً يثخن فيهم المسلمون في كلها قتلا وجراحة بما يناهز الآفاً، والطاغية في بطارقته قاعد عن الزحف فلما كان في اليوم الثالث واستولت الهزيمة علي قومه زحف الطاغية في العسكر فانهزم المسلمون، ولحق إلى قلعتهم فانحصروا بها وعقدوا لابن حكم ذمة في أهله وحاشيته، فخرجوا إلى سبتة ونزل الباقون على حكم العدو فأجازهم إلى جارتهم ميورقة واستولى على ما فيها من الذخيرة والعدّه والأمر بيد الله وحده.
وفي سنة ست وثمانين وستمائة بعدها غدر النصارى بمرسى الخرز فاقتحموها بعد أن ثلموا أسوارها واكتسحوا ما فيها، واحتملوا أهلها أسرى وأضرموا بيوتها ناراً. ثم مروا بمرسى تونس وانصرفوا إلى بلادهم، وفيها أو في سنة تسع وثمانين وستمائة بعدها نازل أسطول العدو مدينة المهدية، وكان فيهم الفرسان لقتالها فزحفوا إليها ثلاثاً ظفر بهم المسلمون في كلها. ثم جاء مدد أهل الأجم فانهزم العدو حتى اقتحموا عليهم الأسطول، وانقلبوا خائبين وتمت النعمة.
الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكريا علي الثغر العربي بجاية والجزائر وقسنطينة و أولية ذلك ومصائره:
كان للأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي إسحق من الترشيح للأمر بهديه وشرف همته وحسن ملكته، ومخالطته أهل العلم ما شهد له بمغبة حاله، وهو الذي اختط المدرسة للعلم بإزاء دار الأقوري حيث كان سكناه بتونس. ولما لحق بتلمسان بعد منجاته من مهلك أبيه ببجاية، نزل على صهره عثمان بن يغمراسن بتلمسان، وجاء في أثره أبو الحسين بن أبي بكر بن سيّد الناس صنيعة أبيه وأخيه، بعد أن خلص مع السلطان أبي حفص من الواقعة إلى مرماجّنة. فلما بايع له العرب وبدت مخايل الملك رأى أبو الحسين إيثار السلطان للفازازي عليهم فنكب عنه، ولحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان واستحثه لطلب ملكه. واستقرض من تجار بجاية هنالك مالاً أنفقه في إقامة أبهة الملك له، وجمع الرجال واصطنع الأولياء.
وفشا الخبر بما يرومه من ذلك فصده عثمان بن يغمراسن عنه، لما كان تقلد من طاعة السلطان أبي حفص على سننهم مع الخلفاء بالحضرة قبله، فاعتزم الأمير أبو زكريا على شأنه، وخرج من تلمسان مورّياً بالصيد الذي كان ينتحله أيام مقامه بينهم، ولحق بداود بن هلال بن عطاف أمير بني يعقوب، وكافة بني عامر من زغبة وأوعز عثمان بن يغمراسن إلى داود برده إليه فأبى من إخفار ذمّته، وارتحل معه بقومه إلى آخر بلاد زغبة، ونزلوا على عطية بن سليمان بن سباع من رؤساء الزواودة، فتلقاه بالطاعة وارتحلوا جميعاً إلى ضواحي قسنطينة فدخل العرب وسدويكش في طاعته.
ونزل البلد سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وعاملها يومئذ ابن يوقيان من مشيخة الموحدين، وكان صاحب الجباية بها أبو الحسن بن طفيل. كان له من العامل فداخل الأمير أبا زكريا في شأن البلد، وشرط لنفسه وصهره فأمضى السلطان شرطهم وأمكنوه من البلد. وأقاموا بها دعوته، وارتحل إلى بجاية وكانت قد حدث فيها اضطراب بين أهلها أدّى إلى الخلاف والتباين. واستحثوا الأمير أبا زكريا فأغذ السير إليهم ودخلها سنة أربع وثمانين وستمائة. ويقال إن ملكه لبجاية كان سابقاً على ملكه لقسنطينة وهو الأصح فيما سمعناه من شيوخنا. وبعث إليه أهل الجزائر وتدلس بطاعتهم فاستولى على هذه الثغور العربية، وتلقب المنتخب لإحياء دين الله. وأغفل ذكر أمير المؤمنين أدباً مع عمه الخليفة بالحضرة حيث مالأ الموحدين أهل الحل والعقد من الجماعة. ونصب للحجابة أبا الحسين بن سيد الناس فقام بها، ورشح ملكه وملك بنيه بهذه الناحية الغربية، وانقسمت به الدولة إلى أن خلص الأمر للملوك من عقبه واستولوا على الحضرة كما نذكره إن شاء الله تعالى
الخبر عن حركة الأمير أبي زكريا إلي ناحية طرابلس ومنازلة عثمان بن يغمراسن بجاية في مغيبه:
لما استولى الأمير أبو زكريا على الناحية الغربيّة، واقتطعها من أعمال الحضرة اعتمل في الحركة على تونس فنهض إليها في سنة خمسة وثمانين وستمائة. ووفد عليه عبد الله بن رحاب بن محمود من مشيخة دباب، ومانعه الفازازي عن أحواز تونس فنازل قابس وحاصرها، وكان له في قتالها أثر واستوت الهزيمة على مقاتلها ذات يوم فأثخن فيهم قتلاً وأسراً، وهدم ربضها وأحرق المنازل في غابتها والنخل. وارتحل إلى مسراته، وانتهى إلى الأبيض وأطاعه الجواري والمحاميد وآل سالم وعرب برقة، وبلغه بمكانه من مسراته أن عثمان بن يغمراسن أسف إلى منازلة بجاية، وكان من خبره أن الأمير أبا زكريا لما فصل من تلمسان لطلب ملكه على كره منه، وامتنع جاره داود بن عطاف من رده امتلأ له عداوة وانحرافاً، وجدد البيعة لصاحب تونس، وأوفد بها على ابن محمد الخراساني من صنائعه. وكان له أثناء ذلك ظهور على بني توجين ومغراوة بالمغرب الأوسط وضاق ذرع أهل الحضرة بمكان الأمير أبي زكريا من مطالبتهم وتدويخه لقاصيتهم، فدخلوا عثمان بن يغمراسن في منازلة معقله ثغر بجاية ليردوه إلى عقبه عنهم، فزحف إلى بجاية سنة ست وثمانين، ونازلها أياماً، وامتنع عليه سائر ضواحيها، ولم يظفر بأكثر من الاطلال عليها. وانكفأ الأمير أبو زكريا راجعاً إلى بجاية سنة ست وثمانين وستمائة إلى أن كان من أمره ما نذكر.
الخبر عن فاتحة استبداد أهل الجريد: كان في بعض الأيام بين سدادة وكنومة من عمل تقيوس فتنة قتل فيها ابن لشيخ سدادة، وأقسم ليثأرّنّ فيه بشيخ كثومة نفسه، وكان عامل توزر محمد بن يحيى بن
أبي بكر التينمللي من مشيخة الموحدين، فتذمّم شيخ كنومة به، وبذل له مالاً على نصره من عدّوه فكاتب الحضرة وأعلن بخلاف أهل سداده. واحتشد لهم أهل نفطة وتقيوس، وخرج هو في حشد أهل توزر غزاهم في بلدهم ولاذ بإعطاء الرهن، وبذل المال فلم يقبل فأمدهم أهل نفزاوة وزحفوا إليه، فانهزمت جموعه وأثخنوا فيهم قتلأ وأسرا إلى توزر، وذلك سنة ست وثمانين وستمائة. ثم عاود غزوهم عقب ذلك فبلخوا عليه ثم عقد لهم سلماً على الوفاء بمغارمهم واشترطوا أن لا حكم عليهم في سواهم، وأن رؤساء نفزاوة منهم فأمضى شرطهم وكانت أول استبداد الجريد كما نذكر إن شاء الله. الخبر عن خروج عثمان ابن السلطان أبي دبوس داعياً لنفسه بجهات طرابلس: كان أبو دّبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش لما قتل سنة ثمان وستين وستمائة ، وافترق بنوه وتقلبوا في الأرض، لحق منهم عثمان بشرق الأندلس. ونزل على طاغية برشلونة فأحسن تكريمه، ووجد هنالك أعقاب عمه السيد أبي زيد المتنصر أخي أبي دبوس في مثواهم من إيالة العدّو. وكان لهم هنالك مكان وجاه لنزوع أبيهم السيّد أبي زيد عن دينه إلى دينهم فاستبلغوا في مساهمة قريبهم هذا الوافد، وخطبوا له من الطاغية حظاً. ووافق ذلك حصول مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجوالي من بني دباب في قبضة أسره، وكان قد أسره العدى من أهل صقلية بنواحي طرابلس سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وباعوه من أهل برشلونة فاشتراه الطاغية، وأقام عنده أسيراً إلى أن نزع إليه عثمان بن أبي دبوس هذا كما ذكرناه. وشمر لطلب حقه في الدعوة الموحديّة حيث كانت. وأمّل الظفر في القاصية لبعدها عن الحامية، فعبر البحر إلى طرابلس وكان من حظوظ كرامته عند الطاغية أن أطلق له مرغم بن صابر، وعقد له خلقاً معه على مظاهرته، وجهز لهما الأساطيل، وشحنها بالمدد
من المقاتلة والأقوات على مال شرطوه، له فنزلوا على طرابلس سنة ثمان وثمانين وستمائة، واحتشد مرغم قومه وحملهم على طاعة ابن أبي دّبوس، ونازلوا البلد معه ومع جنده من النصرانية فحاصروها ثلاثاً، وساء أثرهم فيها. ثم دخل النصارى بأسطولهم وأرسوا بأقرب السواحل إلى البلد وتنقل ابن أبي دّبوس ومرغم في نواحي طرابلس بعد أن أنزلوا عليها عسكراً للحصار، فاستوفوا من جباية المغارم والوضائع مالاً دفعوه للنصارى في شرطهم، وانقلبوا بأسطولهم. وأقام ابن أبي دبوس يتقلب مع العرب. واستدعاه ابن مكّي من بعد ذلك لأنه يشبه به في استبداده، فلم يتم أمره إلى أن هلك بجربة والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن مهلك أبي الحسين بن سيّد الناس صاحب بجاية وولاية ابن أبي جيي مكانه: قد قدمنا سلف هذا الرجل وأوليته، وأنه لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان وأبلى في خدمته، فلما استولى الأمير أبو زكريا على الثغر الغربي، واقتطعه عن أعمال الحضرة. ونزل بجاية وضاهى بها تونس، عقد لأبي الحسين بن سيد الناس على حجابته، وفوض إليه فيما وراء بابه، وأجراه في رياسته على سنن ابن أبي الحسين الرئيس قبله في دولة المستنصر الذين كانوا يتلقنون طرقه، وينزعون إلى مراميه، بل كانت رياسة هذا في حجابته أبلغ من رياسة ابن أبي الحسين لخلاء جو الدولة ببجاية من مشيخة الموحدين الذين يزاحمونه، كما كان ابن أبي الحسين مزاحماً بهم، فاستولى أبو الحسين بن سيد الناس على الدولة ببجاية، وقام بأمر مخدومه أحسن قيام، وصار إلى الحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وتمكن في يده الزمام، إلى أن هلك سنة تسعين وستمائة أعظم ما كان رياسة وأقرب من صاحبه مكاناً وشرفاً فأقام الأمير أبو زكريا مكانه، كاتبه أبا القاسم ابن أبي حىّ، لا أدري من أوليته أكثر من أنه من جالية الأندلر، وردّ على الدولة، وتصرف في أعمالها، واتصل بأبي الحسين بن سيّد
الناس فاستكتبه ثم رقّاه واستخلصه بنفسه، وأجرّه رسنه، وتناول زمام الدولة من يد ابن سيّد الناس، فقادها في يد مظهر خدمته حتى عنت إليه الوجوه وأمله الخاصة، واضطلع السلطان على اضطلاعه وكفايته في أمور مخدومه. وهلك أبو الحسين بن سيد الناسى فرشحه السلطان بخطته فقام بها سائر أيامه وصدراً من أيام إبنه الأمير أبي البقاء حتى كان من أمره ما نذكره بعد.
الخبر عن خروج الزاب عن طاعة الأمير أبي حفص إلى طاعة الأمير أبي زكريا صاحب بجاية وانتظام بسكرة في جماعه: كان السلطان أبو إسحق قد عقد على الزاب لفضل بن علي بن مزني من مشيخة بسكرة كما قدمناه، فقام بأمره. ولما هلك السلطان عدا عليه بعض أفاريق العرب الموطّنين قرى الزاب بمداخلة قوم من أعدائه، وقتلوه سنة ثلاث وثمانين وستمائة كما نذكره. وأملّوا الاستبداد بالبلد فدفعهم عنها المشيخة من بني رمان، واستقلوا بأمر بلدهم، وبايعوا للأمير أبي حفص صاحب الحضرة ودانوا بطاعته على السنن. وتوقعوا عادية منصور بن فضل بن مزني. وكان لحق بالحضرة عند مهلك أبيه فخاطبوا فيه السلطان أبا حفص ورموه بالدواهي فأمر باعتقاله، وأودع السجن سبع سنين إلى أن فر منه ولحق بكرفة من أحياء هلال بن عامر، وهم العرب المتولون أمر جبل أوراس. ونزل على الشبه من أفاريقهم فأركبوه وكسبوه ولحق ببجاية سنة إثنتين وتسعين وستمائة فنزل بباب السلطان. ورغبه في ملك الزاب، وصانع الحاجب ابن أبي جبى بأنواع التحف، وضمن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه الأمير أبي زكريا وتسريب جبايته إليه، فاستماله بذلك وعقد له على الزاب وأمدّه بالعسكر، ونازل بسكرة فامتنعت عليه. ورأى مشيختها بنو رفان بعدهم عن صريخ تونس، وإلحاح عدوهم منصور بن فضل عليهم فأعلنوا بطاعة الأمير أبي زكريا وبعثوا إليه بيعتهم ووفدهم ورفع عادية ابن مزني عنهم، فرجعهم بما أملوه من القبول، وأن تكون
أحكامهم إلى قائد عسكره. ونظر ابن مزني مصروفاً إلى الجباية فقط. ولما وصل الوفد إلى بسكرة خرجوا إلى القائد ومنصور بن مزني، فأدخلوهما البلد ودانوا بالطاعة، وتصرفت الأمور على ذلك إلى أن كان من أمر منصور بن مزني ما نذكره في أخباره، ولم يزل الزاب في دعوة الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن استولى على الحضرة وبعده لهذا العهد، كما تراه في الأخبار بعد إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مهلك أبي عبد الله الفازازي شيخ الموحدين والحاجب أبي القاسم ابن الشيخ رؤساء الدولة بالحضرة: كان أبو عبد الله الفازازي من مشيخة الموحّدين، وكان خالصة للسلطان أبي حفص، وعقد له على العساكر كما قدمناه ودفعه إلى الحروب وتمهيد النواحي، فقام في ذلك المقام المحمود، ودوّخ الجهات واستنزل الثوّار ودفعهم، وجبى الخراج، وكانت له في ذلك آثار مذكورة، وفي بلاد الجريد ومشيختها تصاريف وأحوال. وهو الذي امتحن أحمد بن يملول بسعاية المشيخة من أهل توزر، وكبح عنانه عن مراميه إلى الرياسة عليهم، وهلك آخر حركاته إلى بلاد الجريد على مرحلتين من تونس سنة ثلاث وتسعين وستمائة. ولسنة منها كان مهلك الحاجب أبي القاسم ابن الشيخ وكان من خبر أوليته أنه قدم من بلده دانية إلى بجاية سنة ست وعشرين وستمائة، واتصل بعاملها محمد بن ياسين، فاستكتبه وغلب عليه. واستدعى ابن ياسين إلى الحضرة وابن الشيخ في جملته، والتمس السلطان من يرشحه لكتابته ويخف عليه، فأطنب ابن ياسين في وصف كاتبه أبي القاسم بن الشيخ وحلاه، وابتلاه السلطان فلم يرضه وصرفه، ثم راجع رأيه فيه واستحسنه ورسمه في خدمته. وأمر ابن أبي الحسين بتلقينه الآداب وتصريفه في وجوه الخدمة ومذاهبها، فكان له في ذلك غناء وخفة على مخدومه إلى أن هلك ابن أبي الحسين. وكان الخرج بدار السلطان موقوفاً على نظره من جملة ما إليه. وكان قلمه عاملاً فيه فأفرد ابن الشيخ بذلك بعد مهلكه إلى آخر أيام السلطان المستنصر. ولما ولي السلطان
الواثق استبد ابن الحببر عليه كما قلناه، فأبقاه على خطته واختصه لنفسه ودرجه في جملته. ثم جاءت دولة السلطان أبي إسحق فأقامه في رسمه وزاحمه بأبي بكر بن خلدون صاحب أشغاله. وكان الرياسة الكبرى على عهده لبنيه أبي فارس، ثم أبي زكريا وأبي محمد عبد الواحد من بعده. ثم كانت مضلة الدعي، واستولى على ملكهم فاستخلص أبا القاسم ابن الشيخ، واستضاف له إلى خطة التنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات. فلما ارتجع السلطان أبو حفص ملكه وقتل الدعيّ، خافه ابن الشيخ لما كان من رتبته عند الدعيّ فلاذ بالصلحاء لإثارة من الخير والعبادة وصلت بينهم وبينه فشفعوا له وتقبلها السلطان، وأظهر لهم ذات نفسه في الحاجة إلى استعماله وقلده حجابته مجموعة إلى تنفيذ الخرج وصرف العلامة إلى غير ذلك من طبقة الدولة فلم يزل على ذلك إلى أن هلك سنة أربع وتسعين. وستمائة وبقي إسم الحجابة من بعده في هذه الخطط الثلاث، وأمر التدبير والحرب ورياستهما راجع إلى مشيخة الموحّدين إلى أن تصرفت الأحوال، وأديل بعضها من بعض كما يأتيك أثناء الأخبار، وقلد السلطان من بعد ابن الشيخ حجابته لأبي عبد الله التحتي من طبقة الجند فقام بها إلى آخر الدولة، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص وعهده بالأمر من بعده: لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور والدعة إلى أن استوفى مدته، وأصابه وجعه أول ذي الحجة من سنة أربع وتسعين وستمائة. ثم اشتد به الوجع وأهمه أمر المسلمين وما قلدوه من عدتهم، فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق. ونكره الموحدون لتخلفه عن المراتب بصغره، وأنه لم يحتلم، وتحدثوا في ذلك. وأفضى الخبر إلى السلطان فأسخطه، وعدل عنهم إلى الشورى مع الولي أبي محمد المرجاني. وكان
رأيه فيه جميلاً وظنه به صالحاً. وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرث إحدى جواريه، وقد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته فسمّاه الشيخ محمداً وعق عليه، وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة، فلقب بأبي عصيدة آخر الدهر. ثم صار بعد الاختفاء ودواعيه إلى قصورهم ونشأ في ظل الخلفاء من
قومه، حيث شب وبقيت له مع الولي أبي محمد ذم يثابر كل منهما على الوفاء بها، فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد، وقص عليه نكير الموحدين لولده، أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبل إشارته وعلم ترشيحه، وأنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ ومشيخة الموحدين، وهلك آخر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة وإلى الله المصير. الخبر عن دولة السلطان أبي عصيدة وما كان أثرها من الأحوال:
لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحّدين والأولياء والجند والكافة إلى القصبة، فبايعوا بيعة عامة لولي عهده السلطان أبي عبد الله محمد، ويلقب كما ذكرناه بأبي عصيدة بن السلطان الواثق في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وستمائة، فانشرحت لبيعته الصدور ورضيته الكافة، وتلقب المستنصر بالله. وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه، وقلد وزارته محمد بن بريرزيكن من مشيخة الموحدين، وأبقى محمد الشخشي على خطة الحجابة، وصرف التدبير والعساكر ورياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر، عند تعرض إبنه للبيعة، واستنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك. وضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله، حتى إذا نكب وهلك استبد هو على الدولة، واستقل الشخشي بحجابته. وكان محمد بن إبراهيم بن الدباغ رديفاً له فيها. وكان من خبر ابن الدباغ هذا أن إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية أشبيلية سنة ست وأربعين وستمائة، فولد هو بتونس ونشأ بها، وأفاد صناعة الديوان وحسبانه- وكان من المبرزين فيه أبي الحسن وأبي
المجلد السادس من صـ 457- 553
الحكم ابني مجاهد، وأصهر إليهما في ابنه أبي الحسن فأنكحاه ورشحاه للأمانة على ديوان الأعمال. ولما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه وكان طياشاً مستعصياً على الخليفة، فكان كاتبه محمد بن الدبّاغ يروضه لأغراض الخليفة إذا دسّها إليه الحاجب ابن الشيخ، فيقع ذلك من الخليفة أحسن المواقع. ولما ولي السلطان أبو عصيدة وكانت له عنده سابقة رعاها، وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلاً من أدوات الكتاب، فاستكتب السلطان ابن الدباغ ثم رقاه إلى كتاب علامته سنة خمس وتسعين وستمائة. وكان يتصرف فيها فأصبح رديفاً للشخشي في حجابته،
وجرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة سبع وتسعين وستمائة، وقلده السلطان حجابته فاستقل لها على ما قدمنا من أن التدبير والحرب مصروف إلى مشيخة الموحّدين. الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان وخبر بنيه من بعده: كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص، وأصله من تينملل الموطّنين بتبرسق مذ أول الدولة، كانت له ولسلفه الرياسة عليهم، وصارت إليه رياسة الموحدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان وكان له خالصة وشيعة، وكان حريصاً على ولاية إبنه عبد الله للعهد. وكان يدافع نكير الموحدين في ذلك، فأسرها له السلطان أبو عصيدة. ولما استوثق له الأمر، وقتل عبد الله بمحبسه تقبض على أبي محمد بن سليمان، واعتقله في صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ولم يزل معتقلاًَ إلى أن قتل بمحبسه على رأس الماية السابعة. وفر عند نكبته ابناه محمد وعبد الله، فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا، وصار في جملته إلى أن دخل تونس مع إبنه السلطان أبي البقاء خالد. وأما محمد فأبعد المفّر ولحق بالمغرب الأقصى، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان، فاستبلغ في تكريمه وأقام عنده مدة. ثم عاود وطنه ونزع عن طريقه إلى النسك ولبس الصوف، وصحب الصالحين وقضى فريضة الحج، وامتدّ عمره وحسنت فيه ظنون الكافة، واعتقدوا فيه وفي دعائه، وكثرت غاشيته لالتماس البركة
منه. وأوجب له الخلفاء إزاء ذلك تجلّة أخرى، وأوفدوه على ملوك زناتة مرة بعد مرة في مذاهب الود وقصود الخير. وحضر في بعضها الجهاد بجبل الفتح عندما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن، ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة والله تعالى أعلم. الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين ومهاد اته: كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره واستوسق ملكه حدث نفسه بغزو الناحية الغربية وارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكريا، وكان الأمير أبو زكريا قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عامله عليها من الموحدين من بني الكمازير، وانبر بها بعده محمد بن علاّن من مشيختها. واستفحل أمر عثمان بن يغمراسن وبني عبد الواد من ورائه، وتغلّبوا على توجين ومغراوة، ومليكش، وكان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسكاً بدعوتهم ومتقبلا مذهب أبيه في بيعتهم، فقويت غرائم السلطان أبي عصيدة لذلك، ونهض من الحضرة سنة خمس وتسعين وستمائة. وتجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسنطينة وأجفلت أمامه الرعايا والقبائل، وانتهى إلى ميلة، ومنها كان منقلبه إلى حضرته في رمضان من سنته.
ولما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكريا نظره في تسكين الناحية الغربية ليتفرّغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة، فوصل يده بعثمان بن يغمراسن وأكد معه قديم الصهر بحادث الود والمواصلة. وفي خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان وألقى عليها بكلكله. واستجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكريا، فأمده بعسكر من الموحدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم وأثخنوا فيهم قتلاً. ورجع فلهم إلى بجاية، وسرح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية، وعقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سباع وفد عليها نازعاً عن صاحب بجاية إليه، ومرغباً له في ملكها فأوسع له في الحباء
والكرامة ما شاء، وبعث معه هذا العسكر فانتهى إلى بجاية، وضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت وبلا سدويكش، وعاثوا في تلك الجهات ودوخوها وانقلبوا راجعين إلى سلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان.
وكان السلطان أبو عصيدة صاحب الحضرة لما علم بأمداد الأمير أبي زكريا لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوهم وحرضه على بجاية ونواحيها، وسفر بينهما في ذلك رئيس الموحدين أبو عبد الله بن أكمارير أولى سفارته. ثم سفر ثانية سنة ثلاث وسبعمائة بهدية ضخمة أغرب فيها بسرج وسيف ومهامز من الذهب مرصعة الحلى الفاخر من حصى الياقوت والجوهر. ورافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن برزيكن، ورجعاً بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتها ثلثمائة من البغال. واتصلت المخاطبات والسفارات والهدايا والملاطفات. وكان يوسف ابن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضاً، ويكاتب رئيس الموحدين أبا يحيى بن اللحياني تصريحاً، وترددت عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى. الخبر عن مقتل هداج وفتنة الكعوب وبيعتهم لأبي دبوس وما كان بعد ذلك من نكبتهم:
كان هؤلاء الكعوب قد أثرتهم الدولة واصطنعتهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص، فعمروا ونموا وبطروا النعمة، وكثر عيثهم وفسادهم وطال إضرارهم بالسابلة وحطمهم للجنات وانتهابهم للزرع، فاضطغن لهم العامة وحقدوا عليهم سوء آثارهم. ودخل رئيسهم هداج بن عبيد سنة خمس وسبعمائة إلى البلد فخزرته العيون، وهمّت به العامّة. وحضر المسجد لصلاة الجمعة فتجنّوا عليه بأنه وطىء المسجد بخفّيه. وقال لمن نكر عليه ذلك: "إني أدخل به مجلس السلطان بهما "
فثاروا به عقب الصلاة وقتلوه، وجروا شلوه في سكك المدينة، فزاد عيثهم وأجلابهم على السلطان. واستقدم أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب لذلك العهد عثمان بن أبي دبوس من مكانه بنواحي طرابلس، ونصّبه للأمر، وأجلب به على الحضرة ونازلها. وخرج إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن في العساكر فهزمهم، وسار بالعساكر لتمهيد الجهات وتسكين ثائر العرب، فوفد عليه أحمد بن أبي الليل، ومعه سليمان بن جانع من رجالات هوّارة بعد أن راجع الطاعة. وصرف ابن أبي دّبوس إلى مكانه فتقبض عليهما، وبعث بهما إلى الحضرة فلم يزالا معتقلين إلى أن هلك أحمد بمحبسه سنة ثمان وسبعمائة. وقام بأمر الكعوب محمد بن أبي الليل ومعه حمزة ومولاهم ابنا أخيه عمر رديفين له. ثم خرج الوزير بالعساكر ثانية سنة سبع وسبعمائة، واستوفد مولاهم ابن عمر، وتقبض عليه وبعث به إلى الحضرة فاعتقل مع عمه أحمد. وجاهر أخوة حمزة بالنفاق وأتبعه عليه قومه فكثر عيثهم، وأضروا بالرعايا وكثرت الشكاية من العامّة، ولغطوا بها في الأسواق وتصايحوا. ثم نفروا إلى باب القصبة يريدون الثورة فسد الباب دونهم فرموا بالحجارة، وهم في ذلك يعتدون ما نزل بهم من الحاجب ابن الدبّاغ ويطلبون شفاء صدورهم بقتله. ورفع أمرهم إلى.. واستلحامهم جميعاً فأبى من ذلك السلطان، وأمر بملاطفتهم إلى أن سكنت هيعتهم. ثم تتبع العقاب من تولى كبر ذلك منهم، وانحسم الداء، وكان ذلك في رمضان من سنة ثمان وسبعمائة. واستمّر العرب في غلوائهم إلى أن هلك السلطان فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبر عن انتقاض أهل الجزائر واستبداد أبى علان بها: قد قدمنا ما كان من انتقاض أهل الجزائر أيام المستنصر ودخول عساكر الموحدين عليهم عنوة واعتقال مشيختهم بتونس، حتى أطلقوا بعد مهلكه، ولما استقل الأمير
أبو زكريا الأوسط بملك الثغور الغربية من بجاية وقسنطينة. وكأن الوالي على الجزائر ابن أكمازير من مشيخة الموحدين فبادر إلى طاعته باتفاق من مشيخة الجزائر، ووفدوا عليه. وكتب لابن أكمازير بولايتها فلم يزل والياً عليهم إلى أن كان شأن بني مرين وزحفهم إلى بجاية. وكان ابن أكمازير قد أسن وهرم فأدركته الوفاة خلال ذلك. وكان ابن علان من مشيخة الجزائر مختصاً به ومتصرفاً فى أوامره ونواهيه ومصدراً لأمارته. حصلت له بذلك الرياسة على أهل الجزائر سائر أيامه. ويقال كان له معه صهر. فلما وصل ابن أكمار حدثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بالجزائر، فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره، وضرب أعناقهم وأصبح منادياً بالاستبداد. وشغل الأمير أبو زكريا عنه بما كان من منازلة بني مرين ببجاية إلى أن هلك، وبقيت في انتقاضها على الموحدين آخر الدهر إلى أن تملكها بنو عبد الواد كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا صاحب بجاية وبيعة ابنه أبي البقاء خالد: كان الأمير أبو زكريا قد استولى على الثغور الغربية كما قلناه، واقتطعها من أعمال الحضرة، وقسم الدعوة الحفصية بدولتين. وكان على غاية من الحزم والتيقظ والصرامة لم يبلغها سواه. وكان كثير الإشراف على وطنه والمباشرة لأعماله بنفسه وسد خلله. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك على رأس المائة السابعة. وكان قد عهد بالأمر لإبنه الأمير أبي البقاء خالد سنة ثمان وتسعين وستمائة قبلها، وعقد له على قسنطينة وأنزله بها. فلما هلك الأمير أبو زكريا جمع الحاجب أبو القاسم بن أبي أبي جبى مشيخة الموحدين وطبقات الجند وأخذ بيعتهم للأمير أبي البقاء، وطير له بالخبر واستقدمه فقدم، وبويع البيعة العامة. وأبقى ابن أبي جبى على حجابته واستوزر يحيى بن أبي الأعلام، وقدم على صنهاجة أبا عبد الرحمن بن يعقوب بن حلوب منهم،
ويسمى المزوار. وقلد رياسة الموحدين أبا زكريا يحيى بن زكريا من أهل البيت الحفصيّ، واستمر الأمر على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن سفارة القاضي الغبريني ومقتله: قد قدمنا ما كان من زحف بني مرين إلى بجاية بمداخلة صاحب تونس. ولما ولي السلطان أبو البقاء اعتزم على المواصلة مع صاحب تونس قطعاً للزبون عنه، وعين للسفارة في ذلك شيخ القرابة يبابه أبا زكريا الحفصي ليحكم شأن المواصلة بينه وبينه. وبعث مع القاضي أبا العباس الغبريني كبير بجاية وصاحب شوراها، فأدوا رسالتهم وانقلبوا إلى بجاية، ووجد بطانة السلطان السبيل في الغبريني فأغروه به وأشاعوا أنه داخل صاحب الحضرة في التوثّب بالسلطان. وتولى كبر ذلك ظافر الكبير وذكره بجرائره، وما كان منه في شأن السلطان أبي إسحق وأنه الذي أغرى بني غبرين به، فاستوحش منه السلطان وتقبض عليه سنة أربع وسبعمائة. ثم أغروه بقتله فقتل بمحبسه تلك، وتولى قتله منصور التركي، والله غالب على أمره. الخبر عن سفارة الحاجب ابن ابي حي إلي تونس وتنكر السلطان له بعدها وعزله:
ولما ولي السلطان أبو البقاء كانت عساكره بني مرين مترددة إلى أعمال بجاية بمداخلة صاحب تونس كما ذكرناه، فدوخوا نواحيها. وكان ابن أبي جبى مستبداً على الدولة في حجابته، فضاق ذرعه بشأنهم وأهمته حال الدولة معهم. ورأى أن اتصال اليد بصاحب الحضرة مما يكف عن عزمهم فعزم على مباشرة ذلك بنفسه لوثوقه من
سلطانه. فخرج من بجاية سنة خمس وسبعمائة وقدم على الحضرة رسولاً عن سلطانه، فاهتزت له الدولة وتلقي بما يجب له ولمرسله من البر، وأنزله شيخ الموحدين ومدبر الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني بداره استبلاغاً في تكريمه. وقضى من أمر تلك الرسالة حاجة صدره، وكان بطانة الأمير أبي البقاء خالد لما خلا لهم وجه سلطانهم منه تهافتوا على التنصح إليه والسعاية بابن أبي جبى عنده.
القسم الرابع المجلد السادس من تاريخ العلامة ابن خلدون بسم الله الرحمن الرحيم وصلي الله علي سيدنا ومولانا محمد و اله وصحبه وسلم تسليما:
وشمر لذلك يعقوب بن غمر وجلّى فيه وتابعه عليه عبد الله الرخامي كاتب ابن أبي حي وصديقه، بما كان ابن طفيل قريبه يسخط عليه الناس، ويوغر له صدورهم ببأوه وتحقيره بهم، فألح له العداوة في كل جانحة وأسخطه على عبد الله الرخامي. وكان صديقه ومداخله فتولى من السعاية فيه مع يعقوب بن غمر كبرها، وألقوا إلى السلطان أن ابن أبي حي داخل صاحب الحضرة في تمكينه من ثغر قسنطينة وبجاية، بما كان علي بن الأمين العامل بقسنطينة صهراً لابن أبي جبى، وهو الذي ولاه عليها فاستراب السلطان به، وتنكر له بعد عوده من تونس. وخشي كل واحد منهما بادرة صاحبه. ثم رغب ابن أبي جبى في قضاء فرضه وتخلية سبيله إليه، فأسف وخرج من بجاية ذاهباً إلى الحج، ولحق بالقبائل من ضواحي قسنطينة وبجاية فنزل عليهم وأقام بينهم مدة. ثم لحق بتونس وأقام بها إلى حين مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد وحضر دخول الأمر أبي البقاء عليه بتونس، وخلص من تيار تلك الصدمة فلحق بالمشرق وقضى فرضه. ثم عاد إلى المغرب ومر بأفريقية ولحق بتلمسان وأغرى أبا حمو بالحركة على بجاية فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن حجابة أبي عبد الرحمن بن غمر ومصائر أموره: هو يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن غمر السلمي، وكنيته أبو عبد الرحمن. كان جده محمد فيما حدثني أهل بيتهم قاضيا بشاطبة، وخرج مع الجالية أيام العدو إلى
تونس، ونزل بالربض الجوفي أيام السلطان أبي عصيدة، وانتقل أبناؤه أبو بكر ومحمد إلى قسنطينة، ونزلا على ابن أوقيان العامل عليها من مشيخة الموحدين لعهد الأمير أبي زكريا الأوسط، فأوسعهما عنايةً وتكريماً. وولًى أبا بكر على الديوان بالقل واستخلصه لنفسه. وكاد يتردّد إلى الحضرة ببجاية في شؤونه فاتصل بمرجان الخصيّ من موالي الأمير أبي زكريا وخواص داره، واستخدم على يده للأمير خالد وامه من كرائم السلطان، فحظي عندهم وتزوج إبنه يعقوب من ربيبات القصر، وخوله، ونشأ في جو تلك العناية. وأعلنوا بصحبة الحاج فضل قهرمان دار السلطان وخاصته، فاستخدم له سائر أيامه إلى أن هلك. وكان الحاج فضل كثيراً ما يتردّد إلى الأندلس لاستجلاب الثياب الحريرية من هنالك وانتقاء أصنافها. وكذلك إلى تونس لاستجادة الثياب منها. وبعثه السلطان آخر أمره إلى الأندلس فاستصحب ابن غمر وهلك الحاج فضل هنالك، فعدل السلطان عن خطاب إبنه محمد إلى خطاب ابن غمر، فأمره بإتمام ذلك العمل والقدوم به فقدم هو وإبن الحاج فضل وساءلهما عن عملهما فكان ابن غمر أوعى من صاحبه فحلي بعينه وخفّ عليه، واعتلق بذمة من خدمته أحظته عند السلطان ورقته فاستعمل في الجباية. ثم قلّد أعمال الأشغال وزاحم ابن أبي جبى وعبد الله الرخامي، وغصّوا به فأغروا السلطان بنكبته. وأشخصه إلى الأندلس فأقام هنالك، واستعطف السلطان أبا البقاء بعد مهلك أبيه، وتشفّع بوسائل خدمته فاستقدمه. وقدم مع علي وحسين ابني الرنداحي، ركب معهما البحر إلى بجاية في مغيب ابن أبي جبى عن الحضرة فصادف من السلطان قبولاً، وشمر في السعاية بابن أبي جبى مع مرجان إلى أن تم له ما أراد من ذلك. وصرف ابن أبي جبى كما ذكرناه فقلد السلطان حجابته ليعقوب بن غمر. وقدم على الأشغال عبد الله الرخامي، وكان ناهضاً في أمور الحجابة لمباشرتها مع مخدومه، فأصبح رديفاً لابن عمر وغصّ بمكانه فأغرى به السلطان، ودلّه على مكامن ثورته وعداوته، فنكب وصودر وامتحن وغرّب إلى ميورقة، حتى افتداه يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين حين أسره، واستقدمه ليقلّده أشغاله عند تنكّره لعبد الله
بن أبي مدين كما نذكره في أخباره. فهلك يوسف بن يعقوب دون ما أمل من ذلك، وأقام الرخامي بتلمسان وبها كان مهلكه. واستقل يعقوب بن غمر بأعباء خطته
واضطلع بها، وقوّض إليه السلطان في الإبرام والنقض فحوّل المراتب بنظره وأجرى الأمور على غرضه. وكان أول ما أتاه صرعته لمرجان مصطنعه ملأ صدر السلطان عليه، وحذّره مغبته فتقبّض عليه والقي في البحر يلتقمه الحوت، فخلا وجه السلطان لابن غمر، وتفرد بالعقد والحل إلى أن استولى السلطان أبو البقاء على الحضرة، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن ثورة ابن الأمين بقسنطينة وبيعة السلطان أبي عصيدة ثم فتح السلطان أبي البقاء خالد لها وقتله: كان يوسف بن الأمين الهمداني بعد أن قتله بطنجة أبناء أبي يحيى بن عبد الحق من بني مرين كما يأتي في أخبارهم، انتقل بنوه إلى تونس أيام المستنصر ورعى لهم السلطان وسيلة قيامهم بالدعوة الحفصية أيام أبي علي بن خلاص بسبتة وبعدها إلى أن غلبهم عليها العزفي كما نذكر في أخباره، فلقّاهم مبّرة وتكريماً، ونزلوا في الحضرة خير نزل، تحت جراية ونعمة وعناية. وكان كبيرهم متحمّقاً متعاظماً، فربما لقي من الدولة لذلك عسفاً. إلا أن الإبقاء عليهم كان مانعاً من اضطهادهم. ونشأ بنوهم في ظل ذلك النعيم. ثم هلك السلطان واضطربت الأمور، وضرب الدهر ضرباته، ولحق عليّ منهم بالثغر الغربي وتأكّدت له مع ابن أبي جبى لحمة ونسب وذمه صهر وشجت بينهما عروقها. فلما استقل ابن أبي جبى بحجابة الأمير أبي زكرياء لم يأل جهداً في مشاركة علي بن الأمير وترقيته المنازل إلى أن ولاّه ثغر قسنطينة مستقلاً بها وحاجباً للسلطان أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا وأنزله معه فقام بحجابته. وأظهر فيها غناءه وحزمه، حتى إذا سخط السلطان ابن أبي جبى وصرفه عن حجابته تنكر أبو الحسن بن الأمين وخشي بوادر السلطان فحول الدعوة إلى صاحب الحضرة، وطيّر إليه بالبيعة، واستدعى المدد والنائب فوصله رئيس الموحدين والدولة أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد
اللحياني، وعقد البيعة لسلطانه سنة أربع وسبعمائة.
وبلغ الخبر إلى السلطان أبي البقاء ببجاية فنهض إليه بالعساكر آخر سنة أربع وسبعمائة، ونازله أياماً فامتنع عليه، وهمّ بالإفراج عنه. ثم داخل رجل من بطانة ابن الأمير يعرف بابن موزة أبا الحسن بن عثمان من مشيخة الموحدين، وكان معسكره بباب الوادي فناجزهم الحرب من هنالك حتى انتهى إلى السور، فتسنّمه المقاتلة بإغضاء ابن موزة لهم عنه. وركب السلطان في العساكر عند الصدمة ووقف على باب البلد، وقد استمكن أولياؤه منه فخرج إليه بنو الغنفل، وبنو باديس ومشيخة البلد، فاقتحم البلد عنوة. ومضى أبو محمد الرخامي في رجال السلطان إلى دار ابن الأمين فغشيه بها وقد انفض عنه الناس، واستحصن بغرفة من غرف داره واستمات، فلاطفه الرخامي واستنزله. ثم حمله على برذون مستدبراً، وأحضره بين يدي السلطان فقتل، ونصب شلوه، وأصبح آية للمعتبرين والله أعلم. الخبر عن حركة السلطان أبي البقاء إلى الجزائر: قد قدمنا ما كان من خبر انتقاض الجزائر على الأمير أبي زكريا واستبداد ابن علان بها. فلما استولى السلطان أبو البقاء على الأمر وتمهّدت له الأحوال، وأقلع بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب عن تلمسان أعمل السلطان نظره في الحركة إليها، فخرج إليها سنة سبع وسبعمائة أو ست وسبعمائة، وانتهى إلى متيجة ودخل في طاعته منصور بن محمد شيخ مليكش وجميع قومه، ولجأ إليه راشد بن محمد بن ثابت بن منديل أمير مغراوة هارباً أمام بني عبد الواد فأواه إلى ظلّه وألقى عليه جناح حمايته. واحتشد جميع من في تلك النواحي من القبائل. وزحف إلى الجزائر وأقام عليها أياماً فامتنعت عليه، وانكفأ راجعاً إلى حضرته ببجاية، وأقام مليكش على طاعته ومطاولته الجزائر بالقتال، إلى أن كان من أمرها وتغلّب بني عبد الواد عليها ما نذكره في أخبارهم.
وجاء معه راشد بن محمد إلى بجاية متذمّماً بخدمته إلى أن قتله عبدالرحمن بن خلوف كما يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى.
الخبر عن السلف وشروطه بين صاحب تونس وصاحب بجاية: لما افتتح السلطان أبو البقاء خالد قسنطينة وقتل ابن الأمير وفرغ من ذلك الشأن أدرك أهل الحضرة الندم على ما استدبروا من مهادنة صاحب الثغر، وقارن ذلك مهلك يوسف بن يعقوب الذي كانوا يرجونه شاغلاً له فجنحوا إلى السلم، وبعثوا وفدهم في ذلك إليه فأسدوا وألحموا. وشرط عليهم السلطان أبو البقاء أن من هلك منهما قبل صاحبه فالأمر من بعده للاخر والبيعة له، فتقبلوا الشرط وحضر الملأ والمشيخة من الموحدين ببجاية، ثم بتونس فأشهدوا بها على أنفسهم، وربط ذلك العقد وأحكمت أواخيه إلى أن نقضه أهل الحضرة عند مهلك السلطان أبي عصيدة كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن سفر شيخ الدولة بتونس أبي يحيي اللحياني لحصار جربة ومضيه منها إلي الحج: لما أمر هذا الصلح واستتم راجع رئيس الدولة أبو يحيى زكريا بن اللحياني نظره لنفسه، وأعمل فكره في الخلاص من أنشوطته وكان يؤمل رجوع الوفد المغربين بالمهديّة من أمراء الديار المصرية إلى يوسف بن يعقوب فيصحبهم لقضاء فرضه، وابطأ عليه شأنهم فاعتزم على قصده وورّى بحركته إلى جزيرة جربة لاسترجاعها من أيدي النصارى والرجوع عنها من بعد ذاك إلى الجريد لتمهيد أحواله. وتناول الرأي في الظاهر من أمره مع السلطان فأذن له. وسرح معه العساكر فخرج من
تونس في جمادى سنة ست وسبعمائة غازياً إلى جربة. ولم يزل يغذّ السير حتى انتهى إلى مجازها. ثم عبر منه إلى الجزيرة، وكان النصارى لما تغلبوا عليها سنة ثمان وثمانين وستمائة شيّدوا بها حصناً لاعتصام الحامية سمّوه بالقشتيل، فنزل في العساكر عليه. وأنفذ الشيخ أبو يحيى عمّاله للجباية وأقام في منازلته شهرين. ثم انقطعت الأقوات واستعصى الحصن إلاّ بالمطاولة فرجع إلى قابس. ثم ارتحل إلى بلاد الجريد وانتهى إلى توزر ونزلها، وأعنى في خدمته أحمد بن محمد بن بهلول من مشيختها، فاستوفى جباية الجريد وعاد إلى قابس.
وأنزله عبد الملك بن عثمان بن مكي بداره، وصرّح بما روى عنه من حجّه. وصرف العساكر إلى الحضرة وولي بعده رياسة الموحدين وتدبير الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن، وتحول عن قابس إلى بعض جبالها تجافياً عن هوائها الوخم. وأقام في انتظار الركب الحجازي وكان مريضاً إلى أن أبل فتحول عنه إلى طرابلس، وأقام بها عاماً ونصفه إلى أن وصل وفد الترك من المغرب الأقصى آخر سنة ثمان وسبعمائة، فخرج معهم حاجاً حتى قضى فرضه وعاد فكان من شأنه واستيلائه على منصب الخلافة ما يأتي ذكره. ووصل مدد النصرانية إلى قشتيل جربة سنة ثمان وسبعمائة بعد منصرف العساكر عنهم وفيهم فردريك بن الطاغية صاحب صقلية، فقاتلهم أهل الجزيرة من النكارين لنظر أبي عبدالله بن الحسن من مشيخة الموحدين ومعه ابن أومغار في قومه من أهل جربة فأظفرهم الله بهم. ولم يزل شأن هذه الجزيرة مع العدوّ كذلك منذ التاثت دولة صنهاجة، وربما وقعت الفتنة بين أهلها من النكارة فتصل إحدى الطائفتين يدها بالنصارى إلى أن كان ارتجاعها في هذه النوبة سنة.. وأربعين لعهد مولانا السلاطان أبي يحيى كما نذكر في أخباره إن شاء الله تعالى. الخبر عن مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد: كان السلطان أبو عصيدة بعد تملّي سلطانه وتمهيد ملكه طرقه مرض الاستسقاء
فأزمن منه. ثم مات على فراشه في ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة، ولم يخلف ابناً، وكان بقصرهم سبط من أعقاب الأمير أبي زكريا جدّهم. ثم من ولد أبي بكر ابنه الذي ذكرنا وفاته في خبر شقيقه أبي حفص في فتح مليانة أيام السلطان المستنصر، فلم يزل بنوه بقصورهم وفي ظل ملكهم. ونشأ منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر في إيالة السلطان أبي عصيدة، وربي في جميم نعمته. فلما هلك السلطان أبو عصيدة ولم يعقب، وكان السلطان أبو البقاء خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر عند إياسه من خروج أخيه من محبسه فرغّبه في ملك الحضرة واستحثه عليها. ثم وصل أبو عبد الله بن يرزيكن السلطان أبا عصيدة واستنهض السلطان أبا البقاء لملك تونس، فنهض كما نذكره. واستراب الموحدون بتونس بشأن حركته وخافوه على أنفسهم فبايعوا لهذا الأمير أبي زكريا الذي عرف بالشهيد بما كان من قتله لسبع عشرة ليلة من بيعته، وأبقى أبا عبد الله بن يرزيكن على وزارته وزحزح محمد بن الدباغ عن رتبة الحجابة. وتوّعده لما كان يحقد عليه من التقصير به أيام سلطانه، فكان عونا عليه إلى أن هلك عند استيلاء السلطان أبي البقاء كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي البقاء علي الحضرة وانفراده بالدعوة الحفصية: لما بلغ السلطان أبا البقاء بمكانه من بجاية وأعمالها الخبر بمرض السلطان أبي عصيدة مع ما كان من العقد بينهما بأنّ من مات قبل صاحبه جمع الأمر من بعده للآخر، داخلته الظنّة أن ينقض أهل الحضرة هذا الشرط فاعتزم على النهوض لمشارفة الحضرة، ووصل إليه حمزة بن عمر نازعاً عنهم، فرغبه واستحثه، وخرج من بجاية في عساكره، وورى بالحركة إلى الجزائر لما كان من انتقاضهم على أبيه، واستبداد ابن علاّن بها. ثم ارتحل إلى قصر جابر وعند بلوغه إليه ورد الخبر بمهلك السلطان أبى عصيدة وبيعة
الموحدين بعده لأبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا، فاضطغنها على الموحدين.
وأغذّ السير، وانحاش إليه كافة أولاد أبي الليل. واجتمع أمثالهم أولاد مهلهل إلى
صاحب تونس، وخرج معهم شيخ الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن والوزير أبو عبد الله بن يرزيكن، في العساكر للّقاء، ووقوا سلطانهم بأنفسهم. فلما زحف إليهم السلطان أبو البقاء اختلّ مصافهم وانهزموا وانتهب المعسكر، وقتل الوزير ابن يرزيكن، وأجفلت أحياء العرب إلى القفر ودخل العسكر إلى البلد واضطرب الأمر، وخرج الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن فوقف بساحة البلد قليلاً. ثم تفرّق عنه العسكر وتسايلوا إلى السلطان أبي البقاء. وفر أبو بكر ثم أدرك ببعض الجنات فثلّ إلى السلطان واعتقله في بعض الفازات، وغدا على السلطان أهل الحضرة من مشيخة الموحدين والفقهاء والكافة فعقدوا بيعته. وقتل الأمير أبو بكر فسمّي الشهيد آخر الدهر، وباشر قتله ابن عمه أبو زكرياء يحيى بن زكريا شيخ الموحدين. ودخل السلطان من الغد إلى الحضرة واستقل بالخلافة، وتلّقب الناصر لدين الله المنصور. ثم استضاف إلى لقبه المتوكل. وأبقى أبا يعقوب بن يزدوتن في رياسته على الموحدين مشاركاً لأبي زكريا يحيى بن أبي الأعلام الذي كان رئيساً عنده قبلها واستمرّ على خطة الحجابة أبو عبد الرحمن يعقوب بن غمر، وولّى على الأشغال بالحضرة منصور بن فضل بن مزني، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن بيعة ابن مزني يحيي بن خالد ومصاير أموره: كان يحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحق في جملة السلطان أبي البقاء خالد، وتنكّرت له الدولة لبعض النزعات فخشي البادرة وفر فلحق بمنصور بن مزني. وكان منصور قد استوحش من ابن غمر فدعاه إلى القيام بأمره فأجاب وعقد له على حجابته، وجمع له العرب وأجلب على قسنطينة أياماً، وبها يومئذ ابن طفيل، وكان قد اجتمعت ليحيى بن خالد زعنفة من الأوغاد، واشتملوا عليه واشتمل عليهم وأغروه بابن مزني فوعدهم إلى حين ظفره، واطلع ابن مزني على سوء دخلته ودخلتهم فقبض يده من طاعته، وانصرف عنه إلى بلده، وانفضت جموعه. وراجع ابن مزني طاعة السلطان أبي البقاء ومخالصة بطانته وحاجبه فتقبلوه، ولحق
يحيى بن خالد بتلمسان مستجيشاً، ونزل على أميرها أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن فهلك لأيام من مقدمه. وولي بعده أخوه أبو حمو موسى بن عثمان فأمدّه وزحف إلى محاربة قسنطينة فامتنعت عليه. ثم استدعاه ابن مزني إلى بسكرة فأقام عنده وأسنى له الجراية، ورتب عليه الحرس. وكان السلطان ابن اللحياني يبعث إليه من تونس بالجائزة مصانعة له في شأنه، حتى لقد أقطع له بتونس من قرى الضاحية، فلم يزل في إسهام بنيه من بعده إلى أن هلك يحيى بن خالد بمكانه عنده سنة إحدى وعشرين وسبعمائة والله تعالى أعلم.
الخبر عن بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة علي يد الحاجب ابن عمر وأوّلية ذلك:
لما نهض السلطان أبو البقاء إلى الحضرة عقد على بجاية لعبد الرحمن بن يعقوب بن الخلوف مضافاً إلى رياسته على قومه كما كانوا يستخلفون أباه عليها عند سفرهم عنها، وكان يلقب المزوار، وجعله حاجباً لأخيه الأمير أبي بكر على قسنطينة فانتقل إليها. وعكف السلطان أبو البقاء بتونس على لذّاته وأرهف حدّه وعظم بطشه فقتل عدوان بن المهدي من رجالات سدويكش ودعار بن حريز من رجالات الأثابج فتفاوض رجال الدولة في شأنه وخشوا بادرته، وأعمل الحاجب ابن غمر وصاحبه منصور بن فضل عامر الزاب الحيلة في التخلص من إيالته واستعصب راشد بن محمد أمير مغراوة، كان نزع إليهم عند استيلاء بني عبد الواد على وطنه، فتلقوه من الكرامة بما يناسبه واستقر في جملتهم، وعليه وعلى قومه كانت تدور رحى حروبهم. واستصحبه السلطان أبو البقاء خالد إلى الحضرة أميراً على زناتة فرفع بعض حشمه الى الحاجب في مقعد حكمه، وقد استعدى عليه بعض الخدم فأمر بقتله لحينه. وأحفظ ذلك الأمير راشد بن محمد فرتب لها عزائمه، وقوض خيامه لحينه مغاضباً،
فوجد الحاجب بذلك سبيلاً إلى قصده وتمت حيلته وحيلة صاحبه. وأهم السلطان شأن بجاية ونواحيها، وخشي عليها من راشد بما كان صديقاً ملاطفاً لعبد الرحمن بن الخلوف وفاوضهما فيمن يدفعه إليها فأشار عليه الحاجب بمنصور بن مزني، وأشار منصور بالحاجب وتدافعها أياماً حتى دفعهما جميعاً إليها. وطلب ابن غمر من السلطان العقد لأخيه أبي بكر على قسنطينة فعقد له، وولى علياً ابن عمه على الحجابة بتونس نائباً عنه. وفصل من الحضرة ولحق بقسنطينة، وصرف منصور بن فضل إلى عمله بالزاب فكان من خلافه ما يذكر. وقام ابن غمر بخدمة السلطان أبي بكر فتصرف في حجابته. ثم داخله في الانتقاض على أخيه، وبدت مخايل ذلك عليهم فارتاب لهم السلطان أبو البقاء وأحس علي بن غمر بارتيابه فلحق بقسنطينة. وجهز السلطان أبو البقاء عسكراً وعقد عليها لظافر مولاه المعروف بالكبير، وسرحه إلى قسنطينة فانتهى إلى باجة وأراح بها إلى أن كان من أمره ما نذكره. وبادر ابن غمر إلى المجاهرة بالخلعان، ودعا مولانا السلطان أبا بكر إليه فأجابه، وأخذ له البيعة على الناس فتمت سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وتلقب بالمتوكل وعسكر بظاهر قسنطينة إلى أن بلغه مجاهرة ابن الخلوف بخلافهم فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن استيلاء السلطان علي بجاية وقتل ابن مخلوف وما كان من الإدارة في ذلك:
كان يعقوب بن مخلوف ويكنى أبا عبد الرحمن كبير صنهاجة جند السلطان الموطنين بنواحي بجاية، وكان له مكان في الدولة وغناء في حروبهم ودفاع عدوّهم. ولما نزلت عساكر بني مرين على بجاية مع أبي يحيى بن يعقوب بن عبد الحق سنة ثلاث وسبعمائة كان له في حروبهم مقامات مذكورة وآثار معروفة. وكان الأمير أبو زكريا وإبنه يستخلفونه ببجاية أزمان سفرهم عنها، وكان يلقب بالمزوار. ولما هلك خلفه في سبيله تلك إبنه عبد الرحمن واستخلفه السلطان أبو البقاء على بجاية عندما نهض إلى تونس سنة تسع وسبعمائة وأنزله بها، وكان طموحاً لجوجاً مدلأ بباسه وقومه ومكانه من الدولة. فلما دعا السلطان أبو بكر لنفسه وخلع طاعة أخيه، وأخذ له أبو عبد الرحمن بن غمر البيعة على الناس وخاطبوه بأخذ البيعة له على من يليه ببجاية وأعمالها فأبى منها، وتمسك بدعوة صاحبه، ونفس على ابن غمر ما تحصل له بذلك من الحظ فجاهر بخلافهم.
وجمع واحتشد وتقبض على صاحب الأشغال عبد الواحد ابن القاضي أبي العباس الغماري وعلى صاحب الديوان محمد بن يحيى القالون مصطنع الحاجب ابن غمر من أهل المريّة كان أسدى إليه عند اجتيازه به معروفاً، ورحل إليه عندما استولى على الرتبة ببجاية فكافأه عن معروفه واصطنعه وألقى إليه محبته ورقاه إلى الرتب، وصرفه في أعمال الجباية وقلده ديوان بجاية فتقبض عبد الرحمن بن الخلوف عليه وعلى صاحبه. وجمع الناس وأعلن بالدعوة للسلطان أبي البقاء خالد. وارتحل السلطان أبو بكر من معسكره بظاهر قسنطينة وأغذ السير إلى بجاية، ونزل مطلاً عليها، واقتتل الناس عامة يومهم. وشرط ابن الخلوف على السلطان عزل ابن غمر، وترددت الرسل بينهم في ذلك. وكان الوزير أبو زكريا بن أبي الأعلام من الساعين في هذا الإصلاح بما كان له من الصهر مع ابن الخلوف. وحين رجع إليه بامتناع السلطان عن شرطه منعه من الرجوع إليهم وحبسه عنده، وأرجف أهل المعسكر بالسلطان، وخاموا عن لقاء صنهاجة ومن معهم من مغراوة أهل الشوكة والعصبية والعديد والقوة. وأجفل السلطان من معسكره فانتهب وأخذت آلته، وسلب من كان في المعسكر من أخلاط الناس، ودخل السلطان إلى قسنطينة في فل من عسكره. وبعث ابن خلوف عسكراً في أتباعه فوصلوا إلى ميلة فدخلوها عنوة. ثم وصلوا إلى قسنطينة فقاتلوها أياماً، ورجعوا إلى بجاية. وأقام السلطان واضطرب أمره، وتوقع زحف ظافر إليه من باجة، واتصل به أن أبا يحيى زكريا بن أحمد اللحياني قفل من المشرق، وأنه لما انتهى الى طرابلس دعا لنفسه لما وجد بأفريقية من الاضطراب، فبويع وتوافت إليه
العرب من كل جهة، فرأى السلطان من مذاهب الحزم أن يبعث إليه بالحاجب ابن أبي عبد الرحمن بن غمر ليشيد من سلطانه، ويشغل أهل الحضرة عنه، فورى بالفرار عن السلطان وتواطأ معه على المكر بابن مخلوف في ذلك.
ولحق ابن غمر باللحياني واستحثه لملك تونس وهون عليه الأمر، وغدا السلطان عند فصول إبن غمر على منازله فكبسها وسطا بحاشيته، وولى حجابته حسن بن ابراهيم بن أبي بكر بن ثابت رئيس أهل الجبل المطل على قسنطينة والفل من كتامة، ويعرف قومه ببني نليلان وكان قد اصطنعه من تبل، وارتحل بالعسكر إلى بجاية سنة إثنتي عشرة وستمائة. واستخلف على قسنطينة عبد الله بن ثابت أخا الحاجب. واشيع بالجهات أن السلطان تنكر لابن عمر وسخطه، وأنه ذهب إلى ابن اللحياني واستجاشه على الحضرة، وبلغ ذلك ابن خلوف واستيقن اضطراب حال السلطان خالد بتونس فطمع في حجابة السلطان أبي بكر. وتوثق لنفسه منه بالعهد بمداخلة عثمان بن شبل وعثمان بن سباع بن يحيى من رجالات الزواودة والولي يعقوب الملاري من نواحي قسنطينة. وأغذ السير إلى بجاية، ولقي السلطان بفرجيوه من بلاد سدويكش فلقاه مبرة
ورحباً. ثم استدعاه من جوف الليل إلى رواقه في سرب من مواليه المعلوجي فعاقرهم الخمر إلى أن ثمل، واستغضبوه ببعض النزعات فغضب وأقذع فتناولوه طعنأ بالخناجر إلى أن قتلوه، وجروا شلوه فطرحوه بين الفساطيط، وتقبض على سائر قومه وحاشيته، وفر كاتبه عبد الله بن هلال فلحق بالمغرب. وارتحل السلطان مغذا إلى بجاية فدخلها على حين غفلة. واستولى على ملك ابنه بالناحية الغربية واستوثق له أمرها، وأقام في انتظار حاجبه ابن غمر إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مهلك السلطان أبي البقاء خالد واستيلاء السلطان أبي يحيي بن اللحياني علي الحضرة: كان السلطان أبو البقاء خالد بعد بيعة السلطان أبي بكر بقسنطينة قد اضطرب أحواله وجهز إليه العساكر لمنازلة قسنطينة، وعقد عليها لمولاه ظافر المعروف بالكبير، فعسكر بباجة وأراح ينتظر أمر السلطان. وكان أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني بن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص قد بويع بطرابلس لما قفل من المشرق، ورأى اضطراب الأحوال ووفد عليه الحاجب أبو عبد الرحمن بن غمر بهدية من السلطان أبي بكر، وأنه ممده ومظاهره على شأنه، فأحكم ذلك من عقدته وشد من أمره، وتوافت إليه رجالات الكعوب أولاد أبي الليل وغيرهم فبايعوه واستحثوه للحضرة، فارتحل إليها وبعث في مقدمته أولاد أبي الليل، ومعهم شيخ دولته أبو عبد الله محمد بن محمد المزدوري فأغذوا السير إلى الحضرة. وبعث السلطان إلى مولاه ظافر بمكانه من باجة مستجيشاً فاعترضوه قبل وصوله، وأوقعوا به واعتقلوا ظافراً وصبحوا تونس ثامن جمادى سمنة إحدى عشرة وسبعمائة، ووقفوا بساحتها فكانت هيعة بالبلد قتل فيها شيخ الدولة أبو زكريا الحفصي، وعدا القاضي أبو إسحق بن عبد الرفيع على السلطان. وكان متبوعاً صارماً قوي الشكيمة، فأغراه بمدافعة العدو فخام عن لقائه، واعتذر بالمرض وأشهد بالانخلاع عن الأمر وحل البيعة. ودخل أبو عبد الله المزدوري القصر فاستمكن من اعتقاله. ثم جاء السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني على أثره ثاني رجب فبويع العامة بظاهرها ودخل إلى البلد، واستولى عليها وولى على حجابته كاتبه أبا زكريا يحيى بن علي بن يعقوب، على الأشغال بالحضرة ابن عمه محمد بن يعقوب. وبنو يعقوب هؤلاء أهل بيت بشاطبة من بيوت العلم والقضاء، وقدموا إلى الحضرة مع الجالية، وكان منهم أبو القاسم عبد الرحمن بن يعقوب، وفد مع ابن الأمين صاحب طنجة كما قدمناه، وتصرف في القضاء بأفريقية وولاه السلطان المستنصر قضاء الحضرة. وسفر عنه إلى ملوك مصر، وكان بنو علي هؤلاء عبد الواحد ويحيى ومحمد من أقاربه، وكان لهم ظهور في دولة السلطان أبي حفص وبعدها. وكان
عبد الواحد منهم صاحب جباية الجريد، وهلك بتوزر سنة إثنتين وسبعمائة. وكان السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد استكتب أخاه أبا زكريا يحيى أيام رياسته على الموحدين فحظي عنده واختصه ولازمه، وحج معه. فلما ولي الخلافة أحظاه وولاه حجابته. ولما استقر بتونس، واستوثق له الأمر أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر إلى مرسله السلطان أبي يحيى بعد أن وثق العهد معه على المهادنة، وضمن له ابن غمر من ذلك ما رضيه وتملك بابن عمه على ابن غمر فأقام عنده مكرما متسع الجراية والإسهام إلى أن كان من الأمر ما نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم ابن غمر علي السلطان ببجاية ونكبة ابن ثابت وظافر الكبير: لفا قدم ابن غمر على بجاية استبد بحجابته وكفالته كما كان، وليوم وصوله فر عبد الله بن هلال كاتب ابن مخلوف، ولحق بتلمسان وشمّر ابن غمر عزائمه للإطلاع بأمره، ودفع حسن بن إبراهيم بن ثاب عن الرتبة فلم يتزحزح له يوماً، وخرج لجباية الوطن. ثم أكرى به السلطان وحذره من استبداده بقسنطينة لمكان معقله المجاور لها وسعايات ننصح بها حتى صادفت القبول لمكانه والوثوق بنصائحه. وخرج السلطان في العساكر من بجاية إلى قسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة للنظر أحوالها. فلما انتهى إلى فرجيوه لقيه عبد الله بن ثابت فتقبض عليه وعلى أخيه حسن بن الحاجب سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وقتلهما بعد أن استصفى أموالهما، ويقال إنه بعد خروج حسن بن ثابت إلى أعمال قسنطينة بعث في أثره بعض مواليه، وأوعز معهم إلى عبد الكريم بن منديل ورجالات سدويكش فقتلوه بوادي القطن. وإن السلطان لم يباشر نكبته. وكان ظافر الكبير بعد إنهزامه وحصوله في أسر العرب كما قدمناه امتنعوا عليه وأطلقوه، ولحق بالسلطان أبي بكر فأثره واستخلصه كما كان لأخيه، وولاه على
قسنطينة عند نكبة ابن ثابت. واستكتب له أبا القاسم بن عبد العزيز لخلوه من الأدوات فأقام ظافراً والياً بقسنطينة. ثم استقدمه السلطان إلى
بجاية وقد غص ابن غمر بمكانه، فأغرى به السلطان فتقبض عليه، وأشخصه في السفين إلى الأندلس والله أعلم. الخبر عن منازلة عساكر بني عبد الواد بجاية وما كان في أثر ذلك من الأحداث: كان السلطان أبو يحيى بعد إنهزامه عن بجاية سنة عشر وسبعمائة، وبعث سعيد بن يخلف من مواليه إلى أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن. وكان قد اتيح له في زناتة المغرب الأوسط ظفر واعتزاز. وتملك أمصاره من أيدي بني مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب على تلمسان ودوخ جهاته. واستولى على أعمال مغراوة وتوجين، وملك الجزائر، واستنزل منها ابن علان الثائر بها. وملك تدلس من يد ابن مخلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة والمظافرة، وأن تكون يدهما على ابن مخلوف واحدة، فطمع لذلك موسى بن عثمان في ملك بجاية. ثم بلغه مهلك ابن مخلوف، واستيلاء السلطان على ثغره فاستمر على المطالبة، وادعى أن بجاية له في شرطه، وقارن ذلك لحاق صنهاجة إليه عند مهلك صاحبهم فرغبوه في ملك بجاية وضمنوا له أمرها. ثم قدم عثمان بن سباع بن يحيى مغاضباً للسلطان لما كان من افتياته عليه في ابن خلوف وإخفار ذمته وعهده فيه، واستقر عنده ابن أبي جبى منذ منصرفه عن الحجابة ورجوعه من الحج فرغبوه في ذلك واستحثوه لطلب بجاية، فسرح العساكر إليها لنظر محمد ابن عمه يوسف بن يغمراسن ومسعود ابن عمّه أبي عامر إبراهيم، ومولاه مسامح. وبعث معهما أبا القاسم بن أبي جبى الحاجب ففصلوا عنه من دار مقامته بشلف، فأغذوا السير. وهلك ابن أبي جبى بجبل الزاب ونازلوا البلد. ثم جاوزوها إلى الجهات الشرقية
فأثخنوا فيها ودخلوا جبل ابن ثابت، واستولوا عليه واستباحوه سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
ونالت منهم الحامية في المدافعة بالقتل والجراحة أعظم السيل، وقفلوا راجعين فشيدوا حصناً بأصفون وشحنوه بالأقوات. ولما وصل محمد بن يوسف ومسامح وبخهما وطوفهما ذنب القصور والعجز، وعزلهما. وبعث السلطان عسكراً في البر وأسطولاً في البحر بعد رجوعه من قسنطينة سنة أربع عشرة وسبعمائة لهدم حصن بني عبد الواد بأصفون فخرب وانتهبت أقواته وعدده. وسرح أبو حمو عسكراً لحصار بجاية عقد عليه لمسعود ابن عمه أبي عاص إبراهيم بن يغمراسن فنازلوها سنة خمس عشرة وسبعمائة، واتصل لهم خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن وبني توجين معه على أبي حمو، وأنهم أوقعوا به وهزموه، واستولوا على معسكره فأجفل مسعود بن أبي عامر وعسكره وأفرجوا عن بجاية. ووصل على أثرها خطاب محمد بن يوسف بالطاعة والانحياش فبعث السلطان إليه صنيعته محمد بن الحاج فضل بالهدية والآلة، ووعده بالمظاهرة وتسويغ الأسهام التي كان ليغمراسن بأفريقية. وشغل بنو عبد الواد عن بجاية، وخرج السلطان في عساكر الإشراف على وطنه إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن استبداد ابن غمر ببجاية: لم يزل ابن غمر مستبداً على السلطان في حجابته يرى أن زمامه بيده، وأمره متوقف على إنفاذه. وصار يغريه ببطانته فيقتلهم ويغربهم، وربما كان السلطان يأنف من استبداده عليه. وداخله بعض أهل قسنطينة سنة ثلاث عشرة وتسعمائة في اغتياله ابن غمر فهموا بذلك، ولم يتم ففطن لها ابن غمر فأوقع بهم وقسمهم بين النكال والعذاب فرقاً. ثم رجع السلطان إلى بجاية سنة ثلاث عشرة وسبعمائة لما أهمهم حصاره، واتصلت حاله معه على ذلك النحو من الاستبداد إلى أن بلغ السلطان أشده وأرهف حده، وسطا بمحمد بن فضل فقتله في خلوة معاقرته من غير مؤامرة
الحاجب. وباكر ابن غمر مقعده بباب السلطان فوجد شلوه ملقى في الطريق مضرجا في ثيابه، وأخبر أن السلطان سطا به فداخله الريب من استبداد السلطان وإرهاف حده، وخشي بوادره، وتوقع سعاية البطانة ونجي وأهل الخلوة. فتحيّل في بعده عنه واستبداده بالثغر دونه فأغراه بطلب أفريقية من يد ابن اللحياني، وجهزه بما يصلحه من الآلة والفساطيط والعساكر والخدام، ورتب له المراتب. وارتحل السلطان إلى قسنطينة سنة خمس عشرة وسبعمائة. ثم تقدم غازياً إلى بلاد هوارة، وأجفل عنها ظافراً بمن تعاطى قائدها من مواليهم فاستوفى جباية هوّارة. وقفل إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة واستبد ابن غمر ببجاية ومدافعة العدو من زناتة عنها. واستخلف على حجابته السلطان محمد بن القالون، وقرت عينه بما كان يؤمل من استبداده إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن سفر السلطان أبي يحيي اللحياني إلى قابس وتجافيه عن الخلافة: كان هذا السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد طعن في السن وكان بصيرأ بالسياسة مجّرباً للأمور، وكان يرى من نفسه العجز عن حمل الخلافة واستحقاقها مع أبناء الأمير أبي زكريا الأكبر. وعلم مع ذلك استفحال صاحب الثغور الغربية الأمير أبي بكر واستغلاظ أمره بمن انتظم في ملكه وارتسم في ديوان جنده من أعياص زناتة وفحول شلوهم، من توجين ومغراوة وبني عبد الواد وبني مرين. كانوا ينزعون إليه مع الأيام عن ملوكهم خشية على أنفسهم، لما قاسموهم في النسب وساهموهم في يعسوبّية القبيل وفحوليّة الشول. ومنهم من غلبوا على مواطنهم وملكوها عليهم مثل مغراوة وبني توجين ومليكش، فاستكثف بذلك جند السلطان وكثرت جموعه وهابه الملوك. ونهض سنة ست عشرة وسبعمائة إلى أفريقية وجال في بلاد هوّارة وأخذ جبايتها كما ذكرناه، فتوقع السلطان ابن اللحياني زحفه إليه بتونس. وكانت أفريقية مضطربة عليه، وكان تعويله في الحماية والمدافعة على أوليائه من العرب، تولى منهم حمزة بن علي
عمر بن أباب الليل فحكمه في أمره وأشركه في سلطانه، وأفرده برياسة العرب وأجره الرسن، وسرب إليه الأموال، وكثر بذلك زبون العرب واختلافهم عليه، فاعتزم على التقويض عن أفريقية ونفض اليد من الخلافة، فجمع الأموال والذخيرة وباع ما كان بمودعاتهم من الآنية والفرش والخرثي والماعون والمتاع، حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكرياالأكبر جمعها واستجاد أصولها ودواوينها. اخرجت للوراقين فبيعت بدكاكين سوقهم. فجمع من ذلك زعموا قناطير من الذهب تجاوز العشرين قنطاراً، وجوالقين من حصى الدرّ والياقوت. وخرج من تونس إلى قابس مورياّ بمشارفة عملها فاتح سبع عشرة وسبعمائة بعد أن رتب الحامية بالحضرة وباجة والحمامات، واستخلف بالحضرة أبا الحسن بن وانودين وانتهى إلى قابس فأقام بها، وصرف العمال في جهاتها إلى أن كان من بيعة ولده بتونس ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نهوض السلطان أبي بكر إلى الحضرة ورجوعه إلى قسنطينة: لما خرج السلطان من هوارة إلى قسنطينة سنة ست عشرة وسبعمائة كما قدمناه، استبلغ في جهاز حركة أخرى إلى تونس، فاحتشد وقسم العطاء وأزاح العلل، واعترض الجنود عن طبقاتهم من زناتة والعرب وسدويكش. واستخلف على قسنطينة الحاجب محمد بن القالون. وبعث إلى حاجبه الأعظم أبي عبد الرحمن بن غمر بمكانه من إمارة بجايةفي مدد المال في النفقات والأعطيات. فبعث إليه منصور برت فضل بن مزني عامل الزاب: وكان ابن عمر لما رأى من كمايته وأنه جماعة للمال، استضاف له عمل جبل أورأس والحصنة وسدويكش وعياض وسائر أعمال الضاحية، فكانت أعمال الجباية كلها لنظره وأمواله في حسبان دخله وخرجه. فبعث ابن غمر ليقيم إنفاق السلطان. واستخلفه على خطة حجابته، وارتحل السلطان من قسنطينة في جمادئ سنة سبع عشرة وسبعمائة يطوي المراحل. ولقيه في طريقه وفود العرب،
وانتهى إلى باجة فانفضت حاميتها إلى تونس. وكان السلطان أبو يحيى اللحياني قد خرج عنها إلى قابس كما قدمناه، واستخلف عليها أبا الحسن بن وانودين، وبعث إليه بنهوض السلطان أبي بكر إلى تونس، وأنه محتاج إلى المدافعة، فاعتذر لهم اللحياني به، قبله من الأموال، وأطلق يدهم في الجيش والمال فأركبوا واستلحقوا ورتبوا الديوان وأخرجوا إبنه محمد، ويكنى أبا ضربة فأطلقوه من اعتقاله.
وبغتهم الخبر بإشراف السلطان أبي بكر على باجة، فخرجوا جميعاً من تونس. وخالفهم إلى السلطان مولاهم ابن غمر بن أبي الليل. كان مضطغناً مع الدولة متربصاً بها لما كان اللحياني يؤثر عليه أخاه حمزة، فلقي السلطان في دوين باجة، فأعطاه صفقته واستحثّه، ووصل إلى تونس، فنزل روض السنافرة من رياض السلطان في شعبان من سنة سبع عشرة وسبعمائة. وخرج إليه الملأ وتردّدوا في البيعة بعض الشيء انتظاراً لشأن أبي ضربة وأصحابه. وكان من خبرهم أن السلطان لما أغذ السير من باجة، بادر حمزة بن غمر إلى بطانة اللحياني وأوليائه بتونس فلقيهم وقد خرجوا عنها، فأشار عليهم ببيعة أبي ضربة بن السلطان اللحياني، ومزاحمة القوم به فبايعوه وزحفوا إلى لقاء السلطان. ودس حمزة إلى أخيه مولاهم أن يزحف بالمعسكر فأجفل السلطان من مقامته من روض السناجرة لسبعة أيام من احتلاله قبل أن يستكمل البيعة وارتحل إلى قسنطينة ورجع عنه مولاهم من تخوم وطنه. وسرّح منصور بن مزني إلى ابن عمر ببجاية ودخل أبو ضربة بن اللحياني والموحدون إلى تونس منتصف شعبان من سنته. وبويع بالحضرة البيعة العامة وتلقب بالمستنصر. وأراد أهل تونس على إدارة سور بالأرباض يكون سياجاً عليها فأجابوه إلى ذلك وشرع فيه. وأرهقه العرب في مطالبهم واشتطًوا عليه في شروطهم إلى أن عاود مولانا السلطان حركته كما نذكر إن شاء الله تعالى
. الخبر عن استيلاء السلطان أبي بكر علي الحضرة وإيقاعه بأبي ضربة وفرار أبيه من طرابلس إلى المشرق: لما قفل السلطان من تونس إلى قسنطينة بعث قائده محمد بن سيد الناس بين يديه إلى بجاية، فارتاب ابن غمر بوصوله وتنكر له وشعر بذلك السلطان، وأغضى له عنها وطلبه في المدد، فاحتفل في الحشد والآلة والأبنية. وبعث إليه سبعة من رجال الدولة بسبعة عساكر وهم: محمد بن سيد الناس، ومحمد بن الحكم، وظافر السنّان وأخوه من موالي الأمير أبي زكريا الأوسط، ومحمد المديوني ومحمد المجرسي ومحمد البطوني. وبعث له من فحول زناتة وعظمائهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، كان ارتحل إليه من الأندلس كما نذكر في خبره، وأبا رشيد بن محمد بن يوسف من أعياص بني عبد الواد في من كان معهم من قومهم وحاشيتهم. وتوافوا بعساكرهم عند السلطان بقسنطينة فاعتزم على معاودة الزحف إلى تونس، وكان قد اختبر أحوال أفريقية وأحسن في ارتيادها فخرج في صفر من سنة ثمان عشرة وسبعمائة، واستعمل على حجابته أبا عبد الله بن القالون، ويرادفه أبو الحسن بن عمر، ووافاه با أربس وفد هوارة، وكبيرهم سليمان بن جامع، وأخبروه بأنّ أبا ضربة بن اللحياني أجفل من باجة بعد أن نزلها معتزماً على اللقاء، فارتحل مولانا السلطان مغذاً، ولقيه مولاهم ابن غمر فراجع الطاعة، وارتحلوا في أتباع أبي ضربة وجموعه حتى شارفوا على القيروان، فخرج إليه عاملها ومشيختها فألقوا إليه باليد وأعطوا الطاعة. وارتحل السلطان راجعاً عن أتباع عدّوه إلى الحضرة وقد ترك بها أبو ضربة بن اللحياني من بطانته محمد بن الغلاق ليمانع دونها، فأخرج الرماة إلى ساحتها، وقاتل العساكر ساعة من النهار. ثم اقتحموها عليه، واستبيح عامّة أرباضها وقتل ابن الغلاق ودخل السلطان إلى الحضرة في ربيع من سنته، فأقام خلالاً ما انعقدت العامّة. وقدم على
الشرطة ميمون بن أبي زيد واستخلفه على البلد. ورحل في أتباع أبي ضربة بن اللحياني وجموعه فأوقع بهم بمصبوح من جهات بلاد هوارة.
وقتل من مشيخة الموحدين أبو عبد الله بن الشهيد من أهل البيت الحفصي، وأبو عبد الله بن ياسين. ومن طبقات الكتاب أبو الفضل البجائي وتقبّض على شيخ الدولة أبي محمد عبد الله بن يغمور. وقيد إلى السلطان فعفا عنه، ونوهه ليومه. ثم أعاده إلى خطته بعد ذلك. ورجع السلطان إلى تونس في رجب من سنته. وكان السلطان أبو عيسى بن اللحياني لما بلغه الخبر بنهوض السلطان إلى تونس حركته الثانية سنة سبع عشرة وسبعمائة، وما كان من بيعة الموحدين والعرب لابنه أبي ضربة ارتحل من مقامته بقابس إلى نواحي طرابلس. ثم بلغه رجوع السلطان إلى قسنطينة فأوطن طرابلس فبنى مقعداً لملكه بسور البلد مما يلي البحر سمّاه الطارمة، وبعث العمّال في الجهات لجباية الأموال. وبعث على جبال طرابلس أبا عبد الله بن يعقوب قريب حاجبه ومعه هجرس بن مرغم كبير الجواري من دباب فدوّخ البلاد وفتح المعاقل وجبى الأموال وانتهى إلى برقة. واستخدم آل سالم وآل سليمان من عرب ذئاب، ورجع إلى سلطانه بطرابلس. ووافاه الخبر بانهزام أبي ضربة إبنه فبعث حاجبه أبا زكريا بن يعقوب ووزيره أبا عبد الله بن ياسين بالأموال لاحتشاد العرب ففرّقوها في علاق وذئاب، وزحف أبو ضربة إلى القيروان. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي بكر فخرج من تونس آخر شعبان سنة ثمان عشرة وسبعمائة، فأجفلوا عن القيروان. ثم تذامروا وعقلوا رواحلهم مستميتين بزعمهم، حتى أطلت عليهم العساكر بمكان فجّ النعام، فانفضت جموعهم وشردت رواحلهم وارتحلوا منهزمين، والقتل والنهب يأخذ منهم مأخذه. ولجأ أبو ضربة في ففه إلى المهديّة، وكانوا مقيمين على دعوة أبيه فامتنع بها إلى أن كان من شأنه ما نذكره. وبلغ الخبر إلى أبيه بمكانه من طرابلس، فاضطرب معسكره وبعث إلى النصارى في أسطول يحمله إلى الإسكندرية فوافوه بستة أساطيل فاحتمل أهله وولده، وركب
البحر ومعه حاجبه أبو زكريا بن يعقوب إلى الإسكندرية واستخلف على طرابلس أبا عبدالله بن أبي عمران من ذوي قرابته وصهره، فلم يزل بها إلى أن استدعاه الكعوب ونصبوه للأمر، وأجلبوا به على السلطان مراراً كما نذكره بعد. وركب السلطان أبو يحيى بن اللحياني البحر إلى الإسكندرية فنزل بها على السلطان محمد بن قلاون من ملوك الترك بمصر والشام. واستقدمه إلى مصر فعظم من مقدمه واهتز للقائه ونوه من مجلسه وأسنى من جرايته وأقطاعه، إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ورجع السلطان أبو بكر إلى تونس بعد الواقعة على أبي ضربة وقومه بفج النعام، فدخلها في شوال من سنته. واستقامت أفريقية على طاعته، وانتظمت أمصارها وثغورها في دعوتها إلا المهدية وطرابلس كما ذكرناه، إلى أن كان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن مهلك الحاجب ابن غمر ببجاية وولاية الحاجب محمل بن القالون عليها ثم الإدالة منه بابن سيد الناس: كان الحاجب ابن غمر لما استبدّ ببجاية سنة خمس عشرة وسبعمائة، وانتقل السلطان إلى قسنطينة ولم يراجعها بعد. ثم رجع من تونس ثانية حركاته سنة سبع عشرة وسبعمائة، صرف إليه منصور بن فضل وبعث في أثره قائده أبا عبد الله محمد بن حاجب أبيه أبي الحسن بن سيد الناس يهيىء قصوره ببجاية للتحول إليها، فرده ابن غمر وتنكر وطالبه السلطان في المدد فبادر به فأقطعه جانب الرضى. وعقد له على بجاية وقسنطينة كما ذكرنا ذلك كله قبل. فاستبد ابن غمر بالثغر وما إليه من الأعمال مقتصراً على ذكر السلطان في الخطبة، واسمه في السكّة. وأقام على ذلك إلى أن ملك السلطان تونس واستولى على جهاتها، وبعث إليه بابن عمه محمد بن غمر فعقد أبو عبد الرحمن الحاجب على قسنطينة فمضى إليها، وهو في خلال ذلك كلّه يدافع عساكر زناتة عن بجاية. وقد كان أبو حمّو صاحب تلمسان بعد ظهوره على محمد بن يوسف، واسترجاعه بلاد مغراوة وتوجين من يده كما قدمناه يسرّب العساكر لحصارها. وابتنى بالوادي على مرحلتين منها قلعة تكر يجهّز بها الكتائب لحصارها. ثم هلك أبو حمّو وولي إبنه أبو
تاشفين من بعده سنة ثمان عشرة وسبعمائة فتنفّس فخنق الحصار عن بجاية ريثما كانت حركة السلطان إلى تونس وفتحها. ثم خرج أبو تاشفين من تلمسان لتمهيد أعماله، وقتل محمد بن يوسف بمعقله من جبل وانشريش كما ذكرناه في أخبارهم، فارتحل من هنالك غازياً إلى بجاية، فأطل عليها في سنة تسع عشرة وسبعمائة، وبدا له من حصنها وكثرة مقاتلتها وامتناعها ما لم يحتسب، فانكفأ راجعاً إلى تلمسان، وأصاب ابن غمر المرض فبعث عن عليّ ابن عمّه من مكان عمله بقسنطينة، وعهد إليه بأمره والقيام بولاية بجاية إلى أن يصل أمر السلطان. وهلك لأيام على فراشه في شوال من سنة تسع عشرة وسبعمائة، وقام علي بن عمر بأمر بجاية، واتصل الخبر بالسلطان فأهمه شأن الثغر. وطير ابن سيّد الناس إليه مع قهرمانة داره لتحصيل تراثه، والبحث عن ذخيرته فاستوفى من ذلك فوق الكثرة من الصامت والذخيرة، وقدم به على السلطان واستقدم معه علي بن غمر، فأولاه السلطان من رضاه ما أحسب أمله. وأقام بالحضرة إلى أن كان منه خلاف مع ابن عمران. ثم راجع الطاعة وقد أحفظ السلطان بولاية عدوه. فلما عاد إلى تونس أوعز إلى مولاه نجاح وهلال بقتله فاغتالوه خارجا من بستانه فأشووه، وهلك من جراحته والله أعلم. الخبر عن إمارة الأمير أبي عبد الله علي قسنطينة وأخيه الأمير أبي زكريا علي بجاية وتولية القالون علي حجابها: لما هلك ابن غمر أهمّ السلطان شأن بجاية بما كانت عليه من شأن الحصار، ومطالبة بني عبد الواد لها فرأى أن يكثف الحامية بالثغور الغربية، وينزل بها أبناءه للمدافعة والحماية، فعقد على قسنطينة لإبنه الأمير أبي عبد الله وعقد على بجاية لابنه الآخر الأمير أبي زكريا. وجعل حجابتها لأبي عبد الله بن القالون مستبداً عليهما لمكان صغرهما. وأكثف له الجند وأمره بالمقام ببجاية لممانعتها من العدو الملح على حصارها. وارتحلوا من تونس فاتح سنة عشرين وسبعمائة في احتفال من العسكر والصحاب و الأبهة. وأبقى خطة الحجابة خلواً ممن يقوم بها. وأبقى علي بن القالون. وبقي للتصرف في الأمور من رجالات السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الكردي الملقب بالمزوار. وكان مقدماً على بطانة السلطان المعروفين بالدخلة، وعلى الأشغال
الكاتب أبو القاسم بن عبد العزيز، وسنذكر أوليتهما بعد. وانصرف إلى بجاية رافلاً في حلل العز والتنويه إلى أن كان من أمره ما نذكرإن شاء الله تعالى والله أعلم .
الخبر عن استقدام ابن القالون والإدالة منه بابن سيد الناس في بجاية وبظافر الكبير في قسنطينة. لما انصرف أبو عبد الله بن يحيى بن القالون إلى بجاية، وخلا وجه السلطان فيه لبطانته عند ولايته بجاية، بثوا فيه السعايات ونصبوا له الغوائل. وتولى كبر ذلك المزوار ابن عبد العزيز بمداخلة أبي القاسم بن عبد العزيز صاحب الأشغال. وعظمت السعاية فيه عند السلطان حتى داخلت فيه الظنّة. وعقد لمحمد بن سيّد الناس على بجاية، نقله إليها من عمله باجة، وكتب له عهده بخطه. واستقدم صاحبه محمد بن القالون فقدم، وقد تغير السلطان له ودخل ابن سيد الناس بجاية، وقام بأمر حصارها وحجابة أميرها إلى
أن استقدم للحجابة وكان من أمره ما نذكره. ومرّ ابن القالون بقسنطينة في طريقه إلى الحضرة فحدّثته نفسه بالامتناع بها، وداخل مشيختها في ذلك فأبوا عليه، فأشخصهم إلى الحضرة نكالاً بهم.
ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فأسرّها لابن القالون وعزم على استضافة الحجابة بقسنطينة لابن سيد الناس فاستعفى مشيختها من ذلك، واروه أن ابنّ الأمين قريبه وابن أخيه، وذكروه ثورة أبيه فأقصر عن ذلك، وصرف اعتزامه إلى مولاه ظافر الكبير وذلك عند قدومه من المغرب، وكان من خبره أنه كان من موالي الأمير أبي زكرياء، وكان له في دولة إبنه السلطان أبي البقاء ظهور، وهو الذي زحف بالعسكر عندما استراب السلطان أبو البقاء بأخيه السلطان أبي بكر فأقام بباجة. وجاء المزدوري والعرب إلى تونس في مقدّمة ابن اللحياني، فزحف إليهم ففضّوه وتقبّضوا عليه كما ذكرنا ذلك كله. ثم لحق بعدها بمولانا السلطان أبي يحيى وأعاده إلى مكانه من الدولة، وولاه قسنطينة عند مهلك ابن ثابت سنة ثلاث عشر وسبعمائة. ثم غص به ابن غمر وأغرى به السلطان فأشخصه في سفين إلى الأندلس وأجاز إلى المغرب. ونزل على السلطان أبي سعيد إلى أن بلغه الخبر بمهلك ابن غمر فكّر راجعاً إلى تونس، ولقاه السلطان مبرة وتكريماً. ووافق ذلك وصول الحاجب ابن القالون من بجاية، فعقد السلطان لظافر هذا على حجابة إبنه بقسنطينة الأمير أبي عبد الله فقدمها وقام بأمرها، واستعمل ذويه وحاشيته في وجوه خدمتها وصرف من كان هنالك من
الخدّام أهل الحضرة إلى بلدهم. وكان بها أبو العباس بن ياسين متصرفاً بين يدي الأمير أبي عبد الله، والكاتب أبو زكريا بن الدبّاغ على أشغال الجباية، وكانا قدما من الحضرة في ركاب الأمير أبي عبد الله فصرفهما القائد ظافر لحين وصوله، واستقلّ بأمره إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن ظهور ابن أبي عمران وفرار ابن القالون إليه على عينه: كان محمد بن أبي عمران هذا من عقب أبي عمران موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص، وهو الذي ولي أفريقية نائباً عن أبي محمد عبد الله ابن عمه الشيخ أبي محمد عبد الواحد كتب له بها من مراكش لأوّل ولايته، فأقام والياً عليها ثمانية أشهر إلى أن قدم آخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأقام أبو عمران هذا في جملتهم إلى أن هلك ونشأ بنوه في ظلّ دولتهم إلى أن كان من عقبه أبو بكر والد محمد هذا، فكان له صيت وذكر. وكان السلطان أبو يحيى زكريا بن اللحياني قد رعى له ذمة قرابته، ووصله بصهر عقده لإبنه محمد على إبنته. واستخلفه على تونس عند خروجه عنها. ثم استخلفه على طرابلس عند ركوبه السفينة إلى الإسكندرية. وكان أبو ضربة بعد انهزامه وافتراق جموعه اعتصم بالمهدية، ونازله بها السلطان أبو بكر فامتنعت عليه، فأقلع عنها على سلم عقده لأبي ضربة. وأقام حمزة بن عمر في سبيل خلافه على السلطان، ويتقلب في نواحي أفريقية حتى عظم زبونه على السلطان ونزع إليه الكثير من الأعراب وكثرت جموعه، فاستقدم محمد بن أبي عمران من مكان ولايته بثغر طرابلس. وزحف إلى تونس معارضاً للسلطان قبل اجتماع عساكره وكمال تعبيته، فخرج السلطان أبو بكر من تونس في رمضان سنة إحدى وعشرين وسبعمائة ولحق بقسنطينة، وصحبه إليها مولاهم ابن عمر. وكان الحاجب محمد بن يحيى بن القولون قد غصته البطانة والحاشية بالسعاية فيه عند السلطان، وتبين له انحرافه عنه. وكان معز بن مطاعن الفزاري وزيره حمزة بن عمر وصاحب شوراه صديقاً لابن للقالون
ومخالصاً، فداخله في الأجلاب بابن عمران. فلما خرج السلطان أمام زحفه تخلف القالون بتونس، وركب من الغد في البلد منادياً بدعوة ابن أبي عمران. ودخل محمد بن أبي عمران ثانية خروج السلطان، واستولى على الحضرة وأقام بها بقية سنته، وصدراً من الأخرى ولحق السلطان بقسنطينة فجمع عساكره واحتشد جموعه. وأزاح العلل واستكمل التعبية وزحف منها في صفر سنة إثنتين وعشرين وسبعمائة. وخرج ابن أبي عمران للقائه مع حمزة بن عمر في جموع العرب، فلقيهم السلطان أولى وثانية بالرجلة وأوقع بهم، وقتل شيخ الموحدين أبا عبد الله بن أبي بكر. وكان على مقدمتهم محمد بن منصور بن مزني وغيرهم، وأثخنت العساكر فيهم قتلاً وأسراً، وكان للسلطان فيها ظهور لا كفاء له. ثم تقبض على مولاهم ابن عمر فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مقتل مولاهم افي عمر وأصحابه من الكعوب: لما اتيح للسلطان من الظهور على ابن عمران وأتباعه والظفر بهم ما أتيح وصنع له فيهم رغم أنف مولاهم ابن عمر، وظهرت من أصحابه كلمات أنبأت بفساد دخلتهم. ثم نمي للسلطان أن مولاهم داخل في الفتك به إبنه منصور وربيبه زعدان ومعدان ابني عبد الله بن أحمد بن كعب، وسليمان بن جامع من شيوخ هوارة. وشى بذلك عنهم ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد بعد أن داخلوه فيها فتنصح بها للسلطان. فلما عدوا على السلطان تقبض عليهم وبعثهم إلى تونس فاعتقلوا بها، ورجع هو إلى الحضرة فدخلها في جمادى من سنته. وجدد البيعة على الناس، وزحفت العرب في أتباعه حتى نزلوا بظاهر البلد وشرطوا عليه إطلاق مولاهم وأصحابه، فأنفذ السلطان قتلهم فقتلوا بمحبسهم، وبعث بأشلائهم إلى حمزة فعظم عنده موقع هذا الحزن، وصرخ في قومه وتدامروا أن يثيروا بصاحبهم، وأغذوا السير إلى الحضرة وابن أبي عمران معهم على حين افتراق العساكر وإزاحة السلطان.
وظنوا أنهم ينتهزون الفرصة فخرج السلطان عن تونس لأربعين يوماً من دخوله، ولحق بقسنطينة ودخل ابن أبي عمران إلى تونس فأقام بها ستة أشهر خلال ما احتشد السلطان جموعه واستكمل تعبيته. ونهض من قسطنطينة وزحف إليه ابن أبي عمران وهزمهم ابن عمر في جموعهم، فأوقع السلطان بهم وأثخن فيهم وشرد هم في النواحي، وعاد إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، ومضى حمزة لوجهه إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن واقعة رغيس مع ابن اللحياني وزناتة وواقعة الشقة مع ابن أبي عمران: لما انهزم حمزة بن عمر وابن أبي عمران عن تونس مرة بعد أخرى، ورأى حمزة ابن أبي عمران غير مغن عنه فصرفه إلى مكان عمله بطرابلس، وبعث إلى أبي ضربة ابن السلطان اللحياني بمكانه من المهدية فداخله في الصريخ بزناتة والوفود على سلطان بني عبد الواد، فرحل معه أبو ضربة ووفدوا على أبي تاشفين صاحب تلمسان وركبوه في الظفر ببجاية، وأن يشغل صاحب تونس عن مددها بترديد البعوث وتجهيز العساكر إليه، فسرح معهم السلطان آلافاً من العساكر عقد عليها لموسى بن علي الكردي صاحب الثغر بتيمرزدكت، وكثير الحاشية والرجالات. وارتحلوا من تلمسان يغذون السير، وبلغ السلطان خبر فصولهم من تلمسان فبرز للقائهم من تونس في عساكره حتى انتهى إلى رغيس بين بونة وقسنطينة. ولما أطلت عساكر زناتة والعرب اختل مصاف السلطان، وانهزمت المجنّبات وثبت في القلب وصدق العزيمة واللقاء، فاختل مصافهم وانهزموا في شعبان سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وامتلأت أيدي العساكر من أسلابهم من نساء زناتة، ومن عليهن السلطان وأطلقهن. ورجع أبو ضربة وموسى بن علي الكردي في فلهم إلى تلمسان، وعاد السلطان إلى حضرته لأيام من هزيمتهم. ولقيه الخبر في طريقه باجتماع العرب وابن أبي عمران بنواحي القيروان، فتخطى الحضرة إليهم ولقيهم بالشقّة، وأوقع بهم ورجع إلى تونس في شوّال من سنة أربع وعشرين . فاتبعه حمزة ومن معه إلى تونس عندما افترقت العساكر، ومعه إبراهيم بن الشهيد من البيت الحفصي.
وسبق إليهم بخبرهم عامر بن بوعلي بن كثير وسحيم بن.. فخرج للقائهم من يومه
في خص من الجنود بعد أن بعث عن عساكر باجة، وقائدها عبد الله العاقل مولاه فصحبه العرب بنواحي شادلة فقاتلوه صدرها، وحمي الوطيس، ووصل عبد الله العاقل والناس متواقفون، واشتدت الحرب. ثم كانت الهزيمة على العرب، واستبيحت حرماتهم وافترقت جموعهم، ورجع السلطان إلى البلد واستقر بالحضرة والله تعالى أعلم.
الخبر عن إجلاب حمزة بإبراهيم بن الشهيد وتغلبه علي الحضرة:
لما انهزم أبو ضربة بن اللحياني وحمزة بن عمر وعساكر بني عبد الواد لحق أبو ضربة بتلمسان فهلك بها، ولقي حمزة بعده من الحروب مع السلطان ما لقي، ويئس الكعوب من غلابه وتذامر والفتنته والأجلاب عليه، فوفد حمزة بن عمر على أبي تاشفين صريخاً، ومعه طالب بن مهلهل، قرنه في قومه، ومحمد بن مسكين شيخ بني حكيم من أولاد القوس وكلهم من سليم ومعهم الحاجب ابن القالون، فاستحثوا عساكره لصريخهم فكتب لهم السلطان كتيبة عقد عليها لموسى بن علي الكردي وأعاده معهم. ونصب لهم لملك تونس من أعياص أبي حفص إبراهيم بن الشهيد منهم، وأبوه الشهيد هو أبو بكر بن أبي الخطّاب عبد الرحمن الذي نصّب للأمر عند مهلك السلطان أبي عصيدة، وقتله السلطان أبو البقاء خالد كما ذكرناه. وكان إبراهيم هذا قد لحق بالعرب ونصبوه للأمر، وأجلبوا به على تونس إثر واقعة رغيس. وبرزت إليهم العساكر فانهزموا كما ذكرناه، ولحق بتلمسان، وجاء هذا الوفد على أثره فنصبه السلطان أبو تاشفين لهم، واستعمل
على حجابته محمد بن يحيى بن القالون. وبعث معهم العساكر لنظر موسى بن ير الكردي، وزحفوا إلى أفريقية. وخرج السلطان أبو بكر من تونس لمدافعتهم في ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وانتهى إلى قسنطينة وعاجلوه قبل استكمال التعبية فنزلوا بساحتها. وأقام موسى بن عليّ على منازلتها بعساكر بني عبد الواد. وتقدم إبراهيم ابن الشهيد وحمزة بن عمر إلى تونس
فدخلها في رجب سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستمكن منها، وعقد على باجة لمحمد بن داود من مشيخة الموحدين. وثار عليه بعض ليالي رمضان بعض بطانة السلطان كانوا بالبلد في غيابات الاختفاء، وكان منهم يوسف بن عامر بن عثمان، وهو ابن أخي عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين، وفيهم القائد بلاط من وجوه الترك المرتزقة بالحضرة، وابن جسار نقيب الشرفاء فاعتدوا واجتمعوا من جوف الليل، وهتفوا بدعوة السلطان. وطافوا بالقصبة فامتنعت عليهم فعمدوا إلى دار كشلي من الترك المرتزقة، وكان بطانة لابن القالون فقاتلوها وامتنعت عليهم. ثم أعجلهم الصباح عن مرامهم وتتبعوا بالقتل، وفرغ من شأنهم وكان موسى بن علي ومن معه من العساكر لما تخلفوا عن ابن الشهيد لحصار قسنطينة أقام عليها أياماً. ثم أقلع عنها لخمس عشرة ليلة من منازلته، ورجع إلى صاحبه بتلمسان. وخرج السلطان من قسنطينة، فاستكمل الحشد والتعبية، ونهض إلى تونس فأجفل منها ابن الشهيد وابن القالون، ودخلها السلطان في شوال سنة خمس وعشرين وسبعمائة واستولى على دار ملكه، وأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره. الخبر عن حصار بجاية وبناء تيمرزدكت وانهزام عساكر السلطان عنها: كان أبو تاشفين مند خلا له الجو، وتمكن في الأمر منه القدم يلح على بجاية بترديد البعوث ومطاولة الحصار، والسلطان أبو بكر يدفع لحمايتها من رجالات دولته وعظماء وزرائه الأول فالأّول من أهل الكفاية والاضطلاع بما يدفع إليه من ذلك. وسرب إليهم المدد من الأموال والأسلحة والجنود وتعهد إليهم بالصبر والثبات في المواطن ونظره من وراء ذلك. وكان أبو تاشفين كلما أحس من السلطان أبي بكر بنهوض إلى المدافعة عنها، أو عزم على غزو كتائبه المجمّرة عليها رماه بشاغل يوهن عن عزمه ويمسك عنان بطشه. وكانت فتنة حمزة بن عمر من أدهى الشواغل في ذلك بما
كان يجبب العرب عن الطاعة، ويجمع الأحزاب للأجلاب على الحضرة، وينصّب الأعياص يطمعهم فيما ليس لهم من نيل الخلافة. وكان ذلك ديدناً متصلاً أزمان تلك المدة.
ولما سرح أبو تاشفين العساكر سنة خمس وعشرين وسبعمائة مع إبراهيم ابن الشهيد، وحمزة بن عمر وأوليائهم من أهل أفريقية، وعقد عليها لموسى بن علي من رجالاته، فنازل قسنطينة ثم أقلع عنها وعاود حصارها سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وشن الغارة في نواحيها، واكتسح الأموال ورجع إلى وادي بجاية فاختط مدينة بثيكلات على مرحلة منها، وعلى قارعة الطريق الشارع من الغرب إلى الشرق، وبما كانت بجاية زائغة عنه إلى البحر، فاختطوا تلك المدينة وشيدوها وجمعوا الأيدي عليها، وقسموها مسافات على جيوشهم، فاستتمت لأربعين يوماً وسموها تيمرزدكت باسم حصنهم الأقدم بالجبل قبالة وجدة، حيث امتنع يغمراسن على السعيد ونازله وهلك عليه كما ذكرناه في أخباره. وشحنوا هذه المدينة بالأقوات والمدد، وعمروها بالمقاتلة من الرجل والفرسان والقبائل، وأخذت بمخنق البلد. وقلق السلطان بمكانها فأوعز إلى قواد عساكره وأصحاب عمالاته من مواليه وصنائعه أن ينفروا بعساكرهم إلى صاحب الثغر محمد بن سيد الناس، ويزحفوا معه إلى هذا البلد المخروب، ويستميتوا دون تخريبه فنهض ظافر الكبير من قسنطينة، وعبد الله العاقل من هوارة، وظافر السنان من بونة: وتوافوا ببجاية سنة سبع وعشرين وسبعمائة. وبلغ موسى بن علي خبرهم فاستنفر من وراءه من عساكر بني عبد الواد. وخرجت العساكر جميعاً من بجاية تحت لواء ابن سيد الناس. وزحف إلى العدو بمخيمهم من تيكلات فكانت الدبرة عليه وعلى أصحابه، فقتل ظافر الكبير ورجع ففهم إلى بجاية. وداخلت ابن سيد الناس فيهم الظنة بما كان يداخل موسى بن علي ابن زبون كل واحد منهما لصاحبه على سلطانه، فمنعهم من دخول البلد ليلتئذ وأسحروا قافلين إلى أعمالهم، وعقد السلطان على قسنطينة لأبي القاسم بن عبد العزيز أياماً. ثم استقدمه إلى الحضرة ليستعين به محمد بن عبد العزيز المزوار في خطة حجابته بما كان غفلاً من الأدوات التي نحتاج إليها الحجابة. وعقد على حجابة إبنه الأمير أبي عبد الله بقسنطينة لمولاه ظافر السنان إلى أن كان من تحويل بنائه ما نذكره.
الخبر عن مهلك الحاجب المزوار وولاية ابن سيد الناس مكانه ومقتل ابن القالون:
هذا الرجل محمد بن القالون المعروف بالمزوار، لا أدري من أوليته أكثر من أنه كردي من الأكراد الذين وفد رؤساؤهم على ملوك المغرب، أيام أجلاهم الططرعن أوطانهم بشهرزور عند تغلبهم على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة: فمنهم من أقام بتونس ومنهم من تقدم إلى المغرب، فنزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن جوارهم. وصار قوم منهم إلى بني مرين وآخرون إلى بني عبد الواد حسبما نذكر في أخبارهم. ومن المقيمين بالحضرة كان سلف ابن عبد العزيز هذا إلى أن نشأ هو في دولة الأمير أبي زكريا الأوسط صاحب الثغور الغربية، وتحت كنف من اصطناعه. واختلط بأبنائه وقدم في جملة إبنه السلطان أبي بكر إلى تونس مقدماً في بطانته ورئيساً على الحاشية المسمين بالدخلة، وكان يعرف لذلك بالمزوار. وكان شهماً وقوراً متديناً، وله في الدولة حظ من الظهور، وهو الذي تولى كبر السعاية في الحاجب ابن القالون، حتى ارتاب بمكانه. وفر إلى ابن أبي عمران سنة إحدى وعشرين وسبعمائة كما قدمناه. وولاه السلطان الحجابة مكانه فقام بها مستعيناً بالكاتب أي القاسم بن عبد العزيز لخلوه هو من الأدوات. وإنما كان شجاعاً بهمة. ولم يزل على ذلك إلى أن هلك في شعبان سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وأراد السلطان على الحجابة محمد بن خلدون جدنا الأقرب فأبى، ورغب في الإقالة فأجيب، جنوحاً لما كان بسبيله منذ سنين من الصاغية إلى الدين، والرغبة في السكون، والفرار من الرتب. وأشار على السلطان بصاحب الثغر محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس لتقديمه سلفه مع سلف السلطان، وكثرة تابعه وحاشيته وقوة شكيمته في الاضطلاع بما يدفع إليه. أخبرني بهذا الخبر أبي رحمه الله، وصاحبنا محمد بن منصور بن مزني، قال لي: حضرت لاستدعاء جدكم إلى معسكر السلطان بباجة يوم مهلك المزوار، وأدخله السلطان إلى رواقه، وغاب ملياً ثم خرج وقد استفاض بين البطانة والحاشية أنه دعي إلى الخطة فاستنكرها. وأقام السلطان يومئذ في خطة الحجابة الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم. واستقدم خالصته محمد بن حاجب أبيه أبي الحسين بن سيد الناس، فقدم في محرم فاتح ثمان
وعشرين وسبعمائة، وولاه حجابته فاضطلع لها، وجدد له العقد على بجاية وحجابة إبنه بها، فدفع إليه للنيابة عنه في الححابة صنيعته محمد بن فرحون، ومعه كاتبه أبو القاسم بن المريد. وجرى الحال على ذلك ببجاية، وعساكر زناتة تجوس خلالها ومعاقلهم تأخذ بمخنقها. وقدم القالون دوين مقدم ابن سيد الناس بشفاعة من نزيله علي بن أحمد سيد الزواودة، وطمع في عوده إلى الخطة.
وكان من خبره أنه لما تخلف عن السلطان بتونس في خدمة ابن أبي عمران رأى ركوب السفين إلى الأندلس، فأعجلهم السلطان عن ذلك، وخرج مع ابن أبي عمران فأجلب معه على الحضرة مراراً، ولحق بتلمسان. ثم جاء مع ابن الشهيد وفعل الأفاعيل، ثم انحل أمر ابن الشهيد، ولحق هو بالزواودة من رياح. ونزل على علي بن أحمد رئيسهم لذلك العهد فأجاره وأنزله بطولقة من بلاد الزاب. وخاطب السلطان في شأنه واقتضى له الأمان حتى أسعف ووفد على الحضرة مع أخيه موسى بن أحمد، وفي نفس القالون طمع في الخطة. وسبقه ابن سيد الناس إلى السلطان فاستقل بها. وجاء القالون من بعد فأوصله السلطان إلى نفسه واعتذر إليه ووعده، وعقد له على قفصة فسار إليها وصحب موالي السلطان من المعلوجي بشير وفارح، وأوعز ابن سيد الناس إلى مشيخة قفصة أن يتقبضوا على حاميته ليتمكن الموالي منه. فلما نزل بساحة البلد دخل كشلي من جند الترك المرتزقة كان في جملته منذ أيام حجابته وكان يستظهر بمكانه. فلما دخل إلى البلد قتل في سككها فكانت لمقتله هيعة تسامع الناس لغطها من خارج البلد. وبرز القالون من فسطاطه وقد جث للرعب فتقدم إليه الموالي الذين جاءوا معه، وتناولوه طعناً بالخناجر إلى أن هلك، والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن ولاية الفضل علي بونة: كان السلطان قد عقد على بونة منذ أول دولته لمولاه مسرور المعلوجي فقام واضطلع
بولايتها، وكان من الغلظة ومراس الحروب بمكان. وكان لذلك غشوماً جباراً. وخرج إلى ولهاصة سنة... فاضطهدهم، وذهبوا إلى مدافعته عن أموالهم فحاربهم. وبلغ خبر مهلكه إلى السلطان فعقد على بونة لإبنه أبي العباس الفضل، وبعثه إليها. وولى على حجابته وقيادة عسكره ظافراً السنان من مواليه المعلوجين فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام إلى أن كان من أمرهم ما نذكره.
الخبر عن واقعة الرياس وما كان قبلها من مهلك الأمير أبي فارس أخي السلطان: كان السلطان أبو بكر لما قدم إلى تونس قدم معه إخوته الثلاثة محمد وعبد العزيز وعبد الرحمن، وهلك عبد الرحمن منهم، وبقي الآخران، وكانا في ظل ظليل من النعمة، وحط كبير من المساهمة في الجاه. وكان في نفس الأمير أبي فارس تشوق إلى نيل المرتبة وتربص بالدولة. وكان عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من فحول بني مرين وأعياص ملكهم قدم على الحضرة نازعاً إليها من الأندلس، فنزل على ابن عمر ببجاية قبيل مهلكه سنة ثمان عشرة وسبعمائة. ثم لحق بالسلطان فلقاه مبرة ورحباً، ووفر حظه وحط حاشيته من الجرايات والأقطاع. وجعل له أن يستركب ويستلحق، وكان يستظهر به فتي مواقف حروبه، ويتجمل في المشاهد بمكانه من سريره بما كان سيداً في قومه. وكان قد انعقدت له بيعة على أهل وطنه، وكانت فيه غلظة وأنفة وإباء. وغداً في بعض أيامه على الحاجب ابن سيد الناس فتلقاه الإذن بالغدر فذهب مغاضباً، ومر بدار الأمير أبي فارس فحمله على ذات صدره من الخروج والثورة، وخرجاً من يومهما في ربيع سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ومروا ببعض أحياء العرب فاعترضهما أمير الحي فعرض عليهما النزول: فأما عبد الحق فأبى وذهب لوجهه إلى أن لحق بتلمسان، وأما الأمير أبو فارس فأجاب ونزل، وطير بالخبر إلى السلطان
فسرح لوقته محمد بن الحكيم من صنائعه وقواد دولته في طائفة من العسكر والنصارى، وصبحوه في الحي وأحاطوا ببيت نزله فامتنع من الإلقاء باليد، ودافع عن نفسه مستميتاً فقتلوه قعصاً بالرماح، وجاءوا بشلوه إلى الحضرة فدفن بها.
ونزل عبد الحق بن عثمان على أبي تاشفين خير نزل، ورغبه فيما كان بسبيله من مطالبة الدولة الحفصية وتدويخ ممالكها، ووفد على أثره حمزة بن عمر ورجالات سليم صريخا على عادتهم. فأجاب أبو تاشفين صريخهم ونصب لهم محمد بن أبي عمران وكان من خبره أنه تركه السلطان اللحياني عاملاً على طرابلس. فلما انهزم أبو ضربة وانحل أمره استقدمه العرب وأجلبوا به على الحضرة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فملكها ستة أشهر. ثم أجفل عنها عند رجوع السلطان إليها، ولحق بطرابلس إلى أن انتقض عليه أهلها سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وثاروا به وأخرجوه فلحق بالعرب وأجلبوا به على السلطان مراراً ينهزمون عنه في كلها. ثم لحق بتلمسان واستقر بها عند أبي تاشفين في خير جواره كرامة وجراية، إلى أن
وصل هذا الوفد إليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة، فنصبه للأمر بأفريقية. وأمدهم بالعساكر من زناتة، عقد عليهم ليحيى بن موسى من بطانته وصنائع أبيه. ورجع معهم عبد الحق بن عثمان بمن في جملته من بنيه وعشيرته ومواليه وحاشيته. وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة، فنهضوا جميعاً إلى تونس فزحف السلطان للقائهم، وتراءى الجمعان بالرياس من نواحي بلاد هوارة سنة تسع وعشرين وسبعمائة فدارت الحرب واختل مصاف السلطان، وفلت جموعه. واحيط به فأفلت بعد عصب الريق، وأصابته في حومة الحرب جراحة وهن لها، وقتل كثير من بطانته وحاشيته، وكان من أشهرهم محمد المديوني. وانتهب المعسكر وتقبض على أحمد وعمر إبني السلطان فاحتملا إلى تلمسان، حتى أطلقهما أبو تاشفين بعد ذلك في مراسلة وقعت بينه وبين السلطان فاتحه فيها أبو تاشفين، وجنح إلى السلم وأطلق الإبنين. ولم يتم شأن الصلح من بعد ذلك. وتقدم ابن أبي عمران بعد الواقعة إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاثين وسبعمائة. واستبد عليه يحيى بن موسى قائد بني عبد الواد، وحجب عليه التصرف في شيء من أمره، ثم عاد يحيى بن موسى إلى سلطانه. ونهض السلطان أبو بكر من قسنطينة إلى تونس بعد أن استكمل الحشد والتعبية، فأجفل ابن أبي عمران عنها، ودخل إليها السلطان في رجب من سنته إلى أن كان ما نذكره.
الخبر عن مراسلة ملك المغرب في الاستجاشة علي بني عبد الواد وما تبع ذلك من المصاهرة: كان السلطان أبو بكر لما خلمى من واقعة الرياس نجا إلى بونة، وركب منها البحر إلى بجاية، وقد ضاق ذرعه بإلحاح عبد الواد على ممالكه وتجهيز الكتائب على ثغره وترديد البعوث إلى وطنه، فأعمل نظره في الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد ليذكره ما بين سلفه وسلفهم من السابقة، مع ما لهم عند بني عبد الواد من الأوتار والإحن، ليبعث بذلك دواعيهم على مطالبة بني عبد الواد فيأخذ بحجزتهم عنه. ثم عين للوفادة عليه إبنه الأمير أبا زكريا، وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحدين لساناً لخطابه ونجياً لشوراه. وركب البحر من بجاية فنزلوا بمرسى غساسة، واهتز صاحب المغرب لقدومه وأكرم وفادته واستبلغ في القرى والإجارة، وأجاب دعاءهم إلى محاربة عدوهم وعدوه على شريطة اجتماع اليد عليها وموافاة السلطان أبي سعيد والسلطان أبي يحيى بعساكرهما تلمسان لموعد ضربوه لذلك. وكان السلطان أبو سعيد قد بعث سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يحيى الرنداجي قائد الأسطول بسبتة إلى مولانا السلطان أبي بكر في الإصهار على إحدى كرائمه، وشغل عن ذلك بما وقع من شأن ابن أبي عمران. فلما وفد عليه ابن السلطان وأولياؤه أعاد الحديث في ذلك، وعين للنيابة عنه في الخطبة من السلطان إبراهيم بن أبي حاتم العزفي، وصرفه مع العدو فوافوا السلطان بتونس آخر سنة ثلاثين وسبعمائة، وقد طرد عدوه وشفى نفسه فجاءوه بامنيته من حركة صاحب المغرب على تلمسان. وخطب منه إبراهيم للأمير أبي الحسن بن السلطان أبي سعيد، فعقد على إبنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكريا السفير إليهم، وزفها إليه في أساطيله سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة. وأنفذ
لزفافها من مشيخة الموحل ين أبو القاسم بن عتو، ومحمد بن سليمان الناسك، وقد مرّ ذكره فنزلت على محل وثير من الغبطة والعز وكان الشأن في مهرها وزفافها ومشاهد أعراسها وولائمها وجهازها كله من المفاخر للدولتين، ولم يزل مذكوراً على الأيام.
الخبر عن حركة السلطان إلى المغرب وفرار بني عبد الواد وتخريب تيمرزدكت: كان مهلك السلطان أبي سعيد على تفيئة ما قدّمناه من الأخبار آخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وولي السلطان أبو الحسن من بعده فبعث إلى ابن تاشفين يخاطبه في الغض عن عنان عيثه في بلاد الموحدين وطغيانه عليها، فلح واستكبر وأساء الردّ، فنهد إليه في سبيل الصريخ لهم سنة إثنتين وثلاثين وسبعمائة وطوى البلاد طيا إلى تلمسان، وأفرجت عساكرهم عن بجاية إلى سلطانهم. وتقدم السلطان عن تلمسان لمشارفة أحوال بجاية والأخذ بحجرة العدّو المحاصر لها. وبعث عسكراً من قومه مدداً لها، عقد عليهم لمحمد البطوي، وأركبهم أساطيله من سواحل وهران فدخلوها وقوبلوا بما يناسبهم من الكرامة والجراية. واستنهض السلطان أبو الحسن السلطان أبا بكر لحصار تلمسان معه كما كان الشرط بين أبيه وبين إبنه الأمير أبي زكريا، فشرع السلطان في جهاز حركته وإزاحة علله. وأقام السلطان أبو الحسن بتاسالة في انتظاره شهراً حتى انصرم فصل الشتاء. وبلغه بمعسكره من تاسالة أن أخاه السلطان أبا علي صاحب سجلماسة انتقض وخرج إلى درعة، فقتل عامله بها بعد أنّ كان داخله وعقد له بعد أبيه على المهادنة والتجافي عنه بمكانه من سجلماسة. فلما بلغه هذا الخبر كّر راجعاً إلى المغرب لإصلاح شأنه. وكان السلطان أبو بكر قد خرج من تونس واحتفل في الحشد والتعبية فانتهى إلى بجاية وبعث مقدماته إلى ثغور بني عبد الواد المحيطة ببجاية فهزموا كتائبها. ثم زحف بجملته إلى تيمرزدكت، وفرت عنها الكتائب المجمرة بها فأناخ عليها حتى خربها وانتهب أموالها وأسلحتها. ونسف آثارها وقفل عنها إلى بلد المسيلة أختها في الغي، وموطن أولاد سباع بن يحيى من الزواودة، كانت
مشيختهم سليمان ويحيى إبنا علي بن سباع وعثمان بن سبّاع عمهم وابنه سعيد، قد تمسكوا بطاعة أبي تاشفين وحملوا عليها قومهم، ونهجوا للعساكر السبيل إلى وطىء بلاد الموحدين والعيث فيها ومجاذبة حبلها.
وأقطعهم أبو تاشفين بلد المسيلة وجبل متنان ووانوغة وجبل عياض فأصاروها من أعمالها، فلما شرّد السلطان عساكرهم عن بجاية وهدم ثغرهم عليها واسترجع أعمال بجاية إليها سار في جموعه إلى هذا الوطن ليسترجع أعماله ويجدد بها دعوته. وزاد في إغرائه بذلك علي بن أحمد كبير أولاد محمد أقتال أولاد سبّاع هؤلاء ونظرائهم وأهل أوتارهم ودخولهم، فارتحل غازياً إلى المسيلة حتى المسيلة حتى نزلها، واصطلم نعمها وخرّب أسوارها، وبلغه بمكانه منها شأن عبد الواحد ابن السلطان اللحياني وأجلابه على تونس، وكان من خبره أنه قدم من المشرق بعد مهلك أبيه السلطان أبي يحيى زكريا سنة تسع وعشرين وسبعمائة، فنزل على دباب وبايع له عبد الملك بن مكي رئيس المشيخة بقابس، وتسامع به الناس وأفريقية شاغرة من الحامية والعساكر لنهوضهم مع السلطان، فاغتنم حمزة بن عمر الفرصة، واستقدمه فبايع له ورحل به إلى الحضرة فنزل بساحتها، ودخل عبد الواحد بن اللحياني وحاجبه ابن مكي إلى البلد فأقاموا بها ريثما بلغ الخبر إلى السلطان، فقفل إلى الحضرة وبعث في مقدمته محمد البطوي من بطانته في عسكر اختارهم لذلك، فأجفل ابن اللحياني وجموعه من تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم، ودخل البطوي إليها وجاء السلطان على أثره أيام عيد الفطر سنة إثنتين وثلاثين وسبعمائة. الخبر عن نكبة الحاجب محمد بن سيد الناس وولاية ابن عبد العزيز وابن الحكيم من بعده: قد قدمنا أولية هذا الرجل، وأن أباه أبا الحسين كان حاجباً للأمير أبي زكريا ببجاية. ولما هلك سنة تسعين وستمائة خلف إبنه محمداً هذا في كفالة السلطان ومرعى نعمته، فاشتمل قصرهم عليه وأواه إلى حجره وأرضعه مع الكثير من بنيه، ونشأ في
كنفه. وكان الحجاب للدولة من بعد أبيه مثل ابن أبي حيّ والرخامي صنائع لأبيه فكانوا يعرفون حقه ويؤثرونه في التجلّة على أنفسهم. ولم يدرك في سنّ الرجولة والسعي في المجد إلا أيام ابن غمر آخرهم، فكان له منه مكان. حتى إذا ارتحل السلطان أبو يحيى إلى قسنطينة لطلب تونس، وجهز له ابن غمر الآلات والعساكر، وأقام له الحجاب والوزراء والقواد كان فيمن سرح معه محمد بن سيد الناس قائداً على عسكر من عساكره. وكان سفيراً للسلطان فكانت له عنده أثرة واختصاص، وعقد له من بعد مهلك ابن غمر على بجاية لما عزل عنها القالون كما قدّمناه، فاستبد بها على السلطان وحماها دون عساكر زناتة، ودفع في صدورهم عنها وكان له في ذلك كلّه مقامات مذكورة. وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي مداخلة في زبون كل واحد منهما بمكان صاحبه على سلطانه وفطن لأمرهما. فأما أبو تاشفين فنكب موسى بن علي كما نذكره في أخباره، وأما السلطان أبو بكر فأغفى لإبن سيّد الناس عنها. ثم استدعاه وقلّده حجابته سنة سبع وعشرين وسبعمائة كما قدّمناه، واستخلف على مكانه ببجاية محمد بن فرحون وأحمد بن المزيد للقيام بما كان يتولاه من مدافعة العدو وكفالة الأمير أبي زكريا ابن السلطان. وقدم هو على السلطان وأسكنه بقصور ملكه، وفوّض إليه أمور سلطانه تفويض الاستقلال فجرى في طلق الاستبداد عليه وأرخى له السلطان حبل الإمهال، واعتد عليه فلتات الدالة مع ما كانت الظنون ترجم فيه بالمداهنة في شأن العدو والزبون على مولاه باستغلاظهم. وأمهله السلطان لمكانه من حماية الثغر ببجاية والاستقلال به دونه، حتى إذا تجلت غيابتهم وأطل أبو الحسن عليهم من مرقبه، ونهض السلطان أبو بكر إلى بجاية وخرب تيمرزدكت، فأغراه البطانة حينئذ بالحاجب محمد بن سيد الناس. وتنبه له السلطان فأحفظه له استبداده، وتقبض عليه مرجعه من هذه الحركة في ربيع سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة واعتقله. ثم امتحنه بأنواع العذاب لاستخراج المال معه فلم ينبس بقطرة، فما زال يستغيث ويتوسّل بسوابقه من الرضاع والمربى، وسوابق أبيه عند سلفه حتى لذعه العذاب فأفحش ونال من السلطان وأقذع، فقتل
شدخاً بالعصي، وجرّشلوه فأحرق خارج الحضرة وعفا رسمه كأن لم يكن، وإلى الله عاقبة الأمور.
ولما تقبّض السلطان على ابن سيّد الناس ومحا أثر استبداده قلد حجابته الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز، وقد كان قدم من الحمة عند مبايعة ابن مكي لعبد الواحد بن اللحياني فلحق بالسلطان في طريقه إلى تيمرزدكت فلم يزل معه إلى أن دخل حضرته، وتقبض على ابن سيد الناس فولاّه الحجابة وكان مضغفاً لا يقوم بالحرب، فعقد السلطان على الحرب والتدبير لضيعته وكبير بطانته يومئذ محمد بن الحكيم وفوض له فيما وراء الحضرة، وهو محمد بن علي محمد بن حمزة بن إبراهيم أحمد اللخمي، ونسبه في بني العزفي الرؤساء بسبتة. وجده أحمد هو أبو العباس المذكور بالعلم والدين والد أبي القاسم المستقل برياسة سبتة بعد الموحدين، وكان من خبر أوليته فيما حدثني به محمد بن يحيى بن أبي طالب العزفي آخر رؤساء العزفيين بسبتة والمنقضي أمرهم بها بانقضاء رياسته. وحدثني بها أيضا حسين ابن عمه عبد الرحمن بن أبي طالب، وحدّثني بها أيضاً الثقة عن إبراهيم ابن عمهما أبي حاتم قالوا جميعاً: إن أبا القاسم العزفي كان له أخ يسمى إبراهيم، وكان مسرفاً على نفسه وأصاب دما في سبتة، وحلف أخوه أبو القاسم ليقتدن منه، ففر ولحق بديار المشرق، هذا آخر خبرهم. وإن محمداً هذا من بنيه. وبقية الخبر عن أهل هذا البيت من سواهم أن إبراهيم أنجب محمداً وأنجب محمد حمزة، ثم أنجب حمزة علياً فكلف بالقراءة واستظهر علم الطب واسقر في إيالة السلطان أبي زكريا بالثغور الغربية. وأصاب السلطان وجع في بعض أزمانه وأعيى دواؤه فجمع له الأطباء وكان فيهم علي هذا فحدس على المرض وأحسن المداواة، فوقع من السلطان أحسن المواقع واستخلصه لنفسه وخلطه بخاصته وأهل خلوته، وصار له من الدولة مكان لا يجاريه أحد فيه. وكان يدعى في الدولة بالحكيم، وبه عرف إبنه من بعده وأصهر إلى إحدى بيوت قسنطينة فزوجوه وخلط أهله بحرم السلطان، وولد له محمد إبنه بقصره، ورضع مع الأمير أبي بكر إبنه ونشأ في حجر الدولة وكفالتها وعلى أحسن الوجوه من
ترتيبها. ولما بلغ أشده صرف إليه رئيس الدولة يعقوب بن غمر وجه إقباله واختصاصه، فكان له منه مكان أكسبه ترشيحاً للرياسة فيما بعد من بين خواص السلطان وخلصائه.
لما نهض السلطان أبو يحيى إلى أفريقية قلده قيادة بعض العساكر، ثم عقد له بعد مهلك ابن غمر على عمل باجة حين رقى ابن سيد الناس عنها إلى بجاية. وكان عمل باجة من أعظم الولايات في الدولة فاضطلع به. ثم لما أمر السلطان بطانته في نكبة ابن سيد الناس دفعه لذلك، فولي القبض عليه وكمن له في عصبة من البطانة في بعض الحجر من رياض رأس الطابية. واستدعى ابن سيد الناس إلى السلطان ويمر بمكانهم، فلما انتهى إليهم توثبوا به وشدوه كتافاً وتلوه إلى محبسه بالبرج المعد لقثاف مثله بالقصبة. وتولى ابن الحكيم من امتحانه وعذابه ما ذكرناه إلى أن هلك، وعقد له السلطان مكانه على الحرب والتدبير من خططه، وفوض إليه فيما وراء الحضرة كما قلناه. وجعل تنفيذ الأموال والكتاب على الأوامر لابن عبد العزيز، فكان عدله في حمل الدولة، إلا أن ابن الحكيم كان أشفّ فيه لما كان إليه من التدبير في الحرب والرياسة على الكتابة، لرياسة السيف على القلم فاضطلع برياسته وأحسن الغناء والولاية، إلى أن كان من خبره ما نذكر. الخبر عن فتح فقصة وولاية الأمير أبي العباس عليها: كان أهل الجريد منذ تقلّص عنهم ظل الدولة عند إنقسام الملك بين الثغور الغربية والحضرة وما إليها، وصار أمرهم إلى الشورى بين المشيخة إلا في الأحايين يؤملون الاستبداد كما كانوا عليه من قبل الموحدين، فقد جاء عبد المؤمن إلى أفريقية وبنو الرند على قفصة وقسنطينة، وابن واطاس على توزر وابن مطروح على طرابلس فأملوا مثلها، وشغل مولانا السلطان أبا بكر عنهم بعد استقلاله بالأمر وانفراده بالدعوة الحفصية شأن الفتنة مع آل يغمراسن بن زيان وأجلاب عساكرهم مع حمزة
ابن عمر على أوطانه. حتى إذا أخذ السلطان أبو الحسن بحجرتهم وأطل عليهم من مراقبه فعادوا إلى أوكارهم بعد أن أسفوا، وتنفس مخنق الثغور الغربية من حصارهم، وزال عن كاهل الدولة إصر معاناتهم. وسكن اضطراب الخوارج على الدولة وخفتت أصوات المرجفين في ممالكها، وصرف السلطان نظره في أعطاف ملكه ومحو الشقاق من سائر أعماله، وسمت همّته في تدويخ القاصية من بلاد الجريد واستنقاذ أهلها من أيدي الذئاب الغاوية والكلاب العادية زعماء أمصارها وأعراب فلاتها، فنهض إلى قفصة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. وقد كان استبد بشوراها يحيى بن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد الشريدي من بيوتاتها، فنازلها أياماً والعساكر تلجّ عليها بأنواع القتال، ونصب عليها المجانيق فامتنعوا. ثم جمع الأيدي حتى قطع نخيلهم وإقلاع شجرائهم فنادوا بالأمان فأمنهم. وخرج إليه ابن عبد الجليل في ربيع الاخر من سنته فأشخصه إلى الحضرة وأنزله بها ورجالات من قومه بني العابد. وفر سائرهم إلى قابس فنزل في جوار ابن مكي ودخل أهل البلد في حكمه، وتفيأوا بعد أن كانوا ضاحين من الملك كله فأحسن التجاوز عنهم، وبط المعدلة فيهم. وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم بالإسهام والإقطاع وتجديد ما بأيديهم من المكتوبات السلطانية. ثم آثرهم بسكنى بلده المخصوص بعدئذ بعهده الأمير أبي العباس، وأنزله بين ظهرانيهم وأوصاه بهم، وعقد له على قسطيلية وما إليها. وجعل معه على ححابته أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين، وقفل إلى حضرته فدخلها في رمضان من سنته والله أعلم. الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس بن عزوز وأبي البقاء خالد علي سوسة ثم إضافة المهدية إليها: لما نكب السلطان حاجبه ابن سيد الناس، وولى محمد بن فرحون على حجابة إبنه الأمير أبي زكريا، وقارن ذلك ما نزل بيغمراسن من عدوّهم وتفرغ السلطان
للنظر في ملكه وتمهيد أحواله، وأن يرسي قواعد أعماله بنجباء أبنائه: فعقد على سوسة والبلاد الساحلية لولديه الأميرين عزوز وخالد شريكين في الأمر، وأنزلهما بسوسة، وأنزل معهما محمد بن طاهر من صنائع الدولة ومن بيوت أهل الأندلس القادمين في الجالية، ورياسة سلفهم بمرسية معروفة في أخبار الطوائف. وكان أخوه أبو القاسم صاحب الأشغال بالحضرة فأقاما كذلك. ثم هلك محمد بن طاهر فاستقدم السلطان محمد بن فرحون من بجاية ثقة باستبداد ابنه، وأن يولّي من شاء على حجابته. وأنزل ابن فرحون مع هذين الأميرين لصغرهما سنة خمس وثلاثين وسبعمائة. ثم استدعاه الأمير أبو زكريا فرجع إليه وأقام هذان الأميران بسوسة، حتى إذا نكب السلطان قائده محمد بن الحكيم واستنزل قريبه محمد بن الركراك من المهدية كان إنزاله بها ابن الحكيم لما افتتحها من يد المتغلب عليها من أهل رجيس، ويعرف بابن عبد الغفّار واتخذها حسناً لنفسه، وأنزل بها قريبه هذا وأشحنها بالعدد والأقوات فلم يغن عنه. ولما هلك استنزل ابن الركراك وبعث السلطان عليهما إبنه الأمير أبا البقاء، وأفرد الأمير أبا فارس بولاية سوسة فأقاما كذلك إلى أن كان من خبر مهلكهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة من الأبناء وولاية بنيه من بعده:
كان الأمير أبو عبد الله مخصوصاً من أبيه من بين ولده بالأثرة والعناية قد صرف إليه إقباله وألقى عليه محبته لما كان يتوسم في شواهده من الترشيح، وما تحلّى به من خلال الملك. وكان الناس يعرفون له حق ذلك. وذلك أن ابن عمر كان مستبداً بالثغور الغربية بجاية وقسنطينة ومدافعاً عنها العدو من زناتة المطالبين لها. فلما هلك ابن عمر سمه تسع عشرة وسبعمائة كما قدمناه صرف السلطان نظره إلى ثغوره، فعقد على بجاية لإبنه الأمير أبى زكريا، وعقد على حجابته لابن القالون وسرّحه معه لمدافعة العدؤ، وعقد على قسنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله ومعه أحمد بن ياسين. وخرجوا جميعاً من تونس سنه عشرين وسبعمائة ونزل كل بعمله. وقدم ظافر الكبير من الغرب فولاّه السلطان حجابة إبنه بقسنطينة وأنزله بها إلى أن هلك سنة سبع وعشرين وسبعمائة على تيمرزدكت كما ذكرناه، فجا بحجابته من تونس أبو القاسم بن عبد العزيز الكاتب فأقام أربعين يوماً.
ثم رجع إلى الحضرة وأضاف السلطان حجابة قسنطينة لابن سيد الناس حجابة بجاية، وبعث إليها نائباً عنه مولاه هلالاً النازع إليه عن موسى بن علي قائد بى عبد الواد، فقام بحضرة الأمير أبي عبد الله إلى أن كانت نكبة ابن سيد الناس عندما بلع الأمير أبو عبد الله أشده وجرى في طلق استبداده ففوّض له في عمله السلطان وأطلق ص عنانه، وكان يؤامره في شأنه ويناجيه في خلوته. وأنزل معه بقسنطينة مولاه نبيلاً من المعلوجين يقيم له رسم الحجابة. ثم استدعى ظافر السنان من تونس سنة أربع وثلاثين وسبعمائة لقيادة الأعنة والحرب، فقدم لذلك وأقام سنة ونصفها. ثم رجع وقام نبيل بحجابته كما كان. ودفع ليعيش بن... من صنائع الدولة لقيادة العساكر وحماية الأوطان، فقاسمه لذلك مراسم الخدمة ورتب الدولة. واستمرت حال الأمير أبي عبدالله على ذلك، والأيام تزيد ظهوراً ومساعيه الملوكية تكسبه جلالاً وترشيحاً إلى أن اغتبط دون غايته، وإعتاقه الأجل عن مداه فهلك رضوان الله عليه آخر سبع وثلاثين وسبعمائة، وقام بأمره من بعده كبير بنيه الأمير زيد عبد الرحمن، فعقد له السلطان أبو بكر على عمل أبيه لنظر نبيل مولاهم لمكان صغره، واستمرّت حالهم على ذلك إلى آخر الدولة، وكان من أمرهم ما نذكره بعد، والله تعالى أعلم.
الخبر عن شأن العرب ومهلك حمزة ثم أجلاب بنيه علي الحضرة وانهزامهم ومقتل معز وز بن همر وما قارن ذلك من الأحد اث: لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان وأعمالها وقطع دابر آل زيّان، واجتثّ أصلهم وجمع كملة زناتة على طاعته، واستتبعهم عصبابة تحت لوائه. ودانت القبائل بالانقياد له وتخبت القلوب لرعبه، ووفد عليه حمزة بن عمر يرغبه في ممالك أفريقية، ويستحثّه لها ديدنه مع أبي تاشفين من قبله فكف بالباس من غلوائه، وزجره عن خلافه على السلطان وشقاقه. ونهج له بالشفاعة سبيلاً إلى معاودة طاعته والعمل بمرضاته، فرجع حمزة إلى السلطان عائذاً بحلمه متوسلاً بشفاعة صاحبه راغباً بإذعانه، وقطع مواد الخلاف من العرب باستقامته فتلقّاه السلطان بالقبول واسعاف الرغبة والجزاء على المناصحة والمخالصة. ولم يزل حمزة بن عمر من لدن رضى مولانا السلطان عنه وإقباله عليه صحيح الطاعة خالص الطوية منادياً بمظاهرة محمد بن الحكيم قائد حربه، وشياب دولته على تدويخ أفريقية وتمهيد أعمالها وحسم أدواء الفساد منها. وأخذ الصدقات من جميع ظواعن البدو الناجعة في أقطارها، وجميع الطوائف المتعاصين بالثغور على إلقاء اليد للطاعة والكفّ عن أموال الجباية فكانت لهذا القائد آثار في ذلك مهّدت من الدولة وأرغمت أنوف المتعاطين للاستبداد في القاصية، حتى استقام الأمر وانمحى أثر الشقاق فاستولى على المهدية سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وغلب عليها ابن عبد الغفار المنتزي بها من أهل رجيس واستولى على تبسة وتقبض على صاحبها محمد بن عبدون من مشيختها، وأودعه سجن المهدية إلى أن أطلق
بعد نكبته، ونازل توزر من بعد ذلك حتى استقام ابن يملول على طاعته المضعفة. واسترهن ولده، ونازل بسكرة غير مرّة يدافعه يوسف بن منصور بن مزني بذمّة عليه يدعيها من السلطان أبي بكر وسلفه. ويعطيه الجباية عن يد مع ما كان له من الاعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن فيتجافى عنه ابن الحكيم لذلك بعد استيفاء مغارمه. وزحف إلى بلاد ريغة فافتتح قاعدتها تقرت، واستولى على أموالها وذخيرتها، وسار إلى جبل أوراس فافتتح الكثير من معاقله. وعصفت ريح الدولة بأهل الخلاف من كل جانب وجاست عساكر السلطان خلال كل أرض. وفي أثناء ذلك هلك حمزة بن عمر سنة إثنتين وأربعين وسبعمائة على يد أبي عون علي بن كبير أحد بطون بني كعب بطعنة طعنه بها غيلة فأشواه وقام بأمره من بعده بنوه، وكبيرهم يومئذ عمر، وداخلتهم الظنة ان قتله بإملاء الدولة فاعصوصبوا وتآمروا واستجاشوا بأقتالهم أولاد مهلهل فجيّشوا معهم وزحف إليهم ابن الحكيم في عساكر السلطان من زناتة والجند ففلوه واستلحموا كثيراً من وجوههم. ورجع إلى الحفرة فتحصن بها واتبعوه فنزلوا بساحتها سنة ثلاثين وسبعمائة وقاتلوا العساكر سبع ليال. ثم اختلفوا ونزع طالب بن مهلهل في قومه إلى طاعة السلطان فأجفلوا، وخرج السلطان على تفيئة ذلك في جمادى من سنته في عساكره وأحزابه من العرب وهوارة فأوقع بهم برقادة من ضواحي القيروان. ورجع إلى حضرته آخر رمضان من سنته. وذهبوا مفلولين إلى القفر ومروا في طريقهم بالأمير أبي العباس بقفصة فرغبوه في الخلاف على أبيه، وأن يجلبوا به على الحضرة فأملى لهم في ذلك حتى ظفر بمعز بن مطاعن وزير حمزة وكان رأس النفاق والغواية فتقبض عليه وقتله، وبعث برأسه إلى الحضرة فنصب بها. ووقع ذلك من مولانا السلطان أحسن المواقع. ثم وفد بعدها على الحضرة فبايع له بالعهد في آخر سنته في محفل أشهده الملأ من الخاصة والكافة بإيوان ملكه. وكان يوماً مشهوداً قرىء فيه سجل العهد على الكافة، وانفضوا منه داعين للسلطان. وراجع بنو حمزة الطاعة من بعدها واستقاموا عليها إلى أن كان من أمرهم ما نذكرهإن شاء الله تعالى. الخبر عن مهلك الحاجب ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين من بعده وما كان علي تفيئة ذلك من نكبة ابن الحكيم: هذا الرجل اسمه أحمد بن إسمعيل بن عبد العزيز الغساني وكنيته أبو القاسم، وأصل سلفه من الأندلس انتقلوا إلى مراكش واستخدموا بها للموحدين، واستقر أبوه إسمعيل بتونس. ونشا أبو القاسم بها واستكتبه الحاجب ابن الدباغ ولما دخل السلطان أبو البقاء خالد إلى تونس، ونكب ابن الدباغ لجأ ابن عبد العزيز إلى الحاجب ابن غمر، وخرج معه من تونس إلى قسنطينة واستقر ظافر الكبير هنالك فاستخدمه إلى أن غرب إلى الأندلس كما قدمناه. ثم استعمله ابن غمر على الأشغال بقسنطينة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فقام بها وتعلق بخدمة القالون بعد استبداد ابن غمر ببجاية. فلما وصل السلطان أبو بكر إلى تونس سنة ثمان عشرة وسبعمائة استقدمه القالون واستعمله على أشغال تونس. ثم كانت سعايته في القالون مع المزوار بن عبد العزيز إلى أن فر القالون سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وولي الحجابة المزوار بن عبد العزيز، وكان أبو القاسم بن عبد العزيز هذا رديفه لضعف أدواته. ولما هلك ابن عبد العزيز المزوار بقي أبو القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم إلى أن قدم ابن سيد الناس من بجاية، وتقلّد الحجابة كما قدمناه فغصّ بمكان ابن عبد العزيز هذا وأشخصه عن الحضرة وولاّه أعمال الحامة. ثم استقدم منها عندما ظهر عبد الواحد بن اللحياني بجهات قابس فلحق بالسلطان في حركته إلى تيمرزدكت، وأقام في جملة السلطان إلى أن نكب ابن سيد الناس، وولي الحجابة بالحضرة كما ذكرنا ذلك كله من قبل، إلى أن هلك فاتح سنة أربع وأربعين وسبعمائة فعقد السلطان على حجابته لشيخ الموحدين أبي محمد عبد الله بن تافراكين. وكان بنو تافراكين هؤلاء من بيوت الموحدين في تينملل ومن آيت الخمسين. وولي عبد المؤمن كبيرهم عمر بن تافراكين على فاس أول ما ملكها الموحدون سنة أربعين
وخمسائة إلى أن فتحوا مراكش، فكان عبد المؤمن يستخلفه عليها أيام مغيبه على الإمارة والصلاة. ولما ثار بمراكش عبد العزيز وعيسى ابنا أومغار أخي الإمام المهدي سنة إحدى وخمسين كان أول ثورتهم أن اعترضوا عمر بن تافراكين عند ندائه للصلاة فقتلوه، وفضحهم الصبح واستلحمهم العامّة، ثم كان إبنه عبد الله بن عمر من بعده من رجالات الموحدين ومشيختهم. ولما عقد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحق أنزل معه عبد الله بن عمر بن تافراكين للمشورة مع جماعة من الموحدين كان منهم يوسف بن وانودين، وكان عبد الله المقدم فيهم. وجاء إبنه عمر من بعده متقبلاً مذهبه مرموقاً تجلته. ولما ولي السيد أبو سعيد بن عمر بن عبد المؤمن على أفريقية ولاّه قابس وأعمالها إلى أن استنزله عنها يحيى بن غانية سنة إثنتين وتسعين وخمسمائة.
ثم كان منهم بعد ذلك عظماء في الدولة وكبراء من المشيخة آخرهم عبد العزيز بن تافراكين، خالف الموحدين بمراكش لما نقضوا بيعة المأمون فاغتالوه في طريقه إلى المسجد عند الأذان بالصبح، بما كان محافظاً على شهود الجماعات. ورعاه له المأمون في أخيه عبد الحق وبنيه أحمد ومحمد وعمر، فلما استلحم الموحّدون وعمهم الجزع ارتحل عبد الحق مورياً بالحج، ونزل على السلطان المستنصر فأنزله بمكانه من الحضرة وسرحه بعض الأحايين إلى الحافة لحسم الداء فيها. وقد كان توقّع الخلاف من مشيختها فحسن غناؤه فيها وقتل أهل الخلاف وحسم العلل. وولاّه السلطان أبو إسحق على بجاية بعد مقتل محمد بن أبي هلال فاضطلع بها. ولما ولي الدعي ابن أبي عمارة سرحه في عسكر من الموحدين لقهر العرب وكفّ عدوانهم فأثخن فيهم ما شاء. ولم يزله معروفاً بالرياسة مرموقاً بالتجلة إلى أن هلك. وكان بنو أخيه عبد العزيز وهم: أحمد ومحمد وعمر جاءوا على أثره من المغرب فنزلوا بالحضرة خير منزل، وغذوا بلبان النعمة والجاه فيها. وكان أحمد كبيرهم. وولاّه السلطان أبو حفص على قفصة ثم على المهديّة ثم استعفى من الولاية فعوفي. وكان السلطان أبو عصيدة يستخلفه على الحضرة إذا خرج منها على ما كان لأوّله، إلى أن هلك لأول الماية الثامنة سنة ثلاث. ونشأ ابناه أبو محمد عبد الله وأيو العبّاس
أحمد في حجر الدولة وجو عنايتها. وأصهر عبد الله منهما إلى أبي يعقوب بن يزدوتن شيخ الدولة في إبنته فعقد له عليها. وأصهر من بعده أخوه أحمد إلى أبي محمد بن يغمور في إبنته فعقد له أيضاً عليها. واستخلص أبو ضربة اللحياني كبيرهما أبا محمد عبد الله وآثره بصحابته فلم يزل معه إلى أن كانت الوقيعة عليه بمصوح، وتقبض على كثير من الموحدين فكان في جملتهم. ومن عليه السلطان أبو بكر ورقّاه في رتب عنايته إلى أن ولأه الوزارة بعد الشيخ أبي محمد بن القاسم. ثم قدمه شيخاً على الموحدين بعد مهلك شيخهم أبي عمر بن عثمان سنة إثنتين وأربعين وأربعمائة وبعثه إلى ملك المغرب مع إبنه الأمير أبي زكريا صاحب بجاية صريخاً على بني عبد الواد فجلى في خدمة ابن السلطان وعرض سفارته. وتوخه لإيثار بعدها إليه، واختص بالسفارة إلى ملك المغرب سائر أيامه. وغصّ الحاجب ابن سيد الناس بمكانه وهم بمكروهه فكبح السلطان عنانه عنه، ويقال أنه أفضى إليه بذات صدره من نكبته. ولما انقسمت خطط الدولة من الحرب والتدبير، ومخالصة السلطان وتنفيذ أوامره بين ابن عبد العزيز الحاجب وابن الحكيم القائد، كان له هو القدح المعلى في المشورة والتدبير، وكانوا يرجعون إليه ويعّولون على رأيه، وكان ثالث أثافيهم ومصقلة آرائهم.
ولما هلك الحاجب ابن عبد العزيز، وكان السلطان قد أضمر نكبة ابن الحكيم، لما كان يتعاطاه من الاستبداد ويحتجنه من أموال السلطان، وأسر الحاجب ابن عبد العزيز إلى السلطان زعموا بين يدي مهلكه بالتحذير من ابن الحكيم وسوء دخلته، وأنه فاوضه أيام نزول العرب عليه بساح تونس سنة إثنتين وأربعين كما قدّمناه في الإدالة من السلطان ببعض الأعياص من بني أبي دبوس، كانوا معتقلين بالحضرة، ألقاها الغدر على لسانه ضجراً من قعود السلطان عن الخروج بنفسه إلى العرب وسأمه مما هو فيه من الحصار فاعتدها عليه ابن عبد العزيز حتى ألقاها إلى السلطان عند موته، وبرىء منها إليه فأودعها اذناً واعية وكان حتف ابن الحكيم فيها. فلما هلك وولي شيخ الموحدين أبو محمد بن تافراكين فاوضه في نكبة ابن الحكيم، وكان بتربص به لما كان بينهما من المنافسة. وكان ابن الحكيم غائباً عن الحضرة في تدويخ القاصية، وقد نزل جبل أوراس واقتضى مغارمه وتوغل في أرض الزاب واستوفى جبايته من عامله يوسف بن منصور، وتقدم إلى ريغ ونازل تغرت وافتتحها، وامتلأت أيدي عساكرهم من
مكاسبهم وحليهم. واتصل به خبر مهلك ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين الحجابة فنكر ذلك لما كان يظنّ أنّ السلطان لا يعدل بها عنه. وكان يرشح لها كاتبه أبا القاسم بن واران، ويرى أنّ ابن عبد العزيز قبله لم يتميز بها إيثاراً عليه، فبدا له ما لم يحتسبه فظن الظنون ونعر ثم أصحب، وأغذّ السير إلى الحضرة وقد واكب السلطان أبا محمد بن تافراكين في نكبته وأعد البطانة للقبض عليه وقدم على الحضرة منتصف ربيع من سنة أربع وأربعين وجلس له السلطان جلوساً فخماً فعرض عليه هديته من المقربات والرقيق والأنعام، حتى إذا انفض المجلس وشيع السلطان وزراءه وانتهى إلى بابه أشار إلى البطانة فأحدقوا به ونلوه إلى محبسه. وبسط عليه العذاب لاستخراج الأموال فأخرجها من مكامن احتجانها، وحصل منها في مودع السلطان أربعمائة ألف من الذهب العين، ومثلها أو ما يقاربها من الجوهر والعقار إلى أن استصفى. ولما أمتك عظمه ونفد ماله خنق بمحبسه في رجب من سنته وذهب مثلاً في الأيام. وغرب ولده مع أمّه إلى المشرق، وطوح بهم الاغتراب إلى أن هلك منهم من هلك، وراجع الحضرة علي وعبيد منهم لي آخرين من أصاغرهم بعد أيام وأحوال والله يحكم لا معقب لحكمه لحكمه.
الخبر عن شأن الجريد واستكمال فتحه وولاية ابنه أبي العباس عليه وولاية صاحب قابس أحمد بن مكي علي جزيرة جربة: كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى مند شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد وما نالها لذلك من الاضطراب، واستبد مشيخة كل بلد بأمره ثم انفرد واحد منهم بالرياسة، وكان محمد بن يملول من مشيخة توزر هو القائم فيها والمستبد بأمرها كما سنذكره. ولما فرغت الدولة إلى الاستبداد وأرهف السلطان حده للثوار وعفا على آثار المشيخة بقفصة، وعقد لإبنه الأمير أبي العبّاس على بلاد قسطيلية. ونزل بقفصة فأقام بها
ممهداً لأمارته مردداً بعوثه إلى البلاد اختباراً لما يظهرون من طاعته. وزحف حاجبه أبو القاسم بن عتّو بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف، وكانوا إخوة أربعة استبدوا في رياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب، ولاذوا بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم وتبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش، وسألوا النزول على حكم السلطان فجنبوا إلى مصارعهم وصلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين، وأفلت السيف علياًّ صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة، فكانت له ذمّة واقية من الهلكة. وانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في ملكته وجدد له العقد عليه أبوه. وتملّك الكثير من نفزاوة.
ولما استبيحت نفطة ونفراوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق وعش الخلاف والنفاق، وخشي مقدّمها محمد بن يملول مغبة حاله وذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه، إلى أن كان مهلكها في سنة واحدة واضطرب أمر توزر وتواثب بنوه وإخوته وقتل بعضهم بعضاً. وكان أخوه أبو بكر معتقلاً بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة والجباية، ومضى إلى توزر فملكها وطالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة وبلاد قسطيلية بالانقياد الذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد. وصارت توزر لذلك شجاً معترضاً في صدر أمارته فخاطب أباء السلطان أبا بكر. وأغراه به فنهض إليه سنة خمس وأربعين، وانتهى إلى قفصة، وطار الخبر إلى أبي بكر بن يملول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش وانفضّ من حوله الأولياء، وجاهر بطاعة السلطان ولقائه ففرّ عنه كاتبه وكاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد التمودي المعروف الشهرة، ولحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني، وأغذ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بن بهلول وألقى إليه بيده وخلط نفسه بجملته. ثم ندم على ما فرّط من أمره وأحس بالنكراء من الدولة، ونذر بالمهلكة فلحق بالزاب ونزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب والقرى بما يحدث به الناس. ولما استولى السلطان على توزر وانتظمها في أعماله عقد عليها لإبنه الأمير أبي العبّاس وأنزله بها وامكنه من رمتها ورجع السلطان إلى الحضرة ظاهرأ عزيزاً واتصلت
أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر. واتصلت ممالك الأمير أبي العبّاس في بلاد الجريد وشاور أبو بكر بن يملول توزر مراراً يفلت في كلها من المهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع وأربعين قبيل مهلك الناس كما نذكر. وأقام الأمير أبو العباس بمحل إمارته، ولم يزل يمهّد الأحوال ويستنزل الثوّار. وكان ابن مكي قد امتنع عليه بقابس، وكان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الذي كان حاجبا له ذهب ابن اللحياني إلى المغرب، وأقام هو بقابس. ثم استراب بمئال أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيان، وأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصّلاً من ذنوبه متذمّماً بشفاعة منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له وأعاده السلطان إلى مكان رياته. واستقام هو على الطاعة ونكب عن سنن العصيان والفتنة.
وكان لأحمد بن مكي حظ من الخلال والأدوات، ونفس مشغوفة بالرياسة والسروّ. وكان يقرض الشعر فيجيد ويرسل فيحسن، وكان خط كتابه أنيقاً ينحو به منحى الخط الشرقيّ شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء، فكانت لذلك كله في نفى الأمير أبي العباس صاغية إليه. وكان هو مستريباً بالمخالطة لما شاء من إثارة السالفة. ولم يزل الأمير أبو العباس يفتل له في الذروة والغارب إلى أن جمعها مجلس السيدة أمة الواحدة اخت مولانا السلطان قافلة من حجها فمسح ما كان في صدره، وأحكم له عقد مخالصته واصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة واعتزاز. وعقد له السلطان على جزيرة جربة، واستضافها إلى عمله، وأنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان وثمانين، وعقد له السلطان عليها ونزلها أحمد بن مكي. واستقل أخوه عبد الملك برياسة قابس وأقاما على ذلك، وجرّدا عزائمهما في ولاية أبي العباس صاحب أعمال الجريد فلم يزالوا كذلك إلى أن كان من أمر الجمع ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين:
كان السلطان أبو بكر عند نكبه القائد ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه، وفوضّ إليه فيما وراء بابه، وعقد على
الوزارة لأخيه أبي العباس أحمد. وكان أبو محمد جلس بالباب لمكان الحجابة فدفع إلى الحرب وقود العساكر وإمارة الضاحية أخاه أبا العباس فقام بما دفع إليه من ذلك. وكان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الإذعان، وسموا إلى الخلاف والعناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الأجلاب على الحضرة ما ذكرناه. وكان سحيم ابن... من أولاد القوس بن حكيم بهمة غوار ومارد خلاف وعناد وكان السلطان قد ولّى على حجابة إبنه الأمير أبي العباس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين، وكان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف، وينفس عليهم ما أتاهم الله من الرتبة والحظ، فلمّا ولي أبو محمد الحجابة ملىء منه حسداً وحفيظة، وداخل فيما زعموا سحيماً هذا الغوي في النيل من أبي العباس بن تافراكين صاحب العساكر وشارطه على ذلك بما أدّاه إليه وتكاتموا أمرهم. وخرج أبو العباس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوارة فوفد عليه سحيم هذا وقومه وضايقوه في الطلب. ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام وأجلبوا عليه، فانفض معسكره وكبابه فرسه فقتل وحمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها. وجاهر سحيم بالخلاف وخرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى حين مهلك السلطان كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مهلك الأمير أبي زكريا صاحب بجاية من الأبناء وما كان بعد ذلك من ثورة أهل بجاية بأخيه الأمير أبي حفص وولاية ابنه الأمير أبي عبد الله:
كان السلطان أبو بكر لما هلك الحاجب ابن غمر عقد على بجاية لإبنه الأمير أبي زكريا كبير ولده، وأنفذه إليها مع حاجبه محمد بن القالون كما ذكرناه وجعل أموره تحت نظره. ثم رجع القالون إلى تونس فأنزل معه ابن سيد الناس كذلك، فلما استبد بحجابة الحضرة جعل على حجابته أبا عبد الله بن فرحون. ثم لما تقبض على ابن سيّد الناس وعلى ابن فرحون وقد استبدّ الأمير أبو زكريا بأمره، وقام على نفسه فوض السلطان إليه الأمر في بجاية وبعث إليه ظافر السنان مولى أبيه الأمير أبي زكريا الأوسط قائداً على عسكره، والكاتب أبا إسحق بن غلان متصرفاً في حجابته فأقام ببابه مدة. ثم صرفهما إلى الحضرة، وقدم لحجابته أبا العباس أحمد بن أبي زكريا الرندي، كان أبوه من أهل العلم وكان ينتحل مذهب الصوفية الغلاة، ويطالع كتب عبد الحق بن سبعين. ونشأ أحمد هذا ببجاية واتصل بخدمة السلطان، وترقى في الرتب إلى أن استعمله الأمير أبو
زكريا كما قلناه. ثم هلك وقد أنف السلطان أبو بكر من انتزاء هؤلاء السوقة على حجابة ابنه، فأنفذ لهم حضرته كبير الموحدين يومئذ صاحب السفارة أبا محمد بن تافراكين سني أربعين وسبعمائة فأقام أحوال ملكه، وعظم أبّهة سلطانه، وجهّز العساكر لسفره وأخرجه إلى أعماله فطاف عليها وتفقّدها، وانتهى إلى تخومها من المسيلة ومقرة. ولم يستكمل الحول حتى سخطه مشيخة من أهل بجاية لما نكروا من الابهة والحجاب حتى استغلظ عليهم باب السلطان، وتولى كبر ذلك القاضي ابن أبي يوسف تعنتاً وملالاً، واستعفى هو من ذلك فاعفي وعاد إلى مكانه بالحضرة.
ثم استقدم الأمير أبو زكريا حاجبه الأوّل لعهد ابن سيّد الناس، وهو أبو عبد الله
محمد بن فرحون، وقد كان السلطان بعثه في غرض الرسالة إلى ملك المغرب في الأسطول
الذي بعثه مدداً للمسلمين عند إجازة السلطان أبي الحسن إلى طريف. وكان أخوه زيد بن فرحون قائد ذلك الأسطول بما كان قائد البحر ببجاية، فلما رجع ابن عبد الله بن فرحون من سفارته تلك أذن له في المقام عند الأمير أبي زكريا واستعمله على حجابته إلى أن هلك فولى من بعده في تلك الخطة ابن القشاش من صنائع دولته. ثم عزله وولى عليها أبا القاسم بن علناس من طبقة الكتاب، اتصل بدار هذا الأمير وترقى في دبرانه إلى أن ولاّه خطة الحجابة. ثم عزله بعلي بن محمد بن المنت الحضرمي، كان أبوه وعمّه قدما مع جالية الأندلس، وكانا ينتحلان القراآت. وأخذ أهل بجاية عن عمه أبي الحسن علي القراآت ، وكان خطيباً للرياسة، واتصل بحظية كانت لمولى أبي زكريا تسمّى امّ الحكم قد غلبت على هواه، فرسخت على ابن المنت هذا خطة الحجابة، واستعمله فيها فقام بها وأصلح معونات السلطان وأحوال مقاماته في سفره وجهّز له العساكر وجال في نواحي أعماله. وهلك هذا الأمير في إحدى سفراته وهو على حجابته بتاكرارت من أعمال بجاية من مرض كان أزمن به في ربيع الأول سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وكان ابنه الأمير أبو عبد الله في حجر مولاه فارح من معلوجي بن سيد الناس. وكانوا اصطنعه فألفاه قابلا للترشيح فأقام مع ابن مولاه ينتظر أمر الخليفة، وبادر حاجبه الأول أبو القاسم بن علناس إلى الحضرة وأنمى الخبر إلى الخليفة فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي حفص كان معه الحضرة وهو من أصاغر ولده، وأنفذه إليها مع رجاله وأولي اختصاصه. وخرج معه أبو القاسم بن علناس فوصل إلى بجاية ودخلها على حين غفلة. وحمله الأوغاد من البطانة على ارهاف الحدّ وإظهار السطو فخشي الناس البوادر وائتمروا. ثم كانت في بعض الأيام هيعة تمالأ فيها الكافة على التوثب بالأمير القادم، فطافوا بالقصبة في سلاحهم ونادوا بإمارة ابن مولاهم. ثم تسوروا جدرانها واقتحموا داره وملكوا عليه أمره وأخرجوه برفته بعد أن انتهبوا جميع موجوده، وتسايلوا إلى دار الأمير أبي عبد الله محمد ابن أميرهم ومولاهم بعد أن كان معتزماً على التقويض عنهم واللحاق بالخليفة جده. وأذن له في ذلك عمه الأمير القادم فبايعوه بداره من البلد. ثم نقلوه من
الغد إلى قصره بالقصبة، وملّكوه أمرهم. وقام بأمره مولاه فارح ولقبه باسم الحجابة واستمرّ حالهم على ذلك. ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة آخر جمادى الأولى من سنته لشهر من يوم ولايته، إلى أن كان من شأنه بعد مهلك مولانا السلطان ما نذكره. وتدارك السلطان أمر بجاية وبعث إليهم أبا عبد الله بن سليمان من كبار الصالحين من مشيخة الموحدين يسكنهم ويؤنسهم وبعث معهم كتاب العقد عليها لحافده الأمير أبي عبد الله محمد بن الأمير أبا زكريا ذهاباً مع مرضاتهم لسكنت نفوسهم وأنسوا بولاية ابن مولاهم، وجرت الأمور إلى مصايرها كما نذكره إن شاء الله تعالى والله ولّي التوفيق.
الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر وولاية إبنه الأمير أبي حفص: بينما الناس في غفلة من الدهر وظلّ ظليل من العيش وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز وذمة واقية من العدل، إذ ريع السرب وتكدّر الشرف وتقلصت ظلال العز والأمن، وتعطّل فناء الملك ونعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة، فهبّ الناس من مضاجهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى. وبادر الأمير أبو حفص عمر ابن السلطان من داره إلى القصر فملكه وضبط أبوابه واستدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره، ودعوا المشيخة من الموحدين والموالي وطبقات الجند، وأخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص. ثم جلس من الغداة جلوساً فخماً على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته بعوائدها وقوانين ترتيبها، لقنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين، وغدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له وأعطوه صفقة إيمانهم. وانفض المجلس وقد انعقدت بيعته وأحكمت خلافته. وكان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيماً بالحضرة قدمها رائدا منذ أشهر وأقام
متمليأ من الزيارة، فلما سمع النعي فر من ليلته، وتقبض عليه أولاد منديل من الكعوب وردوه إلى الحضرة فاعتقل بها. وقام أبو محمد بن تافراكين بخطة الحجابة كما كان وزيادة تفويض واستبداد إلاّ أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه ويوغرون صدره عليه بذكر منافسات ومناقشة سابقة بين الحاجب والأمير أيام أبيه، واتصل ذلك منهم غصاً بمكانه، ونذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما نذكر بعد، والله تعالى أعلم.
الخبر عن زحف الأمير أبي العباس ولي العهد من مكان إمارته بالجريد إلى الحضرة وما كان من مقتله ومقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد: كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى إبنه الأمير أبي العبّاس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فلما بلغه مهلك أبيه وما كان من بيعة أخيه، نعى على أهل الحضرة ما جاءوا به من نقض عهده. ودعا العرب إلى مظاهرته على أمره فأجابوه ونزعوا جميعاً إلى طاعته عن طاعة أخيه، بما كان مرهفاً لحده في الاستبداد والضرب على أيدي أهل الدولة من العرب وسواهم. وزحف إلى الحضرة ولقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فأتاه طاعته وصار في جملته وجمع السلطان أبو حفص عمر جموعه واستركب واستلحق وأزاح العلل، وأخرج غرة شعبان وارتحل عن تونس، وحاجبه أبو محمد بن تافراكين قد نذر منه بالهلكة، واعتمل في أسباب النجاة، حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل وركب الليل ناجياً من المغرب. وبلغ خبر مفره إلى السلطان فأجفل واختل مصافه، وتحيّز إلى باجة فتلوم بها وتخفف عنه أهل المعكسر فلحقوا بالأمير أبي العباس، وملك الحضرة ثامن رمضان ونزل برياض رأس الطابية، وأطلق أخاه أبا البقاء من معتقله. ثم دخل إلى قصره سبع ليال من ملكه وصبحه الأمير أبو حفص ثامنها فاقتحم
عليه البلد لصاغية كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه أسمارهم، وطروقه منازلهم أيام جنون شبابه وقضاء لذاته في مرباه. وفتك بأخيه الأمير أبي العباس. ولسرعان ما نصب رأسه على القناة، وداست شلوه سنابك العسكر، وأصبح آية للمعتبرين. وثارت العامة بمن كانت بالبلد من وجوه العرب ورجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل. وتلّوا كثيراً منهم إلى السلطان فاعتقلهم، وقتل أبا الهول بن حمزة بن عمر من بينهم. وتقبض على إخوته خالد وعزوز، وأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا وكان فيه مهلكهم . واستوسق ملكه بالحضرة واستعمل على حجابته أبا العباس أحمد بن علي بن زين من طبقة الكتاب، كان كاتباً للشخشي الحاجب وبعده للقائد ظافر الكبير. واتصل بالسلطان أبي بكر لأول ملكه بالحضرة فأسف علي بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه ونكبه. ثم أطلق من محبسه ومضى إلى المغرب، ونزل على السلطان أبي سعيد فأحمد نزله. ثم رجع إلى الحضرة ولم يزل مشرداً أيام السلطان كلها، واستكتب الأمير أبو حفص ولده محمداً وكانت له به وصلة، فلما استوسق له الملك بعد مفر أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه، ولى أباه أبا العباس هذا على حجابته، وعقد على حربه وعساكره لظافر مولى أبيه وجده المعروف بالسنّان، واستخلص لنجواه وسرة مكتبه أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نزارّ من طبقة الفقهاء ومن أهل البيوت النابهة بتونس، كان له بها سلف مذكور، واتصل بدار السلطان وارتسم بها مكتباً لولده. وقرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك خصوصية به ومزيد عناية عنده. ولما استبد بأمره كان هو مستبداً بشوراه، وجرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذ كره إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن علي أفريقية ومهلك الأمير أبي حفص وانتقال الأبناء من بجاية وقسنطينة إلي المغرب وما تخلل ذلك من الأحداث: كان السلطان أبو الحسن يحدث نفسه منذ ملك تلمسان وقبلها بملك أفريقية، ويتربص بالسلطان أبي بكر، ويسر له حسواً في ارتغاء. فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها واستحثه للقدوم عليها، وحرك له الحوار فتنبهت لذلك عزائمه. ثم وصل الخبر بمهلك وليّ العهد وأخويه وخبر الواقعة، فأحفظه ذلك بما كان من رضاه بعهده، وخطة الوفاق على ذلك بيده في سجله، وذلك أن حاجب الأمير أبي العبّاس وهو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية. وحمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن، وسأل منه أمضاه لمولاه وكتاب ذلك بخطه في سجله فخطّه بيمينه وأحكم له عقده. فلما بلغه مهلك ولي العهد تعلل بأن النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو أفريقية ومن بها فعسكر ظاهر تلمسان، وفرق الاعطيات وأزاح العلل. ثم رحل في صفر من سنة ثمان رأربعين وسبعمائة يجر الدنيا بما حملت. وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بأفريقية، ورجالات الكعوب أخاهم خالداً يستصرخه لثأر أخيه أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم. ونزع إليهم أيضاً أهل القاصية بأفريقية بطاعتهم فجاءوا في وفد واحد: ابن مكي صاحب قابس وابن يهلول صاحب توزر وابن العابد صاحب قفصة ومولاهم ابن أبي عنان صاحب الحامة وابن الخلف صاحب نفطة، فلقوه بوهران وأتوه بيعتهم رغبة ورهبة، وأدّوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس، ولم يتخلف عنهم إلا لبعد داره. ثم جاء من بعدهم وعلى أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني، ومعه مشيخة الموحدين الزواودة، وكبيرهم يعقوب بن علي فلقيه بنو حسن من أعمال بجاية
فأوسع الكل حباً وتكرمةً، وأسنى الصلاة والجوائز وعقد لكل منهم على بلده وعمله. وبعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياني من طبقة وزرائه، وأغذ السير إلى بجاية، فلما أطلت عساكره عليها توامر أهلها في الامتناع ثم أنابوا وخرج أميرها أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا فأتاه طاعته، وصرفه إلى المغرب مع إخوانه، وأنزله ببلد ندرومة. وأقطع له الكفاف من جبايتها وبعث على بجاية عماله وخلفاءه. وسار إلى قسنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد فأتوه طاعتهم، وأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها، وأنزل بقسنطينة خلفاءه وعئاله، وأطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها وفيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر وبنوه ومحمد ابن الأمير خالد وإخوانه وبنوه، وأصارهم في جملته حتى صرفهم إلى الغرب من الحضرة من بعد ذلك.
ووفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمر ومشايخ قومهم الكعوب فأخبروه بإجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل، واستحثوه باعتراضهم قبل لحاقهم بالقفر، وسرح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه، وسرح عسكراً آخراً إلى تونس لنظر يحيى بن سلسمان من بني عسكر، ومعه أبو العباس بن مكي وسارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس، وصبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء. ثم انفضوا وكبابالأمير أبي حفص جواده في بعفى نافقاء الجرابيع وانجلت الغيابة عنه وعن مولاه ظافرراجلين فتقبض عليهما، وأوثقهما قائد الكتائب في قيده، حتى إذا جنّ الليل وتوقع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما، وبعث برؤوسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة. وخلص الفل من الواقعة إلى قابس فتقبض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة، كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى من رجالات سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان.
فأما ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطّعهم من خلاف، واعتقل الباقين وسيقت العساكر إلى تونس. ثم جاء السلطان على أثرهم ودخل الحضرة في الزي والاحتفال في جمادى الآخرة من سنته، وخفيت الأصوات وسكنت الدهماء وانقبضت أيدي أهل الفساد. وانقرض أمر الموحدين إلا أذيالاً في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره ووفادته عليه بين يدي مهلك أبيه. ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة والمهدية وتطوف على المعالم التي بها، ووقف على آثار ملوك الشيعة وصنهاجة في مصانعها ومبانيها، والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء وقفل إلى تونس ودخلها آخر شعبان من سنته والله تعالى أعلم.
الخبر عن ولاية الأمير أبي العباس الفضل علي بونة وأوّلية ذلك ومصائره: كان السلطان أبو الحسن قد أصهر إلى السلطان أبي بكر قبيل مهلكه في إحدى كرائمه، وأوفد عليه في ذلك عريف بن يحيى كبير بني سويد من زغبة وصاحب شوراه وخالصة سره مع وفد من رجالات دولته من طبقات الفقهاء والكتاب والموالي، كان فيهم صاحب الفتيا بمجلسه أبو عبد الله السطي وكاتب دولته أبو الفضل بن عبد الله بن أبي مدين وأمير الحرم عنبر الخصي، فأسعف السلطان وعقد له على حظيته عزونة شقة إبنه الفضل وزفها إليه بين يدي مهلكه مع أخيها الفضل، ومعه أبو محمد عبد الواحد بن أكمازير من مشيخة الموحدين، وأدركهم الخبر بمهلك السلطان في طريقهم. فلما قدموا على السلطان أبي الحسن تقبلهم بقبول حسن ورفع مجلس الفضل، ولما استتب له ملكها أعرض له عن ذلك، إلا أنه رعى له ذمّة الصهر وسابقة الوعد فأقنعه بالعقد على بونة مكان عمله منذ أيام أبيه، وأنزله بها عندما رحل عنها إلى تونس. واضطغن المولى الفضل من ذلك حقداً لما كان يرجوه من تجافيه له عن ملك
آبائه، ولحق وفادته وصهره وأقام بمكان عمله منها يؤّمل الكرة إلى أن كان من أمن ما نذكره والله أعلم. الخبر عن بيعة العرب لإبن أبي دبوس وواقعتهم مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما قارن ذلك كله من الأحداث: كان السلطان أبو الحسن لما استوسق له ملك أفريقية أسف العرب بمنعهم من الأمصار التي ملكوها بالإقطاعات والضرب على أيديهم في الأتاوات، فوجموا لذلك واستكانوا لغلبته وتربصوا الدوائر. وربمّا كان بعض البادية منهم يشن الغارات في الأطراف فيعتدها السلطان من كبرائهم. وأغاروا بعض
الأيام في ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الذي كان للسلطان في مراعيها، وأظلم الجو بينهم وبينه، وخشوا عاديته وتوقعوا بأسه. ووفد عليه أيام الفطر من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد من بني كعب وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن بوزيد من رجالات حكيم. وساءت ظنونهم في السلطان لسوء أفعالهم فداخلوا عبد الواحد بن اللحياني في الخروج على السلطان. وكان من خبر عبد الواحد هذا أنه بعد إجفاله من تونس سنة إثنتين وثلاثين وثلثمائة كما ذكرناه لحق بأبي تاشفين فأقام عنده في مبّرة وتكرمة. ولما أخذ السلطان أبو الحسن بمخنق تلمسان واشتد حصارها سأل عبد الواحد من أبي تاشفين تخليته للخروج فودعه وخرج للسلطان أبي الحسن فنزل عليه. ولم يزل في جملته إلى أن احتل بأفريقية. فلما خشن ما بينه وبين الكعوب والتمسوا الأعياص من بني أبي حفص ينصبونهم للأمر رجوا أن يظفروا من عبد الواحد بالبغية فداخلوه وارتاب لذلك، وخشي بادرة السلطان فرفع إليه الخبر فتقبّض السلطان عليهم أربعتهم بعد أن أحضرهم معه فأنكروا وبهتوا.
ثم وبخهم واعتقلهم وعسكر بساحة الحضرة لغزوهم، وتلوم لبعث الأعطيات
وإزاحة العلل، وبلغ الخبر إلى أحيائهم فقطع اليأس أسباب رجائهم. وانطلقوا يحزّبون الأحزاب ويلتمسون للملك الأعياص. وكان أولاد مهلهل أقتالهم وعديلة حملهم قد أيأسهم السلطان من القبول والرضى بما بلغوا في نصيحة المولى أبي حفص ومظاهرته فلحقوا بالقفر، ودخلوا الرمال فركب إليهم فتيتة بن حمزة وأمه ومعهما ظواعن أبنائهما متذمّمين لأولاد مهلهل بالعصبيّة والقرابة فأجابوهم واجتمعوا بقسطيلية، وتحاثوا التراب والدماء، وتدامروا بما شملهم من رهب السلطان، وتوقع بأسه. وتفقدوا من أعياص الموحدين من ينصبونه للأمر، وكان بتوزر أحمد بن عثمان بن أبي دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش وقد ذكرنا خبره وخروجه بجهات طرابلس وأجلابه مع العرب على تونس أيام السلطان أبي عصيدة. ثم انفضوا، وبقي عثمان بجهات قابس وطرابلس إلى أن هلك بجزيرة جربة واستقر بنو إبنه عبد السلام بالحضرة بعد حين فاعتقلوا بها أيام السلطان أبي بكر. ثم غربهم إلى الإسكندرية مع أولاد ابن الحكيم عند نكبته كما ذكرنا ذلك كله فنزلوا بالإسكندرية وأقبلوا على الحرف لمعاشهم. ورجع أحمد هذا من بينهم إلى المغرب واستقر بتوزر واحترف بالخياطة. ولما تفقد العرب الأعياص دلهم على نكرته بعض أهل عرفانه فانطلقوا إليه وجاءوا به وجمعوا له الآلة، ونصبوه للأمر وتبايعوا على الاستماتة. وزحف إليهم السلطان في عساكره من تونس أيام الحج من سنة ثمان، ولقيهم بالثنية دون القيروان فغلبهم وأجفلوا أمامه إلى القيروان. ثم تدامروا ورجعوا مستميتين ثاني محرم سنة تسع فاختلّ مصافه ودخل القيروان، وانتهبوا معسكره بما يشتمل عليه وأخذوا بمخنقه إلى أن اختلفوا وأفرجوا عنه، وخلص إلى تونس كما نذكر، والله تعالى أعلم. الخبر عن حصار القصبة بتونس ثم الإفراج عن القيروان وعنها وما تخلل ذلك: كان الشيخ أبو محمد بن تافراكين أيام حجابته للسلطان أبي بكر مستبداً بأمره مفوضاً
إليه في سائر شؤونه، فلما استوزره السلطان أبو الحسن لم يجره على مألوفه لما كان قائماً على أمره، وليس التفويض للوزراء من شأنه. وكان يظنّ أنّ السلطان أبا الحسن سيكل إليه أمر أفريقية وينصب معه الفضل للملك. وربما زعموا أنه عاهده على ذلك فكان في قلبه من الدولة مرض وكان العرب يفاوضونه بذات صدورهم من الخلاف والإجلاب فلما حصلوا على البغية من الظهور على السلطان أبي الحسن وعساكره وأحاطوا به في القيروان تحيل ابن تافراكين في الخروج عن السلطان لما تبين فيه من النكراء منه ومن قومه. وبعث العرب في لقائه وأن يحملوه حديث فيئهم إلى الطاعة فأذن له وخرج إليهم. وقلّدوه حجابة سلطانهم، ثم سرحوه إلى حصار القصبة. وكان السلطان عند رحيله من تونس خلف بها الكثير من حرمه وأبنائه ووجوه قومه، واستخلف عليها يحيى بن سليمان العسكري من كبار بطانته وأهل مجلسه ووجوه قومه. فلما كانت واقعة القيروان واتصل الخبر بتونس كانت لبناته هيعة خشي عليها عسكر السلطان على أنفسهم فلجأ من كان معهم بتونس إلى قصبتها، وأحاط بهم الغوغاء فامتنعت عليهم واتخذوا الآلة للحصار، وفرقوا الأموال في الرجال وعظم فيها غناء بشير من المعلوجين الموالي فطار له ذكر. وكان الأمير أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن قد جاء من المغرب فوافاه الخبر دوين القيروان، فانفض معسكره ورجع إلى تونس فكان معهم بالقصبة.
ولما خرج ابن تافراكين من هّوة الحصار بالقيروان إليهم طمعوا في الاستيلاء على قصبة تونس وفض ختامها فدفعوه إلى ذلك. ثم لحق به سلطانهم ابن أبي دبوس وعانى من ذلك ابن تافراكين صعباً لكثرة الرجل الذين كانوا بها، ونصبوا المجانيق عليها فلم يغن شيئاً، وهو أثناء ذلك يحاول النجاة لنفسه لاضطراب الأمور واختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوعى السلطان من القيروان إلى سوسة. وكان من خبره أن العرب بعد إيقاعهم بعساكره أحاطوا بالقيروان واشتدوا في حصارها، وداخل السلطان أولاد مهلهل من الكعوب وحكيماً من بني سليم في الإفراج عنه، واشترط لهم على ذلك الأموال واختلف رأي العرب لذلك ودخل عليه فتيتة بن حمزة بمكانه من القيروان زعماً للطاعة فتقبله وأطلق إخوانه خالداً وأحمد، ولم يثق إليهم ثم دخل إليه محمد بن طالب من أولاد مهلهل وخليفة ابن ابي زيد وأبو الهول بن
يعقوب من أولاد القوس وأسرى معهم بعسكره إلى سوسة فصبحها وركب منها في أساطيله إلى تونس وسبق الخبر إلى ابن تافراكين بتونس فتسلل من أصحابه وركب السفين إلى الإسكندرية في ربيع سنة تسع وأربعين وسبعمائة. وأصبحوا وقد تفقدوه فاضطربوا وأجفلوا عن تونس، وخرج أهل القصبة من أولياء السلطان فملكوها وخربوا منازل الحاشية فيها. ونزل السلطان بها من أسطوله في ربيع الآخر فاستقلت قدمه من العثار، ورجا الكرة لولا ما قطع أسبابها عنه مما كان من انتزاء أبنائه بالمغرب على ما نذكره في أخبارهم. وأجلب العرب وابن أبي دبوس معهم على الحضرة ونازلوا بها السلطان فامتنعت عليهم فرجعوا إلى مهادنته فعقد لهم السلم، ودخل حمزة بن عمر إليه وافداً فحبسه إلى أن تقبض على ابن أبي دبوس وأمكنه منه فلم يزل في محبسه إلى أن رحل إلى المغرب، ولحق هو بالأندلس كما نذكره في أخباره، وأقام السلطان بتونس، ووفد عليه أحمد بن مكي فعقد لعبد الواحد بن اللحياني على الثغور الشرقّية طرابلس وقابس وصفاقس وجربة وسرحه مع ابن مكي فهلك عند وصوله إليها في الطاعون الجارف، وعقد لأبي القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وهو الذي كان قطعه بإغراء أبي محمد بن تافراكين. فلما ظهر خلافه أعاد ابن عتو إلى مكانه وعقد له على بلاد قسطيلية، وسرحه إليها وأقام هو بتونس إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن استيلاء الأمير الفضل على قسنطينة وبجاية ثم استيلاء أمرائهما بتمهيد الملك عليهما:
كان سنن السلطان أبو الحسن في دولته بالمغرب وفود العمال عليه آخر كل سنة
لإيراد جبايتهم والمحاسبة على أعمالهم، فوفدوا عليه عامهم ذلك من قاصية المغرب، ووافاهم خبر الواقعة بقسنطينة وكان معهم ابن مزني عامل الزاب، وفد أيضاً بجبايته وهديته، وكان معهم أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن، كان أسيراً من يوم واقعة طريف. وقعت المهادنة الطاغية وبين أبيه فأطلقه وأوفد معه جمعاً من بطارقته،
وقدموا معه على أبيه ووفد معه أخوه عبد الله من المغرب وكان أيضاً معهم وفد السودان من أهل مالي في غرض السفارة، واجتمعوا كلهم بقسنطينة. فلما اتصل بهم خبر الواقعة على السلطان كثر الاضطراب، وتطلبت السفهاء من الغوغاء إلى ما بأيديهم وخشي الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة. ولما أطل على القسنطينة ثارت العامة بمن كان هنالك من الوفود والعمال وانتهبوا أموالهم واستلحموا منهم، وخلص أبناء السلطان مع وفود السودان والجلالقة إلى بسكرة مع ابن مزني وفي خفارة يعقوب بن علي أمير الزواودة فأوسعهم ابن مزني قرى وتكرمة إلى أن لحقوا بالسلطان أبي الحسن بتونس في رجب من سنة تسع.
ودخل المولى الفضل إلى قسنطينة وأعاد ما ذهب من سلطان قومه. وشمل الناس بعدله وإحسانه، وسوّغ الإقطاع والجوائز ورحل إلى بجاية لما أنس من صاغية أهلها إلى الدعوة الحفصيّة. فلما أطل عليها ثأر أهلها بالعمال الذين كان السلطان أنزلهم بها استباحوهم وأفلتوا من أيدي نكبتهم بجريعة الذقن ودخل المولى الفضل إلى بجاية واستولى على كرسي ملكها، ونظمها مع قسنطينة وبونة في ملكه. وأعاد ألقاب الخلافة ورسومها وشياتها كما كانت، واعتزم على الرحيل إلى الحضرة. وبينما هو يحدث نفسه بذلك إذ وصل الخبر بقدوم أمراء بجاية وقسنطينة من المغرب، وكان من خبرهم أن الأمير أبا عنان لما بلغه خبر الواقعة بأبيه وانتزاء منصور ابن أخيه أبي مالك بالبلد الجديد دار ملكهم، وأحس بخلاص أبيه من هوّة الحصار بالقيروان فوثب على الأمر ودعا لنفسه، ورحل إلى المغرب كما نذكره في أخباره. وسرح الأمير أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا صاحب بجاية من الأبناء إلى عمله،. وأمده بالأموال وأخذ عليه المواثيق ليكونن له رداء دون أبيه، وليحول بينه وبين الخلوص إليه متى مر به. وانطلق أبو عبد الله إلى بجاية وقد سبقه إليها عمه الفضل، واستولى عليها فنازله بها وطال حصارها، ولحق به بمكانه من منازلتها نبيل المولى من المعلوجي مع أبناء الأمير أبي عبد الله وكافل بنيه من بعده. وتقدم إلى قسنطينة وبها عامل من قبل الفضل فثار به الناس لحينه، ودخل نبيل وملك البلد، وأقام فيها دعوة أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله. وكان الأمير أبو عنان استصحبه وإخوانه إلى المغرب وبعد احتلاله بفاس سرحهم إلى
مكان إمارتهم بقسنطينة بعد أن أخذ عليهم الموثق في شأن أبيه بمثل موثق ابن عمهم فجاءوا على أثر نبيل مولاهم ودخلوا البلد. واحتل أبو زيد منها بمكان إمارته وسلطان قومه كما كان قبل رحلتهم إلى المغرب. ولم يزل الأمير أبو عبد الله ينازل بجاية إلى أن بيتها بعض ليالي رمضان من سنته بمداخلة بعض الأشياع من رجالها ، داخلهم مولاه وكافله فارح في ذلك فسرب فيهم الأموال وواعدوه للبيات، وفتحوا له باب البر من أبوابها فاقتحمها وفجأهم هدير الطبول فهب السلطان من نومه وخرج من قصره فتسّنم الجبل المطل عليها متسرباً في شعابه، إلى أن وضح الصباح وظهر عليه فجيء به إلى ابن أخيه فمن عليه واستبقاه، وأركبه السفين إلى بلده بونة في شوال من سنة تسع وأربعين وسبعمائة. ووجد بعض الأعياص من قرابته قد ثاروا بها، وهو محمد بن عبد الواحد من ولد أبي بكر ابن الأمير أبي زكريا الأكبر، كان هو وأخوه عمر بالحضرة، وكان لعمر منهما النظر على القرابة. فلما كان هذا الاضطراب لحقوا بالفضل وتركهم ببونة عند سفره إلى بجاية فحدثتهم أنفسهم بالانتزاء فلم يتم لهم الأمر. وثارت بهم الحاشية والعامة ة فقتلوا لوقتهم ووافى الفضل إلى بونة وقد انجلت غيمتهم ومحيت آثارهم ودخل إلى قصره وألقى عصا تسياره، واستقل الأمير أبو عبدالله ابن الأمير أبي زكريا ببجاية محل أمارة أبيه، والأمير أبو زيد بن الأمير أبي عبد الله بقسنطينة محل أمارة أبيه، والأمير أبو العباس الفضل ببونة محل إمارته منذ عهد الإمرة والسلطان أبو الحسن بتونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن حركة الفضل إلى تونس بعد رحيل السلطان أبي الحسن إلى المغرب: كان العرب بعد ما قدمنا من طاعتهم وإسلامهم السلطان ابن أبي دبوس قد انقبضوا عن السلطان أبي الحسن وأجلبوا عليه ثانية، وتولى كبر ذلك فتيتة بن حمزة، وخالف إلى السلطان أخوه خالد مع أولاد مهلهل وافترق أمرهم. وخرج كبيرهم عمر بن حمزة حاجاً، واستقدم فتيتة وأصحابه الأمير الفضل من مكان أمارته ببونة لطلب حقه، واسترجاع ملك آبائه فأجابهم ووصل إلى أحيائهم آخر سنة تسع وأربعين
وسبعمائة، فنازلوا تونس وأجلبوا عليها. ثم أفرجوا عنها وعاودوا منازلتها أول سنة خمسين وسبعمائة، وأفرجوا عنها آخر المصيف. واستدعاهم أبو القاسم بن عتو صاحب الجريد من مكان عمله بتوزر فدخل في طاعة الفضل، وحمل أهل الجريد كلهم عليها واتبعه في ذلك بنو مكي وانتقضت أفريقية على السلطان أبي الحسن من أطرافها فركب أساطيله إلى المغرب أيام الفطر من سنة خمسين وسبعمائة. ومضى المولى الفضل إلى تونس وبها أبو الفضل ابن السلطان أبي الحسن، كان أبوه قد عقد له عليها عند رحيله إلى المغرب تفادياً من ثورات الغوغاء ومضرة هيعتهم وأمن عليه بما كان قد عقد له من الصهر مع عمر بن حمزة في ابنته، فلما أطلت رايات المولى الفضل على تونس أيام الحج نبضت عروق التشيع للدعوة الحفصية، وأحاطت الغوغاء بالقصر ورجموه بالحجارة. وأرسل أبو الفضل إلى بني حمزة متذمّماً بصهرهم فدخل عليه أبر الليل وأخرجه ومن معه من قومه إلى الحي. واستركب له من رجالات بني كعب من أبلغه مأمنه وهداه السبيل إلى وطنه، ودخل الفضل إلى الحضرة وقعد بمجلس آبائه من الخلافة، وجدد ما طمسه بنو مرين من معالم الدولة واستمر أمره على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن مهلك الفضبل وبيعة أخيه المولي أبي إسحق في كفالة أبي محمد بن تافراكين وتحت استبداده:
لما دخل أبو العباس الفضل إلى الحضرة، واستبد بملكها عقد الى حجابته لأحمد بن محمد بن عتو نائباً عن عمه أبي القاسم ريثما يصل من الجريد، وعقد على جيشه وحربه لمحمد بن الشواش من بطانته. وكان وليه المطارد به أبو الليل فتيتة بن حمزة مستبدأ عليه في سائر أحواله مشتطاً في طلباته. وأنف له بطانته من ذلك فحملوه على التنكر له، وأن يديل منه بولاية خالد أخيه. وبعث عن أبي القاسم بن عتو وقد قلده حجابته وفوض إليه في أمره، وجعل مقاد الدولة بيده فركب إليه البحر من سوسة، واستأنف له خالد بن حمزة ظهيراً على أخيه بعد أن نبذ إليه عهده، وفاوضهم أبو الليل بن حمزة قبل استحكام أمورهم فغلب على السلطان وحمله على عزله قائده محمد بن الشواش فدفعه إلى بونة على عساكرها. واضطرمت نار الفتنة بين أبي الليل بن حمزة
وأخيه خالد، وكاد شملهم أن يتصدع. وبينما هم يحشون نار الحرب ويجمعون الجموع والأحزاب إذ قدم كبيرهم عمر، وأبو محمد عبد الله بن تافراكين من حجهم. وكان ابن تافراكين لمّا احتل بالإسكندرية بعث السلطان أبو الحسن فيه إلى أهل المشرق، وخاطب ملوك مصر في التحكيم فيه فأجاره عليه الأمير المستبد على الدولة حينئذ بيقاروس، وخرج من مصر لقضاء فرضه، وخرج عامئذ عمر بن حمزة لقضاء فريضة الحج أيضاً فاجتمعا في مشاهد الحج آخر سنة خمسين وسبعمائة، وتعاقدا على الرجوع إلى أفريقية والتظاهر على أمرهما وقفلا فألقيا خالداً وفتيتة على الصفين، فأشار عمر بن داية فاجتمعا وتواقفا ومسح الاحن من صدورهما، وتواطأوا جميعاً على المكر بالسلطان، وبعث إليه وليه قتيبة بالمراجعة فقبله واتفقوا على أن يقلد حجابته أبا محمد بن تافراكين حاجب أبيه وكبير دولته، ويديل به من ابن عتو فأبى. ثم أصبحت ونزلت أحياؤهم ظاهر البلد، واستحثوا السلطان للخروج إليهم ليكملواعقد ذلك معه فخرج ووقف بساحة البلد إلى أن أحاطوا به، ثم اقتادوه إلى بيوتهم وأذنوا لابن تافراكين في دخول البلد فدخلها لإحدى عشرة من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وعمد إلى دار المولى أبي إسحق إبراهيم ابن معولانا السلطان أبي بكر فاستخرجه بعد أن بذل لأمه من العهود والمواثيق ما رضيته، وجاء به إلى القصر وأقعده على كرسي الخلافة، وبايع له الناس خاصة وعامّة وهو يومئذ غلام مناهز فانعقدت بيعته. ودخل بنو كعب فأتوه طاعتهم، وسيق إليه أخوه الفضل ليلتئذ فاعتقله، وغط من جوف الليل بمحبسه حتى فاض. ولاذ حاجبه أبو القاسم بن عتو يومئذ بالاختفاء في غيابات البلد وعثر عليه لليال فامتحن وهلك في امتحانه، وخوطب العمال في الجهات بأخذ البيعة على من قبلهم فبعثوا به. واستقام ابن يملول صاحب توزر على الطاعة وبعث بالجباية والهدية واتبعه صاحب نفطة وصاحب قفصة وخالفهم ابن مكي وذهب إلى الأجلاب على ابن تافراكين لما كان قد كفل السلطان وحجره عن التصرف في أمره واستبد عليه إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
الخبر عن حركة صاحب قسنطينة إلى تونس وما كان من حجابة أبي العباس بن مكيّ وتصاريف ذلك:
لما استولى أبو محمد بن تافراكين على تونس، وبايع للمولى أبي إسحق بالخلافة واستبد عليه نقم عليه الأمراء شأن استبداده وشمر ابن مكيّ للسعي عليه بمنافسة كانت بينهما قديمة من لدن أيام السلطان أبي بكر. واستعان على ذلك بأولاد مهلهل مقاسمي أولاد أبي الليل في رياسة الكعوب ومجاذبيهم حبل الأمارة. فلما رأوا صاغية بن تافراكين إلى أولاد أبي الليل أقتالهم أجمعوا له ولهم، وحالفوا بني حكيم من قبائل علاق، وأجلبوا على الضواحي وشنوا الغارات. ثم وفدوا على الأمير أبي زيد صاحب قسنطينة وأعمالها يستحثوهم للنهوض إلى أفريقية واستخلاص ملك آبائه ممن استبد عليه واحتازه، فسرح معه عسكرين لنظر ميمون ومنصور الجاهل من مواليه وموالي أبيه وارتحلوا من قسنطينة. وارتحل معهم يعقوب بن علي كبير الزواودة بمن معه من قومه. وسرح أبو محمد بن تافراكين من الحضرة للقائهم عسكراً مع أبي الليل بن حمزة لنظر مقاتل من موالي السلطان، والتقى الجمعان ببلاد هوارة سنة إثنتين وخمسين وسبعمائة فكانت الدبرة على أولاد أبي الليل.
وقتل يومئذ أبو الليل فتيتة بن حمزة بيد يعقوب بن سحيم من أولاد القوس شيوخ
بني حكيم، ورجع فلهم إلى تونس فامتدت أيدي أولاد مهلهل وعساكر قسنطينة في البلاد وجبوا الأموال من أوطان هوارة، وانتهوا إلى أبه. ثم قفلوا راجعين إلى قسنطينة. وولي على أولاد أبي الليل مكان فتيتة أخوه خالد بن حمزة وقام بأمرهم. وكان أبو العباس بن مكيّ أثناء ذلك يكاتب المولى أبا زيد صاحب قسنطينة من مكان ولايته بقابس، ويعده من نفسه الوفادة والمدد بالمال والأحزاب والقيام باعطيات العرب، حتى إذا انصرم فصل الشتاء وفد عليه مع أولاد مهلهل فلقاه مبرة وتكريماً. وعقد له على حجابته وجمع عساكره وجهز آلته وأزاح علل تابعه، ورحل من قسنطينة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة من صفر، وجهز أبو محمد بن
تافراكين سلطانه أبا إسحق بما يحتاج إليه من العساكر والالة، وجعل على حربه ابنه أبا عبد الله محمد بن نزار من طبقة الفقهاء ومشيخة الكتاب، كان يعلم أبناء السلطان الكتاب ويقرئهم القرآن كما قدّمناه، وفصل من تونس في التعبية حتى تراءى الجمعان كرّمحمد وتزاحفوا فاختل مصاف السلطان أبي إسحق، وافترقت جموعه وولّوا منهزمين. واتبعهم القوم عشية يومهم، ولحق السلطان بحاجبه جبي محمد بن تافراكين بتونس وجاءوا على أثره فنازلوا تونس أياماً وطالت عليها الحرب. ثم امتنعت عليهم وارتحلوا إلى القيروان، ثم إلى قفصة، وبلغهم أن ملك المغرب الأقصى السلطان أبا عنان بعد استيلائه على المغرب الأوسط زحف إلى التخوم الشرقية وانتهى إلى المرية. وكان صاحب بجاية أبو عبد الله قد خالفهم إلى قسنطينة بمداخلة أبي محمد بن تافراكين واستجاشته. ونازل جهات قسنطينة وانتسف زروعها وشن الغارات في بسائطها فبلغه أنه رجع إلى بجاية منكمشاً من زحف بني مرين، واعتزم الأمير أبو زيد على مبادرة ثغره ودار إمارته قسنطينة. ورغب إليه أبو العباس بن مكيّ من أولاد مهلهل أن يخلف بينهم من إخوانه من يجتمعون إليه ويزاحفون به، فولى عليهم أخاه أبا العباس فبايعوه، وأقام فيهم هو وشقيقه أبو يحيى زكريا إلى أن كان من شأنه ما نذكر، وانصرف الأمير أبو زيد عند ذلك من قفصه يغذّ السير إلى قسنطينة واحتل بها في جمادى من سنته والله تعالى أعلم.
الخبر عن وفادة صاحب بجاية علي ابي عنان واستيلائه عليه وعلي بلده ومطالبته قسنطينة: كان بين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية وبين الأمير أبي عنّان أيام أمارته بتلمسان، ونزول الأعياص الحفصيّين بندرومة ووجدة أيام أبيه كما ذكرناه اتصال ومخالصة، أحكمها بينهما نسب الشباب والملك وسابقة الصهر: فكان للأمير أبي عبد الله من أجل ذلك صاغية إلى بني مرين أوجد بها السبيل على ملكه. ولما مر به السلطان أبو الحسن في أسطوله عند ارتحاله من تونس كما قدّمناه أمر أهل سواحله بمنعه الماء والأقوات من سائر جهاتها رعياً للذمة التي اعتقدها مع الأمير أبي عنان في شأنه وجنوحاً إلى تشييد سلطانه. ولما أوقع السلطان أبو عنان ببني عبد الواد سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة واستولى على المغرب الأوسط ونجا فلهم إلى بجاية، أوعز إلى الأمير أبي
عبد الله باعتراضهم في جهاته والتقبّض عليهم فأجابه إلى ذلك، وبعث العيون بالمراصد فعثروا في ضواحي بجاية على محمد ابن سلطانهم أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن، وعلى أخيه أبي ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن، وعلى وزيرهم يحيى بن داود بن مكن فأوثقوهم اعتقالاً، وبعث بهم إلى السلطان أبي عنان.
ثم جاء على أثرهم فتلقاه بالقبول والتكرمة وأنزله بأحسن نزل. ثم دس إليه من أغراه بالنزول له عن بجاية رغبه فيما عند السلطان إزاء ذلك من التجلة والإدالة منها بمكناسة المغرب، والراحة من زبون الجند والبطانة، وإخفافا مما سواه إن لم يتعهده فأجاب إليه على اليأس والكره، وشهد مجلس السلطان في بني مرين بالرغبة في ذلك فأسعف وأسنيت جائزته، وأقطعت له مكناسة من أعمال المغرب. ثم انتزعها لأيام قلائل ونقله في جملته إلى المغرب، وبعث الأمير أبو عبد الله مولاه فارحاً المستبد كان عليه ليأتيه بأهله وولده وعقد أبو عنان على بجاية لعمر بن علي ابن الوزير من بني واطاس، وهم ينتسبون بزعمهم إلى علي بن يوسف أمير لمتونة فاختصه أبو عنان بولايتها لمتات هذا النسب الصنهاجي بينه وبين أهل وطنها منهم. وانصرفوا جميعاً من المرية. ولما احتلوا بجاية تآمر أولياء الدعوة الحفصية بها من صنهاجة والموالي وتمشت رجالاتهم في قتل عمر بن علي الوزير وأشياع بني مرين، وتصدى لذلك زعيم صنهاجة منصور بن إبراهيم بن الحاج في رجالات من قومه بإملاء فارح كما زعموا. وغدوا عليه بداره من القصبة، فأكب عليه منصور يناجيه فطعنه وطعن آخر منهم القاضي ابن فركان بما كان شيعة لبني مرين. ثم أجهزوا على عمر بن علي، ومضى القاضي إلى داره فمات. واتصلت الهيعة بفارح فركب إليها وهتف الهاتف بدعوة صاحب قسنطينة محمد بن أبي زيد، وطيروا إليه بالخبر واستحثوه للقدوم. وأقاموا على ذلك أياماً. ثم تآمر الملأ من أهل بجاية في التمسك بدعوة صاحب المغرب خوفاً من بوادره فثاروا
بفارح وقتلوه أيام التشريق من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وبعثوا برأسه إلى السلطان بتلمسان. وتولى كبر ذلك هلال صاحبه من موالي ابن سيد الناس ومحمد ابى الحاجب أبي عبد الله بن سيّد الناس ومشيخة البلد، واستقدموا العامل بتولس من بني مرين وهو لحيى بن عمر بن عد المؤمن من بني ونكاسن فبادر إليهم. وسرح السلطان أبو عنان إليها حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبى عمرو في الكتائب فدخلها فاتح سنة أربع وخمسين وسبعمائة. وذهبت صنهاجة في كل وجه فلحق كبراؤهم وذوو الفعلة منهم بثونى، وتقبض على هلال مولى ابن سيد الناس لما داخلته فيه من الظنة، وعلى القاضى محمد بن عمر لما كان شيعة لفارح، وعلى عرفاء الغوغاء من أهل المدينة وأشخصهم معتقلين إلى المغرب. وصوف نظره إلى تمهيد الوطن، واستدعى كراء العرس وأهل النواحي وأعمال بجاية وقسنطينة.
ووفد عليه يوسف بن مزني صاحب الزاب ومشيخة الزواودة فاسترهن أبناءهم على الطاعة، وقفل بهم إلى المغرب. واستعمل أبو عنّان على بجاية موسى بن إبراهيم البرنيانى من طبقة الوزراء وبعثه إليها. ولما وفدوا على السلطان جلس لهم جلوساً فخماً ووصلوا إليه ولقاهم لكرمة ومبرمة، وأوسعهم حباءً وإقطاعاً، وأنفذ لهم الصكوك والسجلات، وأخذ على طاعتهم العهود والمواثيق والرهن وانقلبوا إلى أهلهم. وعقد لحاجه أبي عمرو على بجاية وأعمالها وعلى حرب قسنطينة من ورائها، ورجعه إليها فدخلها في رجب من سنته. وأوعز السلطان إلى موسى بن إبراهيم بالولاية على سدويكش والنزول ببني ياورار فى كتيبة جهرها هنالك لمضايقة قسنطينة وجباية وطنها، وكل ذلك لنظر الحاجب ببجاية وكان بقسنطينة أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن معتقلأ من لدن واقعة بني مرين بها. وكان موسوساً في عقله معروفاً بالجنون عند قومه. وكان الأمراء بقسنطينة قله أسنوا جرايته في اعتاقاله وأوله من المحبرة والحفاوة كفاء نفسه. فلما زحفت كتائب بني مرين إلى بنى ياورار آخر عمر بجاية وأذنوا قسنطينة ومن بها بالحرب والحصار نصب المولى أبو زيد هذا الموسوس أبا عمر ليجأجىء به رجالات بني مرين أهل العسكر ببجاية وبني ياورار وجهز له الآلة وتسامعوا بدلك فنزع إليهم الكثير منهم. وخرج نبيل حاجب الأمير أبي زيد إلى أهل صنهاجة من بونة
ومن كان على دعوته من سدويكش والزواودة فجمعهم وزحفوا جميعاً إلى وطن بجايه، واتصل الخبر بالحاجب ببجاية فبعث في الزواودة من
مشاتيهم بالصحراء فأقبلوا إليه حتى نزلوا التلول. ووفد عليه أبو دينار بن علي بن أحمد واستحثه للحركة على قسنطينة فاعترض عساكره وأزاح عللهم، وخرج من بجاية في ربيع من سنة خمسين وسبعمائة فكر أبو عمر ومن معه راجعين إلى قسنطينة. وزحف الحاجب فيمن معه من بني مرين والزواودة وسدويكش، ولقيهم نبيل الحاجب بمن معه فكانت عليه الدبرة واكتسحت أموال بونة، ورجع ابن أبي عمر وعساكره إلى قسنطينة فأناخ عليها سبعاً. ثم ارتحل عنها إلى ميلة وعقد يعقوب بن علي بين الفريقش صلحأ على أن يمكنوه من أبي عمر الموسوس فبعثوا به إلى أخيه السلطان أبي عنان فأنزله ببعض الحجر، ورتب عليه الحرس. وسار الحاجب في نواحي أعماله، وانتهى إلى المسيلة واقتضى مغارمها، ثم انكفأ راجعاً إلى بجاية، وهلك فاتح ست وخمسين وسبعمائة. وعقد السلطان على بجاية وأعمالها بعده لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد من بني بابان وسرحه إليها فدخلها، وزحف إلى قسنطينة فحاصرها وامتنعت عليه فرجع إلى بجاية. ثم زحف من العام المقبل سنة سبع وخمسين وسبعمائة كذلك، ونصب عليها المجانيق فامتنعت عليه ورجف في معسكره بموت السلطان فانفضوا وأحرق مجانيقه. ورجع إلى بجاية وجمر الكتائب ببني ياورار لنظر موسى بن إبراهيم اليرنياني عامل سدويكش إلى أن كان من الإيقاع به وبعسكره ما نذكره إن شاء الله تعالى. والله أعلم. الخبر عن حادثة طرابلس واستيلاء النصارى عليها ثم رجوعها إلي ابن مكي: كانت طرابلس هذه ثغراً منذ الدول القديمة وكانت لهم عناية بحمايتها لما كان وضعها في البسيط، وكانت ضواحيها قفراً من القبائل فكان النصارى أهل صقلية. كثيرأ ما يحدثون أنفسهم بملكها. وكان ميخائيل الأنطاكي صاحب أسطول رجّار قد تملكها
من أيدي بني حزروق من مغراوة آخر دولتهم ودولة صنهاجة كما ذكرنا. ثم رجعها ابن مطروح ودخلت في دعوة الموحدين ومرت عليها الأيام إلى أن استبد بها ابن ثابت ووليها من بعده ابنه في أعوام خمسين وسبعمائة منقطعاً عن الحضرة مقيماً رسم الدعوة. وكان تجار الجنويين يترددون إليها فاطلعوا على عوراتها وائتمروا في غزوها واتعدوا لمرساها فوافوه سنة خمس وخمسين، وانتشروا بالبلد في حاجاتهم. ثم بيتوها ذات ليلة فصعدوا أسوارها وملكوها عليهم. وهتف هاتفهم بالحرب وقد لبسوا السلاح فارتاعوا وهبوا من مضاجعهم. فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همهم إلا النجاة بأنفسهم. ونجا ثابت بن عمر
مقدمهم إلى حلة الجواري أعراب وطنها من دباب إحدى بطون بني سليم، فقتل لدم كان أصابه منهم. ولحق إخوته بالإسكندرية، واستباحها النصارى. واحتملوا في سفنهم ما وجدوا بها من الخرثى والمتاع والعقائل والأسرى وأقاموا بها. وداخلهم أبو العباس بن مكي صاحب قابس في فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفاً من الذهب العين فبعث فيها لملك المغرب السلطان أبي عنان يطرفه بمثبوتها. ثم تعجلوا عليه فجمع ما عنده واستوهب ما بقي من أهل قابس والحافة وبلاد الجريد فجمعوها له حسبة ورغبة في الخبر. وأمكنه النصارى من طرابلس فملكها واستولى عليها، وأزال ما دنّسها من وضر الكفر. وبعث السلطان أبو عنان بالمال إليه، وأن يرد على الناس ما أعطوه وينفرد بمثوبتها وذكرها فامتنعوا إلا قليلأ منهم، ووضع المال عند ابن مكي لذلك، ولم يزل ابن مكي أميرأ عليها إلى أن هلك كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى. الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أمير المؤمنين ومفتتح أمره السعيدة بقسنطينة: كان الأمير أبو زيد قد ولي الأمر من بعد أبيه الأمير أبي عبد الله بولاية جدّه الخليفة أبي بكر، وكان إخوته جميعاً في جملته، ومنهم السلطان أبو العباس أمير المؤمنين لهذا
العهد، والمفرد بالدعوة الحفصيّة. وكان الناس من لدن مهلك أبيهم يرون أن الوراثة لهم، وأن الأمر فيهم، حتى لقد يحكى عن شيخ وقته الوليّ أبي هادي المشهور الذكر، وكان من أهل المكاشفة، أنه قال ذات يوم، وقد جاءوا لزيارته بأجمعهم على طريقتهم وسنن أسلافهم في التبرك بالأولياء فدعا لهم الشيخ ما شاء ثم قال: البركة إن شاء الله في هذه العشى، وأشار إلى الإخوة مجتمعين. وكان الحزى والمنجمون أيضا يخبرون بمثلها، ويحومون بظنونهم على أبي العباس من بينهم، لما يتفرّسون فيه من الشواهد والمخايل. فلما كان من منازلة أخيه أبي زيد لتونس سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ما قدمناه، ثم ارتحل عنها إلى قفصة وأراد الرجوع إلى قسنطينة للإرجاف بشأن السلطان أبي عنان وأنه زحف إلى آخر عمله من تخوم بجاية، رغب حينئذ إليه أولاد مهلهل أولياؤه من العرب وشيعته وحاجبه أبو العباس بن مكي صاحب عمل قابس وجربة أن يستعمل عليهم من إخوته من يقيم معه لمعاودة تونس بالحصار، فسرح أخاه مولانا أبا العباس فتخلّف معهم في ذلك، وفي جملته شقيقه أبو يحيى فأقاما بقابس.
وكان صاحب طرابلس محمد بن ثابت قد بعث أسطوله لحصار جربة فدخل الأمير أبو العباس بمن معه إلى الجزيرة، وخاضوا إليها البحر فأجفل عسكر ابن ثابت وأفرجوا عن الحصن. ثم رجع السلطان إلى قابس، وزحف العرب أولاد مهلهل معه إلى تونس وحاصروها أياماً فامتنعت عليهم. ورجع إلى أعمال الجريد وأوفد أخاه أبا يحيى زكريا على السلطان صريخاً سنة خمس وخمسين وسبعمائة فلقاه مبّرة ورحباً، وأسنى جائزته وأحسن وعده، وانكفأ راجعاً عنه إلى وطنه. ومر بالحاجب ابن أبي عمرو عند إفراجه عن قسنطينة، ولحق بأخيه بمكانه من قاصية أفريقية واتصلت أيديهما على طلب حقهما. وفي خلال ذلك فسد ما بين أبي محمد بن تافراكين صاحب الأمر بتونس وبين خالد بن حمزة كبير أولاد أبي الليل فعدل عنه إلى أقتاله أولاد مهلهل، واستدعاهم للمظاهرة فأقبلوا عليه. وتحيز خالد إلى السلطان أبي العباس وزحفوا إلى تونس فنازلوها سنة ست وخمسين وسبعمائة، وامتنعت عليهم فأفرجوا عنها، واستقدمه أخوه أبو زيد إثر ذلك لينصره من عساكر بني مرين عندما تكاثفوا عليه، وضاق به الحصار
فأجابه وقدم عليه بخالد وقومه، وخرج الأمير أبو زيد مع خالد إلى منازلة تونس.
واستخلف على قسنطينة أخاه أبا العباس فدخلها ونزل بقصور الملك منها، وأقام بها مدة وعساكر بني مرين قد ملأت عليه الضاحية فدعاه الأولياء إلى الاستبداد وأنه أبلغ في المدافعة والحماية لما كانوا يتوقعون من زحف العساكر إليهم من بجاية فأجاب وبويع سنة خمس وخمسين، وانعقد أمره. وزحف عبد الله بن علي صاحب بجاية إلى قسنطينة في سنته، وفي سنة سبع بعدها فحاصرها ونصب المجانيق. ثم أجفل آخرالإرجاف كما ذكرناه. وتنفس مخنق الحصار عن قسنطينة، وكان الأمير أبو زيد أخوه لما ذهب مع خالد إلى تونس ونازلها امتنعت عليه، ورجع وقد استبد أخوه بأمر قسنطينة فعدل إلى بونة وراسل أبا محمد بن تافراكين في سكنى الحضرة والنزول لهم عن بونة فأجابه ونزل عنها الأمير أبو زيد لعمه السلطان أبي إسحق، وتحول إلى تونس فأوسعوا له المنازل وأسنوا الجرايات والجوائز، وأقام في كفالة عمه إلى أن كان من أمره ما نذكره. الخبر عن واقعة موسي بن إبراهيم واستيلاء أبي عنان بعدها علي قسنطينة وما تخلل ذلك من الأحداث: لما استبد السلطان أبو العباس بالأمر وزحفت إليه عساكر بجاية، وبني مرين فأحسن دفاعها عن بلده. وتبين لأهل الضاحية مخايل الظهور فيه فداخله رجالات من سدويكش من أولاد المهدي بن يوسف في غزو موسى بن إبراهيم وكتائبه المجمرة ببني ياورار، ودعوا إلى ذلك ميمون بن عليّ بن أحمد وكان منحرفاً عن أخيه يعقوب ظهير بني مرين ومناصحهم فأجاب. وسرح السلطان أخاه أبا يحيى زكريا معهم بمن في جملته من العساكر وصبحوهم في غارة شعواء، فلما شارفوهم ركبوا إليهم فتقدموا قليلا ثم أحجموا واختلّ مصافّهم واحيط بهم، وأثخن ة ائد العساكر موسى بن إبراهيم بالجراحة واستلحم بنوه زيّان وأبو القاسم ومن إليهم، وكانوا اسود هياج وفرسان ملحمة
في آخرين من أمخالهم، وتتبعوا بالقتل والنهب إلى أن استبيحوا ونجا فلهم إلى بجاية ولحقوا بالسلطان أبي عنان. ولما بلغه الخبر قام في ركائبه وقعد، وفتح ديوان العطاء وبعث وزراءه للحشد في الجهات.
واعترض الجنود وأزاح العلل، وشكى له موسى بن إبراهيم بقعود عبد الله بن علي صاحب بجاية عن نصره فسخطه ونكبه وعقد مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود، وتلوم بعده أشهراً في تجهيز العساكر، وبعث السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى إلى تونس صريخاً لعمه السلطان أبي إسحق فأعجله الأمر عن الإياب إليه، وارتحل أبو عنان في عساكره. ثم بعث في مقدمته وزيره فارس بن ميمون بن ودرار، وزحف على أثره في ربيع سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وأغذ السير إلى قسنطينة وقد نازلها وزيره ابن ودرار قبله. فلما نزل بساحتها، وقد طبق الأرض الفضاء بجيوشه وعساكره وجم أهل البلد، وأدركهم الدهش فانفضوا وتسللوا إليه وتحيز السلطان أبو العباس إلى القصبة فامتنع بها حتى توثق لنفسه بالعهد. ثم نزل إليه فكفاه تكرمة ورحباً وبنى له الفساطيط في جواره. ثم بدا له في أيام قلائل فنقض عهده وأركبه السفن إلى المغرب، وأنزله بسبتة. وربت عليه الحرس، بعث خلال ذلك إلى بونة فدخلت في طاعته، وفر عنها عمال الحضرة. ولما استولى عقد على قسنطينة لمنصور بن خلوف شيخ بني يابان من قبائل بني مرين. ثم بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراكين في الأخذ بطاعته والنزولى عن تونس فردهم، وأخرج سلطانه المولى أبا إسحق مع أولاد أبي الليل ومن إليهم من العرب بعد أن جهز له العساكر وما يصلحه من الآلة والجند وأقام هو بتونس وأجمع أبو عنان النهوض إليه، ووفد إليه أولاد مهلهل يستحثونه لذلك فسرح معهم عسكراً في البر لنظر يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي كبير تيربيعين من قبائل. بني مرين وصاحب الشورى في مجلسه، وسرح عسكراً آخرا في أسطول لنظر محمد بن يوسف المعروف بالأبكم من بني الأحمر من الملوك بالأندلس لهذا العهد، فسبق الأسطول وصبحوا تونس وقاتلوها يوماً أو بعض يوم. واتيح لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين، ولحق بالمهدئة، واستولت عساكر بني مرين على تونس في رمضان سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وحقّ لهم الزهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين، ولحق يحيى بن رحو بعسكره فدخل البلد، وأمضى فيها أوامر السلطان. ثم دعاه أولاد مهلهل إلى الخروج لمباغتة أولاد أبي الليل وسلطانهم فخرج معهم لذلك، وأقام ابن الأحمر وأهل الأسطول بالبلد. وفي خلال ذلك جاهر يعقوب بن علي بالخلاف لما تبين من نكر السلطان أبي عنان وإرهاف حده للعرب، ومطالبتهم بالرهن، وقبض أيديهم عن الأتاوات ومسح أعطافه بالمدارات فلم يقبلها يعقوب بالرمل، وأتبعه السلطان فأعجزه فعدا على قصوره ومنازله بالتل والصحراء فخربها وانتسفها. ثم رجع إلى قسنطينة وارتحل منها يريد أفريقية، وقد نهض المولى أبو إسحق بمن معه من العرب للقائه، وانتهوا إلى فحص سبتة. ثم تمشت رجالات بني مرين وائتمروا في الرجوع عنه حذراً أن يصيبهم بأفريقية ما أصابهم من قبل فانفضوا متسللين إلى المغرب. ولما خف المعسكر من أهله أقصر عن القدوم على أفريقية فرجع إلى المغرب بمن بقي معه، واتع العرب آثاره، وبلغ الخبر إلى أبي محمد بن تافراكين بمكان منجاته من المهديّة فصار إلى تونس. ولما أطل عليها ثار أهل البلد بمن كان عندهم من عسكر بني مرين وعاملهم فنجوا إلى الأسطول، ودخل أبو محمد بن تافراكين إلى الحضرة وأعاد ما طمس من الدولة. ولحق به السلطان أبو إسحق بعد أن تقدم الأمير أبو زيد في عسكر الجنود والعرب لاتباع آثار بني مرين ومنازلة قسنطينة فأتبعه إلى تخوم عملهم ورجع أبو زيد إلى قسنطينة وقاتلها أياماً فامتنعت عليه فانكفأ راجعأ إلى الحضرة. ولم يزل مقيماً بها إلى أن هلك عفا الله عنه. وكان أخوه أبو يحيى زكريا قد لحق بتونس من قبل صريخاً كما قلناه، فلما بلغهم أن قسنطينة قد احيط بها تمسكوا به فلحق به الفل من مواليهم وصنائعهم فكانوا معه إلى أن يسر الله أسباب الخير والسعادة للمسلمين، وأعاد السلطان أبا العباس إلى الأمر من بعد مهلك أبي عنان كما نذكر، وما إيالته على الخلق فطلع على الرعايا بالعدل والأمان وشمول العافية والإحسان، وكف أيدي العدوان. ورتع الناس من دولته في ظل ظليل ومرعى جميل كما نذكره بعد إن شاء الله.
الخبر عن انتقاض الأمير أبي يحيي زكريا بالمهدية ودخوله في دعوة أبي عنان ثم نزوله عنها إلى الطاعة وتصاريف ذلك:
كان الحاجب أبو محمد عند رجوعه إلى الحضرة صرف عنايته إلى تحصين
المهديّة يعذها للدولة وزراً من حادث ما يتوقعه من المغرب وأهله، فشيّد من أسوارها وشحن بالأقوات والأسلحة مخازنها ومستودعاتها، وعقد عليها للأمير زكريا أخي السلطان أبي إسحق، وكان في كفالته وأنزله بها. وبعث على حجابته أحمد بن خلف
من أوليائه وذويه مستبداً عليه فقام على ذلك حولاً أو بعضها. ثم ضجر الأمير أبو يحيى زكريا من الاستبداد عليه، واستنكف من حجره في سلطانه فبيت أحمد بن خلف فقتله، وبعث عن أبي العباس أحمد بن مكي صاحب جربة وقابس ليقيم له رسم الحجابة بما كان مناوئاً لأبي محمد بن تافراكين فوصل إليه، وطيّروا بالخبر إلى السلطان أبي عنان صاحب المغرب وبعثوا إليه ببيعتهم واستحثوه لصريخهم. واضطراب أمرهم وسرح أبو محمد بن تافراكين إليها العسكر فأجفلوا أمامه، ولحق المولى أبو يحيى زكريا بقابس، واستولى عليها العسكر واستعمل عليها أبو محمد بن تافراكين محمد بن الجكجاك من ترابة ابن ثابت اصطنعه عندما وقعت الحادثة على طرابلس، ولحق به فاستعمله على المهدية. ولما وصل الخبر إلى أبي عنان بشأن المهدية جهز إليها الأسطول وشحنه بالمقاتلة والرجل وعين الوالي والخاصة فألفوها قد رجعت إلى إيالة الحضرة، ووصل إليها ابن الجكجاك وقام بها وحسن غناؤه فيها إلى أن كان من أمره ما نذكر.
وأقام الأمير زكريا بقابس، وأجلب به أبو العباس بن مكي على تونس. ثم بعثوه
بالزواودة ونزل على يعقوب بن علي وأصهر إليه في إبنة أخيه سعيد، فعقد له عليها. ولما استولى أخوه أبو إسحق على بجاية استعمله على سدويكش بعض الأعوام، ولم يزل بين الزواودة إلى أن هلك سنة ست وسبعين وسبعمائة كما نذكره بعد والله تعالى
أعلم.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحق علي بجاية وإعادة الدعوة الحفصية إليها:
لى لما رجع السلطان أبو عنّان من قسنطينة إلى المغرب أراح بسبتة، وسرح عساكره من العام المقبل إلى أفريقية لنظر وزيره سليمان بن داود فسار في نواحي قسنطينة ومعه ميمون بن علي بن أحمد أديل به من يعقوب على قومه من الزواودة، وعثمان بن يوسف بن سليمان شيخ أولاد سبّاع منهم. وحضر معه يوسف بن مزني عامل الزاب، أوعز إليه السلطان بذلك فدوخ الجهات وانتهى إلى آخر وطن بونة، واقتضى المغارم. ثم انكفأ راجعًا إلى المغرب. وهلك السلطان أبو عنّان إثر قفوله سنة تسع وخمسين وسبعمائة، واضطرب أمر المغرب. ثم استقام على طاعة أخيه السلطان أبي سالم كما نذكره، وكان أهل بجاية قد نقموا على عاملهم يحيى بن ميمون من بطانة السلطان أبي عنّان سوء ملكته وشدة سطوته وعسفه فداخلوا أبا محمد بن تافراكين على البعد في التوثب به، فجهز إليهم السلطان أبا إسحق بما يحتاج إليه من العساكر والآلة، ونهض من تونس ومعه إبنه أبو عبد الله على العساكر. وتلقاهم يعقوب بن علي وظاهرهم على أمرهم، وسار أخوه أبو دينار في جملتهم. ولما أطلوا على بجاية ثارت الغوغاء بيحيى بن ميمون العامل، كان عليهم منذ عهد السلطان أبي عنان فألقى بيده وتقبض عليه وعلى من كان من قومه، وأركبوا السفين إلى الحضرة، وأودعهم أبو محمد بن تافراكين سجونه تحت كرامة وجراية، إلى أن من عليهم من بعد ذلك وأطلقهم إلى المغرب. ودخل السلطان أبو إسحق إلى بجاية سنة إحدى وستين وسبعمائة، واستبد بها بعض الاستبداد وحاجبه وكافله أبو محمد يدبر أمره من الحضرة. ثم استقدم إبنه ونصب لوزارة السلطان أبا محمد عبد الواحد بن محمد من أكمازير من مشيخة الموحدين فكان يقيم لهم رسم الحجابة. وقام بأمر الرجل بالبلد من الغوغاء علي بن صالح من زعانفة بجاية وأوغادها، التص عليه الشرار والدعار وأصبحت له بهم شوكة كان له بها تغلب على الدولة، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن فتح جربة ودخولها في دعوة السلطان أبي إسحق صاحب الحضرة:
هذه الجزيرة جربة من جزر هذا البحر الذي يمر قريبا من قابس وإلى الشرق عنها
قليلاً، طولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلاً، وعرضها من ناحية المغرب عشرون ميلًا. ومن ناحية الشرق خمسة عشر ميلاً. وبينها وبين قرقنة في ناحية المغرب ستون ميلا، وشجرها التين والنخل والزيتون والعنب، واختصّت بالتفاح وعمل الصوف للباسهم يتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال، وغير المعلمة للّباس. وتجلب منها إلى الأقطار
فينتقيه الناس للباسهم. وأهلها من البربر من كتامة، وفيهم إلى الآن سدويكش وصدغيان من بطونهم، وفيهم أيضا من نفزة وهوارة وسائر شعوب البربر. وكانوا قديماً على رأي الخوارج وبقي بها إلى الآن فريقان منهم: الوهبية وهم بالناحية الغربية، ورياستهم ببني سمومن، والنكارة وهم بالناحية الشرقية. وجربة فاصلة بينهما. والظهور والرياسة على الكل لبني سمومن. وكان فتحها أول الإسلام على يد رويفع بن ثابت بن سكن بن عدي بن حارثة من بني ملك بن النجار من الأنصار من جند مصر، ولاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فغزا أفريقية وفتح جربة سنة سبع وسبعين بعدها، وشهد الفتح حنش بن عبد الله الصنعاني ورجع إلى برقة فمات بها. ولم تزل في ملكة المسلمين إلى أن دخل دين الخوارج إلى البربر فأخذوا به. ولما كان شأن أبي يزيد سنة إحدى وثلاثين وثلثماية فأخذوا بدعوته بعد أن دخلوها عنوة، وقتل مقدمها يومئذ ابن كلدين وصلبه. ثم استردها المنصور إسماعيل، وقتل أصحاب أبي يزيد. ولما غلبت العرب صنهاجة على الضواحي وصارت لهم أخذ أهل جربة في إنشاء الأساطيل وغزو السواحل. ثم غزاهم علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس سنة تسع وخمسمائة
بأساطيله إلى أن انقادوا وضمنوا قطع الفساد وصلح الحال. ثم تغلب النصارى عليها سنة تسع وعشرين وخمسمائة عند تغلبهم على سواحل أفريقية. ثم ثار أهلها عليهم وأخرجوهم سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ثم تغلبوا عليها ثانية وسبوا أهلها واستعملوا على الرعية وأهل الفلح. ثم عادت للمسلمين ولم تزل مترددة بين المسلمين والنصارى إلى أن غلب عليها الموحدون أيام عبد المؤمن، واستقام أمرها إلى أن استبد بنو أبي حفص بأفريقية. ثم افترق أمرهم بعد حين واستبد المولى أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحق بالناحية الغربية، وشغل صاحب الحضرة بشأنه كما قدمناه، فتغلب على هذه الجزيرة أهل صقلية سنة ثمان وثمانين وستمائة وبنوا بها حصن القشتيل مربع الشكل في كل ركن منه برج، وبين كل ركنين برج. ويجاوره حفير وسوران. وأهم المسلمين شأنها، ولم تزل عساكر الحضرة تتردد إليها قط تقدم إلى أن كان فتحها أيام السلطان أبي بكر على يد مخلوف بن الكماد من بطانته سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة واستضافها ابن مكي صاحب قابس إلى عمله فأضافها إليه، وعقد له عليها فصارت من عمله سائر أيام السلطان ومن بعده.
واتصلت الفتنة بين أبي محمد بن تافراكين وبين ابن مكي، وبعث الحاجب أبو محمد بن تافراكين عن أبيه أبي عبد الله، وكان في جملة السلطان ببجاية كما قلناه. ولما وصل إليه سرحه في العساكر لحصار جربة وكان أهلها قد نقموا على ابن مكي سيرته فيهم، ودشوا إلى أبي محمد بن تافراكين بذلك فسرح إليه إبنه في العساكر سنة ثلاث وستين وسبعمائة. وكان أحمد بن مكي غائباً بطرابلس قد نزلها منذ ملكها من أيدي النصارى وجعلها داراً لأمارته فنهض العسكر من الحضرة لنظر أبي عبد الله ابن الحاجب أبي محمد، ونهض الأسطول في البحر فنزلوا بالجزيرة وضايقوا القشتيل بالحصار إلى أن غلبوا عليه وملكوه، وأقاموا به دعوة صاحب الحضرة. واستعمل أبو عبد الله بن تافراكين كاتبة محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون، كان من صنائع الدولة منذ العهد، وكانت لأبيه قرابة من ابن عبد العزيز الحاجب يرقى بها إلى ولاية الأشغال بتونس مناهضاً لأبي القاسم بن طاهر الذي كان يتولاها يومئذ، فكان رديفه عليها إلى أن هلك ابن طاهر فاستبد هو بها منذ أيام الحاجب أبي محمد،
واتصل إبنه محمد هذا بخدمة ابن الحاجب، واختص بكتابته إلى أن استعمله على جربة عند استيلائه عليها هذه السنة، وانكفأ راجعاً إلى الحضرة فلم يزل محمد بن أبي العيون والياً عليها. ثم استبد بها على السلطان بعد مهلك الحاجب وفرار إبنه من السلطان إلى أن غلبه عليها السلطان أبو العباس سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما نذكره إن شاء الله.
الخبر عن عودة الأمراء من المغرب واستيلاء السلطان أبي العباس علي قسنطينة: لما هلك السلطان أبو عنان قام بأمره من بعده وزيره الحسن بن عمر، ونصب إبنه محمد السعيد للأمر كما نذكره في أخباره. وكان يضطغن للأمير أبي عبد الله صاحب بجاية فتقبض عليه لأول أمره واعتقله حذراً من وثوبه على عمله فيما زعم. وكان السلطان أبو العباس بسبتة منذ أنزله السلطان أبو عنان بها، ورتب عليه الحرس كما ذكرنا، فلما انتزى على الملك منصور بن سليمان من أعياص ملكهم، ونازل البلد الجديد دار الملك ودخل في طاعته سائر الممالك والأعمال بعث في السلطان أبي العباس واستدعاه من سبتة فنهض إليه. وانتهى في طريقه إلى طنجة. ووافق ذلك إجازة السلطان أبي سالم من الأندلس لطلب ملكه. وكان أول ما استولى عليه من أعمال المغرب طنجة وسبتة فاتصل به السلطان أبو العباس وظاهره على أمره إلى أن نزع إليه قبيلة بنو مرين عن منصور بن سليمان المنتزي على ملكهم فاستوسق أمره واستتب سلطانه به، ودخل فاس. وسرح لأمير أبا عبد الله من اعتقال الحسن بن عمر كما قدمناه. ورعى للسلطان أبي العباس ذمة سوابقه القديمة والحادثة فرفع مجلسه وأسنى جرايته، ووعده بالمظاهرة على أمره، واستقروا جميعاً في إيالته إلى أن كان من تغلب السلطان أبي سالم على تلمسان والمغرب لأوسط ما ذكره في أخبارهم. واتصل به ثورة أهل بجاية بعاملهم يحيى بن ميمون و رجالات قبيلهم فامتعض لذلك. وحين قفل إلى المغرب نفض يده من الأعمال الشرقية. ونزل للسلطان أبي
العباس عن قسنطينة دار إمارته ومثوى عزه ومنبت ملكه فأوعز إلى عاملها منصور بن خلوف بالنزول له عنها، وسرحه إليها، وسرح معه الأمير أبا عبد الله ابن عمه لطلب حقه في بجاية والأجلاب على عمه السلطان أبي إسحق جزاء لمال نال من بني مرين عند افتتاحها من المعرة. وارتحلوا من تلمسان في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة وأغذوا السير إلى مواطنهم. فأما السلطان أبو العباس فوقف منصور بن مخلوف عامل البلد علي خطاب سلطانه بالنزور عن قسنطينة فنزل وأسلمها إليه، وأمكنه منها فدخلها شهر رمضان سنة إحدى وستين وسبعمائة، واقتعد سرير ملكه منها وتباشرت بعودته مقاصر قصورها فكانت مبدأ سلطانه ومظهراً لسعادته ومطلعاً لدولته على ما نذكر بعد. وأما الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية فلحق بأول وطنها، واجتمع إليه أولاد سباع أهل ضاحيتها وقفرها من الزواودة . ثم زحف إليها أياماً وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بنى ياورار ، واستخدم أولاد محمد بن يوسف والعزيزين أهل ضاحيتها من سدويكش ثم نزعوا عنه إلى خدمة عمه ببجاية فخرج إلى القفر مع الزواودة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن وصول الأخ الأمير أبي يحيي زكريا من تونس وافتتاحه بونة واستيلائه عليها: كان الأمير أبو يحيى زكريا منذ بعثه أخوه أبو العباس إلى عمهما السلطان أبي إسحق صريخاً لهم لم يزل مقيماً بتونس، وبلغه استيلاء السلطان أبي عنان على قسنطينة فخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته، وتوقع زحفه إليه وغلبه إياه على الأمر. ورأى أن يحصر جناحه في أخيه، ويتوثق به فاعتقله بالقصبة تحت كرامة ورعي. وبعث فيه السلطان أبو الحسن بعد مراوضة في السلم فأطلقه وانعقد بينهما السلم. ولما وصل الأمير أبو يحيى إلى أخيه بقسنطينة عقد له عن العساكر،
وزحف إلى بونة فملكها سنة إثنتين وستين وسبعمائة، وعقد له عليها وأنزله بها مع العساكر وأصارها نجماً لعمله واستمرت حالها على ذلك
إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن استيلاء الأمير أبي عبد الله علي بجاية ثم على تدلس بعدها: لما قدم السلطان أبو عبد الله من المعرب، ونازل بجاية فامتنعت عليه خرج إلى أحياء العرب كما قدمناه ولزم صحابته أولاد يحيى بن علي بن سباع بعد توالي الوفاء بها. وأقام بين ظهرانيهم وفي حللهم متعهداً في طلب بجاية برحلة الشتاء والصيف، وتكفلوا نفقة عياله ومؤنة حشمه وأنزلوه بتلك المسيلة من أوطانهم وتجافوا له عن جبايتهم وأقام على ذلك سنين خمساًَ ينازل بجاية في كل سنة منها مراراً. وتحول في السنة الخامسة عنهم إلى أولاد علي بن أحمد، ونزل على يعقوب بن علي فأسكنه بمقرة من بلاده إلى أن بدا لعمه المولى أبي إسحق رأيه في اللحاق بتونس لما توقع من مهلك حاجبه وكافله أبي محمد بن تافراكين، أسره إليه بعض الجند فحذره مغبته، ووقع من ذلك في نفوس أهل بجاية انحراف عنه وحرج أمرهم وراسلوا أميرهم الأقدم أبا عبد الله من مكانه بمقرة. وظاهره على ذلك يعقوب بن علي وأخذ له العهد على رجالات سدويكش أهل الضاحية، وارتحلوا معه إلى بجاية ونازلها أياماً. ثم استيقن الغوغاء اعتزام سلطانهم على التقويض عنهم، وسئموا ملكة علي بن صالح الذي كان عريفاً عليهم فثاروا به ونبذوا عهده، وانفضوا من حوله إلى الأمير أبي عبد الله بالحرسّة من ساحة البلد. ثم قادوا إليه عضه أبا إسحق فمن عليه وخلى سبيله إلى حضرته فلحق بها واستولى أبو عبد الله على بجاية محل أمارته في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وتقبض على عليّ بن صالح ومن معه من عرفاء الغوغاء أهل الفتنة فاستصفى أموالهم، ثم أمضى حكم الله في قتلهم. ثم نهض إلى تدلس
لشهرين من ملكه بجاية فغلب عليها عمر بن موسى عامل بني عبد الواد، ومن أعياص قبيلهم وتملكها في آخر سنة خمس وستين وسبعمائة. وبعث عني من الأندلس كنت مقيماً بها نزيلاً عند السلطان أبي عبد الله بن أبي الحاج بن الأحمر في سبيل اغتراب ومطاوعة تقلب منذ مهلك السلطان أبي سالم الجاذب بضبعي إلى تنويهه، والراقي بي في خطط كتابته من ترسيل وتوقيع ونظر في المظالم وغيرها. فلما استدعاني هذا الأمير أبو عبد الله بادرت إلى امتثاله { ولو شاء ربّك ما فعلوه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير}[الأية…..] فأجزت البحر شهر جمادى من سنة ست وخمسين وسبعمائة، وقلدني حجابته ودفع إلي أمور مملكته، وتمت
في ذلك المقام المحمود إلى أن أذن الله بانقراض أمره وانقطاع دولته، ولله الخلق والأمر وبيده تصاريف الأمور. الخبو عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده كان السلطان أبو إسحق آخر دولته ببجاية قد تحيّن مهلك حاجبه المستبد عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صناعة التنجيم يحدثونه بذلك، فأجمع الرحلة إليها، وانفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما قدمناه. واستولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة. وتلقاه أبو محمد بن تافراكين، ورآه مرهف الحد للاستبداد الذي لفه ببجاية فكايله بصاع الوفاق، وصارفه نقد المصانعة، وازدلف بأنواع القربات. وقاد إليه الجنائب ومنحه من الذخائر والأموال، وتجافى له عن النظر في الجباية. ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد له عليها وأعرس السلطان بها. ثم كان مهلكه عقب ذلك سنة ست وستين وسبعمائة فوجم السلطان لنعيه وشهد جنازته حتى وضع بملحده من المدرسة التي اختطها لقراءة العلم إزاء داره جوفي المدينة. وقام على قبره باكيا وحاشيته يتناولون التراب حثيا على جثده فغرب في الوفاء معه بما تحدث به الناس، واستبد من بعده بأمره وأقام سلطانه لنفسه. وكان أبو عبد الله الحاجب ابن أبي محمد غائبا عن الحضرة. خرج منها بالعسكر للجباية والتمهيد، فلما بلغه خبر مهلك أبيه داخلته الظنة وأوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة، وارتحل مع حكيم من بني سليم، وعرض نفسه على معاقل أفريقية التي كان يظن أنها خالصة لهم. فصده محمد بن أبي العيون كاتبه عن جربة، فحمد بن الحكم صنيعه وطاف بهم على المهدية. وبعث إليه السلطان بما رضيه من الأمان فأصحب بعد النفور وبادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبر والترحيب، وقلده حجابته وأنزله على مراتب العز والتنويه والشرف ونكر هو مباشرة السلطان للناس ورفعه للحجاب، ولم يرضه لما ألف من الاستبداد منذ عهد أبيه فأظلم الجو بينه وبين السلطان، ودبت عقارب السعاية لمهاده الوثير فتنكر وخرج من تونس ولحق بقسنطينة ، ونزل بها على السلطان أبي العباس مرغبا له في ملك تونس ومستحثا فأنزله خير نزيل ووعده بالنهوض معه إلى أفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه وبين ابن عمه صاحبها من الفتنة كما نذكره بعد. واستبد السلطان أبو إسحاق بعد مفر ابن تافراكين عنه، ونظر في أعطاف ملكه،
وعقد على حجابته لأحمد بن إبراهيم اليالفي مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمال، وعلى العساكر والحرب لمولاه منصور سريحه من المعلوجي، ورفع الحاجب بينه وبين رجال دولته وصنائع ملكه حتى باشر جباة الخراج وعرفاء الحشم، وأوصلهم إلى نفسه وألغى الوسائط بينهم وبينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبو عن استيلاء السلطان أبي العباس علي بجاية وملك صاحبها ابن عمه: لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية واستقل بإمارتها تنكر للرعية وساءت سيرته فيهم بإرهاف الحد للكافة وإسخاط الخاصة، فنغلت الصدور ومرضت القلوب واستحكمت النفرة، وتوجهت الصاغية إلى ابن عمه السلطان أبي العباس بقسطنية لما كان استفسد منه وأعلن بلذته وأقوم على سلطانه. وكانت بينهم فتنة وحروب جرتها المنافسة في تخوم العمالتين منذ عهد الآباء. وكان السلطان أبو العباس أيام نزوله على السلطان أبي سالم محمود السيرة والخلال مستقيم الطريقة في مثوى اغترابه. وربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرضة لصاحبها للملامة وستثقل نصيحته. وشغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى الفتنة فتنبه، وشفر عزائمه لها فكان مغلبا فيها. واعتلق منه يعقوب بن علي بذمة في المظاهرة على السلطان أبي العباس فلم يغن عنه، وراجع يعقوب سلطانه. ثم جهز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسطنطينة ففضها أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر، وتراجع العرب من أولاد سباع بن يحيى وجمع هو أولاد محمد وزحف فيهم وفي عسكر من زناتة، والتقى الفريقان بناحية سطيف فاختل مصاف أهل بجاية وانهزموا، واتبعهم السلطان أبو العباس إلى تاكرارت وجال في عمله ووطىء نواحي وطنه، وقفل إلى بلده. ودخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية وقد استحكمت النفرة بينه وبين أهل بلده فدسوا إلى السلطان أبي العباس بقسطنطينة بالقدوم عليهم، فوعدهم من العام القابل وزحف سنة سبع وستين في عساكره وشيعته من الدواودة أولاد محمد، وانضوى إليه أولاد سباع شيعة بجاية بالجوار والسابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم. وعسكر الأمير أبو عبد الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء، وأقام بها يرجو مدافعة ابن عمه بالصلح فبيته
السلطان بمعسكره من لبزو، وصبحه في غارة شعواء فانفض جمعه، واحيط به وانتهب المعسكر ومر إلى بجاية فأدرك في بعض الطريق وتقبض عليه، وقتل قعصا بالرماح. وأغذ السلطان أبو العباس السير إلى بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع وستين، وكنت بالبلد مقيما فخرجت إليه في الملأ، وتلقاني بالمبرة والتنويه. وأشار إلي بالاصطناع واستوسق له ملك جده الأمير أبي زكريا الأوسط في الغور العربية، وأقمت في خدمته بعض شهر. ثم توخمت الحنقة في نفسي وأذنته في الانطلاق فأذن لي تكرما وفضلا وسعة صدر ورحمة، ونزلت على يعقوب بن علي. ثم تحولت عنه إلى بسكرة ونزلت على ابن مزني إلى أن صفا الجو، واستقبلت من أمري ما استدبرت، واستأذنته لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه في خبر طويل نقصه من شأني فاذن لي، وقدمت عليه فقابلتني وجوه عنايته، وأشرقت علي أشعة بجعته كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن زحف أبي حمو وبني عبد الواد إلى بجاية ونكبتهم عليها وفتح تدلس من أيديهم بعدها: كان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية لما اشتدت الفتنة بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس مع ما كان بينه وبين بني عبد الواد من الفتنة عند غلبه إياهم على تدلس، يكابد عن حمل العداوة من الجانبين وصغى إلى مهادنة بني عبد الواد فنزل لهم عن تدلس، وأمكن منها قائد العسكر المحاصر لها. وأوفد رسله على سلطانهم أبي حمو بتلمسان، وأصهر إليه أبو حمو في ابنته فعقد له عليها وزفها إليه بجهاز أمثالها. فلما غلبه السلطان أبو العباس على بجاية، وهلك في مجال حربه أشاع أبو حمو الامتعاض له لمكان الصهر، وجعلها ذريعة إلى الحركة على بجاية. وزحف من تلمسان يجر الشوك والمدد في آلاف من قومه وطبقات العسكر والجند. وتراجع العرب حتى انتهى إلى وطن حمزة فأجفل أمامه أبو الليل بن موسى بن زغلي في قومه بني يزيد، وتحصنوا في جبال زواوة المطّلة على وطن حمزة. وبعث إليه رسله لاقتضاء طاعته فأوثقهم كتافاً ، وكان فيهم يحيى حامد أبي محمد صالح نزع من السلطان أبي العباس إلى أبي حمو، وكان عيناً علي غرات أبي الليل هذا بما بينهما من المربى والجوار في الوطن فجاء في وفد الرسالة عن أبي حمو فتقبض عليهم وعليه، فقتله وبعث برأسه إلى بجاية. وامتنع على أبي حمو وعساكره فأجلبوا على بجاية، ونزل معسكره بساحتها وقاتلها أياماً. وجمع الفعلة على الآلات للحصار. وكان السلطان أبو العباس بالبلد وعسكره مع مولاه بشير بتكرارت، ومعهم أبو زيان بن عثمان بن عبد الرحمن، وهو ابن عم أبي حمو من أعياص بيتهم، وكان من خبره أنه كان خرج من المغرب كما نذكره في أخباره. ونزل على السلطان أبي إسحق بالحضرة ورعى له أبو محمد
الحاجب حق بيته فأوسع في كرامته. ولما غلب الأمير أبو عد الله على تدلس بعث إليه من تونس ليوليه علمها، ويكون ردأء بينه وبين بني حمو ويتفرغ هو للأجلاب على وطن قسنطينة فبادر إلى الإجابة وخرج من تونس. ومر السلطان أبو العباس بمكانه من قسنطينة فصده عن سبيله واعتقله عنده مكرماً. فلما غلب على بجاية وبلغه الخبر بزحف أبي حمو أطلقه من اعتقاله ذلك، واستبلغ في تكرمته وحبائه، ونصبه للملك وجهز له بعض الآلة. وخرج في معسكر مولاه بشير ليجأجىء به بني عبد الواد عن ابن عمه أبي حمو لما سئموا من ملكته وعنفه.
وكان زغبة عرب المغرب الأوسط في معسكر أبي حمو، وكانوا حذرين مغبة أمر معهم فراسلوا أبا زيان وائتمروا بينهم في الأرجاف بالمعسكر. ثم تحينوا لذلك أن يشب الحرب بين أهل البلد وأهل المعسكر فأجفلوا خامس ذي الحجة، وانفض المعسكر وانتهوا إلى مضائق الطرقات بساح البلد فكظت بزحامهم وتراكموا عليها فهلك الكثير منهم، وخففوا من الأثقال والعيال والسلاح والكراع ما لا يحيط به الوصف. وأسلم أبو حمو عياله وأمواله فصارت نهباً واحتلبت حظاياه إلى السلطان فوهبها لابن عمه. ونجا أبو حمو بنفسه بعد أن طاح في كظيظ الزحام عن جواده فنزل له وزيره عمران بن موسى عن مركوبه فكان نجاؤه عليه، ولحق بالجزائر في الفل. ثم لحق منها بتلمسان واتبع أبو زيان أثره واضطرب المغرب الأوسط كما نذكره في أخباره. وخرج السلطان أبو العباس من بجاية على إثر هذه الواقعة فنازل تدلس وافتتحها وغلب عليها فن كان بها من عمال بني عبد الواد، وانتظمت الثغور الغربية كلها في ملكه كما كانت في ملك جذه الأمير أبي زكريا الأوسط حين قسم الدعوة الحفصية بها إلى أن كان ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن زحف العساكر إلى تونس: كان أبو عبدالله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لما نزع عن السلطان أبي إسحق
صاحب الحضرة لحق بحلل أولاد مهلهل من العرب ووفدوا جميعاً على السلطان أبي العباس فاتح سنة سبع وستين وسبعمائة يستحثونه إلى الحضرة ويرغبونه في ملكها فاعتذر لهم بما كان عليه من الفتنة مع ابن عمه صاحب بجاية. وزحف إليها في حركة الفتح. وصاروا في جملته فلما استكمل فتح بجارة سرح معهم أخاه المولى أبا يحيى زكريا في العساكر فصاروا معه إلى الحضرة، وابن تافراكين في جملته فنازلوها أياماً وامتنعت عليهم فأقلعوا على سلم ومهادنة انعقدت بين صاحب الحضرة وبينهم وقفل المولى أبو يحيى بعسكره إلى مكان عمله. ولحق ابن تافراكين بالسلطان فلم يزل في جملته إلى أن كان من فتح تونس ما نذكر.
الخبر عن مهلك السلطان أبي إسحق صاب الحضرة وولاية ابنه خالد من بعده: لم تزل حال السلطان أبي إسحق بالحضرة على ما ذكرناه، وتخلف في الفتنة والمهادنة مع السلطان أبي العباس طوراً بطور، واستخلص لدولته منصور أبي حمزة أمير بني كعب يستظهر به على أمره، ويستدفع برأيه وشوكته فخلص له سائر أيامه. وعقد سنة تسع وستين وسبعمائة لابنه خالد على عسكر لنظر محمد بن رافع من طبقات الجند من مغراوة مستبداً على إبنه. وسرحه مع منصور بن حمزة وقومه، وأوعز إليهم بتدويخ ضواحي بونة واكتساح نعمها وجباية ضواحيها فساروا إليها. وسرح الأمير أبو يحيى زكريا صاحب بونة عسكره مع أهل الضاحية فأغنوا في مدافعتهم وانقلبوا على أعقابهم فكان آخر العهد بظهورهم. ولما رجعوا إلى الحضرة تنكر السلطان لمحمد بن رافع قائد العسكر وخرج من الحضرة ولحق بقومه بمكانهم من لحقه من أعمال تونس. واستقدمه السلطان بعد أن استعتب له فلما قدم تقبض عليه وأودعه السجن. وعلى إثر ذلك كان مهلك السلطان فجاءة ليلة من سنة سبعين وسبعمائة بعد أن قضى وطراً من محادثة السمر، وغلبه النوم اخر ليله فنام، ولما أيقظه الخادم وجده ميتاً فاستحال السرور، وعظم الأسف وغلب على البطانة الدهش. ثم راجعوا بصائرهم ودفعوا الدهش عن أنفسهم وتلافوا أمرهم بالبيعة لإبنه الأمير أبي البقاء خالد فأخذها له على الناس مولاه منصور
المجلد السادس تاريخ ابن خلدون من صفحة 554 - النهاية سريحه من المعلوجي وحاجبه أحمد بن إبراهيم البالقي وحضر لها الموحدون والفقهاء والكافة. وانفض المجلس وقد انعقد أمره إلى جنازة أبيه حمى واروه التراب. واستبد منصور وابن البالقي على هذا الأمير المنصوب للأمر فلم يكن له تحكم عليهما. وكان أول ما افتتحا به أمرهما أن تقبضا على القاضي محمد بن خلف الله من طبقة الفقهاء، كان نزع إلى السلطان من بلده نفطة مغاضباً لمقدمها عد الله بن علي بن خلف، فرعى له نزوعه إليه واستعمله بخطة القضاء بتونس عند مهلك أبي علي عمر بن عبد الرفيع. ثم ولاه قيادة العساكر إلى بلاد الجريد وحربهم فكان فيه غناء، واستدفعوه مرات بجبايتهم يبعثون بها إلى السلطان، ومرات بمصانعة العرب على الأرجاف بمعسكره. وكان ابن البالقي يغص بمكانه من السلطان فلما استبد على ابنه أعظم فيه السعاية وتقبض عليه، وأودعه السجن مع محمد بن علي بن رافع. ثم بعث عليهما من داخلهما في الفرار من الاعتقال حتى دبّروه معه، وظهر على أمرهما فقتلهما في محبسهما خنقاً والله متولي الجزاء منه { وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون } ثم أظهر ابن البالقي من سوء سيرته في الناس وجوره عليهم وعسفه بهم وانتزاع أموالهم، لاهانة سبال الأشراف ببابه منهم ما نقموه، وضرعوا إلى الله في إنقاذهم من ملكته فكان ذلك على يد مولانا السلطان أبي العباس كما نذكر إن شاء الله تعالى. فتح تونس وبقية عمالات أفريقية الخبر عن فتح تونس واستيلاء السلطان عليها واستبداده بالدعوة الحفصية في سائر عمالات أفريقية وممالكها لما هلك السلطان أبو إسحق صاحب الحضرة سنة سبعين وسبعمائة كما قدمناه، وقام بالأمرمولاه منصور سريحه وحاجبه البالقي ونصبوا ابنه الأمير خالدا للأمر صبياً لم يناهز الحلم غراً فلم يحسنوا تدبير أمره ولا سياسة سلطانه، وأستخلصوا لوقتهم منصور بن حمزة أمير بني كعب المتغلبين على الضاحية بما أطمعوه بسوء تدبيرهم في شركته لهم في الأمر. ثم قلبوا له ظهر المجن فسخطهم ولحق بالسلطان أبي العباس وهو مطل عليهم بمرقبة من الثغور الغربية مستجمع للتوثب فاستحثه لملكهم وحرضه على تلافي أمرهم ورم ما تثلم من سياج دولتهم. وكان الأحق بالأمر لشرف نفسه وجلاله واستفحال ملكه وسلطانه، وشياع الحديث عن عدله ورفقه وحميد سيرته وأمان أهل مملكته من نظر يعقب نظره فيهم
أو استبداد سواه عليهم فأجاب صريخه وشحذ للنهوض عزمه. وكان أهل قسنطينة قد بعثوا بمثل ذلك فسرح إليهم أبا عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لاختبار طاعتهم وابتلاء دخلتهم فسار إليهم واقتضى بيعاتهم وطاعتهم، وسارع إليها يحيى بن يملول مقدم توزر والخلف بن الخلف مقدم نفطة فأتوها طواعية. وانقلب عنهم وقد أخذوا بدعوة السلطان وأقاموها. ثم خرج السلطان من بجاية في العسكر واغذ السير إلى المسيلة، وكان بها إبراهيم ابن عمه الأمير أبي زكريا الأخير جأجأ به أولاد سليمان بن علي من الزواودة من مثوى اغرابه بتلمسان، ونصبوه لطلب حقه في بجاية من بعد أخيه الأمير أبي عبد الله وكان ذلك بمداخلة أبي حمو صاحب تلمسان ومواعيد بالمظاهرة مخلفة. فلما انتهى السلطان إلى المسيلة نبذوا إلى إبراهيم عهده وتبرأوا منه، ورجعوه من حيث جاء، وانكفأ راجعأ إلى بجاية. ثم نهض منها إلى الحضرة وتلقته وفود أفريقية جميعاً بالطاعة، وانتهى إلى البلد فخيم بساحتها أياماً يغاديها القتال ويراوحمها. ثم كشف عن مصدوقته وزحف إلى أسوارها، وقد ترجل أخوه والكثير من بطانته وأوليائه فلم يقم لهم شيء حتى تسنموا الأسوار برياض رأس الطابية، فنزل عنها المقاتلة وفروا إلى داخل البلد. وخامر الناس الدهش وتبراوا بعضهم من بعض، وأهل الدولة في موكبهم وقوف بباب الغدر من أبواب القصبة. فلما رأوا أنهم أحيط بهم ولوا الأعقاب
وقصدوا باب الجزيرة فكسروا أقفاله. وثار أهل البلد جميعاً بهم فخلصوا سلطانهم من البلد بعد عصب الريق، ومضى الجند في أتباعهم فأدرك أحمد بن اليالقي فقتل وسيق رأسه إلى السلطان. وتقبض على الأمير خالد واعتقل ونجا العلج منصور سريحه برأس طمرة ولجام، وذهل عن القتال دون الأحبة.
ودخل السلطان القصر واقتعد أريكته، وانطلقت أيدي العيث في ديار أهل الدولة فاكتسحت بما كان الناس يضطغنون عليهم تحاملهم على الرعية واغتصاب أموالهم، فاضطرمت نار العيث في دورهم ومخلفهم فلم تكد أن تنطفىء، ولحق بعض أهل العافية معرات من ذلك لعموم النهب وشموله حتى أطفأه الله ببركة السلطان وجميل نيته وسعادة أمره. ولاذ الناس منه بالملك الرحيم والسلطان العادل، وتهافتوا عليه تهافت الفراش على الذبال يلثمون أطرافه، ويجأرون بالدعاء له ويتنافسون في التماح محياه إلى أن غشيهم الليل. ودخل السلطان قصوره وخلا بما ظفر من ملك آبائه، وبعث بالأمير خالد وأخيه في الأسطول إلى قسنطينة فعصفت بهما الريح وانخرقت السفينة وتقاذفت الأمواج إلى أن هلكا. واستبد السلطان بأمره، وعقد لأخيه الأمير أبي يحيى زكريا على حجابته. ورعى لابن تافراكين حق انحياشه إليه ونزوعه فجعله رديفاً لأخيه، واستمر الأمر عكى ذلك الى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتقاض منصور بن حمزة وأجلابه بالعم أبي يحيي زكريا علي الحضرة وما كان عقب ذلك من نكبة ابن تافراكين: كان منصور بن حمزة هذا أمير البدو من بني سليم بما كان سيد بني كعب. وكان
السلطان أبو إسحق يؤثره بمزيد العناية، وجعل له على قومه المزية. وكان بنو حمزة هؤلاء منذ غلبوا السلطان أبا الحسن على أفريقية وأزعجوه منها قد استطالت أيديهم عليها وتقاسموها أوزاعاً ، وأقطعهم أمراء الحضرة السهمان في جبايتها زيادة لما غلبوا عليه من ضواحيها وأمصالها، استئلافاً لهم على المظاهرة وإقامة الدعوة والحماية من أهل الثغور. الغربية فملكوا الأكثر منها، وضعف سهمان السلطان بينهم فيها. فلما استولى هذا السلطان أبو العباس على الحضرة واستبد بالدعوة الحفصية كبح أعنتهم عن التغلب والاستبداد وانتزع ما في أيديهم من الأمصار والعمالات التي كانت من قبل خالصة للسلطان. وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه فاحفظهم ذلك وأهمهم شأنه وتنكر منصور بن حمزة وقلب ظهر المجن ونزع يده من الطاعة وغمسها في الخلاف، وتابعه على خروجه على السلطان أبو صعنونة أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين شيخ حكيم. وارتحل بأحيائه إلى الزواودة صريخاً مستحيشاً بالأمير أبي يحيى ابن السلطان أبي بكر المقيم بين ظهرانيهم من لدن فعلته بالمهدية وانتزائه بها على أخيه المولى أبي إسحق كما ذكرنا فنصبوه للأمر وبايعوه، وارتحل معهم، وأغذوا السير إلى تونس. وقيه منصور بن حمزة في أحيائه بنواحي تبسة فبايعوا له. وأوفدوا مشيختهم على يحيى بن يملول شيطان الغواية المارد على الخلاف يستحثونه للطاعة والمدد لمداخلة كانت بينهم في ذلك سول لهم فيها بالمواعيد، وأملى لهم حتى إذا غمسوا أيديهم في النفاق والأجلاب سوفهم عن مواعيده ضنانة بماله فأسرها منصور في نفسه، واعتزم من يومئذ على الرجوع إلى الطاعة. ثم رحلوا للأجلاب على الحضرة، وسرح السلطان أبو العباس أخاه الأمير أبا يحيى زكريا للقيهم في العساكر، وتزاحفوا واتيح لمنصور وقومه ظهور على عساكر السلطان وأوليائه لم يستكمله، وأجلبوا على البلد أياماً. ونمي إلى السلطان أن حاجبه أبا عبد الله بن تافراكين داخلهم في تبيين البلد فتقبض عليه وأشخصه في البحر إلى قسنطينة فلم يزل بها معتقلاً إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين وسبعمائة. ثم سرب السلطان أمواله فانتقض على منصور قومه وخشى مغبة حاله، وسوغه السلطان جائزته فعاود
الطاعة، ورهن إبنه ونبذ إلى سلطانه زكريا العم عقده ورجعه على عقبه إلى الزواودة. والتزم طاعة السلطان والاستقامة على المظاهرة إلى أن هلك سنة ست وتسعين وسبعمائة، قتله محمد ابن أخيه فتيتة في مشاجرة كانت بينهما، طعنه لها فأشواه، ورجع جريحاً إلى بيته وهلك دونها آخر يومه. وقام بأمر بني كعب بعد صولة ابن أخين خالد وعقد له مولانا السلطان على أمرهم، واستمرت الحال إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن فتح سوسة والمهدية: كان سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان، وتغلب العرب على العمالات أقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوغ للعرب من الأمصار والإقطاعات مما لم يكن لهم، فاستولى عليها خليفة هذا ونزلها واستقل بجبايتها وأحكامها. واستبد بها على السلطان ولم يزل كذلك إلى أن هلك، وقام بأمره في قومه عامر ابن عمه مسكين أيام استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوغها له كذلك متقبلاً مذهب من قبله. ثم قتله بنو كعب، وقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبد بسوسة على السلطان واقتعدها دار إمارته. وربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من سوسة، ويشن الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور سريحه مولى السلطان أبي إسحق وقائد عساكره، فتقبض عليه واعتقله بسوسة أياماً، ثم من عليه وأطلقه وعاود الطاعة معه، ولم يزل هذا دأبهم. وكانت لهم في الرعايا آثار قبيحة وملكات سيئة، ولم يزالوا يضرعون إلى الله في إنقاذهم من أيدي جورهم وعسفهم إلى أن تأذن الله لأهل أفريقية باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر. واستبد مولانا السلطان أبو العباس بالحضرة وسائر عمالات أفريقية، وهبت ربح العز على العرب في جميع النواحي فتنكر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا، وأحس بنكرائهم وخرج عنهم وتجافى للسلطان عن البلد. وثارت عامتها بعماله فأجهضوهم ونزل
عمال السلطان بها. ثم كانت من بعد ذلك حركة المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس، ودوخ جهاتها واستوفى جباية عمالها. وكان بالمهدية محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن تافراكين أيام ارتجاعه إياها من يد أبي العباس بن مكي، والأمير أبي يحيى زكريا المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكركما مر. وأقام ابن الجكجاك أميراً عليها، واستبد بها بعد موت الحاجب. فلما وخزته شوكة الاستطالة من الدولة، وطلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه، وركب أسطوله إلى طرابلس ونزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمة صهر قديم كانت بينهما. وبادر مولانا السلطان إلى تسلم المهدية، وبعث عليها عماله، وانتظمت في ملكيته واطردت أحوال الظهور والنجح وكان بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن فتح جربة وانتظامها في ملك السلطان: كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولاه أبو عبد الله بن تافراكين على هذه الجزيرة، قد تقبل مذاهب جيرانها من أهل قابس وطرابلس وسائر الجريد في الامتناع على السلطان ومصارفة الاستبداد وانتحال مذاهب الإمارة وطرقها ولبوس شارتها. وقد ذكرنا سلفه من قبل، وأن والده كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين، وأنه اعتلق بمكاتبة إبنه أبي عبد الله فولاه على جربة عند افتتاحه إياها وأنه قصده عند مفره عن المولى أبي إسحق لينزل جربة معولا على قديم اصطناعه إياه فمنعه. ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمومن في الامتناع على السلطان والاستبداد بأمرهم فأجابوه، وأقام ممتنعاً سائر دولة المولى أبي إسحق وإبنه من بعده.
ولما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع والوحشة، وصار إلى مكاثرة رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم فأجرى في ذلك شأوا بعيداً مع تخلفه في مضماره بقديمه وحديثه. وصادف السلطان سوء الامتثال وإتيان الطاعة
ومنع الجباية فأحفظ، ولما افتتح أمصار الساحل وثغوره سرح إبنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة ومعه خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين، وصاحب بجاية لعهد المتنصر، وقد تقدم ذكره. وأمده بالأسطول في البحر لحصارها. ونزل الأمير بعسكره على مجازها ووصل إلى مرساتها فأطاف بحصن القشتيل، وقد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه وافترق عنه شيوخ الجزايرة من البربر، وانحاش بطانته من الجند المستخدمين معه بها. ولما رأوا ما لا طاقة لهم به، وأن عساكر السلطان قد أحاطت بهم براً وبحراً نزلوا إلى قائد الأسطول وأمكنوه من الحصن، وبادروا إلى معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبوعبد الله بن أبي هلال فيمن معه من بطانة الأمير وحاشيته فاقتحموا الحصن، وتقبضوا على محمد بن أبي العيون ونقلوه من حينه إلى الأسطول، واستولوا على داره وولوا على الجزيرة وارتحلوا قافلين إلى السلطان. ووصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة، ونزل بالديوان فأركب إلى القصبة على جمل، وطيف به على أسواق البلد إظهارا لعقوبة الله النازلة به وأحضره السلطان فوبخه على مرتكبه في العناد ومداخلته أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه. ثم تجافى عن دمه وأودعه السجن إلى أن هلك سنة تسع وسبعين. الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء بولاية الثغور الغربية: كان السلطان عندما استجمع الرحلة إلى أفريقية باستحثاث أهلها لذلك، ووفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مرغبا فيها فأهمه عند ذلك شأن الثغور الغربية، وأجال اختياره في بنيه بسبر أحوالهم ويعيش عن الأكفاء لهذه الثغور منهم فوقع نظره أولاً على كبير ولده المخصوص بعناية الله في إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له على بجاية وأعمالها، وأنزله بقصور الملك منها، وأطلق يده في مال الجباية وديوان الجند. واستعمل على قسنطينة وضواحيها لمولاه القائد بشير سيف دولته وعنان حربه، ناشىء قصره وتلاد مرباه. وكانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة والبأس، ودالة بالقديم والحادث، وخلال لقيها أيام التقلب في أواوين الملك. وكان ملازماً ركاب
مولاه في مطارح اغترابه وأيام تحيصه. وربما لقي عند إلحاحه على قسنطينة من المحنة والإعتفال الطويل ما أعاضه الله عنه بجميل التنويه، وعود العز والملك إلى مولاه على أحسن الأحوال. وظفر من ذلك بالبغية وحصل من الرتبة على الأمنية. وكان السلطان يثق بنظره في العساكر ويبعثه في مقدمة الحروب، وكان عند استيلائه على بجاية وصرف عنايته إليها ولاه أمر قسنطينة وأنزله بها وأنزل معه إبنه الأمير أبا إسحق، وجعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره بالعسكر عند النهوض إلى أفريقية فنهض في جملته وشهد معه الفتح. ثم رجعه إلى عمله بقسنطينة بمزيد التفويض والاستقلال، فلم يزل بما دفع إليه من ذك إلى أن هلك. وكان السلطان قد أوفد إبنه أبا إسحق على ملك المغرب السلطان عبد العزيز عندما استولى على تلمسان مهنياً بالظفر ملفحاً غراس الود، وأوفد معه شيخ الموحدين ببابه أبا إسحق بن أبي هلال، وقد مر من قبل ذكره وذكر أخيه فتلقاهما ملك المغرب بوجوه المبرة والاحتفاء، ورجعهما بالحديث الجميل عنه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. ونزل الأمير أبو إسحق بقسنطينة دار أمارته، وعمد له السلطان عليها وألقاب الملك ورسومه مصروفة إليه. والقائد بشير مولى إبنه مستبد عليه لمكان صغره إلى أن اهمك بشير سنة ثمان وسبعين وسبعمائة عندما استكمل الأمير أبو إسحق الخلال، واستجمع للأمارة فجدد له السلطان عهده عليها وفوض إليه في أمارتها وقام بما دفع إليه من ذلك أحسن مقام وأكفأه مصدقاً الظنون التي كانت تومىء إليه وشهادة المخايل التي دلت عليه، فاستقل هذان الأميران بثغر بجاية وقسنطينة وأعمالها مفوضاً إليهما في الأمارة مأذونا لهما في اتخاذ الآلة وإقامة الرسوم الملوكية والشارة. وكان الأمير أبو يحيى زكريا الأخ الكريم مستقلاً أيضاً ببونة وعملها منذ استيلائه عليها قد أضافها السلطان إليه وأصارها في سهمانه، فلما ارتحلوا إلى أفريقية عام الفتح وتيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه واغتباط السلطان أخيه بكونه معه، عقد عليه لإبنه الأمير أبي عبد الله محمد وأنزله بقصره منها وفوض إليه في أمارتها لما استجمع من خلال الترشيح والذكر الصالح في
الدين. واستمر الحال على ذلك لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مدبر الأمور.
الخبر عن فتح قفصة وتوزر وانتظام أعمال قسنطينة في طاعة السلطان: كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة السلطان أبي بكر لاعتلال الدولة حينئذ بانقسامها كما مر، فلما استبد السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية وفرغ من الشواغل صرف إليهم نظره وأوطأهم عساكره. ثم نهض بنفسه فجاء أثر الشورى منها، وعقد لابنه أبي العباس عليها كما قلناه. فلما كان بعد مهلكه من اضطراب أفريقية وتغلب الأعراب على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن وبني مرين بالقيروان عاد أهل الشورى في الجريد إلى دينهم من التوثب على الأمر والاستبداد على السلطان، وتناغى رؤساؤهم بعد أن كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك وشاراته، يقتعدون الأرائك ويعقدون في المشي بين السكك المواكب، ويهينون في إيوانهم سبال الأشراف ويتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين لي تقلب الأيام وضحكة لأهل الشمات، حتى لقد حدثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة، وأقاموا على ذلك أحوالاً، والدولة في التياثها. فلما استبد السلطان أبو العباس بأفريقية وعمالاتها، وأتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه والأسد الحادر في عرينه، وأصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم وتوثبه بهم، داخلوا حينئذ الأعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة، واقتعاد مطية الخلاف والنفاق يفتون بذلك في عزائمه. وأرخى هو لهم طيل الأمهال وفسح لهم مجال الإيناس بالمقاربة والوعد، رجاء الفيئة إلى الطاعة المعروفة والاستقامة على الجادة فأصروا وازدادوا عنادا ونفاقاً. فشفر لهم عن عزائمه ونبذ إليهم عهدهم على سواء. ونهض من الحضرة سنة سبع وسبعين وسبعمائة في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والموالي وقبائل زناتة ومن استألف إليه من العرب أولاد مهلهل وحكيم، وإظاهر أولاد أبي الليل على المدافعة عن أهل الجريد، وواقفوا
السلطان أياماً. ثم أجفلوا أمامه وغلبهم السلطان على رعاياهم مرنجيزة، وكانوا من بقايا بني يفرن عمروا ضواحي أفريقية مع ظواعن هوارة ونفوسة ونفزاوة. وكانت للسلطان عليهم مغارم وجبايات وافرة. فلما تغلب المغرب على لسائط أفريقية وتنافسوا في الإقطاعات كانت ظواعن مرنجيزة هؤلاء في أقطاع أولاد حمزة، فكانت جبايتهم موفورة ومالهم دثرا بما صاروا مدداً لهم بالمال والكراع والزرع والأدم، وبالفرسان منهم يستظهرون في حروبهم مع السلطان ومن قومهم فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة واكتسح أموالهم، وبعث برجالهم أسرى إلى سجون الحضرة وقطع بها عنهم أعظم مادة كانت تمدهم فخمد بذلك من عتوهم وقص من جناحهم آخر الدهر، ووهنوا لها. ثم عاد السلطان إلى حضرته وافترق أشياعه ونزع عنهم أبو صعنونة فتألف مع أولاد أبي الليل، ورجعوا إلى الحضرة فأجلبوا بساحلها أياماً، وشنوا الغارات عليها. ثم انفضوا عنها وخرج على أثرهم لأول فصل الشتاء، وتساحل إلى سوسة والمهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة، ثم رجع إلى القيروان وارتحل منها يريد قفصة. وجمع أولاد أبي الليل للمدافعة عنها، وسرب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه. وزحف السلطان إلى قفصة فنازلها ثلاثاً ولجوا فى عصيانهم
وقاتلوه فجمع الأيدي على قطع نخيلهم فتسايلت إليه الرعية من أماكنهم وأسلموا أحمد بن العابد مقدمهم وإبنه محمد المستبد عليه لكبره وذهوله، فخرج إلى السلطان واشترط له ما شاء من الطاعة والخراج، ورجع إلى البلد وقد ماج أهلها بعضهم في بعض، وهموا بالخروج فسابقهم إبنه أحمد المستبد على أبيه. وكان السلطان سرح أخاه أبا يحيى في الخاصة والأولياء إلى البلد، فلقيه محمد هذا في ساحتها فبعث به إلى السلطان، ودخل هو إلى القصبة وتملك البلد. وتقبض السلطان على محمد بن العابد لوقته، وسيق إليه أبوه من البلد فجعل معه واستولى على داره وذخائره. واجتمع المدد والكافة من أهل البلد عند السلطان، وأتوه بيعتهم عليها لابنة أبي بكر، وارتحل يغذ السير إلى توزر وقد طار الخبر بفتح قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه، واحتمل أهله وما خف من ذخيرته، ولحق بالزاب. وطير أهل توزر بالخبر إلى
السلطان فلقيه أثناء طريقه، وتقدم إلى البلد فملكها واستولى على ذخيرة ابن يملول، ونزل بقصوره فوجد بها من الماعون والمتاع والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يعدّ لأعظم ملك من ملوك الأرض، وأحضر بعض الناس ودائع كانت عنده من نفيس الجوهر والحلى والثياب وبرؤا منها إلى السلطان.
وعقد السلطان على توزر لإبنه المنتصر وأنزله قصور ابن يملول، وجعل إليه إمارتها. واستقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه وأتاه طاعته، وعقد له على بلده وولاية حجابة إبنه بتوزر وأنزله معه وقفل إلى الحضرة. وقد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلبه على أمصار الجريد خالفوه إلى التلول، فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم وفل من غربهم، وأجفلوا إلى الجهات الغربية يؤملون منها كرة، ولما كن ابن يملول قد جأجأ بهم إلى خدمة صاحب تلمسان والاستجاشة به، فوفد عليه بتلمسان منصور بن خالد منهم ونصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه فدافعهم بالمواعد، وتبينوا منها عجزه وانكفوا راجعين. ووفد صولة على السلطان بعد أن توثق له لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء، ورجع إليهم فلم يرضوا بشرطه. ونهض السلطان من الحضرة في العساكر والأولياء من العرب، وأجفلوا أمامه فاتبعهم وأوقع بهم ثلاث مرات واقفوه فيها. ثم أجفلوا ولحقوا بالقيروان وقدم وفدهم على السلطان بالطاعة والاشتراط له كما يشاء فتقيل ووسعهم عفوه، وصاروا إلى الانقياد والاعتمال في مذاهب السلطان ومرضاته، وهم على ذلك لهذا العهد. الخبر عن ثورة أهل قفصة ومهلك ابن الخلف: لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان، وعقد له مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله، ونزل بتوزر مع المنتصر. ثم سعى به أنه يداخل ابن يملول ويراسله فبث عليه العيون والأرصاد، وعثر على كتابة بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول وإلى يعقوب بن علي أمير الزواودة يحرضهما على الفتنة، فتقبض عليه وأودعه السجن. وبعث عماله إلى نقطة واستولى على أمواله وذخائره، وخاطب أباه في شأنه فأمهله بعد أن تبين نقضه للطاعة وسعيه في الخلاف. وكان السلطان قبل فتح قفصة قد نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي زيد، وسار في ركابه إليها. فلما
استولي على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه، وأوصى به إبنه أبا بكر فاستولى على مشورته وحله وعقده، وطوى على النث. ثم حدثته نفسه بالاستبداد وتحين له المواقيت. واتفق أن سار الأمير أبو بكر من نفطة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر، وخلف بالبلد عبد الله التريكي من مواليهم، وكان السلطان أنزله معه، وولاه حجابته فلما توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي زيد عنفة من الأوغاد، وطاف في سكك المدينة والهاتف معه ينادي بالثورة ونقض الطاعة. وتقدم إلى قفصة فأغلقها القائد عبد الله دونه، وحاربها، فامتنعت عليه. وقرع عبد الله الطبل بالقصبة واجتمع عليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة يفضي إلى الغابة فكثروا شيع ابن أبي زيد، وتسلل عنه الناس فلاذ بالاختفاء. وخرج القائد من القصبة فتقبض على كثير من أهل الثورة فأودعهم السجن واستولى على البلد. وسكن الهيعة وطار الخبر إلى المولى أبي بكر فأغذ السير منقلباً إلى قفصة. ولحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين من أهل الثورة وأمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي زيد وأخيه. ولأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب ستترين بزي النساء فتقبضوا عليهما وتلوهما إلى الأمير فضرب أعناقهما وصلبهما في جذوع النخل. وكانا من المترفين فأصبحاً مثلاً في الأيام وقد خسراً دينهما ودنياهما، وذلك هو الخسران المبين. وارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ بابن خلف، وحذر مغبة حاله فقتله بمحبسه وذهب في كير سبيل مرحمة وانتظم السلطان أمصار الجريد كلها في طاعته، واتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة السلطان: هذا البلد لم يزل في هذه الدولة الحفصية لبني مكي المشهور ذكرهم في هذه العصور وما إليها. وسيأتي ذكر أخبارهم ونسبهم وأوليتهم في فصل نفرده لهم فيما بعد. وكان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكريا الأول أيام ولايته قابس سنة ثلاث
وعشرين وستمائة فاختصوا به، وداخلهم في الانتقاض على أخينا أبي محمد عبد الله عندما استجمع لذلك، فأجابوه وبايعوا له فرعى لهم هذه الوسائل عندما استبد بأفريقية، وأفردهم برياسة الشورى كما في بلدهم. ثم سموا إلى الاستبداد عندما فشل ريح الدولة عن القاصية بما حدث من فتن وانفراد الثغور الغربية بالملك. ولم يزالوا جانحين إلى هذا الاستبداد سانحين إليه بثأر الفتن والانتقاض على السلطان ومداخلة الثوار والأجلاب بهم على الحضرة، والدولة أثناء ذلك في شغل عنهم وعن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من انقسام الدولة، وإلحاح صاحب الثغور الغربية على مطالبه الحضرة.
ثم استبد مولانا السلطان بالدعوة الحفصية في سائر عمالات أفريقية، وشغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الأجلاب على الحضرة مع جيوشه، ومنازلتهم ثغر بجاية وتسريبه جيوش بني عبد الواد مرة بعد أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص والعرب إلى أفريقية. وكان المتولي لرياسة قابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد بن عبد الملك ورديفه فيها أخوه أحمد، وكانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الأجلاب على الحضرة مع جيوشه والثوار القادمين معهم. وربما خالفوا السلطان إلى الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع له مع عبد الواحد بن اللحياني، وقد مر ذكر ذلك. فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان، وانمحى أثر بني زيان فرغ السلطان أبو بكر لهؤلاء الثوار الرؤساء بالجريد الدائنين بالانتقاض سائر أيامهم. وزحف إلى قفصة فملكها فذعروا ولحق أحمد بن مكي بالسلطان أبي الحسن متذمماً بشفاعته، بعد أن كان الركب الحجازي من المغرب مر بقابس وبه بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءها وسائر الركب قرى وحباء. وقدموا ذلك وسيلة بين يدي وفادته فتقبل السلطان وسيلته، وكتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعاً فيهم لذمة السلطان والصهر فمقبل شفاعته وتجاوز. عن الانتقام منهم بما اكتسبوه. ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر وهاج بحر الفتنة والخلاف وعادت الدولة إلى حالها من الانقسام، واشتدت على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو مكي وسواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة. وقطع أسباب الطاعة ومنع المغارم
والجباية، ومشايعة صاحب الغربية ركوناً على صاحب الحضرة. فلما استبد مولانا السلطان أبو العباس بالدعوة الحفصية وجمع الكلمة، واستولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه القصور الجريدية وتحدثوا فيما دهمهم وطلبوا وجه الخلاص منه، والامتناع عليه. وكان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسه الفتن وانحياشه إلى الثوار، وكان أحمد أخوه ورديفه قد هلك سنة خمس وستين وسبعمائة، وانفرد هو برياسة قابر فراسلوه وراسلهم في الشأن، وأجمعوا جميعاً على تخبيب العرب على السلطان، وتسريب الأموال فيهم، ومشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك أفريقية فانتدبوا لذلك من كل ناحية. وبعثوا البريد إلى صاحب تلمسان فأطمعهم من نفسه، وعللهم بالمواعيد الكاذبة والسلطان أبو العباس مقبل على شأنه، يفتل لهم في الذروة والغارب حتى غلب أولاد أبي الليل الذين كانوا يعدونهم بالمدافعة عنهم، وافتتح قفصة وتوزر ونفطة. وتبين لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم، فحينئذ بادر عبد الملك إلى مراسلة السلطان يعده من نفسه الطاعة والوفاء بالجباية، ويستدعي لاقتضاء ذلك منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك، وبعث وافده إليه ورجع إلى الحضرة في انتظاره فطاوله ابن مكي في العرض ورده بالوعد. ثم اضطرب أمره وانتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب، وركبوا إليه فحاصروه وضيقوا عليه، واستدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر صاحب قفصة وأمدهم بعسكر وقائد فنازلوه واشتد الحصار. واتهم ابن مكي بعض أهل البلد بمداخلتهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم، وتنكرت له الرعية وساء حاله، ودس إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت العسكر المحاصرين له، واشترط لهم على ذلك ما رضوه من المال فجمعوا لهم وبيتوهم فانفضوا ونالوا منهم. وبلغ السلطان خبرهم فأحفظه وأجمع الحركة على قابس وعسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، وتلوم أياماً حتى استوفى العطاء واعترض العساكر، وتوافت أحياء أوليائه من أولاد مهلهل وأحلافهم من سائر سليم. ثم ارتحل إلى القيروان وارتحل منها يريد قابس، وقد استكمل التعبية. وبادر إلى لقائه لأخذ
بطاعته مشيخة دباب أعراب قابس من بني سليم. ووفد منهم خالد بن سباع بن يعقوب شيخ المحاميد، وابن عمه علي بن راشد فيمن إليهم يستحثونه إلى منازلة قابس، فأغذ السير إليها، وقدم رسله بين يديه بالإنذار لابن مكي. وانتهوا إليه فرجعهم بالإنابة والانقياد إلى الطاعة. ثم احتمل رواحله وعبىّ ذخائره وخرج من البلد، ونزل على أحياء دباب هو وإبنه يحيى وحافده عبد الوهاب ابن إبنه مكي الهالك منذ سنين من قبل.
واتصل الخبر إلى السلطان فبادر إلى البلد ودخلها في ذي القعدة من سنته، واستولى على منازل ابن مكي وقصوره. ولاذ أهل البلد بطاعته وولّى عليها من حاشيته، وكان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان بالطاعة والانحياش، ووافته رسله دوين قابس. فلما استكمل فتحها بعث إليه من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة، وأقام عبد الملك بن مكي بعد خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل. ثم بغته الموت فهلك ولحق إبنه وحافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من قراها في كفالة الجواري من بطون دباب. ولما استكمل السلطان الفتح وشؤونه انكفأ راجعاً إلى الحضرة فدخلها فاتح إثنتين وثمانين وسبعمائة، ولحقه رسله من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق والمتاع بما فيه الوفاء بمغارمه بزعمه. ووفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو عنهم والقبول عليهم فأجابهم إلى ذلك، ووفد صولة بن خالد شيخهم وقبله أبو صعنونة شيخ حكيم، ورهنوا أبناءهم على الوفاء واستقاموا على الطاعة. واتصل النجح والظهور، والأمر على ذلك لهذا العهد، وهو فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مالك الأمور لا رب غيره. الخبر عن استقامة ابن مزني وانقياده وما اكتنف ذلك من الأحوال: كان هؤلاء الرؤساء المستبدون بالجريد والزاب منذ فرغ السلطان لهم من الشواغل،
واسترابوا بمغبة حالهم معه ومراوغتهم له بالطاعة يرومون استحداث الشواغل، ويؤملون لها سلطان تلمسان لعهدهم أبا حمو الأخير وأنه يأخذ بحجزته عنهم أن وصلوا به أيديهم، واستحثوه لذلك لإيلافهم مثلها من سلف قومه. وأبي حمو وبن تاشفين من قبله
قياساً متورطاً في الغلط بعيداً من الإصابة لما نزل بسلطان بني عبد الواد في هذه العصور من الضعف والزمانة، وما أصاب قومهم من الهلاك والشتات بأيديهم وأيدي عدوهم وتقدمهم في هذا الشأن أحمد بن مزني صاحب بسكرة لقرب جواره، واشتهار مثلها من سلفه فاتبعوه وقلدوه وغطى هواهم جميعاً على بصيرتهم. وقارن ذلك نزول الأمير أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو علي بن يملول بتوزر عند منابذة سالم بن إبراهيم الثعالبي إياه، وكان طارد به أياماً. ثم راجع أبا حمو وصرفه سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فخرج من أعمال تلمسان وأبعد المذهب عنهم، ونزل على ابن يملول بتوزر. وطير الخبر إلى إمامه في تلك الفتنة أحمد بن مزني واغتبطوا بمكان أبي زيان، وأن تمسكهم به ذريعة إلى اعتمال أبي حمو في مرضاتهم، وإجابته إلى داعيهم وركض بريدهم إلى تلمسان في ذلك ذاهباً وجائياً حتى أعيت الرسل واشتبهت المذاهب، ولم يحصلوا على غير المقاربة والوعد لكن على شريطة التوثق من أبي زيان. وبينما هم في ذلك إذ هجم السلطان على الجريد وشرد عنه أولاد أبي الليل الذين تكفلوا لرؤسائه بالمدافعة. وافتتح قفصة وتوزر ونفطة، ولحق يحيى بن يملول ببسكرة، واستصحب الأمير أبا زيان فنزل على ابن مزني، وهلك لأيام قلائل كما ذكرنا. واستحكمت عندها استرابة يعقوب بن علي شيخ رياح بأمره مع السلطان لما سلف منه في مداخلة هؤلاء الرهط وتمسكهم بحقويه والمبالغة في العذر عنهم. ثم غيرته بأنظاره من مشيخة الزواودة الذين انحاشوا إلى السلطان فأفاض عليهم عطاءه، واختصهم بولايته فحدث لذلك منه نفرة واضطراب، وارتحل إلى السلطان أبي حمو صاحب تلمسان فاتح إثنتين وثمانين وسبعمائة يستجيشه لهؤلاء الرهط ويهزه بها إلى البدار بصريخهم. ونزل على أولاد عريف أوليائه من سويد، وأوفد عليه إبنه فتعلل لهم بمنافرة حدثت
في الوقت بينه وبين صاحب المغرب ، وأنه لهم بالمرصاد متى رابهم ريب من نهوض السلطان أبي العباس إليهم، تمسك بذلك طرف التوثق من أبي زيان وربما دس إليهم بمشارطة اعتقاله وإلقائه في غيابات السجون. وفي مغيب يعقوب هذا طرق السلطان تمحيص مر المرض أرجف له المفسدون بالجريد ودس شيع آل يملول بتحيزه إلى صبي من أبناء يحيى مخلف ببسكرة، فذهل ابن مزني عن التثبت لها ذهاباً مع صاغية الولد وأوليائه، وجهزهم لانتهاز الفرصة في توزر مع العرب المشارطين في مثلها بالمال، وأغذوا السير إلى توزر على حين غفلة من الدهر وخف من الجند فجلى المنتصر وأوليائه في الامتناع، وصدق الدفاع وتمحصت بهذا الابتلاء طاعة أهل توزر ومخالصتهم، وانصرف ابن يملول بإخفاق من السعي واليم من الندم وتوقع للمكاره. ووافق ببسكرة قدوم يعقوب بن علي مرجعه من الغرب فبالغ في تغييبهم بالملامة على ما أحدثوا بعده من هذا الخرق المتسع المعي على الراقع.
وكان السلطان لأول بلوغ الخبر بأجلابهم على توزير وممالأة ابن مزني على إبنه وأوليائه أجمع النهوض إلى بسكرة وعسكر بظاهر الحضرة، وفتح ديوان العطاء وجهز آلات الحصار. وسرى الخبر بذلك إليهم فخلصوا نجياً ونفضوا عيبه آرائهم فتمحض لهم اعتقال أبي زيان الكفيل لهم بصريخ أبي حمو على زعمه فتعللوا عليه ببعض النزعات، وتورطوا في إخفار ذمته وطيروا بالصريخ إلى أبي حمو، وانتظروا فما راعهم إلا وافده بالعذر عن صريخهم والإعاضة بالمال فتبينوا عجزه ونبذوا عهده، وبادروا علية لتخلية السبيل لأبي زيان والعذر له لما كان السلطان نكر عليهم من أمره فارتحل عنهم ولحق بقسنطينة. وحملهم ابن علي على اللياذ بالطاعة، وأوفد ابن عمه متطارحاً وشافعاً فتقبل السلطان فيئته ووسيلته، وأغضى لابن مزني عن هناته وأسعفهم بكبير دولته وخالصة سره أبي عبد الله بن أبي هلال ليتناول منه المخالصة. ويمكن له الألفة وتمسح عن هواجس الارتياب والمخافة.
وكان لقاؤه أشهى إليهم من الحياة ففصل عن الحضرة، وانتهى السلطان في ذي القعدة آخر سنة إثنتين وثمانين وسبعمائة لتفقد أعماله وابتلاء الطاعة من أهل أوطانه. ولما
وصل وافد السلطان إلى ابن مزني ألقى زمامه إليه وحكمه في ذات يده وقبله، ومحا أثر المراوغة واستجد لبؤس الانحياش والطاعة، وبادر إلى استجادة المقربات وانتقى صنوف التحف. وبعث بذلك في ركاب الوافد مع الذي عليه من الضريبة المعروفة محملاً أكتاد ثقاته وظهور مطاياه. ووصلوا معسكر السلطان بساح تبسة فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة، فجلس لهم السلطان جلوساً فخماً ولقاهم قبولاً وكرامة فعرضوا الهدية، وأعربوا عن الانحياش والطاعة وحسن موقع ذلك من السلطان وشملهم إحسان السلطان في مقاماتهم وجوائزه على الطبقات في انصرافهم، وانقلبوا بما ملأ صدورهم إحساناً ونعمة، وظفروا برضى السلطان وغبطته. وحسبهم بها أمنية وبيد الله تصارف الأمور ومظاهر الغيوب.
الخبر عن انتقاض أولاد أبي الليل ثم مراجعتهم الطاعة: قد ذكرنا ما كان من رجوع أولاد أبي الليل هؤلاء إلى طاعة السلطان إثر منصرفه من فتح قابس، وأنهم وفدوا عليه بالحضرة فتقبلهم وعفا عنهم كبائرهم واسترهن على الطاعة أبناءهم، واقتضى بالوفاء على ذلك إيمانهم. وخرج الأخ الكريم أبو يحيى زكريا في العساكر لاقتضاء المغارم من هوارة التي استأثروا بها في فترة هذه الفتن. وارتحل معه أولاد أبي الليل وأحلافهم من حكيم حتى استوفى جبايته وجال في أقطار عمله. ثم انكفأ راجعاً إلى الحضرة، ووفدوا معه على السلطان يتوسلون به في إسعافهم بالعسكر إلى بلاد الجريد لاقتضاء مغارمهم على العادة واستيفاء إقطاعاتهم فسرح السلطان معهم لذلك إبنة أبا فارس، وارتحلوا معه بأحيائهم وكان ابن مزني وابن يملول من قبله وابن يعقوب بن علي كثيراً ما يراسلونهم ويستدعونهم لمثل ما كانوا فيه من الانحراف ومشايعة صاحب تلمسان. ولما اعتقلوا أبا زيان ببسكرة كما ذكرناه وثوقاً بصريخ أبي حمو ومظاهرته. نبضت عروق الخلاف في أولاد أبي الليل ونزعوا إلى اللحاق بيعقوب بن عليّ رجاء فيما
توهموه من استغلاظ أمرهم بصاحب تلمسان ويأساً من معاودة التغلب الذي كان لهم على ضواحي أفريقية ففارقوا الأمير أبا فارس بعد أن أبلغوه مأمنه من قفصة، وساروا بأحيائهم إلى الزاب فلم يقعوا على الغرض ولا ظفروا بالبغية، ووافوا يعقوب وابن مزني، وقد جاءهم وافد أبي حمو بالقعود عن نصرتهم، والأمير أبو زيان قد انطلق لسبيله عنهم فسقط في أيديهم وعاودهم الندم على ما استدبروا من أمرهم، وحملهم يعقوب على مراجعة السلطان وأوفد ابنه محمداً في ذلك مع وافد العزيز أبي عبد الله محمد بن أبي هلال فتقبلهم وأحسن التجاوز عنهم. وبعث أبا يحيى أخاه لاستقدامهم أماناً لهم وتأنيساً . وبذل لهم فوق ما أملوه من مذاهب الرضى والقبول واتصال النجح والظهور، والحمد لله وحده. تغلب ابن يملول علي توزر وارتجاعها منه: قد كان تقدم لنا أن يحيى بن يملول لما هلك ببسكرة تخلف صبياً إسمه أبو يحيى، وذكرنا كيف أجلب على توزر سنة إثنتين وثمانين وسبعمائة مع لفيف أعراب رياح ومرداس. فلما كان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة بعدها وقعت مغاضبة بين السلطان وبين أولاد هلال من الكعوب، وانحدروا إلى مشاتيهم بالصحراء فبعث أميرهم يحيى بن طالب عن هذا الصبي أبي يحيى من بسكرة، ونزل بأحيائه بساح توزر، ودفع الصبي إلى حصارها، واجتمع عليه شيعته من نواحي البلد وأوشاب من أعراب الصحراء، وأجلبوا على البلد وناوشوا أهلها القتال، وكان بها المنتصر ابن السلطان فقاتلهم أياماً. ثم تداعى شيعهم من جوانب المدينة وغلبوا عساكرهم وأحجروهم بالبلد، ثم دخلوا عليهم، وخرج المنتصر ناجياً بنفسه إلى بيت يحيى بن طالب. واستذم به فأجاره وأبلغه إلى مأمنه بقفصة، وبها عاملها عبد الله التريكي. واستولى ابن يملول على توزر، واستنفد ما معه وما استخرجه من ذخائرهم بتوزر في أعطيات العرب، وزادهم جباية السنة من البلد بكمالها، ولم يحصل على رضاهم. وبلغ الخبر إلى السلطان بتونس فشمر عزائمه وعسكر بظاهر البلد، واعترض الجند
وأزاح عللهم وارتحل إلى ناحية الأربص، وهو يستألف الأعراب ويجمع لقتال أولاد مهلهل أقتالهم وأعداءهم أولاد أبي الليل وأولياءهم وأحلافهم ليستكثر بهم، حتى نزل فحص تبسة فأراح بهم أياماً حتى توافت أمداده من كل ناحية، ثم نهض يريد توزر. ولما احتل بقفصة قدم أخاه الأمير أبا يحيى وإبنه الأمير المنتصر في العساكر ومعهما صولة بن خالد بقومه أولاد أبي الليل، وسار على أثرهم في التعبية. ولما انتهى أخوه وإبنه إلى توزر حاصروها وضيقوا عليها أياماً. ثم وصل السلطان فزحف إليها العساكر من جوانبها وقاتلوها يوماً إلى المساء. ثم باكروها بالقتال فخذل ابن يملول أصحابه وأفردوه فذهب ناجياً بنفسه إلى حلل العرب، ودخل السلطان البلد واستولى عليه، وأعاد إبنه إلى محل إمارته منه وانكفأ راجعاً إلى قفصة. ثم إلى تونس منتصف أربع وثمانين وسبعمائة.
ولاية الأمير زكريا ابن السلطان علي توزر: ثم عاد ابن يملول إلى الأجلاب على توزر من السنة القابلة وخرج السلطان في عساكره فكر راجعاً إلى الزاب، ونزل السلطان قفصة ووافاه هنالك إبنه المنتصر، وتظلم أهل توزر من أبي القاسم الشهرزوري الذي كان حاجباً للمنتصر فسمع شكواهم، وأنهق إليه الخاصة سوء دخلته وقبيح أفعاله فقبض عليه بقفصة واحتمله مقيداً إلى تونس. وغضب لذلك المنتصر وأقسم لا يلي على توزر. وسار معه السلطان إلى تونس وولى على توزر الأمير زكريا من ولده الأصاغر لما كان يتوسم فيه من النجابة فصدقت فراسته فيه، وقام بأمرها وأحسن المدافعة عنها وقام باستئلاف الشارد من أحياء العرب وأمرائهم حتى تم أمره وحسنت ولايته، والله متولى الأمور بحكمته سبحانه لاإله إلا هو. وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية: كان السلطان لما سار إلى فتح تونس و ولّى على بجاية إبنه محمداً كما مر وأقام له حاجبا،
وأوصاه بالرجوع إلى محمد بن أبي مهدي زعيم البلد وقائد الأسطول المتقدم على أهل الشطارة والرجولة من رجل البلد ورماتهم، فقام هذا الأمير أبو عبد الله في منصب الملك ببجاية أحسن قيام واصطنع ابن أبي مهدي أحسن اصطناع فكان يجري في قصوره وأغراضه ويكفيه مهمة في سلطانه، ويراقب مرضاة السلطان في أحواله، والأمير يعرف له ذلك ويوفيه حقه إلى أن أدركته المنية أوائل خمس وثمانين وسبعمائة فتوفي على فراشة آنس ما كان سرباً وآمن روعاً مشيعاً من رضى أبيه ورعيته بما يفتح له أبواب الرضى من ربه، وبلغ نعيه إلى أبيه بتونس فبادر بإنفاذ العهد لإبنه أبي العباس أحمد بولاية بجاية مكان أبيه، وجعل كفالة أمره لابن أبي مهدي مستبداً عليه واستقامت الأمور على ذلك.
حركة السلطان إلي الزاب: كنت أنتهي بتأليف الكتاب إلى ارتجاع توزر من يد ابن يملول وأنا يومئذ مقيم بتونس، ثم ركبت البحر منتصف أربع وثمانين وسبعمائة إلى بلاد الشرق لقضاء الفرض ونزلت بالإسكندرية ثم بمصر، وصرت أخبار المغرب تبلغنا على ألسنة الواردين، فمن أول ما بلغنا وفاة هذا الأمير ابن السلطان ببجاية سنة خمس وثمانين وسبعمائة. ثم بلغنا بعدها حركة السلطان إلى الزاب سنة ست وثمانين وسبعمائة، وذلك أن أحمد بن مزني صاحب بسكرة والزاب لعهده كان مضطرب الطاعة يجير على السلطان ويمنع في أكثر السنين المغارم معولاً على مدافعة العرب الذين ملكوا ضواحي الزاب والتلول دونه، وأكثر وثوقه في ذلك بيعقوب ابن علي وقومه الزواودة. وقد مر طرف من أخباره في ذلك مثبوتاً في أخبار الدولة. وكان ابن يملول قد أوى إلى بلده واتخذ وكراً في وجوه وأجلب على توزر مراراً برأيه ومعونته فأحفظ ذلك السلطان ونبه له عزائمه. ثم نهض سنة ست وثمانين وسبعمائة يريد الزاب بعد أن جمع الجموع واحتشد الجنود واستألف العرب من بني سليم فصاروا معه وأوعبوا، ومر على فحص تبسة. ثم خرج من طرف جبل أوراس إلى بلد تهودا من أعمال الزاب، واعصوصب الزواودة ومن
تبعهم من قبائل رياح على المدافعة دون بسكرة والزاب غيرة من بني سليم أن يطرقوا أوطانهم أو يردوا مراعيهم إلا بني سباع بن شبل من الزواودة فإنهم تحيزوا إلى السلطان. واستنفر ابن مزني حماة وطنه ورجالة قومه من الأتبج فغصت بسكرة بجموعهم وتوافت الفريقان، وأنالهم السلطان القتال أياماً وهو يراسل يعقوب بن علي ويستحثه لما كان يطمعه به من المظاهرة على ابن مزني، ويعقوب يخادعه بانحراف قومه عنه وائتلافهم على ابن مزني ويرغبه في قبول طاعته ووضع أوزار الحرب مع رياح حتى تتمكن له فرصة أخرى فتقبل السلطان نصيحته في ذلك وأغضى لابن مزني ولرياح عنها، وقبل طاعته وضريبته المعلومة، وانكفأ راجعاً، ومر بجبل أوراس، ثم إلى قسنطينة فأراح بها ثم ارتحل إلى تونس فوصل إليها منتصف ست وثمانين وسبعمائة.
حركة السلطان إلى قابس كان السلطان قد فتح مدينة قابس سنة إحدى وثمانين وسبعمائة وانتظمها في أعماله وشرد عنها بني مكي فذهبوا إلى نواحي طرابلس، وهلك كبيرهم عبد الملك وعبد الرحمن ابن أخيه أحمد، وذهب إبنه يحيى إلى الحج، وأقام عبد الوهاب بزنزور ثم رجع إلى جبال قابس يحاول على ملكها. واستتب له ذلك بوثوب جماعة من أهل البلد بعاملها يوسف الأبار من صنائع السلطان بقبح إيالته وسوء سيرته فداخلوا جماعة من شيعة بني مكي في ضواحي قابس وقراها وواعدوهم فجاؤا لميعادهم وعبد الوهاب معهم، واقتحموا باب البلد وقتلوا البواب. ثم قصدوا ابن الأبار فقتلوه في مسكنه سنة إثنتين وثمانين وسبعمائة. وملك عبد الوهاب البلد واستقل بها كما كان سلفه. وجاء أخوه يحيى من المشرق فأجلب عليه مراراً يروم ملك البلد منه فلم يتهيأ له ذلك، ونزل على صاحب الحامة وأقام عنده يحاول أمر البلد منها فبعث عبد الوهاب إلى صاحب الحامة، وبذل له المال على أن يمكنه منه فبعث إليه به فاعتقله بقصر العروسيين، وأقام يراوغ السلطان عن الطاعة ويبذل ماله في أعراب الضاحية من دباب وغيرهم للمدافعة عنه، ومنع الضريبة التي كانوا يؤدونها للسلطان أيام طاعتهم، والسلطان مشغول عنهم بمهمه فلما فرغ من شواغله بأفريقية والزاب
نهض إليه سنة تسع وثمانين وسبعمائة بعد أن اعترض عساكره واستألف من العرب أولياءه وسرب فيهم عطاءه.
ونزل على قابس وقد استعد لها وجمع الآلات لحصارها فاكتسح نواحيها، وجثم عليها بعساكره يقاتلها ويقطع نخيلها حتى أعاد الكثير من الفرفهة... براحاً وموج الهواء في ساحتها فصح بعد أن كانوا يستوخمونه لاختفائه بين الشجر، وفي متكاثف الظلال وما يلحقه بذلك من التعفن فذهب عنها ما كان يعهد فيها من ذلك الوخم رحمة من الله أصابتهم من عذاب هذا السلطان، وربما صحت الأجسام بالعلل. ولما اشتد بهم الحصار وضاق المخنق، وفى ابن مكي أنه قد احيط به استعتب للسلطان واستأمن فأعتبه وأمنه، ورهن إبنه على الطاعة وأداء الضريبة وأفرج عنه السلطان وانكفأ راجعاً إلى تونس، واستقام ابن مكي حتى كان من تغلب عمه يحيى عليه ما نذكره. رجوع المنتصر إلي ولاية توزر وولاية أخيه زكريا علي نفطة ونفزاوة: كان العرب أيام ولاية المنتصر بتوزر قد حمدوا سيرته وأصفقوا على محبته والتشيع ، فلما رجع السلطان عن قابس رغبوا إليه في طريقهم أن يولي المنتصر على بلاد الجريد كما كان ويردد على عمله بتوزر. وتولّى ذلك بنو مهلهل وأركبوا نساءهم الظعن في الهوادج، واعترضوا بهن السلطات سافرات مولولات دخلاء عليه في إعادة المنتصر إلى توزر لما لهم فيه من المصالح فقبل السلطان وسيلتهن وأعاده إلى توزر، ونقل ابنه زكريا إلى نفطة، وأضاف إليها عمل نفزاوة فسار إليها واستعمله وأظهر من الكفاية والاضطلاع ما تحدث به الناس عنه، وكانت ولايته أول سنة تسعين وسبعمائة. فتنة الأمير إبراهيم صاحب قسنطينة مع الزواودة ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم إثرها: كان للزواودة بقسنطينة عطاء معلوم مرتب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم من البلاد في
التلول والزاب بأقطاع السلطان، وضاق نطاق الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية، وصار العرب يزرعون الأراضي في بلادهم بالتلول ولا يحتسبون بمغارمها فيضيق الدخل، ويمنعهم السلطان العطاء من أجل ذلك فتفسد طاعتهم وتنطلق بالعيث والنهب أيديهم. ولما رجع الأمير إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس، وكان منذ أعوام ينقص من عطائهم لذلك ويعللهم بالمواعيد فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه وطلبوا منه عطاءهم فتعالى عليهم، وجاءه يعقوب بن علي مرجعه من الحج وأشار عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه وارتحل لبعض مذاهبه، وتركه ونادى في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من أولاد سباع بن شبل وأولاد سباع بن يحيى وباديتهم من ذؤبان رياح، وخرج يعقوب من التل فنزل في نقاوس فأقام بها، وانطلقت أيدي قومه على تلول قسنطينة بالنهب وانتساف الزروع حتى اكتسحوا عامتها ولحقوا به مالئي اليد مثقلي الظهر.
ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين وسبعمائة ونقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه بها، وقام مكانه في قومه إبنه محمد. واستمر على العصيان وصعد إلى التل في منتصف إحدى وتسعين وسبعمائة، واستألف الأمير إبراهيم أعداءه من الزواودة وأحلافهم من البادية وجنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن علي بمن معه من أولاد عائشة ام عمر، وخالفه أخوه صميت إلى محمد بن يعقوب. ثم تحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه وقتل أبو ستة. ثم جمع السلطان لحربهم ودفعهم عن التلول ومنعهم من المصيف عامهم ذلك. وانحدروا إلى مشاتيهم وعجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول وقضوا مصيفهم عامهم ذلك بالزاب، وانحدروا منه إلى المشاتي فلما رجعوا من مشاتيهم وقد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه، وكاد أن يفسد ما بينهم وبين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة. ثم ارتحلوا صاعدين إلى التلول، وقد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه. وبينما هو في ذلك ألم به طائف من المرض فتوفي سنة إثنتين وتسعين وسبعمائة وافترقت جموعه. وأغذ محمد بن يوسف السير إلى نواحي قسنطينة فاحتل بها مظاهراً للطاعة متبرئاً من الخلاف، ونادى في أهل البلاد بالأمان والعمارة فصلحت أحوال الرعايا والسابلة. وبعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين فأمنهم وأعتبهم وأقام بقسنطينة مكان إبنه إبراهيم إبنه وبعث من حصرته محمد ابن
مولاه بخير لكفالته والقيام بدولته فقام بأمرها وصلحت الأحوال والله بيده تصاريف الأمور.
منازلة نصاري الإفرنج للمهدية: كانت أمة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم التغلب ودولة بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره مثل: دانية وسردانية وميورقة وصقلية، وملأت أساطيلهم فضاءه، ثم تخطوا إلى سواحل الشام وبيت المقدس فملكوها وعادت لهم سورة التغلب في هذا البحر بعد أن كان سورة المسلمين فيه لا يتقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله ومران راكبيه فغلبهم الفرنج وعادت السورة لهم، وزاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياماً. ثم فشل ريح الفرنجة واختل مركز دولتهم بافرنسة، وافترقت طوائف في أهل برشلونة وجنوة والبنادقة وغيرهم من أمم الفرنجة النصرانية، وأصبحوا دولاً متعددة فتنبهت عزائم كثير من المسلمين بسواحل أفريقية لغزو بلادهم، وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجمع النفراء والطائفة من غزاة البحر، ويصنعون الأسطول ويتخيرون له الأبطال الرجال، ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه، ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالباً ويعودون بالغنائم والسبي والأسرى، حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية بأسراهم تضج طرق البلد بصخب السلاسل والأغلال عندما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فدائهم بما يتعذر معه أو يكاد، فشق ذلك على أمم الفرنجة وملأ قلوبهم ذلاً وحسرةً وعجزوا عن الثأر به، وصرخوا على البعد بالشكوى إلى السلطان بأفرنجة فصم عن سماعها وتطارحوا بثهم وثكلهم فيما بينهم وتداعوا لنزال المسلمين، والأخذ بالثأر منهم. وبلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرح إبنه الأمير أبا فارس يستنفر أهل النواحي ويكون رصداً للأسطول هنالك واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن وراءهم
أو مجاورهم من أمم النصرانية، وأقلعوا من جنوة فحطوا بمرسى المهدية منتصف إثنتين وتسعين وسبعمائة وطرقوها على حين غفلة، وهي على طرف من البر داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا عندها، وضربوا عند أول الطرف سوراً من الخشب بينه وبين البر حتى أصاروا المعقل في حكمهم، وعالوا عليه بالأبراج وشحنوها بالمقاتلة ليتمكنوا من قتال البلد، ومن يأتيهم من مدد المسلمين، وصنعوا برجاً من الخشب من جهة البحر يشرف على أسوار المعقل لتعظم نكايتهم، وتحصن أهل البلد وقاتلوهم صابرين محتسبين. وتوافت إليهم الأمداد من نواحي البلد فحال دونهم الفرنجة. وبلغ الخبر إلى السلطان فأهمه أمرها، وسرح العساكر تترى إلى مظاهرتهم. ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكريا وسائر بنيه فيمن حضره من العساكر فانطلقوا لجهاد هذا العدو، واستنفروا المقاتلة من الأعراب وغيرهم فاجتمعت بساحتها أمم ، وألحوا على الفرنجة بالقتال ونضح السهام حتى أحجروهم في سورهم. وبرز الفرنجة للقتال فكاد بينهم ولي المسلمين جولة جلى فيها أبناء السلطان، وكاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورى لولا حماية الله التي وقته. ثم تداركت عليهم الحجارة والسهام والنفط من سور البلد فاحترق البرج المطل علمها من جهة البحر فوجموا لحريقه. ثم ركبوا من الغد أسطولهم وأقلعوا إلى بلادهم، وخرج أهل المهدية يتباشرون بالنجاة ويتنادون بشكرالأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرأ، وكفى الله المؤمنين القتال} . وأمر الأمير أبو يحيى برم ما تثلم من أسوارها ولم ما تشعب منها، وقفل إلى تونس، قد أنجح الله قصدهم وأظهرهم على عدوهم والله تعالى ينصر من يشاء وهو القوى العزيز. انتقاض قفصة وحصارها: كان السلطان أبو العباسى قد ولّي على قفصة عندما ملكها إبنه الأمير أبا بكر وأقام في خدمه من رجال دولتهم عبد الله التريكي من موالي جدهم السلطان أبي يحيى فانتظم به أموه، وأقام بها حولاً. ثم تجافى عن أمارتها ولحق بأبيه بتونس سنة إثنتين وثمانين وسبعين فجعل السلطان أمر قفصة لعبد الله التريكي وولاّه عليها ثقة بغنائه واضطلاعه. ولم يزل واليأ بها إلى أن ملك سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وولى السلطان
مكانه محمداً إبنه، وكان له إخوة أصاغر أبنا علات فنافسوه قي تلك الرتبة وحسدوه عليها، وأكراهم به محمد الدنيدون من قرابة أحمله بن العابد كان ينظر قي قسمة الماء بالبلد، وكان فيها عدلاً معقلاً فلم تطرقه النكبة كما طرقت قومه، وأبقاه السلطان بالبلد فأغرى هؤلاء الإخوة باخيهم ووثبوا به فاعتقلوه وأظهروا العصيان. ثم حمله أعيان البلد على البراءة من بني عبد الله التريكي استرابة بهم أن يراجعوا طاعة السلطان فتوثب بهم وأخرجهم واستصفاهم واستقل برياسة البلد كما كان قومه، والسلطان في خلال ذلك يرعد ويبرق ويواصل الأعذار والإنذار، وهم قد لجوا في طغيانهم. ثم جمع جنوده واحتشد واستألف الأعراب، ووفر لهم ا الأعطيات. ونهض إليها حتى نزل بساحتها منتصف خمس وتسعين وسبعمائة. وقد استعدوا وتحصنوا فألح عليهم القتال وأذاقهم النكال، وقطع عنهم المعيرة فضيق مخنقهم. ثم عدا على نخلهم فقطعها حتى صرع جذوعها، وفسح المجال بين لفافها. ولما اشتدد بهم الحصار وضاق عليهم المخنق، خرج شيخهم الدنيدن إلى السلطان
يعقد معه صلحاً على بلده وقومه فغدر به، وحبسه رجاء أن يملك بذلك البلد. وكان بعض بني العابد إسمه عمر بن الحسن قد انتبذ عن قفصة أيام نكبتهم وأبعد في المغرب، ثم رجع ونزل بأطراف الزاب. ولما استقل الدنيدن بقفصة قدم عليه فأقام معه أياماً. ثم استراب به وتقبض عليه وحبسه. فلما غدر به السلطان اجتمعت عليه المشيخة وعقدوا له الإمرة، وبعثوا إلى العرب يسترحمونهم ويعطفونهم على ذخيرتهم فيهم. وسربوا إليهم الأموال فتصدى للدفاع عنهم صولة بن خالد بن حمزة أمير أولاد أبي الليل. وزحف إلى السلطان بمعسكره من ظاهر البلد، وكان أولياءه من العرب قد ابعدوا عنه في الجهات لانتجاع إبلهم فما راعه إلا إطلاق صولة برايته في قومه فأجفل واتبعوه. وما زال يكر عليهم في بنيه وخواصه حتى ردهم على أعقابهم. وأغذ السير إلى تونس وهم في اتباعه، ولم يظفروا منه بعقال إلأ ما كان من طعن القنا ووقع السيوف حتى وصل إلى حضرته. ثم ندم صولة على ما كان منه وراسل السلطان بطاعته فلم يقبله، وانحدر إلى مشاتيه سنة ست وتسعين وسبعمائة. واستدعى ابن يملول من عش نفاقه ببسكرة فخف إليه، ودفعه إليها تربه في الغي أحمد بن مزني صاحب الزاب. ووصل ابن يملول إلى صوله فأغراه بحصار توزر، ونزل معه عليها بقومه فجلى الأمير المنتصر في دفاعهم والامتناع عليهم حتى يئسوا واضطربت آراؤهم، وأفرجوا عنها مفترقين. وصعد صولة إلى التل للمصيف به، وعاود الرغبة من
السلطان في قبول طاعته. وكان محمد الدنيدن لما أجفل السلطان عن قفصة تركه بتلك الناحية فلما وصل إلى تونس راسل أهل قفصة في الرجوع إليهم فأجابه بعض أشياعه، ودخل البلد فنذر به عمر بن العابد وكبسه بمكانه الذي نزل به وقتله، واستبد بمشيخة قفصة. وخشي أهل قفصة من عائلة السلطان وسوء مغبة العصيان فبعثوا إلى السلطان بطاعتهم، وشرط عليهم نزول عامله عندهم، وهذا آخر ما بلغنا عنهم ولما بلغنا أنه عقد لهم ولا لصولة أمرا والله يصرف الأمور بحكمته.
ولاية عمر ابن السلطان على صفاقس واستيلاؤه منها علي قابس وجزيرة جربة: هدا الأمير عمر ابن السلطان هو شقيق إبراهيم الذي كان أميراً بقسنطينة وكان في كفالة أخيه إبراهيم فلما توفي كما مر لحق بالسلطان أبيه وأقام عنه. ولما كان من وفاة أبي بكر بن ثابت شيخ طرابلس ما قدمناه واضطراب قومه من بعده، ونزع قائدهم قاسم بن خلف إلى السلطان فبعث معه إبنه عمر هذا سنة إثنتين وتسعين وسبعمائة لحصار طرابلس، وأقام عليها حولاً كريتاً يحاصرها ويمنع الأقوات عنها، حتى ضجروا وضجر من طول المقامة فدافعوه بالضريبة وانكفأ راجعاً إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة. ووافاه جاثماً على قفصة عندما انتقضوا عليه. وقد كان مر في طريقه على جربة، وأراد الدخول إليها فمنعه عامل أبيه بها من الموالي المعلوجي فأنف من ذلك، وشكاه إلى أبيه فولاّه على صفاقس. ووعده بولاية جربة فسار هو إلى صفاقس وأجاز البحر إلى جزيرة جربة وانضم إليه جميع من بها من القبائل. وامتنع العلج منصور العامل بحصنها المسمى بالقشتيل بلسان الفرنج، حتى كاتب السلطان وأمره بتمكين إبنه من الحصن والإفراج له عن الجزيرة أجمع فاستبد بها ثم إن الأمير عمر سما إلى ملك قابس فداخل أهل الحافة جارتها المجلبة عليها على الأيام في ذلك وأجابوه، وساروا معه بجموعه سنة ست وتسعين وسبعمائة فبيتها وملكها. وقبض على رئيسها يحيى بن عبد الملك بن مكي فضرب عنقه، وانقرض أمر بن مكي من قابس واستقل بها الأمير عمر مضافة إلى ما كان بيده والله وارث الأمور.
وفاة السلطان أبي العباس وولاية إبنه أبي فارس عزوز:
كان السلطان أبو العباس قد أزمن به وجع النقرس حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغال في المحفة. ثم اشتد به آخر عمره وأشرف في سنة ست وتسعين وسبعمائةعلى الهلكة. وكان أخوه زكريا رديفه في الملك والمرشح بعده للأمر، وبنه محمد والياً في بونة موضع إمارته من قبل. وكان للسلطان ولذ كثيرون يتطاولون إلى مكان أبيهم ويغصون بعمهم زكريا، ويخشون غائلته بعد أبيهم. فلما قارب السلطان منيته اشتد جزعهم وإشفاقهم من عمهم. وبعث السلطان كبيرهم أبا بكر بعهده على قسنطينة فسار إليها بين أيدي موته، واعصوصب الباقون على كبيرهم بعده أبي فارس عزوز فقبضوا على عمهم زكريا، وقد دخل يعود أخاه، وأودعوه في بعض الحجر ووكلوا به. وهلك السلطان لثلاث بعدها فبايعوا أخاهم أبا فارس رابع شعبان سنة ست وتسعين وجاء أهل البلد إلى بيعته أفواجاً من الأعيان والكافة فتمت بيعته، وأمر بنقل ما في بيوت عمه من الأموال والذخيرة إلى قصره حتى استوعبها، وضيق عليه في محبسه وقام بتدبير ملكه وسياسة سلطانه. وولى بعض اخوانه على منابر عمله بأفريقية فبعث أحدهم على سوسة والثاني على المهدية، وردف أخاه إسمعيل في ملكه بتونس، وأحل الباقين محل الشورى والمفاوضة. وبلغ الخبر إلى أخيه المنتصر بتوزر فاضطرب أمره ولحق بالحامة فأقام بها وكذلك أخوه زكريا بنفطة فلحق بجبال نفزاوة. وكان أخوه أبو بكر لما سار إلى قسنطينة لولاية أبيه قبل وفاته مرببونة فلقيه صاحبها الأمير محمد ابن عمه زكريا بما شاء من أ الكرامة والمبرة ووافى قسنطينة فطلب منه القائمون بها كتاب السلطان بعهده علمها فأقرأهم إياه، وفتحوا له الأبواب فدخل واستولى على أمرها. وكان خالصة السلطان محمد بن أبي هلال قد بعثه السلطان قبيل موته إلى السلطان أبي فارس عبد العزيز المتولي بالمغرب بعد وفاة أبيه السلطان أبي العباس بن أبي سالم في صفر من شهور السنة، وحمله من الهدايا والتحف ما يليق بأمثالهما فسار، فلما انتهى إلى ميلة بلغه الدر بوفاة السلطان مرسله، وأوعز إليه الأمير أبو بكر من قسنطينة
بالرجوع إليه فرجع بهديته واستقر عنده هنالك. (هذا آخر ما بلغنا) من الأخبار الصحيحة عنهم لهذه السنين، وحالهم على ذلك لهذا العهد، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء لارب سواة ولا معبود إلا إياه وهو على كل شىء قدير.
خريطة
بني مزني
الخبر عن بني مزني أمراء بسكرة وما إليها من الزاب
هذا البلد بسكرة هو قاعدة وطن الزاب لهذا العهد، وحده من لدن قصر الدوسن بالغرب إلى قصور تنومة وبادس في الشرق، يفصل بينه وبين البسيط الذي يسمو الحضنة جبل جاثم من المغرب إلى المشرق، ذو ثنايا تفضي إليه من تلك الحضة، وهو جبل درن المتصل من أقصى المغرب إلى قبلة برقة. يعتمر بعض ذلك الجبل في محاذاة الزاب من غربيه بقايا عمرت من زناتة، ويتصل من شرقيه بجبل أوراس المطل على بسكر المعترض في ذلك البسيط من القبلة إلى الشمال، وهو جبل مشهور الذكر يأتي الخبر بعض ساكنيه. وهذا الزاب وطن كبير يشتمل على قرى متعددة متجاورة جمعاً جمعاً يعرف كل واحد منها بالزاب. وأولها زاب الدوسن، ثم زاب طولقة، ثم زاب مليلة و بسكرة وزاب تهودا وزاب بادس. وبسكرة أم هذه القرى كلها، وكانت مشيختها القديم بعد الأغالبة والشيعة لعهد صنهاجة ملوك القلعة في بني رفان من أهلها بما كثروا
ساكنها، وملكوا عامة ضياعها. كان لجعفر بن أبي رمان منهم صيت وشهرة.
وربما نقضوا الطاعة لعهد بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة في سني خمسين وأربعمائة، وضبطوا البلد وامتنعوا. وتولى كبر ذلك جعفر بن أبي رمانة، ونازلتهم جيوش صنهاجة إلى نظر الوزير خلف بن أبي حيدرة من صنائع الدولة فاقتحمها عليهم، واحتملهم إلى القلعة فقتلهم بلكين جميعاً، وجعلهم عظة لمن بعدهم. وأصار أمر الشورى لبني سندي من أهلها. وكان لعروس منهم بعد ذلك خلوص في الطاعة وانحياش إلى الدولة، على حين تقلص ظلها وفشل ريحها، وألوى الهرم بشبابها. وهو الذي فتك بالمنتصر بن خزرون الزناتي عند وصوله من المشرق واجتلابه على السلطان بقومه من مغراوة وأعراب الأثبج وبني عدي من بني هلال فمكر به
السلطان وأقطعه ضواحي الزاب وريغة طعمة. ودس إلى عروس في الفتك به ففعل كما قدمنا ذكره في أخبار آل حماد. وانقرضت رياسة بني سندي بانقراض أمراء صنهاجة من أفريقية. وجاءت دولة الموحدين، والكثرة والبيت لبني رمان. وكان بنو مزني لفقاً من لفائق الأعراب وصلوا إلى أفريقية أحلافاً لطوالع بني هلال بن عامر في المائة الخامسة كما قدمنا.
ونسبهم بزعمهم في مازن من فزارة والصحيح أنهم في لطيف من الأثبج. ثم من بني جرى بن علوان بن محمد بن لقمان بن خليفة بن لطيف، واسم أبيهم مزنة بن ديفل بن محيا بن جرى، هكذا تلقيته من بعض نسابة الهلاليين، وشهد لذلك الوطن فإن أهل الزاب كلهم من أفاريق الأثبج، عجزوا عن الظعن ونزلوا قراه على من كان بها قبلهم من زناتة وطوالع الفتح. وإنما يرعون عن هذا النسب فزارة لما صار إليه أهل الأثبج بالزاب من المغرم والوضائع، فيستنكفون لذلك وينتسبون إلى غرائب الأنساب. وكان أول نزلهم بقرية من قرى بسكرة، كانت تعرف بقرية حياس. ثم عفوا وتأثلوا وأخذوا مع أهل بسكرة بحظ وافر في تملك العقار والمياه. ثم انتقلوا إلى البلد واستمتعوا منها بالمنزل والظلال، وقاسموا أهلها في الحلو والمر، وانتظم كبارهم في أرباب الشورى من المشيخة. ثم استنكف بنو رمان من انتظامهم معهم وحسدوهم ما آتاهم الله من فضله، وحذروهم على أنفسهم فاضطرمت بينهم نار العداوة والإحن، كان أولها الكلام والترافع إلى سدة السلطان بتونس على حين استقلال أبي حفص بأفريقية، ولعهد الأمير أبي زكريا وإبنه السلطان المستنصر. ثم تناجزوا الحرب وتواقعوا سكك المدينة، وكانت صاغية الدولة مع بني رمان لقديمهم في البلد. ولما خرج الأمير أبو إسحق على أخيه محمد المستنصر لأول بيعته، ولحق بالزواودة من العرب وبايع له موسى بن محمد بن مسعود البلط أمير البدو يومئذ، واعتمل به بسكرة وبلاد الزاب، وأناخ عليها بكلكله كما قدمناه. قام يومئذ فضل بن علي بن أحمد بن الحسن بن علي بن مزني بدعوته، وأعلن بين أهل البلد بطاعته
واتبعوه على كره. ثم عاجلتهم عساكر السلطان وأجهضتهم عن الزاب فاعتلق فضل بن علي به، واستمسك بذيله وصحبه في طريقه إلى الأندلس، وبدار غربته منها، إلى أن هلك المستنصر أخوه. وهيأ الله له من أمر الخلافة ما هيا حسبما ذكرناه. ولما تم امره، واقتعد بتونس كرسي خلافته عقد لفضل بن علي على الزاب، ولأخيه عبد الواحد على بلد الجريد رعياً لذمة خدمتهما، وذكراً لائتلافهما في المنزل الخشن وصحبتهما، فقدم والياً على الزاب، ودخل بسكرة واستكان بنو رمان لصولته وانقادوا في مرضاة الدولة إلى أمره فلم ينبسوا بكلمة في شأنه، واضطلع بتلك الولاية ما شاء الله. ثم كان شأن الدعي ابن أبي عمارة وتلبيسه، ومهلك السلطان أبي إسحق على يده. ثم ثار منه السلطان أبو حفص بأخيه واسترجع ما ضاع من ملكهم، وكل منهم يثق بغنائه، ويعول في أمر الزاب على كفايته. وسيم أعداؤه بنو رمان أيام ولايته فداخلوا أولاد حريز من لطيف أحد بطون الأثابج، كانوا نزلوا بقرية ماشاش لضيق المدينة حين عجزوا عن الطعن، وخالطوا أهل البلد في أحوالهم، وامتزجوا معهم بالنسب والصهر فأغروهم بفضل بن علي أن يكون التقدم لهم في الفتك به، وتناول الأمر من يده، وأن يخربوا بيوتهم من قرية ماشاش بأيديهم ليسكنوا إليهم ويطمئنوا إلى ولايتهم حلفاً عقدوه على المكر بهم. ولما أوقعوا به بظاهر البلد في بعض أيام ركوبه سنة ثلاث وثمانين وستمائة، ونزلوا من أمر الزاب ما كان يتولاه تنكر لهم بنو رمان لحولين من ذلك الحلف، ونابذوهم العهد فخرجوا عن البلد، وفقدوا المأوى للتمرس بها من قريب فتفرقوا في بلد ريغة. واستبد بنو رمان بشورى بسكرة والزاب منتقضين عليهم وعلى السلطان، والزواودة قد تغلبوا عليه وعلى بلاد الحضنة، من ورائه نقاوس ومقرة والميلة. وكان منصور بن فضل بن علي عند مهلك أبيه بالحضرة في بعض شؤونه، فلما هلك أبوه واستبد بنو رمان بعده، بثوا السعايات فيه إلى السلطان بالحضرة فأنجحت وتقبض عليه واعتقل أيام السلطان أبي حفص
ولما تغلب المولى، أبو زكريا يحيى ابن الأمير أبي إسحق على بجاية وقسنطينة وبونة، واستقل بأمرها وانقسمت دولة آل أبي حفص بملكه ذلك منها، تمسك أهل الزاب بدعوة صاحب الحضرة المولى أبي حفص وفر منصور بن فضل بن علي من محبسه بتونس ولحق ببجاية بعهد مهلك الحاجب القائم بالأمر أبي الحسين بن سيد الناس، وتولية السلطان أبي زكريا مكانه، كاتبه أبا القاسم بن أبي يحيى سنة إحدى وتسعين وستمائة، فلازم خدمته وخص عليه وصانعه بوجوه التحف، وتضمن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه، وتسريب أمواله وجبايته إليه واستماله بذلك، فعقد له على الزاب وأمده بعسكر فنازل بسكرة. ووفد أهلها بنو زيان على السلطان ببجاية ببيعتهم فرجعهم على الأعقاب إلى عاملهم منصور، وكتب إليه بقبول بيعتهم ودخل البلد سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وكادهم في بناء القصر لشيعته، وتحضن العسكر بسوره. ثم نابذهم العهد وثار بهم وأجلاهم عن البلد، واستمكن فيه ورسخت قدم إمارته، واستدر جباية السلطان، واتسع له نطاق العمالة فاستضاف إلى عمل الزاب جبل أوراس، وقرى ريغة وبلاد واركلي، وقرى الحصنة: مقرة ونقاوس والمسيلة. فعقد له السلطان على جميعها، ودفعه إلى مزاحمة العرب في جبايتها وانتهاش لحومها إذ كانوا قد غلبوا على سائر الضواحي فساهمهم في جبايتها، حتى كاد يغلبهم عليها. ووفر أموال الدولة وأنمى الخراج وصانع رجال السلطان فألقوا عليه بالمحبة، وجذبوا بضبعه إلى أقصى مراتب الاصطناع فأثرى واحتجن الأموال، ووشجت عروق رياسته ببسكرة، ورسخت منابت عزه. وهلك المولى أبو زكريا الأوسط على رأس المائة السابعة، وولوا مكانه إبنه الأمير أبا البقاء خالد كما قدمناه، وقام بأمره حاجبه أبو عبد الرحمن بن غمر.
وكان لمنصور بن فضل هذا اختصاص به واعتلاق بيد جاهه فاستنام إليه وعول في سائر الضواحي من ممالك السلطان على نظره، وعقد له على بلاد التل من أرض سدويكش وعياض فاستضافها إلى عمله، وجرد عن ساعد كفايته في جبايتها فلقح عقيمها وتفجرت ينابيعها. ثم حدثت بينه وبين الدولة منافرة، وأجلب على قسنطينة بيحيى بن خالد ابن السلطان أبي إسحق، حاجبه تلمسان، وبايع له،
واستألف الزواودة لمشايعته، ونازل به قسنطينة ثم اطلع على كامن صدره فيه وما طوى عليه من التربص به فحل عقدته، ولحق بعسكره ببسكرة، وراجع الطاعة. ولحق به يحيى بن خالد فاعتقله إلى أن هلك سنة عشرين وسبعمائة، وكانت بينه وبين المرابطين أهل السنة من العرب أتباع سعادة المشهور الذكر فتن وحروب، طالبوه بترك المغارم والمكوس تخفيفاً عن الرعية وعملاً بالسنة التي كانوا ملتزمين لطريقها، ونازلوه من أجل ذلك ببسكرة مراراً. ثم هلك سعادة في بعض حروبه على مليلى كما مر في ذكره سنة خمس وسبعمائة. وجمع منصور بن مزني للمرابطين، وبعث عسكره يقوده ابنه عليّ بن منصور مع علي بن أحمد شيخ الزواودة، وعلى المرابط أبو يحيى بن أحمد أخوه ومعه رجالات المرابطين مثل: عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد عساكر، وعطية بن سليمان بن سباع وحسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة فهزموا عسكر ابن مزني وقتلوا إبنه علياً وتقبضوا على عليّ بن أحمد، ثم منوا عليه وأطلقوه. ورجعوا إلى بسكرة فنازلوها وقطعوا نخيلها. ثم عاودوه ثانية وثالثة. ولم يزل الحرب بينه وبين هؤلاء المرابطين سائر أيامه. وكان الحاجب ابن غمر قد استخلصه لنفسه وأحفه محل الثقة بخلته والاستقامة إلى صفائه. ولما نهض السلطان أبو البقاء إلى تونس صحبه الحاجب في جملته حتى إذا أعمل المكيدة في الانصراف عن السلطان شاركه في تدبيرها إلى أن تمت كما قدمناه. ورجع الحاجب إلى قسنطينة، وصرفه إلى مكان عمله من الزاب. وكان يتردد إليه ببجاية للزيارة والمطالعة في أعماله إلى أن غدر به العرب في بعض طرقه إليها. وتقبض عليه من أمراء الزواودة علي بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود، وسليمان بن علي بن سباع بن يحيى بن مسعود على حين اجتذبا حبل الأمارة من يد عثمان بن سباع بن شبل بن موسى بن محمد، واقتسما رياسة الزواودة قومهما فاستمكنا من هذا العامل منصور بن فضل في مرجعه من عمله ببلاد سدويكش، وأوثقوه اعتقالاً، وهموا بقتله فافتدى منهم بخمسة قناطير من الذهب، وارتاشوا بمكسوبهم وصرفوا في وجوه رياستهم إنفاقها. وقبض منصور بن فضل عنانه عن السفر بعدها إلا في الأحايين. وبعد أخذ الرهن من العرب إلى أن
كانت حركة مولانا السلطان أبي يحيى إلى تونس سنة سبع عشرة وسبعمائة أول حركاته إليها، وطالب حاجبه يعقوب بن غمر وهو بثغر بجاية بالأموال للنفقات والأعطيات، فبعث إليه بمنصور بن فضل وأشار بعقده له على حجابته ليقوم بأمره، ويكفيه مهمات شؤونه. واعتدها منصور على ابن غمر فساء ظنه، وتنكر له ابن غمر، وحالت صبغة وده، وانكفأ السلطان من حركته تلك مخفق السعي بعد أن نزل ظاهر تونس بعساكره كما قدمناه. ولما احتل بقسنطينة بدت له من يعقوب بن غمر صاحب الثغر مخايل الامتناع فأقصر عن اللحاق به، وترددت بينهما الرسل، وبعث له ابن غمر في منصور بن فضل. ونذر منه بالشر فأجاب داعيه، وصحب قائد السلطان يومئذ محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس إليه، حتى إذا كان ببعض الطريق عدل إلى بلده، وهم به القائد فأجاره أولياؤه من العرب: عثمان بن الناصر شيخ أولاد حربي، ويعقوب بن إدريس شيخ أولاد خنفر ومن معهم من ذويهم. ولحق ببسكرة وبلغ الخبر إلى ابن غمر فقرع سن الندم عليه، وشايع منصور بن مزني عدوهم صاحب تلمسان أبا تاشفين ودخل في دعوته، وأوفد إبنه يوسف عليه بالطاعة والهدية. وملك السلطان خلال ذلك تونس وسائر بلاد أفريقية. وهلك ابن غمر سنة تسع عشرة وسبعمائة، ولم يزل منصور بن مزني ممتنعاً سائر أيامه على الدولة، والعساكر من بجاية تتردد لمنازلته إلى أن هلك سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وقام بأمره من بعده إبنه عبد الواحد فعقد له السلطان على عمل أبيه بالزاب، واستضاف إليه ما وراءه من البلاد الصحراوية: قرى ريغة وواركلي. وكان السلطان قد عقد على الثغر بعد مهلك ابن عمر لمحمد بن أبي الحسين بن سيد الناس، وجعل له كفالة إبنه يحيى ودفعه إليه، فتجددت الوحشة بين عبد الواحد هذا وبين صاحب الثغر في سبيل المنافسة في المرتبة عند السلطان، لما كانوا جميعاً صنائع وبطانة للحاجب ابن عمر. وبعث العساكر لحربه ومنازلة حصنه. وناول عبد الواحد هذا لآل زيان مخانقي الدولة طرفاً من حبل طاعته تقبل فيها مذهب أبيه آخر عمره. وطال تمرس الجيوش به إلى أن استجن منه عبد الواحد بصهر عقد له على إبنته، واشتراط المهادنة وتسليم الجباية، وتودع أمره إلى أن اغتاله أخوه يوسف سنة تسع وعشرين وسبعمائة بمداخلة بطانتهم من بني
سماط وبني أبي كواية. ولما أحكم مداخلتهم آذنه عشاء للشورى معه في بعض المهمات، وطعنه بخنجره فأشواه وهلك لحينه. واستقل يوسف بن منصور بأمارة الزاب، ووصله مرسوم السلطان بالتقليد والخلع على العادة، وأجرى الرسم في الدعاء له على منابرعمله.
وكان السلطان قد استدعى محمد بن سيد الناس من الثغر لحجابته، وفوض له أمور مهلكه فلهجت نار العداوة والإحن القديمة ما بينه وبين يوسف بن منصور عامل الزاب، وهم به لولا ما أخذ بحجنرته من الشغل الشاغل للدولة بتحيف آل زيان وهلك الحاجب سنة إثنتين وثلاثين وسبعمائة في نكبة السلطان إياه كما ذكرناه، وعقد لمحمد بن الحكيم على القيادة وجعل بيده زمام العساكر، وفوض له في سائر القرى والضواحي فأجرى رياسته وحكمه في دولته، وتغلب على أمره حين فرغ السلطان من الشغل بمدافعة عدوه، وحط ما كان من إصرهم على كاهل دولته. ونهض السلطان أبو الحسن إلى يغمراسن فقلم أظفار أعدائهم وفل شبا عزائمهم كما شرحناه قبل، فأذكى القائد محمد بن الحكيم مع يوسف بن منصور نار العداوة. وأثار له من السلطان كامن الحفيظة وصرف وجوه العزائم إلى حمله على الجادة وتقويمه عن المراوغة في الطاعة، وناهضه بالعساكر مرات ثلاثاً يدافعه في كلها بتسليم الجباية إليه. ثم كانت بينه وبين علي بن أحمد كبير الزواودة فتن وحروب دعا إليها منافسة علي في استئثاره بمال الجباية دونه فواضعه الحرب، ودعا العرب إلى منازلته مموهاً بالدعاء إلى السنة. وحشد أهل ريغ لذلك ونازله، وانحرف عنه إبنه يعقوب ودخل إلى بسكرة فأصهر له ابن مزني في أخته بنت منصور بن فضل. وعقد له عليها فحسن دفاعه عنه، وبعث ابن مزني عن سليمان بن علي كبير أولاد سباع، وقريع علي بن أحمد في شؤونه، فكان عنده ببسكرة يغاديه القتال ويراوحه إلى أن امتنع ابن مزني. ورحل علي ابن أحمد بن بسكرة، وصار مع ابن مزني إلى الاتفاق والمهادنة أعوام الأربعين من المائة الثامنة. ثم كانت غزاة القائد ابن الحكيم إليه نهض من أفريقية بعد أن نازل بلاد الجريد، واقتضى طاعتهم ومغارمهم، واسترهن ولد ابن يملول. ثم
ارتحل إلى الزاب في جنوده ومعه العرب من سليم فأجفل بالزاب ونزل بلد أوماش من قراه، وفرت العرب من الزواودة وسائر رياح أمامه، ودافعه يوسف بن مزني بهديته، دفعها إليه وهو بمكانه من أوماش. وارتحل عنه إلى بلاد ريغ فافتتح تقرت معقلهم واستباحها ودوخ سائر أعماله. ورجع إلى تونس ونكب السلطان قائده محمد بن الحكيم هذا سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وولى إبنه أبا حفص عمر. وخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرتة بطانته، فلحق بملك المغرب المرهوب الشبا المطل على الممالك، يعسوب القبائل والعشائر أبي الحسن، وأغراه بملك أفريقية واستجره إليها فنهض في الأمم العريضة سنة
ثمان وأربعين وسبعمائة كما ذكرنا ذلك كله من قبل. ووفد عليه يوسف بن منصور أمير الزاب بمعسكره من بني حسن فلقاه براً وترحيباً واستتبعه في جملته إلى قسنطينة. ثم عقد له على الزاب وما وراءه من قرى ريغة وواركلي، وصرفه إلى عمالته. واستقبل تونس، وأمره برفع الجباية إليه مع العمال القادمين من أقصى المغرب على رأس الحول فاستعذ لذلك، حتى إذا سمع بوصولهم من المغرب لحقهم بقسنطينة، وفجأهم هنالك جميعاً الخبر بنكبة السلطان على القيروان كما ذكرناه، فاعتزم على اللحاق ببلده. واعصوصب عليه يعقوب بن علي بن أحمد أمير البدو بالناحية القريبة من أفريقية لأزمة صهر كانت بينهما ومخالصة. وتحيز إليهم من كان بقسنطينة من أولياء السلطان وحاشيته وعماله، ورسل الطاغية والسودان الوافدين مع إبنه عبد الله من أصاغر بنيه، أواهم يوسف بن منصور جميعاً إليه، وأنزلهم ببلده وكفاهم مهماتهم شهوراً من الدهر حتى خلص السلطان من القيروان إلى تونس، ولحقوا به مع يعقوب بن علي فكانت تلك يداً اتخذها يوسف بن يعقوب عند السلطان أبي الحسن وبنيه باقي الأيام. ثم أتبع ذلك بمخالفة رؤساء النواحي من أفريقية جميعاً في الانتقاض عليه، وأقام متمسكاً بطاعته يسرب الأموال إليه بتونس وبالجزائر عند خلوصه إليها من النكبة البحرية كما سنذكره، ويدعو له على منابره بعد تقويضه عن الجزائر إلى المغرب الأقصى لاسترجاع ملكه، إلى أن هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة من أقصى المغرب سنة إثنتين وخمسين وسبعمائة واستقام أمر الدولة المرينية الحية الذكر لإبنه السلطان أبي
عنان الحية الذكر ولما استضاف إلى ملكه ملك تلمسان، ومحا ما جدده بنو عبد الواد من رسوم ملكهم وجمع كلمة زناتة، وأطل على البلاد الشرقية سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، بادر يوسف بن منصور بطاعته فأتاها طواعية، وأوفد على السلطان رسله بكتاب بيعته. ثم أوفد عليه ثانياً مع حاجبه الكاتب أبي عبد الله محمد بن أبي عمر، وبعثه بالعساكر لتدويخ أفريقية وتمهيد ملكه ببجاية كما سنذكره. وأوفد عليه أمراء القبائل والبدو ورؤساء النواحي سنة أربع وخمسين وسبعمائة، ووفد في جملتهم يوسد بن منصور أمير الزاب، ويعقوب بن علي أمير البدو وسائر الزواودة فلقاه السلطان تكرمة ورعياً لأزمة خلوصهم لأبيه وقومه من بين أهل أفريقية، وأسنى جوائزهم. وعقد ليوسف بن مزني على الزاب وما وراءه من بلاد ريغة وواركلي على عادته وانقلب محبواً محبوراً.
وقد ثبت له من ولاية السلطان ومخالصته حظ، ورفع له ببساطه مجلس. ولما نهض السلطان إلى أفريقية لافتتاح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة كما سنذكره تلقاه يوسف بن منصور على قسنطينة فخلطه بأوليائه، ونظمه في طبقات وزرائه. واستوحش يعقوب بن علي يومئذ من مطالبته بالرهن له ولقومه وانتقض، وأجفلت أحياؤه إلى بلاد الزاب. وخرب بلاد يعقوب بن علي بالزاب والتل بقطع شجرائها وبغور مياهها، وبهدم بنائها وبنسف آثارها. ودخل يعقوب بأحيائه الرمل وأعجزوا السلطان فانكفأ راجعاً، واحتل بظاهر بسكرة فتلوم بها ثلاثا لإراحة العساكر وإزاحة عللهم من وعثاء السفر وشعث الصحراء، فغرب يوسف بن منصور في قرى عسكره أيام مقامه شملهم فيها من العلوفة والحنطة واللحمان والأدم بما أرغد عيشهم وكفاهم مهمهم. وتحدث بها الناس دهراً ورفع إليه جباية الزاب لعامه قناطير من الذهب دفعه ببيت المال فقبضه القهارمة من ثقاته، وأجزل السلطان مثوبته وأسنى عطيته، واختصه بكسوة ثيابه وعياله من كسى حرمه وثياب قصره. وانكفأ راجعاً إلى حضرته. ثم أوفد يوسف بن منصور إبنه أحمد على السلطان بسدته من فاس عند منصرف وزيره سليمان بن داود من حركة أفريقية سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وأصحبه هدية من عتاق الخيل وفاره الرقيق. وأقام أياماً في نزل
كريم ومحل من المجلس رفيع إلى أن هلك السلطان خاتمة تسع وخمسين وسبعمائة، فأرغد القائم بالدولة من بعده جائزته وأسنى صلته وصرفه إلى عمله، واستوصى به أمراء النواحي والثغور في طريقه. ولم ينشب أن شبت نار الفتنة، وانتزى الخوارج بالجهات بعد مهلك السلطان فخلص إلى أبيه بعد عنائه وعلى يأس من النحاة بعد أن حصل في قبضة أبي حمو سلطان بني عبد الواد عند استيلائه على تلمسان، وهو بها مع بني مرين، وقد مر بهم مجتازاً إلى وطنه فأجاره عليه صغير بن عامر شيخ بني عامر من زغبة رعياً لأزمة إبنه يوسف صاحب الزاب، وتأميلاً للعرب فيه وفي أعماله. وبعد أن بذل له من يده، ومن طرف ما وصله بنو مرين من ذخائرهم فبعث معه صغير ركاباً من قومه أبلغوه فكانت إحدى الغرائب في نجاته.
واسترجع الموحدون ثغورهم: بجاية وقسنطينة من يد بني مرين وأزعجوا عنها العساكر المجمرة بها من قبائلهم كما قدمناه، فراجع يوسف بن منصور طاعته المعروفة إلى أن هلك سنة سبع وستين وسبعمائة ليوم عاشوراء، وقام بأمره إبنه أحمد، وجرى على سننه وهو لهذا العهد أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته متقبل في مذهبه وطريقه إلا أن خلق أبيه كان سخية وخلق هذا تلهوقاً لما فيه من التحذلق، وربك يخلق ما يشاء ويختار. وله ولد كبيرهم أبو يحيى من بنت محمد بن يملول أخت يحيى، وهو لهذا العهد مرشح لمكانه. ولما حفت بهل الجريد الفاقرة ونزل به يحيى بن يملول المشؤوم على وطنه توجس الخيفة من السلطان وتوقع المطالبة بطاعة غير طاعته المعروفة، فسرب الأموال في العرب ومد يده إلى حبل صاحب تلمسان ليتمسك به فوجده قاصراً عنه. وأقام يقدم في أمره رجلاً ويؤخر أخرى،. ثم قذف الله نور الهداية في قلبه، وأراه سنن رشده. وبادر إلى الاستقامة في الطاعة والعدول عن المراوغة، ووصله وافد السلطان أبي العباس شيخ الموحدين أبو عبدالله بن أبي هلال، وكشف له قناع المخالصة والانحيالش، وبعث معه وفده بهديته واستقامته وتقبله السلطان وأعاده إلى أحسن الأحوال من الرضى عنه، والله متولي الأمور سبحانه لارب سواه ولا معبود إلا إياه.
الخبر عن رياسة بني يملول بتوزر وبني الخلف بنفطة وبني أبي منيع بالحامة:
زعيم هؤلاء الرؤساء ابن يملول صاحب توزر، لاتساع بلده وتمدن مصره واحتلاله
منها بأم القرى من قطره، وهو يحيى بن محمد بن يملول. ونسبهم بزعمهم في طوالع العرب من تنوخ، استقرار أولوه بهذا الصقع منذ أول الفتح فعفوا وتأثلوا ووشجت به عروقهم نسباً وصهراً حتى انتظموا في بيوت الشورى المتقدمين للوفادة على الملوك وتلقي العمال القادمين من دار الخلافة والنظر في مصالح الكافة أيام آل حماد بالقلعة، وآل عبد المؤمن بمراكش وآل أبي حفص بتونس: مثل بني واطاس وبني فرقان وبني ماردة وبني عوض. وكان التقدم فيهم أيام عبيد الله الشيعي لابن فرقان، وهو الذي أخرج أبا يزيد حين شعر أنه يروم القيام على أبي القاسم القائم، وأيام آل حماد ليحيى بن واطاس، وهو النازع بطاعة أهل قسنطينة إليهم عن آل بلكين ملوك القيروان حين انقسمت دولة آل زيري، وافترق أمرهم. ثم عادت الرياسة لبني فرقان لأول دولة الموحدين، ومنهم كان الذي لقي عبد المؤمن وأتاه الطاعة عن نفسه وعن أهل بلده توزر، فتقبله ووصله. وصار الأمر للموحدين فمحوا منها آثار المشيخة والاستبداد. ونشأ أحمد هذا الجد مترامياً إلى الرياسة بهذا القطر يدافع عنه بالراح، ويزاحم بالمناكب من وجوه البلد
وأشراف الوطن. وسعى به إلى شيخ الموحدين وقائد العسكر أيام السلطان أبي حفص محمد الفازاري فنكبه وصادره على مال امتحنه عليه. كانت أول نكباته التي أورت من زناده وأوقدت من جمره، وتخلص إلى الحضرة يؤمل اقتعاد مطيته وثبوت مركزه من دار الخلافة فأوطنها أياماً يباكر أبواب الوزراء والخاصة، ويلثم أطراف الأولياء والحاشية، ويبذل كرائم ماله فيما يزلفه لديهم، ويؤثره بعنايتهم، حتى استعمل بديوان البحر مقعد العمال بمرفاً السفن لجباية الأعشار من تجار دار الحرب. ثم استضاف بما كان من غنائه فيها واضطلاعه سائر أعمال الحضرة فتقلدها زعيماً بإمضاء الجرايات وإدرار الجباية، واستمرت على ذلك حاله وتضاعفت فائدته فأثرى واحتجن المال، واستخلص الذخيرة قاطعاً لألسنة السعاية المصانعة والإتحاف بطرف ما يجلبه الروم من بضائعهم حتى أبطره الغنى، ودلت على مكامنه الثروة، ورفع أمره إلى الحاجب فخرج التوقيع بالقبض عليه، واستصفاء ماله لعهد السلطان أبي يحيى اللحياني فنكب الثانية وصودر على مئتين من آلاف الدنانير وامتحن لها، وباع فيها مكسوبه حتى من الكتب. وخلص من النكبة مثلوب الأمانة ممزق الأديم فقيد الرياش، أحوج ما كان إلى ما يعوز من الكن والدفء وبلالة العيش. ولحق ببلده ناجياً بالرمق ضارعاً للدهر.
ودفعه الملأ إلى ما يستنكفون عنه من خدمة العمال ومباكرة أبوابهم والامتهان في ضروراتهم، وأنجده في ذلك بخت جذب بضبعه. وكان في خلال ذلك شغل الحضرة شأن الثغور الغربية وأمرائها فتقلص ظل الدولة عن هؤلاء بعض الشيء، وهملت الرعايا بالبلاد الجريدية، وصار أمرها إلى الشورى التي كانت عليها قبل. فلما أدرك أحمد هذه الشورى التي كان يسمو لها سمو حباب الماء ثلج صدره، وأنجح سعيه، واستبد بمشيخة توزر. وهلك في أعوام ثمان عشرة فخلفه من بعده في سبيله تلك ولده يحيى طموحاً إلى الرتبة منافساً في الاستقلال. مزاحماً بيوتات المصر بمناكب استوصلها سائر عمره من الدعار والأوغاد بمعاقرة الخمر والمجاراة في فنون
الشباب ليستبد أمره، والاستيلاء على نظرائه حتى تطارحوا في هوة المهلك بين قتيل ومغرب ومخيف العمران لم تعطفه عليهم عواطف الرحم، ولا زجره وازع التقوى والسلطان، حتى خلا له الجو واستوسق الأمر، واستقر من أمر البلد والحل والعقد بأوفى من استبداد أبيه. وكان مهلكه قريباً من استبداده لخمس سنين متلقياً الكرة من يده أخوه تربه في الرياسة ومجاريه في مضمارها، فأجرى إلى الغاية واقتعد كرسي الرياسة وعفى على آثار المشيخة. واستظهر على أمره بمصانعة أمراء البدو وأولاد أبي الليل، والمتات إليهم بصهر كان عقده أبوه أحمد لأبي الليل جدهم على أخته أو عمته. فكانوا رداء له من الدولة فبعد صيته، وعظم استيلاؤه، وامتدت أيامه، وعنى الملوك بخطابه وإسناد الأمور في تلك البلاد إليه خلال ما تعود الكرة وتهب ريح الدولة. وزحف إليه القائد محمد بن الحكيم سني أربعين فلاذ منه بالطاعة والمصانعة بالمال، ورهنه ولده يحيى فرجعه إليه ابن الحكيم وتقبل طاعته من غير رهن استقامة لما ابتلاه من خلوصه. وأقام على ذلك إلى أن هلك أعوام أربعة وأربعين من المائة الثامنة.
وتصدى ولده عبد الله للقيام بالأمر فوثب عليه عمه أبو زيد بن أحمد فقتله على جدث أبيه صبح مواراته، بعد أن كان أظهر الرضى به والتسليم له فثارت به العامة لحينه، وكان مصرعهما واحداً. وقام بالأمر أخوه يملول بن أحمد أربعة أشهر كانت شر مدة وأسوأ ولاية، لما أصاب الناس بسوء ملكته من سفك الدماء واستباحة الحرم واغتصاب الأموال، حتى كان ينسب إلى الجنون مرة وإلى الكفر مرة أخرى فمرج أمرهم واستولى الضجر على نفوسهم. وكان أخوه أبو بكر معتقلاً بالحضرة فراسله أهل توزر سراً، وأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذت عليه المواثيق بالطاعة والوفاء بالجباية فصمد إليها بمن في لفه من الأعراب وحشد نفزاوة المجاورين لها في القرى الظاهرة المقدرة السير، وأجلب عليهم، ثم بيتها فافتتحها. وبادر الناس إلى القبض على يملول أخيه وأمكنه منه فاعتقله بداره وتبرأ من دمه، وأصبح لثالثة اعتقاله ميتا بمحبسه.وكانت قفصة من قبل ذلك لما صار أمر الجريد إلى الشورى قد استبد بها يحيى بن
محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد من بيوتها، ونسبهم في زعمهم في بلى ولهم خلف بزعمهم في الشريد من بطون سليم. والله أعلم بأولية نزولهم بقفصة
حتى التحموا بأهلها وانتظموا أمر بيوتاتها. وكانت البيوت بها بيت بني عبد الصمد وبيت بني أبي زيد، وكانت رياسته لبعض بني أبي زيد لعهد الأمير أبي زكريا الأعلى، كان يستعمله على جباية أموال الجريد، ثم سعى به أنه أصاب منها فنكبه وصودر على آلاف من المال فأعطاها، وأقامت رياستهم متفرقة في هذه البيوتات. ولما حدثت العصبية بالبلد أيام صار أمر الجريد إلى الشورى، كان بنو العابد هؤلاء أقوى عصبية من سائرهم، واستبد بها كبيرهم يحيى بن علي. فلما فرغ السلطان من شغله بزناتة، وجثم السلطان أبو الحسن على تلمسان يحاصرها. وأقبل السلطان على النظر في تمهيد ملكه وإصلاح ثغوره، وافتتح أمره بغزو قفصة، ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والأولياء من العرب فحاصرها شهراً أو نحوها، وقطع نخيلها، وضاق عنقهم بالحصار وتلاوموا في الطاعة. واستبقوا بها إلى السلطان، وفر الكثير من بني العابد فلحقوا بقابس في جوار ابن مكي. ونزل أهل البلد على حكم السلطان فتقبل طاعتهم وأحسن التجاوز عنهم، وبسط المعدلة فيهم وأحسب أمل ذوي الحاجات منهم، وانكفأ راجعا إلى حضرته بعد أن آثرهم بسكنى ولده المخصوص بعدئذ بعهده الأمير أبي العباس وأنزله بين ظهرانيهم، وعقد له على بلاد الجريد، واحتمل مقدم قفصة يحيى بن علي إلى الحضرة فلم يزل بها إلى أن هلك سنة أربع وأربعين وسبعمائة واستبد الأمير أبو العباس بأمر الجريد، واستولى على نفطة كما قدمناه. وقتل بني خلف وهم: مدافع وأبو بكر وعبد الله ومحمد، وإبنه أحمد بن محمد، إخوة أربعة، وابن أخيهم الخلف بن علي بن الخلف بن مدافع، ونسبهم في غسان في طوالع العرب. وانتقل جدهم من بعض قرى يفزاوة إلى نفطة وتأثل بها، وكان لبنيه بها بيت واستبد هؤلاء الإخوة الأربعة أزمان الشورى كما قدمناه. ولما استولى السلطان أبو بكر على الجريد، وأنزل إبنه أبا العباس بقفصة، وعقد له على سائر أمصاره اقتضى طاعتهم فامتنعوا فسرح إليهم وزيره أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين. وجهزت له العساكر من الحضرة، ونازلها وقطع نخلها فلاذ أهلها بالطاعة، وأسلموا بني مدافع المتغلبين فضرب أعناقهم وصلبهم في جذوع النخل آية للمعتبرين. وأفلت السيف منهم علياً صغيرهم لذمة اعتدها له أبو القاسم بن عتو لنزوعه قبل الحادثة،
فكانت واقيته من الهلكة. واستولى الأمير أبو العباس على نفطة واستضافها إلى عمله. ثم مرض أبو بكر بن يملول في طاعته فنهض إليه السلطان أبو بكر من تونس سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكان الفتح كما قدمناه. ولحق أبو بكر بن يملول ببسكرة فلم يزل بها إلى أن أجلب على توزر فنبذ إليه يوسف بن مزني عهده، وانتقل إلى حصون وادي ابن يملول المجاورة لتوزر، وهلك سنة ست وأربعين. ثم كان مهلك السلطان وإبنه الأمير أبي العباس صاحب الأعمال الجريدية إثر ذلك سنة سبع وأربعين وسبعمائة ورجع إلى كل مصر من الجريد مقدموه فرجع أحمد بن العابد إلى قفصة من مكانه في جوار ابن مكي واستولى على بلده في مكان ابن عمه يحيى بن علي، ورجع علي بن الخلف إلى نفطة واستبد بها، ورجع يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول إلى توزر من مثوى اغترابه ببسكرة، وارتحل إليها مع عمه أبي بكر طفلاً، فلما خلا الجديد من الأمارة درج يحيى هذا من عشه في جوار يوسف بن منصور بن مزني، وأطلقه مع أولاد مهلهل من الكعوب بعد أن وصلهم وشارطهم، واسترهن فيه أبناءهم فأوصلوه إلى محل رياسته بتوزر، ونصبه شيعته وأولياء أبيه، وقاموا بأمره. ورجع أمر الجريد كله إلى رياسة مقدمه كما كان. ثم وفدوا على السلطان أبي الحسن عند زحفه إلى أفريقية ولقوه بوهران فلقاهم مبرة وتكرمة ورجع كلاً إلى بلده ومحل رياسته بعد أن أسنى الجائزة، ووفر الإسهام والأقطاع، وأنفذ الصكوك والكتب: فرجع إلى توزر يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول صبياً مغتلماً، وإلى نفطة علي بن الخلف بن مدافع، وإلى قفصة أحمد بن عمر بن العابد. وأنزل بكل واحد من هذه الأمصار عاملاً وحامية. وعقد على الجريد كله لمسعود بن ابراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه، واستوصى لهؤلاء الرؤساء خيرا في جواره. حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وارتحل عامل الجريد مسعود بن إبراهيم يريد المغرب بمن معه من العمال والحامية، ونمي خبره إلى الأعراب من كرفة فصبحوه في بعض مراحل سفره دون أرض الزاب فاستلحموه ومن كان معه من الحامية، واستولوا على أبنيتهم وذخيرتهم وكراعهم، واستبد رؤساء تلك البلاد بأمصارهم وعادوا إلى ديدنهم من التمريض، وآذنوا بالدعاء لصاحب الحضرة
بمنابرهم، واستمروا على ذلك. فأما يحيى بن محمد بن يملول فنزع إلى مناغاة الملوك في الشارة والحجاب واتخاذ الآلة والبيت المقصور للصلاة، واقتعاد الأريكة وخطاب التمويل.و فسح للمجون والعكوف على اللذات مجالاً، يرى أن جماع السياسة والملك في إدارة الكأس وافتراش الاس والحجبة عن الناس والتأله على الندمان والجلاس. وفتح مع ذلك على رعيته وأهل إيالته باب العسف والجور. وربما بيت مشاهيرهم غيلة فأتلف نفوسهم، وامتد أمره في ذلك إلى أن استولى السلطان أبو العباس على أفريقية، وكان من أمره ما نذكره. وأما جاره الجنب علي بن الخلف فلم يلبث لما استبد برياسته أن حج سنة أربع وستين وسبعمائة، والتزم مذاهب الخير وطرق الرضى والعدالة، وهلك سنة خمس وستين وسبعمائة بعدها، وولي مكانه إبنه محمد جمارياً على سننه. ثم هلك لسنة من ولايته وقام بأمره أخوه عبد الله بن علي فأذكى سياسته، وأيقظ حزمه وأرهف للناس حده فنقموا عليه سيرته، وسيموا عسفه، واستمكن مناهضهم في الشرف ومحاذيهم في رياسة البلد القاضي محمد بن خلف الله من صاحب الحضرة بذمة كانت له في خدمة قديماً استعمله لرعيها في خطة القضاء بحضرته، وآثره بالمكان منه والصحبة فسعى بعبد الله هذا عند الخليفة، ودله على مكامن هلكته، وبصره بعورات بلده. واقتاد عساكر السلطان إليه في زمامه.
ولما احتل بظاهر البلد وعبد الله رئيسها أشذ ما كان قوة وأكثر جمعاً وأمضى عزماً استألف أخوه الخلف بن علي بن الخلف جماعة المشيخة دونه، وحرضهم عليه وداخل القاضي في تبييت البلد، وأنه بالمرصاد في اقتحامها، حتى إذا كانت الهيعة دس إلى بعض الأوغاد في قتل أخيه عبد الله، ومكر بالقاضي والعسكر وامتنع عليهم واعتصم دونهم، واستقل برياسة بلده وأقام على ذلك يناغي ابن يملول في سيره ويطارحه الكثير من مذاهبه، ويجري في الشأو الذي بلغ إلى غايته وأوفى على ثنيته. وأما أحمد بن عمر بن العابد فلم يزل من لدن استبداده في قفصة سالكاً مسالك الخمول، منحطاً عن رتب التكبير منتحلاً مذاهب أهل الخير والعدالة في شارته وزيه ومريهبه، جانحاً إلى التقفل. فلما أوفى على شرف من العمر استبد عليه ابنه محمد،
وترفع عن حال أبيه بعض الشيء إلى مناغاة هؤلاء المترفين، فبينما هؤلاء المتقدمون في هذه الحال من الاستبداد على السلطان والتخلق بأخلاق الملوك، والتثاقل على الرعايا بالتعسف والجور، واستحداث المكوس والضرائب إذا أطل على مفاحصهم السلطان أبو العباس بالحضرة مستبداً بدعوته، صارفاً إلى فتحها عزائمه فوجموا وتوجسوا الخيفة منه. وائتمروا في المظاهرة واتصال اليد بعد أن كانوا يستحثونه إلى الحضرة، ويبعثون إليه بالانحياش
على البعد زبوناً على صاحب الحضرة ونزوعاً عن مصدوقة الطاعة. فلما استبد السلطان أبو العباس بالدعوة استرابوا في أمرهم وسربوا أموالهم في الأعراب المخالفين على السلطان من الكعوب، يؤملون مدافعتهم عنهم فشفر لها أولاد أبي الليل بما كان وقع بينهم وبين السلطان من النفرة. ونهض إليهم السلطان فغلبهم على ضواحي أفريقية وعلى الظواعن التي كانت جبايتها لهم من مرنجيزة كما قلناه، واكتسحهم فأوهن بذلك من قوتهم. ثم زحف الثانية إلى أمصار الجريد فلاذوا بالامتناع فأناخ السلطان بعساكره وأوليائه من العرب أولاد مهلهل على قفصة فقاتلوها يوماً أو بعض يوم، وغدا في ثانيه على نخيلهم يقطعها فكأنما يقطع بذلك أمعاءهم في فنبرأوا من مقدمهم، وشعر بذلك فبادر إلى السلطان ونزل على حكمه فتقبض عليه وعلى إبنه شهر ذي القعدة من سنة ثمانين وسبعمائة، وتملك البلد، واستولى على ديار ابن العابد بما فيها. وكان شيئاً لا يعبر عنه لطول أيامه في الولاية وكثرة احتجانه للأموال. وعقد السلطان على قفصة لابنه أبي بكر وارتحل يريد توزر، وطار الخبر لابن يملول في توزر فقوض عنها بأهله، ونزل على أحياء مرداس وسرب فيهم المال فرحلوا معه إلى الزاب، ولحق ببسكرة مأوى نكباته ومنتهى مفره فنزل بها على أحمد بن يوسف بن مزني، وأقام هنالك على قلعة من توقع مطالبة السلطان له ولجاره ابن مزني، وخسارة أموالهم في زبون العرب وسوء المغبة إلى أن هلك لسنة أو نحوها. وائتمر أهل توزر بعد تقويضه عنهم، وبعثوا إلى السلطان ببيعتهم فلقيته أثناء طريقه، وتقدم إلى البلد فنزل بقصور ابن يملول، واستولى على ذخيرته وتبرأ إليه أهل البلد من ودائع كانت له عندهم من خالص
الذخيرة فرفعوها إلى السلطان. وعقد لإبنه المنتصر على توزر، واستقدم الخلف بن الخلف من نفطة. وكان يخالف أصحابه إلى الطاعة متى نقضوها زبوناً على يملول وسالفة من العداوة كان يتقبلها. فلما احيط بهم أدركه الدهش بطاعته فأتاها، وقدم عليه فتقبل السلطان ظاهره وأغضى له عن غيرها طمعاً في استصلاحه، وعقد له على حجابة إبنه المنتصر وأنزله معه بتوزر وأمره بالاستخلاف على بلده نفطة، وعقد له على ولايتها وانكفأ راجعاً إلى الحضرة، وقدم ابن الخلف على أمره ورأى أنه قد تورط في الهلكة فراسل ابن يملول بمكانه من توزر، وعثر أولياء السلطان على كتابه إلى يعقوب بز علي شيخ رياح ومدره حروبهم على صريخ ابن يملول ومعونته فعلموا نكثه ومداجاته، وبادروا إلى التقبض عليه، وولوا على نفطة من قبلهم وخاطبوا السلطان بالشأن، وأقام في اعتقاله إلى أن كانت حادثة قفصة، فبادر الأمير المنتصر إلى قتله.
وكان من خبر قفصة أن ابن أبي زيد من مشيختها كان نزع إلى السلطان قبل فتحها هو وأخوه لمنافسة بينهما وبين ابن العابد، وهما: محمد وأحمد إبنا عبد العزيز بن عبد الله بن أحمد بن عليّ بن عمر بن أبي زيد. وقد ذكرنا أوليتهم واستعمال سلفهم أيام الأمير أبي زكريا الأعلى في جباية الجريد. فلما استولى على البلد رعى لهما تشيعهما وبدارهما إلى طاعته مع قديمهما فأنزلهما مع إبنه بقفصة، وكبيرهما رديف لحاجبه عبد الله من الموالي الأتراك ومدبر لأمور البلد في طاعة السلطان. ثم نزغ الشيطان في صدره، وحدثته نفسه بالاستبداد، وأقام يتحين له الفرص. وذهب الأمير أبو بكر إلى زيارة أخيه بتوزر فكاده في التخلف عنه، وجمع أوباشاً من الغوغاء والزعانف وتقدم بهم إلى القصبة للفتك بعبد الله التريكي، ونذر بذلك فأغلق أبواب القصبة، وبعث الصريخ في أهل القرى، وقاتلهم ساعة من نهار حتى وافى إليه المدد. فلما استغلظ بمدده أدركهم الدهش وانفض الأشرار من حولهم ولجأوا إلى الاختفاء في بيوت البلد، وتقبض على الكثير مفن داخلهم في الثورة، ووصل الخبر إلى الأمير
ٍ أبي بكر بتوزر فبادر إلى مكانه، وقد سكنت الهيعة فاستلحم جميع من تقبض عليه حاجبه ونادى في الناس بالبراءة من أبي زيد فتبرأوا منه. وعثر الحرس عليه وعلى أخيه خارجين من أبواب البلد في زفي النساء فقادهما إليه فقتلهما بعدأن مثل بهما. وبادر المولى المنتصر بتوزر لقتل الخلف بن الخلف أن يخوض في مثلها فذهب في غير مرحمة لم يعطف عليه رحم، ولا تكنه سماء ولا أرض. واستبد السلطان بالجريد ومحا منه آثار المشيخة وعفا عليها وانتظمه في عمالات السلطان. وأما بلد الحامة وهي من عمالات قسطيلية وتعرف بحافة قابس وحامة مطماطة نسبة إلى أهلها الموطنين كانوا بها من البربر، وهم فيما يقال الذين اختطوها، وأما الآن ففيها ثلاث قبائل من توجن وبني ورياجن وهم في العصبية فرقتان: أولاد يوسف ورياستهم في أولاد أبي منيع وأولاد جحاف ورياسهم في أولاد وشاح، ولا أدري كيف نسب لفرقتين. فأما بنو أبي منيع فالحديث عن رياستهم في قومهم أن جدهم رجا بن يوسف كان له ثلاثة من الولد وهم: بوساك ويحمد وملالت وأن رئاسته بعده كانت لإبنه بوساك ثم إبنه أبي منيع من بعده، ثم لابنه حسن بن أبي منيع ثم لإبنه محمد بن حسن، ثم لأخيه موسى بن حسن ثم لأخيهما ابن علان إلى أن كان ما نذكر. وأما أولاد جحاف فكانت أول رياستهم لمحمد بن أحمد بن وشاح، وقبله خاله القاضي عمر بن كلى. وكان العمال من الحضرة يتعاقبون فيهم إلى أن أسقط السلطان عنهم الخراج والمغارم بأمرها. وكان مقدمهم لأول دولة السلطان أبي بكر من أولاد أبي منيع، وهو موسى بن حسن. وكان المديوني قائد السلطان والياً عليهم، وارتاب بهم بعض الأيام وأحبوا الثورة به فدس بها إلى السلطان في بعض حركاته، وغزاهم بنفسه ففروا، وأدرك سبعة من أولاد يوسف هؤلاء وتقبض عليهم فقتلوا. ثم رجع الأمر وولي موسى بن حسن. ولما هلك ولي بعده أخوه أبو علأن، وطال أمد ولايته عليهم وكان منسوباً إلى الخير والعفاف. وهلك سنة إثنتين
وأربعين وسبعمائة، وولي بعده إبنه عمر، ثم ابنه الآخر أبو زيان. ثم وئي بعدهما ابن عمهما مولاهم ابن محمد. ووفد على السلطان أبي الحسن مع وفد أهل الجريد كما مر. ثم هلك فولي بعده من بني عمهم حسان بن هجرس، وثار به محمد بن أحمد بن وشاح من أولاد جحاف المذكور فعزله، وأقام في ولايتها إلى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، فثار به أهل الحامة وقتلوا عمر بن كلى القاضي، وولّوا عليهم حسان بن هجرس واليهم.
ثم ثار به يوسف واعتقله وهو يوسف بن عبد الملك بن حجاج بن يوسف بن وشاح وهو الآن مقدمها يعطي طاعة معروفة، ويستدعي العامل في الجباية ويراوغ عن المصدوقة والغلب والاستيلاء، وقد أحاط به من كل جهة. وأملى عليّ بعض نسابتهم أن مشيخة أهل الحامة في بني بوساك، ثم في بني تامل بن بوشباك. وأن تامل أول تن رأس عليهم، وأن وشاحاً من ولد تامل، وأن بني وشاح على فرقتين: بنو حسن وبنو يوسف فحسان بن هجرس ومولاهم وعمر وأبو علان كلهم من بني حسن، ومحمد بن أحمد بن وشاح من بني يوسف، وهذا مخالف للأول، والله أعلم بالصحيح في أمرهم. فأما نفزاوة وأعمال قسطيلية وفتنسب لهذا العهد إلى توزر وهي القرى العديدة المقدرة السير، يعترض بينها وبين توزر إلى القبلة عنها السبخة المشهورة المانعة من الاعتساف، إلا معالم قائمة من الخشب يهتدي بها السالك، وربما يضل خائضها فتبتلعه. ويسكن هذه القرى قوم من بقايا نفزاوة من البرابرة البتر أبقوا هنالك بعد انقراض جمهورهم، وتحيف العرب لسائر بطون البربر، ومعهم معاهدون من الفرنجة ينسبون إلى سردانية نزلوا على الذمة والجزية وبها الآن أعقابهم، ثم نزل عليهم من عرب الشريد وزغب من بني سليم كل من عجز عن الظعن، وملكوا بها العقار والمياه وكثروا نفزاوة، وهم لهذا العهد عامة أهلها، وليس في نفزاوة هذه رياسة لصغرها ورجوعها في الغالب إلى أعمال توزر ورياستها. هذا حال للمتقدمين ببلاد الجريد في الدولة الحفصية أوردنا أخبارهم فيها لأنهم من صنائعها، وفي عداد ولايتها ومواليها، والله متولي الأمور.
خريطة
الخبر عن بني مكي رؤساء قابس وأعمالها:
كانت قابس هذه من ثغور أفريقية ومنتظمة في عمالاتها، وكان ولاتها من القيروان
أيام الاغالبة والعبيديين وصنهاجة من لدن الفتح، ولما دخل الهلاليون أفريقية واضطربت أمورها، واقتسمت دولة صنهاجة طوائف انتزى بقابس من صنهاجة المعز بن محمد الصنهاجي، وأدال منه مونس بن يحيى الصنبري من مرداس رياح بأخيه إبراهيم إلى أن هلك، وولي أخوه قاضي بن إبراهيم ثم نازله أهل قابس وقتلوه أيام تميم بن باديس، وبايعوا لعمر بن المعز بن باديس كان مخالفاً على أخيه، وذلك سنة تسع وثمانين وأربعمائة. ثم غلبه عليها أخوه تميم وكان مغلباً للعرب. وكانت قابس وضواحيها في قسم زغبة من عرب هلال. ثم غلبتهم رياح عليها، ونزل مكن بن كامل بن جامع من بني دهمان إخوة فادغ، وهما معا من بني علي إحدى بطون رياح فاستحدث بها مكن ملكا لقومه بني جامع وأورثه بنيه إلى أن استولى الموحدون على أفريقية، وبعث عبد المؤمن عساكره إلى قابس ففر عنها مدافع بن رشيد آخرهم وانتظمها كما ذكرناه في أخبارهم وملكها وانقرض ملك بني جامع، وصارت قابس وعملها للموحدين، وكانت ولاة أفريقية من السادة يولون عليها من الموحدين إلى أن تغلب بنو غانية وقراقش على طرابلس وقابس وأعمالها، وكان ما ذكرناه في أخبارهم.
ثم غلب الموحدون يحيى بن غانية عليها وأنزلوا بها عمالهم. ولما عاد بنو أبي
حفص إلى أفريقية العودة الثانية بعد مهلك الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وعقد العادل على أفريقية لابنه أبي محمد عبد الله معه على قابس للأمير أبي زكريا أخيه فنزلها أميراً. ثم كان من شأن استبداده وخلعه لأخيه ولطاعة بني عبد المؤمن ما ذكرناه. وكان مشيخة
قابس لذلك العهد في بيوت من بيوتاتها وهم بنو مسلم ولم يحضرني فيمن هو نسبهم. وبنو مكي ونسبهم في لواتة وهو مكي بن فراج بن زيادة الله بن أبي الحسن بن محمد بن زيادة الله
بن أبي الحسين اللواتي. وكان بنو مكي هؤلاء خالصة للأمير أبي زكريا. ولما اعتزم على الاستبداد داخل أبا القاسم عثمان بن أبي القاسم بن مكي، وتولى له أخذ البيعة على الناس فكان له ولقومه بذلك مكان من الموالي أبي زكريا، رعى لهم ذمتها ورفع من شأنهم بسببها، ورموا ببني سليم نظرائهم في رياسة البلد بصاغيتهم إلى ابن غانية، فأخمدوا ذبالهم واستقلوا بشورى بلدهم. وأقاموا على ذلك أيام المولى أبي زكريا الأول وإبنه المستنصر. ثم كان ما قدمناه من مهلك الواثق ابن المستنصر وبنيه على يد عمهم السلطان أبي إسحق، وما كان من أمر الداعي بن أبي عمارة، وكيف شبه على الناس بالفضل ابن المخلوع بحيلة مولاهم نصير، رام أن يثار بها من قاتلهم فتفت مكيدته في ذلك لما أراده الله. ولما أظهر نصير أمره، وتسايلت العرب إلى بيعته خاطب لأول أمره رئيس قابس لذلك العهد من بني مكي عبد الملك بن عثمان بن مكي فسارع إلى طاعته وحمل الناس عليها، وكانت له بذلك قدم في الدولة معروف رسوخه.
ولما ألقى الداعي ابن أبي عمارة جسداً على كرسي الخلافة سنة إحدى وثمانين وستمائة قلده خطة الجباية بالحضرة مستقلأ فيها بالولاية والعزل والفرض والتقدير والحسبان، وبعد أن أجزل من بيت المال عطاءه، وأسنى رزقه وجرايته، وأهدى الجواري من القصر إليه. ولما هلك الداعي واستقلت قدم الخلافة من عثارها كما قدمناه سنة ثلاث وثمانين وستمائة لحق عبد الحق بن مكي ببلده، وامتنع بها على حين ركود ريح الدولة وفشلها، ومرض في طاعته ودافع أهل الدولة بالدعاء للخليفة على منابره. ثم جاهر بالخلعان سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وبعث بطاعته إلى صاحب الثغور المولى أبي زكرياالأوسط. وهلك إبنه أحمد ولي عهده سنة سبع وتسعين وستمائة. ثم هلك هو من بعده على رأس المائة السابعة، وتخلف حافده مكياً فنصبوه للملك يفعة، وكفله ابن عمه يوسف بن حسن. وقام بالأمر مستبداً عليه إلى أن هلك، وخلفه في كفالة أحمد بن ليران من بيوت أهل قابس وأصهار بني مكي. والتاث أمرهم بمهلك يوسف فنقلهم
السلطان ابن اللحياني إلى الحضرة وأقاموا بها أياماً، ثم ردهم إلى بلدهم أيام تجافيه عن تونس وخروجه إلى ناحية قابس.
ثم هلك خلال ذلك مكي، وتخفف صبيين يافعين عبد الملك وأحمد فكفلهما أحمد بن ليران إلى أن شبا واكتهلا، ولهما من الامتناع على الدولة والاستبداد بأمر القطر والاقتصار على الدعاء للخليفة مثل ما كان لأبيهما وأكثر لتقلص ظل الملك عن قطرهم. وشغل السلطان بمدافعة آل يغمراسن وعساكرهم عن الثغور الغربية، وأجلابهم بالأعياص من أهل البيت على الحضرة. ولما هلك السلطان أبو يحيى اللحياني قفل إبنه عبد الواحد إلى المغرب يحاول أسباب الملك، ونزل بساحتهم على ما كان من صنائع أبيه إليهم فذكروا العهد، وأوجبوا الحق وأتوه بيعتهم. وقام كبيرهم عبد الملك بأمره، ودعا الناس إلى طاعته وخالف السلطان أبا يحيى عند نهوضه إلى الثغر ببجاية سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة كما قدمناه، فدخل الحضرة ولبث بها أياماً لم تبلغ نصف شهر. وبلغ خبرهم إلى السلطان فانكفأ راجعاً وفروا إلى مكانهم من قابر، والدولة تنظر لهم الشزر وتتربص بهم الدوائر، إلى أن غلب السلطان أبو الحسن على تلمسان ومحا دولة آل يغمراسن، وفرغت الدولة من شأنهم إلى تمهيد أعمالها وتقويم المنحرفين عن الطاعة من ولاتها. وقفل حمزة بن عمر بشفاعة من السلطان أبي الحسن إلى السلطان أبي يحيى في شأنه فتقبل وسيلته واستخلصه لنفسه من بعدها، واستقام هو على الطاعة التي لم تجد وليجة عنها، وسلك سبيله تلك أقتاله من الدولة الطائحين في هوة الشقاق فأوفد عبد الملك هذا شقيقه أحمد على السلطان أبي الحسن متنصلاً من ذنوبه لائذاً بشفاعته متوسلاً بما قدمناه من خدمته حظاياه في طريقهن إلى الحج ذاهباً وجائيا، فخاطب السلطان أبا يحيى في شأنه وأعاده إلى مكانه من اصطناع سلفه واستقام على طاعته. ولما انتظم السلطان أبو يحيى سائر البلاد الجريدية في ملكه وعقد عليها لابنه أبي العباس ولي عهده، وأنزله دار أمارتها متردداً ما بين توزر وقفصة إلى أن قفلت عمته من الحج سنة ست وأربعين وسبعمائة، وخرج للقائها مختفياً بين الظعائن فجمعه مجلسها بأحمد بن مكي كان قد اعتمد تلقيها والقيام بصحابتها في مراحل سفرها من بلده إلى آخر عمله، فمسح الأمير أبو العباس الإحن عن صدره وأدال له الأمين والرضى من توحشه، واستخلصه لدولته ونجوى أسراره واصطفاه لنفسه وحمله رديفاً
لحاجبه، فحل من دولته بمكان غبطة فيه امتيازه من أمراء تلك الطوائف.
وعقد له السلطان أبو يحيى على جزيرة جربة بوسيلة أبي العباس إبنه، وقد كان افتتحها مخلوف بن الكماد من صنائعهم من يد العدو أهل صقلية كما ذكرناه، فضضها إليه وصيرها في أعماله. ولم يزل هذا شأنه معه إلى أن هلك أبو العباس ولي العهد بتونس على يد أخيه أبي حفص عمر عندما دخلها بعد مهلك أبيهما كما ذكرناه، ولحق أحمد بن مكي ببلده. ثم سار في وفد رؤساء الجريد إلى تلقي السلطان أبي الحسن عند نهوضه إلى أفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ولقيه معهم بوهران من أعمال تلمسان، وكان قدمه عنده فوق قدمهم. ورجع الوفد على أعقابهم محبورين. وتمسك بأحمد بن مكي في جملته إلى الحضرة، ووفد عليه أخوه عبد الملك مؤدياً طاعة السلطان فكرم موصله وأحسن متقلبهما جميعاً إلى بلدهما على ما كان بيدهما من عمل قابس وجربة. ثم كانت نكبة السلطان أبي الحسن على القيروان فوفد عليه أحمد بتونس بعد خلوصه من القيروان مجدداً لعهد طاعته، فأرادهم السلطان على الامتنان لعبد الواحد اللحياني سلطانهم الأقدم، وعقد له على تلك الثغور الشرقية، وأنزله جربة، وأمرهما بالطاعة له ما دام في طاعته. وعقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحدين على توزر وقسطيلية بعد أن كان قطعه عندما تقبض عليه في واقعة السلطان أبي حفص عمر. ثم استقبل رأيه في استخلاصه عندما انتقض عليه أبو محمد بن تافراكين. ولما رجع من القيروان إلى تونس عقد له توزر كما ذكرناه، ولعبد الواحد بن اللحياني على قابس وجربة فأسف بذلك بني مكي هؤلاء. وهلك ابن اللحياني لحين نزوله بجربة بما أصابه من علة الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فانتقض بنو مكي على السلطان أبي الحسن ودعوا إلى الخروج عليه وبايعوا الأفضل ابن السلطان أبي يحيى عندما أفرج عن حصار تونس سنة خمسين وسبعمائة، وداخلوا أبا القاسم بن عتو وهو إذ ذاك لم يتوزر فأجابهم وكانت من دواعي رحلة السلطان أبي الحسن من أفريقية وتقويضه عنها كما قدمناه. ولما رجع الحاجب أبو محمد بن تافراكين من المشرق، واستقل بأمر تونس، ونصب الإمام أبا إسحاق ابن السلطان أبي يحيى للخلافة بها في كفالته غضوا بمكانه من التغلب وأنفوا من استبداده، وانحرفوا إلى دعوة الأمير أبي زيد صاحب ثغر قسنطينة. ووفد عليه
أحمد بن مكي مع محمد بن طالب بن مهلهل كبير البدو بأفريقية فيمن إليه، فاستنهضوه وقلده الأمير أبو زيد حجابته وجعل أمره إليه. وأبرز الحاجب أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحق في عساكره مع خالد بن حمزة وقومه فالتقى الجمعان بمرمجنة وكانت الدبرة على السلطان أبي إسحق سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وجاءوا على أثرهم فنازلوا تونس أياماً وما أفرجوا عنها إلا للصائح يخبرهم باحتلال عساكر بني مرين بالمرية من آخر أعمال تلمسان، وأن السلطان أبا عنان قد استحلم بني عبد الواد، وجمع كلمة زناتة، واستقام له أمر المغربين. وأطل على الثغور الشرقية فافترق جمعهم. ولحق الأمير أبو زيد بقسنطينة، وأحمد بن مكي بقابس. وسأل من الأمير أبي زيد أن يقسم رسم الأمارة بينهم في قابس وجربة بأخيه السلطان أبي العباس فأذق له في ذلك فكانت أول ولايته السعيدة ومضى إلى قابس فنزلها، ثم أجاز البحر إلى جربة، ودفع عنها العسكر الذي كان محاصراً للقشتيل من قبل ابن ثابت صاحب طرابلس، ورجع إلى قابس حتى كان من أمره ما ذكرناه.
وأوفد السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى زكريا على أبي عنان ملك المغرب صريخأ على شأنه، وأوفد ابن مكي رسله متذمماً ومذكراً بوسائله فتقبل وأغضى. ثم كانت واقعة العدو دمره الله بطرابلس سنة أربع وخمسين وسبعمائة كما قدمناه فبعث إلى السلطان أبي عنان يسأله فديتها والنظر لها من بين ثغور المسلمين، فحمل إليه خمسة أحمال من الذهب العين من بيت المال، أوفد بها من أعيان مجلسه: الخطيب أبا عبد الله بن مزروق، وأبا عبد الله محمد حافد المولى أبي علي عمر بن سيد الناس. وعقد لأحمد بن مكي على طرابلس فاستقل بها، وعقد لأخيه عبد الملك على قابس وجربة وأقاموا على دعوته. ومد أحمد يده إلى صفاقس فنازلها وتغلب عليها سنة سبع وخمسين وسبعمائة. وهلك السلطان أبو عنان وقد شرق صدر ابن تافراكين الغالب على الحضرة بعداً وتهمتا فردد عليهما البعوث براً وبحراً إلى أن استخلص جزيرة جربة من أيديهما أعوام أربعة وستين وسبعمائة، وعقد عليهما لولده محمد فاستخلف بها كاتبه محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون من صنائع الدولة كما ذكرناه. وهلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة على تفيئة مهلك الحاجب ابن تافراكين بالحضرة فكأنما ضربا موعداً للهلكة وتوافياه. وتخلف إبنه عبد الرحمن
بطرابلس في كفالة مولاه ظافر العلج، وهلك ظافر إثر مهلكه فاستبد عبد الرحمن بطرابلس، وساءت سيرته فيها إلى أن نازله أبو بكر بن محمد بن ثابت في أسطوله كما نذكره سنة إثنتين وسبعين وسبعمائة. وأجلب عليه بالبرابرة والعرب من أهل الوطن فانتقض عليه أهل البلد وثاروا به. وبادر أبو بكر بن ثابت لاقتحامها عليه وأسلموه ففر إلى بيت أحد أمراء دباب فأجاره إلى أن أبلغه مأمنه من محلة قومه، وإيالة عمه عبد الملك بقابس إلى أن هلك سنة تسع وسبعين وسبعمائة. ولم يزل عبد الملك لهذا العهد، وهو سنة إحدى وثمانين وسبعمائة والياً على عمله بقابس وإبنه يحيى مستبد بوزارته وحافده عبد الوهاب لإبنه مكي رديف له، وقد تراجعت أحوالهم عفا كانت وخرجت من أيديهم الأعمال التي كانت في إيالتهم لعهد أخيه أحمد مثل: طرابلس وجزيرة جربة وصفاقس وما إلى ذلك من العمالات، حتى كان البخت إنما كان لأخيه، واليمن إنما اقترن بحياته، وسيرتهما جميعاً من العدالة وتحري مذاهب الخير والسمت، والاتسام بسمات أهل الدين وحلية الفقه معروفة، حتى كان كل واحد منهم إنما يدعى بالفقيه علما بين أهل عصره حرصاً على الانغماس في مذاهب الخير وطرقه. وكان لأحمد حظ من الأدب، وكان يقرض الأبيات من الشعر فيجيد، عفا الله عنه. وله في الترسيل حظ ووساع بلاغة وخط، وينحو في كتابته منحى أهل المشرق في أوضاع حروفهم وأشكال رسومها، ولأخيه عبد الملك حظ من ذلك شارك به جهابذة أهل عصره وأفقه. ولما انتظم السلطان أبو العباس أمصار أفريقية في ملكه واستبد بالدعوة الحفصية على قومه داخل أهل الجريد منه الروع، وفزعوا إليه للمقاوضة في الامتناع فداخلهم في ذلك. وأشاروا إلى صاحب تلمسان بالترغيب في أفريقية فعجز عنهم وألحوا عليه فخام عن العداوة. وزحف مولانا السلطان خلال ذلك إلى الجريد فملك قفصة وتوزر ونفطة فبادر ابن مكي إلى التلبس بالاستقامة وبعث إليه بالطاعة. ثم رجع السلطان إلى الحضرة فرجع هو عن المصدوقة واتهم أهل البلد بالميل إلى السلطان فتقبض على بعضهم وفر آخرون. وانتقض بنو أحمد أهل ضواحيه من دباب فنازلوه وبعثوا إلى الأمير أبي بكر بقفصة في العسكر لمنازلته فبعثه إليهم وأحاطوا به.
ثم انتهز الفرصة، وداخل بعض العرب من بني علي في تبييت المعسكر، وبذل لهم في ذلك المال فبيتوه وانفض وبلغ الخبر إلى السلطان فخرج من حضرته سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، ونزل القيروان، وتوافت إليه أحاديات وبعث رسله للأعذار بين يديه فردهم ابن مكي بالطاعة. ثم احتمل رواحله ونزل بأحياء العرب وأغذ السلطان السير إلى البلد فدخلها واستولى على قصورها ولاذ أهل البلد بالبيعة فأتوها، واستعمل عليهم من بطانته وانكفأ راجعاً إلى تونس. وهلك عبد الملك لأيام قلائل بين أحياء العرب. وهلك بعده عبد الرحمن ابن أخيه أحمد الذي كان صاحب طرابلس بعد أبيه. ولحق إبنه يحيى وحافده عبد الوهاب بطرابلس فمنعهم
ابن ثابت من النزول ببلده لما كان متمسكاً بطاعة السلطان، فنزلوا بزنزور من بلاد دباب التي بضاحيتها وأقاموا هنالك. واستقامت النواحي الشرقية على طاعة السلطان وانتظمت في دعوته والله مالك الملك. ثم ذهب يحيى بن عبد الملك إلى المشرق لقضاء فرضه، وأقام عبد الوهاب بين أحياء البربر بالجبال هنالك، وكان الوالي الذي تركه السلطان بقابس قد ساء أثره في أهلها فدس شيعتهم إلى عبد الوهاب بذلك، وجاء إلى البلد فبيتها، وثاروا بالوالي فقتلوه سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وملك عبد الوهاب قابس وجاء أخوه يحيى من المشرق بعد قضاء فرضه فأجلب عليه مراراً يروم ملكها منه ولم يتهيأ له، ونزل على صاحب الحمة فداخله عبد الوهاب في أن يمكنه منه، ويشترط ما شاء. وتم ذلك بينهما وأوثقه كتافاً وبعث به إليه فاعتقله بقصر العروسيين، فمكث في السجن أعواما. ثم فر من محبسه ولحق بالحامة على مرحلة من قابس مستنجداً بابن وشاح صاحبها فأنجده. وما زال يجلب على نواحي قابس إلى أن ملكها وتقبض على عبد الوهاب ابن أخيه مكي فقتله أعوام تسعين وسبعمائة. ولم يزل مستبداً ببلده إلى سنة ست وتسعين وسبعمائة. وكان الأمير عمر ابن السلطان أبي العباس قد بعثه أبوه لحصار طرابلس فحاصرها حولاً كما نذكره، حتى استقام أهلها على الطاعة وأعطوا الضريبة فأفرج عنها. ورجع إلى أبيه فولاه على صفاقس وأعمالها فاستقل بها، ثم داخل أهل
الحامة في ملك قابس فأجابوه وساروا معه فبيتها ودخلها وقبض على يحيى بن عبد الملك فضرب عنقه، وانقرض أمر بني مكي من قابس، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهو خير الوارثين. الخبر عن بني ثابت رؤساء مدينة طرابلس وأعمالها: قد تقدم لنا شأن هذا البلد لأول الفتح الإسلامي، وأن عمرو بن العاص هو الذي تولى فتحه، وبقي بعد ذلك من جملة أعمال أفريقية، تنسحب عليه ولاية صاحبها فلم يزل ثغرأ لهذه الأعمال من لدن إمارة عقبة ومن بعده وفي دول الأغالبة. وكان المعز لدين الله من خلفاء الشيعة لما ارتحل إلى القاهرة، وعقد على أفريقية لبلكين بن زيري بن مناد أمير صنهاجة عقد على طرابلس لعبد الله بن يخلف من رجالات كتامة. ثم لما ولي نزار الخلافة سنة سبع وستين وثلثمائة طلب منه بلكين أن يضيف عمل طرابلس إلى عمله فأجاب وعهد له بها، وولى عليها بلكين من رجالات صنهاجة. ثم عقد عليها الحاكم بعد مهلك المنصور بن بلكين ليانس الصقلبي سنة تسعين وثلاثمائة بمداخلة عاملها يمصول من صنهاجة، وأعانه على ذلك برجوان الصقليي المتغلب على الدولة يومئذ لمنافسته ليأنس، فوصل إليها في ألف وخمسمائة فارس فملكها، فسرح باديس جعفر بن حبيب لحربه في عسكر من صنهاجة، وتزاحفاً يومين بساحة زنزور، ثم انفض عسكر يانس في الثالث وقتل، ولحق ففه بطرابلس فاعتصموا بها. ونازلهم جعفر بن حبيب القائد، وزحف فلفول بن سعيد بن خزرون الثائر على باديس وإبنه بأفريقية إلى قابس فحاصرها. ثم قصد جعفر بن حبيب بمكانه من حصار طرابلس فأفرج عنها جعفر ولحق بنفوسة، وأميرهم يحيى بن محمد فامتنع عليهم، ثم لحق بالقيروان ومضى فلفول بن سعيد إلى طرابلس فخرج إليه فتوح بن علي ومن معه من أصحاب يأنس فملكوه، وقام فيها بدعوة الحاكم من خلفاء الشيعة وأوطنها. وعقد الحاكم عليها ليحيى بن علي بن حمدون أخي جعفر صاحب المسيلة النازع إليه من الأندلس فوصل إليها واستظهر بفلفول على بجاية، ونازل قابس فامتنعت عليه. ثم عجز عن الولاية ورأى استبداد
فلفول عليه بعصبته فرجع إلى مصر، واستبد فلفول بطرابلس وتداولها بنوه مع ملوك صنهاجة إلى أن استبدوا بها آخراً. ودخل العرب الهلاليون إلى أفريقية فخربوا أوطانها وطمسوا معالمها. ولم تزل بأيدي بني خزرون هؤلاء إلى أن غلبهم عليها جرجي بن ميخائيل صاحب أسطول رجار ملك صقلية من الأفرنج سنة أربعين وخمسماية، وأبقى المسلمين بها واستعمل عليهم كما فعل في سواحل أفريقية فأقاموا في ملكة النصارى أياماً. ثم ثار بهم المسلمون بمداخلة أبي يحيى بن مطروح من أعيانهم وفتكوا بهم. ولما افتتح عبد المؤمن المهدية سنة خمس وخمسين وخمسمائة وفد عليه ابن مطروح ووجوه أهل طرابلس فأوسعهم تكرمة وردهم إلى بلدهم، وولى عليهم ابن مطروح إلى أن كبر سنه وعجز. وارتحل إلى المشرق سنة ست وثمانين وخمسمائة بإذن السيد أبي زيد بن عمر بن عبد المؤمن عامل أفريقية من قبل عفه يوسف واستقر بالإسكندرية.
وتعاقبت عليها ولاة الموحدين، ثم كان من أمر ابن غانية وقراقش ما قدمناه، وصارت طرابلس لقراقش. ثم استبد بنو أبي حفص بأفريقية على بني عبد المؤمن. وهلك قراقش وابن غانية، وانتظم عمل طرابلس في أعمال الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن انقسمت دولتهم، واقتطعت الثغور الغربية عن الحضرة. وفشل ريح الدولة بعض الشيء وتقلص ظلها عن القاصية، فصارت رياسة طرابلس إلى الشورى ولم يزل العامل من الموحدين يجيء إليها من الحضرة إلا أن رئيسها من أهلها مستبد عليها، وحدثت العصبية في البلد لحدوث الشورى والمنافسة فيها. ثم نزلها السلطان أبو يحيى بن اللحياني سنة سبع عشرة وسبعماية حين تجافى عن ملك الحضرة، وأحس بزحف السلطان أبي يحيى صاحب بجاية إليها فأبعد عن تونس إلى ثغر طرابلس، وأقام بها وأقام أحمد بن عربي من مشيختها بخدمته. ولما فارق ابن اللحياني تونس ويئس الموحدون من عوده أخرجوا إبنه محمد المكنى بأبي ضربة من الاعتقال، وبايعوا له. وخرج للقاء السلطان أبي بكر ومدافعته فهزمه السلطان أبو بكر وحمله الأعراب الذين معه على قصد طرابلس لانتزاع الأموال والذخائر الملوكية من يد أبيه. ولما أحس بذلك أبوه ركب البحر من طرابلس إلى الإسكندرية كما هو مذكور في خبره، واستخلف على طرابلس صهره محمد بن أبي عمر بن إبراهيم بن أبي حفص فقام بأمرها، وولى حجابته رجلاً من أهله يشهر
بالبطيسي فساء أثره في أهل طرابلس، وحجب عنهم وجه الرضى من سلطانه، وحمله على مصادرتهم واستخلاص أموالهم حتى أجمعوا الثورة بالسلطان فركب السفين ناجياً منهم بعد أن تعرض بعضهم لوداعه فأطلعه على سعايات البطيسي بهم فقتلوه لوقته، وقتلوا قاضياً بطرابلس من أهل تونس كان يمالىء على ذلك. وتولى كبر ذلك أحمد بن عربي. ثم هلك وقام بأمر طرابلس محمد بن كعبور فقتله سعيد بن طاهر المزوغي وملك أمر البلد، وكان معه أبو البركات بن أبي الدنيا فمات حتف أنفه. واستقل ابن طاهر بأمر طرابلس إثنتي عشرة سنة. ثم هلك وقام بأمرها ثابت بن عمار الزكوجي من قبائل هوارة. وثار به لستة أشهر من ولايته أحمد بن سعيد بن طاهر فقتله واستبد به. ثم ثار به جماعة زكوجة وقتلوه في مغتسله عند الأذان بالصبح، وولوا محمداً ابن شيخهم ثابت بن عمار أعوام سبعة وعشرين فاستبد بأمر طرابلس نحوا من عشرين سنة وظل الدولة متقلص عنه. وهو يغالط عن الإمارة بالتجارة والاحتراف بها ولبوس شارتها، والسعي راجلاً في سكك المدينة يتناول حاجاته وماعونه بيده ويخالط السوقة في معاملاته، يذهب في ذلك مذهب التخلق والتواضع يسر منه حسوا في ارتغاء، ويطلب العامل من تونس؛ فيبعثه السلطان على طرابلس يقيم عنده معتملاً في تصريفه. وهو يبراً إليه ظاهراً من الأحكام والنقض والإبرام إلى أن كان تغلب بني مرين على أفريقية. ووصل السلطان أبو الحسن إلى الحضرة على ما نذكره، فداوله طرف الحبل وهو ممسك بطرفه، ونقل إلى الإسكندرية ماله وذخيرته. ثم اغتاله أثناء ذلك جماعة من مجريش عند داره فقتلوه، وثار منهم للحين بطانته وشيعه. وولي بعده إبنه ثابت، فتزيا بزي الأمارة في اللبوس والركوب بحلية الذهب، واتخاذ الحجاب والبطانة. وأقام على ذلك إلى أن اجتمع بها أسطول من تجار النصارى أغفلوا أمرهم لكثرة طروقهم وترددهم في سبيل التجارة، وكثرة ما يغشاها من سفنهم، فغدروا بها ليلاً وثاروا فيها وكثروا أهلها فأسلم الحامية إليهم باليد. وفر مقدمهم ثابت إلى حلة أولاد مرغم أمراء الجواري في أنحائها فقتلوه صبراً لدم كان أصابه منهم في رياسته؛ فكانت مدته ست سنين، وقتلوا معه أخاه عماراً. واكتسح النصارى جميع ما كان بالبلد من
الذخيرة والمتاع والخرثى والماعون، وشحنوا السفن بها وبالأسرى من العقائل والحامية مصفدين، وأقاموا بالبلد أياماً على قلق ورهب من الكرة لو كان لها رجال. ثم تحدثوا مع من جاورها من المسلمين في فدائها فتصدى لذلك صاحب قابس أبو العباس أحمد بن مكي وبذل لهم فيها خمسين ألفاً من الذهب استوهب أكثرها من جماعة المسلمين بالبلاد الجريدية تزلفاً إلى الله باستخلاص الثغر من يد الكفر، وذلك سنة... وخمسين ولحق ولد ابن ثابت بثغر الإسكندرية فأقاموا به يحترفون بالتجارة إلى أن هلك أحمد بن مكي سنة ست وستين وسبعمائة، وقام بأمره ولده عبد الرحمن، فسما أبو بكر بن محمد بن ثابت إلى رياسة أبيه، وذكر عهود الصبا في معاهد قومه فاكترى من النصارى سفنا شحنها بصنائعه وموالي أبيه، ونازلها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة في أسطول من أساطيلهم. واجتمع إليه ذؤبان العرب ففرق فيهم الأموال وأجلب عليها بمن في قراها وأريافها من الرجل، فاقتحمها على عبد الرحمن بن أحمد بن مكي عنوة، وأجاره العرب من أولاد مرغم بن صابر، تولى ذلك منهم إلى أن أبلغوه مأمنه في إيالة عمه عبد الملك بمكان أمارتهم بقابس. واستوسق أمر طرابلس لأبي بكر هذا، واستقل بولايتها. ودخل في طاعة السلطان
أبي العباس بتونس، وخطب له على منابره، وقام يصانعه بما للسلطان من الضريبة، ويتحفه حيناً بعد حين بالهدايا والطرف إلى أن هلك سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وولي مكانه علي ابن أخيه عمار، وقام بكفالته عمه. وكان قائده قاسم بن خلف الله متهما بالتشيع للصبي المخلف عن أبي يحيى فارتاب ودفعوه لاقتضاء المغارم من مسرتة، فتوحش الخليفة من علي وانتقض. ثم بعث إليه بأمانه فرجع إلى طرابلس، ثم استوحش وطلب الحج فخلوا سبيله وركب البحر إلى الإسكندرية. ولقي بها خالصة السلطان محمد بن أبي هلال عام حج فأخذ منه ذمة، وكر راجعاً في السفين إلى تونس يستحث السلطان لملك طرابلس. فلما مر بهم راسلوه ولاطفوه واستعادوه إلى مكانه فعاد إليهم. ثم جاءته النذر بالهلكة ففر، ولحق السلطان بتونس واستحثه لملك طرابلس. وبلغ الخبر إلى السلطان فبعث معه إبنه
الأمير أبا حفص عمر لحصار طرابلس فنزل بساحتها، وافترق عرب دياب عليه وعلى ابن ثابت، وقام ابن خلف الله في خدمته المقام المحمود، ووفر له جباية الوطن ومغارمه ونقل العرب إلى طاعته ويستألفهم به، وأقام عليها حولاً كريتاً يمنع عنهم الأقوات ويبترزون إليه فيقاتلهم بعض الأحيان. ثم دفعوه بالضريبة التي عليهم لعدة أعوام نائطة وكان قد ضجر من طول المقامة فرضي بطاعتهم وانكفأ راجعاً إلى أبيه سنة خمس وتسعين وسبعمائة فولاه على صفاقس وافتتح منها قابس كما قدمناه. وأقام علي بن عمار على أمارته بطرابلس إلى هذا العهد، والله مدبر الأمور بحكمته. هذا آخر الكلام في الدولة الحفصية من الموحدين وما تبعها من أخبار المقدمين المستبدين بأمصار الجريد والزاب والثغور الشرقية، فلنرجع إلى أخبار زناتة ودولهم، وبكمالها يكمل الكتاب إن شاء الله تعالى.
نهاية المجلد