تاريخ ابن خلدون - الجزء السابع
تاريخ ابن خلدون، الجزء السابع.
المجلد السابع بسم الله الرحمن الرحيم القسم الأول صفحة 3 -150 زَناتَة الخبر عن زناتة من قبائل البربر يوم كان بين أجيالهم من العز والظهور وما تعاقب فيهم من الدول القديمة والحديثة هذا الجيل في المغرب جيل قديم العهد، معروف العين والأثر؛ وهم لهذا العهد آخذون من شعائر العرب في سكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل، والتغلّب في الأرض وإيلاف الرحلتين، وتخطّف الناس من العمران، والإباية عن الانقياد للنصَفة. وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة البربر. ومواطنهم في سائر مواطن البربر بأفريقية والمغرب. فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس والسوس الأقصى، حتى أنّ عامة تلك القرى الجريدية بالصحراء منهم كما نذكره. ومنهم قوم بالتلول بجبار طرابلس وضواحي إفريقية، وبجبل أوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد، وأذعنوا لحكمهم، والأكثر منهم بالمغرب الأوسط، حتى أنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال: وطن زناتة. ومنهم بالمغرب الأقصى أمم أخرى، وهم لهذا العهد أهل دول وملك بالمغربين. وكان لهم فيه دول أخرى في القديم. ولم يزل الملك يتداول في شعوبهم حسبما نذكره بعد لكل شعب منهم إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نسبة زناتة وذكر الخلاف الواقع فيه وتعديد شعوبهم:
أمّا نسبهم بين البربر فلا خلاف بين نسّابتهم أنهم من ولد شانا وإليه نسبهم، وأمّا شانا فقال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة، قال بعضهم: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورماك بن ضري بن رحيك بن مادغيس بن بربر. وقال أيضاً في كتاب الجمهرة: ذكر لي يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي يزيد، يعني حين وفد على قرطبة عن أبيه الثائر بأفريقية أيام الناصر قال: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورساك بن ضري بن مقبو بن قروال بن يملا بن مادغيس بن رحيك بن همرحق ابن كراد بن مازيغ بن هرك بن برا بن بربر بن كنعان بن حام. هذا ما ذكره ابن حزم. وبظهر منه أنّ مادغيس ليس نسبة إلى البربر وقد قدّمنا ما في ذلك من الخلاف، وهذا أصح ما ينقل في هذا الآن ابن حزم، موثوق ولا يعدل به غيره.
ونقل عن ابن أبي زيد وهو كبير زناتة، ويكون البربر على هذا من نسل برنس فقط، والبتر الذين هم بنو مادغيس الأبتر ليسوا من البربر. ومنهم زناتة وغيرهم كما قدّمنا لكنهم إخوة البربر لرجوعهم كلهم إلى كنعان بن حام كما يظهر من هذا النسب.
ونقل عن أبي محمد بن قتيبة في نسب زناتة هؤلاء أنهم من ولد جالوت في رواية أن
زناتة هو جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت، وجالوت هوونور بن جرييل بن جديلان بن جاد بن رديلان بن حصى بن باد بن زحيك بن مادغيس الأبتر بن قيس بن عيلان.
وفي رواية أخرى عنه أنّ جالوت هو ابن جالود بردنال بن قحطان بن فارس، وفارس مشهور. وفي رواية أخرى عنه أنه ابن هربال بن بالود بن ديال بن برنس بن سفك، وسفك أبو البربر كلهم، ونسّابة الجيل نفسه من زناتة يزعمون أنهم من حِمْيَر، ثم من التبابعة منهم. وبعضهم يقول إنهم من العمالقة، ويزعمون أنّ جالوت جدّهم من العمالقة، والحقّ فيهم ما ذكره أبو محمد بن حزم أولاً، وما بعد ذلك فليس شيء منه بصحيح. فأمّا الرواية الأولى عن أبي محمد بن قتيبة فمختلطة وفيها أنساب متداخلة. وأما نسب مادغيس إلى قيس عيلان فقد تقدّم في أوّل كتاب البربر عند ذكر أنسابهم، وأن أبناء قيس معروفون عند النسّابة. وأمّا نسب جالوت إلى قيس فأمر بعيد عن القياس، ويشهد لذلك أنّ معد بن عدنان الخامس من آباء قيس إنما كان معاصراً لبختنصر كما ذكرناه أوّل الكتاب. وأنّه لما سلّط على العرب أوحى الله إلى أرَمْيَاء نبيّ بني إسرائيل أن يخلّص مَعَدّاً ويسير به إلى أرضه، وبختنصّر كان بعد داود بما يناهز أربعمائة وخمسين من السنين، فإنه خرّب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان له بمثل هذه المدّة. فمعدّ متأخّر عن داود بمثلها سواء؛ فقيس الخامس من أبنائه متأخّر عن داود بأكثر من ذلك، فجالوت على ما ذكر أنه من أبناء قيس متأخّر عن داود بأضعاف ذلك الزمن. وكيف يكون ذلك مع أنّ داود هو الذي قتل جالوت بنصّ القرآن؟. وأمّا إدخاله نسب جالوت في نسب البربر، وأنه من ولد مادغيس أو سفك فخطأ،
وكذلك من نسبه إلى العمالقة. والحق أنّ جالوت من بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام أحد شعوب حام بن نوح، وهم إخوة القبط والبربر والحبشة والنوبة كما ذكرناه في نسب أبناء حام. وكان بين بني فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل حروب كثيرة، وكان بالشام كثير من البربر إخوانهم، ومن سائر أولاد كنعان يضاهونهم فيها، ودثرت أمة فلسطين وكنعان وشعوبها لهذا العهد، ولم يبق إلاً البربر، واختص إسم فلسطين بالوطن الذي كان لهم فاعتقد سامع إسم البربر مع ذكر جالوت أنه منهم وليس كذلك. وأمّا ما رأى نسّابة زناتة أنهم من حِمْيَر فقد أنكره الحافظان أبو عمر بن عبد البرّ وأبو محمد بن حزم وقالا: ما كان لحِمْيَر طريق إلى بلاد البربر إلاً في أكاذيب مؤرخي اليمن، وإنما حمل نسّابة زناتة على الانتساب في حِمْيَر الترفّع عن النسب البربري لما يرونهم في هذا العهد خَوَلاً وعبيداً للجباية وعوامل الخراج. وهذا وَهْمُ فقد كان في شعوب البربر من هم مكافئون لزناتة في العصبية أو أشدّ منهم مثل هّوارة ومكناسة، وكان فيهم من غلب العرب على ملكهم مثل كتامة وصنهاجة ومن تلقّف الملك من يد صنهاجة مثل المصامدة، كل هؤلاء كانوا أشدّ قّوة وأكثر جمعاً من زناتة. فلمّا فنيت أجيالهم أصبحوا مغلّبين فنالهم ضرٌ المغرم، وصار إسم البربر مختصًّا لهذا العهد بأهل المغرم، فأنف زناتة منه فراراً من الهضيمة. وأعجبوا بالدخول في النسب العربي لصراحته وما فيه من المزيّة بتعدد الأنبياء ولا سيما نسب مُضَر وأنهم من وُلْد إسماعيل بن إبراهيم بن نوح بن شيث بن آدم، خمسة من الأنبياء ليس للبربر إذا نسبوا إلى حام مثلها مع خروجهم عن نسب إبراهيم الذي هو الأب الثالث للخليقة إذ الأكثر من أجيال العالم لهذا العهد من نسله. ولم يخرج عنه لهذا العهد إلاّ الأقل مع ما في العربية أيضاً من عزّ التوحّش، والسلامة من مذمومات الخلق بانفرداهم في البيداء. فأعجب زناتة نسبهم وزيّنه فهم نسّابتهم، والحق بمعزل عنه، وكونهم من البربر بعموم النسب لا ينافي شعارهم من الغلب والعزة، فقد كان الكثير من شعوب البربر مثل ذلك وأعظم منه. وأيضاً فقد تميزت الخليقة وتباينوا بغير واحد من الأوصاف، والكلّ بنو آدم ونوح من بعده. وكذلك تميّزت العرب وتباينت شعوبها والكلّ لسام ولإسمعيل بعده. وأمّا تعدّد الأنبياء في النسب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يضرّك الاشتراك
مع الجيل في النسب العام إذا وقعت المباينة لهم في الأحوال التي ترفع عنهم، مع أنّ المذلّة للبربر إنما هي حادثة بالقلّة ودثور أجيالهم بالملك الذي حصل لهم، ونفقوا في سبله وترفه كما تقدّم لك في الكتاب الأوّل من تأليفنا. وإلاّ فقد كان لهم من الكثرة والعزّ والملك والدولة ما هو معروف. وأمّا أنّ جيل زناتة من العمالقة الذين كانوا بالشام فقول مرجوح وبعيد من الصواب لأن العمالقة الذين كانوا بالشام صنفان: عمالقة من ولد عيصو بن إسحق، ولم تكن لهم كثرة ولا ملك، ولا نقل أنّ أحداً منهم انتقل إلى المغرب، بل كانوا لقلّتهم ودثور أجيالهم أخفى من الخفاء. والعمالقة الأخرى كانوا من أهل الملك والدولة بالشام قبل بني إسرائيل، وكان أريحاء دار ملكهم. وغلب عليهم بنو إسرائيل وابتزّوهم ملكهم بالشام والحجاز وأصبحوا حصائد سيوفهم؛ فكيف يكون هذا الجيل من أولئك العمالقة الذين دثرت أجيالهم؟ وهذا لو نقل لوقع به الاسترابة فكيف وهو لم ينقل؟ هذا بعيد في العادة. والله أعلم بخلقه. وأما شعوب زناتة وبطونهم فكثير ولنذكر المشاهير منها فنقول: اتفق نسّاب زناتة على أنّ بطونهم كلها ترجع إلى ثلاثة من ولد جانا وهم: ورسيك وفرني والديرت، هكذا في كتب أنساب زناتة. وذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة له من ولد ورسيك عند نيّابتهم مَسَّارَت ورغاي وواشروجن، ومن واشروجن واريغن بن واشروجن. وقال أبو محمد بن حزم في ولد ورسيك أنهم مسارت وناجرت وواسين. وأمّا فرني بن جانا فمن ولده عند نسّابة زناتة يزمرتن ومرنجيصة ووركلة ونمالة
وسبرترة، ولم يذكر أبو محمد بن حزم سبرترة وذكر الأربعة الباقية. وأمّا الديرت بن جانا فمن ولده عند نسّابة زناتة جداو بن الديرت، ولم يذكره ابن حزم. وإنما قال عند ذكر الديرت: ومن شعوبه بنو ورسيك بن الديرت وهم بطنان دمّر بن ورسيك وزاكيا بن ورسيك. قال: ودمّر لقب واسمه الغانا. قال: فمن ولد زاكيا بنو مغراو وبنو يفرن وبنو واسين. قال: وأمّهم واسين مملوكة لأمّ مغراو وهم ثلاثتهم بنو يصلتن بن مسرا بن زاكيا. ويزيد نسّابة زناتة في هؤلاء يرنيات بن يصلتن أخاً لمغراو، ويفرن وواسين، ولم يذكره ابن حزم. قال: ومن ولد دمّر ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وذكر لبني دمّر أفخاذاً سبعة وهم: غرازول ولفورة وزناتين، وهؤلاء الثلاثة مختصّون بنسب دمّر، وبرزال ويصدرين وصغمان ويَطُوَّفت، هكذا ذكر أبو محمد بن حزم، وزعم أنه من إملاء أبي بكر بن يكنى البرزالي الأباضي، وقال فيه: كان ناسكاً عالماً بأنسابهم. وذكر أنّ بني واسين وبني برزال كانوا أباضية، وأنّ بني يفرن ومغراوة كانوا سنية. وعند نسّابة البربر مثل سابق بن سليمان المطماطي وهانىء بن يصدور والكومي وكهلان بن أبي لوا، وهو مسطّر في كتبهم أنّ بني ورسيك بن الديرت بن جانا ثلاثة بطون وهم: بنو زاكيا وبنو دمّر وآنشة بنو آنش، وكلّهم بنو وارديرن ورسيك. فمن زاكيا بن وارديرن أربعة بطون: مغراوة وبنو يفرن وبنو يرنيان وبنو واسين، كلّهم بني يصلتن بن مسرا بن زاكيا. ومن آنش بن وارديرن أربعة بطون: بنو برنال وبنو صقمات وبنو يصدورين وبنو يطوفت كلهم بنو آنش بن وارديرن. ومن دمّر بن وارديرن ثلاثة بطون: بنو تقورت وبنو غررول وبنو ورتاتين كلّهم بنو وتيد بن دمّر، هذا الذي ذكره نسّابة البربر، وهو خلاف ما ذكره ابن حزم. ويذكر نسابة زناتة آخرين من شعوبهم ولا ينسبونهم مثل يجفش، وهم أهل جبل قازاز قريب مكناسة وسنجاسن وورسيغان وتحليلة وتيسات وواغمرت وتيفرض ووجديجن وبنو بلومو وبني وماني وبني توجين. على أنّ بني توجين ينتسبون في بني واسين نسباً ظاهراً صحيحاً بلا شك
على ما يذكر في أخبارهم. وبعضهم يقول في وجديجن وواغمرت بنو ورتنيص أنهم من البرانس من بطون البربر على ما قدمناه. وذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتح مصر خالد بن حميد الزناتي، وقال فيه: هو من شورة إحدى بطون زنانة، ولم نره لغيره. هذا ملخص الكلام في شعوب زناتة وأنسابهم بما لا يوجد في كتاب. والله الهادي إلى مسالك التحقيق لا رب غيره.
فصل في تسمية زناتة ومبني هذه الكلمة:
أعلم أن كثيراً من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة واشتقاقها على ما ليس معروفاً للعرب ولا لأهل الجيل أنفسهم فيقال: هو إسم وضعته العرب على هذا الجيل، ويقال: بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه. ويقال: هو زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئاً لم تذكره النسّابة. وقد يقال إنه مشتق ولا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه المادية. وربّمَا يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا، ويعضده بحكاية خسيسة يدفعها الحق، وهذه الأقوال كلّها ذهاب إلى أنّ العرب وضعت لكل شيء إسماً، وأنّ استعمالها إنّما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالاً واشتقاقاً. وهذا إنّما هو في الأكثر، وإلاّ فالعرب قد استعملت كثيراً من غير لغتها في مسمّاه إمّا لكونه عَلَماً فلا يغير مثل: إبراهيم ويوسف من اللغة العبرانية، وإمّا استعانة وتخفيفاً لتداوله بين الألسنة كاللجام والديباج والزنجبيل والنيروز والياسمين والأجرّ، فتصير باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم. ويسمّونها المعرّبة، وقد يغّيرونها بعض التغيير في الحركات أو في الحروف، وهو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع جديد.
وقد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبدّلونه بما يقرب منه في المخرج، فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة، وإنّما نطقت العرب منها بالثمانية والعشرين حروف أبجد. وبين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد فمنها ما نطقت به الأمم، ومنها ما لم تنطق به، ومنها ما نطق به بعض العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان. وإذا تقرّر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا التي هي اسم أبي الجيل كله، وهو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم. وهم إذا أرادوا الجنس في التعميم الحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات. وإذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نونا فصار جاناتن. ونطقهم بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب، بل ينطقون بها بين الجيم والشين وأميل إلى السين. ويقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زاياً
محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين، فصارت زانات لفظاً مفرداً دالاً على الجنس. ثم ألحقوا به هاء النسبة وحذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفاً لكثرة دورانه على الألسنة. والله أعلم. فصل في أولية هذا الجيل وطبقاته: أمّا أولية هذا الجيل بإفريقية والمغرب فهي مساوية لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلاّ الله تعالى، ولهم شعوب أكثر من أن تحصى مثل مغراوة وبني يفرن وجراوة وبني يرنيان ووجد يجن وغمرة وبني ويجفش وواسين وبني تيغرست وبني مرين وتوجين وبني عبد الواد وبني راشد وبني برزال وبني ورنيد وبني زنداك وغيرهم. وفي كل واحد من هذه الشعوب بطون متعدّدة. وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل أوراس والزاب إلى قبلة تِلْمِسَانِ، ثم إلى وادي مَلَويّة. وكان الكثرة والرياسة فيهم قبل الإسلام لجراوة ثم لمغراوة وبني يفرن. ولما ملك الإفرنجة بلاد البربر ودانوا لهم بدين النصرانية ونزلوا الأمصار بالسواحل، وكان زناتة هؤلاء وسائر البربر في ضواحيهم؛ صاروا يؤدون لهم طاعة معروفة وخراجا معروفا مؤقتا، ويعسكرون معهم في حروبهم ويمتنعون عليهم فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام، وزحف المسلمون إلى أفريقية، وملك الإفرنجة بها يومئذ جرجير، فظاهره زناتة والبربر على شأنه مع المسلمين وانفضّوا جميعاً. وقتل جرير وأصبحت أموالهم مغانم ونساؤهم سبايا، وافتتحت سبيطلة. ثم عاود المسلمون غزو أفريقية: وافتتحوا جلولاء وغيرها من الأمصار، ورجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهم إلى مواطنهم وراء البحر. وظنّ البربر بأنفسهم مقاومة العرب؛ فاجتمعوا وتمسّكوا بحصون الجبال. واجتمعت زناتة إلى الكاهنة وقومها جراوة بجبل أوراس حسبما نذكر، فأثخن العرب فيهم واتبعوهم في الضواحي والجبال والقفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعاً وكرهاً، وانقادوا إلى إيالة مِصْرَ، وتولّوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه. حتى إذا انحلت بالمغرب عرى الملك العربي وأخرجهم من أفريقية البربر من كتامة وغيرهم، قدح هذا الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم، وتداول فيهم الملك جيلاً بعد جيل في طبقتين حسبما نقصّه عليك إن شاء الله تعالى.
الخبر عن الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح: كانت هذه الأمّة من البربر بأفريقية والمغرب في قوّة وكثرة وعديد وجموع، وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلّها لهم، وعليهم مظاهرة الإفرنجة مهما احتاجوا إليهم. ولما أطلّ المسلمون في عساكرهم على أفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون، وانفضّت جموعهم وافترقت رياستهم ولم يكن بعدها بأفريقية موضع للقاء المسلمين بجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمّة من البربر في ناحيتها وموطنها ومع من تحيّز إليهم من قبل الإفرنجة. ولما اشتغل المسلمون في حرب عليّ ومعاوية أغفلوا أمر أفريقية، ثم ولاّها معاوية بعد عام عقبة بن نافع الفهري فأثخن في المغرب في ولايته الثانية، وبلغ إلى السوس، وقتل بالزاب في مرجعه. واجتمعت البربر على كسيلة كبير أوْربة. وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلوي أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من افريقية. وبعث عبد الملك حسان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر، وقتلوا كسيرة واسترجعوا القيروان وقرطاجنة وإفريقية وفر بقية الإفرنجة والروم إلى صقلية والأندلس، وافترقت رياسة البربر في شعوبهم. وكانت زنانة أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعا وبطوناً، وكان موطن جراوة منهم بجبل أوراس، وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا. وكانت رياستهم للكاهنة دهيا بنت تابنة بن نيقان بن باورا بن مصكسري بن أفصد بن وصيلا بن جراو. وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها، فاستبدت عليهم وعلى قومها بهم، وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم. قال هاني بن بكور الضريسي: ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة وعاشت مائة
وسبعا وعشرين سنة. وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبل أوراس بإغرائها برابرة تهودا عليه، وكان المسلمون يعرفون ذلك منها. فلما انقضى جمع البربر، وقتل كسيلة زحفوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس، وقد ضوي إليها بنو يفرن ومن كان بإفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها. وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من إفريقية، وانتهى حسان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك، فزحف إليهم سنة أربع وسبعين وفض جموعهم، وأوقع بهم وقتل الكاهنة، واقتحم جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف. وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان قبل الواقعة، أشارت عليهما بذلك أمهما دهيا لأثارة علم كان لديها في ذلك من شيطانها فتقبلهما حسان. وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما. وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس. ثم افترق ففهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم. وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر، وكان منهم قوم بسواحل مليلة، وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك. وإليهم نزع ابن أبي العيش لما غلبه موسى بن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أول المائة الرابعة حسبما نذكره. فنزل إليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن خربت من بعد ذلك. والفل منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في يطوفت ومن إليهم من قبائل غمارة، والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن مبتدأ دول زناتة في الإسلام ومصير الملك إليهم بالمغرب وإفريقية: لما فرغ شأن الردة من إفريقية والمغرب، وأذعن البربر لحكم الإسلام وملكت العرب، واستقل بالخلافة ورياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسي الملك بدمشق، واستولوا على سائر الأمم والأقطار، وأثخنوا في القاصية من لدن الهند والصين في المشرق، وفرغانة في الشمال والحبشة في الجنوب، والبربر في المغرب، وبلاد الجلالقة والإفرنجية في الأندلس. وضرب الإسلام بجرإنه، وألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم. ثم جدع بنو أمية أنوف بني هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف، والمدعين
استحقاق الأمر بالوصية. وتكرر خروجهم عليهم، فأثخنوا فيهم بالقتل والأسر، حتى توغرت الصدور واستحكمت الأوتار، وتعددت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من علي كرم الله وجهه إلى من بعده من بني هاشم: فقوم ساقوها إلى آل العباس، وقوم إلى آل الحسن، وآخرون إلى آل الحسين، فدعت شيعة آل العباس بخراسان وقام بها اليمنية فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة ونزلوا بغداد واستباحوا الأمويين قتلا وسبيا. وخلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، فجدد بها دعوة الأمويين، واقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين فلم تخفق لهم به راية. ثم نفس آل أبي طالب على آل العباس ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك، فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعو بالنفس الزكية في بني أبي طالب على أبي جعفر المنصور، وكان من أمرهم ما هو مذكور واستلحمتهم جيوش بني العباس في وقائع عديدة. وفر إدريس بن عبد الله أخو المهدي ناجيا من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوروبة ومغيلة وصدينة، وقاموا بدعوته ودعوة بنيه من بعده، ونالوا به الملك وغلبوا على المغرب الأقصى والأوسط، وبثوا دعوة إدريس وبنيه من أهله بعده في أهله من زناتة مثل بني يفرن ومغراوة وقطعوه من ممالك بني العباس، واستمرت دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديين. ولم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة ويبثون دعاتهم بالقاصية، إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بإفريقية إلى المهدي ولد إسمعيل الإمام ابن جعفر الصادق، فقام برابرة كتامة ومن إليهم من صنهاجة وملكوا إفريقية من يد الأغالبة. ورجع العرب إلى مركز ملكهم بالمشرق، ولم يبق لهم في نواحي المغرب دولة، ووضع العرب ما كان على كاهلهم من أمر المغرب ووطأة مضر بعد أن رسخت الملة فيهم، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، واستيقنوا بوعد الصادق أن الأرض لته يورثها من يشاء من عباده. فلم لنسلخ الملة بانسلاخ الدولة ولا تقوضت مباني الدين بتقويض معالم الملك، وعدا من الله لن يخلفه في تمام أمره وإظهار دينه على الدين كله. فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك والقيام بدعوة الأعياص من بني عبد مناف يسترون منها حسواً في ارتغاء إلى أن ظفروا من ذلك بحظ مثل كتامة بإفريقية،
ومكناسة بالمغرب. ونافسهم في ذلك زناتة، وكانوا من أكثرهم جمعا وأشدهم قوة فشمروا له حتى ضربوا معهم بسهم، فكان لبني يفرن بالمغرب وإفريقية على يد صاحب الحمار، ثم على يد يعلى بن محمد وبنيه ملك ضخم. ثم كان لمغراوة على يد بني خزر دولة أخرى تنازعوها مع بني يفرن وصنهاجة. ثم انقرضت تلك الأجيال وتجرد الحلك بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم، فكان لبني مرين بالمغرب الأقصى ملك، ولبني عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسمهم فيه بنو توجين والفل من مغراوة حسبما نذكر ونستوفي شرحه، ونجلب أيامهم وبطونهم على الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر، والله المعين سبحانه لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.
بنو يفرن الطبقة الأولى من زناتة ونبد أ منها بالخبر عن بني يفرن وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول بإفريقية والمغرب وبنويفرن هؤلاء من شعوب زناتة، وأوسع بطونهم، وهم عند نسابة زناتة بنو يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت بن جانا، وإخوته مغراوة وبنو يرنيان وبنو واسين، والكل بنو يصلتين. وبفرن في لغة البربر هو القار. وبعض نسابتهم يقولون إن يفرن هو ابن ورتنيذ بن جانا، وإخوته مغراوة وغمرت ووجديجن. وبعضهم يقول يفرن بن مرة بن ورسيك بن جانا. وبعضهم يقول هو ابن جانا لصلبه والصحيح ما نقلناه عن أبي محمد بن حزم. وأما شعوبهم فكثير، ومن أشهرهم بنو واركوا ومرنجيصة. وكان بنو يفرن هؤلاء لعهد الفتح أكبر قبائل زناتة وأشدها شوكة، وكان منهم بإفريقية وجبل أوراس والمغرب الأوسط بطون وشعوب، فلما كان الفتح غشي إفريقية ومن بها من البربر جنود الله المسلمون من العرب فتطامنوا لبأسهم حتى ضرب الدين بجرانه، وحسن
إسلامهم. ولما فشا دين الخارجية في العرب، وغلبهم الخلفاء بالمشرق واستلحموهم نزعوا إلى القاصية، وصاروا يبثون بها دينهم في البربر فتلقفه رؤساؤهم على اختلاف مذاهبه باختلاف رؤوس الخارجية في أحكامهم من أباضية وصفرية وغيرهما كما ذكرناه في بابه، ففشا في البربر وضرب فيه يفرن هؤلاء بسهم وانتحلوه، وقاتلوا عليه. وكان أول من جمع لذلك منهم أبو قرة من أهل المغرب الأوسط. ثم من بعده أبو يزيد صاحب الحمار وقومه بنو واركوا ومرنجيصة. ثم كان لهم بالمغرب الأقصى من بعد الانسلاخ من الخارجية دولتان على يد يعلى بن محمد صالح وبنيه حسبما نذكر ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى.
الخبر عن أبي قزة وما كان لقومه من الملك بتلمسان ومبدأ ذلك ومصادره:
كان من بني يفرن بالمغرب الأوسط بطون كثيرة بنواحي تلمسان إلى جبل بني
راشد المعروف بهم لهذا العهد، وهم الذين اختطوا تلمسان كما نذكره في أخبارها. وكان رئيسهم لعهد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس أبو قرة ولا نعرف من نسبه أكثر من أنه منهم. ولما انتقض البرابرة بالمغرب الأقصى وقام ميسرة وقومه بدعوة الخارجية وقتله البرابرة قدموا على أنفسهم مكانه خالد بن حميد من زناتة، فكان من حروبه مع كلثوم بن عياض وقتله إياه ما هو معروف. ورأس على زناتة من بعده أبو قرة هذا.
ولما استأثلت دولة بني أمية كثرت الخارجية في البربر، وملك ورفجومة القيروان، وهوارة، وزناتة طرابلس ومكناسة سجلماسة، وابن رستم تاهرت. وقدم ابن الأشعث إفريقية من قبل أبي جعفر المنصور، وخافه البربر فحسم العلل وسكن الحروب. ثم انتقض بنو يفرن تلمسان ودعوا إلى الخارجية وبايعوا أبا قرة كبيرهم بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة، وسرح إليهم ابن الأشعث الأغلب بن سوادة التميمي فانتهى إلى الزاب. وفر أبو قرة إلى المغرب الأقصى، ثم راجع موطنه بعد رجوع الأغلب.
ولما انتقض البرابرة على عمر بن حفص بن أبي صفرة الملقب "هزارمرد" عام خمسين ومائة وحاصروه بطبنة كان فيمن حاصره أبو قرة اليفرني في أربعين ألفا صفرية من قومه وغيرهم حتى اشتد عليه الحصار، وداخل أبا قرة في الإفراج عنه على يد ابنه على أن يعطيه أربعين ألفا، ولابنه أربعة آلاف، فارتحل بقومه وانفض البرابرة عن طبنة. ثم حاصروه بعد ذلك بالقيروان واجتمعوا عليه، وأبو قرة معهم بثلثمائة وخمسين ألفا: الخيالة منها خمسة وثمانون ألفا. وهلك عمر بن حفص في ذلك الحصار.
وقدم يزيد بن حاتم واليا على إفريقية ففض جموعهم وفرق كلمتهم، ولحق أبو قرة
وبنو يفرن أصحابه بمواطنهم من تلمسان بعد أن قتل صاحبه أبو حاتم الكندي رأس الخوارج، واستلحم بني يفرن وتوغل يزيد بن حاتم في المغرب ونواحيه وأثخن في أهله إلى أن استكانوا واستقاموا. ولم يكن لبني يفرن من بعدها انتقاض حتى كان شأن أبي يزيد بإفريقية في بني واركوا ومرنجيصة منهم حسبما نذكره إن شاء الله تعالى الكريم. وبعض المؤرخين ينسب أبا قرة هذا إلى مغيلة، ولم أظفر بصحيح في ذلك، والطرائق متساوية في الجانبين فإن نواحي تلمسان هـان كانت موطنا لبني يفرن فهي أيضا موطن لمغيلة، والقبيلتان متجاورتان. لكن بني يفرن كانوا أشد قوة وأكثر جمعا ومغيلة أيضا كانوا أشهر بالخارجية من بني يفرن لأنهم كانوا صفرية. وكثير من الناس يقولون إن بني يفرن كانوا على مذهب أهل السنة كما ذكره ابن حزم وغيره والله أعلم. الخبر عن أبي يزيد الخارجي صاحب الحمار من بني يفرن ومبدأ أمره مع الشيعة ومصادره: هذا الرجل من بني واركوا إخوة مرنجيصة، وكلهم من بطون بني يفرن، وكنيته أبو زيد واسمه مخلد بن كيداد لا يعلم من نسبه فيهم غير هذا. وقال أبو محمد بن حزم: ذكر لي أبو يوسف الوراق عن أيوب بن أبي يزيد أن اسمه مخلد بن كيداد بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلد بن عثمان بن ورينت بن حونيفر بن سميران بن يفرن بن جانا وهو زناتة. قال: وقد أخبرني بعض البربر بأسماء زائدة بين يفرن وجانا، اهـ كلام ابن حزم. ونسبه ابن الرقيق أيضا في بني واسين بن ورسيك بن جانا، وقد تقدم نسبهم أول الفصل. وكان كيداد أبوه يختلف إلى بلاد السودان في التجارة فولد له أبو يزيد، بكر كوامن بلادهم، وأمه أم ولد اسمها سبيكة، ورجع به إلى قيطون زناتة ببلاد قصطيلة. ونزل توزر مترددا بينها وبين تقيوس، وتعلم القرآن وتأدب، وخالط النكارية فمال إلى مذاهبهم وأخذها عنهم، ورأس فيها
ورحل إلى مشيختهم. وأخذ عن أبي عبيدة منهم أيام اعتقال عبيد الله المهدي بسجلماسة. ومات أبوه كيداد وتركه على حال من الخصاصة والفقر، فكان أهل القيطون يصلونه بفضل أموالهم، وكان يعلم صبيانهم القرآن ومذاهب النكارية. واشتهر عنه تكفير أهل الملة وسب علي فخاف وانتقل إلى تقيوس. وكان يختلف بينها وبين توزر، وأخذ نفسه بالتغيير على الولاة. ونمي عنه اعتقاد الخروج عن السلطان فنذر الولاة بقسطيلة دمه، فخرج إلى الحج سنة عشر وثلثمائة، وأرهفه الطلب فرجع من نواحي طرابلس إلى تقيوس. ولما هلك عبد الله أوعز إلى أهل قسطيلة في القبض عليه، فلحق بالمشرق وقضى الفرض وانصرف إلى موطنه. ودخل توزر سنة خمس وعشرين مستترا. وسعى به ابن فرقان عند والي البلد فتقبض عليه واعتقله؛ وأقبل سرعان زناتة إلى البلد ومعهم أبو عمار الأعمى رأس النكارية واسمه كما سبق عبد الحميد. وكان ممن أخذ عنه أبو يزيد فتعرضوا للوالي في إطلاقه؟ فتعلل عليهم بطلبه في الخراج؛ فاجتمعوا إلى فضل ويزيد ابني أبي يزيد، وعمدوا إلى السجن فقتلوا الحرس وأخرجوه؛ فلحق ببلد بني واركلا، وأقام بها سنة يختلف إلى جبل أوراس وإلى بني برزال في مواطنهم بالجبال قبالة المسيلة، وإلى بني زنداك من مغراوة إلى أن أجابوه فوصل إلى أوراس، ومعه أبو عمار الأعمى في اثني عشر من الراحلة. ونزلوا على النكارية بالنوالات واجتمع إليه القرابة وسائر الخوارج، وأخذ له البيعة عليهم أبو عمار صاحبه على قتال الشيعة وعلى استباحة الغنائم والسبي، وعلى أنهم إن ظفروا بالمهدية والقيروان صار الأمر شورى، وذلك سنة إحدى وثلاثين. وترصدوا غيبة صاحب باغاية في بعض وجوهه فضربوا على بسيطها، واستباح بعض القصور بها سنة اثنتين وثلاثين، وغمس بذلك أيدي البربر في الفتنة. ثم زحف بهم إلى باغاية واستولت عليه وعلى أصحابه الهزيمة فلحقوا بالجبل. وزحف إليهم صاحب باغاية فانهزم ورجع إلى بلده فحاصره أبو يزيد، وأوعز أبو القاسم القائم إلى كتامه في أمداد كنون صاحب باغاية فتلاحقت به العساكر فبيتهم أبو يزيد وأصحابه؛
ففلوهم، وامتنعت عليه باغاية. وكاتب أبو يزيد البربر الذين حول قسطيلة من بني واسين وغيرهم فحاصروا توزر سنة ثلاث وستين، ورحل إلى تبسة فدخلها صلحا، ثم إلى بجاية كذلك، تم إلى مرماجنة كذلك، وأهدوا له حمارا أشهب، فلزم ركوبه حتى اشتهر به. وبلغ خبره عساكر كتامة بالإربس، فانفضوا وملك الإربض وقتل إمام الصلاة بها. وبعث عسكرا إلى تبسة فملكوها وقتلوا عاملها. وبلغ الخبر القائم وهو بالمهدية فهاله، وسرح العساكر لضبط المدن والثغور، وسرح مولاه بشرى الصقلبي إلى باجة، وعمد لميسور على الجيوش فعسكر بناحية المهدية. وسرح خليل بن إسحق إلى القيروان فعسكر بها. وزحف أبو يزيد إلى بشرى بباجة، واشتدت الحرب بينهم، وركب أبو يزيد حماره وأمسك عصاه فاستمات النكارية وخالفوا بشرى إلى معسكره فانهزم إلى تونس. واقتحم أبو يزيد باجة واستباحها، ودخل بشرى إلى تونس وارتدت البرابر من كل ناحية فأسلم تونس ولحق بسوسة. واستأمن أهل تونس إلى أبي يزيد فأمنهم وولى عليهم وانتهى إلى وادي مجردة فعسكر بها. ووافته الحشود هنالك، ورعب الناس منه فأجفلوا إلى القيروان، وكثرت الأراجيف وسرب أبو يزيد جيوشه في نواحي إفريقية، فشنوا الغارات وأكثروا السبي والقتل والأسر. ثم زحف إلى رقادة فانفض كتامة الذين كانوا بها ولحقوا بالمهدية. ونزل أبو يزيد رقادة في مائة ألف. تم زحف إلى القيروان فانحصر بها خليل بن إسحق. ثم أخذه بعد مراوضة في الصلح، وهم بقتله فأشار عليه أبو عمار باستبقائه فلم يطعه وقتله، ودخلوا القيران فاستباحوها ولقيه مشيخة الفقهاء فأمنهم بعد التقريع والعتب، وعلى أن يقتلوا أولياء الشيعة. وزحف وبعث رسله في وفد من أهل القيروان إلى الناصر الأموي صاحب قرطبة ملتزما لطاعته والقيام لدعوته وطالبا لمدده، فرجعوا إليه بالقبول والوعد. ولم يزل يردد ذلك سائر أيام الفتنة حتى أوفد ابنه أيوب في آخرها سنة خمس وثلاثين، فكان له اتصال بالناصر سائر أيامه. وزحف ميسور من المدية بالعساكر، وفر عنه بنو كملان من هوارة ولحقوا بأبي يزيد وحرضوه على لقاء ميسور فزحف إليه، واستوى اللقاء. واستمات أبو يزيد والنكارية فانهزم ميسور وقتله بنو كملان وبعث برأسه إلى القيروان،
ثم إلى المغرب، واستبيح معسكره. وسرح أبو يزيد عساكره إلى مدينة سوسة فاقتحموها عنوة وأكثروا من القتل والمثلة. وعظم القتل بضواحي إفريقية، وخلت القرى والمنازل ومن أفلته السيف أهلكه الجوع. واستخف أبو يزيد بالناس بعد قتل ميسور فلبس الحرير ورحب الفاره. ونكر عليه أصحابه ذلك وكاتبه به رؤساؤهم من البلاد، والقائم خلال ذلك بالمهدية يخندق كلى نفسه ويستنفر كتامة وصنهاجة للحصار معه. وزحف أبو يزيد حتى نزل المهدية وناوش عساكرها الحرب، فلم يزل الظهور عليهم، وملك زويلة. ولما وقف بالمصلى قال القائم لأصحابه: من ههنا يرجع، واتصل حصاره للمهدية، واجتمع إليه البربر من قابس وطرابلس ونفوسة. وزحف إليهم ثلاث مرات فانهزم في الثالثة ولم يقلع وكذلك في الرابعة. واشتد الحصار على أهل المهدية ونزل الجوع بهم. واجتمعت كتابة بقسنطينة وعسكروا بها لإمداد القائم، فسرح إليهم أبو يزيد يكموس المزاتي من ورفجومة فانفض معسكر كتامة من قسنطينة. ويئس القائم من مددهم وتفرقت عساكر أبي يزيد في الغارات والنهب فخف المعسكر، ولم يبق به إلا هوارة وراس وبنو كملان. وكثرت مراسلات القائم للبربر. واستراب بهم أبو يزيد، وهرب بعضهم إلى المهدئة ورحل آخرون إلى مواطنهم فأشار عليه أصحابه بالإفراج عن المهدية فأسلموا معسكرهم، ولحقوا بالقيروان سنة أربع وثلاثين. ودبروا أهل القيروان في القبض عليه فلم يتهيأ لهم، وعذله أبو عمار فيما أتاه من الاستكثار من الدنيا فتاب وأقلع، وعاود لبس الصوف والتقشف. وشاع خبر إجفاله عن المهدية فقتل النكارية في كل بلد، وبعث عساكره فعاثوا في النواحي وأوقعوا بأهل الأمصار وخربوا كثيرا منها. وبعث ابنه أيوب إلى باجة فعسكر بها ينتظر وصول المدد من البربر وسائر النواحي؛ فلم يفجأه إلا وصول علي بن حمدون الأندلسي صاحب المسيلة في حشد كتامة وزواوة، وقد مر بقسنطينة والإربس وسقنبارية، واصطحب منها العساكر فبيته أيوب وانفض معسكره، وتردى به فرسه في بعض الأوعار فهلك.
ثم زحف أيوب في عسكره إلى تونس وقائدها حسن بن علي من دعاة الشيعة فانهزم، ثم اتيحت له الكرة. ولحق حسن بن علي ببلد كتامة فعسكر بهم على قسنطينة. وسرح أبو يزيد جموع البربر لحربه. ثم اجتمعت لأبي يزيد حشود البربر من كل ناحية، وثابت إليه قوته. وارتحل إلى سوسة، فحاصرها ونصب عليها المجانيق. وهلك القائم سنة أربع وثلاثين في شوال وصارت الخلافة لابنه إسمعيل المنصور، فبعث بالمدد إلى سوسة بعد أن اعتزم على الخروج إليها بنفسه فمنعه أصحابه. ووصل المدد إلى سوسة؛ فقاتلوا أبا يزيد فانهزم ولحق بالقيروان، فامتنعت عليه؛ فاستخلص صاحبه أبا عمار من أيديهم وارتحل عنهم. وخرج المنصور من المهدية إلى سوسة، ثم إلى القيروان فملكها وعفا عن أهلها وافنهم، وأحسن في مخلف أبي يزيد وعياله. وتوافى المدد إلى أبي يزيد ثالثة فاعتزم على حصار القيروان، وزحف إلى عسكر المنصور بساحتها فبيتهم، واشتد الحرب واستمات الأولياء وافترقوا اخر نهارهم، وعاودوا الزحف مرات، ووصل المدد إلى المنصور من الجهات. حتى إذا كان منتصف المحرم كان الفتح، وانهزم أبو يزيد وعظم القتل في البربر ورحل المنصور في أتباعه فمر بسبيبة ثم تبسه حتى انتهى إلى باغاية.
ووافاه بها كتاب محمد بن خزر بالطاعة والولاية والاستعداد للمظاهرة؛ فكتب إليه بترصد أبي يزيد والقبض عليه، ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال. ثم رحل إلى طبنة فه افاه بها جعفر بن علي عامل المسيلة بالهدايا والأموال. وبلغه أن أبا يزيد نزل بسكرة وأنه كاتب محمد بن خزر يسأله النصرة، فلم يجد عنده ما يرضيه، فارتحل المنصور إلى بسكرة فتلقاه أهلها. وفر أبو يزيد إلى بني برزال بجبل سالات، ثم إلى جبل كتامة وهو جبل عياض لهذا العهد، وارتحل المنصور في أثره إلى ومرة وبيته أبو يزيد هنالك فانهزم ولم يظفر وانحاز إى جبل سالات. ثم لحق بالرمال ورجع عنه بنو كملان، وأمنهم المنصور على يد محمد بن خزر.
وسار المنصور في التعبية حتى نزل جبل سالات، وارتحل وراءه إلى الرمال. ثم رجع ودخل بلاد صنهاجة، وبلغه رجوع أبي زيد إلى جبل كتامة فرجع إليه، ونزل عليه المنصور في كتامة وعجيسة وزواوة وحشد بني زنداك ومزاتة ومكناسة ومكلاتة.
وتقدم المنصور إليه فقاتلوا أبا يزيد وجموع النكارية فهزموهم واعتصموا بجبل كتامة. ورحل المنصور إلى المسيلة وإنحصر أبو في يد في قلعة الجبل، وعساكر المنصور إزاءها واشتد الحصار، وزحف إليها مرات. ثم اقتحمها عليهم فاعتصم أبو يزيد بقصر في ذروة القلعة فأحيط به واقتحم، وقتل أبو عمار الأعمى ويكموس المزاتي، ونجا أبو يزيد منها بالجراحة محمولا بين ثلاثة من أصحابه فسقط في مهواة من الأوعار فوهن، وسيق من الغداة إلى المنصور فأمر بمداواته.
ثم أحضره ووبخه، وأقام الحجة عليه وتجافى عن دمه. وبعثه إلى المهدية، وفرض له بها الجراية فجزاه خيرا. وحمل في القفص فمات من جراحته سنة خمس وثلاثين. وأمر به فسلخ وحشي جلده بالتبن وطيف به في القيروان. وهرب الفل من أصحابه إلى ابنه فضل وكان مع معبد بن خزر فأغاروا على ساقة المنصور، وكمن لهم زيري بن مناد أمير صنهاجة فأوقع بهم. ولم يزل المنصور في أتباعه إلى أن نزل المسيلة وانقطع أثر معبد، ووافاه بمعسكره هنالك انتقاض حميد بن يصل عامل تيهرت من أوليائهم، وأنه ركب البحر من تنس إلى العدوة، فارتحل إلى تيهرت وولي عليها وعلى تنس. ثم قصد لواتة فهربوا إلى الرمال. ورجع إلى إفريقية سنة خمس وثلاثين. ثم بلغه أن فضل بن أبي يزيد أغار على جهات قسطيلة فرحل من سنته في طلبه، وانتهى إلى قفصة ثم ارتحل إلى ميطلة من أعمال الزاب، وفتح حصن ماداس مما يليه. وهرب فضل في الرمال فأعجزه، ورجع إلى القيروان سنة ست وثلاثين. ومضى فضل إلى جبل أوراس، ثم سار منه إلى باغاية فحاصرها. وغدر به ماطيط بن يعلى من أصحابه، وجاء برأسه إلى المنصور وأنقرض أمر أبي يزيد وبنيه، وافترقت جموعهم. واغتال عبد الله بن بكار من رؤساء مغراوة بعد ذلك أيوب بن أبي يزيد، وجاء برأسه إلى المنصور متقربا إليه. وتتبع المنصور قبائل بني يفرن بعدها إلى أن انقطع أثر الدعوة. والبقاء لله تعالى وحده.
الخبر عن الدولة الأولى لبني يفرن بالمغرب الأوسط والأقصي ومبادىء أمورهم ومصايرهم: كان لبني يفرن من زناتة بطون كثيرة وكانوا متفرقين بالمواطن، فكان منهم بإفريقية بنو واركوا ومرنجيصة وغيرهم كما قدمناه، وكان منهم بنواحي تلمسان ما بينها وبين تاهرس أمم كثير عددهم وهم الذين اختطوا مدينة تلمسان كما نذكره بعد. ومنهم أبو قرة المنتزي بتلك الناحية لأول الدولة العباسية، وهو الذي حاصر عمر بن حفص بطبنة كما تقدم. ولما انقرض أمر أبي يزيد وأثخن المنصور فيمن كان بإفريقية من بني يفرن أقام هؤلاء الذين كانوا بنواحي تلمسان على وفودهم. وكان رئيسهم لعهد أبي يزيد محمد بن صالح. ولما تولى المنصور محمد بن خزر وقومه مغراوة، وكان بينه وبين بني يفرن هؤلاء فتنة هلك فيها محمد بن صالح على يد عبد الله بن بكار من بني يفرن، كان متحيزا إلى مغراوة. وولي أمره في بني يفرن من بعده ابنه يعلى فعظم صيته، واختط مدينة إيفكان. ولما خطب عبد الرحمن الناصر طاعة الأموية من زناتة أهل العدوة واستالف ملوكهم، سارع يعلى لإجابته واجتمع عليها مع الخير بن محمد بن خزر وقومه مغراوة، وأجلب على وهران؛ فملكها سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة من يد محمد بن عون، وكان ولاه عليها صولات اللميطي أحد رجالات كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين فدخلها يعلى عنوة على بنيه وخربها. وكان يعلى قد زحف مع الخير بن محمد إلى تاهرت، وبرز إليه ميسور الخصي في شيعته من لماية؛ فهزموهم وملكوا تاهرت، وتقبضوا على ميسور وعبدالله بن بكار؛ فبعث به الخير إلى يعلى بن محمد ليثأر به فلم يرضه كفؤا لدمه، ودفعه إلى من ثأر به من بني يفرن. واستفحل سلطان يعلى في ناحية المغرب، وخطب على منابرها لعبد الرحمن الناصر ما بين تاهرت إلى طنجة. واستدعى من الناصر تولية رجال بيته على أمصار المغرب: فعقد على فاس لمحمد بن
الخير بن محمد بن عشيرة، ونسك محمد لسنة من ولايته، واستأذن في الجهاد والرباط بالأندلس فأجاز لذلك واستخلف على عمله ابن عمه أحمد بن عثمان بن سعيد، وهو الذي اختط مأذنة القرويين سنة أربع وأربعين كما ذكرناه. ولم يزل سلطان يعلى بن محمد بالمغرب عظيماً إلى أن أغزى المعز لدين الله كاتبه جوهر الصقلي من القيروان إلى المغرب سنة سبع وأربعين. فلما فصل جوهر بالجنود عن تخوم إفريقية بادر أمير زناتة بالمغرب يعلى بن محمد اليفرني إلى لقائه والإذعان لطاعته والانحياش إليه، ونبذ عهد الأموية، وأعمل إلى لقيه الرحلة من بلده إيفكان وأعطاه يد الانقياد. وعهد البيعة عن قوص بني يفرن وزناتة، فتقبلها جوهر وأضمر الفتك به، وتخير لذلك يوم فصوله من بلده. وأسر إلى بعض مستخلصيه من الأتباع؛ فأوقعوا نفرة في أعقاب العسكر طار إليها الزعماء من كتامة وصنهاجة وزناتة، وتقيض على يعلى فهلك في وطيس تلك الهيعة فغص بالرماح على أيدي رجالات كتامة وصنهاجة، وذهب دمه هدرا في القبائل. وخرب جوهر مدينة إيفكان، وفرت زناتة أمامه، وكشف القناع في مطالبتهم. وقد ذكر بعض المؤرخين أن يعلى إنما لقي جوهرا عند منصرفه من الغزاة بمدينة تاهرت، وهنالك كان فتكه به بناحية شلف، فتفرقت بعدها جماعة بني يفرن وذهب ملكهم فلم يجتمعوا إلا بعد حين على ابنه بدوي بالمغرب كما نذكره. ولحق الكثير منهم بالأندلس كما يأتي خبره في موضعه، وانقرضت دولة بني يفرن هؤلاء إلى أن عادت بعد مدة على يد يعلى بفاس. ثم استقرت آخراً بسلا وتعاقبت فيهم هنالك إلى آخرها كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن الدولة الثانية لبني يفرن بسلا من المغرب الأقصي وأولية ذلك وتصاريفه: لما أوقع جوهر الكاتب قائد المعز بيعلى بن محمد أمير بني يفرن، وملك المغرب سنة سبع وأربعين كما ذكرناه، وتفرقت جموع بني يفرن لحق ابنه بدوي بن يعلى بالمغرب الأقصى وأحس بجوهر من ورائه فأبعد المفر وأصحر إلى أن رجع جوهر من المغرب. ويقال إن جوهرا تقبض عليه واحتمله أسيرا فاعتقل إلى أن فر من معتقله بعد حين،
واجتمع عليه قومه من بني يفرن. وكان جوهر عند منصرفه من المغرب ولى على الأدارسة المتحيزين إلى الريف وبلاد غمارة الحسن بن كنون شيخ بني محمد منهم فنزلى البصرة. وأجاز الحكم المستنصر لأول ولايته سنة خمس وثلثمائة وزيره محمد بن قاسم بن طملس في العساكر لتدويخ المغرب، فجمع له الحسن بن كنون وأوقع به، ورجع إلى الأندلس مفلولا فسرح الحكم فولاه غالبا لتدويخ المغرب واقتلاع جرثومة الأدارسة، فأجاز في العساكر وغلبهم على بلادهم وأزعجهم جميعا عن المغرب إلى الأندلس سنة خمس وستين كما ذكرناه. ومهد دعوة الأموية بالمغرب، وأقفل الحكم مولاه غالبا ورده إلى الثغر لسده، وعقد على المغرب ليحيى بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى، وكان أجازه مددا لغالب في رجال العرب وجند الثغور حتى إذا انغمس الحكم في علة الفالج، وركدت ريح المروانية بالمغرب واحتاجت الدولة إلى رجالها لسد الثغور ودفاع العدو، استدعى يحيى بن محمد بن هاشم من العدوة، وأداله الحاجب المصحفي بجعفر بن علي بن حمدون أمير الزاب والمسيلة النازع إليهم من دعوة الشيعة، وجمعوا بين الانتفاع به في العدوة والراحة مما يتوقع منه على الدولة ومن البرابرة في التياث الخلافة، لما كانوا أصاروا إليه من النكبة، وطوقوه من المحنة. ولما كان اجتمع بقرطبة من جموع البرابرة فعقدوا له ولأخيه يحيى على المغرب، وخلعوا عليهما وأمكنوهما من مال دثر وكسي فاخرة للخلع على ملوك العدوة، فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس وستين وضبطه. واجتمع إليه ملوك زناتة مثل بدوي بن يعلى أمير بني يفرن وابن عمه نوبخت بن عبد الله بن بكار، ومحمد بن الخير بن خزر وابن عمه بكساس بن سيد الناس، وزيري بن خزر وزيري ومقاتل ابنا عطية بن تبادلت وخزرون بن محمد وفلفول بن سعيد أمير مغراوة وإسمعيل بن البوري أمير مكناسة، ومحمد بن عمه عبدالله بن مدين وخزرون بن محمد الأزداجي، وكان بدوي بن يعلى من أشدهم قوة وأحسنهم طاعة. ولما هلك الحكم وولي مكانه هشام المؤيد. وانفرد محمد بن أبي عامر بحجابته اقتصر من العدوة لأول قيامه على مدينة سبتة؛ فضبطها بجند السلطان
ورجال الدولة، وقلدها الصنائع من أرباب السيوف والأقلام، وعول في ضبط ما وراء ذلك على ملوك زناتة وتعهدهم بالجوائز والخلع، وصار إلى إكرام وفودهم وإثبات من رغب في الإثبات في ديوان السلطان منهم فجردوا في ولاية الدولة وبث الدعوة. وفسد ما بين أمير العدوة جعفر بن علي وأخيه يحيى واقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه وذهب بأكثر الرجال. ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبه برغواطة في غزاته إئاهم، واستدعاه محمد بن أبي عامر لأول أمره لما رآه من استقامته إليه، وشد أزره به وتلوى عليه كراهية لما يلقى بالأندلس من الحكم. ثم أصلحه وتخلى لأخيه عن عمل المغرب وأجاز البحر إلى ابر أبي عامر؛ فحل منه بالمكان الأثير وتناغت زناتة في التزلف إلى الدولة بقرب الطاعات، فزحف خزرون بن فلفول سنة ست وستين إلى مديتي سجلماسة فافتتحها ومحا أثر دولة آل مدرار منها، وعقد له المنصور عليها كما ذكرنا ذلك قبل. وزحف عقب هذا الفتح بلكين بن زيري قائد إفريقية للشيعة إلى المغرب سنة تسع وستين زحفه المشهور. وخرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه، واحتمل من بيت المال مائة حمل، ومن العساكر ما لا يحصى عده. وأجاز جعفر بن علي بن حمدون إلى سبتة، وانضمت إليه ملوك زنالة، ورحى بكلين عنهم إلى غزو برغواطة إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين كما ذكرناه. ورجع جعفر إلى مكانه من ابن أبي عامر، لم يسمح بمقامه عنه. ووصل حسن بن كنون خلال ذلك من القاهرة بكتاب عبد العزيز بن نزار بن معد إلى بلكين صاحب إفريقية في إعانته على ملوك المغرب وإمداده بالمال والعساكر، فأمضاه بلكين لسبيله، وأعطاه مالا ووعده بإضعافه. ونهض إلى المغرب فوجد طاعة المروانية قد استحكمت فيه. وهلك بلكين إثر ذلك وشغل ابنه المنصور عن شأنه؛ فدعا الحسن بن كنون إلى نفسه، وأنفذ أبو محمد بن أبي عامر ابن عمه محمد بن عبد الله، ويلقب عسكلاجة، لحربه سنة خمس وسبعين. وجاء أثره إلى الجزيرة كيما يشارف القصة، وأحيط بالحسم بن كنون فسأل الأمان وعقد له مقارعه عمر وعسكلاجة وأشخصه إلى الحضرة فلم يمض ابن أبي عامر أمامه، ورأى أن لا ذمة له لكثرة نكثه فبعث من ثقاته من أتاه برأسه، وانقرض أمر الأدارسة وانمحى أثرهم فأغضب عمر وعسكلاجة لذلك.
واستراح إلى الجند بأقوال نميت عنه إلى المنصور فاستدعاه من العدوة وألحقه بمقتوله ابن كنون. وعقد على العدوة للوزير حسن بن أحمد بن الورود السلمي، وأكثف عدده وأطلق في المال يده. ونفذ إلى عمله سنة ست فضبط المغرب أحسن ضبط وهابته البرابرة، ونزل فاس من العدوة، فعز سلطانه وكثر جمعه، وانضم إليه ملوك النواحي حتى حذر ابن أبي عامر مغبة استقلاله، وأستدعاه ليبلو صحة طاعته، فأسرع اللحاق به، فضاعف تكرمته وأعاده إلى عمله. وكان بدوي بن يعلى هذا من بين ملوك زناتة كثير الاضطراب على الأموية والمراوغة لهم بالطاعة. وكان المنصور بن أبي عامر يضرب بينه وبين قرينه زيري بن عطية ويقرن كلأ منهما بمناغاة صاحبه في الاستقامة، وكان إلى زيري أميل وبطاعته أوثق، لخلوصه وصدق طويته وانحياشه فكان يرجو أن يتمكن من قياد بدوي بن يعلى بمناغاته. فاستدعى بزيري بن عطية إلى الحضرة سنة سبع وسبعين فبادر إلى القدوم عليه، وتلقاه وأكبر موصله وأحسن مقامه ومنقلبه وأعظم جائزته وسام بدوي مثلها فامتنع، وقال لرسوله، قل لابن أبي عام: متى عهد حمر الوحش تنقاد للبياطرة؟ وأرسل عنانه في العيث والفساد، ونهض إليه صاحب المغرب الوزير حسن بن عبد الودود في عساكره وجموعه من جند الأندلس وملوك العدوة مظاهرا عليه لعدوه وزيري بن عطية، وجمع لهم بدوي ولقيهم سنة إحدى وثمانين فكان الظهور له. وانهزم عسكر السلطان وجموع مغراوة؛ واستلحموا وجرح الوزير حسن بن عبد الودود جراحات كان فيها لليال مهلكه. وطار الخبر إلى ابن أبي عامر فاغتم لذلك، وكتب إلى زيري بضبط فاس ومكاتبة أصحاب حسن، وعقد له على المغرب كما نستوفي ذكره عند دولتهم. وغالبه بدوي عليها مرة بعد أخرى ونزع أبو البهار بن زيري بن مناد الصنهاجي عن قومه، ولحق بسواحل تلمسان ناقضا لطاعة الشيعة، وخارجا على ابن أخيه المنصور بن بلكين صاحب القيروان. وخاطب ابن أبي عامر من وراء البحر، وأوفد عليه ابن أخيه ووجوه قومه فسرب إليه الأموال والصلات بفاس مع
زيري حسبما نذكره، وجمع أيديهما على مدافعة بدوي، فساء أمره فيهما جميعا إلى أن راجع أبو البهار ولاية منصور ابن أخيه كما نذكره بعد. وحاربه زيري فكان له الظهور عليه، ولحق أبو البهار بسبتة. ثم عاد إلى قومه. واستفحل زيري من بعد ذلك، وكانت بينه وبين بدوي وقعة اكتسح زيري من ماله ومعسكره مالا كفؤله، وسبى حرمه. واستلحم من قومه زهاء ثلاثة آلاف فارس. وخرج إلى الصحراء شريدا سنة ثلاث وثمانين. وهلك هناك فولي أمره في قومه حبوس ابن أخيه زيري بن يعلى، ووثب به ابن عمه أبو يداس بن دوناس فقتله طمعا في الرياسة من بعده، واختلف عليه قومه فأخفق أمله وعبر البحر إلى الأندلس في جمع عظيم من قومه. وولي أهر بني يفرن من بعده حمامة بن زيري بن يعلى أخو حبوس المذكور؛ فاستقام عليه أمر بني يفرن وقد مر ذكره في خبر بدوي غير مرة، وأنه كانت الحرب بينه وبين زيري بن عطية سجالاً، وكانا يتعاقبان ملك فاس بتناول الغلب. وأنه لما وفد زيري على المنصور خالفه بدوي إلى فاس فملكها وقتل بها خلقا من مغراوة، وأنه لما رجع زيري اعتصم بدوي بفاس فنازله زيري. وهلك من مغراوة وبني يفرن في ذلك الحصار خلق. ثم اقتحمها زيري عليهم عنوة فقتله وبعث برأسه إلى سدة الخلافة بقرطبة سنة ثلاث وثمانين والله أعلم. ولما اجتمع بنويفرن على حمامة تحيز بهم إلى ناحية شاله من المغرب فملكها وما إليها من تادلا، واقتطعها من زيري، ولم يزل عميد بني يفرن في تلك العمالة، والحرب بينه وبين زيري ومغراوة متصلة. وكانت بينه وبين المنصور صاحب القيروان مهاداة فأهدى إليه، وهو محاصر لعمه حماد بالقلعة سنة ست وأربعمائة، وأوفد بهديته أخاه زاوي بن زيري فلقيه بالطبول والبنود. ولما هلك حمامة قام بأمر بني يفرن من بعده أخوه الأمير أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى فاستبد بملكهم، وكان مستقيما في دينه مولعا بالجهاد؟ فانصرف إلى جهاد برغواطة وسالم مغراوة وأعرض عن فتنتهم. ولما كانت سنة أربع وعشرين وأربعماية تجددت العداوة بين هذين الحيين بني يفرن ومغراوة، وثارت الإحن القديمة، وزحف أبو الكمال صاحب شالة وتادلا وما إلى ذلك في جموع يفرن. وبرز إليه حمامة بن المعز في قبائل مغراوة، ودارت بينهم حروب شديدة وانكشفت مغراوة وفر حمامة إلى وجدة، واستولى الأمير أبو الكمال تميم وقومه على فاس وغلبوا مغراوة على عمل المغرب. واكتسح تميم اليهود بمدينة فاس،
واصطلم نعمهم واستباح حرمهم. ثم احتشد حمامة من وجدة سائر قبائل مغراوة وزناتة، وبعث الحاشدين في قياطينهم لجميع بلاد المغرب الأوسط، ووصل إلى تنس صريخا لزعمائهم. وكاتب من بعد عنه من رجالاتهم، وزحف إلى فاس سنة تسع وعشرين فأفرج عنها أبو الكمال تميم، ولحق ببلده ومقر ملكه من شالة، وأقام بمكان عمله وموطن أمارته منها إلى أن هلك سنة ست وأربعين. وولي ابنه حماد إلى أن هلك سنة تسع وأربعين، وولي بعده ابنه يوسف إلى أن توفي سنة ثمان وخمسين فولي بعده عمه محمد ابن الأمير أبي تميم إلى أن هلك في حروب لمتونة حين غلبوهم على المغرب أجمع حسبما نذكره، والملك لته يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. وأما أبو يداس بن دوناس قاتل حبوس بن زيري بن يعلى بن محمد فإنه لما اختلف عليه بنو يفرن، وأخفق أمله في اجتماعهم له أجاز البحر إلى الأندلس سنة اثنتين وثمانين فرفعه إخوانه أبو قرة وأبو زيد وعطاف، فحل كلهم من المنصور محل التكرمة والإيثار ونظمه في جملة الرؤساء والأمراء، وأسنى له الجراية والاقطاع، وأثبت رجاله في الديوان ومن أجاز من قومه، فبعد صيته وعلا في الدولة كعبه. ولما افترقت الجماعة وانتثر سلك الخلافة كان في حروب البربر مع جند الأندلس آثار بعيدة وأخبار غريبة. ولما ملك المستعين قرطبة سنة أربعمائة واجتمع إليه من كان بالأندلس من البرابرة لحق المهدي بالثغور واستجاش طاغية الجلالقة، فزحف معه إلى غرناطة، وخرج المستعين في جموعه من البرابرة إلى الساحل، واتبعهم المهدي في جموعه فتواقعوا بوادي أيرة فكانت بين الفريقين جولة عظم بلاء البرابرة، وطار لأبي يداس فيها ذكر، وانهزم المهدي والطاغية وجموعهم بعد أن تضايقت المعركة وأصابت أبا يداس بن دوناس جراحة كان فيها مهلكه، ودفن هناك. وكان لابنه خلوف وحافده تميم بن خلوف من رجالات زناتة بالأندلس شجاعة ورياسة، وكان يحيى بن عبد الرحمن بن أخيه عطاف من رجالاتهم، وكان له اختصاص ببني حمود، ثم بالقاسم منهم ولاه على قرطبة أيام خلافته والبقاء لله وحده.
الخبر عن أبي نور بن أبي قرة وما كان له من الملك بالأندلس أيام الطوائف: هذا الرجل اسمه أبو نور بن أبي قرة بن أبي يفرن من رجالات البربر الذين استظهر بهم قومهم أيام الفتنة، تغلب على رندة أزمان تلك الفتن، وأخرج منها عامر بن فتوح من موالي الأموية سنة خمس وأربعمائة، فملكها واستحدث بها لنفسه سلطانا. ولما استفحل أمر ابن عياد بإشبيلية وأسف إلى تملك ما جاوره من الأعمال والثغور، نشأت الفتنة بينه وبين أبي نور هذا. واختلف حاله معه في الولاية والإنحراف، وسجل له سنة ثلاث وأربعين برندة وأعمالها فيمن سجل له من البربر. واستدعاه بعدها سنة خمسين لبعض ولائمه، وكاده بكتاب أوقفه عليه على لسان جارية بقصره تشكو إليه ما نال منها ابنه من المحرم، فانطلق إلى بلده وقتل ابنه. وشعر بالمكيدة فمات أسفا، وولي ابنه الاخر أبو نصر إلى سنة سبع وخمسين فغدر به بعض جنده وخرج هاربا فسقط من السور ومات. وتسلم المعتمد رندة من بعد ذلك، ولقالى إن ذلك كان عند كائنة الحمام سنة خص وأربعين، وإن أبا نور هلك فيها. ولما بلغ الخبر ابنه أبا نصر وقع ما وقع والله أعلم. الخبر عن مرنجيصة من بطون بني يفرن وشرع أحوالهم: كان هذا البطن من بني يفرن بضواحي إفريقية، وكانت له كثرة وقوة. ولما خرج أبو يزيد على الشيعة، وكان من أخوالهم بنو واركوا ظاهروه على أمره بما كان له معهم من العصبية. ثم انقرض أمره وأخذتهم دولة الشيعة وأولياؤهم صنهاجة وولاتهم على إفريقية بالسطوة والقهر، وإنزال العقوبات بالأنفس والأموال إلى أن تلاشوا وأصبحوا في عداد القبائل الغارمة. وبقيت منهم أحياء نزلوا ما بين القيروان وتونس أهل شاء وبقر وخيام يظعنون في نواحيها وينتحلون الفلح في معاشهم، وملك الموحدون إفريقية وهم بهذه الحال، وضربت عليهم المغارم والضرائب والعسكرة مع السلطان في غزواته بعدة مفروضة يحضرون بها متى استقروا.
ولما تغلبت الكعوب من بني سليم على ضواحي إفريقية وأخرجوا منها الدواودة من رياح أعداء الدولة لذلك العهد. واستظهر بهم السلطان عليهم. اتخذوا إفريقية وطنا من قابس إلى باجة. ثم اشتدت ولايتهم للدولة، وعظم الاستظهار بهم وأقطعهم ملك الدولة ما شاؤوه من الأعمال والخراج فكان؛ في إقطاعهم خراج مرنجيصة هؤلاء. ولما كانت وقعة بنو مرين على القيروان وكان بعدها في الفترة ما كان من طغيان الفتنة التي اعتز فيها العرب على السلطان والدولة، كان لهؤلاء الكعوب المتغلبين مدد قوي من أحباء مرنجيصة هؤلاء من الخيل للحملان، والجباية للإنفاق، والإنعام للحمال والخياو، للاستظهار بأعدادهم في الحروب فصاروا لهم لحمة وخولا، وتملكوهم تملك العبيد، حتى إذا ذهب الله بحمى الفتنة، وأقام مائل الخلافة والدولة وصار تراث هذا الملك الحفصي إلى الأحق به مولانا السلطان أبي العباس أحمد، فانقشع الجو وأضاء الأفق ودفع المتغلبين من العرب عن أعماله، وقبض أيديهم عن رعاياه. وأصار مرنجيصة هؤلاء من صفاياه بعد إنزال العقوبة بهم على لياذهم بالعرب وظعنهم معهم، فراجعوا الحق وأخلصوا في الانحياش، ورجعوا إلى ما ألفوه من الغرامة وقوانين الخراج، وهم على ذلك لهذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن مغراوة من أهل الطبقة الأولي من زناتة وما كان لهم من الدول بالمغرب ومبدأ ذلك وتصاريفه: هؤلاء القبائل من مغراوة كانوا أوسع بطون زناتة وأهل البأس والغلب، ونسبهم إلى مغراو بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت بن جانا إخوة بني يفرن وبني، برنيان، وقد تقدم الخلاف في نسبهم عند ذكر بني يفرن. وأما شعوبهم وبطونهم فكثر مثل بني يلنت وبني زنداك وبني وراق وورتزمير وبني أبي سعيد وبني ورسيفان ولغواط وبني ريغة وغيرهم ممن لم يحضرني أسماؤهم. وكانت محلاتهم بأرض المغرب الأوسط من شلف إلى تلمسان إلى جبل مديونة وما إليها
ولهم مع إخوانهم بني يفرن اجتماع وافتراق ومناغاة في أحوال البدو. وكان لمغراوة هؤلاء في بدوهم ملك كبير أدركهم عليه الإسلام فأقره لهم، وحسن إسلامهم. وهاجر أميرهم صولات بن وزمار إلى المدينة، ووفد على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فلقاه برا وقبولا لهجرته وعقد له على قومه ووطنه. وانصرف إلى بلاده محبواً محبوراً مغتبطا بالدين فظاهرا لقبائل مضر، فلم يزل هذا دأبه. وقيل إنه تقبض عليه أسيراً لأول الفتح في بعض حروب العرب مع البربر قبل أن يدينوا بالدين فأشخصوه إلى عثمان لمكانه من قومه فمن عليه وأسلم فحسن إسلامه. وعقد له على عمله فاختص صولات هذا وسائر الأحياء من مغرارة بولاء عثمان وأهل بيته من بني امية، وكانوا خاصة لهم دون قريش، وظاهروا دعوة المروانية بالأندلس رعيا لهذا الولاء على ما تراه بعد في أخبارهم. ولما هلك صولات قام بأمره في مغراوة وسائر زناتة من بعده ابنه حفص، وكان من أعظم ملوكهم. ثم لما هلك قام بأمره ابنه خزر. وعندما تقلص ظل الخلافة عن المغرب الأقصى بعض الشيء وأطلت فتنة ميسرة الحقير ومطخرة فاعتز خزر وقومه على أمراء المضرية بالقيروان، واستفحل ملكهم وعظم شأن سلطانهم على البدو من زناتة بالمغرب الأوسط. ثم انتقض أمر بني امية بالمشرق فكانت الفتنة بالمغرب فازدادوا اعتزازاً وعتوا. وهلك خلال ذلك خزر، وقام بملكه ابنه محمد، وخلص إلى المغرب إدريس الأكبر بن عبد الله بن حسن بن الحسن سنة سبعين ومائة في خلافة الهادي. وقام برابرة المغرب من أوربة ومدينة ومغيلة بأمره، واستوثق له الملك واقتطع المغرب عن طاعة بني العباس سائر الأيام. ثم نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين فتلقاه محمد بن خزر هذا وألقى إليه المقادة، وبايع له عن قومه وأمكنه من تلمسان بعد أن غلب عليها بني يفرن أهلها. وانتظم لإدريس بن إدريس الأمر، وغلب على جميع أعمال أبيه، وملك تلمسان. وقام بنو خزر هؤلاء بدعوته كما كانوا لأبيه. وكان قد نزل تلمسان لعهد إدريس الأكبر أخوه سليمان بن عبد الله بن حسن بن الحسن القادم إليه من المشرق، وسجل له بولاية تلمسان من سجل ابنه إدريس لمحمد ابن عمه سليمان من بعده،
فكانت ولاية تلمسان وأمصارها في عقبه، واقتسموا ولاية ثغورها الساحلية فكانت تلمسان لولد إدريس بن محمد بن سليمان، وأرشكول لولد عيسى بن محمد، وتنس لولد إبراهيم بن محمد بن محمد، وسائر الضواحي من أعمال تلمسان لنبي يفرن ومغراوة. ولم يزل الملك بضواحي المغرب الأوسط لمحمد بن خزر كما قلناه إلى أن كانت دولة الشيعة، واستوثق لهم ملك إفريقية. وسرح عبيد الله المهدي إلى المغرب عروبة بن يوسف الكتامي في عساكر كتامة سنة ثمان وتسعين ومائتين، فدوخ المغرب الأدنى ورجع. ثم سرح بعده مصالة بن حبوس إلى المغرب في عساكر كتامة؛ فاستولى على أعمال الأدارسة ، واقتضى طاعتهم لعبيد الله. وعقد على فاس ليحيى بن إدريس بن عمر آخر ملوك الأدارسة. وخلع نفسه ودان بطاعتهم، وعقد له مصالة على فاس، وعقد لموسى بن أبي العالية أمير مكناسة وصاحب تازة، واستولى على ضواحي المغرب، وقفل إلى القيروان. وانتقض عمر بن خزر من أعقاب محمد بن خزر الداعية لإدريس الأكبر، وأمل زناتة وأهل المغرب الأوسط على البرابرة من الشيعة وسرح عبيد الله المهدي مصالة قائد المغرب في عساكر كتامة سنة تسع، ولقيه محمد بن خزر في جموع مغراوة وسائر زناتة ففل عساكر مصالة وخلص إليه فقتله. وسرح عبيد الله ابنه أبا القاسم في العساكر إلى المغرب سنة عشر، وعقد له عى حرب محمد بن خزر وقومه فأجفلوا إلى الصحراء، واتبع آثارهم إلى ملوية فلحقوا بسلجماسة وعطف أبو القاسم على المغرب فدوخ أقطاره وجال في نواحيه وجدد لابن أبي العافية على عمله ورجع ولم يلق كيداً. ثم إن الناصر صاحب قرطبة سما له أمل في ملك العدوة فخاطب ملوك الأدارسة وزناتة، وبعث إليهم خالصته محمد بن عبيد الله بن أبي عيسى سنة ست عشرة فبادر محمد بن خزر إلى إجابته، وطرد أولياء الشيعة من الزاب. وملك شلب وتنس من أيديهم وملك وهران وولى عليها ابنه الخير، وبث دعوة الأموية في أعمال المغرب الأوسط ما عدا تاهرت. وبدأ في القيام بدعوة الأموية إدريس بن إبراهيم
بن عيسى بن محمد بن سليمان صاحب أرشكول. ثم فتح الناصر سبتة سنة سبع عشرة من يد الأدارسة وأجار موسى بن أبي العالية على طاعته، واتصلت يده بمحمد بن خزر وتظاهروا على الشيعة. وخالف فلفول بن خزر أخاه محمد إلى طاعة الشيعة، وعقد له عبد الله على مغراوة.
وزحف إلى المغرب حميد بن يصل سنة إحدى وعشرين في عساكر كتامة إلى عبد الله على تاهرت فانتهى إلى فاس وأجفلت أمامه ظواعن زناتة ومكناسة ودوخ المغرب. وزحف من بعده ميسور الخصي سنة اثنتين وعشرين فحاصر فاس وامتنعت عليه ورجع. ثم انتقض حميد بن يصل سنة ثمان وعشرين وتحيز إلى محمد بن خزر. ثم أجاز إلى الناصر وولاه على المغرب الأوسط. ثم شغل الشيعة بفتنة أبي يزيد، وعظمت آثار محمد بن خزر وقومه من مغراوة. وزحفوا إلى تاهرت مع حميد بن يصل قائد ا أموية سنة ثلاث وثلاثين. وزحف معه الخير بن محمد وأخوه حمزة وعمه عبد الله بن خزر، ومعهم يعلى بن محمد في قومه بني يفرن وأخذوا تاهرت عنوة، وقحلوا عبد الله بن بكار، وأسروا قائدها ميسور الخصي بعد أن قتل حمزة بن محمد بن خزر في حروبها.
وكان محمد بن خزر وقومه زحفوا قبل ذلك إلى بسكرة ففتحوا وقتلوا زيدان الخصي. ولما خرج إسمعيل من حصار أبي يزيد، وزحف إلى المغرب في أتباعه خشية محمد بن خزر على نفسه لما سلف منه في نقض دعوتهم، وقتل أتباعهم؛ فبعث إليه بطاعة معروفة. وأوعز إليه إسمعيل بطلب أبي يزيد ووعده في ذلك بعشرين حملا من المال. وكان أخوه معبد بن خزر في موالاة أبي يزيد إلى أن هلك. وتقبض إسمعيل بعد ذلك على معبد سنة أربعين وقتله، ونصب رأسه بالقيروان. ولم يزل محمد بن خزر وابنه الخير متغلباً على المغرب الأوسط ومقاسما فيها ليعلى بن محمد. ووفد فتوح بن الخير سنة أربعين على الناصر مع مشيخة تاهرت ووهران فأجازهم وصرفهم إلى أعمالهم. ثم حدثت الفتنة بين مغراوة وصنهاجة، وشغل حمد بن خزر وابنه الخير بحروبهم، وتغلب يعلى بن محمد على وهران وخربها، وعقد الناصر لحميد بن يصل على تلمسان
وأعمالها، وليعلى بن محمد على المغرب وأعماله فراجع محمد بن خزر طاعة الشيعة من أجل قريعة يعلى بن محمد. ووفد على المعز بعد مهلك أبيه إسمعيل سنة اثنتين وأربعين؟ فأولاه تكرمة على طاعتهم؛ إلى أن حضر مع جوهر في غزاته إلى المغرب بأعوام سبع أو ثمان وأربعين. ثم وفد على المعز بعد ذلك سنة خمسين، وهلك بالقيروان، وقد نيف على المائة من السنين. وهلك الناصر المرواني عامئذ على حين انتشرت دعوة الشيعة بالمغرب، وانقبض أولياء ا أموية إلى أعمال سبتة وطنجة فقام بعده ابنه الحكم المستنصر، واستأنف مخاطبة ملوك العدوة فأجابه محمد بن الخير بن محمد بن خزر بما كان من أبيه الخير وجده محمد في ولاية الناصر، والولاية التي لبني امية على آل خزر بوصية عثمان بن عفان لصولات بن وزمار جدهم كما ذكرناه، فأثخن في الشيعة ودوخ بلادهم. ورماه معد بقريعه زيري بن مناد أمير صنهاجة فعقد له على حرب زناتة وسوغه ما غلب عليه من أعمالهم، وجمعوا للحرب سنة ستين ومائتين فلقي بلكين بن زيري جموعهم بدسيسة من بعض أولياء محمد بن الخير قبل أن يستكمل تعبيتهم فأبلى منهم ثباتا وصبرا، واشتدت الحرب بينهم وانهزمت زناتة، حتى إذا رأى محمد بن الخيران قد أحيط به انتبذ إلى ناحية من العسكر وذبح نفسه. واستمرت الهزيمة على قومه، وجندل منهم في المعركة سبعة عشر أميرا سوى الأتباع. وتحيز كل إلى فريقه. وولي بعد محمد في مغراوة ابنه الخير وأغرى بلكين بن زيري الخليفة معد وجندل بن جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة، والزاب بموالاة حمد بن الخير فاستراب جعفر، وبعث عنه معد لولاية إفريقية حتى اعتزم على الرحيل إلى القاهرة، فاشتدت استرابته ولحق بالخير بن محمد وقومه. وزحفوا إلى صنهاجة فاتيحت لهم الكرة، وأصيب زيري بن مناد كبير العصابة، وبعثوا برأسه إلى قرطبة في وفد من وجوه بني خزر مع يحيى بن علي أخي جعفر. ثم استراب بعدها جعفر من زناتة ولحق بأخيه يحيى، ونزلوا على الحكم. وعقد معد لبلكين بن زيري على حرب زناتة، وأمده بالأموال والعساكر، وسوغه ما تغلب عليه من أعمالهم فنهض إلى المغرب سنة إحدى وستين، وأوغر بالبرابرة منهم وتقرى أعمال طبنة وباغاية والمسيلة وبسكرة
وأجفلت زناتة أمامه. وتقدم إلى تاهرت فمحا من المغرب الأوسط آثار زناتة ولحق بالمغرب الأقصى. واتبع بفكين آثار الخير بن محمد وقومه إلى سجلماسة، فأوقع بهم وتقبض عليهم، فقتله صبراً وفض جموعهم، ودوخ المغرب وانكص راجعاً. ومر بالمغرب الأوسط فاستلحم بوادي زناتة ومن إليهم من الخصاصين، ورفع الأمان عن كل من ركب فرساً أو أنتج خيلا من سائر البربر. ونذر دماءهم فأقفر المغرب الأوسط من زناتة، وساروا إلى ما وراء ملوية من بلاد المغرب الأقصى إلى أن كان من رجوع بني يعلى بن محمد إلى تلمسان، وملكهم إياها، ثم هلك بنو خزر بسجلماسة وطرابلس، وملك بني زيري بن عطية بفاس ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى.
آل زيري بن عطية ملوك فاس
الخبر عن آل زيري بن طية ملوك فاس وأعمالها
من الطبقة الأولي من مغراوة وما كان لهم بالمغرب الأقصى
من الملك والدولة ومبادىء ذلك وتصاريفه
كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته، ووارث ملكهم البدوي، وهو الذي مهد الدولة بفاس والمغرب الأقصى وأورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي شرحه. واسمه زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر وجده عبد الله أخو محمد داعية الناصر الذي هلك بالقيروان كما ذكرناه، وكانوا أربعة إخوة: محمد ومعبد الذي قتله إسمعيل، وفلفول الذي خالف محمدا إلى ولاية الشيعة وعبد الله هذا وكان يعرف بأمه واسمها تبادلت. وقد قيل إن عبد الله هذا هو ابن محمد بن خزر، وأخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند فتح تاهرت. ولما هلك بن محمد كما قلناه بيد بلكين سنة إحدى وستين، وارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى، وصار المغرب الأوسط كله لصنهاجة واجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر وأمراؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور ومقاتل وزيري ابنا مقاتل بن عطية بن عبد الله، وخزرون بن فلفول.
ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكين بن زيري على إفريقية، وزحف إلى المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع وستين، وأجفلت أمامه ملوك زناتة من بني خزر وبني محمد بن صالح، وانحازوا جميعا إلى سبتة. وأجاز محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا؟ فخرج المنصور في عساكره إلى الجزيرة ممدا لهم بنفسه. وعقد لجعفر بن علي على حرب بلكين، وأجازه البحر وأمده بمائة حمل من المال فاجتمعت إليه ملوك زناتة، وضربوا مصافهم بساحة سبتة، وأظل عليهم بلكين من جبل تطاون فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم، وأشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن هلك منصرفا من المغرب سنة اثنتين وسبعين كما ذكرناه.
وعاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة، وساهمه المنصور في حمل الرياسة، وبقي
المغرب غفلا من الولاية، واقتصر المنصور على ضبط سبتة، ووكل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة وسائر اولياء الشيعة. وقام يبلو طاعتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة، بعثه العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب، وأمده بلكين بعسكر من صنهاجة وهلك على تفيئة ذلك بلكين، ودعا الحسن إلى أمره بالمغرب. وانضم إليه بدوي بن يعلى بن محمد اليفرني وأخوه زيري وابن عمه أبو يداس فيمن إليهم من بني يفرن فسرح المنصور لحربه ابن عمه أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقب عسكلاجة، وبعثه بالعساكر والأموال فأجاز البحر، وانحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير، ومقاتل وزيري ابنا عطية، وخزرون بن فلفول في جمع مغراوة، وظاهروه على شأنه. وزحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى ألجأوه إلى الطاعة، وسأل الأمان على نفسه؟ فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من ذلك، وأمكن به من قياده، وأشخصه إلى الحضرة فكان من قتله وإخفار ذمة أبي الحكم بن أبي عامر، وقتله بعده ما تقدم حسبما ذكرنا ذلك من قبل. وكان مقاتل وزيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشد الناس انحياشا للمنصور وقياما بطاعة المروانية. وكان بدوي بن يعلى وقومه بنو يفرن منحرفين عن طاعتهم. ولما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر عن المغرب عقد المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد عبد الودود السلمي، وأطلق يده في انتقاء الرجال والأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست وسبعين، وأوصاه بملوك مغراوة من زناتة، واستبلغ بمقاتل وزيري من بنيهم لحسن انحياشهم وطاعتهم، وأغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد المراوغة، فنفذ لعمله ونزل بفاس، وضبط أعمال المغرب، واجتمعت إليه ملوك زناتة. وهلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين، واستقل برياسة الظواعن البدو عن مغراوة أخوه زيري بن عطية وحسنت مخاللته لابن عبد الودود صاحب المغرب وانحياشه بقومه إليه. واستدعاه المنصور من محله بفاس سنة إحدى وثمانين إشادة بتكريمه، وأغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته في الخط وإيثار الطاعة فبادر
إلى إجابته بعد أن استخلف على المغرب ابنه المعز، وأنزله بتلمسان ثغر المغرب، وولى عن عدوة القرويين من فاس علي بن حمي بن أبي علي قشوش، وعلى عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة. وقدم بين يديه هدية إلى المنصور، ووفد عليه فاستقبله بالجيش والعدة واحتفل للقائه، وأوسع نزله وجرايته ونوه باسمه في الوزارة وأقطعه رزقها. واثبت رجاله في الديوان ووصله بقيمة هديته وأسنى فيها، وأعظم جائزة وفده وعجل تسريحه إلى عمله فقفل إلى إمارته من المغرب. ونمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط المعروف وإنكار الصنيع، والاستنكاف من لقب الوزارة التي نوه به حتى أنه قال لبعض حشمه، وقد دعاه بالوزير: وزير من يا لكع، لا والله إلا أمير ابن أمير، واعجبا من ابن أبي عامر وخرفته والله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله وإن له منا ليوما، والله لقد تأجرني فيما أهديت إليه حطا للقيم، ثم غالطني بما بدله تبتيتاً للكرم إلا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطني بها عن رتبتي. ونمي ذلك إلى ابن أبي عامر فصر عليها أذنه وزاد في اصطناعه وبعث إلى يدو بن يعلى اليفرني قريعه في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته وقال: متى عهد المنصور حفر الوحش تنقاد إلى البياطرة. وأخذ في إفساد السابلة والأجلاب على الأحياء والعيث في العمالة، فأوعز المنصور إلى عامله على المغرب الوزير حسن بن عبد الودود بنبذ العهد إليه، ومظاهرة عدوه زيري بن عطية عليه، فجمحوا له سنة إحدى وثمانين ولقوه فكانت الدائرة عليهم، وتخرم العسكر، وأثبتت الوزير ابن عبد الودود جراحة كان فيها حتفه. وبلغ الخبر إلى المنصور فشق عليه وأهمه شأن المغرب، وعقد عليه لوقته لزيري بن عطية، وكتب إليه بعهده وأمره بضبط المغرب ومكاتبة جند السلطان وأصحاب حسن بن عبد الودود، فاضطلع بأعبائه وأحسن الغناء في عمله.
واستفحل شأن يدو بن يعلى وبني يفرن، واستغلظوا على زيري بن عطية وأصلوه نار الفتنة، وكانت حربهم سجالا. وسيمت الرعايا بفاس كثرة تعاقبهم عليها وانتزائهم على عملها. وبعث الله لزيري بن عطية ومغراوة مددا من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان انتقص لذلك العهد على أخيه منصور بن بلكين صاحب القيروان وإفريقية، ونزع عن دعوة الشيعة إلى المروانية. واقتفى أثره في ذلك خلوف بن أبي بكر صاحب تيهرت وأخوه عطية لصهر كان بينهما وبين زيري، فاقتطعوا أعمال المغرب الأوسط ما بين الزاب ووانشريش ووهران، وخطبوا في سائر منابرها باسم هشام المؤيد. وخاطب أبو البهار من وراء البحر المنصور بن أبي عامر، وأوفد عليه أبا بكر ابن أخيه حبوس بن زيري في طائفة من أهل بيته ووجوه قومه، فاستقبلوا بالجيش ولقاه رحبا وتسهيلا، وأعظم موصله وأسنى جوائز وفده وصلاتهم، وأنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسماية قطعة من صنوف الثياب الخز والعبيد، وقيمة عشرة آلاف درهم من الانية والحلي، وبخمسة وعشرين ألفا من الدنانير ودعاه إلى مظاهرة زيري بن عطية على يدو بن يعلى، وقسم بينهما عمل المغرب شق الابلمة حتى لقد اقتسما مدينة فاس عدوة بعدوة فلم يرع ذلك يدو ولا وزعه عن شأنه من الفتنة والأجلاب على البدو والحاضرة، وشق عصا الجماعة. وانتقض خلوف بن أبي بكر على المنصور لوقف 4، وراجع ولاية المنصور بن بلكين. ومرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة بينهما، وقعد عما قام له زيري بن عطية من حرب خلوف بن أبي بكر، وأوقع به زيري في رمضان سنة إحدى وثمانين، واستلحمه وكثيرا من أوليائه، وأستولى على عسكره، وانحاش إليه عامة أصحابه. وفر عطية شريدا إلى الصحراء، ثم نهض على أثرها ليدو بن يعلى وقومه فكانت بينهما لقاءة صعبة انكشف فيها أصحاب يدو واستلحم منهم زهاء ثلاثة آلاف، واكتسح معسكره وسبيت حرمه التي كانت منهن أمه وأخته، وتحيز سائر أصحابه إلى فئة زيري، وخرج شريدا إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن عمه أبو يداس بن دوناس حسبما ذكرناه. وورد خبر الفتحين متعاقبين على المنصور فعظم موقعهما لديه. قيل إن مقتل يذو إنما كان عند إياب زيري من الوفادة، وذلك أنه لما استقدمه المنصور
ووفد عليه كما ذكرناه خالفه يذو إلى فاس ودخلها، وقتل بها من مغراوة خلقا واستمكن بها أمره. فلما رجع زيري من وفادته امتنع به يدو فنازله زيري وطال الحصار وهلك من الفريقين خلق. ثم اقتحمها عليه عنوة فقتل وبعث برأسه إلى سدة الخلافة بقرطبة. إلا أن راوي هذا الخبر يجعل وفادة زيري على المنصور وقتله ليدو سنة ثلاث وثمانين فالله أعلم أي ذلك كان. ثم إن زيري فسد ما بينه وبين أبي البهار الصنهاجي وتزاحفا فأوقع به زيري وانهزم أبو البهار إلى سبتة موريا بالعبور إلى المنصور فبادر بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقيه فحاد عن لقائه. وصعد إلى قلعة جراوة، وقد قدم الرسل على ابن أخيه المنصور صاحب القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما. ثم تحيز إليه وعاد إلى مكانه من عمله، وخلع ما تمسك به من طاعة الأموية، وراجع طاعة الشيعة، فجمع المنصور لزيري بن عطية أعمال المغرب. واستكفى به في سد الثغر، وعول عليه من بين ملوك المغرب في الذب عن الدعوة، وعهد إليه بمناجزة أبي البهار. وزحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة وحشود البربر وفر أمامه، ولحق بالقيروان. واستولى زيري على تلمسان وسائر أعمال أبي البهار. وملك ما بين السوس الأقصى والزاب، فاتسع ملكه وانبسط سلطانه واشتدت شوكته، وكتب بالفتح إلى المنصور. وبعث إليه بمايتين من عتاق الخيل وخمسين جملا من المهارى السبق، وألف دوقة من جلود اللمط وأحمال من قسي الزان وقطوط الغالية، والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره، وألف حمل من التمر وأحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة، فجدد له عهده على المغرب سنة إحدى وثمانين، وأنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطنهم. واستفحل أمر زيري بالمغرب، ودفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا، واختط مدينة وجدة سنة أربع وثمانين وأنزلها عساكره وحشمه، واستعمل عليها ذويه ونقل إليها ذخيرته وأعدها معتصما، فكانت ثغرا لعمله بين المغرب الأقصى والأوسط. ثم فسد ما بينه وبين المنصور سنة ست وثمانين بما نمي عنه من التأنف لهشام باستبداد المنصور عليه،
فسامه المنصور الهضيمة. وأبى منها، فبعث كاتبه ابن القطاع في العسكر، فاستعصى عليه. وأمكنه قائد قلعة حجر النسر منها، فأشخصه إلى الحضرة. وأحسن إليه المنصور وسقاه الناصح، وكشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي عامر والإغراء به والتشيع لهشام المؤيد، والامتعاض له من هضيمته وحجره، فسخط ابن أبي عامر وقطع عنه رزق الوزارة، ومحا اسمه من ديوانها ونادى بالبراءة منه. وعقد لواضح مولاه على المغرب وعلى حرب زيري بن عطية، وانتقى له الحماة من سائر الطبقات، وأزاح عللهم. وأمكنه من الأموال للنفقات وأحمال السلاح والكسى، وأصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة، منهم: محمد بن الخير بن محمد بن الخير، وزيري بن خزر وابن عفهما بكساس بن سيد الناس. ومن بني يفرن أبو نوبخت بن عبد الله بن بكار. ومن مكناسة إسماعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله بن مدين، ومن ازداجة خزرون بن محمد وأمده بوجوه الجند. وفصل من الحضرة سنة سبع وثمانين، وسار في التعبية. وأجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ركاب وزحف زيري بن عطية في قومه، فعسكر إزاءه وتواقفا ثلاثة أشهر. واتهم واضح رجالات بني برزال بالأدهان فأشخصهم إلى الحضرة. وأغرى بهم المنصور فوبخهم. وتنصلوا فصفح عنهم، وبعثهم في غير ذلك الوجه. ثم تناول واضح حصن أصيلا ونكور فضبطهما. واتصلت الوقائع بينه وبين زيري، وبيت واضح معسكر زيري بنواحي أصيلا وهم غارون فأوقع بهم. وخرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف أحوال واضح وإمداده، فسار في التعبئة واحتل بالجزيرة عند فرضة المجاز. ثم بعث عن ابنه المظفر من مكان استخلافه بالزاهرة، وأجازه إلى العدوة واستكمل معه أكابر أهل الخدمة وجلة القواد. وقفل المنصور إلى قرطبة، واستذاع خبر عبد الملك بالمغرب فرجع إليه عامة أصحاب زيري من ملوك البربر، وتناولهم من إحسانه وبره ما لم يعهدوا مثله. وزحف عبد الملك إلى طنجة واجتمع مع واضح، وتلوم هنالك مزيحا لعلل العسكر، فلما
استتم تدبيره زحف في جمع لا كفاء له. ولقيه زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوال من سنة ثمان وثمانين، فدارت بينهما حرب شديدة هم فيها أصحاب عبد الملك وثبت هو. وبينما هم في حومة الحرب إذا طعن زيري بعض الموتورين من أتباعه اهتبل الغرة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره وأشواه بها، ومر يشتد نحو المظفر، وبشره فاستكذبه به لثبوت رايته. ثم سقط إليه الصحيح فشد عليهم فاستوت الهزيمة وأثخن فيهم بالقتل، واستولى على ما كان في معسكرهم مما يذهب فيه الوصف. ولحق زيري بفاس جريحا في قلة، فامتنع عليه أهلها ودافعه بحرمه، فاحتملهن وفر أمام العسكر إلى الصحراء، وأسلم جميع أعماله. وطير عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده، وأعلن بالشكر لله والدعاء وبث الصدقات وأعتق الموالي، وكتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب فأصلح نواحيه وسد ثغوره، وبعث العمال في جهاته: فأنفذ محمد بن حسن بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا، واستعمل حميد بن يصل الكتامي على سجلماسة فخرج كل لوجهه، واقتضوا الطاعة وحملوا إليه الخراج، فأقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة تسع وثمانين، وعقد على المغرب لواضح فضبطه واستقام على تدبيره. ثم عزله في رمضان من سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى، ثم ولى عليه من بعده إسماعيل بن البوري، ثم من بعده أبا الأحوص مقن بن عبد العزيز التجيبي إلى أن هلك المنصور. وأعاد المظفر المعز بن زيري من منتبذه الأوسط إلى ولاية أبيه بالمغرب فنزل بفاس، وكان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته وهزيمة عبد الملك إياه، واجتمع إليه بالصحراء من مغراوة، وبلغه اضطراب صنهاجة واختلافهم على باديس بن المنصور عند مهلك أبيه، وأنه خرج عليه عمومته مع ماكسن بن زيري، فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة ينتهز فيها الفرصة. واقتحم المغرب الأوسط ونازل تاهرت وحاصر بها يطوفت بن بلكين. وخرج باديس من القيروان صريخاً له. فلما مر بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون، وخالفه إلى إفريقية فشغل بحربه. وقد كان
أبو سعيد بن خزرون لحق بإفريقية، وولاه المنصور بن بلكين على طبنة كما نذكره، فلما انتقض سار إليه باديس ودفع حماد بن بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي مناس قرب تاهرت، فكانت الدبرة على صنهاجة، واحتوى زيري على معسكرهم واستلحم ألوفاً منهم-. وفتح مدينة تاهرت وتلمسان وشلف وتنس والمسيلة. وأقام الدعوة فيها كلها للمؤيد هشام ولحاجبه المنصور من بعده. ثم اتبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم، فأناخ عليها. واستأمن إليه زاوي بن زيري ومن معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه ما سأل. وكتب إلى المنصور بذلك يسترضيه ويشترطه على نفسه الرهن والاستقامة أن أعيد إلى الولاية، ويستأذن في قدوم زاوي وأخيه خلال، وأذن لهما فقدما سنة تسعين، وسأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك، وأنفذ رسله تذكر بقديمه فسوفه المنصور لما سبق من نكثه. واعتل زيري بن عطية وهو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها. وهلك في منصرفه سنة إحدى وتسعين، واجتمع إلى خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعز بن زيري فبايعوه، وضبط أمرهم وأقصر على محاربة صنهاجة. ثم استجدى للمنصور واعلق بالدعوة العامرية وصلحت حاله عندهم. وهلك المنصور خلال ذلك ورغب المعز من ابنه عبد الملك المظفر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله إليه، وعلى أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك وكتب له عهده، وأنفذ به وزيره أبا محمد علي بن جدلم ونسخته: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد. من الحاجب المظفر سيف دولة الإمام الخليفة هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة قد نسي فاس وكافة أهل المغرب سلمهم الله. أما بعد أصلح الله شأنكم وسلم أنفسكم وأديانكم، فالحمد لله علام الغيوب وغفار الذنوب ومقلب القلوب ذي البطش الشديد المبدي المعيد الفعال لما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، بل له الملك والأمر، وبيده الخير والشر. إياه نعبد وإياه نستعين، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون،. وصلى الله على محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين، وعلى جميع النبيين والمرسلين والسلام عليكم أجمعين.
وإن المعز بن زيري بن عطية أكرمه الله تابع لدينا رسله وكتبه متنصلا من هنات دفعته إليها ضرورات، ومستغفرا من سيئات حطمها من توبته حسنات، والتوبة محاء للذنب، والاستغفار منقذ من العتب. وإذا أذن الله بشيء يسره، وعسى أن تكرهوا شيئا ولكم فيه خير. وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة، ولزوم الجادة، واعتقاد الاستقامة، وحسن المعونة وخفة انمونة، فونيناه ما لبلكم، وعهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم، وأن يرفع أحكام الجور عنكم. وأن يعمر سبلكم، وأن يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلا في حدود الله تبارك وتعالى. وأشهدنا الله عليه بذلك وكفى بالله شهيدا. وقد وجهنا الوزير أبا محمد علي بن جدلم أكرمه الله، وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ ميثاقه، ويؤكد العهد فيه عليه بذلك، وأمرناه بإشراككم فيه؛ ونحن بأمركم معتنون ولأحوالكم مطالعون، وأن يقضي على الأعلى للأدنى، ولا يرتضي فيكم بشيء من الأذى فثقوا بذلك واسكنوا إليه. وليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدودا ظهره بنا، معقودا سلطانه بسلطاننا، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فلذلك طبنا به إذ وليناه، وأملنا فيه إذ قلدناه، والله المستعين، وعليه التكلان لا إنه إلا هو. تبلغوا منا سلاما طيبا جزيلا ورحمة الله وبركته. كتب في ذي القعدة من سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
ولما وصل إلى المعز بن زيري عهد المظفر إليه بولايته على المغرب ما عدا كورة سجلماسة فإن واضحاً مولى المنصور عهد بها في ولايته على المغرب لوانودين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكر بعد، فلم تدخل في ولاية المعز هذه. فلما وصله عهد المظفر ضم نشره، وثاب إليه نشاطه، وبث عماله في جميع كور المغرب وجبا خراجها. ولم تزل ولايته متسعة، وطاعة رعاياه منتظمة. ولما افترق أمر الجماعة بالأندلس، واختل رسم الخلافة وصار الملك فيها طوائف استحدث المعز رأيا في التغلب على سجلماسة وانتزاعها من أيدي بني وانودين بن خزرون فأجمع لذلك. ونهض إليه سنة سبع وأربعمائة، وبرزوا إليه في جموعهم فهزموه. ورجع إلى فاس في فل من قومه. وأقام على الاضطراب من أمره إلى أن هلك سنة سبع عثرة، وولي من بعده ابن عمه حماه ة بن المعز بن عطية، وليس كما يزعم
بعض المؤرخين أنه ابنه وإنما هو اتفاق في الأسماء أوجب هذا الغلط، فاستولى حمامة هذا على عملهم واستفحل ملكه، وقصده الأمراء والعلماء وانتابته الوفود، ومدحه الشعراء. ثم نازعه الأمر أبو كمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني في سنة أربع وعشرين من بني يذو بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا، وزحف إلى فاس في قبائل بني يفرن ومن انضاف إليهم من زناتة. وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم حرب شديدة أجلت عن هزيمة حمامة. وهلك من مغراوة أمم، واستولى تميم وبنو يفرن على فاس وأعمال المغرب. ولما دخل فاس استبح يهود وسبا حرمهم واصطلم نعمتهم. ولحق حمامة بوجدة فاحتشد من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونه وملوية. وزحف إلى فاس فدخلها سنة تسع وعشرين، وتحيز تميم إلى موضع إمارته من سلا، وأقام حمامة في سلطان المغرب، وزحف إليه سنة ثلاثين وأربعمائة صاحب القلعة القائد ابن حماد في جموع صنهاجة. وخرج إليه حمامة مجمعا حربه، وبث القائد عطاءه في زناتة واستفسدهم على صاحبهم حمامة، فأقصر عن لقائه، ولاذ منه بالسلم والطاعة، فرجع القائد عنه، ورجع هو إلى فاس. وهلك سنة إحدى وثلاثين فولي من بعده ابنه دوناس ويكنى أبا العطاف، فاستولى على فاس وسائر عمل أبيه، وخرج إليه لأول أمره حماد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب ووقائع، وكثرت جموع حماد فغلب دوناس على الضواحي وأحجره بمدينة فاس، وخندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد. وقطع حماد جرية الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصرا لها سنة خمس وثلاثين، فاستقامت دولة دوناس وانفسحت أيامه، وكثر العمران ببلده. واحتفل في تشييد المصانع وأدار السور على أرباضها، وبنى بها الحمامات والفنادق، فاستبحر عمرانها ورحل التجار بالبضائع إليها. وهلك دوناس سنة إحدى وخمسين فولي من بعده ابنه الفتوح، ونزل بعدوة الأندلس. ونازعه الأمر أخوه الاصغر عجيسة، وامتنع بعدوة القرويين، وافترق أمرهم بافتراقهما. وكانت الحرب بينهما سجالا، ومجالها بين المدينتين حيث يفضي باب النقبة لعدوة القرويين لهذا العهد. وشيد الفتوح باب عدوة الأندلسيين وهو مسمى به إلى الآن. واختط عجيسة
باب الجيسة وهو أيضا مسمى به إلى الآن، وإنما حذفت عينه لكثرة الدوران في استعمالهم، وأقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة أخيه سنة ثلاث وخمسين فظفر به وقتله، ودهم المغرب إثر ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة، وخشي الفتوح مغبة أحوالهم فأفرج عن فاس. وزحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حماد إلى المغرب سنة أربع وخمسين على عادتهم في غزوه، ودخل فاس واحتمل من أكابرهم وأشرافهم رهنا على الطاعة، وقفل إلى قلعته. وولي على المغرب بعد الفتوح معنصر بن حماد بن منصور، وشغل بحروب لمتونة. وكانت لهم عليه الواقعة المشهورة سنة خمس وخمسين، ولحق بصدينة. وملك يوسف بن تاشفين والمرابطون فاس، وخلف عليها عامله وارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى فاس وملكها وقتل العامل ومن معه من لمتونة، ومثل بهم بالحرق والصلب. ثم زحف إلى مهدي بن يوسف الكزنائي صاحب مدينة مكناسة، وقد كان دخل في دعوة المرابطين فهزمه وبعث برأسه إلى سكون البرغواطي الحاجب صاحب سبتة. وبلغ الخبر إلى يوسف بن تاشفين فسرح عساكر المرابطين لحصار فاس فأخذوا بمخنقها، وقطعوا المرافق عنها حتى اشتد بأهلها الحصار ومسهم الجهد. وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبرة عليه، وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين، وبايع أهل فاس من بعده ابن تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء. وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة، حتى إذا كانت سنة اثنتين وستين وفرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما، ثم اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زناتة. وهلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مزاراتهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات. وخلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان، وأمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين العدوتين وصيرها مصرا، وأدار عليهما سورا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من فاس والبقاء لله سبحانه وتعالى.
بنو خزرون ملوك سجلماسة الخبر عن بني خزرون ملوك سجلماسة من الطبقة الأولى من مغراوة و أولية ملكهم ومصائره كان خزرون بن فلفول بن خزر من أمراء مغراوة وأعيان بني خزر، ولما غلبهم بفكين بن زيري وصنهاجة على المغرب الأوسط تحيزوا إلى المغرب الأقصى وراء ملوية. وكان بنو خزر يدينون بالدعوة المروانية كما ذكرناه. وكان المنصور ابن أبي عامر القائم بدولة المؤيد قد اقتصر لأول حجابته من أحوال العدوة على ضبط سبتة برجال الدولة ووجوه القواد وطبقات العسكر، ودفع ما وراءها إلى أمراء زناتة من مغراوة وبني يفرن ومكناسة. وعول في ضبط كوره وسداد ثغوره عليهم، وتعهدهم بالعطاء وأفاض فيهم الإحسان فازدلفوا إليه بوجوه التقربات وأسباب الوصائل. وإن خزرون بن فلفول هذا زحف يومئذ إلى سجلماسة وبها المعتز من أعقاب آل مدرار، انتزى بها أخوه المنتصر بعد قفول جوهر
إلى المغرب وظفره بأميرهم الشاكر لله محمد بن الفتح، فوثب المنتصر من أعقابهم بعده على سجلماسة وتملكها. ثم وثب به أخوه أبو محمد سنة اثنتين وخمسين وثلاثماية فقتله وقام بأمر سجلماسة، وأعاد بها ملك بني مدرار وتلقب المعتز بالته، فزحف إليه خزرون بن فلفول سنة ست وستين في جموع مغراوة، وبرز إليه المعتز فهزمه خزرون واستولى على مدينة سجلماسة. ومحا دولة آل مدرار والخوارج منها آخر الدهر، وأقام الدعوة بها للمؤيد هشام، فكانت أولى دعوة اقيمت للمروانية بذلك الصقع، ووجد للمعتز مالا وسلاحا فاحتقبها وكتب بالفتح إلى هشام وأنفذ رأس المعتز فنصب بباب سدته. ونسب الأثر في ذلك الفتح إلى صحابة محمد بن أبي عامر ويمن طائره، وعقد لخزرون على سجلماسة وأعمالها، وجاءه عهد الخليفة بذلك فضبطها وقام بأمرها إلى أن هلك فولي أمر سجلماسة من بعده ابنه وانودين. ثم كان زحف زيري بن مناد إلى المغرب الأقصى سنة تسع وستين، وفرت زناتة أمامه إلى سبتة. وملك أعمال المغرب وولى عليها من قبله وحاصر سبتة. ثم أفرج عنها وشغل بجهاد برغواطة، وبلغه أن وانودين بن خزرون أغار على نواحي سجلماسة، وأنه دخلها عنوة وأخذ عامله وما كان معه من المال والذخيرة، فرحل إليها سنة ثلاث وتسعين وفصل عنها فهلك في طريقه، ورجع وانودين بن خزرون إلى سجلماسة. وفي أثناء ذلك كان تغلب زيري بن عطية بن عبد الله بن خزر على المغرب وملكه فاس بعد هشام. ثم انتقض على المنصور آخراً وأجاز ابنه عبد الملك في العساكر إلى العدوة سنة ثمان وثمانين، فغلب عليها بني خزر ونزل فاس، وبث العمال في سائر نواحي المغرب لسد الثغور وجباية الخراج، وكان فيها عقد على سجلماسة لحميد بن يصل المكناسي النازع، إليهم من أولياء الشيعة، فعقد له على سجلماسة حين فر عنها بنو خزرون فملكها وأقام فيها الدعوة. ولما قفل عبد الملك إلى العدوة وأعاد واضحا إلى عمله بفاس استأمن إليه كثير من وجوه بني خزر: كان منهم وانودين بن خزرون صاحب سجلماسة وابن عمه فلفول بن سعيد فأمنهم، ثم رجع وانودين إلى عمله بسجلماسة بعد أن تضامن أمرها وانودين وفلفول بن سعيد على مال مفروض وعدة من الخيل والدرق يحملان ذلك إليه كل سنة، وأعطيا فى ذلك
أبناءهما رهنا فعقد لهما واضح بذلك، واستقل وانودين بعد ذلك بملك سجلماسة منذ أول سنة تسعين مقيما فيها للدعوة المروانية. ورجع المعز بن زيري إلى ولاية المغرب بعهد المظفر بن أبي عامر سنة ست وتسعين، واستثنى عليه فيها أمر سجلماسة لمكان وانودين بها. ولما انتثر سلك الخلافة بقرطبة، وكان أمر الجماعة للطوائف، واستبد أمراء الأمصار والثغور وولاة الأعمال بما في أيديهم، استبد وانودين هذا بأعمال سجلماسة وتغلب على عمل درعة واستضافه إليه. ونهض المعز بن زيري صاحب فاس سنة سبع وأربعمائة في جموعهم من مغراوة يحاول انتزاع هذه الأعمال من يد وانودين فبرز إليه في جموعه وهزمه، وكان ذلك سببا في اضطراب أمر المعز إلى أن هلك، واستفحل ملك وانودين واستولى على صفروي من أعمال فاس، وعلى جميع قصور ملوية، وولى عليها من أهل بيته. ثم هلك وولي أمره من بعده ابنه مسعود بن وانودين، ولم أقف على تاريخ ولايته ومهلك أبيه. ولما ظهر عبد الله بن ياسين، واجتمع إليه المرابطون من لمتونة ومسوفة وسائر الملثمين، وافتتحوا أمرهم بغزو درعة سنة خمس وأربعين فأغاروا على إبل كانت هنالك في حمى لمسعود بن وانودين حماه لها وهو بسجلماسة، فنهض لمدافعتهم وتواقفوا، فانهزم مسعود بن وانودين وقتل كما ذكرناه في أخبار لمتونة. ثم أعادوا الغزو إلى سجلماسة من العام المقبل، فدخلوها وقتلوا من كان بها من فل مغراوة. ثم تتبعوا من بعد ذلك أعمال المغرب وبلاد سوس وجبال المصامدة، واقتحموا صفروي سنة خمس وخمسين، وقتلوا من كان بها من أولاد وانودين وبقية مغراوة. ثم اقتحموا حصون ملوية سنة ثلاث وستين، وانقرض أمر بني وانودين كأن لم يكن، والبقاء لله وحده. وكل شيء هالك إلا وجهه، سبحانه وتعالى لا رب سواه، ولا معبود إلا إياه، وهو على كل شيء قدير.
الخبر عن ملوك طرابلس من بني خزرون بن فلفول من
أهل الطبقة الأولي و أولية أمرهم وتصاريف أحوالهم
كان مغراوة وبنو خزر ملوكهم قد تحيزوا إلى المغرب الأقصى أمام بلكين؛ ثم اتبعهم سنة تسع وستين في زحفه المشهور، وأحجرهم بساحة سبتة حتى بعثوا صريخهم إلى المنصور. وجاءهم إلى الجزيرة مشارفا لأحوالهم وأمدهم بجعفر بن يحيى ومن كان معه من ملوك البربر وزناتة، فامتنعوا على بلكين، ورجع عنهم فتقرى أعمال المغرب، وعلك في منصرفه سنة اثنتين وسبعين، ورجع أحياء مغراوة وبين يفرن إلى مكانهم منه. وبعث المنصور الوزير حسن بن عبد الودود عاملا
على المغرب، وقدم سنة ست وسبعين، واختمى مقاتلا وزيري ابني عطية بن عبد الله بن خزر بمزيد التكرمة، ولحق نظراؤهما من أهل بيتهما الغيرة من ذلك، فنزع سعيد بن خزرون بن فلفول بن خزر إلى صنهاجة سنة سبع وسبعين منحرفا عن طاعة الأموية. ووافى المنصور بن بلكين بأشير منصرفه من إحدى غزواته، فتلقاه بالقبول والمساهمة، واستبلغ في ترك الإحن. وعقد له على عمل طبنة، وعقد لابنه وزو بن سعيد على إحدى بناته إحكاما للمخالصة، فنزل سعيد وأهل بيته بمكان أمارته من طبنة. ووفد على المنصور ثانية بالقيروان سنة إحدى وثمانين، وخرج للقائه، واحتفل في تكرمته ونزله. وأدركه الموت بالقيروان فهلك لسنته. ووفد ابنه فلول من مكان عمله، فعقد له على عمل أبيه وخلع عليه، وزف إليه ابنته، وسوغه ثلاثين حملا. من المال، وثلاثين تختا من الثياب، وقرب إليه مراكب بسروج مثقلة، وأعطاه عشرة من البنود مذهبة، وانصرف إلى عمله. وهلك المنصور بن بلكين سنة خمس وثمانين، وولي ابنه باديس فعقد لفلفول على عمله بطبنة. ولما انتقض زيري بن عطية على المنصور بن أبي عامر، وسرح إليه ابنه المظفر في العساكر كما قلناه؟ فغلبه على أعمال المغرب. ولحق زيري بالقفر؛ ثم عرج على المغرب الأوسط، ونازل ثغور صنهاجة، وحاصر تيهرت، وبها يطوفت بن بلكين. وزحف إليه حماد بن بلكين من أشير في العساكر من تلكانة، ومعه محمد بن أبي العرب قائد باديس، بعثه في عساكر صنهاجة من القيروان ممدا ليطوفت. وأوعز إلى حماد بن بلكين، وهو باشير أن يكون معه. ولقيهم زيري بن عطية ففض جموعهم، واستولى على معسكرهم؛ واضطرمت إفريقية فتنة، وتنكرت صنهاجة لمن كان بجهاتها من قبائل زناتة. وخرج باديس بن المنصور من رقادة في العساكر إلى المغرب. ولما مر بطبنة استقدم فلفول بن سعيد بن خزرون ليستظهر به على حربه، فاستراب واعتذر عن الوصول. وسأل تجديد العهد إلى مقدم السلطان فأسعف. ثم اشتدت استرابته ومن كان معه من مغراوة، فارتحلوا عن طبنة وتركوها. ولما أبعد باديس رجع فلفول إلى طبنة فعاث في نواحيها، ثم فعل في تيجس كذلك، ثم حاصر باغاية. وانتهى باديس
إلى أشير، وفر زيري بن عطية إلى صحراء المغرب، ورجع على باديس بعد أن ولى على تاهرت واشير عمه يطوفت بن بلكين. وانتهى إلى المسيلة، فبلغه خروج عمومته ماكسن وزاوي وعزم ومغنين، فخاف أبو البهار إحن زيري، ولحق بهم من معسكره. وبعث باديس في أثرهم عمه حماد بن بلكين، ورحل هو إلى فلفول بمن سعيد بعد أن كان سرح عساكره إليه، وهو محاصر باغاية، وهزمهم وقتل قائدهم أبا زعيل. ثم بلغه وصول باديس فأفرج عنها، واتبعه باديس إلى مرماجنة، فتزاحفوا وقد اجتمع لفلفول من قبائل زناتة والبربر أمم، فلم يثبتوا للقاء، وانكشفوا عنه. وانهزم إلى جبل الحناش، وترك القيطون بما فيه. وكتب باديس بالفتح إلى القيروان، وقد كان الأرجاف أخذ منهم المأخذ، وفر كثير منهم إلى المهدية، وشرعوا في عمل الدروب لما كانوا يتوقعون من فلفول بن سعيد حين قتل أبا زعيل، وهزم جيوش صنهاجة، وكانت الواقعة آخر سنة تسع وثمانين. وانصرف باديس إلى القيروان، ثم بلغه أن أولاد زيري اجتمعوا مع فلفول بن سعيد وعاقدوه، ونزلوا جميعا بحصن تبسة، فخرج باديس من القيروان إليهم، فافترقوا ولحق العمومة بزيري بن عطية ما خلا ماكسن وابنه محسن، فإنهما أقاما مع فلفول. ورحل باديس في أثره سنة إحدى وتسعين، وانتهى إلى بسكرة ففر فلفول إلى الرمال. وكان زيري بن عطية محاصرا لأشير أثناء هذه الفتنة، فأفرج عنها، ورجع عنه أبو البهار بن زيري إلى باديس، وقفل معه إلى القيروان. وتقدم فلفول بن سعيد إلى نواحي قابس وطرابلس، فاجتمع إليه من هنالك من زناتة، وملك طرابلس على ما نذكر. وذلك أن طرابلس كانت من أعمال مصر، وكان العامل عليها بعد رحيل معد إلى القاهرة عبد الله بن يخلف الكتامي. ولما هلك معد رغب بلكين من نزار العزيز إضافتها إلى عمله، فأسعفه بها، وولى عليها تمصولت بن بكار من خواص مواليه. نقله إليها من ولاية بونة، فأقام واليا عليها عشرين سنة إلى أيام باديس، فتنكرت له الأحوال عما عهد، وبعث إلى الحاكم بمصر يرغب الكون في حضرته، وأن يتسلم منه عمل طرابلس. وكان برجوان الصقليي يستبد على
الدولة، وكان يغص بمكان يأنس الصقلبي منها؛ فأبعده عن الحضرة لولاية برقة. ثم لما تتابعت رغبة تمصولت صاحب طرابلس، أشار برجوان ببعث يأنس إليها، فعقد له الحاكم عليها، وأمره بالنهوض إلى عملها فوصلها سنة تسعين. ولحق تمصولت بمصر، وبلغ الخبر إلى باديس، فسرح القائد جعفر بن حبيب في العساكر ليصده عنها. وزحف إليه يأنس فكانت عليه الهزيمة ولمحتل. ولحق فتوح بن علي من قواده بطرابلس، فامتنع بها ونازله جعفر بن حبيب، وأقام عليها مدة. وبينما هو محاصر لها إذ وصله كتاب يوسف بن عامر عامل قابس يذكر أن فلفول بن سعيد نزل على قابس، وأنه قاصد إلى طرابلس، فرحل جعفر عن البلد إى ناحية الجبل. وجاء فلفول فنزل بمكانه، وضاقت الحال بجعفر وأصحابه فارتحلوا مصممين على المناجزة وقاصدين قابس، فتخلى فلفول عن طريقهم، وانصرفوا إلى قابس. وقصد فلفول مدينة طرابلس قتلقاه أهلها، ونزل له فتوح بن علي عن إمارتها، فملكها وأوطنها من يومئذ، وذلك سنة إحدى وتسعين، وبعث بطاعته إلى الحاكم، فسرح الحاكم يحيى بن علي بن حمدون، وعقد له على أعمال طرابلس وقابس، فوصل إلى طرابلس، وارتحل معه فلفول بن سعيد وفتوح بن علي بن غفيانان في عساكر زناتة إلى حصار قابس، فحصروها مدة، ورجعوا إلى طرابلس. ثم رجع يحيى بن علي إلى مصر، واستبد فلفول بعمل طرابلس، وطالت الفتنة بينه وبين باديس. ويئس من صريخ مصر، فبعث بطاعته إلى المهدي محمد بن عبد الجبار بقرطبة، وأوفد عليه رسله في الصريخ والمدد، وهلك فلفول قبل رجوعهم إليه سنة أربعماية، واجتمعت زناتة على أخيه ورو بن سعيد. وزحف باديس إلى طرابلس، وأجفل ورو ومن معه من زناتة عنها، ولحق بباديس من كان بها من الحند، فلقوه في طريقه، وتمادى إلى طرابلس فدخلها ونزل قصر فلفول. وبعث إليه ورو بن سعيد يسأل الأمان له ولقومه، فبعث إليه محمد بن حسن من صنائعه، فاستقدم وفدهم بأمانه فوصلهم، وولى ورو على نفزاوة والنعيم بن كنون على قسطيلية، وشرط عليهم أن يرحلوا بقومهم عن أعمال طرابلس، ورجعوا إلى أصحابهم. وارتحل باديس إلى القيروان، وولى على طرابلس محمد بن حسن. ونزل ورو بنفزاوة والنعيم بقسطيلية. ثم انتقض ورو سنة إحدى وأربعماية، ولحق بجبال إيدمر، فتعاقدوا على
الخلاف. واستضاف النعيم بن كنون نفزاوة إلى عمله. ورجع خزرون بن سعيد عن أخيه ورو إلى السلطان باديس، وقدم عليه بالقيروان سنة اثنتين وأربعماية، فتقبله ووصله، وولاه عمل أخيه نفزاوة وولى بنيب مجلية من لومه على قفصة، وصارت مدن الماء كلها لزناتة. وزحف ورو بن سعيد فيمن معه من زناتة إلى طرابلس. وبرز إليه عاملها محمد بن حسن فتواقفوا ودارت بينهم حرب شديدة انهزم فيها ورو، وهلك كثير من قومه. ثم راجع حصارها وضيق على أهلها، فبعث باديس إلى خزرون أخيه وإلى النعيم بن كنون أمراء الجريد من زناتة بأن يخرجوا لحرب صاحبهم، فخرجوا إليه وتواقفوا بصبرة ما بين قابس وطرابلس. ثم اتفقوا ولحق أصحاب خزرون بأخيه ورو. ورجع خزرون إلى عمله، واتهمه السلطان بالمداهنة في شأن أخيه ورو، واستقدمه من نفزاوة فاستراب وأظهر الخلاف. وسرح السلطان إليه فتوح بن أحمد في العساكر فأجفل عن عمله. واتبعه النعيم وسائر زناته، ولحقواً جميعا بورو بن سعيد سنة أربع وتظاهروا على الخلاف، ونصبوا الحرب على مدينة طرابلس. واشتد فساد زناتة، فقتل السلطان من كان عنده رهن زناتة. واتفق وصول مقاتل بن سعيد نازعا عن أخيه ورو في طائفة من أبنائه وإخوانه، فقتلوا معهم جميعا. وشغل السلطان بحرب عمه حماد. ولما غلبه بشلف وانصرف إلى القيروان، بعث إليه ورو بطاعته. ثم كان مهلك ورو سنة خمس وأربعماية، وانقسم قومه على ابنه خليفة وأخيه خزرون بن سعيد، واختلفت كلمتهم. ودس محمد بن حسن عامل طرابلس في التضريب بينهم. ثم صار أكثر زناتة إلى خليفة، وناجز عنه خزرون الحرب فغلبه على القيطون، وضبط زناتة، وقام فيهم بأمر أبيه، وبعث بطاعته إلى السلطان باديس بمكانه من حصار القلعة فتقبلها. تم هلك باديس، وولي أبنه المعز سنة ست، وانتقض خليفة بن ورو عليه، وكان أخوه حماد بن ورو يضرب على أعمال طرابلس وقابس، ويواصل عليها الغارة والنهب إلى سنة ثلاث عشرة، فانتقض عبد الله بن حسن صاحب طرابلس على السلطان وأمكنه من طرابلس. وكان
سبب ذلك أن المعز بن باديست لأول ولايته استقدم محمد بن حسن من طرابلس فاستخلف عليها آخاه عبد إلله بن حسن، وقدم على المعز، وفوق إليه تدبير مملكته، وأقام على ذلك سبعا، وتمكنت حاله عند السلطان، وكثرت السعاية فيه، فنكبه وقتله. وبلغ الخبر إلى أخيه، فانتقض كما قلناه، وأمكن خليفة بن ورو وقومه من مدينة طرابلس، وقتلوا الصنهاجيين واستولوا عليهم. ونزل خليفه بقصر عبد الله وأخرجه عنه، واستصفى أمواله وحرمه. واتصل ملك خليفة بن ورو وقومه بني خزرون بطرابلس. وخاطب الخليفة بالقاهرة الظاهر بن الحاكم سنة سبع عشرة بالطاعة وضمان السابلة وتشييع الرفاق، ويخطب عهده على طرابلس فأجابه إلى ذلك، وانتظم في عمله. وأوفد في هذه السنة أخاه حمادا على المعز بهدية، فتقبلها وكافأه عليها. هذا آخر ما حدث ابن الرقيق من أخبارهم. ونقل ابن حماد وغيره أن المعز زحف أعوام ثلاثين وأربعماية إلى زناتة بجهات طرابلس، فبرزوا إليه وهزموه وقتلوا عبد الله بن حماد، وسبوا أخته أم العلو بنت باديس، ومنوا عليها بعد حين وأطلقوها إلى أخيها. ثم زحف إليهم ثانية؛ فهزموه. ثم اتيحت به الكرة عليهم فغلبهم وأذعنوا لسلطانه، واتقوه بالمهادنة؟ فاستقام أمرهم على ذلك. كان خزرون بن سعيد لما غلبه خليفة بن ورو على زناتة لحق بمصر، فأقام فيها بدار الخلافة، ونشأ بنوه بها، وكان منهم المنتصر بن خزرون وأخوه سعيد. ولما وقعت الفتنة بين الترك والمغاربة بمصر، وغلبهم الترك وأجلوهم عنها، لحق المنتصر وسعيد بطرابلس وأقاما في نواحيها. ثم ولي سعيد أمر طرابلس، ولم يزل بها واليا إلى أن هلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وقال أبو محمد التيجاني في رحلته عند ذكر طرابلس: ولما قتلت زغبة سعيد بن خزرون سنة تسع وعشرين، وقدم خزرون بن خليفة من القيطون بقومه إلى ولايتها، فأمكنه رئيس الشورى بها يومئذ من الفقهاء أبو الحسن بن المنمر المشهور بعلم الفرائض وبايع له، وأقام بها خزرون إلى سنة ثلاثين بعدها، فقدم المنتصر بن خزرون في ربيع الأول منها، ومعه عساكر زناتة، ففر خزرون بن خليفة من طرابلس مختفيا، وملكها المنتصر بن خزرون، وأوقع بابن المنتصر ونفاه،
واتصلت بها إمارته. انتهى ما نقله التجاني. وهذا الخبر مشكل من جهة أن زغبة من العرب الهلاليين، وإنما جاءوا إلى أفريقية من مصر بعد الأربعين من تلك الماية، فلا يكون وجودهم بطرابلس سنة تسع وعشرين إلا أن كان تقدم بعض أحياهم إلى إفريقية من قبل ذلك. وقد كان بنو قرة ببرقة وبعثهم الحاكم مع يحيى بن علي بن حمدون، إلا أن ذلك لم ينقله أحد. ولم تزل طرابلس بأيدي بني خزرون الزناتيين. ولما وصل العرب الهلاليون وغلبوا المعز بن باديس على أعمال إفريقية واقتسموها كانت قابس وطرابلس في قسمة زغبة والبلد لبني خزرون. ثم استولى بنو سليم على الضاحية، وغلبوا عليها زغبة ورحلوهم عن تلك المواطن. ولم تزل البلد لبني خزرون. وزحف المنتصر بن خزرون مع بنى عدي من قبائل هلال مجلبا على أعمال بني حماد، حتى نزل المسيلة ونزل أشير. ثم خرج إليهم الناصر، ففروا أمامه إلى الصحراء، ورجع إلى القلعة، فرجعوا إلى الأجلاب على أعماله فراسله الناصر في الصلح وأقطعه ضواحي الزاب وريغة. وأوعز إلى عروس بن سندي رئيس بسكرة لعهده أن يمكر به. فلما وصل المنتصر إلى بسكرة أنز عروس، ثم قتله غيلة أعوام ستين وأربعمائة وولي طرابلس واحد من قومه بني خزرون يحضرني اسمه واختل ملك صنهاجة، واتصل فيهم ملك تلك الأعمال إلى سنة أربعين وخمسماية. ثم نزل بطرابلس ونواحيها في هذه السنة مجاعة، وأصابتهم منها شدة هلك فيها الناس، وفروا عنها، وظهر اختلال أحوالها وفناء حاميتها، فجهز إليها رجاهـ طاغية صقلية أسطولا لحصارها بعد استيلائه على المهدية وصفاقس واستقرار ولاته فيهما. ووقع بين أهل طرابلس الخلاف، فغلب عليهم جرجي بن ميخائيل قائد الأسطول وملكها، وأخرج منها بني خزرون، وولى على البلد شيخه أبا يحيى بن مطروح التميمي، فانقرض أمر بني خزرون منها. وبقي منهم من بقي بالضاحية إلى أن افتتح الموحدون إفريقية. وكانت ثورة المسلمين بهم، وإخراج النصارى من بين أظهرهم كما ذكرناه في أخبار إفريقية آخر الدولة الصنهاجية. والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده، سبحانه لا اله غيره.
بنو يعلى ملوك تلمسان
الخبر عن بني يعلى ملوك تلمسان
الطبقة الأولي وللإلمام ببعض أحوالهم ومصادرها
قد ذكرنا في أخبار محمد بن خزر وبنيه أن محمد بن الخير، الذي قتل نفسه في معركة بلكين كان من ولده الخير ويعلى. وأنهم الذين ثاروا منهم بأبيه زيري فقتلوه، واتبعهم بلكين من بعد ذلك، وأجلاهم إلى المغرب الأقصى، حتى قتل محمد منهم صبرا أعوام ستين وثلاثماية بنواحي سجلماسة، قبل وصول معد إلى القاهرة، وولاية بلكين على إفريقية. وقام بأمر زناتة بعد إلى خير ابنه محمد، وعمه يعلى بن محمد. وتكررت إجازة محمد بن الخير هذا وعمه يعلى إلى المنصور بن أبي عامر كما ذكرنا ذلك من قبل. وغلبهم ابنا عطية بن عبد الله بن خزر: وهما مقاتل وزيري على رياسة مغراوة. وهلك مقاتل، واختص المنصور زيري بن عطية باثرته، وولاه على المغرب كما ذكرناه. وقارن ذلك مهلك بلكين، وانتقاض أبي البهار بن زيري صاحب المغرب الأوسط على باديس؛
فكان من شأنه مع زيري ويدو بن يعلى ما قدمناه. ثم استقل زيري وغلبهم جميعا على المغرب، ثم انتقض على المنصور، فأجاز إليه ابنه المظفر، وأخرج زناتة من المغرب الأوسط، فتوغل زيري في المغرب الأوسط، ونازل أمصاره، وانتهى إلى المسيلة واشير. وكان سعيد بن خزرون قد برع إلى صنهاجة، وملك طبنة، واجتمع زناتة بإفريقية عليه وعلى ابنه فلفول من بعده. وانتقض فلفول على باديس عند زحف زيري إلى المسيلة واشير، وشغل باديس ثم ابنه المنصور عن المغرب الأوسط بحرب فلفول وقومه، ودفعوا إليه حماد بن بلكين؛ فكانت بينه وبين زناتة حروب سجال. وهلك زيري بن عطية، واستمل المعز ابنه ملك المغرب سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وغلب صنهاجة على تلمسان وما إليها، واختط مدينة وجدة كما ذكرنا ذلك كله من قبل. ونزل يعلى بن محمد مدينة تلمسان، فكانت خالصة له، وبقي ملكها وسائر ضواحيها في عقبه. ثم هلك حماد بعد استبداده ببلاد صنهاجة على آل بلكين، وشغل بنوه بحرب بني باديس، فاستوسق ملك بني يعلى خلال ذلك بتلمسان، واختلفت أيامهم مع آل حماد سلما وحربا. ولما دخل العرب الهلاليون إفريقية وغلبوا المعز وقومه عليها، واقتسموا سائر أعمالها، ثم تخطوا إلى أعمال بني حماد، فأحجروهم بالقلعة، وغلبوهم على الضواحي، فرجعوا إلى استيلائهم، واستخلصوا الأثبج منهم وزغبة، فاستظهروا بهم على زناتة المغرب الأسط وأنزلوهم بالزاب، وأقطعوهم الكثير من أعماله، فكانت بينهم وبين بني يعلى أمراء تلمسان حروب ووقائع. وكانت زغبة أقرب إليهم بالمواطن. وكان أمير تلمسان لعهدهم بختي من ولد يعلى. وكان وزيره وقائد حروبه أبو سعدى بن خليفة اليفرني، فكان كثيرا ما يخرج بالعساكر من تلمسان لقتال عرب الأثبج وزغبة، ويحتشد من إليهم من زناتة أهل المغرب الأوسط، مثل مغراوة وبني يلوموا وبني عبد الواد وتوجين وبني مرين. وهلك في بعض تلك الملاحم هذا الوزير أبو سعدى أعوام خمسين وأربعمائة. ثم ملك المرابطون أعمال المغرب الأقصى بعد مهلك بختي وولاية ابنه العباس بن بختي تلمسان. وسرح يوسف بن تاشفين قائده مزدلي بن في عساكر
لمتونة لحرب من بقي بتلمسان من مغراوة، ومن لحق بهم من فل بني زيري وقومهم، فدوخ المغرب الأوسط، وظفر بيعلى بن العباس بن بختي، برز لمدافعتهم، فهزمه وقتله، وانكفأ راجعا إلى المغرب. ثم نهض يوسف بن تاشفين بنفسه في جموع المرابطين سنة ثلاث وسبعين، فافتتح تلمسان، واستلحم بني يعلى، ومن كان بها من مغراوة، وقتل العباس ابن بختي أميرها من بني يعلى. ثم افتتح وهران وتنس، وملك جبل وانشريش وشلف إلى الجزائر، وانكفأ راجعا وقد محا أثر مغراوة من المغرب الأوسط، وأنزل محمد بن تينعمر المسوفي في عسكر من المرابطين بتلمسان، واختط مدينة تاكرارت بمكان معسكره وهو اسم محله للسان البربر، وهي التي صارت اليوم مع تلمسان القديمة التي تسمى أكادير بلدا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من جميع المغرب كأن لم يكن. والبقاء لله وحده سبحانه. الخبر عن أمراء أغمات من مغراوة: لم أقف على أسماء هؤلاء إلا أنهم كانوا أمراء باغمات آخر دولة بني زيري بفاس، وبني يعلى اليفرني بسلا وتادلا في جوار المصامدة وبرغواطة. وكان لقوط بن يوسف بن علي آخرهم في سني الخمسين وأربعماية، وكانت امرأته زينب بنت إسحاق النفزاوية من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة. ولما غلب المرابطون على أغمات سنة تسع وأربعين فر لقوط هذا إلى تادلا، ونزل على محمد بن تميم اليفرني صاحب سلا وأعمالها، إلى أن افتتح المرابطون تادلا سنة إحدى وخمسين، وقتل الأمير محمد واستلحم بنو يفرن، فكان الأمير لقوط فيمن استحلم. وخلفه أبو بكر بن عمر أمير المرابطين على زينب بنت إسحاق، حتى إذا ارتحل إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين، واستعمل ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه، فكان لها في سياسة أمره وسلطانه، وما أشارت عليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء في إظهار الاستبداد، حتى تجافى عنه منازعته، وخلص ليوسف بن تاشفين
ملكه أمر، كما ذكرنا في أخبارهم. ولم نقف من أخبار لقوط بن يوسف وقومه على غير هذا الذي كتبناه والله ولي العون سبحانه. الخبر عن بني سنجاس وريغة والأغواط وبني ورا من قبائل مغراوة من أهل الطبقة الأولى وتصاريف أحوالهم: هذه البطون الأربعة من بطون مغراوة، وقد زعم بعض الناس أنهم من بطون زناتة غير مغراوة. أخبرني بذلك الثقة عن إبراهيم بن عبد الله التيمزوغتي قال وهو نسابة زناتة لعهده: ولم تزل هذه البطون الأربعة من أوسع بطون مغراوة. فأما بنو سنجاس فلهم مواطن في كل عمل من إفريقية والمغربين، فمنهم قبلة المغرب الأوسط بجبل راشد وجبل كريكرة وبعمل الزاب وبعمل شلف. ومن بطونهم بنو غيار ببلاد شلف أيضا، وبنو غيار بعمل قسنطينة. وكان بنو سنجاس هؤلاء من أوسع القبائل وأكثرهم عددا، وكان لهم في فتنة زناتة وصنهاجة آثار بإفريقية والمغرب، وأكثرها في إفساد السبيل والعيث في المدن ونازلوا قفصة سنة أربع عسرة وخمسماية، بعد أن عاثوا بجهات القصر، وقتلوا من وجدوا هنالك من عسكر ملكاتة وخرجت إليهم حامية قفصة فأثخنوا فيهم، ثم كثر فسادهم، وسرح السلطان قائده محمد بن أبي العرب في العساكر إلى بلاد الجريد، فشردهم عنها وأصلح السابلة. ثم عادوا إلى مثلها سنة خمس عشرة، فأوقع بهم قائد بلاد الجريد وأثخن فيهم بالقتل، وحمل رؤوسهم إلى القيروان، فعظم الفتح فيهم. ولم تزل الدولة تتبعهم بالقتل والإثخان إلى أن خضدوا من شوكتهم. وجاء العرب الهلاليون وغلبوا على الضواحي كل من كان بها من صنهاجة وزناتة، وتحيز فلهم إلى الحصون والمعاقل، وضربت عليهم المغارم إلا ما كان ببلاد المغرب،
القفر مثل جبل راشد، فإنهم لبعدهم عن منازل الملك لا يعطون مغرما، إلا أنهم غلب عليهم هنالك العمور من بطون الهلاليين، ونزلوا معهم، وملكوا عليهم أمرهم، وصاروا لهم فيئة. ومن بني سنجاس من نزل بالزاب، وهم لهذا العهد أهل مغارم لمن غلب على ثغورهم من مشايخهم. وأما من نزل منهم ببلاد شلف ونواحي قسنطينة، فهم لهذا العهد أهل مغارم الدول، وكان دينهم جميعا الخارجية على شنن زناتة في الطبقة الأولى؛ ومن بقي اليوم منهم بالزاب فعلى ذلك. ومن بني سنجاس هؤلاء بأرض المشنتل ما بين الزاب وجبل راشد، أوطنوا جباله في جوار غمرة، وصاروا عند تغلب الهلاليين في ملكهم يقبضون الأتاوة منهم. ونزل معهم لهذا العهد السحارى من بطون عروة من زغبة، وغلبوهم على أمرهم، وأصاروهم خولا. وأما بنو ريغة فكانوا أحياء متعددة. ولما افترق أمر زناتة تحيز منهم إلى جبل عياض، وما إليه من البسيط إلى نقاوس، وأقاموا في قياطنهم: فمز كان بجبل عياض منهم أهل المغارم لأمراء عياض يقبضونها منهم للدولة الغالبة ببجاية، وأما من كان ببسيط نقاوس فهم في أقطاع العرب لهذا العهد. ونزل أيضا الكثير منهم ما بين قصور الزاب وواركلا، فاختطوا قرى كثيرة في عدوة واد ينحدر من الغرب إلى الشرق، ويشتمل على المصر الكبير والقرية المتوسطة، والأطم قد رف عليها الشجر، ونضدت حفافيفها النخيل، وانساحت خلالها المياه وزهت بنابعها الصحراء، وكثر في قصورها العمران من ريغة هؤلاء، وبهم تعرف لهذا العهد، وهم أكثرها، ومن بني سنجاس وبني يفرن وغيرهم من قبائل زناتة. وتفرقت جماعتهم للتنازع في الرياسة، فاستقلت كل طائفة منهم بقصور منها أو بواحد. ولقد كانت فيما يقال أكثر من هذا العدد اضعافا، وأن ابن غانية المسوفي حين كان يجلب على بلاد إفريقية والمغرب في فتنه مع الموحدين خرب عمرانها، واجتث شجرها، وغور مياهها، ويشهد لذلك أثر العمران بها في أطلال الديار ورسوم البناء وأعجاز النخل المنقعر. وكان هذا العمل يرجع في أول الدولة الحفصية لعامل الزاب، وكان من الموحدين، وينزل بسكرة، يتردد ما بينها وبين مقرة. وكاد من أعماله قصور وراكلة أيضا. ولما فتك 1ثمستنصر بمشيخة الدواودة كما قلناه في أخباره، وقتلوا بعد ذلك عامل الزاب ابن عتو من مشيخة
الموحدين، وغلبوا ضواحى الزاب وريغة وواركلة، وأقطعتهم إياها الدول بعد ذلك، فصارت في أقطاعهم. ثم عقد صاحب بجاية بعد ذلك على العمل كله لمنصور بن مزني، واستقر في عقبه. فربما يسومون بعض الأحيان أهل تلك القصور الغرم للسلطان، بما كان من الأمر القديم، ويعسكر عليهم في ذلك كتائب من رجالة الزاب وخيالة العرب، ويبذرق عليها الأمر الدواودة، ثم يقاسمهم فيما يمتريه منهم. وأكبر هذه الأمصار تسمى تقرت، مصر مستبحر العمران، بدوي الأحوال، كثير المياه والنخل، ورياسته في بني يوسف بن عبد الله، كانت لعبيد الله بن يوسف، ثم لابنه داود، ثم لأخيه يوسف بن عبيد الله. وتغلب على واركلة من يد أبي بكر بن موسى أزمان حداثته، وأضافها إلى عمله. ثم هلك وصار أمر تقرت لأخيه مسعود بن عبيد الله، ثم لابنه حسن بن مسعود، ثم لابنه أحمد بن حسن شيخها لهذا العهد. وبنو يوسف بن عبيد الله هؤلاء من ريغة، ويقال إنهم من سنجاس. وفي أهل تلك الأمصار من مذاهب الخوارج وفرقهم كثير، وأكثرهم على دين العزابة، ومنهم النكارية، أقاموا على انتحال هذه الخارجية لبعدهم عن منال الأحكام. ثم بعد مدينة تقرت بلد تماسين وهي دونها في العمران والخطة، ورياسته لبني إبراهيم من ريغة، وسائر أمصارهم كذلك: كل مصر منها مستبد بأمره وحرب لجاره. وأما لقواط وهم فخذ من مغراوة أيضا، فهم في نواحي الصحراء ما بين الزاب وجبل راشد، ولهم هنالك قصر مشهور بهم، فيه فريق من أعقابهم على سغب من العيش لتوغله في القفر، وهم مشهورون بالنجدة والامتناع من العرب، وبينهم وبين الدوسن أقصى عمل الزاب مرحلتان، وتختلف قصودهم إليه لتحصيل المرافق منه. والله يخلق ما يشاء ويختار. وأما بنو ورا فهم فخذ مغراوة أيضا، ويقال من زناتة وهم متشعبون ومفترقون بنواحي المغرب: فمنهم بناحية مراكش والسوس، ومنهم ببلاد شلف، ومنهم بناحية قسنطينة. ولم يزالوا على حالهم منذ انقراض زناتة الأؤلين، وهم لهذا العهد أهل مغارم وعسكرة مع الدول. وأكثر الذين كانوا بمراكش قد انتقلى رؤساؤهم إلى ناحية شلف، نقلهم يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين في أول هذه المائة الثامنة، لما
ارتاب بأمرهم في تلك الناحية وخشي من فسادهم وعيثهم، فنقلهم في عسكر إلى موطن شلف لحمايته، فنزلوا به. ولما ارتحل بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب، أقاموا ببلاد شلف، فأعقابهم به لهذا العهد، وأحوالهم جميعا في كل قطر متقاربة في المغرم والعسكرة مع السلطان. ولله الخلق والأمر جميعا. سبحانه لا إله إلا هو الملك العظيم. الخبر عن بني يرنيان إخوة مغراوة وتصاريف أحوالهم: قد ذكرنا بني يرنيان هؤلاء، وأنهم إخوة مغراوة وبني يفرن؛ والكل ولد يصليتن. ونسبهم جميعا إلى جانا مذكور هنالك، وهم مبثوثون كثيرا بين زناتة في المواطن. وأما الجمهور منهم فموطنهم بملوية من المغرب الأقصى ما بين سجلماسة وكرسيف؛ كانوا هنالك مجاورين لمكناسة في مواطنهم، واختطوا حفافي وادي ملوية قصورا كثيرة متقاربة الخطة، ونزلوها، وتعدت بطونهم وأفخاذهم في تلك الجهات. ومنهم بنو وطاط موطنون لهذا العهد بالجبال المطلة على وادي ملوية من جهة القبلة، ما بينه وبين تازى وفاس؛ وبهم تعرف تلك القصور لهذا العهد. وكان لبني يرنيان هؤلاء صولة واعتزاز، وأجاز الحكم بن المستنصر منهم، والمنصور بن أبي عامر من بعده فيمن أجازوه من زناتة ثم الماية الرابعة، وكانوا من أفحل جند الأندلس وأشدهم شوكة وبقي أهل المواطن منهم في مواطنهم مع مكناسة أيام ملكهم، ويجمعهم معهم عصبية يحيى. ثم كانوا مع مغراوة أيضا أيام ملكهم المغرب الأقصى. ولما ملك لمتونة والموحدون من بعدهم، لحق الظواعن منهم بالقفر، فاختلطوا بأحياء بني مرين الموالين لتلول المغرب من زناتة، وأقاموا معهم في أحيائهم، وبقي من عجز عن الظعن منهم بمواطنهم: مثل بني وطاط وغيرهم، ففرضت عليهم المغارم والجبايات. ولما دخل بنو مرين إلى المغرب ساهموهم في أقسام أعماله؛ وأقطعوهم البلد الطيب من ضواحي سلا والمعمورة، زيادة إلى وطنهم الأول بملوية، وأنزلوهم بنواحي سلا بعد أن كان منهم انحراف عنهم في سبيل المدافعة عن مواطنهم الأولى. ثم
اصطلحوا، ورعى لهم بنو عبد الحق سابقتهم معهم، فاصطفوهم للوزارة والتقدم في الحروب، ودفعوهم إلى المهمات وخلطوهم بأنفسهم. وكان من أكابر رجالاتهم لعهد السلطان أبي يعقوب وأخيه أبي سعيد الوزير إبراهيم بن عيسى، اسخلصوه للوزارة مرة بعد أخرى، واستعمله السلطان أبو سعيد على وزارة ابنه أبي علي، ثم لوزارته. واستعمل ابنه السلطان أبو الحسن أبناء إبراهيم هذا في أكابر الخدام، فعقد لمسعود بن إبراهيم على أعمال السوس عندما فتحها أعوام الثلاثين وسبعماية، ثم عزله بأخيه حسون، وعقد لمسعود على بلاد الجريد من إفريقية عند فتحه إياها سنة ثمان وأربعين، وكان فيها مهلكه. ونظم أخاهما موسى في طبقة الوزراء، ثم أفرده بها أيام نكبته ولحاقه بجبل هنتاتة، واستعمله السلطان أبو عنان بعده في العظيمات، وعهد له على أعمال سدويكش بنواحى قسنطية. ورشح ابنه مـحمد السبيع لوزارته إلى أن هلك، وتقلبت بهم الايام بعده. وقلد عبد الحيمد المعروف بحلي ابن السلطان أبي علي وزارته محمد بن السبيع هذا أيام حصاره لدار ملكهم سنة اثنتين وستين كما نذكره في أخبارهم، فلم يقدر لهم الظفر. تم رجع السبيع بعدها إلى محله من دار السلطان وطبقة الوزارة، وما زال يتصرف في الخدم الجليلة والأعمال الواسعة ما بين سجلماسة ومراكش وأعمال تازى وتادلا وغمارة، وهو على ذلك العهد. والله وارث الأرض ومن عليها، سبحانه لا إله غيره. الخبر عن وجديجن وواغمرت من قبائل زناتة ومبادىء أحوالهم وتصاريفها. قد تقدم أن هذين البطنين من بطون زناتة من ولد ورتنيص بن جانا، وكان لهم عدد وقوه، ومواطنهم مفترقة في بلاد زناتة: فأما وجديجن فكان جمهورهم بالمغرب الأوسط، ومواطنهم منه منداس ما بين بني يفرن من جانب الغرب، ولواتة من جانب القبلة في السرسو، ومطماطة من جانب الشرق في وانشريش. وكان أميرهم
لعهد يعلى بن محمد اليفرني رجلا منهم اسمه عنان، وكانت بينهم وبين لواتة الموطنين بالسرسو فتنة متصلة، يذكر أنها بسبب امرأة من وجديجن نكحت في لواتة وتلا، جامعها نساء قيوطنهم فعيرنها بالفقر، فكتبت بذلك إلى عنان تدمره، فغضب واستجاش بأهل عصبته مز زناتة وجيرانه، فزحف معه يعلى في بني يفرن وكلمام بن حياتي في مغيلة وغرابة في مطماطة، ودارت الحرب بينهم وبين لواتة مليا. ثم غلبوا لواتة في بلاد السرسو، وانتهوا بهم إلى كدية العابد من آخرها. وهلك عنان شيخ وجديجن في بعض تلك الوقائع بملاكو من جهات السرسو. ثم لجأت لواتة إلى جبل كريكرة قبلة السرسو وكان يسكنه أحياء من مغراوة يعرف شخصيتهم لذلك العهد علاهم ربيب لشيخهم عمر بن تامصا الهالك قبله، ومعنى تامصا بلسان البربر الغول. ولما لجأت لواتة إليه غدر بهم وأغرى قومه، فوضعوا أيديهم فيهم سبا وقتلا، فلاذوا بالفرار، ولحقوا بجبل لعود وجبل درأك، فاستقروا هنالك اخر الدهر. وورثت وجديجن مواطنهم بمنداس إلى أن غلبهم عليها بنو يلومي، وبنو ومانو كل من جهته ثم غلب الآخرين عليها بنو عبد الواد، وبنو توجين إلى هذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها. وأما واغمرت، ويسمون لهذا العهد غمرت، وهم إخوة وجديجن ومن ولد ورتنيص بن جانا كما قلناه، فعانوا من أوفر القبائل عددا، ومواطنهم متفرقة، وجمهورهم بالجبال إلى قبلة بلاد صنهاجة من المشنتل إلى الدوسن. وكان لهم صر أبي يزيد صاحب الحمار في الشيعة آثار، وأوقع بهم إسماعيل عند ظهوره على أبي يزيد، وأثخن فيهم، وكذلك بلكين وصنهاجة من بعده. ولما افترق أمر صنهاجة بحماد وبنيه كانوا شيعا لهم على بني بلكين. ونزع عن حماد أيام فتنته ابن أبي جلى من مشيختهم، وكان مختصا به، فنزع إلى باديس، فوصله وحمل أصحابه، وعقد له على طبنة وأعمالها. حتى إذا جاء العرب الهلاليون، وغلبوهم على الضواحي، اعتصموا بتلك الجبال قبلة المسيلة وبلاد صنهاجة، وصدوا بها عن الظعن، وتركوا القيطون إلى
سكنى المدن. ولما غلب الدواودة على ضواحي الزاب وما إليها، اقطعتهم الدولة مغارم هذه الجبال التي لغمرت. وهم لهذا العهد في سهمان أولاد يحيى بن علي بن سباع من بطونهم. وكان في القديم من غمرت هؤلاء كاهن زناتة موسى بن صالح مشهور عندهم حتى الآن، ويتناقلون بينهم كلماته برطانتهم على طريقة الرجز، فيها أخبار بالحدثان فيما يكون لهذا الجيل الزناتي من الملك والدولة، والتغلب على الأحياء والقبائل والبلدان. شهد كثير من الواقعات على وفقها بصحتها، حتى لقد نقلوا من بعض كلماته تلك ما معناه باللسان العربي أن تلمسان ينالها الخراب، وتصير دورها فدنا حتى يثير أرضها حراث أسود بثور أسود أعور. وذكر الثقات أنهم عاينوا ذلك بعد انتشار كلمته هذه أيام لحقها الخراب في دولة بني مرين الثانية سني ستين وسبعماية، وأفرط الحلاف بين هذا الجيل الزناتي في التشييع له والحمل عليه: فمنهم من يزعم أنه ولي أو نبي، وآخرون يقولون كاهن. ولم تقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره. والله سبحانه وتعالى أعلم لا رب غيره. الخبر عن بني واركلا من بطون زناتة والمصر المنسوب إليهم بصحراء إفريقية وتصاريف أحوالهم: بنو واركلا هؤلاء إحدى بطون زناتة- كما تقدم- من ولد فريني بن جانا، وقد مر ذكرهم. وإن إخوانهم يزمرتن ومنجصة ونمالتة المعروفون لهذا العهد: منهي ينو واركلا. وكانت فئتهم قليلة، وكانت مواطنهم قبلة الزاب، واختطوا المصر المعروف بهم لهذا العهد على ثماني مراحل من بسكرة، في القبلة عنها ميامنة إلى المغرب. بنوها قصورا متقاربة الخطة. ثم استبحر عمرانها، فائتلفت وصارت مصرا. وكان معهم هنالك جماعة من بني زنداك من مغراوة، وإليهم كان هرب ابن أبي يزيد النكاري عند فراره من الاعتقال لسنة خمس وعشرين وثلاثماية، وكان مقامه بينهم سنة يختلف إلى بني برزال قبلة المسيلة بسالات، وإلى
قبائل البربر بجل أوراس، يدعوهم جميعا إلى مذهب النكارية، إلى أن ارتحل إلى أوراس، واستبحر عمران هذا المصر، واعتصم به بنو واركلا هؤلاء، والكثير من ظواعن زناتة عند غلب الهلاليين إياهم على المواطن، واختصاص الأثبج بضواحي القلعة والزاب وما إليها. ولما استبد الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بملك إفريقية وجال في نواحيها في أتباع ابن غانية؛ مر بهذا المصر فأجبه وكلف بالزيادة في تمصيره، فاختط مسجده العتيق ومأذنته المرتفعة، وكتب عليها اسمه وتاريخ وضعه نقشا في الحجارة. وهذا البلد لهذا العهد باب لولوج السفر من الزاب إلى المفازة الصحراوية المفضية إلى بلاد السودان، يسلكها التجار الداخلون إليها بالبضائع. وسكانها لهذا العهد من أعقاب بني واركلا وأعقاب إخوانهم من بني يفرن ومغراوة، ويعرف رئيسه باسم السلطان، شهرة غير نكيرة بينهم، ورياسته لهذه الأعصار مخصوصة ببني أبي غبول ويزعمون أنهم من بني واكير، إحدى بيوت بني واركلا، وهو بذا العهد أبو بكر بن موسى بن سليمان من بني أبي غبول، ورياستهم متصلة في عمود هذا النسب. وعلى عشرين مرحلة من هذا المصر في القبلة منحرفا إلى الغرب بيسير بلد تكدة قاعدة وطن الملثمين، وركاب الحاج من السودان، اختطه الملثمون من صنهاجة وهم ساكنوه لهذا العهد، وصاحبه أمير من بيوتاتهم يعرفونه باسم السلطان، وبينه وبين أمير الزاب مراسلة ومهاداة. ولقد قدمت على بسكرة سنة أربع وخمسين أيام السلطان أبي عنان في بعض الأغراض الملوكية، ولقيت رسول صاحب تكدة عند يوسف بن مزني أمير بسكرة، وأخبرني عن استبحار هذا المصر في العمارة، ومرور السابلة، وقال لي: اجتاز بنا في هذا العام سفر من تجار المشرق إلى بلد مالي كانت زكاتهم اثنتي عشر ألف راحلة. وذكر لي غيره أن ذلك هو الشأن في كل سنة. وهذا البلد في طاعة سلطان مالي من السودان كما في سائر تلك البلاد الصحراوية المعروفة بأطلستين لهذا العهد. والله غالب على أمره سبحانه.
الخبر عن دمر من بطون زناتة ومن ولي منهم بالأندلس وأولية ذلك ومصادره: بنو دمر هؤلاء من زناتة وقد تقدم أنهم من ولد. ورسيك بن أديدت بن جانا، وشعوبهم كثيرة، وكانت مواطنهم بإفريقية في نواحي طرابلس وجبالها، وكان منهم آخرون ظواعن بالضواحي من عرب إفريقية. ومن بطون إيدمر هؤلاء بنو ورغمة، وهم لهذا العهد مع قومهم بجبال طرابلس. ومن بطونهم أيضاً بطن متسع كثير الشعوب وهم بنو ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمر، وأن من شعوبهم بني ورتاتين وبني غرزول وبني تفورت. وربما يقال إن هؤلاء الشعوب لا ينتسبون إلى دمر من ورنيد كما تقدم. وبقايا بني ورنيد لهذا العهد بالجبل المطل على تلمسان، بعد أن كانوا في البسيط قبلته، فزحمهم بنو راشد حين دخولهم من بلادهم بالصحراء إلى التل، وغلبوهم على تلك البسائط فانزاحوا إلى الجبل المعروف بهم لهذا العهد، وهو المطل على تلمسان. وكان قد أجاز إلى الأندلس من إيدمر هؤلاء أعيان ورجالات حرب فيمن أجاز إليها من زناتة وسائر البربر، أيام أخذهم بدعوة الحكم المستنصر، فضمهم السلطان إلى عسكره، واستظهر بهم المنصور بن أبي عامر من بعد ذلك على شأنه، وفرى بهم المستعين أديم دولته. ولما اعصوصب البربر على المستعين، وبني حمود من بعده، وغالبوا جنود الأندلس من العرب، وكانت الفتنة الطويلة بينهم التي نثرت سلك الخلافة، وفرت شمل الجماعة، واقتسموا خطط الملك وولايات الأعمال، وكان من رجالاتهم نوح الدمري، وكان من عظماء أصحاب المنصور، وولاه المستعين أعمال مودور واركش، فاستبد بها سنة أربع في غمار الفتنة، وأقام بها سلطاناً لنفسه، إلى أن هلك سنة ثلاث وثلاثين، فولي ابنه أبو مناد محمد بن نوح، وتلقب بالحاجب عز الدولة لقبين في قرن شأن ملوك الطوائف. وكانت بينه وبين ابن عباد صاحب ضب الأندلس خطوب. ومر المعتضد في بعض أسفاره بحصن اركش، وتطوف مختفيا، فتقبض عليه بعض أصحاب ابن نوح، وساقه إليه، فخلى سبيله وأولاه كرامة احتسبها عنده يدا،
وذلك سنة ثلاث وأربعين، فانطلق إلى دار ملكه، ورجع بعدها إلى ولاية الملوك الذين حوله من البربر. وأسجل لابن نوح هذا على عملي أركش ومورور فيمن أسجل له منهم، فصاروا إلى مخالصته، إلى أن استدعاهم سنة خمس وأربعين بعدها إلى صنيع دعا إليه الجفلى من أهل أعماله، واختصهم بدخول حمام اعد لهم استبلاغا في تكريمهم. وتخفف ابن نوح عنده من بينهم، فلما حصلوا داخل الحمام طبقه عليهم، وسد المنافس للهواء دونهم، إلى أن هلكوا. ونجا منهم ابن نوح لسالفة يده، وطير في الحين من تسلم معاقلهم وحصونهم، فانتظمهم في أعماله. وكان منهم وفدة وشريش وسائر أعمالها. وهلك من بعد ذلك الحاجب أبو مناد بن نوح، وولي ابنه أبو عبد الله. ولم يزل المعتضد يضايقه إلى أن انخلع له سنة ثمان وخمسين، فانتظمها في أعماله. وصار إليه محمد بن أبي مناد إلى أن هلك سنة ثمان وستين، وانقرض ملك بني نوح. والبقاء لله وحده سبحانه. الخبر عن بني برزال إحدي بطون دمر وما كان لهم من الملك بقرمونة وأعمالها بالأندلس أيام الطوائف وأولية ذلك ومصائره: قد تقدم لنا أن بني برزال هؤلاء من ولد ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمر، كما ذكره ابن حزم، وإن إخوتهم بنو يصدرين وبنو صغمار وبنو يطوفت. وكان بنو برزال هؤلاء بإفريقية، وكانت مواطنهم منها جبل سالات وما إليه من أعمال المسيلة، وكان لهم ظهور ووفور عدد، وكانوا نكارية من فرق الخوارج. ولما فر أبو يزيد أمام إسماعيل المنصور، وبلغه أن محمد بن خزر يترصد له، أجمع الاعتصام بسالات وصعد إليهم. ثم أرهقته عساكر المنصور، فانتقل عنهم إلى كتامة. وكان من أمره
ما قدمناه. ثم استقام بنو برزال طى طاعة الشيعة وموالاة جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة والزاب، حتى صاروا له شيعا. ولما انتقض جعفر على معد سنة ستين وثلاثماية، كان بنو برزال هؤلاء في جملته ومن أهل خصوصيته، فأجازوا به البحر إلى الأندلس أيام الحكم المستنصر، فاستخدمهم ونظمهم في طبقات جنده إلى من كان لحق به من قبائل زناتة وسائر البربر أيام أخذهم بالدعوة الأموية، ومحاربتهم عليها للأدارسة، فاستقروا جميعا بالأندلس. وكان لبني برزال من بينهم ظهور وغناء مشهور. ولما أراد المنصور بن أبي عامر الاستبداد على خليفته هشام، وتوقع النكير من رجالات الدولة وموالي الحكم، استكثر ببني برزال وغيرهم من البربر، وأفاض فيهم الإحسان، فاعتز أمره واشتد أزره، حتى أسقط رجال الدولة، ومحا رسومها، وأثبت أركان سلطانه. ثم قتل صاحبهم جعفر بن يحيى كما ذكرناه خشية عصبيته بهم. واستمالهم من بعده، فأصبحوا له عصبة، وكان يستعملهم في الولايات النبيهة والأعمال الرفيعة. وكان من أعيان بني برزال هؤلاء إسحاق بن...، فولاه قرمونة وأعمالها، فلم يزال واليا عليها أيام بني أبي عامر. وجدد له العقد عليها المستعين في فتنة البرابرة، ووليها من بعده ابنه عبد الله. ولما انقرض ملك بني حمود من قرطبة ودفع أهلها القاسم المأمون عنهم سنة أربع عشرة، أراد اللحاق بإشبيلية، وبها نائبه محمد بن أبي زيري من وجوه البربر، وبقرمونة عبد الله بن إسحاق البرزالي، فداخلهما القاضي ابن عباد في خلع طاعة القاسم، وصده عن العملين، فأجابا إلى ذلك. ثم دس للقاسم بالتحذير من عبد الله بن إسحاق، فعدل القاسم عنهم جميعا إلى شريش، واستمد كل منهم بعمله. ثم هلك عبد الله من بعد ذلك، وولي ابنه محمد سنة...، وكانت بينه وبين المعتضد بن عباد حرب، وظاهر عليه يحيى بن علي بن حمود في منازلة إشبيلية سنة ثمان عشرة. ثم اتفق معه ابن عباد بعدها، وظاهره على عبد الله بن الأفطس، وكانت بينهما- عرب، وكانت الدبرة فيها على ابن الأفطس. وتحصل ابنه المظفر قائد العسكر في قبضة محمد بن عبد الله بن إسحاق إلى أن من عليه بعد ذلك وأطلقه. ثم كانت الفتنة بين محمد
بن إسحاق وبين المعتضد، وأغار إسماعيل بن المعتضد على قرمونة في بعض الأيام بعد أن كمن الكمائن من الخيالة والرجل، وركب إليه محمد في قومه، فاستطرد لهم إسماعيل إلى أن بلغوا الكمائن؛ فثاروا بهم وقتل محمد البرزالي، وذلك سنة أربع وثلاثين. وولي ابنه العزيز بن محمد، وتلقب بالمستظهر مناغيا في ذلك لملوك الطوائف في عهده. ولم يزل المعتضد يستولي على غرب الأندلس شيئا فشيئا إلى أن ضايقه في عمل قرمونة، واقتطع منها أسيجة والمدور. ثم انخلع له العزيز عن قرمونة سنة تسع وخمسين، ونظمها المعتضد في ممالكه، وانقرض ملك بني برزال من الأندلس. ثم انقرض بعد ذلك حيهم من جبل سالات، وأصبحوا في الغابرين. والبقاء لله وحده سبحانه.
العزيز محمد بن عبد الله بن اسحق البرزالي الخبر عن بني ومانوا وبني يلومي من الطبقة الأولى من زناتة وما كان لهم من الملك والدولة بأعمال المغرب الأوسط ومبدأ ذلك وتصاريفه: هاتان القبيلتان من بطون زناتة، ومن توابع الطبقة الأولى، ولم نقف على نسبها إلى جانا، إلا أن نسابتهم متفقون على أن يلومي وورتاجن الذي هو أبو مرين أخوان، وإن مديون أخوهما للام، ذكر لي ذلك غير واحد من نسابتهم. وبنو مرين لهذا العهد يعرفون لهم هذا النسب، ويوجبون لهم العصبية له. وكانت هاتان القبيلتان من أوفر بطون زناتة وأشدهم شوكة ومواطنهم جميعاً بالمغرب الأوسط. وبنو ومانوا منهم إلى جهة الشرق عن وادي ميناس في منداس ومرات وما إليها من أسافل شلف، وبنو يلومي بالعدوة الغربية منه بالجعبات والبطحاء وسيك وسيرات وجبل هو،ة وبني راشد. وكان لمغراوة وبني يفرن التقدم عليهم في الكثرة والقوة. ولما غلب بلكين بن زيري
مغراوة وبني يفرن على المغرب الأوسط، وأزاحهم إلى المغرب الأقصى، بقيت هاتان القبيلتان بمواطنهما، واستعملتهم صنهاجة في حروبهم، حتى إذا تقلص ملك صنهاجة عن المغرب الأوسط اعتزوا عليهم. واختمى الناصر بن علناس صاحب القلعة ومختط بجاية بني ومانوا هؤلاء بالولاية، فكانوا سيفا لقومه دون بني يلومي. وكانت رياسة بني ومانو في أبيت منهم يعرفون ببني ماخوخ. وأصهر المنصور بن الناصر إلى ماخوخ منهم في أخته، فزوجها إياه، فكان لهم بذلك مزيد ولاية في الدولة. ولما ملك المرابطون تلمسان أعوام سبعين وأربعماية، وأنزل يوسف بن تاشفين بها عامله محمد بن تينعمر المسوفي، ودوخ أعمال المنصور وملك أمصارها إلى أن نازل الجزائر، وهلك فولي أخوه تاشفين على عمله، فغزا أشير وافتتحها وخربها. وكان لهذين الحيين من زناتة أثر في مظاهرته وإمداده، أحقد عليهم المنصور بعدها، وغزا بني ومانوا في عساكر صنهاجة، وجمع له ماخوخ، فهزمه واتبعه منهزما إلى بجاية، فقتل لمدخله إلى قصره وقتل زوجه أخت ماخوم تشفيا وضغناً. ثم نهض إلى تلمسان في العساكر واحتشد العرب من الأثبج ورياح وزغبة ومن لحق به من زناتة، وكانت الغزاة المشهورة سنة سص وثمانين أبقى فيها على ابن تينعمر المسوفي بعد استمكانه سن البلد كما ذكرناه في أخبار صنهاجة. ثم هلك المنصور وولي ابنه العزيز، وراجع ماخوخ ولايتهم، وأصهر إليه العزيز أيضا في ابنته، فزوجها إياه. واعتز البدو في نواحي المغرب الأوسط، واشتعلت نار الفتنة بين هذين الحيين من بني ومانوا وبني يلومي، فكانت بينهم حروب ومشاهد. وهلك ماخوخ، وقام بأمره في قومه بنوه تاشفين وعلي وأبو بكر، وكان أحياء زناتة الثانية من عبد الواد وتوجين وبني راشد وبني ورسيفان من مغراوة مدداً للفريقين، وربما ماد بنو مرين إخوانهم بني يلومي لقرب مواطنهم منهم، إلا أن زناتة الثانية لذلك العهد مغلبون لهذين الحيين، وأمرهم تبع لهم إلى أن ظهر أمر الموحدين. وزحف عبد المؤمن إلى المغرب الأوسط في أتباع تاشفين بن علي، وتقدم أبو بكر بن ماخوخ ويوسف بن يدز من بني ومانوا إلى طاعته، ولحقوه بمكانه من أرض الريف، فسرح معهم عساكر الموحدين لنظر يوسف بن وانودين وابن يغمور، فأثخنوا في بلاد بني يلومي وبني عبد الواد، ولحق صريخهم بتاشفين بن علي بن يوسف، فأمدهم بالعساكر، ونزلوا منداس. واجتمع لبني يلومي بنو ورسفان من
مغراوة وبنو توجين من بني بادين وبنو عبد الواد منهم أيضا، وشيخهم حمامة بن مظهر، وبنو يكاسن من بني مرين وأوقعوا ببني ومانوا، وقتلوا أبا بكر بن ماخوخ في ستماية منهم واستنقذوا غنائمهم. وتحضن الموحدون وفل بني ومانوا بجبال سيرات، ولحق تاشفين بن ماخوخ صريخا بعبد المؤمن، وجاء في جملته حتى نازل تاشفين بن علي بتلمسان. ولما ارتحل في أثره إلى وهران كما قدمناه سرح الشيخ أبا حفص في عساكر الموحدين إلى بلاد زناتة، فنزلوا منداس وسط بلادهم، وأثخنوا فيهم حتى أذعنوا للطاعة، ودخلوا في الدعوة. ووفد على عبد المؤمن بمكانه من حصار وهران بمشيختهم يقدمهم سيد الناس بن أمير الناس شيخ بني بلومي، وحمامة بن مظهر شيخ بني عبد الواد، وعطية الخير شيخ بني توجين وغيرهم، فتلقاهم بالقبول. ثم انتقضت زناتة بعدها، وامتنع بنو يلومي بحصنهم الجعبات ومعهم شيوخهم سيد الناس وبدرح ابنا أمير الناس، فحاصرهم عساكر الموحدين وغلبوهم عليها وأشخصوهم إلى المغرب. ونزل سيد الناس بمراكش، وبها كان مهلكه أيام عبد المؤمن. وهلك بعد ذلك بنو ماخوخ. ولما أخذ أمر هذين الحيين في الانتقاض جاذب بني يلومي في تلك الأعمال بنو توجين، وشاجروهم في أحواله، ثم واقعوهم الحرب في جوانبه. وتولى ذلك فيهم عطية الخير كبير بني توجين، وصلى بنارها منهم معه بنو منكوش من قومه حتى غلبوهم على مواطنهم وأذلوهم وأصاروهم جيرانا لهم في قياطنهم، واستعلى بنو عبد الواد وترجين على هذين الحيين وغيرهم بولايتهم للموحدين ومخالطتهم اياهم، فذهب شأنهم وافترق قيطونهم أوزاعا في زمانه الوارثين أوطانهم من بني عبد الواد وتوجين والبقاء لله وحده. ومن بطون بني ومانوا هؤلاء قبائل بني يالدس، وقد يزعم زاعمون أنهم من مغراوة، ومواطنهم متصلة قبلة المغرب الأقصى والأوسط وراء العرق المحيط بعمرانهم المذكور قبل. اختطوا في تلك المواطن القصور والأطم واتخذوا بها الجنات من النخيل والأعناب وسائر الفواكه: فمنها على ثلاث مراحل قبلة سجلماسة، وتسمى وطن توات، وفيه قصور متعددة تناهز المئين، آخذة من المشرق إلى المغرب وآخرها
من جانب المشرق يسمى تمنطيت، وهو بلد مستبحر في إلعمران، وهو هـكاب التجار المترددين من المغرب إلى بلد مالي من السودان لهذا العهد، ومن بلد مالى إليه، وبينه وبين ثغر بلد مالي المسمى غار، المفازة المجهلة لا يهتدى فيها للسبل ولا يمر الوارد إلا بالدليل الشريت من الملثمين الظواعن بذلك القفر، يستأجره التجمار محلى البذرقة بهم بأوفى الشروط. ولقد كانت بلد بودي وهي أعلى تلك القصور بناحية المغرب من ناحية السوس هي الركاب إلى والاتن، الثغر الأخير من أعمال مالي. ثم أهملت لما صارت الأعراب من بادية السوس يغيرون على سابلتها، ويعترضون رفاقها، فتركوا تلك، ونهجوا الطريق إلى بلد السودان من أعلى تمنطيت. ومن هذه القصور قبلة ظمسان، وعلى عشر مراحل منها قصور تيكورارين، وهي كثيرة تقارب الماية، في بسيط واد منحدر من الغرب إلى الشرق واستبحرت في العمران وغصت بالساكن. وأكثر سكان هذه القصور الغربية في الصحراء بنو يالدس هؤلاء، ومعهم من سائر قبائل زناتة والبربر، مثل ورتطغير ومصاب وبني عبد الواد وبني مرين، وهم أهل عديد وعدة، وبعد عن هضيمة الأحكام وذل المغارم، وفيهم الرجالة والخيمالة، وأكثرهم معاشهم من فلح النخل، وفيهم التجر إلى بلد السودان، وضواحيها كلها مشتاة للعرب، ومختصة بعبيد الله من المعقل، عينتها لهم قسمة الرحلة. وربما شاركهم بنو عامر من زغبة في تيكورارين، فتصل إليها ناجعتهم بعض السنين. وأما عبيد الله فلا بد لهم لي كل سنة من رحلة الشتاء إلى قصور توات وبلد تمنطيت، ومع ناجعتهم تخرج قفول التجار من الأمصار والتلول، حتى يخطوا بتمنطيت، ثم يبذرقون منها إلى بلد السودان. وفي هذه البلاد الصحراوية إلى وراء العرق غريبة في استنباط المياه الجارية لا توجد في تلول المغرب، وذلك أن البئر تحفر عميقة بعيدة الهوى. وتطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة، فتحت بالمعاول والفؤس إلى أن يرق جرمها ثم تصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها على الماء،
فينبعث صاعدا فيفعم البئر، ثم يجري على وجه الأرض واديا. ويزعمون أن الماء ربما أعجل بسرعته عن كل شيء. وهذه الغريبة موجودة في قصور توات وتيكورارين وواركلا وريغ. والعالم أبو العجائب. والله الخلاق العليم.. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من زناتة، ولنرجع إلى أخبار الطبقة الثانية منهم، وهم الذين اتصلت دولتهم إلى هذا العهد. أخبار الطبقة الثانية من زناتة وذكر أنسابهم وشعوبهم و أوليتهم: قد تقدم لنا في تضاعيف الكلام قبل انقراض الملك من الطبقة الأولى من زناتة، ما كان على يد صنهاجة والمرابطين من بعدهم وأن عصبة أجيالهم افترقت بانقراض ملكهم ودولهم، وبقيت منهم بطون لم يمارسوا الملك، ولا أخلقهم ترفه، فأقاموا في قياطنهم بأطراف المغربين ينتجعون جانبي القفر والتل، ويعطون الدول حق الطاعة. وغلبوا على بقايا الأجيال الأولى من زناتة بعد أن كانوا مغلبين لهم؛ فأصبحت لهم السورة والعزة، وصارت الحاجة من الدول إلى مظاهرتهم ومسالمتهم، حتى انقرضت دولة الموحدين، فتطاولوا إلى الملك وضربوا فيه مع أهله بسهم. وكانت لهم دول نذكرها إن شاء الله. وكان أكثر هذه الطبقة من بني واسين بن يصلتين إخوة مغراوة وبني يفرن. ويقال إنهم من بني وانتن بن ورسيك بن جانا إخوة مسارت وتاجرت، وقد تقدم ذكر هذه الأنساب. وكان من بني واسين هؤلاء ببلاد قسطيلية. وذكر ابن الرقيق أن أبا يزيد النكاري لما ظهر بجبل أوراس كتب إليهم بمكانهم حول توزر يأمرهم بحصارها، فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين وثلاثماية. وربما أن منهم ببلد الحامة لهذا العهد، ويعرفون ببني ورتاجن إحدى بطونهم. وأما جمهورهم فلم يزالوا بالمغرب الأقصى ما بين ملوية إلى جبل راشد. وذكر موسى بن أبي العافية في كتابه إلى الناصر الأموي يعرفه بحربه مع ميسور مولى أبي القاسم الشيعي، وبمن صار إليه من قبائل البربر وزناتة، فذكر فيهم من كان على ملوية وصا، من قبائل بني واسين، وبني بفرن وبني ورتاسن، وبني وريمت ومطماطة، فذكر
منهم بني واسين، لأن تلك المواطن هى مواطنهم قبل الملك. وفي هذه الطبقة منهم بطون: فمنهم بنو مرين، وهم أكثرهم عددا وأقواهم سلطانا وملكا، وأعظمهم دولة، ومنهم أبو عبد الواد تلوهم في الكثرة والقوة، وبنو توجين من بعدهم كذلك. هؤلاء أهل الملك من هذه الطبقة. وفيها من غير أهل الملك: بنو راشد إخوة بني بادين كما نذكره، وفيها أهل الملك أيضا من غير نسبهم بقية من مغراوة بمواطنهم الأولى من وادي شلف، نبضت فيهم عروق الملك بعد انقراض جيلهم الأول، فتجاذبوا حبله مع أهل هذا الجيل. وكانت لهم في مواطنهم دولة كما نذكره . ومن أهل هذه الطبقة كثير من بطونها ليس لهم ملك: نذكرهم الآن حين تفصل شعوبهم. وذلك أن أحياءهم جميعاً تشعبت من زحيك بن واسين، فكان منهم بنو بادين بن محمد، وبنو مرين بن ورتاجن: فأما بنو ورتاجن فهم من ولد ورتاجن بن ماخوخ بن وجديج بن فاتن بن يدر بن يخفت بن عبد الله بن ورتنيد بن المغربن إبراهيم بن زحيك. وأما بنو مرين بن ورتاجن، فتعددت أفخاذهم وبطونهم كما نذكره بعد حتى كثروا سائر شعوب بني ورتاجن، وصار بنو ورتاجن معدودين في جملة أفخاذهم وشعوبهم. وأما بنو بادين بن محمد فمن ولد زحيك، ولا أذكر الان كيف يتصل نسبهم به. وتشعبوا إلى شعوب كثيرة: فكان منهم بنو عبد الواد، وبنو توجين، وبنو مصاب وبنو أزردال، يجمعهم كلهم نسب بادين بن محمد. وفي محمد هذا يجتمع بادين وبنو راشد، ثم يجتمع محمد مع ورتاجن في زحيك بن واسين، وكانوا كلهم معروفين بين زناتة الأولى ببني واسين قبل أن تعظم هذه البطون والأفخاذ، وتشعبت مع الأيام. وبأرض إفريقية وصحراء برقة وبلاد الزاب منهم طوائف من بقايا زناتة الأولى قبل انسياحهم إلى المغرب: فمنهم بقصور غدامس على عشرة مراحل قبل سرت، وكانت مختطة منذ عهد الإسلام وهي خطة مشتملة على قصور وآطام عديدة، وبعضها لبني واطاس من أحياء بني مرين، يزعمون أن أوائلهم اختطوها، وهي لهذا العهد قد استبحرت في العمارة،
واتسعت في التمدن، بما صارت محطا لركاب الحاج من السودان، وقفل التجار إلى مصر والإسكندرية عند إراحتهم من قطع المفازة ذات الرمال المعترضة أمام طريقهم دون الأرياف والتلول، وبابا لولوج تلك المفازة والحاج والتجر في مرجعهم. ومنهم ببلاد الحمة على مرحلة من غربي قابس أمة عظيمة من بني ورتاجن. وفرت منهم حاميتها، واشتدت شوكتها، وارتحل إليها التجر بالبضائع لنفاق أسواقها وتبحر عمارتها، وامتنعت لهذا العهد على من يرومها، ممن يجاورها فهم لا يودون خراجا ولا يسامون بمغرم، حتى كأنهم لا يعرفونه عزة جناب وفضل بأس ومنعة. يزعمون أن سلفهم من بني ورتاجن اختطوها، ورياستهم في بيت منهم يعرفون ببني وشاح، وربما طال على رؤسائهم عهد الخلافة ووطأة الدول، فيتطاولون إلى التي تنكر على السوقة من اتخاذ الآلات ويبرزون في زفي السلطان أيام الزينة تهاونا بشعار الملك، ونسيانا لمألوف الانقياد شأن جرانهم رؤساء توزر ونفطة. وسابق الغاية في هذه المضحكة هو يملول مقدم توزر. ومن بني واسين هؤلاء بقصور مصاب على خمس مراحل من جبل تيطري في القبلة بما دون الرمال، وعلى ثلاث مراحل من لصور بني ريغة في المغرب، وهذا الاسم اسم للقوم الذين اختطوها ونزلوها من شعوب بني بادين حسبما ذكرناهم الآن. ووضعها في أرض حرة على آكام وضراب ممتنعة في قننها. وبينها وبين الأرض الحجرة المعروفة بالحمادة في سمت العرق متوسطة فيه قبالة تلك البلاد فراسخ في ناحية القبلة، وسكانها لهذا العهد شعوب بني بادين من بني عبد الواد وبني توجين ومصاب وبني زردال فيمن يضاف إليهم من شعوب زناتة، وإن كانت شهرتها مختصة بمصاب، وحالها في المباني والأغراس وتفرق الجماعة بتفرق الرياسة شبيهة بحال بلاد بني ريغة والزاب. ومنهم بجبل أوراس بإفريقية طائفة من بني عبد الواد موطنوه منذ العهد الأقدم لأول الفتح، معروفون بين ساكنيه. وقد ذكر بعض الإخباريين أن بني عبد الواد حضروا مع عقبة بن نافع في فتح المغرب عند إيغاله في ديار المغرب، وانتهائه إلى البحر المحيط بالسوس في ولايته
الثانية، وهي الغزاة التي هلك فيها في منصرفه منها، وأنهم أبلوا البلاء الحسن، فدعا لهم وأذن في رجوعهم قبل استتمام الغزاة. ولما تحيزت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتامة وصنهاجة اجتمع شعوب بني واسين هؤلاء كلهم ما بين ملوية وصا كما ذكرناه. وتشعبت أفخاذهم وبطونهم وانبسطوا في صحراء المغرب الأقصى والأوسط، إلى بلاد الزاب وما إليها من صحارى إفريقية، إذ لم يكن للعرب في تلك المجالات كلها مذهب ولا مسلك إلى الماية الخامسة كما سبق ذكره. ولم يزالوا بتلك البلاد مشتملين لبوس العز مستمرين للأنفة، وكان جل مكاسبهم الأنعام والماشية، وابتغاؤهم الرزق من تحيف السابلة، وفي ظل الرماح المشرعة، وكانت لهم في محاربة الأحياء والقبائل ومنافسة الأمم والدول ومغالبة الملوك أيام ووقائع، تلم بها ولم تعظم العناية باستيعابها، فتأتي به. والسبب في ذلك أن اللسان الربي كان غالبا بغلب دولة العرب، وظهور الملة العربية بالكتاب، والخط بلغة الدولة ولسان الملك، واللسان العجمي مستتر بجناحه مندرج في غماره، ولم يكن لهذا الجيل من زناتة في الأحقاب القديمة ملك يحمل أهل الكتاب على العناية بتقييد أيامهم وتدوين أخبارهم، ولم تكن مغالطة بينهم وبين أهل الأرياف والحضر، حتى يشهدوا آثارهم لإبعادهم في القفار كما رأيت في مواطنهم، وتوحشهم عن الانقياد؛ فبقيت غفلا إلى أن درس منها الكثير، ولم يصل إليها منها بعد مهلكهم إلا الشارد القليل يتبعه المؤرخ المضطلع في مسالكه، ويتقراه في شعابه، ويستثيره من مكامنه، وأقاموا بتلك القفار إلى أن تسنموا منها هضبات الملك على ما تصفه.
الخبر عن أحوال هذه الطبقة قبل الملك وكيف كانت تصاريف أحوالهم إلي أن غلبوا علي الممالك والدول: وذلك أن أهل هذه الطبقة من بني واسين وشعوبهم التي سميناها كانوا تبعا لزناتة الأولى. ولما انزاحت زناتة إلى المغرب الأقصى أمام كتامة وصنهاجة، خرج بنو واسين هؤلاء إلى القفر، ما بين ملوية وصا، فكانوا يرجعون إلى ملوك المغرب لذلك العهد. مكناسة أولا ثم مغراوة من بعدهم. ثم حسر تيار صنهاجة عن المغرب، وتقلمى ملكهم بعض الشيء، وصاروا إلى الاستجاشة على القاصية بقبائل زناتة، فأومضت بروقهم، ورفت في ممالك زناتة منابتهم كما قدمناه. واقتسم أعمالها بنو ومانو وبنو يلومي ناحيتين، وكانت ملوك صنهاجة أهل القلعة إذا عسكروا للمغرب يستنفرونهم لغزوه، ويجمعون حشدهم للتوغل فيه. وكان بنو واسين هؤلاء ومن تشعب منهم من القبائل الشهيرة الذكر: مثل بني مرين وبني توجين ومصاب، قد ملكوا القفر ما بين ملوية وأرض الزاب، وامتنعت عليهم الأرياف من المغربين بمن ملكها من زناتة الذين ذكرناهم. وكان أهل الرياسة بتلك الأرياف والضواحي من زناذة مثل بني ومانوا وبني يلومي بالمغرب الأوسط، وبني يفرن ومغراوة بتلمسان يستجيشون ببني واسين هؤلاء ويستظهرون بجموعهم على ئن زاحمهم أو قارعهم من ملوك صنهاجة وزناتة وغيرهم، يجأجئون بهم من مواطنهم لذلك، ويقرضونهم القرض الحسن من المال والسلاح والحبوب المعوزة لديهم بالقفار، فينأثلون منهم ويرتاشون. وعظمت حاجة بني حماد إليهم في ذلك عندما عصفت بهم ريح العرب الطوالع من بني هلال بن عامر، وأصرعوا دولة المعز وصنهاجة بالقيروان والمهدية، وألانوا من حدهم، وزحفوا إلى المغرب الأوسط، فدافع بنو حماد عن حوزته وأوعزوا إلى زناتة بمدافعتهم أيضاً، فاجتمع لذلك بنو يعلى ملوك تلمسان من مغراوة، وجمعوا من كان إليهم من بني واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين وبني راشد. وعقدوا
على حرب الهلاليين لوزيرهم بو سعدى خليفة اليفرني، فكان له مقامات في حروبهم ودفاعهم عن ضواحي الزاب والمغرب الأوسط، إلى أن هلك في بعض أيامه معهم وغلب الهلاليون قبائل زناتة على جميع الضواحي وأزاحوهم عن الزاب وما إليه من بلاد إفريقية، وانشمر بنو واسين هؤلاء من بني مرين وعبد الواد وتوجين عن الزاب إلى موطنهم بصحراء المغرب الأوسط من مصاب وجبل راشد إلى ملوية وفيكيك، ثم إلى سجلماسة ولاذوا ببني ومانوا وبني يلومي ملوك الضواحي بالمغرب الأوسط وتفيأوا ظلهم، واقتسموا ذلك القفر بالمواطن، فكان لبني مرين الناحية الغربية منها قبلة المغرب الأقصى بتيكورارين ودبدوا إلى ملوية وسجلماسة، وبعدوا عن بني ومانوا وبني يلومي، إلا في الأحايين وعند الصريخ. وكان لبني بادين منها الناحية الشرقية قبلة المغرب الأوسط ما بين فيكيك ومديونة إلى جبل راشد ومصاب، وكانت بينهم وبين بني مرين فتن متصلة باتصال أيامهم في تلك المواطن سبيل القبائل الجيران في مواطنهم، وكان الغلب في حروبهم أكثر ما يكون لبني بادين لما كانت شعوبهم أكثر وعددهم أوفر، فإنهم كانوا أربعة شعوب؟ بني عبد الواد وبني توجين وبني زردال وبني مصاب، وكان معهم شعب آخر وهم إخوانهم بنو راشد، لأنا قدمنا أن راشد أخو بادين. وكان موطن بني راشد الجبل المشهور بهم بالصحراء؛ ولم يزالوا على هذه الحال إلى أن ظهر أمر الموحدين، فكان لعبد الواد وتوجين ومغراوة من المظاهرة لبني يلومي على الموحدين ما هو مذكور في أخبارهم. ثم غلب الموحدون على المغرب الأوسط وقبائله من زناتة، فأطاعوا وانقادوا، وتحيز بنو عبد الواد وبنو توجين إلى الموحدين، وازدلفوا إليهم بأمحاض النصيحة ومشايعة الدعوة، وكان التقدم لبني عبد الواد دون الشعوب الأخرى، وأمحضوا النصيحة للوحدين فاصطنعوهم دون بني مرين كما نذكر في أخبارهم. وأقطعهم الموحدون ضواحي المغرب الأوسط كما كانت لبني يلومي وبني ومانوا فملكوها. وتفرد بنو مرين بعد دخول بني بادين إلى المغرب الأوسط بتلك الصحراء، لما اختار الله لهم
من وفور قسمهم في الملك، واستيلائهم على سلطان المغرب الذي غلبوا به الدول، واشتملوا الأقطار، ونظموا المشارق إلى المغارب، واقتعدوا كراسي الدول المسامتة لهم بأجمعها ما بين السوس الأقصى إلى إفريقية. والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده. فأخذ بنو مرين وبنو عبد الواد من شعوب بني واسين هؤلاء بحظ من الملك أعادوا فيه لزناتة دولة وسلطانا في الأرض، واقتادوا الأمم برسن الغلب، وناغاهم في ذلك الملك البدوي إخوانهم بنو توجين. وكانت في هذه الطبقة الثانية بقية أخرى مما ترك آل خزر من قبائل مغراوة الأولى، كانوا موطنين بقرار عزهم ومنشأ جيلهم بوادي شلف، فجاذبوا هؤلاء القبائل حبل الملك وناغوهم في أطوار الرياسة، واستطالوا بمن وصل جناحهم من هذه العشائر؛ فتطاولوا إلى مقاسمتهم في الملك ومساهمتهم في الأمر. وما زال بنو عبد الواد في الغض من عنانهم وجدع أنوف عصيانهم، حتى أوهنوا من بأسهم وخصت الدولة العبد الوادية، ثم المرينية بسمة الملك المخلفة من جناح تطاولهم، وتمحض ذلك كله عن استبداد بني مرين واستتباعهم بجميع هؤلاء العصائب كما نذكر لك الان دولتهم واحدة بعد أخرى، ومصاير أمور هؤلاء الأربعة التي هي رؤوس هذه الطبقة الثانية من زناتة. والملك لته يؤتيه من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. ولنبدأ منها بذكر مغراوة بقية الطبقة الأولى، وما كان لرؤسائهم أولاد منديل من الملك في هذه الطبقة الثانية. أولاد منديل الخبر عن أولاد منديل من الطبقة الثانية وما أعادوا لقومهم من مغراوة من الملك بموطنهم الأول من شلف وما إليه من نواحي المغرب الأوسط لما ذهب الملك عن مغراوة بانقراض ملوكهم آل خزر، واضمحلت دولهم بتلمسان وسجلماسة وفاس وطرابلس وبقية قبائل مغراوة متفرقة في مواطنهم الأولى بنواحي المغربين وإفريقية والصحراء والتلول، والكثير منهم بعنصرهم ومركزهم الأول بوطن
شلف وما إليه، فكان به بنو ورسيفان وبنو ورتزمان وبنو أيليت، ويقال إنهم من ورتزمان، وبنو سعيد وبنو زجاك وبنو سنجاس، وربما يقال إنهم من زناتة وليسوا من مغراوة وكان بنو خزرون الملوك بطرابلس لما انقرض أمرهم، وافترقوا في البلاد، لحق منهم عبد الصمد بن محمد بن خزرون بجبل أوراس فرارا من أهل بيته هنالك، الذين استولوا على الأمر وجده خزرون بن خليفة هو السادس من ملوكهم بطرابلس، فأقام بجبل اوراس مدة، ثم انتقل إلى زواوة، فأقام بينهم أعواما. ثم ارتحل عنهم، فنزل على بقايا قومه مغراوة بشلف من بني ورسيفان وبني ورتزمين وبني بو سعيد وغيرهم، فتلقوه بالمبرة والكرامة، وأوجبوا له حق البيت الذي ينتسب إليه. وأصهر إليهم، فأنكحوه وكثر ولده وعرفوا بينهم ببني محمد، ثم بالخزرية نسبة إلى سلفه الأول. وكان من ولده الملقب أبو ناس بن عبد الصمد بن وارجيع بن عبد الصمد، وكان منتحلا للعبادة والخيرية، وأصهر إليه بعض ولد ماخوخ ملوك بني ومانوا بابنته، فأنكحه إياها، فعظم أمره عندهم بقومه ونسبه وصهره. وجاءت دولة الموحدين على إثر ذلك، فرمقوه بعين التجلة لما كان عليه من طرق الخير، فأقطعوه بوادي شلف، وأقام على ذلك. وكان له من الولد وارجيع وهو كبيرهم، وعزيز ويغريان وماكور، ومن بنت ابن ماخوخ عبد الرحمن، وكان أجلهم شأنا عنده وعند قومه عبد الرحمن هذا، لما يوجبون له بولادة ماخوخ لأمه، ويتفرسون فيه أن له ولعقبه ملكا. ويزعمون أنه لما ولد خرجت به أمه إلى الصحراء فألقته إلى شجرة، وذهبت في بعض حاجتها، فأطاف به يعسوب من النحل متواقعين عليه. وبصرت به على البعد، فجاءت تعدو لما أدركها من الشفقة، وقال لها بعض العرافين احتفظي عليه، فوالله ليكونن له شأن. ونشأ عبد الرحمن هذا في حق هذه التجلة مدلا بنسبه وبأسه. وكثر عشيره من بني أبيه، واعصوصب عليه قبائل مغراوة، فكان له بذلك شوكة، وفي دولة الموحدين تقدمة، لما كان يوجب لهم عيى نفسه من الانحياش والمخالطة والتقدم في مذاهب الطاعة. وكان السادة منهم يمرون به في غزواتهم إلى إفريقية ذاهبين وراجعين، فينزلون منه خير نزل، وهم ينقلبون بحمده والشكر لمذهبه،
فيزيد خلفاؤهم اغتباطا به. وأدرك بعض السادة وهو بأرض قومه الخبر بمهلك الخليفة بمراكش، فخلف الذخيرة والظهر، أسلمها إلى عبد الرحمن هذا، فنجا بدمائه بعد أن صحبه إلى تخم وطنه، فكانت له فيها ثروة أكسبته قوة وكثرة، فاستركب من قومه، واستكثر من عصابته وعشيره. وهلك خلال ذلك، وقد فشل ريح بني عبد المؤمن، وضعف أمر الخلافة بمراكش. وكان له من الولد منديل وتهيم، وكان أكبرهما منديل، فقام بأمر قومه على حين عصفت رياح الفتنة، وأجلب ابن غانية على أعمال المغرب الأوسط. وسما لمنديل أمل في التغلب على ما يليه فاستأسد في عرينه، وحمى عن أشباله. ثم فسح خطوته إلى ما جاوره من البلاد، فملك جبل وانشريش والمرية وما إلى ذلك، واختط قصبة مرات. وكان بسيط متيجة لهذا العهد مستبحرا بالعمران آهلا بالقرى والأمصار. ونقل الإخباريون أن أهل متيجة لذلك العهد كانوا يجمعون في ثلاثين مصراً؛ فجاس خلالها، وأوطأ الغارات ساحتها وخرب عمرانها حتى تركها خاوية على عروشها. وهو في ذلك يوهم التمسك بطاعة الموحدين، وأنه سلم لمن سالمهم، وحرب على من عاداهم. وكان ابن غانية منذ غلبه الموحدون على إفريقية قد أزاحوه إلى قابس وما إليها، ونزل الشيخ أبو محمد بن أبي حفص بتونس، فدفعه عن إفريقية إلى أن هلك سنة ثمان عشرة؛ فطمع يحيى بن غانية في استرجاع أمره، وأسف إلى الثغور والأمصار يعيث فيها ويخربها، ثم تجاوز إفريقية إلى بلاد زناتة، وشن عليها الغارات واكتسح ا البسائط، وتكررت الوقائع بينه وبينهم. وجمع له منديل بن عبد الرحمن، ولقيه بمتيجة، وكانت الدبرة عليه، وانفضت عنه مغراوة، فقتله ابن غانية صبرا سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين. وتغلب على الجزائر إثر نكبته، فصلب بها شلوه، وصيره مثلا للآخرين. وقام بأمره في قومه بنوه، وكانوا نجباء فكان لهم العدة والشرف، وكانوا يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم العباس، فتقبل مذاهب أبيه وأقصر عن بلاد متيجة. ثم غلبهم بنو توجين على جبل وانشريش وضواحي المرية وما إلى ذلك. وانقبضوا إلى مراكزهم الأولى بشلف، وأقاموا بها ملكاً بدويا لم يفارقوا فيه الظعن والخيام والضواحي والبسائط. واستولوا على مدينة مليانة وتنس وبرشك وشرشال
مقيمين فيها الدعوة الحفصية، واختطوا قرية مازونة. ولما استوسق الملك بتلمسان ليغمراسن بن زيان، واستفحل سلطانه بها، وعقد له عليها ولأخيه من قبله بنو عبد المؤمن، سما إلى التغلب على أمصار المغرب الأوسط، وزاحم بني توجين وبني منديل هؤلاء بمناكبه، فلفتوا وجوههم جميعا إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص مديل الدولة بإفريقية من آل عبد المؤمن، وبعثوا إليه الصريخ على يغمراسن، فاحتشد لها جموع الموحدين والعرب، وغزا تلمسان وافتتحها كما ذكرناه. ولما قفل إلى الحضرة عقد مرجعه لأمراء زناتة كل على قومه ووطنه: فعقد للعباس بن منديل على مغراوة، ولعبد القوي على توجين ولأولاد حبورة على ملكيش، وسوغ لهم اتخاذ الآلة فاتخذوها بمشهد منه. وعقد العباس السلم مع يغمراسن، ووفد عليه بتلمسان فلقاه مبرة وتكريما، وذهب عنه بعدها مغاضباً. يقال إنه تحدث بمجلسه يوما، فزعم أنه رأى فارسا واحدا يقاتل مايتين من الفرسان، فنكر ذلك من سمعه من بني عبد الواد، وعرضوا تكذيبه، فخرج العباس لها مغاضبا حتى أتى قومه، وأتى يغمراسن مصداق قوله، فإنه كان يعني بذلك الفارس نفسه. وهلك العباس لخمس وعشرين سنة من بعد أبيه سنة سبع وأربعين، وقام بالأمر بعده أخوه محمد بن منديل، وصلحت الحال بينه وبين يغمراسن وصاروا إلى الاتفاق والمهادنة. ونفر معه بقومه مغراوة إلى غزو المغرب سنة كلدمان، وهي سنة سبع وأربعين وستماية، وهزمهم فيها يعقوب بن عبد الحق، فرجعوا إلى أوطانهم، وعاودوا شأنهم في العداوة. وانتقض عليهم أهل مليانة وخلعوا الطاعة الحفصية. وكان من خبر هذا الانتقاض أن أبا العباس أحمد الملياني كان كبير وقته علما ودينا ورواية، وكان عالي السند في الحديث، فرحل إليه بالأعلام، وأخذ عنه الأئمة، وأوفت به الشهرة على ثنايا السيادة، فانتهت إليه رياسة بلده على عهد يعقوب المنصور وبنيه. ونشأ ابنه أبو علي في جو هذه العناية، وكان جموحا للرياسة طامحا إلى الاستبداد، وهو مع ذلك خلو من المغارم. فلما هلك أبوه جرى في شاو رئاسته طلقا، ثم رأى ما بين مغراوة وبني عبد الواد من الفتنة، فحدثته نفسه بالاستبداد ببلده، فجمع لها
جراميزه، وقطع الدعاء للخليفة المستنصر سنة تسع وخمسين. وبلغ الخبر إلى تونس، فسرح الخليفة أخاه أبا حفص في عسكر من الموحدين في جملته "دون الريك بن هراندة" من آل أذفونشر ملوك الجلالقة، وكان نازعا إليه عن أبيه في طائفة من قومه، فنازلوا مليانة أياما. وداخل السلطان طائفة مر مشيخة البلد المنحرفين عن أبي علي الملياني، فسرب إليهم جندا بالليل، وافتحموها من بعض المداخل، وفر أبو علي الملياني تحت الليل. وخرج من بعض قنوات البلد، فلحق بأحياء العرب، ونزل على يعقوب بن موسى أمير العطاف من بطون زغبة، فأجاره إلى أن لحق بعدها بيعقوب بن عبد الحق، فكان من أمره ما ذكرناه في أخبارهم. وانصرف عسكر الموحدين والأمير أبو حفص إلى الحضرة، وعقدوا لمحمد بن منديل على مليانة، فأقام فيها الدعوة الحفصية على سنن قومه. ثم هلك محمد بن منديل سنة اثنتين وستين لخمس عشرة من ولايته، قتله أخواه ثابت وعياد بمنزل ظواعنهم بالخميس من بسيط بلادهم، وقتل معه عطية ابن أخيه منيف. وشاركه ثابت في الأمر واجتمع إليه قومه، وتقطع بين أولاد منديل، وخشنت صدورهم. واستغلظ يغمراسن بن زيان عليهم، وداخله عمر بن منديل أخوهم في أن يمكنه من مليانة، ويشد عضده على رياسة قومه، فشارطه على ذلك وأمكنه من أزمة البلد سنة ثمان وستين، ونادى بعزل ثابت ومؤازرة عمر عمى الأمر، فتم لهما ما أحكماه من أمرهما في مغراوة. واستمكن بها يغمراسن من قياد قومه. ثم تناغى أولاد منديل في الازدلاف إلى يغمراسن بمثلها نكاية لعمر، فاتفق ثابت وعايد أولاد منديل على أن يحكماه في تنس، فأمكناه منها سنة اثنتين وسبعين على اثني عشر ألفا من الذهب. واستمرت ولاية عمر إلى أن هلك لحنة ست وسبعين، فاستقل ثابت بن منديل برياسة مغراوة، وأجاز عايد أخوه إلى الأندلس للرباط والجهاد مع صاحبه زيان بن محمد بن عبد القوي، وعبد الملك بن يغمراسن فحول زناتة واسترجع ثابت بلاد تنس ومليانة من يد يغمراسن، ونبذ إليه العهد. ثم استغلظ يغمراسن عليهم واسترد تنس سنة إحدى وثمانين بين يدي مهلكه.
ولما هلك يغمراسن وقام بالأمر ابنه عثمان انتقضت عليه تنس؛ ثم ردد الغزو إلى بلاد توجين ومغراوة حتى غلبهم آخرا على ما بأيديهم، وملك المرية بمداخلة بني لمدية أهلها سنة سبع وثمانين. وغلب ثابت بن منديل على مازونة، فاستولى عليها، ثم نزل له عن تنس أيضاً فملكها. ولم يزل عثمان مراغماً لهم إلى أن زحف إليهم سنة ثلاث وتسعين، فاستولى على أمصارهم وضواحيهم، وأخرجهم عنها، وألجأهم إلى الجبال. ودخل ثابت بن منديل إلى برشك ممانعا دونها، فزحف إليه عثمان وحاصره بها، حتى إذا استيقن أنه احيط به، ركب البحر إلى المغرب، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين صريخا سنة أربع وتسعين، فأكرمه ووعده بالنصرة من عدوه، وأقام بفاس. وكانت بينه وبين ابن الأشهب من رجالات بني عسكر صحابة ومداخلة، فجاء بعض الأيام إلى منزله، ودخل عليه من غير استئذان؟ وكان ابن الأشهب تملا، فسطا به وقتله. وثار السلطان به منه، وانفجع لموته. وكان ثابت بن منديل قد أقام ابنه محمدا للأمر في قومه، وولاه عليهم لعهده، واستبد بملك مغراوة دونه، ولما انصرف أبوه ثابت إلى المغرب أقام هو بأمارته على مغراوة. وهلك قريبا من مهلك أبيه، فقام بأمرهم من بعده شقيقه علي. ونازعه الأمر أخواه رحمون ومنيف، فقتله منيف، ونكر ذلك هو منهم، وأبوا من أمارتهما علبهم، فلحقا بعثمان بن يغمراسن، فأجازهما إلى الأندلس. وكان أخوهما معمر بن ثابت قائدا على الغزاة بالبغيرة فنزل لمنيف عنها، فكانت أول ولاية وليها بالأندلس. ولحق بهم أخوهم عبد المؤمن، فكانوا جميعا هنالك. ومن أعقاب عبد المؤمن يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن، ومن أعقاب منيف بن عمر بن منيف، وجماعة منهم هم لهذا العهد بوطن الأندلس. ولما هلك ثابت بن منديل سنة أربع وتسعين كما قلناه، كفل السلطان ولده "وأهله، وكان فيهم حافده راشد بن محمد، فأصهر إليه في أخته فأنكحه إياها. ونهض إلى تلمسان سنة ثمان وتسعين، فأناخ عليها واختط مدينة لحصارها
وسرح عساكر في نواحيها. وعقد على مغراوة وشلف لعمر بن ويغرن بن منديل، وبعث معه جيشا فافتتح مليانة وتنس ومازونة سنة تسع وتسعين، ووجد راشد في نفسه إذ لم يوليه على قومه، وكان يرى أنه الأحق بنسبه وصهره، فنزع عن السلطان، ولحق بجبال متيجة، ودس إلى أوليائه في مغراوة حتى وجد فيهم الدخلة، فأغذ السير ولحق بهم، فافترق أمر مغراوة. وداخل أهل مازونة، فانتقضوا على السلطان وبيت عمر بن ويغرن بأزمور من ضواحي بلادهم فقتله. واجتمع عليه قومه، وسرح السلطان إليه الكتائب من بني عسكر لنظر الحسن بن علي بن أبي الطلاق، ومن بني ورتاجن لنظر علي بن محمد الخيري، ومن بني توجين لنظر أبي بكر بن إبراهيم بن عبد القوي، ومن الجند لنظر علي بن حسان الصبحي من صنائعه. وعقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل، وزحفوا إلى مازونة، وقد ضبطها راشد، وخلف عليها عليا وحمو ابني عمه يحيى بن ثابت. ولحق هو ببني بو سعيد مطلا عليهم وأناخت العساكر بمازونة، ووالوا عليها الحصار سنتين حتى أجهدوهم. وبعث علي بن يحيى أخاه حمو إلى السلطان من غير عهد، فتقبض عليه. ثم اضطره الجهد إلى مركب الغرور، فخرج إليهم ملقيا بيده سنة ثلاث. وأشخصه إلى السلطان فعفا عنه، واستبقاه، واحتسبهما تأنيسا واستمالة لراشد. ثم سرح العساكر إلى قاصية الشرق لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب، فنازل راشد بن محمد في معقل بني بو سعيد، وطال حصاره إياه، وأمكنته الغرة بعض الأيام في العساكر، وقد تعلقوا بأوعار الجبل زاحفين إليه، فهزمهم. وهلك في تلك الواقعة خلق حن بني مرين وعساكر السلطان، وذلك سنة أربع وسبعماية. وبلغ الخبر إلى السلطان، فأحفظه ذلك عليهم، وأمر بابن عمه علي بن يحيى وأخيه حمو ومن معهم من قومهم، فقتلوا رشقا بالسهام واستلحمهم.
ثم سرح أخاه أبا يحيى بن يعقوب ثانية سنة أربع، فاستولى على بلاد مغراوة، ولحق راشد بجبال صنهاجة من متيجة، ومعه عفه منيف بن ثابت، ومن اجتمع إليهم من الثعالبة، فنازلهم أبو يحنى بن يعقوب. وراسل راشد يوسف بن يعقوب فانعقدت بينهما السلم، ورجعت العساكر عنهم. وأجاز منيف بن ثابت مع بنيه وعشيرته إلى الأندلس، فاستقروا هنالك آخر الأيام. ولما هلك يوسف بن يعقوب بمناخه على تلمسان آخر سنة ست، وانعقدت السلم بين حافده أبي ثابت، وبين أبي زيان بن عثمان سلطان بني عبد الواد على أن يخلي له بنو مرين عن جميع ما ملكوه من أمصارهم وأعمالهم وثغورهم، وبعثوا في حاميتهم وعمالهم وأسلموها لعمال أبي زيان. وكان راشد قد طمع في استرجاع بلاده، وزحف إلى مليانة فأحاط بها. فلما نزل عنها بنو مرين لأبي زيان وصارت مليانة وتنس له، أخفق سعي راشد وأفرج عن البلد. ثم كان مهلك أبي زيان قريبا، وولى أخوه أبو حمو موسى بن عثمان. واستولى على المغرب الأوسط، فملك تافر كينت سنة سبع، وملك بعدها مليانة والمرية، ثم ملك ننس وعقد عليها لمسامح مولاه، وقارن ذلك حركة صاحب بجاية السلطان أبي البقاء خالد ابن مولانا الأمير أبي زكرياء ابن السلطان أبي إسحاق إلى متيجة لاسترجاع الجزائر من بد ابن علان الثائر عليهم، فلقيه هنالك راشد بن محمد، وصار في جملته، وظاهره على شأنه. ولقاه السلطان تكرمة وبرأ، وعقد له ولقومه حلفا مع صنهاجة أولياء الدولة والمتغلبين على ضاحية بجاية وجبال زواوة، فاتصلت يد راشد بيد زعيمهم يعقوب بن خلوف أحد وزراء الدولة. ولما نهض السلطان خالد للاستئثار بملك الحضرة تونس استعمل يعقوب بن خلوف على بجاية، وعسكر راشد معه بقومه، وأبلى في الحروب بين يديه وأغنى في مظاهرة أوليائه، حتى إذا ملك حضرتهم، واستولى على تراث سلفهم، أسف حاجب الدولة راشد هذا وقومه بإمضاء الحكم في بعض حشمه، تعرض للخرابة في السابلة فنقبض عليه، ورفع إلى سدة السلطان، فأمضى فيه حكم الله. وذهب راشد مغاضبا، ولحق بوليه ابن خلوف ومضطر به من زواوة. وكان يعقوب بن خلوف قد هلك، وولى السلطان مكانه ابنه عبد الرحمن، فلم يرع حق أبيه في إكرام صديقه راشد. وتشاجر معه في بعض الأيام مشاجرة نكر عبد الرحمن فيها ملاحاة راشد له، وأنف منها، وأدل فيها راشد بمكانه من الدولة وببأس قومه، فلذعه بالقول، وتناوله عبد الرحمن وحشمه وخزاً بالرماح إلى أن أقعصوه. وانذعر جميع مغراوة، ولحقوا بالثغور القاصية، فأقفر منهم شلف وما إليه كأن لم يكونوا به. وأجاز منهم بنو منيف وبنو ويغرن إلى الأندلس للمرابطة بثغور المسلمين، فكانت منهم حامية موطنة هنالك أعقابهم لهذا العهد. وأقام في جوار الموحدين فل آخر من أوساط قومهم كانوا شوكة في عساكر الدولة إلى أن انقرضوا. ولحق علي بن راشد طفلا بعمته في قصر بني يعقوب بن عبد الحق فكفلته، وصار أولاد منديل عصبا إلى وطن بني مرين، فتولوهم وأحسنوا جوارهم، وأصهروا إليهم سائر الدولة، إلى أن تغلب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط ومحا دولة آل زيان، وجمع كلمة زناتة، وانتظم مع بلادهم بلاد إفريقية وعمل الموحدين، وكانت نكبته على القيروان صدر سنة تسع وأربعين كما شرحناه قبل. وانتقضت العمالات والأطراف، وانتزى أعياص الملك بمواطنهم الأولى، فتوثب علي بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل على بلاد شلف، وتملكها وتغلب على أمصارها: مليانة وتنس وبرشك وشرشال، وأعاد ما كان لسلفه فيها من الملك على طريقتهم البدوية، وأرهفوا حدهم لمن طالبهم من القبائل. وخلص السلطان أبو الحسن من ورطته بإفريقية، ثم من ورطة البحر بمرسى بجاية إلى الجزائر يحاول استرجاع ملكه المفترق، فبعث إلى علي بن راشد وذكره ذمته فتذكر وحن، واشترط لنفسه التجافي عن ملك قومه بشلف، على أن يظاهره على بني عبد الواد فأبى السلطان أبو الحسن من اشتراط ذلك له، فتحيز عنه إلى فيئة بني عبد الواد الناجمين بتلمسان كما ذكرناه قبل، وظاهرهم عليه. وبرز إليهم السلطان أبو الحسن من الجزائر، والتقى الجمعان بشربوبة سنة إحدى وخمسين، فاختل مصاف السلطان أبي الحسن، وانهزم جمعه، وهلك ابنه الناصر، طاح دمه في مغراوة هؤلاء. وخرج إلى الصحراء ولحق منها بالمغرب الأقصى كما نذكره بعد. وتطاول الناجمون بتلمسان من آل يغمراسن إلى انتظام بلاد مغراوة في ملكهم كما كان
لسلفهم؛ فنهض إليهم بعساكر بني عبد الواد رديف سلطانهم وأخوه أبو ثابت الزعيم بن عبد الرحمن بن يغمراسن فأوطأ قومه بلاد مغراوة سنة اثنتين وخمسين، وفل جموعهم، وغلبهم على الضاحية والأمصار. وأحجر علي بن راشد بتنس في شرذمة من قومه، وأناخ بعساكره عليه وطال الحصار ووقع الغلب. ولما رأى علي بن راشد أن قد احيط به دخل إلى زاوية من زوايا قصره، وانتبذ فيها عن الناس، وذبح نفسه بحد حسامه وصار مثلا وحديثا للأخرين. واقتحم البلد لحينه، واستلحم من عثر عليه من مغراوة، ونجا الآخرون إلى أطراف الأرض، ولحقوا بأهل الدول، فاستركبوا واستلحقوا وصاروا جندا للدول، وحشما واتباعا، وانقرض أمرهم من بلاد شلف. ثم كانت لبني مرين الكرة الثانية إلى تلمسان، وغلبوا آل زيان، ومحوا آثارهم. ثم فاء ظلهم بملك السلطان أبي عنان، وحسر تيارهم. وجدد الناجمون من آل يغمراسن دولة ثالثة بمكان عملهم على يد أبي حمو الأخير ابن موسى بن يوسف كما نذكره في أخبارهم. ثم كانت لبني مرين الكرة الثالثة إلى بلد تلمسان ونهض السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن إليها فاتح سنة اثنتين وسبعين، وسرح عساكره في أتباع أبي حمو الناجم بها من آل يغمراسن حين فر أمامه في قومه وأشياعه من العرب كما يأتي ذلك كله. ولما انتهت العساكر إلى البطحاء تلوموا هنالك أياما لإزاحة عللهم. وكان في جملتهم صبي من ولد علي بن راشد الذبيح اسمه حمزة، ربي يتيما في حجر دولتهم لذمام الصهر الذي لقومه فيهم، فكفلته نعمتهم وكنفه جوهم، حتى شب واستوى وسخط رزقه في ديوانهم وحاله بين ولدانهم. واعترض بعض الأيام قائد الجيوش الوزير أبا بكر بن غازي شاكيا، فجبهه وأساء رده، فركب الليل، ولحق بمعقل بني بو سعيد من بلد شلف، فأجاروه ومنعوه، ونادى بدعوة قومه فأجابوه. وسرح إليهم السلطان عبد العزيز وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة كبير تيربيغين في جيش كثيف من بني مرين والجند، فنزل بساحة ذلك الجبل، فحاصرهم حولا كريتا ينال منهم وينالون منه وامتنعوا عليه وانهم السلطان وزيره بالمداهنة، وسعى به منافسوه، فتقبض عليه، وسرح وزيره الأخر أبا بكر بن غازي، فنهض يجر العساكر الضخمة والجيوش الكثيفة إلى أن نزل
بهم وصبجهم القتال، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأنزلهم من معقلهم. وفر حمزة بن علي في فل من قومه، فلحق ببلاد خصين المنتقضين كانوا على الدولة مع أبي زيان بن أبي سعيد الناجم من آل يغمراسن حسبما نذكر. وأتى بنو أبي سعيد طاعتهم، وأخلصوا الضمائر في مغيبهم، وحسن موقعها. وبدا لحمزة في الرجوع إليهم، فأغذ السير في لمة من قومه، حتى إذا ألم بهم نكروه لمكان ما اعتقلوا به صت حبل الطاعة، فتسهل إلى البسائط وقصد تيمزوغت يظز بها غرة ينتهزها. وبرزت إليه حاميتها ففلوا حده وردوه على عقبه، وتسابقوا في أتباعه إلى أن تقبضوا عليه، وقادوه إلى الوزير ابن غازي بن الكاس. فأوعز إليه السلطان بقتله في جملة أصحابه، فضرب أعناقهم، وبعث بها إلى سدة السلطان. وصلب أشلاءهم على خشب مسندة نصبها لهم ظاهر مليانة، وامحى أثر مغراوة، وانقرض أمرهم، وأصبحوا خولا للأمراء، وجندا في الدول، وأوزاعا في الأقطار كما كانوا قبل هذه الدولة الأخيرة لهم. والبقاء لله وحده، وكل شيء هالك إلا وجهه.
دولة بني عبد الواد الخبر عن دولة بني عبد الواد من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم بتلمسان وبلاد المغرب الأوسط من الملك والسلطان وكيف كان مبدأ أمرهم ومصائر أحوالهم قد تقدم لنا في أول هذه الطبقة الثانية من زناتة ذكر بني عبد الواد هؤلاء، وأنهم من ولد بادين بن محمد إخوة توجين ومصاب وزردال وبني راشد، وأن نسبهم يرتفع إلى زحيك بن واسين بن ورشيك بن جانا، وذكرنا كيف كانت حالهم قبل الملك في مواطنهم تلك. وكان إخوانهم بمصاب وجبل راشد وفيكيك وملوية، ووصفنا من حال فتنتهم مع بني مرين إخوانهم المجتمعين معهم بالنسب في زحيك بن واسين. ولم يزل بنو عبد الواد هؤلاء بمواطنهم تلك، وكان إخوانهم بنو راشد وبنو زردال وبنو مصاب منجدين إليهم بالنسب والحلف، وبنو توجين منابذين لهم أكثر أزمانهم، ولم يزالوا جميعا متغلبين على ضاحية المغرب الأوسط عامة الأزمان، وكانوا تبعا فيه لبني ومانوا وبني يلومي حين كان لهم التغلب فيه. وربما يقال إن شيخهم لذلك العهد كان يعرف بيوسف بن تكفا، حتى إذا نزل عبد المؤمن والموحدون نواحي تلمسان، وسارت عساكرهم إلى بلاد زناتة تحت راية الشيخ أبي حفص، فأوقعوا بهم كما ذكرناه، حسنت بعد ذلك طاعة بني عبد الواد وانحياشهم إلى الموحدين، وكانت بطونهم وشعوبهم كثيرة أظهرها فيما يذكرون ستة: بنو ياتكين وبنو وللو وبنو ورصطف ومصموحة وبنو تومرت وبنو القاسم. ويقولون بلسانهم ايت القاسم، وايت حرف الإضافة النسبية عندهم. ويزعم بنو القاسم هؤلاء أنهم من ولد القاسم بن إدريس. وربما قالوا في هذا القاسم أنه ابن محمد بن إدريس أو ابن محمد بن عبد الله أو ابن محمد بن القاسم، وكلهم من أعقاب إدريس، مزعماً لا مستند له إلا اتفاق بني القاسم هؤلاء عليه، مع أن البادية بعداء عن معرفة مثل هذه الأنساب. والله أعلم بصحة ذلك. وقد قال يغمراسن بن زيان أبو ملوكهم لهذا العهد لما رفع نسبهم إلى إدريس كما يذكرونه، فقال برطانتهم ما معناه: إن كان هذا صحيحا فينفعنا عند الله. وأما الدنيا فإنما نلناها بسيوفنا. ولم تزل رياسة بني عبد الواد في بني القاسم لشدة شوكتهم، واعتزاز
عصبتهم، وكانوا بطونا كثيرة: فمنهم بنو يكنيمن بن القاسم. وكان منهم ويغرن بن مسعود بن يكنيمن وأخواه يكنيمن وعمر، وكان أيضا أعدوي بن يكنيمن الأكبر، ويقال الأصغر. ومنهم أيضا عبد الحق بن منغفاد من ولد ويغرن. وكانت الرياسة عليهم لعهد عبد المؤمن لعبد الحق بن منغفاد واعدوى بن يكنيمن. وعبد الحق بن منغفاد هو الذي استنفد الغنائم من يد بني مرين، وقتل المخضب بمسوف حين بعثه عبد المؤمن مع الموحدين لذلك. والمؤرخون يقولون عبد الحق بن معاد بميم وعين مهملة مفتوحتين وألف بعدها دال؟ وهو غلط، وليس هذا اللفظ بهذا الضبط من لغة زناتة، وإنما هو تصحيف منغفاد بميم ونون بعدها مفتوحتين، وغين بعدهما معجمة ساكنة وفاء مفتوحة، والله أعلم. ومن بطون بني القاسم بنو مطهر بن يمل بن يزكن بن القاسم. وكان حمامة بن مطهر من شيوخهم لعهد عبد المؤمن، وأبلى في حروب زناتة مع الموحدين، ثم حست طاعته وانحياشه ومن بطون بني القاسم أيضا بنو علي؛ وإليهم انتهت رياستهم، وهم أشدهم عصبية وأكثرهم جمعا، وهم أربعة أفخاذ: بنو طاع الله وبنو دلول وبنو كمي وبنو معطي بن جوهر، والأربعة بنو علي. ونصاب الرياسة في بني طاع الله لبني محمد بن زكدان بن تيدوكسن بن طاع الله. هذا ملخص الكلام في نسبهم. ولما ملك الموحدون بلاد المغرب الأوسط وبلوا من طاعتهم وأنحياشهم ما كان سببا لاستخلاصهم؛ فأقطعوهم عامة بلاد بني يلومي وبني ومانوا، وأقاموا بتلك المواطن، وحدثت الفتنة بين بني طاع الله وبني كمي إلى أن قتل كندوز سن بني كمي زيان بن ثابت كبير بني محمد بن زكدان وشيخهم. وقام بأمرهم بعده جابر ابن عمه يوسف بن محمد؟ فثار من كندوز بزيان ابن عمه، وقتله به في بعض أيامهم وحروبهم.
ويقال قتله غيلة، وبعث برأسه ورؤوس أصحابه إلى يغمراسن بن زيان بن ثابت، فنصبت عليها القدور أثافي شفاية لنفوسهم من شأن أبيه زيان. وافترق بنو كفي، وفر بهم عبدالله ن كندوز كبيرهم، فلحقوا بتونس. ونزل على الأمير أبي زكرياء كما سنذكره بعد. واستبد جابر بن يوسف بن محمد برياسة بني عبد الواد. وأقام هذا الحي من بني عبد الواد بضواحي المغرب الأوسط، حتى إذا فشل ريح بني عبد المؤمن، وانتزى يحيى بن غانية على جهات قابس وطرابلس، وردد الغزو والغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها وعاث فيها، وكبس الأمصار فاقتحمها، وانتهب بلاد زناتة، وقتل أمراءهم ، ودخل تلمسان ووهران واستباحهما وغيرهما من بلاد المغرب الأوسط، وألح على تاهرت بالغارة وإفساد السابلة وانتهاب الزرع، وحطم النعم، إلى أن خربت وعفى رسمها لسني الثلاثين من الماية السابعة. وكانت تلمسان لذلك العهد نزلا للحامية ومناخا للسيد من القرابة الذي يضم نثرها، وبذب عن أنحائها. وكان المأمون استعمل على تلمسان أخاه السيد أبا سعيد، وكان غفلا ضعيف التدبير. وغلب الحسن بن حبون من مشيخة قومه كومية، وكان عاملا على الوطن، وكانت في نفسه من بني عبد الواد ضغائن جرها ما كان حدث لهم من التغلب على الضاحية وأهلها، فأغرى السيد أبا سعيد بجماعة مشيخة منهم وفدوا عليه، فتقبض عليهم واعتقلهم. وكان في حامية تلمسان لمة من بقايا لمتونة تجافت الدولة عنهم، وأثبتهم عبد المؤمن في الديوان، وجعلهم مع الحامية. وكان زعيمهم في ذلك العهد إبراهيم بن إسماعيل بن علان، وشفع عندهم في المشيخة المعتقلين من بني عبد الواد، فردوه فغضب وحمى أنفه، وأجمع الانتقاض والقيام بدعوة ابن غانية، فجدد ملك المرابطين من قومه بقاصية الشرق، فاغتار الحسن بن حبون لحينه، وتقبض على السيد أبي سعيد، وأطلق المشيخة من بني عبد الواد، ونقض طاعة المأمون، وذلك سنة أربع وعشرين. فطير الخبر إلى ابن غانية فأغذ إليه السير. ثم بدا له في أمر بني عبد الواد، ورأى أن ملاك أمره في خضد شوكتهم وخفض جناحهم، فحدث نفسه بالفتك بمشيختهم، ومكر بهم في دعوة واعدهم لها. وفطن لتدبير ذلك جابر بن يوسف شيخ بني عبد الواد، فواعده اللقاء والمؤازرة، وطوى له على النث، وخرج إبراهيم بن علان إلى لقائه، ففتك به جابر. وبادر إلى البلد فنادى بدعوة المأمون
وطاعته، وكشف لأهلها القناع عن مكر ابن علان بهم، وما أوقعهم فيه من ورطة ابن غانية، فحمدوا رأيه وشكروا جابراً على صنيعه، وجددوا البيعة للمأمون. واجتمع إلى جابر في أمره هذا كافة بني عبد الواد وأحلافهم من بني راشد، وبعث إلى المأمون بطاعته واعتماله في القيام بدعوته، فخاطبه بالشكر، وكتب له العهد على تطمسان وسائر بلاد زناتة على رسم السادة الذين كانوا يلون ذلك من القرابة، فاضطلع بأمر المغرب الأوسط، وكانت هذه الولاية ركابا إلى صهوة الملك الذي اقتعدوه. ثم انتقض عليه أهل ندرومة بعد ذلك، فنازلهم، وهلك في حصارها بسهم غرب أثبته سنة تسع وعشرين. وقام بالأمر من بعده ابنه الحسن، وجدد له المأمون عهده بالولاية، ثم ضعف عن الأمر وتخفى عنه لستة أشهر من ولايته. ودفع إليه عمه عثمان بن يوسف، وكان سيء الملكة كثير العسف والجور، فثارت به الرعايا بتلمسان وأخرجوه سنة إحدى وثلاثين، وارتضوا لمكانه ابن عمه زكران بن زيان بن ثابت الملقب بأبي عزة فاستدعوه لها، وولوه على أنفسهم وبلدهم، وسلموا له أمرهم. وكان مضطلعا بأمر زناتة مستبداً برياستهم ومستوليا على سائر الضواحي، فنفس أبو مطهر عليه وعلى قومه بني علي إخوانهم ما آتاهم الله من الملك، وأكرمهم به من السلطان. وجسدوا زكران وسلفه فيما صار لهم من الملك، فشاقوه ودعوا إلى الخروج عليه. واتبعهم بنو راشد بن محمد أحلافهم منذ عهد الصحراء، وجمع لهم أبو عزة سائر قبائل بني عبد الواد، فكانت بينه وبينهم حرب سجال هلك في بعض أيامها سنة ثلاث وثلاثين. وقام بالأمر من بعده أخوه يغمراسن بن زيان، فوقع التسليم والرضى به من سائر القبائل، ودان له بالطاعة جميع الأمصار. وكتب له الخليفة الرشيد بالعهد على عمله، وكان له ذلك سلما إلى الملك الذي أورثه بنيه سائر الأيام.
الخبر عن تلمسان وما تأدى إلينا من أحوالها من لدن الفتح إلى أن تأثل بها سلطان بني عبد الواد ودولتهم: هذه المدينة قاعدة المغرب الأوسط، وأم بلاد زناتة اختطها بنو يفرن بما كانت في مواطنهم، ولم نقف على أخبارها فيما قبل ذلك. وما يزعم بعض العوام من ساكنها أنها صفحة فراغ أزلية البناء، وإن الجدار الذي ذكر في القرآن في قصة الخضر وموسى عليهما السلام هو بناحية أكادير منها، فأمر بعيد ني التحصيل، لأن موسى عليه السلام لم يفارق المشرق إلى المغرب، وبنو إسرائيل لم يتسع ملكهم لإفريقية فضلاً عما وراءها، وإنما هي من مقالات التشيع المجبول عليه أهل العالم في تفضيل ما ينسب إليهم أو ينسبون إليه من بلد أو أرض أو علم أو صناعة. ولم نقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأن أبا المهاجر الذي ولي إفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية توغل في ديار المغرب، ووصل إلى تلمسان، وبه سميت عيون المهاجر قريبا منها. وذكرها الطبري عند ذكر أبي قرة اليفرني وأجلابه مع أبي حاتم والخوارج مع عمر بن حفص بطبنة. ثم قال فأفرجوا عنه، وانصرف أبو قرة إلى مواطنه بنواحي تلمسان. وذكرها ابن الرقيق أيضاً في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل استبداده بإفريقية، وأنه توغل في غزوه إلى المغرب ونزلها، واسمها في لغة زناتة مركب من كلمتين تلم سين ومعناهما تجمع من اثنين، يعنون إلى البر والبحر. ولما خلص إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن إلى المغرب الأقصى واستولى عليه، نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين فتلقاه محمد بن خزر بن صولات أمير زناتة وتلمسان، فدخل في طاعته وحمل عليها مغراوة وبني يفرن، وأمكنه من تلمسان فملكها، واختط مسجدها، وصنع منبره، وأقام بها أشهرا وانكفأ راجعا إلى المغرب. وجاء على أثره من المشرق أخوه سليمان بن عبد الله، فنزلها وولاه أمرها. ثم هلك إدريس، وضعف أمرهم. ولما بويع لابنه إدريس من بعده، واجتمع إليه برابرة
المغرب، نهض إلى تلمسان سنة تسع وتسعين وماية، فجدد مسجدها وأصلح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين، ودوخ فيها بلاد زناتة، واستوسقت له طاعتهم. وعقد عليها لبني محمد ابن عفه سليمان. ولما هلك إدريس الأصغر، واقتسم بنوه أعمال المغربين بإشارة أمه كنزة، كانت تلمسان في سهمان عيسى بن إدريس ن محمد بن سليمان وأعمالها لبني أبيه محمد بن سليمان. فلما انقرضت دولة الأدارسة من المغرب، وولي أمره موسى بن أبي العافية بدعوة الشيعة، نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة، وغلب عليها أميرها لذلك العهد الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان، ففرعنها إلى مليلة، وبنى حصناً لامتناعه بناحية نكور، فحاصره مدة، ثم عقد له سلما على حصنه. ولما تغلب الشيعة على المغرب الأوسط أخرجوا أعقاب محمد بن سليمان من سائر أعمال تلمسان، فأخذوا بدعوة بني امية من وراء البحر وأجازوا إليهم. وتغلب يعلى بن محمد اليفرني على بلاد زناتة والمغرب الأوسط؟ فعقد له الناصر الأموي عليها وعلى تلمسان أعوام أربعين وثلاثماية. ولما هلك يعلى، وقام بأمر زناتة بعده محمد بن الخير بن محمد بن خزر داعية الحكم المستنصر، فملك تلمسان أعوام ستين. وهلك في حروب صنهاجة، وغلبوهم على بلادهم، وانجلى إلى المغرب الأقصى. ودخلت تلمسان في عمالة صنهاجة إذ انقسمت دولتهم، وافترق أمرهم. واستقل بإمارة زناتة وولاية المغرب زيري بن عطية؟ وطرده المنصور بن أبي عامر عن المغرب، فصار إلى بلاد صنهاجة، وأجلب عليها، ونازل معاقلها وأمصارها: مثل تلمسان ووهران وتنس وأشير والمسيلة. ثم عقد المظفر بعد حين لابنه المعز بن زيري على عمل المغرب سنة ست وتسعين، واستعمل على تلمسان ابنه يعلى بن زيري، واستقرت ولايتها في عقبه إلى أن انقرض أمرهم على يد لمتونة. وعقد يوسف بن تاشفين عليها لمحمد بن تينعمر المسوفي وأخيه تاشفين من بعده، واستحكمت الفتنة بينه وبين المنصور بن الناصر صاحب القلعة من ملوك بني حماد، ونهض إلى تلمسان وأخذ بمخنقها، وكان يغلب عليها كما ذكرنا ذلك كله في مواضعه.
ولما غلب عبد المؤمن لمتونة، وقتل تاشفين بن علي بوهران خربها وخرب تلمسان بعد أن قتل الموحدون عامة أهلها، وذلك أعوام أربعين من الماية السادسة. ثم راجع رأبه فيها، وندب الناس إلى عمرانها، وجمع الأيدي على رم ما تثلم من أسوارها وعقد عليها لسليمان بن وانودين من مشايخ هنتاتة وآخى بين الموحدين وبين هذا الحي من بني عبد الواد بما بلى من طاعتهم وانحياشهم. ثم عقد عليها لابنه السيد أبي حفص، ولم بزل آل عبد المؤمن من بعد ذلك يستعملون عليها من قرابتهم وأهل بيتهم، ويرجعون إليه أمر المغرب كله وزناتة أجمع، اهتماما بأمرها واستعظاما لعملها. وكان هؤلاء الأحياء من زناتة بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو راشد قد غلبوا على ضواحي تلمسان والمغرب الأوسط، وملكوها وتقلبوا في بسائطها، واحتازوا بأقطاع الدولة الكثير من أرضها والطيب من بلادها والوافر للجباية من قبائلها، فإذا خرجوا إلى مشايخهم بالصحراء خلفوا أتباعهم بالتلول لاعتمار أرضهم وازدراع فدنهم وجباية الخراج من رعاياهم. وكان بنو عبد الواد من ذلك فيما بين البطحاء وملوية، ساحله وريفه وصحراءه. وصرف ولاة الموحدين بتلمسان من السادة نظرهم واهتمامهم إلى تحصينها وتشييد أسوارها، وحشد الناس إلى عمرانها، والتناغي في تمصيرها واتخاذ الصروح والقصور بها والاحتفال في مقاصر الملك واتساع خطة الدور. وكان من أعظمهم اهتماما بذلك وأوسعهم فيه نظرا السيد أبو عمران موسى ابن أمير المؤمنين يوسف العشري ووليها سنة ست وخمسين على عهد أبيه يوسف بن عبد المؤمن. واتصلت أيام ولايته فيها، فشيد بناءها وأوسع خطتها وأدار سياج الأسوار عليها. ووليها من بعد السيد أبو الحسن بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن، وتقبل فيها مذهبه. ولما كان من أمر بني غانية وخروجهم من ميورقة سنة إحدى وثمانين ما قدمناه وكبسوا بجاية فملكوها، وتخطوا إلى الجزائر ومليانة فغلبوا عليهما، تلافى السيد أبو الحسن أمره بإمعان النظر في تشييد أسوارها والاستبلاغ في تحصينها، وسد فروجها، وأعماق الحفائر نطاقا عليها، حتى صيرها أمنع معاقل المغرب، وأحسن أمصاره. وتقبل ولاتها بهذا المذهب من بعده في المعتصم بها. واتفق من الغرائب أن أخاه
السيد أبا زيد هو الذي دفع لحرب بني غانية، فكان لهما في رقع الخرق والمدافعة عن الدولة آثار. وكان ابن غانية قد اجتمع إليه ذؤبان العرب من الهلاليين بإفريقية، وخالفهم زغبة إحدى بطونهم إلى الموحدين، وتحيزوا إلى زناتة المغرب الأوسط، وكان مفزعهم جميعا ومرجع نقضهم وإبرامهم إلى العامل بتلمسان من السادة في مثواهم وحامي حقيقتهم. وكان ابن غانية كثيرا ما يجلب على ضواحي تلمسان وبلاد زناتة ويطرقها بمن معه من ناعق الفتنة إلى أن خرب الكثير من أمصارها مثل تاهرت وغيرها فأصبحت تلمسان قاعدة المغرب الأوسط، وأم هؤلاء الأحياء من زناتة المغرب، والكافلة لهم المهيئة في حجرها مهاد نومتهم بما خربت المدينتان اللتان كانتا من قبل قواعد الدول السالفة والعصور الماضية وهما: أرشكول بسيف البحر، وتاهرت فيما بين الريف والصحراء قبلة البطحاء. وكان خراب هاتين المدينتين فيما خرب من أمصار المغرب الأوسط في فتنة ابن غانية، وبأجلاب هؤلاء الأحياء من زناتة وطلوعهم على أهلها بسوم الخسف والعيث والنهب، وتخطف الناس من السابلة وتخريب العمران، ومغالبتهم حاميتها من عساكر الموحدين: مثل قصر عجيسة وزرقة والخضراء وشلف ومتيجة وحمزة ومرسى الدجاج والجعبات والقلعة، فلم تبصر بها نار ولا لفحت بها لنافخ ضرمة، ولا صرخت لها أخر الدهر ديكة. ولم يزل عمران تلمسان يتزايد، وخطتها تتسع، والصروح بها بالاجر والقرميد تعالى وتشاد؛ إلى أن نزلها آل زيان واتخذوها دارا لملكهم وكرسيا لسلطانهم فاختطوا بها القصور المونقة والمنازل الحافلة واغترسوا الرياض والبساتين وأجروا خلالها المياه، فأصبحت أعظم أمصار المغرب. ورحل إليها الناس من القاصية، ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع فنشأ بها العلماء، واشتهر فيها الأعلام. وضاهت أمصار الدول الإسلامية والقواعد الخلافية. والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك والدولة بتلمسان وما إليها وكيف مهد الأمر لقومه و أصاره تراثا لبنيه: كان يغمراسن بن زيان بن ثابت بن محمد من أشد هذا الحي بأسا، وأعظمهم في
النفوس مهابة وجلالة، وأعرفهم بمصالح قبيله، وأقواهم كاهلا على حماى الملك واضطلاعا بالتدبير والرياسة، مهدت له بذلك آثار قبل الملك وبعده. وكان مرموقا بعين التجلة مؤملاً للأمر عند المشيخة. وتعظمة من أمره عند الخاصة، ويفزع إليه في نوائبه العامة. فلما ولي هذا الأمر بعد مهلك أخيه أبي عزة زكدان بن زيان سنة ثلاث وثلاثين، فقام به أحسن قيام، واضطلع بأعبائه، وظهر على بني مطهر وبني راشد الخارجين على أخيه، وأصارهم في جملته وتحت سلطانه. وأحسن السيرة في الرعية، واستمال عشيره وقبيله وأحلافهم من زغبة بحسن السياسة والاصطناع وكرم الجوار، واتخذ الآلة ورتب الجنود والمسالح، واستلحق العساكر من الروم والغز رامحة وناشبة. وفرض العطاء واتخذ الوزراء والكتاب، وبعث في الجهات العمال، ولبس شارة الملك والسلطان، واقتعد الكرسي ومحا من آثار الدولة المؤمنية، وعطل من الأمر والنهي دستها، ولم يترك من رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش، وتناول التقليد والعهد من يده تأنيسا للكافة ومرضاة للأكفاء من قومه. ووفد عليه لأول دولته ابن وضاح إثر دولة الموحدين، أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس، فآثره وقرب مجلسه وأكرم نزله، وأحله من الخلة والشورى بمكان اصطفاه له. ووفد في جملته أبو بكر بن الخطاب المبايع لأخيه بمرسية، وكان مرسلا بليغا، وكاتبا مجيدا، وشاعرا محسناً، فاستكتبه وصدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحدين بمراكش وتونس في عهود بيعاتهم ما تنوقل وحفظ. ولم يزل يغمراسن محاميا عن غيله محاربا لعدوه. وكانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن ومديلهم من آل أبي حفص مواطن في التمرس به ومنازلة بلده، نحن ذاكروه كذلك. وبينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب وبعد ملكه وقائع متعددة. وله على زناتة الشرق من توجين ومغراوة في فل جموعهم، وانتساف بلادهم وتخريب أوطانهم أيام مذكورة وآثار معروفة، نشير إلى جميعها إن شاء الله تعالى. الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكرياء علي تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته: ولما استقل يغمراسن بن زيان بأمر تلمسان والمغرب الأوسط، وظفر بالسلطان، وعلا
كعبه على سائر أحياء زناتة، قسوا عليه ما آتاه الله من العز، وكرمه به من الملك، فنابذوه العهد وشاقوه الطاعة، وركبوا له ظهر الخلاف والعداوة، فشمر لحربهم ونازلهم في ديارهم، وأحجرهم في حصونهم ومعتصماتهم من شواهق الجبال وممتنع الأمصار. وكانت له عليهم أيام مشهورة ووقائع مذكورة معروفة، وكان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن العباس شيخ بني توجين أقتالهم من بني بادين، والعباس بن منديل بن عبد الرحمن وإخوته أمراء مغراوة. وكان المولى الأمير أبو زكرياء بن أبي حفص منذ استقل بأمر إفريقية، واقتطعها عن الإيالة المؤمنية سنة خمس وعشرين كما ذكرناه، متطاولا إلى احتياز المغرب والاستيلاء على كرسي الدعوة بمراكش، وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتئم ما يسمو إليه من ذلك، فكان يداخل امراء زناتة، فيرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة. وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن، أقام دوعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم وحربا على عدوهم. وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص، وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة، وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا عام سبعة وثلاثين تقمنا لمسراته، وميلا إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجلبين على المغرب والدولة. واحفظ الأمير أبا زكرياء يحيى بن عبد الواحد صاحب إفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد، وهو من جواره بالمحل القريب، واستكره ذلك. وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي بن العباس، وولد منديل بن محمد صريخا على يغمراسن، فسهلوا له أمره وسولوا له الاستيلاء على تلمسان، وجمع كلمة زناتة، واعتداد ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين وانتظامه في أمره، وسلما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه، وبابا للولوج على أهله، فحركه أملاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم، وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان، واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه، ونهض سنة تسع وثلاثين في عساكر ضخمة وجيوش وافرة، وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وأتباعهم وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم من العرب، وضرب لهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم. ولما نزل زاغر قبلة تيطرى منتهى مجالات رياح وبني سليم في المغرب، وافته هنالك أحياء زغبة
من بني عامر وص يد، وارتحلوا معه حتى نازل تلمسان، فجمع عساكر الموحدين وحشد زناتة وظعن المغرب، بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة والأعذار والبراءة والدعاء إلى الطاعة، فرجعهم بالخيبة. ولما حلت العساكر الموحدين بساحة البلد، وبرز يغمراسن وجموعه للقاء نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل، فانكشفوا ولاذوا بالجدران، وأعجزوا من حماية الأسوار، فاستمكنت المقاتلة من الصعود. ورأى يغمراسن أن قد احيط بالبلد، فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا على ذويه وخاصته، واعترضته عساكر الموحدين، فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم، فأفرجوا له ولحق بالصحراء. وانسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب، فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال. ولما تجفى غشي تلك الهيعة، وحسر تيار الصدمة، وخمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم، وأنعم الأمير أبو زكرياء نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة عبد المؤمن والمدافعة عنها. واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه، وتبرأ أمراء زناتة منه ضعفا عن مقاومة يغمراسن ، وعلما بأنه الفحل الذي لا بقرع أنفه، ولا يطرق غيله، ولا يصد عن فريسته. وسرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر، فاختطفوا الناس من حوله، وأطلوا من المراقب عليه. وخاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكرياء رغبا في القيام بدعوته بتلمسان، فراجعه بالإسعاف واتصال اليد على صاحب مراكش، وسوغه على ذلك جباية اقتطعها له، وأطلق أيدي العمال ليغمراسن لجبايتها. ووفدت أمه سوط النساء لاشتراط القبول، فأكرم موصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها، وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله. وفي أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه، وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وامراء المغرب الأوسط شجا في صدره ومعترضا عن مرامه، وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه فأجابهم. وقلد عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوقي وعلي بن منصور المليكشي من قومهم ووطنهم، وعهد إليهم بذلك، وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم، فاتخذوها بحضرته وبمشهد من ملوك الموحدين، وأقاموا مراسمها ببابه، وأغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه،
وبلوغ وطره، والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه، وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته. ودخل يغمراسن بن زيان ووفى للأمير أبي زكرياء بعهده، وأقام له الدعوة على سائر منابره، وصرف إلى مشانيه من زناتة وجو عزائمه، فأذاق عبد القوي بن العباس وأولاد منديل نكال الحرب، وسامهم سوء العذاب والفتنة، وجاس خلال ديارهم وتوغل في بلادهم، وغلبهم على الكثير من ممالكهم، وشرد من الأمصار والقواعد ولاتهم وأشياعهم ودعاتهم، ورفع عن الرعية ما نالهم من عدوانهم وسوء ملكتهم وثقل عسفهم وجورهم. ولم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصية ما نذكره إن شاء الله تعالى الخبر عن نهوض السعيد صاحب مراكش ومنازلته يغمراسن بجبل تامز زدكت ومهلكه هنالك: لما انقضت دولة بني عبد المؤمن، وانتزى الثوار والدعاة بقاصية أعمالهم وقطعوها عن ممالكهم، فاقتطع ابن هود ما وراء البحر من جزيرة الأندلس واسبتد بها، وورى بالدعاء للمستنصر بن الظاهر خليفة بغداد من العباسيين لعهده، ودعا الأمير أبو زكريا بى أبي حفص بإفريقية لنفسه وسما إنى جمع كلمة زناتة، والتغلب على كرسي الدعوة بمراكش، فنازل تلمسان وغلب عليها سنة أربعين. وقارن ذلك ولاية السعيد علي المأمون إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكان شهما حازماً يقظاً بعيد الهمة، فنظر في أعطاف دولته، وفاوض الملأ في تثقيف أطرافها وتقويم مائلها. وأثار حفائظهم ما وقع من بني مرين في ضواحي المغرب، ثم في أمصاوه واستيلائهم على مكناسة، وإقامتهم الدعوة الحفصية فيها كما نذكره. فجهز العساكر وأزاح عللهم، واستنفر عرب المغرب وقبائله، واحتشد كافة المصامدة. ونهض من مراكش اخر سنة خمس وأربعين يريد القاصية، ويشرد بني مرين عن الأمصار الدانية. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت،
وأغد السير إلى تازي، فوصلته هنالك طاعة بني مرين كما نذكره. ونفر معه عسكر منهم، ونهض إلى تلمسان وما وراءها. ونجا يغمراسن بن زيان وبنو عبد الواد بأهليهم وأولادهم إلى قلعة لامز زدكت قبلة وجدة، فاعتصموا بها. ووفد على السعيد الفقيه عبدون وزير يغمراسن مؤديا للطاعة ثابتا في مذاهب الخدمة، ومتوليا من حاجات الخليفة بتلمسان لما يدعوه إليه ويصرفه في سبيله، ومعذرا عن وصول يغمراسن، فلج الخليفة في شأنه ولم يعذره. وأبى إلا مباشرة طاعته بنفسه، وساعده في ذلك كانون بن جرمون السفياني صاحب الشورى بمجلسه ومن حضر من الجلة. ورجعوا عبدونا لاستقدامه، فتثاقل خشية على نفسه. واعتمد السعيد الجبل في عساكره وأناخ بها في ساحه وأخذ بمخنقهم ثلاثا، ولرابعتها ركب مهجرا على حين غفلة من الناس في قايلتهم ليتطوف على المعتصم، ويتقرى مكانه. وبصر به فارس من القوم بعرف بيوسف بن عبد المؤمن الشيطان، كان أسفل الجبل للاحتراس، وقريبا منه يغمراسن بن زيان وابن عمه يعقوب بن جابر، فانقضوا عليه من بعض الشعاب، وطعنه يوسف فأكبه عن فرسه. وقتل يعقوب بن جابر وزيره يحيى بن عطوش. ثم استلحموا لوقتهم مولييه ناصحا من المعلوجي وعنبرا من الخصيان، وقائد جند النصارى أخو القمط، ووليدا يافعا من ولد السعيد. ويقال إنما كان يوم عبا العساكر وصعد الجبل للقتال، وتقدم أمام الناس فاقتطعه بعض الشعاب المتوعرة في طريقه، فتواثب به هؤلاء الفرسان وكان ما ذكرناه، وذلك لصفر من سنة ست وأربعين. ووقعت النفرة في العساكر لطائر الخبر فأجفلوا، وبادر يغمراسن إلى السعيد، وهو صريع بالأرض، فنزل إليه وحياه وفداه؛ وأقسم له على البراءة من هلكته، والخليفة واجم بمصرعه يجود بنفسه إلى أن فافر، وانتهب المعسكر بجملته، وأخذ بنو عبد الواد ما كان به من الأخبية والفازات. واختص يغمراسن بفسطاط السلطان فكان له خالصة دون قومه، واستولى على الذخيرة التي كانت فيه: منها مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، يزعمون أنه أحد المصاحف التي انتسخت لعهد خلافته، وأنه كان في خزائن قرطبة عند ولد عبد
الرحمن الداخل، حتى صار في ذخائر لمتونة فيما صار إليهم من ذخائر ملوك الطوائف بالأندلس، ثم إلى ذخائر الموحدين من خزائن لمتونة، وهو لهذا العهد في خزائن بني مرين بفاس فيما استولوا عليه من ذخيرة آل زيان حين غلبهم إياهم على تلمسان، واقتحامها عنوة على ملكها منهم عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن، فريسة السلطان أبي الحسن، مقتحمها غلابا سنة سبع وثلاثين كما نذكره. ومنها العقد المنتظم من خرزات الياقوت الفاخرة والدرر، المشتمل على مئين متعددة من حصبائه يسمى بالثعبان، وصار في خزائن بني مرين منذ ذلك الغلاب فيما اشتملوا عليه من ذخيرتهم، إلى أن تلف في البحر عند غرت الأسطول بالسلطان أبي الحسن بمراسي بجاية مرجعه من تونس حسبما نذكره بعد، إلى ذخائر من أمثاله وطرف من أشباهه بما يستخلص الملوك لخزائنهم ويعنون به من ذخائرهم. ولما سكنت النغرة وركد عاصف تلك الهيمة نظر يغمراسن في شأن مواراة الخليفة، فجهز ورفع علي الأعواد إلى مدفنه بالعباد بمقبرة الشيخ أبي مدين عفا الله عنه. ثم نظر في شأن حرمه واخته تاعزونت الشهيرة الذكر، بعد أن جاءها واعتذر إليها مما وقع، وأصحبهن جملة من مشيخة بني عبد الواد إلى مأمنهم ألحقوهن بدرعة عند تخوم طاعتهم، فكان له بذلك حديث جميل في الإبقاء على الحرم، ورعي مراتب أ الملك. ورجع إلى تلمسان، وقد خضدت شوكة بني عبد المؤمن وأمنهم على سلطانه. والبقاء لله وحده.
الخبر عفا كان بينه وبين بني مرين من الأحداث سائر أيامه: قد ذكرنا ما كان من هذين الحيين من المناغاة والمنافسة منذ الآماد المتطاولة، بما كانت مجالات الفريقين بالصحراء متجاورة، وكان التخم بين الفريقين من وادي صا إلى فيكيك. وكان بنو عبد المؤمن عند فشل الدولة وتغلب بني مرين على ضاحية المغرب يستجيشون ببني عبد الواد مع عساكر الموحدين على بني مرين فيجوسون خلال المغرب ما بين تازى إلى فاس إلى القصر في سبيل المظاهرة للموحدين والطاعة لهم. وسنذكر في أخبار بني مرين كثيرا من ذلك. فلما هلك السعيد وأسف بنو مرين إلى ملك المغرب،
سما ليغمراسن أمل في مزاحمتهم. وكان أهل فاس بعد تغلب أبي يحيى بن عبد الحق عليهم قد نقموا على قومه سوء السيرة، وتمشت رجالاتهم في اللياذ بطاعة الخليفة المرتضى، ففعلوا فعلتهم في الفتك بعامل أبي يحيى بن عبد الحق، والرجوع إلى طاعة الخليفة. وأغذ أبو يحيى السير إلى منازلهم، فحاصرهم شهورا. وفي أثناء هذا الحصار اتصلت المخاطبة بين الخليفة المرتضى ويغمراسن بن زيان في الأخذ بحجرة أبي يحيى بن عبد الحق عن فاعر، فأجاب يغمراسن داعيه، واستنفر لها إخوانه من زناتة فنفر معه عبد القوي بن عطية بقومه من بني توجين وكافة القبائل من زناتة والمغرب، ونهضوا جميعا إلى المغرب. وبلغ خبرهم إلى أبي يحيى بن عبد الحق بمكانه من حصار فاس، فجمر كتائبه عليها، ونهض للقائهم في بقية العساكر، والتقى الجمعان بايسلى من ناحية وجدة. وكانت هنالك الواقعة المشهورة بذلك المكان انكشفت فيها جموع يغمراسن، وهلك منهم يغمراسن بن تاشفين وغيره، ورجعوا في ففهم إلى تلمسان. واتصلت بعد ذلك بينهم الحروب والفتنات سائر أيامه، وربما تخللتها المهادنات قليلا. وكان بينه وبين يعقوب بن عبد الحق ذمة مواصلة أوجب له رعيها، وكثيرا ما كان يثني عنه أخاه أبا يحيى من أجلها. ونهض أبو يحيى بن عبد الحق سنة خمس وخمسين إلى قتاله، وبرز إليه يغمراسن، وتزاحفت جموعهم بأبي سليط؛ فانهزم يغمراسن واعتزم أبو يحيى على أتباعه، فثناه عن ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق. ولما قفل إلى المغرب، صمد يغمراسن إلى سجلماسة، لمداخلة كانت بينه وبين المنبات من عرب المعتل، أهل مجالاتها وذئاب فلاتها، حدثته نفسه اهتبال الغرة في سجلماسة من أجلها، وكانت قد صارت إلى إيالة أبي يحيى بن عبد الحق منذ ثلاث كما ذكرناه في أخبارهم. ونذر بذلك أبو يحمى، فسابق إليها يغمراسن بمن حضره من قومه فثقفها وسد فرجها. ووصل يغمراسن عقب ذلك بعساكره، وأنا بها وامتنعت عليه، فأفرج عنها قافلا إلى تلمسان. وهلك أبو يحمى بن عبد الحق إثر ذلك منقلبه إلى فاس، فاستنفر يغمراسن أولياءه من زناتة وأحياء زغبة. ونهض إلى المغرب سنة سبع وخمسين، وانتهى إلى كلدامان. ولقيه يعقوب بن عبد الحق في قومه فأوقع به، وولى يغمراسن منهزما. ومر بطريقه بتافرسيت فانتسفها وعاث في نواحيها. ثم تداعوا للسلم ووضع أوزار الحرب، وبعث يعقوب بن عبد الحق ابنه أبا مالك لذلك فتولى عقده وإبرامه. ثم كان التقاؤهما سنة تسع وخمسين وستمائة
بواجر قبالة بني يزناسن، واستحكم عقد الوفاق بينهما بعد ذلك، واتصلت المهادنة إلى أن كان بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن كائنة النصاري وإيقاع يغمراسن بهم: كان يغمراسن من بعد مهلك السعيد وانفضاض عساكر الموحدين قد استخدم طائفة من جند النصارى الذين كانوا في جملته، مستكثرا بهم معتدا بمكانهم ومباهيا بهم في المواقف والمشاهد. وناولهم طرفا من حبل عنايته، واعتزوا به واستفحل أمرهم بتلمسان، حتى إذا كانت سنة اثنتين وخمسين بعد مرجعه من بلاد توجين في إحدى حركاته إليها، كانت قصة غدرهم الشنعاء التي أحسن الله في دفاعها عن المسلمين. وذلك أنه ركب في بعض أيامه لاعتراض الجنود بباب المغرمادين من أبواب تلمسان. وبينما هو واقف في موكبه عند قايلة الضحى عدا عليه قائدهم، وبادر النصارى إلى محمد بن زيان اخي يغمراسن فقتلوه وأشار له بالنجوى، فبرز من الصف لإسراره وأمكنه من اذنه، فتنكبه النصراني وقد خالطه روعة أحس منها يغمراسن بمكره فانحاص منه. وركض النصراني أمامه يطلب النجاة. وتبين الغدر، وثارت بهم الدهماء من الحامية والرعايا، فأحيط بهم من كل جانب، وتناولتهم أيدي الهلاك في كل مهلك قعصاً بالرماح وهبرا بالسيوف وشدخا بالعصي والحجارة حتى استلحموا، وكان يوما مشهودا. ولم يستخدم من بعدها جند النصارى بتلمسان حذرا من غائلتهم. ويقال إن محمد بن زيان هو الذي داخل القائد في الفتك بأخيه يغمراسن، وأنه إنما قتله عندما لم يتم لهم الأمر تبريا من مداخلته، فلم يمهله غاشي الهيعة للتثبت في شأنها. والله أعلم.
الخبر عن تغلب يغمراسن علي سجلماسة ثم مصيرها بعد إلي أيالة بني مرين:
كان عرب المعقل منذ دخول عرب الهلاليين إلى الصحراء المغرب الأقصى أحلافا وشيعا لزناتة، وأكثر انحياشهم إلى بني مرين إلا ذوي عبيد الله منهم بما كانت مجالاتهم لصق مجالات بني عبد الواد أو مشاركة لها. ولما استفحل شأن بني عبد الواد بين أيدي ملكهم زاحموهم عنها بالمناكب، ونبذوا إليهم العهد واستخلصوا دونهم المنبات من ذوي منصور أقتالهم فكانوا حلفاء وشيعة ليغمراسن ولقومه. وكان سجلماسة في مجالاتهم ومنقلب رحلتهم، وكانت قد صارت إلى ملك بني مرين ثم استبد بها القطراني؛ ثم ثاروا به ورجعوا إلى طاعة المرتضى. وتولى كبر ذلك علي بن عمر كما ذكرناه في أخبار بني مرين. ثم تغلب المنبات على سجلماسة، وقتلوا عاملها علي بن عمر سنة اثنتين وستين، وآثروا يغمراسن بملكها، وداخلوا أهل البلد في القيام بدعوته وحملوهم عليها. وجأجأوا بيغمراسن، فنهض إليها في قومه، وأمكنوه من قيادها فضبطها، وعقد عليها لولده يحيى. وأنزل معه ابن اخته حنينة، واسمه عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع من ولد محمد، وأنزل معهما يغمراسن بن حمامة فيمن معهم من عشائرهم وحشمهم. فأقام ابنه يحيى أميراً عليها إلى أن هلك، فأدال منه بعبد الملك ابن اخته، فلم يزل والياً عليها إلى أن غلب يعقوب بن عبد الحق الموحدين على دار خلافتهم. وأطاعته طنجة وعامة بلاد المغرب، فوجه عزمه إلى انتزاع سجلماسة من طاعة يغمراسن. وحف إليها في العساكر والحشود من زناتة والعرب والبربر، ونصبوا عليها آلات الحصار، إلى أن سقط جانب من سورها، فاقتحموها منه عنوة في صفر سنة ثلاث وسبعين واستباحوها، وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة ومن معهم من بني عبد الواد وامراء المنبات، وصارت إلى طاعة بني مرين آخر الأيام. والملك لله بؤتيه من يشاء من عباده.
الخبر عن حروب يغمراسن مع يعقوب بن عبد الحق:
قد ذكرنا ما كان من شأن بني عبد المؤمن عند فشل دولتهم، واستطالة بني مرين عليهم في الاستظهار ببني عبد الواد واتصال اليد بهم في الأخذ بحجرة عدوهم من بني مرين عنهم. ولما هلك المرتضى وولي أبو دبوس سنة خمس وستين، وحمي وطيس فتنته مع يعقوب بن عبد الحق، فراسل يغمراسن في مدافعته، وأكد العهد وأسنى الهدية، فأجابه إليها يغمراسن، وشن الغارات على ثغور المغرب وأضرمها نارا. وكان يعقوب بن عبد الحق محاصرا لمراكش فأفرج عنها ورجع إلى المغرب، واحتشد جموعه، ونهض إلى لقائه. وتزاحف الفريقان بوادي تلاع، وقد استكمل كل تعبيته، وكانت الوقيعة على يغمراسن استبيحت فيها حرمه واستلحم قومه، وهلك ابنه عمر أبو حفص أعز ولده عليه ي أتراب له من عشيره: مثل ابن عبد الملك بن حنينة، وابن يحيى بن مكن، وعمر بن إبراهيم بن هشام، فرجع عنه يعقوب بن عبد الحق إلى مراكش حتى انقضى شأنه في التغلب عليها، ومحا أثر بني عبد المؤمن منها، وفرغ لمحاربة بني عبد الواد. وحشد كافة أهل المغرب من المصامدة والجموع والقبائل. ونهض إلى بني عبد الواد سنة سبعين، فبرز إليه يغمراسن في قومه وأوليائهم من مغراوة والعرب، وتزاحفوا بايسلي من نواحي وجدة، فكانت الدبرة على يغمراسن. وانكشفت جموعه، وقتل ابنه فارس، ونجا بأهله بعد أن أضرم معسكره نارا تفاديا من معرة اكتساحه. ونجا إلى تلمسان فانحجر بها، وهدم يعقوب بن عبد الحق وجدة، ثم نازله بتلمسان، واجتمع إليه هنالك بنو توجين مع أميرهم محمد بن عبد القوي، وصل يده بيد السلطان على يغمراسن وقومه، وحاصروا تلمسان أياما فامتنعت عليهم، وأفرجوا عنها. وولى كل إلى عمله ومكان ملكه، حسبما نذكره في أخبارهم. وانعقدت بينهما المهادنة من بعد ذلك، وفرغ يعقوب بن عبد الحق للجهاد، ويغمراسن لمغالبة توجين ومغراوة على بلادهم إلى أن ى ن من شأنهم ما نذكره.
الخبر عن شأن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وما كان بينهم من الأحداث:
كانت أحياء من مغراوة في مواطنهم الأولى من نواحي شلف قد سالمتهم الدول
عند تلاشي ملكهم، وساموهم الجباية فرضوا بها: مثل بنيئ ورسيفين وبني يليت وبني ورتزمير. وكان فيهم سلطان لبني منديل بق عبد الرحمن من أعقاب آل خزر ملوكهم الأولى، ومنذ عهد الفتح وما بعده على ما ذكرناه في خبرهم. فلما انتثر عقد الخلافة بمراكش، وتشظت عصاها، وكثر الثوار والخوارج بالجهات، واستقل منديل بن عبد الرحمن،ينوه من بعده بتلك الناحية، وملكوا مليانة وتنس وبرشك وشرشال وما إليها، وتطاولوا إلى متيجة فتغلبوا عليها. ثم مدوا أيديهم إلى جبل وانشريش وما إليه، فتناولوا الكثير من بلاده، ثم أزاحهم عنها بنو عطية وقومهم من بني توجين المجاورون لها في مواطنهم بأعلى شلف شرقي أرض السرسو، وكان ذلك لأول دخول أحياء زناتة الناجعة بأرض القبلة إلى التلول، فتغلب بنو عبد الواد على نواحي تلمسان إلى وادي صا. وتغلب بنو توجين على ما بين الصحراء والتل من بلد المدية، إلى جبل وانشريش، إلى مرات، إلى الجعبات. وصار التخم لملك بني عبد الواد سيك والبطحاء: فمن قبليها لمواطن بني توجين، ومن شرقها مواطن مغراوة. وكانت الفتنة بين بني عبد الواد وبين هذين الحيين منذ أول دخولهم إلى التلول، وكان المولى الأمير أبو زكرياء بن أبي حفص يستظهر بهذين الحيين على بني عبد الواد ويراغمهم بهم، حتى كان من فتح تلمسان ما قدمناه، وألبس جميعهم شارة الملك على ما ذكرناه ونذكره في أخبارهم، فزاحموا يغمراسن بعدها بالمناكب وصرف هو إليهم وجه النقمات والحروب.
ولم يزل الشأن ذلك حتى انقرض ملك الحيين لعهد ابنه عثمان بن يغمراسن وعلى يده، ثم على يد بني مرين كما يأتي ذكره. ولما رجع يغمراسن بن زيان من لقاة بني مرين بايسلي من نواحي وجدة التي كانت سنة سبع وأربعين، وكان معه فيها عبد القوي بن عطية بقومه من بني
توجين، وهلك مرجعه منها، فنبذ يغمراسن العهد إلى ابنه محمد الأمير بعده، وزحف إلى بلاده فجاس خلالها، ونازل حصونها فامتنعت عليه. وأحسن محمد بن عبد القوي في دفاعه، ثم زحف ثانية سنة خمسين إليهم، فنازل حصن تافركينت من حصونهم. وكان به على بني زيان حافد محمد بن عبد القوي، فامتنع به في طائفة من لومه. ورحل عنه يغمراسن كظيما، ولم يزل يغمراسن بعدها يشن الغارة على بلادهم ويجمر الكتائب على حصونهم. وكان بتافركنيت صنيعه من صنائع بني عبد القوي، ونسبه في صنهاجة أهل ضاحية بجاية، اختص بهذا الحصن ورسخت قدمه فيه، واعتز بكثرة ماله وولده فأحسن الدفاع عنه، وكان له مع يغمراسن في الامتناع عليه أخبار مذكورة، حتى سطا به بنو محمد بن عبد القوي حين شرهوا إلى نعمته، وأنفوا من استبداده فأتلفوا نفسه وتخطفوا نعمته، فكان حتف ذلك الحصن في حتفه حما يأتي ذكره. وعندما شبت نار الفتنة بين يغمراسن وبين محمد بن عبد القوي، وصل محمد يده بيعقوب بن عبد الحق. فلما نازل يعقوب تلمسان سنة سبعة بعد أن هدم وجدة، وهزم يغمراسن بايسلي، جاءه محمد بن عبد القوي بقومه من بني توجين، وأقام معه على حصارها. ورحلوا بعد الامتناع عليهم، فرجع محمد إلى مكانه، ثم عاود يعقوب بن عبد الحق منازلة تلمسان سنة ثمانين وستماية بعد إيقاعه بيغمراسن في خرزوزة، فلقيه محمد بن عبد القوي بالقصبات. واتصلت أيديهم على تخريب بلاد يغمراسن مليا، فنازلوا تلمسان أياما، ثم افترقوا ورجع كل إلى بلده. ولما خلص يغمراسن بن زيان من حصاره زحف إلى بلادهم، وأوطأ عساكره أرضهم، وغلب على الضاحية، وخرب عمرانها إلى أن تملكها بعده ابنه عثمان كما نذكر. وأما خبره مع مغراوة فكان عماد رأيه فيهم التضريب بين بني منديل بن عبد الرحمن للمنافسة التي كانت بينهم في رياسة قومهم. ولما رجع من واقعة تلاغ سنة ست وستين، وهي الواقعة التي هلك فيها ولده عمر زحف بعدها إلى بلاد مغراوة فتوغل فيها وتجاوزها إلى من وراءهم من مليكش والثعالبة، وأمكنه عمر
من مليانة سنة ثمان وستين على شرط المؤازرة والمظاهرة على إخوته، فملكها يغمراسن يومئذ وصار الكثير من مغراوة إلى ولايته، وزحفوا إلى المغرب سنة سبعين. ثم زحف بعدها إلى بلادهم سنة اثنتين وسبعين، فتجافى له ثابت بن منديل عن تنس بعد أن أثخن في بلادهم ورجع عنها، فاسترجعها ثابت. ثم نزل له عنها ثانيا سنة إحدى وثمانين بين يدي مهلكه عندما تم له الغلب عليهم والإثخان في بلادهم، إلى أن كان الاستيلاء عليها لابنه عثمان على ما نذكره. الخبر عن انتزاء الزعيم ابن مكن ببلد مستغانم: كان بنومكن هؤلاء من عالية القرابة من بني زيان يشاركونهم في نسب محمد بن زكدان بن تيدوكسن بن طاع الله، وكان لمحمد هذا أربعة من الولد كبيرهم يوسف: ومن ولده جابر بن يوسف أول ملوكهم، وثابت بن محمد. ومن ولده زيان بن ثابت أبو الملوك من بني عبد الواد، ودرع بن محمد. ومن ولده عبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع المشتهر بأمه حنينة أخت يغمراسن بن زيان ومكن بن محمد. وكان له من الولد يحيى وعمرش؛ وكان من ولد يحيى الزعيم وعلي؛ وكان يغمراسن بن زيان كثيرا ما يستعمل قرابته في الممالك ويوليهم على العمالات؛ وكان قد استوحش من يحيى بن مكن وابنه الزعيم وغربهما إلى الأندلس بم فأجاز من هنالك إلى يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين ولقياه بطنجة في إحدى حركات جهاده. وزحف يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان عامئذ وهما في جملته، فأدركتهما النعرة على لومهما وآثرا مفارقة السلطان إليهم؛ فأذن لهما في الانطلاق ولحقا بيغمراسن بن زيان. حتى إذا كانت الواقعة عليه بخرزوزة سنة ثمانين كما قدمناه، وزحف بعدها إلى بلاد مغراوة، وتجافى له ثابت بن منديل عن مليانة، وانكفأ راجعا إلى تلمسان، استعمل على ثغر مستغانم الزعيم بن يحيى بن مكن. فلما
وصل إلى تلمسان انتقض عليه، ودعا إلى الخلات، ومالأ عدوه من مغراوة على المظاهرة عليه، فصمد إليه يغمراسن وأحجره بها حتى لاذ منه بالسلم على الإجازة، فعقد له وأجازه. ثم أثره أباه يحيى، واستقر بالأندلس إلى أن هلك يحيى سنة اثنتين وتسعين. ووفد الزعيم بعد ذلك على يوسف بن يعقوب وسخطه لبعض النزعات؟ فاعتقله وفر من محبسه. ولم يزل الاغتراب مطوحا به إلى أن هلك. والبقاء لله. ونشأ ابنه الناصر بالأندلس، فكانت مثواه وموقف جهاده إلى أن هلك. وأما أخوه علي بن يحيى فأقام بتلمسان، وكان من ولده داود بن علي كبير مشيخة بني عبد الواد وصاحب شوراهم. وكان منهم أيضا إبراهيم بن علي، عقد له أبو حمو الأوسط على ابنته فكان منها ولد ذكر، وكان لداود ابنه يحيى بن داود استعمله أبو سعيد بن عبد الرحمن في دولتهم الثانية على وزارته، فكان من شأنه ما نذكره في أخبارهم. والأمر لله. الخبر عن شأن يغمراسن في معاقدته مع ابن الأحمر والطاغية علي فتنة يعقوب بن عبد الحق والأخذ بحجرته: كان يعقوب بن عبد الحق لما أجاز إلى الجهاد، وأوقع بالعدو، وخرب حصونهم، نازل إشبيلية وقرطبة، وزلزل قواعد كفرهم. ثم أجاز ثانية، وتوغل في دار الحرب وأثخن فيها. وتخلى له ابن أشقيلولة عن مالقة فملكها. وكان سلطان الأندلس يومئذ الأمير محمد المدعو بالفقيه، ثاني ملوك بني الأحمر، هو الذي استدعى يعقوب بن عبد الحق للجهاد بما عهد له أبوه الشيخ بذلك. فلما استفحل أمر يعقوب بالأندلس، وتعاقب الثوار إلى اللياذ به خشيه ابن الأحمر على نفسه، وتوقع منه مثل فعلة يوسف بن تاشفين بابن عباد، فاعتمل في أسباب الخلاص مما توهم. وداخل الطاغية في اتصال اليد والمظاهرة عليه وكانت مالقة لعمر يحيى بن محلى؛ استعمله عليها يعقوب بن عبد الحق حين ملكها من يد ابن أشقيلولة؛ فاستماله ابن الأحمر وخاطبه مقارنة ووعدا، وأداله بشلوبانية من مانقة طعمة خالصة له؛ فتخلى عن مالقة إليها. وأرسل الطاغية أساطيله في البحر لمنع الزقاق من إجازة السلطان وعساكره، وراسلوا يغمراسن من وراء البحر في الأخذ بحجرة يعقوب، وشن الغارات على ثغوره ليكون
ذلك شاغلا له عنهم. فبادر يغمراسن بإجابتهم، وترددت الرسل منه إلى الطاغية ومن الطاغية إليه كما نذكره. وبث السرايا والبعوث في نواحي المغرب، فشغل يعقوب عن شأن الجهاد حتى لقد سأله المهادنة؛ وأن يفرغ لجهاد العدو فأبى عليه وكان ذلك مما دعى يعقوب إلى الصمود إليه، ومواقعته بخرزوزة كما ذكرناه. ولم يزل شأنهم ذلك مع يعقوب بن عبد الحق وأيديهم متصلة عليه من كل جهة، وهو ينتهز الفرصة في كل واحد متى أمكنه منهم حتى هلك وهلكوا. والله وارث الأرض. الخبر عن شأن يغمراسن مع الخلفاء من بني حفص الذين كان يقيم بتلمسان دعوتهم ويأخذ قومه بطاعتهم: كان زناتة يدينون بطاعة خلفاء الموحدين من بني عبد المؤمن أيام كونهم بالقفار، وبعد دخولهم إلى التلول. فلما فشل أمر بني عبد المؤمن، ودعا الأمير أبو زكرياء بن أبي حفص بإفريقية لنفسه، ونصب كرسي الخلافة للموحدين بتونس، انصرفت إليه الوجوه من سائر الآفاق بالعدوتين، وأملوه للكرة، وأوفد زناتة عليه رسلهم من كل حي بالطاعة. ولاذ مغراوة وبنو توجين بظل دعوته ودخلوا في طاعته، واستنهضوه لتلمسان؛ فنهض إليها وافتتحها سنة أربعين. ورجع إليها يغمراسن واستعمله عليها وعلى سائر ممالكها؛ فلم يزل مقيما لدعوته. واتبع أثره بنو مرين في إقامة الدعوة له فيما غلبوا عليه من بلاد المغرب، وبعثوا إليه ببيعة مكناسة وتازى والقصر كما نذكره في أخبارهم، إلى ما دانوا به ولابنه المستنصر من بعده من خطاب التمويل والإشادة بالطاعة والانقياد، حتى غلبوا على مراكش وخطبوا باسم المستنصر على منابرها حينا من الدهر. ثم تبين لهم بعد متناول تلك القاصية عليه؟ فعطلوا منابرهم من أسماء أولئك، وأقطعوهم جانب الوداد والموالاة. ثم سموا إلى اللقب والتفنن في الشارة الملوكية كما تقتضيه طبيعة الدول، وأما يغمراسن وبنوه فلم يزالوا آخذين بدعوتهم واحدا بعد واحد، متجافين عن اللقب أدبا معهم، مجددي البيعة لكل من يتجدد قيامه بالخلافة منهم، يوفدون بها كبار أبنائهم وأولي الرأي من قومهم. ولم يزل الشأن ذلك. ولما هلك الأمير أبو زكرياء، وقام ابنه محمد المستنصر بالأمر من بعده، وخرج عليه أخوه
الأمير أبو إسحاق في إحياء الدواودة من رياح، ثم غلبهم المستنصر جميعا، ولحق الأمير أبو إسحاق بتلمسان في أهله، فأكرم يغمراسن نزلهم، وأجاز إلى الأندلس للمرابطة بها والجهاد، حتى إذا هلك المستنصر سنة خمس وسبعين، واتصل به خبر مهلكه، ورأى أنه أحق بالأمر فأجاز البحر من حينه، ونزل بمرسى هنين سنة سبع وسبعين. ولقاه يغمراسن مبرة وتوقيرا، واحتفل بقدومه، وأركب الناس لتلقيه، وأتاه بيعته على عادته مع سلفه، ووعده النصرة من عدوه والمؤازرة على أمره. وأصهر إليه يغمراسن في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان ولي عهده؛ فأسعفه وأجمل في ذلك وعده. وانتقض محمد بن أبي هلال عامل بجاية على الواثق، وخلع طاعته، ودعا للأمير أبي إسحق، واستحثه للقدوم فأغذ السير من تلمسان، وكان من شأنه أن ما قدمناه في أخباره. فلما كانت سنة إحدى وثمانين، وزحف يغمراسن إلى بلاد مغراوة، وغلبهم على الضواحي والأمصار، بعث من هنالك ابنه إبراهيم، وتسميه زناتة برهوم، وبكنى أبا عامر. أوفده في رجال من قومه على الخليفة أبي إسحاق لأحكام الصهر بينهما، فنزلوا منه على خير نزل من أسناء الجراية ومضاعفة الكرامة والمبرة؛ وظهر من آثاره في حروب ابن أبي عامر ما مد الأعناق إليه وقصر الشيم الزناتية على بيته. ثم انقلب آخرا بظعينته محبوا محبورا، وابتنى بها عثمان لحين وصولها، وأصبحت عقيلة قصره، فكان ذلك مفخرا لدولته وذكرا له ولقومه. ولحق الأمير أبو زكرياء ابن الأمير أبي إسحاق بتلمسان بعد خلوصه من مهلكة قومه في واقعة الداعي ابن أبي عمارة عليهم بمرماجنة سنة اثنتين وثمانين؛ فنزل من عثمان بن يغمراسن صهره خير نزل برا واحتفاء وتكريما وملاطفة. وسربت إليه أخته من القصر أنواع التحف والأنس، ولحق به أولياؤه من صنائع دولتهم، وكبيرهم أبو الحسن محمد ابن الفقيه المحدث أبي بكر بن سيد الناس اليعمري فتفيأوا من كرامة الدولة بهم ظلا وافرا، واستنهضوه إلى تراث ملكه. وفاوض أبا مثواه عثمان بن يغمراسن في ذلك؛ فنكره لما كان قد أخذه بدعوة صاحب الحضرة. وأوفد عليه رجال دولته بالبيعة على العادة في ذلك؛ فحدث الأمير أبو زكرياء نفسه بالفرار عنه. ولحق بداود بن هلال بن عطاف أمير البدو من بني عامر إحدى بطون زغبة؛ فأجاره وأبلغه مأمنه
بحي الدواودة أمراء البدو بعمل الموحدين. نزل منهم على عطية بن سليمان بن سباع كما قدمناه، واستولى على بجاية عنة أربع وثمانين بعد خطوب ذكرناها، واقتطعها وسائر عملها عن ملك عمه صاحب الدعوة بتونس أبي حفص، ووفى لداود بن عطاف وأقطعه بوطن بجاية عملا كبيرا أفرده لجبابته، كان فيه أيقدارن بالخميس من وادي بجاية. واستقل الأمير أبو زكرياء بمملكة بونة وقسنطينة وبجاية والجزائر والزاب وما وراءها. وكان هذا الصهر وصلة له مع عثمان بن يغمراسن وبنيه. ولما نزل يوسف بن يعقوب تلمسان سنة ثمان وتسعين، بعث الأمير أبو زكرياء المدد من جيوشه إلى عثمان بن يغمراسن؛ وبلغ الخبر بذلك إلى يوسف بن يعقوب؛ فبعث أخاه أبا يحيى في العساكر لاعتراضهم والتقوا بجبل الزاب؛ فكانت الدبرة على عسكر الموحدين واستلحموا هنالك. وتسفى المعركة لهذا العهد بمرسى الرؤوس. واستحكمت من أجل ذلك صاغية الخليفة بتونس إلى بني مرين، وأوفد عليهم مشيخة من الموحدين يدعوهم إلى حصار بجاية، وبعث معهم الهدية الفاخرة. وبلغ خبرهم إلى عثمان بن يغمراسن من وراء جدرانه، فتنكر لها و أسقط ذكر الخليفة من منابره ومحاه من عمله؛ فنسي لهذا العهد. والله مالك الأمور. الخبر عن مهلك يغمراسن بن زيان وولاية ابنه عثمان وما كان في دولته من الأحداث: كان السلطان يغمراسن قد خرج من تلمسان سنة إحدى وثمانين، واستعمل عليها ابنه عثمان، وتوغل في بلاد مغراوة وملك ضواحيهم. ونزل له ثابت بن منديل عن مدينة تنس، فتناولها من يده. ثم بلغه الخبر بإقبال أخيه أبي عامر برهوم من تونس بابنة السلطان أبي إسحاق عرس ابنه؛ فتلوم هنالك إلى أن لحقه بظاهر مليانة؛ فارتحل إلى تلمسان وأصابه الوجع في طريقه. وعندما احتل شربويه اشتد به وجعه، فهلك هنالك آخر ذي القعدة من سنته. والبقاء لته وحده. فحمله ابنه أبو عامر على أعواده، وواراه في خدر موريا بمرضه إلى أن تجاوز بلاد مغراوة إلى سيك. ثم أغذ السير إلى تلمسان؛ فلقيه أخوه عثمان بن يغمراسن ولي عهد أبيه في قومه؟ فبايعه الناس وأعطوه صفقة أيمانهم. ثم دخل إلى تلمسان؛ فبايعه العامة والخاصة. وخاطب
لحينه الخليفة بتونس أبا إسحاق وبعث إليه ببيعته؛ فراجعه بالقبول وعقد له على عمله على الرسم. ثم خاطب يعقوب بن عبد الحق يطلب منه السلم، لما كان أبوه يغمراسن أوصاه به. حدثنا شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي قال: سمعت من السلطان أبو حمو موسى بن عثمان وكان قهرمانا بداره، قال: أوصى دادا يغمراسن لدادا عثمان- ودادا حرف كناية عن غاية التعظيم بلغتهم- فقال له يا بني إن بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على الأعمال الغربية وعلى حضرة الخلافة بمراكش، لا طاقة لنا بلقائهم إذا جمعوا لوفود مددهم، ولا يمكنني أنا القعود عن لقائهم لمعرة النكوص عن القرن التي أنت بعيد عنها. فإياك واعتماد لقاثهم، وعليك باللياذ بالجدران متى دلفوا إليك وحاول ما استطعت في الاستيلاء على ما جاورك من عمالات الموحدين وممالكهم يستفحل به ملكك، وتكافىء حشد العدو بحشدك. ولعلك تصير بعض الثغور الشرقية معقلا لذخيرتك. فعلقت وصية الشيخ بقلبه، واعتقد عليها ضمائره، وجنح إلى السلم مع بني مرين ليفرغ عزمه لذلك. وأوفد أخاه محمد بن يغمراسن على يعقوب بن عبد الحق بمكانه من العدوة الأندلسية في إجازته الرابعة إليها؛ فخاض إليه البحر ووصله باركش؛ فلقاه برا وكرامة؛ وعقد له من السلم ما أحب. وانكفأ راجعا إلى أخيه؛ فطابت. نفسه وفرغ لافتتاح البلاد الشرقية، كما نذكره إن شاء الله لعالى. الخبر عن شأن عثمان بن يغمراسن مع مغراوة وبني توجين وغلبه علي معاقلهم والكثير من أعمالهم: لما عقد عثمان بن يغمراسن السلم مع يعقوب بن عبد الحق، صرف وجهه إلى الأعمال الشرقية من بلاد توجين ومغراوة وما وراءها من عمل الموحدين؛ فتغلب أولا على ضواحي بني توجين ودوخ قاصيتها؛ وصار إلى بلاد مغراوة كذلك؛ ثم إلى متيجة؛ فانتسق نعمها وخطم زروعها. ثم تجاوز إلى بجاية فحاصرها كما نذكره بعد. وامتنعت عليه وانكفأ راجعا في طريقه بمازونة فحاصرها وأطاعته، وذلك سنة ست وثمانين. ونزل له ثابت بن منديل أمير مغراوة عن
تنس؛ فاستولى عليها وانتظم سائر بلاد مغراوة في أيالته. ثم عطف في سنته على بلاد توجين؛ فاكتسح حبوبها واحتكرها بمازونة استعدادا لما يتوقع من حصار مغراوة إياها. ثم دلف إلى تافر كنيت، فحاصرها وأخذ بمخنقها. وداخل قائدها غالبا الخصي، من موالي محمد بن عبد القوي، كان مولى سيد الناس منهم، فنزل له غالب عنها واستولى عليها واكفأ إلى تلمسان. ثم نهض إلى بلاد بني ترجين سنة سبع وثمانين؛ فغلبهم على وانشريش مثوى ملكهم ومنبت عزهم، وفر أمامه أميرهم مولى بني. زرارة من ولد محمد بن عبد القوي. وأخذ الحلف منهم فلحق بضواحي المدية في الأعشار وأولاد عزيز من قومه. واتبع عثمان بن يغمراسن آثارهم وشردهم عن تلك الضاحية. وهلك مولى زرارة في مفره. وكان عثمان قبل ذلك قد دوخ بلاد بني يدللتين من بني توجين، ونازل رؤساءهم أولاد سلامة بالقلعة المنسوبة إليهم مرات فامتنعوا عليه؛ ثم أعطوه أيديهم على الطاعة ومفارقة لومهم بني توجين إلى سلطان بني يغمراسن؟ فنبذوا العهد إلى بني محمد بن عبد القوي أمرائهم منذ العهد الأول. ووصلوا أيديهم بعثمان وألزموا رعاياهم وأعمالهم المغارم له، إلى أن ملك وانشريش من بعدها كما نذكر ذلك في أخبارهم. وصارت بلاد بني توجين كلها من عمله، واستعمل الحشم بجبل وانشريش. ثم نهض بعدها إلى المدية، وبها أولاد عزيز من توجين فنازلها، وقام بدعوته فيها قبائل من صنهاجة يعرفون بلمدية وإليهم تنسب؛ فأمكنوه منها سنة ثمان وثمانين؛ وبقيت في إيالته سبعة أشهر؛ ثم انتقضت عليه. وزحف إلى إيالة أولاد عزيز وصالحوه عليها، وأعطوه من الطاعة ما كانوا يعطونه لمحمد بن عبد القوي وبنيه، فاستقام أمره في بني توجين، ودانت له سائر أعمالهم. ثم خرج سنة تسع وثمانين إلى بلاد مغراوة لما كانوا ألبا عليه لبني مرين في إحدى حركاتهم على تلمسان، فدوخها وأنزل ابنه أبا حمو بشلف مركز عملهم؛ فأقام به وقفل هو إلى الحضرة. وتحيز فل مغراوة إلى نواحي متيجة، وعليهم ثابت بن منديل أميرهم، فلم يزالوا بها. ونهض عثمان إليهم سنة ثلاث وتسعن من بعدها فانحجزوا بمدينة برشك، وحاصرهم بها أربعين يوما، ثم افتتحها. وخاض ثابت بن منديل البحر إلى المغرب؛ فنزل على يوسف بن يعقوب كما ذكرناه ونذكره. واستولى عثمان على سائر عمل مغراوة كما
استولى على عمل توجين؟ فانتظم بلاد المغرب الأوسط كلها وبلاد زناتة الأولى؟ ثم شغل بفتنة بني مرين كما نذكره بعد. والملك لله وحده. الخبر عن منازلة بجاية وما دعا إليها: قد ذكرنا أن المولى أبا زكرياء الأوسط ابن السلطان أبي إسحاق من بني أبي حفص، لحق بتلمسان عند فراره من بجاية أمام شيعة الدعي ابن أبي عمارة، ونزل على عثمان بن يغمراسن خير نزل. ثم هلك الدعي ابن أبي عمارة، واستقل عمه الأمير أبو حفص بالخلافة، وبعث إليه عثمان بن يغمراسن بطاعته على العادة، وأوفد عليه وجوه قومه، ودس الكثير من أهل بجاية إلى المولى أبي زكرياء يستحثونه للقدوم، ويعدونه إسلام البلد إليه. وفاوض عثمان بن يغمراسن في ذلك فأبى عليه، فألحق البيعة بعمه الخليفة بالحضرة؛ فطوى عنه الخبر وتردد في القبض أياما. ثم لحق بأحياء زغبة في مجالاتهم بالقفر، ونزل على داود بن هلال بن عطاف. وطلب عثمان بن يغمراسن من داود إسلامه فأبى عليه، وارتحل معه إلى أعمال بجاية، ونزلوا إلى أحياء الدواودة كما قدمناه. ثم استولى المولى أبو زكرياء بعد ذلك على بجاية في خبر طويل قد ذكرناه في أخباره. واستحكمت القطيعة بينه وبين عثمان، وكانت سببا لاستحكام الموالاة بين عثمان وبين الخليفة بتونس. فلما زحف إلى عمل مغراوة سنة ست وثمانين، وتوغل في قاصية المشرق، أعمل الرحلة إلى عمل بجاية، ودوخ سائر أقطارها. ثم نازلها من بعد ذلك يروم كيدها بالاعتمال في مرضاة الخليفة بتونس، ويسر بذلك حسواً في ارتغاء؛ فأناخ عليها بعساكره سبعا؛ ثم أفرج عنها منقلبا إلى المغرب الأوسط؛ فكان من فتح مازونة وتافركنيت ما قدمناه. الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وشأن تلمسان في الحصار الطويل: لما هلك يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين على السلم المنعقدة بينه وبين بني عبد الواد لشغله بالجهاد، وقام بالأمر من بعده في قومه ابنه يوسف كبير ولده على حين
اتبعهم أنفسهم شأن الجهاد. وأسفهم يغمراسن وابنه بممالاة الطاغية وابن الأحمر فعقد يوسف السلم مع الطاغية لحينه، ونزل لابن الأحمر عن ثغور الأندلس التي كانت لهم، وفرغ لحرب بني عبد الواد، واستتب له ذلك لأربع من مهلك أبيه، دلف إلى تلمسان سنة تسع وثمانين، ولاذ منه عثمان بالأسوار فنازلها أربعين صباحا، وقطع شجراءها ونصب عليها المجانيق والآلات. ثم أحس بامتناعها فأفرج عنها وانكفأ راجعا. وتقبل عثمان بن يغمراسن، مذهب أبيه في مداخلة ابن الأحمر والطاغية، وأوفد رسله عليهما فلم يغن ذلك عنه شيئا، وكان مغراوة قد لحقوا بيوسف بن يعقوب على تلمسان فنالوا منها أعظم النيل. فلما أفرجوا عن تلمسان نهض عثمان إلى بلادهم فدوخها وغلبهم عليها، وأنزل بها ابنه أبا حمو كما قدمناه. فلما كانت سنة خمس وتسعين نهض يوسف بن يعقوب حركته الثانية فنازل ندرومة؛ ثم ارتحل عنها إلى ناحية وهران. وأطاعه أهل جبل كيذرة وتاسكدلت رباط عبد الحميد أن الفقيه أبي زيد اليزناسني، ثم كر راجعا إلى المغرب. وخرج عثمان بن يغمراسن، فأثخن في تلك الجبال لطاعتهم عدوه واعتراضهم جنده واستباح رباط تاسكدلت. ثم غزاه يوسف بن يعقوب ثالثا سنة ست وتسعين ورجع إلى المغرب. ثم أغزاه رابع سنة سبع وتسعين فنازل تلمسان، وأحاط بها معسكره، وشرعوا في البناء. ثم أفرج عنها لثلاثة أشهر، ومر في طريقه بوجدة، فأمر بتجديد بنائها وجمع الفعلة عليها. واستعمل أخاه أبا يحيى بن يعقوب على ذلك، فأقام لشانه، ولحق يوسف بالمغرب. وكان بنو توجين قد نازلوا تلمسان مع يوسف بن يعقوب، وتولى كبر ذلك منهم أولاد سلامة أمراء بني يدللتن منهم، وأصحاب القلعة المنسوبة إليهم. فلما أفرج سنها خرج إليهم عثمان بن يغمراسن، فدوخ بلادهم، وحاصرها بالقلعة ونال منهم أضعاف ما نالوا منه. وطال مغيبه في بلادهم؛ فخالفه أبو يحيى بن يعقوب إلى ندرومة؛ فاقتحمها بعسكره بمداخلة من قائدها زكرياء بن يخلف بن المطغرى صاحب تاونت. فاستولى بنو مرين على ندرومة وتاونت. وجاء يوسف بن يعقوب على أثرها فوافاهم ودلفوا جميعا إلى تلمسان. وبلغ الخبر إلى عثمان بمكانه من
حصار القلعة، فطوى المراحل إلى ظمسان، فسبق إليها يوسف بن يعقوب ببعض يوم. ثم أشرفت طلائع بني مرين عشي ذلك اليوم، فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان وتسعين، وأحاط العسكر بها من جميع جهاتها. وضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجا من الأسوار محيطا بها، وفتح فيه أبوابا مداخل لحربها، واختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سفاها المنصورة. وأقام على ذلك سنين يغاديها بالقتال ويرواحها. وسرح عساكر لافتتاح أمصار المغرب الأوسط وثغوره، فملك بلاد مغراوة وبلاد بني توجين كما ذكرناه في أخباره. وجثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته، إلى أن هلك عثمان وهلك هو من بعده كما نذكره. وإلى الله المصير. الخبر عن مالك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده إلى غايته: لما أناخ يوسف بن يعقوب بعسكره على حسان، انحجر بها عثمان وقومه واستسلموا، والحصار آخذ بمخنقهم. وهلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سنة ثلاث وسبعماية، وقام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد. أخبرني شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الأبلي، وكان في صباه قهرمان دارهم قال: هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس، وكان قد أعذ لشربه لبناً. فلما أخد منه الديماس وعطش، دعا بالقدح وشرب اللبن ونام، فلم يكن بأوشك إن فاضت نفسه. وكنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم، تفاديا من معرة غلب عدوهم إياهم قال: وجاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكرياء بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس وأخبرها الخبر؛ فجاءت ووقفت عليه واسترجعت وخيمت على الأبواب بسدادها. ثم بعثت عن ابنيه محمد أبي زيان وموسى أبي حموا فعزتهما عن أبيهما. وأحضر مشيخة بني عبد الواد، وعرضوا لهم بمرض السلطان، فقال أحدهم مستفهما عن الشأن ومترجما عن القوم: السلطان معنا آنفا، ولم يمتد الزمن لوقوع المرض، فإن يكن هلك فخبرونا؛ فقال له أبو حمو: وإذا هلك فما أنت صانع؛ فقال: إنما نخشى من مخالفتك، وإلا فسلطاننا
أخوك الأكبر أبو زيان. فقام أبو حمو من مكانه، وأكب على يد أخيه يقبلها، وأعطاه صفقة يمينه. واقتدى به المشيخة؛ فانعقدت بيعته لوقته. واشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم، واجتمعوا إليه، وبرزوا لقتال عدوهم على العادة، فكأن عثمان لم يمت. وبلغ الخبر إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم؛ فتفجع له وعجب من صرامة قومه من بعده. واستمر حصار له إياهم إلى تمام ثماني سنين وثلاثة أشهر من يوم نزوله، نالهم فيها من الجهد والجوع ما لم ينل امة من الأمم، واضطروا إلى أكل الجيف والقطط والفيران، حتى لزعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الأناسي، وخربوا السقف للوقود، وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق، بما تجاوز حدود العوائد. وعجز وجدهم عنه، فكان ثمن مكيال القمح الذي يسمونه البرشالة ويتبايعون به، مقداره اثنتي عشر رطلا ونصف مثقالين ونصف من الذهب العين، وثمن الرأس الواحد من البقر ستين مثقالا، ومن الضأن سبعة مثاقيل ونصف. وأثمان اللحمان من الجيف: الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال، ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم، والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما، والهر الواحد بمثقال ونصف، والكلب بمثله، والفأر بعشرة دراهم والحية بمثله، والدجاجة بستة عشر درهما، والبيفى واحدة بستة دراهم والعصافير كذلك. والأوقية من الزيت باثنتي عشر درهماً، ومن السمن بمثلها ومن الشحم بعشرين. ومن الفول بمثلها. ومن الملح بعشرة، ومن الحطب كذلك. والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال. ومن الخس بعشرين درهما، ومن اللفت بخمسة عشر درهما. والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما، والخيار بثلاثة أثمان الدينار، والبطيخ بثلاثين درهما، والحبة من التين ومن الإجاص بدرهمين، واستهلك الناس أموالهم وموجودهم، وضاقت أحوالهم. واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها، واتسعت خطة مدينة المنصورة المشيدة عليها. ورحل إليها التجار بالبضائع من الآفاق، واستبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة وخطب الملوك سلمه ووده، ووفدت عليه رسل الموحدين وهداياهم من تونس وبجاية، وكذلك رسل صاحب مصر والشام وهديتهم، واعتز اعتزازا لا كفاء له كما يأتي في أخباره. وأنهك الجهد حامية بني يغمراسن وقبيلتهم وأشرفوا على الهلاك، فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج بهم للاستماتة، فكيف الله لهم الصنيع
الغريب. ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصي من العبدي أسخطته بعض النزعات الملوكية، فاعتمده في كسر بيته ومخدع نومه، وطعنه بخنجر قطع أمعاءه؛ وأدرك فسيق إلى وزرائه ومزقوا أشلاءه، فلم يبوء بشسع من نعل عبيدهم كما ذكرناه. والأمر لله وحده. وأذهب الله العناءة عن آل زيان وقومهم وساكني مدينتهم، فكأنما نشروا من الأجداث. وكتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغرابا لحادثتها. حدثني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي قال: جلس السلطان أبو زيان صبيحة يوم ذلك الفرج، وهو يوم الأربعاء في خلوة من زوايا قصره، واستدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء والمطامير المختومة؟ فقال له: إنما بقي عولة اليوم وغد فاستوصاه بكتمانها. وبينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمو فأخبره فوجم لها، وجلسوا سكوتا لا ينطقون، وإذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصايف بنت السلطان أبي إسحاق حظية أبيهم خرجت من القصر إليهم؛ فوقفت وحيتهم تحيتها وقالت: تقول لكم حظايا قصركم وبنات زيان حرمكم ما لنا وللبقاء، وقد احيط بكم، وأسف لالتهامكم عدوكم، ولم يبق إلا فواق بكيئة لمصارعكم، فأريحونا من معرة السبي، وأريحوا فينا أنفسكم، وقربونا إلى مهالكنا. فالحياة في الذل عذاب، والوجود بعدكم عدم. فالتفت أبو حمو إلى أخيه، وكان من الشفقة بمكان وقال: لقد صدقتك الخبر فما تنتظر فيهم؟ فقال: يا موسى! أرجئني ثلاثا، لعل الله يجعل بعد عسر يسرا، ولا تشاورني بعدها فيهن، بل سرح اليهود والنصارى إلى قتلهن، وتعال إلي نخرج مع قومنا إلى عدونا فنستميت، ويقضي الله ما شاء. فغضب له أبو حمو ونكر الإرجاء في ذلك، وقال: إنا نحن والله نتربص المعرة بهن وبأنفسنا، وقام عنه مغضبا، وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء. قال ابن حجاف: وأنا بمكاني بين يديه واجم، لا أملك متأخرا ولا متقدما، إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلا حرسي الباب يشير إلي أن إذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين بسدة القصر؛ فلم أطق أرجع جوابه إلا بالإشارة. وانتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعاً؛ فأذنته واستدعاه. فلما وقف بين يديه قال له: إن يوسف بن يعقوب هلك الساعة، وأنا رسول حافده أبي ثابت إليكم. فاستبشر السلطان واستدعى أخاه وقومه، حتى أبلغ الرسول رسالته
بمسمع منهم، وكانت إحدى المغربات في الأيام. وكان من خبر هذه الرسالة أن يوسف بن يعقوب لما هلك، تطاول للأمر الأعياص من إخوته وولده وحفدته، وثحيز أبو ثابت حافده إلى بني ورتاجن لخؤلة كانت له فيهم، فاستجاش بهم، واعصوصبوا عليه. وبعث إلى أولاد عثمان بن يغمراسن أن يعطوه الالة، ويكونوا مفزعا له ومأمنا إن أخفق مسعاه. على أنه إن تم أمره قوض عنهم معسكر بني مرين؛ فعاقدوه عليها. ووفى لهم لما تم أمره، ونزل لهم عن جميع الأعمال التي كان يوسف بن يعقوب استولى عليها من بلادهم. وجأجأ بجميع الكتائب التي أنزلها في ثغورهم، وقفلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأقصى. واستمكن السلطان أبو زيان من ثغور المغرب الأوسط كلها؛ إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن شأن السلطان أبي زيان من بعد الحصار إلى حين مهلكه: كان من أول ما افتتح به السلطان أبو زيان أمره بعد الخروج من هوة الحصار، وتناوله الأعمال من أيدي بني مرين، أن نهض من تلمسان، ومعه أخوه أبو حمو آخر ذي الحجة من سنة ست وسبعماية. فقصد بلاد مغراوة، وشرد من كان هنالك منهم في طاعة بني مرين، واحتاز الثغور من أيدي عمالهم، ودوخ قاصيتها. ثم عقد عليها لمسامح مولاه، ورجع عنها. ونهض إلى السرسو؛ وكان العرب قد تملكوه أيام الحصار؛ وغلبوا زناتة عليه من سويد والديالم ومن إليهم من بني يعقوب بن عامر؛ فأجفلوا أمامه. واتبع آثارهم إلى أن أوقع بهم وانكفأ راجعا. ومر ببلاد بني توجين، فاقتضى طاعة من كان بقي بالجبل من بني عبد القوي والحشم فأطاعوه، ورياستهما يومئذ لمحمد بن عطية الأصم من بني عبد القوي. وقفل إلى تلمسان لتسعة أشهر من خروجه، وقد ثقف أطراف ملكه، ومسخ أعطاف دولته. فنظر في إصلاح قصوره ورياضه، ورم ما تثلم من بلده. وأصابه المرض خلال ذلك؛ فاشتد وجعه سبعا؛ ثم هلك أخريات شوال من سنة سبع. والبقاء لله وحده.
الخبر عن محو الدعوة الحفصية من منابر تلمسان:
كانت الدعوة الحفصية بإفريقية قد انقسمت بين أعياصهم في تونس وبجاية وأعمالها، وكان التخم بينها بلد عجيسة ووشتاتة. وكان الخليفة بتونس الأمير أبو حفص ابن الأمير أبي زكرياء الأول منهم، وله الشفوف على صاحب بجاية والثغور الغربية بالحضرة. فكانت بيعة بني زيان له ودعاؤهم على منابرهم باسمه، وكانت لهم مع المولى الأمير أبي زكرياء الأوسط صاحب بجاية وصلة لمكان الصهر بينهم وبينه، وكانت الوحشة قد اعترضت ذلك عندما نازل عثمان بجاية كما قدمناه. ثم تراجعوا إلى وصلتهم واستمروا عليها إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان، والبيعة يومئذ للخليفة بتونس السلطان أبي عصيدة بن الواثق، والدعوة على منابر تلمسان باسمه، وهو حاقد عليهم ولايتهم للأمير أبي زكرياء الأوسط صاحب الثغر. فلما نزل يوسف بن يعقوب على تلمسان، وبعث عساكره في قاصية المشرق، واستجاش عثمان بن يغمراسن بضاحية بجاية؛ فسرح عسكرا من الموحدين لمدافعتهم عن تلك القاصية. والتقوا معهم بجبل الزان، فانكشف الموحدون بعد معترك صعب واستلحمهم بنو مرين. وشحمى المعترك لهذا العهد بمرسى الرؤوس لكثرة ما تساقط في ذلك المجال من الرؤوس واستحكمت المنافرة لذلك بين يوسف بن يعقوب وصاحب بجاية، فأوفد الخليفة بتونس على يوسف بن يعقوب مشيخة الموحدين تجديدا لوصلة سلفهم مع سلفه، وإغراء بصاحب بجاية وعمله. فساء موقع ذلك من عثمان بن يغمراسن، وأحفظه موالاة الخليفة لعدوه، فعطل منابره من ذكره، وأخرج قومه وإيالته عن دعوته. وكان ذلك آخر الماية السابعة. والله تعالى أعلم.
الخبر عن دولة أبى حمو الأوسط موسى بن عثمان وما كان فيها من الأحداث:
لما هلك الأمير أبو زيان، قام بالأمر من بعده أخوه السلطان أبو حمو في أخريات سنة سبع كما
قدمناه، وكان صارما يقظا حازما داهية قوي الشكيمة صعب العريكة، شرس الأخلاق مفرط الذكاء والحدة، وهو أول ملوك زناتة. رتب مراسم الملك وهذب قواعده، وأرهف لذلك لأهل ملكه حده، وقلب لهم مجن بأسه، حتى دلوا لعز الملك وتأدبوا بآداب السلطان. سمعت عريف بن يحيى أمير سويد من زغبة وشيخ المجالس الملوكية لزناتة يقول، ويعنيه: موسى بن عثمان هو معلم السياسة الملوكية لزناتة؛ وإنما كانوا رؤساء بادية حتى قام فيهم موسى بن عثمان، فحد حدودها وهذب مراسمها. ولقن عنه ذلك أقتاله وأنظاره منهم، فتقبلوا مذهبه واقتدوا بتعليمه. انتهى كلامه. ولما استقل بالأمر افتتح شأنه بعقد السلم مع سلطان بني مرين لأول دولته، فأوفد كبراء دولته على السلطان أبي ثابت، وعقد له السلم كما رضي. ثم صرف وجهه إلى بني توجين ومغراوة، فردد إليهم العساكر، حتى دوخ بلادهم وذلل صعابهم. وشرد محمد بن عطية الأصم عن نواحي وانشريش، وراشد بن محمد عن نواحي شلف وكان قد لحق بها بعد مهلك يوسف بن يعقوب فأزاحه عنها. واستولى على العملين، واستعمل عليها، وقفل إلى تلمسان. ثم خرج سنة عشر في عساكره إلى بلاد بني توجين، ونزل تافركنيت، وسط بلادهم. فشرد الفل من أعقاب محمد بن عبد القوي عن وانشريش، واحتاز رياستهم في نجني توجين دونهم. وأدال منهم بالحشم وبني تيغرين. وعقد لكبيرهم يحيى بن عطية على رياسة قومه في جبل وانشريش، وعقد ليوسف بن حسن من أولاد عزيز على المدية وأعمالها، وعقد لسعد من بني سلامة بن علي على قومه بني يدللتن إحدى بطون بني نوجين، وأهل الناحية الغربية من عملهم. وأخذ من سائر بطون بني توجين الرهن على الطاعة والجباية، واستعمل عليهم جميعا من صنائعه قائده يوسف بن حبون الهواري، وأذن له في اتخاذ الآلة. وعقد لمولاه مسامح على بلاد مغراوة، وأذن له أيضا في اتخاذ الآلة. وعقد لمحمد ابن عمه يوسف على مليانة، وأنزله بها، وقفل إلى تلمسان. والله أعلم.
الخبر عن استنزال زيرم بن حماد بن ثغر برشك وما كان من قتله: كان هذا الغمر من مشيخة هذا المصر لوفور عشيره من مكلاته داخله وخارجه، واسمه زيري بالياء، فتصرفت فيه العامة، وصار زيرم بالميم. ولما غلب يغمراسن على بلاد مغراوة دخل أهل هذا المصر في طاعته. حتى إذا هلك حدثت هذا الغمر نفسه بالانتزاء والاستبداد بملك برشك، ما بين مغراوة وبني عبد الواد، ومدافعة بعضهم ببعض. فاعتزم على ذلك وأمضاه، وضبط برشك لنفسه سنة ثلاث وثمانين. ونهض إليه عثمان بن يغمراسن سنة أربع بعدها، ونازله فامتنع. ثم زحف سنة ثلاث وتسعين إلى مغراوة، فلجأ ثابت بن منديل إلى برشك وحاصره عثمان بها أربعين يوما. ثم ركب البحر إلى المغرب كما قلناه وأخذ زيرم بعده بطاعة عثمان بن يغمراسن، دافعه بها، وانتقض عليه، مرجعه إلى تلمسان. وشغل بنو زيان بعدها بما دهمهم من شأن الحصار، فاسبتد زيرم هذا ببرشك واستفحل شأنه بها. واتقى بني مرين عند غلبهم على أعمال مغراوة وتردد عساكرهم فيها بإخلاص الطاعة والانقياد. فلما انقشع إيالة بني مرين بمهلك يوسف بن يعقوب، وخرج بنو عثمان بن يغمراسن من الحصار، رجع إلى ديدنه من التمريض في الطاعة، ومقاولة طرفها على البعد. حتى إذا غلب أبو حمو على بلاد مغراوة، وتجاوزت طاعته هذا المصر إلى ما وراءه، خشيه زيري على نفسه، وخطب منه الأمان، على أن ينزل له عن المصر. فبعث إليه صاحب الفتيا بدولته أبا زيد عبد الرحمن بن محمد الإمام، كان أبوه من أهل برش، وكان زيري قد قتله لأول ثورته غيلة. وفر ابنه عبد الرحمن هذا وأخوه عيسى، ولحقا بتونس فقرا بها، ورجعا إلى الجزائر فأوطناها. ثم انتقلا إلى مليانة، واسنعملهما بنو مرين في خطة القضاء بمليانة. ثم وفدا بعد مهلك يوسف بن يعقوب على أبي زيان وأبي حمو مع عمال بني مرين وقوادهم بمليانة. وكان فيهم منديل بن محمد الكناني صاحب أشغالهم المذكور في أخبارهم. وكانا يقرآن ولده محمدا، فأشادا
على أبي زيان وأبي حمو بمكانهم من العلم، ووقع ذلك من أبي حمو أبلغ المواقع، حتى إذا استقل بالأمر ابتنى المدرسة بناحية المطمر من تلمسان لطلب العلم. وابتنى لهما دارين عن جانبيها وجعل لهما التدريس فيها في إيوانين معدين لذلك. واختصهما بالفتيا والشورى، فكانت لهما في دولته قدم عالية. فلما طلب زيري هذا الأمان من أبي حمو وأن يبعث إليه من يأمن معه في الوصول إلى بابه، بعث إليه أبا زيد عبد الرحمن الأكبر منهما، فنهض لذلك بعد أن استأذنه أن يثأر منه بأبيه إن قدر عليه، فأذن له. فلما احل ببرشك أقام بها أياما، يناديه فيها زيري ويراوحه بمكان نزله، وهو يعمل الحيلة في اغتياله حتى أمكنته. فقتله في بعض تلك الأيام سنة ثمان وسبعماية، وصار أمر برشك إلى السلطان أبي حمو وانمحى منها أثر المشيخة والاستبداد. والأمور بيد الله سبحانه. الخبر عن طاعة الجزائر واستنزال ابن علان منها وذكر أوليته: كانت مدينة الجزائر هذه من أعمال صنهاجة، ومختطها بلكين بن زيري، ونزلها بنوه من بعده. ثم صارت إلى الموحدين، وانتظمها بنو عبد الرحمن في أمصار المغربين وإفريقية. ولما استبد بنو أبو حفص بأمر الموحدين، وبلغت دعوتهم بلاد زناتة. وكانت تلمسان ثغرا لهم، واستعملوا عليها يغمراسن وبنيه من بعده، وعلى ضواحي مغراوة بني منديل بن عبد الرحمن، وعلى وانشريش وما إليه من عمل بني توجين محمد بن عبد القوي وبنيه. وبقي ما وراء هذه الأعمال إلى الحضرة لولاية الموحدين من أهل دولته، فكان العامل على الجزائر من الموحدين أهل الحضرة. وفي سنة أربع وستين انتقضوا على المستنصر ومكثوا في ذلك الانتقاض سبعا. ثم أوعز إلى أبي هلال صاحب بجاية بالنهوض إليها في سنة إحدى وسبعين، فحاصرها أشهرا وأفرج عنها. ثم عاودها بالحصار سنة أربع وسبعين أبو الحسن بن ياسين بعساكر الموحدين، فاقتحمها عليهم عنوة واستباحها. وتقبض على مشيختها فلم يزالوا معتقلين بها إلى أن هلك المستنصر. ولما انقسم أمر بني أبي حفص، واستقل الأمير أبو زكرياء .الأوسط بالثغور الغربية وأبوه، وبعثوا إليه بالبيعة، وولى عليهم ابن أكمازير،
وكانت ولايتها لبطة من قبل، فلم يزل هو واليا عليها إلى أن أسن وهرم. وكان ابن علان من مشيخة الجزائر مختصا به، ومتصرفا في أوامره ونواهيه، ومصدرا لأمارته. وحصل له بذلك الرياسة على أهل الجزائر سائر أيامه. فلما هلك ابن أكمازير حدثته نفسه بالاستبداد والانتزاء بمدينته، فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره. وضرب أعناقهم وأصبح مناديا بالاستبداد، واتخذ الآلة، واستركب واستلحق من الغرباء والثعالبة عرب متيجة، واستكثر من الرجال والرماة. ونازلته عساكر بجاية مرارا، فامتنع عليهم. وغلب مليكش على جباية الكثير من بلاد متيجة، ونازله أبو يحيى بن يعقوب بعساكر بني مرين عند استيلائهم على البلاد الشرقية، وتوغلهم في القاصية، فأخذ بمخنقها وضيق عليها. ومر بابن علان القاضي أبو العباس الغماري رسول الأمير خالد إلى يوسف بن يعقوب؛ فأودعه الطاعة للسلطان والضراعة إليه في الإبقاء؛ فأبلغ ذلك عنه وشفع له؛ فأوعز إلى أخيه أبي يحيى بمصالحته. ثم نازله الأمير خالد من بعد ذلك؛ فامتنع عليه. وأقام على ذلك أربع عشرة سنة، وعيون الخطوب تحرزه، والأيام تستجمع لحربه. فلما غلب السلطان أبو حمو على بلاد بني توجين، واستعمل يوسف بن حيون الهواري على وانشريش، ومولاه مسامحا على بلاد مغراوة، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض سنة اثنتي عشرة إلى بلاد شلف، فنزل بها، وقدم مولاه مسامحا في العساكر فدوخ متيجة من سائر نواحيها، وترس الجزائر، وضيق حصارها حتى مسهم الجهد. وسأل ابن علان النزول على أن يستشرط لنفسه، فتقبل السلطان اشتراطه. وملك السلطان أبو حمو الجزائر وانتظمها في أعماله. وارتحل ابن علان في جملة مسامح، ولحقوا بالسلطان بمكانه من شلف؟ فانكفأ إلى تلمسان وابن علان في ركابه؟ فأسكنه هنالك ووفى له بشرطه إلى أن هلك. والبقاء لله وحده. الخبر عن حركة صاحب المغرب إلى تلمسان وأولية ذلك: لما خرج عبد الحق بن عثمان من أعياص الملك على السلطان أبي الربيع بفاس،
وبايع له الحسن بن علي بن أبي الطلاق شيخ بني مرين بمداخلة الوزير رحو بن يعقوب كما قدمناه في أخبارهم. وملكوا تازى، وزحف إليهم السلطان أبو الربيع؛ فبعثوا وفدهم إلى السلطان أبو حمو صريخا. ثم أعجلهم أبو الربيع وأجهضهم على تازى؛ فلحقوا بالسلطان أبي حمو، ودعوه إلى المظاهرة على المغرب، ليكونوا رداء له دون قومهم. وهلك السلطان أبو الربيع خلال ذلك. واستقل بملك المغرب أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق؛ فطالب السلطان أبا حمو بإسلام أولئك النازعين إليه؛ فأبى من إسلامهم وإخفار ذمته فيهم. وأجازهم البحر إلى العدوة؛ فأغضى له السلطان أبو سعيد عنها وعقد له السلم. ثم استراب يعيش بن يعقوب بن عبد الحق بمكانه عند أخيه السلطان أبي سعيد لما سعى به عنده، فنزع إلى تلمسان. وأجاره السلطان أبو حمو على أخيه؛ فأحفظه ذلك ونهض إلى تلمسان سنة أربع عشرة. وعقد لابنه الأمير أبي علي وبعثه في مقدمته، وصار هو في الساقة. ودخل أعمال تلمسان على هذه التعبية؛ فاكتسح بسائطها. ونازل وجدة؟ فقاتلها وضيق عليها. ثم تخطاها إلى تلمسان؛ فنزل بساحتها. وانحجز موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على ضواحيها ورعاياها. وسار السلطان أبو سعيد في عساكره يتقرى شعارها وبلادها بالحطم والانتساف والعبث. فلما احيط به، وثقلت وطأة السلطان عليه، وحذر المغبة منهم، ألطف الحيلة في خطاب الوزراء الذين كان يسرب أمواله فيهم، ويخادعهم عن نصائح سلطانهم، حتى اقتضى مراجعتهم في شأن جاره يعيش بن يعقوب، وإدالته من اخته، ثم بعث خطوطهم بذلك إلى السلطان أبي سعيد؛ فامتلأ قلبه منها خشية، واستراب بالخاصة والأولياء، ونهض إلى المغرب على تعبيته ثم كان خروج ابنه عمر عليه بعد مرجعه، وشغلوا عن تلمسان وأهلها برهة من الدهر، حتى تم أمر الله في ذلك عند وقته. والله تعالى أعلم. الخبر عن مبدأ حصار بجاية وسرح الداعية إليه: لما خرج السلطان أبو سعيد إلى المغرب، وشغل عن تلمسان، فزع أبو حمو لأهل
القاصية من عمله. وكان راشد بن محمد بن ثابت بن منديل قد جاء من بلاد زواوة أثناء هذه الغمرة؛ فاحتل بوطن شلف؛ واجتمع إليه أوشاب قومه. وحين تجلت الغمرة عن السلطان أبي حمو، نهض إليه بعد أن استعمل ابنه أبا تاشفين على تلمسان، وجمع له الجموع، ففر أمامه ناجيا إلى مثوى اغترابه ببجاية. وأقام بنو أبي سعيد بمعقلهم من جبال شلف على دعوته، فاحتل السلطان أبو حمو بوادي نهل، فخيم به. وجمع أهل أعماله لحصار بني أبي سعيد شيعة راشد بن محمد، واتخذ هنالك قصره المعروف باسمه. وسرح العساكر لتدويخ القاصية. ولحق به هنالك الحاجب ابن أبي حي مرجعه من الحج سنة إحدى عشرة وسبعماية، فأغراه بملك بجاية ورغبه فيه. وكان له فيها طمع منذ رسالة السلطان أبي يحيى إليه. وذلك أنه لما انتقض على أخيه خالد دعى لنفسه بقسنطينة. ونهض إلى بجاية، فانهزم عنها كما قدمناه في أخباره. وأوفد على السلطان أبي حمو بعض رجال دولته مغريا له بابن خلوف وبجاية. ثم بعث إليه ابن خلوف أيضا يسأله المظاهرة والمدد، فأطمعه ذلك في ملك بجاية. ولما هلك ابن خلوف كما قدمناه، لحق به كاتبه عبد الله بن هلال، فأغراه واستحثه، وعداه عن ذلك شأن الجزائر. فلما استولى على الجزائر، بعث مسامحا مولاه في عسكر مع ابن أبي حي، فبلغوا إلى جبل الزان. وهلك ابن أبي في، ورجع مسامح. ثم شغله عن شأنها زحف. وفرغ من أمر عدوه، ونزل بلد شلف كما ذكرنا آنفا. ولحق به عثمان بن سباع بن يحيى، وعثمان بن سباع بن شبل أمير الدواودة، يستحثونه لملك الثغور الغربية من عمل الموحدين، فاهتز لذلك وجمع له الجموع: فعقد لمسعود ابن عفه أبي عامر برهوم على عسكر وأمره بحصار بجاية، وعقد لمحمد ابن عفه يوسف قائد مليانة على عسكر، ولمولاه مسامح على عسكر آخر. وسرحهم إلى بجاية وما وراءها لتدويخ البلاد. وعقد لموسى بن علي الكردي على عسكر ضخم، وسرحه مع العرب من الدواودة وزغبة على طريق الصحراء. وانطلقوا إلى وجههم ذلك، وفعلوا الأفاعيل كل فيما يليه. وتوغلوا في البلاد الشرقية، حتى انتهوا إلى بلاد بونة. ثم انقلبوا من هنالك، ومروا في طريقهم بقسنطينة، ونازلوها أياما.
وصعدوا جبل ابن ثابت المطل عليها، فاستباحوه. ثم مروا ببني باورار، فاستباحوها وأضرموها واكتسحوا سائر ما مروا عليه. وحدثت بينهم المنافرة حسدا ومنافسة، فافترقوا ولحقوا بالسلطان. وأقام مسعود بن برهوم محاصرا لبجاية، وبنى حصاً باصفوان لمقامته. وكان يسرح الجيوش لقتالها، فتجول في ساحتها ثم رجع إلى الحصن. ولم يزل كذلك حتى بلغه خروج محمد بن يوسف، فأجفل عنها على ما نذكره الأن، فلم يرجعوا لحمارها إلا بعد مدة. والله تعالى أعلم. الخبر عن خروج محمد بن يوسف ببلاد بني توجين وحلاب السلطان معه: لما رجع محمد بن يوسف من قاصية المشرق كما قدمناه، وسابقه إلى السلطان موسى بن علي الكردي، وجوانحه تلتهب غيظاً وحقدا عليه. وسعى به عند السلطان؟ فعزله عن مليانة؛ فوجم لها. وشاله زيارة ابنه الأمير أبي تاشفين بتلمسان، وهو ابن اخته فأذن له. وأوعز إلى ابنه بالقبض عليه، فأبى عن ذلك. وأراد هو الرجوع إلى معسكر السلطان؛ فخلى سبيله. ولما وصل إليه تنكر له وحجبه؛ فاستراب وملا قلبه الرعب. وفر من المعسكر ولحق بالمدية. ونزل على يوسف بن حسن بن عزيز عاملها للسلطان من بني توجين. فيقال إنه أوثقه اعتقالاً حتى غلبه قومه على بغيته من الخروج معه، لما كان السلطان أبو حمو يوسقهم به من نزعاته. فأخذ له البيعة على قومه ومن إليهم من العرب. وزحفوا إلى السلطان بمعسكره من نهل، فلقيهم في عساكره؟ فكانت الدبرة على السلطان، ولحق بتلمسان، وغلب محمد بن يوسف على بلاد بني توجين ومغراوة، ونزل مليانة. وخرج السلطان من تلمسان لأيام من دخولها، وقد جمع الجموع، وأزال العلل. وأوعز إلى مسعود ابن عمه برهوم بمكانه من حصار بجاية، بالوصول إليه بالعساكر، ليأخذ بحجرتهم من ورائهم. وخرج محمد بن يوسف من مليانة لاعتراضه، واستعمل على مليانة يوسف بن حسن بن عزيز؟ فلقيه ببلاد مليكش وانهزم محمد من يوسف. ولجأ إلى جبل موصاية، وحاصره بها مسعود بن
برهوم أياما، تم أفرج عنه. ولحق بالسلطان؛ فنازلوا جميعا مليانة. وافتتحها السلطان عنوة وجيء بيوسف بن حسن أسيرا من مكمنه ببعض المسارب؛ فعفا عنه وأطلقه. ثم زحف إلى المدية؛ فملكها وأخذ الرهن من أهل تلك النواحي؛ وقفل إلى تلمسان. واستطال محمد بن يوسف على النواحي؛ ففشت دعونه في تلك القاصية. وخاطب مولانا السلطان أبا يحيى بالطاعة؟ فبعث إليه بالهدية والآلة؛ وسوغه سهام يغمراسن بن زيان من إفريقية. ووعده بالمظاهرة وغلب سائر بلاد بني توجين. وبايع له بنو تيغرين أهل جبل وأنشريش؛ فاستولى عليه. تم نهض السلطان إلى الشرق سنة سبع عشرة، وملك المدية، واستعمل عليها يوسف بن حسن لمدافعه محمد بن يوسف، واستبلغ في أخذ الرهن منه ومن أهل العمالات وقبائل زناتة والعرب، حتى من قومه بني عبد الواد. ورجع إلى تلمسان، ونزلهم بالقصبة، وهي الغور الفسيحة الخطة، تماثل بعض الأمصار العظيمة، اتخذها للرهن. وكان يبالغ في ذلك، حتى كان بأخذ الرهن المتعددة من البطن الواحد والفخذ الواحد والرهط. وتجاوز ذلك إلى أهل الأمصار والثغور من المشيخة والسوقة، فملأ تلك القصبة بأبنائهم وأخوانهم. وشحنها بالأمم تلو الأمم، وأذن لهم في ابتناء المنازل واتخاذ النساء. واختط لهم المساجد، فجمعوا بها لصلاة الجمعة. ونفقت بها الأسواق والصنائع. وكان حال هذه البنية من أغرب ما حكي في العصور عن سجن. ولم يزل محمد بن يوسف بمكان خروجه من بلاد بني توجين إلى أن هلك السلطان. والبقاء لله وحده. الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو وولاية ابنه أبي تاشفين من بعده:
كان السلطان أبو حمو قد اصطفى مسعود ابن عمه برهوم، وتبناه من بين عشيرته
وأولي قرباه لمكان صرامته ودهائه، واختصاص أبيه برهوم المكنى أبا عامر بعثمان بن يغمراسن شقيقه من بين سائر الإخوة؛ فكان يؤثره على بنيه ويفاوضه في شؤونه، ويصله إنى خلواته. وكان قد دفع إلى أبنه عبد الرحمن أبا تاشفين أترابا له من المعلوجي يقومون بخدمته في مرباه ومنشأه، كان منهم هلال المعروف بالقطلاني، ومسامح المسمى بالصغير، وفرج بن عبد الله وظافر ومهدي وعلي بن تكرارت وفرج الملقب شقورة، وكان ألصقهم وأعلقهم بنفسه تلاد له منهم يسمى هلالا، وكان أبو حمو كثيرا ما يقرعه ويوبخه إرهافا في اكتساب الخلال، وربما يقذع في تقريعه لما كان عفا الله عنه فحاشا فتحفظه لذلك. وكان مع ذلك شديد السطوة متجاوزا بالعقاب حدوده في الزجر والأدب، فكان أولئك المعلوجي تحت رهب منه، وكانوا يغرون لذلك مولاهم أبا تاشفين بأبيه، ويبعثون غيرته بما يذكرون له من اصطفائه ابن أبي عامر دونه. وقارن ذلك أن مسعود بن أبي عامر أبلى في لقاء محمد بن يوسف الخارج على أبي حمو البلاء الحسن عندما رجع من حصار بجاية، فاستحمد له السلطان ذلك، وعير ولده عبد الرحمن بمكان ابن عفه هذا من النجابة والصرامة يستجد له بذلك خلالا ويغريه بالكمال. وكان عمه أبو عامر إبراهيم بن يغمراسن مثريا بما نال من جوائز الملوك في وفاداته، وما أقطع له أبوه وأخوه سائر أيامهما.
ولما هلك سنة ست وتسعين استوصى أخاه عثمان بولده فضمهم ووضع تراثهم بموح ماله، حتى يؤنس منهم الرشد في أحوالهم. حتى إذا كانت غزاة ابنه أبي سرحان مسعود هذه، وعلا فيها ذكره وبعد صيته؛ رأى السلطان أبو حمو أن يدفع إليه تراث أبيه لاستجماع خلاله؛ فاحتمل إليه من المودع. ونمي الخبر إلى ولده أبي تاشفين وبطانته السوء من المعلوجي؛ فحسبوه مال الدولة قد احتمل إليه لبعد عهدهم عما وقع في تراث أبي عامر أبيه، واتهموا السلطان بإيثاره بولاية العهد دون ابنه؛ فأغروا أبا تاشفين بالتوثب على الأمر، وحملوه على الفتك بمشتويه مسعود بن أبي عامر، واعتقال السلطان أبي حمو ليتم له الاستبداد. وتحينوا لذلك قايلة الهاجرة عند منصرف السلطان من مجلسه، وقد اجتمع إليه ببعض حجر القصر خاصة من البطانة، وفيهم مسعود بن أبي عامر والوزراء من بني الملاح. وكان بنو الملاح هؤلاء قد استخلصهم السلطان لحجابته سائرأيامه، وكان مسمى الحجابة عندهم قهرمانة الدار والنظر في الدخل والخرج، وهم أهل بيت من
قرطبة كانوا يحترفون فيها بسكة الدنانير والدراهم، وربما دفعوا إلى النظر في ذلك ثقة بأمانتهم؛ ونزل أولهم بتلمسان مع جالية قرطبة فاحترفوا بحرفتهم الأولى، وزادوا إليها الفلاحة. واتصلوا بخدمة عثمان بن يغمراسن وابنه، وكان لهم في دولة أبي حمو مزيد حظوة وعناية؟ فولى على حجابته منهم لأول دولته محمد بن ميمون بن الملاح، ثم ابنه محمد الأشقر من بعده، ثم ابنه إبراهيم بن محمد من بعدهما. واشترك معه من قرابته علي بن عبد الله بن الملاح؟ فكانا يتوليان مهمة بداره ويحضران خلوته مع خاصته؛ فحضروا يومئذ مع السلطان بعد انقضاء مجلسه كما قلناه؛ ومعه من القرابة مسعود القتيل وحماموش بن عبد الملك بن حنينة، ومن الموالي معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر من ولد نصر بن علي أمير بني يزناتن من توجين وكان السلطان قد استوزره، فلما علم أبو ناشفين باجتماعهم هجم ببطانته عليهم، وغلبوا الحاجب على بابه حتى ولجوه متسايلين بعد أن استمسكوا من إغلاقه، حتى إذا توسطوا الدار اعتوروا السلطان بأسيافهم فقتلوه. وخام أبو تاشفين عنها، فلم يعرجوا عليه. ولاذ أبو سرحان منهم ببعض زوايا الدار، واستمكن من غلقها دونهم، فكسروا الباب وقتلوه، واستلحموا من كان هنالك من البطانة، فلم يفلت إلا الأقل. وهلك الوزراء بنو الملاح، واستبيحت منازلهم. وطاف الهاتف بسكك المدينة بأن أبا سرحان غدر بالسلطان، وأن ابنه أبا تاشفين ثار منه، فلم يخف على الناس الشان. وكان موسى بن علي الكردي قائد العساكر قد سمع الصيحة وركب إلى القصر، فوجده مغلقاً دونه، فظن الظنون، وخشي استيلاء مسعود على الأمر، فبعث عن العباس بن يغمراسن، كبير القرابة، فأحضره عند باب القصر، حتى إذا مر بهم الهاتف واستيقن مهلك أبي سرحان، رد العباس على عقبه إلى منزله. ودخل إلى السلطان أبي تاشفين، وقد أدركه الدهش من الواقعة، فثبته ونشطه لحقه، وأجلسه بمجلس أبيه، وتولى له عقد البيعة على قومه خاصة وعلى الناس عامة، وذلك آخر جمادى الأولى من تلك السنة. وجهز السلطان إلى مدفنه بمقبرة سلفه من القصر القديم، وأصبح مثلا في الاخرين، والبقاء لله. وأشخص السلطان لأول بيعته سائر القرابة الذين كانوا بتلمسان من ولد يغمراسن، وأجازهم إلى العدوة حذراً من مغبة ترشيحهم، وما يتوقع من الفتن على الدولة من تبلهم، وقلد حجابته مولاه هلالأ، فاضطلع بأعبائها، واستبد بالعقد والحل والإبرام
والنقض صدرا من دولته، إلى أن نكبه حسبما نذكره. وعقد ليحيى بن موسى السنوسي من صنائع دولتهم على شلف وسائر أعمال مغراوة، وعقد لمحمد بن سلامة بن علي على عمله من بلاد بني يدللتن من توجين، وعزل أخاه سعدا، فلحق بالمغرب. وعقد لموسى بن علي الكردي على قاصية الشرق، وجعل له حصار بجاية، وأغرى دولته بتشييد القصور واتخاذ الرياض والبساتين؛ فاستكمل ما شرع فيه أبوه من ذلك وأربى عليه؛ فاحتفلت القصور والمصانع في الحسن ما شاءت، واتسعت أخباره على ما نذكره. الخبر عن نهوض السلطان أبي تاشفين إلى محمد بن يوسف بجبل وانشريش واستيلائه عليه: كان محمد بن يوسف بعد مرجع السلطان أبي حمو عنه كما ذكرناه قد تغلب على جبل وانشريش ونواحيه، واجتمع إليه الفل من مغراوة، فاستفحل أمره، واشتدت في تلك النواحي شوكته. وأهم السلطان أبا تاشفين أمره، فاعتزم على النهوض إليه، وجمع لذلك، وأزاح العلل. وخرج من تلمسان سنة تسع عشرة، واحتشد سائر القبائل من زناتة والعرب، وأناخ على وانشريش، وقد اجتمع به توجين ومغراوة مع محمد بن يوسف. وكان بنو تيغرين من بني توجين، بطانة ابن عبد القوي، يرجعون في رئاستهم إلى عمر بن عثمان بن عطية حسبما نذكره، وكان قد استخلص سواه من بني توجين ث ونه فأسفه بذلك، وداخل أبا تاشفين، ووعده أن ينحرف عنه، فاقتحم السلطان عليهم الجبل وانحجروا جميعا بحصن توكال، فخالفهم عمر بن عثمان في قومه إلى السلطان بعد أن حاصرهم ثمانيا، فتخرم الجمع واختل الأمر وانفض الناس فاقتحم الحصن. وتقبض على محمد بن يوسف، وجيء به أسيرا إلى السلطان وهو في موكبه، فعدد عليه، ثم وخزه برمحه. وتناوله الموالي برماحهم فأقعصوه وحمل رأسه على القناة إلى تلمسان، فنصب بشرفات البلد. وعقد لعمر بن عثمان على جبل وأنشريش وعمال بني عبد القوي، ولسعيد العربي من مواليه على عمل المدية. فزحف إلى الشرق، فأغار على آحياء رياح وهم بوادي الجنان حيث الثنية المفضية من بلاد حمزة إلى القبلة، وصبح أحياءهم فاكتسح أموالهم ومضى في وجهه إلى بجاية، فعرس بساحتها ثلاثا، وبها يومئذ الحاجب يعقوب بن عمر فامتنعت عليه، فظهر له وجه المعذرة لأوليائهم في استحصانها لهم. وقفل إلى تلمسان إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن حصار بجاية والفتنة الطويلة مع الموحدين التي كان فيها حتفه وذهاب سلطانه وانقراض الأمر عن قومه برهة من الدهر: لما رجع السلطان أبو تاشفين من حصار بجاية سنة تسع عشرة اعتمل في ترديد البعوت إلى قاصية الشرق، والإلحاح بالغزو على بلاد الموحدين، فأغزاها جيوشه سنة عشرين، فدوخوا ضواحي بجاية وقفلوا. ثم أغزاهم ثانية سنة إحدى وعشرين، وعليهم موسى بن علي الكردي، فانتهى إلى قسنطينة وحاصرها فامتنعت عليه فأفرج عنها، وابتنى حصن بكر لأول مضيق الوادي، وادي بجاية. وأنزل به العسكر لنظر يحيى بن موسى قائد شلف، وقفل إلى تلمسان. ثم نهض موسى بن علي ثالثة سنة اثنتين وعشرين فدوخ نواحي بجاية ونازلها أياما. وامتنعت عليه فأفرج عنها. ووفد سنة ثلاث وعشرين على السلطان حمزة بن عمر بن أبي الليل كبير البدو بإفريقية صريخا على صاحب إفريقية مولانا السلطان أبي يحيى، فبعث معه العساكر من زناتة وعامتهم من بني توجين وبني راشد، وأفر عليهم القواد وجعلهم لنظر قائده موسى بن على الكربي، ففصلوا إلى إفريقية، فخرج السلطان للقائهم، فانهزموا بنواحي مرمجنة. وتخطفتهم الأيدي فاستلحموا، وقتل مسامح مولاه، ورجع موسى بن علي بالفل فاتهمه السلطان بالادهان، وكان من نكبته ما نذكر في أخباره. وسير العساكر سنة أربع وعشرين فدوخت نواحي بجاية، ولقيه ابن سيد الناس فهزموه، ونجا إلى البلد. ووفد على السلطان سنة خمس وعشرين مشيخة سليم: حمزة بن عمر بن أبي الليل وطالب بن مهلهل، الفحلان المتزاحمان في رياسة الكعوب. ومحمد بن مسكين من بني القوس كبراء حكيم، فاستحثوه للحركة واستصرخوه على إفريقية، وبعث معهم العساكر لنظر قائده موسى بن علي. ونصب لهم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد من أعياص الحفصيين. وخرج مولانا السلطان أبو يحيى من تونس للقائهم، وخشيهم على قسنطينة، فسابقهم إليها، فأقام موسى بن علي بعساكره على قسنطينة. وتقدم إبراهيم بن أبي بكر الشهيد في أحياء سليم إلى تونس، فملكها كما ذكرناه في أخبارهم. وامتنعت قسنطينة على موسى بن علي، فأفرج عنها لخمس عشرة ليلة من حصارها وعاد إلى تلمسان. ثم أغزاه السلطان سنة ست وعشرين في الجيوش، وعهد إليه بتدويخ الضاحية ومحاصرة الثغور، فنازل قسنطينة وأفسد نواحيها. ثم رجع إلى بجاية فحاصرها، حتى إذا
اعتزم على الإقلاع ورأى أن حصن بكر غير صالح لتجمير الكتائب عليهما لبعده، ارتاد للبناء عليها فيما هو أقرب منه، فاختط بمكان سوق الخميس على وادي بجاية مدينة لتجهيز الكتائب بها على بجاية، وجمع الأيدي على بنائها من الفعلة والعساكر، فتمت لأربعين يوما، وسموها تامزيزدكت باسم الحصن القديم الذي كان لبني عبد الواد قبل الملك بالجبل قبلة وجدة، وأنزل بها عسكراً يناهز ثلاثة آلاف. وأوعز السلطان إلى جميع عماله ببلاد المغرب الأوسط بنقل الحبوب إلى حيث كانت، والادم وسائر المرافق حتى الملح، وأخذوا الرهن من سائر القبائل على الطاعة واستوفوا جبايتهم. فثقلت وطأتهم على بجاية واشتد حصارها وغلت أسعارها. وبعث مولانا السلطان أبو يحيى جيوشه وقواده سنة سبع وعشرين، فسلكوا إلى بجاية على جبل بني عبد الجبار، وخرج بهم قائدها أبو عبد الله بن سيد الناس إلى ذلك الحصن. وقد كان موسى بن علي عند بلوغ خبرهم إليه استنفر الجنود من ورائه، وبعث إلى القواد قبله بالبراز فالتقى الجمعان بناحية تامزيزدكت، فانكشف ابن سيد الناس ومات ظافر الكبير مقدم الموالي من المعلوجي بباب السلطان واستبيح معسكرهم. ولما سخط السلطان قائده موسى بن علي ونكبه كما نذكره في أخباره أغرى يحيى بن موسى السنوسي في العساكر إلى إفريقية ومعه القواد، فعاثوا في نواحي قسنطينة وانتهوا إلى بلد بونة ورجعوا. وفي سنة تسع وعشرين بعدها وفد حمزة بن عمر على السلطان أبي تاشفين صريخا، ووفد معه أو بعده عبد الحق بن عثمان، فحل الشول من بني مرين. وكان قد نزل على مولانا السلطان أبي يحيى منذ سنين، فسخط بعض أحواله ولحق بتلمسان، فبعث السلطان معهم جميع قواده بجيوشه لنظر يحيى بن موسى. ونصب لهم حمد بن أبي بكر بن أبي عمران من أعياص الحفصيين، ولقيهم مولانا السلطان أبو يحيى بالرياس من نواحي بلاد هوارة، وانخذل عنه أحياء العرب من أولاد مهلهل الذين كانوا معه، وانكشفت جموعه واستولوا على ظعائنه بما فيها من الحريم. وعلى ولديه أحمد وعمر، فبعثوا بهم إلى ظمسان، ولحق مولانا السلطان أبو يحيى بقسنطينة وقد أصابه بعض الجراحة في حومة الحرب. وسار يحيى بن موسى وابن أبي عمران إلى تونس، فاستولوا عليها. ورجع يحيى بن موسى عنهم بجموع زناتة لأربعين يوما من دخولها، فقفل إلى تلمسان، وبلغ الخبر إلى مولانا السلطان أبي يحيى بقفول زناتة عنهم، فنهض
إلى تونس، وأجهض عنها ابن أبي عمر بعد أن كان أوفد من بجاية على ملك الغرب ابنه أبا زكرياء يحيى، ومعه أبو محمد بن تافراكين من مشيخة الموحدين، صريخا على أبي تاشفين فكان ذلك داعية إلى انتقاض ملكه كما نذكره بعد. وداخل السلطان أبو تاشفين بعض أهل بجاية، ودلوه على عورتها، واستقدموه فنهض إليها ودخلها، ونذر بذلك الحاحب ابن سيد الناس فسابقه إليها، ودخلها يوم نزوله عليها، وقتل من اتهمه بالمداخلة، وانحسم الداء. وأقلع السلطان أبو تاشفين عنها، وولى عيسى بن مزروع من مشيخة بني عبد الواد على الجيش الذي بتامزيزدكت، وأوعز إليه ببناء حصن أقرب إلى بجاية عن تامزيزدكت، فبناه باليالوتة من أعلى الوادي قبالة بجاية. فأخذ بمخنقها واشتد الحصار إلى أن أخذ السلطان أبو الحسن بحجرتهم؛ فانجفلوا جميعا إلى تلمسان؛ وتنفس مخنق الحصار عن بجاية. ونهض مولانا السلطان أبو يحيى بجيوشه من تونس إلى تامزيزدكت سنة اثنتين وثلاثين؛ فخربها في ساعة من نهار كأن لم تغن بالأمس؛ حسبما ذكرنا ذلك في أخباره. والله تعالى أعلم. الخبر عن معاودة الفتنة مع بني مرين وحصارهم تلمسان ومقتل السلطان أبي تاشفين بن أبي حمو: كان السلطان أبو تاشفين قد عقد السلم لأول دولته مع السلطان أبي سعيد ملك المغرب؛ فلما انتقص عليه ابنه عمر سنة اثنتين وعشرين من بعد المهادنة الطويلة من لدن استبداده بسجلماسة؛ بعث ابنه القعقاع إلى أبي تاشفين في الأخذ بحجرة أبيه عنه، ونهض إلى مراكش فدخلها. وزحف إليه السلطان أبو سعيد، فبعث أبو تاشفين قائده موسى بن علي في العساكر إلى نواحي تازى؛ فاستباح عمل كارت واكتسح زروعه وقفل. واعتدها عليه السلطان أبو سعيد، وبعث أبو تاشفين وزيره داود بن علي بن مكن رسولاً إلى السلطان أبي علي بسجلماسة، فرجع عنه مغاضبا. وجنح أبو تاشفين بعدها إلى التمسك بسلم السلطان أبي سعيد، فعقد لهم ذلك وأقاموا عليها مدة. فلما وفد ابن مولانا السلطان أبي يحيى على السلطان أبي سعيد ملك المغرب، وانعقد الصهر بينهم كما ذكرناه في أخبارهم، وهلك السلطان أبو سعيد، نهض السلطان أبو الحسن إلى تلمسان بعد أن قدم رسله إلى السلطان أبي تاشفين في أن يقلع جيوشه عن حصار بجاية،
ويتجافى للموحدين عن عمل تدلس فأبى وأساء الرد، وأسمع الرسل بمجلسه هجر القول. وأقذع لهم الموالي في الشتم لمرسلهم بمسمع من أبي تاشفين؛ فأحفظ ذلك السلطان أبا الحسن، ونهض في جيوشه سنة اثنتين وثلاثين إلى تلمسان؛ فتخطاها إلى تاسالة وضرب لها معسكره وأطال المقامة. وبعث المدد إلى بجاية مع الحسن البطوي من صنائعه، وركبوا في أساطيله من سواحل وهران. ووافاهم مولانا السلطان أبو يحيى ببجاية؛ وقد جمع لحرب بني عبد الواد وهدم تامزيزدكت؛ وجاء لموعد السلطان أبي الحسن معه أن يجتمعا بعساكرهما لحصار تلمسان فنهض من بجاية إلى تامزيزدكت وأجفل منها عسكر بني عبد الواد وتركوها قواء. ولحقت بها عساكر الموحدين؛ فعاثوا فيها تخريبا ونهبا. وانطلقت الأيدي على الاكتساح بما كان فيها من الأقوات والأدم، فنسفت وألصقت جدرانها بالأرض. وتنفس مخنق بجاية من الحصار، وانكمش بنو عبد الواد إلى وراء تخومهم. وفي خلال ذلك انتقض أبو علي ابن السلطان أبي سعيد على أخيه، وصمد من مقره بسجلماسة إلى درعة، وفتك بالعامل وأقام فيها دعوته، كما نذكر ذلك بعد. وطار الخبر إلى السلطان أبي الحسن بمحله من تاسالة؛ فنكص راجعا إلى المغرب لحسم دائه؛ وراجع السلطان أبو تاشفين عزه وانبسطت عساكره في ضواحي عمله؛ وكتب الكتائب وبعث بها مددا للسلطان أبي علي. ثم استنفر قبائل زناتة، وزحف إلى تخوم المغرب سنة ثلاث وثلاثين ليأخذ بحجرة السلطان أبي الحسن على أخيه، وانتهى إلى ثغر تاوريرت. ولقيه هنالك تاشفين ابن السلطان أبي الحسن في كتيبة جمرها أبوه معه هنالك لسد الثغور، ومعه منديل بن حمامة شيخ تيربيغين من بني مرين في قومه. فلما برزوا إليه انكشف ورجع إلى تلمسان. ولما تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه وقتله سنة أربع وثلاثين، جمع لغزو تلمسان وحصارها، ونهض إليها سنة خمس، وقد استنفد وسعه في الاحتفال بذلك. وأحاطت بها عساكره وضرب عليها سياج الأسوار وسرادقات الحفائر أطبقت عليهم، حتى لا يكاد الطيف يخلص منهم ولا إليهم. وسرح كتائبه إلى القاصية من كل جهة؛ فتغلب على الضواحي وافتتح الأمصار جميعا، وخرب وجدة كما يأتي ذكر ذلك كله. وألح عليها بالقتال يغاديها ويراوحها، ونصب المجانيق، وانحجر بها مع السلطان أبي تاشفين زعماء زناتة من بني توجين وبني عبد الواد وكان عليهم في بعض
أيامها اليوم المشهور الذي استلحمت فيه أبطالهم وهلك أمراؤهم. وذلك أن السلطان أبا الحسن كان يباكرهم في الأسحار؛ فيطوف من وراء أسواره التي ضرب عليهم شرطا يرتب فيه المقاتلة، ويثقف الأطراف ويسد الفروج ويصلح الخلل، وأبو تاشفين يبث العيون في ارتصاد فرصة فيه. وأطاف في بعض الأيام منتبذا عن الجملة فكمنوا له؛ حتى إذا سلك ما بين البلد والجبل انقضوا عليه يحسبونها فرصة قد وجدوها؛ وضايقوه حتى كاد سرعان الناس أن يصلوا إليه. وأحس أهل المعسكر بذلك؛ فركبوا زرافات ووحدانا. وركب ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك جناحا عسكره وعقابا جحافله، وتهاوت إليهم صقور بني مرين من كل جو فانكشف عسكر البلد ورجعوا القهقرى، ثم ولوا الإدبار منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد. واعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه وتهافتوا على ردمه؛ فكان الهالك يومئذ بالروم أكثر من الهالك بالقتل. وهلك من بني توجين يومئذ عمر بن عثمان كبير الحشم وعامل جبل وانشريش، ومحمد بن سلامة بن علي كبير بني يدللتن وصاحب القلعة تاوعزدوت وما إليها من عملهم، وهما ما هما في زناتة، إلى أشباه لهما وأمثال استحلموا في هذه الوقائع؛ فقص هذا اليوم جناح الدولة وحطم منها؛ واستمرت منازلة السلطان أبي الحسن إياها إلى آخر شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين؛ فاقتحمها يوم السابع والعشرين منه غلابا. ولجأ السلطان أبو تاشفين إلى باب قصره في لمة من أصحابه، ومعه ولدان عثمان ومسعود، ووزيره موسى بن علي وعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من أعياص بني مرين، وهو الذي لحق بهم من تونس كما ذكرناه. وسيأتي ذكره وخبره. ومعه يومئذ ابنا أخيه أبو رزين وأبو ثابت، فمانعوا دون القصر مستميتين إلى أن استلحموا ورفعت رؤوسهم على عصي رماح؛ فطيف بها. وغصت سكك البلد من خارجها وداخلها بالعساكر وكظت أبوابها بالزحام، حتى لقد كب الناس على أذقانهم وتواقعوا فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم ما بين البابين، حتى ضاق المذهب بين السقف ومسلك الباب، فانطلقت الأيدي على المنازل نهبا واكتساحا. وخلص السلطان إلى المسجد الجامع، واستدعى رؤوس الفتيا والشورى: أبا زيد عبد الرحمن، وأبا موسى عيسى ابني الإمام، قدمهما من أعماله لمكان معتقده في أهل العلم، فحضرا ورفعا إليه أمر الناس، وما نالهم من معرة ووعظاه فأناب. ونادى مناديه برفع الأيدي عن ذلك، فسكن الاضطراب وأقصر العيث. وانتظم السلطان أبو الحسن
أمصار المغرب الأوسط وعمله إلى سائر أعماله، وتاخم الموحدين بثغوره، وطمس رؤوس الملك لآل زيان ومعالمه، واستتبع زناتة عصبا تحت لوائه من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة، وأقطعهم ببلاد المغرب أسهاما أدالهم بها من تراثهم بأعمال تلمسان، فانقرض ملك آل يغمراسن برهة من الدهر إلى أن أعاده منهم أعياص سموا إليه بعد حين عند نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان كما نذكره، فأومض بارقة وهبت ريحه. والله يؤتي فلكه من يشاء. الخبر عن رجال دولته وهم موسي بن علي ويحيى بن موسي ومولاه هلال وأوليتهم ومصائر أمولهم: واختصاصهم بالذكر لما طار من شهرتهم وارتفع من صيتهم: فأما موسى بن علي الحاجب الهالك مع السلطان، فأصله من قبيلة الكرد من أعاجم المشرق، وقد أشرنا إلى الخلاف في نسبهم بين الأمم. وذكر المسعودي منهم أصنافا سماهم في كتابه من الشاهجان والبرسان والكيكان إلى آخرين منهم، وإن مواطنهم ببلاد أذربيحان والشام والموصل، وإن منهم نصارى على رأي اليعقوبية وخوارج على رأي البراءة من عثمان وعلي. انتهى كلامه. وكان منهم طوائف بجبل شهرزور من عراق العرب، وعافتهم يتقلبون في الرحلة وينتجعون لسائمتهم مواقع الغيث، ويتخذون الخيام لسكناهم من اللبود، وجل مكاسبهم الشاء والبقر من الأنعام، وكانت لهم عزة وامتناع بالكثرة ورياسات ببغداد أيام تغلب الأعاجم على الدولة واستبدادهم بالرياسة. ولما طمس ملك بني العباس، وغلب الططر على بغداد سنة ست وخمسين وستماية، وقتل ملكهم هلاون آخر خلفاء العباسيين، وهو المستعصم. ثم ساروا في ممالك العراق وأعماله، فاستولوا عليها، وعبر الكثير من الكرد نهر الفرات فرارا أمام الططر لما كانوا يدينون به من المجوسية. وصاروا في إيالة الترك، فاستنكف أشرافهم وبيوتاتهم من المقام تحص سلطانهم. وأجاز منهم إلى المغرب عشيرتان يعرفان ببني لوين وبين تابير فيمن إليهم مر الأتباع، ودخلوا المغرب لآخر دولة الموحدين. ونزلوا على المرتضى بمراكش، فأحسى تلقيهم وأكرم مثواهم، وأسنى لهم الجراية والأقطاع، وأحلهم بالمحل الرفيع من الدولة ولما انتقض أمر الموحدين بحدثان وصولهم صاروا إلى ملكة بني مرين، ولحق بعضهم بيغمراسن بن زيان، ونزع إلى صاحب إفريقية يومئذ المستنصر، بيت من بني تابير لا أعرفهم؛ كان منهم محمد بن عبد العزيز المعروف بالمزوار، صاحب مولانا السلطان أبي يحيى وآخرون غيره: منهم وكان من أشهر من بقي في إيالة بني مرين منهم. ثم من بني تابير علي بن حسن بن صاف وأخوه سلمان ومن بني لوين خضر بن محمد، ثم بنو محمود، ثم بنو بوصة. وكانت رياسة بني تابير لسلمان وعلي، ورياسة لوين الخضر بن محمد. وكادت تكون الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الأولى؛ فإذا تعدوا للحرب توافت إليهم أشياعهم من تلمسان، وكان نصالهم بالسهام لما كانت القسي سلاحهم. وكانت من أشهر الوقائع بينهم وقيعة بفاس سنة أربع وسبعين وستماية؛ جمع لها خضر رئيس بني لوين وسليمان وعلي رئيسا بني تابير، واقتتلوا خارج بأب الفتوح. وتركهم يعقوب بن عبد الحق لشأنهم من الفتنة حياء منهم؛ فلم يعرض لهم. وكان مهلك سلمان منهم بعد ذلك مرابطا لثغر طريف عام تسعين وستماية، وكان لعلي بن حسن ابنه موسى اصطفاه السلطان يوسف بن يعقوب. وكشف له الحجاب عن داره، ورئي بين حرمه؛ فتمكنت له دالة سخط بسببها بعض الأحوال مما لم يرضه، فذهب مغاضبا ودخل إلى تلمسان أيام كان يوسف بن عبد الحق محاصرا لها؛ فتلقاه عثمان بن يغمراسن من التكرمة والترحيب بما يناسب محله وقومه ومنزلته من اصطناع السلطان. وأشار يوسف بن يعقوب على أبيه باستمالته فلقياه في حومة القتال، وحادثه واعتذر له بكرامة القوم إياه فحضه على الوفاء لهم، ورجع إلى السلطان فخبره الخبر فلم ينكر عليه. وأقام هو بتلمسان، وهلك أبوه علي بالمغرب سنة سبع وسبعماية. ولما هلك عثمان بن يغمراسن زاده بنوه اصطناعا ومداخلة، وخلطوه بأنفسهم، وعقدوا له على العساكر لمحاربة أعدائهم، وولوه الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة من الوزارة والحجابة. ولما هلك السلطان أبو حمو، وقام بأمره ابنه أبو تاشفين، وكان هو الذي تولى له أخذ البيعة على الناس، غص بمكانه مولاه هلال. فلما استبد عليه، وكان كثبر أما ينافي موسى بن علي وينافسه، فخشي على نفسه وأجمع على إجازة البحر للمرابطة بالأندلس، فبادره هلال وتقبض عليه وغربه إلى العدوة ونزل بغرناطة، وانتظم في الغزاة المجاهدين، وأمسك عن جراية السلطان، فلم يمد إليها يدا أيام مقامه، وكانت من أنزه ما جاء به وتحدث بها الناس فأغربوا، وأنفذت جوانح هلال لها حسدا وعداوة؛
فأغرى سلطانه بخطاب ابن الأحمر في استقدامه، فأسلمه إليه. واستعمله السلطان في حروبه وعلى قاصيته حتى كان من نهوضه بالعساكر إلى إفريقية للقاء مولانا السلطان أبي يحيى سنة سبع وعشرين. وكانت الدبرة عليه. واستلحمت زناتة، ورجع في الفل؛ فأغرى هلال السلطان وألقى في نفسه التهمة به. ونمي ذلك إليه؛ فلحق بالعرب الدواودة، وعقد مكانه على محاصرة بجاية ليحيى بن موسى صاحب شلف، ونزل هو على سليمان ويحيى ابني علي بن سباع بن يحيى من أمراء الدواودة المذكورين في أخبارهم، فلقوه مبرة وتعظيما، وأقام بين أحيائهم مدة. ثم استقدمه السلطان ورجعه إلى محله من مجلسه، ثم تقبض عليه لأشهر، وأشخصه إلى الجزائر فاعتقله بها، وضيق عليه محبسه ذهابا مع أغراض منافسة هلال، حتى إذا أسخط هلالا استدعاه من محبسه أضيق ما كان، فانطلق إليه. فلما تقبض على هلال قلد موسى بن علي حجابته، فلم يزل مقيما لرسمها إلى يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان، فهلك مع أبي تاشفين وبنيه في ساحة قصرهم كما قلناه. وانقضى أمره. والبقاء لته. وانتظم بنوه بعد مهلكه في جملة السلطان أبي الحسن، وكان كبيرهم سعيد قد خلص من بين القتلى في تلك الملحمة بباب القصر بعد هدء من الليل مثخنا بالجراح، وكانت حياته بعدها تعد من الغرائب، ودخل في عفو السلطان إلى أن عادت دولة بني عبد الواد، فكان له في سوقها نفاق كما نذكره والله غالب على أمره. وأما يحيى بن موسى فأصله من بني سنوس إحدى بطون كومية، ولهم ولاء في بني كمي، بالاصطناع والتربية. ولما فصل بنو كمي إلى المغرب قعدوا عنهم، واتصلوا ببني يغمراسن فاصطنعوهم، ونشأ يحيى بن موسى في خدمة عثمان وبنيه واصطناعهم. ولما كان الحصار ولاه أبو حمو مهمة من الطواف بالليل على الحرس بمقاعدهم من الأسوار، وقسم القوت على المقاتلة بالمقدار، وضبط الأبواب، والتقدم في حومة القتال، وكان له أعوان على ذلك من خدامه، قد لزموا الكون معه في البكر والاصال والليل والنهار، وكان يحيى هذا منهم، فعرفوا له خدمته وذهبوا إلى اصطناعه. وكان أول ترشيحه ترديده أبي يوسف يعقوب بمكانه من حصارهم فيما يدور بينهم من المضاربة، فكان يجلي في ذلك ويؤتي من غرض مرسله. ولما خرجوا من الحصار أوفوا به على رتب الاصطناع والتنويه.
ولما ملك أبو تاشفين استعمله بشلف مستبدا بها، وأذن له في اتخاذ الآلة. ثم لما عزل موسى بن علي عن حرب الموحدين وقاصية الشرق عزله به، وكانت المدية وتنس من عمله. فلما نازل السلطان أبو الحسن تلمسان راسله في الطاعة والكون معه؛ فتقبله وجأجأ به من مكان عمله؛ فقدم عليه بمخيمه على تلمسان؛ فاختصه بإقباله ورفع مجلسه من بساطه، ولم يزل عنده بتلك الحال إلى أن هلك بعد افتتاح تلمسان. والله مصرف الأقدار. وأما هلال فأصله من سبي النصارى القطلونيين، أهداه السلطان ابن الأحمر إلى عثمان بن يغمراسن، وصار إلى السلطان أبي حمو، فأعطاه ولده أبا تاشفين فيما أعطاه من موالي المعلوجي، ونشأ معه تربيا، وكان مختصا عنده بالمداخلة والدالة، وتولى كبر تلك الفعلة التي فعلوا بالسلطان أبي حمو. ولما ولي بعده ابنه أبو تاشفين ولاه على حجابته، وكان مهيبا فظا غليظا، فقعد مقعد الفصل ببابه وأرهب الناس سطوته، وزحزح المرشحين عن رتب المماثلة إلى التعلق بأهدابه، فاستولى على أمر السلطان. ثم حذر مغبة الملك وسوء العواقب، واستأذن السلطان في الحج وركب إليه من هنين بعض السفن اشتراها بماله وشحنها بالعديد والعدة والأقوات والمقاتلة وأقام كاتبه الحاج محمد بن حونته بباب السلطان على رسم النيابة عنه. وأقلع سنة أربع وعشرين فنزل بالإسكندرية، وصحب الحاج من مصر في جملة الأمير عليهم، ولقي في طريقه سلطان السودان من مالي منسى موسى، واستحكمت بينهما المودة. ثم رجع بعد قضاء فرضه إلى تلمسان، فلم يجد مكانه من السلطان. ولم يزل بعد ذلك يتنكر له وهو يسايسه بالمداراة والاستجداء إلى أن سخطه؛ فتقبض عليه سنة تسع وعشرين وأودعه سجنه؛ فلم يزل معتقلا إلى أن هلك من وجع أصابه قبيل فتح تلمسان ومهلك السلطان بأيام، فكان آية عجباء في تقارب مهلكهما واقتران سعادتهما ونحوسهما. وقد كان السلطان أبو الحسن يتبع الموالي الذين شهدوا مقتل السلطان أبي حمو، وأفلت هلال هذا من عقابه بموته. والله بالغ حكمه.
الخبر عن انتزاء عثمان بن جرار علي ملك تلمسان بعد نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان وعود الملك بذلك لبني زيان: كان بنو جرار هؤلاء من فصائل تيدوكسن بن طاع الله وهم بنو جرار بن يعلى بن تيدوكسن، وكان بنو محمد بن زكدان يغصون بهم مذ أول الأمر، حتى صار الملك إليهم واستندوا به، فجروا على جميع الفصائل من عشائرهم ذيل الاحتقار. ونشأ عثمان بن يحيى بن محمد بن جرار من بينهم مرموقا بعين التجلة والرياسة، وسعى عند السلطان أبي تاشفين بأن في نفسه تطاولا للرئاسة فاعتقله مدة، وفرمن حبسه فلحق بملك المغرب السلطان أبي سعيد فآثر محله وأكرم نزله، واستقر بمثواه فنسك وزهد. واستأذن السلطان عند تغلبه على تلمسان في الحج بالناس فأذن له، وكان قائد الركب من المغرب إلى مكة سائر أيامه، حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على أعمال الموحدين وحشد أهل المغرب من زناتة والعرب لدخول إفريقية اندرج عثمان هذا في جملته، واستأذنه قبيل القيروان في الرجوع إلى المغرب فاذن له. ولحق بتلمسان فنزل على أميرها من ولده الأمير أبي عنان، كان قد عقد له على عملها، ورشحه لولاية العهد بولايتها، فازدلف إليه بما بثه من الخبر عن أحوال أبيه، فتلطف فيما أوح سمعه من تورط أبيه في مهالك إفريقية، وإياسه من خلاصه، ووعده بمصير الأمر إليه على ألسنة الحزى والكهان. وكان يتظنن فيه أن لديه من ذلك علما، وعلى تفيئة ذلك كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان. وظهر مصداق ظنه وإصابة قياسه، فأغراه بالتوثب على ملك أبيه بتلمسان والبدار إلى فاس لغلب منصور ابن أخيه أبي مالك عليها، وكان استعمله جده أبو الحسن هنالك وأراه آية سلطانه وشواهد ملكه. وتحيل في إشاعة مهلك السلطان أبي الحسن وإلقائه على الألسنة حتى أوهم صدقه. وتصدى الأمير أبو عنان للأمر، وتسايل إليه الفل من عساكر بني مرين، فاستلحق وبث العطاء وأعلن بالدعاء لنفسه في ربيع سنة تسع وأربعين، وعسكر خارج تلمسان للنهوض إلى المغرب. ثم استعمل عثمان بن جرار على تلمسان وعملها وارتحل إلى المغرب كما نذكره في أخبارهم. ولما فصل دعا عثمان لنفسه وانتزى على كرسيه، واتخذ الآلة وأعاد من ملك بني عبد الواد رسما لم يكن لآل جرار، واستبد أشهرا قلائل إلى أن خلص إليه من آل زيان من ولد عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن من طمس معالمه، وخسف به وبداره، وأعاد أمر بني عبد الواد في
نصابه، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن دولة أبي سعيد وأبي ثابت من أل يغمراسن وما كان فيها من الأحداث: كان الأمير يحيى جدهما من أكبر ولد يغمراسن بن زيان، وكان ولي عهده بعد مهلك أخيه عمر الأكبر. ولما تغلب يغمراسن على سجلماسة سنة إحدى وستين وستماية استعمله عليها، فأقام بها أحوالا، وولد له هنالك ابنه عبد الرحمن. ثم رجع إلى تلمسان فهلك بها، ونشأ عبد الرحمن بسجلماسة، ولحق بتلمسان بعد أبيه، فأقام مع بني أبيه إلى أن غص السلطان بمكانه وغربه إلى الأندلس، فمكث فيها حينا وهلك في مرابطته بثغر قرمونة في بعض أيام الجهاد. وكان له بنون أربعة: يوسف وعثمان والزعيم وإبراهيم، فرجعوا إلى تلمسان وأوطنوها أعواما، حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن على ملكهم وأضاف إلى دولته دولتهم نقلهم من تلمسان إلى المغرب في جملة أعياصهم. ثم سألوا إذنه في المرابطة بثغور الأندلس التي في عمله؛ فأذن لهم وفرض له العطاء وأنزلهم بالجزيرة؛ فكانت لهم في الجهاد مواقف مذكورة ومواطن معروفة. ولما استنفر السلطان أبو الحسن زناتة لغزو إفريقية سنة ثمان وأربعين كانوا في جملته مع قومهم بني عبد الواد وفي رايتهم، ومكانهم معلوم بينهم. فلما اضطرب أمر السلطان أبي الحسن، وتألب عليه الكعوب من بني سليم أعراب إفريقية، وواضعوه الحرب بالقيروان، كان بنو عبد الواد أول النازعين عنه إليهم. فلما كانت النكبة والحجز بالقيروان، وانطلقت أبدي الأعراب على الضواحي، وانتقض المغرب من سائر أعماله، أذنوا لبني عبد الواد في اللحاق بقطرهم ومكان عملهم، فمروا بتونس وأقاموا بها أياما. وخلص الملأ منهم نجيا في شأن أمرهم ومن يقدمون عليهم، فأصفقوا بعد الشورى على عثمان بن عبد الرحمن، واجتمعوا عليه لعهده بهم يومئذ، وقد خرجوا به إلى الصحراء وأجلسوه بباب مصلى العيد من تونس على درقة. ثم ازدحموا عليه بحيث توارى شخصه عن الناس، يسلمون عليه بالأمارة، ويعطونه الصفقة على الطاعة والبيعة، حتى استكملوا جميعا، ثم انطلقوا به إلى رجالهم. واجتمع مغراوة أيضا إلى أميرهم علي بن راشد بن محمد بن ثابت بن منديل الذي ذكرناه من قبل، وتعاهدوا على الصحابة إلى أعمالهم أيرص والمهادنة آخر الأيام واستئثار كل بسلطانه وتراث سلفه، وارتحلوا على تفيئة ذلك جميعا إلى المغرب. وشنت البوادي عليهم الغارات في كل وجه، فلم يظفروا منهم بقلامة
الظفر: مثل ونيفن وبرية وأهل جبل بني ثابت. ولما مروا ببجاية وكان فيها فل من مغراوة وتوجين، نزلوا بها مند غلبوا على أعمالهم، وصاروا في جند السلطان، فارتحلوا معهم. واعترضهم بجبل الزاب برابرة زواوة، فأوقعوا بهم. وظهر من نجدتهم وبلائهم في الحروب ما هو معروف لأوليهم. ثم لحقوا بشلف فتلقتهم قبائل مغراوة، وبايعوا سلطانهم عليم بن راشد فاستوسق ملكه.
بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثاني المجلد السابع من تاريخ العلامة ابن خلدون وانصرف بنو عبد الواد والأميران أبو سعيد وأبو ثابت بعد أن أحكموا العهد وأبرموا الوثاق مع علي بن راشد وقومه. وكان في طريقهم بالبطحاء أحياء سويد، ومن معهم من أحلافهم، قد نزلوا هنالك مع شيخهم ونزمار بن عريف، منهزمهم من تاسالة، أمام جيوش السلطان أبي عنان؛ فأجفلوا من هنالك ونزل بنو عبد الواد مكانهم؛ وكان في جملتهم جماعة من بني جرار بن تيدوكسن، كبيرهم عمران بن موسى؛ ففر إلى ابن عمه عثمان بن يحيى بن جرار تلمسان؛ فعمد له على حرب أبي سعيد وأصحابه؛ فنزع الجند الذين خرجوا معه إلى السلطان أبي سعيد. وانقلب هو إلى تلمسان، والقوم في أثره؛ فأدرك بطريقة وقتل. ومر السلطان إلى البلد؛ فثارت العامة بعثمان بن جرار؛ فاستأمن لنفسه من السلطان فأمنه؛ ودخل إلى قصره آخر جمادى الآخرة من سنة تسع وأربعين؛ فاقتعد أريكته وأصدر أوامره واستوزر واستكتب وعقد لأخيه أبي ثابت الزعيم على ما وراء بابه من شؤون ملكهما، وعلى القبيل والحروب، واقتصر هو على ألقاب الملك وأسمائه ولزم الدعة. وتقبض لأول دخوله على عثمان بن يحيى بن جرار؛ فأودعه المطبق إلى أن مات في رمضان من سنته؟ ويقال قتيلا. وكان من أول غزوات السلطان غزاته إلى كومية، وذلك أن كبيرهم إبراهيم بن عبد الملك كان شيخا عليهم منذ حين من الدهر، وكان ينتسب في بني عابد، وهم قوم عبد المؤمن بن علي من بطون كومية. فلما ونع هذا الهرج بتلمسان حسب أنه لا تتجلى غيابته، وحدثته نفسه بالانتزاء فدعا لنفسه، وأضرم بلاد كومية وما إليها من السواحل نارا وفتنة. وجمع له السلطان أبو ثابت، ونهض
إلى كومية فاستباحهم قتلا وسبيا، واقتحم هنين، ثم ندرومة بعدها. وتقبض على إبراهيم بن عبد الملك الخارج فجاء به معتقلا إلى تلمسان وأودعه السجن؛ فلم يزل به إلى أن قتل بعد أشهر. وكانت أمصار المغرب الأوسط وثغوره لم تزل على طاعة السلطان أبي الحسن والقيام بدعوته، وبها عماله وحاميته. وأقربها إلى تلمسان مدينة وهران؛ كان بها القائد عبو بن سعيد بن أخانا من صنائع بني مرين؛ وقد ضبطها وثقفها وملاها أقواتا ورجلا وسلاحا؛ وملا مرساها أساطيل، فكان أول ما قدموه من أعمال النهوض إليه؛ فنهض السلطان أبو ثابت بعد أن جمع قبائل زناتة والعرب، ونزل على وهران وحاصرها أياما. وكان في قلوب بني راشد أحلافهم مرض، فداخلوا قائد البلد في الانتقاض على السلطان أبي ثابت، ووعدوه الوفاء بذلك عند المناجزة، فبرز وناجزهم الحرب، فانهزم بنو راشد وجروا الهزيمة على من معهم. وقتل حمد بن يوسف بن عنان بن فارس أخي يغمراسن بن زيان من أكابر القرابة، وانتهب المعسكر. ونجا السلطان أبو ثابت إلى تلمسان إلى أن كان ما نذكره. الخبر عن لقاء أبي ثابت مع الناصر ابن السلطان أبي الحسن وفتح وهران بعدها: كان السلطان أبو الحسن بعد واقعة القيروان قد لحق بتونس؛ فأقام بها والعرب محاصرون له ينصبون الأعياص من الموحدين لطلب تونس واحدا بعد آخر كما ذكرناه في أخبارهم. وبينما هو يؤمل الكرة ووصل المدد من المغرب الأقصى إذ بلغه الخبر بانتثار السلك أجمع؛ وبانتقاض ابنه وحافده، ثم استيلاء أبي عنان على المغرب كله، ورجوع بني عبد الواد ومغراوة وتوجين إلى ملكهم بالمغرب الأوسط. ووفد عليه يعقوب بن علي أمير الدواودة؛ فاتفق مع عريف بن يحيى، أمير سويد وكبير مجلس السلطان، على أن يغرياه ببعث ابنه الناصر إلى المغرب الأوسط للدعوة التي كانت قائمة له بأمصاره في الجزائر ووهران وجبل وانشريش، وكان به نصر بن عمر بن عثمان بن عطية قائما بدعوته، وأن يكون عريف بن نصر في جملة الناصر لمكانه من السلطان ومكان قومه من الولاية. وكان ذلك من عريف تفاديا من المقام بتونس، فأجاب إليه السلطان وبعثهم جميعا، ولحق الناصر ببلاد حصين فأعطوه الطاعة وارتحلوا معه. ولقيه العطاف والديالم وسويد فاجتمعوا إليه وتألبوا معه، وارتحلوا يريدون منداس. وبينما الأمير أبو ثابت يروم معارضة
الغزو إلى وهران إذ فجأه الخبر بذلك، فطير به إلى السلطان أبي عنان. وجاء العسكر من بني مرين مددا صحبة أبي زيان ابن أخيه أبي سعيد، كان مستنفرا بالمغرب منذ نهوضهم إلى القيروان. وبعث عنه أبوه، فجاء مع المدد من العساكر والمال. ونهض أبو ثابت من تلمسان أول المحرم سنة خمسين، وبعث إلى مغراوة بالخبر فقعدوا عن مناصرته. ولحق ببلاد العطاف فلقيه الناصر هنالك في جموعه بوادي ورك آخر شهر ربيع الأول، فانكشفت جموع العرب وانهزموا. ولحق الناصر بالزاب؛ فنزل على ابن مزني ببسكرة، إلى أن أصحبه من رجالات سليم من أوصله إلى أبيه بتونس. ولحق عريف بن يحيى بالمغرب الأقصى، واحتل عند السلطان أبي عنان بمكانه من مجلسهم، فحصل على البغية. ورجع العرب كلهم إلى طاعة أبي ثابت وخدمته، واستراب بصغير بن عامر بن إبراهيم؛ فتقبض عليه وأشخصه معتقلا مع البريد إلى تلمسان؛ فاعتقل بها إلى أن أطلق بعد حين. وقفل أبو ثابت إلى تلمسان فتلوم بها أياما. ثم نهض إلى وهران في جمادى من سنته، فحاصرها أياما ثم افتتحها عنوة، وعفا عن علي بن أجانا القائم بها بعد مهلك أخيه عبو وعلى من معه. وأطلق سبيلهم واستولى على ضواحي وهران وما إليها، ورجع إلى تلمسان، وقد استحكمت العداوة بينه وبين مغراوة، وقد كان استجرها ما قدمناه من نعودهم عن نصره؛ فنهض إليهم في شوال من سنته والتقوا في عدوة وادي رهيو فاقتتلوا مليا. ثم انكشفت مغراوة ولحقوا بمعاقلهم، واستولى أبو ثابت على معسكرهم، وملك مازونة، وبعث ببيعتها إلى أخيه السلطان أبي سعيد. وكان على إثر ذلك وصول السلطان أبي الحسن من تونس كما نذكر، إن شاء الله تعالى. الخبر عن وصول السلطان أبي الحسن من تونس ونزوله بالجزائر وما دار بينه وبين أبي ثابت من الحروب ولحاقه بعد الهزيمة بالمغرب: كان السلطان أبو الحسن بعد واقعة القيروان وحصار العرب إياه، قد طال مقامه بتونس. واستدعاه أهل المغرب الأقصى وانتقض عليه أهل بلاد الجريد، وبايعوا للفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى؟ فاجمع الرحلة إلى المغرب وركب السفن من تونس أيام الفطر من سنة خمسين؟ فعصفت به الريح وأدركه الغرق؛ فغرق أسطوله على سواحل بجاية؛ ونجا بدمائه إلى بعض الجزر هنالك، حتى لحقه أسطول من أساطيله، فنجا فيه
إلى الجزائر وبها حمو بن يحيى بن العسري قائده وصنيعة أبيه، فنزل عليه. وبادر إليه أهل ضاحيتها من مليكش والثعالبة، فاستخدمهم وبث فيهم العطاء. واتصل خبره بونزمار بن عريف وهو في أحياء سويد؛ فوفد عليه في مشيخة من قومه. ووفد معه نصر بن عمر بن عثمان صاحب جبل وانشريش من بني تيغرين، وعدي بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي الثائر بنواحي المدية من ولد عبد القوي، فأعطاه الطاعة. واستحثوه للخروج معهم فردهم للحشد، فجمعوا من إليهم من قبائل العرب وزناتة. وبينما الأمير أبو ثابت ببلاد مغراوة محاصرا لهم في معاقلهم، إذ بلغه الخبر بذلك في ربيع سنة إحدى وخمسين؛ فعقد السلم معهم ورجع إلى قتال هؤلاء؛ فأخذ علي منداس وخرج إلى السرسو قبلة وانشريش. وأجفل أمامه ونزمار، وجموع العرب الذين معه. ولحق به هنالك مدد السلطان أبي عنان قائدهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي؛ فاتبع أبو ثابت آثار العرب وشردهم. ولحق أحياء حصين بمعقلهم من جبل تيطرى. ثم عطف على المدية ففتحها، وعقد عليها لعمران بن موسى الجلولي من صنائعهم. ثم نهض إلى حصين فافتتح عليهم الجبل فلاذوا بالطاعة، وأعطوا أبناءهم رهنا عليها فتجاوزها إلى وطن حمزة فدوخها، واستخدم قبائلها من العرب والبربر، والسلطان أبو الحسن أثناء ذلك مقيم بالجزائر. ثم قفل أبو ثابت إلى تلمسان، وقد كان استراب يحيى بن رحو وعسكره من بني مرين، وأنهم داخلوا السلطان أبا الحسن، وبعث فيه إلى السلطان أبي عنان فأداله بعيسى بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب؟ فبعثه قائدا على الحصة المرينية؛ فتقبض على يحيى بن رحو ولحقوا مع أبي ثابت بتلمسان. ثم أجازوا إلى المغرب، واعتز السلطان أبو الحسن بعد منصرفهم بابنه الناصر مع أوليائه من زناتة والعرب؛ فاستولى على المدية وقتل عثمان بن عيسى الجلولي. ثم تقدم إلى مليانة فملكها وإلى تيمزوغت كذلك. وجاء على أثره السلطان أبو الحسن أبوه، وقد اجتمعت إليه الجموع من زغبة وزناتة، ومن عرب إفريقية سليم ورياح: مثل محمد بن طالب بن مهلهل ورجال من عشيره، وعمر بن علي بن أحمد الدواودي وأخيه أبي دينار ورجالات من قومهما. وزحف على هذه التعبية، وابنه الناصر أمامه. فأجفل علي بن راشد وقومه مغراوة عن بلادهم إلى البطحاء. وطير الخبر إلى أبي ثابت فوافاه في قومه وحشوده، وزحفا جميعا إلى السلطان أبي الحسن. والتقى الجمعان بتنغمرين من شلف، وصابروا
ملئا. وانكشف السلطان أبو الحسن وقومه، وطعن الناصر بعض فرسان مغراوة فأثبته وهلك آخر يومه، وطعن الناصر بعض فرسان مغراوة فأثبته وهلك آخر يومه. وقتل محمد بن علي العزفي قائد أساطيله وابن البواق والقبائلي كاتبه. واستبيح معسكره وما فيه من متاع وحرم، وخلص بناته إلى وانشريش، وبعث بهن أبو ثابت إلى السلطان أبي عنان بعد استيلائه على الجبل. وخلص السلطان أبو الحسن إلى أحياء سويد بالصحراء؛ فنجا به ونزمار بن عريف إلى سجلماسة كما نذكره في أخباره. ودوخ أبو ثابت بلاد بني توجين وقفل إلى تلمسان. الخبر عن حروبهم مع مغراوة واستيلاء أبي ثابت علم بلادهم. ثم علي الجزائر ومقتل علي بن راشد بتنس علي إثر ذلك: كان بين هذين الحيين من عبد الواد ومغراوة فتن قديمة سائر أيامهم؛ قد ذكرنا الكثير منها في أخبارهم. وكان بنو عبد الواد قد غلبوهم على أوطانهم حين قتل راشد بن محمد في جلائه أمامهم بين زواوة. ولما اجتمعوا بعد نكبة القيروان على أميرهم علي بن راشد، وجاءوا من إفريقية إلى أوطانهم من بني عبد الواد، لم يطيقوهم حينئذ أن يغلبوهم. فرجعوا إلى توثيق العقد وتأكيد العهد؛ فأبرموه وأقاموا على الموادعة والتظاهر على عدوهم، وعروق الفتنة تنبض في كل منهم. ولما جاء الناصر من إفريقية، وزحف إليه أبو ثابت، قعد عنه علي بن راشد وقومه؛ فأعتدهم عليها وأسرها في نفسه. ثم اجتمعوا بعد ذلك للقاء السلطان أبي الحسن حتى انهزم ومضى إلى المغرب. فلما رأى أبو ثابت أن قد كفى عدوه الأكبر، وفرغ لعدوه الأصغر نظر في الانتقاض عليهم. فبينما هو يروم أسباب ذلك إذ بلغه الخبر بأن بعض رجالات بني كمي من مغراوة جاؤوا إلى تلمسان ليغتالوه؛ فحمي لها أنفه. وأجمع لحربهم. وخرج من تلمسان فاتحة اثنتين وخمسين. وبعث في أحياء زغبة وبني عامر وسويد؛ فجاءوه بفارسهم وراجلهم وظعائنهم. وزحف إلى مغراوة فخاموا عن لقائه، وتحصنوا بالجبل المطل على تنس؛ فحاصرهم فيه أياما اتصلت فيها الحروب وتعددت الوقائع. ثم ارتحل عنهم فجال في نواحي البلد، ودوخ أقطارها وأطاعته مليانة والمدية وبرشك وشرشال. ثم تقدم بجموعه إلى الجزائر؛ فأحاط بها وفيها فل بني مرين، وعبد الله ابن السلطان أبي الحسن، تركه هنالك صغيرا في كفالة علي بن سعيد بن أجانا، فغلبهم على البلاد وأشخصهم في البحر
إلى المغرب. وأطاعته الثعالبة ومليكش وقبائل حصين. وعقد على الجزائر لسعيد بن موسى بن علي الكردي، ورجع إلى مغراوة فحاصرهم بمعقلهم الأول، بعد أن انصرفت العرب إلى مشاتيها؛ فاشتد الحصار على مغراوة وأصاب مواشيهم العطش؛ فانحطت دفعة واحدة من على أعلى الجبل تطلب المورد؛ فأصابهم الدهش. ونجا ساعتئذ علي بن راشد إلى تنس، فأحاط به أبو ثابت أياما. ثم اقتحمها عليه غلابا منتصف شعبان من سنته، فاستعجل المنية وتحامل على نفسه فذبح نفسه، وافترقت مغراوة من بعده وصارت أوزاعا في القبائل. وقفل أبو ثابت إلى أن كان من حركة السلطان ما نذكره في
الخبر عن استيلاء السلطان أبي عنان علي تلمسان وانقراض أمر بني عبد الواد ثانية: لما لحق السلطان أبو الحسن بالمغرب، وكان من شأنه مع ابنه أبي عنان إلى أن هلك بجبل هنتاتة ما نذكره في أخبارهم. فاستوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنان، وفرغ لعدوه. وسما لاسترجاع الممالك التي انتزعها أبوه ممن توثب عليها؛ وكان قد بعث إليه علي بن راشد؟ من مكان امتناعه بجبل تنس يسأل منه الشفاعة؛ فرد أبو ثابت شفاعته وأحفظه ذلك. وبلغه مقتل علي بن راشد؛ فأجمع غزو تلمسان، ونذر بذلك أبو سعيد وأخوه؛ فخرج أبو ثابت لحشد القبائل من زناتة والعرب منتصف ذي القعدة، ونزل بوادي شلف. واجتمع الناس عليه، ووصلته هنالك بيعة تدلس في ربيع سنة ثلاث وخمسين. غلب عليها الموحدين جابر الخراساني من صنائعهم، وبلغه بمكانه ذلك زحف السلطان أبي عنان؛ فرجع إلى تلمسان؛ ثم خرج إلى المغرب. وجاء على أثره أخوه السلطان أبو سعيد في العساكر من زناتة ومعه بنو عامر من زغبة والفل من سويد؛ إذ كان جمهورهم قد لحقوا بالمغرب لمكان عريف بن يحيى وابنه من ولاية بني مرين؛ فزحفوا على هذه التعبئة. وزحف السلطان أبو عنان في أمم المغرب لهن زناتة والعرب المعقل والمصامدة وسائر طبقات الجنود والحشد، وانتهوا جميعاً إلى أنكاد من بسيط وجدة؛ فكان اللقاء هنالك آخر ربيع الثاني من سنة ثلاث وخمسين. وأجمع بنو عبد الواد على صدمة المعسكر وقت القائلة، وبعد ضرب الأبنية وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر في حاجاتهم؛ فأعجلوهم عن ترتيب المصاف. وركب السلطان أبو عنان لتلافي الأمر، فاجتمع إليه أوشاب من الناس وانتقض سائر المعسكر، ثم زحف إليهم فيمن حضره وصدقوهم القتال؛ فاختل مصافهم ومنحوا أكتافهم وخاضوا بحر الظلماء. واتبع بنو مرين آثارهم، وتقبض على ألي سعيد
ليلتئذ فقيد أسيرا إلى السلطان، فأحضره بمشهد الملأ ووبخه. ثم تل على محبسه وقتل لتاسعه من ليالي اعتقاله. وارتحل أبو عنان إلى تلمسان، ونجا الزعيم أبو ثابت بمن معه من فل عبد الواد، ومن خلص إليه منهم ذاهبا إلى بجاية ليجد في إيالة الموحدين وليجة من عدوه، فبيتته زواوة في طريقه. وأبعد عن صحبه وأرجل عن فرسه. وذهب راجلا عاريا، ومعه رفقاء من قومه: منهم أبو زيان محمد ابن أخيه السلطان أبي سعيد، وأبو حمو موسى ابن أخيهم يوسف، ووزيرهم يحيى بن داود بن مكن. وكان السلطان أبو عنان أوعز إلى صاحب بجاية يومئذ المولى أبي عبد الله حفيد مولانا السلطان أبي بكر بأن بأخذ عليهم الطرق ويذكي في طلبهم العيون، فعثر عليهم بساحة البلد. وتقبض على الأمير أبي ثابت الزعيم وابن أخيه محمد بن أبي سعيد ووزيرهم يحيى بن داود وأدخلوا إلى بجاية. ثم خرج صاحبها الأمير أبو عبد الله إلى لقاء السلطان أبي عنان، واقتادهم في قبضة أسره فلقيه بمعسكره بظاهر المدية، فأكرم وفادته وشكر صنيعه، وانكفأ راجعا إلى تلمسان فدخلها في يوم مشهود. وحمل يومئذ أبو ثابت وزيره يحيى على جملين يتهاديان بهما بين سماطي ذلك المحفل، فكان شأنهما عجبا. ثم سيقا ثاني يومهما إلى مصرعهما بصحراء البلد، فقتلا قعصا بالرماح وانقضى ملك آل زيان، وذهب ما أعاده لهم بنو عبد الرحمن هؤلاء من الدولة بتلمسان، إلى أن كانت لهم الكرة الثالثة على يد أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن المتمليها إلى هذا العهد على ما نذكره، ونستوفي من أخباره إن شاء الله تعالى. الخبر عن دولة السلطان أبي حمو الأخير مديل الدولة بتلمسان في الكرة الثالثة لقومه وشرع ما كان فيها من الأحداث لهذا العهد: كان يوسف بن عبد الرحمن هذا في إيالة أخين السلطان أبي سعيد بتلمسان، هو وولده أبو حمو موسى، وكان متكاسلا عن مراتب الظهور، متجافيا عن التهالك في طلب العز، جانحا إلى السكون ومذاهب أهل الخير. حتى إذا عصفت بدولتهم رياح بني مرين، وتغلب السلطان أبو عنان عليهم وابتزهم ما كان بأيديهم من الملك، وخلص ابنه أبو حمو موسى مع عمه أبي ثابت إلى الشرق، وقذفت النوى بيوسف مع أشراف قومه إلى المغرب فاستقر به. ولما تقبض على أبي ثابت بوطن بجاية أغفل أمر أبي حمو من بينهم ونبت عنه العيون؛ فنجا إلى تونس ونزل بها على الحاجب أبي محمد بن تافراكين؛
فأكرم نزله وأحله بمكان أعياص الملوك من مجلس سلطانه ووفر جرايته، ونظم معه آخرين من فل قومه. وأوعز السلطان أبو عنان إليه بانزعاجهم عن قرارهم في دولته، فحمي لها أنفه وأبى عن الهضيمة لسلطانه، فأغرى ذلك السلطان أبا عنان بمطالبته. وكانت حركته إلى إفريقية ومنابذة العرب من رياح وسليم لعهده ونقضهم لطاعته كما نستوفي في أخباره. ولما كانت سنة تسع وخمسين قبل مهلكه اجتمع أمراء الدواودة من رياح إلى الحاجب أبا محمد بن تافراكين، ورغبوه في لحاق أبي حمو موسى بن يوسف بالمغرب من غربته، وأنهم ركابه لذلك ليجلب على نواحي تلمسان ويحصل للسلطان أبي عنان شغلا عنهم. وسألوه أن يجهز عليه ببعض آلة السلطان. ووافق ذلك رغبة صغير بن عامر أمير زغبة في هذا الشأن، وكان يومئذ في أحياء يعقوب بن علي وجواره، فأصلح الموحدون شأنه بما قدروا عليه ودفعوه إلى مصاحبة صغير وقومه من بني عامر. وارتحل معهم من الدواودة عثمان بن سباع ومن أحلافهم بني سعيد دعار بن عيسى بن رحاب وقومه، ونهضوا بجموعهم يريدون تلمسان، وأخذوا على القفر. ولقيهم أثناء طريقهم الخبر عن مهلك السلطان أبي عنال، فقويت عزائمهم على ارتجاع ملكهم ورجع عنهم صولة بن يعقوب. وأغذ السير إلى تلمسان وبها الكتائب المجمرة من بني مرين. واتصل خبر أبي حمو بالوزير الحسن من عمر القائم بالدولة من بعد مهلك السلطان أبي عنان والمتغلب على ولده السعيد الخليفة من بعده؟ فجهز المدد إلى تلمسان من الحامية والأموال. ونهض أولياء الدولة من أولاد عريف بن يحيى أمراء البدو من العرب في قومهم من سويد ومن إليهم من العرب لمدافعة السلطان أبي حمو وأشياعه؛ فانفض جمعهم وغلبوا على تلك الموطن. واحتل السلطان أبو حمو وجموعه بساحة تلمسان وأناخوا ركائبهم عليها ونازلوها ثلاثا، ثم اقتحموها في صبيحة الرابعة. وخرج ابن السلطان أبي عنان الذي كان أميرا عليها في لمة من قومه، فنزل على صغير بن عامر أمير القوم؛ فأحسن تجلته وأصحبه من عشيرته إلى حضرة أبيه. ودخل السلطان أبو حمو إلى تلمسان يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الأول سنة ستين، واحتل منها بقصر ملكه، واقتعد أريكته وبويع بيعة الخلافة. ورجع إلى النظر في تمهيد جوانب ملكه وأخرج بني مرين عن أمصار مملكته.
الخبر عن إجفال أبي حمو عن تلمسان أمام عساكر المغرب، ثم عوده إليها: كان القائم بأمر المغرب من بعد السلطان أبي عنان وزيره الحسن بن عمر، كافل ابنه السعيد، أخذ له البيعة على الناس، فاستبد عليه وملك أمره؛ وجرى على سياسة السلطان الهالك؛ واقتفى أثره في الممالك الدانية والقاصية في الحماية والنظر لهم وعليهم. ولما اتصل به خبر تلمسان وتغلب أبي حمو عليها؛ قام في ركائبه وشاور الملأ في النهوض إليه؛ فأشاروا عليه بالقعود وتسريح الجنود والعساكر؛ فسرح لها ابن عمه مسعود بن رحو بن علي بن عيسى بن ماساي من بني فردود؛ وحكمه في اختيار الرجال واستجادة السلاح وبذل الأموال واتخاذ الآلة؛ فزحف إلى تلمسان. وأتصل الخبر بالسلطات أبي حمو وأشياعه من بني عامر؛ فأفرج عنها ولحق بالصحراء. ودخل الوزير مسعود بن رحو تلمسان، وخالفه السلطان أبو حمو إلى المغرب فنزل ببسيط أنكاد. وسرح إليهم الوزير مسعود بن رحو أبن عمه عامر بن عبو بن ماساي في عسكر من كتائبه ووجه قومه؛ فأوقع بهم العرب وأبو حمو ومن معهم واستباحوهم. وطار الخبر إلى تلمسان، واختلفت أهواء من كان بها من بني مرين. وبدا ما كان في قلوبهم من المرض، لتغلب الحسن بن عمر على سلطانهم ودولتهم، فتحيزوا زرافات لمبايعة بعض الأعياص من آل عبد الحق. وفطن الوزير مسعود بن رحو لما دبروه، وكان في قلبه مرض من ذلك فاغتنمها، وبايع لمنصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق كبير الأعياص المنفرد بالتجلة. وارتحل به وبقومه من بني مرين إلى المغرب، وتجافى عن تلمسان وشأنها، واعترضهم عرب المعقل في طريقهم إلى المغرب؛ فأوقع بهم بنو مرين وصمموا لطيتهم. ورجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان، واستقر بحضرته ودار ملكه. ولحق به عبد الله بن مسلم فاستوزره واستنام إليه؛ فاشتد به أزره وغلب على دولته كما نذكره إلى أن هلك. والبقاء لله وحده. الخبر عن مقدم عبد الله بن مسلم من مكان عمله بدرعة ونزوعه من إيالة بني مرين إلى أبى حمو وتقليده إياه الوزارة و ذكر أوليته ومصائر أموره: كان عبد الله بن مسلم هذا، من وجوه بني زردال، من بني بادين إخوة بني عبد الواد وتوجين ومصاب، إلا أن بني زردال اندرجوا في بني عبد الواد لقلتهم واختلطوا
بنسبهم. ونشأ عبد الله بن مسلم، في كفالة موسى بن علي- لعهد السلطان أبي تاشفين مشهورا بالبسالة والإقدام، طار له ذكر، وحسن بلاؤه في حصار تلمسان. ولما تغلب السلطان أبو الحسن على بني عبد الواد، وابتزهم ملكهم واستخدمهم؛ وكان ينتقي أولي الشجاعة والإقدام منهم، فيرمي بهم ثغور المغرب. ولما اعترض بني عبد الواد، ومر به عبد الله هذا ذكر له شأنه ونعت ببأسه؛ فبعثه إلى درعة واستوصى عاملها به؛ فكان له عنه غناء؛ وفي مواقعه مع خوارج العرب بلاء حسن؛ جذب ذلك بضبعية ورقي عند السلطان منزلته وعرفه على قومه. ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان، ومرج أمر المغرب، وتوثب أبو عنان على الأمر، وبويع له بتلمسان، واستجمع حافده منصور بن أبي مالك عبد الواحد لمدافعته، وحشد حامية الثغور للقائه، وانفضت جموعه بتازى، وخلص إلى البلد الجديد ونازله، وكان عبد الله بن مسلم في جملته. ولما نازله السلطان أبو عنان، واتصلت الحرب بينهم أياما، كان له فيها ذكر. ولما رأى أنهم احيط بهم سبق الناس إلى السلطان أبي عنان، فرعى سابقته وقلده عمل درعة، فاضطلع بها مدة خلافته، وتأكدت له أيام ولايته مع عرب المعقل وصلة وعهد ضرب بها في مؤاخاتهم بسهم. وكان السلطان أبو عنان عند خروج أخيه أبي الفضل عليه، ولحقه بجبل ابن حميدي من معاقل درعة، أوعز إليه بأن يعمل الحيلة في القبض عليه؛ فداخل ابن حميدي ووعده وبذل له؛ فأجاب وأسلمه. وقاده عبد الله بن مسلم أسيراً إلى أخيه السلطان أبي عنان فقتله. ولما استولى السلطان أبو سالم رفيق أبي الفضل في مثوى اغترابهما بالأندلس على بلاد المغرب، من بعد مهلك السلطان أبي عنان، وما كان أثره من الخطوب، وذلك آخر سنة ستين، خشية ابن مسلم على نفسه، ففارق ولايته ومكان عمله. وداخل أولاد حسين أمراء المعقل في النجاة به إلى تلمسان فأجابوه، ولحق بالسلطان أبي حمو في ثروة من المال وعصبة من العشير وأولياء من العرب؛ فسر بمقدمه وقلده لحينه وزارته وشد به أواخي سلطانه وفوض إليه تدبير ملكه، فاستقام أمره وجمع القلوب على طاعته. وجأجأ بالمعقل من مواطنهم الغربية، فأقبلوا إليه وعكفوا على خدمته. وأقطعهم بمواطن تلمسان وآخى بينهم وبين زغبة؛ فعلا كعبه واستفحل أمره، واستقامت رياسته، إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.
الخبر عن استيلاء السلطان أبي سالم علم تلمسان ولجوعه إلى المغرب بعد أن ولى عليها أبا زيان حافد السلطان أبي تاشفين ومآل أمره: لما استوسق للسلطان أبي سالم ملك المغرب، ومحا أثره الخوارج على الدولة سما إلى امتداد ظله إلى أقصى تخوم زناتة، كما كان لأبيه وأخيه، وحركه إلى ذلك ما كان من فرار عبد الله بن مسلم إلى تلمسان بجباية عمله؛ فأجمع أمره على النهوض إلى تلمسان، وعسكر بظاهر فاس منتصف إحدى وستين. وبعث في الحشود فتوافت ببابه واكتملت، ثم ارتحل إليها. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو ووزيره عبد الله بن مسلم؛ فنادوا في العرب من زغبة والمعقل كافة؛ فأجابوهم إلا شرذمة قليلة من الأحلاف، وخرجوا بهم إلى الصحراء ونازل حللهم بعسكره. ولما دخل السلطان أبو سالم وبنو مرين تلمسان خالفوهم إلى المغرب، فنازلوا وطاط، وبلاد ملوية وكرسيف، وحطموا زروعها وانتسفوا أقواتها وخربوا عمرانها. وبلغ السلطان أبا سالم ما كان من صنيعهم، فأهمه أمر المغرب وأجلاب المفسدين عليه. وكان في جملته من آل يغمراسن محمد بن عثمان ابن السلطان أبي تاشفين، ويكنى بأبي زيان، ويعرف بالقبى، ومعناه العظيم اسرأس، فدفعه للأمر وأعطاه الالة، وكتب له كتيبة من توجين ومغراوة كانوا في جملته، ودفع إليه اعطياتهم، وأنزله أبيه بتلمسان؛ وانكفأ راجعا إلى حضرته، فأجفلت العرب والسلطان أبو حمو أمامه وخالفوه إلى تلمسان، فأجفل عنها أبو زيان وتحيز إلى بني مرين بأمصار الشرق من البطحاء ومليانة ووهران وأوليائهم من بني توجين وسويد من قبائل زغبة. ودخل السلطان أبو حمو ووزيره عبد الله بن مسلم إلى تلمسان، وكان صغير بن عامر هلك في مذهبهم ذلك. ثم خرجوا فيمن إليهم من كافة العرب المعقل وزغبة في أتباع أبي زيان، ونازلوا بجبل وانشريش فيمن معه إلى أن غلبوه عليه، وانفض جمعه، ولحق بمكانه من إيالة بني مرين بفاس. ورجع السلطان أبو حمو إلى معاقل وطنه يستنقذها من ملكة بني مرين، فافتتح كثيرها وغلب على مليانة والبطحاء. ثم نهض إلى وهران ونازلها أياما واقتحمها غلاباً، واستلحم بها من بني مرين عددا. ثم تغلب على المدية والجزائر، وانزعج عنها بني مرين فلحقوا بأوطانهم. وبعث رسله إلى السلطان أبي سالم؛ فعقد معه السلم ووضعوا أوزار الحرب. ثم كان مهلك السلطان أبي سالم سنة اثنتين وستين. وقام بالأمر من بعده عمر بن عبد الله بن علي من أبناء وزرائهم مبايعا لولد السلطان أبي الحسن
واحدا بعد آخر، كما نذكره عند ذكر أخبارهم. الخبر عن قدوم أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد من المغرب لطلب ملكه وما كان من أحواله: كان أبو زيان هذا، وهو محمد ابن السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد
الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، لما تقبض عليه مع عمه أبي ثابت ووزيرهم يحيى بن داود بجباية من أعمال الموحدين، وسيقوا إلى السلطان أبي عنان؛ فقتل أبا ثابت وزيره واستبقى محمدا هذا وأودعه السجن سائر أيامه؛ حتى إذا هلك واستوسق أمر المغرب لأخيه أبي سالم من بعد خطوب وأحوال يأتي ذكرها؛ امتن عليه السلطان أبو سالم وأطلقه من الاعتقال ونظمه بمجلسه في مراتب الأعياص، وأعده لمزاحمة ابن عمه. وحدث بينه وبين السلطان أبي حمو سنة اثنتين وستين بين يدي مهلكة نكراء بعد مرجعه من تلمسان، ومرجع أبي زيان حافد السلطان أبي تاشفين من بعده؛ فحقق السعي فيما نصبه له. وسما له في أبي زيان هذا أمل أن يستأثر بملك أبيه، ورأى أن يحسن الصنيع فيه فيكون فيئة له؛ فأعطاه الالة ونصبه للملك، وبعثه إلى وطن تلمسان، وانتهى إلى تازى. ولحقه الخبر هنالك بمهلك السلطان أبي سالم. ثم كانت فتن وأحداث نذكرها في محلها. وأجلب عبد الحليم ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق على فاس، واجتمع إليه بنو مرين، ونازلوا البلد الجديد. ثم انفض جمعهم، ولحق عبد الحليم بتازى كما نذكره في موضعه. ورجا من السلطان أبي حمو المظاهرة على أمره، فراسله في ذلك واشترط عليه كبح ابن عمه أبي زيان، فاعتقله مرضاة له، ثم ارتحل إلى سجلماسة كما نذكر بعد. ونازله في طريقه أولاد حسين من المعقل بحللهم وأحيائهم؟ فاستغفل أبو زيان ذات يوم المتوكلين به، ووثب على فرس قائم حذاه وركضه من معسكر عبد الحليم إلى حلة أولاد حسين مستجيرا بهم فأجاروه. ولحق ببني عامر على حين جفوة، كانت بين السلطان أبي حمو وبين خالد بن عامر أميرهم ذهب لها مغاضبا، فأجلب به على تلمسان. وسرح إليهم السلطان أبو حمو عسكرا فشردهم عن تلمسان. ثم بذل المال لخالد بن عامر على أن يقصيه إلى بلاد رياح ففعل، وأوصله إلى بلاد الدواودة فأقام فيهم. ثم دعاه أبو الليل بن موسى شيخ بني يزيد، وصاحب وطن حمزة وبني حسن وما إليه، ونصبه للأمر مشافهة وعنادا للسلطان أبي حمو. ونهض إليه
المجلد السابع تاريخ ابن خلدون صفحة 168 إلى 336 الوزير عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد وحشي العرب وزناتة، فأيقن أبو الليل بالغلب
وبذل له الوزير المال، وشرط له التجافي عن وطنه على أن يرجع عن طاعة أبي زيان ففعل، وانصرف إلى بجاية، ونزل على المولى أبي إسحاق ابن مولانا السلطان أبي يحيى أكرم نزل. ثم وقعت المراسلة بينه وبين السلطان أبي حمو، وتمت المهادنة، وانعقد السلم على إقصاء أبي زيان عن بجاية المتاخمة لوطنه، فارتحل إلى حضرة تونس. وتلقاه الحاجب أبو محمد بن تافراكين، قيوم دولة الحفصيين لذلك لعهد، من المبرة والترحيب وإسناء الجراية به وترفيع المنزلة بما لم يعهد بمثله من الأعياص. ولم بزل حاله على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم أبي زيان حافد السلطان أبي تاشفين ثانية من المغرب إلى تلمسان لطلب ملكها وما كان من أحواله: كان العرب من سويد إحدى بطون زغبة فيئة لبني مرين وشيعة، من عهد أميرهم عريف بن يحيى، مع السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان، فكانوا عند بني عبد الواد في عداد عدوهم من بني مرين، مع طاغية الدولة لبني عامر أقتالهم، فكانوا منابذين لبني عبد الواد آخر الأيام. وكان كبيرهم ونزمار بن عريف أوطن كرسيف، في جوار بني مرين، مذ مهلك السلطان أبي عنان، وكان مرموقاً لديهم بعين التجلة، يرجعون إلى رأيه ويستمعون إلى قوله. وأهمه شأن إخوانه في موطنهم، ومع أقتالهم، بني عامر، فاعتزم على نقض الدولة من قواعدها، وحمل صاحب المغرب عمر بن عبد الله على أن يسرح محمد بن عثمان حافد أبي تاشفين لمعاودة الطلب لملكه، ووافق ذلك نفرة استحكمت بين السلطان أبي حمّو وأحمد بن رحو بن غانم، كبير أولاد حسين من المعقل، بعد أن كانوا فيئة له ولوزيره عبد الله بن مسلم، فاغتنمها عمر بن عبد الله. وخرج أبو زيان محمد بن عثمان سنة خمس وستين، فنزل في حلل المعقل بملوية. ثم نهضوا إلى وطن تلمسان، وارتاب السلطان أبو حمّو بخالد بن عمر أمير بني عامر، فتقبّضعليه وأودعه المطبق. ثم سرح وزيره عبد الله بن مسلم في عساكر بني عبد الواد
والعرب، فأحسن دفاعهم وانفضّت جموعهم ورحلهم إلى ناحية الشرق، وهو في أتباعهم إلى أن نزلوا المسيلة من وطن رياح، وصاروا في جوار الزواودة. ثم نزل بالوزير عبد الله بن مسلم داء الطاعون، الذي عاود أهل العمران عامئذ من بعدما أهلكهم سنة سبع وأربعين وسبعمائة قبلها، فانكفأ به ولده وعشيره راجعين، وهلك في طريقه وأرسلوا شلوه إلى تلمسان فدفن بها. وخرج السلطان أبو حمّو لمدافعة عدوّه، وقد فتّ مهلك عبد الله في عضده. ولما انتهى إلى البطحاء وعسكر بها، ناجزته جموع السلطان أبي زيان الحرب، وأطلت راياته على المعسكر فداخلهم العرب وانفضوا، وأعجلهم الأمر عن أبنيتهم وأزودتهم فتركوها وانفضّوا. وتسلّل أبو حمّو يبغي النجاة إلى تلمسان. وأضرب أبو زيّان فسطاطه بمكان معسكره، وسابقه أحمد بن رحّو أمير المعقل إلى منجاته فلحقه بسيك. وكرّ إليه السلطان أبو حمّو فيمن معه من خاصّته، وصدقوه الدفاع فكبا به فرسه، وقطع رأسه. ولحق السلطان أبو حمّو بحضرته، وارتحل أبو زيان، والعرب في أتباعه إلى أن نازلوا بتلمسان أياماً. وحدثت المنافسة بين المعقل وزغبة، وأسف زغبة استبداد المعقل عليهم وانفراد أولاد حسين برأي السلطان دونهم، فاغتنمها أبو حمّو وأطلق أميرهم بن عامر بن خالد من محبسه، وأخذ عليه الموثق من الله ليخذلنّ الناس عنه ما استطاع، وليرجعنّ بقومه عن طاعة أبى زيّان، وليفرقنّ جموعه. فوفّى له بذلك، ونفس عنه المخنق، وتفرّقت أحزابهم. ورجع أبو زيّان إلى مكانه من إيالة بني مرين، واستقام أمر السلطان أبي حمّو وصلحت دولته بعد الالتياث، إلى أن كان من أمره ما نذكره.
الخبر عن حركة أبي حمّو علي ثغور المغرب:
كان ونزمار من عريف متولي كبر هذه الفتن على أبي حمو، وبعث الأعياص عليه واحداً بعد واحد، بما كان بينهم من العداوة المتصلة كما قدّمناه. وكان منزله كرسيف من ثغور المغرب. وكان جاره محمد بن زكدان كبير بني علي من بني ونكاسن
الموطنين بجبل دبدو، كانت أيديهما عليه واحدة. فلما سكن غّرب الثوار عنه، وأزاحهم عن وطنه إلى المغرب، وانعقد سلمه معهم، رأى أن يغزو هذين الأميرين في ثغورهما، فاعتمل الحركة إلى المغرب فاتح سنة ست وستين وسبعمائة. وانتهى إلى دبدو وكرسيف. وأجفل ونزمار، وامتنع بمعاقل الجبال، فانتهب أبو حمّو الزروع وشمل بالتخريب والعيث سائر النواحي. وقصد محمد من زكدان أيضاً في معقل دبدو، فامتنع بحصنه الذي اتخذه هنالك. وعاج عليه أبو حمّو بركابه، وجاس خلال وطنه، وشمل بالتخريب والعيث نواحي بلده، وانكفأ راجعاً إلى حضرته، وقد عظمت في تخوم بني مرين وثغورهم نكايته، وثقلت عليهم وطأته، وانعقدت بينهما بدء المهادنة والسلم. وانصرفت عزائمه إلى بلاد أفريقية، فكانت حركته إلى بجاية من العام المقبل، ونكبته عليها كما نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن حركة السلطان أبي حمّو إلي بجاية ونكبته عليها: كان صاحب بجاية المولى الأمير أبو عبد الله، لما استولى عليها، وعادت إليه العودة الثانية سنة خمس وستين وسبعمائة كما ذكرناه في أخباره، زحف بعدها إلى تدلس، فغلب عليها بني عبد الواد، وأنزل بها عامله وحاميته. ثم أظلم الجوّ بينه وبين صاحب قسنطينة السلطان أبي العبّاس ابن عمّه الأمير أبي عبد الله، لما جرّته بينهم المتاخمة في العمالات، فنشأت بينهما فتن وحروب شغل بها عن حماية تدلس، وألحت عليها عساكر بني عبد الواد بالحصار. وأحيط بها فأوفد رسله على السلطان أبي حمّو صاحب تلمسان في المهادنة على النزول له عن تدلس، فتسلّمها أبو حمّو وأنزل بها حاميته. وعقد معه السلم، وأصهر إليه في ابنته، فأجابه وزفّها إليه، فتلقّاها قبيلة زوارة بآخر عملهم من حدود بجاية. وفرغ صاحب بجاية لشأنه، وكان أثناء الفتنة معه، قد بعث إلى تونس عن أبي زيان ابن عمّه السلطان أبي سعيد لينزله بتدلس، ويشغل به السلطان أبا حمّو عن فتنته. وكان من خبر أبي زيان هذا أنه أقام بتونس بعد مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه، إلى أن دسّ إليه مرضى القلوب من مشيخة بني عبد الواد
بتلمسان بالأجلاب على السلطان أبي حمو. ووعدوه من أنفسهم الجنوح معه فصغى إليها وأعتدّها، وارتحل يريد تخوم تلمسان وعمل بجاية. ومرّ بقُسَطِنطينَة فتجافى عن الدخول اليها، وتنكّر لصاحبها. وبلغ خبره السلطان أبا العبّاس صاحبها يومئذ، فأجمع أمره في صدّه عن وجهه وحبسه بقسنطينة، واتصلت الفتنة بينه وبين ابن عمه صاحب بجاية. وكان شديد الوطأة على أهل بلده، مرهف الحدّ لهم بالعقاب الشديد، حتى لقد ضرب أعناق خمسين منهم قبل أن يستكمل سنتين في ملكه. فاستحكمت النفرة وساءت الملكة، وعضل الداء، وفزع أهل البلد إلى مداخلة السلطان أبي العبّاس باستنقاذهم من ملكة العسف والهلاك، بما كان اتيح له من الظهور على أميرهم، فنهض إليها آخر سنة سبع وستين وسبعمائة. وبرز الأمير أبو عبد الله للقائه بليزو، الجل المطل على تاكردت. وصبحه السلطان أبو العبّاس بمعسكره هنالك، فاستولى عليه وركّض وهو فرسه ناجياً بنفسه ومرّت الجنود تعادي في أثره حتى أدركوه، فأحاطوا به وقتلوه قعصاً بالرماح، عفا الله عنه وأجاز السلطان أبو العبّاس إلى البلد، فدخلها منتصف يومه لعشرين من شعبان ولاذ الناس به من دهش الواقعة، وتمسّكوا بدعوته وآتوه طاعتهم. فانجلت القيامة واستقام الأمر، وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو، فأظهر الامتعاض لمهلكه والقيام بثأره وسير من ذلك حشوده في ارتقاء. ونهض يجرّ الأمم إلى بجاية من العرب وزناتة والحشد حتى أناخ بها وملأ بخيامه الجهات بساحتها، وجنح السلطان إلى مبارزته، فتمسك به البلد ولاذوا بمقامه، فأسعفهم وطير البريد إنى قسنطينة، فأطلق أبا زيان من عتقا وسوغه الملابس والمراكب والالة. وزحف به مولاه بشير في عسكره إلى أن نز حد معسكر أبي حمو. واضطربوا محلهم بسفح بني عبد الجبار، وشنوا الغارات على معسكر أبي حمّو صباح مساء، لما كان نمي إليهم من مرض قلوب جنده والعرب الذين معه. وبدا للسلطان أبي حمّو ما لم يحتسب من امتناعها. وكان قد تقدم إليه بعض سماسرة الفتن بوعد على لسان المشيخة من أهل البلد أطمعه فيها، ووثق بأن ذلك يغنيه عن الاعتداء، فاستبق إليها وأغفل الحزم فيما دونها. فلما امتنعت عليه
أطبق الجو على معسكره، وفسدت السابلة على العير للميرة، واستحكم الزبون في أحياء معسكر بظهور العدو المساهم في الملك. وتفادت رجالات العرب سوء المغبة وسطوة السلطان فتمشوا بينهم في الانفضاض وتحينوا لذلك وقت المناوشة، وكان السلطان لما كذبه عد المشيخة أجمع قتالهم وأمر بضرب الفساطيط مضايقة للأسوار، متسنمة وعراً من جبل يرضه أهل الرأي. وخرج رجل الجبل على حين غفلة، فتجاولوا من كان بتلك الأخبية من المقاتلة، فانهزموا أمامهم وتركوها بأيديهم فمزقوها بالسيوف. وعاين العرب على للبعد انتهاب الفساطيط فأجفلوا، وانفض المعسكر بأجمعه. وحمل السلطان أبو حمّو- أثقاله للرحلة، فأجهضوه عنها فتركها، وانتهب مخلفه أجمع. وتصايح الناس بهم من حدب، وضاقت المسالك من ورائهم وأمامهم، وكظت بزحامهم، وتواقعوا لجنوبهم فهلك الكثير منهم، وكانت من غرائب الواقعات، تحدث الناس بها زماناً وسيقت حظاياه إلى بجاية، واستأثر منهن الأمير أبو زيان بحظيته الشهيرة ابنة يحي الزابى ينسب إلى عبد المؤمن بن علي.وكان أصهر فيها إلى أبيها أيام تقلبه في الاغتراب ببلاد الموحّدين كما سبق، وكانت أعلق بقلبه من سواها، فخرجت في مغانم الأمير أبي زيان. وتحرج عن مواقعتها حتى أوجده أهل الفتيا السبيل إلى ذلك، بحيث زعموا وقع من السلطان أبي حمّو في نسائه. وخلص السلطان أبو حمّو من هوة ذلك العطب بعد غصة الريق، ونجا إلى الجزائر لا يكاد يرد النفس من شناعة ذلك الهول. ثم خرج منها ولحق بتلمسان، واقتعد سرير ملكه. واشتدت شوكة أبى زيان ابن عمه، وتغلب على القاصية، واجتمعت إليه العرب، وكثر تابعه. وزاحم السلطان أبا حمّو بتلك الناحية الشرقية سنين تباعاً نذكر الآن أخبارها.
الخبر عن خروج أبي زيان بالقاصية الشرقية من بلاد حصين وتغلبه على المرية والجزائر ومليانة وما كان من الحروب معه: لما انهزم السلطان أبو حمّو بساحة بجاية عشي يومه من أوائل ذي الحجة، خاتم سبع وستين وسبعمائة، قرع الأمير أبو زيان طبوله، واتبع أثره، وانتهى إلى بلاد حصين
من زغبة. وكانوا سائمين من الهضيمة والعسف، إذ كانت الدول تجريهم مجرى الرعايا المعبدة في المغرم، وتعدل بهم عن سبيل إخوانهم من زغبة أمامهم ووراءهم لبغية، فارتكبوا صعب الشقاق لمغبة العز، فبايعوه على الموت الأحمر، ووقفوا بمعتصمهم من جبل تيطرى إلى أن دهمتهم عساكر السلطان. ثم أجلبوا على المدية وكان بها عسكر ضخم للسلطان أبي حمّو لنظر وزرائه: عمران بن موسى بن يوسف، وموسى بن برغوث ووادفل بن عبو بن حماد، ونازلوهم أياماً، ثم غلبوهم على البلد. وملكها الأمير أبو زيان، ومن على الوزراء ومشيخة بني عبد الواد، وترك سبيلهم إلى سلطانهم. وسلك الثعالبه في سبيل خصين في التجافي عن ذل المغرم، فأعطوه يد الطاعة والانقياد للأمير أبي زيان. وكانت في نفوس أهل الجزائر نفرة من جور العمال عليهم، فاستمالهم بها سالم بن إبراهيم بن نصر أمير الثعالبة إلى طاعة الأمير أبي زيان. ثم دعا أبو زيان أهل مليانة إلى مثلها فأجابوه. واعتمل السلطان أبو حمّو نظره في الحكرة الحاسمة لرأيهم، فبعث في العرب وبذل المال، وأقطع البلاد على اشتطاط منهم في الطلب. وتحرك إلى بلاد توجين، ونزل قلعة ابن سلامة سنة ثمان وستين وسبعمائة، يحاول طاعة أبي بكر بن عريف أمير سويد. فلم يلبث أن انحرف عنه أيضاً خالد بن عامر، ولحق بأبي بكر بن عريف، واجتمعا على الخلاف عليه، ونفض طاعته. وشنوا الغارة على معسكره، فاضطرب وأجفلوا وانتهبت محلاته وأثقاله، ورجع إلى تلمسان. ثم نهض إلى مليانة فافتتحها، وبعث إلى رياح على حين طاعتهم إليه من يعقوب بن علي بن أحمد وعثمان بن يوسف بن سليمان بن علي أميري الزواودة، لما كان وقع بيهما وبين السلطان مولانا أبي العبّاس من النفرة، فاستنظره للحركة على الأمير أبي زيان وبعدها إلى بجاية. وضمنوا له طاعة البدو من رياح، وبعثوا إليه ذمتهم على ذلك فردها وثوقاً بهم، ونهض من تلمسان، وقد اجتمع إليه الكثير من عرب زغبة. ولم يزل أولاد عريف بن يحيى وخالد بن عامر في أحيائهم منحرفين عنه بالصحراء. وصمم إليهم فأجفلوا أمامه، وقصد المخالفين من حصين والأمير أبي زيان إلى معتصمهم بجبل تيطرى. وأغذ إليه السير يعقوب بن علي وعثمان بن يوسف بمن معهم من جموع رياح، حتى نزلوا بالقلعة حذاءهم. وبادر أولاد عريف وخالد بن عمر إلى الزواودة ليشردوهم عن البلاد، قبل أن تتصل يد السلطان بيدهم، فصبحوهم يوم الخميس أخريات ذي القعدة من سنة تسع وستين وسبعمائة، ودارت بينهم حرب شديدة، وأجفل الزواودة أولاً، ثم كان الظهور لهم آخراً. وقتل في المعركة من زغبة عدد ويئسوا من صدهم عما جاؤا إليه، فانعطفوا إلى حصين والأمير أبي زيان، وصعدوا إليهم بناجعتهم، وصاروا لهم مدداً على السلطان أبي حمو، وشنوا الغارة على معسكره، فصمدوا نحوه وصدقوه القتال، فاختل مصافه، وانهزمت عساكره، ونجا بنفسه إلى تلمسان على طريق الصحراء. وأجفل الزواودة إلى وطنهم، وتحيز عامة العرب من زغبة إلى الأمير أبي زيان، واتبع آثار المنهزمين، ونزل بسيرات. وخرج السلطان أبو حمّو في قومه ومن بقي معه من بني عامر. وتقدم خالد إلى مصادمته ففله السلطان وأجفل القوم من ورائه. ثم تلطف في مراسلته وبذل له المال، وأوسع له في الاشتراط فنزع إليه والتبس بخدمته. ورجع الأمير أبو زيان إلى أوليائه من حصين متمسكاً بولاية أولاد عريف. ثم نزع محمد بن عريف إلى طاعة السلطان. وضمن له العدول بأخيه عن مذاهب الخلاف عليه، وطال سعيه في ذلك فاتهمه السلطان. وحمله خالد بن عامر عدوه على نكبته، فتقبّضعليه وأودعه السجن. واستحكمت نفرة أخيه أبي بكر، ونهض السلطان بقومه وكافة بني عامر إليه سنة سبعين وسبعمائة. واستغلظ أمر أبي بكر لجموع الحارث من بني مالك ومن
وراءهم من حصين، واعتصموا بالجبال من دراك وتيطرى. ونزل السلطان بجموعه لعود بلاد الديالمة من الحرث، فانتسفها والتهمها وحطم زروعها ونهب مداثرها. وامتنع عليه أبو بكر ومن معه من الحرث وحصين والأمير أبي زيان بينهم، فارتحل عنهم وعطف على بلاد أولاد عريف وقومهم من سويد، فملأها عيثاً. وخرب قلعة ابن سلامة، بما كان أحسن أوطانهم. ورجع إلى تلمسان وهو يرى إن كان قد شفا نفسه في أولاد عريف، وغلبهم على أوطانهم، ورفع عليهم منزلة عدوهم، فكان من لحاق أبي بكر بالمغرب، وحركة بني مرين ما نذكره.
الخبر عن حركة السلطان عبد العزيز علي تلمسان واستيلائه عليها ونكبة أبي حمّو وبني عامر بالدوس من بلاد الزاب وخروج أبي زيان من تيطري إلى أحياء رياح:
ولما تقبض أبو حمّو على محمد بن عريف، وفرق شمل قومه سويد، وعاث في بلادهم أجمع؟ رأى أخوه الأكبر أبو بكر على الصريخ بملك المغرب، فارتحل إليه بناجعته من بني مالك أجمع من أحياء سويد والديالم والعطاف، حتى احتل بسائط ملوية من تخوم المغرب. وسار إلى أخيه الأكبر ونزمار بمقره من قصر مراده الذي اختطه بإرجاع وادي ملوية في ظل دولة بني مرين وتحت جوارهم، لما كان ملاك أمرهم بيده، ومصادرهم عن آرائه، خطة ورثها عن أليه عريف بن يحيى مع السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن وابنه أبي عنان. فتقبل ملوك المغرب مذاهب سلفهم فيه، وتمنوا برأيه، واستناموا إلى نصيحته. فلما قدم عليه أخوه أبو بكر مستحفياً بملك المغرب، وأخبره باعتقال أخيه الأخر محمد، قدح عزائمه، وأوفد أخاه أبا بكر ومشيخة قومهم من بني مالك على السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن منصرفه من افتتاح جبل هتاتة، وظفره بعامر بن محمد بن علي النازع إلى الشقاق في معتصمه، فلقوه في طريقه ولقاهم مبرة وتكرمة. واستصرخوه لاستنقاذ أخيهم فأجاب صريخهم، ورغبوه في ملك تلمسان وما وراءها، فوافق صاغيته إلى ذلك بما كان في نفسه من الموجدة على السلطان أبي حمو، بقبوله على من ينزع إليه من عربان المعقل، أشياع الدولة وبدوها، وما كان بعث إليه في ذلك، وصرف عن استماعه، فاعتزم على الحركة إلى تلمسان؟ وألقى زمامه بيد ونزمار، وعسكر بساحة فاس. وبعث الحاشرين في الثغور والنواحي من المغرب، فتوافت الحشود ببابه، وارتحل بعد قضاء النسك من الأضحى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة. واتصل الخبر بالسلطان أبي حمّو وكان معسكراً بالبطحاء، فانكفأ راجعاً إلى تلمسان فبعث في أوليائه من عبيد الله والأحلاف من عرب المعقل، فصموا عن إجابته ونزعوا إلى ملك المغرب، فأجمع رأيه على التحيز إلى بني عامر، وأجفل غرة المحرم سنة إثننتين وسبعين وسبعمائة. واحتل السلطان عبد العزيز تلمسان في يوم عاشوراء بعدها. وأشار ونزمار عريف بتسريح العساكر في اتباعه، فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن
غازي بن الكاس حتى انتهى إلى البطحاء. ثم لحق به هناك ونزمار، وقد حشد العرب كافة، وأغذ السير في اتباع السلطان أبي حمّو وبني عامر. وكانوا قد أبعدوا المذهب، ونزلوا على الزواودة وسرح إليهم السلطان يومئذ عبد العزيز يحملهم على طاعته، والعدول بهم عن صحا بني عامر وسلطانهم. وسرح فرج بن عيسى بن عريف إلى حصين لاقتضاء طاعتهم واستدعاء أبي زيان إلى حضرته، أو نبذهم عهده، وانتهينا جميعاً إلى بني زيان، ففارقه أوليائه ولحق بأولاد يحيى بن عليّ بن سباع من الزواودة. وانتهيت أنا إليهم فحفظت عليهم الشأن في جواره لما كانت مرضاة السلطان، وحذرتهم شأن أبي حمّو وبني عامر وأوفدت مشيختهم على ونزمار والوزير أبي بكر بن غازي فدلوهما على طريقه، وأغد السير بيتوهم بمنزلهم على الدوسن، آخر عمل الزاب من جانب المغرب ففضوا جموعهم، وانتهوا جميع معسكر السلطان أبي حمّو بأمواله وأمتعته وظهره. ولحق بمصاب، ورجعت العساكر من هنالك، فسلكت على قصور بني عامر بالصحراء
جبل راشد التي منها ربا ولون سمعون وما إليهما، فانتهبوها وخربوها وعاثوا فيها، وانكفوا راجعين إلى تلمسان. وفرق السلطان عماله في بلاد المغرب الأوسط من وهران وملما والجزائر والمدية وجبل وانشريش. واستوسق به ملكه، وانزاح عنه عدوه. ولم يبقى به يومئذ إلا ضرمة من نار الفتنة ببلاد مغراوة بوعد من ولد عليّ بن راشد، سخط خالد الديوان، ولحق بجبل بني سعيد. واعتصم به فجمر السلطان الكتائب لحصاره، ووزيره عمر بن مسعود لذلك كما ذكرناه في أخبار مغراوة واحتقر شأنه. وأوفدت أنا يومئذ مشيخة الزواودة، فأوسعهم حباءً وكرامةً، وصدروا مملوءة حقائبهم خالصة قلوبهم منطلقة بالشكر ألسنتهم. واستمر الحال إلى أن كان ما نذكره.
الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان إلى تيطري وأجلاب أبي حمّو على تلمسان ثم انهزامهما وتشريدهما علي سائر النواحي:
كان بنو عامر بن زغبة شيعة خالصة لبني عبد الواد مذ أول أمرهم، وخلص سويد
لبني مرين كما قدمناه، فكان من شأن عريف وبنيه عند السلطان أبي الحسن وبنيه ما هو معروف. فلما استبيحت أحياؤهم بالدوسن مع أبي حمو، ذهبوا في القفر إشفاقاً ويأساً من قبول بني مرين عليهم لما كان ونزمار بن عريف وإخوانه من الدولة، فحدثوا على سلطانهم أبي حمّو يتقلبون معه في القفار. ثم نزع إليهم رحو بن منصور فيمن طاعه من قومه عبيد الله من المعقل. وأجلبوا على وجدة فاضطرم للنفاق على الدولة ناراً، وخشي حصين مغبة أمرهم من السلطان بما اتسموا به من الشقاق والعناد، فمدوا أيديهم إلى سلطانهم أبي زيان، وأوفدوا مشيختهم لاستدعائه من حلة أولاد يحيى بن علي فاحتل بينهم، وأجلبوا له على المدية فملكوا نواحيها، وامتنع عليهم مصرها، واستمر الحال على ذلك. واضطرب المغرب الأوسط على السلطان، وانتقضت به طاعته. وسرح الجيوش والعساكر إلى قتال مغراوة وحصين، واجتمع مع أبو حمّو وبنو عامر على قصده بتلمسان، حتى إذا احتلوا قريباً منها دس السلطان عبد العزيز بعض شيعته إلى خالد بن عامر ورغبه في المال والحظ منه، وكان أبو حمّو قد آسفه بمخالطة بعض عشيره وتعقب رأيه برأي من لم يسم إلى خطته. ولم يرتض كفاءته، فجنح إلى ملك المغرب، ونزع يده من عهد أبي حمو. وسرح السلطان عبد العزيز عسكره إلى خالد، فأوقع بأبي حمّو ومن كان معه من العرب عبيد الله وبني عامر، وانتهب معسكره وأمواله، واحتقبت حرمه وحظاياه إلى قصر السلطان. وتقبض على مولاه عطية فمن عليه السلطان وأصاره في حاشيته، ونجا بنفسه إلى تيكورارين آخر بلاد الصحراء، فنزل بها منفرداً عن أهله وحاشيته ووزرائه. وأصفقت زناتة على خدمة ملك المغرب. ووافق هذا الفتح عند السلطان فتح بلاد مغراوة، وتغلب وزيره أبي بكر بن غازي على جبل بني بو سعيد، وتقبض على حمزة بن علي بن راشد في لمة من أصحابه، فضرب أعناقهم وبعث بها إلى سدة السلطان، وصلب أشلاءهم بساحة مليانة، فتظاهر الفتح واكتمل الظهور. وأوعز السلطان إلى وزيره أبي بكر بن غازي بالنهوض إلى
حصين، فنهض إليهم وخاطبني وأنا مقيم ببسكرة في دعايته بأن احتشد أولياءه من الزواودة ورياح، والتقى الوزير والعساكر على حصين تيطرى فنازلناه أشهراً. ثم انفض جموعهم وفروا من حصنهم وتمزقوا كل ممزق، وذهب أبو زيان على وجهه، ولحق ببلاد واركلي قبلة الزاب لبعدها عن منال الجيوش والعساكر، فأجاروه وأكرموا نزله. وضرب الوزير على قبائل حصين والثعالبة المغارم الثفيلة فأعطوها عن يد وجهضهم باقتضائها، ودوخ قاصية الثغور، ورجع إلى تلمسان عالي الكعب عزيز السلطان ظاهر اليد. وقعد له السلطان بمجلسه يوم وصوله قعوداً فخماً، وصل فيه إليه، وأوصل من صحبه من وفود العرب والقبائل، فقسم فيهم بره وعنايته وقبوله كل على شاكلته. واقتضى من أمراء العرب زغبة أبناءهم الأعزة رهناً على الطاعة. وسرحهم لغزو أبي حمّو بمنتبذه من تيكورارين فانطلقوا لذلك. وهلك السلطان عبد العزيز لليال قلائل من مقدم وزيره وعساكره أواخر شهر ربيع الآخر من سنة أربع وسبعين وسبعمائة، لمرض مزمن كان يتفادى بالكتمان والصبر من ظهوره. وانكفأ بنو مرين راجعين إلى ممالكهم بالمغرب بعد أن بايعوا لولده دارجاً خماسياً، ولقبوه بالسعيد، وجعلوا أمره إلى أبي بكر بن غازي، فملك أمرهم عليهم. واستمر حاله كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن عودة ا لسلطان أبي حمّو الأخير إلى تلمسان الكرة الثالثة لبني عبد الواد في الملك: لما هلك السلطان عبد العزيز، ورجع بنو مرين إلى المغرب، نصبوا من أعياص بني يغمراسن لمدافعة أبي حمّو من بعدهم عن تلمسان، إبراهيم ابن السلطان أبي تاشفين، كان ناشئاً بدولتهم منذ مهلك أبيه. وتسلل من جملتهم عطية بن موسى مولى السلطان أبي حمو، وخالفهم إلى البلد غداة رحيلهم، فقام بدعوة مولاه. ودافع إبراهيم بن تاشفين عن مرامه، وبلغ الخبر إلى أولياء السلطان أبي حمّو من عرب المعقل أولاد يغمور بن عبيد الله، فطيروا إليه النحيب على حين غلب عليه اليأس. وأجمع الرحلة إلى بلاد السودان لما بلغه من اجتماع العرب للحركة عليه كما قلناه، فأغذ السير
من مطرح اغترابه. وسابقه إبنه، ولي عهده في قومه عبد الرحمن أبو تاشفين، مع ظهيرهم عبدالله بن صغير فدخلوا إلى البلد. وتلاهم السلطان لرابعة من دخولهم، وعاود سلطانه واقتعد أريكته، وكانت إحدى الغرائب. وتقبض ساعتئذ على وزرائه، اتهمهم بمداخلة خالد بن عامر فيما نقض من عهده وظاهر عليه عدوه؟ فأودعهم السجن وذبحهم ليومهم حنقاً عليهم. واستحكمت لها نفرة خالد وعشيره، وخلصت ولاية أولاد عريف بن يحيى لمنافرة بني عامر إياه، إقبال السلطان عبد العزيز عليه. ووثق بمكان ونزمار كبيرهم في تسكين عادية ملوك العرب عنه، ورجع إلى تمهيد وطنه. وكان بنو مرين عند انفضاضهم إلى مغربهم قد نصبوا من أقيال مغراوة، ثم من بني منديل علي ين هارون بن ثابت بن منديل، وبعثوه إلى شلف مزاحمة للسلطان أبي حمو، ونقضاً لأطراف ملكه. وأجلب أبو زيان ابن عمه على بلاد حصين، فكان من خبره معهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن رجوع أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد إلى بلاد حصين ثم خروجه عنها: كان الأمير أبو زيان ابن السلطان أبي سعيد، لما هلك السلطان عبد العزيز، وبلغه الخبر بمنجاته من واركلا، نهض منها إلى التلول، وأسف إلى الناحية. التي كان منتزياً بها ومساهماً لأبي حمّو فيها، فاقتطعها لدعوته كما كانت. ورجع أهلها إلى ما عرفوا من طاعته، فنهض السلطان أبو حمّو إلى لتمهيد نواحيه وتثقيف أطراف ملكه، ودفع الخوارج عن ممالكه، وظاهره على ذلك أمير البدو من زغبة أبو بكر ومحمد إبنا عريف بن يحيى. دس إليهما بذلك كبيرهما ونزمار، وأخذهما بمناصحة السلطان ومخالصته، فركبا من ذلك أوضح طريق وأسهر مركب. ونبذ السلطان العهد إلى خالد وعشيره، فضاقت عليهم الأرض ولحقوا بالمغرب لسابقة نزوعهم إلى السلطان عبد العزيز. وابتدأ السلطان بما بليه، فأزعج بمظاهرتهما علي بن هارون عن أرض شلف سنة خمس وسبعين وزسبعمائة بعد حروب هلك في بعضها أخوه رحمون بن
هارون. وخلص إلى بجاية، فركب منها السفن إلى المغرب، ثم تخطى السلطان أبو حمّو إلى ما وراء شلف. وسفر محمد بن عريف بينه وببن إبن عمه، بعد أن نزع إليه الكثير من أوليائه حصين والثعالبة، بما بذل لهم من المال، وبما سيموا من طول الفنة، فشارطه على الخروج من وطنه إلى جيرانهم من رياح على أتاوة تحمل إليه، فقبل ووضع أوزار الحرب وفارق مكان ثورته. وكان لمحمد بن عريف فيها أثر محمود، واستألف سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة المتغلب على بسيط منبجة وبلد الجزائر، بعد أن كان خب في الفتنة وأوضع، فاقتضى له من السلطان عهده من الأمان والولاية على قومه وعمله. وقلد السلطان أبناءه ثغور أعماله، فأنزل ابنه بالجزائر لنظر سالم بن إبراهيم من تحت استبداده، وابنه أبا زيان بالمدية. وانقلب السلطان إلى حضرته بتلمسان بعد أن دوخ قاصيته، وثقف أطراف عمله، وأصلح قلوب أوليائه، واستألف شيعة عدوه، فكان فتحاً لا كفاء له من بعد ما خلع من ربقة الملك، ونزع من لبوس السلطان. فانتبذ عن قومه وممالكه إلى قاصية الأرض، ونزل في جوار من لا ينفذ امره، ولا يقوم بطاعته. والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. الخبر عن أجلاب عبد الله بن صغير وانتقاض أبي بكر بن عريف وبيعتهما للأمير أبي زيان ورجوع أبي بكر إلي الطاعة: كان خالد بن عامر، وعبد الله ابن أخيه صغير، وسائر إخوانهم من ولد عامر بن إبراهيم، لحقوا بالمغرب صرخى ببني مرين لما وقع بينهم وبين أبي حمّو من الفعلة التي فعل خالد معه. ويئس عبد الله بن صغير من صريخهم، بما عقد ونزمار بن عريف من السلم بين صاحب المغرب وصاحب تلمسان، فخاض القفر بمن معه من قومه، ولحق بوطن زغبة، وأجلب على جبل راشد، وبه العمور أحلاف سويد من بني هلال. فاعترضتهم سويد، ودارت بينهم حرب شديدة، كان الظهور فيها لسويد عليهم. وفي خلال ذلك، فسد بين السلطان وبين أبي بكر بن عريف بسبب صاحب جبل
وانشريس يوسف بن عامر بن عثمان، أراده السلطان على النزول عن عمله، فغضب له أبو بكر لقديم الصداقة بين سلفهما، ووصل يده بعبد الله بن صغير بعد الواقعة. ودعاه إلى بيعة أبي زيان فأجابه، وأوفدوا رجالاتهم عليه بمكانه من مجالات رياح، فوصل معهم ونصبوه للأمر، وتحيز محمد بن عريف إلى السلطان في جموع سويد. ونهض السلطان من تلمسان فاتح سنة سبع وسبعين وسبعمائة فيمن معه من قبائل بني عبد الواد وعرب المعقل وزغبة، ودس إلى أولياء أبي زيان يرغبهم في المواعد. وحكم أبا بكر في الاشتراط عليه، ففاء إلى الطاعة والمخالصة. ورجع أبو زيان إلى مكانه من حلك الزواودة، وأغذ السلطان السير إلى حضرته فتملى أريكته، وحدث بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن وصول خالد بن عامر من المغرب والحرب التي دارت بينه وبين سويد وأبي تاشفين هلك فيها عبد الله بن صغير وإخوانه: لما بلغ خالد بن عامر بمكانه من المغرب خبر عبد الله ابن أخيه صغير، قفل من المغرب يئساً من مظاهرة بني مرين، فخفق السعي في صريخه بهم لما كانوا عليه من ، افتراق الأمر كما ذكرناه قبل. ووصل معه ساسي بن سليم في قومه بني يعقوب، وتظاهر الحيان على العيث في بلاد السلطان أبي حمو. واجتمع إليهم أبناء الفتنة من كل أوب، وأجلبوا على الأطراف وشنوا الغارة في البلاد. وجمع أولاد عريف لحربهم قومهم من سويد وأحلافهم من العطاف، وبعثوا بالصريخ إلى السلطان، فسير لحرب عدوه وعدوهم ابنه أبا تاشفين ولي عهده في قومه، وبرز لذلك في العساكر والجنود. ولما انتهى إلى بلاد هوارة، واضطرب عسكره بها، أعجله صريخ أوليائه من مناخ الركاب، فاستعجل الرحلة ولحق بأوليائه أولاد عريف ومن معهم من أشياع ا الدولة من زغبة. وأغذوا السير إلى وادي مينا بشرقي القلعة، فتراءى الجمعان وتواقفوا للقاء سائر
يومهم. واستضاءوا بإضرام النيران مخافة البيات، وأصبحوا على التعبية. وتمشت الرجالات في مواضعة الحرب، فأعجلهم مناشبة القوم، وتزاحفت الصفوف، وأعلم الكماة، وكشفت الحرب عن ساقها، وحمي الوطيس، وهبت الريح المبشرة، فخفقت لها رايات الأمير وهدرت طبوله. ودارت رحى الحرب، وصمدت إليها كتائب العرب، فتردى فيها الأبطال منهم وانكشفوا، وأجلت المعركة عن عبد الله بن صغير صريعاً، فأمر أبو تاشفين فاحتز رأسه وطير به البريد إلى أبيه. ثم عثرت المراكب بأخيه ملوك من صغير مع العبّاس ابن عمه موسى بن عامر، ومحمد بن زيان من وجوه عشيرهم متواقعين بجنودهم، متضاجعين في مراقدهم كأنما أقعدوا للردى، فوطأتهم سنابك الخيل وغشيهم قتام المواكب. وأطلقت العساكر أعنتها في اتباع القوم، فاستاقوا نعمهم وأموالهم. وكثرت يومئذ الأنفال، وغشيهم الليل فتستروا بجناحه. ولحق فلهم بجبل راشد، واضطرب أبو تاشفين أباه بمشتهى ظهوره، وأملأه السرور بما صنع الله على يده، وما كان له ولقومه من الأثر في مظاهرة أوليائه. وطار له بها ذكر على الأيام، ورجع إلى أبيه بالحضرة مملوء الحقائب بالأنفال، والجوانح بالسرور، والأيام بالذكر عنه وعن قومه، ومضى خالد لوجهه في فل في قومه. ولحق بجبل راشد إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله. والله أعلم.
الخبر عن انتقاض سالم بن إبراهيم ومظاهرته خالد بن عامر علي الخلاف وبيعتهما للأمير أبي زيان ثم مهلك خالد ومراجعة سالم الطاعة وخروج أبي زيان إلي بلاد الجريد: كان سالم بن إبراهيم هذا كبير الثعالبة المتغلبين على حصن متيجة منذ انقراض مليكش، وكانت الرياسة فيهم لأهل بيته حسبما ذكرناه في أخبارهم عند ذكر المعقل. ،لما كانت فتنة أبي زيان بعد نكبة أبي حمّو على بجاية، وهبت ريح العرب، واستغلظ أمرهم، كان سالم هذا أول من غمس يده في تلك الفتنة، ومكر بعلي بن غالب من بيوتات الجزائر، كان مغرباً عنها من لدن تغلب بني مرين على المغرب الأوسط
أيام أبي عنان. ولحق بها عندما أظلم الجو بالفتنة، واستحكمت نفرة أهل الجزائر عن أبي حمو، فأظهر بها الاستبداد واجتمع إليه الأوشاب والطغام. ونكره سالم أمير الضاحية أطمعه في الاستيلاء على الجزائر، فداخل في شأنه الملأ من أهل المدينة، وحذرهم منه أنه يروم الدعوة للسلطان أبي حمو، فاستشاطوا نفرة وثاروا به، حتى إذا رأى سالم أنه قد احيط به خلصه من أيديهم وأخرجه إلى حيه وأتلفه هنالك. وحول دعوة الجزائر إلى الأمير أبي زيان تحت استبداده، حتى إذا كان من أمر بني مرين وحلول السلطان عبد العزيز بتلمسان ما قدمناه، أقام دعوتهم في الجزائر إلى حين سلكه ورجوع أبي حمّو إلى تلمسان. وأقبل حينئذ جيش أبي زيان إلى تيطرى، فأقام سالم هذا دعوته في أحيائه وفي بلد الجزائر خشية على نفسه من السلطان أبي حمو، لما كان يعتمد عليه في الإدالة من أمره بالجزائر بأمر ابن عمه. ولما كان من خروج أبي زيان إلى أحياء رياح على يد محمد بن عريف ما قدمناه، واقتضى سالم عهده من السلطان وولي ابنه على الجزائر وأقام سالم على أمره من الاستبداد بتلك الأعمال واستضافة جبايتها لنفسه. وأوعز السلطان إلى عماله باستيفاء جبايتها، فاستراب وبقي في أمره على المداهنة.
وحدثت إثر ذلك فتنة خالد بن عامر، فتربص دوائرها رجاء أن يكون الغلب له، فيشغل السلطان عنه. ثم بدا له ما لم يحتسب، وكان الغلب للسلطان ولأوليائه. وكان قد حدثت بينه وبين محمد بن عريف عداوة، فخشي أن يحمل السلطان على النهوض إليه، فبادر بالانتفاض على أبي حمو. واستقدم الأمير أبا زيان فقدم عليه، وجأجأ بخالد بن عامر والمخالفين معه من العرب، فوصلوا إليه أول سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وعقد بينهم حلفاً مؤكداً، وأقام الدعوة للأمير أبي زيان بالجزائر. ثم زحفوا إلى حصار مليانة، وبها حامية السلطان فامتنعت عليهم، ورجعوا إلى الجزائر فهلك خالد بن عامر على فراشه ودفن بها. وولي أمر قومه من بعده المسعود ابن أخيه صغير، ونهض إليهم السلطان أبو حمّو من تلمسان في قومه وأوليائه من العرب، فامتنعوا بجبال حصين. وناوشتهم جيوش السلطان القتال بأسافل الجبل، فغلبوهم عليها وانفضت الناحية عنهم من الديالم والعطاف وبني عامر، فلحقوا بالقفس
ورأى سالم وأصحابه أن قد احيط بهم فلاذ بالطاعة، وحمل عليها أصحابه. وعقد لهم السلطان من ذلك ما أرادوه، على أن يفارقوا الأمير أبا زيان ففعلوا. وارتحل عنهم فلحق ببلاد المغرب، ريغ، ثم أجازها إلى نفطة من بلاد الجريد، ثم إلى توزر، فنزل على مقدّمها يحيى بن يملول، فأكرم نزله وأوسع قراره إلى أن كان من أمره ما نذكر. ورجع السلطان أبو حمّو إلى تلمسان، وفي نفسه من سالم حرارة لكثرة اضطرابه ومراجعته الفتن، حتى توسّط فصل الشتاء، وأبعدت العرب في مشاتيها، فنهض من تلمسان في جيوش زناتة، وأغذّ السير، فصبح فحص متيجة بالغارة الشعواء. وأجفلت الثعالبة فلحقوا برؤوس الجبال، وامتنع سالم بجبل بني خليل. وبعث ابنه وأولياءه إلى الجزائر، فامتنعوا بها وحاصروه أياماً. ثم غلبوه على مكامنه، فانتقل إلى بني ميسرة من جبال صنهاجة. وخلف أهله ومتاعه، وصار الكثير من الثعالبة إلى الطاعة، وأسهلوا بأمان السلطان وعهده إلى فحص متيجة. وبعث هو أخاه ثانياً إلى السلطان، فاقتضى له العهد، ونزل من رأس ذلك الشاهق إلى ابنه أبي تاشفين، فأوصله إلى السلطان إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، فأخفر عهده وذمّة ابنه، وتقبّض عليه صبيحة ليلته. وبعث قائده إلى الجزائر فاستولى عليها وأقام دعوته بها، وأوفد عليه مشيختها فتقبّض عليهم، وعقد على الجزائر لوزيره موسى بن برغوت، ورجع إلى تلمسان فقضى بها عيد النحر. ثم أخرج سالم بن ابراهيم من محبسه إلى خارج البلاد، وقتل قعصاً بالرماح، ونصب شلوه، وأصبح مثلاً في الآخرين. ولله البقاء. وعهد السلطان لابنه المنتصر على مليانة وأعمالها، ولابنه أبي زيان على وَهرَان. وراسله ابن يملول صاحب توزر، وصهره ابن قرى صاحب بسكرة، وأولياؤهما من الكعوب والزواودة، لما أهمهم أمر السلطان أبي العبّاس. وخافوه على أمصارهم، فراسلوا أبا حمّو يضمنون له مسالمة أبي زيّان، على أن يوفي له بما اشترط له من المال، وعلى أن يشبّ نار الفتنة من قبله على بلاد الموحّدين ليشغل السلطان أبا العبّاس عنهم، على حين عجز أبو حمّو عن ذلك وضعف الدولة عنه. فأوهمهم من نفسه القدرة وأطمعهم في ذلك.
وما زال يراجعهم ويراجعونه بالمقاربة والوعد، إلى أن أحيط بابن بملول، واستولى السلطان على بلده فلحق ببسكرة، وهلك بها لسنة من خروجه آخر سنة احدى وثمانين و سبعمائة. وبقي ابن مزني من بعده متعلّلاً بتلك الأماني الكاذبة، إلى أن ظهر أمره وتبيّن عجزه: فراجع طاعة السلطان أبي العبّاس واستقام على الموادعة. ولحق الأمير أبو زيّان بحضرة السلطان بتونس، فنزل بها أكرم نزل مؤمّلاً منه المظاهرة على عدّوه. والحال بالمغرب الأوسط لهذا العهد على ما شرحناه مراراً من تغلّب العرب على الضواحي والكثير من الأمصار. وتقلّص ظلّ الدولة عن القاصية وارتدادها على عقبها إلى مراكزها بسيف البحر، وتضاؤل قدرتها عن قدرتهم، وإعطاء اليد في مغالبتهم ببذل رغائب الأموال، وإقطاع البلاد والنزول عن الكثير من الأمصار، والقنوع بالتغريب بينهم، والإغراء بعضهم ببعض. والله وليّ الأمور. قسمة السلطان للأعمال بين ولده وما حدث بينهم من التنافس: كان لهذا السلطان أبي حمّو جماعة من الولد كبيرهم أبو تاشفين عبد الرحمن. ثم بعده أربعة أم واحدة، كان تزوّجها بمَيلَةَ من أعمال قُسَنطِينَة أيام جولته في بلاد الموحّدين كبيرهم المنتصر. ثم أبو زيان محمد. ثم عمر، ويلقب عميرا. ثم بعدهم ولد كثيرون أبناء علات. وكان أبو تاشفين ولي عهده، وقد رفعه على الباقين، وأشركه في أمره، وأوجب له الحق على وزراء دولته، فكان لذلك رديفه في ملكه ومظهر سلطانه. وكان مع ذلك يتعاهد أولئك الإخوة الأشقاء بحنوه، ويقسّم لهم من ترشيحه والنجاء في خلوته، فتنغّص أبو تاشفين منهم. فلما استفحل أمر السلطان، وانمحت من دولته آثار الخلاف، أعمل نظره في قسمة الأعمال بين ولده، وترشيحهم للأمارة، والبعد بهم عن أخيهم أبي تاشفين، أن يصيبهم مكروهه عند إيناس الغيرة منهم: فولّي المنتصر كبيرهم على مليانة وأعمالها، أنفذه إليها، ومعه أخوه عمر الأصغر في كفالته. وولّى أخاهما الأوسط أبا زيّان، على المدية وما إليها من بلاد
حصين. وولّى ابنه يوسف بن الزابية على تدلس ما إليها من آخر أعماله. واستقرّ أمرهم على ذلك. ثم كان من انتقاض سالم الثعالبي بالجزائر ما قدّمناه، فنمي إلى السلطان أنّ ابنه أبا زيّان داخله في الخلاف، فلمّا فرغ من أمر سالم كما مرّ، وطرد أبا زيان ابن عمه عن أعماله إلى الجريد، أعمل نظره في نقل ابنه أبي زيان من المدية إلى ولاية وهران وأعمالها بعداً له عن العرب المجلبين في الفتن، وأنزل معه بعض وزرائه عيناً عليه، وأقام والياً عليها. والله أعلم. وثبة أبي تاشفين بيحيي بن خلدون كاتب أبيه: كان أوّل شيء حدث من منافسة أبي تاشفين لإخوته، أن السلطان لمّا ولّى ابنه أبا زيّان على وهران وأعمالها، طلبه أبو تاشفين في ولايتها لنفسه فأسعفه ظاهراً، وعهد إلى كاتبه يحيى بن خلدون بمماطلته في كتابها حتى يرى المخلص من ذلك، فأقام الكاتب يطاوله. وكان في الدولة لئيم من سفلة الشرط يدعى بموسى بن يخلف، صحبهم أيام الاغتراب بتيكورارين، أيام ملك تلمسان عليهم عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن كما مرّ. وخلا له هنالك وجه السلطان أبي حمّو وإبنه، فتقرّب إليه بخدمته ورعاها له. فلما رجع السلطان إلى تلمسان بعد مهلك عبد العزيز، قدّمه وآثره واستخلصه، فكان من أخلص بطانته. وكان أبو تاشفين أيضاً استخلصه، وجعله عيناً على أبيه. وكان هو أيضاً يغص بابن خلدون كاتب السلطان، ويغار من تقدّمه عنده ويغري به أبا تاشفين جهده، فدس إليه أثناء هذه المطاولة أنّ الكاتب ابن خلدون إنما مطله بالكتاب خدمة لأبي زيّان أخيه، وإيثاراً له عليه، فاستشاط لها أبو تاشفين وترصّد له منصرفه من القصر إلى بيته بعد التراويح، في إحدى ليالي رمضان سنة ثمانين وسبعمائة في رهط من الأوغاد كان يطوف بهم في سكك المدينة، ويطرق بهم بيوت أهل السرّ والحشمة في سبيل الفساد، فعرضوا له وطعنوه بالخناجر حتى سقط عن دابته ميتاً. وغدا الخبر على السلطان صبيحة تلك الليلة فقام في ركائبه وبثّ الطلب عن أولئك الرهط في جوانب المدينة. ثم بلغه أنّ ابنه أبا تاشفين صاحب الفعلة، فأغضى وطوى عليها جوانحه، وأقطع أبا تاشفين مدينة وهران كما وعده. وبعث ابنه أبا زيّان
على بلاد حُصَين والمرية كما كان. ثم طلب أبو تاشفين من أبيه أن تكون الجزائر خالصة له، فأقطعه إيّاها. وأنزل بها من إخوته يوسف بن الزابية، بما كان شيعة له من بينهم وفيئة في صحبته ومخالصته، فأقام والياً عليها. والله أعلم. حركة السلطان أبي حمّو علي ثغور المغرب الأقصي ودخول ابنه أبي تاشفين إلى جهات مكناسة: كان السلطان أبو العبّاس ابن السلطان أبي سالم ملك بني مرين بالمغرب الأقصى، قد نهض في عساكره سنة إحدى وثمانين إلى مراكش، وبها الأمير عبد الرحمن بن يفلرس ابن السلطان أبي عليّ مقاسمه في نسبه وملكه. وكان قد سوّغ له مراكش لها عندما أجلب معه على البلد الجديد سنة خمس وسبعين وسبعمائة كما في أخبارهم. واستقرّ الأمير عبد الرحمن بمراكش. ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أحمد، ونهض إليه من فاس، فحاصره أوّلاً وثانياً، يفرج فيهما عنه. ثم نهض إليه سنة أربع وثمانين وسبعمائة ، فحاصره وأخذ بمخنقه وأطال حصاره. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير المعقل من العرب منتقضاً على السلطان. وقد بعث السلطان العساكر إلى أحيائه، فهزموه وخرّبوا بيوته وبساتينه بسجلماسة ورجعوا. وأقام هو بصحرائه منتقضاً. فلما جهد الحصار الأمير عبد الرحمن بمراكش، بعث أبا العشائر ابن عمّه منصور ابن السلطان أبي علي إلى يوسف بن علي بن غانم، ليجلب به على فاس وبلاد المغرب، فيأخذ بحجزة السلطان وينفس من مخنقه، فسار يوسف بن علي مع أبي العشائر إلى السلطان أبي حمّو بتلمسان يستنجده على هذا الغرض لقدرته عليه دون العرب، بما له من العساكر والأبهة، فأنجده على ذلك. وقدم ابنه أبا تاشفين معهم، وخرج هو في أثرهم فساروا إلى المغرب. ونزل يوسف بن علي بقومه قريباً من مكناسة، ومعه الأميران أبو العشائر وأبو تاشفين. وجاء أبو حمّو من خلفهم فحاصر تازى سبعاً، وخرّب قصر تازروت المعدّ هنالك لنزل السلطان. وكان السلطان قد استخلف على فاس في مغيبه علي بن مهدي العسكري من عمّال
دولته ووجوه قبيله، وكان هنالك عرب المنبات من المعقل قد دخلوا للميرة، فأهاب بهم ونزمار بن عريف ولي الدولة من عرب سويد، وهو نازل بقصر مرادة من أحواز تازى، فاستألفهم لمدافعة أبي حمّو وإبنه. وخرج بهم علي بن مهدي. ثم وصل الخبر باستيلاء السلطان على مراكش منتصق خمس وثمانين وسبعمائة، فأجفل أبو تاشفين وأبو العشائر ومن معهما من العرب، واتبعهم علي بن مهدي بمن معه من المنباة. وأجفل أبو حمّو علي تازى، ومرّ بمرادة قصر ونزمار فهدمه وعاث فيه، وانكفأ راجعاً إلى تلمسان. وفارق ابنه أبو تاشفين أصحابه أبا العشائر والعرب، ولحق بأبيه، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
نهوض السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب إلي تلمسان واستيلاؤه عليها واعتصام أبي حمّو بحصن تاجحمومت: ولما استولى السلطان أبو العبّاس على مراكش كما قلناه، رجع إلى دار ملكه بفاس وقد آسفه السلطان أبو حمّو بأجلابه على وطنه هو وابنه أبو تاشفين مع العرب أيام مغيبه بمراكش، فأجمع الرحلة إلى تلمسان، وخرج في عساكره. وراجع يوسف بن علي الطاعة، ورحل معه في جموعه. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو، فتردد بين الحصار بتلمسان أو مفارقتها. وكان بينه وبين ابن الأحمر صاحب الأندلس مواصلة، ولابن الأحمر دالة على السلطان أبي العبّاس كما مرّ. فكان يحفظ له الشأن في قصد تلمسان ويلبثه عنها فيعطيه المقادة في ذلك، فيعلّل هو السلطان أبا حمّو بأنّ السلطان أبا العبّاس لا يصل إليه. ثم أجمع السلطان أبو العبّاس أمره، ونهض على حين غفلة مغذّاً إلى تلمسان. وتقدّم الخبر إلى أبي حمّو فأجمع مفارقة تلمسان بعد أن أظهر لأوليائه وأهل دولته أنه على الحصار. ثم خرج حين غشيه الليل إلى معسكره بالصفيف، وافتقده أهل بلده من صبيحتهم، فتبادر أكثرهم إليه متعلّقين بأذياله خوفاً من معرّة العدوّ ثم ارتحل يطوي المراحل إلى البطحاء، ودخل السلطان أبو
العبّاس تلمسان، واستولى عليها، وجهّز العساكر لأتباع أبي حمّو وقومه، فأجفل من البطحاء ولحق بتاحجمومت فاعتصم بمعقلها. ولحق به ابنه المنتصر من مليانة بما كان معه من الذخيرة، فاستمد بها وأقام هنالك عازماً على الامتناع والله تعالى أعلم. رجوع السلطان أبي العبّاس إلي المغرب واختلال دولته ورجوع السلطان أبي حمّو إلى ملكه بتلمسان: كان السلطان أبو العبّاس لما استولى على مملكة تلمسان، طيّر كتبه ورسله بفتحها إلى ابن الأحمر صاحب الأندلس، ويعتذر له عن مخالفة رأيه في الحركة إليها. وقد كان ابن الأحمر آسفه ذلك إلى ما انتظم إليه من النزعات الملوكية التي يؤسف بها بعضهم بعضاً، وهو يطوي جوانحه عليها واطلع على فساد طاعة السلطان أبي العبّاس في أهل دولته ونغل ضمائرهم له، فأزعج لوقته موسى ابن السلطان أبي عنان من أعياص ملكهم، كان عنده بالأندلس، وجهّزه بما يحتاج إليه وبعث في خدمته مسعود بن رحّو بن ماسالي وزيرهم المشهور، وأركبه السفن إلى سبتة، فنزلوا بساحتها أول ربيع سنة ست وثمانين وسبعمائة واستولوا عليها. ثم تقدّموا إلى فاس، فنازلوا دار الملك أياماً، وبها محمد بن عنان القائم بدولة السلطان أبي العبّاس والمستبدّ عليه، واشتدّوا في حصارها، وتوافت إليهم الأمداد والحشود، فداخله الخور والقي بيده. وداخل السلطان موسى إلى دار الملك تاسع عشر ربيع الأوّل من السنة، وجلس على أريكته، وآتاه الناس طاعتهم. وطار الخبر إلى السلطان أبي العبّاس بتلمسان، وقد تجهّز لاتباع أبي حمو. ونزل على مرحلة من تلمسان بعد أن أغراه ونزمار بن عريف أمير سويد بتخريب قصور الملك بتلمسان، وكانت لا يعبّر عن حسنها، اختطّها السلطان أبو حمّو الأوّل وابنه أبو تاشفين، واستدعى لها الصنّاع والفعلة من الأندلس، لحضارتها وبداوة دولتهم يومئذ بتلمسان. فبعث إليهما السلطان أبو الوليد صاحب الأندلس بالمهرة والحذّاق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم القصور والمنازل والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله،
فأشار ونزمار على السلطان أبي العبّاس بتخريب هذه القصور وأسوار تلمسان انتقاماً بزعمه من أبي حمو، وأخذاً بالثأر منه فيما اعتمده من تخريب دار الملك بتازى، وتخريب قصره هو بمرادة، فأتى عليها الخراب أسرع من لمح البصر. وبينما هو في ذلك، وهو يروم السفر لأتباع أبي حمو، إذ جاءه الخبر بأنّ السلطان موسى ابن عمه السلطان أبي عنّان قد استولى على دار ملكهم بفاس واقتعد أريكتهم، فكرّ راجعاً إلى المغرب لا يلوي على شئ، وترك تلمسان لشأنها، وكان من أمره ما يأتي ذكره في أخبارهم. وطار الخبر إلى السلطان أبي حمّو بمكانه من تاجحمومت، فأغذّ السير إلى تلمسان ودخلها، وعاد إلى ملكه بها. وتفجّع لتلك القصور بما ذهب من رونق حسنها، ورجع دولته بني عبد الواد وسلطانهم بتلمسان. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تجدّد المنافسة بين أولاد السلطان أبي حمّو ومجاهرة أبي تاشفين بذلك لهم ولأبيه: كان التنافس بين هؤلاء الولد خفيّاً على الناس، بما كان السلطان أبوهم يؤامل بينهم ويداري بعضهم عن بعض. فلما خرجوا أمام بني مرين وعادوا إلى تلمسان، صار تنافسهم إلى العداوة. واتّهم أبو تاشفين أباه بممالأة إخوته عليه، فشمّر لعقوقه وعداوته. وشعر السلطان بذلك، فعمل الحركة إلى ناحية البطحاء مورياً بإصلاح العرب، ومعتزماً على لقاء ابنه المنتصر بمليانة، ليصل به جناحه ويتخطّى إلى الجزائر، فيجعلها دار ملكه بعد أن استخلف بتلمسان ابنه أبا تاشفين وحالفه على المناصحة. واطلع موسى بن يخلف على خبيئة السلطان بذلك، فدسّ بها إلى أبي تاشفين على عادته، فطار به الأسف كل مطار، وأغذّ السير من تلمسان فيمن معه من العسكر، وصبح أباه بأسافل البطحاء قبل أن يتصل بالمنتصر. وكشف القناع عن التكبّر والتسخط على ما بلغه فحلف له السلطان على ذلك وأرضاه بالرجوع معه إلى تلمسان فرجعا جميعاً. خلع السلطان أبي حمّو واستبداد ابنه أبي تاشفين بالمحلك واعتقاله إياه: لما رجع السلطان من البطحاء وبطل ما كان يؤمّله من الاتصال بالمنتصر، دسّ إليه
مع خالصة من أهل دولته يعرف بعلي بن عبد الرحمن بن الكليب بأحمال من المال يودعها عنده. إلى أن يجد السبيل لحاجة نفسه. وكتب له بولاية الجزائر ليقيم بها حتى يخلص إليه. واطلع موسى بن يخلف على ذلك، فأطلع أبا تاشفين على الخبر: فبعث في أثره من حاشيته من اغتال ابن كليب في طريقه. وجاء إليه بالمال والكتب، فاطلع منها على حقيقة أمرهم وأنهم متربّصون به، فاستشاط وجاهر أباه وغدا عليه بالقصر، فوقفه على الكتاب وبالغ في عذله. وتحيّز موسى بن يخلف إلى أبي تاشفين، وهجر باب السلطان وأغرى به ابنه، فغدا على أبيه بالقصر بعد أيام وخلعه، وأسكنه بعض حجر القصر. ووكّل به واستخلص ما كان معه من الأموال والذخيرة. ثم بعث به إلى قصبة وَهرَان، فاعتقله بها. واعتقل من حضر بتلمسان من إخوله، وذلك آخر ثمان وثمانين وسبعمائة. وبلغ الخبر إلى المنتصر بمليانة وأبي زيان وعمير، فلحقوا بقبائل حصين واستذمّوا بهم، فأذمّوهم وأنزلوهم عندهم بجبل تيطرى. وجمع أبو تاشفين العساكر واستألف العرب من سويد وبني عامر، وخرج في طلب المنتصر وإخوته، ومرّ بمليانة فملكها. ثم تقدّم إلى جبل تيطرى، وأقام في حصارهم به، وهم ممتنعون عليه. والله تعالى أعلم. خروج السلطان أبي حمّو من الاعتقال ثم القبض عليه وتغريبه في السفين إلي المشرق: لما طال مقام أبي تاشفين على تيطرى لحصار إخوته، ارتاب بأمر أبيه وطول مغيبه عنه. وشاور أصحابه في شأنه، فأشاروا بقتله وأتفقوا على ذلك، فبعث أبو تاشفين ابنه أبا زيّان في لمة من حاشيته: فيهم ابن الوزير عمران بن موسى، وعبد الله بن الخراساني، فقتلوا من كان معتقلاً بتلمسان من أبناء السلطان، وتقدموا إلى وهران. وسمع أبو حمّو بقدومهم، فأوجس الخيفة منهم، واطلع من جدران القصبة ينادي بالصريخ في أهل البلد، فتبادروا إليه من كل جهة وتدلى لهم بحبل وصله من عمامته التي كان متعمماً بها، فشالوه حتى استقرّ بالأرض واجتمعوا إليه. وكان الرهط الذين جاؤا لقتله بباب القصر، وقد أغلقه دونهم. فلما سمعوا الهيعة واستيقنوا الأمر، طلبوا
النجاة بدمائهم. واجتمع أهل البلد على السلطان، وتولى كبر ذلك خطيبهم، وجدّدوا له البيعة. وارتحل من حينه إلى تلمسان، فدخلها أوائل سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وهي يومئذ عورة بما كان بنو مرين هدموا أسوارها وأزالوا حصنها. وبعث فيمن كان مخلفاً بأحياء بني عامر من أكابرهم ووجوههم، فقدموا عليه. وطار الخبر إلى أبي تاشفين بمكانه من حصار تيطرى، فانكفأ راجعاً إلى تلمسان فيمن معه من العساكر والعرب، وبادره قبل أن يستكمل أمره فاحيط به. ونجا إلى مأذنة الجامع، فاعتصم بها. ودخل أبو تاشفين القصر، وبعث في طلبه. وأخبر بمكانه، فجاء إليه بنفسه واستنزله من المأذنة. وأدركته الرقّة، فجهش بالبكاء وقبّل يده وغدا به إلى القصر. واعتقله ببعض الحجر هنالك ورغب إليه أبوه في تسريحه إلى المشرق لقضاء فرضه، فشارط بعض تجّار النصارى المتردّدين إلى تلمسان من القيطلان على حمله إلى الإسكندرية، وأركبه السفين معهم بأهله من فرضة وهران ذاهباً لطيبة موكلاً به. وأقبل أبو تاشفين على القيام بدولته. والله تعالى أعلم. نزول السلطان أبو حمّو ببجاية من السفين واستيلاؤه علي تلمسان ولحاق أبي تاشفين بالمغرب: لما ركب السلطان أبو حمّو السفين ذاهباً إلى الإسكندرية، وفارق أعمال تلمسان وحاذى بجاية، داخل صاحب السفين في أن ينزله ببجاية فأسعفه لذلك. فخرج من الطارمة التي كان بها معتقلاً، وصار الموكّلون به في طاعته. وبعث إلى محمد بن أبي مهدي قائم الأسطول ببجاية المستبدّ على أميرها من ولد السلطان أبي العبّاس بن أبي حفص. وكان محمد بن وارث خالصة المنتصر بن أبي حمّو من ناحية دولتهم، قد خلص إلى بجاية من تيطرى بعدما تنفس الحصار عنهم، فبعثه ابن أبي مهدي إلى السلطان أبي حمّو بالإجابة إلى ما سأل. وأنزله بجاية اخر سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وأسكنه بستان الملك المسمّى بالرفيع. وطيّر بالخبر إلى السلطان بتونس، فشكر له ما أتاه من ذلك، وأمره بالاستبلاغ في تكريمه، وأن يخرج عساكر بجاية في خدمتة أبي حمّو إلى حدود عمله متى احتاج إليها. ثم خرج السلطان أبو حمّو من بجاية، ونزل متيجة، واستنفر طوائف العرب من كل ناحية فاجتمعوا إليه. ونهض يريد تلمسان. واعصوصب قومه
بنو عبد الواد على أبي تاشفين بما بذل فيهم من العطاء وقسم من الأموال، فنابذوا السلطان أبا حمّو واستصعب عليه أمرهم. وخرج إلى الصحراء، وخفف ابنه أبا زيان في جبال شلف مقيماً لدعوته. وبلغ إلى تامة من ناحية المغرب. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين، فبعث عسكراً إلى شلف مع ابنه أبي زيان ووزيره محمد بن عبد الله بن مسلم، فتواقفوا مع أبي زيان ابن السلطان أبي حمّو فهزمهم. وقتل أبا زيان ابن أبي تاشفين ووزيره ابن مسلم، وجماعة من بني عبد الواد. وكان أبو تاشفين لما بلغه وصول أبيه إلى تامة، سار إليه من تلمسان في جموعه. فأجفل أبو حمّو إلى وادي صا، واستجاس بالأحلاف من عرب المعقل هنالك فجاؤا لنصره. وعاود تامة فنزلها، وأقام أبو تاشفين قبالته. وبلغه هنالك هزيمة ابنه ومقتله، فولى منهزماً إلى تلمسان وأبو حمّو في أتباعه. ثم سرح أبو تاشفين مولاه سعادة في طائفة من العسكر لمحاولة العرب في التخلي عن أبي حمو، فانتهز أبو حمّو به الفرصة وهزمه وقبض عليه. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين بتلمسان، وكان يؤمّل النجاح عند سعادة فيما توجه فيه فأخفق سعيه. وانفض عنه بنو عبد الواد والعرب الذين معه، وخرج هارباً من تلمسان مع أوليائه من سويد إلى مشاتيهم بالصحراء. ودخل السلطان أبو حمّو تلمسان في رجب سنة تسعين وسبعمائة. وقدم عليه أبناؤه، فأقاموا معه بتلمسان، فطرق المنتصر ابنه المرض فهلك بها لأيام من دخوله تلمسان، واستقرّ الأمر على ذلك. والله أعلم.
نهوض أبي تاشفين بعساكر بني مرين ومقتل السلطان أبي حمو:
لما خرج أبو تاشفين من تلمسان أمام أبيه، واتصل بأحياء سويد، أجمعوا رأيهم على الاستنجاد بصاحب المغرب، فوفد أبو تاشفين ومعه محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العبّاس صاحب فاس، وسلطان بني مرين صريخين على شأنهما، فقبل وفادتهما ووعدهما بالنصر من عدوّهما. وأقام أبو تاشفين عنده ينتظر إنجاز وعده،
وكان بين أبي حمّو وابن الأحمر صاحب الأندلس وشيجة ودّ وعقيدة وصلة، ولابن الأحمر دالة وتحكّم في دولة أبي العبّاس صاحب المغرب بما سلف من مظاهرته على أمره منذ أول دولته، فبعث إليه أبو حمّو في الدفاع عنه بإجازة أبي تاشفين من المغرب إليه، فلم يجبه صاحب المغرب لذلك وفاء بذمّته، وعلّله بالقعود عن نصره. وألحّ عليه ابن الأحمر في ذلك، فتعلّل بالمعاذير. وكان أبو تاشفين قد عقد لأوّل قدومه مع وزير الدولة محمد بن يوسف بن علاّل حلفاً اعتقد الوفاء به، فكان هواه في إنجاده ونصره من عدوّه، فلم يزل يفّتل لسلطانه في الذروة والغارب، ويلوي عن ابن الأحمر المواعيد حتى أجابه السلطان إلى غرضه. وسرّح ابنه الأمير أبا فارس، والوزير محمد بن علال في العساكر لمصارخة أبي تاشفين. وفصلوا من فاس أواخر إحدى وتسعين، وانتهوا إلى تازى. وبلغ خبرهم إلى السلطان أبي حمّو، فخرج من تلمسان وجمع أشياعه من بني عامر والخراح بن عبيد الله وقطع جبل بني ورنيد المطل على تلمسان، وأقام بالغيران من جهاته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين، فقدم إلى تلمسان فجدد المكر والخديعة شيطان الشر والفتنة موسى بن يخلف، فاستولى عليها وأقام دعوة أبي تاشفين فيها، فطيّرإلى أبي حمّو ابنه عمير ، فصبحه بها لليلة من مسيره، فأسلمه أهل البلد. وتقبّض عليه، وجاء به أسيراً إلى أبيه بمكانه من الغيران، فوبّخه أبو حمّو على فعاله. ثم أذاقه أليم عقابه ونكاله، وأمر به فقتل أشنع قتلة. وجاءت العيون إلى أبي فارس ابن صاحب المغرب ووزيره ابن علال بمكان أبي حمّو وأعرابه بالغيران، فنهض الوزير ابن علال في عساكر بني مرين لغزوه. وسار أمامهم سليمان بن ناجي من الأحلاف إحدى بطون المعقل، يدل بهم طريق القفر حتى صبحوه ومن معه من أحياء الخراج في مكان مقامتهم بالغيران. وناوشوهم القتال فلم يطيقوهم لكثرتهم وولّوا منهزمين. وكبا بالسلطان أبي حمّو فرسه، فسقط وأدركه بعض فرسانهم وعرفه، فقتلوه قعصاً بالرماح. وجاؤا برأسه إلى الوزير ابن علاّل وأبي تاشفين، وجاءوا بابنه عمير أسيراً. وهمّ أبو تاشفين أخوه بقتله فمنعوه أياماً، ثم أمكنوه منه فقتله. ودخل أبو تاشفين إلى تلمسان آخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وخيّم الوزير وعساكر بني مرين
بظاهر البلد، حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب وأقام هو بتلمسان يقيم بدعوة السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب، ويخطب له على منابره، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة كما اشترط على نفسه، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
مسير أبي زيان بن أبي حمّو لحصار تلمسان ثم إجفاله عنها ولحاقه بصاحب المغرب: كان السلطان أبو حمّو قد ولّى على الجزائر ابنه أبا زيان، لما عاد إلى ملكه بتلمسان، وأخرج منها أبا تاشفين. فلما قتل أبو حمّو بالغيران كما قلناه، وخرج أبو زيّان من الجزائر ناجياً إلى أحياء حصين يؤمّل الكرة بهم والأخذ بثأر أبيه وأخيه، فاشتملوا عليه وأجابوا صريخه. ثم وفد عليه أمراء بني عامر من زغبة يدعونه لملكه، فسار إليهم. وقام بدعوته وطاعته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعا إلى تلمسان في رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة فحاصروها أياماً. ثم سرب أبو تاشفين المال في العرب، فافترقوا عن أبي زيان. وخرج إليه أبو تاشفين، فهزمه في شعبان من السنة. ولحق بالصحراء واستألف أحياء المعقل، وعاود حصار تلمسان في شوال. وبعث أبو تاشفين ابنه صريخاً إلى المغرب، فجاءه بمدد من العسكر. ولما انتهى إلى تاوريرت أفرج أبو زيان عن تلمسان، وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب، فوفد عليه صريخاً، فتلقّاه وبرّ مقدمه. ووعده النصر من عدوّه، وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين. والله تعالى أعلم. وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب علي تلمسان: لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكاً على تلمسان ومقيماً فيها لدعوة صاحب المغرب أبي سالم، ومؤدّياً للضريبة التي فرضها عليه منذ أوّل ملكه، وأخوه الأمير أبو زيّان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعده في النصر عليه.
حتى تغّير السلطان أبو العبّاس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية، فأجاب داعي أبي زيّان وجهّزه بالعساكر لملك تلمسان، فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة. وانتهى إلى تازى، وكان أبو ناشفين قد طرقه مرض أزمن به، ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم بدولته أحمد بن العزّ من صنائعهم، وكان يمت إليه بخؤلة، فولّى بعده مكانه صبياً من أبنائه وقام بكفالته. وكان يوسف بن أبي حمّو وهو ابن الزابية والياً على الجزائر من قبل أبي ناشفين، فلما بلغه الخبر أغذّ السير مع العرب ودخل تلمسان، فقتل أحمد بن العز والصبيّ المكفول ابن أخيه أبي تاشفين. فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس صاحب المغرب خرج إلى تازى، وبعث من هنالك إبنه أبا فارس في العساكر، ورد أبا زيان بن أبي حمّو إلى فاس ووكّل به. وسار ابنه أبو فارس إلى تلمسان، فملكها وأقام فيها دعوة أبيه. وتقدّم وزير أبيه صالح بن حمّو إلى مليانة، فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف بن الزابية بحصن تاحجمومت. وأقام الوزير صالح يحاصره، وانقرضت دعوة بني عبد الواد من المغرب الأوسط. والله غالب على أمره.
وفاة أبي العبّاس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان بن أبي حمّو علي تلمسان والمغرب الأوسط كان السلطان أبو العبّاس بن أبي سالم، لما وصل إلى تازى، وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان، فملكها أقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الذي تقدّم ليفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل قد حج سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق. وتقدمت إلى السلطان فئه وأخبرته بمحلّه من قومه، فأكرم تلقّيه وحمله بعد قضاء حجّه هدية إلى صاحب المغرب، يطوقه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك. فلمّا قدم يوسف بن علي بها على السلطان أبي العبّاس عظم موقعها، وجلس في مجلس جعله لعرضها والمباهاة بها. وشرع في المكافأة عنها بتخيّر الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه، واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول. وأنه يرسله من تازى أيام مقامته هناك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في محرم
سنة ست وتسعين وسبعمائة. واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان، فبايعوه بتازى وولّوه مكانه. ورجعوه إلى فاس، وأطلقوا أبا زيان بت أبي حمّو من الاعتقال. وبعثوا به إلى تلمسان أميراً عليها، وقائماً بعد السلطان أبي فارس فيها، فسار إليها وملكها. وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر ويروم ملك تلمسان والأجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عندما بلغه ذلك. وبذل لهم عطاء جزيلاً على أن يبعثوا به إليه، فأجابوا إلى ذلك وأسلموه إلى ثقات أبي زيان. وساروا به فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيّان، فسكنت أحواله وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته، وهم على ذلك لهذا العهد. والله غالب على أمره. وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، وبقي علينا خبر الرهط الذين تحيّزوا منهم إلى بني مرين منّذ أول الدولة: وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي، وخبر بني كندوز امرائهم بمراكش. فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نستوفي الكلام في أخبار بني عبد الواد. والله وارث الأرض وصت عليها، وهو خير الوارثين. الخبر عن بني كميّ إحدى بطون بني القاسم بن عبد الواد وكيف نزعوا إلى بني مرين وما صار لهم بنواحي مراكش وأرض السوس من الرياسة قد تقدم لنا أوّل الكلام في بني عبد الواد أنّ بني كمي هؤلاء من شعوب القاسم، وانهم بنو علي بن يمل بن يزكن بن القاسم، إخوة بني طاع الله وبني دلول وبني معطي بن جوهر بن علي. وذكرنا ما كان بين بني طاع الله وبين إخوانهم وبين بني كمي من الفتنة، وكيف قتل كندوز بن عبد الله، كبير بني كمي زيان بن ثابت بن محمد كبير بني طاع الله، وأنّ جابر بن يوسف بن محمد القائم بالأمر من بعده ثار منهم بزيان، وقتل به كندوزاً غيلة أو حربا، وبعث برأسه إلى يغمراسن بن زئان، فنصب عليه أهل بيته القدور شفاية لنفوسهم. واستمر الغلب بعدها على بني كمي، فلحقوا بحضرة تونس، وكبيرهم إذ ذاك عبد الله بن كندوز. ونزلوا على الأمير أبي زكريا، حتى كان من استيلائه على تلمسان ما قدّمنا ذكره. وطمع عبد الله في الاستبداد بتلمسان، فلم يتفق ذلك. ولما هلك مولانا الأمير أبو زكريا، ولي ابنه المستنصر، أقام عبد الله صدرا من دولته. ثم ارتحل هو وقومه الى المغرب، ونزل على يعقوب بن عبد الحق قبيل فتح مراكش، فاهتز يعقوب لقدومه وأحله بالمكان الرفيع من دولته. وأنزله وقومه بجهات مراكش، وأقطعهم البلاد التي كفتهم مهماتهم. وجعل السلطان انتجاع إبله وراحلته في أحيائهم. وقدم على رعايتها حسان بن أبي سعيد الصبيحي وأخاه موسى، وصلا في لفيفة من بلاد المشرق، وكانا عارفين برعاية الإبل والقيام عليها. وأقاموا يتقلبون في تلك البلاد ويتعدون في نجعتها الى أرض السوس. وأوفد يعقوب بن عبد الحق عبد الله بن كندوز هذا على المتنصر صاحب أفريقية، سنة خمس وستين، مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدمناه. والتحم بنو كمي ببني مرين، وأصبحوا إحدى بطونهم. وهلك عبد الله بن كندوز، وصارت رئاستهم من بعده لابنه عمر بن عبد الله. فلما نهض يوسف بن يعقوب بن عبد الحق
إلى المغرب الأوسط، وشغل بحصار تلمسان، وتحدث الناس بما نزل بعبد الواد من بني مرين، أخذت بني كمي الحمية، وامتعضوا لقومهم، وأجمعوا الخلاف والخروج على السلطان. ولحقوا بحاجة سنة ثلاث وسبعمائة، واستولوا على بلاد السوس، فخرج إليهم أخو السلطان الأمير بمراكش يعيش بن يعقوب، فناجزوه الحرب بتادرت وغلبوه، واستمروا على خلافهم. ثم عاود محاربتهم بتامطريت سنة أربع وسبعمائة بعدها، فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قصت جناحهم. وقتل عمر بن عبد الله وجماعة من كبرائهم، وفروا أمامه إلى الصحراء، ولحقوا بتلمسان. وهدم يعيش بن يعقوب تارودنت قاعدة أرض السوس. وقام بنو كندوز بعدها بتلمسان نحواً من ستة أشهر. ثم توجسوا الغدر من ولد عثمان بن يغمراسن، فرجعوا إلى مراكش. واتبعتهم عساكر السلطان، وأبلى منهم في القتال عنهم محمد بن أبي بكر بن حمامة بن كندوز، وخلصوا إلى منجاتهم مشردين بصحراء السوس، إلى أن هلك السلطان يوسف بن يعقوب. وراجعوا طاعة الملوك بالمغرب، فعفوا لهم عما سلف من هذه الجريرة. وعاودوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة. وكان أميرهم من بعد عمر ابنه محمد، أقام في أمارتهم سنتين. ثم ابنه موسى بن محمد من بعده كذلك. واستخلصه السلطان أبو الحسن أيام الفتنة بينه وبين أخيه أبي علي، لعهد أبيهما السلطان أبي سعيد ومن بعده، فكانت له في المدافعة عن نواحي مراكش آثار وأيام. ثم هلك موسى بن محمد، فولى السلطان أبو الحسن مكانه ابنه يعقوب بن موسى. ولما غلب على تلمسان، وأصار بني عبد الواد في خوله وجنوده، تمشت رجالاتهم وتباثوا أشجانهم. حتى إذا كانت واقعة القيروان المشهورة، وتواقف السلطان مع بني سليم، داخلهم يعقوب بن موسى في أن ينخذل عن السلطان البهم ببني عبد الواد ومن إليهم من مغراوة وتوجين، وواعدهم لذلك ثم مشى في قومه وكافة بني عبد الواد، فأجابوه إلى ذلك. ولحقوا جميعا ببني سليم، فجروا بذلك الهزيمة على السلطان، وكانت نكبة القيروان المشهورة. ولحق بعدها بنو عبد الواد بتلمسان، وولوه أمرهم في بني يغمراسن. وهلك يعقوب بن موسى بإفريقية، ولحق أخوه رحو
بالمغرب. وكان السلطان أبو عنان قد استعمل على جماعتهم وعملهم عبو بن يوسف بن محمد، وهو ابن عمهم دنيا، فأقام فيهم كذلك حتى هلك، فولي من بعده ابنه محمد بن عبو. وهم على ذلك لهذا العهد، يعسكرون للأمير بمراكش، ويتولون من خدمة السلطان هنالك ما لهم فيه الغناء والكفاية. وكأنهم بمعزل عن بني عبد الواد، لاستحكام العداوة بينهم بمقتل زيان بن ثابت. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
الخبر عن بني راشد بن محمد بن بادين وذكر أوليتهم وتصاريف أحوالهم:
وإنما قدمنا ذكرهم قبل استتمام بطون بني بادين لأنهم لم يزالوا أحلافاً لبني
عبد الواد ومن جملتهم، فكانت أخبارهم من أخبارهم. وأما راشد أبوهم فهو أخو بادين. واختص بنوه كما قلنا ببني عبد الواد، وكانت مواطنهم بالصحراء بالجبل المعروف براشد اسم أبيهم. وكانت مواطن مديونة من قبائل البربر قبلة تاسالة، وبنو ورنيد من بطون دمر قبلة تلمسان إلى قصر سعيد. وكان جبل هوارة موطنا لبني يلوان الذين كان لهم الملك كما قدمناه. ولما اضمحل أمر بني يلومان وذهبت دولتهم، زحف بنو راشد هؤلاء من موطنهم بجبل راشد إلى بسائط مديونة وبني ورنيد، فشنوا عليهم الغارات، وطالت بينهم الحرب إلى أن غلبوهم على مواطنهم وألجؤوهم إلى الأوعار: فاستوطن بنو ورنيد الجبل
المطل على تلمسان، واستوطن مديونة جبل تاسالة. وملك بنو راشد بسائطهم القبلية، ثم استوطنوا جبلهم المعروف بهم لهذا العهد، وهو بلد بني يفرن الذين كانوا ملوك تلمسان لأول الإسلام، وكان منهم أبو قرة الصفري كما قدمناه. وكان منهم بعد ذلك يعلى بن محمد، الأمير الذي قتله جوهر الصقلي قائد الشيعة كما ذى ناه في أخبارهم. ويعلى هذا هو الذي اختط بهذا الجبل مدينة إيفكان التي هدمها جوهر يوم قتله. فلما ملك بنو راشد هذا الجبل، استوطنوه وصار حصنا لهم، ومجالاتهم في ساحته القبلية، إلى أن غلبهم العرب عليها لهذا العهد، وألجؤهم إلى الجبل. وكان غلب بني راشد على هذه الأوطان بين يدي دخول بني عبد الواد إلى المغرب الأوسط، وكانوا شيعة لهم وأحلافا في فتنتهم مع بني توجين وبني مرين. وكانت رياستهم في بيت منهم يعرفون ببني عمران، وكان القائم بها لأول دخولهم إبراهيم بن عمران. واستبد عليه أخوه ونزمار، وقام بأمرهم إلى أن هلك، فولي ابنه مقاتل بن ونزمار، وقتل عمه إبراهيم. وتفرقت رياسة بني عمران من يومئذ بين بني إبراهيم وبني ونزمار، إلا أن رياسة بني إبراهيم أظهر، فولي بعد إبراهيم ابنه ونزمار. وكان معاصرا ليغمراسن بن زيان وطال عمره، فلما. هلك لتسعين من الماية السابعة، ولي أمرهم غانم ابن أخيه محمد بن إبراهيم. ثم كان فيهم من بعده موسى بن يحيى بن ونزمار، لا أدري معاقباً لغانم أو توسطهما أحد. ولما زحف بنو مرين إلى تلمسان آخر زحفهم، صار بنو راشد هؤلاء إلى طاعة السلطان أبي الحسن، وشيخهم لذلك العهد أبو يحيى بن موسى بن عبد الرحمن بن ونزمار بن إبراهيم. وانحصر بتلمسان بنو عمه كرجون بن ونزمار، وانقرض أمر بني عبد الواد وأشياعهم. ونقل بنو مرين رؤوس زناتة أجمع إلى المغرب الأقصى، فكان بنو ونزمار هؤلاء ممن صار إلى المغرب وأوطنوه، إلى أن صار الأمر لبني عبد الواد في الكرة الثالثة على يد أبي حمّو الأخير موسى بن يوسف. وكان شيخ بني راشد لعهده زيان بن أبي يحيى بن موسى المذكور، أقبل إليهم من المغرب من إيالة بني مرين، فاتهمه أبو حمّو بمداخلتهم، فنقبض عليه واعتقله مدة بوهران. وفر من معتقله فلحق بالمغرب، وارتحل بين أحيائهم مدة. ثم راجع الطاعة واقتضى العهد من السلطان أبي حمو، وولاه على قومه. ثم تقبض عليه، واعتقله إلى أن قتله بمحبسه سنة ثمان وستين وسبعماية، وانقرض أمر بني ونزمار بن إبراهيم. وأما بنو ونزمار بن عمران، فقام بأمرهم بعد مقاتل بن ونزمار أخوه
تورزكن بن ونزمار، ثم ابنه يوسف تورزكن، ثم آخرون من بعدهم لم تحضرني أسماؤهم، إلى أن غلب عليهم بنو ونزمار بن إبراهيم. وقد ذهبت لهذا العهد رياسة أولاد عمران جميعا، وصار بنو راشد خولا للسلطان وجباية، وبقيتهم على الحال التي ذكرنا. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. بنو توجين الخبر عن بني توجين من شعوب بني بادين من أهل هذه الطبقة الثالثة من زناتة وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب الأوسط وأولية ذلك ومصائره كان هذا الحي من أعظم أحياء بني بادين وأوفرهم عددا. كانت مواطنهم حفافي وادي شلف قبلة جبل وانشريش من أرض السرسو، وهو المسمى لهذا العهد نهر واصل. وكان بأرض السرسو بجهة الغرب منهم بطون من لواتة، وغلبهم عليها بنو وجديجن ومطماطة. ثم صارت أرض السرسو لبني توجين هؤلاء، واستضافوها إلى مواطنهم
الأولى. صارت مواطنهم ما بين موطن بني راشد وجبل دراك في جانب القبلة. وكانت رياستهم أيام صنهاجة لعطية بن دافلتن، وابن عمه لقمان بن المعتز كما ذكره ابن الرقيق. ولما كانت فتنة حماد بن بلكين مع عمه باديس، ونهض إليه باديس من القيروان، حتى احتل بوادي شلف، تحيز إليه بنو توجين هؤلاء، وكانت لهم في حروب حماد آثار مذكورة. وكان لقمان بن المعتز أظهر من عطية بن دافلتن، وكان قومهم يومئذ زهاء ثلاثة آلاف. وأوفد لقمان ابنه يذر على باديس قبل اللقاء طاعة له وانحياشا. فلما انهزم حماد رعى لهم باديس انحياشهم إليه، وسوغ لهم ما غنموه، وعقد للقمان على قومه ومواطنه، وعلى ما يفتحه من البلاد بدعوته. ثم انفرد برياستهم بعد حين بنو دافلتن. ويقال إنه دافلتن بن أبي بكر بن الغلب. وكانت رياستهم لعهد الموحّدين لعطية بن مناد بن العبّاس بن دافلتن، وكان يلقب عطية الحيو. وكانت بينهم لعهده وبين بني عبد الواد حروب، كان متولي كبرها من بني عبد الواد شيخهم لذلك العهد أعدوى بن يكنمن بن القاسم، فلم تزل تلك الفتنة بينهم إلى أن غلبهم بنو عبد الواد اخراً على مواطنهم كما نذكره. ولما هلك عطية الحيو، قام بأمرهم ابنه العبّاس، وكانت له آخر في الأجلاب على ضواحي المغرب الأوسط. ونقض طاعة الموحدين، إلى أن هلك سنة سبع وستماية، دس عليه عامل تلمسان يومئذ أبو زيد بن بوجان من اغتاله فقتله. وقام بأمرهم من بعده ابنه عبد القوي، فانفرد برياستهم وتوارثها عقبه من بعده كما نذكر. وكان من أشهر بطون بني نوجين هؤلاء يومئذ بنو يدللتن وبنو نمزي وبنو مادون وبنو زنداك وبنو وسيل وبنو قاضي وبنو مامت، ويجمع هؤلاء الستة بنو مدن. ثم شو تيغرين وبنو يرناتن وبنو منكوش، ويجمع هؤلاء الثلاثة بنو رسوغين. ونسب بني زنداك دخيل فيهم، وإنما هم من بطون مغراوة. وبنو منكوش هؤلاء منهم عبد القوي بن العبّاس بن عطية الحيو، هكذا رأيت نسبه لبعض مؤرخي زناتة المنكوشي. وكانت رياسة بني توجين جميعا عند انقراض أمر بني عبد المؤمن لعبد القوي بن العبّاس بن عطية الحيو، وأحيائهم جميعا بتلك المجالات القبلية. فلما وهن أمر بني عبد المؤمنه وتغلب مغراوة على بسائط متيجة، ثم على جبل وانئريش، نازعهم عبد القوي وقومه أمر وانشريش، وغالبوهم إلى أن غلبوهم عليه،
واستقر في ملكهم. وأوطنه بنو تيغرين وبنو منكوش من أحيائهم، ثم تغلبوا على منداس وأوطنها أحياء بني مدن جميعاً. وكان الظهور منهم لني يدللتن، ورياسة نجي يدللتن لبني سلامة. وبقي بنو يرناتن من بطونهم بمواطنهم الأولى قبلة وانشريش. وكان من أحلاف بني عطية الحيو بنو تيغرين منهم حاضة، وأولاد عزيز بن يعقوس، ويعرفون جميعاً بالحسم. ولما تغلبوا على الأوطان والتلول، وأزاحوا مغراوة عن المدية ووانشريش وتافركنيت، واستأثروا بملكها وملك الأوطان من غربيها: مثل منداس والجعبات وتاوغزوت، ورئيسهم لذلك العهد عبد القوي بن العبّاس والكل لأمره فصار له ملك بدوي لم يفارق فيه سكنى الخيام، ولا إبعاد النجعة، ولا إيلاف الرحلتين. ينتهون في مشاتيهم إلى مصاب والزاب، وينزلون في المصايف بلادهم هذه من التل. ولم يزل هذا شأن عبد القوي وابنه محمد، إنى أن تنازع بنوه الأمر من بعده، وقتل بعضهم بعضا. وتغلب بنو عبد الواد على عامة أوطانهم وأحيائهم، واستبد عليهم بنو يرناتن وبنو يدللتن، فصاروا إلى بني عبد الواد. وبقى أعقابهم بجبل وانشريش، إلى أن انقرضوا كما نذكر. وكان عبد القوى لما غلب مغرارة على جبل وانسسريش، اختط حصن مرات، بعد أن كان منديل المغراوي شرع في اختطاطه، فبنى منه القصبة ولم يكمله، فأكمله محمد بن عبد القوي من بعدهم. ولما استبد بنو أبى حفص بإفريقية، وصارت لهم خلاله الموحدين، نهض الأمير أبو زكريا إلى المغرب الأوسط، دخلت في طاعته قبائل صنهاجة، وفرت زناتة أمامه. وردد إليهم الغزو، فأصاب منهم. وتقبض في بعض غزواته على عبد القوى بن العبّاس من بنى توجين، فاعتقله بالحضرة. ثم من عليه وأطلقه على أن يستألف له قومه، فصاروا شيعة له ولقومه آخر الدهر ونهض الأمير أبو زكريا بعدها إلى تلمسان، فكان عبد القوي وقومه في جملته. حتى إذا ملك تلمسان، ورجع إلى الحضرة عقد لعبد القوي هذا على قومه ووطنه، وأذن له في اتخاذ الآلة، فكانت أول مراسم العلك لبني توجين هؤلاء. وكانت حالهم مع بني عبد الواد تختلف في السلم والحرب. ولما هلك السعيد على يدي يغمراسن وقومه كما ذكرناه، استنفر يغمراسن سائر أحياء زناتة لغزو، المغرب، ومسابقة بني مرين إليه، فنفر معه عبد القوي في ترمه سنة سبع وأربعين. وانتهوا إلى تازى، واعترضهم أبو يحيى بن عبد الحق أمير بضي مرين في قومه، فنكصوا وأتبعهم إلى أنكاد، فكان اللقاء، وانكشفت جموع بني بادين، وكانت
الهزيمة التي ذكرناها في أخبار بني عبد الواد. وهلك عبد القوي مرجعه منها في سنته بالموضع المعروف ماحنون من مواطنهم. وتصدى للقيام بأمرهم بعده ابنه يوسف، فمكث في تلك الأمارة أسبوعا. ثم قتله على جدث أبيه أخوه محمد بن عبد القوي، وولى عهد أبيه سابع مواراته. وفر ابنه صالح بن يوسف إلى بلاد صنهاجة بجبال المدية، فأقام بها هو وبنوه. واستقل محمد برياسة بني توجين، واستغلظ ملكه، وكان الفحل الذي لا يقرع أنفه. ونازعه يغمراسن أمره ونهض إلى حربه سنة تسع وأربعين. وعمد إلى حصن تافراكنيت، فنازله وبه يومئذ حافده علي بن زيان بن محمد في عصابة من قومه، فحاصره أياما وامتنعت عليه، فارتحل عنها. ثم تواضعوا أوزار الحرب، ودعاه يغمراسن إلى مثل ما دعا إليه أباه من غزو بني مرين في بلادهم فأجاب. ونهضوا سنة سبع وخمسين، ومعهم مغراوة، فانتهوا إلى كلدامان ما بين تازى وأرض الريف. ولقيهم بعقرب بن عبد الحق في جموعه، فانكشفوا ورجعوا منهزمين إلى بلادهم كما ذكرناه. وكانت بينه بعد ذلك وبين يغمراسن فتن وحروب، فنازله فيها بجبل وانشريش مرات وجاس خلالهم. ولم يقع بعدها بيخهما مراجعة لاستبداد يغمراسن بالملك، وسموه إلى التغلب على زناتة أجمع وبلادهم، وكانوا جميعاً خاشين إلى الدعوة الحفصية. وكان محمد بن عبد القوي كثير الصاغية إلى السلطان المستنصر. ولما نزل النصارى الإفرنجة بساحل تونس سنة ثمان وستين. وطمعوا في ملك الحضرة، بث المستنصر إلى ملوك زناتة بالصريح فصرفوا وجوههم إليه، وخف من بينهم محمد بن عبد القوي في قومه ومن احتشد من أهل وطنه، ونزل على السلطان بتونس. وأبلى في جهاد العدو، وأحسن البلاء، وكانت له في أيامه معهم مقامات مذكورة، ومواقف عند الله محتسبة معدودة. ولما ارتحل العدو عن الحضرة، أخذ محمد بن عبد القوي في الانصراف إلى وطنه، أسنى السلطان جائزته وعم بالإحسان وجوه قومه وعساكره، وأقطعه بلد مقرة وأوماش من وطن الزاب، وأحسن منقلبه. ولم يزل بعد ذلك متعلقا بطاعته مستطهرا على عدوه بالانحياش إليه. ولما استغلظ بنو مرين على يغمراسن بعد استيلائهم على أمصار المغرب واستبدادهم بملكه، وصل محمد يده بهم في الاستظهار على يغمراسن، وأوفد ابنه زيان بن محمد عليهم. ولما نهض يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان سنة سبعين، وأوقع بيغمراسن في
إيسلى من أنكاد الواقعة التي هلك فيها ابنه فارس، نهض إلى محمد بن عبد القوي للقائه. ومرّ في طريقه بالبطحاء، وهي يومئذ ثغر لأعمال يغمراسن فهدمها. ولقي يعقوب بن عبد الحق بساحة تلمسان مباهياً بآلته فأكرم يعقوب وفادته، وبر مقدمه. ونازلوها أياما، فامتنعت عليهم وأجمعوا على الإفراج. وتأذن لهم يعقوب بن عبد الحق ليتلومن عليها إلى أن يلحق محمد وقومه ببلادهم، حذرا عليهم من غائلة يغمراسن ففعل، وملأ حقائبهم بأتحافه، وجنب لهم ماية من الجياد العتاق بالمراكب الثقيلة، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب، وعقهم بالصلات والخلع الفاخرة، واستكثر لهم من السلع والفازات والأخبيات والحملان. وارتحلوا، ولحق محمد بن عبد القوي بمكانه من جبل وانشريش، واتصلت حروبه مع يغمراسن، وكثر إجلابه على وطنه، وعيثه في بلاده. وهو مع ذلك مقيم على موالاة يعقوب بن عبد الحق، وإتحافه بالعتاق من الخيل، والمستجاد من الطرف. حتى كان يعقوب إذا اشترط على يغمراسن في مهادنته يجعل سلمهم من سممه، وحربهم من حربه. وبسببهم كان نهوض يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين، لما اشترط عليه ذلك، ولج في قبوله فنهض إليه، وأوقع به بخرزوزة، ثم أناخ عليه بتلمسان. ووافاه هنالك محمد بن عبد القوي، فلقيه في القصبات، وعاثوا في نواحي تلمسان نهبا وتخريباً. ثم أذن يعقوب محمداً وقومه في الانطلاق إلى بلادهم، وتلوم هو بمكانه من ضواحي تلمسان بمدة منجاتهم إلى مكانهم من وانشريش، حذرا عليهم من اعتراض يغمراسن. ولم يزل شأنهم ذلك إلى أن هلك يغمراسن بشدبوية من بلاد مغراوة، خاتمة إحدى وثمانين وسبعمائة. وفي خلال استغلاظ بني مرين على بني عبد الواد، استوسق لمحمد هذا ملكه، فتغلب على أوطان صنهاجة بجبال المدية. وأخرج الثعالبة من جبل تيطرى، بعد أن غدر بمشيختهم وقتلهم، فانزاحوا عنه إلى بسائط متيجة وأوطنوها. واستولى محمد على حصن المدية، وهو المسمى بأهله لمدية- بفتح اللام والميم وكسر الدال وتشديد الياء بعدها وهاء النسب آخرها- وهم بطن من بطون صنهاجة. وكار المختط لها بلكين بن زيري. ولما استولى صمد عليها وعلى ضواحيها، أنزل بها أولاد عزيز بن يعقوب من حشمه، وجعلها لهم موطنا وولاية. وفر بنو صالح ابن أخيه يوسف بن عبد ا أغوي من مكانهم بين صنهاجة، منذ مقتل أبيه يوسف كما ذكرناه. ولحقوا ببلاد الموحدين
بإفريقية، فلقوهم مبرة وتكريما. وأقطعوا لهم بضواحي قسنطينة، وكانوا يعولون عليهم أيام حروبهم وفي مواطن قتالهم، وكان من أظهرهم عمر بن صالح، وابناه صالح ويحيى بن عمر، وحافده يحيى بن صالح بن عمر، في آخرين مشاهير. وأعقابهم لهذا العهد بنواحي قسنطينة. وفي إيالة الملوك من آل أبي حفص، يعسكرون معهم في غزواتهم، ويبلون في حروبهم، ويقومون بوظائف خدمتهم. وكان الوالي من أولاد عزيز على المدية حسن بى يعقوب، وبنوه من بعده يوسف وعلي، كانت مواطنهم ما بين المدية موطنهم الأول ماحنون. وكان بنو يدللتن أيضا من بني توجين، قد استولوا على حصن الجعبات وقلعة تاوغزوت. ونزل القلعة كبيرهم سلامة بن علي مقيما على طاعة محمد بن عبد القوي وقومه، فاتصل ملك محمد بن عبد القوي في ضواحي المغرب الأوسط ما بين مواطن بني راشد إلى بلاد صنهاجة بنواحي المدية، وما في قبلة ذلك من بلاد السرسو وجباله إلى أرض الزاب. وكان يبعد الرحلة في مشتاه، فينزل الدوسن ومقرة والمسيلة، ولم يزل دأبه ذلك. ولما هلك يغمراسن سنة إحدى وثمانين وسبعمائة كما ذكرناه، استجدت الفتنة بين عثمان ابنه، وبين محمد بن عبد القوي، فنهد إليه عثمان في جموعه من بني عبد الواد والعساكر سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، فحاصره بجبل وانشمريش وامتنع عليه، فعاث في نواحي وطنه وقفل إلى تلمسان. وهلك محمد بن عبد القوي على إثر ذلك سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وولي من بعده ابنه سيد الناس فلم تطل مدة ملكه. وقتله أخوه موسى لسنة أو نحوها من بعد مهلك أبيه. وأقام موسى بن محمد في أمارة بني توجين نحو من عامين. وكان أهل مرات من أشد أهل وطنه شوكة وأقواهم غائلة، فحدثته نفسه أن يستلحم مشيختهم ويريح نفسه من محاذرتهم، فأجمع لذلك ونزلها ونذروا بشأنه ورأيه فيهم، فاستماتوا جميعا وثاروا به فقاتلهم. ثم انهزم مثخناً بالجراحة وألجأوه إلى مهاوي الحصن، فتردى منها وهلك. وولي من بعد عمر ابن أخيه إسماعيل بن محمد مدة أربعة أعوام. ثم غدر به أولاد عمه زيان بن محمد فقتلوه، وولوا كبيرهم ابن زيان، وكان حسن الولاية عليهم. يقال ما ولي فيهم بعد محمد مثله. وفي خلال هذه الولاية استغلظ عليهم بنو عبد الواد، واشتدت وطأة عثمان بن يغمراسن عليهم بعد مهلك أبيهم محمد، فنهض اليهم سنة ست وثمانين وسبعمائة. وحاصرهم بجبل وانشريش، وعاث في أوطانهم، ونقل زروعها
إلى مازونة حيز غلب عليها مغراوة. ثم نازل حصن تافركنيت وملكها، بمداخلة القائد بها غالب الخصي مولى سيد الناس بن محمد، وقفل إلى تلمسان. ثم نهض إلى أولاد سلامة بقلعة تاوغزوس، وامتنعوا عليه مرارا، ثم أعطوه اليد على الطاعة ومفارقة بني محمد بن عبد القوي، فنبذوا لهم العهد، وصاروا إلى إيالة عثمان بن يغمراسن. وفرضوا لهم المغارم على بني يدللتن. وسلك عثمان بن يغمراسن مسلك التضريب بين قبائل بني توجين وتحريضهم على إبراهيم بن زيان أميرهم، فغدا عليه زكدان بن أعجمى شيخ بني مادون وقتله بالبطحاء في إحدى غزواته لسبعة أشهر من ملكه. وولي من بعده موسى بن زرارة بن محمد بن عبد القوي، بايع له بنو تيغرين، واختلف عليه سائر بني توجين، فأقام بعض سنة. وعثمان بن يغمراسن في خلال هذا يستألف بني توجين شعبا فشعبا إلى أن نهض إلى جبل وانشريش فملكه. وفر أمامه موسى بن زرارة إلى نواحي المدية، وهلك في مفره ذلك. ثم نهض عثمان إلى المدية سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بعدها، فملكها بمداخلة لمدية من قبائل صنهاجة. غدروا بأولاد عزيز وأمكنوه منها، ثم انتقضوا عليه لسبعة أشهر ورجعوا إلى إيالة أولاد عزيز، فصالحوا عثمان بن يوسف إلى الإتاوة والطاعة كما كانوا مع محمد بن عبد القوي وبنيه، فملك عثمان بن يغمراسن على عامة بلاد بني توجين. ثم شغل بما دهمه من مطالبة بني مرين أيام يوسف بن يعقوب، فولى على بني توجين من بني محمد بن عبد القوي أبو بكر بن إبراهيم بن محمد مدة من عامين، أخاف فيها الناس، وأساء السيرة. ثم هلك فنصب بنو تيغريى بعده أخاه عطية المعروف بالأصم، وخالفهم أولاد عزيز وجميع قبائل توجين، فبايعوا ليوسف بن زيان بن محمد. وزحفوا إلى جبل وانشريش، فحاصروا عطية وبني تيغرين عاما أو يزيد. وكان يحيى بن عطية كبير بني تيغرين هو الذي تولى البيعة لعطية الأصم. فلما اشتد بهم الحصار، واستفحل أمر يوسف بن يعقوب وبني مرين، نزع يحيى إلى بني مرين. وقدم على يوسف بن عبد الحق بمكانه من حصار تلمسان. ورغبه في ملك جبل وانشريش، فبعث معه الجيوش لنظر أخيه أبي سرحان ثم أخيه أبي يحيى. وكان نهوض أبي يحيى سنة إحدى وسبعماية، فتوغل في قاصية الشرق. ولما رجع صمد إلى جبل وانشريش، فهدم صونه وقفل. ونهض ثانية إلى بلاد بني توجين، فشردهم عنها. وأطاعه أهل تافركنيت. ثم
انتهى إلى المدية، فافتتحها صلحا واختط قصبتها. ورجع إلى أخيه يوسف بن يعقوب، فانتقض أهل تافركنيت بعد صدوره عنهم. ثم راجع بنو عبد القوي بصائرهم في التمسك بالطاعة. ووفدوا على يوسف بن يعقوب، فتقبل طاعتهم وأعادهم إلى بلادهم وأقطعهم. وولى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي، وجعل وزارته ليحيى بن عطية فغلبه على دولته، واستقام ملكه. وهلك خلال ذلك، فعقد يوسف بن يعقوب مكانه لمحمد بن عطية الأصم. واستقام على طاعته وقتا، ثم انتقض بين يدي مهلكه سنة ست، وحمل قومه على الخلاف. ولما هلك يوسف بن يعقوب، وتجافى بنو مرين من بعدها لبني يغمراسن عن جميع الأمصار التي تملكوها بالمغرب الأوسط، فاستمكن بنو يغمراسن منها، ودفعوا المتغلبين عليها. ولحق الفل من أولاد عبد القوي ببلاد الموحدين، فحلوا من دولتهم محل الإيثار والتكرمة. وكان للعباس بن محمد بن عبد القوي مع الملوك من آل أبي حفص مقام الخفة والمصافاة إلى أن هلك، وبقي عقبه في جند السلطان. ولما خلا الجو من هؤلاء المرسخين، تغلب على جبل وانشريش من بعدهم كبير بني تيغرين، وهو يحيى بن عطية بن يوسف بن المنصور. ويزعمون أنهم دخلاء في بني تيغرين، وأن المنصور هو أحمد بن محمد من أعقاب يعلى بن محمد سلطان بني يفرن. فأقام بحيى بن عطية هذا في رياستهم أياما، ثم هلك، وقام بأمره من بعده أخوه عثمان بن عطية. ثم هلك وولي من بعده ابنه عمر بن عثمان. واستقل مع قومه بجبل وانشريش. واسثقل أولاد عزيز بالمدية ونواحيها ورياستهم ليوسف وعلي بن حصان بن يعقرب، والكل في طاعة أبي حمّو سلطان بني عبد الواد بما غلبهم على أمرهم، وانتزع الرياسة من بني عبد القوي أمرائهم، إلى أن خرج على السلطان أبي حمّو محمد ابن عمه يوسف بن يغمراسن. ولحق بأولاد عزيز فبايعوه. وداخلوا في شأنه عمر بن عثمان كبير بنى تيغرين وصاحب جبل وانشريش، فأجابهم وأصفق معهم سائر الأعشار ومنكوشة وبنو يرناتن. وزحفوا مع محمد بن يوسف إلى السلطان أبي حمّو في معسكره بتهل ففضوه، وكان من شأن فتنته معهم ما ذكرناه في أخبار بني عبد الواد، إلى أن هلك السلطان أبي حمو. وولي ابنه أبو تاشفين، فنهض إليهم في العساكر. وكان عمر بن عثمان قد لحقته الغبرة من مخالصة محمد بن يوسف لأولاد عزيز دون قومه، فداخل السلطان أبا تاشفين
لي الانحراف عنه. فلما نزل بالجبل، ولحق محمد بن يوسف بحصن توكال ليمتنع به، نزع عمر بن عمان، ولحق بأبي تاشفين، ودله على مكامن الحصن، فدلف إليه أبو تاشفين وأخذ بمخنقه. وافترق عن محمد بن يوسف أولياؤه وأشياعه، فتقبّضعليه وقيد أسيرا إلى السلطان أبي تاشفين، فقتل بين يديه قعصاً بالرماح سنة تسع عشرة. وبعث برأسه إلى تلمسان، وصلب شلوه بالحصن الذي امتنع به أيام انتزائه. ورجع أمر وانشريش إلى عمر بن عثمان هذا، وحصلت ولايته لأبي تاشفين إلى أن هلك بتلمسان في بعض أيامهم مع بني مرين، أعوام نازلهم السلطان أبو الحسن كما ذكرنا في أخبار الحصار. ثم لما تغلب بو مرين على الغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن ابنه نصر بن عمر على الجبل، وكان خير وال وفاء بأزمة الطاعة، وخلوصاً قي الولاية، وصدقاً في الانحياش، وإحاناً للملكة، وتوفيرا للجباية. ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان، وتطاول الأعياص من زناتة الى استرجاع ملكهم، انتزى بضواحي المدية من آل عبد القوي عدي بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي، وناغى الخوارج في دعوتهم، واشتمل عليه بنو عزيز هؤلاء وبنو يرناتن جيرانهم، وزحف إلى جبل وانشريش لينال من الحشم مديلي أمرهم والمداخلين لعدوهم في قطع دابرهم، وكبيرهم يومئذ نصر بن عمر بن عثمان. وبايع نصر لمسعود بن بو زيد بن خالد بن محمد بن عبد القوي من أعقابهم، خلص إليه من جملة عدي بن يوسف حذرا على نفسه من أصحابه. وقاتلهم عدي وقومه، فامتنعوا عليهم ودارت بينهم حروب كانت العاقبة فيها والظهور لنصر بن عمر، قومه. ثم دخل عدي فى جملة السلطان أبى الحسن لما خلص من تونس إلى الجزائر، وبقى مسعود بينهم وملكه أبو سعيد بن عبد الرحمن لما ملك بتلمسان هو وقومه، فلم يزل هنالك إلى أن غلبه السلطان أبو عنان، فصار في جملته بعد أن فر إلى زواوة. واستنزله منها ونقله إلى فاس، وانقضى ملكهم ودولتهم، وانقطع أثر بني محمد بن عبد القوى وأقام نصر بن عثمان في ولاية جبل وانشريش وعقد له السلطان أبو عنان عليه سائر دولته. ولم يزل قائما بدعوة بني مرين من بعده إلى أن غلبهم السلطان أبر حمّو الأخير، وهو موسى بن يوسف على الأمر، فأعطاه نصر الطاعة. ثم اضطرمت نار الفتنة بين العرب وبين بني عبد الواد أعوام سبعين وسبعماية. وقاموا بدعوة أبي زيان ابن
السلطان أبي سعيد عم أبو حمّو، فانحاش نصر بن عمر إليهم، وأخذ بدعوة الأمير أبي زيان حينا. ثم هلك أيام تلك الفتنة، وقام بأمرهم من بعده أخوه يوسف بن عمر متقبلاً مذاهبه. وهو لهذا العهد، وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، صاحب جبل وانشريش، وحاله مع أبي حمّو مختلف في الطاعة والخلاف. والله مالك الأمور لا رب غيره. بنو سلامة الخبر عن بني سلامة أصحاب قلعة تاوغزوت ورؤساء بني يدللتن من بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وأوليتهم ومصائرهم كان بنو يدللتن هؤلاء من شعوب بني توجين وأشدهم شوكة وأوفرهم عدداً وكان لهم ظهور من بين سائر تلك البطون. وكان بنو عبد القوي ملوك بني توجين يعرفون لهم ذلك، ويوجبون لهم حقه. ولما دخلوا إلى التلول بعد انقراض بني يلومي وبني ومانوا، نزل بنو قاضي منهم وبنو مادون بأرض منداس، فأوطنوها. وجاء بنو يدللتن على أثرهم، فأوطنوا الجعبات وتاوغزوت، ورياستهم يومئذ لنصر بن سلطان بن عيسى. ثم هلك فقام بأمرهم ابنه مناد بن نصر، ثم أخوه علي بن نصر من بعده، ثم ابنه إبراهيم بن علي من بعده. ثم هلك وقام بأمرهم أخوه سلامة بن علي، على حين استفحل ملك عبد القوي وبنبه، فاستفحل أمره هو في قومه، واختط القلعة تاوغزوت المنسوبة إليه وإلى بنيه، وكانت من قبل رباطا لبعض المنقطعين من عرب سويد. ويزعم بنو سلامة هؤلاء أنهم دخلاء في نسب توجين، وأنهم من العرب، ثم من بني سليم بن منصور. وجاء جدهم عيسى أو سلطان نازعا عن قومه لدم أصابه فيهم، فخلطه لشي بني يدللتن من بني توجين ينفسه، وكفل بنية من بعده، فكانت له سببا في رياشه على بني يدللتن وبنيه بعده. ولما هلك سلامة بن علي قام بأمرهم من بعده ابنه يغمراسن بن سلامة، على حين استغلظ بنو عبد الواد على بني توجين بعد مهلك محمد بى عبد القوي سلطانهم الأكبر.فكان عثمان بن يغمراسن يتردد إلى بلادهم بالغزو، ويطيل فيها العيث. ونازل في بعض غزواته قلعتهم هذه، وبها يغمراسن، فامتنع عليه. وخالفه يوسف بن يعقوب وبنو مرين تلمسان، فأجفل عن القلعة. وسابق بني مرين إلى دار ملكه. واتبعه يغمراسن بن
خريطة
سلامة مغيرا في أعقابه، فكر إليه بالمكان المعروف بتليوان. ودارت بينهم هنالك حرب هلك فيها يغمراسن بن سلامة، وقام بالأمر بعده أخوه محمد بن سلامة. فأذعن لطاعة عثمان بن يغمراسن، وخالف بني محمد بن عبد القوي، وجعل الأتاوة على قومه ووطنه لملوك بني عبد الواد، فلم تزل عليهم لملوك تلمسان. ولحق أخوه سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان يوسف بن يعقوب في غزوته التي حاصر فيها تلمسان حصاره الطويل، فرعى لسعد لن سلامة هجرته إليه، وولاه على بنى يدللتن والقلعة. وفر أخوه محمد بن سلامة، فلحق بجبل راشد. وأقام هنالك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب، ورجع أمر المغرب الأوسط لشي عبد الواد، فوضعوا الأتاوات على بني توجين وأصاروهم للجباية. ولم يزل سعد على ولايته إلى أن هلك أبو حمّو وولي أبو تاشفين، فسخط سعداً. وبعث عن أخيه محمد من جبل راشد، فولاه مكانه. ولحق سعد بالمغرب، وجاء في جملة السلطان أبي الحسن. ودخل أخوه محمد مع أبي تاشفين، فانحصر بتلمسان. وولي سعد بن سلامة مكانه، ثم هلك محمد في بعض أيام الحصار وحروبه. ولما انقرض أمر بني عبد الواد رغب سعد من السلطان تخلية سبيله لقضاء فرضه، فحج وهلك مرجعه من الحج في طريقه. وعهد إلى السلطان أبي الحسن واستوصاه ببنيه، على لسان وليه عريف بن يحيى كبير بني سويد. فولى السلطان أبو الحسن ابنه سليمان بن سعد على بني يدللتن والقلعة. وانقرض أمر السلطان أبي الحسن، وعاد الأمر إلى أبي سعيد وأبي ثابت ابني عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، فكانت بينه وبينهم ولاية وانحراف. وكان أولياؤهم من العرب بني سويد من زكبة بما كانوا جيرانهم في مواطنهم من ناحية القبلة، فطمع ونزمار بن عريف شيخهم في التغلب على وطن بني يدللتن، ومانعه دونه سليمان هذا وبالغ في دفاعه، إلى أن ملك السلطان أبو عنان بلاد المغرب الأوسط. ورعى لونزمار وابنه عريف حق انحياشهم إليه وهجرنهم إلى قومه، فأقطع ونزمار بن عريف القلعة وما إليها وجباية بني يدللتن أجمع. والحق سليمان بن سعد بن سلامه في جنده ووجوه عسكره، إلى أن هلك السلطان وعاد الأمر لبني عبد الواد على يد أبي حمّو الأخير، فولي سليمان على القلعة وعلى قومه. واستغلظ العرب عليه، فاستراب سليمان هذا ونذر بالشر منه، فلحق بأولاد عريف. ثم راجع الطاعة، فتقبّضعليه واغتاله، وذهب دمه هدرا. ثم غلبه العرب على عامة المغرب
الأوسط، وأقطع القلعة وبني يدللتن لأولاد عريف استئلافاً لهم. ثم أقطعهم بني مادون ثم منداس، فأصبحت بطون توجين كلهما خولا لسويد وعبيداً لجبايتهم، إلا جل وانشريش فإنه لم يزل لبني تيغرين، والوالي عليهم يوسف بن عمر منهم كما قلناه. ونظم أبو حمّو أولاد سلامة في جنده، وأثبتهم في ديوانه، وأقطع القصبات من نواحي تلمسان في عطائهم. وهم على ذلك لهذا العهد. ولته الخلق والأمر. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. الخبر عن بني يرناتن إحدي بطون توجين من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم من التغلب والأمارة وذكر أوليتهم ومصائرهم: كان بنو يرناتن هؤلاء، من أوفر قبائل بني توجين وأعزهم جانباً، وأكبرهم صيتا. ولما دخل بنو توجين إلى تلول المغرب الأوسط، أقاموا بمواطنهم الأولى ما بين ماحنون وورينة. ثم يعودون من القبلة يجولون جانبي نهر واصل من أعلى وادي شلف. وكانت رياستهم في بني نصر بن علي بن تميم بن يوسف بن بونوال. وكان شيخهم مهيب بن نصر منهم. وكان عبد القوي بن العبّاس وابنه محمد أمراء بني توجين، يختصونهم بالأثرة والتجلة لمكانهم من قومهم، وما يؤنسون من عظيم عنائهم. وكان
محمد بن عبد القوي في سلطانه يولي عليهم من الحشم أولاد عزيز. وكان واليهم لعهده وعهد بنيه عبو بن حسن بن عزيز. وقد كاد أصهر مهيب بن نصر إلى عبد القوي في ابنتة، فأنكحه إياها وولدت له نصر بن مهيب، فشرفت خولته بمحمد بن عبد القوى وعلا كعبه في أمارته. تم ولي بعده ابنه علي بن نصر، وكان له من الولد نعر وعنتر وآخرون يعرفون بامهم، واسمها تاسرغينت وولي بعده ابنه نصر بن علي، فطال أمد أمارته في قومه. واختلف بنو عبد القوى وغلبهم بنو عبد الواد على ما بأيديهم، فصرفت ملوك زناتة وجه العناية إليه، فبعد صيته وعرف بنوه من بعده بشهرته، وكان ولوداً. فيقال أنه خلف ثلاثة عشر من البنين ما منهم إلا صاحب حرب أو مقنب. ومن مشاهيرهم عمر الذي قتله السلطان أبو الحسن بمرات حين سعى به أنه داخل في اغتياله، ففر وأدرك، فقتل بمرات. ومنهم منديل الذي متله بنو تيغرين أيام ولوا علي بن الناصر وقتلوا معه عبو بن حسن بن عزيز، ومنهم عنان، ومات قتيلا في حصار تلمسان أيام أبي تاشفين. ومنهم مسعود ومهيب وسعد وداود وموسى ويعقوب والعباس ويوسف في آخرين معروفين عندهم. هذا شأن أولاد نصر لى علي بن نصر بن مهيب. وأما ولد عنتر أخيه، فكان منهم أبو الفتوح بن عنتر. ثم من ولده عيسى بن أبي الفتوح فكان، رئيساً على بني أبيه. وكانت إحدى وصائفهم سقطت بدارعثمان بن يغمراسن، وادعت الحمل من سيدها أبو الفتوح، وجاءت بأخ لعيسى، سمي معرفا، فربي بدارهم، واستوزره أبو حمّو وابنه من بعده. وبلغ المبالغ في دولتهم وكاد يدعى معرف الكبير. ولحق به أيام رياسته في دولة أبي حمّو الأول أخوه عيسى بن أبي الفتوح مغاضباً لقومه، فسعى له في الولاية على بني راشد وجباية أوطانهم. وأنزله بلد سعيدة، فكانت له بها أمارة. وكان له من الولد ألو بكر وعبو وطاهر وونزمار. وعندما غلب بني مرين على بني عبد الواد ولاهم السلطان أبو الحس على بني يرناتن متداولين. وأما ولد تاسرغينت من بني علي بن نصير بن مهيب، فلم يكن لهم ذكر في رياسة قومه. إلا أن بعض وصائفهم سقطت أيضاً إلي دار أبي تاشفين، فولدت غلاما يعرف بعطية بن موسى. نشأ في دارهم، فنسب إلى بني تاسرغينت مولاه وتناوله النجابة فى خدمتهم، فولوه الأعمال النبيهة. وهو لهذا العهد عامل أبي حمّو الأخير على شلف وما اليه.و قد غلب العرب لهذا العهد على وطن بني يرناتن، وملكوا عليهم يعود وماحنون. وبقيت صبابتهم
بجبل ورينة. وعليهم لهذا العهد أمير من ولد نصر بن علي بن نصر بن مهيب، يعطون المغرم للسلطان ويصانعون العرب بالأتاوة. وبيد الله تصاريف الأمور. بنو مرين وأنسابهم وشعوبهم الخبر عن بني مرين وأنسابهم وشعوبهم وما تأثلوا بالمغرب من السلطان والدولة التي استتبعت سائر زناتة وانتظمت كراسي الملك بالعدوتين وأولية ذلك ومصائره قد ذكرنا أن بني مرين هؤلاء من شعوب بني واسين، وذكرنا نسب واسين في زناتة، وذكرنا أنهم بنو مرين بن ورتاجن بن ماخوخ بن جديج بن فاتن بن يذر بن يخفت بن عبد الله بن ورتنيص بن المعز بن إبراهيم بن سحيك بن واسين، وأنهم إخوة بني يلومى
ومديونة. وربما يشهد بذلك جوار مواطنهم قبل الملك ما بين صا وملوية. وذكرنا كيف اقتسموا الضاحية والقفر مع أخوانهم بني بادين بن محمد، وكيف اتصلت فتنتهم معهم سائر أيامهم. وكان الغلب أولا لبني بادين بن محمد لكثرة عددهم، فإنهم كما ذكرنا خمسة بطون: بنو عبد الواد وتوجين ومصاب، وبنو زردال وإخوانهم بنو راشد بن محمد. وكانوا أهل تلول الغرب الأوسط دونهم. وبقي هذا الحي من بني مرين بمجالات القفر من فيكيك إلى سجلماسة إلى ملوية. وربما يخطون في ظعنهم إلى بلاد الزاب. ويذكر نسابتهم أن الرياسة فيهم قبل تلك العصور كانت لمحمد بن ورزين بن فكوس بن كوماط بن مرين، وأنه كان لمحمد إخوة آخرون يعرفون بأمهم تنالفت. وكان بنو عمه ونكاسن بن فكوس. وكان لمحمد من الولد سبعة: شقيقان وهما حمامة وعسكر. وأبناء علات أمهات أولاد، وهم سنكمان وسكميان وسكم ووراغ وقزونت وتسمى هذه الخمسة في لسانهم تيريعين، ومعناه عندهم الجماعة. يزعمون أن محمدا لما هلك قام بأمره في قومه ابنه حمامة، وكان الأكبر. ثم من بعده أخوه عسكر، وكان له من الولد ثلاثة: نكوم وأبو يكنى، ويلقب المخضب، وعلي ويلقب لاعدر. ولما هلك قام برياسته فيهم ابنه المخضب، فلم يزل أميراً عليهم إلى أن كان أمر الموحدين. وزحف عبد المؤمن إلى تاشفين بن علي بن يوسف، فحاصره بتلمسان. وسرح الشيخ أبا حفص في العساكر لحرب زناتة بالمغرب الأوسط، وجمع له بنر بادين كلهم وبنو يلومي وبنو مرين ومغراوة، ففض الموحدون جموعهم واستلحموا أكثرهم. ثم راجع بنو يلومي وبنو بادين طاعتهم، وأخلص بنو عبد الواد في خدمتهم ونصبحتهم. ولحق بنو مرين بالقفر، فلما غلب عبد المؤمن على وهران واستولى على أموال لمتونة وبعث ذخيرتهم بتلك الغنائم إلى جبل تينملل حيث داره، ومن أين كان منبعث الدعوة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بمكانهم من الزاب، وشيخهم يومئذ المخضب بن عسكر، فأجمع اعتراضها بقومه. ولحق العير بوادي تلاغ، فاحتازها من ايدي الموحدين. واستنفر عبد المؤمن لاستنقاذها أولياءه من زناتة، وسرحهم مع الموحّدين لذلك، فأبلى بنو عبد الواد فيها بلاء حسنا. وكان اللقاء في فحص مسون، وانكشف بنو مرين، وقتل المخضب بن عسكر، واكتسح بنو عبد الواد حللهم، وذلك سنة أربعين وخمسماية. فلحق بنو مرين بعدها بصحرائهم ومجالات قفرهم، وقام بأمرهم من
بعد المخضب أبو بكر ابن عمه حمامة بن محمد إلى أن هلك، فقام بأمره ابنه محيو، ولم يزل مطاعا فيهم إلى أن استنفرهم المنصور لغزاة الأركة، فشهدوها وأبلوا البلاء الحسن. وأصابت محيو يومئذ جراحة انتقضت عليه مرجعه منها، فهلك بصحراء الزاب سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وخمسماية. وكان من رياسة عبد الحق ابنه من بعده وبقائها في عقبه ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن أمارة عبد الحق بن محيو المستقرة فع بنيه وأمارة ابنه عثمان من بعده ثم أخيه محمد بن عبد الحق بعدهما وما كان فيها من الأحداث لما هلك محيو بن أبي بكر بن حمامة من جراحته كما قلناه، وكان له من الولد عبد الحق ووسناف ويحياتن. وكان عبد الحق أكبرهم، فقام بأمر بني مرين، وكان خير أمير عليهم قياما بمصالحهم وتعففا عما في أيديهم، وتقويما لهم على الجادة ونظرا في العواقب، واستمرت أيامهم. ولما هلك الناصر رابع خلفاء الموحّدين بالمغرب سنة عشر وستماية مرجعه من غزاة العقاب، وقام بأمر الموحّدين من بعده ابنه يوسف المستنصر، نصبه الموحدون للأمر غلاما لم يبلغ الحلم. وشغلته أحوال الصبا وجنونه عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم وأغفل الأمور. وتواكل الموحدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه. ونفس عن مخنقهم من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور وضعفت الحامية. وتهاونوا بأمرهم، وفشلت ريحهم. وكان هذا الحي لذلك العهد بمجالات القفار، من فيكيك إلى صا وملوية كما قدمناه من شأنهم. وكانوا يطرقون في صعودهم إلى التلول والأرياف منذ أول دولة الموحّدين وما قبلها جهات كرسيف إلى وطاط، ويأنسون بمن هنالك من بقايا زناتة الأولى: مثل مكناسة بجبال تازى، وبني يرنيان من مغراوة الموطنين قصور وطاط من أعالي ملوية. فيتقلبون بتلك الجهات عام المربع والمصيف، وينحدرون إلى مشاتيهم بما امتاروه من الحبوب لأقواتهم. فلما رأوا من اختلال بلاد المغرب ما رأوا انتهزوا فيها الفرصة، وتخطوا إليها القفر، ودخلوا ثناباه، وتفرقوا في جهاته. وأرجفوا بخيلهم وركابهم على ساكنه، واكتسحوا بالغارة والنهب عامة بسائطهم. ولجأت الرعايا إلى معتصماتهم ومعاقلهم، وكثر شاكيهم. وأظلم الجو بينهم
خريطة
وبين السلطان والدولة، فآذنوهم بالحرب وأجمعوا لغزوهم وقطع دابرهم. وأغرى الخليفة المستنصر عظيم الموحّدين أبا علي بن وانودين بجميع العساكر والحشود من مراكش، وسرحه إلى السيد أبي إبراهيم ابن أمير الموحّدين يوسف بن عبد المؤمن بمكانه من أمارة فاس. وأوعز إليه أن يخرج لغزو بني مرين، وأمره أن يثخن ولا يستبقي. واتصل الخبر ببني مرين وهم في جهات الريف وبلاد بطوية، فتركوا أثقالهم بحصن تازوطا، وصمدوا إليهم. والتقى الجمعان بوادي نكور، فكان الظهور لبني مرين والدبرة على الموحدين. وامتلأت الأيدي من أسلابهم وأمتعتهم، ورجعوا إلى تازى وفاس عراة يخصفون عليهم من ورد النبات المعروف عند أهل المغرب بالمشغلة يوارون به سوءاتهم لكثرة الخصب عامئذ، واعتمار الفدن بالزرع وأصناف الباقلا. حتى لقد سميت الواقعة يومئذ بعام المشغلة.
وصمد بنو مرين بعدها إلى تازى، ففلوا حاميتها أخرى. ثم اختلفت بنو محمد ورؤساؤهم وانتبذ عنهم من عشائرهم بنو عسكر بن محمد، لمنافسة وجدوها في أنفسهم من استقلال بني عمهم حمامة بن محمد بالرياسة دونهم، بعد أن كان أومض عندهم منها في عسكر وابنه المخضب إيماض من أخلف بارقه. فحالفوا عبد الحق أميرهم وقومه إلى مظاهرة أولياء الموحدين، وحامية المغرب من قبائل رياح الموطنين بالهبط وأزغار لحديث عهدهم بالتوحش والعز منذ إنزال المنصور إياهم بذلك القطر من أفريقية، فتحيزوا إليهم وكاثروهم على قومهم.
وصمدوا جميعا للقاء بني مرين سنة أربع عشرة، ودارت بينهم حرب تولى الصبر مقامها. وهلك فيها أميرهم عبد الحق وكبير بنيه إدريس. وتذامر لمهلكها بنو مرين. وجلى في تلك الحومة حمامة بن يصليتن من بني عسكر، والأمير ابن محيو السكمي. فانكشفت رياح آخرا، وقتل منهم أبطال. وولى بنو مرين عليهم بعد مهلك عبد الحق ابنه عثمان تلو إدريس، وشهرته بينهم أدرغال، ومعناه برطانتهم الأعور. وكان لعبد الحق من الولد عشرة، تسعة ذكور وأختهم ورتطليم: فإدريس وعبد الله ورحو لامرأة من بني علي اسمها سوط النساء، وعثمان ومحمد لامرأة من بني ونكاسن اسمها النوار بنت تصاليت، وأبو بكر لامرأة من بني تنالفت وهي تاغزونت بنت أبي بكر بن حفص، وزيان لامرأة من
بني ورتاجن، وأبو عياد لامرأة من بني دللو إحدى بطون عبد الواد واسمها أم الفرج، ويعقوب أم اليمن بنت محلى من بطوية. وكان أكبرهم إدريس الهالك مع أبيه عبد الحق، فقام بأمر بني مرين من بعد عبد الحق ابنه عثمان، بايعه لوقته حمامة بن بصليتن ولمير بن محيو ومن إليهما من مشيخة قومهما. واتبعوا مهزمة رياح وأثخنوا فيهم. وثار عثمان بأبيه وأخيه حتى شفا نفسه منهم ولاذوا بالسلم، فسالمهم على أتاوة يؤدونها إليه وإلى قومه كل سنة. ثم استشرى من بعد ذلك داء بني مرين وأعضل خطبهم، وكثر الثوار بالمغرب، وامتنع عامة الرعايا عن المغرم، وفسدت السابلة. واعتصم الأمراء والعمال من السلطان فمن دونه بالأمصار والمدن، وغلبوا أولئك على الضاحية. وتقلص ظل الحكام عن البدو جملة. وافتقد بنو مرين الحامية دون الوطن والدفاع، فمدوا إلى البلاد يدأ. وسار بهم أميرهم أبو سعيد عثمان بن عبد الحق في نواحي المغرب يتقرى مسالكه وشعوبه، ويضع المغارم على أهله حتى دخل أكثرهم في أمره، فبايعه من الطواعن الشاوية والقبائل الآهلة: هوارة وزكارة، ثم تسول ومكناسة، ثم بطوية وفشتالة، ثم سدراتة وبهلولة ومديونة. ففرض عليهم الخراج وألزمهم المغارم، وفرق فيهم العمال. ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس وتازى ومكناسة وقصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها إليه على رأس كل حول، على أن يكف الغارة عنهم ويصلح سابلتهم. ثم غزا ظواعن زناتة سنة ى ين، وأثخن فيهم حتى أذعنوا، وقبض أيديهم عما امتدت إليه من الفساد والنهب. وعطف بعدها على رياح أهل أزغار والهبط وأثار به بأبيه، فأثخن في كلم وأبادهم. ولم يزل دأبه ذلك إلى أن هلك باغتيال علجة سنة سبع وثلاثين. وقام بأمر بني مرين من بعده أخوه محمد بن عبد الحق، فتقبل سنن أخيه في تدويخ بلاد المغرب وأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم والوضائع من ظواعنه وبدوه وسائر رعاياه. وبعث الرشيد أبا محمد بن وانودين لحربهم. وعقد له على مكناسة، فدخلها وأجحف بأهلها في المغارم. ثم نزل بنو مرين بتيجدوغير من ضواحيها، فنادى في عساكره وخرج إليهم، فدارت بينهم حرب شديدة هلك فيها خلق من الجانبين. وبارز محمد بن إدريس بن عبد الحق قائدا من الروم، واختلفا ضربتين هلك العلج بإحداهما، وانجرح محمد في وجهة بالأخرى. واندمل جرحه، فصار أثر في وجهه لقب من أجله أبا ضربة. ثم شذ بنو مرين على الموحدين، فانكشفوا ورجع ابن وانودين إلى مكناسة
مفلولاً. وبقي بنو عبد المؤمن أثناء ذلك في مرض من الأيام، وتثاقل عن الحماية. ثم أومضت دولتهم اخرا إيماض الخمود. وذلك أنه لما هلك الرشيد بن المأمون سنة أربعين وستماية، وولي أخوه علي وتلقب بالسعيد، وبايعه أهل المغرب، انصرفت عزائمه إلى غزو بني مرين وقطع أطماعهم عما سمت إليه من تملك الوطن، فأغزى عسكر الموحّدين لقتالهم، ومعهم قبائل العرب والمصامدة وجموع الروم. فنهضوا سنة اثنتين وأربعين في جيش كثيف يناهز عشرين ألفا فيما زعموا. وزحف إليهم بنو مرين بوادي ياباش، وصبر الفريقان، وهلك الأمير محمد بن عبد الحق في الجولة بيد زعيم من زعماء الروم. وانكشفت بنو مرين واتبعهم الموحدون، ودخلوا تحت الليل، فلحقوا بجبال غياثة من نواحي تازى واعتصموا بها أياما. ثم خرجوا إلى بلاد الصحراء، وولوا عليهم أبا يحيى بن عبد الحق، فقام بأمرهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن دولة الأمير أبي يحيي بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بني مرين وفاتح الأمصار ومقيم الرسوم الملوكية من الآلة وغيرها لمن بعده من أمرائهم:. لما ولي أبو يحيى بن عبد الحق أمر بني مرين سنة اثنتين وأربعين، كان من أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه، أن قسم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين عشائر بني مرين. وأنزل كلا منهم في ناحية تسوغها سائر الأيام طعمة. فاستركبوا الرجل أتباعهم، واستلحقوا من غاشيتهم، وتوفرت عساكرهم. ثم نبضت نار المنافسة بين أحيائهم، وخالف بنو عسكر جماعتهم، وصاروا إلى الموحدين، فحرضوهم على أبي يحيى بن عبد الحق وبني حمامة وأغروهم بهم. وبعثوا الصريخ إلى يغمراسن بن زيان، فوصل في قومه إلى فاس. واجتمعوا جميعا إلى قائد الموحدين. وأعطوا الرهن على صدق البلاء في الأمير أبي يحيى وأتباعه. وصمدوا إليه حتى انتهوا إلى ورغة، ثم إلى كرت. وأعجزهم فانكفوا راجعين إلى فاس. ونذر يغمراسن بغدر الموحدين، فخرج في قومه مع أوليائه بني عسكر. وعارضهم الأمير أبو يحيى بوادي سبو، فلم يطق حربهم. ورجع عنهم عسكر الموحّدين بما صرخ في معسكرهم من موت الخليفة السعيد. ثم بعثوا إليهم لملاطفتهم في الفيئة إلى الطاعة ومذاهب الخدمة، القائد عنبر الخصي مولى الخليفة في حصة من الروم والناشبة، فتقبّضعليهم بنو عسكر وتمسكوا بهم في رهنهم.
وقتلوا كافة النصارى، فأطلق أبناءهم ولحق يغمراسن وقومه بتلمسان. ثم رجع بنو عسكر إلى ولاية أميرهم أبي يحيى. واجتمع بنو مرين لشأنهم وتملكوا الأعمال. ثم مدوا عينهم إلى تملك الأمصار، فنزل أبو يحيى بجملته جبل زرهون. ودعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب أفريقية، لما كان يومئذ على دعوته وفي ولايته، فحاصرها وضيق عليها بقطع المرافق وترديد الغارات ومعاودة الحرب، إلى أن أذعنوا لطاعته، فافتتحها صلحا بمداخلة أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعميها أبي الحسن بن أبي العافية. وبعثوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة، وكان قاضيا فيهم يومئذ، فأقطع السلطان ليعقوب ثلث جبايتها. ثم أحبس الأمير أبو يحيى بن عبد الحق من نفسه الاستبداد، ومن قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة. وبلغ الخبر إلى السعيد بتغلبه على مكناسة وصرفها إلى دعوة ابن أبي حفص، فوجم لها وفاوض الملأ من أهل دولته في أمره، وأراهم كيف اقتطع الأمر عنهم شيئا فشيئا: فابن أبي حفص اقتطع أفريقية. ثم يغمراسن بن زيان وبنو عبد الواد اقتطعوا تلمسان والمغرب الأوسط، وأقاموا فيها دعوة ابن أبي حفص، وأطمعوه في الحركة إلى مراكش بمظاهرتهم. وابن هود اقتطع عدوة الأندلس، وأقام فيها دعوة بني العبّاس، وابن الأحمر في الجانب الآخر مقيم لدعوة ابن أبي حفص. وهؤلاء بنو مرين تغلبوا على ضواحي المغرب، ثم سموا إلى تملك الأمصار. ثم افتتح أميرهم أبو يحيى مكناسة وأظهر فيها دعوة ابن أبي حفص، وجاهر بالاستبداد. ويوشك إن رضينا هذه الدنية، وأغضينا عن هذه الواقعات، أن يختل الأمر أو تنقرض الدعوة. فتدامروا وامتعضوا وتداعوا للصمود اليهم، فجفز السعيد عساكره. واحتشد عرب المغرب وقبائله، واستنفر الموحّدين والمصامدة، ونهض من مراكش سنة خمس وأربعين يريد مكناسة: وبني مرين أولا، ثم تلمسان ويغمراسن ثانيا، ثم أفريقية وابن أبي حفص آخرا. واعترض العساكر والحشود بوادي بهت. ووصل الأمير أبو يحيى إلى معسكره متواريا عنهم عينا لقومه، حتى صدقهم كنه الخبر. وعلم أن لا طاقة له بهم، فأفرج عن البلاد. وتناذر بنو مرين بذلك من أماكنهم، فتلاحقوا به واجتمعوا إليه بتازوطا من بلاد الريف. ونزل سعيد مكناسة. ولاذ أهلها بالطاعة وسألوا العفو عن الجريرة. واستشفعوا بالمصاحف، برز بها الأولاد على
رؤوسهم، وانتظموا مع النساء في صعيد حاسرات منكسرات الطرف من الخشوع ووجوم الذنب والتوسل. فعفا عنهم وتقبل فيئهم، وارتحل إلى تازى في اتباع بني مرين. وأجمع بنو أوطاس الفتك بأبي يحيى بن عبد الحق غيرة ومناسفة، ودس إليه بذلك مهيب من مشيختهم، فترحل عنهم إلى بلاد بني يزناسن، ونزل بعين الصفا. ثم راجع نظره في مسالمة الموحّدين والفيئة إلى أمرهم ومظاهرتهم على عدوهم يغمراسن وقومه من بني عبد الواد، ليكون فيها شفاء نفسه منهم، فأوفد مشيخة قومه عليه بتازى، فأذوا طاعته وفيئته، فتقئلها وصفح لهم عن الجرائر التي أتوها. وسألوه أن يستكفي بالأمير أبي يحيى في أمر تلمسان ويغمراسن، على أن يمده بالعساكر رامحة وناشبة، فاتهمهم الموحدون وحذروا منهم غائلة العصبية، فأمرهم السعيد بالعسكرة معه، فأمده الأمير أبو يحيى بخمسماية من قبائل بني مرين. وعقد عليهم لابن عمه أبي عباد بن يحيى بن أبي بكر بن حمامة، وخرجوا تحت رايات السلطان. ونهض من تازى يريد تلمسان وما وراءها، وكان من خبر مهلكه على جبل تامززدكت بيد بني عبد الواد ما ذكرناه في أخبارهم. ولما هلك وانفضت عساكره متسابقين إلى مراكش، وجمهورهم مجتمعون إلى عبد الله بن الخليفة السعيد ولي عهده، وتحت رايات أبيه. وطار الخبر بذلك إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق، وهو بجهات بني يزناسن. وقد خلص إليه هنالك ابن عفه أبو عياد. وبعث بني مرين من تيار تلك الصدمة، فانتهز الفرصة وأرصد لعسكر الموحّدين وفلهم بكرسيف، فأوقع بهم وامتلأت أيدي بني مرين من أسلابهم، وانتزعوا الآلة من أيديهم. وأصار إلى كتيبة الروم والناشبة من الغزو، واتخذ الموكب الملوكي. وهلك الأمير عبد الله بن السعيد في جوانب تلك الملحمة، ويئسوا للموحدين بعدها من الكرة. ونهض الأمير أبو يحيى وقومه إلى بلاد المغرب مسابقين إليه يغمراسن بن زيان بما كان ملوك الموحدين، أوجدوهم السبيل إلى ذلك باستجاشة على بني مرين أيام فتنتهم معهم، فكانوا يبيحونه حرم المغرب ويوطئونه عساكر قومه ما بين تازى إلى فاس إلى القصر مع عساكر الموحدين، فكان ليغمراسن وقومه بذلك طمع فيها لولا ما كبحهم فأس بني مرين وجذع من أنوفهم.
وكان أول ما بدأ به أبو يحيى بن عبد الحق أعمال وطاط، فافتتح حصونهم بملوية ودوخ جبلهم. ثم رحل إلى فاس، وقد أجمع أمره على انتزاعها من ملكة بني عبد المؤمن، وإقامة الدعوة لابن أبي حفص بها وبسائر نواحيها. والعامل بها يومئذ السيد أبر العبّاس، فأناخ عليها بركابه. وتلطف في مداخلة أهلها، وضمن لهم جميل النظر وحميد السياسة. وكف الأيدي عنهم، والحماية لهم بحسن المغبة، وصالح العائدة، فأجابوه ووثقوا بعهده وعنائه. وأووا إلى ظله وركنوا إلى طاعته، وانتحال الدعوة الحفصية بأمره. ونبذوا طاعة بني عبد المؤمن يأسا من صريخهم وكثرتهم. وحضر أبو محمد الفشتالي، وأشهده الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذب عنهم، وحسن الملكة والكفالة. وتقبل مذاهب العدل فيهم، فكان حضوره ملاك تلك العقيدة والبركة التي يعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة. وكانت البيعة بالرابطة خارج باب الفتوح. ودخل إلى قصبة فاس لشهرين اثنين من مهلك السعيد، فاتح ست وأربعين. وأخرج السيد أبا العبّاس من القصبة، وبعث معه خمسين فارسا أجازوه أم ربيع ورجعوا. ثم نهض إلى منازلة تازى، وبها السيد أبو علي. فنازلها أربعة أشهر. ثم نزلوا على حكمه، فقتلهم ومن على آخرين منهم. وسد ثغرها، وثقف أطرافها، وأقطع رباط تازى وحصون ملوية لأخيه يعقوب بن عبد الحق. ورجع إلى فاس، فوفد عليه بها مشيخة أهل مكناسة، وجددوا بيعتهم وعاودوا طاعتهم. ولحق بهم على أثرهم أهل سلا ورباط الفتح، فتملك الأمير أبو يحيى هذه البلاد الأربعة أمهات أمصار المغرب. واستولى على نواحيها إلى وادي أم ربيع، فأقام فيها دعوة ابن أبي حفص، وبعث بها إليه. واستبد بنو مرين بملك المغرب الأقصى، وبنو عبد الواد بملك المغرب الأوسط، وبنو أبي حفص بإفريقية. وخمد ذبال آل عبد المؤمن، وركدت ريحهم، وآذنت بالانقراض دولتهم، واشرف على الفناء أمرهم. وإلى الله عاقبة الأمور. الخبر عن انتقاض أهل فاس علي أبي يحيي بن عبد الحق وظفره بهم بعد إيقاعه بيغمراسن وقومه بايسلي: لما ملك الأمر أبو يحمى بن عبد الحق بمدينة فاس سنة ست وأربعين، استولى على بلاد المغرب بعد مهلك السعيد. وقام بأمر الموحّدين بمراكش أبو حفص عمر
المرتضى بن السيد أبي إبراهيم إسحاق الذي كان قائد عسكر الموحّدين في حربهم مع بني مرين عام المشغلة، أبن أمير المؤمنين أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. كان السعيد تركه واليا بقصبة رباط الفتح من سلا، فاستدعاه الموحدون وبايعوه بيعة الخلافة. وقام بأمرهم، فلما تغلب الأمير أبو يحمى على بلاد المغرب وملك مدينة فاس كما ذكرناه، خرج إلى بلاد فازاز والمعدن لفتح بلاد زناتة وتدويخ نواحيها. واستعمل على فاس مولاه السعود بن خرباش، من جماعة الحشم أحلاف بني مرين وصنائعهم. وكان الأمير أبو يحيى استبقى بها من كان فيها من عسكر الموحّدين من غير عيصهم في السبيل التي كانوا عليها من الخدمة. وكان فيهم طائفة من الروم، استخدمهتم إلى نظر قائدهم شأنه، وكانوا من حصة السعود هنالك. ووقعت بينهم وبين شيع الموحّدين من أهل البلد مداخلة، وفتكوا بالسعود عاملهم وقلبوا الدعوة للمرتضى الخليفة بمراكش سكيت الحلبة ومخلف المضمار. وكان المتولي لكبر تلك الثورة بن حشار المشرف وأخوه وابن أبي طاطو وابنه، اجتمعوا إلى القاضي أبي عبد الرحمن المغيلي، زعيم فئة الشورى بينهم يومئذ وتوامروا فيها. وأغروا قائد الروم بقتل السعود، وعدوا عليه بمقعد حكمه من القصبة، وهاجوه ببعض المحاورات فغضت. ووثب عليه الرومي، فقتله وطاف برأسه الهاتف بسكك المدينة في شوال سنة سبع وأربعين. وانتهبت داره، واستبيحت حرمه. ونصبوا قائد الروم لضبط البلد، وبعثوا بيعتهم إلى المرتضى. واتصل الخبر بالأمير أبي يحيى، وهو منازل بلد فازاز، فأفرج عنها. وأغذ السير إلى فاس، فأناخ بعساكره عليها. وشفر لحصارها، وقطع السابلة عنها. وبعثوا إلى المرتضى بالصريخ، فلم يرجع إليهم قولا، ولا ملك لهم ضرا ولا تفعا، ولا وجه لما نزل بهم وجها. حاشا إنه استجاش بالأمير أبي يحيى يغمراسن بن زيان على أمره، وأغراه بعدوه، وأمله لكشف هذه النازلة عمن انحاش إلى طاعته. وتعلقت أطماع يغمراسن بطروق بلاد المغرب، فاحتشد لحركته. ونهض مى تلمسان للأخذ بحجزة الأمير أبي يحيى عن فاس، وإجابة صريخ الخليفة لذلك. وبلع الأمير أبا يحيى خبر نهوضه إليه لتسعة أشهر من منازلته البلد، فجمر الكتائب عليها صمد إليه قبل وصوله من تخوم بلاده، والتقى الجمعان بإيسلى من بسائط وجدة فتزاحف القوم وأبلوا. وكانوا ملحمة عظيمة، هلك فيها عبد الحق محمد بن عبد الس
بيد إبراهيم بن هشام من بني عبد الواد. ثم انكشف بنو عبد الواد، وهلك يغمراسن بن تاشفين من أكابر مشيختهم، ونجا يغمراسن بن زيان إلى تلمسان. وانكفأ الأمير أبو يحيى إلى معسكره للأخذ بمخنق فاس فسقط في أيدي أهلها، ولم يجدوا وليجة من دون طاعته، فسألوا الأمان، وبذله لهم على غرم ما تلف له من المال بداره يوم الثورة، وقدره ماية ألف دينار، فتحملوها. وأمكنوه من قياد البلد، فدخلها في جمادى من سنة ثمان وأربعين. وطالبهم بالمال، فعجزوا ونقضوا شرطه، فحق عليهم القول. وتقبض على القاضي أبي عبد الرحمن وابن أبي طاطو وابنه، وابن حشار وأخيه المتولين كبر الفعلة فقتلهم، ورفع على الشرفات رؤوسهم. وأخذ الباقين بغرم المال طوعا أو كرها، فكان ذلك مما عبد رعية فاس وقادهم لأحكام بني مرين. وضرب الرهب على قلوبهم لهذا العهد، فخشعت منهم الأصوات وانقادت الهمم، ولم يحدثوا بعدها أنفسهم بغمس يد في فتنة. والله مالك الأرض ومن عليها. الخبر عن تغلب الأمير أبي يحيي علي مدينة سلا وارتجاعها من يده وهزيمة المرتضي بعدها: لما كمل للأمير أبي يحيى فتح مدينة فاس، واستوسق أمر بني مرين بها، رجع إلى ما كان فيه من منازلة بلاد فازاز فافتتحها. ودوخ أوطان زناتة، واقتضى مغارمهم وحسم علل الثائرين فيها. ثم تخطى إلى مدينة سلا ورباط الفتح سنة تسع وأربعين، فملكها وتاخم الموحّدين بثغرها. واستعمل عليها ابن أخيه يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق، وعقد له على ذلك الثغر، وضم إليه الأعمال. وبلغ الخبر بذلك إلى المرتضى، فأهمه الشأن. وأحضر الملأ من الموحّدين وفاوضهم، واعتزم على حرب بني مرين. وسرح العساكر سنة خمسين، فأحاطت بسلا، فافتتحوها وعادت إلى طاعة المرتضى. وعقد عليها لأبي عبد الله بن أبي يعلو من مشيخة الموحدين. وكان المرتضى قد صمد بنفسه سنة تسع وأربعين إلى محاربة بني مرين في جموع الموحّدين وعساكر الدولة، صمد بنو مرين للقائه. والتقى الجمعان بإيملولين، ففضوا جموعه، وكانت الدبرة عليه والظهور لهم. ثم كان بعدها فتح سلا، وغلب الموحّدين عليها. وأجمع المرتضى بعدها على احتشاد أهل سلطانه، ومعاودة الخروج بنفسه إلى غزوهم لما خشي من امتداد أمرهم. وتقلص ملك الموحدين، فعسكر خارج حضرته سنة ثلاث وخمسين
وبعث الحاشرين في الجهات، فاجتمع إليه أمم الموحّدين والعرب والمصامدة. وأغذ السير تلقاءهم، حتى إذا انتهى إلى جبال بهلول من نواحي فاس، وصمد إليه الأمير أبو يحيى في عساكر بني مرين، ومن اجتمع إليهم من دونهم. والتقى الجمعان هنالك. وصدقهم بنو مرين القتال، فاختل مصاف السلطافي، وانهزمت عساكره وأسلمه قومه. ورجع إلى مراكش مفلولاً. واستولى القوم على معسكره واستاحوا سرادقه وفساطيطه، وانتهبوا جميع ما وجدوا بها من المال والذخيزة، واستاقوا سائر الكراع والظهر، وامتلأت أيديهم من الغنائم، واعتز أمرهم، وانبسط سلطانهم، وكان يوما له ما بعده. وأغرى أثر هذه الحركة عساكر بني مرين تادلا واستباح بني جابر حاميتها من جشم ببلد أبي نفيس، واستلحم أبطالهم، وألان من حدهم، وخضد من شوكتهم. وفي أثناء هذه الحروب كان مقتل علي بن عثمان بن عبد الحق، وهو ابن أخي الأمير أبي يحيى. شعر منه بفساد الدخلة والاجتماع للتوثب به، فدس لابنه أبي حديد مفتاح بقتله، بجهات مكناسة سنة إحدى وخمسين. والله تعالى أعلم. الخبر عن فتح سجلماسة وبلاد القبلة وما كان في ذلك من الأحداث: لما يئس بنو عبد المؤمن من غلبهم بني مرين على ما صارفي أيديهم من بلاد المغرب، وعادوا إلى مدافعيهم عن صبابة الدولة التي تحلبت إليها شفاههم، لو أطاقوا المدافعة عنها، وملك بنو. مرين عامة بلاد التلول، اعتزم الأمير أبو يحيى بعدها على الحركة إلى بلاد القبلة لفتح سجلماسة ودرعة وما إليها سنة ثلاث وخمسين، فافتتحها بمداخلة من ابن القطراني. غدر بعامل الموحدين، فتقبّضعليه وأمكن منها الأمير أبا يحيى، فملكها وما إليها من درعة وسائر بلاد القبلة. وعقد عليها لابنه أبي حديد. وبلغ الخبر إلى المرتضى، فسرح العساكر سنة أربع وخمسين لاستنقاذها. وعقد عليهم لابن عطوش من مشيخة الموحدين، فأغذ الأمير أبو يحيى السير إليها وابنه أبو حديد مفتاح. وأحس به ابن عطوش، ففر راجعا إلى مراكش. ثم نهض سنة خمس وخمسين إلى محاربة يغمراسن. ولقيه بأبي سليط، فأوقع به واعتزم على اتباعه، فثناه عن رأيه في ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق، لعهد تأكد بينه وبين يغمراسن، فرجع. ولما انتهى إلى المقرمدة هذه، بلغه أن يغمراسن قصد سجلماسة لمداخلة من بعض أهلها. أطمعه في
ملكها، فأغذ السير إليها بجموعه ودخلها. ولصبيحة دخوله، وصل يغمراسن لشأنه. فلما مكلم بمكان أبي يحيى من البلد سقا في يديه ويئس من غلابه، ودارت بينهم حرب تكافيا فيها. وهلك سليمان بن عثمان بن عبد الحق ابن أخي الأمير أبي يحيى. وانقلب يغمراسن إلى بلده. وعقد الأمير أبو يحيى على سجلماسة ودرعة وسائر بلاد القبلة، ليوسف بن يزكاسن. واستعمل على الجباية عبد السلام الأوربي وداود بن يوسف. وانكفأ راجعاً إلى فاس. والله تعالى أعلم. الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيي وما كان أثر ذلك من الأحداث التى تمخضت عن استبدال أخيه يعقوب بن عبد الحق بالأمر: لما رجع الأمير أبو يحيى من حرب يغمراسن بسجلماسة، أقام أياما بفاس. ثم نهض إلى سجلماسة متفقدا لكورها، فانقلب منها عليلا. وهلك حتف أنفه على سرير ملكه في رجب سنة ست وخمسين، أمضى ما كان عزما، وأطول إلى تناول الملك يداً. اختطفته يد المنون عن شأنه، ودفن بمقبرة باب الفتوح من فاس، ضجيعا للمولى أبي محمد الفشتالي عما عهد لأهل بيته. وتصدى للقيام بأمره ابنه عمر، واشتمل عليه عامة قومه. ومالت المشيخة وأهل الحل والعقد إلى عمه يعقوب بن عبد الحق، وكان غائبا عن مهلك أخيه بتازى فلما بلغه الخبر أسرع اللحاق بفاس، وتوجهت إليه وجوه الأكابر. وأحس عمر بصاغية الناس إليه. وحرضه أتباعه على الفتك به، فاعتصم بالقصبة. وسعى الناس في الإصلاح بينهما، فتفادى يعقوب من الأمر، ودفعه إلى ابر أخيه، على أن يكون له بلاد نازى وبطوية وملوية. ولما لحق بتازى، واجتمع إليه كافة بني مرين، عذلوه فيما كان منه فاستلام. وحملوه على العودة في الأمر، ووعدوه من أنفسهم المظاهرة والمؤازرة فأجاب، وبايعوه وصمدوا إلى فاس. وبرز عمر للقائه، فانتهى إلى المسجدين. ولما تراءى الجمعان خذله جنوده وأسلموه، فرجع إلى فاس مفلولا. وجه الرغبة إلى عمه أن يقطعه مكناسة. ونزل له عن الأمر.، فأجابه إلى ذلك. ودخل السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق مدينة فاس مملكا سنة سبع وخمسين، وتمشت طاعته في بلاد المغرب ما بين ملوية وأم ربيع وسجلماسة وقصر كتامة. واقتصر عمر على إمارة مكناسة، فتملكها أياما. ثم اغتاله من عشيره عمر وإبراهيم ابنا عمه: عثمان بن عبد الحق،
والعباس ابن عفه محمد بن الحق، فقتلوه وثاروا منه بدم كانوا يعتدونه عليه. وهلك لعام وبعض عام مرّ أمارته، فكفى يعقوب شأنه. واستقام لسلطانه، وذهب المنازع والمشاق عن أمره. وكان يغمراسن بعد مهلك قرنه الأمير أبي يحيى سما له الأمل في الأجلاب على المغرب، فجمع لذلك قومه واستجاش بني توجين ومغراوة، وأطمعهم في غيل الأسود. ونهضوا إلى المغرب حتى انتهوا إلى كلدامان.، صمد السلطان يعقوب بن عبد الحق إلى لقائهم، فغلبهم ورجعوا على تعبية ومرّ يغمراسن ببلاد بطوية، فأحرق وانتسف واستباح، وأعظم فيها النكاية. ورجع السلطان إلى فاس، وتقبل مذهب أخيه الأمير أبي يحيى في فتح أمصار المغرب وتدويخ أقطاره. وكان مما أكرمه الله به أن فتح أمره باستنقاذ مدينة سلا من أيدي النصارى، فكان له فيها أثر جميل وذكر خالد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن فجاءة العدو مدينة سلا واستنقاذها من أيديهم: كان يعقوب بن عبد الله قد استعمله الأمير أبو يحيى على مدينة سلا لما ملكها كما ذكرناه. فلما استرجعها الموحدون من يده، أقام يتقلب في جهاتها مرصدا لأهلها وحاميتها. ولما بويع عمه يعقوب بن عبد الحق أسفته بعض الأحوال، فذهب مغاضبا حتى نزل غبولة. وألطف الحيلة في تملك رباط الفتح وسلا ليعتدها ذريعة لما أسرفي نفسه، فتمت له الحيلة وركب عماملها ابن يعلو البحر فارا إلى أزمور. وخلف أمواله وحرمه، فتملك يعقوب بن عد الله البلد. وجاهر بالخلعان، وصرف إلى منازعة عمه السلطان أبي يوسف وجوه العزم، وداخل تجار الحرب في الإمداد بالسلاح. فتحاوروا في ذلك، وكثرت سفن المترددين بينهم، حتى كثروا أهلها واهتبلوا غرة يوم الفطر من سنة ثمان وخمسين عند شغل الناس بعيدهم. وثاروا بسلا، وسبوا الحرم وانتهبوا الأموال، وضبطوا البلد. وامتنع يعقوب بن عبد الله برباط الفتح، وطار الصريخ إلى السلطان أبي يوسف. وكان بتازى متشرفاً لأحوال يغمراسن، فنادى في قومه، وطاروا بأجنحة الخيول. ووصلها لوم وليلة، وتلاحقت به أمداد المسلمين من أهل الديوان والمطوعة. ونازلها أربع عشرة ليلة، ثم اقتحمها عليهم عنوة، وأثخن فيهم بالقمل. ثم رم بالبناء ما كان متثلما من سورها الغربي، حيث أمكنت منه الفرصة في البلد. وتناول البناء فيه بيده. والله لا يضيع عمل عامل.
وخشي يعقوب بن عبد الله بادرة السلطان، فخرج من رباط الفتح وأسلمه، فضبطه السلطان وثقفه. ثم نهض إلى بلاد تامسنا وأنفى، فملكها وضبطها. ولحق يعقوب بن عبد الله بحصن علودان من جبال غمارة، فامتنع به. وسرح السلطان ابنه أبا مالك عبد الواحد وعلي بن زيان لمنازلته. وسار إلى لقاء يغمراسن لقاءة المهادنة، فلقيه بوادي محرمان. وافترقا على السلم ووضع أوزار الحرب. ورجع السلطان إلى المغرب، فخرج عليه بنو أخيه أولاد إدريس. ولحقوا بقصر كتامة. وشايعوا يعقوب ابن عمهم عبد الله على راية، واجتمعوا إلى كبيرهم محمد بن إدريس، فيمن إليهم من العشير والصنائع، فنهض إليهم واعتصموا بجبال غمارة. ثم استنزلهم واسترضاهم. وعقد لعامر بن إدريس سنة ستين على عسكر من ثلاثة آلاف فارس أو يزيدون من المطوعة من بني مرين، أغراهم إلى العدوة لجهاد العدو وحملهم، وفرض لهم. وشفع بها عمله في واقعة سلا، وهو أول جيش أجاز من بني مرين، فكان لهم في الجهاد والمرابطة مقامات محمودة وذكر خالد. تقبل سبيلهم فيها خلفهم من بعدهم حسبما نذكره. وأقام يعقوب بن عبد الله خارجا بالنواحي منتقلا في الجهات، إلى أن قتله طلحة بن محلى بساقية غبولة من ناحية سلا سنة ثمان وستين، فكفى السلطان شأنه. وكان المرتضى منذ توالت عليهم الوقائع، واستمر الظهور لبني مرين، انحجز في جدرانه وتوارى بالأسوار عن عدوه، فلم يسم إلى لقاء زحف، ولا حدث نفسه إلى شهود حرب. واستأسد بنو مرين على الدولة، وشرهوا إلى التهام البقية، وأسفوا إلى منازلة مراكش دار الخلافة، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن منازلة السلطان أبي يوسف حضرة مراكش دار الخلافة وعنصر الدولة وما في اثر ذلك من نزوع أبي دبوس إليه وكيف نهبه للأمر وكان مهلك المرتضي علي يده ثم انتقض عليه: لما فرغ السلطان من شأن الخوارج عليه من عشيره، استجمع لمنازلة المرتضى حدين في دارهم. ورأى أنه أوهن لدولتهم وأقوى لأمره عليهم. وبعث قومه واحتشد ممالكه، واستكمل تعبيته. وسار حتى انتهى إلى إيكليز، فاعتزم على ذلك سنة ستين. وشارف دار الخلافة. ثم نزل بعقرها، وأخذ بمخنقها. وعقد المرتضى على حربهم
للسيد أبي العلاء إدريس المكنى بأبي دبوس ابن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فعبأ كتائبه ورتب مصافه. وبرز لمدافعتهم ظاهر الحضرة، فكانت بينهم حروب بعد العهد بمثلها، استشهد فيها الأمير عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق، وكانوا يسمون برطانتهم أيعجوب. ففت مهلكه في عضدهم، وارتحلوا عنها إلى عملهم، واعترضتهم عساكر الموحّدين بوادي أم ربيع. وعليهم يحيى بن عبد الله بن وانودين، فاقتتلوا في بطن الوادي. وانهزمت عساكر الموحدين. وكان في مسيل الوادي، كدى تحسر عنها غمر الماء وتبدو كأنها أرجل، فسميت الواقعة بها أم الرجلين. ثم سعى بعض سماسرة الفتن عند الخليفة المرتضى، في ابن عفه وقائد حربه السيد أبي دبوس بطلبه الأمر لنفسه. وشعر بالسعاية، فخشي بادرة المرتضى. ولحق بالسلطان أبي يوسف مدخله إلى فاس من منازلته آخر سنة إحدى وستين نازعا إليه، فأقام عنده ملياً. ثم سأل منه الإعانة على أمره بعسكر يمده، وآلة يتخذها لملكه، ومال يصرفه في ضروراته. على أن يشركه في الغنيمة والفتح والسلطان، فأمده بخمسة آلاف من بني مرين، وبالكفاية من المال والمستجاد من الالة. وأهاب له بالعرب والقبائل من أهل ممالكه ومن سواهم أن يكونوا يدا معه. وسار في الكتائب حتى شارف الحضرة. ودس إلي أشياعه ومن يداخله من الموحّدين في أمره، فثاروا بالمرتضى وأجهضوه عنها، فلحق بازفور مستجيشا بصهره ابن عطوش. ودخل أبو دبوس الحضرة في المحرم فاتح خمس وستين، وتقبض ابن عطوش عامل أزمور على المرتضى، واقتاده أسيراً إلى أبي دبوس. فبعث مولاه مزاحما، اجتز رأسه في طريقه، واستقل بالخلافة، وصبابة آل عبد المؤمن. ثم بعث إليه السلطان في الوفاء بالمشارطة، فعتا واستنكف. ونقض العهد وأساء الخطاب، فنهض إليه في جموع بني مرين وعساكر المغرب، فخام عن اللقاء وانحجر بمراكش. ونازله السلطان أياما تباعا. ثم سار في الجهات والنواحي يحطم الزرع، وينسف الأقوات. وعجز أبو دبوس عن دفاعه، فاستجاش عليه بيغمراسن بن زيان ليفت في عضده، ويشغله من ورائه، ويأخذ بحجزته عن التهامه على ما نذكر لو أمهلته الأيام، وانفسح له الأجل.
الخبر عن وقيعة تلاغ بين السلطان يعقوب بن عبد الحق ويغمراسن بن زيان بإغراء، أبي دبوس وتضريبه:
لما نازل السلطان أبو يوسف حضرة ئراكش، وقعد على براثنه للتوثب عليه، لم
يجد أبو دبوس وليجة من دون قصده، إلا استجاشته بيغمراسن وقومه عليه، ليأخذوا بحجزته عنه، ويشغلوه من ورائه. فبعث إليه الصريخ في كشف بلواه ومدافعة عدوه. وأكد العهد وأسنى الهدية، وشمر يغمراسن لاستنقاذه وجذب عدوه من ورائه. وشن الغارات على ثغور المغرب، وأضرمها نارا، فأهاج عليه وعلى قومه من السلطان يعقوب ليثاً عاديفا، وأرهف منه عزما ماضيا. وأفرج يعقوب عن مراكش بعزم النهوض إلى تلمسان، ونزل بفاس، وتلوم بها أياما حتى أخذ أهبة الحرب، وأكمل استعدادها. ورحل فاتح سنة ست وستين، وسلك على كرسيف، ثم على تافراطا وتزاحف الفريقان بوادي تلاغ، وعبا كل منهم كتائبه ورتب مصافه. وبرز النساء سافرات الوجوه في سبيل التحريض، يحيين ويعدين ويرغبن. ولما فاء الفيء ومال النهار، وكثر حشود المغرب جموع بني عبد الواد ومن إليهم، انكشفوا ومنحوا العدو أكتافهم. وهلك أبو حفص عمر كبير والد يغمراسن وولي عهده في جماعة من عشيره، ذكرناهم في أخباره. وأخذ يغمراسن بأعقاب قومه، فكان له ردءاً إلى أن خلصوا من المعترك، ووصلوا إلى بلادهم في جمادى من سنتهم. وعاد السلطان أبو يوسف إلى مكانه من-ضار مراكش. والله أعلم. الخبر عن السفارة والمهاداة التي وقعن بين السلطان يعقوب بن عبد الحق وبين المستنصر الخليفة بتونس من أل أبي حفص. كان الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، منذ دعا لنفسه بتونس سنة خمس وعشرين طموحاً إلى ملك مراكش، مقر الدعوة، ومنبعث الدولة، وأصل الخلافة. وكان يؤمل لذلك زناتة، وإلا فلما دونه من خضد شوكة آل عبد المؤمن، وتقليم أظفار بأسهم، وردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه. وتغلب على تلمسان سنة أربعين. ودخل يغمراسن بن زيان في دعوته، وصار فئة له وشيعته على عدوه كما ذكرناه، فوصل به جناحه للمدافعة. وناغاه بنو مرين في مراسلة ابن أبي حفص ومخاطبته، وتخفيض الشأن عليه فيما يهمه من شأن عدوه، وحمل ما يفتحون من بلاد المغرب على البيعة له والطاعة: مثل فاس ومكناسة والقصر. وكان هو يلاطفهم بالتحف والهدايا، ويريهم البر في الكتاب والخطاب والمعاملة وتكريم الوفد، غير سبيل آل عبد المؤمن فكانوا يجنحون
بذلك إلى تجديد مراسلته، وإيفاد قرابتهم عليه. وولي ابنه المستنصر من بعد، سنة سبع وأربعين، فتقبل مذاهب أبيه، وأوفى عليها بالإيعاز إليهم بمنازلة مراكش، وضمان الإنفاق عليهم فيها، فكان يبعث لذلك أحمالا من المال والسلاح وأعداد وافرة من الخيل بمراكبها للحملان، ولم يزل دأبه ذلك معهم. ولما فعل ابن أبي دبوس فعلته في نقض العهد، واستجمع السلطان لمنازلته، قدم بين يدي عمله مراسلة الخليفة المستنصر، يخبره الخبر، ويتلطف له في استنزال المدد، فأوفد عليه ابن أخيه عامر بن إدريس بن عبد الحق، وأصحبه عبد الله بن كندوز العبد الوادي كبير بني كمي، وقريع بني يغمراسن، الذي ثار يغمراسن من أبيه كندوز بأبيه زيان كما ذكرناه في أخبارهم. وكان خلص إليه من حضرة المستنصر، فلقاه مبرة وتكريما. وأوفد معهما الكاتب أبا عبد الله محمد بن محمد الكناني من صنائع دولة آل عبد المؤمن، كان نزع إلى أخيه الأمير أبي يحيى لما رأى من اختلال الدولة، وأنزله مكناسة، وآثره بالصحبة والخلة. فجمع له يعقوب بن عبد الحق في هذا الوفد من الأشراف من يحسن الرياسة، ويعرب عفا في الضمائر، ويدل على شرف مرسله. فوفدوا على المستنصر سنة خمس وستين، وأدوا رسالتهم وحركوا له جوار المظاهرة على صاحب مراكش وكبح عنانه، فحن واهتز سرورا من أعواده، ولقاهم مبرة التكريم وأحسن النزل. ورد الأمير عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز لوقتهما. وتمسك بالكناني من بينهم لمصاحبة وفده، فطال مقامه عنده إلى أن كان من فتح مراكش ما نذكره. ثم أوفد المستنصر على السلطان يعقوب بن عبد الحق آخر سنة تسع وستين بعدها شيخ الجماعة من الموحّدين لعهده، أبا زكريا يحيى بن صالح الهنتاتي، مع جماعة من مشيخة الموحّدين في مرافقة محمد الكناني. وبعث معهم إلى السلطان هدية سنية يلاطفه بها ويتاحفه، انتخب فيها من الجياد والسلاح وأصناف الثياب الغريبة العمل ما انتقاه. ووقف رضاه وهمته على الاستكثار منه، فحسن موقعها وتحدث بها. وانقلب وفده أحسن منقلب بعد أن تلطف محمد الكناني في ذكر الخليفة المستنصر على منبر مراكش، فتم له. وشهده وفد الموحدين، فعظم سرورهم وانقلبوا محبورين مسرورين. واتصلت بعد ذلك مهاداة المستنصر ليعقوب بن عبد الحق إلى أن هلك وجرى ابنه الواثق من بعده على سننه، فبعث إليهم سنة سبع وسبعين هدية حافلة، بعث بها القاضي أبا العبّاس
الغماري قاضي بجاية، فعظم موقعها. وكان لأبي العبّاس الغماري بالمغرب ذكر تحدث به الناس. والله أعلم. الخبر عن فتح مراكش ومهلك أبي دبوس وانقراض دولة الموحّدين من المغرب: لما رجع السلطان أبو يوسف من حرب يغمراسن، ورأى أنه قد كف من غربه ورد من كيده وكيد أبي دبوس صريخه، صرف حينئذ عزائمه إلى منازلة مراكش، والعودة إلي مضايقتها كما كان لأول أمره. ونهض لغزاته من فاس في شعبان من سنته. ولما أجاز أم ربيع، بث السرايا، وسرح الغارات. وأطلق الأيدي والأعنة للنهب، فحطموا من زروعها وانتسفوا آثارها. وتقرى نواحيها كذلك بقية عامه. ثم غزا عرب الخلط من حشم بتادلا، فأثخن فيهم واستباحهم. ثم نزل وادي العبيد، ثم غزا بلاد صنهاجة. ولم يزل ينتقل ركابه بأنحاء البلاد المراكشية وأحوازها، حتى حصرت صدور بني عبد المؤمن وقومه. وأغراهم أولياء الدولة من عرب جشم بنهوض الخليفة لمدافعة عدوه، فجمع لذلك وبرز في جيوش ضخمة وجموع وافرة. واستجره أبو يوسف بالفرار أمامه ليبعد عن مدد الصريخ، فيستمكن منه حتى نزول عفو. ثم كر إليه والتحم القتال، فاختل مصافه وفر عساكره. وانهزم يريد مراكش، فأدركوه دون أمله. وإعتاقه أجله، فطعن في مفره وخر صريعا لليدين والفم واحتز رأسه. وهلك بمهلكه وزيره عمران، وكاتبه علي بن عبد الله المغيلي. وارتحل السلطان أبو يوسف إلى مراكش. وفر من كان بها من الموحدين، فلحقوا بجبل تينملل. وبايعوا لإسحق أخي المرتضى، فبقي ذبالة هنالك سنين. ثم تقبض عليه سنة أربع وسبعين، وسيق إلى السلطان هو وأبو سعيد ابن عمه السيد أبي الربيع والقبائلي وأولاده فقتلوا جميعا. وانقرض أمر بني عبد المؤمن. والله وارث الأرض ومن عليها. وخرج الملأ وأهل الشورى من الحضرة إلى السلطان، فأمنهم ووصلهم. ودخل مراكش في بروز فخم فاتح سنة ثمان وستين. وورث ملك آل عبد المؤمن وتولاه، واستوسق أمره بالمغرب، وتطامن الناس لبأسه، وسكنوا لظل سلطانه. وأقام بمراكش إلى رمضان من سنته. وأغزى ابنه الأمير أبا مالك إلى بلاد السوس فافتتحها وأوغل في ديارها ودوخ أقطارها. ثم خرج بنفسه إلى المغرب لبلاد درعة، فأوقع بهم الواقعة المشهورة
التي خضدت من شوكتهم. ورجع لشهرين من غزاته. ثم أجمع الرحلة إنى داره بفاس فعقد على مراكش وأعمالها لمحمد بن علي من كبار أوليائهم، ومن أهل خؤلته، وكان من طبقة الوزراء، حسبما يأتي التعريف به وبعشيره. وأنزله بقصبة مراكش، وجعل المصالح في أعمالها إلى نظره. وعهد إليه بتدويخ الأقطار، ومحو آثار بني عبد المؤمن. وفصل إلى حضرته وأراح بسلا، فكان من خبر عهده لابنه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن عهد السلطان لابنه أبي مالك. وما كان عقب ذلك من خروج القرابة عليه أولاد أخيه إدريس و إجازتهم إلي الأندلس: لما تلوم السلطان بسلا، منصرفه من رباط الفتح، وأراح بها ركابه، عرض له طائف من المرض، ووعك وعكاً شديداً. فلما أبل جمع قومه، وعهد بأمره فيهم لابنه أبي مالك عبد الواحد كبير ولده، بما علم من أهليته لذلك. وأخذ له البيعة عليهم، وأعطوها طواعية. وأسف القرابة من ولد أخويه عبد الله وإدريس لأمهما سوط النساء، ووجدوا في أنفسهم لما يرون أن عبد الله وإدريس أكابر ولد عبد الحق، ولهما التقدم على من بعدهما من ولده، وأنهما أحق بالأمر. فعادت هيف إلى أديانها، ونفسوا على ابن السلطان ما أخذ له من البيعة والعهد. ونزعوا عنه إلى جبل علودان من جبال غمارة، عش خلافهم، ومدرج فتنتهم، وذلك سنة تسع وستين. ورياستهم يومئذ لمحمد بن إدريس وموسى بن رحو بن عبد الله. وخرج معهم ولد أبي عياد بن عبد الحق. وأغزاهم السلطان ولده أبا يعقوب يوسف في خمسة آلاف من عسكره، فأحاط بهم وأخذ بمخنقهم. ولحق به أخوه مالك في عسكره، ومعه مسعود بن كانون شيخ سفيان. ثم خرج في أثرهم السلطان أبو يوسف، واجتمع معسكرهم بتافركا ونازلوهم ثلاثا. وهلك في حروبهم منديل بن ورتطليم. ولما رأوا أن قد احيط بهم سألوا الأمان، فبذله وأنزلهم. واستل سخائمهم، ومسح ما في صدورهم، ووصل بهم إلى حضرته. وسألوا منه الإذن في اللحاق بتلمسان حياء من كبر ما ارتكبوا، فأذن لهم. وأجازوا البحر إلى الأندلس، وخالفهم عامر بن إدريس، لما أنس من صاغية السلطان إليه، فتخلف عنهم بتلمسان حتى توثق لنفسه بالعهد وعاد إلى قومه بعد منازلة السلطان تلمسان كما نذكره الآن. واحتل بنو إدريس وعبد الله وابن عمهم عياد بالأندلس، على حين أقفر من الحامية
جوها، واستأسد العدو على ثغرها. وتحلبت شفاههم لالتهامها، فاحتلوها اسودا ضارية، وسيوفاً ماضية، معودين لقاء الأبطال ولراع الحتوف والنزال. مستغلظين بخشونة البداوة وصرامة الغزو وبسالة التوحش، فعظمت نكايتهم في العدو واعترضوا شجى في صدره دون الوطن الذي كان طعمة له في ظنه. وارتدوه على عقبه، ونشطوا من همم المسلمين المستضعفين وراء البحر، وبسطوا من آمالهم لمدافعة طاغيتهم. وزاحموا أمير الأندلس في رياستها بمنكب، فتجافى لهم عن خطة الحرب ورياسة الغزاة من أهل العدوة من أعياصهم وقبائلهم ومن سواهم من امم البرابرة. وتناقلوها، وساهموه في الجباية، بفرض العطاء والديوان فبذله لهم واستمروا على ذلك لهذا العهد. وحسن أثرهم فيها كما سنذكره بعد في أخبار القرابة. ثم أعمل السلطان نظره في غزو تلمسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن حركة السلطان أبي يوسف إلى تلمسان وواقعته علي يغمراسن وقومه بإيسلي: لما غلب السلطان أبو يوسف على بني عبد المؤمن، وفتح مراكش، واستولى على ملكهم سنة ثمان وستين، وعاد إلى فاس كما فكرنا، تحرك ما كان في نفسه من ضغائن يغمراسن وبني عبد الواد، وما أسفوا به من تخذيل عزائمه ومجاذبته عن قصده. ورأى أن واقعة تلاغ لم تشف صدره، ولا أطفأت نار موجدته، فأجمع أمره على غزوهم. واقتدر بما صار إليه من الملك والسلطان على حشر أهل المغرب لحربهم وقطع دابرهم، فعسكر بظاهر فاس. وسرح ولده وولي عهده أبا مالك إلى مراكش في خواصه ووزرائه، حاشرين في مدائنها وضواحيها، وقبائل العرب والمصامدة، وبني ورا وغمرة وصنهاجة، وبقايا عساكر الموحّدين بالحضرة، وحامية الأمصار من جند الروم وناشبة الغزو. فاستكثر من أعدادهم، واستوفى حشدهم. واحتفل السلطان بحركته، وارتحل إلى فاس سنة سبعين وستماية وتلوم بملوية إلى أن لحقته الحشود، وتوافت إليه أمداد العرب من قبائل جشم أهل تامسنا، الذين هم سفيان والخلط والعاصم وبنو جابر، ومن معهم من الاثبج، قبائل ذوي حسان والشبانات من المعقل أهل السوس الأقصى، وقبائل رياح أهل أزغار والهبط. فاعترض هنالك عساكره، وعبأ مواكبه، فيقال بلغت ثلاثين ألفا. وارتحل يريد تلمسان. ولما انتهى إلى أنكاد، وافته رسل ابن الأحمر هنالك، ووفد المسلمين
بالأندلس صريخاً على العدو. ويستجيشون بإخوانهم المسلمين ويسألونه الإعانة، فتحركت همته للجهاد ونصر المسلمين من عدوهم. ونظر في صرف الشواغل عن ذلك، وجنح إلى السلم مع يغمراسن. وصوب الملأ في ذلك رأيه لما كانوا عليه من إيثار الجهاد. وانتدب جماعة من المشيخة إلى السعي في إصلاح بينهما، والكف عن غرب عداوتهما. وساروا إلى يغمراسن، فوافوه بظاهر تلمسان قد أخذ أهبة الحرب واستعد للقاء. واحتشد زناتة أهل ممالكه بالشرق من بني عبد الواد وبني راشد ومغراوة وأحلافهم من العرب زغبة. فلج في ذلك واستكبر، وصم عن إسعافهم. وزحف في جموعه والتقى الجمعان بوادي ايسلى من بسائط وجدة، والسلطان أبو يوسف قد عبأ كتائبه، ورتب مصافه. وجعل ولديه الأميرين أبي مالك وأبي يعقوب في الجناحين. وسار في القلب، فدارت بينهم حرب شديدة، انجلت عن مهلك فارس بن يغمراسن، وجماعة من بني عبد الواد. وكاثرتهم حشود المغرب الأقصى وقبائله، وعسكر الموحّدين والبلاد المراكشية، فولوا الأدبار. وهلك عامة عسكر الروم لثباتهم بثبات السلطان، فطحنتهم رحى الحرب. وتقبض على قائدهم بيرنبس. ونجا يغمراسن بن زيان في ففه مدافعا دون أهله إلى تلمسان. ومرّ بفماطيطة، فأضرمها نارا. وانتهب معسكره، واستبيحت حرمه. وأقام السلطان أبو يوسف على وجدة حتى خربها، وأضرع بالتراب أسوارها، وألصق بالرغام جدرانها. ثم نهض إلى تلمسان، فحاصرها أياما وأطلق الأيدي في ساحاتها بالنهب والعيث. وشن الغارات على البسائط، فاكتسحها سبيا ونسفها نسفا. وهلك في طريقه إلى تلمسان وزيره عيسى بن ماساي، وكان من علية وزرائه وحماة ميدانه، له في ذلك أخبار مذكورة. وكان مهلكه في شوال من هذه السنة. ووصله بمثواه من حصارها محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، ومستصرخه على بني عبد الواد، لما نال منه يغمراسن من صيم القهر وذل الغلب والتحيف. وصله في كافة قبيله مباهياً بآلته، فأكرم السلطان أبو يوسف وفادته، واستركب الناس للقائه وبرور مقدمه. واتخذوا زينة السلاح لمباهاته. وأقام محاصرا لتلمسان معه أياماً حتى وقع اليأس وامتنع البلد، واشتدت شوكة حاميته. ثم أجمع السلطان أبو يوسف على الإفراج عنها، وأشار على الأمير محمد بن عبد القوي وقومه بالفصول قبل قفوله، وأن يغذوا السير إلى
بلادهم. وملأ حقائبهم بإتحافه، وجنب لهم ماية من المقربات بمراكبها، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب. وعمهم بالصلات من الخلع والكساء الفاخرة. واستكثر لهم السلاح والفازات والفساطيط، وحملهم على الظهر، وارتحلوا وتلوم السلطان أياما لمنجاتهم إلى مقرهم من جبل وانشريش حذرا من غائلة يغمراسن في انتهاز فرصة فيهم.
ثم قفل إلى فاس ودخلها مفتتح إحدى وسبعين. وهلك ولده الأمير أبو مالك ولي
عهده لأيام من مقدمه. فأسف لمهلكه. ثم تعزى بالصبر الجميل عن فقده، ورجع إلى حاله في افتتاح بلاد المغرب. وكان في غزوته هذه ملك حصن تاونت، وهو معقل مطغرة، وشحنه بالأقوات لما رآه ثغرا مجاورا لعدوه. وأسلمه لنظر هارون شيخ مطغرة. ثم ملك حصن مليلة بساحل الريف مرجعه من غزاته هذه. وأقام هارون بحصن تاونت، ودعا لنفسه. ولم يزل يغمراسن يردد الغزو إليه حتى فر من الحصن وأسلمه سنة خمس وسبعين. ولحق بالسلطان أبي يوسف كما ذكرناه في أخباره عند ذكر قبيلة مطغرة. وكان من شأنه ما ذكرناه هنالك.
الخبر عن افتتاح مدينة طنجة وطاعة أهل سبتة وفرض الأتاوة عليهم وما قارن ذلك من الأحداث:
كانت هاتان المدينتان سبتة وطنجة، مذ أول دولة الموحّدين من أعظم عمالاتهم وأكبر ممالكهم، بما كانت ثغر العدوة ومرقى الأساطيل، ودار إنشاءة الآلة البحرية، وفرضة الجواز إلى الجهاد. فكانت ولايتها مختصة بالقرابة من السادة بني عبد المؤمن. وقد ذكرنا أن الرشيد كان عقد على أعمالها لأبي علي بن خلاس من أهل بلنسية، وأنه بعد استفحال الأمير أبي زكريا بإفريقية، ومهلك الرشيد، صرف الدعوة إليه سنة أربعين. وبعث إليه بالمال والبيعة مع ابنه أبي القاسم. وولى على طنجة يوسف بن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمداني المعروف بابن الأمين، قائدا على الرجل الأندلسيين، وضابطا للقصبة. وعقد الأمير أبو زكريا على سبتة لأبي يحيى بن أبي زكريا، ابن عفه يحيى الشهيد، ابن الشيخ أبي حفص فنزل بها. فاستراب أبو علي بن خلاص من العواقب عند مهلك ابنه الوافد على السلطان غريقا في البحر، فرحل بجملته إلى تونس في السفن. وأراح ببجاية، فكان فيها هلاكه سنة ست وأربعين. ويقال بل
هلك في سفينته، ودفن ببجاية. ولما هلك الأمير أبو زكريا في سنة سبع بعدها انتقض أهل سبتة على ابنه المستنصر، وطردوا ابن الشهيد، وقتلوا العضال الذين كانوا معه، وصرفوا الدعوة إلى المرتضى. وتولى كبر ذلك حجبون الزنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي كبير المشيخة بسبتة، وأعظم تجلة. ونشأ في حجر أبيه الفقيه الصالح أبي العبّاس أحمد مكفوفا بالجلالة، مغذواً بالعلم والدين، بما كان له فيهما. قدم إلى أن هلك. فأوجب أهل البلد لابنه ما عرفوه لحقه وحق أبيه من قبله، فكانوا يفزعون إليه في المهمات. ويسلمون له في الشورى، فأغري الزنداحي بهذه الفعلة ففعلها، فعقد المرتضى لأبي القاسم العزفي على سبتة مستقلا من غير إشراف أحد من السادة ولا من الموحدين. واكتفى بغنائه في ذلك الثغر. وعقد لحجبون الزنداحي على قيادة الأساطيل بالمغرب، فورثها عنه بنوه إلى أن زاحمهم العزفي بمناكب رياسته، فقوضوا عن سبتة: فمنهم من نزل بمالقة على بني الأحمر، ومنهم من نزل ببجاية على آل أبي حفص. ولهم في الدولتين آثار تشهد برياستهم. واستقل الفقيه أبو القاسم العزفي برياسة سبتة، وأورثها بنيه من بعده على ما نذكره بعد. وكانت طنجة تالية سبتة في سائر الأحوال وتبعاً لها، فاتبع ابن الأمين صاحبها أمارة الفقيه أبي القاسم. ثم انتقض عليه لسنته واستبد، وخطب لابن أبي حفص، ثم للعباسي، ثم لنفسه. وسلك فيها مسلك العزفي في سبتة. ولبثوا كذلك ما شاء الله حتى إذا ملك بنو مرين المغرب، وانبثوا في شعابه، ومدوا اليد إلى ممالكه فتناولوها، ونازلوا معاقله وحصونه فاقتحموها. وهلك الأمير أبو يحيى بن عبد الحق وابنه عمر من بعده. وتحيز بنوه في ذويهم وأتباعهم وحشمهم إلى ناحية طنجة وأصيلا، فأوطنوا ضاحيتها، وأفسدوا سابلتها، وضيقوا على ساكنها، واكتسحوا ما حواليها. وشارطهم ابن الأمين على خراج معلوم، على أن يكفوا الأذية، ويحموا الحوزة، ويصلحوا السابلة. فاتصلت يده بأيديهم، وترددوا إلى البلد لاقتضاء حاجاتهم. ثم مكروا وأضمروا الغدر. ودخلوا في بعضى أيامهم متأبطين السلاح، وفتكوا بابن الأمين غيلة، فثارت به العامة لحينهم. واستلحموا لمصرع واحد سنة وستين. واجتمعوا إلى ولده وبقيت في ملكتهم خمسة أشهر. ثم استولى عليها العزفي، فنهض إليها بعساكره من الرجل برأ وبحرا واستولى عليها. وفر ابن الأمين، ولحق بتونس، ونزل على المستنصر. واستقرت طنجة في إيالة
العزفي، فضبطها وقام بأمرها، وولى عليها من قبله. وأشرك الملأ من إشرافه في الشورى. ونازلها الأمير أبو مالك سنة ست وستين، فامتنعت عليه. وأقامت على ذلك ستاً، حتى إذا انتظم السلطان أبو يوسف بلاد المغرب في ملكته، واستولى على حضرة مراكش، ومحا دولة بني عبد المؤمن، وفرغ من أمر عدوه يغمراسن، وهم بتلك الناحية واستضافة عملها، فأجمع الحركة إليها ونازل طنجة مفتتح اثنتين وسبعين، بما كانت في البسيط من دون سبتة، وأقام عليها أياما. ثم اعتزم على الإفراج، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وافترق بينهم. وتنادى بعض الناشبة من السور بشعاب بني مرين، فبادر سرعان الناس إلى تسور حيطانها، فملكوه عليهم وقاتلوا أهل البلد ظلام ليلتهم. ثم دخلوا البلد من صبيحتها عنوة، ونادى منادي السلطان في الناس بالأمان والعفو عن أهل البلد، فسكن ومهد وفرغ من شأن طنجة. ثم بعث ولده الأمير أبا يعقوب في عساكر ضخمة، لمنازلة العزفي بسبتة، وإرغامه على الطاعة، فنازلها أياما، ثم لاذ بالطاعة على المنعة. واشترط على نفسه خراجاً يؤديه كل سنة، فتقبل السلطان منه. وأفرجت عساكره عنهم، وقفل إلى حضرته. وصرف نظره إلى فتح سجلماسة، وإزعاج بني عبد الواد المتغلبين عليها، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن فتح سجلماسة الثاني ودخولها عنوة علي بني عبد الواد والمنبات من عرب المعقل: قد ذكرنا ما كان من تغلب الأمير أبي يحيى بن عبد الحق على مدينة سجلماسة وبلاد درعة، وأنه عقد عليها وعلى سائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن، وأنزل معه ابنه مفتاحا المكنى بأبي حديد في مشيخة لحياطتها. وأن المرتضى سرح وزيره ابن عطوش سنة أربع وخمسين في العساكر لاسترجاعها، فنهض إليه الأمير أبو يحيى وشرده عنها ورجعه على عقبه. وأن يغمراسن بن زيان، من بعد واقعة أبي سليط سنة خمس وخمسين، قصدها لعورة دل عليها، وغرة أمل أصابتها. فسابقه إليها أبو يحيى، ومانعه من دونها، ورجع عنها خائب المسعى، مفلول الحامية. وكان الأمير أبو يحيى من بعد ما عهد عليها ليوسف بن يزكاسن، عقد عليها من بعده لسنة ونصفها من ولايته ليحيى بن أبى منديل كبير بني عسكرأقتالهم، ومقاسميهم نسب محمد بن ورصيص ثم عقد عليها
لشهرين لمحمد بن عمران بن عبلة من بني يرنيان صنائع دولتهم. واستعمل معه على الجباية أبا طالب بن الحبسي، وجعل مصلحة الجند بها إلى نظر أبي يحيى القطراني، وملكه قيادتهم. وأقاموا على ذلك سنتين اثنتين. ولما هلك الأمير أبو يحيى، وشغل السلطان أبو يوسف بحرب يغمراسن، ومنازلة مراكش، سما للقطراني أمل في الاستبداد بها ودخل في ذلك بعض أهل الفتن وظاهره يوسف بن فرج العزفي وفتكوا بعمار الورندغزاني شيخ الجماعة بالبلد. وائتمروا بمحمد بن عمران بن عبلة، فخرج ولحق بالسلطان، فاستبد القطراني بها. ثم ثار به أهل البلد سنة ثمان وخمسين، لسنة ونصفها من لدن استبداده، وقتلوه. وصرفوا بيعتهم إلى الخليفة المرتضى بمراكش. وتولى كبر ذلك القاضي ابن حجاج وعلي بن عمر، فعقد له المرتضى عليهم. وأقام بها أميرا. ونازلته عساكر بني مرين والسلطان أبو يوسف سنة ستين. ونصب عليها آلات الحصار، فأحرقوها وامتنعوا، فأفرج عنهم. وأقام علي بن عمر في سلطانه ذلك ثلاث سنين، ثم هلك. وكان الأمير يغمراسن بن زيان، منذ غلب الموحّدين على تلمسان والمغرب الأوسط، وصار في ملكته، تحيز إليه من عرب المعقل قبيل المنبات من ذوي منصور، بما كانت مجالات المعقل مجاورة لمجالات بني بادين في القفر. وإنما ارتحلوا عنها من بعد ما جأجأ يغمراسن ببني عامر من مجالاتهم بمصاب ببلاد بني يزيد، فزاحموا المعقل بالمناكب عن مجالاتهم ببلاد فيكيك وصا. ورحلوهم إلى ملوية وما وراءها من بلاد سجلماسة، فملكوا تلك المجالات. ونبذ يغمراسن العهد إلى ذوي عبيد الله منهم. واستخلص المنبات هؤلاء، فكانوا له حلفا وشيعة ولقومه ودعوته خالصة. وكانت سجلماسة في مجالاتهم، ومنقلب ظعنهم وناجعتهم، ولهم فيها طاعة معروفة. فلما هلك علي بن عمر آثروا يغمراسن بملكها، فحملوا أهل البلد على القيام بدعوته. وخاطبوه وجأجأوا به، فغشيهم بعساكره وملكها وضبطها. وعقد عليها لعبد الملك بن محمد بن علي بن قاسم بن درع من ولد محمد بن زكدان بن تيدوكسن، ويعرف، بابن حنينة نسبة إلى أم أبيه أخت يغمراسن بن حمامة. وأنزل معهما ولده الأمير يحيى لا"قامة الرسم الملوكي. ثم أداله بأخيه من السنة الأخرى وكذا كان شأنه في كل سنة. ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب، وانتظم أمصاره ومعاقله في طاعته، وغلب بني عبد المؤمن على دار خلافتهم، ومحا رسمهم، وافتتح
طنجة، وطوع سبتة مرقى الجواز إلى العدوة وثغر المغرب، سما أمله إلى بلاد القبلة، فوجه عزمه إلى انتزاع سجلماسة من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر، والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين. فنازلها وتد حشد إليها أهل المغرب أجمع، من زناتة والعرب والبربر، وكافة الجنود والعب عساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرادات، وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانه أمام النار الموقدة في البارود، بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة باريها. فأقام عليها حولا كريتا يغاديها القتال ويراوحها، إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليه. فبادروا إلى اقتحام البلد، فدخلوها عنوة من تلك الفرجة في صفر من سنة ثلاث وسبعين. فقتلوا المقاتلة والحامية، وسبوا الرعية، وقتل القائدان عبد الملك بن حنينة ويغمراسن بن حمامة، ومن كان معهم من بني عبد الواد وامراء المنبات. وكمل فتح بلاد المغرب للسلطان أبي بوسف، وتمشت طاعته في أقطاره. فلم يبق فيه معقل يدين بغير دعوته، ولا جماعة تتحيز إلى غيرفيئته، ولا أمل ينصرف إلى سواه، ولما كملت له نعم الله في استيساق ملكه وتمهيد أمره، انصرف أمله إلى الغزو وإيثار طاعة الله بجهاد أعدائه، واستنقاذ المستضعفين وراء البحر من عباده على ما نذكر. ولما انكفأ راجعا من سجلماسة، قصد مراكش من حيث جاء. ثم قفل إلى سلا، فأراح بها أياما، ونظر في شؤونها، وسد ثغرها. وبلغه الخبر بوفادة أبي طالب ابن صاحب سبتة الفقيه أبي القاسم العزفي على فاس، فأكد السبر إلى حضرته، وأكرم وفادته، وأحسن منقلبه إلى أبيه، مملوء الحقائب ببرة، رطب اللسان بشكره. ثم شرع في إجازة ولده إلى العدو، كما نذكر الآن إن شاء الله نعالى. الخبر عن شأن الجهاد وظهور السلطان أبي يوسف علي النصاري وقتل زعيمهم دننه وما قارن ذلك: كانت عدوة الأندلس مذ أول الفتح ثغرا للمسلمين، فيه جهادهم ورباطهم ومدارج شهادتهم وسبيل سعادتهم. وكانت مواطنهم فيه على مثل الرضف، وبين الظفر والناب من أسود الكفر، لتوفر أمتهم في جوارها، وأحاطتهم بها من جميع جهاتها وحجز البحر
بينهم وبين إخوانهم المسلمين. وقد كان عمر بن عبد العزيز رأى أن يخرج المسلمين منها لانقطاعهم عن قومهم وأهل دينهم، وبعدهم عن الصريخ. وشاور في ذلك كبار التابعين وأشراف العرب، فرأوه رأياً. واعتزم عليها لولا ما اعتاقه من المنية. وعلى ذلك، فكان للإسلام فيها اعتزاز على من جاورهم من أهل الكفر، بطول دولة العرب من قريش ومضر واليمن. وكانت نهاية عزهم وسورة غلبهم أيام بني امية بها، الطائرة الذكر، الباسطة جناحها على العدوتين منذ ثلاث مئين من السنين، أو ما يقاربها. حتى انتثر سلكها بعد الماية الرابعة من الهجرة، وافترقت الجماعة طوائف، وفشلت ريح المسلمين وراء البحر بفناء دولة العرب. واعتز البربر بالمغرب، واستفحل شأنهم. وجاء دولة المرابطين، فجمعت ما كان مفترقا بالمغرب من كلمة الإسلام. وتمسكوا بالسنة، وتشوفوا إلى الجهاد. واستدعاهم إخوانهم من وراء البحر للمدافعة عنهم، فأجازوا إليهم وأبلوا في جهاد العدو أحسن بلاء. وأوقعوا بالطاغية ابن أذفونش يوم الزلاقة وغيرها. وفتحوا حصوناً واسترجعوا أخرى. واستنزلوا الثوار ملوك الطوائف، وجمعوا الكلمة بالعدوتين. وجاء على أثرهم الموحدون سالكين أحسن مذاهبهم، فكانت لهم في الجهاد آثار على الطاغية وأيام: منها يوم الأرك ليعقوب المنصور، وغيره من الأيام. حتى إذا فشلت ريح الموحدين، وافترقت كلمتهم. وتنازع الأمر سادة بني عبد المؤمن الأمراء بالأندلس، وتحاربوا على الخلافة. واستجاشوا بالطاغية وأمكنوه من كثير من حصون المسلمين طعمة على الاستظهاه، فخشي أهل الأندلس على أنفسهم وثاروا بالموحّدين وأخرجوهم. وتولى كبر ذلك ابن هود بمراسية، وشرق الأندلس. وعم بدعوته سائر أقطارها، وأقام فيها الدعوة للعباسيين، وخاطبهم ببغداد كما ذكرناه في أخباره، واستوفينا كلا مما وصفناه في مكانه. ثم عجز ابن هود عن الغربية لبعدها عنه، وفقده للعصابة المتناولة لها، وأنه لم تكن صنعته في الملك مستحكمة. وتكالب الطاغية على الأندلس من كل جهة. وكثر اختلاف المسلمين بينهم. وشغل بنو عبد المؤمن بما دهم المغرب من شأن بني مرين وزناتة، فتلافى محمد بن يوسف بن الأحمر أمر الغربية، وثار بحصنه أرجونة. وكان شجاعا قدما ثبتا في الحروب، فتلقف الكرة من يد ابن هود. خلع الدعوة العباسية، ودعا للأمير أبي زكريا بن أبي حفص سنة تسع وعشرين. فلم يزل في فتنة ابن هود
يجاذبه الحبل ويقارعه على عمالات الاندلس واحدة بعد أخرى، إلى أن هلك ابن هود سنة خمس وثلاثين. وتكالب العدو خلال ذلك على جزيرة الأندلس من كل جانب. ووفر له ابن هود في الجزية، وبلغ بها أربعماية ألف من الدنانير في كل سنة. ونزل له عن ثلاثين من حصون المسلمين. وخشي ابن الأحمر أن يستغلظ عليه بالطاغية، فجنح هو إليه وتمسك بعروته، ونفر في جملته إلى منازلة إشبيلية نكاية لأهلها. ولما هلك الأمير أبو زكريا نبذت دعوة الحفصية، واستبد لنفسه، وتسمى بأمير المسلمين. ونازعه بالشرق أعقاب ابن هود، وبنو مردنيش. ودعاه الأمر إلى النزول للطاغية عن بلاد الفرنتيرة، تول عنها بأسرها. وكانت هذه المدة من سنة اثنتين وعشرين، إلى سنة سبعين، فترة ضاعت فيها ثغور المسلمين، واستبيح حماهم، والتهم العدو بلادهم وأموالهم نهبا في الحرب، ووضيعة ومداراة في السلم. واستولى طواغيت الكفر على أمصارها وقواعدها، فملك ابن أذفونش قرطبة سنة ست وثلاثين، وجيان سنة أربع وأربعين، وإشبيلية سنة ست وأربعين. وتملك قمص برشلونة مدينة بلنسية سنة سبع وثلاثين، إلى ما بينها من الحصون والقواعد والمعاقل، التي لا تعد ولا تحصى. وانقرض أمر الثوار بالشرق وتفرد ابن الأحمر بغرب الأندلس، وضاق نطاقه عن الممانعة دون البسائط الفيح من أرض الفرنتيرة وما قاربها. ورأى أن التمسك بها مع قلة العدد وضعف الشوكة مما يوهن أمره ويطمع فيه عدؤه، فعقد السلم للطاغية على النزول عنها أجمع. ولجأ بالمسلمين إلى سيف البحر معتصمين بأوعاره من عدوهم. واختار لنزله مدينة غرناطة. وابتنى بها لسكناه حصن الحمراء حسبما شرحنا ذلك كله في مواضعه. وفي أثناء هذا كله لم يزل صريخه ينادي بالمسلمين من وراء البحر، والملأ من أهل الأندلس يفدون على أمير المسلمين أبي يوسف للإعانة ونصر الملة، واستنقاذ الحرم والولدان من أنياب العدو. فلا يجد مفزعا إلى ذلك بما كان فيه من مجاذبة ا أحبل مع الموحدين، ثم مع يغمراسن. ثم تشغله بفتح بلاد المغرب وتدويخ أقطاره، إلى أن هلك السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الأحمر، المعروف بالشيخ وبأبي دبوس، لقبين كانا له على حين استكمل أمير المسلمين فتح المغرب وفراغه من شأن عدوه سنة إحدى وسبعين. على أن بني مرين كانوا يؤثرون الجهاد ويسمون إليه، وفي نفوسهم جنوح إليه وصاغية.
ولما استوحش بنو إدريس بن عبد الحق، وخرجوا سنة إحدى وستين على السلطان يعقوب بن عبد الحق واستصلحهم، انتدب الكثير منهم للغزو وإجازة البحر لصريخ المسلمين بالأندلس. واجتمع إليهم من مطوعة بني مرين عسكر ضخم من الغزاة، ثلاثة آلاف أو يزيدون. وعقد السلطان على ذلك العسكر لعامر بن إدريس، وفصلوا إلى الأندلس، فكان لهم فيها ذكر ونكاية في العدو. وكان الشيخ ابن الأحمر عهد إلى ولده القائم بإلأمر من بعده محمد، الشهير بالفقيه، لانتحاله طلب العلم أيام أبيه. وأوصاه بأن يتمسك بعروة أمير المسلمين، ويخطب نصره، ويدرأ به وبقومه عن نفسه وعن المسلمين تكالب الطاغية فبادر لذلك حين مواراة أبيه، وأوفد مشيخة الأندلس كافة عليه، ولقيه وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة، خاتم الفتوح بالثغور المغربية ومقاد الملك. وتنادوا للإسلام بالثأر، وألقوا إليه كنه الخبر عن كلب العدو على المسلمين، وثقل وطأته، فحيا وفادتهم وبر وساهم. وبادر لإجابة داعي الله واستنام الجنة. وكان أمير المسلمين منذ أول أمره مؤثرا عمل الجهاد، كلفا به مختارا له متى اعطي الخيار من سائر آماله. حتى لقد كان اعتزم على الغزو إلى الأندلس أيام أخيه الأمير أبي يحيى، وطلب إذنه في ذلك عندما ملكوا مكناسة سنة ثلاث وأربعين فلم يأذن له. وفصل إلى الغزو في حشمه وذويه ومن أطاعه من عشيره. وأوعز الأمير أبو يحيى لصاحب الأمر بسبتة لذلك العهد أبي علي بن خلاص بأن يمنعه الإجازة، ويقطع عنه أسبابها. ولما انتهى إلى قصر الجواز ثنى عزمه عن ذلك الولي يعقوب بن هارون الخيري، ووعده بالجهاد أميرا مستنصرا للمسلمين ظاهرا على العدو، فكان في نفسه من ذلك شغل وإليه صاغية. فلما قدم عليه هذا الوفد نبهوا عزائمه وذكوا همته، فأعمل في الاحتشاد وبعث في النفير. ونهض من فاس في شهر شوال من سنة ثلاث وسبعين إلى فرضة المجاز من طنجة. وجهز خمسة آلاف من قومه أزاح عللهم واستوفى عطاءهم وعقد عليهم لابنه منديل وأعطاه الراية. واستدعى من العزفي صاحب سبتة السفن لإجازتهم، فوافاه بقصر الجواز عشرون من الأساطيل، فأجاز العسكر ونزل بطريف. وأراح ثلاثا، ودخل دار الحرب، وتوغل فيها، وأجلب على ثغورها وبسائطها. وامتلأت أيديهم من الغنائم، وأثخنوا بالقتل والأسر وتخريب العمران ونسف الآثار. حتى نزل بساحة شريش، فخام حاميتها عن اللقاء وانحجزوا في البلد، فقفل عنها إلى الجزيرة، وقد امتلأت أيديهم من
الأموال وحقائبهم من السبي وركابهم من الكراع والسلاح. ورأى أهل الأندلس أن قد ثاروا بعام العقاب، حتى جاءت بعدها الطامة الكبرى على أهل الكفر. واتصل الخبر بأمير المسلمين، فاعتزم على الغزو بنفسه وخشي على ثغور بلاده من عادية يغمراسن في الفتنة، فبعث حافده تاشفين بن عبد الواحد في وفد من بني مرين لعقد السلم مع يغمراسن، والرجوع إلى الاتفاق والموادعة. ووضع أوزار الحرب بين المسلمين للقيام بوظيفة الجهاد، فأكبر موصله وموصل قومه. وبادر إلى الإجابة والألفة، وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السلطان لعقد السلم. وبعث معهم الرسل، وأسنى الهدية. وجمع الله كلمة المسلمين. وعظم موقع هذا السلم من أمير المسلمين لما كان في نفسه من الصاغية إلى الجهاد، وإيثاره مبرورات الأعمال. وبث الصدقات بشكر الله على ما منحه من التفرع لذلك. ثم استنفر الكافة، واحتشد القبائل والجموع، ودعا المسلمين إلى الجهاد. وخاطب في ذلك كافة أهل المغرب من زناتة والعرب والموحّدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأوربة ومكناسة، وجميع قبائل البرابرة، وأهل المغرب من المرتزقة والمطوعة. وأهاب بهم وشرع في إجازة البحر، فأجازه من فرضة طنجة لصفر من سنة أربع وسبعين. واحتل بساحل طريف. وكان لما استصرخه السلطان ابن الأحمر، وأوفد عليه مشائخ الأندلس، اشترط عليه النزول عن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره، فتجافى له عن رندة وطريف. ولما احتل بطنجة، بادر إليه ابن هشام الثائر بالجزيرة الخضراء، أجاز البحر إليه. ولقيه بظاهر طنجة، فأدى له طاعته وأمكنه من قياد بلده وكان الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة وأخوه أبو إسحاق صهر السلطان بن الأحمر تبعا له في أمره ومؤازرا على شأنه كله. وأبوهما أبو الحسن هو الذي تولى له كبر النورة على ابن هود، ومداخلة أهل إشبيلية في الفتك بابن الباجي. فلما استوت قدمه في ملكه، وغلب الثوار بالأندلس، واستوى على أمره، فسد ما بينهما بعد أن كان ولى أبا محمد على مالقة، وأبا إسحاق على وادي آش، فامتنع أبو محمد بن أشقيلولة بمالقة واستأثر بها وبغربيتها دونه. ومع ذلك كانوا على الطاغية فيئة ولحمة. ولما أحس أبو محمد بن أشقيلولة بإجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق، قدم إليه الوفد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم، وانحاش إلى جانب السلطان وولايته، وأمحضه المخالصة والنصيحة. فلما احتل السلطان بساحة طريف
ملأت كتائبه ساحة الأرض ما بينها وبين الجزيرة، وتسابق السلطان ابن الأحمر، وهو محمد الفقيه بن محمد الشيخ أبي دبوس صاحب غرناطة والرئيس أبو محمد أشقيلولة صاحب مالقة والغربية، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش إلى لقاء السلطان. وتناغوا في برور مقدمه والإذعان له ففاوضهما في أمور الجهاد ورجعهما لحينه إلى بلادهما. وانصرف ابن الاحمر مغضبا ببعض النزعات أحفظته. وأغذ السلطان السير إلى الفرنتيرة، وعقد لولده الأمير أبي يعقوب على خمسة آلاف من عسكره. وسرح كتائبه في البسائط. وخلال المعاقل، ينسف الزرع، وتحطم الغروس، ويخرب العمران، وتنتهب الأموال، وتكتسح السرح، وتقاتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية. حتى انتهى إلى المدور وبايسة وأبدة واقتحم حصن بلمة عنوة. وأتى على سائر الحصون في طريقه، فطمس معالمها واكتسح أموالها. وقفل والأرض تموج سبيا إلى أن عرس بأستجة من تخوم دار الحرب. وجاءه النذير باتباع العدو آثارهم لاستنقاذ أسراهم وارتجاع أموالهم. وإن زعيم الروم وعظيمهم دننه خرج في طلبهم بأمم بلاد النصرانية من المحتلم فما فوقه. فقدم السلطان الغنائم بين يديه، وسرح ألفا من الفرسان أمامها سار يقفيها. حتى إذا أطلت رايات العدو من ورائهم كان الزحف، فرتب المصاف وحرض وذكر. وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها، وتحركت هممها، وأبلت في طاعة ربها والذب عن دينها. وجاءت بما يعرف من بأسها وبلائها في مقاماتها ومواقعها. ولم يك إلا كلا ولا، حتى هبت ريح النصر، وظهر أمر الله، وانكشف جموع النصرانية، وقتل الزعيم دننه والكثير من جموع أهل الكفر. ومنح الله المسلمين أكتافهم، واحتل القتل فيهم. وأحصي القتلى في المعركة، فكانوا ستة آلاف. واستشهد من المسلمين ما يناهز ثلاثين أكرمهم الله بالشهادة، وآثرهم بما عنده. ونصر الله حزبه وأعز أولياءه وأظهر دينه، وبدا للعدو ما لم يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملة وقيامهم بنصر الكلمة. وبعث أمير المسلمين برأس الزعيم دننه إلى ابن الأحمر، فرده زعموا سرا إلى قومه، بعد أن طيبه وأكرمه، ولاية أخلصها لهم، مداراة وانحرافا عن أمير المسلمين، ظهرت شواهده عليه بعد حين كما نذكره. وقفل أمير المسلمين من غزاته إلى الجزيرة منتصف ربيع من سنته، فقسم في المجاهدين الغنائم، وما نفله الله من أموال عدوهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم، بعد الاستيثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب والسنة ليصرفه في مصارفه. ويقال كان مبلغ الغنائم في هذه
الغزاة من البقر ماية ألف وأربعة وعشرين ألفا، ومن الأسرى سبعة آلاف وثمانماية وثلاثين، ومن الكراع أربعة عشر ألفا وستماية. وأما الغنم فاتسعت عن الحصر كثرة، حتى لقد زعموا بيعت الشاة في الجزيرة بدرهم واحد. وكذلك السلاح. وأقام أمير المسلمين بالجزيرة أياما. ثم خرج لجمادى غازيا إلى إشبيلية، فجاس خلالها وتقرى نواحيها وأقطارها. وأثخن بالقتل والنهب في جهاتها وعمرانها. وارتحل إلى شريش، فأذاقها وبال العيث والاكتساح. ورجع إلى الجزيرة لشهرين من غزاته. ونظر في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزل عسكره، منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العساكر وجفائهم. وتخير لها مكانا لصق الجزيرة، فأوعز ببناء المدينة جوارها المشهورة بالبنية. وجعل ذلك إلى نظر من وثق به من دونه. ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب سنة أربع وسبعين، فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر. واحتل بقصر مصمودة، وأمر ببناء السور على بادس مرفاً الجواز ببلاد غمارة. وتولى ذلك إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف بن محيو. ثم رحل إلى فاس، فدخلها في شعبان. وصرف النظر إلى أحوال دولته واختطاط البلد الجديد لنزله، ونزل حاشيته، واستنزال الثوار عليه بالمغرب، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن اختطاط البلد الجديد بفاس وما كان علي تفيئة ذلك من الأحداث:
لما قفل أمير المسلمين من غزاته الجهادئة، وتم صنع الله لديه في ظهور الإسلام
يده، واعتزاز أهل الأندلس بفيئته، راح بالمغرب إلى نعمة أخرى من ظهور أوليائه، وحسم أدواء الفساد في دولته، شفعت مواهب السعادة، وأكملت عوائد الصنع. وذلك أن صبابة بني عبد المؤمن وفلهم، لما فروا من مراكش عند الفتح، لحقوا بجبل تينملل جرثومة أمرهم، ومنبعث دعوتهم، وملاحد خلفائهم، وحضرة سلفهم، ودار إمامهم، ومسجد مهديهم. كانوا يعكفون عليه متيمنين بطيره، ملتمسين بركة زيارته. ويقدمون ذلك أمام غزولتهم قربة بين يدي أعمالهم، يعتدونها من صالح مساعيهم. فلما خلص الفل إليه اعتصموا بمعقله، وأووا إلى وكونه، ونصبوا للقيام بأمرهم عيصاً من أعياص خلفائهم بني عبد المؤمن، ضعيف المنية خاسر الصفقة من مواهب الحظ، وهو إسحاق.أخو عمر المرتضى. وبايعوه سنة تسع وستين، يرجون منه رجع الكرة، وإدالة الدولة.
وكان المتولي لكبر ذلك وزير دولتهم ابن عطوش. ولما عقد السلطان يعقوب بن عبد الحق لمحمد بن علي بن محلى على أعمال مراكش، لم يقدم عملا على محاربتهم، وتخذيل الناس عنهم، واستمالة أشياعهم. وجمعوا له سنة أربع وسبعين على غرة ظنوها، فأوقع بهم وفل من غربهم. ثم صمد إلى الجبلى لشهر ربيع من سنته، فافتض عذرته وفض ختامه، واقتحمه عليهم عنوة بعد مداولة النزال والحرب. وهلك الوزير ابن عطوش في جوانب الملحمة، وتقبض على خليفتهم المستضعف وابن عمه أبي سعيد بن السيد أبي الربيع ومن معهما من الأولياء. وجنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة من مراكش، فضربت أعناقهم وصلبت أشلاؤهم. وكان فيمن قتل منهم كاتبه القبائلي وأولاده. وعاثت العساكر في جبل تينملل واكتسحت أمواله. وبعثرت قبور الخلفاء من بني عبد المؤمن. واستخرج شلو يوسف وابنه يعقوب المنصور، فقطعت رؤوسهم. وتولى كبر ذلك أبو علي الملياني النازع إلى السلطان أبي يوسف من مليانة عش غوايته، وموطن انتزائه كما قدمناه. وكان السلطان أقطعه بلد أغمات إكراما لوفادته، فحضر هذه الغزاة في جملة العساكر. ورأى أن قد شفا نفسه بإخراج هؤلاء الخلفاء من أرماسهم، والعيث بأشلائهم، لما نقم منه الموحدون. وأزعجوه من قراره فنكرها السلطان لجلاله. وتجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته وجواره، وعدها من هناته. ولما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة، وقطع دابر بني عبد المؤمن، فتظاهر السرور لديه، وارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه. ولما سكن غرب الثوار، وتمهد أمر المغرب، ورأى أمير المسلمين أن أمره قد استفحل، وملكه قد استوسق، واتسع نطاق دولته، وعظمت غاشيته وكثر وافده، رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه. فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس، بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه، وشرع في تأسيسها لثالث شوال من سنة أربع وسبعين هذه. وجمع الأيدي عليها، وحشد الصناع والفعلة لبنائها. وأحضر لها الحزى والمعدلين لحركات الكواكب، فاعتاموا في الطوالع النجومية ما يرضون أثره، ورصدوا أوانه. وكان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطان وأبر عبد الله بن الحباك المقدمان في الصناعة، فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي. ونزلها بحاشيته وذويه سنة أربع وسبعين كما ذكرناه. واختطوا بها الدور والمنازل،
وأجرى فيها المياه إلى قصوره، وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام. ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة، فشرع في بنائها من سنته. وكان لحين إجازته البحر قافلاً من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزور نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة، فأغذ إليه السلطان بعساكره وأناخ عليه. واستنزله لشهر على ما سأل من الأمان والرتبة. وحسم الداء من خروجه. واستوزر صنيعته فتح الله السدراتي، وأجرى له رزق الوزارة على عوائدهم. ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي أتحفه بها بين يدي غزاته. وكان شغله عنها أمر الجهاد، فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش، وحكمات مموهة بالذهب والفضة، وثلاثين من البغال الفارهة ذكورا وإناثا بمراكبها الفارسية من السروج، والنسوانية من الولايا، وأحمالا من الأديم المعروف دباغه بالشركسي، إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب وينافسون فيه. وفي سنة خمس وسبعين من بعدها أهدى له محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، وصاحب جبل وانشريش أربعة من الجياد انتقاها من خيل المغرب كافة، ورأى أنها على قلة عددها أحفل هدية. وفي نفسه أثناء هذا كله من الجهاد شغل شاغل يتخطى إليه سائر أعماله حسبما نذكر. الخبر عن إجازة أمير المسلمين ثانية وما كان فيها من الغزوات: لفا قفل أمير المسلمين من غزاته الأول، واستنزل الخوارج وثقف الثغور، وهادى الملوك واختط المدينة لنزله كما ذكرنا ذلك كله. ثم خرج فاتح سنة ست وسبعين إلى جهة مراكش لسد ثغوره، وتثقيف أطرافه. وتوغل في أرض السوس. وبعث وزيره نتح الله بالعساكر، فجاس خلاله، ثم انكفأ راجعاً. وخاطب قبائل المغرب كافة بالنفير الى الجهاد فتباطأوا واستمر على تحريضهم. ونهض إلى رباط الفتح وتلوم بها في انتظار الغزاة وثبطوا، فخص هو في خاضته وحاشيته. واحتل بالفرضة من قصر المجاز. وتلاحق به الناس فأجاز البحر، واحتل بطريف لآخر محرم. ثم ارتحل إلى الجزيرة، ثم إلى رندة. ووافاه هناك الرئيسان أبو إسحاق بن أشقيلولة صاحب قمارش، وأبو محمد صاحب مالقة للغزو معه. وارتحلوا إلى منازلة إشبيلية فعرسوا عليها يوم المولد النبوي. وكان بها ملك الجلالقة ابن أذفونش، فخام عن اللقاء وبرز إلى ساحة البلد محاميا عن أهلها. ورتب أمير المسلمين مصافه، وجعل ولده الأمير أبا يعقوب في المقدمة. وزحف في
التعبية، فأحجز العدو البلد واقتحموا أثرهم الوادي، وأثخنوا فيهم. وباتت العساكر ليلتهم بجولان في متون جيادهم، وقد أضرموا النيران بساحتها. وارتحل من الغد إلى أرض الشرق، وبث السرايا والغوار في سائر النواحي. وأناخ بجمهور العساكر عليها، فلم يزل يتقرى تلك الجهات حتى أباد عمرانها وطمس معالمها. ودخل حصن قطنيانة وحصن جليانة وحصن القليعة عنوة، وأثخن بالقتل والسبي. ثم قفل بالغنائم والأنفال إلى الجزيرة لسرار شهره، فأراح وقسم الغنائم في المجاهدين. ثم خرج غازيا إلى شريش منتصف ربيع الآخر، فنازلها وأذاقها نكال الحرب. وأفقر نواحيها وقطع أشجارها، وأباد غضراءها، وحرق ديارها. ونسف آثارها، وأثخن فيها بالقتل والأسر. وبعث ولده الأمير أبا يعقوب في سرية من معسكره للغوار على إشبيلية وحصون الوادي، فبالغ في النكاية. واكتسح حسن روطة وشلوقة ومليانة والقناطر. ثم صبح إشبيلية بغارة فاكتسحها. وانكفأ إلى أمير المسلمين، فقالوا جميعا إلى الجزيرة وأراح وقسم في المجاهدين غنائمهم. ثم ندب إلى غزو قرطبة، ورغبهم في عمرانها، وثروة ساكنها، وخصب بلادها، فأهطعوا إلى إجابته. وخاطب ابن الأحمر يستنفره. وخرج لأول جمادى من الجزيرة. ووافاه ابن الأحمر بناحية أرشدونة، فكرم وصوله وشكر خفوفه إلى الجهاد وبداره. ونازلوا حصن بني بشير فدخل عنوة، وقتلت المقاتلة وسبيت النساء ونقلت الأموال، وخرب الحصن. ثم بث السرايا والغارات في البسائط، فاكتسحها، وامتلأت الأيدي. وأثرى المعسكر. وتقروا المنازل والعمران في طريقهم، حتى احتلوا بساحة قرطبة فنازلوها، وانحجزت حامية العدو من وراء أسوارها. وانبثت بعوث المسلمين وسراياهم في نواحيها، فنسفوا آثارها، وخربوا عمرانها واكتسحوا قراها وضياعها. وتردد على جهاتها فدخل حصن بركونة عنوة، ثم أرجونة كذلك. وقدم بعثا إلى جيان قاسمها حظها من الخسف والدمار. وخام الطاغية عن اللقاء. وأيقن بخراب عمرانه وتلاف بلاده، فجنح إلى الصلح. وخطبه من أمير المسلمين، فدفعه إلى ابن الأحمر. وجعل الأمر في ذلك إليه تكرمة لمشهده ووفاء بحقه، فأجابهم ابن الأحمر إليه بعد عرضه إلى أمير المسلمين والتماس إذنه فيه وإبداء ما فيه من المصلحة، وجنوح أهل الأندلس إليه منذ المدة الطويلة، فانعقد السلم. وقفل أمير المسلمين من غزاته، وجعل طريقه على غرناطة احتفاء بالسلطان ابن الأحمر. وخرج له عن الغنائم كلها، فاحتوى عليها. ودخل أمير المسلمين إلى الجزيرة في أول
رجب من عام يومئذ، فأراح ونظر في ترتيب المسالح على الثغور، وتملك مالقة كما نذكره. الخبر عن تملك السلطان مدينة مالقة من يد ابن أشقيلولة: كان بنو. أشقيلولة هؤلاء من رؤساء الأندلس المؤملين لمدافعة العدو، وكانوا نظراء لابن الأحمر في الرياسة: وهم أبو محمد عبد الله وأبو إسحاق إبراهيم، ابنا أبي الحسن بن أشقيلولة. وكان أبو محمد منهم صهرا له على ابنته، فكانوا له بذلك خالصة، فأشركهم في أمره. واعتضد بعصابتهم وبأبيهم من قبل على مقاومة ابن هود وسائر الثوار. حتى إذا استمكن من فرصته، واستوى على كرسيه، استبد دونهم وأنزلهم إلى مقامات الوزراء. وعقد لأبي محمد، صهره على ابنته، على مدينة مالقة والغربية. وعقد لأبي الحسن، صهره على أخته، على وادي آش وما إليه. وعقد لابنه أبي إسحاق إبراهيم بن علي على قمارش وما إلى ذلك. ووجدوا في أنفسهم، واستمر الحال على ذلك. ولما هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين، وولي ابنه محمد الفقيه، سموا إلى منازعته. وأوفد أبو محمد صاحب مالقة ابنه أبا سعيد على السلطان يعقوب بن عبد الحق، وهو منازل طنجة. ووفد معه أبو عبد الله بن منديل، فكرم وفادتهما وأحسن موعدهما. وانكفيا راجعين، فبعث الرئيس أبو محمد إلى السلطان بطاعته وبيعة أهل مالقة سنة ثلاث وسبعين، وعقد له عليها. ونزع ابنه أبو سعيد فرج إلى دار الحرب. ثم رجع لسنته، فقتل بمالقة. ولما أجاز السلطان إلى الأندلس إجازته الأولى سنة أربع وسبعين، تلقاه أبو محمد بالجزيرة مع ابن الأحمر، وفاوضهما السلطان في شؤون الجهاد، وردهما إلى أعمالهما. ولما أجاز إجازته الثانية سنة ست وسبعين لقيه بالجزيرة الرئيسان ابنا أشقيلولة أبو محمد صاحب مالفة، وأخوه أبو إسحاق صاحب وادي آش وقمارش، فشهدا معه الغزاة. ولما قفل اعتل أبو محمد صاحب مالقة، ثم هلك غرة جمادى من سنته، فلحق ابنه محمد بالسلطان آخر شهر رمضان. وهو متلوم بالجزيرة مصرفه من الغزو كما ذكرناه، فنزل له عن البلد ودعاه إلى احتيازها، فعقد عليها لابنه أبي زيان منديل، فسار إليها في بعث. وكان ابن أشقيلولة لحين فصوله إلى لقاء السلطان، أمر ابن عمه محمد الأزرق بن أبي الحجاج يوسف بن الزرقاء بإخلال منازل للسلطان
بالقصبة وإعدادها، فتم ذلك لثلاث ليال. وضرب الأمير أبو زيان معسكره بخارجها. وأنفذ محمد بن عمران بن عبلة في رهط من رجال بني مرين إلى القصبة، فنزلها وملك أمر البلد. وكان السلطان ابن الأحمر، لما بلغه وفاة أبي محمد بن أشقيلولة، سما أمله إلى الاستيلاء على مالقة، وأن ابن أخته شيعة له. وبعث لذلك وزيره أبا سلطان عزيز الداني، فوافى معسكر الأمير أبي زيان بساحتها. ورجا أن يتجافى عنها لسلطانه، فأعرض عن ذلك وتجهم له. ودخل إليها لثلاث بقين من رمضان. وانقلب الداني عنها بخفي حنين. ولما قضى السلطان بالجريرة صومه ونسكه، خرج إلى مالقة، فوافاها سادس شوال وبرز إليه أهلها في يوم مشهود، احتفلوا له احتفال أيام الزينة سرورا بمقدم السلطان، ودخولهم في إيالته. وأقام فيهم إلى خاتم سنته. ثم عقد عليها لعمر بن يحيى بن محلى من صنائع دولتهم. وأنزل معه المسالح، وزيان بن أي عياد بن عبد الحق في طائفة لنظره من أبطال بني مرين. واستوصاه بمحمد بن أشقيلولة، وارتحل إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب سنة سبع وسبعين، وقد اهتزت الدنيا لقدومه. وامتلأت القلوب بما كنفه الله من نصر المسلمين بالعدوة، وعلو راية السلطان على كل راية. وعظمت لذلك موجدة ابن الأحمر، ونشأت الفتنة، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن تظاهر ابن الأحمر والطاغية علم منع السلطان أبي يوسف من إجازة البحر وإصفاق يغمراسن بن زيان معهم من وراء البحر علي الأخذ بحجزته عنهم وواقعة السلطان علي يغمراسن بخرزوزة: لما أجاز أمير المسلمين إلى العدوة إجازته الأولى، ولقي العدو بأستجة، وقتل الله دننه بأيدي عسكره. وصنع له من الظهور والعز ما لا كفاء له، ارتاب ابن الأحمر بمكانه، فبدا له من ذلك ما لم يحتسب. وظن بأمير المسلمين الظنون، واعترض ذكره شأن يوسف بن تاشفين والمرابطين مع ابن عباد سلطان الأندلس. وأكد ذلك عنده جنوح الرؤساء من بني أشقيلولة وغيرهم إليه وانقيادهم لأمره، فغص بمكانه وحذر غوائله. وتكدر الجو بينهما. وأجاز إجازته الثانية، فانقبض ابن الأحمر عن لقائه ودارت بينهما مخاطبات شعرية في معنى العتاب على ألسنة كتابهما، نسردها الآن. فمن ذلك قصيدة كتبها إليه ابن الأحمر سنة أربع وسبعين بعد واقعة دننه، واعتزامه على الرجوع إلى
المغرب. فخاطبه بها ليلة الإقامة بالجزيرة حذرا من غائلة العدو، وينحو فيها منحى الاستعطاف، وهي من نظم كاتبه أبي عمر بن المرابط:
هل من معيني في الهوى أو منجدي!
هذا الهوى داع فهل من مسعف؟
هذي سبيل الرشد قد وضحت فهل؟
يرجو النجاة بجنة الفردوس أو
يا آمل النصر العزيزعلى العدى سرالنجاء إلى النجاة مشمرا
يا من يقول غدا أتوب ولا غد لا تغترر بنسيئة الأجل الذي
سفر عليك طويلة أيافه أو ما علمت بأنه لا بد من
هذا الجهاد رئيس أعمال التقى هذا الرباط بأرض أندلس فرح سودت وجهك بالمعاصي فألتمس وامح الخطايا بالدموع فربما من ذا يتوب لربه من ذنبه من ذا يطهر نفسه بعزيمة أتعز من أرض العدو مدائن وتذل أرض المسلمين وتبتلى كم جامع فيها أعيد كنيسة القس والناقوس فوق مناره أسفا عليها أقفرت صلواتها وتعوضت منهم بكل معاند كم من أسير عندهم واشيرة من متهم في الارض أومن منجد بإجابة وإنابة أو مسعد بالعدوتين من امرىء مسترشد يخشى المسير إلى الجحيم الموقد؟ أجب الهدى تسعد به وتؤيد إن الهدى لهو النجاة لمن هدي ألديك علم ان تعيش إلى غد إن لم يحن لك نقده فكان قد لم تستعد لطوله فاستعدد زاد لكل مسافر فتزود خذ منه زادك لارتحالك تسعد منه لما يرضي إلاهك واغتدي وجها للقيا الله غيرمسوّد محت الدموع خطية المتعمد أو يمتدي بنبيه أو يهتدي مشحوذة في نصردين محمد والله في اقطارها لم يعبد بمثلثين سطوا بكل موحد فأهلك عليه أسى فلا تتجفد والخمر والخنزير وسط المسجد من قانتين وراكعين وسجد مستكبرمذ كان لم يتشهد فكلاهما يبغي الفداء فما فدي
كم من عقيلة معشبرمعقولة
كم من وليد بينهم قد ود من
كم من تقيي في السلاسل موثقي
وشهيد معترك توزعه الردى
ضجت ملائكة السماء لحالهم
أفلا تذوب قلوبكم إخواننا
أفلا تراعون الأذمة بيننا
أكذا يعيث الروم في إخوانكم
يا حسرة لحمية الإسلام قد
أين العزائم ما لها لا تنقضي
أبني مرين أنتم جيراننا
فالجار كان به يوصي المصطفى
أبني مرين والقبائل كلها
كتب الجهاد عليكم فتبادروا
وارضوا بإحدى الحسنيين وأقرضوا
هذي الجنان تفتحت أبوابها
من بائع من ربه من مشتر لله في نصرالحنيفة موعد هذي الثغور بكم إليكم تشتكي ما بال شمل المسلمين مبدد أنتم جيوش الله ملء فضائه ما ذا اعتذاركم غداً لنبيكم إن قال لم فرطتم في أمتي لله لو أن العقوبة لم تخف إخواننا صلوا عليه وسلموا واسعوا لنصرة دينه يسفيكم فيهم تود لو أنها في ملحد ولداه ودا أنه لم يولد يبكي لآخرفي الكبول مقيد ما بين حدي ذابل ومهند ورثى لهم من قلبه كالجلمد مما دهانا من ردى أو من ردي من حرمة ومحبة وتودد وسيوفكم للثأر لم تتقلد خمدت وكانت قبل ذات توقد هل يقطع الهندي غيرمجرد وأحق من في صرخة بهم ابتدي جبريل حقا في الصحيح المسند في المغرب الأدنى لنا والأبعد منه إلى فرض الأحق الأوكد حسنا تفوزوا بالحسن الخرد والحور قاعدة لكم بالمرصد منه الحصول على النعيم السرمد صدق فثوروا بانتجاز الموعد شكوى العديم إلى الغنى الأوجد فيها وشمل الكفر غيرمبدد تأسون للدين الغريب المفرد
وطريق هذا العذر غيرممهد
وتركتموهم للعدو المعتدي لكفى الحيا من وجه ذاك السيد وسلوا الشفاعة منه يوم المشهد من حوضه في الحشر أعذب فورد
وصدر جوابها من نظم عبد العزيز شاعر السلطان يعقوب بن عبد الحق بما نصه: لبيك لا تخش اعتداء المعتدي... إلى آخرها: وكذلك أجاب عنها أيضا مالك بن المرحل بقوله: شهد الإله. وأنت يا أرض اشهدي... إلى آخرها. فأجابهم أبو عمر بن المرابط كاتب ابن الأحمر بقوله: قل للبغاة وللعداة الحسد... إلى آخرها. ولما أجاز السلطان يعقوب بن عبد الحق إجازته الثانية سنة ست وسبعين كما نذكره، وصار ابن الأحمر إلى الاستعتاب والرضى ولقي يعقوب بن عبد الحق، فأنشده كاتبه أبو عمر بن المرابط يوم اجتماعهما بقوله: "بشرى لحرب الله والإيمان "... إلى آخرها. ولما انقضى المجلس أمر السلطان شاعره عبد العزيز بمساجلته قصيدته فأنشدها ثاني المجلس بحضرة ابن الأحمر ونصها: "اليوم كن في غبطة وأمان " إلى آخرها. ثم كان أثناء ذلك ما وقع من استيلاء السلطان يعقوب بن عبد الحق على مدينة مالقة والغربية، جل عمله بعد مهلك صاحبها أبي محمد بن أشقيلولة، فبرم لذلك وخيل عليه، ففزع إلى مداخلة الطاغية في شأنه واتصال يده. وأن يعود إلى مكان أبيه من ولايته ليدفع به السلطان وقومه عن أرضه، ويأمن معه من زوال سلطانه، لما كانت كلمة الإسلام حجزا دونه. فاهتبل الطاغية غرتها، وانتكث عهد أمير المسلمين، ونقض السلم، ونبذ إليه العهد. وأغزى أساطيله بالجزيرة الخضراء، حيث مسالح السلطان وعسكره. وأرست بالزقاق حيث فراض الجواز. وانقطع المسلمون من جنود السلطان وقومه وراء البحر، ويئسوا من صريخه. وانتبذ عمر بن يحيى بن محلى عن قومه بمكان إمارته من مالقة. وكان بنو محلى هؤلاء من كبار قومهم بطوية، وكانوا حلفاء بني حمامة بن محمد منذ دخولهم المغرب. وأصهر عبد الحق أبو ملاك إلى أبيهم محلى في ابنته أم اليمن، فكان من ولده السلطان يعقوب بن عبد الحق. وكانت امرأة صالحة. خرجت إلى الحج سنة ثلاث و أربعين، فقضت فريضة الله عليها وعادت إلى المغرب لرابعة من السنين سنة سبع وأربعين. ثم خرجت ثانية سنة اثنتين وخمسين، فتطوعت بحجة أخرى. وهلكت بمصر منصرفها من تلك السنة سنة ثلاث وخمسين، فكان لبني محلى أبيها مكان من الدولة
ودالة على السلطان، لخؤولتهم ووشايج قرابتهم وغنائهم في قومهم. وما استولى السلطان على حضرة الموحّدين مراكش، عقد لمحمد بن علي بن محلى على جميع أعمالها، فكانت له في الاضطلاع بها مقامات محمودة. واتصلت أيام ولايته عليها من سنة ثمان. وستين إلى سنة سبع وثمانين وسبعمائة. ثم كان مهلكه أيام يوسف بن يعقوب كما نذكره. ولما نزع محمد بن أشقيلولة إلى السلطان بالجزيرة سنة ست وسبعين، متجافيا له عن ولاية مالقة بعد وفاة أبيه الرئيس أبي محمد، واستولى السلطان عليها، واعتزم على الإجازة كما قدمناه، عقد على مالقة والغربية وسائر ثغورها وأعمالها لعمر بن يحيى بن محلى. وكان أخوه طلحة بن يحيى بن محلى ذا بأس وصرامة وقوة شكيمة، واعتزاز على السلطان بمكان الخؤلة. وهو الذي قتل يعقوب بن عبد الحق بغبولة سنة ثمان وستين كما قلناه، وظاهر فتح الله السدراتي مولى السلطان ووزيره على قتال أبي العلا بن أبي طلحة بن أبي قريش، عامل المغرب بكدية العرائش من ظاهر فاس، سنة اثنتين وسبعين. ونزع سنة أربع وسبعين. إلى جبل أزور عند مرجع السلطان من إجازته الأولى، فاستنزله ورجعه إلى مجلسه من جملته. ثم نزع من الجزيرة إلى غرناطة سنة ست وسبعين عند مرجع السلطان من أمر مالقة، وأجاز البحر إلى بلاد الريف. ثم رجع إلى القبلة، وأقام بين بني توجين. ثم أجاز إلى الأندلس سنة سبع وسبعين عندما اضطرم نار هذه الفتنة بين السلطان وبين ابن الأحمر والطاغية. واحتل أسطول النصارى بالزقاق، وانقطعت عساكر السلطان وراء البحر. وأحس أخوه عمر صاحب مالقة بإظلام الجو بينه وبين السلطان، بما كان من أمر أخيه طلحة من قبل. فلاطفه ابن الأحمر عند استقراره بغرناطة في مداخلة أخيه عمر في النزول عن مالقة، والاعتياض عنها بشلوبانية والمنكب طعمة. وخاطبه في ذلك أخوه طلحة فأجاب. وخرج ابن الأحمر بعساكره إلى مالقة. وتقبض عمر بن محلى على زيان بن بو عياد قائد بني مرين، ومحمد بن أشقيلولة. وأمكن ابن الأحمر من البلد، فدخلها آخر رمضان من سنته. وأنزل ابن محلى بشلوبانية، واحتمل ذخيرته، وما كان السلطان ائتمنه عليه من المال والعدة الجهادية. واتصلت يد ابن الأحمر بيد الطاغية على منع أمير المسلمين من الإجازة، وراسلوا يغمراسن بن زيان من وراء البحر، وراسلهم في مشاقة السلطان وإفساد ثغوره، وإنزال العوائق به المانعة من حركته، والأخذ بأذياله عن النهوض إلى الجهاد.
وأسنوا فيما بينهم الإتحاف والمهاداة. وجنب يغمراسن إلى ابن الأحمر ثلاثين من عتاق الخيل، مع ثياب من عمل الصوف. وبعث إليه ابن الأحمر صحبة ابن مروان التجاني كفاء ذلك عشرة آلاف دينار، فلم يرض بالمال في هديته ورده. واصطفقت أيديهم جميعا على السلطان، ورأوا أن قد بلغوا في إحكام أمرهم وسد مذاهبه إليهم. واتصل الخبر بأمير المسلمين وهو بمراكش. كان صمد إليها مرجعه من الغزو في شهر محرم فاتح سبع وسبعين، لما كان من عيث العرب جشم بتامسنا، وإفسادهم السابلة. فثقف أطرافها، وحسم أدواءها. ولما بلغه خبر ابن محلى ومالقة، ومنازلة الطاغية للجزيرة، نهض لثالثة من شوال يريد طنجة. ولما انتهى إلى تامسنا، وافاه الخبر بنزول الطاغية على الجزيرة، وإحاطة عساكره بها سادس شوال، بعد أن كانت أساطيله منازلتها منذ ربيع، وأنه مشرف على التهامها. وبعثوا إليه يستعدونه، فاعتزم على الرحيل. ثم اتصل به الخبر بخروج مسعود بن كانون أمير سفيان من جشم ببلاد نفيس من المصامدة خامس ذي القعدة، وأن الناس اجتمعوا إليه من قومه وغيرهم. فكر إليه راجعاً، وقدم بين يديه حافده تاشفين بن بو مالك، ووزيره يحيى بن حازم. وجاء على ساقتهم، وفروا أمام جيوشه، وانتهب معسكرهم وحللهم. واستباح عرب الحارث من سفيان. ولحق مسعود بمعقل السكسيوي، ونازله السلطان بعساكره أياما. ثم سرح ابنه الأمير أبا زيان بن منديل إلى بلاد السوس لتمهيدها وتدويخ أقطارها، فأوغل في ديارها وتفل إلى أبيه خاتم سنته. واتصل بالسلطان ما نال أهل الجزيرة من ضيق الحصار وشدة القتال وأعواز الأقوات، وأنهم قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرة الكفر، فأهمه ذلك وأعمل النظر فيه. وعقد لولي عهده ابنه الأمير أبي يعقوب من مراكش على الغزو إليها. وأغزى الأساطيل في البحر إلى جهاد عدوهم، فوصل إلى طنجة لصفر من سنة ثمان وسبعين. وأوعز إلى البلاد البحرية لإعداد الأساطيل للغزاة بسبتة وطنجة وسلا، وقسم الاعطيات، وتوفرت همم المسلمين على الجهاد، وصدقت عزائمهم على الموت. وأبلى الفقيه أبو حاتم العزفي صاحب سبتة لما بلغه خطاب أمير المسلمين في ذلك البلاء الحسن، وقام فيه المقام المحمود. واستنفر كافة أهل بلده، فركبوا البحر أجمعين من المحتلم فما فوقه. ورأى ابن الأحمر ما نزل بالمسلمين في الجزيرة، وإشراف ا!طاغية على أخذها،
فندم في ممالأته. ونبذ عهده، وأعد أساطيل سواحله من المنكب والمرية ومالقة مددا للمسلمين. واجتمعت الأساطيل بمرفأ سبتة تناهز السبعين، قد أخذت بطرفي الزقاق في أحفل زي وأحسن قوة وأكمل عدة وأوفر عديد. وعقد لهم الأمير أبو يعقوب رايته، وأقلعوا عن طنجة ثامن ربيع الأول. وانتشرت قلوعهم في البحر فأجاز"، وباتوا ليلة المولد الكريم بمرقى الجبل، وصبحوا العدو وأساطيلهم تناهز الأربعماية، فتظاهروا في دروعهم وأسبغوا من سكتهم، وأخلصوا لله عزائمهم، وصدقوا مع الله نياتهم، وتنادوا بالجنة شعارهم. ووعظ وذكر خطباؤهم، والتحم القتال، ونزل الصبر. ولم يك إلا كلا ولا حتى نضحوا العدو بالنبل، فانكشفوا وتساقطوا في العباب. واستلحمهم السيف، وغشيهم اليم. وملك المسلمون أساطيلهم. ودخلوا مرمى الجزيرة وفرضتها عنوة، فاختل معكسر الطاغية. ودخلهم الرعب من إجازة الأمير أبي يعقوب ومن معه من الحامية، فأفرج لحينه عن البلد. وانتشر النساء والصبيان بساحته، وغلبت المقاتلة كثيرا من المعسكر على مخلفهم، فغنموا من الحنطة والأدم والفواكه ما ملا أسواق البلد أياما، حتى وصلتها الميرة من النواحي. وأجاز الأمير أبو يعقوب لحينه، فأرهب العدو في كل ناحية وصده عن الغزو إلى دار الحرب شأن الفتنة مع ابن الأحمر، فرأى أن يعقد مع الطاغية سلما ويصل به لمنازلة غرناطة يدا. وأجابه إلى ذلك الطاغية رهبة من بأسهم، وموجدة على ابن الأحمر في مدد أهل الجزيرة. وبعث أساقفته لعقد ذلك، فأجازهم الأمير أبو يعقوب إلى أبيه أمير المسلمين، فغضب لها ونكرها على ابنه. وزوى عنه وجه رضاه، ورجعهم إلى طاغيتهم مخفقي السعي. وأجاز أبو يعقوب ابن السلطان إلى أبيه ومعه وفد أهل الجزيرة، فلقوا السلطان بمكانه من بلاد السوس. وولى عليهم ابنه أبا زيان منديل، فنزل بالجزيرة وأحكم العقدة مع الطاغية. ونازل مربلة من طاعة ابن الأحمر برا وبحرا، فامتنعت عليه. ورجع إلى الجزيرة، وانضوى إليه أهل الحصون الغربية بطاعتهم حذرا من الطاغية فتقبلهم. ثم جاءه المدد من المغرب، ونازل رندة فامتنعت. والطاغية أثناء ذلك يجوس خلال الأندلس. وتنازل ابن الأحمر بغرناطة مع بني أشقيلولة وابن الدليل. ثم راجع ابن الأحمر مسالمة بني مرين، وبعث لأبي زيان ابن السلطان بالصلح. واجتمع معه بأحواز مربلة كما نذكر بعد. ولما ارتحل السلطان من معسكره على جبل السكسيوي يريد السوس. ثم أغزى
العساكر، ورجع من طريقه إلى مراكش. حتى إذا انقضت غزاة البربر قفل إلى فاس، وبعث خطابه إلى الآفاق مستنفرا للجهاد. وفصل في رجب من سنة ثمان وسبعين حتى انتهى إلى طنجة، وعاين ما اختل من أحوال المسلمين في تلك الفترة، وما جرت إليه فتنة ابن الأحمر من اعتزاز الطاغية، وما حدثته نفسه من التهام الجزيرة الأندلسية ومن فيها. وظاهره على ابن الأحمر منافسوه في رياسته بنو أشقيلولة، فاستجره الرئيس أبو الحسن بن أبي إسحاق صاحب وادي آش، ونازل معه غرناطة سنة تسع وسبعين خمسة عشر يوماً. ثم أفرجوا عنها، ولقيتهم عساكر غرناطة من زناتة فعذ ذلك من سنتهم. وعليهم طلحة بن محلى وتاشفين بن معط كبير تيربيغين بحصن المسلى، فأظهرهم الله عليهم. وهلك من النصارى ما يناهز سبعماية من فرسانهم. واستشهد فيها من أعياص بني مرين عثمان بن محمد بن عبد الحق. واستجر الطاغية سنة ثمانين بعدها الرئيس أبو محمد عبد الله صاحب وادي آش إلى منازلة غرناطة، فنازلها الطاغية وأقام عليها إماما. ثم ارتحل وقد اعتز عليهم. وأشفق السلطان على المسلمين وعلى ما نال ابن الأحمر من خسف الطاغية، فراسله في الموادعة واتفاق الكلمة وشرط عليه النزول عن مالقة. وامتنع فرجع السلطان إلى إزالة العوائق المانعة عن شأنه من الجهاد، وكان من أعظمها فتنة يغمراسن. واستيقن ما دار بينه وبين ابن الأحمر والطاغية وابن أخي أدفونش من الاتصال والإصفاق، فبعث إليه في تجديد الصلح والاتفاق، فلج وكشف الوجه في العناد. وأعلن بما وقع بينه وبين أهل العدوة مسلمهم وكافرهم من الوصلة، أنه معتزم على وصل بلاد المغرب. فصرف أمير المسلمين عزمه إلى غزو يغمراسن. وقفل إلى فاس لثلاث أشهر من نزوله بطنجة، فدخلها آخر شوال. وأعاد الرسل إلى يغمراسن لإقامة الحجة عليه، والتجلي بمسالمة بني توجين والتجافي عنهم لموالاتهم أمير المسلمين. فقام يغمراسن في ركائنه وقعد، ولج في طغيانه. وارتحل أمير المسلمين من فاس خاتمة سنة تسع. وتدم ابنه أبا يعقوب في العساكر، وأدركه بتازى. ولما انتهى إلى ملوية تلوم في انتظار العساكر. ثم ارتحل إلى نامة ثم إلى تافنا وصمد إليه يغمراسن، بحشي زناتة والعرب، بحللهم وكافة ناجعتهم. والتقت عيون القوم، فكانت بينهم حرب. وركب على آثارهما العسكران، فالتحم القتال. وكان الزحف بخرزوزة من ملعب تيفنى. ورتب أمير المسلمين مصافه، وجعل كتيبته وكتيبة ابنه الأمير أبي يعقوب جناحين للعسكر. واشتد
القتال سائر النهار، وانكشف بنو عبد الواد عندما أراح القوم، وانتهب جميع مخلفهم وما كان في معسكرهم من المتاع والكراع والسلاح والفساطيط، وبات معسكر أمير المسلمين ليلتهم في صهوات خيلهم، واتبعوا من الغد آثار عدوهم. واكتسحت أموال العرب الناجعة الذين كانوا مع يغمراسن، وامتلأت أيدي بني مرين من نعمهم وشائهم. ودخلوا بلاد يغمراسن وزناتة. ووافاه هنالك محمد بن عبد القوي أمير بني توجين، لقيه بناحية القصبات، وعاثوا جميعا في بلاده نهبا وتخريبا. ثم أذن لبني توجين في اللحاق ببلادهم، وأخذ هو بمخنق تلمسان متلوماً لوصول محمد بن عبد القوي وقومه، إلى منجاتهم من جبل وانشريش حذرا عليهم من غائلة يغمراسن. ثم أفرج عنها وقفل إلى المغرب، ودخل فاس شهر رمضان من سنة ثمانين. ثم نهض إلى مراكش، فاحتل بها فاتح إحدى وثمانين وسبعمائة بعدها. وسرح ابنه الأمير أبا يعقوب إلى السوس لتدويخ أقطاره. ووافاه بمراكش صريح الطاغية على ابنه شانجة الخارج عليه، فاغتنم الفرصة في فساد بينهم لقضاء إربه من الجهاد. وارتحل مبادرا بالإجازة إلى الأندلس. والله تعالى أعلم. الخبر عن إجازة السلطان أبي يوسف ثالثة باستدعاء الطاغية لخروج ابنه شانجة عليه وافتراق كلمة النصرانية وما كان في هذه الإجازة من الغزوات: لما خرج السلطان من غزاة تلمسان إلى فاس، وارتحل إلى مراكش، وافاه بها وفد الطاغية من بطارقته وزعماء دولته، وقواميص ملته، صريخا على ابنه شانجة. خرج عليه في طائفة من النصارى وغلبوه على أمره، فاستنصر أمير المسلمين منهم ودعاه لحربهم. وأمله لاسترجاع ملكه من أيديهم، فأجاب أمير المسلمين داعية رجاء للكرة بافتراقهم. وارتحل حتى انتهى إلى قصر المجاز، وأوعز إلى الناس بالنفير إلى الجهاد. وأجاز إلى الخضراء فاحتل بها لربيع الثاني من سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. واجتمعت إليه مسالح الثغور بالأندلس وسار حتى نزل صخرة عياد فوافاه بها الطاغية ذليلا لعز الإسلام مؤملا صريخ السلطان، فأكبر وفادته وكرم موصله وعظم قدره وأمده لنفقاته بماية ألف من مال المسلمين، استرهن فيها التاج الذخيرة عند سلفه، وبقي بدارهم فخرا للأعقاب لهذا العهد. ودخل معه دار الحرب غازيا حتى نازل قرطبة، وبها شانجة ابن الطاغية الخارج عليه مع طائفته فقاتلها أياما. ثم أفرج عنها، وتنقل في جهاتها ونواحيها. وارتحل إلى
طليطلة، فعاث في جهاتها. وخرب عمرانها حتى انتهى إلى حصن مجريط من أقصى الثغر، فامتلأت أيدي المسلمين وضاق معسكرهم بالغنائم التي استاقوها. وقفل إلى الجزيرة، فاحتل بها لشعبان من سنته. وكان عمر بن محلى نزع إلى طاعة السلطان، فهم به ابن الأحمر ونبذ إليه عهده. وارتجع المنكب من يده. ونازله بعساكره فاتح هذه السنة فجهز السلطان إليه لوصوله الجزيرة أسطوله. وأفرج ابن الأحمر عنه، فبادر إلى السلطان بطاعته. ووصل ببيعة شلوبانية، فأبقاه فيها بدعوته. ثم راجع طاعة ابن الأحمر في شوال من سنته، فتقبل فيئته وأعاضه عنها بالمنكب. إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. والله أعلم. الخبر عن شأن السلم مع ابن الأحمر وتجافي السلطان عن مالقة ثم تجديد الغزو بعد ذلك: لما اتصلت يد السلطان بيد الطاغية، خشي ابن الأحمر غائلته، فجنح إلى موالاة شانجة الخارج على أبيه. ووصل يده بيده، وأكد له العقد على نفسه. واضطرمت له الأندلس نارا وفتنة. ولم يغن شانجة عن ابن الأحمر شيئاً. ورجع السلطان من غزاته مع الطاغية، وقد ظهر على ابنه، فأجمع على منازلة مالقة. ونهض إليها من الجزيرة فاتح اثنتين وثمانين وسبعمائة، فتغلب على الحصون الغربية كلها. ثم أسف إلى مالقة، فأناخ عليها بعساكره. وضاق النطاق على ابن الأحمر وبدا له سوء المغبة في شأن مالقة، ومداخلة ابن محلى في الغدر بها، وأعمل نظره في الخلاص من ورطتها. ولم ير لها إلا ولي عهد السلطان ابنه أبا يوسف، فخاطبه بمكانه من المغرب مستصرخا لرقع هذا الخرق، وجمع كلمة المسلمين على عدوهم، فأجابه واغتنم المثوبة في مسعاه. وأجاز لشهر صفر، فوافى أمير المسلمين بمعسكره على مالقة. ورغب منه السلم لابن الأحمر عن شأن مالقة والتجافي له عنها، فأسعف رغبة ابنه لما يؤمل في ذلك من رضى الله في جهاد عدوه واعلاء كلمنه. وانعقد السلم وانبسط أمل ابن الأحمر، وتجددت عزائم المسلمين، وقفل السلطان إلى الجزيرة. وبث السرايا في دار الحرب، فأوغلوا وأثخنوا. ثم استأنف الغزو بنفسه الى طليطلة، فخرج غازيا غرة ربيع الثاني من سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، حتى انتهى إلى قرطبة. فأثخن وغنم وخرب العمران وافتتح الحصون. ثم ارتحل نحو البيرة وخلف
معسكرا بظاهر بياسة، وأغذ السير في أرض قفر. ولليلتين انتهى إلى البيرة من نواحي طليطلة، فسرح الخيل في البسائط حتى تقرت جميع ما فيها. ولم ينته إلى طليطلة لتثاقل الناس بكثرة الغنائم، وأثخن في القتل. وقفل على غير طريقه، فأثخن وخرب، وانتهى إلى أبدة. ووقف بساحتها والعدو منحجزون ثم رجع إلى معسكره ببياسة، وأراح ثلاثاً ينسف آثارها ويقتلع شجراءها. وقفل إلى الجزيرة، فاحتل بها شهر رجب، وقسم الغنائم وقفل من الخمس. وولى على الجزيرة حافده عيسى بن الأمير أبي مالك ابنه، فهلك شهيدا بالمعترك لشهرين من ولايته. وأجاز السلطان غرة شعبان إلى المغرب، ومعه ابنه أبو زيان منديل. وأراح بطنجة ثلاثاً. وأغذ السير إلى فاس، فاحتل بها آخر شعبان. ولما قضى صيامه ونسكه، ارتحل إلى مراكش لتمهيدها وتفقد أحوالها. وقسم من نظره لنواحي سلا وازور، فأقام برباط الفتح شهرين اثنين. واحتل مراكش فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة. وبلغه مهلك الطاغية ابن أدفونش واجتماع النصرانية على ابنه شانجة الخارج عليه، فتحركت إلى الجهاد عزائمه. وسرح الأمير أبا يعقوب ولي عهده بالعسكر إلى بلاد السوس لغزو العرب وكف عاديتهم، ومحو آثار الخوارج المنتزين على الدولة. فأجفلوا أمامه واتبع آثارهم إلى الساقية الحمراء آخر العمران من بلاد السوس، فهلك أكثر العرب في تلك القفار مسغبة وعطشاً. وقفل لما بلغه من اعتلال أمير المسلمين، ووصل إلى مراكش وقد أبل واعتزم على الجهاد والغزو، شكرا لله كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن إجازة السلطان أبي يوسف الرابعة ومحاصرة شريش وما تخلل ذلك من الغزوات: لما اعتزم أمير المسلمين على الإجازة، واعترض جنوده وحاشيته وأزاح عللهم وبعث في قبائل المغرب بالنفير. ونهض من مراكش في جمادى الآخرة لثلاث وثمانين وسبعمائة. واحتل رباط الفتح منتصف شعبان، فقضى به صومه ونسكه. ثم ارتحل إلى قصور مصمودة وشرع في إجازة العساكر والحشود من المرتزقة والمطوعة خاتمة سنته. ثم أجاز البحر بنفسه، غرة صفر من سنة أربع بعدها. واحتل بطريف. ثم سار منها إلى الخضراء، وأراح أياماً. ثم خرج غازيا، حتى انتهى إلى وادي لك. وسرح الخيول في
بلاد العدو وبسائطها تغير وتحرق وتنسف. فلما خرب بلاد النصرانية ودمر أرضهم، قصد مدينة شريش، فنزل بساحتها وأناخ عليها، وبث السرايا والغارات في جميع نواحيها. وبعث عن المسالح التي كانت بالثغور، فتوافت لديه. ولحق حافده عمر بن أبي مالك بجمع وافر من المجاهدين من أهل المغرب فرسانا ورجالا، ووافته حصة العزفي من سبتة غزاة ناشبة تناهز خمس ماية من الرجل. وأوعز إلى ولي عهده الأمير أبي يعقوب باستنفار قن بقي بالعدوة من المسلمين إلى الجهاد. وعقد لحافده الآخر منصور بن عبد الواحد على ألف فارس من الغزاة. وأعطاه الراية وسرحه لغزو إشبيلية لآخر صفر من سنته، فغنموا ومروا بقرمونة في منصرفهم، فاستباحوها وأثخنوا بالقتل والأسار ورجعوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم. وبعث وزيره محمد بن عتو ومحمد بن عمران بن عبلة عيونا، فوافوا حصن القناطر وروطة، واستكشفوا ضعف الحامية واختلال الثغور، فعقد ثانية لحافده عمر بن عبد الواحد على مثلها من الفرسان لثلاثة من ربيع وأعطاه الراية، وسرحه إلى بسائط وادي لك، فرجعوا من الغنائم بما ملا العساكر، بعد أن أثخنوا فيها بالقتل والتخريب وتحريق الزروع واقتلاع الثمار وأبادوا عمرانها. ثم شح ثامن ربيع عسكرا للإغارة على حصن اركش. ووافوه على غرة، فاكتسحوا أموالهم. ثم عقد تاسع ربيع لابنه أبي معروف على ألف من الفرسان. وسرحه لغزو إشبيلية، فسار حتى توقف. وانحجزت منه حاميتها، فخرب عمرانها وحرق زروعها وقطع شجراءها. وامتلأت أيدي عسكره سبياً وأموالا، ورجع إلى!عسكر السلطان مملوء الحقائب. ثم عقد ثالثة لحافده عمر منتصف ربيع لغزو حصن كان بالقرب من معسكره، وسرح معه الرجل من الناشبة والفعلة بالآلات. وأمده بالرجل من المصامدة وغزاة سبتة، فاقتحموه عنوة على أهله. وقتلوا المقاتلة، وسبوا النساء والذرية، وأضرعوا خده بالتراب. ولسبع عشرة من الشهر ركب السلطان إلى حصن سقوط قريباً من معسكره، فخربه وحرقه بالنار واستباحه. وقتل مقاتلته وسبى أهله. ولعشرين من شهره وصل ولي عهده الأمير أبو يعقوب من العدوة بنفير أهل المغرب وكافة القبائل، في جيوش ضخمة وعسكر موفورة. وركب أمير المسلمين للقائهم وبرور مقدمهم. واعترض العساكر الموافية يومئذ، فكانت ثلاثة عشر ألفا من المصامدة، وثمانية آلاف من برابرة المغرب المتطوعون كلهم بالجهاد، فعقد له السلطان على خمسة آلاف من المرتزقة، وألفين من المطوعة وثلاثة
عشر ألفا من الرجل، وألفين من الناشبة. وسرحه لغزو إشبيلية والإثخان في نواحيها، فعبا كتائبه ونهض لوجهه. وبث الغارات بين يدين، فأثخنوا وسبوا وقتلوا. واقتحموا الحصن، واكتسحوا الأموال. وعاج على الشرف والغابة من بسيط إشبيلية فنسف قراها واقتحم من حصونها عدة. وقفل إلى معسكر أمير المسلمين ظاهرا عزيزا غانما. ولسادس ربيع الثاني وصل الأمير أبو زيان منديل بن طريف بعسكر وافر من المسلمين، فعقد له غداة وصوله وأمده بعكسر آخر. وأغزاه قرمونة والوادي الكبير، فأغار على قرمونة. وطمعت حاميتها في المدافعة، فبرزوا له. وصدقهم القتال، فانكشفوا حتى أحجزوهم في البلد. ثم أحاطوا ببرج كان قريبا من البلد، قاتلوه ساعة من نهار واقتحموه عنوة ولم يزل يتقرى المنازل والعمران حتى وقف بساحة إشبيلية، فأغار واكتسح واقتحم برجا كان هنالك عينا على المسلمين وأضرمه نارا. وامتلأت أيدي عساكره، وقفل إلى معسكر أمير المسلمين. ولثلاث عشرة من ربيعب الثاني عقد للأمير أبي يعقوب لمنازلة جزيرة كبوتر، فصمد إليها وقاتلها واقتحمها عنوة. وفي ثاني جمادى عقد لطلحة بن يحيى بن محلى. وكان بعد مداخلته أخاه عمر في شأن مالقة سنة خمس وسبعين، خرج إلى الحج، فقضى فرضه ا ورجع. ومرّ في طريقه بتونس. واتهمه الدعي ابن أبي عمارة كان بها يومئذ، فاعتقله سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة. ثم سرحه، ولحق بقومه بالمغرب. ثم أجاز إلى الأندلس غازيا في ركاب السلطان، فعقد له في هذه الغزاة على مايتين من الفرسان. وسرحه إلى إشبيلية ليكون ربية للمعسكر. وبعث معه لذلك عيونا من اليهود، والمعاهدين من النصارى، يتعرفون له أخبار الطاغية شانجة. وأمير المسلمين أثناء ذلك يغادي شريش ويراوحها بالقتال والتخريب، ونسف الاثار وبث السرايا كل يوم وليلة في بلاد العدو. فلا يخلو يوما عن تجهيز عسكر، أو إغزاء جيش، أو عقد راية، أبو بعث سرية، حتى انتسف العمران في جميع بلاد النصرانية، وخرب بسائط إشبيلية ولبلة وقرمونة وأستجة وجبال الشرف، وجميع بسائط الفرنتيرة. وأبلى في هذه الغزوات عياد العاصمي من شيوخ جشم، وخضر الغزي أمير الأكراد بلاء عظيما، وكان لهم فيها ذكر. وكذلك غزاة سبتة وسائر المجاهدين والعرب من جشم وغيرهم. فلما دمرها تدميرا، ونسفها تخريبا، واكتسحها غارة ونهبا، وزحم فصل الشتاء وانقطعت الميرة عن المعسكر، اعتزم على القفول، وأفرج عن شريش لآخر رجب. ووافاه مدد غرناطة من عساكر الغزاة، وقائدهم
يعلى بن أبي عياد بن عبد الحق بوادي بردة، فلقاهم مبرة وتكريما، وانقلبوا إلى أهلهم. واتصل به أن العدو أوعز إلى أساطيله باحتلال الزقاق والاعتراض دون الفراض، فأوعز أمير المسلمين إلى جميع سواحله من سبتة وطنجة والمنكب والجزيرة وطريف وبلاد الريف ورباط الفتح. واستدعى أساطيله، فتوافت منها سنة وثلاثون أسطولا متكاملة في عدتها وعديدها، فأحجمت أساطيل العدو عنها وارتدت على أعقابها. واحتل بالجزيرة غرة رمضان. واستيقن الطاغية شانجة وأهل ملته أن بلادهم قد فنيت، وأرضهم خربت. وتبينوا العجز عن المدافعة والحماية، فجنحوا إلى السلم. وضرعوا إلى أمير المسلمين في كف عاديته عنهم على ما يذكر. ووصل إلى السلطان بمكانه من منازلة شريش عمر بن أبي يحيى بن محلى نازعا إلى طاعته، فاتهمه لما سبق من تلاعبه. وأمر أخاه طلحة بنكبه. واحتمل إلى طريف، فاعتقل بها. وسار طلحة إلى المنكب، فاستصفى أموال أخيه عمر وذخائره وحملها إلى السلطان. وأقر ثانية أخاه موسى على عمله بالمنكب، وأمده بعسكر من الرجل. ثم أطلق عمر لليال من اعتقاله. وأجاز طلحة وعمر في ركاب السلطان. ونزع منصور بن أبي مالك حافد السلطان إلى غرناطة. ثم لحق منها بالمنكب وأقام مع موسى بن يحيى بن محلى، فأقره السلطان ورضي مقامه. والله تعالى أعلم. الخبر عن وفادة الطاغية شانجة وانعقاد السلم ومهلك السلطان علي تفيئة ذلك: لما نزل با4 مم النصرانية في بلاد ابن أدفونش من أمير المسلمين ما نزل من تدمير تراهم، واكتساح أموالهم، وسبي نسائهم، وإبادة مقاتلتهم، وتخريب معاقلهم، وانتساف عمرانهم، زاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر. واستيقنوا أن لا عاصم من أمير المسلمين، فاجتمعوا إلى طاغيتهم شانجة، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، يتوجعون مما أذاقهم جنود الله من سوء العذاب وأليم النكال. وحملوه على الضراعة إلى أمير المسلمين في السلم، وإنفاذ الملأ من كبار النصرانية عليه في ذلك. وإلا فلا تزال تصيبهم منه قارعة، أو تحل قريبا من دارهم. فأجاب إلى ما دعوه إليه من الخسف والهضيمة لدينه. وأوفد على أمير المسلمين وفدا من بطارقتهم وقمامصتهم وأساقفتهم. ووضع أوزار الحرب، فردهم أمير المسلمين اعتزازا عليهم. ثم أعادهم الطاغية بترديد الرغبة، على
أن يشترط ما شاء من عز دينه وقومه. فأسعفهم أمير المسلمين وجنح إلى السلم لما تيقن صاغيتهم إليه، وذلهم لعز الإسلام. وأجابهم إلى ما سألوه، واشترط عليهم ما تقبلوه من كسالمة المسلمين كافة من قومه وغير قومه، والوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من الملوك أو عداوتهم، ورفع الضريبة عن تجار المسلمين بدار الحرب من بلاده، وترك التضريب بين ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة. وبعث ثقته عبد الحق ابن الترجمان لاشتراط ذلك وأحكام عقده، فاستبلغ وأكد في الوفاء. ووفدت رسل ابن الأحمر على الطاغية، وهو عنده لعقد السلم معه دون أمير المسلمين وعلى مدافعته عنه، فأحضرهم بمشهد ابن الترجمان وأسمعهم ما عقد لأمير المسلمين على قومه وأهل ملته. وقال لهم: إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي في مقام السلم أو الحرب، وهذا ملك المسلمين ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه عنكم فانصرفوا. ولما رأى عبد الحق صاغيته إلى مرضاة السلطان، وسوس له بالوفادة لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة. وأراه مغبة ذلك في سل السخيمة وتسكين الحفيظة وتمكين الألفة، فصغى إلى وفاقه. وسأل لقى الأمير أبي يعقوب ولي عهده من قبل ليطمئن عليه، فوصل إليه ولقيه على فراسخ من شريش. وباتا بمعسكر المسلمين هنالك. ثم ارتحلا من الغد للقاء أمير المسلمين، وقد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية وقومه وإظهار شعار الإسلام وابهته، فاحتفلوا وتأهبوا وأظهروا عز الملة وشدة الشوكة ووفور الحامية. ولقيه أمير المسلمين بأحسن مبرة، وأتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء الملل. وقدم الطاغية بين يديه هدية أتحف بها أمير المسلمين وابنه من ظرف بلاده: كان فيها زوج من الحيوان الوحشي المسمى بالفيل، وحمارة من حمر الوحش، إلى غير ذلك من الظرف. تقبلها السلطان وابنه وقابلوها بكفائها ومضاعفتها، وكمل عقد السلم. وتقبل الطاغية سائر الشروط، ورضي بعز الإسلام عليه. وانقلب إلى قومه بملء صدره من الرضى والمسرة. وسأل منه أمير المسلمين أن يبعث من كتب العلم التي بأيدي النصارى من لدن استيلائهم على مداين الإسلام، فاستكثر من أصنافها في ثلاثة عشر حملا بعث بها إليه، فوقفها السلطان بمدرسته التي أسسها بفاس لطلب العلم. وقفل أمير المسلمين إلى الجزيرة لليلتين بقيتا لرمضان، فقضى صومه ونسكه. وجعل من قيام ليله جزءا لمحاضرة أهل العلم. وأعد الشعراء كلمات أنشدوها يوم الفطر
بمشهد الملأ في مجلس أمير المؤمنين. وكان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة عزوز المكناسي. ذكر فيها سير أمير المسلمين وغزواته على نسق. ثم أعمل أمير المسلمين نظره في الثغور، فرتب بها المسالح وعقد عليها لابنه الأمير أبي زيان منديل. وأنزله بزكوان مقربة مالقة، واستوصاه بأن لا يحدث في بلاد ابن الأحمر حدثا. وعقد لعباد بن أبي عياد العاصمي على مسلحة أخرى، وأنزله بأصطبونة. وأجاز ابنه الأمير أبا يعقوب لتفقد أحوال المغرب ومباشرة أموره، فأجاز في أسطول القائد محمد بن أبى القاسم الرنداحي قائد سبتة. وأوعز إليه بالبناء على قبر أبيه الملوك عبد الحق وابنه إدريس بتافرطست، فاختط هنالك رباطا، وبنى على قبورهم أسنمة من الرخام، ونقشها بالكتاب. ورتب عليها قراء لتلاوة القران، ووقف على ذلك ضياعا وفدنا. وهلك خلال ذلك وزيره يحيى بن أبي منديل العسكري لمنتصف رمضان. ثم اعتل بعد ذلك أمير المسلمين لشهر ذي الحجة، ومرض واشتد وجعه. وهلك لاخر محرم سنة خمس وثمانين وسبعمائة وستماية من الهجرة. والله أعلم. الخبر عن دولة السلطان أبي يعقوب وما كان فيها من الأحداث وشأن الخوارج عليه لأول دولته: لما اعتل أمير المسلمين أبو يوسف بالجزيرة مرضه نساؤه، وطير بالخبر إلى ولي العهد الأمير أبي يعقوب وهو بمكانه من المغرب، فأغذ السير. وقضى أمير المسلمين قبل وصوله، فأخذ له البيعة على الناس وزراء أبيه وعظماء قومه. وأجاز إليهم البحر، فجددوا بيعته غرة صفر من سنة خمس وثمانين وسبعمائة وأخذوها على الكافة. وانعقد أمر السلطان يومئذ، ففرق الأموال، وأجزل الصلات، وسرح من في السجون، ورفع عن الناس الأخذ بزكاة الفطر، ووكلهم فيها إلى أمانتهم. وقبض أيدي العمال عن الظلم والاعتداء والجور على الرعايا، ورفع المكوس ومحى رسوم الرتب، وصرف اعتناءه إلى إصلاح السابلة. وكان أول شيء أحدث من أمره أن بعث عن ابن الأحمر وضرب موعدا للقائه، فبادر إليه ولقيه بظاهر مربالة لأول ربيع. ولقاه مرة وتكريما، وتجافى له عن جميع الثغور الأندلسية التي كانت لمملكته ما عدى الجزيرة وطريف. وتفرقا من مكانهما على أكمل حالات المصافاة والوصلة، ورجع السلطان إلى الجزيرة. ووافاه بها وفد الطاغية شانجة، مجددين حكم
السلم الذي عقد له أمير المسلمين عفا الله عنه فأجابهم. ولما تمهد أمر الأندلس، وفرغ من النظر إليها، عقد لأخيه أبي عطية العبّاس على الثغور الغربية والأمارة عليها. وعقد لعلي بن يوسف بن يزكاسن على مسالحها، وأمده بثلاثة آلاف من عساكره. وأجاز إلى المغرب، فاحتل بقصر مصمودة سابع ربيع الثاني. ثم ارتحل إلى فاس، واحتل بها لاثنتي عشرة خلت من جمادى. ولحين استقراره بدار ملكه، خرج عليه محمد بن إدريس بن عبد الحق في إخوته وبنيه وذويهم، ولحق بجبال درعة، ودعا ل!سه. وسرح إليهم السلطان أخاه أبا معرف، فبدا له في النزوع إليهم، فلحق بهم. وأغزاهم السلطان بعساكره، وردد إليهم البعوث والكتائب. وتلطف في استنزال أخيه، فنزل عن الخلاف وعاد إلى حسن طاعته. وفر أولاد إدريس إلى تلمسان، وتقبض عليهم أثناء طريقهم. وسرح السلطان أخاه أبا زيان إلى تازى، وأوعز إليه بقتلهم بمليلى خارج تازى لرجب من سنة خمس وثمانين وسبعمائة. ورهب الأعياص عند ذلك من بادرة السلطان، فتفرقوا ولحقوا بغرناطة. أولاد أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، وأولاد أبي يحيى بن عبد الحق، وأولاد عثمان بن يزول. ورجع أولاد أبي يحيى إلى السلطان بعد انقضاء عهده وأمانه. وهلك أخوه محمد أجليلد بن يعقوب بن عبد الحق لشعبان من سنته. وهلك عمر ابن أخيه أبي مالك بطنجة. ثم خرج على السلطان عمر بن عثمان بن يوسف العسكري بقلعة قندلاوة، ونبذ الطاعة، وأذن بالحرب. وأوعز السلطان إلى بني عسكر ومن إليهم من القبائل المجاورين لها، فاحتشدوا له ونازلوه. ثم نهض بركابه وعساكره إلى منازلته، واحتل بنبدورة. وخافه عمر على نفسه وأيقن أن قد احيط به، فسأل الأمان. وبذله السلطان على شريطة اللحاق بتلمسان، فبعث من توثق له من الخيرة فنزل. فوفى له السلطان بعده، ولحق بتلمسان بأهله وولده. ثم ارتحل السلطان في رمضان من سنته إلى مراكش لتمهيد أنحائها، وتثقيف أطرافها، واحتل بها في شؤال، واعتمل النظر في مصالحها. ونزع خلال ذلك طلحة بن يحيى بن محلى البطوي إلى بني حسان من المعقل، وخرج على السلطان ودعا لنفسه. وعقد السلطان لمنصور ابن أخيه أبي مالك على العساكر، وعهد له بولاية السوس، وسرحه لاستنزال الخوارج، ومحو آثار الفساد. وارتاب بمكان أخيه عمر، فغربه إلى
غرناطة، فقتله أولاد أبي العلاء يوم وصوله إليها، فسار الأمير منصور في الجيوش والكتائب، وغزا عرب المعقل وأثخن فيهم. وقتل طلحة بن محلى في بعض حروبهم لثلاث عشرة من جمادى سنة ست وثمانين وسبعمائة. وبعث برأسه إلى سدة السلطان، فعلق بتازى. ثم نهض السلطان في رمضان لغزو المعقل بصحراء درعة بما أضروا العمران وأفسدوا السابلة. وسار إليهم في اثني عشر ألفا من الفرسان. ومرّ على بلاد هسكورة معترضا جبل درن. وأدركهم بالقفر نواجع، فأثخن فيهم بالقتل والسبي. واستكثر من رؤوسهم، فعلقت بشرفات مراكش وسجلماسة وفاس. وعاد من غزوه إلى مراكش آخر شوال، فنكب محمد بن علي بن محلى عاملها القديم الولاية عليها من لدن غلب الموحدين، لما وقع من الارتياب بأولاد محلى بما أتاه كبيره طلحة، فنكب غرة المحرم من سنة سبع. وهلك في محبسه لشهر صفر بعده. وهلك على أثر ذلك المزوار قاسم بن عبو. وعقد السلطان على مراكش وأعمالها لمحمد بن عطو الجاناتي من موالي دولتهم ولاء الحلف. وترك معه ابنه أبا عامر. ثم ارتحل إلى حضرة فاس، فاحتل بها منتصف ربيع. ووافته بها عروسه ابنة موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق من غرناطة في وفد من وزراء ابن الأحمر وأهل دولته، فأعرس بها وكان بعث إلى أبيها من قبل في الإصهار بها. ووافت معها رسل ابن الأحمر يسألون التجافي عن وادي آش، فأسعفهم بها كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن دخول وادي آش في طاعة السلطان ثم رجوعها إلى طاعة ابن الأحمر: كان أبو الحسن بن أشقيلولة ظهير السلطان ابن الأحمر على ملكه ومعينه على شأنه، وكان له في الدولة بذلك مكان. ولما هلك خلف من الولدان أبا محمد عبد الله وأبا إسحاق إبراهيم، فعقد ابن الأحمر لأبي محمد على مالقة ولأبي إسحاق على قمارش ووادي آش. ولما هلك السلطان ابن الأحمر حدثت مغاضبات ومنافسات بينهما وبينه، وتأدى ذلك إلى الفتنة كما قلناه. ودخل أبو محمد في طاعة السلطان أبي يوسف. ثم هلك فلحق ابنه محمد بالسلطان، ونزل له عن البلد سنة ست وسبعين. ثم هلك أبو اسحاق سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، وغلب ابن الأحمر على حصن قمارش وصار إليه. وكان الرئيس أبو إسحاق قد عقد لابنه أبي الحسن على وادي آش وحصونها، واتصلت الفتنة
بينه وبين ابن الآحمر، وظاهر أبو الحسن عليه الطاغية. وأجلب أخوه أبو محمد على غرناطة هو وابن الدليل. وطال أمر الفتنة بينهم وبين ابن الأحمر. وأجلب أخوه أبو محمد على غرناطة مع الطاغية. تم انعقد السلم بين المسلمين والنصرانية، وخشي أبو الحسن بن أشقيلولة على نفسه عادية ابن الأحمر، فتذمم بطاعة صاحب المغرب. وأقام دعوته بوادي آش سنة ست وثمانين وسبعمائة، فلم يعرض لها ابن الأحمر، حتى إذا وقعت المواصلة بينه وبين السلطان أبي يعقوب وكان شأن هذا الصهر على يده، بعث رسله إلى السلطان يسأو، التجافي عن وأدي آش، فتجافى له عنها. وبعث إلى أبي الحسن بن أشقيلولة بذلك، فتركها. وارتحل إليه سنة سبع وثمانين وسبعمائة. ولقيه بسلا، فأعطاه القصر الكبير وأعماله طعمة سوغه إياها. ثم نزل لبنيه آخر دولتهم. واستمكن ابن الأحمر في وادي آش وحصونها. ولم يبق له بالأندلس منازع في قرابته. والله يؤتي ملكه من يشاء. الخبر عن خروج الأمير أبي عامر ونزوعه إلى مراكش ثم فيئته إلي الطاعة: لما احتل السلطان بفاس وأقام بها، خرج عليه ابنه أبو عامر، ولحق بمراكش، ودعا لنفسه أخريات شوال من سنة سبع وثمانين وسبعمائة. وساعده على الخلاف والانتزاء عاملها محمد بن عطو. وخرج السلطان في أثره إلى مراكش، فبرز إلى لقائه، فكانت الدائرة عليهم، وحاصرهم السلطان بمراكش أياما. ثم خلص أبو عامر إلى بيت المال، فاستصفى ما فيه، وقتك المشرف ابن أبي البركات، ولحق بحلل المصامدة. ودخل السلطان من غده إلى البلد يوم عرفه، فعفا وسكن. ونهض منصور ابن أخيه أبي مالك من السوس إلى حاحة، فدوخ أنحاءها. ثم سرح إليه المدد من مراكش، فأوقعوا بزكنة من برابرة السوس. وقتل منهم ما يناهز أربعين من سرواتهم. وكان فيمن قتل شيخهم حبون بن إبراهيم. ثم إن ابنه أبا عامر ضاق ذرعه بسخط أبيه وأجلابه في الخلاف، فلحق بتلمسان ومعه وزيره ابن عطو فاتح سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، فأواهم عثمان بن يغمراسن. ومهد لهم المكان ولبثوا عنده أياما. ثم عطف السلطان على ابنه رحم لما عطفت ابنته عليه، فرضي عنه وأعاده إلى مكانه. وطالب عثمان بن يغمراسن صاحب تلمسان أن يسلم إليه ابن عطو الناجم في النفاق مع ابنه، فأبى من إضاعة جواره وإخفار ذمته. وأغلظ له الرسول في القول، فسطا به واعتقله، فثارت من السلطان الحفائظ الكامنة وتحركت
الأحن القديمة والتراث المتواترة. واعتزم على غزو تلمسان. والله أعلم. الخبر عن تجدد الفتنة مع عثمان بن يغمراسن وغزو السلطان مدينة تلمسان ومنازلته إياها: كانت الفتنة بين هذين الحيين قديمة من لدن مجالاتهم بالقفار من صحراء ملوية، الى صا، إلى فيكيك، إلى مصاب. ولما انتقلوا إلى التلول، وتغلبوا على الضواحي بالمغرب الأقصى والأوسط، لم تزل فتنتهم متصلة، وأيام حروبهم فيها مذكورة. كانت لمحولة الموحّدين عند اعتلالها والتياثها تستنصر منهما بالتضريب بينهم والفتنة، فتأكدت لذلك أحوالها واتصلت أيامها. وكان بين يغمراسن بن زيان وأبي يحيى بن عبد الحق ما وقائع ومشاهد، نقلنا منها بعضاً من كل. واستظهر الموحدون بيغمراسن عليه في بعضها. وكان الغلب أكثر ما يكون لأبي يحيى بن عبد الحق لوفور قبيله. إلا أن .يغمراسن كان يتصدى لمقاومته في سائر وقائعه. ولما طمس أثر بني عبد المؤمن، استولى يعقوب بن عبد الحق على ملكهم، وصارت في جملته عساكرهم، فضاعف عليه، أسف على ملك يغمراسن ملكه. وجمع له، فأوقع به في تلاغ الواقعة المعروفة. ثم أوقع به ثانية وثالثة. ولما استولت قدم يعقوب بن عبد الحق في ملكه، واستكمل فتح المغرب وسائر أمصاره، وكبح يغمراسن عن التطاول إلى مقاومته، وأوهن قواه بفل جموعه ومنازلته في داره، ومظاهرة أقتاله من زناتة من بني توجين ومغراوة عليه. فانصرف ع ذلك إلى الجهاد، فكان له فيه شغل عما سواه كما نقلناه في أخباره. ولما ارتاب ابن الأحمر بمكان السلطان يعقوب بن عبد الحق من الأندلس، وحذره على ملكه، وتظاهر الطاغية على منعه من الإجازة إلى عدوتهم، خشوا أن يستقلوا بمدافعته، فراسلوا يغمراسن في الأخذ بحجزته. وأجابهم إليها، وجرد عزائمه لها، واتصلت أيديهم في ، التظاهر عليه. ثم فسد ما بين ابن الأحمر والطاغية ولم يكن له بد من ولاية يعقوب بن الحق، فتولاه بواسطة ابنه يوسف بن يعقوب كما ذكرناه. وأطلعوه على خباء يغمراسن في مظاهرتهم، فأغزاه سنة تسع وسبعين وهزمه بخرزوزة. ونازله بتلمسان وأوطأ "ه من بني توجين ساحته كما ذكرناه. ثم انصرف إلى شأنه من الجهاد. وهلك يغمراسن بن زيان على تفيئة ذلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، وأوصى ابنه عثمان ولي عهده.
زعموا أن لا يحدث نفسه بمقاومة بني مرين ومساماتهم في الغلب، وأن لا يبرز إلى لقائهم بالصحراء، وأن يلوذ منهم بالجدران متى سموا إليه. وألقى إليه، زعموا أن بني مرين بعد تغلبهم على مراكش، وإضافة سلطان الموحّدين إلى سلطانهم ازدادت قوتهم وتضاعف غلبهم، وقال له: زعموا فيما أوصاه: "لا يغرنك أني زحفت بعدها إليهم، وبرزت إلى لقائهم. فإني أنفت أن أرجع عن مقاومتهم بعد اعتيادها، وأترك مبارزتهم وقد عرفها الناس. وأنت فلا يضرك العجز عن مبارزتهم والنكول عن لقائهم، فليس لك في ذلك مقام معلوم، ولا عادة سالفة واجهد جهدك في التغلب على أفريقية وراءك، فإن فعلت كانت المناهضة". وهذه الوصاة زعموا هي التي حملت عثمان وبنيه من بعده على طلب ملك أفريقية، ومنازلته بجاية، وحربهم مع الموحدين. ولما هلك يغمراسن ذهب عثمان ابنه إلى مسالمة بني مرين، فبعث أخاه محمدا إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق، وأجاز البحر إليه بالأندلس. ووافاه مراكش في إجازته الرابعة سنة أربع وثمانين وسبعمائة، فعقد له على ما جاء إليه من السلم والمهادنة. ورجعه إلى أخيه وقومه ممتليا كرامة وسرورا. وهلك يعقوب بن عبد الحق إثر ذلك سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وقام بالأمر ابنه يوسف بن يعقوب. وانتزى الخوارج عليه بكل جهة، فشمر لهم واستنزلهم وحسم أدواءهم. ثم خرج ابنه عليه آخرا كما ذكرناه بممالأة الشيطان محمد بن عطو. ثم فاء إلى طاعة أبيه، ورضي عنه، وأعاده إلى مكانه من حضرته. وطالب عثمان بن يغمراسن كما ذكرناه في ابن عطو المنتزي عليه مع ابنه، فأبى عثمان من إسلامه. وتحركت حفيظة السلطان واعتزم على غزوهم، فارتحل من مراكش لصفر من سنة تسع وثمانين وسبعمائة. وعهد عليها لابنه الأمير أبي عبد الرحمن. ثم نهض لغزاته من فاس آخر ربيع من سنته في عساكره وجنوده. وحشد القبائل وكافة أهل المغرب، وسار حتى نزل تلمسان. فانحجر عثمان وقومه بها، ولاذوا منه بجدارنها. فسار في نواحيها ينسف الآثار، ويخرب العمران ويحطم الزرع. ثم نزل بذراع الصابون من ساحتها. ثم انتقل منه إلى ثمامة وحاصرها أربعين يوما، وقطع شجراءها، وأباد غضراءها. ولما امتنعت عليه أفرج عنها وانكفأ راجعا إلى المغرب. وقضى نسك الفطر بعين الصفا من بلاد بني يزناتن، ونسك الأضحى وقربانه بتازى، وتلبث بها، ومنها كان فصوله للغزو عند انتقاض الطاغية كما نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن انتقاض الطاغية وإجازة السلطان لغزوه. لما رجع السلطان من غزو تلمسان، وافاه الخبر بأن الطاغية شانجة انتقض ونبذ العهد، وتجاوز التخوم. وغار على الثغور، فأوعز إلى قائد المسالح علي بن يوسف بن يزكاسن بالدخول إلى دار الحرب، ومنازلة شريش. وشن الغارات على بلاد الطاغية، فنهض لذلك في ربيع الآخر من سنة تسعين. وجاس خلالها، وتوغل في أقطارها، وأبلغ في النكاية. وفصل السلطان من تازى غازيا على أثره في جمادى، واحتل قصر مصمودة، واستنفر أهل المغرب وقبائله. ونفروا وشرع في إجازتهم البحر. وبعث الطاغية أساطيله إلى الزقاق حجزا دون الإجازة، فأوعز السلطان إلى قواد أساطيله بالسواحل وأغزاهم. التقت الأساطيل ببحر الزقاق في شعبان، فاقتتلوا وانكشف المسلمون ومحصهم الله. ثم أغزاهم ثانية، وخامت أساطيل العدو عن اللقاء، وصاعدوا عن الزقاق. وملكته أساطيل السلطان، فأجاز أخريات رمضان واحتل بطريف. ثم دخل دار الحرب غازياً، فنازل حصن بجير ثلاثة أشهر وضيق عليهم. وبث السرايا في أرض العدو، وردد الغارات على شريش وإشبيلية ونواحيهما إلى أن أبلغ في النكاية والإثخان، وقضى من الجهاد وطرأ. وزاحمه فصل الشتاء وانقطاع الميرة عن المعسكر، فأفرج عن الحصن ورجع إلى الجزيرة. ثم أجاز إلى المغرب فاتح إحدى وتسعين وسبعمائة، فتظاهر ابن الأحمر والطاغية على منعه الإجازة، كما نذكره إن شاء الله تعالى. والله أعلم. الخبرعن انتقاض ابن الأحمر ومظاهرته الطاغية علي طريف أعادها الله: ولما قفل السلطان من غزاته فاتح إحدى وتسعين وسبعمائة كما ذكرناه، وقد أبلغ في نكاية العدو، وأثخن في بلاده، فأهم الطاغية أمره، وثقلت عليه وطأته، والتمس الوليجة من لمحونه. وحذر ابن الأحمر غائلته، ورأى أن مغبة حاله الاستيلاء على الأندلس وغلبه على أمره، ففاوض الطاغية، وخلصوا نجيا. وتحدثوا أن استمكانه من الإجازة إليهم إنما هو نجرب مسافة بحر الزقاق، وانتظام ثغور المسلمين حفافيه بتصرف شوانيهم وسفنهم متى أرادوا فضلا عن الأساطيل. وإن أم تلك الثغور طريف، وإنهم إذا استمكنوا منها كانت ربيئة لهم على بحر الزقاق. وكان أسطولهم من مرقاها بمرصد لأساطيل صاحب المغرب الخائضين لجة ذلك البحر، فاعتزم الطاغية على منازلة طريف. وزعم له ابن الأحمر
بمظاهرته على ذلك، وشرط له المدد، والميرة لأقوات العسكر أيام منازلتها على أن تكو له إن حصلت. وتعاونوا على ذلك، وأناخ الطاغية بعساكر النصرانية على طريف. وألح عليها بالقتال، ونصب الآلات، وانقطع عنها المدد والميرة. واحتلت أساطيله ببحر الزقاق، فحالت دون الصريخ من السلطان وإخوانهم المسلمين. وضرب ابن الأحمر معسكره بمالقة قريبا منه، وسرب إليه المدد من السلاح والرجال والميرة من الأقوات وبعث عسكرا لمنازلة أصطبونة، وتغلب عليه بعد مدة من الحصار. واتصلت هذه الحال أربعة أشهر حتى أصاب أهل طريف الجهد ونال منهم الحصار، فراسلوا الطاغية لى الصلح والنزول عن البلد، فصالحهم واستنزلهم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. ووفى لهم بعهد واستشرف ابن الأحمر إلى تجافي الطاغية عنها كما عهدا عليه، فأعرض عن ذلك واستا بها بعد أن كان نزل له عن ستة من الحصون عوضا منها، ففسد ذات بينهما. ورجع ا الأحمر إلى تمسكه بالسلطان واستغاثته به لأهل ملته على الطاغية. وأوفد ابن عمه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف ووزيره أبا سلطان عزيز الداني، في وفد من أهل حضرته لتجديد العهد وتأكيد المودة، وتقرير المعذرة من شأن طريف. فوافوه مكانه منازلة تازوطا كما نذكر بعد، فأبرموا العقد وأحكموا الصلح. وانصرفوا إلى ابن الأحمر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة بإسعاف غرضه من المؤاخاة واتصال اليد. وهلك خلال ذلك قائد المسالح بالأندلس علي بن يزكاسن في ربيع سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة. وعقد السلطان لا وولي عهده الأمير أبي عامر على ثغور الأندلس التي في طاعته، وعهد له بالنظر مصالحها. وأنفذه إلى المجاز بعسكره، فوافاه هنالك السلطان ابن الأحمر، كما نذكر شاء الله تعالى. والله أعلم. الخبر عن وفادة ابن الأحمر علي السلطان والتقائهما بطنجة: لما رجعت الرسل إلى ابن الأحمر، وقد كرمت وفادتهم، وقضيت حاجاتهم وأحكمت في المؤاخاة مقاصدهم، وقع ذلك من ابن الأحمر أجمل موقع، وطار سر من أعواده. وأجمع الرحلة إلى السلطان لاستحكام العقد، والاستبلاغ في العذر واقعة طريف وشأنها، واستعدادهم لإغاثة المسلمين ونصرهم من عدوهم. فاعتزم ذلك وأجاز البحر ذا القعدة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، واحتل بنيونش من ساحة سبتة ثم
ارتحل إلى طنجة، وقدم بين يدي نجواه هدية سنية، أتحف بها السلطان، كان من أحفلها وأحسنها موقعا لديه فيما زعموا المصحف الكبير، أحد مصاحل عثمان بن عفان الأربعة المنبثقة إلى الآفاق، المختص هذا منها بالمغرب، كما نقله السلف. كان بنو امية يتوارثونه بقرطبة، فتلقاه الأمير أبو عامر هنالك وأخوه الأمير أبو عبد الرحمن ابنا السلطان واحتفلا في مبرته. ثم جاء السلطان على أثرهما من حضرته لتلقيه وبرور مقدمه، ووافاه بطنجة وأبلغ في تكرمته، وبر وفادته بما يكرم به مثله. وبسط ابن الأحمر العذر عن شأن طريف، فتجافى السلطان عن العذل. وأعرض عنه وقبل منه، وبر واحتفى، ووصل وأجزل.. ونزله له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة والغربية، وعشرين حصنا من ثغور الأندلس، كانت من قبل لطاعة صاحب المغرب ونزل عساكره. وعاد ابن الأحمر إلى الأندلس خاتم اثنتين وتسعين وسبعمائة محبوا محبورا. وأجازت عساكر السلطان معه لحصار طريف. وعقد على حربها ومنازلتها لوزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن خرباش الجشمي، فنازلها مدة، وامتنعت فأفرج عنها. وصرف السلطان همه إلى غزو تلمسان، وحصارها كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتزاء ابن الوزير الوطاسي بحصن تازوطا من جهة الريف واستنزال السلطان إياه: كان بنو الوزير هؤلاء رؤساء بني وطاس من قبائل بني مرين، ويرون أن نسبهم دخيل في بني مرين. وأنهم من أعقاب علي بن يوسف بن تاشفين لحقوا بالبدو، ونزلوا على بني وطاس ورسخت فيهم عروقهم، حتى لبسوا جلدتهم. ولم يزل السرو متربعا بين أعينهم لذلك، والرياسة شامخة بأنوفهم. وكانوا يرومون الفتك بالأمراء من أولاد عبد الحق، فلم يطيقوه. ولما احتل السعيد بتازى غازيا إلى تلمسان كما ذكرناه، ولحق ببلدهم الأمير أبو يحيى بن عبد الحق، ائتمروا في الفتك به. ونذر بشأنهم فارتحل، ففر الى غبولة وعين الصفا من بلاد بني يزناسن. وهنالك بلغه خبر مهلك السعيد. وكانت بلاد الريف لبني وطاس من لدن دخول بني مرين المغرب واقتسامهم لأعماله، فكانت ضواحيها لنزلهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم. وكان حصن تاوزطا بها من أمنع معاقل المغرب، وكان الملوك من أولاد عبد الحق يعتنون بشأنه وينزلون به من أوليائهم من
يثقون بغنائه واضطلاعه، ليكون آخذا بناصية م!ت هؤلاء الرهط وشجا في صدورهم عما يسمون إليه. وكان السلطان قد عقد عليه لمنصور ابن أخيه الأمير أبي مالك، بعد مهلك أبيه أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق. وكان عمر بن يحيى بن الوزير وأخوه عامر رئيسين على بني وطاس لذلك العهد، فاستوهنوا أمر السلطان بعد مهلك أبيه. وحدثوا أنفسهم بالانتزاء بتازوطا والاستبداد بتلك الناحية، فوثب عمر منهم بمنصور ابن أخي السلطان شهر شؤال من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وفتك برجاله وذويه، وأزعجه عنه، وغلبه على مال الجباية الذي كان بقصره، فاستصفاه واستأثر به. واستبد وشحن الحصن برجاله وحاشيته ووجوه قومه. ووصل منصور إلى السلطان، وهلك لليال من منجاته أسفا لما أصابه. وسرح السلطان وزيره الطائر الذكر عمر بن السعود بن خرباش بالعساكر لمنازلته، فأناخ عليه. ثم نهض السلطان على أثره، ووافاه وضرب معسكره بساحته. وخالف عامر أخاه عمر إلى السلطان بقومه حذرا من مغبة الأمر، وأشفق عمر لشدة الحصار ويئس من الخلاص، وظن أن قد احيط به. ودس إلى أخيه عامر، فاذن السلطان في مداخلته في النزول عن الحصن، فاذن له. واحتمل ذخيرته، وفر إلى تلمسان. وبدا لعامر في رأيه عندما خلص إلى الحصن وخلا له من عمر أخيه الجو. وحذر غائلة السلطان وخشي أن يثأر منه بأخيه، فامتنع بالحصن. ثم ندم وسقط في يده. وفي خلال ذاك كان وصول وفد الأندلس، وأرسوا أساطيلهم بمرقى غساسة. فبعث إليهم عامر أن يشفعوا له عند السلطان لوجاهتهم لديه، فتقبلت شفاعتهم على شريطة إجازته إلى الأندلس. وكره ذلك وقدم بين يديه بعض حاشيته إلى الأسطول مكرا بهم. وخاض الليل إلى تلمسان، فتقبّضالسلطان على ولده وقتل. وأسلم أهل الأسطول من كان من حاشيته لديهم، وتجافوا عن إجازتهم على السلطان لما مكر بهم عامر. فاستلحموا مع من كان بالحصن من أتباعهم وقرابتهم وذويهم. وتملك السلطان حصن تازوطا، وأنزل به عماله ومسلحته، وقفل إلى حضرته بفاس آخر جمادى من سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة. والله تعالى أعلم. الخبر عن نزوع أبي عامر ابن السلطان إلى بلاد الريف وجبال غمارة: كان الأمير أبو عامر بعد إجازة ابن الأحمر إلى السلطان أبيه ورضاه عنه، وتأكيد مؤاخاته وإغزاء وزيره عمر بن السعود لمنازلة طريف، واستنزاله أولاد الوزير المنتزين
بحصن تازوط، رجع من قصر مصمودة إلى بلاد الريف، بإيعاز أبيه إليه بذلك لتسكين أحوالها. وكان أولاد الأمير أبي يحيى بن عبد الحق قد نزعوا إلى تلمسان لسعاية فيهم وقرت في صدر السلطان، فأقاموا بها أياما. ثم استعطفوا السلطان واسترضوه، فرضي وأذن لهم في الرجوع إلى محلهم من قومهم ودولتهم. وبلغ الخبر الأمير أبا عامر، وهو بمعسكره من الريف، فأجمع على اغتيالهم في طريقهم يظن أنه يرضي بذلك أباه. واعترضهم بوادي القطف من بلاد ملوية سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فاستلحمهم. وانتهى الخبر إلى السلطان، فقام في ركائبه وقعد، وتبرأ إلى الله من إخفار ذمته، ومن صينع ابنه. وسخطه وأقصاه، فذهب مغاضبا ولحق ببلاد الريف. ثم صعد إلى جبال غمارة، فلم يزل طريدا بينهم. ونازلته عساكر أبيه لنظر ميمون بن ودران الجشمي، ثم لنظر زيكن بن المولاة تاميمونت. وأوقع بهم مرارا اخرها بيرزيكن سنة تسع وتسعين وسبعمائة. وذكر الزليخي مؤرخ دولتهم أن خروجه بجبل غمارة كان سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وقتله لأولاد الأمير أبي بحيى كان سنة خمس وتسعين وسبعمائة بعدها، أغرا بهم من مثوى انتزائه، وقتلهم كما ذكرناه والله أعلم. ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك ببني سعيد من جبال غمارة سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، ونقل شلوه إلى فاس فووري بباب الفتوح بملجد قومهم هنالك. وأعقب ولدين كفلهما السلطان جدهما، فكانا الخليفتين من بعده، على ما نذكر إن شاء الله تعالى. والله أعلم. الخبر عن ترديد الغزو إلي تلمسان ومنازلتهما: كان عثمان بن يغمراسن بعد إفراج السلطان عنه سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وانتقاض الطاغية وابن الأحمر عليه كما قلناه، صرف إلى ولايتهما وجه تدبيره. وأوفد على الطاغية ابن بريدي من صنائع دولته سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ورجعه الطاغية مع الريك ريكسن رسول من كبار قومه. ثم أعاد إليه الحاج المسعود من حاشيته، ووصل يده بيده يظن ذلك دافعا عنه. واعتدها السلطان عليه، وطوى له على النث. حتى إذا فرغ من شأن الأندلس، وهلك الطاغية شانجة سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة لإحدى عشرة من سني ملكه. وارتحل السلطان الى طنجة لمشارفة أحوال الأندلس سنة أربع وتسعين وسبعمائة، فأجاز إليه السلطان ابن الأحمر ولقبه بطنجة، وأحكم معه المؤاخاة. ولما استيقن سكون أحوالها، نزل لابن الأحمر عن جميع الثغور التي بها لطاعته، وأجمع غزو تلمسان. ولحق به بين يدي ذلك ثابت بن
منديل المغراوي صريخاً على ابن يغمراسن ومستجيشاً بقومه، فتقبله وأجاره. وكان أصاب الناس أعوام اثنتين وتسعين وسبعمائة وما بعدها قحط، ونالتهم سنة وهنوا لها. ثم إن الله رحم خلاقه وأدر نعمته، وأعاد الناس إلى ما عهدوه من سبوغ نعمهم وخصب عيشهم. ووفد عليه سنة أربع وتسعين وسبعمائة ثابت بن منديل أمير مغراوة مستصرخا به من عثمان بن يغمراسن، فبعث من كبار قومه موسى بن أبي حمّو إلى تلمسان شفيعا لثابت بن منديل، فرده عثمان أقبح رد وأساء في إجابته، فعاود الرسالة إليه في شأنه، فلم تزدهم إلا ضررا، فاعتزم على غزو بلادهم واستعد لذلك. ونهض سنة أربع وتسعين وسبعمائة حتى انتهى إلى بلاد لاوريرت، وكان تشما لعمل بني مرين وبني عبد الواد: في جانبها عامل السلطان أبي يعقوب، وفي جانبها الآخر عامل عثمان بن يغمراسن. فطرد السلطان عامل يغمراسن وتميز بها. واختط الحصن الذي هنالك لهذا العهد. تولاه بنفسه يغادي الفعلة ويراوحهم. وأكمل بناءه في شهر رمضان من سنته، واتخذه ثغرا لملكه. وأنزل بني عسكر لحياطته وسد فروجه. وعقد عليه لأخيه أبي يحيى بن يعقوب، وانكفأ راجعا إلى ا لحضرة. ثم خرج من فاس سنة خمس وتسعين وسبعمائة غازيا إلى تطمسان. ومرّ بوجدة فهدم أسوارها، وتغلب على مسيفة والزعارة. وانتهى إلى ندرومة، ونازلها أربعين يوما ورماها بالمجانيق. وضيق عليها، فامتنعت عليه، فأفرج عنها ثاني الفطر. ثم غزا تلمسان سنة ست وتسعين وسبعمائة، وبرز لمدافعته عثمان بن يغمراسن، فهزمه وأحجزه بتلمسان ونزل بساحته، وقتل خلقا من أهلها، ونازلها أياما، ثم أقلع عنها، وقفل إلى المغرب، وقضى منسك الأضحى من سنته بتازى. فأعرس هنالك بحافدة ثابت بن منديل، كان أصهر فيها إلى جذها قبل مهلكه سنة ست وتسعين وسبعمائة قتيلا ببحيرة الزيتون من ظاهر فاس. قتله بعض بني ورتاجن في دم كان لهم في قومه، فثار السلطان به من قاتله وأعرس بحافدته. وأوعز ببناء القصر بتازى، وقفل إلى فاس فاتح سبع وتسعين وسبعمائة. ثم ارتحل إلى مكناسة وانكفأ إلى فاس. ثم نهض في جمادى غازيا تلمسان. ومرّ بوجدة فأوعز ببنائها وتحصين أسوارها، واتخذ فيها قصبة ودارا لسكناه ومسجدا وأغزى إلى تلمسان. ونزل بساحتها، وأحاطت عساكره إحاطة الهالة بها، ونصب عليها القوس البعيدة النزع العظيمة الهيكل المسماة بقوس الزيار ازدلف إليه الصناع والمهندسون بعملها، وكانت توقر على أحد عشر بغلا.
ثم لما امتنعت عليه تلمسان، أفرج عنها فاتح سنة ثمان. ومرّ بوجدة، فأنزل بها الكتائب من بني عسكر لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب كما كانوا بتاوريرت. وأوعز إليهم، فتردد الغارات على أعمال ابن يغمراسن وإفساد سابلتها. وضاقت أحوالهم ويئسوا من صريخ صاحبهم، فأوفدوا على الأمير أبى يحيى وفدا منهم يسألون الأمان لمن وراءهم من قومهم، على أن يمكنوه من قياد بلدهم، ويدينوا بطاعة السلطان فبذل لهم من ذلك ما أرضاهم، ودخل البلد بعسكره. واتبعهم أهل تاوونت. وأوفد مشيختهم جميعا على السلطان اخر جمادى، فقدموا عليه بحضرته. وأدوا طاعتهم، فقبلها. ورغبوا إليه في الحركة إلى بلادهم ليريحهم من ملكة عدوهم ابن يغمراسن. ووصفوا من عسفه وجوره وضعفه عن الحماية، ما استنهض السلطان لذلك، على ما نذكر إن شاء الله تعالى. والله أعلم. الخبر عن الحصار الكبير لتلمسان وما تخلل ذلك من الأحداث: لما توفرت عزائم السلطان على النهوض إلى تلمسان، ومطاولة حصارها إلى أن يظفر بها وبقومها، واستيقن أنه لا مدافع له عن ذلك، فنهض من فاس في شهر رجب سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، بعد أن استكمل حشده. ونادى في قومه، واعترض عساكره وأجزل أعطياتهم، وأزاح عللهم. وارتحل في التعبية، واحتل بساحة تلمسان ثاني شعبان وأناخ عليها وضرب معسكره بفنائها. وأحجز عثمان بن يغمراسن وحاميتها من قومه، وأدار الأسوار سياجاً على عمرانها كله، ومن ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى. ورتب المسالح على أبوابها وفرجها. وسرح عساكره إلى هنين، فافتتحها وأتوا طاعتهم، وأوفدوا مشيختهم وسط شعبان. ثم سرح عساكره لمحاصرة وهران وتقري البسائط ومنازلة الأمصار، فأخذت مازونة في جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين وسبعمائة. ونهض في شعبان بعده فافتتح تاللوت والقصبات وتامززدكت في رمضان منه. وفيه كان فتح مدينة وهران. وسارت عساكره في الجهات إلى أن بلغت بجاية كما نذكره. وأخذ الرعب بقلوب الأمم بالنواحي، وتغلب على ضواحي مغراوة وتوجين، وسارت فيها عساكره ودوختها كتائبه، واقتحمت أمصارها راياته: مثل مليانة ومستغانم وشرشال والبطحاء ووانشريش والمدية وتافركينت. وأطاعه زيري المنتزي ببرشك، وأتى بيعته. وابن علان المنبري بالجزائر،
وأتى بيعته. وأزعج الناكبين منهم عن طاعته. واستألف أهل الصاغية كما نذكره. وحذره الموحدون من ورائهم بإفريقية ملوك بجاية وملوك تونس، فمدوا إليه يد المواصلة ولاطفوه بالمتاحفة والمهاداة وخاطب صاحب الديار المصرية ملك الترك، وهاداه وراجعه كما نذكره. ووفد عليه شرفاء مكة بنو أبي نمي كما نذكر. وهو في خلال ذلك مستجمع لمطاولة الحصار والتضييق، متجاف عن القتال إلا في بعض الأيام، لم تبلغ زعموا أربعة أو خمسة، ينزل شديد العقاب والسطو بمن يميرها ويأخذ بالمراصد على من يتسلل بالأقوات إليها. قد جعل سرادق الأسوار المحيطة ملاكا لأمره في ذلك، فلا يخلص إليهم الطيف ولا يكاد يصل إليهم العيث مدة مقامه عليها، إلى أن هلك بعد ماية شهر كما نذكره. واختط بمكان فساطيط المعسكر قصرا لسكناه، واتخذ فيه مسجدا لمصلاه. وأدار عليها السور، وأمر الناس بالبناء، فابتنوا الدور الواسعة والمنازل الرحيبة والقصور الأنيقة، واتخذوا البساتين وأجروا المياه. ثم أمر بإدارة السور سياجا على ذلك سنة اثنتين وسبعماية وصيرها مصرا، فكانت من أعظم الأمصار والمدن، وأحفلها اتساع خطة وكثرة عمران ونفاق أسواق واحتفال بناء وتشييد منعة. وأمر باتخاذ الحمامات والخانات والمارستان، وابتنى بها مسجدا جامعا. وشيد له مأذنة رفيعة، فكان من أحفل مساجد الأمصار وأعظمها. وسماها المنصورة، واستبحرت عمارتها، وهالت أسواقها. ورحل إليها التجار بالبضائع من الافاق، فكانت أحد مدائن المغرب. وخربها آل يغمراسن عند مهلكه، وارتحال كتائبه عنها، بعد أن كان بنو عبد الواد أشرفوا على الهلاك، وأذنوا بالانقراض كما نذكره، فتداركهم من لطف الله ما شأنه أن يتدارك المتورطين في الهلاك والله غالب على أمره. الخبر عن افتتاح بلاد مغراوة وما تخلل ذلك من الأحداث: لما أناخ السلطان عن ظمسان، وتغلب على ضواحي بني عبد الواد، وافتتح أمصارهم سما إلى التغلب على ممالك مغراوة وبني توجين. وكان ثابت بن منديل قد وقد على السلطان بمقر ملكه من فاس سنة أربع وتسعين وسبعمائة، وأصهر إليه في حافدته، فعقد له عليها. وهلك ثابت بمكان وفادته من دولتهم، وأعرس السلطان بحافدته سنة ست وتسعين وسبعمائة كما ذكرنا ذلك كله من قبل، فلما تغلب السلطان على أعمال بني عبد الواد،
جهز عساكره إلى بلاد مغراوة وعقد عليها لعلي بن محمد الخيري من عظماء بني ورتاجن، فتغلبوا على الضواحى وشردوا مغراوة إلى رؤوس المعاقل. واعتصم راشد بن محمد بن ثابت بن مند!ل صهر السلطان بمليانة، فنازلوه بها. ثم استنزلوه على الأمان سنة نسع وسعين، وأوفدوه على السلطان، فلقاه مبرة وتكرمة، وخلطه بجملته المكان أصهره معه. ثم افتتحوا مدينة تنس ومازونه وشرشال. وأعطى زيري بن حماد المنتزي على برشك من بلادهم يد الطاعة. وأوفد على السلطان للبيعة واستولوا على ضواحي شلف كلها. ولاذت مغراوة بطاعة السلطان. وعقد عليهم وعلى جميع بلادهم لعمر بن ويغرن بن منديل فأسف لذلك راشد بن محمد لما كان يراه لنفسه من الاختصاص. ولما كانت أخنه حظية السلطان وكريمته، ونافس عمر بن ويغرن في إمارة قومه، فلحق بجبال متيجة، وأجلب على من هنالك من عمال السلطان وعساكره. وانحاش إليه مرضى القلوب من قومه، فاعصوصبوا عليه. وداخل أهل مازونة، فانتقضوا على السلطان وملكوه أمرهم في شهر ربيع من الماية السابعة. ثم بيت عمر بن ويغرن بمعسكره من وازمور، فقتله واستباح المعسكر. وبلغ الخبر إلى السلطان، فسرح العساكر من بني مرين. وعقد لعلى بن الحسن بن أبي الطلاق على قومه من بني عسكر، ولعلي بن محمد الخيري قومه من بني ورتاجن، وجعل الأمر شورى بينهما، وأشرك معهما عليا الحساني من صنائع دولته، وأبا بكر بن إبراهيم بن عبد القوي من أعياص بني توجين. وعقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل، وأشركه معهم، وزحفوا إلى راشد. ولما أحس بالعساكر لجأ إلى معقل بني بو سعيد فيمن معه من شيعته مغراوة. وأنزل بمازونة عليا ابني عمه يحيى بن ثابت واستوصاهم بضبط البلد، وأنه مشرف عليهم من الجبل. وجاءت عساكر السلطان إلى بلاد مغراوة، فتغلبوا على البسائط وأناخوا بمازونة، وضربوا معسكرهم بساحتها وأخذوا بمخنقها، واهتبل علي وقومه غرة في معسكر بني مرين، فبيتهم سنة إحدى وسبعماية. وانفض المعسكر وتقبض على علي بن محمد الخيري، ثم امتنعوا عليه وعاد المعسكر إلى مكانه من حصارهم. وجهدهم حالهم، فنزل إليهم حمّو بن يحيى على حكم السلطان. وأنفذوه إليه، فتقبّضعليه. ثم نزل علي ثانية من غير عهد فأشخصوه إلى السلطان ولقاه مبرة وتكريما، تأنيسا لراشد المنتزي
بمعقله. واقتحمت مازونة على أهلها عنوة سنة ثلاث، فمات منهم عالم واحتملت رؤوسهم إلى سدة السلطان، فرميت في حفائر البلد المحصور إرهابا لهم وتخذيلا. ولما عقد السلطان لأخيه أبي يحيى على بلاد الشرق، وسرحه لتدويخ التخوم، نازل راشدا بمعقله من بني بوسعيد. فبيت راشد معسكرهم إحدى لياليه، فانفضوا وقتل طائفة من بني مرين. ووجد لها السلطان، فأمر بقتل علي وحمّو ابني عمه يحيى، ومن كان معتقلا معهما من قوه هم. رفعوهم على الجذوع، وأثبتوهم بالسهام. ونزل راشد بعدها عن معقله ولحق بمتيجة، وانحاش إليه عمه منيف بن ثابت، وأوشاب من مغراوة. وتحيز الاخرون إلى أميرهم محمد بن عمر بن منديل الذي عقد له السلطان عليهم. ثم تأشبت على راشد ومنيف خوارج الثعالبة ومليكش، وصمد إليهم الأمير أبو يحيى في عساكره ثانية ونازلهم بمعاقلهم ورغبوا في السلم، فبذله السلطان لهم. وأجاز منيف بن ثابت إلى الأندلس فيمن إليه من بنيه وعشيره، فاستقروا بها آخر الأيام. ولحق راشد ببلاد الموحدين. ووفد محمد بن عمر بن منديل سنة خمس على السلطان، فأوسعه حبا وتكريما. وتمهدت بلاد مغراوة، واستبد بملكها السلطان، وصرف إليها العمال ولم يزل كذلك إلى أن هلك سنة ست. والله تعالى أعلم. الخبر عن افتتاح بلاد بني توجين وما تخلل ذلك: لما نازل يوسف بن يعقوب تلمسان وأحاط بها، وتغلب على بلاد بني عبد الواد، سما إلى تملك بلاد بني توجين. وكان عثمان بن يغمراسن قد غلبهم على مواطنهم، وملك جبل وانشريش وتصرف في بلاد عبد القوي بالولاية والعزل وأخذ الأتاوة سنة إحدى وسبعماية. وأوعز إليه السلطان ببناء البطحاء التي هدمها محمد بن عبد القوي، فبناها وتوغل في قاصية الشرق ثم انكفأ راجعا إلى حضرة أخيه وعطف على بلاد بني توجين سنة اثنتين، وفر بنو عبد القوي إلى ضواحيهم بالقفر، ودخل جبل وانشريش، وهدم حصونهم به، ورجع إلى الحضرة. ثم بادره أهل تافركنيت سنة ثلاث بإتيان الطاعة، ونقضوا بعدها. ثم بعث أهل المدية بطاعتهم للسلطان، فتقبلها وأوعز ببناء قصبتها. وراجع بنو عبد القوي بعد ذلك بصائرهم في طاعة السلطان، ووفدوا عليه بمكانه من المنصورة مدينته المحيطة على تلمسان سنة ثلاث، فتقبل طاعتهم وراعى سابقتهم
وأعادهم إلى بلادهم وأقطعهم، وولى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي. وأوعز ببناء قصبة المدية سنة أربع، وكملت سنة خمس. وهلك علي بن الناصر خلال ذلك، فعقد عليهم لمحمد بن عطية الأصم كما ذكرناه، فاستمر على الطاعة. ثم انتقض سنة ست، وحملى قومه على الخلاف وانتبذوا عن الوطن، إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما ذكرناه والله تعالى أعلم.
الخبر عن مراسلة الموحّدين ملوك أفريقية بتونس وبجاية وأحواله معهم:
كان لبني أبي حفص ملوك أفريقية مع زناتة هؤلاء أهل المغرب من بني مرين وبني
عبد الواد سوابق مذكورة، فكانت لهم على يغمراسن وبنيه طاعة معروفة يودون بيعتها ويخطبون على منابرهم بدعوتها مذ تغلب الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد على تلمسان، وعقد عليها ليغمراسن، واستمر حالهم على ذلك. وكانت لهم أيضا مع بني مرين ولاية سابقة، بما كان بنو مرين مذ أول أمرهم يخاطبون الأمير أبا زكريا، ويبعثون له ببيعة البلاد التي تغلبوا عليها: مثل مكناسة والقصر ومراكش آخرا. ثم صارت خالصة من لدن عهد المستنصر ويعقوب بن عبد الحق. وكانوا يتحفونهم بالمال والهدايا في سبيل المدد على صاحب مراكش وقد ذكرنا السفارة التي وقعت بينهما سنة خمس وستين، وإن يعقوب أوفد عامر بن إدريس وعبد الله بن كندوز ومحمد الكناني وأوفد عليه المستنصر سنة سبع بعدها كبير الموحّدين يحيى بن صالح الهنتاتي في وفد من مشيحة الموحدين، ومعهم هدية سنية. ثم أوفد الواثق ابنه سنة سبع وسبعين قاضي بجاية المذكور أبا العبّاس أحمد الغماري، وأسنى الهدية معه. ولم يزل الشأن بينهم هذا إلى أن افترق أمر آل أبي حفص. وصار الأمير أبو زكريا ابن الأمير أبي إسحاق بن يحيى بن عبد الواحد من عشه بتلمسان في وكر عثمان بن يغمراسن. وأسف إلى بجاية، فاستولى عليها سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة. واستضاف إليها قسنطينة وبونة، وصيرها عملا لملكه، ونصب بها كرسيا لأمره. وأسف عثمان بن يغمراسن لفراره من بلده، لما كان عليه من التمسك بدعوة عفه أبي حفص صاحب تونس، فشق ذلك عليه ونكره، واستمرت الحال على ذلك. ولما أخذ السلطان يوسف بن يعقوب بمخنق تلمسان، وأوسع قواعد ملكه بساحتها، وسرح عساكره لالتهام الأمصار والجهات، توجس الموحدون الخيفة منه على
أوطانهم. وكان الأمير أبو زكريا في جهات تدلس محاميا عن حوزته وعمله. ووصله هنالك راشد بن محمد نازعا عن السلطان أبي يعقوب. ثم طلعت العساكر على تلك الجهات في أتباعه، فزحف إليه عسكر الموحّدين سنة تسع وتسعين وسبعمائة بناحية جبل الزاب، ففضوا جمعه. وأوقعوا به واستلحموا جنوده واستبحر القتل فيهم، وبقيت عظامهم ماثلة بمصارعهم سنين. ورجع الأمير أبو زكريا إلى بجاية، فانحصر بها. وهلك تفيئة ذلك على رأس الماية السابعة. وقارن ذلك مغاضبة بينه وبين أمير الزواودة لعهده عثمان بن سباع بن يحيى بن دريد بن مسعود البلط، فوفد على السلطان اخريات إحدى وسبعماية. ورغبه في ملك بجاية، واستغذه للسير إليها، فأوعز إلى أخيه الأمير أبي يحيى بمكانه من منازلة مغراوة ومليكش والثعالبة، بأن ينهض إلى عمل الموحدين. وسار عثمان بن سباع وقومه بين يدي العساكر يتقصون الطريق، إلى أن تجاوز الأمير أبو يحيى بعساكره بجاية. واحتل بتاكرارت من أوطان سدويكش من أعمال بجاية. وأطل على بلاد سدويكش، وانكفأ راجعا، فأوطأ عساكره بساحة بجاية، وبها الأمير خالد بن يحيى. وناشبهم القتال ببعض أيام جلا فيها أولياء السلطان أبي البقاء عن أنفسهم وسلطانهم. وأمر بروض السلطان المسمى بالبديع، فخربه وكان من أنيق الرياض وأحفلها. وقفل إلى مكانه من تدويخ البلاد. وأعرض عن أعمال الموحدين. وكان صاحب تونس لذلك العهد محمد المستنصر الملقب بأبي عصيدة بن يحيى الواثق، فأوفد على السلطان شيخ الموحّدين بدولته محمد بن أكمازير في أسباب الولاية، ومحكما مذاهب الوصلة ومقررا سوابق السلف، فوفد في مشيخة من قومه لشعبان سنة ثلاث. وناغاه الأمير أبو البقاء خالد صاحب بجاية، فأوفد مشيخة من أهل دولته كذلك. وبر السلطان وفادتهم وأحسن منقلبهم. ثم عاد ابن أكمازير سنة أربع وسبعماية، ومعه شيخ الموحّدين وصاحب السلطان أبو عبد الله بن يرزيكن في وفد من عظماء الموحدين. وأوفد صاحب بجاية حاجبه أبا محمد الرخامي، وشيخ الموحّدين بدولته عياد بن سعيد بن عثيمن. ووفدوا جميعاً على السلطان ثالث جمادى، فأحسن السلطان في تكرمتهم ما شاء، وأوصلهم إلى نفسه بمساكن داره وأراهم أبهة ملكه وأطافهم قصوره ورياضه، بعد أن فرشت ونمقت، فملأ
قلوبهم جلالا وعظمة. ثم بعثهم إلى المغرب ليطوفوا على قصور الملك بفاس ومراكش، وشاهدوا آثار صلفهم،. وأوعز إلى عمال المغرب بالاستبلاع في تكرمتهم وإتحافهم. فانتهوا من ذلك إلى الغاية، وانقلبوا إلى حضرته آخر جمادى، وانصرفوا إلى ملوكهم بالحديث عن شأن رسالتهم وكرامة وفدهم. ثم أعاد ملوكهم مراسلة السلطان سنة خمس بعدها فوفد أبو عبد الله بن أكمازير من تونس، وعياد بن سعيد بن عثيمن من بجاية. وأوفد السلطان على صاحب تونس مع رسوله صاحب الفتيا بحضرته الفقيه أبا الحسن التنسي وعلي بن يحيى البرشكي رسولين يسألانه المدد بأسطوله، فقضوا رسالتهم سنة خمس، ووصل بخبرها أبو عبد الله المزدوري من مشيخة الموحدين. واقترن بذلك وصول حسون بن محمد بن حسون المكناسي من صنائع السلطان. كان أوفده مع ابن عثيمن على مراسلة الأمير أبي البقاء خالد صاحب بجاية في صلب الأسطول أيضا، فرجعوه بالمعاذير. وأوفدوا معه عبد الحق بن سليمان، فتلقاهم السلطان بالمبرة. وأوعز إلى عامره بوهران أن يستبلغ في تكريم عمرة الأسطول، فجرى في ذلك على مذهبه. وانقلبوا جميعا أحسن منقلب. وغني السلطان عن أسطولهم لفوات وقت الحاجة إليه من منازلة بلاد السواحل، إذ كان قد تملكها أيام مماطلتهم بيعته. واتصل الخبر بصاحب تلمسان الأمير أبي زيان بن عثمان المبايع أيام الحصار عند مهلك أبيه عثمان بن يغمراسن آخر سنة ثلاث، فبلغه صنع الموحّدين في موالاتهم عدوهم السلطان يوسف بن يعقوب ومظاهرته بأساطيلهم عليه، فأسفه ذلك وأخرس منابرهم عما كانت تنطق به من الدعاء من عهد يغمراسن فلم يراجع دعونهم من بعد. وهلك السلطان على تفيئة ذلك. والبقاء لله وحده. الخبر عن مراسلة المشرق الأقصي ومهاد اتهم ووفادة أمراء الترك على السلطان وما تخلل: لما استولى السلطان على المغرب الأوسط بممالكه وأعماله، وهنأته ملوك الأقطار وأعراب الضواحي والقفار، وصلحت السابلة ومشت الرفاق إلى الآفاق، استجد أهل المغرب عزما في قضاء فرضهم. ورغبوا من السلطان إذنه لركب الحاج في السفن إلى مكة، فقد كان عهدهم بعد بمثلها لفساد السابلة واستهجان الدول. فسما للسلطان في ذلك أمل ودخله بحرم الله وروضة نبيه الشوق، فأمر بانتساخ مصحف رائق الصنعة كتبه
ونفقه أحمد بن حسن الكاتب المحسن. واستوسع في جرمه وجعل غشاءه من بديع الصنعة، واستكثر فيه من مغالق الذهب المنظم بخرزات الدر والياقوت. وجعلت منها حصاة وسط المغلق تفوت الحصيات مقداراً وشكلاً وحسنا. واستكثر من الأصونة عليه، ووقفه على الحرم الشريف، وبعث به مع الحاج سنة ثلاث. وعنى بشأن هذا الركب، فسرح معهم حامية من زناتة تناهز خمس ماية من الأبطال. وقلد القضاء عليهم محمد بن زغبوش من أعلام أهل المغرب، وخاطب صاحب الديار المصرية واستوصاه بحاج المغرب من أهل مملكته، وأتحفه بهدية من طرف بلاد المغرب، فاستكثر فيها من الخيل العراب، والمطايا الفارهة: يقال إن المطايا كانت منها أربعماية. حدثني بذلك من لقيته إلى ما يناسب ذلك من طرف المغرب وماعونه. ونهج السبيل بها للحجاج من أهل المغرب، فأجمعوا الحج سنة أربع بعدها. وعقد السلطان على دلالتهم لأبي زيد الغفائري، وفصلوا من تلمسان لشهر ربيع الأول. وفي شهر ربيع الآخر بعده كان مقدم الحاج الأولين حملة المصحف ووفد معهم على السلطان الشريف لبيدة بن أبي نمي نازعاً عن سلطان الترك، لما كان تقبض على أخويه خميصة ورميتة إثر مهلك أبيهم أبي !ي صاحب مكة سنة إحدى وسبعماية، فاستبلغ السلطان في تكريمه، وسرحه إلى المغرب ليجول في أقطاره ويطوف على معالم المملكة وقصوره. وأوعز إلى العمال بتكريمه، وإتحافه كل على شاكلته. ورجع إلى حضرة السلطان سنة خمس، وفصل منها إلى المشرق، وصحبه من أعلام المغرب أبو عبد الله فوزي حاجاً. ولشعبان من سنة خمس وصل أبو زيد الغفائري دليل ركب الحاج الآخرين، ومعه بيعة الشرفاء أهل مكة للسلطان، لما أسفهم صاحب مصر بالتقبض على إخوانهم. وكان شأنهم ذلك حتى غاضبهم السلطان. فقد سبق في أخبار المستنصر بن أبي حفص مثلها، وأهدى السلطان ثوبا من كسوة البيت شغف به واتخذ منه ثوبا للباسه في الجمع والأعياد، يستبطنه بين ثيابه تبركاً به. ولما وصلت هدية السلطان إلى صاحب مصر لعهده الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي حسن موقعها لديه، وذهب إلى المكافأة، من طرف بلاده من الثياب والحيوان ما يستغرب جنسه وشكله من نوع الفيل والزرافة. وأوفد بها من عظماء دولته الأمير التليلي، وفصل من القاهرة اخريات سنة خمس، ووصلت إلى تونس في ربيع من سنة ست بعدها. ثم كان وصولها إلى سدة
السلطان بالمنصورة من البلد الجديد في جمادى الآخرة واهتز السلطان لقدومها، واستركب الناس للقائها. واحتفل للقاء هذا الأمير التليلي ومن معه من أمراء الترك، وبر وفادتهم واستبلغ في تكريمهم نزلاً وقرى، وبعثهم إلى المغرب على العادة في مبرة أمثالهم. وهلك السلطان خلال ذلك، وتقبل أبو ثابت سنته من بعده في تكريمهم، فأحسن منقلبهم وملا حقائبهم صلة وبرأ. وفصلوا من المغرب لذي الحجة سنع سبع. ولما انتهوا إلى بلاد بني حسن في ربيع من سنة ثمان، اعترضهم الأعراب بالقفر فأنهبوهم. وخلصوا إلى مصر بجريعة الذقن، فلم يعاودوا بعدها إلى المغرب سفرا، ولا لفتوا إليه وجها. وطال ما أوفد عليهم ملوك المغرب بعدها من رجال دولتهم من يؤبه به، يهادونهم ويكافئون ولا يزيدون في ذلك كله على الخطاب شيئا. وكان الناس لعهدهم ذلك يتهمون أن الذين نهبوهم أعراب حصين، بدسيسة من صاحب تلمسان أبي حمّو لعهدهم، منافسة لصاحب المغرب لما بينهم من العداوات والإحن القديمة. أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الآبلي قال: حضرت بين يدي السلطان وقد وصله بعد الحاج من أهل بلده مستصحبا كتاب الملك الناصر بالعتاب على شأن هؤلاء الأمراء، وما أصابهم في طريقهم من بلاده، وأهدى له مع ذلك كوزين بدهن البلسان المختص ببلادهم، وخمسة مماليك من الترك رماة بخمسة أقواس من قسي الغز المؤنقة الصنعة من العرى والعقب، فاستقل السلطان هديته تلك بنسبة ما أهدوا إلى ملك المغرب. ثم استدعى القاضي محمد بن هدية، وكان يكتب عنه، فقال له: الآن اكتب إلى الملك الناصر ما أقول لك، ولا تحرف كلمة عن موضعها إلا ما تقتضيه صناعة الأعراب، وقل له: أما عتابك على شأن الرسل وما أصابهم في طريقهم، فقد حضروا عندي وأبنت لهم الاستعجال حذراً مما أصابهم، وأريتهم مخاوف بلادنا وما فيها من كوائل الأعراب، فكان جوابهم: إنا جئنا من عند ملك المغرب فكيف نخاف، مغترين بشأنهم يحسبون أن أمره نافذ في أعراب قبائلنا، وأما الهدية فردت عليك: أما دهن البلسان، فنحن قوم بادية لا نعرف إلا الزيت، وحسبنا به دهنا. وأما المماليك الرماة قد افتتحنا بهم إشبيلية وصرفناهم إليك لتفتح بهم بغداد والسلام. قال لي شيخاً، وكان الناس إذ ذاك لا يشكون أن انتهابهم كان بإذن منه، وكان هذا الكتاب دليلا على ما في نفسه. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.
الخبر عن انتقاض ابن الأحمر واستيلاء الرئيس أبي سعيد علي سبتة وخروج عثمان بن أبي العلاء في غمارة: لما أحكم السلطان عقد المهادنة والولاية مع السلطان ابن الأحمر المعروف بالفقيه، عند إجازته إليه بطنجة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة كما ذكرناه، وفرغ لعدوه، تمسك ابن الأحمر بولايته تلك، إلى أن هلك سنة إحدى وسبعماية في شهر شعبان منه. وقام بأمر الأندلس من بعده ابنه محمد المعروف بالمخلوع. واستبد عليه كاتبه أبو عبد الله بن الحكيم من مشيخة رندة، كان اصطفاه لكتابته أيام أبيه، فاضطلع بأموره وغلب عليه. وكان هذا السلطان المخلوع ضرير البصر، ويقال إنه ابن الحكيم، فغلب عليه واستبد، إلى أن قتلهما أخوه أبو الجيوش نصر سنة ثمان كما نذكره. وكان من أول آرائه عند استيلائه على الأمر من بعد أبيه المادرة إلى إحكام ولاية السلطان، واتصال يده بيده، فأوفد عليه لحين ولايته وزير أبيه أبا السلطان عزيز الداني، ووزيره الكاتب أبا عبد الله من الحكيم فوفدوا على السلطان بمعسكره من حصار تلمسان، وتلقيا بالقبول والمبرة. وجددت له أحكام الود والولاية، وانقلبا إلى مرسلهما خير منقلب. وتقدم السلطان إليهم في المدد برجل الأندلس وناشبتهم المعودين منازلة الحصون والمناغرة بالربط، فبادروا إلى إسعافه وبعثوا حصتهم لحين مرجعهم إلى سلطانهم، فوصلت سنة اثنتين وسبعماية. وكانت لها نكاية في العدو وأثر في البلد المحروب. ثم بدا لمحمد بن الأحمر المخلوع في ولاية السلطان بمنافسات جرت إلى ذلك. وبعث إلى ابن أدفونش هراندة بن شانجة، وأحكم له عقد السلم، ولاطفه في الولاية، فانعقد ذلك بينهما سنة ثلاث. واتصل خبره بالسلطان، فسخطه. ورجع إليهم حصتهم آخر سنة ثلاث، لسنة من مقدمهم، بعد أن أبلو وأثخنوا وطوى لهم على النث، واعتمل ابن الأحمر وشيعته في الاستعداد لمدافعة السلطان، والإرصاد لسطوه بهم. وأوعز إلى صاحب مالقة عمه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن محمد بن نصر، وليه من دون القرابة بما كان له الصهر على اخته، والمضطلع بثغر الغربية، فأوعز إليه بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان، والقبض على بني العزفي، والرجوع إلى ولاية ابن الأحمر. وكان أهل سبتة منذ هلك إبراهيم الفقيه أبو القاسم العزفي سنة سبع وسبعين، قام بأمرهم ولده أبو حاتم. وكان أخوه أبو طالب رديفا له في الأمر إلا أنه استبد عليه بصاغيته إلى الرياسة، وإيثار أبي حاتم
للخمول، مع إيجابه حق أخيه الأكبر، وإجابته الداعي متى روفع إليه، فاستقام أمرهما مدة. وكان من سياستهما من أولى أمرهما الأخذ بدعوة السلطان فيما لنظرهما، والعمل بطاعته والتجافي عن السكنى بقصور الملك، والتخرج عن أبهة السلطان لمكانهم، فأنزلوا بالقصبة عبد الله بن مخلص قائدا من البيوتات، اصطنعوه وجعلوا له أحكام البلد، وضبط الحامية، فاضطلع بذلك سنين. ثم أسفه يحيى بن أبي طالب ببعض النزعات الرياسية، وحجر عليه الأحكام في ذويه. ثم أغزى به أباه، وطالبه بحساب الخراج لعطاء الحامية. وغفلوا عما وراءها من التظنن فيه، والريب به، ثقة بمكانه، واستنامة إليه. وهم مع ذلك على أولهم في موالاة السلطان، والأخذ بدعوته، والوفود عليه في أوقاته. ولما فسدت ولاية ابن الأحمر للسلطان، وعقد على محاولة سبتة، وجد السبيل إلى ذلك بما طوى صاحب الأحكام بالقصبة على النث، فداخله الرئيس أبو سعيد صاحب الثغر بمالقة جارة سبتة، ووعده الغدر ببني العزفي، وأن يصبحهم بأساطيله، فشرع الرئيس أبو سعيد في إنشاء الأساطيل البحرية، واستنفار الناس للمناغرة. وإن العدو له ولمالقة بمرصد، وشحنها بالفرسان والرجل والناشبة والأقوات، وأخفى وجه قصده عن الناس حتى أقلعت أساطيله، وبيت سبتة لسبع وعشرين من شوال سنة خمس. وأرسى بساحتها لموعد صاحب القصبة، فأدخله إلى حصنه فملكه، ونشر رايته بأسوارها. وسرب جيوشه إلى البلد، فتسايلوا. وركب إلى دور بني العزفي، فتقبّضعليهم وعلى ولدهم وحاشيتهم. وطير الخبر إلى السلطان بغرناطة، فوصل الوزير أبو عبد الله بن الحكيم، ونادى في الناس بالأمان، وبسط المعدلة. وأركب بني العزفي في السفن إلى مالقة. ثم أجازوا إلى غرناطة، وقدموا على ابن الأحمر، فأجل قدومهم، وأركب الناس إلى لقائهم. وجلس له جلوسا فخما حتى أدوا بيعتهم، وقضوا وفادتهم، وأنزلوا بالقصور، واجريت عليهم سنيات الأرزاق. واستقروا بالأندلس إلى أن صاروا إلى المغرب بعد كما نذكر. واستبد الرئيس أبو سعيد بأمر سبتة، وثقف أطرافها، وسد ثغورها، وأقام دعوة ابن عفه صاحب الأندلس بأنحائها. وكان عثمان بن أبي العلاء بن عبد الحق من أعياض الملك المريني، أجاز معه البحر إليها أميرا على الغزاة الذين كانوا بمالقة، وقائدا لعصبتهم تحت لوائه، فموه بنصبه للملك بالمغرب. وخاطب قبائل غمارة بذلك، فوقفوا بين الإقدام والإحجام. واتصل ذلك كله بالسلطان، وهو بمعسكره من حصار تلمسان،
فاستشاط لها غضبا وحمى أنفه بعزه. واستنفر الصريخ، فبعث ابنه الأمير أبا سالم لسد تلك الفرجة. وجمع إليه العساكر، وتقدم إليه بإحشاد قبائل الريف، وبلاد تازى، فأغذ السير إليها. وأحاطت عساكره بها، فحاصرها مدة. ثم بيته عثمان بن أبي العلاء، فاختل معسكره وأفرج عنها منهزما، فسخطه السلطان وزوى عنه وجه رضاه. وسار عثمان بن أبي العلاء في نواحي سبتة وبلاد غمارة، وتغلب على تيكيساس، وانتهى إلى قصر ابن عبد الكريم في آخر سنة ست لسنة من استيلائهم على سبتة، مقيما رسم السلطان مناديا بالدعاء لنفسه، فاعتزم السلطان على النهوض إليه عند الفراغ من أمرتلمسان، لما كانت على شفا هلكة ومحاينة انفضاض، لولا عائق الأقدار بمهلكه كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتقاض بني كمي من بني عبد الولد وخروجهم بأرض السوس: كان هؤلاء الرهط من بني عبد الواد، ثم من بطون بني علي، من شعب أبي القاسم. وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كندوز بن بن كمي. ولما استقل برياسة أولاد علي زيان بن ثابت بن محمد من أولاد طاع الله، نفس عليه كندوز هذا ما أتاه الله من الرياسة، وجاذبه حبلها. واحتقر زيان شأنه، فلم يحفل به. ثم ناشب عليه أخلاط من قومهم، وواضعهم الحرب. وهلك زيان بيد كندوز، وقام بأمر أولاد علي، جابر بن يوسف بن محمد. ثم تناقلت الرياسة فيهم إلى أن عادت في ولد ثابت بن محمد، واستقل بها أبو عزة زكدان بن زيان، ولم تطل أيامه. والتحم بين أولاد كمي وبين أولاد طاع الله، وتناسوا الإحن، وصارت رياسة أولاد طاع الله ليغمراسن بن زيان. واستتبعوا قبائل بني عبد الواد كافة. واعتمل يغمراسن في الثأر بأبيه زيان من قاتله كندوز، فاغتاله ببيته. دعاه لمأدبة جمع لها بني أبيه، حتى إذا اطمأن المجلس تعاوروه بأسيافهم، واحتزوا رأسه. وبعثوا به إلى أمهم، فنصبت عليه القدر ثالث أثافيها تشفيا منه وحفيظة. وطالب يغمراسن بقية بني كندوز، ففروا أمام مطالبته، وأبعدوا المذهب. ولحقوا بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، فأقاموا بسدته أحوالا. وكانوا يرجعون في رياستهم لعبد الله بن كندوز. ثم تذكروا عهد البداوة وحنوا إلى عشير زناتة، فراجعوا المغرب، ولحقوا ببني مرين أقتالهم. ونزل عبد الله بن كندوز على يعقوب بن عبد الحق خير نزل، تلقاه من البر والترحيب بما ملأ صدره، وأكد اغتباطه. وأقطعه بناحية مراكش
الكفاية له ولقومه، وأنزلهم هنالك. وجعل انتجاع إبله وراحلته لحسان بن أبي سعيد الصبيحي وأخيه موسى من ذويهم وحاشيتهم، وألطف منزلة عبد الله، ورفع مكانه بمجلسه، واكتفى به في كثير من أموره. وأوفده على المستنصر صاحب أفريقية سنة خصر وستين، مع عامر ابن أخيه إدريس كما قدمناه. واستقر بنو كندوز هؤلاء بالغرب الأقصى. واستمرت الأيام على ذلك، وصاروا من جملة قبائل بني مرين وفي عدادهم. وهلك عبد الله بن كندوز وصارت رياستهم لعمر ابنه من بعده. ولما لفت السلطان يوسف بن يعقوب وجه عزائمه إلى النبي عبد الواد، ونازل تلمسان، وطاول حصارها، واستطال بنو مرين وذووهم على بني عبد الواد، وأحسوا بها، أخذتهم العزة بالإثم، وأدركتهم النغرة، فأجمع بنو كندوز هؤلاء الخلاف والخروج على السلطان. ولحقوا بحاحة سنة ثلاث وسبعماية. واحتفل الأمير بمراكش، يعيش بن يعقوب، لغزوهم سنة أربع وسبعماية، فناجزوه الحرب بتادرت، واستمروا على خلافهما. ثم قاتلهم يعيش وعساكره ثانية بتامطريت سنة أربع، فهزمهم الهزيمة الكبرى التي قضت جناحهم، وأوهنت بأسهم. وقتل جماعة من بني عبد الواد بأرعارن بامكا وأثخن يعيش بن يعقوب في بلاد السوس، وهدم تارودنت قاعدة أرضها وأم قراها. كان بها عبد الرحمن بن الحسن بن يدر من بقية الأمراء على السوس من قبل بني عبد المؤمن، وقد مرّ ذكرهم. وكانت بينه وبين عرب المعقل من الشبانات وبني حسان منذ انقرضت دولة الموحدين، حروب سجال، هلك في بعضها عمه علي بن يدر سنة ثماني وستين. وصارت أمارته بعد حين إلى عبد الرحمن هذا. ولم يزالوا في حربه إلى أن نملك السوس يعيش بن يعقوب، وهدم تارودانت. ثم راجع عبد الرحمن أمره وبنى بلده تارودانت هذه سنة ست بعدها. وتزعم بنو يدر هؤلاء أنهم مستقرون بذلك القطر من لدن عهد الطوالع من العرب، وأنهم لم يزالوا أمراء بها يعقد لهم ولاية كابر عن كابر. ولقد أدركت بفاس على عهد السلطان أبي عنان وأخيه أبي سالم من بعده شيخا كبيرا من ولد عبد الرحمن هذا، فحدثني بمثل ذلك. وأنهم ولد أبي بكر الصديق. والله أعلم. ولم بزل بنو كندوز مشردين بصحراء السوس إلى أن هلك السلطان، وراجعوا طاعة الملوك من بني مرين من بعده، وعفوا لهم عما سلف من هذه الجريرة، وأعادوهم إلى مكانهم من الولاية، فأمحضوا النصيحة والمخالصة إلى هذا العهد كما نذكر إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مهلك المشيخة المصامدة بتلبيس أبي الملياني: قد ذكرنا شأن أبي علي الملياني وأوليته، في أخبار مغراوة الثانية، وما كان من ثورته بمليانة، وانتزائه عليها. ثم إزعاج العساكر إياه منها، ولحاقه بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين، وما أحله من مراتب التكرمة والمبرة. وأقطعه بلد أغمات طعمة، فاستقر بها. وما كان منه في العيث بأشلاء الموحّدين ونبش أجداثهم، وموجدة السلطان والناس عليه لذلك. وأرصد له المصامدة الغوائل لما كان منه في ذلك. ولما هلك يعقوب بن عبد الحق استعمله يوسف بن يعقوب على جباية المصامدة، فلم يضطلع بها. وسعى به مشيختهم عند السلطان أنه احتجن المال لنفسه، وحاسبوه فصدقوا السعاية، فاعتقله السلطان فأقصاه. وهلك سنة ست وثمانين وسبعمائة، واصطنع السلطان أحمد ابن أخيه، واستمعله في كتابته، وأقام على ذلك ببابه وفي جملته. وكان السلطان سخطه على مشيخة المصامدة علي بن محمد كبير هنتاتة، وعبد الكريم بن عيسى كبيركدميوة، وأوعز إلى ابنه علي الأمير بمراكش باعتقالهما فيمن لهما من الولد والحاشية. وأحس بذلك أحمد بن الملياني، فاستعجل الثأر. وكانت العلامة السلطانية على الكتاب في الدولة لم تختص بكاتب واحد، بل كل منهم يضع العلامة بخطه على كتابه إذا أكمله، لما كانوا كلهم ثقة امناء، وكانوا عند السلطان كأسنان المشط، فكتب أحمد بن الملياني إلى ابن السلطان الأمير بمراكش سنة سبع وتسعين وسبعمائة كتابا عن أمر أبيه، يأمره فيه بقتل مشيخة المصامدة، ولا يمهلهم طرفة عين. ووضع عليه العلامة التي تنفذ بها الأوامر، وختم الكتاب، وبعث به مع البريد. ونجا بنفسه إلى البلد الجديد، وعجب الناس من شأنه. ولما وصل الكتاب إلى ابن السلطان أخرج أولئك الرهط المعتقلين من المصامدة إلى مصارعهم، وقتل علي بن محمد، وعبد الكريم بن عيشي وولده عيسى، وعلي ومنصور وابن أخيه عبد العزيز. وطير الأمير وزيره إلى أبيه بالخبر، فقتله لحينه حنقا عليه، وأنفذ البريد باعتقال ابنه. وحرد على ابن الملياني، فافتقد ولحق بتلمسان، ونزل على آل زيان ثم لحق بعدها بالأندلس عند إفراج السلطان عنها في تلك السنة كما ذكرناه، وبها هلك. واقتصر السلطان من يومئذ في صنع علامته على من يختاره لها من صنائعه ويثق بأمانته. وجعلها لذلك العهد لعبد الله بن أبي مدين خالصته المضطلع بأمور مملكته، فاختصت من بعده لهذا العهد. والله تعالى أعلم.
القسم السابع المجلد السابع من تاريخ العلامة ابن خلدون الخبر عن رياسة اليهود بني رقاصة ومقتلهم كان السلطان يوسف بن يعقوب في صباه مؤثرا للذاته، مستترا بها عن أبيه يعقوب بن عبد الحق لمكانه من الدين والوقار. وكان يشرب الخمر ويعاقر بها الندمان. وكان خليفة بن رقاصة من اليهود المعاهدين بفاس قهرمانا لداره على عادة الأمراء في مثله من المعاهدين، بكان يزدلف إليه بوجوه الخدم ومذاهبها، فاستعمله هذا الأمير في اعتصارها والقيام على شؤونها، فكانت له بذلك خلوة منه أوجبت له الحظ عنده. حتى إذا هلك يعقوب بن عبد الحق، واستقل ابنه يوسف بأعباء ملكه، واتصلت خلواته في معاقرة الندمان، انفرد ابن رقاصة بخلوته لذلك مع ما كان له من القهرمة، فعظمت رياسته، وعلا كعبه في الدولة. وتلقى الخاصة الأوامر منه، فصارت له الوجاهة بينهم، وعظم قدره بعظم الدولة. أخبرنا شيخنا الابلي أنه كان لخليفة هذا أخ يسمى إبراهيم، وابن غ يسمى خليفة، لقبوه بالصغير لمكانه هو من هذا الاسم. وكان له صهر يعرفون ببني السبتي كبيرهم موسى، وكان رديفه في قهرمته. فلم يفق السلطان من نشوة صباه ملهاه حتى وجدهم على حال استتبعوا فيها العلية من القبيل والوزراء والشرفاء والعلماء،فأهمه ذلك، وترصد بهم. وتفطن لمذهبه فيهم خالصته عبد الله بن أبي مدين، فسعى عنده فيهم. وأوجده السبيل عليهم، فسطا بهم سطوة واحدة. واعتقلوا في شعبان من سنة احدى وسبعماية بمعسكره من حصار تلمسان. وقتل خليفة الكبير وأخوه إبراهيم وموسى بن السبتي وإخوته، بعد أن امتحنوا ومثل بهم، وأتت النكبة على حاشيتهم وذويهم وأقاربهم، فلم يبق منهم باقية. واستبقى منهم خليفة الصغير احتقارا لشأنه، حتى
كان من قتله بعدما نذكر، وعبث بسائرهم، وطهرت الدولة من رجسهم وازيلت عنها معرة رياستهم. والأمور بيد الله سبحانه. الخبر عن مهلك السلطان أبي يعقوب: كان في جملة السلطان وحاشيته مولى من العبدي الخصيان من موالي ابن الملياني يسمى سعادة، صار إلى السلطان من لدن استعماله إياه بمراكش، وكان على ثبج من الجهل والغباوة. وكان السلطان يخلط الخصيان بأهله، ويكشف لهم الحجاب عن ذوات محارمه، ولما كانت واقعة العز مولاه، واتهم بمداخلة بعض الحرم، وقتل بالظنة، واستراب السلطان بكثير من حاشيته الملابسين لداره، اعتقل جملة من الخصيان، كان فيهم عنبر الكبير عريفهم. وحجب سائرهم، فارتاعوا لذلك وسولت لهذه الخصي الخبيث نفسه الشيطانية الفتك بالسلطان، فعمد إليه وهو ببعض الحجر من قصره واذنه فأذن له، فألفاه مستلقياً على فراشه مختضبا بالحناء، فوثب عليه فطعنه طعنات قطع بها أمعاءه وخرج هاربا. وانطلق الأولياء في أثره، فأدرك من العشي بناحية تاسالة، فتقبّضعليه وسيق إلى القصر، فقتله العبيد والحاشية. وصابر السلطان مثبته إلى آخر النهار، ثم قضى رحمه الله يوم الأربعاء سابع ذي القعدة من سنة ست، وقبل هنالك. ثم نقل بعد ما سكنت الهيعة إلى مقبرتهم بشالة، فدفن بها مع سلفه. والبقاء لله وحده. الخبر عن ولاية السلطان أبي ثابت، واستلحامه المرشحين وما تخلل ذلك من الأحداث: كان الأمير أبو عامر ابن السلطان أبي يعقوب وولي عهده، لما هلك طريداً ببلاد بني سعيد من غمارة والريف، سنة ثمان وتسعين وسبعمائة كما ذكرناه، خلف ولديه عامرا وسليمان في كفالة السلطان جدهما، فكان لهما بعينه حلاوة وفي قلبه لوطة، لمكان حبه لأبيهما واغترابه عنه، فحدب عليهما وأنزلهما من نفسه بمكان. وكان الأمير أبو ثابت عامر منهما، صقر قومه، إقداما وشجاعة وجرأة وكانت له في بني ورتاجن خؤولة. فلحين مهلك السلطان عرضوا له ودعوه للبيعة، فبايعوه. وحصر لها الأمير أبو يحيى بن يعقوب عم أبيه، عثر بمجمعهم اتفاقا، وحملوه على الطاعة. وكان أقرب للأمر منه لو حضره رجال،
فأعطى القياد في المساعدة، وطوى على النث. وبادر الحاشية والوزراء بالبلد الجديد عند مهلك السلطان، فبايعوا ابنه الأمير أبا سالم. وكان أمر بني مرين أن يفترق وكلمتهم أن تفسد، فبعث الأمير أبو ثابت لحينه إلى تلمسان للأمير أبي زيان وأبي حمّو ابني عثمان بن يغمراسن. وعقد لهما حلفا على الإفراج عنهما على أن يمداه بالالة، ويرفعا له كسر البيت إن كان غير ما أمل، وحضر للعقد أبو حمّو فأحكمه، ومال أكثر بني مرين وأهل الحل والعقد إلى الأمير أبي ثابت. وتفرد ببيعة أبي سالم البطانة والوزراء والحاشية والأجناد ومن إليهم، وكان مسكنه بالبلد الجديد، وأشاروا عليه بالمناجزة، فخرج وقد عبأ كتائبه، فوقف وبهت وخام عن اللقاء. ووعدهم الإقدام بالغداة، وكر راجعا إلى قصره. فيئسوا منه، وتسللوا لواذا إلى الأمير أبي ثابت، وهو بمرقب من الجبل يطل عليهم، حتى إذا انحجز أبو سالم بالبلد انحاش إليه الجملة دفعة واحدة. فلما استوفت العساكر والقبائل لديه، زحف إلى البلد الجديد مثوى السلطان وسياج قصوره ومختط عزمه، وانتهى إلى ساحتها معتماً. وخرج إليه الوزير يحلف بن عمران الفودودي، فأرجل عن فرسه بأمر أبي يحيى، وقتل بين يديه قعصا بالرماح. وكان قريب عم رر بالوزارة، استوزره السلطان قبل مهلكه في شعبان من سنة ست. وفر أبو سالم إلى جهة المغرب، وصحبه من عشيره من أولاد رحو بن عبد الله بن عبد الحق العباسي، وعيسى وعلي ابنا رخو وابن أخيهم جمال الدين بن موسى. وأتبعهم الأمير أبو ثابت شرذمة من عسكره أدركوهم بندرومة، فتقبضوا عليهم ونفذوا أمر السلطان بفتل أبي سالم وجمال الدين، واستبقى الاخرين. وأمر بإحراق باب البلد ليفتحها العسكر، فأطل عليه قهرمان دارهم عبد الله بن أبي مدين الكاتب، وأخبره بفرار أبي سالم، وباتفاق الناس على طاعته. ورغب إليه في المسالمة ليلتهم، حتى يفجر الصباح خشية على دارهم من معرة العساكر وهجومها ففعل. وأمره الأمير أبو يحيى باعتقال أبي الحجاج بن أشقيلولة، فاعتقله لقديم من العداوة كانت بينهما، ثم أمر بقتله وإنفاذ رأسه ففتل. وأمر السلطان ليلتئذ بإضرام النيران، حتى إذا أضاء الظلام بات راكبا. ودخل الفصرلصبحه، فوارى جسد السلطان بعد أن صلى عليه. وغص بمكان الأمير أبي بحبى لما تعدد فيه الترشيح، وفاوض في شأنه كبير القرابة يومئذ عبد الحق بن عثمان أبن الأمير أبي معرف محمد بن عبد الحق، ومن حضره من الوزراء: مثل إبراهيم بن
عبد الجليل الونكاسي وإبراهيم بن عيسى اليرنياني وغيرهما من الخاصة، فأشاروا بقتله. ونميت عنه كلمات في معنى التربص بالسلطان ودولته، وابتغاء العصابة لأمره. وركب الأمير أبو يحيى إلى القصر ثالث البيعة، فأخذ السلطان بيده، ودخل معه إلى الحرم لعزائهن عن أخيه السلطان. ثم خرج على الخاصة. وتخلف عنه السلطان، وقد دس إلى عبد الحق بن عثمان أن يتقبض عليه ففعل. ثم برز السلطان إليهم وهو موثق، فأمر بالإجهاز عليه، ولم يمهله، وألحق به يومئذ وزيره عيسى بن موسى الفودودي. وفشا الخبر بمهلك هؤلاء الرهط، فرغب منه القرابة، ففر يعيش بن يعقوب أخو السلطان وابنه عثمان المعروف بأمه قضيب، ومسعود بن أبي مالك والعباس بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق. ولحقوا جميعا بعثمان بن أبي العلاء بمكانه من غمارة. وخلا الجو من المرشحين، واستبد السلطان بملك قومه، وأمن غوائل المنازعين. ولما تم له الأمر واستوسق الملك، وفى لبني عثمان بن يغمراسن بالإفراج عنهم، ونزل لهم عن جميع البلاد التي صارت إلى طاعته من بلاد المغرب الأوسط من أعمالهم وأعمال بني توجين ومغراوة. ودعاه إلى بدار المغرب، ما كان من اختلال عثمان بن أبي العلاء بن عبد الله بن عبد الحق بسبتة، ودعائه لنفسه بين يدي مهلك السلطان، وخروجه إلى بلاد غمارة، واستيلائه على قصر كتامة. واعتزم على الرحلة إلى المغرب، وفوض الأمر في الرحلة بأهل المدينة الجديدة للوزير إبراهيم بن عبد الجليل، لما كانت حنيئذ عامرة بالساكن، مستبحرة في الاعتمار، ممتلئة من الخزائن والآلة، فأحسن السياسة في أمرهم، وضرب لهم الآجال والمواعد أن استوفوا بالرحلة. وتركوها قواء، خربها بنو عثمان بن يغمراسن عند رحلة بني مرين إلى المغرب، وتحينوا لذلك فترات الفتن، وطمسوا معالمها طمسا ونسفوها نسفا. وقدم السلطان بين يديه من القرابة، الحسن بن عامر بن عبد الله أتعجوب في العساكر والجنود، وعقد له على حرب ابن أبي العلاء. وتلوم بالبلد الجديد لموافاة المسالح التي كانت بثغور الشرق، لما نزل عنها جميعاً لبني عثمان بن يغمراسن. وارتحل غرة ذي القعدة، ودخل فاس فاتح سنة سبع وسبعماية. والله أعلم.
الخبر عن انتزاء يوسف بن أبي عياد بمراكش وتغلب السلطان عليه: لما فصل السلطان أبو ثابت من معسكرهم بتلمسان إلى الغرب، قدم بين يديه من قرابته الحسن بن عامر بن عبد الله أتعجوب ابن السلطان أبي يوسف في العساكر والجنود، وعقد له على حرب عثمان بن أبي العلاء كما ذكرنا. وعقد له على بلاد مراكش ونواحيها لابن عمه الآخر يوسف بن محمد بن أبي عياد بن الحق، وعهد له بالنظر في أحوالها، فسار إليها واحتل بها. ثم حدثته نفسه بالانتزاء، فقتل الوالي بمراكش، واستركب واستلحق، واتخذ الالة، وجاهر بالخلعان. وتقبض على والي البلد، فقتله بالسوط في جمادى سنة سبع وسبعماية، ودعا لنفسه، واتصل الخبر بالسلطان لأول قدومه، فسرح إليه وزيره يوسف بن عيسى بن السعود الجشمي، ويعقوب بن أصناك، في خمسة آلاف من عساكر، ودفعهم إلى حربه، وخرج في أطرهم بكتائبه. وبرز يوسف بن أبي عياد، وأجاز وادي أم ربيع، فانهزم أمام الوزير وعساكره، وأتبعه الوزير، ففر إلى أغمات. ثم فر إلى جبال هسكورة، ولحق به موسى بن أبي سعيد الصبيحي من أغمات، تدلى من سورها، ودخل الوزير يوسف في مراكش. ثم خرج في أثره ولحقه، فكانت بينهما جولة، وقتل منهم خلقا، ولحق بهسكورة. ودخل السلطان أبو ثابت مراكش منتصف رجب من سنة سبع، وأمر بقتل أوربة، المداخلين كانوا له في انتزائه فاستلحموا. ولما لحق يوسف بن أبي عباد بجبال هسكورة، نزل على مخلوف بن عبو، وتذمم بجواره، فلم يجره على السلطان. وتقبض عليه، واقتاده إلى مراكش مع ثمانية من أصحابه تولوا كبر ذلك الأمر، فقتلوا في مصرع واحد، بعد أن مثل بهم بالسياط. وبعث رأس يوسف إلى فاس، فنصب بسورها وأثخن بالقتل فيمن سواهم ممن داخله في الانتزاء، فاستحم منهم أمما بمراكش وأغمات. وسخط خلال ذلك وزيره إبراهيم بن عبد الجليل، فاعتقله واعتقل عشرة من بني دولين من بني ونكاسن، وقتل الحسن بن دولين منهم، ثم عفا عنهم. وخرج منتصف شعبان إلى منازلة السكسيوي وتدويخ جهات مراكش، فتلقاه السكسيوي بطاعته المعروفة، وأسنى الهدية، فتقبل طاعته وخدمته. ثم سرح قائدة يعقوب بن أصناك في اتباع زكنة حتى توغل في بلاد السوس، ففروا أمامه إلى الرمال. وانقطع أثرهم ورجع إلى معسكر السلطان. وانكفأ السلطان بعساكره إلى مراكش، فاحتل بها غرة رمضان. ثم قفل إلى فاس بعد أن قتل جماعة من شيوخ بني
دورا. وجعل طريقه على بلاد صنهاجة. وسار في بلاد تامسنا، وتلفاه عرب جشم من قبائل الخلط وسفيان وبني جابر والعاصم، فاستصحبهم إلى أنفى، وتقبض على ستين من أشياخهم، فاستحلم منهم عشرين ممن نمي عنهم إفساد السابلة. ودخل رباط الفتح اخريات رمضان، فقتل هنالك من الأعراب أمة ممن يؤثر عنه الحرابة. ثم ارتحل منتصف شوال لغزو رياح أهل أزغار والهبط. وأثار منهم بالإحن القديمة، فأثخن فيهم بالقتل والسبي. وقفل إلى فاس، فاحتل بها منتصف ذي القعدة. وجاءه الخبر بهزيمة عبد الحق بن عثمان، واستلحام الروم من عسكره، ومهلك عبد الواحد الفودودي من رجالات دولته. وإن عثمان بن أبي العلاء قد استفحل أمره بجات غمارة، فأجمع لغزوه. والله أعلم. الخبر عن غزاة السلطان لمدافعة عثمان بن أبي العلاء ببلاد الهبط ومهلكه طنجة من بعد ظهوره: لما ملك الرئيس أبو سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر بسبتة سنة خمس وسبعماية، وأقام بها الدعوة لابن عمه المخلوع محمد بن محمد الفقيه بن حمد بن مح!حد الشيخ بن يوسف بن نصر كما ذكرناه، وأجاز معه رئيس الغزاة المجاهدين بمحل أمارته من مالقة عثمان بن أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق من أعياص هذا البيت، كان مرشحا للملك فيهم. واستقدمه معه ليفرق به الكلمة في المغرب، ويشغل بفتنة الدولة مدافعة عن سبتة، لما كانوا أهاجوا السلطان وقومه بأخذها. واستنام ملكها، وطمع عثمان في ملك المغرب بإمدادهم ومظاهرتهم. وسولت له نفسه ذلك، فخرج من سبتة، وولى على جيش الغزاة بعده عمر ابن عمه رحو بن عبد الله. ونجم هو ببلاد غمارة، فدعا لنفسه، وأجابته القبائل منهم. واحتل بحصن علودان من أمنع معاقلهم، وبايعوه على الموت. ثم نهض إلى أصيلا والعرائش، فغلب عليها. واتصل ذلك كله بالسلطان الهالك أبي يعقوب، فلم يحركه استهانة بأمرهم. وبعث ابنه أبا سالم بالعساكر، فنازل سبتة أياما، ثم أقلع عنها. وبعث بعده أخاه يعيش بن يعقوب، وأنزله طنجة، وجهز معه الكتائب، وجعلها ثغرا. وزحف إليه عثمان بن أبي العلاء، فتأخر عن طنجة إلى القصر. ثم أتبعه فخرج أهل القصر فرسانا ورجالا ورماة مع يعيش، فوصلوا
إلى وادي ورا، ثم انهزموا إلى البلد. ومات عمر بن ياسين، ونازل عثمان عليهم القصر يوماً، ثم دخله من غده. ثم كان مهلك السلطان، ومفر يعيش بن يعقوب خيفة من أبي ثابت، فلحق بعثمان بن أبي العلاء. واستقام أمره بتلك الجهات برهة. وكان السلطان أبو ثابت، لما احتل بالمغرب شغله ما كان من انتزاء يوسف بن محمد بن أبي عياد بمراكش كما قدمناه، فعقد على حرب عثمان بن أبي العلاء مكان عمه يعيش بن يعقوب لعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من رجال بيته، فزحف إليه. ونهض عثمان إلى لقائه منتصف ذي الحجة سنة سبع، فهزمه واستلحم من كان معه من جند الروم. وهلك في تلك الواقعة عبد الواحد الفودودي من رجالات السلطان المرشحين ردفاء الوزارة. وصار عثمان إلى قصر كتامة، فنازله واستولى على جهاته. وعلى تفيئة ذلك كان رجوع السلطان من غزاة مراكش. وقد حسم الداء ومحا أثر النفاق، فاعتزم على الحركة إلى بلاد غمارة ليمحو منها دعوة ابن أبي العلاء التي كانت تلج عليه ممالكه بالمغرب، ويرده على عقبه، ويستخلص سبتة من يد ابن الأحمر، لما صارت ركابا لمن يروم الانتزاء والخروج من القرابة والأعياعر، المستنفرين وراء البحر غزاة في سبيل الله، فنهض من فاس منتصف ذي الحجة من سنة سبع. ولما انتهى إلى قصر كتامة تلوم بها ثلاثاً حتى توافت عساكره وحشوده، وكمل اعتراضها. وفر عثمان بن أبي العلاء أمامه. وارتحل السلطان في اتباعه، فنازل حصن علودان واقتحمها عنوة. واستلحم بها زهاء أربعماية. ثم نازل بلد الدمنة، فاقتحمها وأثخن فيها قتلا وسبيأ، لتمسكها بطاعة ابن أبي العلاء، ومظاهرتها له على كبس القصر واستاحته. ثم ارتحل إلى طنجة، واحتل بها غرة سنة ثمان. وانحجز ابن أبي العلاء بسبتة مع أوليائه. وسرح السلطان عساكره، فتقرت نواحي سبتة بالاكتساح والغارة. وأمر باختطاط بلد تيطاوين لنزول عساكره، والأخذ بمخنق سبتة. وأوفد كبير الفقهاء بمجلسه أبا يحيى بن أبي الصبر إليهم في شأن النزول له عن البلد. وفي خلال ذلك اعتل السلطان بمرض، وقضى لأيام قلائل في ثامن صفر من سنته، ودفن بظاهر طنجة. ثم حمل شلوه بعد أيام إلى مدفن آبائه بشالة فووري هنالك. رحمة الله عليه وعليهم. الخبر عن دولة السلطان أبي الربيع، وما كان فيها من الأحداث: لما هلك السلطان أبو ثابت تصدى للقيام بالأمر عمه علي ابن السلطان أبي يعقوب
المعروف بأمه رزيكة، وخلص الملأ من بني مرين أهل الحل والحقد إلى أخيه أبي الربيع، فبايعوه. وتقبض على عمه علي بن زريكة المستام للأمر، فاعتقله بطنجة إلى أن هلك سنة عشر لجمادى. وبث العطاء في الناس، وأجزل الصلات، وارتحل نحو فاس. واتبعه عثمان بن أبي العلاء في جيش كثيف، وبيته وقد نذر به العسكر، فأيقظوا ليلهم ووافاهم على الظهر بساحة علودان، فناجزهم الحرب. وكانت الدائرة على عثمان وقومه. وتقبض على ولده وكثير من عسكره. وأثخن أولياء السلطان فيهم بالقتل والسبي، وكان الظهور الذي لا كفاء له. ووصل أبو يحيي بن أبي الصبر إلى الأندلس، وقد أحكم عقدة الصلح. وقد كان ابن الأحمر جاء للقاء السلطان أبي ثابت، ووصل إلى الجزيرة الخضراء، فأدركه خبر مهلكه، فتوقف عن الجواز. وأجاز ابن أبي الصبر بإحكام المؤاخاة. واجتاز عثمان بن أبي العلاء إلى العدوة فيمن معه من القرابة، فلحق بغرناطة. وأغذ السلطان السير إلى حضرته، فدخل فاس آخر ربيع من سنة ثمان. واستقامت الأمور وتمهد الملك، وعقد السلم مع صاحب تلمسان موسى بن عثمان بن يغمراسن، فأقام وادعا بحضرته. وكانت أيامه خير أيام هدنة وسكونة وترفا لأهل الدولة. وفي أيامه تغالى الناس في أثمان العقار، فبلغت قيمتها فوق المعتاد، حتى لقد بيع كثير من الدور بفاس بألف دينار من الذهب العين. وتنافس الناس في البناء، فعالوا الصروح، واتخذوا القصور المشيدة بالصخر والرخام وزخرفوها بالزليج والنقوش. وتناغوا في لبس الحرير، وركوب الفاره، وأكل الطيب، واقتناء الحلى من الذهب والفضة. واستبحر العمران، وظهرت الزينة والترف، والسلطان وادع بداره متمل أريكته، إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن مقتل عبد الله بن أبي مدين: كان أبو شعيب بن مخلوف من بني أبي عثمان من قبائل كتامة المجاورين للقصر الكبير، وكان منتحلا للدين مشتهرا به. ولما أجلب بنو مرين على المغرب وجالوا في بسائطه، وتغلبوا على ضواحيه، صحب البر منهم والفاجر من أهله. وكان بنو عبد الحق قد تخيروا شعيبا هذا فيمن تخيروه للصحابة من أهل الدين، فكان إمام صلاتهم. وكان يعقوب بن عبد الحق أشدهم صحابة له، وأوفاهم بها ذماما، فاتصل به حبله، واستمرت
صحابته، وعظم في الدولة قدره. وانبسط بين الناس جاه ولده وأقاربه وحاشيته. وربى بنو شعيب هذا: عبد الله ومحمد المعروف بالحاج، وأبو القاسم من بعدهم من إخوتهم، بقصر كتامة في جو ذلك الجاه. وهلك السلطان يعقوب بن عبد الحق، فاستخلصهم يوسف بن يعقوب لخدمته، واستعملهم على مختصاته. ثم ترقى بهم في رتب خدمته وأخصائه درجة بعد أخرى، إلى أن هلك أبوهم مدين شعيب سنة سبع وتسعين وسبعمائة. وكان المقدم منهم عند السلطان عبد الله، فأوفى به على ثنيات العز والوزارة والخلة والولاية. وتقدم بحظوته في مجلسه كل حظوة، واختصه بوضع علامته على الرسائل والأوامر الصادرة عنه. وجعل إليه حسبان الخراج والضرب على أيدي العمال، وتقييد الأوامر بالبسط والقبض. واستخلصه لمناجاة الخلوات، والإفضاء بذات الصدر، فوقف ببابه الأشراف من الخاصة والقبيل والقرابة والولد، وتوددوا وخطبوا نائله. وكان عبد الله استعمل مع ذلك أخاه محمدا على جباية المصامدة بمراكش، وهنأ أبا القاسم الدعة بفاس، فأقام بها متمليا راحته عريضا جاهه، طاعماً كاسيا، تتسرب إليه أموال العمال في سبيل الإتحاف، وتقف ببابه صدور الركائب، إلى أن هلك السلطان أبو يعقوب يوسف. ويقال إن له خائنة في دمه مع سعاية الملياني. ولما ولي السلطان أبو ثابت ضاعف رتبته وشفع لديه خطته، ورفع على الأقدار قدره. ثم ولي من بعده أخوه أبو الربيع، فتقبل فيه مذهب سلفه. وكان بنو رقاصة اليهود حين نكبوا، باشر نكبتهم لمكانه من إصدار الأوامر. ويزعمون أن له فيهم سعاية. وكان خليفة الأصغر منهم قد استبقي كما ذكرناه، فلما أفضى الأمر إلى السلطان أبي الربيع استعمل خليفة بداره في بعض المهن، ولابس الخدم حتى اتصل بمباشرة السلطان، فجعل غايته السعاية بعبد الله بن أبي مدين. وكان يؤثر عن السلطان أبي الربيع أنه لا يؤمن بوائقه مع حزم ذويه، وتعرف خليفة ذلك من مقالات الناس، فدس إلى السلطان أن عبد الله بن أبي مدين يعرض باتهام السلطان في ابنته، وأن صدره وغر بذلك، وأنه متعرض بالدولة. وكان يخشى الغائلة لما كان عليه من مداخلة القبيل، ولما كان داعية من دعاة آل يعقوب، فتعجل السلطان دفع غائلته، واستدعاه صبيحة زفاف ابنته، زعموا على زوجها، فاستحثه قائد الروم من داره بفاس. ونذر بالشر، فلم يغنه النذر. ومرّ في طريقه إلى دار السلطان بمقبرة أبي يحيى بن العربي، فطعنه القائد هنالك من ورائه طعنة أكبه على ذقنه. واحتز رأسه، فألقاه بين
أيدي السلطان. ودخل الوزير سليمان بن يرزيكن، فوجده بين يديه، فذهبت نفسه عليه على مكانه من الدولة حسرة وأسفا، وأيقظ السلطان لمكر اليهودي، فوقفه على براءة كان ابن أبي مدين بعثها معه إلى السلطان بالتنصل والحلف، فتيقظ وعلم مكر اليهودي به، فندم وفتك لحيف بخليفة بن رقاصة وذويه من اليهود المتصدين للخدمة وسطا بهم سطوة الهلكة، فأصبحوا مثلا للآخرين. والله أعلم. الخبر عن ثورة أهل سبتة بالأندلسيين ومراجعتهم طاعة السلطان: لما قفل السلطان أبو الربيع من غزاة سبتة، بعد أن شرد عثمان بن أبي العلاء وأحجزه بسبتة، وأجاز منها إلى العدوة، ومن كان معه من القرابة كما قلناه، بلغه الخبر بضجر أهل سبتة، ومرض قلوبهم من ولاية الأندلسيين عليهم، وسوء ملكتهم. ودس إليه بعض أشياعه بالبلد بمثل ذلك، فأغزى صنيعته تاشفين بن يعقوب الوطاسي أخا وزيره في عساكر ضخمة من بني مرين، وسائر الطبقات من الجند. وأوعز إليه بالتقدم إلى سبتة ومنازلتها، فأغذ إليها السير ونزل بساحتها ولما أحس به أهل البلد بهشت رجالاتهم، وتنادوا بشعارهم، وثاروا على من كان منهم من قواد ابن الأحمر وعماله، وأخرجوا منها حاميته وجنوده. واقتحمها العساكر. واحتل تاشفين بن يعقوب بقصبتها عاشر صفر من سنة تسع. وطير الفوائق بالخبر إلى السلطان، فعم السرور وعظم شأن الفتح. وتقبض على قائد القصبة أبي زكريا يحيى بن مليلة، وعلى قائد البحر أبي الحسن بن كماشة، وعلى قائد الحروب بها من الأعياص عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق. كان صاحب الأندلس عقد له مكان ابن عمه عثمان بن أبي العلاء، عند إجازته البحر إلى الجهاد كما ذكرنا. وكتب إلى السلطان بالفتح، وأوفد عليه الملأ من مشيخة سبتة وأهل الشورى. وبلغ الخبر إلى ابن الأحمر، فارتاع لذلك وخشي عادية السلطان وجيوش المغرب حين انتهوا إلى الفرضة. وكان الطاغية في تلك الأيام نازل الجزيرة الخضراء، وأقلع عنها على الصلح، بعد أن أذاقها من الحصار شدة، وبعد أن نازل جبل الفتح، فتغلب عليه وملكه. وانهزم زعيم من زعمائه يعرف بالفنش، هزمه أبو يحيى بن عبد الله بن أبي العلاء صاحب الجند بمالقة، لقيه يجوس خلال البلاد بعد تملك الجبل، فهزم النصارى وقتلوا أبرح قتل. وأهم المسلمين شأن الجبل، فبادر السلطان أبو الجيوش
بإنفاذ رسله راغبين في السلم خاطبين للولاية. وتبرع بالنزول عن الجزيرة ورندة وحصونها ترغيبا للسلطان في الجهاد، فتقبل منه السلطان، وعقد له الصلح على ما رغب. وأصهر إليه في اخته، فأنكحه إياها. وبعث بالمدد للجهاد أموالا وخيولاً، وجنائب، مع عثمان بن عيسى اليرنياني. واتصلت بينهما المهادنة والولاية، إلى مهلك السلطان. والبقاء لله وحده. الخبر عن بيعة عبد الحق بن عثمان، بممالأة الوزير والمشيخة، وظهور السلطان عليهم، ثم مهلكه بعد ذلك: كانت رسل ابن الأحمر خلال هذه المهادنة والمكاتبات تختلف إلى باب السلطان، ووصل منهم في بعض أحيانها خلف من مترفيهم، فجاهر بالكبائر، فكشف صفحة وجهه في معاقرة الخمر والإدمان عليه، وكان السلطان منذ شهر جمادى الأول سنة تسع قد عزل القاضي بفاس أبا غالب المغيلي، وعهد بأحكام القضاء لشيخ الفتيا المذكور بها أبي الحسن الملقب بالصغير. وكان على ثبج من تغيير المنكرات والتع!ف فيها. حتى لقد كان مطاوعا في ذلك وسواس النسك الأعجمي، متجاوزا بها الحدود المتعارفة من أهل الشريعة في سائر الأمصار. وأحضر عنده ذات يوم هذا الرسول ثملا، وحضر العدول فاستروحوه، ثم أمضى حكم الله فيه، وأقام عليه الحدود. وأضرمته هذه الموجدة، فاضطرم غيظا. وتعرض للوزير رحو بن يعقوب الوطاسي منصرفه من دار السلطان في موكبه، وكشف عن ظهره يريه أثر السياط، وينعي عليهم سوء هذا المرتكب مع الرسل، فتبرم لذلك الوزير وأدركته حفيظة وسرح وزعته وحشمه في إحضار القاضي على أسو! الحالات من التنكيل والتل لذقنه، فمضوا لذلك الوجه. واعتصم القاضي بالمسجد الجامع، ونادى المسلمين، فثارت العامة بهم، ومرج أمر الناس. واتصل الخبر بالسلطان، فتلافاه بالبعث في أولئك النفر من وزعة الوزير، وضرب أعناقهم، وجعلهم عظة لمن وراءهم فأسرها الوزير في نفسه، وداخل الحسن بن علي بن أبي الطلاق من بني عسكر بن محمد شيخ بني مرين، والمسلم له في شوراهم، وقائد الروم غنصالة المنفرد برياسة العسكر وشوكته، وكان لهم بالوزير اختصاص آثروه له على سلطانه، فدعاهم إلى بيعة عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق كبير القرابة وأسد
الأعياص، وخلع طاعة السلطان، فأجابوه وبايعوا له، وتم أمرهم نجيا. ثم خرجوا عاشر جمادى من سنة عشر إلى ظاهر البلد الجديد بمكان الرمكة، وجاهروا بالخلعان، وأقاموا الآلة، وبايعوا سلطانهم عبد الحق على عيون الملأ. ومحس!كروا بالعدوة القصوى من سبو تخم بلاد عسكر، وإزاء نبدورة من معاقل الحسن بن علي زعيم تلك الثورة. ثم ارتحلوا من الغد إلى تازى، وخرج السلطان في طلبهم، فعسكر بسبو، وتلوم لاعتراض العساكر، وإزاحة العلل واحتل القوم برباط تازى، وأوفدوا على موسى بن عثمان بن يغمراسن سلطان بني عبد الواد يدعونه إلى المظاهرة، واتصال اليد، والمدد بالعساكر والأموال جنوحا إلى التي هي آثر لديه من تفريق كلمة عدوه، فتثاقل عن ذلك لمكان السلم الذي عقد له السلطان أول الدولة، وليستبين سبيل القوم. وقدم السلطان بين يديه يوسف بن عيسى الجشمي، وعمر بن موسى الفودودي في جموع كثيفة من بني مرين. وسار في ساقتهم، فانكشف القوم عن تازى ولحقوا بتلمسان صريخا. وحمد السلطان مغبة نظره في التثاقل عن نصرهم، ووجد بها الحجة عليهم، إذ غاية مظاهراته إياهم أن يملكهم تازى، وقد انكشفوا عنها فيئسوا من صريخه. وأجاز عبد الحق بن عثمان ورحو بن يعقوب إلى الأندلس، فأقام رخو بها إلى أن قتله أولاد ابن أبي العلاء، ورجع الحسن بن علي إلى مكانه من قبيله، ومحله من مجلس السلطان، بعد أن اقتضى عهده بالأمان على ذلك. ولما احتل الحسن بتازى حسم الداء، ومحاة أثر الشقاق، وأثخن في حاشية الخوارج وذويهم بالقتل والسبي. ثم اعتل أثناء ذلك، وهلك لليال من اعتلاله سلخ جمادى الاخرة من سنة عشر، وووري بصحن الجامع الأعظم من تازى. وبويع السلطان أبوسعيد، على ما نذكره إن شاء الله. الخبر عن دولة السلطان أبي سعيد، وما كان فيها من الأحداث: لما هلك السلطان أبو الربيع بتازى، تطاول للأمر عفه عثمان ابن السلطان أبي يعقوب المعروف بأمه قضيب واستلم المنصب وأسدى في ذلك وألحم. وحضر الوزراء والمشيخة بالقصر بعد هدوء من الليل، فاستشاروا بشيخ القرابة يومئذ، وكبير الأعياص المرشحين، العالي القعد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق. ودست اخته عريبة إليهم بالوعد، وسربت إليهم الأموال. وجاءهم عثمان ابن السلطان أبي يعقوب مستاماً، فزجروه
واستدعوا السلطان، يا سعيد، فحضر وبايعوه ليلتئذ وأنفذ كتبه إلى النواحي والجهات باقتضاء البيعة. وسرح ابنه الأكبر الأمير أبا الحسن إلى فاس، فدخلها غرة رجب من سنة عشر. ودخل القصر واطلع على أمواله وذخيرته. وفي غد ليلته أخذت البيعة العامة للسلطان بظاهر تازى، على بني مرين وسائر زناتة والقبائل والعرب، والعساكر والحاشية والموالي والصنائع، والعلماء والصلحاء، ونقباء الناس وعرفائهم والخاصة والدهماء، فقام بالأمر واستوسق له الملك. وفرق الاعطيات وأسنى الجوائز وتفقد الدواوين ورفع الظلامات، وحط المغارم والمكوس. وسرح أهل السجون، ورفع عن أهل فاس وظيفة الرباع. وارتحل لعشرين من شهر رجب إلى حضرته، فاحتل بفاس. وقدم عليه وفود التهنئة من جميع بلاد المغرب ثم خرج لذي القعدة بعدها إلى رباط الفتح لتفقد الأحوال، والنظر في أحوال الرعايا والتهمم بالجهاد، وإنشاء الأساطيل للغزو في سبيل الله. ولما قضى منسك الأضحى بعده، رجع إلى حضرته بفاس. ثم عقد سنة إحدى عشرة لأخيه الأمير أبي البقاء يعيش على ثغور الأندلس: الجزيرة ووندة وما إليهما من الحصون. ثم نهض سنة ثلاث عشرة إلى مراكش لما كان بها من اختلال الأحوال، وخروج عدي بن هنو الهسكوري ونقضه للطاعة، فنزل به وحاصره مدة، واقتحم حصنه عنوة عليه، وحمله مقيداً إلى دار ملكه، فأودعه الطبق. ثم رجع إلى غزو تلمسان. والله أعلم. الخبر عن حركة السلطان أبي سعيد إلى تلمسان، أولي حركاته إليها: لما خرج عبد الحق بن عثمان على السلطان أبي الربيع، وتغلب على تازى بمظاهرة الحسن بن علي بن أبي الطلاق كبير بني عسكر، واختلفت رسلهم إلى أبي حمّو موسى بن عثمان سلطان بني عبد الواد، أسف ذلك بني مرين، وحرك مزاجهم ولما لحق الخارجون على الدولة بالسلطان أبي حمو، وأقبل عليهم، أضرم ذلك حقد بني مرين. وولي السلطان أبو سعيد الأمر، وفي أنفسهم من بني عبد الواد غصة. فلما استوسق أمر السلطان، ودوخ الجهات المراكشية، وعقد على البلاد الأندلسية وفرغ من شأن المغرب، اعتزم على غزو تلمسان، فنهض إليها سنة أربع عشرة. ولما انتهى إلى وادي ملوية قدم ابنيه أبا الحسن وأبا علي في عسكرين عظيمين في الجناحين، وسار في
ساقتهما، ودخل بلاد بني عبد الواد على هذه التعبية، فاكتسح نواحيها، واصطلم نعمها. ونازل وجدة، فقاتلها قتالا شديدا وامتنعت عليه. ثم نهض إلى تلمسان فنزل بالملعب من ساحتها. وانحجز موسى بن عثمان من وراء أسوارها، وغلب على معاقلها ورعاياها، وسائر ضواحيها، فحطمها حطماً ونسف جهاتها نسفا. ودوخ جبال بني يزناسن، وفتح معاقلها، وأثخن فيها، وانتهى إلى وجدة. وكان معه في عسكره أخوه يعيش بن يعقوب، وقد أدركته بعض الاسترابة بأمره، ففر إلى تلمسان، ونزل على أبي حمّو ورجع السلطان على تعبيته إلى تازى، فأقام بها. وبعث ولده الأمير أبا علي إلى فاس، فكان من خروجه على أبيه ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتقاض الأمير أبي علي وما كان بينه وبين أبيه من الواقعات: كان للسلطان أبي سعيد اثنان من الولد: أكبرهما لأمته الحبشية، وهو علي، والآخر لمملوكه من سبي النصرانية، وهو عمر. وكان هذا الأصغر آثرهما لديه، وأعلقهما بقلبه منذ نشأ. فكان عليه حدبا، وبه مشغوفا. ولما استولى السلطان على ملك المغرب، رشحه لولاية عهده، وهو شاب لم يطر شاربه. ووضعوا له ألقاب الأمارة، وصير معه الجلساء والخاصة والكتاب، وأمره باتخاذ العلامة في كتبه. وعقد على وزارته لإبراهيم بن عيسى اليرنياني من صنائع دولتهم، وكبار المرشحين بها. ولما رأى أخوه الأكبر أبو الحسن صاغية أبيهما إليه، وكان شديد البرور لوالديه، انحاش إليه وصار في جملته، وخلط نفسه بحاشيته طاعة لأبيه. واستمرت حال الأمير أبي علي على هذا وخاطبه الملوك من النواحي، وخاطبهم، وهادوه، وعقد الرايات، وأثبت في الديوان، ومحا وزاد في العطاء ونقص، وكاد أن يستبد. ولما قفل السلطان أبو سعيد من غزاته إلى تلمسان سنة أربع عشرة أقام بتازى، وبعث ولديه إلى فاس، فلما استقر الأمير أبو علي بفاس حدثته نفسه بالاستبداد على أبيه وخلعه، وراوضه المداخلون له في المكر بالسلطان حتى يقبض عليه فأبى، وركب الخلاف، وجاهر بالخلعان. ودعا لنفسه، فأطاعه الناس لما كان السلطان جعل إليه من أمرهم. وعسكر بساحة البلد الجديد يريد غزو السلطان، فبرز من تازى بعسكره يقدم رجلا ويؤخر أخرى. ثم بدا للأمير أبي علي في شأن وزيره، وحدثته نفسه بالقبض عليه استرابة به، لما
كان بلغه من المكاتبة بينه وبين السلطان، فبعث لذلك عمر بن يخلف الفودودي. وتفطن الوزير لما جاء به من المكر، فتقبّضعليه ونزع إلى السلطان أبي سعيد، فتقبله ورضي عنه، وارتحل إلى لقاء ابنه. ولما تراءى الجمعان بالقرمدة ما بين فاس وتازى، اختل مصاف السلطان، وانهزم عسكره. وأفلت بعد أن أصابته جراحة في يده وهن لها، ولحق بنازى فليلا جريحا. ولحق ابنه الأمير أبو الحسن نازعا إليه من جملة أخيه أبي علي بعد المحنة وفاء بحق أبيه، فاستبشر السلطان بالظهور والفتح وحميد المغبة. وأناخ الأمير أبو علي بعساكره على تازى، وسعى الخواص بين السلطان وبينه في الصلح، على أن يخرج له السلطان عن الأمر، ويقتصر على تازى وجهاتها، فتم ذلك بينهما وانعقد. وشهد الملأ من مشيخة العرب وزناتة وأهل الأمصار، فاستحكم عمده وانكفأ الأمير أبو علي إلى حضرة فاس مملكا. وتوافت إليه بيعة الأمصار بالمغرب ووفودهم، واستوسق أمره. ثم اعتل إثر ذلك، واشتد وجعه، وصار إلى حال الموت، وخشي الناس على أنفسهم تلاشي الأمر بمهلكه، فتسايلوا إلى السلطان بتازى. ثم نزع عن الأمير أبي علي وزيره أبو بكر بن النوان، وكاتبه منديل بن محمد الكناني، وسائر خواصه، فلحقوا بالسلطان وحملوه على تلافي الأمر، فنهض من تازى، واجتمع إليه كافة بني مرين والجند. وعسكر على البلد الجديد، وأقام محاصرا لها، وابتنى دارا لسكناه. وجعل لابنه الأمير أبي الحسن ما كان لأخيه أبي علي من ولاية العهد وتفويض الأمر. وتفرد أبو علي بطائفة من النصارى المستخدمين بدولته كان قائدهم يمت إليه بالخؤولة، وضبط البلد مدة مرضه، حتى إذا أفاق، وتبين اختلال أمره بعث إلى أبيه في الصفح والرضى، وأن ينزل له عبا انتزى عليه من الأمر على أن يقطعه سجلماسة وما إليها، ويسوغه ما احتمل من المال والذخيرة من دراهم، فأجابه إلى ذلك. وانعقد بينهما سنة خمس عشرة. وخرج الأمير أبو بر بخاصته وحشمه، وعس!كر بالزيتون من ظاهر البلد. ووفى له السلطان بما اشترط، وارتحل إلى سجلماسة. ودخل السلطان إلى البلد الجديد، ونزل بقصره وأصلح شؤون ملكه، وأنزل ابنه الأمير أبا الحسن بالدار البيضاء من قصورهم، وفوض إليه في سلطانه تفويض الاستقلال. وأذن له في اتخاذ الوزراء والكتاب ووضع العلامة على كتابه، وسائر ما كان لأخيه. ووفدت عليه بيعات الأمصار بالمغرب، ورجعوا إلى طاعته. ونزل الأمير أبو علي بسجلماسة، فأقام لها ملكا، ودون الدواوين، واستلحق
واستركب، وفرض العطاء. واستخدم ظواعن العرب من المعقل، وافتتح معاقل الصحراء وقصور توات وتيكورارين وتمنطيت، وغزا بلاد السوس، فافتتحها وتغلب على ضواحيها، وأثخن في إعرابها من ذوي حسان والشبانات وزكنة، حتى استقاموا على طاعته. وبئت عبد الرحمن بن الحسن بن يذر أمير الأمصار بالسوس في تارودانت مقره، فاقتحمها عليه عنوة، وقتله واصطلم نعمته، وأباد سلطانه. وأقام لبني مرين في بلاد القبلة ملكا وسلطاناً. وانتقض على السلطان سنة عشرين، وتغلب على درعا، وسما إلى طلب مراكش، فعقد السلطان على حربه لأخيه الأمير أبي الحسن، وجعله إليه وأغزاه ونهض على أثره، فاحتفوا بمراكش، وثقفوا أطرافها، وحسموا عللها. وعقد عليها لكندوز بن عثمان من صنائع دولتهم، وقفلوا بعسكرهم إلى الحضرة. ثم نهض الأمير أبو علي سنة اثنتين وعشرين بمجموعه من سجلماسة، وأغذ السير إلى مراكش، فاحتلت عساكره بها قبل أن يجتمع لكندوز أمره، فتقبّضعليه وضرب عنقه ورفعه على القناة، وملك مراكش وسائر ضواحيها. وبلغ الخبر إلى السلطان، فخرج من حضرته في عساكره بعد أن احتشد، وأزاح العلل واستوفى الاعطيات وقدم بين يديه ابنه الأمير أبا الحسن ولي عهده، والغالب على أمره في عساكره وجموعه وجاء في ساقته، وسار على هذه التعبية. ولما انتهى إلى توتو من وادي ملوية نذروا بالبيات من أبي علي وجنوده، فحذروهم وأيقظوا ليلتهم. وبيتهم بمعسكرهم ذلك، فكانت الدايرة عليهم، وفل عسكره. وارتحلوا من الغد في أثره. وسلك على جبال درن، وافترقت جنوده في أوعاره، ولحقهم من معراتها شناعات، حتى ترجل الأمير أبو علي عن فرسه، وسعى على قدميه. وخلصوا من ورطة ذلك الجبل بعد عصب الريق، ولحق بسجلماسة، ومهد السلطان نواحي مراكش، واستعمل عليها، ورتب الحامية بها. وعقد على جباية أموال المصامدة ونواحي مراكش لموسى بن علي بن محمد الهنتاتي، فعظم عناؤه في ذلك واضطلاعه، وامتدت أيام ولايته. وارتحل السلطان إلى سجلماسة، فدافعه الأمير أبو علي بالخضوع في الصفح والرضى والعودة إلى السلم، فأجابه السلطان لما كان شغفه من حبه، فقد كان يؤثر عنه من ذلك غرائب. ورجع إلى الحضرة، وأقام الأمير أبو علي بمكانه ذلك من القبلة، إلى أن هلك السلطان، وتغلب عليه أخوه السلطان أبو الحسن، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نكبة منديل الكناني ومقتله:
كان أبو محمد بن محمد الكناني من علية الكتاب بدولة الموحدين، ونزع من مراكش عندما انحل نظام بني عبد المؤمن، وانفض جمعهم إلى مكناسة، فأوطنها في إيالة بني مرين. واتصل بالسلطان يعقوب بن عبد الحق، فصحبه فيمن كان يتأثر على صحابته من أعلام المغرب. وسفر عنه إلى الملوك كما ذكرنا في سفارته إلى المستنصر سنة خمس وستين. وهلك السلطان يعقوب بن عبد الحق، وازداد الكناني عند ابنه يوسف حظوة ومكانة، إلى أن سخطه ونكبه سنة سبع وستين. وأقصاه من يومئذ، وهلك في حال سخطته. وبقي من بعده ابنه منديل هذا في جملة السلطان أبي يعقوب متبرما بمكان عبد الله بن أبي مدين المستولي على قهرمة دار السلطان ومخالصته في خلواته غضباً لذلك، متوقعا للنكبة في أكثر أيامه مضطرمة له بالحسد جوانحه، مع ما كان عليه من القيام على حسبان الديوان. عرف فيه بسبقه، وشهد به صديقه وعدوه. ولما تغلب السلطان على ضاحية شلف وأمصاره من بلاد مغرارة، واستعمله على حسبان الجباية، وجعل إليه ديوان العسكر هنالك، وإلى نظره اعتراضهم وتمحيضهم، فنزل بمليانة مع من كان هنالك من الأمراء: مثل علي بن محمد الخيري والحسن بن علي بن أبي الطلاق العسكري، إلى أن هلك السلطان أبو يعقوب ورجع أبو ثابت البلاد إلى أبي زيان وأخيه أبو حمّو ملوك بني عبد الواد. ونزل لهم عنها، فرجع إلى المغرب ولحق بالسلطان أبي ثابت، ومرّ في طريقه بأبي زيان وأخيه أبي حفو، فخف عليهما وحلا بعيونهما، واستبلغا في تكريمه، وانصرف إلى مغربه. وكان أيام معسكر السلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان قد صحب أخاه أبا سعيد عثمان بن يعقوب في حال خموله، وتأكدت بينهما الخفة التي رعاها له السلطان أبو سعيد. فلما ولي المغرب مت بذلك إليه، فعرفه له واختصه وخالصه، وجعل إليه وضع علامته وحسبان جبايته، ومستخلص أحواله، والمفاوضة بذات صدره. ورفع مجلسه، وقدمه على خاصته. وكان كثير الصاغية للأمير أبي علي ابنه المتغلب على أبيه أول مرة. ولما استبد وخلع أباه انحاش منديل هذا إليه. ثم نزع عنه حين تبين اختلال أمره. وكان الأمير أبو الحسن يحقد له ولاية أخيه أبي علي، لما كان بينهما من المنافسة. وكان كثيرا ما يوغر صدره بإيجاب حق عمر عليه، وامتهانه في خدمته. وطوى له على النث، حتى إذا انفرد بمجلس أبيه، وفصل عمر إلى
سجلماسة أحكم السعاية فيه، والآلاء في الهلكة التي صر السلطان عليها أذناً واعية، حتى تأذن الله بإهلاكه. وكان منديل هذا كثيرا ما يغضب السلطان في المحاورة والخطاب دالة عليه وكبرا، فاعتد عليه من ذلك كلمات وأحوالا، وسخطه سنة ثمان عشرة. وأذن لابنه أبي الحسن في نكبته، فاعتقله واستصفى ماله، وطوى ديوانه، وامتحنه أياما، ثم قتله بمجلسه خنقا، ويقال جوعاً، وذهب مثلاً في الغابرين. والله خير الوارثين. الخبر عن انتقاض العزفي بسبتة، ومنازلته، ثم مصيرها إلي طاعة السلطان بعد مهلكه: كان بنو العزفي لما تغلب عليهم الرئيس أبو سعيد، ونقلهم إلى غرناطة سنة خمس، واستقروا بها في إيالة المخلوع ثالث ملوك بني الأحمر، حتى إذا استولى السلطان أبو الربيع على سبتة سنة تسع آذنوا في الإجازة إلى المغرب، وأجازوا إلى فاس، واستقروا بها. وكان يحيى وعبد الرحمن ابنا أبي طالب من سرواتهم وكبارهم، وكانوا يغشون مجالس أهل العلم، بما كانوا عليه من انتحال الطب. وكان السلطان أبو سعيد أيام أمارة بني أبيه يجالس بالمسجد الجامع للقرويين شيخ الفتيا أبا الحسى الصغير. وكان يحيى بن أبي طالب يلازمه، فاتصل به وصارت له وسيلة يحسبها عنده فلما ولي الأمر، واستقل به، رعى لهم زمام صحابتهم، ووفى لهم مقاصدهم. وعقد ليحيى على سبتة، ورجعهم إلى مقر أمارتهم منها ومحل رياستهم، فارتحلوا إليها سنه عشر. وأقاموا دعوة السلطان أبي سعيد، والتزموا طاعته. ثم تغلب الأمير أبو علي على أمر أبيه واستبد عليه، فعقد على سبتة لأبي زكريا حبون بن أبي العلاء القرشي، وعزل يحيى بن أبي طالب عنها. واستقدمه إلى فاس، فقدمها هو وأبوه أبو طالب وعمه أبو حاتم، واستقروا في جملة السلطان. وهلك أبو طالب بفاس خلال ذلك، حتى إذا كان من خروج الأمير أبي علي على أبيه ما قدمناه، لحق يحيى بن أبي طالب وأخوه بالسلطان نازعين من جملة الأمير أبي علي. فلما احتل بالبلد الجديد، ونازله السلطان بها، فحينئذ عقد السلطان ليحيى بن أبي طالب على سبتة، وبعثه إليها ليقيم دعوته بتلك الجهات وتمسك بابنه محمد رهنا على طاعته، فاستقل بأمارتها، وأقام طاعة السلطان ودعوته بها وأخذ بيعته على الناس، واتصل ذلك سنين. وهلك عمه أبو حاتم هنالك بعد مرجعه معه
من المغرب. ولسنة ست عشرة انتقض على السلطان، ونبذ طاعة الأمر، ورجع إلى حال سلفه من أمر الشورى في البلد. واستقدم من الأندلس عبد الحق بن عثمان، فقدم إليه، وعقد له على الحرب ليفرق به الكلمة، ويوهن ببأسه عزائم السلطان في مطالبته. وجهز السلطان إليه العساكر من بني مرين، وعقد على حربه للوزير إبراهيم بن عيسى، فزحف إليه وحاصره. وتعلل عليهم بطلب ابنه، فبعث به السلطان إلى وزيره إبراهيم ليعطي الطاعة، فتسلمه وجاءه الخبر من عيون كانت بالعسكر أن ابنه كان في فسطاط الوزير بساحة البحر بحيث يتأتى الفرصة في أخذه، فبيت المعسكر وهجم عبد الحق بن عثمان بحشمه وذويه على فسطاط الوزير، فاحتمله إلى أبيه. وركبت العساكر للهيعة، فلم يقفوا على خبر حتى تفقد الوزير ابن العزفي. واتهموا قائدهم إبراهيم بن عيسى الوزير بممالأة العدو على ذلك، فاجتمعت مشيختهم وتقبضوا عليه، وحملوه إلى السلطان، ابتلاء للطاعة، واستنصارا في نصح السلطان، فشكر لهم وأطلق وزيره لابتلاء نصيحته. ورغب بحيى بن العزفي بعدها في رضى السلطان وولايته. ونهض السلطان سنة تسع عشرة إلى طنجة لاختبار طاعته، فعقد له على سبتة، واشترط هو على نفسه الوفاء بجباية السلطان، وأسنى هديته في كل سنة. واستمرت الحال على ذلك إلى أن هلك يحيى العزفي سنة عشرين. وقام بالأمر ابنه محمد إلى نظر ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم شيخ قرابتهم. وكان قائد الأساطيل بسبتة ولي النظر فيها بعد أن نزع القائد يحيى الزنداحي إلى الأندلس، واختلف الغوغاء بسبتة، وانتهز السلطان الفرصة، فأجمع على النهوض إليها سنة ثمان وعشرين، وبادروا بإيتاء طاعتهم. وعجز محمد بن يحيى عن المناهضة وظنها محمد بن علي من نفسه، فتعرض للأمر في أوغاد من اللفيف اجتمعوا إليه. ودافعهم الملأ عن ذلك، وحملوهم على الطاعة، واقتادوا بني العزفي إلى السلطان فانقادوا. واحتل السلطان بقصبة سبتة، وثقف جهاتها ورم منثلمها وأصلح خللها. واستعمل كبار رجالاته وخواص مجلسه في أعمالها، فعقد لحاجبه عامر بن فتح الله السدراتي على حاميتها. وعقد لأبي القاسم بن أبي مدين على جبايتها والنظر في مبانيها، واخراج الأموال للنفقات فيها. وأسنى جوائز الملأ من مشيختها، ووفر إقطاعاتهم وجراياتهم. وأوعز ببناء البلد المسمى أفراك أعلى سبتة، فشروعوا في بنائها سنة تسع وعشرين، وانكفأ راجعا إلى حضرته.
الخبر عن استقدام عبد المهيمن للكتابة والعلامة: كان بنو عبد المهيمن من بيوتات سبتة، ونسبهم في حضرموت. وكانوا أهل تجلة ووقار، منتحلين للعلم. وكان أبوه محمد قاضيا بسبتة أيام أبي طالب وأبي حاتم، وكان له معهم صهر. ونشأ ابنه عبد المهيمن هذا في حجر الطب والجلالة، وقرأ صنعة العربية على الأستاذ الغافقي وحذق فيها. ولما نزلت بهم نكبة الرئيس أبي سعيد سنة خمس، واحتملوا إلى غرناطة، احتمل فيهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه. وقرأ عبد المهيمن بغرناطة على مشيختها، وازداد علما وبصرا باللسان والحديث. واستكتب بدار السلطان !حمد المخلوع، واختص بوزيره المتغلب على دولته محمد بن عبد الحكم الرندي فيمن اختص به من رؤسائهم بني العزفي، ثم رجع بعد نكبة ابن الحكم إلى سبتة، وكتب عن قائدها يحيى بن مسلمة مدة. ولما استخلص بنو مرين سبتة سنة تسع اقتصر عن الكتابة، وأقام متقبلا مذاهب سلفه في انتحال العلم ولزوم المروءة. ولما استولى السلطان أبو سعيد على المغرب، واستقل بولاية العهد والتغلب على الأمر ابنه أبو علي، وكان محبا للعلم، مولعا بأهله منتحلا لفنونه. وكانت دولته خلوا من صناعة الترسيل منذ عهد الموحّدين للبداوة الموجدة في دولتهم. وحصل للأمير أبي علي بعض البصر بالبلاغة واللسان، تفطن به لشأن ذلك، وخلو دولتهم من الكتاب المرسمين، وأنهم إنما يحكمون الخط الذي حذقوا فيه. ورأى فيه الأصابع تشير إلى عبد المهيمن في رياسة تلك الصنائع، فولع به. وكان كثير الوفادة مع أهل بلده أوقات وفادتهم، فيختصه الأمير أبو علي بمزيد من بره وكرامته، ويرفع مجلسه، ويخطبه للكتابة، وهو يمتنع عليه. حتى إذا مضى عزيمته في ذلك أوعز إلى عامله بسبتة سنة اثنتي عشرة أن يشخصه إلى بابه، فقلده كتابته وعلامته. حتى إذا خرج أبو علي على أبيه تحيز عبد المهيمن إلى الأمير أبي الحسن، فلما صولح أبو علي على النزول عن البلد الجديد، وكتب شروطه على السلطان، كان من جملتها كون عبد المهيمن معه، وأمضى السلطان له ذلك. وأنف الأمير أبو الحسن منها، فأقسم ليقتلنه إن عمل بذلك، فرفع عبد المهيمن أمره إلى السلطان ولاذ به وألقى نفسه بين يديه، فرق لشكواه وأمره باعتزالهما معا والرجوع إلى خدمته. وأنزله بمعسكره، وقام على ذلك. واختصه منديل الكناني كبير الدولة وزعيم الخاصة، وأنكحه ابنته. ولما نكب منديل الكناني، جعل السلطان علامته لأبي
القاسم بن أبي مدين، وكان غفلا خلواً من الأدوات، فكان يرجع إلى عبد المهيمن في قراءة الكتب وإصلاحها وإنشائها، حتى عرف السلطان له ذلك، فاقتصر عليه، وجعل وضع العلامة إليه سنة ثمان عشرة، فاضطلع بها. ورسخت قدمه في مجلس السلطان، وارتفع صيته. واستمر على ذلك أيام السلطان وابنه أبي الحسن من بعده، إلى أن هلك بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين. والله خير الوارثين. الخبر عن صريخ أهل الأندلس بالسلطان، ومهلك بطرة علي غرناطة: كان الطاغية شانجة بن أدفونش قد تكالب على أهل الأندلس من بعد أبيه هراندة الهالك سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة. ومنذ غلب على طريف، وشغل السلطان يوسف بن يعقوب بعدوه بني يغمراسن، ثم تشاغل حفدته من بعده بأمرهم وتقاصرت مددهم، وهلك شانجة سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وولي ابنه هراندة ونازل الجزيرة الخضراء فرضة الجهاد لبني مرين حولا كاملا. ونازلت أساطيله جبل الفتح، واشتد الحصار على المسلمين. وراسل هراندة بن أدفونش صاحب برشلونة أن يشغل أهل الأندلس من ورائهم ويأخذ بحجزتهم، فنازل المرية، وحاصرها الحصار المشهور سنة تسع، ونصب عليها الآلات. وكان منها برج العود المشهور، طال الأسوار بمقدار ثلاث قامات، وتحيل المسلمون في إحراقه، فأحرق. وحفر العدو تحت الأرض مسرباً عريض المسافة مقدار ما يسير فيه عشرون راكبا. وتفطن لهم المسلمون وحفروا قبالتهم مثاله، إلى أن نفذ بعضهم لبعض، واقتتلوا نحت الأرض. وعقد ابن الأحمر لعثمان بن أبي العلاء زعيم الأعياص على عسكر بعثه مددا لأهل المرئة، فلقيه جمع من النصارى كان الطاغية بعثهم لحصار مرشانة، فهزمهم عثمان واستلحمهم. ونزل قريبا من معسكر الطاغية، وألح بمغاداتهم ومراوحتهم إلى أن ركبوا إليه في السلم وأفرج عن البلد. وتغلب الطاغية خلال ذلك على جبل الفتح، وأقامت عساكره على شمانة واصطبونة. وزحف العبّاس بن رحو بن عبد الله، وعثمان بن أبي العلاء في العساكر لإغاثة البلدين، فأوقع عثمان بمعسكر اصطبونة، وقتل قائدهم ألفنس بترس في نحو ثلاثة آلاف فارس واستلحموا. ثم زحف عثمان إلى إعانة العبّاس، وكان دخل عوجين، فحاصرته جموع النصرانية به، فانفضوا لخبر زحفه. وبلغ الخبر إلى الطاغية بمكانه من ظاهر الجزيرة بفتك عثمان في قومه، فسرح جموع النصرانية إليه
ولقيهم عثمان، فأوقع بهم وقتل زعماءهم. وارتحل الطاغية يريد لقاءهم، فخالفه أهل البلد إلى معسكره وانتهبوا مخلفاته وفساطيطه. وأتيحت للمسلمين عليهم الكرة وامتلأت الأيدي من غنائمهم وأسراهم. ثم هلك الطاغية إثر هذه الهزيمة سنة اثنتي عشرة، وهو هراندة بن شانجة، وولي من بعده ابنه الهنشة طفلا صغيرا، جعلوه إلى نظر عمه دون بطرة بن شانجة، وزعيم النصرانية جوان، فكفلاه. واستقام أمرهم على ذلك. وشغل السلطان أبو، سعيد ملك المغرب بشأن ابنه وخروجه، فاهتبل النصرانية الغرة في الأندلس، وزحفوا إلى غرناطة سنة ثمان عشرة، وأناخوا عليها بمعسكرهم وأممهم. وبعث أهل الأندلس صريخهم إلى السلطان واعتذر لهم بمكان أبي العلاء من دولتهم، ومحله من رياستهم، وأنه مرشح للأمر في قومه بني مرين، يخشى معه من تفريق الكلمة. وشرط عليهم أن يدفعوه إليه برمته، حتى يتم أمم الجهاد، ويعيده إليهم حوطة على المسلمين. ولم يمكنهم ذلك لمكان عثمان بن أبي العلاء بصرامته وعصابته من قومه، فأخفق سعيهم واستلحموا. وأحاطت امم النصرانية بغرناطة، وطمعوا في التهامها. ثم إن الله نفس مخنمهم، ودافع بيد قدرته عنهم، وكيف لعثمان بن أبي العلاء وعصبته واقعة فيهم كانت من أغرب الوقائع. صمدوا إلى موقف الطاغية بجملتهم، وكانوا زهاء مايتين أو أكثر. وصابروهم حتى خالطوهم في مراكزهم، فصرعوا بطرة وجوان، وولوهم الأدبار. واعترضتهم من ورائهم مسارب الماء للشرب من شنيل، فتطارحوا فيها. وهلك كثيرهم، واكتسحت أموالهم، وأعز الله دينه، وأهلك عدوه. ونصب رأس بطرة بسور البلد عبرة لمن يتذكر. وهو باق هنالك لهذا العهد. الخبر عن صهر الموحل ين والحركة إلى تلمسان علي أثره وما تخلل ذلك من الأحداث:
ولما انفرج الحصار عن ولد عثمان بن يغمراسن ملوك بني عبد الواد سنة ست، وتجافى أبو ثابت عن بلادهم، ونزل لهم عما ملكه بنو مرين منها بسيوفهم. واستقل أبو حمّو بملك بني عبد الواد على رأس الحول منها، صرف نظره واهتمامه إلى بلاد الشرق، فتغلب على بلاد مغراوة، ثم على بني توجين. ومحا أثر سلطانهم. ولحق أعياصهم من ولد عبد القوي بن عطية، وولد منديل بن عبد الرحمن بالموحّدين آل أبي حفص مع من تبعهم من رؤوس قبائلهم، وصاروا في جملة عساكرهم. واستلحق مولانا السلطان أبو
يحيى وحاحبه يعقوب بن غمر منهم جندا كثيفا أثبتهم في الديوان، وغالب بهم الخوارج والمنازعين للدولة. ثم زحف أبو حمّو إلى الجزائر وغلب ابن علان عليها، ونقله إلى تلمسان ووفى له. وفر بنو منصور أمراء مليكش أهل بسيط متيجة من صنهاجة، فلحقوا بالموحّدين واصطنعوهم. وتملك قاصية المغرب الأوسط، وتاخم عمل الموحّدين بعمله. ثم تغلب على تدلس سنة اثنتي عشرة، وتجنى على مولانا السلطان أبي يحيى بما وقع بينهم من المراسلة أيام انتزاء ابن خلوف ببجاية كما ذكرناه في أخباره، يحث عزائمه لمنازلتها. وطلب بلاد الموحدين، وأوطأ عساكره أرضهم، ونازل أمصارهم بجاية وقسنطينة. واختص بجاية بشوكته من ذلك. وجهز العساكر مع مسعود ابن عمه أبي عامر إبراهيم لمضايقتها. وكان خلال ذلك ما قدمناه من خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن عليه وقيام بني توجين بأمره، واقتطاع جبل وانشريش من عمالة ملكه. واستمرت الحال على ذلك حتى هلك السلطان أبو حمّو سنة ثمان عشرة. وقام بأمرهم أبو تاشفين عبد الرحمن، فصنع له في ابن عمه محمد بن يوسف. ونهض إليه بعساكر بني عبد الواد، حتى نازله بمعتصمه من جبل وانشريش. وداخله عمر بن عثمان كبير بني تيغرين في المكربة، فتقبّضعليه وقتله سنة تسع عشرة. وارتحل إلى بجاية، حتى احتل بساحتها. وامتنع عليه الحاجب ابن غمر، فأقام يوما أو بعضه. ثم انكفأ راجعا الى تلمسان، وردد البعوث إلى أوطان بجاية، وابتنى الحصون لتجمر الكتائب، فابتنى بوادي بجاية من أعلاه حصن بكر ثم حصن تيمزيزدكت يليه. ثم اختط بنيكلات على مرحلة منها بلدا سماه تيمزيزدكت على اسم المعقل الذي كان لأوليهم بالجبل قبالة وجدة. وامتنع يغمراسن به على السعيد كما قدمناه، فاختط بلد تيكلات هذه، وشحنها بالأقوات والعساكر، وصيرها ثغرا لملكه، وأنزل بها جنده. وعقد عليها لموسى بن علي العزفي كبير دولته ودولة ابنه. واستحثه أمراء الكعوب من بني سليم لملك أفريقية حين مغاضبتهم لمولانا السلطان أبي يحيى، فأغرس معهم جيوش زناتة، وعقد على تونس للأعياص من آل أبي حفص: الأمير أبي عبد الله محمد بن أبي يحيى اللحياني، وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن عمران، وأبي إسحاق بن أبي يحيى الشهيد، مرة بعد أخرى كما ذكرناه في أخبارهم جميعا. وكانت حروبهم سجالا إلى، أن كان بين جيوش زنانة الموحّدين الزحف المشهور بالرياش من نواحي مرماجنة سنة تسع وعشرين، زحفت
فيه إلى السلطان أبي يحيى عساكر زناتة مع حمزة بن عمر أمير بني كعب، ومن إليه من البدو، وعليهم يحيى بن موسى من صنائع دولة آل يغمراسن. وقد نصبوا للملك محمد بن أبي عمران بن أبي حفص، ومعهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني عبد الحق في بنيه وذويه. وكان نزع إليهم من عند الموحّدين كما ذكرناه، فاختل مصاف مولانا السلطان أبي يحيى، وانهزم واستولوا على فساطيطه بما فيها من الذخيرة والحرم، وانتهبوا معسكره. وتقبضوا على ولديه الموليين أحمد وعمر، وأشخصوهما إلى تلمسان. واصيب السلطان في بدنه بجراحات أوهنته، وخلص إلى بونة ناجيا برمقه. وركب السفين منها إلى بجاية، فأقام بها يدامل جراحه. واستولت زناتة على تونس. ودخلها محمد بن أبي عمران، سموه باسم السلطان ومقادته في يد يحيى بن موسى أمير زناتة. واعتزم مولانا السلطان أبو يحيى على الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد بنفسه صريخا على آل يغمراسن. وأشار حاجبه محمد بن سيد الناس بإنفاذ ابنه الأمير أبي زكريا صاحب الثغر استنكافا له عن مثلها، فتقبل إشارته، وأركب ابنه البحر لذلك. وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحدين، نافضا أمامه طرق المقاصد والمجاورات، ونزلوا بغساسة من سواحل المغرب. وقدموا على السلطان أبي سعيد بحضرته، وأبلغوه صريخ مولانا السلطان أبي يحيى، فاهتز لذلك هو وابنه الأمير أبو الحسن، وقال للأمير في ذلك المحفل: يا بني لقد أكبر قومنا قصدك وموصلك، ووالله لأبذلن في مظاهرتكم مالي وقومي ونفسي، ولأسيرن بعساكري إلى تلمسان فأنزلها مع أبيك، فانصرفوا إلى منازلهم مسرورين. وكان فيما شرطه عليهم السلطان أبو سعيد مسير مولانا السلطان أبي يحيى بعسكره إلى منازلة تلمسان معه فقبلوا. ونهض السلطان أبو سعيد إلى تلمسان سنة ثلاثين. ولما انتهى إلى وادي ملوية وعسكر بصبرة، جاءهم الخبر اليقين باستيلاء السلطان أبي يحيى على حضرة تونس، وإجهاضه زناتة وسلطانهم عنها. واستدعى مولانا السلطان الأمير أبا زكريا يحيى ابنه ووزيره أبا محمد عبد الله بر تافراكين، وأمرهم بالانصراف إلى صاحبهم وأسنى جوائزهم وحباءهم، وركبوا أساطيلهم عن غساسة. وأرسل معهم للخطبة والصهر إبراهيم بن أبي حاتم العزفي، والقاضى بحضرته أبا عبد الله بن عبد الرزاق، وانكفأ على عقبه راجعا إلى حضرته. ولما انعقد الصهر بين الأمير أبي الحسن والسلطان أبي يحيى في ابنته شقيقة الأمير يحيى، زفها
إليهم في أساطيله مع مشيخة من الموحدين: كبيرهم أبو القاسم بن عتو، ووصلوا بها إلى مرسى غساسة سنة إحدى وثلاثين بين يدي مهلك السلطان أبي سعيد، فقاموا بها على إقدام البر والتكرمة. وبعثوا الظهر إلى غساسة لركوبها وحمل أثقالها، وصيغت حكمات الذهب والفضة وقدت ولايا الحرير المغشاة بالذهب، واحتفل لوفادها وأعراسها غاية الاحتفال بما لم يسمع مثله في دولتهم. وتولت قهارمة الدار من عجز من النساء ما يتولاه مثلهم من ذلك الصنيع، وتحدث الناس به. وهلك السلطان أبو سعيد بين يدي موصلها. والبقاء لته وحده. الخبر عن مهلك السلطان أبي سعيد، عفا الله عنه، وولاية ابنه السلطان أبي الحسن، وما تخلل ذلك من الأحداث: وكان السلطان لما بلغه وصول العروس، بنت مولانا السلطان أبي يحيى سنة إحدى وثلاثين، واهتزت الدولة لقدومها عليهم تعظيما لحق أبيها وقومها واحتفاء بها، ارتحل السلطان أبو سعيد إلى تازى ليشارف أحوالها بنفسه استبلاغا في تكريمها وسرورا بعروس ابنه. واعتل هنالك ومرض حتى أشفى على الهلاك، وارتحل به ولي العهد الأمير أبو الحسن إلى الحضرة، وحمله في فراشه على أكتاف الحاشية والخول، حتى نزل بسبو، ثم أدخله كذلك ليلا إلى داره. وأدركته المنية في طريقه، فقضى رحمة الله عليه، فوضعوه بمكانه من البيت واستدعى الصالحين لمواراته فووري لشهر ذي الحجة من سنة إحدى وثلاثين. والبقاء لله وحده، وكل شيء هالك إلا وجهه. ولما هلك السلطان أبو سعيد اجتمع الخاصة من المشيخة ورجالات الدولة إلى ولى عهده الأمير أبي الحسن، وعقدوا له على أنفسهم، وأتوه بيعتهم. وأمر بنقل معسكره من سبو وأضرب بالزيتون من ساحة فاس. ولما ووري السلطان خرج إلى معسكره في النعبية، واجتمع إليه الناس على طبقاتهم لأداء البيعة، وجلس بفسطاطه. وتولى أخذ البيعة له يومئذ على الناس المزوار عبو بن قاسم عريف الوزعة والمتصرفين، وحاجب الباب القديم الولاية في ذلك بدارهم منذ عهد السلطان يوسف بن يعقوب. وزفت إليه ليلتئذ عروسه بنت مولانا السلطان أبي يحيى، فأعرس بها بمكانه من المعسكر، وأجمع امره على الانتقام لأبيها من عدوه. وبدأ باستكشاف حال أخيه أبي علي، وكان السلطان
أبوهما يستوصيه به لما كان له بقلبه من العلاقة. وكان ولي العهد هذا يؤثر لرضاه جهده، فاعتزم على الحركة إلى سجلماسة لمشارفة أحواله. والله تعالى أعلم. الخبر عن حركة السلطان أبي الحسن إلى سجلماسة، وانكفائه عنها إلي تلمسان بعد الصلح مع أخيه والاتفاق: لما هلك السلطان أبو سعيد، وكملت بيعة السلطان أبي الحسن، وكان كثيرا ما يستوصيه بأخيه أبي علي لما كان كلفا به شفيقا عليه، فأراد مشارفة أحواله قبل النهوض إلى تلمسان، فارتحل من معسكره بالزيتون قاصدا سجلماسة. وتلقته في طريقه وفود الأمير أبي علي أخيه مؤديا حقه، موجبا مبرته، مهنيا بما أتاه الله من ملك، متجافيا عن المنازعة فيه، قانعا من تراث أبيه بما حصل في يده، طالبسا العقد له بذلك من أخيه. فأجابه السلطان أبو الحسن إلى ما سأل، وعقد له على سجلماسة وما إليها من بلاد القبلة كما كان لعهد أبيهما. وشهد الملأ من القبيل وسائر زناتة والعرب، وانكفأ راجعا إلى تلمسان بإجابة صريخ الموحدين. وأغذ السير إليها. ولما انتهى إلى تلمسان، نكب عنها متجاوزا إلى ناحية الشرق، لوعد مولانا السلطان أبي يحيى بالنزول معه إلى تلمسان، كما كان عليه وفاقهم ومشارطهم مع الأمير أبي زكريا الرسول إليهم، فاحتل بتاسالة في شعبان من سنة اثنتين وثلاثين. وتلوم بها، وأوعز إلى أساطيله بمراسي المغرب، فأغزاها إلى سواحل تلمسان. وجهز لمولانا السلطان أبي يحيى مددا من عسكره أركبهم الأساطيل من سواحل وهران، وعقد عليهم لمحمد البطوي من صنائع دولته. ونزلوا بجاية، ووافوا بها مولانا السلطان أبا يحيى، فصاروا في جملته. ونهضوا معه إلى تيكلات ثغر بني عبد الواد، المجمرة بها الكتائب لحصار بجاية، وبها يومئذ ابن هزرع من قوادهم. وأجفل من كان بها من العساكر قبل وصوله إليهم، فلحقوا بآخر عملهم من المغرب الأوسط. وأناخ مولانا السلطان أبو يحيى عليها بعساكره من الموحّدين والعرب والبربر وسائر الحشود، فخربوا عمرانها وانتهبوا ما كان من الأقوات مختزنا بها، وكان بحرا لا يدرك ساحله، لما كان السلطان أبو حمّو من لدن اختطها قد أوعز إلى العمال بسائر البلاد الشرقية، منذ عمل البطحاء، أن ينقلوا أعشار الحبوب إليها وسائر الأقوات. وتقبل ابنه السلطان أبو تاشفين مذهبه في ذلك. ولم يزل دأبهم إلى حين حلت بها هذه
الفاقرة، فانتهب الناس من تلك الأقوات ما لا كفاء له. وأصرعوا مختطها بالأرض فنسفوها نسفا، وذروها قاعا صفصفا. والسلطان أبو الحسن خلال ذلك متشرف لأحوالهم، منتظر قدوم مولانا السلطان أبي يحيى بعساكره عليه لمنازلة تلمسان، حتى وافاه الخبر بانتقاض أخيه كما نذكره، فانكفأ راجعا. واتصل الخبر بمولانا السلطان أبي بحيى، فقفل إلى حضرته. وحمل البطوي معه وأسنى جائزته وجوائز عسكره، فانصرفوا إلى السلطان مرسلهم في سفنهم. وانقبض عنان السلطان أبي تاشفين عن غزو البلاد الموحّدين إلى أن انقرض أمره. والبقاء لته وحده. الخبر عن انتقاض أبي علي ونهوض السلطان أبي الحسن إليه وظفره به: لما توغل السلطان أبو الحسن في غزاة تلمسان، وتجاوزها إلى تاسالة لموعد مولانا السلطان أبي يحيى، دس أبو تاشفين إلى الأمير أبي علي في اتصال اليد والاتفاق على السلطان أبي الحسن، وأن يأخذ كل واحد منهما بحجزته عن صاحبه متى هم به، وانعقد بينهما على ذلك. وانتقض الأمير أبو علي على أخيه السلطان أبي الحسن، ونهض من سجلماسة إلى درعة، فقتل بها عامل السلطان، واستعمل عليها من ذويه، وسرح العسكر إلى بلاد مراكش. واتصل الخبر بالسلطان، وهو بمعسكره بتاسالة، فأحفظه شأنه، وأجمع على الانتقام منه، فانكفأ راجعا إلى الحضرة. وأنزل بثغر تاوريرت تخم عمله عسكرا، وعقد عليه لابنه تاشفين، وجعله إلى نظر وزيره منديل بن حمامة بن تيربيغين وأغذ السير إلى سجلماسة، فنزل عليها وأحاطت عس!اكره بها، وأخذ بمخنقها. وحشد الفعلة والصناع لعمل الآلات لحصارها والبناء بساحتها. وأقام يغاديها القتال ويراوحها حولا كريتاً. ونهض أبو تاشفين في عساكره وقومه إلى ثغر المغرب ليوطئه عساكره، وشيث في نواحيه، ويجاذب السلطان عن مكانه من حصاره. ولما انتهى إلى تاوريرت، برز إليه ابن السلطان في وزرائه وعساكره، وزحفوا إليه في التعبئة، فاحتل مصافه، وانهزم ولم يلق أحدا، وعاد إلى منحجزه. وبادر إلى إمداد الأمير أبي علي بعسكره، فعقد على حصة من جنوده وبعث بهم إليه، فتسربوا إلى البلد زرافات ووحدانا، حتى استكملوا عنده. وطاولهم السلطان الحصار، وأنزل بهم أنواع الحرب والنكال، حتى نغلب عليهم، واقتحم البلد عنوة، وتقبض على الأمير أبي علي عند باب قصره. وسيقَ
المجلد السابع
تاريخ ابن خلدون
من صفحة 337 إلى 502
إلى السلطان، فأمهله واعتقله واستولى على ملكه. وعمد على سجلماسة، واستعمل عليها، ورحل منكفياً إلى الحضرة، فاحتل بها سنة ثلاث وثلاثين. واعتقل أخاه في إحدى حجر القصر إلى أن قتله لأشهر اعتقاله خنقا بمحبسه. وعذر له هذا الفتح بفتح الجبل، واسترجاعه من يد العدو دمره الله بأيدي عسكره تحت راية ابنه أبي مالك. كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن منازلة جبل الفتح، واستئثار الأمير أبي مالك والمسلمين به:
لما هلك السلطان أبو الوليد ابن الرئيس أبي السعيد المتغلب على ملك الأندلس من يد ابن عمه أبي الجيوش، قام بالأمر من بعده ابنه محمد طفلا صغيرا إلى نظر وزيره محمد بن المحروق، من بيوت الأندلس وصنائع الدولة، واستبد عليه. فلما شب وناهز، وأنف من الاستبداد عليه، أغراه المعلوجي من حشمه بالوزير، فاغتاله وقتله سنة تسع وعشرين. وشمر للاستبداد وشيد أواخي الملك. وكان الطاغية قد أخذ جبل الفتح سنة تسع، وجاورت النصرانية به ثغور الفرضة، وصار شجى في صدرها، وأهمَّ الملسمين شأنه. وشغل عنهم صاحب المغرب بما كان من فتنة ابنه، فرجعوا الجزيرة وحصونها إلى ابن الأحمر منذ سنة اثنتي عشرة لأول الماية الثامنة. واستغلظ الطاغية عليهم بعد ذلك، فرجعوا الجزيرة إلى صاحب المغرب سنة تسع وعشرين. وولى عليها السلطان أبو سعيد من أهل دولته سلطان بن مهلهل من عرب الخلط وأخواله. وأسف الطاغية إلى حصونها عند مهلك السلطان أبي سعيد، فملك أكثرها ومنع البحر من الإجازة. وقارن ذلك استبداد صاحب الأندلس، وقتله لوزيره المحروق. وأهمه شأن الطاغية، فبادر إلى إجازه البحر. ووفد على
السلطان أبي الحسن بدار ملكه بفاس سنة اثنتين وثلاثين، فأكبر موصله وأركب الناس للقائه، وأنزله بروض المصارة لصق داره، واستبلغ في تكريمه وفاوضه ابن الأحمر في شأن المسلمين وراء البحر، وما أهمهم من عدوهم، وشكا إليه حال الجبل واعتراضه شجى في صدر الثغور، فأشكاه السلطان. وعامل الله في أسباب الجهاد، وكان مشغوفا به متقبلا مذهب جده يعقوب فيه. وعقد لابنه الأمير أبي مالك على خمسة آلاف من بني مرين، وأنفذه مع السلطان محمد بن إسماعيل لمنازلة الجبل فاحتل بالجزيرة، وتتابع إليه الأسطول بالمدد. وأرسل ابن الأحمر حاشرين في الأندلس فتسايلوا إليه وأضربوا معسكرهم جميعا بساحة الجبل. وأبلوا في حربه ومنازلته البلاء الحسن، إلى أن تغلبوا عليه سنة ثلاث وثلاثين، واقتحمه المسلمون عنوة. ونقلهم الله من كان به من النصرانية بما معهم، ووفاه الطاغية بأمم الكفر لثالثة فتحه، وقد شحنه المسلمون بالأقوات نقلوها من الجزيرة على خيولهم. وباشر نقلها الأمير أبو مالك وابن الأحمر، فنقلها الناس عامة. وتحيز الأمير أبو مالك إلى الجزيرة، وترك بالجبل يحيى بن طلحة بن محلى من وزراء أبيه. ووصل الطاغية بعد ثلاث، فأناخ عليه. وبرز أبو مالك بعساكره، فنزل قبالته. وبعث إلى الأمير أبي عبد الله صاحب الأندلس، فوصل بحشد المسلمين بعد أن دوخ أرض النصرانية. وخرج فنزل بإزاء عسكر الطاغية، وتحصن العدو في محلتهم. وأقاموا كذلك عادية لقرب العهد بارتجاعه، وخفة ما به من الحامية والسلاح، فبادر السلطان ابن الأحمر إلى لقاء الطاغية. وسبق الناس إلى فسطاطه عجلا، بائعا نفسه من الله في رضى المسلمين، وسد فرجتهم، فتلقاه الطاغية راجلا حاسرا إعظاما لموصله. وأجابه إلى ما سأل من الإفراج عن هذا المعقل، وأتحفه بذخائر مما لديه، وارتحل لفوره. وأخذ الأمير أبو مالك في تثقيف أطراف الثغر، وسد فروجه، وإنزال الحامية به، ونقل الأقوات إليه. وكان فتحا طوى دولة السلطان أبي الحسن قلادة الفخر آخر الأيام. ثم رجع بعدها إلى شأنه من منازلة تلمسان وحصاره، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن حصار تلمسان، وتغلب السلطان أبي الحسن عليها، وانقراض بني عبد الواد بمهلك أبي تاشفين: لما تغلب السلطان على أخيه، وحسم علة انتزائه ومنازعته، وسد ثغور المغرب، وعظمت لديه نعمة الله بظهور عسكره على النصرانية، وارتجاع جبل الفتح من أيديهم، بعد أن أقام في ملكتهم نحوا من عشرين سنة، فرغ لعدوه وأجمع على غزو تلمسان. ووفد عليه رسل السلطان أبي يحيى في سبيل التهنئة بالفتح والأخذ بحجزة أبي تاشفين على الثغور. وأوفد السلطان رسله إلى أبي تاشفين شفعا، وأن يتخلى عن عمل الموحدين جملة، وينزل لهم عن تدلس، وبرجع إلى تخم أعمالهم منذ أول الأمر، ولو عامئذ، ليعلم الناس جاه السلطان عند الملوك، ويقدروه حق قدره. واستنكف أبو تاشفين من ذلك، ولج وأغلظ للرسل في القول، وأفحش بمجلسه بعض السفهاء من العبدى في الرد عليهم، والنيل من مرسلهم، فانقلبوا بما أحفظه، فانبعثت عزائم السلطان للصعود إليهم. وعسكر بساحة البلد الجديد، وبعث وزراءه إلى قاصية البلاد المراكشية لحشد القبائل والعساكر. ثم تعجل فاعترض جنوده وأزاح عللهم وعبا مواكبه. وسار في التعبئة، وفصل بمعسكره من فاس أواسط خمس وثلاثين. وسار يجر الشوك والمدد من امم المغرب وجنوده. ومر بوجدة، فجمر الكتائب لحصارها. ثم مر بندرومة، فقاتلها بعض يوم واقتحمها، فقتل حاميتها واستولى عليها آخر سنة خمس. ثم سار على تعبئته حتى أناخ على تلمسان، وبلغه الخبر بتغلب عساكره على وجدة سنة ست وثلاثين، فأوعز إليهم بتخريب أسوارها، فأصرعوها بالأرض. وتوافت إليه أمداد النواحي وحشودها، وربض على فريسته. ووفدت عليه قبائل مغراوة وبني توجين، فأتوه طاعتهم. ثم سرح عساكره إلى الجهات، فتغلب على وهران وهنين، ثم على مليانة وتنس والجزائر، كل ذلك سنة ست وثلاثين. ونزع إليه يحيى بن موسى صاحب القاصية الشرقية من عمله، والمتاخم كان لعمل الموحدين، والقائم بحصار بجاية بعد نكبة موسى بن علي، فلقاه مبرة وتكريما ورفع مجلسه في بساطه، ونظمه في طبقات وزرائه وجلسائه. وعقد على فتح البلاد الشرقية ليحيى
بن سليمان العسكري كبير بني عسكر بن محمد، وشيخ بني مرين وصاحب شوراهم بمجلس السلطان، والمخصوص بالصهر من السلطان وعقد له على ابنته، فسار في الأولوية والجنود وطوع ضاحية الشرق وقبائله، وافتتح أمصاره، حتى انتهى إلى المدية. ونظم البلاد في طاعة السلطان، وأحشد مقاتليها إلى معسكره فلحقوا به وكاثروا جنوده. واستعمل السلطان على وانشريش وعمل الحشم من بني توجين. وعقد لسعد بن سلامة بن علي على بني يدللتن. وجعل الوالي بالقلعة إلى نظره. وكان خلص إليه بالمغرب قبل فصوله نازعا عن أبي تاشفين لمكان أخيه قريعه محمد من الدولة. واستعمل السلطان أيضا على شلف وسائر أعمال المغرب الأوسط. واختط السلطان بقرب تلمسان البلد الجديد لسكناه. ونزل عساكره وسماه المنصورة. وأدار على البلد المخروب سياجا من السور ونطاقا من الخندق. ونصب المجانيق والآلات من وراء خندقه. وشيد قبالة كل برج من أبراج البلد برجا على ساقه خندقه، ينضخ رماته بالنبل رملهم، وشغلوهم بأنفسهم حتى شيدوا برجا آخر أقرب منه، وترتفع شرفاته فوق خندقهم. ولم يزل يتقرب بوضع الأبراج من حد إلى ما بعده، حتى اختطها من قرب على ساقة خندقهم. وتماصع المقاتلة بالسيوف من أعاليها، وقربت المجانيق إلى رجمها ودكها، فنالت من ذلك فوق الغاية. واشتد الحرب وضاق نطاق الحصار. وكان السلطان يصابحهم كل يوم بالبكور والطواف على البلد من جميع جهاته لتفقد المقاتلة في مراكزهم، وربما ينفرد في تطوافه بعض الأيام عن حاشيته، فاهتبلوا الأمر يحسبونه غرة. وصفوا جيوشهم من وراء السور مما يلي الجبل المطل على البلد، حتى إذا حاذاه السلطان في تطوافه، فتحوا أبوابهم، وأرسلوا عليه عقبان جنودهم، فاضطروه إلى سفح الجبل، حين لحق بأوغاره، وكان أن ينزل عن فرسه هو ووليه عريف بن يحيى أمير سويد. ووصل الصائح إلى المعسكر، فركب الأميران، ابناه: أبو عبد الرحمن وأبو مالك، في جموع بني مرين، وتهاوت فرسان المعسكر من كل جانب، فشمروا جنود بني عبد الواد إلى مراكزهم. ثم دفعوهم عنها، وحملوهم على هوة الخندق، فتطارحوا فيها وترادفوا وهلك بالكظيظ أكثر مما هلك بالقتل. واستلحم في ذلك اليوم زعماء ملاحمهم: مثل عمر بن عثمان كبير الحشم من بني توجين، ومحمد بن سلامة بن علي كبير بني يدللتن منهم أيضا وغيرهم. وكان يوما له ما بعده. واعتز بنو مرين عليهم من يومئذ. ونذر بنو عبد الواد بالتغلب عليهم، واتصلت الحرب عامين. ثم اقتح مها السلطان غلابا لسبع وعشرين من رمضان سنة سبع وثلاثين. ووقف أبو تاشفين بساحة قصره مع خاصته، وقاتل هنالك حتى قتل ابناه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن علي، ووليه عبد الحق بن عثمان بن محمد من أعياص آل عبد الحق. نزع إليه من جملة الموحدين كما أشرنا إليه، ونستوفي في أخباره. فهلك هو وابنه وابن أخيه، وأثخنت السلطان أبا تاشفين الجراحات. ووهن لها، فتقبض عليه واحتقبه بعض الفرسان إلى السلطان، فلقيه الأمير أبو عبد الرحمن صالي تلك الحروب ووارد غمرتها بنفسه، فاعترضه وقد غص الطرق بموكبه، فأمر به للحين، فقتل واحتز رأسه. وسخط ذلك السلطان من فعله لحرصه على توبيخه وتقريعه، وذهب مثلا في الغابرين. واقتحم السلطان بكافة عساكره، وتواقع الناس بباب كشوك لجنوبهم من كظيظ الزحام، فهلك منهم امم. وانطلقت أيدي النهب على البلد، فلحقت الكثير من أهله معرة في أموالهم
وحرمهم. وخلص السلطان إلى المسجد الجامع مع لمة من خواصه وحاشيته. واستدعى شيوخ الفتيا بالبلد: أبو زيد وأبو موسى ابنا الإمام، وفاء بحق العلم وأهله، فخلصوا إليه بعد الجهد ووعظوه وذكروه بما نال الناس من النهب، فركب لذلك بنفسه وسكن ووزع جنوده وأشياعه عن الرعية، وقبض أيديهم عن الفساد وعاد إلى معسكره بالبلد الجديد. وقد كمل الفتح وعز النصر، وشهد ذلك اليوم أبو محمد عبد الله بن تافراكين، وافاه رسولا عن مولانا السلطان أبي يحيى مجددا للعهد، فأعجله السلطان إلى مرسله بالخبر وسابق السابقين. ودخل تونس لسبع عشرة ليلة من نوبة الفتح، فعظم السرور عند السلطان أبي يحيى بمهلك عدوه والانتقام منه بشارة، واعتدها بمساعيه. ورفع السلطان أبو الحسن القتل عن بني عبد الواد أعدائهم، وشفا نفسه بقتل سلطانهم، وعفا عنهم وثبتهم في الديوان، وفرض لهم العطاء، واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم. وجمع كلمة بني واسين من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين، بل وسائر زناتة. وأنزلهم ببلاد المغرب، وسد بكل طائفة منهم ثغرا من أعماله. وساروا عصباً تحت لوائه، فأنزل منهم بقاصية السوس وبلاد غمارة، وأجاز منهم إلى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين، واندرجوا في جملته، واتسع تطاق ملكه. وأصبخ ملك زناتة، بعد أن كان ملك بني مرين. وسلطان العدوتين بعد أن كان سلطان المغرب. والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. الخبر عن نكبة الأمير أبي عبد الرحمن بمتيجة، وتقبض السلطان عليه، ثم مهلكه آخراً: قد قدمنا ما كان من اشتراط السلطان أبي سعيد على الموحدين منازلتهم تلمسان مع عساكره، وتلوم السلطان أبو الحسن بتاسالة لانتظار مولانا السلطان أبي يحيى. ولما نازل تلمسان بعساكره المرة الثانية، لم يطالبهم بذلك. وكان أبو محمد بن تافراكين يتردد إليه، وهو بمعسكره من حصار تلمسان مؤديا حقه مستخبراً مآل عدوهم. فلما تغلب على تلمسان أسر إليه سفيرهما أبو محمد بن تافراكين بأن سلطانه قادم عليه للقائه وتهنئته بالظفر بعدوه. وتشوف السلطان أبو الحسن إليها لما كان يحب الفخر ويعنى به، فارتحل من تلمسان سنة ثمان وثلاثين، وعسكر ببسيط متيجة منتظراً وفادة مولانا السلطان أبي
يحيى عليه. وتكاسل السلطان عنها لما أراه سيفه المتحكم في دولته محمد بن الحكيم من حذر مغبتها، وقال له: إن لقاء سلطانين لا يتفق إلا في يوم على أحدهما، فنكره لذلك السلطان وتقاعد عنه. وطال مقام السلطان أبي الحسن في الموعد الذي القي إليه أبو محمد بن تافراكين، واعتل لأشهر من مقامه ومرض بفسطاطه. وتحدث أهل المعسكر بمهلكه. وكان ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك متناغيين في ولاية عهده منذ أيام جدهما أبي سعيد. وكان السلطان قد جعل لهما من أول دولته ألقاب الأمارة وأحوالها، من اتخاذ الوزراء والكتاب ووضع العلامة وتدوين الدواوين وإثبات العطاء واستلحاق الفرسان والانفراد بالمعسكر، فكانا من ذلك على ثبج. وجعل لهما مع ذلك الجلوس بمقعد فصله، والمناوبة لتنفيذ الأوامر السلطانية، فكانا لذلك رديفين له في سلطانه. ولما اشتد وجع السلطان تمشت سماسرة الفتن بين هذين الأميرين وحزبوا أهل المعسكر لهما أحزابا، وبث كل واحد منهما المال وحمله على القربات. وصاروا شيعا وانقسموا فرقا. وهم الأمير أبو عبد الرحمن بالتوثب على الأمر، قبل أن يتبين حال السلطان بإغراء وزرائه وبطانته بذلك. وتفطن خاصة السلطان لها، فأخبروه الخبر، وحضوه على الخروج إلى الناس قبل أن يتفاقم الأمر ويتسع الخرق، فبرز إلى فسطاط جلوسه. وتسامع أهل المعسكر به، فازدحموا على مجلسه وتقبيل يديه. وتقبض على أهل الظنة من العسكر، فأودعهم السجن وسخط على الأميرين. ورحل الناس من معسكرهما، فردهما إلى معسكره. ثم رجع إلى فسطاطه، فارتاب الأميران لذلك ووجما، وطفئت نار فتنتهما. وسكن سعي المفسدين عندهما، وانتبذ الناس عنهما. واشتدت روعة الأمير أبي عبد الرحمن، وركب من فساطيطه وخاض الليل، وأصبح بحلة أولاد زغلى أمراء زغبة الموطنين بأرض حمزة، فتقبض عليه أميرهم موسى بن أبي الفضل. ورده إلى أبيه، فاعتقله بوجدة ورتب العيون لحراسته من حشمه، إلى أن قتله بعد ذلك سنة اثنتين وأربعين. توثب بالسجان فقتله. وأنفذ السلطان حاجبه علال بن محمد، فقضى عليه. ولحق وزيره زيان بن عمر الوطاسي بالموحدين، فأجاروه. ورضي السلطان صبيحة نزوع أبي عبد الرحمن عن أخيه أبي مالك، وعقد له على ثغور عمله بالأندلس، وصرفه إليها، وانكفأ إلى تلمسان. والله أعلم.
الخبر عن خروج ابن هيدور، وتلبيسه بأبي عبد الرحمن: لما تقبض السلطان على ابنه أبي عبد الرحمن وأودعه السجن، تفرق خدمه وحشمه انذعروا في الجهات. وهمل جازر من مطبخه، كان يعرف بابن هيدور، كان شبيها له في الصورة، فلحق ببني عامر من زغبة. وكانوا لذلك العهد منحرفين عن الطاعة، خوارج على الدولة لما كان السلطان وأبوه قد اختص عريف بن يحيى أمير بني سويد أقتالهم، منذ نزع إليهم عن أبي تاشفين. فركبوا سنن الخلاف ولبسوا جلدة النفاق، وانتبذوا بالقفار. ورياستهم لذلك العهد لصغير بن عامر وإخوته. وعقد السلطان على حربهم لونزمار ابن وليه عريف. وكان سيد البدو يومئذ، فجمع لهم وشفر لطلبهم. وأبعدوا إمامه في المذهب، وأوقع بهم مرارا. ولحق بهم هذا الجازر، وانتسب لهم إلى السلطان أبي الحسن، وأنه أبو عبد الرحمن ابنه النازع، عنه فشبه لهم. وبايعوه وأجلبوا به على نواحي المدية. وبرز إليهم قائدها مجاهد من صنائع الدولة، ففضوا جمعه وانهزم أمامهم. ثم جمع لهم ونزمار وفروا عن تلك النواحي، وافترق جمعهم. ونبذوا إلى ذلك الجازر عهده، فلحق ببني يراتن من زواوة، ونزل على سيدتهم شمسي، فقامت بأمره. وحمل بنوها من بني عبد الصمد قومهم على طاعته. وشاع في الناس خبره: فمن مصدق ومكذب، حتى تبينت حاله، ووقفوا على كذبه في انتسابه، فنبذوا إليه عهده. ولحق بالدواودة أمراء رياح، ونزل على سيدهم يعقوب بن علي، وانتسب له في مثل ذلك النسب، فأجاره إلى أن صدق نسبه. وأوعز السلطان إلى مولانا السلطان أبي يحيى في شأنه، فبعث إلى يعقوب بن علي فيه. وأرسل إليه زيان بن عمر وزير أبي عبد الرحمن النازع إليهم، فكشف لهم عن خبثه، فتقبض عليه يعقوب، وأشخصه إلى السلطان مع ذويه، فلحق به بمكانه من سبتة، فامتحنه السلطان وقطعه من خلاف وانحسم داؤه. وبقي بالمغرب تحت جراية من الدولة، إلى أن هلك سنة ثمان وستين. والله تعالى أعلم. الخبر عن شأن الجهاد، وإغراء السلطان ابنه الأمير أبا مالك، واستشهاده: لما فرغ السلطان من أمر عدوه وما تبع ذلك من الأحوال، صرف اعتزامه إلى الجهاد، لما كان كلفاً به. وكان الطاغية منذ شغل بنو مرين عن الجهاد، منذ عهد
يوسف بن يعقوب، وقد اعتزوا على المسلمين بالعدوة. ونازلوا معاقلهم، وتغلبوا على الكثير منها، وارتجعوا الجبل ونازلوا السلطان أبا الوليد في عقر داره بغرناطة ووضعوا عليهم الجزية، فتقبلوها وأسفوا إلى التهام المسلمين بالأندلس. فلما فرغ السلطان أبو الحسن من شأن عدوه، وغلب على الأيدي يده، وانفسح نطاق ملكه، دعته نفسه إلى الجهاد. وأوعز إلى ابنه الأمير أبي مالك، أمير الثغور من عمله، من الدعوة سنة أربعين، بالدخول إلى دار الحرب. وجهز إليه العساكر من حضرته، وأنفذ إليه الوزراء، فشخص غازياً في الجحفل، وتوغل في بلاد الطاغية واكتسحها، وخرج بالسبي والغنائم إلى أدنى صدرة من أرضهم وأناخ بها. واتصل الخبر بأن النصارى جمعوا له، وأغذوا السير في اتباعه. وأشار عليه الملأ بالخروج عن أرضهم، وإجازة الوادي الذي كان تخما بين أرض الإسلام ودار الحرب. وأن يسير إلى مدن المسلمين، فيمتنع بها، فلج في إبايته وصمم على التعريس. وكان قدما ثبتا، إلا أنه كان غير بصير بالحروب لمكان سنه، فصبحتهم عساكر النصرانية في مضاجعهم قبل أن يستركبوا وخالطوهم في أبياتهم. وأدرك الأمير أبو مالك قبل أن يستوي على فرسه، فجدلوه واستلحموا الكثير من قومه، واحتووا على المسكر بما فيه من أموال المسلمين، ورجعوا على أعقابهم. واتصل الخبر بالسلطان، فتفجع لمهلك ابنه واسترحم له. واحتسب عند الله أجره وفي سبيله قتله. وشرع في إجازة العساكر للجهاد وتجهيز الأساطيل. الخبر عن واقعة الملند، والظفر به، وظهور أساطيل المسلمين علي أسطول النصاري: لما بلغ الخبر إلى السلطان باستشهاد ابنه، أخرج وزراءه إلى السواحل لتجهيز الأساطيل. وفتح ديوان العطاء، واعترض الجنود وأزاح عللهم. واستنفر أهل المغرب، وارتحل إلى سبتة ليباشر أحوال الجهاد. وتسامعت النصرانية بذلك، فاستعدوا للدفاع. وأخرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق ليمنع السلطان من الإجازة. واستحث السلطان أساطيل المسلمين من مرسى العدوة. وبعث إلى الموحدين بتجيهز أسطولهم إليه، فعقدوا عليه لزيد بن فرحون قائد أسطول بجاية من صنائع دولتهم وأوفى سبتة في ستة عسر من أساطيل إفريقية، كان فيها من طرابلس وقابس وجربة وتونس وبونة وبجاية. وتوافت أساطيل المغربين بمرسى سبتة تناهز الماية. وعقد السلطان عليها لمحمد بن
علي العزفي، الذي كان صاحب سبتة يوم فتحها، وأمره بمناجزة أسطول النصارى بالزقاق. وقد أكمل عديدهم وعدتهم، فاستلأموا وتظاهروا في السلاح. وتزاحفوا إلى أسطول النصارى، وتواقفوا مليا. ثم قربوا الأساطيل بعضها إلى بعض وقرنوها للمصاع، ولم يكن إلا كلا ولا، حتى هبت ريح النصر، وأظفر الله المسلمين بعدوهم، وخالطوهم في أساطيلهم. واستلحموهم قهرا بالسيوف وطعنا بالرماح، وألقوا أشلاءهم في اليم. وقتلوا قائدهم الملند، واستاقوا أساطيلهم مجنوبة إلى مرسى سبتة، فبرز الناس لمشاهدتها. وطيفت بكثير من رؤوسهم في جوانب البلد. ونظمت أصفاد الأسارى بدار الإنشاء. وعظم الفتح، وجلس السلطان للتهنئة، وأنشدت الشعراء بين يديه. وكان يوماً من أغر الأيام. والمنة لله سبحانه. الخبر عن واقعة طريف وتمحيص المسلمين: لما ظفر المسلمون بأسطول النصارى، وخضدوا شوكتهم عن ممانعة الجواز، شرع السلطان في إجازة العسكر الغزاة من المرتزقين. وانتظمت الأساطيل بسلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة. ولما استكمل إجازة العساكر، أجاز هو في أسطوله وخاصته وحشمه آخر سنة أربعين. ونزل بساحة طريف، وأناخ بعساكره عليها، واضطرب معسكره بفنائها، وبدأ بمنازلتها. ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج ابن السلطان أبي الوليد بعسكر الأندلس، من غزاة زناتة وحامية الثغور ورجل البدو، فعسكروا حذو معسكره، وأحاطوا بطريف نطاقا واحدا، وأنزلوا بهم أنواع القتال، ونصبوا عليها الآلات. وجهز الطاغية أسطولاً آخر اعترض به الزقاق لقطع المرافق عن المعسكر، وطال ثواهم بمكانهم من حصار البلد، ففنيت أزوادهم وافتقدوا العلوفات، فوهن الظهر واختلت أحوال المعسكر. واحتشد الطاغية أمم النصرانية، وظاهره البرتغال: صاحب أشبونة وغرب الأندلس، فجاء معه في قومه. وزحف إليهم لستة أشهر من نزولهم. ولما قرب من معسكرهم سرب إلى طريف جيشا من النصارى أكمنهم بها، فدخلوها ليلا على حين غفلة من العسس الذي أرصد لهم. وأحسوا بهم آخر ليلتهم، فثاروا بهم من مراصدهم. وأدركوا أعقابهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عددا ولبسوا على السلطان بأن لم يدخل البلد سواهم حذرا من سطوته. وزحف الطاغية من الغد في جموعه، وعبأ السلطان
عساكر المسلمين صفوفاً وتزاحفوا. ولما نشب الحرب برز الجيش الكمين من البلد، وخالفوهم إلى المعسكر، وعمدوا إلى فساطيط السلطان. ودافعهم عنها الناشبة الذين أعدوا لحراستها، فاستلحموهم. ثم دافعهم النساء عن أنفسهن، فقتلوهن وخلصوا إلى حظايا السلطان: عائشة بنت عمه أبي يحيى بن يعقوب، وفاطمة بنت مولانا السلطان أبي يحيى ملك إفريقية وغيرهما من حظاياه، فقتلوهن واستلبوهن. وانتهبوا سائر الفساطيط، وأضرموا المعسكر نارا. وأحس المسلمون بما وراءهم في معسكرهم، فاختل مصافهم وارتدوا على أعقابهم، بعد أن كان ابن السلطان صمم في طائفة من قومه وذويه حتى خالطهم في صفوفهم، فأحاطوا به وتقبضوا عليه. وولى السلطان متحيزا إلى فئة المسلمين. واستشهد كثير من الغزاة. ووصل الطاغية إلى فسطاط السلطان من المحفة. ونكر قتل النساء والولدان، ووقف منها بمنتهى أثره، وانكفأ راجعا إلى بلاده. ولحق ابن الأحمر بغرناطة، وخلص السلطان إلى الجزيرة، ثم إلى الجبل. ثم ركب السفين إلى سبتة في ليلته. ومحص الله المسلمين، وأجزل مثوبتهم، وأرجأ لهم الكرة على عدوهم. الخبر عن منازلة الطاغية الجزيرة، ثم تغلبه عليها، بعد أن غاب علي القلعة من ثغور ابن الأحمر: لما رجع الطاغية من واقعة طريف استأسد على المسلمين بالأندلس، وطمع في التهامهم، وجمع عساكر النصرانية، ونزل قلعة بني سعيد ثغر غرناطة، وعلى مرحلة منها. وجمع الآلات والأيدي على حصارها، واشتد مخنقها. وأصابهم الجهد من العطش، فنزلوا على حكمه سنة اثنتين وأربعين. وأدال الله الطيب منها بالخبيث، وانصرف إلى بلده. وكان السلطان أبو الحسن لما أجاز إلى سبتة أخذ نفسه بالعودة إلى الجهاد لرجع الكرة وبعث في الأمصار للاستنفار، وأخرج قواده إلى سواحل البحر لتجهيز الأساطيل حتى أكمل له منها عدد. ثم ارتحل إلى سبتة لمشارفتها، وقدم عسكره إلى العدوة مع وزيره عسكر بن تاحضريت. وبعث على الجزيرة محمد بن العباس بن تاحضريت من قرابة الوزير، وبعث إليها مددا من العسكر مع موسى بن إبراهيم اليرنياني من المرشحين للوزارة ببابه. وبلغ الطاغية خبره، فجهز أسطوله وأجراه إلى بحر الزقاق
لمدافعته. وتلاقت الأساطيل، فمحص الله المسلمين. واستشهد منهم أعداد. وتغلب أسطول الطاغية على بحر الزقاق، وملكوه دون المسلمين. وأقبل الطاغية من إشبيلية يجر عساكر النصرانية، حتى أناخ بها على الجزيرة الخضراء، مرقى أساطيل المسلمين وفرضة المجاز. وأمل أن ينظمها في ملكته مع جارتها طريف. وحشد الفعلة والصناع للآلات، وجمع الأيدي عليها وطاولها الحصار. واتخذ أهل المعسكر بيوتا من الخشب للمطاولة. وجاء السلطان أبو الحجاج بعساكر الأندلس، فنزل قبالة الطاغية بظاهر جبل الفتح في سبيل الممانعة. وأقام السلطان أبو الحسن بمكانه من سبتة يسرب إليها المدد، من الفرسان والمال والزرع، في أحايين الغفلة من أساطيلهم، وتحت جناح الليل، فلم يغنهم ذلك، واشتد عليهم الحصار وأصابهم الجهد. وأجاز إليه السلطان أبو الحجاج يفاوضه في شأن السلم مع الطاغية، بعد أن أذن له الطاغية في الإجازة مكرا به. وترصدته بعض الأساطيل في طريقه، فصدقهم المسلمون القتال، وخلصوا إلى الساحل بعد عصب الريق، فضاقت أحوال هذه الجزيرة ومن كان بها من عساكر السلطان. وسألوا من الطاغية الأمان على أن ينزلوا عن البلد، فبذله وخرجوا فوفى لهم. وأجازوا إلى المغرب سنة ثلاث وأربعين، فأنزلهم السلطان ببلاده خير نزل، ولقاهم من المبرة والكرامة ما أعاضهم مما فاتهم، أو خلع عليهم وحملهم وأجازهم بما تحدث به الناس. وتقبض على وزيره عسكر بن تاحضريت عقوبة على تقصيره في المدافعة، مع تمكنه منها لما كان لديه من العساكر. وانكفأ السلطان إلى حضرته موقنا بظهور أمر الله، وإنجاز وعده برجع الكرة وعلو الدين. والله متم نوره ولو كره الكافرون. الخبر عن شفاعة صاب تونس في أولاد أبي العلاء ووصولهم إلى السلطان: كان عثمان بن أبي العلاء من أعياص آل عبد الحق، شيخ الغزاة المجاهدين من زناتة والبربر بالأندلس. وكان له فيها مقام جمعلوم، في حماية الثغور، ومدافعة العدو، وغزو دار الحرب، ومساهمة صاحب الأندلس الجهاد كما نستوفي في أخباره. وكان السلطان أبو سعيد لما استصرخ به أهل الأندلس، اعتذر بمكانه بينهم. واستشرط عليهم أن يمكنوه من قياده حتى يقضي نوبة الجهاد، فلم يسعفوه بذلك. ولما هلك عثمان بن أبي العلاء قام بأمره من بعده في مراسم الجهاد بنوه، وكانوا يرجعون في رياستهم إلى
كبيرهم أبي ثابت عامر. وقويت عصابتهم بالأبناء الموالي، وعلت على يد السلطان يدهم، واستبدوا عليه في أكثر الأحوال، واستنكف لها، وكان ذلك مما دعاه إلى القدوم على السلطان أبي الحسن. وارتاب بنو أبي العلاء بإجازته إليه، واتهموه على أنفسهم، واستعدهم إلى منازلة جبل الفتح على كره. فلما تغلب المسلمون عليه، وقضى ابن الأحمر من مدافعة الطاغية عنه بالرغبة ما قضى كما ذكرناه، واعتزم على القفول إلى حضرته، أجمعوا الفتك به في طريقه. وداخلوا في ذلك مواليه من المعلوجي، لما أسفهم به إرهاف حده، والتضيق عليهم في جاهه، فبرموا وطووا على النث. حتى إذا وجدوا من بني أبي العلاء داعية إلى ذلك، خفوا إلى إجابتها. ونذر بهم محمد بن الأحمر، فبعث عن السفين يعترضه في طريقه. وساحل إليه، وتسابقوا لشأنهم قبل فوته، فأدركوه دون حصن أصطبونة. وعتبوه فاستعتب، ثم أغلظوا في القول، وقتلوا مولاه عاصماً صاحب ديوان العطاء تجنيا عليه. ونكر السلطان ذلك، فتناولوه بالرماح طعنا، حتى قعصوه. ورجعوا إلى المعسكر، فاستدعوا من كان داخلهم من الموالي. وجاءوا بأخيه أبي الحجاج يوسف بن أبي الوليد، فبايعوا له وأصفقوا على تقديمه. وسرح لحينه قائده ابن عزون، فاستولى له على دار ملكه، وتم أمره. وحجبه رضوان مولى أبيهم، واستبد عليه، وسكن بين جنبيه من بني أبي العلاء وقتلهم لأخيه داء دخيل. حتى إذا سما السلطان أبو الحسن إلى الجهاد، وأجاز المدد إلى ثغور عمله بالأندلس، وعقد لابنه الأمير أبي مالك، أسر إليهم في شأن بني أبي العلاء ما كان أبوه السلطان أبو سعيد اشترط علبهم في مثلها. ووافق منهم داعية لذلك، فتقبض عليهم أبو الحجاج وأودعهم المطبق اجمع. ثم أشخصهم في السفين إلى مراسي إفريقية، فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي بحيى. وبعث فيهم السلطان أبو الحسن إليه، فاعتقلهم. ثم أوعز إليه مع عريف الوزعة ببابه ميمون بن بكرون في إشخاصهم إلى حضرته، فتوقف عنها. وأبى من إخفار ذئنه، وتوسوس إليه وزيره أبو محمد بن تافراكين بأن مقصد السلطان فيهم غير ما ظنوا به من الشر. ورغب في منة السلطان ببعثهم إليه، والمبالغة في الشفاعة فيهم علما بأن شفاعته لا ترد، فأجابه إلى ذلك، وجنبوهم إليه مع ابن بكرون. واتبعهم أبو محمد بن تافراكين بكتابة الشفاعة فيهم من السلطان. وقدموا على السلطان أبي الحسن مرجعه من الجهاد سنة اثنتين وأربعين، فتلقاهم بالبر والترحيب إكراماً لشفيعهم. وأنزلهم بمعسكره،
وجنب لهم القربات بالمراكب الثقيلة، وسرب لهم الفساطيط، وأسنى لهم الخلع والجوائز، وفرض لهم أعلى رتب العطاء، وصاروا في جملته. ولما احتل بسبتة لمشارفة أحوال الجزيرة، سعى عنده فيهم بأن كثيراً من المفسدين يداخلونهم في الخروج والتوثب على الملك، فتقبض عليهم وأودعهم السجن بمكناسة، إلى أن كان من خبرهم مع ابنه أبي عنان ما نذكره إن شاء الله تعالى. والله أعلم. الخبر عن هدية السلطان إلى المشرق، وبعثه بنسخة المصحف من خطه إلي الحرمين والقدس: كان للسلطان أبي الحسن مذاهب في ولاية ملوك المشرق، والكلف بالمعاهد الشريفة تقبله من سلفه، وضاعفه لديه متين ديانته. ولما قضى من أمر تلمسان ما قضى، وتغلب على المغرب الأوسط، وصار أهل النواحي تحت ربقة منه، واستطال بجناح سلطانه، وخاطب لحينه صاحب مصر والشام محمد برت قلاوون الملك الناصر، وعرفه بالفتح وارتفاع العوائق عن الحاج في سابلتهم. وكان فرانقه في ذلك فارس بن ميمون بن ودرار. وعاد بجواب الكتاب وتقرير المودة بين السلف. وأجمع السلطان على كتابة نسخة أنيقة من المصحف الكريم بخط يديه، ليوقفها بالحرم الشريف قربة إلى الله وابتغاء للمثوبة. فانتسخها وجمع الوراقين لمعاناة تذهيبها وتنميقها، والقراء لضبطها وتهذيبها حتى اكتمل شأنها. ووضع لها وعاء مؤلف من خشب الأبنوس والعاج والصندل فائق الصنعة، وغشي بصفائح الذهب، ونظم بالجوهر والياقوت، واتخذت له أصونة الجلد المحكمة الصناعة المرقوم أديمها بخيوط الذهب ومن فوقها غلاف الحرير والديباج وأغشية الكتان. وأخرج من خزائنه أموالا عينا لشراء الضياع بالمشرق لتكون وقفا على القراء فيها. وأوفد على الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر والشام، من خواص مجلسه وكبار أهل دولته، عريف بن يحيى أمير زغبة، والسابق القدم في بساطه على كل خالصة، وعطية بن مهلهل بن يحيى كبير الخولة. وبعث كاتبه أبا الفضل بن محمد بن أبي مدين، وعريف الوزعة بدولته، وصاحب الباب عبو بن قاسم المزوار. واحتفل في الهدية للسلطان صاحب مصر احتفالا تحدث به الناس دهرا. ووقفت على برنامج الهدية بخط أبي الفضل بن أبي مدين هذا الرسول ووعيته وأنسيته. وذكر لي بعض
قهارمة الدار أنه كان فيها خمسماية من عتاق الخيل المقربات، بسروج الذهب والفضة ولجمها، خالصا ومغشى ومموهاً. وخمسماية حمل من متاع الغرب وماعونه وأسلحته، ومن نسج الصوف المحكم ثيابا وأكسية وبرانس وعمائم، وازرا معلمة وغير معلمة. ومن نسج الحرير الفائق المعلم بالذهب ملونا وغير ملون، وسادجا منمقا. ومن الدرق المجلوبة من بلاد الصحراء المحكمة بالدباغ المتعارف، وتنسب إلى اللمط. ومن حرثى المغرب وماعونه ما يستظرف صناعته بالمشرق، حتى لقد كان فيها مكيل من حصى الجوهر والياقوت. واعتزمت حظية من حظايا أبيه على الحج في ركابه ذلك، فأذن لها واستبلغ في تكريمها. واستوصى بها وافده وسلطان مصر في كتابه. وفصلوا من تلمسان، وأدوا رسالتهم إلى الملك الناصر وهديتهم، فتقبلها وحسن لديه موقعها. وكان يوم وفادتهم عليه بمصر يوما مشهودا تحدث به الناس دهرا، ولقاهم في طريقهم أنواع البر والتكرمة حتى قضوا فرضهم، ووضعوا المصحف الكريم بحيث أمرهم صاحبهم. وأسنى هدية السلطان من فساطيطهم الغريبة الهيكل والصنعة بالمغرب، ومن ثياب إسكندرية البديعة النسج المرقومة بالذهب، ورجعهم بها إلى مرسلهم وقد استبلغ في تكريمهم وصلتهم. وبقي حديث هذه الهدية مذكورا بين الناس لهذا العهد. ثم انتسخ السلطان نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأول، ووقفها على القراء بالمدينة، وبعثها مع من تخيره لذلك العهد من أهل دولته. واتصلت الولاية بينه وبين الملك الناصر إلى أن هلك سنة إحدى وأربعين. وولي الأمر من بعده ابنه أبو الفداء إسماعيل، فخاطبه السلطان وأتحفه وعزاه عن أبيه. وأوفد عليه كاتبه وصاحب ديوان الخراج ببابه أبا الفضل بن عبد الله بن أبي مدين، فقضى من وفادته ما حمل. وكان شأنه عجبا في إظهار أبهة سلطانه، والإنفاق على المستضعفين من الحاج في سبيلهم، و.إتحاف رجال الدولة التركية بذات يده، والتعفف عما في أيديهم. ثم شرع السلطان بعده عند استيلائه على إفريقية كما نذكره في كتابة نسخة أخرى من المصحف الكريم ليوقفها ببيت المقدس، فلم يقدر على إتمامها. وهلك قبل فراغه من نسخها كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن هدية السلطان إلى ملك مالي من السود إن المجاورين للمغرب: كان للسلطان أبي الحسن مذهب في الفخر معروف، يتطاول به إلى مناغاة الملوك
الأعاظم واقتفاء سننهم في مهاداة الأقتال والأنظار، وإنفاذ الرسل على ملوك القاصية والتخوم البعيدة. وكان ملك مالي أعظم ملوك السودان لعهده مجاورا لملكه بالمغرب على ماية مرحلة في القفر من ثغور ممالكه القبلية. ولما غلب بني عبد الواد على تلمسان، وابتزهم ملكهم، واستولى على ممالك المغرب الأوسط، وتحدث الناس بشأن أبي تاشفين وحصاره ومقتله، وما كان للسلطان في ذلك من سورة التغلب وإهانة العدو، شاعت أخبار ذلك في الآفاق. وسما سلطان مالي منسا موسى المتقدم ذكره في أخبارهم إلى مخاطبته، فأوفد عليه فرانقين من أهل مملكته مع ترجمان من الملثمين المجاورين لممالكهم من صنهاجة، فوفدوا على السلطان في التهنئة بالتغلب والظفر بالعدو، فكرم وفادتهم وأحسن مثواهم ومنقلبهم. ونزع إلى طريقته في الفخر، فانتخب طرفا من متاع المغرب وماعونه من ذخيرة داره وأسناها. وعين رجالا من أهل دولته، كان فيهم كاتب الديوان أبو طالب بن محمد بن أبي مدين، ومولاه عنبر الخصي. وأنفذهم بها على ملك مالي منسا سليمان بن منسا موسى، لمهلك أبيه قبل مرجع وفده. وأوعز إلى أعراب الفلاة من المعقل بالسير معهم ذاهبين وجائين، فشمر لذلك علي بن غانم أمير أولاد جار الله من المعقل، وصحبهم في طريقهم امتثالا لأمر السلطان. وتوغل ذلك الركاب في القفر إلى بلد مالي، بعد الجهد وطول المشقة، فأحسن مبرتهم وأعظم موصلهم وكرم وفادتهم ومنقلبهم. وعادوا إلى مرسلهم في وفد من كبار مالي يعظمون سلطانه، ويوجبون حقه، ويؤدون من خضوع مرسلهم وقيامه بحق السلطان واعتماله في مرضاته ما استوصاهم به، فأذوا رسالتهم. وبلغ السلطان إربا من اعتزازه على الملوك، وخضوعهم لسلطانه. وقضى حق الشكر لله في صنعه. الخبر عن إصهار السلطان إلي صاحب تونس: لما هلكت ابنة مولانا السلطان أبي يحيى بطريف فيمن هلك من حظايا السلطان أبي الحسن بفساطيطه، بقي في نفسه منها شيء حنينا إلى ما شغفته من خلالها وعز سلطانها، وقيامها على بيتها، وظرفها في تصرفاتها، والاستماع بأحوال الترف ولذاذ العيش في عشرتها، فسما أمله إلى الاعتياض منها ببعض أخواتها. وأوفد في خطبتها وليه عريف بن يحيى أمير زغبة، وكاتب الجباية والعساكر بدولته أبا الفضل بن عبد الله بن
أبي مدين، وفقيه الفتيا بمجلسه أبا عبد الله محمد بن سليمان السطي، ومولاه عنبر الخصي، فوفدوا يوم مثنى من سنة ست وأربعين. وأنزلوا منزل البر، واستبلغ في تكريمهم. ودس الحاجب أبو محمد عبد الله بن تافراكين إلى سلطانه غرض وفادتهم، فأبى عن ذلك صونا لحرمه عن جولة الأقطار وتحكم الرجال، واستعظاما لمثل هذا العرس. ولم يزل حاجبه ابن تافراكين يخفض عليه الشأن، ويعظم عليه حق السلطان أبي الحسن في رد خطبته، مع الأزمة السالفة بينهما من الصهر والمخالطة، إلى أن أجاب وأسعف. وجعل ذلك إليه، فانعقد الصهر بينهما. وأخذ الحاجب في شوار العروس، وتأنق فيه، واحتفل واستكثر، وطال ثواء الرسل إلى أن استكمل. وارتحلوا من تونس لشهر ربيع من سنة سبع. وأوعز مولانا السلطان أبو يحيى إلى ابنه الفضل صاحب بونة، وشقيق هذه العروس أن يزفها على السلطان أبي الحسن قياما لحقه. وبعث من بابه مشيخة من الموحدين، مقدمهم عبد الواحد بن أكمازير، صحبوا ركابها إليه. ووفدوا جميعا على السلطان. واتصل بهم الخبر أثناء طريقهم بمهلك مولانا أبي يحيى عفا الله عنه، فعزاهم السلطان أبو الحسن عنه عندما وصلوا إليه. واستبلغ في تكريمهم، وأجمل موعد أخيه الفضل بسلطانه، ومظاهرته على تراث أبيه، فاطمأنت به الدار إلى أن سار في جملة السلطان، وتحت ألويته إلى إفريقية، كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن حركة السلطان إلي إفريقية واستيلائه عليها: كان السلطان أبو الحسن قد امتدت عينه إلى ملك إفريقية، لولا مكان مولانا السلطان أبي يحيى من ولاية صهره، وأقام يتحين لها الوفاة. ولما بعث إليه في الصهر، واشيع بتلمسان أن الموحدين ردوا خطبته، نهض من المنصورة بتلمسان، وأغذ السير إلى فاس. ففتح ديوان العطاء، وأزاح علل عساكره. وعقد على المغرب الأقصى لحافده منصور ابن الأمير أبي مالك. وفوض إلى الحسن بن سليمان بن يرزيكن في أحكام الشرطة، وعقد له على الضاحية. وارتحل إلى تلمسان مضمر الحركة إلى إفريقية، حتى إذا جاءه الخبر اليقين بالإسعاف والزفاف، سكن غربه وهدأ طائره. فلما هلك السلطان أبو بحيى في رجب من سنة سبع وأربعين، وكان من قيام ابنه عمر بالأمر، ونزوع الحاجب أبي محمد بن تافراكين منها في رمضان ما ذكرناه، تحركت عزائمه لذلك.
ورغبه ابن تافراكين في ملك الموحدين، فرغب وجاء على أثره الخبر بما كان من قتل عمر لأخيه أحمد ولي العهد، وكان يستظهر على عهده بكتاب أبيه، وما أودعه السلطان بطرته من الوفاق على ذلك بخطه، اقتضاه منه حاجبه أبو القاسم بن عتو في سفارته إليه، فامتعض السلطان لما أضاع عمر من عهد أبيه، وهدر من دم أخيه. وارتكب مذاهب العقوق فيهم، وخرق السياج الذي فرضه بخطه عليهم، فأجمع الحركة إلى إفريقية. ولحق به خالد بن حمزة بن عمر نازعا إليه مستغذا مسيره، ففتح ديوان العطاء، ونادى في الناس بالمسير إلى إفريقية، وأزاح عللهم. وكان صاحب بجاية المولى أبو عبد الله حافد مولانا السلطان أبي يحيى، وفد على السلطان أبي الحسن إثر مهلك جده يقرر المتات بسفارة أبيه إليه، ويطلب الإقرار على عمله. فلما استيأس منه، واستيقن حركته بنفسه إلى إفريقية، طلب الرجوع إلى مكانه فأسعف، وفصل إلى بجاية. ولما قضى السلطان منسك الأضحى من سنة سبع وأربعين، عقد لابنه الأمير أبي عنان على المغرب الأوسط، وعهد إليه بالنظر في أموره كافة، وجعل إليه جبايته، وارتحل يريد إفريقية. وسار في جملته هو وخالد بن حمزة أمير البدو. ولما احتل بوهران، وافاه هنالك وفد قسطيلية وبلاد الجريد، يقدمهم أحمد بن مكي أمير جربة ورديف أخيه عبد الملك في أمارة قابس، ويحيى بن محمد بن يملول أمير توزر. سقط إليها بعد خروج الأمير أبي العباس ولي العهد عنها، ومهلكه بتونس، وأحمد بن عمر بن العابد رئيس نفطة، رجعا إليها كذلك بعد مهلك ولي العهد، فلقيه هؤلاء الرؤساء بوهران في ملأ من وجوه بلادهم، فأتوه بيعتهم، وقضوا حق طاعته. وتثاقل محمد بن ثابت أمير طرابلس عن اللحاق، فبعث بيعته معهم، فأكرم وفدهم. وعقد لهم على أمصارهم، وصرفهم إلى أعمالهم. وتمسك بأحمد بن مكي لصحابة ركابه، وفي جملته، وأغذ السير. ولما احتل ببني حسن من أعمال بجاية، وافاه بها منصور بن مزني أمير بسكرة وبلاد الزاب في وفد من أهل وطنه، ويعقوب بن علي بن أحمد سيد الدواودة وأمير البدو بضاحية بجاية وقسنطينة، فتلقاهم بالمبرة والاحتفاء، وألزمهم ساقته. وسرح بين يديه قائده حمو بن يحيى العشري من صنائع أبيه. فلما عسكر بساحة بجاية أبي عبدالله، أبى عليه أهل البلد رهبة من السلطان ورغبة فيه. وانفضوا من حوله، ولحقت مشيختهم بالقضاة وأهل الفتيا والشورى بمجلس السلطان. وسابقهم إليه حاجبه فارح مولى ابن
سيد الناس، فأدى طاعته ورجعه إليه بالخروج للقاء ركابه. وارتحل حتى إذا أطلت راياته على البلد، بادر المولى أبو عبدالله ولقيه بساحة البلد، واعتذر عن تخففه، فتقبل عذره وأحله من البرور والتكرمة محل الولد العزيز. وأقطعه عمل كومية من ضواحي هنين، وأسنى جرايته بتلمسان، وأصحبه إلى ابنه فأبى عنان صاحب المغرب الأوسط، واستوصاه به. ودخل بجاية، فرفع عنهم الظلامات، وحط عنهم الربع من المغارم. ونظر في أحوال ثغورها، فثقف أطرافها وسد فروجها. وعقد عليها لمحمد بن الثوار من طبقة الوزراء والمرشحين لها، وأنزل معه حامية بني مرين، وكاتب الخراج ببابه بركات بن حسون بن البواق. وارتحل مغذا سيره حتى احتل بقسنطينة. وتلقاه أميرها أبو زيد حافد مولانا السلطان أبي يحيى واخوته أبو العباس أحمد، وأبو يحيى زكرياء، وسائر إخونهم، فأتوه بيعتهم ونزلوا عن عملهم. وأدالهم السلطان منه بندرومة من عمل تلمسان، عقد للمولى أبي زيد على أمارتها، وجعله أسوة إخوته في إقطاع جبايتها، ودخل البلد، وعقد عليها لمحمد بن العباس، وأنزل معه العباس بن عمر في قومه من بني عسكر. وأمضى إقطاعات الدواودة، ووافاه هنالك عمر بن حمزة سيد الكعوب لعهده وأمير البدو مستحثا لركابه. وأخبره برحيل السلطان عمر بن مولانا أبي يحيى من تونس، فبمن اجتمع إليه من أولاد مهلهل أقتالهم من الكعوب متوجها إلى ناحية قابس. وأشار علي السلطان بتسريح العساكر لاعتراضه قبل أن يخلص إلى طرابلس، فسرح معه حمو بن يحيى العشري قائده في عسكر من بني مرين والجند. وارتحلوا في اتباع السلطان أبي حفص. وتلوم السلطان أبو الحسن بقسنطينة، واعترض عساكره بسطح الجعاب منها. وصرف يوسف بن مزني إلى عمله بالزاب، بعد أن خلع عليه وحمله. ثم عقد للمولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى على مكان عمله ببونة، وملأ حقائبه جائزة وخلعا نفيسة وسرحه، ثم ارتحل على أثرهم وأغذ حمو بن يحيى السير مع الناجعة من أحياء أولاد أبي الليل، ولحقوا بالأمير أبي حفص بمباركه من ناحية قابس، فأوقعوا به وتردى عن فرسه في حومة القتال هو ومولاه ظافر السنان لقائم بدولته من المعلوجي، فتقبض عليهما وسيقا إلى حفو، فاعتقلهما إلى الليل. ثم ذبحهما وأنفذ برؤوسهما إلى السلطان. ولحق الفل بقابس، فتقبض عبد الملك بن مكي على أبي القاسم بن عتو صاحب الأمير أبي حفص وشيخ الموحدين، وعلى صخر بن موسى شيخ
بني سكين فيمن تقبص عليه من ذلك الفل، وأشخصهم مقرنين في الأصفاد إلى السلطان. وسرح السلطان عسكره إلى تونس وعقد عليهم ليحيي بن سليمان صهره من بني عسكر على ابنته، وأنفذ معه أحمد بن مكي، فاحتلوا بتونس واستولوا عليها. وانطلق ابن مكي إلى مكان عمله من هنالك لما عقد له السلطان عليه وسرحه إليه بعد أن خلع عليه وعلى حاشيته وحملهم. ونزل السلطان بباجة، فوافاه هنالك البريد برأس الأمير أبي حفص، وعظم الفتح. ثم ارتحل إلى تونس، واحتل بها يوم الأربعاء الثامن من جمادى الآخرة من سنة ثمان. وتلقاه وفد تونس وملأوها من شيوخ الشورى وأرباب الفتيا، فأتوا طاعتهم وانقلبوا مسرورين بملكتهم. ثم عبأ يوم السبت لدخولها مواكبه، وصف جنده سماطين من معسكره بسيجوم إلى باب البلد، يناهز ثلاثة أميال أو أربعة. وركب بنو مرين في جموعهم على مراكزهم وتحت راياتهم. وركب السلطان من فسطاطه، وواكبه من عن يمينه وليه عريف بن يحيى أمير زغبة، ويليه أبو محمد عبد الله بن تافراكين. ومن عن يساره الأمير أبو عبد الله محمد أخو مولانا السلطان أبي يحيى، ويليه الأمير أبو عبد الله ابن أخيه خالد. كانا معتقلين بقسنطينة مع ولدهما منذ خرج الأمير أبو فارس، فأطلق السلطان أبو العباس وصحبوه إلى تونس، فكانوا طرازا في ذلك الموكب فيمن لا يحصى من أعياص بني مرين وكبرائهم. وهدرت طبوله، وخفقت راياته، وكانت يومئذ ماية. وجاؤوا لمواكب تجتمع عليه صفا صفا، إلى أن وصل إلى البلد، وقد ماجت الأرض بالجيوش، وكان يوما لم ير مثله فيما عقلناه. ودخل السلطان إلى القصر، وخلع على أبي محمد بن تافراكين كسوته، وقرب اليد فرسه بسرجه ولجامه. وطعم الناس بين يديه وانتشروا. ودخل السلطان مع أبي محمد بن تافراكين إلى حجر القصر ومساكن الخلفاء فطاف عليها ودخل منه إلى الرياض المتصلة به المدعوة برأس الطابية، فطاف على بساتينه وجوائزه، وأفضى منه إلى معسكره وأنزل يحيى بن سليمان بقصبة تونس في عسكر لحمايتها. ووصل إليه فل الأمير أبي حفص والأسرى بقابس مقرنين في أصفادهم، فأودعهم السجن بعد أن قطع أبا القاسم بن عتو وصخر بن موسى من خلاف لفتيا الفقهاء بجرايتهم. وارتحل من الغد إلى القيروان، فجال في نواحيها. ووقف على
آثار الأولين ومصانع الأقدمين، والطلول الماثلة لصنهاجة والعبيديين، وزار أجداث العلماء والصالحين.
ثم سار إلى المهدية ووقف على ساحل البحر، ونظر في عاقبة الذين كانوا من قبله
اشد قوة وأثارا في الأرض، واعتبر في أحوالهم. ومر في طريقه بقصر الأجم ورباط المنستير، وانكفأ راجعا إلى تونس، واحتل بها غرة رمضان. وأنزل المسالح على ثغور إفريقية وأقطع لبني مرين البلاد والضواحي، وأمضى إقطاعات الموحدين للغرب. واستعمل على الجهات، وسكن القصر، وقد كمل الفتح، وعظمت في الاستيلاء على الممالك والدول المنة. واتسعت ممالكه ما بين مسراتة والسوس الأقصى من هذه العدوة، وإلى رندة من عدوة الأندلس. (والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ). ورفع إليه الشعراء بتونس يهنونه بالفتح، وكان سابقهم في تلك النوبة أبو القاسم الرحوي من ناشئة أهل الأدب، فرفع إليه قوله:
- أجابك شرق إذ دعوت ومغــــرب فمكة هشت للقاء ويثرب
- وناداك مصر والعراق وشامـــــه بداراً، فصدع الدين عندك يشعب
- وحيتك أو كادت تحيي منابــــــر عليها دعاة الحق باسمك تخطب
- فسارع كل دان وشاســـــــــع إلى طاعة من طاعة الله تحسب
- وتاقت لك الأرواح حباً ورغبـــــة وأنت علم الآمال تنأى وتقرب
- فبالبلدة البيضاء لباك معشـــــــر وأنت بأفق الناصرية ترقب
- ووافتك من ذات النخيل وفودهـــــا فلاقاهم أهل لديك ومرحب
- ولم تتلكأ عن إباء بجايـــــــــة ولكن تراضي الصعب حينا وتركب
- تأبت فلما أن أطلت عساكـــــــر ترى الشهب مما يستباح وينهب
- تبادر منهم مذعن ومسلــــــــم وأذعن منهم شاغب ومؤلب
- وما تونس إلا بمصر مــــــروع وفي حرم أمست لديك تسرب|
- وما أهلها إلا بغاث لصائـــــــد وبالعز منك استنسروا وتعقبوا
- وقد كنت قبل اليوم كهف زعيمهـــم فها أنت كهف للجميع ومهرب
# فكل يرى أن الزمان أدالــــــه بكم فأجاب العيش والعيش مخصب
- وكذلك ابن طائع وإن اعتلـــــت به السن إجلالا وأنت له أب
- وما ذاك الا أن عدلك ينتمـــــي إلى الخلفاء الراشدين وينسب
- تساميت في ملك ونسك بخطــــة حذياك محراب لديها وموكب
- إذا لذ للأملاك خمر مــــــدارة فلذلك القرآن تتلو وتكتب
- وإن أدمن القوم الصبوح فإنمــــا على ركعات بالضحى أنت تدأب
- وإن حمدوا شرب الغبوق فإنمـــا شرابك بالإمساء ذكر مرتب
- وإن خشنت أخلاقهم وتحجبـــوا فما أنت فظ، لا، ولا متحجب|
- لقد كرمت منك السجايا فأصبحـت إذا ما أمد الدهر تحلو وتعذب
- كما شدت بيتا في ذؤابة معشـــر يزيد بهم قحطان فخرا ويعرب
- هم التاركو قلب القساور خضعــاً وعن شأوهم كفت عبيد وأغلب
- هم الناس والأملاك تحت جوارهـم هم العظم والأرض العظيمة تغرب
- هم المالكو الملك العظيم ودستهــم على كاهل السبع الشداد مطنب
- لقد أصبحت بغداد تحسد فاسهـــم ودجلة ودت أن يكون بهاسب؟
- تجلت سماء المجد منهم كواكبـــا لقد حل منها شارق ومغرب
- فلله منهم ثلة يعربيــــــــة يروم ثباها الأعجمي فيعرب
- لقد قام عبد الحق للحق طالبــــاً فما فاته منه الذي قام يطلب
- وأعقب يعقوبا يؤم سبيلــــــه فلم يخطه وهو السبيل الملحب
- وخلف عثماناً فلله صــــــارم به بان للإسلام شرع ومذهب
- فكم في سبيل الله شن إغــــارة لما شاد أهل الكفر أمست تخرب
- ولما أراد الله إتمام منـــــــة تقلدها منا مطيع ومذنب
- أتى بك للذين الحنيفي آيـــــة تعرى بها عن لامع الحق غيهب|
- فجئت كما يرضى بك الله سالكــاً سبيلا إلى رضوانه بك يذهب
- وقمت بأمر الله حق قيامـــــه يناضل عنه منك نصل مدرب
- وأصبح أهل الله أهلا وشيعـــة لكم ولهم منكم مكان ومنصب
- وحل بأهل الفتك ما حل عزمهـم وقام لديهم واعظ ومثوب
- وجاهدت في الرحمن حق جهـاده فراهب أهل الكفر بأسك يرهب
- وأنقذت من أيدي الإغارة أمـــــة وأولى جهاد كان بل هو أوجب
- فأصبحت الدنيا عروسا يزفهـــــا لأمرك من جاري التقادير مغرب
- فلا مصر إلا قد تمناك أهلــــــه ولا أرض إلا بأذكارك تخصب
- وما الأرض إلا منزل أنت ربــــه وما حفها إلا الودود المرجب
- تملكت شطر الأرض كسبا وشطرهــا تراثا فطاب الملك إرثا ومكسب
- بجيش على الألواح والماء يمتطـــي وجيش على الضمر الصوافن يركب
- وجيش من الإحسان والعدل والتقـــى وذلك لعمر الله أغلى وأغلب
- فلا مركب إلا يزين راكبـــــــا ولا راكب إلا به ازدان مركب
- ولا رمح إلا وهو أهيص خاطــــر ولا سيف إلا وهو أبيض مقضب
- فكم كاتب خطيه ودواتــــــــه ولم يقر خطا لا، ولا هو يكتب
- يمر على الأبطال وهو كأنــــــه هزبر وأبطال الفوارس ربرب
- وكم كاتب لا ينكر الطعن رمحــــه خبير بأيام الأعاريب معرب
- له من عجيب السحر بالقول أضــرب وفي هامة القوم المضارب مضرب
- فها هو في الأقوال واش محبـــــر وها هو في الأمثال ثاو مجرب
- ومن ساحب بردا من العلم والتقـــى عليه ذيول الداودية تسحب
- له صبغة في العلم جاءت بأصبـــغ وشهبان فهم لم يشمهن أشهب
- فيا عسكرا قد ضم أعلام عالـــــم به طاب في الدنيا لنا متقلب
- هم الفئة العلياء والمشعر الـــــذي إذا حل صعبا فهو للحن مشعب
- لك الفضل في الدنيا على كل قاطــن ومرتحل أنى يجيء ويذهب
- ويا ملكا عدلا رضى متورعـــــا مناقبه العلياء تعلى وتكتب
- شرعت من الإحسان فينـا شريعـــة تساوى بها ناء ومن يتقرب
- وأسميت أهل النسك إذ كنت منهـــم فمنك أخو التقوى قريب مقرب
- وأعليت قدر العلم إذ كنت عالمــــا فقيها وفي طلابه لك مأرب
- فمدحك محتوم على كل قائــــــل ومن ذا الذي يحصي الرمال ويحسب
- فلله كم تعطي وتمطي وتحتبـــــي فللبحر من كفيك قد صح منسب
- فلا برحت كفاك في الارض مزنـــة يطيب بها للخلق مرعى ومشرب
ولا زلت في علياء مجدك راقيــــــاً وشانئك المدحوض ينكا وينكب
وتوفي على أقصى أمانيك آمنــــــاً فلا بر يستعصي ولا يتصعب
الخبر عن واقعة العرب مع السلطان بالقيروان. وما تخللها من الأحداث: كان هؤلاء الكعوب من بني سليم رؤساء البدو بإفريقية وكان لهم اعتزاز على الدولة لا يعرفون غيره مذ أولها بل وما قبله، إذ كان سليم هؤلاء مذ تغلب العرب من مضر على الدول والممالك أول الإسلام انتبذوا إلى الضواحي والقفار، وأعطوا من صدقاتهم عن عزة وارتاب الخلفاء بهم لذلك، حتى لقد أوصى المنصور ابنه المهدي أن لا يستعين بأحد منهم كما ذكر الطبري. فلما التاثت الدولة العباسية، واستبد الموالي من العجم عليهم، واعتز بنو سليم هؤلاء بالقفر من أرض نجد وأجلبوا على الحاج بالحرمين، ونالتهم منهم معرات، ولما انقسم ملك الإسلام بين العباسية، والشيعة، واختطوا القاهرة، نفقت لهم إذ ذاك أسواق الفتنة والتعزز، وساموا الدولتين بالهضيمة وقطع السابلة. ثم أغزاهم العبيديون بالمغرب، وأجازوا إلى برقة على إثر الهلاليين، فخربوا عمرانها وأجروا في خلالها. حتى إذا خرج ابن غانية على الموحدين، وانتزى بالثغور الشرقية: طرابلس وقابس واجتمع معه على ذلك قراقش الغزي مولى بني أيوب ملوك مصر والشام. وانضاف إليهم أفاريق العرب من بني سليم هؤلاء وغيرهم، فأجلبوا معهم على الضواحي والأمصار، وصاروا في جملتهم ومن ناعق فتنتهم. ولما هلك قراقش وابن غانية، واستبد آل أبي حفص بإفريقية، واعتز الدواودة على الأمير أبي زكرياء يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، استظهر عليهم ببني سليم هؤلاء، وزاحمهم بظواعنهم وأقطعهم بإفريقية، ونقلهم من مجالاتهم بطرابلس وأنزلهم بالقيروان فكان لهم من الدولة مكان وعليها اعتزاز. ولما افترق سلطان بني أبي حفص، واستبد الكعوب برياسة البدو، وضربوا بين أعياصها وسعوا في شقاقها، أصابت منهم وأصابوا منها. وكان بين مولانا الأمير أبي يحيى وبين حمزة بن عمر أخي الأمير منازعة وفتن، وحرب سجال أعانه عليها ما كان من زحف بني عبد الواد إلى إفريقية، وطمعهم في تملك ثغورها، فكان يستجر جيوشهم لذلك، وينصب الأعياص من آل أبي حفص يزاحمهم بهم، ثم غلبه مولانا السلطان أبو بكر آخرا وقاده إلى الطاعة، ما كان من قطع كلمة الزبون عن مولانا السلطان
أبي يحيى، وهلاك عدوه من آل يغمراسن، بسيف وليه وظهيره السلطان أبي الحسن، فأذعن وسكن غرب اعتزازه. وحمل بني سليم على إعطاء صدقاتهم، فأعطوها بالكراهة. ثم هلك باغتيال الدولة له فيما يزعمون، وقام بالأمر بنوه فلم يعرفوا عواقب الأمور وبلوا باعتساف الدول. ولم يعهدوا ولا سمعوا لسلفهم غير الاعتزاز فحدثتهم أنفسهم بالفتنة والاعتزاز على قائد الدولة. وحاربوه فغلبوه وأجلبوا على السلطان في ملكه، ونازلوه بعقر داره سنة اثنتين وأربعين. ولما سامهم الأمير عمر ابن مولانا الأمير أبي يحيى الهضيمة بعد مهلك أبيه، نزعوا إلى أخيه ولي العهد، فجاء إلى تونس وملكها سبعا. ثم اقتحمها عليه أخوه الأمير أبو حفص فقتله. وتقبض يوم اقتحامه البلد على أبي الهول بن حمزة أخيهم، فقتله صبرا بباب داره بالقصبة فأسفهم بها. وتداعوا إلى السلطان أبي الحسن ورغبوه في ملك إفريقية، واستغذوه إليها. ولما تغلب السلطان على الوطن، وكانت حاله في اعتزاز على من في طاعته غير حال الموحدين، وملكته للبدو غير ملكتهم، وحين رأى اعتزازهم على الدولة، وكثرة ما أقطعتهم من الضواحي، ثم من الأمصار، نكره وأدالهم من الأمصار التي أقطعهم الموحدون باعطيات فرضها لهم في الديوان. واستكثر جبايتهم، فنقصهم الكثير منها وشكى إليه الرعية من البدو ما ينالونهم من الظلامات والجور بفرض الأتاوة التي يسمونها الخفارة، فقبض أيديهم عنها وأوعز إلى الرعايا بمنعهم منها، فارتابوا لذلك. وفسدت نياتهم وثقلت وطأة الدولة عليهم، فترصدوا لها. وتسامع ذؤبانهم وبواديهم بذلك، فأغاروا على قياطين بني مرين ومسالحهم بثغور إفريقية وفروجها واستاقوا أموالهم وكثر شكاتهم وأظلم الجو بينهم وبين السلطان والدولة ووفد عليه بتونس بعد مرجعه من المهدية وفد من مشيختهم كان فيهم خالد بن حمزة مستحثه إلى إفريقية، وأخوه أحمد، وخليفة بن عبد الله بن مسكين، وابن عمه خليفة بن بو زيد من أولاد القوس، فأنزلهم السلطان وكرمهم. ثم رفع إليه الأمير عبد الواحد ابن السلطان أبي يحيى زكرياء بن اللحياني كان في جملته. وكان من خبره أنه رجع من المشرق بعد مهلك أبيه بمصر كما قدمناه سنة اثنتين وثلاثين، فدعا لنفسه بجهات طرابلس وتابعه أعراب دباب، وبايع له عبد الملك بن مكي صاحب قابس. ونهض معه إلى تونس في غيبة السلطان لتخريب تيمزيزدكت كما ذكرناه،
فملكها أياما. وأحس بمرجع السلطان، فأجفل عنها. ولحق عبد الواحد بن اللحياني بتلمسان إلى أن دلف إليها السلطان أبو الحسن بعساكره، ففارقهم وخرج إليه، فأحله محل التكرمة والمبرة واستقر في جملته، إلى أن ملك تونس. ورفع إليه عند مقدم هذا الوفد أنهم دسوا إليه مع بعض حشمهم، وطلبوه في الخروج معهم لينصبوه للأمر بإفريقية وتبرأ إلى السلطان من ذلك، فأحضروا بالقصر ووبخهم الحاجب علال بن محمد بن المصمود. وأمر بهم، فسحبوا إلى السجن. وفتح السلطان ديوان العطاء وعسكر بسيجوم بساحة البلد بعد قضائه منسك الفطر من سنته. وبعث في المسالح والعساكر، فتوافوا ببابه. واتصل الخبر بأولاد أبي الليل القوس باعتقال وفدهم وعسكرة السلطان لهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتعاقدوا على موت وبعثوا إلى أقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد. وكانوا بعد مهلك سلطانهم أبي حفص قد لحقوا بالقفر، وانتبذوا عن إفريقية فرارا من مطالبة السلطان، بما كانوا شيعة لعدوه، فأغذ السير إليهم أبو الليل بن حمزة متطارحا عليهم بنفسه في الاجتماع للخروج على السلطان، فأجابوه وارتحلوا معه. وتوافت أحياء بني كعب وحكيم جميعا بتوزر من بلاد الجريد، فهدروا الدماء بينهم وتدامروا وتبايعوا على الموت والتمسوا من أعياص الملك من ينصبونه للأمر، فدلهم بعض سماسرة الفتن على رجل من أعقاب أبي دبوس فريسة بني مرين من حلفاء بني عبد المؤمن بمراكش، عندما استولوا عليها. وكان من خبره أن أباه عثمان بن إدريس بن أبي دبوس لحق بعد مهلك أبيه بالأندلس، وصحب هنالك مرغم بن صابر شيخ بني دباب. وهو أسير ببرشلونة. فلما انطلق من أسره صحبه إلى وطن دباب، بعد أن عقد قمص ببرشلونة بينهما حلفا وأمدهما بالأسطول على مال التزماه له. ونزل بضواحي طرابلس وجبال البربر بها، ودعا لنفسه هنالك. وقام بدعوته كافة العرب من دباب وقاتل طرابلس، فامتنعت عليه. ثم تابعه أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب بإفريقية، وأجلب به على تونس، فلم يتم أمره لرسوخ دعوة الحفصيين بإفريقية، وانقطاع أمر بني عبد المؤمن منها وآثارهم منذ الأحوال العديدة والآماد المتقادمة، فنسي أمرهم. وهلك عثمان بن إدريس هذا بجربة، ثم ابنه عبد السلام بعده وترك من الولد ثلاثة أصغرهم أحمد، وكان صناع اليدين. ولحقوا بتونس بعدما طوحت بهم طوائح
الاغتراب، وظنوا أن قد تنوسي شأن أبيهم، فتقبض عليهم مولانا السلطان أبو يحيى، وأودعهم السجن إلى أن كربهم إلى الإسكندرية سنة أربع وأربعين. ورجع أحمد منهم إلى إفريقية، واحتل بتوزر محترفا بحرفة الخياطة يتعيش منها فاستدعاه بنو كعب هؤلاء حين اتفقت أهواؤهم ومن اتبعهم من أحلافهم أولاد القوس، وسائر شعوب علاق. وخرج إليهم من توزر فنصبوه للأمر وجمعوا له شيئاً من الفساطيط والآلة والكسى الفاخرة والمقربات. وأقاموا له رسم السلطان، وعسكروا عليه بحللهم وقياطينهم، وارتحلوا لمناجزة السلطان. ولما قضى منسك الأضحى من سنة ثمان وأربعين، ارتحل من ساحة تونس يريدهم، فوافاهم في العرج ما بين بسيط تونس وتبسط القيروان المسمى بالثنية، فأجفلوا أمامه وصدقوه القتال منهزمين، وهو في اتباعهم، إلى أن احتل بالقيروان، ورأوا أن لا ملجأ منه، فتدامروا واتفقوا على الاستمالة ودس إليهم من عسكر السلطان بنو عبد الواد ومغراوة وبنو توجين فغلبوا بني مرين، وعدوهم بالمناجزة صبيحة يومهم ليتحيزوا إليهم براياتهم، فصبحوا معسكر السلطان. وركب إليهم في الالة والتعبئة واحتل المصاف، وتحيز إليهم الكثر. ونجا السلطان إلى القيروان فدخلها في الفل من عساكره ثامن المحرم فاتح تسع وعشرين، وتدافعت ساقات العرب في أثره. وتسابقوا إلى المعسكر، فانتهبوه ودخلوا فسطاط السلطان، فاستولوا على ذخيرته والكثير من حرمه. وأحاطوا بالقيروان، وأحدقت حللهم بها سياجا، وتعاوت ذيابهم بأطراف البقاع وأجلب ناعق الفتنة من كل مكان. وبلغ الخبر إلى تونس، فاستحصن بالقصبة أولياء السلطان وحرمه، ونزع ابن تافراكين من جملة السلطان بالقيروان إليهم، فعقدوا له على حجابة سلطانهم أحمد بن أبي دبوس ودفعوه إلى محاربة من كان بقصبة تونس، فأغذ إليها السير. واجتمع إليه أشياع الموحدين وزعانف الغوغاء والجند، وأحاطوا بالقصبة، وغاداها بالقتال، ونصب المنجنيق لحصارها. ووصل سلطانه أحمد على أثره، وامتنعت علبهم، ولم يغنوا فيها غنا، وافترق أمر الكعوب وخالف بعضهم بعضا إلى السلطان وتساقطوا إليه، فتنفس مخنق الحصار عن القيروان. واختلفت إليه رسل أولاد مهلهل، وأحس بهم أولاد أبي الليل. فدخل أبو الليل بن حمزة بنفسه، وعاهد السلطان على الإفراج، ولم يف بعهده. وداخل السلطان وأولاد مهلهل في الخروج معهم إلى سوسة، فعاهدوه على ذلك. وواعد أسطوله بمرساها وخرج معهم ليلا على تعبية، فلحق بسوسة
وبلغ الخبر إلى ابن تافراكين بمكانه من حصار القصبة، فركب السمين ليلا إلى الإسكندرية. وارتاب سلطانهم ابن أبي دبوس لما وقف على خبره، فانفض جمعهم وأفرجوا عن القصبة. وركب السلطان أسطوله من سوسة، ونزل بتونس آخر جمادى واعتمل في إصلاح أسوارها وإدارة الخندق عليها. وأقام لها من الامتناع والتحصين رسما ثبت لها من بعده، ودفع به نحو عدوه. واستقل من نكبة القيروان وعثرتها، وخلص من هوتها. والله يفعل ما يشاء. ولحق أولاد أبي الليل، وسلطانهم أحمد بن أبي دبوس بتونس، فأحاطوا بالسلطان واستبلغوا في حصاره. وخلصت ولاية أولاد مهلهل للسلطان، فعول عليهم ثم راجع بنو حمزة رأيهم في طاعة السلطان ودخل كبيرهم عمر إليه في شعبان، وتقبضوا على سلطانهم أحمد بن أبي دبوس وقادوه إلى السلطان استبلاغا في الطاعة، وإمحاضا للولاية فتقبل فيئتهم وأودع ابن أبي دبوس السجن، وأصهر إلى عمر بابنه أبي الفضل، فعقد له على بنته. واختلفت أحوالهم في الطاعة والانحراف، إلى أن كان ما نذكر. والله غالى على أمره. الخبر عن انتقاض الثغور الغربية ورجوعها إلي دعوة الموحدين: كان المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى، لما قدم على السلطان أبى الحسن بتلمسان في زفاف شقيقته سنة سبع وأربعين، بعدما اتصل به في طريقه مهلك أبيه، أوسع له السلطان كنفه، ومهد له جانب كرامته وبره، وغمز له بوعد في المظاهر على ملك أبيه يعزي به عن فقده. وارتحل السلطان إلى إفريقية، والمولى أبو الفضل يرجي أن يجعل سلطانها إليه، حتى إذا استولى السلطان على الثغرين بجاية وقسنطيظ وارتحاى إلى تونس، عقد له على مكان أمارته أيام أبيه ببونة، وصرفه إليها، فانقطع أ وفسد ضميره وطوى إلى النث حتى إذا كانت نكبة السلطان بالقيروان، سما إلى التوثب على ملك سلفه. وكان أهل قسنطينة وبجاية قد برموا من الدولة، واستثقلوا وطأة الإياله لما اعتادوا من الملكة الرقيقة، فاشرأبوا إلى الثورة عندما بلغهم خبر النكبة. وقد كان توافى بقسنطينة ركاب من المغرب فيه طوائف من الوفود والعساكر، وكان فيهم ابن صدر من أبناء السلطان، عقد له على عسكر من أهل المغرب، وأوعز إليه باللحاق بتونس
وفيهم عمال المغرب قدموا عند رأس الحول بجبايتهم وحسبانهم. وفيهم أيضا وفد من زعماء النصارى، بعثهم الطاغية ابن أذفونش مع تاشفين ابن السلطان لما أطلقه من الأسر، بعد عقد السلم والمهادنة، وكان أسيرا عندهم من لدن واقعة طريف كما ذكرناه، وكان أصابه مس من الجنون. فلما خلصت الولاية بين السلطان والطاغية، وعظم عنده الإتحاف والمهاداة، وبلغه خبر السلطان وتملكه إفريقية، أطلق ابنه تاشفين. وبعث معه هؤلاء الزعماء للتهنية، وفيهم أيضا وفد من أهل مالي ملوك السودان بالمغرب. أوفدهم ملكهم منسا سليمان للتهنية بسلطان إفريقية. وكان معهم أيضا يوسف بن مزني عامل الزاب وأميره، قدم بجباية عمله. واتصل به خبر الركاب بقسنطينة فلحق بهم، مؤثرا صحابتهم إلى سدة السلطان. وتوافى هؤلاء الوفود جميعا بقسنطينة، واعصوصبوا على ولد السلطان. فلما وصل خبر النكبة اشرأب الغوغاء من أهل البلد إلى الثورة، وتجلت شفاههم إلى ما بأيديهم من أموال الجباية وأحوال الثروة، فنقموا عليهم سوء الملكة ودلس مشيختهم إلى المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى بمكانه من بونة، وقد كشف القناع في الانتزاء على عمله والدعاء لنفسه، فخطبوه للأمر واستحثوه للقدوم، فأغذ السير. وتسامع بخبره أولياء السلطان، فخشي ابن مزني على نفسه، وخرج إلى معسكره بحلة يعقوب بن علي أمير الدواودة، ولجأ ابن السلطان وأولياؤه إلى القصبة. ومكر بهم أهل البلد في الدفاع دونهم، حتى إذا أطلت رايات مولانا الفضل وثبوا بهم وأحجروهم بالقصبة. وأحاطوا بهم حتى استنزلوهم على أمان عقدوه لهم. ولحقوا بحلة يعقوب، فعسكروا بها بعد أن نقض أهل البلد عهدهم في ذات يدهم، فاستصفوه، فأشار عليهم ابن مزني باللحاق ببسكرة ليكون ركابهم إلى السلطان، فارتحلوا جميعا في جوار يعقوب لما له من ملك الضواحي حتى لقوا ببسكرة، ونزلوا منها على ابن مزني خير نزل، وكفاهم " شيء يهمهم على طبقاتهم ومقاماتهم، وعناية السلطان بمن كان وافدا منهم، حتى ماربهم يعقوب بن علي إلى السلطان، وأوفدهم عليه في رجب من سنته. واتصل الخبر بأهل بجاية بالفعلة التي فعل أهل قسنطينة، فساجلوهم في الثورة. وكبسوا منازل أولياء السلطان وعسكره وعماله، فاستباحوها واستلبوهم وأخرجوهم من بين ظهرانيهم عراة، فلحقوا بالمغرب. وطيروا بالخبر إلى المولى أبي الفضل، واستحثوه للقدوم، فقدم عليهم. وعقد على قسنطينة وبونة لمن استكفى به من خاصته ورجالات دولته، واحتل
ببجاية لشهر ربيع من سنته. وأعاد ملك سلفه. واستوثق أمره بهذه الثغور، إلى أن كان من خبره مع السلطان بعد خروجه من بجاية، ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتزاء أولاد السلطان بالمغرب الأوسط والأقصي، ثم استقلال أبي عنان بملك المغرب كله: لما اتصل خبر النكبة على القيروان بالأمير أبي عنان ابن السلطان، وكان صاحب تلمسان والمغرب الأوسط. وتساقط إليه الفل من عسكر أبيه عراة زرافات ووحدانا، وأرجف الناس بمهلك السلطان بالقيروان، فتطاول الأمير أبو عنان للاستئثار بملك أبيه دون الأبناء، لما كان له من الإيثار عند أبيه، لصيانته وعفافه، واستظهار القرآن، فكان محلا بعين أبيه لأمثالها. وكان عثمان بن يحيى بن جرار من مشيخة بني عبد الواد وأولاد تيدوكسن بن طاع الله منهم، وكان له محل من الدولة كما ذكرناه في خبره. وكان السلطان أذن له في الرجوع إلى المغرب من معسكره بالمهدية، ونزل بزاوية العباد من تلمسان، وكان مسمتا وقورا، جهينة خبر ممتعا في حديثه. وكان يرجم فيه الوقوف على الحدثان. وكان الأمير أبو عنان متشوقا إلى أخبار أبيه، ففزع إلى عثمان بن جرار في تعرفها. واستدعاه وأنس به وكان في قلبه مرض من السلطان، فأودع أذن الأمير أبي عنان ما أراد من الأقاويل: من تورط السلطان في المهلكة، وبشره بمصير الأمر إليه، فصادف منه اذنا واعية. واشتمل عليه ابن جرار من بعد. فلما ورد الخبر بنكبة السلطان أغراه ابن جرار بالتوثب على الملك وسول له الاستئثار به على إخوانه تيقنا بمهلك السلطان. ثم أوهمه الصدق بإرجاف الناس بموت السلطان، فاعتزم وشحذ عزمه في ذلك ما اتصل به من حافد السلطان منصور ابن الأمير أبي مالك صاحب فاس وأعمال المغرب من الانتزاء على عمله، وأنه فتح ديوان العطاء، واستلحق واستركب لغيبة بني مرين عن بلادهم، وخلو جوه من عساكرهم. وأظهر العسكر والحشد لاستنقاذ السلطان من هوة القيروان، يسر منها حسوا في ارتغاء. وتفطن لشأنه الحسن بن سليمان بن يرزيكن، عامل القصبة بفاس، وصاحب الشرطة بالضواحي، فاستأذنه في اللحق بالسلطان، فأذن له راحة من مكانه. وأصحبه عمال المصامدة ونواحي مراكش ليستقدمهم على السلطان بجباياتهم، فلحق بالأمير أبي عنان على حين أمضى عزيمته على التوثب والدعاء لنفسه، فقبض
أموالهم وأخرج ما كان بمودع السلطان بالمنصورة من المال والذخيرة. وجاهر بالدعاء لنفسه، وجلس للبيعة بمجلس السلطان من قصره في ربيع من سنة تسع، فبايعه الملأ. وقرأ كتاب بيعتهم على الأشهاد ثم بايعه العامة، وانفض المجلس، وقد انعقد سلطانه ورست قواعد ملكته. وركب في التعبية والآلة، حتى نزل بقبة الملعب. وأهم الناس وانتشروا. وعقد على وزارته لحسن بن سليمان بن يرزيكن ثم لفارس بن ميمون بن ودرار وجعله رديفا له وتبعا. ورفع مكان ابن جرار عليهم. واختص لولايته ومناجاة خلوته كاتبه أبا عبد الله بن محمد ابن القاضى عبد الله بن أبي عمر، وسنذكر خبره. ثم فتح الديوان واستركب من تساقط إليه من فل أبيه، وخلع عليهم ودفع إليهم اعطياتهم وأزاح عللهم. وبينما هو يريد الرحلة إلى المغرب، إذ بلغه أن ونزمار ابن ولي السلطان وخالصته عريف بن يحيى، وكان أمير زغبة لعهده، ومقدما على سائر البدو، وبلغه أنه قد جمع له بريد حربه، وغلبه على ما صار إليه من الانتزاء والثورة على أبيه. وأنه قصد تلمسان بجموعه من العرب، وزناتة المغرب الأوسط، فعقد للحسن بن سليمان وزيره على حربه. وأعطاه الالة وسرحه للقائه، وسرح معه من حضره من بني عامر أقتال سويد، وارتحل الوزير بعسكره حتى احتل بتاسالة. وناجزه ونزمار الحرب، ففلت جموعه ومنحوا أكتافهم، واتبع الوزير وعسكره اثارهم، واكتسح أموالهم وحللهم وعاد إلى سلطانه بالفتح والغنائم. وارتحل الأمير أبو عنان إلى المغرب، وعقد على تلمسان لعثمان بن جرار، وأنزله بالقصر القديم منها، حتى كان من أمره مع عثمان بن عبد الرحمن ما ذكرنا في أخبارهم. ولما انتهى إلى وادي الزيتون وشي إليه بالوزير الحسن بن سليمان أنه مضمر الفتك به بنازى تزلفا إلى السلطان ووفاء بطاعته، وأنه داخل في ذلك الحافد منصور صاحب أعمال المغرب، بما كان يظهر من طاعة جده. وارتاب الأمير أبو عنان به، واستظهر واشيه على ذلك بكتابه. فلما قرأه تقبض عليه، وقتله بالمساء خنقا، وأغذ السير إلى المغرب. وبلغ الخبر منصور بن أبي مالك صاحب فاس، فزحف للقائه. والتقى الجمعان بساحة تازى وبوادي أبي الأجراف، فاختل مصاف منصور، وانهزمت جموعه ولحق بفاس. وانحجز بالبلد الجديد، وارتحل الأمير أبو عنان في أثره وتسايل الناس على طبقاتهم إليه، وأتوه الطاعة. وأناخ بعساكره على البلد الجديد في ربيع الاخر من سنة تسع وأربعين، وأخذ
بمخنقها وجمع الأيدي والفعلة على الآلات لحصارها. ولحين نزوله على البلد الجديد أوعز إلى الوالي بمكناسة أن يطلق أولاد أبي العلاء المعتقلين بالقصبة، فأطلقهم ولحقوا به. وأقاموا معه على حصار البلد الجديد وطال تمرسه بها إلى أن ضاقت أحوالهم واختلفت أهواؤهم ونزع إليه أهل الشوكة منهم. ونزع إليهم إدريس بن عثمان بن أبي العلاء فيمن إليه من الحاشية بإذنه له في ذلك سرا ليمكنه بهم، فدس إليه وواعده الثورة بالبلد، فثار بها. واقتحمها الأمير أبو عنان عليهم. ونزل منصور بن أبي مالك على حكمه، فاعتقله إلى أن قتله بمحبسه واستولى على دار الملك وسائر أعمال المغرب. وتسابقت إليه وفود الأمصار للتهنية والبيعة. وتمسك أهل سبتة بطاعة السلطان، والانقياد لعاملهم عبد الله بن علي بن سعيد من طبقة الوزراء حيناً. ثم توثبوا به، وعقدوا على أنفسهم للأمير أبي عنان، وقادوا عاملهم إليه. وتولى كبر الثورة فيهم زعيمهم الشريف أبو العباس أحمد بن محمد بن رافع من بيت أبي الشريف من آل الحسن كانوا انتقلوا إليها من صقلية واستوسق للأمير أبي عنان ملك المغرب، واجتمع إليه قومه من بني مرين إلا من أقام مع السلطان بتونس وفاء بحقه. وحمق جناح أبيه عن الكرة على الكعوب الناكثين لعهده، الناكبين عن طاعته، فأقام بتونس يرجي الأيام، ويأمل الكرة. والأطراف تنتقض والخوارج تتجدد، إلى أن ارتحل إلى المغرب بعد اليأس، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتقاض النواحي، وانتزاء بني عبد الواد بتلمسان، ومغراوة بشلف، وتوجين بالمدية: لما كانت نكبة السلطان بالقيروان. وانتثر سلك زناتة، وانتقضت قواعد سلطانهم، اجتمع كل قوم منهم لإبرام أمرهم، والنظر في شأن جماعتهم، وكانوا جميعا نزعوا إلى الكعوب الخارجين على السلطان، وبنزوعهم كانت الدايرة عليه. ولحقوا بتونس مع الحاجب أبي محمد بن تافراكين، ليلحقوا منها بأعمالهم. وكان في جملة السلطان جماعة من أعاصيهم: منهم عثمان وإخوته الزعيم ويوسف وإبراهيم، أبناء عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان سلطان بني عبد الواد. صاروا في أيالة السلطان منذ فتح تلمسان، وأنزلهم بالجزيرة للرباط. ثم رجعوا بعد استئثار الطاغية بها إلى مكانهم من دولتهم، وساروا إلى القيروان تحت لوائه. ومنهم علي بن راشد بن
محمد بن ثابت بن منديل، وقد ذكرنا أخبار أبيه. ربي في إيالة السلطان وجو الدولة يتيمأ، وكفلته نعمتها منذ نشأته، حتى كأنه لا يعرف سواها. فاجتمع بنو عبد الواد بتونس، وعقدوا على أنفسهم لعثمان بن عبد الرحمن، بما كان كبير إخوته. وأتوه ببيعتهم بشرقي المصفى العتيق المطل على سيجوم من ساحة البلد لعهده بهم يومئذ. وقد وضعوا له بالأرض درقة من اللمط أجلسوه عليها، ثم ازدحموا مكبين على يده يقبلونها للبيعة، ثم اجتمع من بعدهم مغراوة إلى علي بن راشد وبايعوه وحفوا به. وتعاهد بنو عبد الواد ومغراوة على الألفة وانتظام الكلمة وهدر الدماء. وارتحلوا إلى أعمالهم بالمغرب الأوسط، فنزل علي بن راشد وقومه بموضع عملهم من ضواحي شلف، وتغلبوا على أمصاره. وافتتحوا تنس، وأخرجوا منها أولياء السلطان وعسكره، وقتلوا القاضي بمازونة سرحان، كان مقيماً لدعوة السلطان بها، ثم سولت له نفسه الانتزاء والتوثب، فدعا لنفسه. وقتله علي بن راشد وقومه. وأجاز عثمان بن عبد الرحمن وقومه من بني عبد الواد إلى محل ملكهم بتلمسان، وألفوا عثمان بن جرار قد انتزى بها بعد منصرف الأمير أبي عنان ودعا لنفسه فتجهم له الناس لتوثبه على المنصب الذي ليس لأبيه، واستمسك بالبلد أياما يؤمل نزوع قومه إليه. ثم زحف إليه بنو عبد الواد وسلطانهم، فصدقوه الزحف، وثارت به الغوغاء، وكسروا أبواب البلد. وخرجوا إلى السلطان، فأدخلوه القصر، واحتل به في جمادى من سنة نسع. وتسابق الناس إلى مجلسه مثنى وفرادى، وبايعوه البيعة العامة، وتفقد ابن جرار. ثم أكرى به البحث فبثر عليه ببعض زوايا القصر. واحتمل إلى المطبق فأودع به إلى أن سرب إليه الماء، فمات غريقا في هوته. وساهم السلطان أبو سعيد عثمان أخاه أبا ثابت الزعيم في سلطانه، وشركه في أمره، وأردفه في ملكه، وجعل إليه أمر الحرب والضواحي والبدو كلها. واستوزر قريبه يحيى بن داود بن مكن، من ولد محمد بن تيدوكسن بن طاع الله واستوسق ملكهم. وأوفدوا مشيختهم على الأمير أبي عنان صاحب المغرب، وسلطان بني مرين، فعقدوا معه السلم والمهادنة، واشترطوا له على أنفسهم دفاع السلطان أبيه عن الخلوص إليه. وزحفوا إلى وهران من ثغور أعمالهم. ونازلوا بها أولياء السلطان وعساكره، وعاملها يومئذ عبو بن جانا من صنائع السلطان، إلى أن غلبوه عليها واستنزلوه صلحا لأشهر من حصارها.
واستمسك أهل الجزائر بطاعة السلطان واعتصموا بها. وعقد عليها لقائده محمد بن يحيى العشري من صنائع أبيه، بعثه إليهم من تونس بعد نكبة القيروان. ونجم بالمدية عدي بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي داعيا لنفسه، وطالبا سلطان سلفه. وامتنع عليه معقل ملكهم بجبل وانشريش، لمكان ولد عمر بن عثمان وقومهم بني تيغرين في رياسته وانحاش إليه أولاد عزيز، من بني توجين، أهل ضاحية المدية فقاموا بأمره، واعصوصبوا عليه. وكانت بينه وبين أبناء عمر بن عثمان حرب سجال إلى أن هلك، وخلص أمر بني توجين لأبناء عمر بن عثمان، وهم على مذهبهم من طاعة السلطان والتمسك بدعوته، وهو مميم خلال ذلك بتونس، إلى أن أزمع الرحلة، واحتل بالجزاير، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن رجوع أمراء الثغور الغربية من الموحدين إلى ثغورهم ببجاية وقسنطينة:
لما توثب الأمير أبو عنان على ملك أبيه، وبويع بتلمسان، وكانت للأمير أبي
عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية لديه خلة ومصافاة، من لدن بعثه إليه السلطان أبوه من بجاية. وأنزله بتلمسان، فرعى له السابقة وآثره في الأمارة، وعقد له على محل أمارته من بجاية، وأمده بما رضيه من المال والسلاح. ودفعه إليها ليكون حجزا دون السلطان بتونس. وضمن له هذا الأمير صده عن الخلوص إليه وسد المذاهب دونه. وأوعز أبو عنان إلى أساطيله بوهران فركبها الأمير إلى تدلس ودخلها. ونزع إليه صنهاجة أهل ضاحية بجاية، عن عمه المولى أبي العباس الفضل، واعصوصبوا عليه، وقاموا بأمره، لقديم نعمته وسالف أمارة أبيه. ولما ارتحل الأمير أبو عنان إلى المغرب رحل في جملته المولى أبو زيد عبد الرحمن ابن مولانا الأمير أبي عبد الله صاحب قسنطينة، ومعه إخوته، فاختصهم يومئذ بتقريبه وخلطهم بنفسه. فلما غلب الأمير أبو عنان منصور ابن أخيه أبي مالك على البلد الجديد، واستولى على المغرب، رأى أد يبعث ملوك الموحدين إلى بلادهم، ويدفع في صدر أبيه بمكانهم، فسرح المولى أبا زيد وجميع إخوته، وكان منهم مولانا السلطان أبو العباس الذي جبر الله به الصدع، ونظم الشمل، ففصلوا إلى مواطن ملكهم ومحل أمارتهم. وكان مولاهم نبيل حاجب أبيهم قد تقدم إلى بجاية، ولحق بالمولى أبي عبد الله بمكانه من حصارها. ثم تقدم إلى قسنطيط وبها مولى من موالي السلطان المتغلب عليها، وهو المولى أبو العباس الفضل. فلحيى
إطلاله على جهاتها وشهور أهلها بمكانه، لفحت منهم عزائز المودة، وذكروا جميل الإيالة، وأجمعوا التوثب بوالديهم. واحتل نبيل بظاهر قسنطينة، فشرهت العامة إلى أمارته والقيام بدعوة مواليه. وتوثب أشياعهم على أولياء عمهم فأخرجوهم، واستولى القائد نبيل على قسنطينة وأعمالها، وأقام دعوة المولى أبي زيد وإخوته كما كانت أول مرة بها: وجاء من المغرب إلى مركز أمارتهم، ودعوتهم بها قائمة، ورايتهم على أنحائها خافقة، فاحتلوا بها حلول الاساد بعرينها والكواكب بآفاقها. ونهض المولى أبو عبد الله محمد فيمن اجتمع إليه من البطانة والأولياء إلى محاصرة بلده بجاية، فأحجز عمه بالبلد وأخذ بمخنقها أياما، ثم أفرج عنها، ثم رجع إلى مكانه من حصارها. ودس إلى بعض أشياعه بالبلد، وسرب المال بالغوغاء، فواعدوه فتح أبواب الربض في إحدى ليالي رمضان سنة تسع وأربعين. واقتحم البلد وملأ الفضاء بهدير طبوله، فهب الناس من مراقدهم فزعين، وقد ولج الأمير وقومه البلد. ولجأ الأمير أبو العباس الفضل إلى شعاب الجبل وكواريه المطل على القصبة راجلا حافيا، فاختفى إلى أن عثر عليه ضحى النهار وسيق إلى ابن أخيه، فمن عليه وأركبه السفين إلى محل أمارته من بونة. وخلص ملك بجاية للمولى الأمير أبي عبد الله هذا، واقتعد سرير آبائه بها. وكتبوا للأمير أبي عنان بالفتح وتجديد المخالصة والموالاة، والعمل على مدافعة أبيه عن جهاته. والله تعالى أعلم. الخبر عن نهوض الناصر ابن السلطان ووليه عريف بن يحيي من تونس إلى المغرب الأوسط: لما بلغ السلطان خبر ما وقع بالمغرب من انتقاض أطرافه، وتغلب الأعياص من نومه وسواهم على أعماله، ووصل إليه يعقوب بن علي أمير الدواودة بولده وعماله ووفده،. نظر في تلافي أمره، فسرح ولده الناصر إلى المغرب الأوسط لارتجاع ملكهم، ومحو آثار الخوارح من أعمالهم. فنهض مع يعقوب بن علي وأصحبه وليه عريف بن بحيى أمير زغبة ليستظهر به على ملك المغرب، وقدمهما طليعة بين يديه. وسار الناصر إلى بسكرة، واضطرب معسكره بها. ثم فصل من بلاد رياح إلى بلاد زغبة، واجتمع إليه أولياؤهم من العرب ومن زناتة من بني توجين أهل وانشريش وغيرهم. وزحف إليهم الزعيم أبو ثابت من تلمسان في قومه من بني عبد الواد وغيرهم للمدافعة. والتقى
الجمعان بوادي ورك، وانفضت جموع الناصر وانذعروا، ورجع على عقبه إلى بسكرة. وخلص عريف بن يحيى إلى قومه سويد، ثم قطع القفر إلى المغرب الأقصى. ولحق بالأمير أبي عنان، فنزل منه بألطف محل ورجع الناصر إلى بسكرة، وارتحل مع أوليائهم . أولاد مهلهل لمدافعة أولاد أبي الليل وسلطانهم المولى الفضل عن تونس، كما ذكرناه. وأحسوا بهم، فنهضوا إليهم وفروا أمامهم، إلى أن خلص الناصر إلى بسكرة ثانية واتخذها مثوى، إلى أن لحق بالجزائر عند رحتله من تونس إليها، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن رحلة السلطان أبي الحسن إلى المغرب، وتغلب المولى الفضل علي تونس، وما دعا إلى ذلك من الأحوال: لما خلص المولى أبو العباس الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى من نكبته ببجاية، وامتن عليه ابن أخيه فلحق بمحل أمارته من بونة، ووافته بها مشيخة أولاد أبي الليل، أوفدهم عليه بنو حمزة بن عمر يستحثونه لملك إفريقية ويرغبونه فيه، فأجاب داعيتهم ونهض إليهم بعد قضاء نسك الفطر من سنة تسع وأربعين. ونزل بحللهم، وأرجفوا بخيلهم وركابهم على ضواحي إفريقية، وجبوها. وصمدوا إلى تونس فنازلوها وأخذوا بمخنقها أياما، ثم أخذ بحجزتهم عنها شيعة السلطان وأولياؤه من أولاد مهلهل وابنه الناصر عند قفوله من المغرب الأوسط مفلولا، فرحلوا وشردهم. ثم رجعوا إلى مكانهم من حصارها، ثم انفضوا عنها. وتحيز خالد بن حمزة إلى شيعة السلطان أبي الحسن من أولاد مهلهل وقومه، فاعتزوا به. وذهب عمر بن حمزة إلى المشرق لقضاء فرضه، وأجفل أبو الليل أخوه والمولى الفضل إلى القفر، حتى كان من دخول أهل الجريد في طاعته ما سنذكر. وكان السلطان لما خلص من القيروان إلى تونس، وفد عليه أحمد بن مكي مهنيا ومفاوضا في شأن الثغر، وما مني به من انتقاض الأطراف وفساد الرعية. وتدارك السلطان أمره عند فواته بالتولية على أهل القطر من جنسهم استئلافا للكافة، واستبقاء لطاعتهم. فعقد على عمل قابس وجربة والحمة وما إليها لعبد الواحد ابن السلطان أبي زكرياء بن أحمد اللحياني، وأنفذه مع أحمد بن مكي إلى عمله، فهلك بجربة لليال من مقدمه بالطاعون الجارف عامئذ.
وعقد لأبي القاسم بن عتو شيخ الموحدين على توزر ونفطة وسائر بلاد الجريد، بعد أن كان استخلصه عند مفر أبي محمد بن تافراكين قريعه، وما ظهر من سوء دخلته، فنزل بتوزر، وجمع أهل الجريد على الولاية والمخالصة. ولما نازل المولى أبو العباس الفضل تونس مرتين، وشرد أولاد مهلهل، وامتنعت عليه، عمد إلى الجريد سنة خمس يحاول فيه ملكا. وخاطب أبا القاسم بن عتو يذكره عهده وعهد سلفه وحقوقهم، فتذكر وحن، ونظر إلى ما ناله به السلطان من المثلة في أطرافه. واستثار كامن حقده، فانحرف وحمل الناس على طاعة المولى الفضل ابن مولانا السلطان أبي يحيى فسارعوا إلى الإجابة. وبايعه أهل توزر وقفصة ونفطة والحمة. ثم دعا ابن مكي إلى طاعته، فأجاب إليها وبايعه أهل قابس وجربة أيضا. وانتهى الخبر إلى السلطان باستيلاء المولى الفضل على أمصار إفريقية، وأنه ناهض إلى تونس، فأهمه الشأن وخشي على أمره. وكانت بطانته يوسوسون إليه بالرحلة إلى المغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه، فأجابهم إليها. وشحن أساطيله بالأقوات، وأزاح علل المسافرين ولما قضى منسك الفطر من سنة خمسين، ركب البحر أيام استفحال فصل الشتاء. وعقد لابنه أبي الفضل على تونس ثقة بما بينه وبين أولاد حمزة من الصهر، وتفاديا بمكانه عن معرة الغوغاء وثورتهم، وأقلع من مرسى تونس ولخمس دخل مرسى بجاية، وقد احتاجوا إلى الماء، فمنعهم صاحب بجاية من الورود. وأوعز إلى سائر سواحله بمنعهم، فزحفوا إلى الساحل، وقاتلوا من صدهم عن الماء، إلى أن غلبوهم عليه، واستقوا وأقلعوا. وعصفت بهم الريح ليلتئذ، وجاءهم الموج من كل مكان، وألقاهم اليم بالساحل، بعد أن تكسرت الأجفان، وغرق الكثير من بطانة السلطان وعامة الناس وقذف الموج بالسلطان فألقاه إلى الجزيرة قرب الساحل من بلاد زواوة مع بعض حشمه عراة، فمكثوا ليلتهم وصبحهم جفن من الأساطيل كان قد سلم من ذلك العاصف، فقذفوا إليه حين رأوه، وقد تصايح به البربر من الجبال. وتوثبوا إليه فاختطفه أولياؤه من أهل الجفن، تبل أن يصل إليه البربر، وقذفوا به إلى الجزائر، فنزل بها، ولام صدعه. وخلع على من وصل من فل الأساطيل، ومن خلص إليه من أوليائه. ولحق به ابنه الناصر من بسكرة. واتصل بالمولى الفضل خبر رحيله من تونس وهو ببلاد الجريد، فأغذ السير إلى تونس. ونزل على ابنه، ومن كان بها من مخلف أوليائه، فغلبوهم عليها. واتصل أهل البلد بهم
وأحاطوا يوم منى بالقصبة. واستنزلوا ابن السلطان أبا الفضلى الأمير بالقصبة على الأمان، فخرج إلى بيت أبي الليل ابن حمزة، وأنفذ معه من بلغه إلى مأمنه، فلحق بالجزائر بأبيه. وبادر إلى السلطان عدي بن يوسف المنتزي بالمدينة من بني عبد القوي، فصار في جملته، وخرج له عن الأمر، وزعم أنه إنما كان قائما بدعوته، فتقبل منه وأقره على عمله.
ووفد عليه أولياؤه من المغرب: سويد والحارث وحصين، ومن إليهم ممن اجتمع
إلى وليه ونزمار بن عريف المتمسك بطاعته. ووفد عليه أيضا علي بن راشد أمير مغراوة، وأغراه ببني عبد الواد، واشترط عليه إقراره بوطنه وعمله إذا تم أمره، فأبى من قبول الاشتراط ظنا بعهده عن النكث، فنزع عنه وصار إلى مظاهرة بني عبد الواد عليه. وبعث أبو سعيد عثمان صاحب تلمسان إلى الأمير أبي عنان في المدد، فبعث إليه بعسكر من بني مرين، عقد عليهم ليحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي من تيربيغين. وزحف الزعيم أبو ثابت إلى حرب السلطان أبي الحسن فيمن اجتمع إليه من عسكر بني مرين ومغراوة. وخرج السلطان من الجزائر وعسكر بمتيجة واحتشد ونزمار سائر العرب بحللهم ووافاه بهم، وارتحلوا إلى شلف. ولما التقى الجمعان بشدبونة، صدقه مغراوة الحملة. وصابرهم ابنه الناصر، وطعن في الجولة فهلك، فاحتل مصاف السلطان واستبيح معسكره، وانتهبت فساطيطه، وخلص مع وليه ونزمار بن عريف وقومه، بعد أن استبيحت حللهم، فخرجوا إلى جبل وانشريش، ثم لحقوا بجبل راشد ورجع القوم عن أتباعهم، وانكفؤوا إلى الجزائر، فتلغبوا عليها، وأخرجوا من كان بها من أولياء السلطان، ومحو آثار دعوته من المغرب الأوسط جملة. والأمر بيد الله يؤتيه من يشاء.
الخبر عن استيلاء السلطان علي سجلماسة، ثم فراره عنها أمام ابنه إلى مراكش، ثم استيلاؤه عليها، وما تخلل ذلك:
لما انفضت جموع السلطان بشدبونة، وفلت عساكره، وهلك الناصر ابنه، خلص
إلى الصحراء مع وليه ونزمار، ولحق بحلل قومه سويد وأوطانهم قبلة جبل وانشريش، وأجمع أمره على قصد المغرب موطن قومه ومنبت عزه ودار ملكه. وارتحل معه وليه ونزمار بالناجعة من قومه، وخرجوا إلى جبل راشد. ثم أبعدوا المذهب وقطعوا المفاوز،
وسلكوا إلى سجلماسة في القفر. فلما أطلوا عليها، وعاين أهلها السلطان، تهافتوا عليه تهافت الفراش. وخلص إليه العذارى من وراء ستورهن صاغية إليه، وإيثارا لإيالته. وفر العامل بسجلماسة إلى منجاته. وكان الأمير أبو عنان لما بلغه الخبر بقصده سجلماسة ارتحل إليها في قومه وكافة عساكره، بعد أن أزاح عللهم، وأفاض عطاءه فيهم. وكان لبني مرين نفرة عن السلطان وحذر من غائلته، لجناياتهم بالتخاذل في المواقف، والفرار عنه في الشدائد، ولما كان يبعد بهم في الأسفار، ويتجشم بهم المهالك، فكانوا لذلك مجتمعين على منابذته، ومخلصين في مناصحة ابنه منازعه. فما لبث السلطان أن جاءه الخبر بوصولهم إليه في العساكر الضخمة، مغذين السير إلى دفاعه، وعلم من حاله أنه لا يطيق لقاءهم. وأجفل عنه ونزمار وليه في قومه سويد. وكان من خبره أن عريف بن يحيى كان نزع إلى الأمير أبي عنان، وأحله بمحله المعهود من تشريفهم وولايتهم حتى إذا بلغه الخبر بمناصحة ونزمار للسلطان ومظاهرته وقصده المغرب معه بناجعته، زوى عنه وجه رضاه بعض الشيء، وأقسم له لئن لم يفارق السلطان لأوقعن بك وبابنك عنتر، وكان معه من جملة الأمير أبي عنان. وأمره بأن يكتب له بذلك، فآثر ونزمار رضى أبيه. وعلم أن غناءه عن السلطان في وطن المغرب قليل، فأجفل عنه ولحق بالزاب وانتبذ عن قومه، وألقى عصاه ببسكرة، فكان ثواؤه بها إلى أن لحق بالأمير أبي عنان على ما نذكره. ولما أجفل السلطان عن سجلماسة، ودخل الأمير أبو عنان إليها، وثقف أطرافها وسد فروجها، وعقد عليها ليحيى بن عمر بن عبد المؤمن كبير بني ونكاسن. وبلغه قصد السلطان إلى مراكش، فاعتزم على الرحلة إليها وأبى عليه قومه، فرجع إلى فاس إلى أن كان من خبرهم مع السلطان ما نذكره. الخبر عن استيلاء السلطان علي مراكش، ثم انهزامه أمام الأمير أبي عنان، ومهلكه بجبل منتاتة عفا الله عنه: لما أجفل السلطان من سجلماسة سنة إحدى وخمسين بين يدي الأمير أبي عنان وعساكر بني مرين، وقصد مراكش وركب إليها الأوعار من جبل المصامدة. ولما شارفها نسارع إليه أهل جهاتها بالطاعة من كل أوب، ونسلوا من كل حدب. ولحق عامل مراكش بالأمير أبي عنان، ونزع إلى السلطان صاحب ديوان الجباية أبو المجد محمد بن أبي
مدين بما كان في المودع من مال الجباية، فاختصه واستكتبه وجعل إليه علامته. واستركب واستلحق وجبى الأموال وبث العطاء، ودخل في طاعته قبائل العرب من جشم وسائر المصامدة وثاب له ملك بمراكش أفل معه أن يستولي على سلطانه، ويرتجع فارط أمره من يد مبتزه. وكان الأمير أبو عنان لما رجع إلى فاس عسكر بساحتها، وشرع في العطاء وأزاح العلل، وتقبص على كاتب الجباية حمزة بن شعيب بن محمد بن أبي مدين، اتهمه بممالأة بني مرين في الإباية عليه عن اللحاق بمراكش من سجلماسة. وأثار حقده في ذلك ما كان من نزوع عفه أبي المجد إلى السلطان بأموال الجباية. ووسوس إليه في السعاية به كاتبه وخالصته أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي عمرو، لما بينهما من المنافسة، فتقبض عليه وامتحنه، ثم قطع لسانه، وهلك في ذلك الامتحان. وارتحل الأمير أبو عنان وجموع بني مرين إلى مراكش، وبرز السلطان للقائهم ومدافعتهم، وانتهى كل واحد من الفريقين إلى وادي أم ربيع، وتربص كل واحد بصاحبه إجازة الوادي ثم أجازه السلطان أبو الحسن، وأصبحوا جميعا في التعبية. والتقى الجمعان بتامدغرست في آخر صفر من سنة إحدى وخمسين، فاختل مصاف السلطان وانهزم عسكره، ولحق به أبطال بني مرين، فرجعوا عنه حياء وهيبة. وكبا به فرسه يومئذ في مفره، فسقط إلى الأرض والفرسان تحوم حوله. واعترضهم دونه أبو دينار سليمان بن علي بن أحمد أمير الدواودة، ورديف أخيه يعقوب، كان هاجر مع السلطان من الجزائر، ولم يزل في جملته إلى يومئذ. فدافع عنه حتى ركب، وسار من ورائه ردءا له. وتقبض على حاجبه علال بن محمد، فصار في يد الأمير أبي عنان، وأودعه السجن إلى أن امتن عليه بعد مهلك أبيه. وخلص السلطان إلى جبال هنتاتة، ومعه كبيرهم عبد العزيز بن محمد بن علي، فنزل عليه وأجاره. واجتمع إليه الملأ من هنتاتة ومن انضاف إليهم من المصامدة، وتدامروا وتعاهدوا على الدفاع عنه، وبايعوه على الموت. وجاء أبو عنان على أثره حتى احتل بمراكش، وأنزل عساكره على جبال هنتاتة، ورتب المسالح لحصاره وحربه، وطال عليه ثواؤه. وطلب السلطان من ابنه الإبقاء، وبعث في حاجبه محمد بن أبي عمرو فحضر عنده، وأحسن العذر عن الأمير أبي عنان. والتمس له الرضى منه، فرضي عنه وكتب له بولاية عهده. وأوعز إليه بأن يبعث له مالا وكسى، فسرح الحاجب ابن أبي عمرو إلى إخراجها من المودع بدار ملكهم. واعتل السلطان خلال ذلك، فمرضه أولياؤه
وخاصته. وافتصد لإخراج الدم، ثم باشر الماء بعضوه للطهارة، فورم وهلك لليال قريبة عفا الله عنه، لثلاث وعشرين من ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين. وبعث أولياؤه بالخبر إلى ابنه بمعسكره من ساحة مرأكش، ورشعوه على أعواده إليه، فتلقاه حافياً حاشراً، وقبل أعواده وبكى واسترجع، ورضي عن أوليائه وخاصته وأنزلهم بالمحل الذي رضوه من دولته. ووارى أباه بمراكش، إلى أن نقله إلى مقبرة سلفه بشالة في طريقه إلى فاس. وتلقى أبا دينار بن علي بن أحمد بالقبول والكرامة، وأحله من كنفه محل الرحب والسعة، وأسنى جوائزه، وخلع عليه وحمله. وانصرف من فاس إلى قومه يستحثهم للقاء السلطان أبي عنان بتلمسان، لما كان أجمع على الحركة إليها بعد مهلك أبيه ورعى لعبد العزيز ببن محمد أمير هنتاتة إجارته للسلطان واستماتته دونه، فعقد له على قومه وأحله بالمحل الرفيع من دولته ومجلسه، واستبلغ في تكريمه. والله تعالى أعلم. الخبر عن حركة السلطان أبي عنان إلى تلمسان، وإيقاعه ببني عبد الواد بأنكاد، ومهلك أبي سعيد سلطانهم: لما هلك السلطان أبو الحسن، وانقضى شأن الحصار، وارتحل السلطان أبو عنان إلى فاس، ونقل شلو أبيه إلى مقبرتهم بشالة فدفنه مع من هنالك من سلفه، وأغذ السير إلى فاس، وقد استبد بالأمر، وخلت الدولة عن المنازع، فاحتل بفاس وأجمع أمره على غزو بني عبد الواد لارتجاع ما بأيديهم من الملك الذي سموا لاستخلاصه. ولما كان فاتح سنة ثلاث وخمسين، نادى بالعطاء وأزاح العلل وعسكر بساحة البلد الجديد، واعترض العسكر وارتحل يريد تلمسان. واتصل الخبر بأبي سعيد وأخيه، فجمعوا قومهم ومن إليهم من الأشياع والأحزاب من زناتة والعرب وارتحلوا إلى لقائه. ونزل السلطان بمعسكر وادي ملوثة، وتلوم به أياما لاعتراض الحشد والعرب. ثم رحل على التعبية، حنى إذا احتل ببسيط أنكاد وتراءى الجمعان، انفض سرعان المعسكر ولحقوا بالمغرب. وركب السلطان في التعبية، وخاض بحر القتال، وقد أظلم الجو به. حتى إذا خلص إليهم من غمرة وخالطهم بصفوفهم، ولوا الأدبار، ومنحوهم الأكتاف. واتبع بنو مرين آثارهم، فاستولوا على معسكرهم واستباحوه. واستلحموهم قتلاً وسبيا وصفدوهم أسارى، وغشيهم الليل وهم متسايلون في آثارهم وتقبض على أبي سعيد سلطانهم، فسيق إلى السلطان، وأمر باعتقاله، وأطلق أيدي بني مرين من الغذ على حلل العرب من
المعقل، فاستباحوهم واكتسحوا أموالهم جزاء بما شرهوا إليه من النهب بالمحلة في هيعة ذلك المجال، ثم ارتحل به على تعبية إلى تلمسان، فاحتل بها لربيع من سنته، واستوت في ملكها قدمه. وأحضر أبا سعيد، فقرعه ووبخه، وأراه أعماله حسرة عليه، وأحضر الفقهاء وأرباب الفتيا، فأفتو بحرابته وقتله. وأمضى حكم الله فيه، فذبح بمحبسه لتاسعة من اعتقاله مثلا للآخرين. وخلص أخوه الزعيم أبو ثابت إلى قاصية الشرق، فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله أعلم. الخبر عن شأن أبي ثابت، وإيقاع بني مرين به بوادي شلف، وتقبض الموحل ين عليه ببجاية: لما أوقع السلطان ببني عبد الواد بأنكاد، وتقبض على أبي سعيد سلطانهم، خلص أبو ثابت أخوه في فل منهم. ومر بتلمسان، فاحتمل حرمهم ومخلفهم. وأجفل إلى الشرق، فاحتل بشلف من بلاد مغراوة. وعسكر هناك، واجتمع إليه أوشاب من زنانة. وحدث نفسه باللقاء، ووعدها بالصبر والثبات. وسرح السلطان وزيره فارس بن ميمون بن ودرار في عساكر بني مرين والجند، فأغذ السير إليهم، وارتحل من تلمسان على أثره. ولما تراءى الجمعان صدق الفريقان المجاولة، وخاضوا النهر بالقراع. ثم صدق بنو مرين الحملة وأجازوا النهر إليهم، فانكشفوا واتبعوا آثارهم، فاستلحموهم واستباحوا معسكرهم، واستاقوا أموالهم ودوابهم ونساءهم، وارتحلوا في أتباعهم. وكتب الوزير بالفتح إلى السلطان. ومر أبو ثابت بالجزائر طارقا، وأجاز إلى قاصية الشرق، فاعترضتهم قبائل زواوة، وأرجلوهم عن خيلهم، وانتهبوا أسلابهم، ومروا حفاة عراة. واحتل الوزير بالجزائر، فاستولى عليها. واقتضى بيعة السلطان منهم، فأتوها. واحتل السلطان بالمدية، وأوعز إلى أمير بجاية المولى أبي عبد الله محمد حافد مولانا الأمير أبي يحبى مع وليه ونزمار، وخالصته يعقوب بن علي، بالقبض على أبي ثابت وأشياعه، فأذكوا العيون عليهم وقعدوا لهم بالمرصاد. وعثر بعض الجشم على أبي ثابت وأبي زيان ابن أخيه أبي سعيد، ووزيرهم يحيى بن داود، فرفعوهم إلى الأمير ببجاية فاعتقلهم. وارتحل إلى لقاء السلطان بالمدية، وبعث بهم مع مقدمته، وجاء على أثرهم ونزل على السلطان بمعسكره من المدية خير نزل، بعد أن تلقاه بالمبرة والاحتفاء، وركب إلى لقائه. ونزل عن فرسه للسلطان، فنزل السلطان برا به وأودع أبا ثابت السجن. وتوافت
إليه وفود الدواودة بمكانه من المدية، فأكرم وفدهم وأسنى أعطياتهم من الخلع والحملان والذهب، وانقلبوا خير منقلب. ووافته بمكانه ذلك بيعة ابن مزني عامل الزاب ووفدهم، فأكرمهم ووصلهم. وفرغ السلطان من شأن المغرب الأوسط، وبث العمال في نواحيه، وثقف أطرافه، وسما إلى ملك إفريقية، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن تملك السلطان أبي عنان بجاية، وانتقال صاحبها إلي المغرب: لما وصل المولى أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكرياء يحيى صاحب بجاية إلى السلطان بمكانه من المدية، في شعبان من سنته، وأقبل السلطان عليه، وبوأه كنف ترحيبه وكرامته، خلص الأمير به نجيا وشكى إليه ما تلقاه من أهل عمله من الامتناع من الجباية والسعي في الفساد، وما يتبع ذلك من زبون الحامية واستبداد البطانة. وكان السلطان متشوقا لمثلها، فأشار عليه بالنزول عنها يعوضه عنها ما شاء من بلاده، فسارع إلى قبول إشارته ودس إليه مع حاجبه محمد بن أبي عمرو أن يستبد بذلك على رؤوس الملأ ففعل ونقم عليه بطانته ذلك، وفر بعضهم من معسكره، فلحق بإفريقية، ومنهم علي بن القائد محمد بن الحكم. وأمره السلطان أن يكتب بخطه إلى عامله على البلد بالنزول عنها، وتمكين عمال السلطان منها ففعل. وعقد السلطان عليها لعمر بن علي الوطاسي، من أولاد الوزير الذين ذكرنا خبر انتزائهم بتازوطا من قبل. ولما قضى السلطان حاجاته من المغرب الأوسط، واستولى على بجاية، انكفأ راجعا إلى تلمسان لشهود الفطر بها، ودخلها في يوم مشهود. وحمل أبا ثابت ووزيره يحيى بن داود على جملين يخطران بهما في ذلك المحفل بين السماطين، فكانا عبرة لمن حضر. وسيقا من الغذ إلى مصارعهما، فقتلا قعصا بالرماح. وأنزل السلطان المولى الأمير أبا عبد الله صاحب بجاية خير نزل، وفرض له في مجلسه تكرمة به، إلى أن كان من توثب صنهاجة وأهل بجايه بعمر بن علي، ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى. الخبر عن ثورة أهل بجاية، ونهوض الحاجب إليها في العساكر: كان صنهاجة هؤلاء من أعقاب تكلاتة ملوك القلعة وبجاية، نزل أولوهم بوادي بجاية بين القبائل من برابرتها الكتاميين في مواطن بني ورياكل مذ أول دولة الموحدين، وأقطعوهم على العسكر معهم. ولما ضعفت جنود الموحدين وقل عددهم انفردوا
بالعسكرة مع السلطان، وصار لهم بذلك اعتزاز وزبون على الدولة. وكان المولى الأمير أبو عبد الله هذا قد أصاب منهم لأول أمره، وقتل محمد بن تميم من أكابر مشيختهم. وكان حاجبه فارح مولى ابن سيد الناس عريفا عليهم من عهد أبيه الأمير أبي زكرياء، وكان مستبدا على المولى أبي عبد الله. فلما نزل عن أمارته للسلطان أبي عنان سخط ذلك ونقمه عليه، وأسرها في نفسه ولم يبدها له. وسرحه أميره مع عمر بن علي الوطاسي لنقل حرمه ومتاعه وماعون داره، فوصل إليها. وشكى إليه الصنهاجيون مغبة أمرهم في ثقل الوطأة وسوء الملكة، فأشكاهم ودعاهم إلى الثورة ببني مرين، والقيام بدعوة الموحدين للمولى أبي زيد صاحب قسنطينة، فأجابوه وتواعدوا للفتك بعمر بن علي بمجلسه من القصبة. وتولى كبرها منصور بن الحاج من مشيختهم وباكره بداره على عادة الأمراء ولما أكب عليه للثم أطرافه، طعنه بخنجره، وفر إلى بيته جريحا، فولجوا عليه واستلحموه. وثارت الغوغاء من أهل البلد أول ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين. وركب الحاجب فارح، وهتف الهاتف بدعوة المولى أبي زيد، وطيروا بالخبر إليه واستدعوه، فتثاقل عن إجابتهم. وبعث مولى من المعلوجي للقيام بأمره. وبلغ الخبر إلى السلطان، فاتهم المولى أبا عبد الله بمداخلة حاجبه، فاعتقله بداره. واعتقل وفدا من ملأ بجاية كان ببابه وثابت آراء المشيخة من أهل بجاية، وتمشت رجالاتهم وأولوا الرأي والشورى منهم في الفتك بصنهاجة والعلج، وداخلهم القائد هلال ابن سيد الناس من المعلوجي، وعلي بن محمد بن الميت حاجب الأمير أبي زكرياء يحيى، ومحمد بن الحاجب أبي عبد الله بن سيد الناس، وتواعدوا الفتك بفارح يوم وصول النائب من قبل صاحب قسنطينة، فجهروا بالنكر على الحاحب، ودعوه إلى المسجد ليؤامروه. ونذر أمرهم، فاعتمدوا دار شيخ الفتيا أحمد بن إدريس واقتحموا عليه الدار، وباشره مولاه محمد بن سيد الناس، فطعنه وأشواه، ورمى بشلوه في سقف الدار، وقطع رأسه وبعث به إلى السلطان. وفر منصور بن الحاج وقومه صنهاجة من البلد، وكان بالمرسى أحمد بن سعيد القرموني من حاشية السلطان، جاء في السفين لبعض حاجاته من تونس، ووافى مرسى بجاية يومئذ، فأنزلوه واعصوصبوا عليه، وتنادوا بدعوة السلطان وطاعته. وأشار عليهم أحمد القرموني أن يبعثوا إلى قائد تدلس من مشيخة بني مرين يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن الونكاسي، فاستدعوه ووصل إليهم في لمة من العسكر، وبعثوا بأخبارهم
إلى السلطان وانتظروا. فلما بلغ الخبر إلى السلطان، أمر حاجبه محمد بن أبي عمرو بالنهوض إلى بجاية، فعسكر بساحة تلمسان. وانتقى له السلطان من قومه وجنوده خمسة آلاف فارس، أزاح عللهم واستوفى اعطياتهم. وسرحه، فنهض من تلمسان بعد قضاء منسك الأضحى، وأغذ السير إلى بجاية. ولما نزل ببني حسن، جمع له صنهاجة، ثم خاموا عن اللقاء، ولحقوا بقسنطينة، وأجازوا منها إلى تونس. واختل الحاجب بمعسكرهم من خميس بتكلات. وخرج إليه المشيخة والوزراء. فتقبض على القائد هلال وأشخصه إلى السلطان ودخل البلد في التعبية، واحتل بقصبتها لمحرم فاتح أربع وخمسين. وسكن الناس، وخلع على المشيخة، واختص علي بن الميت ومحمد بن سيد الناس، واستظهر بهم على أمره. وتقبض على جماعة من الغوغاء نقباء علي من تحت أيديهم ممن يتهم بالمداخلة في التوثب يناهزون مايتين، واعتقلهم وأركبهم السفين إلى المغرب، فودع الناس وسكنوا. وتوافت وفود الدواودة من كل جهة، وأجزل صلاتهم، واقتضى على الطاعة رهنهم. ووصل عامل الزاب يوسف وسد فروجه، وارتحل إلى تلمسان أول جمادى لشهريين من مدخله. وأغذ السير بمن معه من العرب والوفود، وكنت يومئذ في جملتهم، وقد خلع علي وحملني وأجزل صلتي. وضرب لي الفساطيط، فوفدت في ركابه. وقدم تلمسان لأول جمادى الاخرة فجلس السلطان للوفد، واعترض ما جنب له من الجياد والهدية، وكان يوما مشهودا. ثم أسنى السلطان جوائز الوفد، واختص يوسف بن مزني ويعقوب بن علي بمزيد من البر والصلة، وخصوصيات من الكرامة، وائتمرهم في شأن إفريقية ومنازلة قسنطينة. ورجع معهم الحاجب ابن أبي عمرو على كره منه لما نذكره من أخباره، وانصرفوا إلى مواطنهم لأول شعبان من سنة أربع وخمسين. وانقلبت معه بعد إسناء الجائزة والخلع والحملان من السلطان، والوعد الجميل بتجديد ما لي ولقومي ببلدنا من الأقطاع والله أعلم. الخبر عن الحاجب ابن أبي عمرو، وما عقد له السلطان علي ثغر بجاية، وعلي منازلة قسنطينة، ونهوضه لذلك: سلف هذا الرجل من أهل المهدئة من أجناد العرب من بني تميم بإفريقية، وانتقل جذه علي إلى تونس باستدعاء السلطان المستنصر، وكان فقيها عارفا بالفتيا والأحكام، فقلده القضاء بالحضرة. واستعمله على كتابة علامته في الرسائل والأوامر الكبرى
والصغرى، فاضطلع بذلك، وهلك على حاله من التجلة والمنصب وقلد ابنه عبد الله من بعده العلامتين أيام أبي حفص عمر ابن الأمير أبي زكرياء، لما كان لأبيه، فاضطلع بذلك وكان أخوه أحمد بن علي مسمتاً وقورا منتحلا للعلم. ونشأ ابنه محمد، وقرأ بتونس، وتفقه على مشيختها. ولما التاثت أمورهم وتلاشت أحوالهم، خرج محمد بن أحمد بن علي متبغياً للرزق والمعاش، فطوحت به الطوائح إلى بلد القل. وكان منتحلا للطلب والكتابة، فاستعمل شاهدا بمرسى القل أيام رياسة الحاجب ابن غمر، وكانت له صحبة مع حسن بن محمد السبتي المنتحل نسب الشرف. وكانا رفيقين في مطارح اغترابهما، فسعى له في مرافقته في الشهادة فأسعف، واتصلا بابن غمر فحمد مذاهبهما. ولما نزع الشريف عبد الوهاب زعيم تدلس إلى طاعة الموحدين، أيام التياث أبي حفو، بخروج محمد بن يوسف عليه، واعتلال الدولة، ودخل في أمر ابن غمر وجملته، فبعث محمد بن أبي عمرو إلى تدلس، واستعمل حسن الشريف في القضاء ومحمد بن عمرو في شهادة الديوان. فلما برئت الدولة من مرضها، واستفحل أمر أبي حمو، وتغلب على تدلس، وجاء رئيس الفتيا ابن الإمام لاقتضاء طاعتها وإنفاد أهلها على السلطان، كانوا في الوفد. واستقروا بتلمسان من يومئذ، واستعملا معا في خطة القضاء متعاقبين أيام بني عبد الواد وأيام السلطان أبي الحسن. وتعصب على ابن أبي عمرو أيام قضائه جماعة من مشيخة البلد، وسعوا به إلى السلطان أبي الحسن. وتظلموا فأشكاهم على علم من براءته، واختصه بتأديب ولده فارس هذا وتعليمه، فأفرغ وسعه في ذلك. وربي ولده محمد هذا الحاجب مع السلطان أبي عنان مرقاً جليلاً، وألقى عليه محبته، حتى إذا أخلص له الملك، رفع رتبة محمد بن أبي عمرو هذا، ورقاه من منزلة إلى أخرى، حتى إذا أوفى به على سائر المراتب، وجعل إليه العلامة والقيادة والحجابة والسفارة وديوان الجند والحساب والقهرمة وسائر ألقاب دولته وخصوصيات داره، فانصرفت إليه الوجوه، ووقعت ببابه أشراف من الأعياص والقبائل والشرفاء والعلماء. وسرب إليه العمال أموال الجباية تزلفا، وطال أمره واستيلاؤه على السلطان ونفس عليه رجال الدولة ووزراؤها ما أتاه الله من الحظ، حتى إذا خلا لهم وجه السلطان منه عند نهوضه إلى بجاية، حامت أعراض السعاية على مكانه فقرطست وألقى السلطان أذنه لاستماعها. فلما رجع ص بجاية، وكانت له الدالة على السلطان، وجد عليه في قبول الألاقي. ولقيه مغاضبا فتنكر له السلطان، ثم تجنى فطلب الغيبة عن الدولة، وأن يعقد له على بجاية متوهما أن
السلطان ضنين به فبادر السلطان إلى إسعافه وبدا له ما يحتسب من الإعراض عنه. ورجع إلى الرغبة في الإقالة فلم يسعف. وعقد له على حرب قسنطينة، وحكمه في المال والجيش، وارتحل في شعبان من سنة أربع وخمسين واحتل بجاية آخرها وأشتى بها. ونصب الموحدون تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المعتقل عندهم من لدن عهد المولى الفضل واعتقاله إياه، فنصبوه للأمر لتفريق كلمة بني مرين، وأجمعوا له الالة والفساطيط، وقام بأمره ميمون بن علي لمنافسة مع أخيه يعقوب. وسمع بخبره يعقوب، فأغد السير إليه بحلله من بلاد الزاب، وفرق جمعهم، وردهم على أعقابهم، وأحجزهم بالبلد ولما انصرم الشتاء، وقضى منسك الأضحى، عسكر بساحة البلد، واعترض العساكر وأزاح عللهم، وفرق أعطياتهم، وارتحل إلى منازلة قسنطينة. واجتمع إليه الدواودة بحللهم، وجمع المولى أبو زيد صاحب قسنطينة من كان على دعوته من أحياء بونة، وميمون بن علي بن أحمد وشيعته من الدواودة، وعقد عليهم لحاجبه نبيل، وسرحه للقاء ابن أبي عمرو وعساكره، فأوقع بهم الحاجب لجمادى من سنة خمس، واكتسح أموالهم. ونازل قسنطينة حتى تفادوا منه بتمكينه من تاشفين ابن السلطان أبي الحسن المنصوب للأمر، فاقتادوه إليه، وأشخصه إلى أخيه السلطان. وأوفد المولى أبو زيد ابنه على السلطان أبي عنان، فتقبل وفادته وشكر مراجعته، وانكفأ الحاجب ابن أبي عمرو إلى بجاية، وأقام بها إلى أن هلك في المحرم فاتح سنة ست وستين، فذهب حميد السيرة عند أهل البلد، وتفجعوا لمهلكه. وبعث السلطان دوابه لارتحال عياله وولده، ونقل شلوه إلى مقبرة أبيه بتلمسان. وسرح ابنه أبا زيان في عسكر بني مرين لمواراته بها. وعقد على بجاية لعبد الله بن علي بن سعيد وزيره، فنهض إليها في شهر ربيع من سنة ست وخمسين واستقر بها. وتقبل ما حمده الناس من مذاهب الحاجب وسيره فيها على ما نذكره. وجهز العساكر إلى حصار قسنطينة، إلى أن كان من فتحها ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن خروج أبي الفضل ابن السلطان بجبل السكسيوي، ومكر عامل درعة به ومالكه: كان السلطان أبو عنان بعد مهلك أبيه، لحق به في جملته أخواه أبو الفضل محمد
وأبو سالم إبراهيم، وتدبر في ترشيحهما وحذر عليهما مغبته فأشخصهما إلى الأندلس واستقرا بها في إيالة أبي الحجاج ابن السلطان أبي الوليد ابن الرئيس أبي سعيد ثم ندم على ما أتاه من ذلك، فلما استولى على تلمسان والمغرب الأوسط، ورأى أن قد استفحل أمره واعتز سلطانه، أوعز إلى أبي الحجاج أن يشخصهما إليه ليكون مقامهما لديه أحوط على الكلمة من أن يعتمد على تفريقهما سماسرة الفتن. وخشي أبو الحجاج عليهما غائلته، فأبى من إسلامهما إليه، وأجاب الرسل بأنه لا يخفر ذمته وجوار المسلمين المجاهدين، فأحفظ السلطان كلمته. وأوعز إلى حاجبه محمد بن أبي عمرو بأن يخاطبه في ذلك بالتوبيخ واللائمة، فكتب له كتابا أبدع فيه، وقفني عليه الحاجب ببجاية أيام كوني معه، فقضيت العب من فصوله وأغراضه. ولما قرأه أبو الحجاج دس إلى كبيرهما أبي الفضل باللحاق بالطاغية، وكانت بينهما ولاية ومخالصة منذ مهلك أبيه ألهنشة على جبل الفتح سنة إحدى وخمسين، فنزع إليه أبو الفضل وأجاره، وجهز له أسطولا إلى مراسي المغرب. وأنزله بساحل السوس، فلحق بالسكسيوي عبدالله ودعا لنفسه. وبلغ الخبر إلى السلطان بين يدي مقدم حاجبه ابن أبي عمرو من فتح بجاية سنة أربع وخمسين، فجهز عساكره إلى المغرب. وعقد على حرب السكسيوي لوزيره فارس بن ميمون بن ودرار وسرحه إليه، فنهض من تلمسان لربيع من سنة أربع وخمسين. وأغذ السير إلى السكسيوي ونزل بمخنقه وأحاط به، واختط مدينة لمعسكره وتجهيز كتائبه بسفح جبلة، وسماها القاهرة. واشتد الحصار على السكسيوي، وراسل الوزير في الرجوع إلى الطاعة المعروفة، وأن ينتبذ العهد إلى أبي الفضل، ففارقه وتنقل في جبال المصامدة. ودخل الوزير فارس إلى أرض السوس، فدوخ أقطاره ومهد أنحاءه، وسارت الألوية والجيوش في جهاته. ورتب المسالح في ثغوره وأمصاره مثل إيفري وفوريان وتارودانت، وثقف أطرافه وسد فروجه. وسار أبو الفضل في جبال المصامدة إلى أن انتهى إلى صناكة، وألقى بنفسه على ابن حميدي منهم مما يلي بلاد درعة، فأجاره وقام بأمره. ونازله عامل درعة يومئذ عبدالله بن مسلم الزردالي من مشيخة دولة بني عبد الواد، كان اصطنعه السلطان أبو الحسن منذ تغلبه عليهم وفتحه لتلمسان سنة سبع وثلاثين، فاستقر في دولتهم ومن جملة صنائعهم، فأخذ بمخنق ابن حميدي وأرهبه بوصول العساكر
والوزراء إليه، وداخله في التقبض على أبي الفضل وأن يبذل له في ذلك ما أحب من المال، فأجاب ولاطف عبد الله بن مسلم الأمير أبا الفضل ووعده من نفسه الدخول في امره. وطلب لقاه، فركب إليه أبو الفضل. ولما استمكن منه عبدالله بن مسلم تقبض عليه، ودفع لابن حميدي ما اشترط له من المال، وأشخصه معتقلا إلى أخيه السلطان أبي عنان سنة خمس وخمسين، فأودعه السجن، وكتب بالفتح إلى القاصية. ثم قتله لليال من اعتقاله خنقا بمحبسه. وانقضى أمر الخوارج، وتمهدت الدولة، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتقاض عيسي بن الحسن بجبل الفتح ومهلكه: كان عيسى بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق هذا من مشيخة بني مرين، وكان صاحب شوراهم لعهده. وقد كنا قصصنا من قبل أخبار أبيه الحسن عند ذكر دولة أبي الربيع. وكان السلطان أبو الحسن قد عقد له على ثغور عمله بالأندلس، وأنزله بجبل الفتح عندما أكمل بناه، وجعل إليه النظر في مسالح الثغور وتفريق العطاء على مسالحها، فطال عهد ولايته ورسخ فيها قدمه. وكان السلطان أبو الحسن يبعث عنه في الشورى متى عنت. وحضره عند سفره إلى إفريقية، وأشار عليه بالإقصار عنها، وأراه أن قبائل بني مرين لا تفي أعدادهم بمسالح الثغور إذا رتبت شرقا وغربا وعدوة البحر وأن إفريقية نحتاج من ذلك إلى أوفر الأعداد وأشد الشوكة، لتغلب العرب عليها وبعد عهدهم بالانقياد، فأعرض السلطان عن نصيحته لما كان شره إلى تملكها، وصرفه إلى مكان عمله بالثغور الأندلسية. ولما كانت نكبة القيروان وانتزى الأبناء بفاس وتلمسان، أجاز البحر لحسم الداء ونزل بغساسة. ثم انتقل إلى وطنه بتازى، وجمع قومه بني عسكر. وألفى السلطان أبا عنان قد هزم عساكر ابن أخيه وأخذ بمخنقه، فأجلب عليه وبيته بمعسكر من ساحة البلد الجديد. وعقد السلطان أبو عنان على حربه لصنيعه سعيد بن موسى العجيسي، وأنزله بثغر بلاد بني عسكر على واد بوحلو. وتواقفا كذلك أياما حتى نغلب السلطان أبو عنان على البلد الجديد. ثم راسل عيسى بن الحسن في الرجوع إلى طاعته. وأبطأ عنه صريخ السلطان أبي الحسن بإفريقية، فراجعه واشترط عليه، فتقبل وسار إليه، فتلقاه السلطان وامتلأ سرورا بمقدمه. وأنزله قصوره، وجعل الشورى إليه في مجلسه، واستمرت على ذلك حاله.
ولما تمكنت حال ابن أبي عمرو بعد مهلك السلطان أبي الحسن، وانفرد بخلة السلطان ومناجاته، وحجب عن الخاصة والبطانة، أحفظه ذلك ولم يبدها. واستأذن السلطان في الحج، فأذن له وقضى فرضه، ورجع إلى محله من بساط السلطان سنة ست وخمسين. ولقي ابن أبي عمرو ببجاية، وتطارح عليه في أن يصلح حاله عند سلطانه، فوعده في ذلك. ولما وفد على السلطان وجده قد استبد في الشورى، وتنكر للخاصة والجلساء، فاستأذنه في الرجوع إلى مجلسه من الثغر لإقامة رسم الجهاد فأذن له. وأجاز البحر إلى جبل الفتح من سنته، وكان صاحب ديوان العطاء بالجبل يحيى الفرقاجي، وكان مستظهرا على العمال، وكان ابنه أبو يحيى قد برم بمكانه. فلما وصل عيسى إلى الجبل اتبعه السلطان باعطيات المسالح مع مسعود بن كندوز من صنائع دولته، فسرب الفرقاجي إلى الضرب على يده شأنه مع ابنه أيام مغيبه وأنف عيسى من ذلك، فتقبض عليه وأودعه المطبق، ورد ابن كندوز على عقبيه وأركبه السفين من ليلته إلى سبتة، وجاهر بالخلعان. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي عنان، فقلق لذلك وقام في ركائبه وقعد، وأوعز بتجهيز الأساطيل، وظن أنه تدبير من الطاغية وابن الأحمر. وبعث أحمد بن الخطيب قائد البحر بطنجة عينا على شأنهم فوصل إلى مرسى الجبل. وكان عيسى بن الحسن لما جاهر بالخلعان، تمشت رجالات الثغر وعرفاء الرجل من غمارة الغزاة الموطنين بالجبل، وتحدثوا في شأنه، وامتنعوا من الخروج على السلطان وتوامروا في إسلامه برمته. وخلا به سليمان بن داود بن أعراب العسكري، كان من خواصه وأهل شوراه. وكان عيسى قد مكن قدمه عند السلطان واستعمله على رندة. فلما جاهر عيسى بالخلعان، وركب له ظهر الغدر، خالفه سليمان هذا إلى طاعة السلطان، وأنفذ كتبه وطاعته. واشتبه عليه الأمر، فندم إذ لم يكن بنى أمره على أساس من الرأي. فلما احتل أسطول أحمد بن الخطيب بمرسى الجبل، خرج إليه وناشده الله والعهد أن يبلغ السلطان طاعته، والبراءة مما صنع أهل الجبل، ونسبها إليهم. فعند ذلك خشي غمارة على أنفسهم، فثاروا به. ولجأ إلى الحصن، فاقتحموه عليه، وشدوه وابنه وثاقا، وألقوه في أسطول ابن الخطيب. وأنزله بسبتة وطير إلى السلطان بالخبر، فخلع عليه وأمر خاصته فخلعوا عليه. وبعث عمر ابن وزيره عبد الله بن علي وعمر بن العجوز وقائد جند النصارى، فأحضروهما بدار السلطان يوم منى من سنة ست. وجلس لهما السلطان،
ووقفا بين يديه وتنصلا واعتذرا فلم يقبل منهما وأودعهما السجن وشد وثاقهما، حتى قضى منسك الأضحى. ولما كان خاتم سنته أمر بهما، فجنبا إلى مصارعهما: وقتل عيسى قعصا بالرماح، وقطع ابنه أبو يحيى من خلاف، وأبى من مداواة قطعه، فلم يزل يتشحط في دمه إلى أن هلك لثانية قطعه، وأصبحا مثلاً في الآخرين. وعقد على جبل الفتح وسائر ثغور الأندلس لسليمان بن داود إلى أن كان من الأمر ما نذكره إن شاء الله نعالى. الخبر عن نهوض السلطان إلى قسنطينة وفتحها ثم فتح تونس عقبها: لما هلك الحاجب محمد بن أبي عمرو، عقد السلطان على الثغور ببجاية وما وراءها من بلاد إفريقية لوزيره عبدالله بن علي بن سعيد، وسرحه إليها وأطلق يده في الجباية والعطاء. وكانت جبال ضواحي قسنطينة قد تملكها السلطان بما كانت الدواودة متغلبة عليها. وكان عامة أهل ذلك الوطن قبائل سدويكش، وعقد السلطان عليهم لموسى بن إبراهيم بن عيسى، وأنزله بتاوريرت آخر عمل بجاية في أقاربه وولده وصنائعه. ولما نزل ابن أبي عمرو بجاية، وأخذ بمخنق قسنطينة، ثم ارتحل عنها على ما عقد من السلم مع المولى الأمير أبي زيد، أنزل موسى بن إبراهيم بميلة، فاستقر بها. ولما ولي الوزير عبد الله بن علي أمر إفريقية، أوعز إليه السلطان بمنازلة قسنطينة، فنازلها سنة سبع وأخذ بمخنقها. ونصب المنجنيق عليها، واشتد الحصار بأهلها، وكادوا أن يلقوا باليد، لولا ما بلغ المعسكر من الإرجاف بمهلك السلطان، فأفرجوا عنها. ولحق المولى أبو زيد ببونة. وأسلم البلد إلى أخيه مولانا أمير المؤمنين أبي العباس أيده الله نعالى، عندما وصل إليه من إفريقية، كان بها مع العرب طالبا ملكهم بتونس، ومجلباً بهم على ابن تافراكين منذ نازلوا تونس سنة ثلاث وخمسين كما مر. فلما رجع الآن إلى قسنطينة مع خالد بن حمزة، داخل خالد المولى أبا زيد في خروجه إلى حصار تونس، وإقامة مولانا أبي العباس بقسنطينة، فأجاب لذلك وخرج معه. ودخل مولانا أبو العباس إلى قسنطينة، فدعا لنفسه. وضبط قسنطينة، وكان مدلاً ببأسه وإقدامه. وداخله بعض المنحرفين عن بني مرين من أولاد يوسف رؤساء سدويكش
في تبييت موسى بن إبراهيم بمعسكره من ميلة، فبيتوه وانتهبوا معسكره وقتلوا أولاده
وخلصوا إلى تاوريرت، ثم إلى بجاية، ولحق بمولانا السلطان مفلولا. ونكر السلطان على وزيره عبد الله بن علي ما وقع بموسى بن إبراهيم، وأنه قصر في إمداده، فسرح شعيب بن ميمون وتقبض عليه، وأشخصه إلى السلطان معتقلا، وعقد على بجاية مكانه ليحيى بن ميمون بن أمصمود من صنائع دولته. وفي خلال ذلك راسل المولى أبو زيد الحاجب، أبا عبد الله بن تافراكين المتغلب على عمه إبراهيم، في النزول لهم عن بونة، والقدوم عليهم بتونس، فتقبلوه وأحلوه محل ولي العهد، واستعملوا على بونة من صنائعهم. ولما بلغ خبر موسى بن إبراهيم إلى السلطان أيام التشريق من سنة سبع وخمسين، اعتزم على الحركة إلى إفريقية. واضطرب معسكره بساحة البلد الجديد. وبعث في الحشد إلى مراكش. وأوعز إلى بني مرين، فأخذ الاهبة للسفر، وجلس للعطاء والاعتراض من لدن وصول الخبر إليه إلى شهر ربيع من سنة ثمان. ثم ارتحل من فاس، وسرح في مقدمته وزيره فارس بن ميمون في العساكر وسار في الساقة على التعبية، إلى أن احتل بجاية وتلوم لإزاحة العلل. ونازل الوزير قسنطينة، ثم جاء السلطان على أثره. ولما أطلت راياته، وماجت الأرض بعساكره، ذعر أهل البلد وألقوا بأيديهم إلى ا"لإذعان، وانفضوا من حول سلطانهم مهطعين إلى السلطان، وتحيز صاحب البلد في خاصته إلى القصبة. ووصل أخوه المولى الفضل يطلب الأمان، فبذله السلطان لهم وخرجوا وأنزلهم لمعسكره أياما. ثم بعث بالسلطان في الأسطول إلى سبتة، فاعتقله بها إلى أن كان من أمره ما نذكره بعد. وعقد على قسنطينة لمنصور بن الحاج مخلوف الياباني من مشيخة بني مرين وأهل الشورى منهم، وأنزله بالقصبة منها في شعبان من سنته. ووصل إليه بمعسكره من ساحة قسطنينة بيعة يحيى بن يملول صاحب توزر، وبيعة علي بن الخلف صاحب نفطة. ووفد ابن مكي فجدد طاعته. ووصل إليه أولاد مهلهل أمراء الكعوب وأقتال بني أبي الليل يستحثون لملك تونس، فسرح معهم العساكر، وعقد عليها ليحيى بن رحو بن تاشفين، وبعث أسطوله في البحر مددا لهم، وعقد عليه للرئيس محمد بن يوسف الأبكم، وساروا إلى تونس وأخرج الحاجب أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيى مع أولاد أبي الليل، وجهز له العساكر لما أحس بقدوم عساكر السلطان. ووصل الأسطول إلى مرسى تونس، فقاتلهم يوما أبو بعض يوم وركب الليل
إلى المهدية، فتحصن بها. ودخل أولياء السلطان إلى تونس في رمضان من سنة ثمان، وأقاموا بها دعوته. واحتل يحيى بن رحو بالقصبة، وأنفذ الأوامر، وكتبوا إلى السلطان بالفتح. ونظر السلطان بعد ذلك في أحوال الوطن، وقبض أيدي العرب من رياح عن الأتاوة التي يسمونها الخفارة فارتابوا، وطالبهم بالرهن فأجمعوا على الخلاف. وأرهف لهم حده، وتبين يعقوب بن علي أميرهم مكره، فخرج معهم ولحقوا جميعا بالزاب، وارتحل في أثرهم. وسار يوسف بن مزني عامل الزاب ينفض الطريق أمامه حتى نزل بسكرة. ثم ارتحل إلى طولقة، فتقبض على مقدمها عبد الرحمن بن أحمد بإشارة ابن مزني. وخرب حصون يعقوب بن علي، وأجفلوا إلى القفر أمامه، ورجع عنهم. وحمل له ابن مزني جباية الزاب، بعد أن وعد عامة معسكره بالقرى من الحنطة والأدم واللحمان والعلوفة لثلاث ليال نفذت في ذلك وكافأه السلطان عن صنيعه، فخلع عليه وعلى ولده وأسنى جوائزهم ورجع إلى قسنطينة، وأعزم على الرحلة إلى تونس. وضاق ذرع العساكر بشأن النفقات والأبعاد في المذاهب، وارتكاب الخطر في دخول إفريقية، فتمشت رجالاتهم في الانفضاض عن السلطان وداخلوا الوزير فارس بن ميمون، فوافقهم عليه وأذن المشيخة والنقباء لمن تحت أيديهم من القبائل في اللحاق بالمغرب حتى تفردوا. ونمي الخبر إلى السلطان أنهم توامروا في قتله. ونصب إدريس بن عثمان بن أبي العلاء للأمر، فأسرها بنفسه ولم يبدها لهم. ورأى قلة العساكر، وعلم بانفضاضهم، فكر راجعا إلى المغرب بعد أن ارتحل عن قسنطينة مرحلتين إلى المشرق وأغذ السير إلى فاس، واحتل بها غرة ذي الحجة من سنته. وتقبض يوم دخوله على وزيره فارس بن ميمون، اتهمه في مداخلة بني مرين في شأنه، وقتله رابع أيام التشريق قعصا بالرماح. وتقبض على مشيخة بني مرين فاستلحمهم وأودع منهم السجن. وبلغ إلى الجهات خبر رجوعه من قسنطينة إلى المغرب، فارتحل أبو محمد بن تافراكين من المهدية إلى تونس. ولما أطل عليها ثار شيعته بالبلد على من كان بها من عساكر السلطان وخلصوا إلى السفين، فنجوا إلى المغرب. وجاء على أثرهم يحيى بن رحو بمن معه من العساكر كان مع أولاد مهلهل بناحية الجريد لاقتضاء جبايتهم. واجتمعوا بباب السلطان، وأرجأ حركته إلى اليوم القابل، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن وزارة سليمان بن داود، ونهوضه بالعساكر إلى إفريقية: لما رجع السلطان من إفريقية ولم يستتم فتحها، بقي في نفسه منها شيء. وخشي على ضواحي قسنطينة من يعقوب بن علي ومن معه من الدواودة المخالفين، فأهمه شأنهم، واستدعى سليمان بن داود من مكان ولايته بثغور الأندلس، وعقد له على وزارته. وسرحه في العساكر إلى إفريقية، فارتحل إليها لربيع من سنة تسع وخمسين. وكان يعقوب بن علي لما كشف عن وجهه في الخلاف، أقام السلطان مكانه أخاه ميمون بن علي منازعه، وقدمه على أولاد محمد من الدواودة، وأحله بمكانه من رياسة البدو والضواحي. ونزع إليه عن أخيه يعقوب الكثر من قومه، وتمسك بطاعة السلطان طوائف من أولاد سباع بن يحيى، وكبيرهم يومئذ عثمان بن يوسف بن سليمان، فانحاشوا جميعا إلى الوزير ونزلوا على معسكره بحللهم. وارتحل السلطان في أثره حتى احتل بتلمسان، فأقام بها لمشارفة أحواله منها واحتل الوزير سليمان بوطن قسنطينة. وأوعز السلطان إلى عامل الزاب يوسف بن مزني بأن يكون يده معه، وأن يؤامره في أحوال الدواودة لرسوخه في معرفتها فارتحل إليه من بسكرة، ونازلوا جبل أوراس واقتضوا جبايته ومغارمه. وشردوا المخالفين من الدواودة عن العيث في الوطن، فتم غرضهم من ذلك. وانتهى الوزير وعساكر السلطان إلى أول أوطان إفريقية من آخر مجالات رياح، وانكفأ راجعا إلى المغرب. ووافى السلطان بتلمسان ووصلت معه وفود العرب الذين أبلوا في الخدمة، فوصلهم السلطان وخلع عليهم، وحملهم وفرض لهم العطاء بالزاب وكتب لهم به، وانقلبوا إلى أهلهم. ووفد على أثرهم أحمد بن يوسف بن مزني، أوفده أبوه بهديته إلى السلطان من الخيل والرقيق والدرق فتقبلها السلطان وأكرم وفادته وأنزله. واستصحبه إلى فاس ليريه أحوال كرامته، ويستبلغ في الاحتفاء به. واحتل بدار ملكه منتصف ذي القعدة من سنة تسع وخمسين. والله أعلم. الخبر عن مهلك السلطان أبي عنان، ونصب السعيد للأمر، باستبداد الوزير الحسن بن عمر في ذلك: لما وصل السلطان إلى دار ملكه بفاس، احتل بها بين يدي العيد الأكبر حتى إذا قضى الصلاة من يوم الأضحى أدركه المرض، وأعجله طائف الوجع عن الجلوس يوم
العيد على العادة، فدخل إلى قصره ولزم فراشه، واشتد به، وأطاف به النساء يمرضنه. وكان ابنه أبو زيان ولي عهده، وكان وزيره موسى بن عيسى العقولي من صنائع دولتهم وأبناء وزرائهم، قد عقد السلطان له على وزارته واستوصاه به، فتعجل الأمر ودخل رؤوس بني مرين في الانحياش إلى أميرهم والفتك بالوزير الحسن بن عمر. وداخله في ذلك عمر بن ميمون لعداوة بينهما وبين الوزير فخشيهم الحسن بن عمر على نفسه. وفاوض عليه أهل المجلس بذات صدره، وكانت نفرتهم عن ولي العهد مستحكمة لما بلوا من سوء دخلته، وشر ملكته، فاتفقوا على تحويل الأمر عنه. ثم نمي لهم أن السلطان مشرف على الهلكة لا محالة، وأنه موقع بهم من قبل مهلكه، فأجمعوا أمرهم على الفتك به والبيعة لأخيه السعيد طفلا خماسيا. وباكروا دار السلطان، وتقبضوا على وزيره موسى بن عيسى، وعمر بن ميمون فقتلوهما، وأجلسوا السعيد للبيعة. وأوعز وزيره مسعود بن رخو بن ماساي بالتقبض على أبي زيان من نواحي القصر، فدخل إليه وتلطف في إخراجه من بين الحرم. وقاده إلى أخيه فبايعه وتله إلى بعض حجر القصر، فأتلف فيها مهجته. واستقل الحسن بن عمر بالأمر يوم الأربعاء الرابع والعشرين لذي الحجة من سنة تسع وخمسين، والسلطان أثناء ذلك على فراشه يجود بنفسه. وارتق الناس دفنه يوم الخميس والجمعة بعده، فلم يدفن فارتابوا. وفشا الكلام، وارتاب الجماعة، فأدخل الوزير، زعموا، إليه بمكانه من بيته من غطه حتى أتلفه. ودفن يوم السبت، وحجب الحسن بن عمر الولد السعيد المنصوب للأمر، وأغلق عليه بابه، وتفرد بالأمر والنهي دونه. ولحق عبد الرحمن ابن السلطان أبي عنان بجبل لكاي يوم بيعة أخيه، وكان أسن منه وإنما آثروه لمكان ابن عفه مسعود بن ماساي من وزارته، فبعثوا إليه من لاطفه واستنزله على الأمان، وجاء به إلى أخيه، فاعتقله الحسن بالقصبة من فاس. وبعث عن أبناء السلطان الأصاغر الأمراء بالثغور: فجاء المعتصم من سجلماسة، وامتنع المعتمد بمراكش، كان بها كفالة عامر بن محمد الهنتاتي، استوصاه به السلطان وجعله هنالك لنظره، فمنعه من الوصول، وخرج به من مراكش إلى معقله من جبل هنتاتة، وجهز الوزير العساكر لمحاربته. ولم يزل هنالك إلى أن استنزله عمه السلطان أبو سالم، عند استيلائه على ملك المغرب كما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
الخبر عن تجهيز العساكر إلى مراكش، ونهوض الوزير سليمان بن داود لمحاربة عامر بن محمد بن علي: كان عامر بن محمد بن علي، شيخ هنتاتة، من قبائل المصامدة. وكان السلطان يعقوب قد استعمل أباه محمد بن علي على جباياتهم، والسلطان أبو سعيد استعمل عمه موسى بن علي. وربي عامر هذا في كفالة الدولة، وسار في جملة السلطان إلى إفريقية، وولاه السلطان أحكام الشرطة بتونس. ولما ركب البحر إلى المغرب أركب حرمه وحظاياه في السفين، وجعلهم إلى نظر عامر بن محمد. وأجازوا البحر إلى الأندلس، فنزلوا المرية. وبلغهم غرق الأسطول بالسلطان أبي الحسن وعساكره، فأقام بهم بمكانه من المرية. وبعث السلطان أبو عنان عنه، فلم يجب داعيه وفاء ببيعة أبيه. حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بدارهم بالجبل، ورعى لهم السلطان أبو عنان إجارتهم لأبيه، حين لفظته البلاد وتحاماه الناس، أجمع أمره على الوفادة عليه، فوفد بمن معه من الحرم. وأكرم السلطان أبو عنان وفادته، وأحسن نزله. ثم عقد له على جباية المصامدة سنة أربع وخمسين، وبعثه لها من تلمسان، فاضطلع بهذه الولاية. وأحسن الغناء فيها، والكفاية عليها، حتى كان السلطان أبو عنان يقول: وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية الشرق من سلطاني، كما كفاني عامر بن محمد ناحية الغرب واتورع. ونافسه الوزراء في مقامه ذلك عند السلطان ورتبته. وانفرد الحسن بن عامر آخر الأمر بوزارة السلطان، فاشتدت منافستهم وانتهت إنى العداوة والسعاية. وكان السلطان بين يدي مهلكه ولى أبناءه الأصاغر على أعمال ملكه: فعقد لابنه محمد المعتمد على مراكش، واستوزر له، وجعله إلى نظر عامر واستوصاه به. فلما هلك السلطان وانتقل الحسن بن عمر بالأمر، ونصب السعيد للملك، استقدم الأبناء من الجهات، فبعث عن المعتمد بمراكش، فأبى عليه عامر من الوفادة عليهم، وصعد به إلى معقله من جبل هنتاتة. وبلغ الحسن بن عمر خبره، فجهز إليه العساكر، وأزاح عللهم. وعقد على حربه للوزير سليمان بن داود مساهمة في القيام بالأمر، وسرحه في المحرم من سنة ستين، فأغذ السير إلى مراكش، واستولى عليها. وصمد إلى الجبل فأحاط به، وضيق على عامر، وطاول منازلته. وأشرف على اقتحام معقله، إلى أن بلغ خبر افتراق بني مرين، وخروج منصور بن سليمان من أعياص الملك على الدولة، وأنه منازل للبلد
الجديد، فانفض المعسكر من حوله، وتسابقوا إلى منصور بن سليمان، فلحق به الوزير سليمان بن داود وتنفس المخنق عن عامر، إلى أن استولى السلطان أبو سالم على ملك المغرب في شعبان من سنة ستين. واستقدم عامر والمعتمد ابن أخيه من مكانهم بالجبل، فقدم عليه وأسلمه إليه، كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن ظهور أبي حمو بنواحي تلمسان، وتجهيز العساكر لمدافعته، ثم تغلبه عليها، وما تخلل ذلك من الأحداث: كان أبناء عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن هؤلاء أربعة كما ذكرناه في أخبارهم، وكان يوسف كبيرهم، وكان سكوناً منتحلا لطرق الخير لا يريد علوا في الأرض. ولما ملك أخوه عثمان بتلمسان، عقد له على تنس. وكان ابنه موسى متقبلا مذهبه في السكون والدعة ومجانبة أهل الشر. ولما تغلب السلطان أبو عنان عليهم سنه ثلاث وخمسين، وفر أبو ثابت إلى قاصية الشرق، واهتبلتهم قبائل زواوة وأرجلوهم عن خيلهم سعوا على أقدامهم. وانتبذ أبو ثابت وأبو زيان ابن أخيه أبي سعيد وموسى ابن أخيه يوسف ووزيرهم يحيى بن داود ناحية عن قومهم، وسلكوا غير طريقهم. وتقبض على أبي ثابت ويحيى بن داود ومحمد بن عثمان، وخلص موسى إلى تونس، فنزل على الحاجب أبي محمد بن تافراكين وسلطانه خير نزل، وأجاره مع فل من قومه، خلصوا إليهم وأسنوا جرايتهم. وبعث السلطان أبو عنان فيهم إلى ابن تافراكين، فأبى من إسلامهم وجاهر بإجارتهم على السلطان. ولما استولت عساكر السلطان على تونس، وأجفل عنها سلطانها أبو إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي يحيى، خرج موسى بن يوسف هذا في جملته. ولما رجع السلطان إلى المغرب، صمد المولى أبو إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي بحيى، وابن أخيه المولى أب و زيد صاحب قسنطينة مع يعقوب بن علي وقومه من الدواودة، إلى منازلة قسنطينة وارتجاعها. وسار في جملتهم موسى بن يوسف هذا فيمن كان عندهم من زناتة قومه. وكان بنو عامر بن زغبة خارجين على السلطان أبي عنان منذ كلبه بني عبد الواد على تلمسان. وكانت رياستهم إلى صغير بن عامر بن إبراهيم، فلحق بإفريقية في قومه. ونزلوا على يعقوب بن علي، وجاوروه بحللهم وظعنهم. فلما أفرجوا
عن قسنطينة بعد امتناعها، واعتزم صغير على الرحلة بقومه إلى وطنهم من صحراء المغرب الأوسط دعوا موسى بن يوسف هذا إلى الرحلة معهم لينصبوه للأمر، ويجلبوا به على تلمسان فخلى الموحدون سبيله، وأعانوه بما اقتدروا عليه لوقتهم، وعلى حال سفرهم من آلة وفسطاط. وارتحل مع بني عامر، وارتحل معهم صولة بن يعقوب بن علي، وزيان بن عثمان بن سباع من أمراء الدواودة، ودغار بن عيسى في حلله من بني سعيد إحدى بطون رياح. وأغذ السير إلى المغرب للعيث في نواحيه. وجمع لهم أقتالهم من سويد أولياء السلطان والدولة. والتقوا بقبلة تلمسان، فانهزمت سويد، وهلك عثمان ابن كبيرهم ونزمار وكان مهلك السلطان في خلال ذلك. وكان السلطان حين استعمل الأبناء على الجهات، عقد لمحمد المهدي من أولاده على تلمسان. ولما اتصل خبر وفاة السلطان بالعرب، أغذوا السير إلى تلمسان وملكوا ضواحيها. وجهز الحسن بن عمر إليها عسكرا عقد عليه وعلى الحامية الذين بها لسعيد بن موسى العجيسي من صنائع السلطان، وسرحه إليها، وسار في جملته أحمد بن مزني فاصلا إلى عمله بعد أن وصله وخلع عليه وحمله. وسار سعيد بن موسى في العساكر إلى تلمسان، فاحتل بها في صفر من سنة ستين. وزحف إليهم جموع بني عامر وسلطانهم أبو موسى بن يوسف، فغلبوهم على الضاحية وأحجزوهم بالبلد. ثم نازلوهم الحرب أياما، واقتحموها عليهم لثمان خلون من ربيع، واستباحوا من كان بها من العسكر، وامتلأت أيديهم من أسلابهم ونهابهم. وخلص سعيد بن موسى بابن السلطان إلى حلة صغير بن عامر، فأجاره ومن جاء على أثره من قومه وأوفد معهم رجالات من بني عامر ينفضون الطريق أمامه إلى أن أبلغوه مأمنه من دار ملكهم. واستولى أبو حمو على ملك تلمسان، واستأثر بالهدية التي ألفى بمودعها، كان السلطان انتقاها وبعث بها إلى صاحب برشلونة بطره بن ألقنط، وبعث إليه بها بفرس أدهم من مقرباته بمركب ولجام ذهبيين ثقيلين. فاتخذ أبو حمو ذلك الفرس لركوبه، وصرف الهدية في مصارفه ووجوه مذاهبه. والله غالب على أمره. الخبر عن نهوض الوزير مسعود بن ماساي إلى تلمسان، وتغلبه عليها، ثم انتقاضه، ونصبه منصور بن سليمان للأمر: لما بلغ الوزير الحسن بن عمر خبر تلمسان، واستيلاء أبي حمو عليها، جمع
مشيخة بني مرين، ووامرهم في النهوض إليها، فأبوا عليه من النهوض بنفسه، وأشاروا بتجهيز العسكر ووعدوه بمسيرهم كافة ففتح ديوان العطاء وفرق الأموال وأسنى الصلات وأزاح العلل، وعسكر بساحة البلد الجديد. ثم عقد عليهم لمسعود بن رحو بن ماساي، وحمل من المال وأعطاه الآلة، وسار في الألوية والعساكر. وكان في جملته منصور بن سليمان بن أبي مالك بن يعقوب بن عبد الحق وكان الناس يرخون بأن سلطان المغرب صائر إليه بعد مهلك أبي عنان. وشاع ذلك في ألسنة الناس وذاع، وتحدث به السمر والندمان، وخشي منصور على نفسه لذلك، فجاء إلى الوزير وشكا إليه ذلك، فانتهره بأن لا يختلج بفكره مثل هذا الوسواس، انتهارا خلا من وجه السياسة، فازدجر واقتصر. ولقد شهدت هذا الموطن، ورجمت ذلة انكساره وخضوعه في موقفه. ورحل الوزير مسعود في التعبية. وأفرج أبو حمو عن تلمسان، ودخلها مسعود في ربيع الثاني واستولى عليها. وخرج أبو حمو إلى الصحراء وقد اجتمعت إليه جموع العرب من زغبة والمعقل. ثم خالفوا بني مرين إلى المغرب واحتلوا بأنكاد بحللهم وظواعنهم وجهز مسعود بن رخو إليهم عسكراً من جنوده انتقى فيه مشيخة من بني مرين وأمرائهم، وعقد عليهم لعامر ابن عمه عبو بن ماساي. وسرحهم فزحفوا إليهم بساحة وجدة. وصدقهم العرب الحملة، فانكشفوا واستبيح معسكرهم، واستلبت مشيختهم، وأرجلوا عن خيلهم، ودخلوا إلى وجدة عراة. وبلغ الخبر إلى بني مرين بتلمسان، وكان في قلوبهم مرض من استبداد الوزير عليهم وحجزه لسلطانهم، فكانوا يتربصون بالدولة. فلما بلغ الخبر وجاض الناس له جيضة الحمر، خلص بعضهم نجيا بساحة البلد واتفقوا على البيعة ليعيش بن علي بن أبي زيان ابن السلطان أبي يعقوب فبايعوه. وانتهى الخبر إلى الوزير مسعود بن رحو، وكان متحينا سلطان منصور بن سليمان، فاستدعاه وأكرهه على البيعة، وبايعه معه الرئيس الأكبر من بني الأحمر، وقائد جند النصارى القمندوز وتسايل إليه الناس، وتسامع الملأ من بني مرين بالخبر، فبادروا إليه من كل جانب. وذهب يعيش ابن أبي زيان لوجه، فركب البحر وخلص إلى الأندلس، وانعقد الأمر لمنصور بن سليمان. واجتمع بنو مرين على كلمته، وارتحل بهم من تلمسان بريد المغرب. واعترضتهم جموع العرب بطرياتهم، فأوقعوا بهم، وامتلأت أيديهم من أسلابهم وظعنهم. وأغذوا السير إلى المغرب، واحتلوا بسبو في منتصف جمادى الآخرة
وبلغ الخبر إلى الحسن بن عمر، فاضطرب معسكره بساحة البلد. وأخرج السلطان في الآلة والتعبية إلى أن أنزله بفسطاطه. ولما غشيهم الليل، انفضوا عنه ونزع الملأ إلى السلطان منصور بن سليمان، فأوقد الشموع وأذكى النيران حول الفسطاط، وجمع الموالي والجند، وأركب السلطان، ودخل إلى قصره، وانحجز بالبلد الجديد. وأصبح منصور بن سليمان، فارتحل في التعبية حتى نزل بكدية العرائس في الثاني والعشرين لجمادى، واضطرب معسكره بها، وغدا عليها بالقتال وشد عليها الحملات، وامتنعت ليومها. ثم جمع الأيدي على اتخاذ الآلات للحصار. واجتمعت إليه وفود الأمصار بالمغرب للبيعة. ولحقت به كتائب بني مرين التي كانت مجمرة بمراكش لحصار عامر مع الوزير سليمان بن داود فاستوزره، وأطلق عبد الله بن علي وزير السلطان أبي عنان من معتقله، فاستوزره أيضا. وأوعز بإطلاق مولانا أبي العباس صاحب قسنطيط من معتقله بسبتة، فخلص منه خلوص الإبريز بعد السبك. وأمر منصور بن سليمان بتسريح السجون، فخرج من كان بها من دعار بجاية وقسنطينة، وكانوا معتقلين من لدن استحواذ السلطان أبي عنان على بلادهم. وانطلقوا إلى مواطنهم وأشام على البلد الجديد يغاديها بالقتال ويراوحها. ونزع عنه إلى الوزير الحسن بن عمر طائفة من بني مرين. ولحق آخرون ببلادهم، وانتقضوا عليه ينتظرون مال أمره. ولبث على هذه الحال إلى غرة شعبان، فكان من قدوم السلطان أبي سالم لملك سلفه بالمغرب، واستيلائه عليه، ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن نزول المولع أبي سالم بجبال غمارة، واستيلائه علي ملك المغرب، ومقتل منصور بن سليمان: كان السلطان أبو سالم بعد مهلك أبيه واستقراره بالأندلس، وخروج أبي الفضل بالسوس لطلب الأمر، ثم ظفر السلطان أبي عنان به ومهلكه كما ذكرنا، قد تورع وسكن وسالمه السلطان. ثم هلك سلطان الأندلس أبو الحجاج سنة خمس وخمسين يوم الفطر بمصلى العيد، طعنه أسود موسوس كان ينسب إلى أخيه محمد من بعض إماء قصرهم. ونصبوا للأمر ابنه محمدا، وأحجبه مولاه رمضان واستبد عليه. وكان للسلطان أبي عنان اعتزاز كما ذكرناه، وكان يؤمل ملك الأندلس. وأوعز إليهم عندما طرقه من طائف المرض سنة سبع وخمسين، أن يبعثوا إليه طبيب دارهم إبراهيم بن زرزر الذمي، وامتنع من ذلك
اليهودي، واعتذروا عذره، فنكر لهم السلطان قبله. ولما وصل إلى فاس من فتح قسنطينة وإفريقية، وتقبض على وزيره والمشيخة من قبله، تجنيا عليهم، إن لم يبادر السلطان بنفسه وحاجبه للتهنية. وأظلم الجو بينهم، واعتزم على النهوض إليهم، وكانوا منحاشين بالجملة إلى الطاغية بطره بن أدفونش صاحب قشتالة، منذ مهلك أبيه ألهنشة على جبل الفتح سنة إحدى وخمسين. ثم استبد رضوان على الدولة بعد مهلك أبي الحجاج، كانت له صاغية إليهم، ظاهرها النظر للمسلمين بمسالمة عدوهم. وكان السلطان أبو عنان يعتد ذلك عليهم، وعلم أنه لا بد أن يمدهم بأساطيله، ويدافعوه عن الإجازة إليهم. وكان بين الطاغية بطرة وبين قمص برشلونة فتنة هلك فيها أهل ملتهم، فصرف السلطان إلى قمص برشلونة، وخاطبه في اتصال اليد على أدفونش واجتماع أسطول. وأسطول القمص بالزقاق، وضربوا بذلك الموعد. وأتحفه السلطان بهدية سنية. متاع المغرب وماعونه، ومركب ذهبي صنيع، ومقرب من جياده. وأنفذها إليه، فبلغت تلمسان، وهلكت قبل وصولها إلى محلها. ولما هلك السلطان أبو عنان أمل أخوه المولى أبو سالم ملك أبيه، وطمع في مظاهرة أهل الأندلس له على ذلك، لما كان بينهم وبين أخيه. واستدعاه أشياع من أهل المغرب، ووصل البعض منهم إليه بمكانه من غرناطة، وطلب الإذن من رضوان في الإجازة، فأبى عليه، فاحفظه ذلك. ونزع إلى ملك قشتالة متصارحا بنفسه عليه أن يجهز الأسطول للإجازة إلى المغرب، فاشترط عليه، وتقبل شرطه. وأجازه في أسطوله إلى مراكش، فامتنع عامر من قبوله لما كان فيه من التضييق والحصار بحصة سليمان بن داود ذكرناه، فانكفأ راجعا على عقبه. فلما حاذى طنجة وبلاد غمارة ألقى بنفسه إليهم، ونزل بالصفيحة من بلادهم. واشتملت عليه قبائلهم، وتسايلو إليه من كل حدب، وبايعوه على الموت. وملك سبتة وطنجة، وبها يومئذ السلطان أبو العباس ابن أبى حفص صاحب . " لحق بها بعد الخروج من اعتقاله بسبتة كما ذكرناه، فاختصه المولى أبو سالم بالصحابة والخلة، وألفه في اغترابه ذلك إلى أن استولى على ملكه. وألقى بطنجة الحسن بن يوسف الورتاجني، وكاتب ديوان الجند أبا الحسن علي بن السعود، والشريف أبا القاسم التلمساني. كان منصور بن سليمان ارتاب بهم، واتهمهم بمداخلة الحسن بن
عمر بمكانه من البلد الجديد، فصرفهم من معسكره إلى الأندلس، فوافوا المولى أبا سالم عند استيلائه على طنجة، فساروا في إيالته. واستوزر الحسن بن يوسف، واستكتب لعلامته أبا الحسن علي بن السعود، واختص الشريف بالمجالسة والمراكبة. ثم قام أهل الثغور الأندلسية بدعوته. وأجاز يحياتن بن عمر صاحب جبل الفتح إليه بمن كان معه من المعسكر. وطنت حصاة المولى أبي سالم واتسع معسكره وبلغ خبره إلى الثائر على البلد الجديد منصور بن سليمان، فجهز عسكرا لدفاعه. وعقد عليه لأخويه عيسى وطلحة، وأنزلهم قصر كتامة. وقاتلوه فهزموه، واعتصم بالجبل. وبادر الحسن بن عمر من وراء الجدران، فبعث إليه بطاعته، ووعده بالتمكن من دار ملكه. وداخل بعض أشياع المولى أبي سالم مسعودك بن رحو بن ماساي وزير منصور في النزوع إلى السلطان، وكان قد ارتاب بمنصور وابنه علي، فنزع وانفض الناس من حول منصور، وتخاذل أشياعه من بني مرين، ولحق ببادس من سواحل المغرب. ومشى أهل المعسكر بأجمعهم في ساقاتهم ومواكبهم على التعبية، فلحقوا بالسلطان أبي سالم واستغذوه إلى دار ملكه فأغذ السير، وخلع الحسن بن عمر سلطانه السعيد عن الأمر، وأسلمه إلى عمه وخرج إليه فبايعه. ودخل السلطان إلى البلد الجديد يوم الجمعة منتصف شعبان من سنة ستين. واستولى على ملك المغرب، وتوافت وفود النواحي بالبيعات. وعقد للحسن بن عمر على مراكش، وجهزه إليها بالعساكر ريبة بمكانه. واستوزر مسعود بن رحو بن ماساي والحسن بن يوسف الورتاجني، واصطفى من خواصه خطيب أبيه الفقيه أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق، وجعل إلى مؤلف هذا الكتاب توقيعه وكتابة سره. وكنت نزعت إليه من معسكر منصور بن سليمان بكدية العرائس لما رأيت من اختلال أحواله، ومصير الأمر إلى السلطان، فأقبل علي وأنزلني بمحل البنوة، واستخلصني لكتابته. واستوسق أمره بالمغرب. وتقبض شيعة السلطان ببادس على منصور بن سليمان وابنه علي، وقادوهم مصفدين إلى سدته، فأحضرهم ووبخهم. وجنبوا إلى مصارعهم، فقتلوا قعصا بالرماح آخر شعبان من سنته. وجمع الأبناء والقرابة المرشحين من ولد أبيه وعمه، فأشخصهم إلى رندة من ثغورهم بالأندلس، ووكل بهم من يحرسهم. ونزع محمد بن أبي أخيه أبي عبد الرحمن منهم إلى غرناطة. ثم لحق منها بالطاغية واستقر لديه، حتى
كان من تملكه المغرب ما نقصه. وهلك الباقون غرقا في البحر بإيعاز السلطان بذلك، بعد مدة من سلطانه، أركبهم السفين إلى المشرق، تم غرقهم. وخلص الملك من الخوارج والمنازعين واستوسق له الأمر والله غالب على أمره. احتفل السلطان في كرامة مولانا السلطان أبي العباس، وشاد ببره، وأوعز باتخاذ دار عامر بن فتح الله وزير أبيه لنزله، ومهد له المجلس لصق أريكته، ووعده بالمظاهرة على ملكه، إلى أن بعثه من تلمسان عند استيلائه عليها، كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه علي السلطان: لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين، ونصب ابنه محمد للأمر، واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته. فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم، وكان له صهر من ابن عمه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد في شقيقه، فكان يدعوه سرا إلى القيام بأمره، حتى أمكنته فرصة في الدولة، فخرج السلطان إلى بعض متنزهاته برياضه، فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في أوشاب جمعهم من الطغام لثورته. وعمد إلى دار الحاجب رضوان، فاقتحم عليه الدار، وقتله بين حرمه وبناته. وقربوا إلى إسماعيل فرسه وركبه، فأدخلوه القصر وأعلنوا ببيعته. وقرعوا طبولهم بسور الحمراء، وفر السلطان من مكانه بمتنزهه، فلحق بوادي آش. وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل، فبايعوه. واستبد عليه هذا الرئيس ابن عمه. ثم قتله لأشهر من بيعته، واستقل بسلطان الأندلس ولما لحق السلطان أبو عبد الله بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان، واتصل الخبر بالسلطان المولى أبي سالم، امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم. وأزعج
لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه لاستقدامه، فوصل إلى الأندلس، وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب، وأطلق من اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله بن الخطيب، كانوا اعتقلوه لأول أمره لما كان رديفا للحاجب رضوان، وركنا لدولة المخلوع، فأوصر المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه. ولحق الرسول أبو القاسم بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب، وأجاز لذي القعدة من سنته. وقدم على السلطان بفاس، فأجل قدومه، وركب للقائه، ودخل به إلى مجلس ملكه، وقد احتفل بزينته، وغص بالمشيخة والعلية. ووقف وزيره ابن الخطيب، فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه، ويستحثه لمظاهرته على أمره. واستعطف واسترحم، بما أبكى الناس شفقة ورحمة. ونص القصيدة:
- نقص******
صفحة 409
ثم انفض المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله، وقد فرشت له القصور، وقربت الجياد بالمراكب الذهبية، وبعث إليه بالكسى الفاخرة، ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع. وانحفظ عليه رسم سلطانه في الموكب والرجل، ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الآلة أدباً مع السلطان. واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس، وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين وسبعمائة، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن انتقاض الحسن بن عمر، وخروجه بتادلا، وتغلب السلطان عليه، ومهلكه :
لما فصل الوزير الحسن بن عمر إلى مراكش، واستقر بها، تأثل له بها سلطان ورياسة، نفسها عليه الوزراء بمجلس السلطان، وسعوا في تنكر السلطان له، حتى أظلم الجو بينهما. وشعر الوزير بذلك، فارتاب بمكانه، وخشي بادرة السلطان على نفسه. وخرج من مراكش في شهر صفر من سنة إحدى وستين وسبعمائة، فلحق بتادلاً، منحرفاً عن الطاعة، مرتكباً في أمره. وتلقاه بنو جابر من جشم، واعصوصبوا عليه وأجاروه. وجهز السلطان عساكره إلى حربه، وعمد عليها لوزيره الحسن بن يوسف وسرحه إليه، فاحتل بتادلاً. ولحق الحسن بن عمر بالجبل، واعتصم به مع حسين بن علي الورديغي كبيرهم. وأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم. وداخل الوزير بعض أهل الجبل من صناكة في الثورة بهم. وسرب إليهم المال، فثاروا بهم وانفض جمعهم. وتقبض على الحسن بن عمر، وقادوه برفته إلى عسكر السلطان فاعتقله الوزير وانكفأ راجعاً إلى الحضرة، وقدم به على السلطان في يوم مشهود، استركب السلطان فيه العسكر. وجلس ببرج الذهب مقعده من ساحة البلد لاعتراض عساكره. وحمل الحسن بن عمر على جمل، طائف به بين أهل ذلك المحشر. وقرب إلى المجلس، فأومأ إلى تقبيل الأرض فوق جمله، وركب السلطان إلى قصره. وانفض الجميع وقد شهدوا عبرة من عبر الدنيا. ودخل السلطان نصره واقتعد أريكته واستدعى خاصته وجلساءه. وأحضره، فوبخه وقرر عليه مرتكبه، فتلوى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار. حضرت يومئذ هذا المجلس فيمن حضره من العلية والخاصة، فكان مقاماً تسيل فيه العيون رحمة وعبرة. ثم أمر به السلطان، فسحب على وجهه ونتفت لحيته وضرب بالعصى. وتل إلى محبسه وقتل لليال من اعتقاله قعصاً بالرماح بساحة البلد. وصلب شلوه بسور البلد، عند باب المحروق وأصبح مثلاً في الاخرين.
الخبر عن وفد السودان، وهديتهم، و أغرابهم فيها بالزرافة: كان السلطان أبو الحسن لما أهدى إلى ملك السودان منسا سليمان بن منسا موسى هديته المذكورة في خبره، اعتمل في مكافأته وجمع لمهاداته من طرف أرضه وغرائب بلاده. وهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك. ووصلت الهدية إلى أقصى تخومهم من والاتن. هلك منسا سليمان قبل وصولها. واختلف أهل مالي وافترق ملكهم. وتواثب ملوكهم على الأمر وقتل بعضهم بعضاً. وشغلوا بالفتنة، حتى قام فيهم منسا جاطه واستوسق له أمرهم ونظر في أعطاف ملكه. وأخبر بشأن الهدية وأخبر أنها بوالاتن، فأمر بإنفاذها إلى ملك المغرب. وضم إليها الزرافة الحيوان الغريب الشكل، العظيم الهيكل، المختلف الشبه بالحيوانات. وفصلوا بها من بلادهم، فوصلوا إلى فاس في صفر من سنة إثنتين وستين وسبعمائة. وكان يوم وفادتهم يوما مشهودا، جلس لهم السلطان ببرج الذهب مجلس العرض. ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء، فبرزوا ينسلون من كل حدب، حتى غص بهم الفضاء وركب بعضهم بعضاً في الازدحام على الزرافة، إعجاباً بخلقها. وأنشد الشعراء في عرض المدح والتهنية ووصف الحال. وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالاتهم بتأكيد الود والمخالصة، والعذر عن إبطاء الهدية بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر، وتعظيماً سلطانهم وما صاروا إليه. والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيهم عادةً معروفة لهم. وحيوا السلطان يحثون التراب على رؤوسهم على سنة ملوك العجم. ثم ركب السلطان، وانفض ذلك المجلس وقد طار به الذكر. واستقر ذلك الوفد في إيالة السلطان وتحت جرايته وهلك السلطان قبل انصرافهم، فوصلهم القائم بالأمر من بعده. وانصرفوا إلى مراكش، وأجازوا منها إلى ذوي حسان عرب السوس من المعقل المتصلين ببلادهم. ولحقوا من هنالك بسلطانهم. والأمر لله وحده سبحانه.
الخبر عن حركة السلطان إلى تلمسان واستيلائه عليها. وإيثار أبي زيان حافد أبي تاشفين بملكها. وما كان مع ذلك من صرف أمراء الموحل ين إلي بلادهم:
لما استقل السلطان بملك المغرب سنة ستين وسبعمائة كما ذكرناه، وكان العامل على درعة
عبد أالله بن مسلم الزردالي من أخلاف بني عبد الواد وشيعة آل زيان، اصطنعه السلطان أبوالحسن عند تغلبه على تلمسان. واستعمله ابنه أبو عنان بعد ذلك على بلاد درعة كما
ذكرناه. وتولى المكر بأبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن، حين خروجه على أخيه السلطان أبي عنان بجبل ابن حميدي، فارتاب عند استقلال المولى أبي سالم بالأمر. وخشي بادرته، لما نابهم من حقده عليه، بسبب أخيه أبي الفضل، لما بينهما من لحمة الاغتراب، فداخل بطانة له من عرب المعقل واحتمل ذخائره وأمواله وأهله وقطع القفر إلى تلمسان. ولحق بالسلطان أبي حمو آخر سنة ستين وسبعمائة، فنزل منه خير نزل. وعقد له لحين وصوله على وزارته وبإهابه وبمكانه. وفوض إليه في التدبير والحال والعقد. وشمر هو عن ساعده في الخدمة. وجأجأ بعرب المعقل من مواطنيهم رغبة في ولايته وإيثاراً لمكانه من الدولة. ورهبة من السلطان بالمغرب، لما كانوا ارتكبوه من مواقفة بني مرين مرة بعد أخرى، فاستقروا بتلمسان وانحاشوا جميعاً إلى بني عبد الواد. وبعث السلطان إلى أبي حمو في شأن عاملهم عبد الله بن مسلم، فلم يرجع له جواباً عنه. وحظر عليه ولاية المعقل أهل وطنه، فلج في شأنهم، فأجمع السلطان أمره على النهوض إليه. واضطرب معسكره بساحة البلد وفتح ديوان العطاء. ونادى في الناس بالنفير إلى تلمسان وأزاح العلل.
وبعث الحاشرين من وزرائه إلى مراكش، فتوافت حشود الجهات ببابه، وفصل من
فاس في جمادى من سنة إحدى وستين وسبعمائة. وجمع أبو حمو في إيالته وعلى التشيع لدولته من زناتة والعرب من بني عامر والمعقل كافة، ما عدا العمارنة، كان
أميرهم الزبير بن طلحة متحيزاً إلى السلطان. وأجفلوا عن تلمسان وخرجوا إلى الصحراء. ودخل السلطان إلى تلمسان ثالث رجب. وخالفه أبو حمو وأشياعه إلى المغرب، فنزلوا كرسيف بلد ونزمار بن عريف وخربوه. واكتسحوا ما وجدوا فيه حقداًً على ونزمار وقومه، بولاية بني مرين. وتخطوا إلى وطاط، فعاثوا في نواحيه. وانقلبوا إلى أنكاد. وبلغ السلطان خبرهم، فتلافى أمر المغرب. وعقد على تلمسان لحافد من حفدة السلطان أبي تاشفين، كان ربي في حجرهم وتحت كفالة نعمتهم، وهو أبو زيان محمد بن عثمان وشهرته بالفتى. وأنزله بالقصر القديم من تلمسان وعسكر عليه زناتة الشرق كلهم. واستوزر له ابن عمته عمر بن محمد بن إبراهيم بن مكن ومن أبناء وزرائهم سعيد بن موسى بن علي، وأعطاه عشرة أحمال من المال دنانير ودراهم. ودفع إليه الآلة. وذكر حينئذ لمولانا السلطان أبي العباس سوابقه وإيلافه في المنزل الخشن، فنزل له عن محل إمارته قسنطينة. وصرف أيضاً المولى أبا عبد الله صاحب بجاية لاسترجاع بلده بجاية، فعقد لهما بذلك وحملهما. وخلع عليهما وأعطاهما حملين من المال.
وكانت بجاية لذلك العهد قد تغلب عليها عمهم المولى أبو إسحق إبراهيم صاحب تونس، فكتب إلى عاملهم على قسنطينة منصور بن الحاج خلوف، أن ينزل عن بلده لمولانا السلطان أبي العباس ويمكنه منها. وودع هؤلاء الأمراء وانكفأ راجعاً إلى حضرته، لسد ثغور المغرب وحسم داء العدو، فدخل فاس في شعبان من سنته. ولم يلبث أن رجع أبو زيان على أثره بعد أن أجفل عن تلمسان ولحق بوانشريش. وتغلب عليه أبو حمو وفض جموعه، فلحق بالسلطان. واستقل أبو حمو بملك تلمسان. وبعث في السلم إلى السلطان، فعقد له من ذلك ما رضيه كما نذكره. الخبر عن مهلك السلطان أبي سالم. واستيلاء عمر بن عبد الله علي ملك المغرب. ونصبه للملوك واحدا بعد واحد آخر إلى أن هلك: كان السلطان قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق وكان من خبره
ان سلفه من أهل رباط الشيخ أبي مدين، وكان جده قيماً على خدمة قبره ومسجده، واتصل القيام على هذا الرباط في عقبه. وكان جذه الثالث محمد معروفاً بالولاية. ولما مات دفنه يغمراسن بالقصر القديم، ليجاوره بجدثه تبركاً به. وكان ابنه أحمد أبو محمد هذا قد ارتحل إلى المشرق. وجاور الحرمين، إلى أن هلك وربي محمد ابنه بالمشرق ما بين الحجاز ومصر. وقفل إلى المغرب بعد أن شداً شيئاً في الطلب وتفقه على أولاد الإمام. ولما ابتنى السلطان أبو الحسن مسجد العباد ولاه الخطابة به وسمعه يخطب على المنبر، وقد أحسن في ذكره والدعاء له، فحلي بعينه واستخلصه لنفسه وأحله محل القرب من مجلسه. وجعله خطيباً حيث يصلي في مساجد المغرب، وسفر عنه إلى الملوك. ولما كانت نكبة القيروان خلص إلى المغرب واستقر برباط العباد بجبل سلفه، بعد أحوال أضربنا عن ذكرها اختصاراً.
ولما خلص السلطان إلى الجزائر، داخله أبو سعيد صاحب تلمسان في السفارة عنه إلى السلطان أبي الحسن وإصلاح بينهما فسار لذلك. ونقمه أبو ثابت وبنو عبد الواد ونكروه على سلطانهم. وسرحوا صغير بن عامر في اتباعه، فتقبض عليه وأودعه المطبق. ثم أشخصوه بعد حين إلى الأندلس، فاتصل بأبي الحجاج صاحب غرناطة. وولاه خطابته، ولما اشتهر به من إجادة الخطبة للملوك بزعمهم. وألف السلطان أبا سالم في مثوى غربته من غرناطة، وشاركه عند أبي الحجاج في مهماته. ولما نزل بجبال غمارة داخل بني مرين والوزراء في القيام بدعوته. وكان له في ذلك مقام محمود، فرعى السلطان وسائله وموالاته القديمة والحادثة إلى مقامه عند أبيه. فلما استوسق له ملك المغرب، اختصه بولايته وألقى عليه محبته وعنايته. وكان مؤامره ونجي خلوته والغالب على هواه، فانصرفت إليه الوجوه وخضعت له الرقاب ووطىء عتبته الأشراف والوزراء، وعكف على بابه القواد والأمراء وصار زمام الدولة بيده. وكان يتجافى عن ذلك أكثر أوقاته، حذراً من المغبة. ويزجر من يتعرض
له في الشكاية ويردهم إلى أصحاب المراتب والخطط بباب السلطان، وهم يعلمون أنه قد ضرب على أيديهم، فنقموا ذلك عليه وسخطوا الدولة من أجله. ومرضت قلوب أهل الحل والعمد من تقدمه. ونفس عليه الوزراء ما تعين له عند السلطان من الحظ، فتربصوا بالدولة. وشمل هذا الداء الخاصة والعامة. وكان عمر بن عبد الله بن علي، لما هلك أبوه الوزير عبد الله بن علي في جمادى سنة ستين وسبعمائة، عند استيلاء السلطان على ملكه، تجلت شفاه الدولة إلى تراثه. وكان مثرياً فاستجار منهم بابن مرزوق وساهمه من تراث أبيه، بعد أن حملوا السلطان على النيل منه والإهانة به، فأجاره منهم. ورفع عند السلطان رتبته وحمله على الإصهار إليه بأخته. وقلده السلطان أمانة البلد الجديد دار ملكه متى عنت له الرحلة عنها. وأصهر عمر إلى وزير الدولة مسعود بن ماساي تسكيناً لغربه واستخلاصاً لمودته. وسفر عن السلطان
إلى صاحب تلمسان في شعبان من سنة إثنتين وستين وسبعمائة. ونمي عنه أنه داخل صاحب تلمسان في بعض المكر، فهم بنكبته وقتله. ودافع عنه ابن مرزوق، فخلص من عقابه. وطوى من ذلك على البث وتربص الدولة. وأعيد إلى مكانه من الأمانة على دار الملك أول ذي القعدة، مرجعه من تلمسان لما كان السلطان قد تحول عنها إلى القصبة بفاس، واختط إيواناً فخماً لجلوسه بها لصق قصوره (متعنياً الأبردين). فلما استولى عمر على دار ، الملك، حدثته نفسه بالتوثب. وسول له ذلك ما اطلع عليه من مرض القلوب والنكير. على الدولة، لمكان ابن مرزوق من السلطان فداخل قائد جند النصارى غرسية بن أنطون وتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي القعدة سنة إثنتين وستين وسبعمائة. وخلصوا إلى تاشفين الموسوس أبى السلطان أبي الحسن بمكانه من البلد الجديد، فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك. وقربوا له مركبة وأخرجوه إلى أريكة السلطان، فأقعدوه عليها. وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة له. وجهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى مودع المال، فأفاضوا العطاء من غير تقدير ولا حسبان. وماج أهل البلد الجديد من الجند بعضهم في بعض
واختطفوا ما وصل إليهم من العطاء. وانتهبوا ما كان لمخازن الخارجة من السلع والعدة. وأضرموا النار في بيوتها ستراً على ما ضاع منها. وأصبح السلطان بمكانه من القصبة، فركب واجتمع إليه من حضر من الأولياء والقبائل. وغدا على البلد الجديد وطاف بها يروم فيها منفذاً، فاستصعبت واضطرب معسكره بكدية العرايس لحصارها. ونادى في الناس بالاجتماع إليه. ونزل عند قائلة الهاجرة بفسطاطه، فتسايل الناس عنه إلى البلد الجديد فوجاً بعد فوج بمرأى منه، إلى أن سار إليها أهل خاصته ومجلسه، فطلب النجاة بنفسه وركب في لمة من الفرسان مع وزرائه: مسعود بن رحو وسليمان بن داود ومقدم الموالي والجند ببابه سليمان بن ونصار. وأذن لابن مرزوق في الدخول إلى داره ومضى على وجهه. وله غشيهم الليل، انفضوا عنه. ورجع الوزير إلى دار الملك، فتقبض عليهما عمر بن عبد الله ومساهمه غرسية بن أنطون واعتقلاهما متفرقين. وأشخص علي بن مهدي بن يرزيجن في طلب السلطان، فعثر عليه نائما في بعض المجاشر بوادي ورغة وقد نزع عنه لباسه اختفاء بشخصه. وتوارى عن العيون بمكانه، فتقبض عليه وحمله على بغل. وطير بالخبر إلى عمر بن عبدالله، فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن داود، وفتح الله بن عامر بن فتح الله. وأمرهما بقتله وإنفاذ رأسه، فلقياه بخندق القصب وراء كدية العرائس. وأمرا بعض جند النصارى أن يتولى ذبحه. وحمل رأسه في مخلاة، فوضعه بين يدي الوزير والمشيخة. واستقل عمر بالأمر ونصب الموسوس تاشفين يموه به على الناس. وجرت الأمور إلى غايتها. ولكل أجل كتاب. الخبر عن الفتكة بابن أنطول قائد العسكر من النصاري ثم خروج يحيي بن رحو وبني مرين عن الطاعة: لما تقبض عمر بن عبد الله على الوزير، جعل معتقل سليمان بن داود بدار غرسية قائد
النصارى، ومعتقل ابن ماساي بداره، ضناً عن الامتهان لمكان صهره، ولما كان يؤمل منه من الاستظهار على أمره بعصابته من الأبناء والأخوة والقرابة. وكان غرسية بن أنطون صديقاً لسليمان بن ونصار. فلما رجع عن السلطان ليلة انفضاضهم، نزل عليه وكان يعاقره الخمر، فأتاه سحراً وتفاوضاً في اغتيال عمر وإقامة معتقله سليمان بن داود في الوزارة، بما هو عليه من السن ورسوخ القدم في الأمر. ونمي إلى عمر الخبر، فارتاب وكان خلواً من العصابة، ففزع إلى القائد الموكب السلطاني من الرجل الأندلسيين يومئذ إبراهيم البطروحي، فباثه أمره وبايعه على الاستماتة دونه. ثم استقل عصابتهم، ففزع إلى يحيى بن رخو شيخ بني مرين وصاحب شوراهم فشكا إليه، فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطون وأصحابه. وانبرم عقد ابن أنطون وسليمان بن ونصار على شأنهم وغدوا إلى القصر. وأدخل ابن أنطون طائفة من النصارى للاستظهار بهم. ولما توافت بنو مرين بمجلس السلطان على عادتهم وطعموا، دعا عمر بن عبد الله القائد ابن أنطون، بين يدي يحيى بن رحو، وقد أحضر البطروحي رجل الأندلسيين، فسأله تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن فأبى وضن به عن الإهانه، ينال مثلها من ابن ماساي صاحبه، فأمر عمر بن عبد الله بالتقبض عليه، فكشر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة، فتواثب به بنو مرين وقتلوه لحينه. واستلحموا من وجدوا بالدار من جند النصارى بعد جولة. وفروا إلى معسكرهم ويعرف بالملاح جوار البلد الجديد. وأرجف الغوغاء بالمدينة أن ابن أنطون غدر بالوزير، فقتل جند النصارى حيث وجدوا من سكك المدينة. وتزاحفوا إلى الملاح لاستلحام من به من الجند. وركب بنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء. وانتهب يومئذ الكثير من أموالهم وآنيتهم وأمتعتهم . وقتل النمط رى كثيراً من المجان كانوا يعاقرون الخمر بالملاح. واستبد عمر بالدار واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل، وبعث من قتله بمحبسه. وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور بدارالملك واعتقله بها واستولى على أمره. ورجع في الشورى إلى
يحيى بن رحو واعصوصب بنو مرين عليه، واعتز على الوزراء والدولة. وكان عدوا لخاصة السلطان أبي سالم حريصاً على قتلهم. وكان عمر يريد استبقاءهم لما أمله في ابن ماساي فاختلفت أهواؤهما. وتبين ليحيى بن رخو والمشيخة صاغيته إلى ابن ماساي، فخشنت صدورهم عليه ودبروا في شأنه. وخاطب هو عامر بن محمد باتصال اليد واقتسام ملك المغرب. وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم، اعتده عنده وليجة لخلاصه من ربقة
الحصار الذي هم به مشيخة بني مرين. وكان أبو الفضل هذا بالقصبة تحت الرقبة والإرصاد، فتفقد من مكانه. وأغلظ المشيخة في العتب لعمر على ذلك، فلم يستعتب. ونبذ إليهم العهد وامتنع بالبلد الجديد، ومنعهم من الدخول إليه، فاعصوصبوا على كبيرهم يحيى بن رحو وعسكروا بباب الفتوح. وجاؤوا بعبد الحليم ابن السلطان أبي علي. وكان من خبرهم معه ما نذكره. وأطلق عمر بن عبد الله مسعود بن ماساي من محبسه وسرحه إلى مراكش، وواعدوه في الأجلاب عليهم أن حاصروه كما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن وصول عبد الحليم ابن السلطان أبي علي من تلمسان وحصار البلد الجديد:
كان السلطان أبو الحسن لما قتل أخاه الأمير أبا علي وقضى الحق الذي له في
دمه، عمل بالحق الذي عليه في ولده وحرمه، فكفلهم وأغذاهم نعمته. وساواهم بولده في كافة شؤونهم وأنكح ابنته تاحضريت العزيزة عليه، علياً منهم المكنى بأبي يفلوسن. ونزع عنه وهو بالقيروان أيام النكبة ولحق بالعرب. وأجلب معهم على السلطان بالقيروان وتونس. ثم انصرف من أفريقية ولحق بتلمسان. ونزل على سلطانها أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن، فبوأه كرامته. ثم شرع في الإجازة إلى الأندلس. وبعث فيه السلطان أبو عنان قبل فصوله، فأشخصوه إليه فاعتقله. ثم أحضره ووبخه على مرتكبه مع السلطان أبي الحسن وجحده حقه، ثم قتله لليلتين من شهور إحدى وخمسين وسبعمائة. ولما هلك السلطان أبو الحسن ولحقت جملته من
الخاصة والأبناء بالسلطان أبي عنان، وأشخص إخوته إلى الأندلس، لشخص معهم ولد الأمير أبي علي هؤلاء: عبد الحليم وعبد المؤمن والمنصور والناصر وسعيد ابن أخيهم أبي زيان، فاستقروا بالأندلس في جوار ابن الأحمر. ثم طلب أبو عنان إشخاصهم بعد، كما طلب إشخاص أخيه، فأجارهم ابن الأحمر جميعاً وامتنع من إسلامهم إليه. وكان من المغاضبة لذلك ما قدمناه.
ولما اعتقل السلطان أبو سالم الأبناء المرشحين برندة كما قدمناه، نزع منهم عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن إلى غرناطة، فلحق بأعمامه. وكان السلطان أبو سالم ضجراً بمكانهم مستريباً بشأنهم، حتى لقد قتل محمد بن أبي يفلوسن ابن اخته تاحضريت وهو في حجرها وحجره، استرابة بما نمي عنه. ولما أجاز أبو عبد الله المخلوع ابن أبي الحجاج إلى المغرب ونزل عليه وصار إلى إيالته، رأى أن قد ملك أمره في هؤلاء المرشحين بغرناطة. وراسل الرئيس محمد بن إسمعيل عند توثبه على الأمر واستلحامه أبناء السلطان أبي الحجاج، فراسله في اعتقالهم، على أن يمسك المخلوع عن التهامه ويقبض عنانه عن الهوى عليه، فاعتقلهم. ثم فسد ما بين الرئيس والطاغية. وزحف إليهم والتهم كثيراً من حصون المسلمين. وبعث إلى السلطان أبي سالم في أن يخلي سبيل المخلوع إليه، فامتنع وفاء للرئيس. ثم دافع الطاغية عن ثغوره بإسعاف طلبه، فجهز المخلوع وملأ حقائبه صلات وأعطاه الآلة. وأوعز إلى أسطوله بسبتة، فجهز وبعث علال بن محمد ثقة إليه، فأركبه الأسطول وركب معه إلى الطاغية. وخلص الخبر إلى الرئيس بمكانه من سلطان غرناطة. وكان أبو حمو صاحب تلمسان يراسله في أولاد أبي علي. وأن يجهزهم إليه ليجدهم زبوناً على السلطان أبي سالم، فبادر لحينه وأطلقهم من مكان اعتقالهم وأركب عبد الحليم وعبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيهما على أبي يفلوسن في الأسطول. وأجازهم إلى فنين بين يدي مهلك السلطان أبي سالم، فنزلوا من صاحب تلمسان بأعز جوار. ونصب عبد الحليم منهم لملك المغرب. وكان محمد السبيع بن موسى بن إبراهيم نزع عن عمر ولحق بتلمسان فتوافى معهم وأخبرهم بمهلك السلطان وبايع له وأغراه بالدخلة إلى المغرب ثم تتابعت رسل بني مرين بمثلها، فسرحه أبو حمو وأعطاه الآلة، واستوزر له محمد السبيع، وارتحل معه
يغذان السير. ولقيه بطريقه محمد بن زكراز، من أولاد علي، من شيوخ بني ونكاسن، أهل دبدو، ثغر المغرب، منذ دخول بني مرين إليه، فبايعه وحمل قومه على طاعته وأغذ السير وكان يحيى بن رحو والمشيخة لما نبذ عمر بن عبد الله إليهم العهد وعسكروا بباب الفتوح، أوفدوا مشيخة منهم على تلمسان، لاستقدام السلطان عبد الحريم، فوافوه بنازى ورجعوا معه. وتلقته جماعة بني مرين بسبو. ونزلوا على البلد الجديد يوم السبت سابع محرم من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وأضربوا معسكرهم بكدية العرائس. وغادوا البلد بالقتال وراوحوها سبعة أيام، وبيعات الأمصار توافيهم والحشود تسايل إليهم. ثم إن عمر بن عبد الله برز من السبت القابل في مقدمة السلطان أبي عمر، بمن معه من الجند المسلمين والنصارى، رامحة وناشبة. ووكل السلطان من جاذبه في الساقة على التعبية المحكمة. وناشبهم الحرب، فدلفوا إليه، فاستطردهم ليتمكن الناشبة من عقرهم من الأسوار، حتى فشت فيهم الجراحات. ثم صمم نحوهم، فانفرج القلب وانفضت الجموع. وزحف السلطان في الساقة، فانذعروا في الجهات. وافترق بنو مرين إلى مواطنهم. ولحق يحيى بن رحو بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ الخلط. ولحق عبد الحليم وإخوته بتازى بعد أن شهد لهم أهل المقام بصدق الجلاد وحسن البلاء في ذلك المجال وصابر عمر بن عبد الله أمره ينتظر قدوم محمد بن أبي عبد الرحمن، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن قدوم محمد ابن الأمير أبي عبد الرحمن وبيعته بالبلد الجد يد في كفالة عمر بن عبد الله: لما نبذ عمر إلى بني مرين عهدهم واعصوصبوا عليه، ونكروا ما جاء به من البيعة لأبي عمر، مع فقده العقل الذي هو شرط الخلافة شرعاً وعادة ونقموه عليه، اتهم نفسه في نظره وفزع إلى التماس المرشحين، فوقع نظره على حافد السلطان أبي الحسن محمد ابن الأمير أبي عبد الرحمن النازع لأول دولة السلطان أبي سالم من رندة إلى الطاغية. وكان قد نزل منه بخير مثوى، فبعث إليه مولاه عتيقاً الخصي، ثم تلاه بعثمان ابن الياسمين، ثم تلاهما بالرئيس الأبكم من بني الأحمر، وفي كل ذلك يستحث قدومه. وخاطب المخلوع ابن الأحمر وهو في جوار الطاغية كما قدمناه وقريب عهد بجوارهم،
فخاطبه في استحثاثه واستخلاصه من يد الطاغية. وكان المخلوع يرتاد لنفسه منزلاً من ثغور المسلمين، لما كان فسد بينه وبين الطاغية ورام النزوع عن إيالته، فاشترط على الوزير عمر النزول له عن رندة، فتقبل شرطه وبعث إليه الكتاب بالنزول عنها، بعد أن وضع الملأ عليه خطوطهم من بني مرين والخاصة والشرفاء، فسار ابن الأحمر إلى الطاغية. وسأل منه تسريح محمد هذا إلى ملكه وأن قبيله دعوه إلى ذلك، فسرحه بعد أن شرط عليه وكتب الكتاب بقبوله. وفصل من إشبيلية في شهر المحرم فاتح ثلاث وستين وسبعمائة. ونزل بسبتة وبها سعيد بن عثمان من قرابة عمر بن عبد الله. وأرصده لقدومه، فطير بالخبر إليه، فخلع أبا عمر من الملك وأنزله بداره مع حرمه. وبعث إلى السلطان أبي زيان محمد بالبيعة والآلة والفساطيط. ثم جهز عسكراً للقائه، فتلقوه بطنجة. وأغذ السير إلى الحضرة، فنزل منتصف شهر صفر بكدية العرائس. واضطرب معسكره بها، وتلقاه الوزير يومئذ وبايعه وأخرج فسطاطه، فاضطر به بمعسكره وتلوم السلطان هنالك ثلاثاً. ثم دخل في الرابعة إلى قصره واقتعد أريكته وتوح ملكه. وعمر مستبد عليه لا يكل إليه أمراً ولا نهياً. واستطال عند ذلك المنازعون أولاد علي كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن تجهيز السلطان عبد الحليم وإخوته إلى سجلماسة بعد الواقعة عليهم بمكناسة: لما سمع عبد الحليم بقدوم محمد بن أبي عبد الرحمن من سبتة إلى فاس وهو بمكانه من تازى، سرح أخاه عبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيه إلى اعتراضه، فانتهوا إلى مكناسة وخاموا عن لقائه. فلما دخل إلى البلد الجديد، أجلبوا بالغارة على النواحي وكثر العيث. وأجمع الوزير عمر على الخروج إليهم بالعسكر، فبرز في التعبية والآلة وبات بوادي النجا. ثم أصبح على تعبية وأغذ السير إلى مكناسة، فزحف إليه عبد المؤمن وابن أخيه عبد الرحمن في جموعهم، فجاولهم القتال ساعة، ثم صمد إليهم فدفعهم عن مكناسة. وانكشفوا فلحقوا بأخيهم السلطان عبد الحليم بتازى. ونزل الوزير عمر بساحة مكناسة وأوفد بالفتح على السلطان وكنت وافده إليه يومئذ، فعمت البشرى واتصل السرور. وتهنأ السلطان ملكه وتودع من يومئذ سلطانه. ولما
وصل عبد المؤمن إلى أخيه عبد الحليم بتازى مفلولاً، انفض معسكره ونزعوا عنه إلى فاس وذهب لوجهه هو وإخوانه مع وزيرهم السبيع بن محمد ومن كان معهم من العرب المعقل، فلحقوا بسجلماسة. وكان أهلها قد دخلوا في بيعتهم ودانوا بطاعتهم واستقروا بها. وجددوا رسم الملك والسلطان، إلى أن كان من خروجهم عنها، ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن قدوم عامر بن محمد ومسعود بن ماساي من مراكش وما كان من وزارة ابن ماساي واستبداد عامر بن محمد بمراكش: كان السلطان أبو سالم، لما استقل بملك المغرب، استعمل على جباية المصامدة وولاية مراكش محمد بن أبي العلاء بن أبي طلحة من أبناء العمال. وكان مطلعاً بها. ونافس الكثير من ذوي عامر فأحفظه ذلك. وربما تكررت سعايته في عامر عند السلطان ولم يقبل. ولما بلغ عامر خبر مهلك السلطان أبي سالم وقيام عمر بالأمر، وكانت بينهما خلة بيت محمد بن أبي العلاء، فتقبض عليه وامتحنه وقتله واستقل بأمر مراكش. وبعث إليه الوزير عمر بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم يعتده، لما توقع من حصار بني مرين إياه، أن يجلب به عامر عليهم ويستنقذه كما ذكرناه. ثم سرح مسعود بن ماساي كما ذكرناه. ولما أحاط بنو مرين بالبلد الجديد، جمع عامر من إليه من الجند والحشود وزحف بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم إلى أنفى، ونزل بوادي أم ربيع. ولما انفض جمعهم من على البلد الجديد، لحق به يحيى بن رحو وكان له صديقا ملاطفاً، فتنكر له توفية لعمر بن عبد الله وصاحبه مسعود. وبعثه إلى الجبل ولم يشهده الجمع، فذهب مغاضباً. ولحق بسجلماسة بالسلطان عبد الحليم. وهلك في بعض حروبه مع العرب. ولما انفض عبد المؤمن وأجفل عبد الحليم من تازى، ولحقوا بسجلماسة، واستوسق الأمر لعمر بن عبد الله، وفرغ من شأن المنازعين ومضايقتهم له، رجع إلى ما كان يؤمله من الاستظهار على أمره بمسعود بن رخو وإخوته وأقاربه، لمكان الصهر الذي بينهما، فاستقدمه للوزارة مرضاة لبني مرين لما كان عليه من استمالتهم لجميع المذاهب والإغضاء عفا نالوه به من النكاية. وكان عامر بن محمد مجمعاً القدوم على السلطان، فقدم في صحابته ونزل من الدولة بخير
منزل. وعقد السلطان لمسعود بن رخو على وزارته بإشارة الوزير عمر وفاضطلع بها. ودفعه عمر إليها استنامة إليه وثقة بمكانه واستظهاراً بعصابته. وعقد مع عامر بن محمد الحلف على مقاسمة المغرب من تخم وادي أم ربيع، وجعل إمارة مراكش لأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم إسعافاً بغرض عامر بن محمد في ذلك. وأصهر عامر إليهم في بنت مولانا السلطان أبي يحيى المتوفى عنها السلطان أبو الحسن، فحملوا أولياءها على العقد له عليها. وانكفأ راجعاً إلى مكان عمله بمراكش، يجر الدنيا وراءه عزا وثروة وتابعاً، لجمادى من سنة ثلاث وستين وسبعمائة. وصرف عمر عزيمته إلى تشريد عبد الحليم وأخيه من سجلماسة، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن زحف الوزير عمر بن عبد الله إلي سجلماسة: لما احتل عبد الحليم وإخوته بسجلماسة، اجتمع إليهم عرب المعقل بكافة حللهم. واقتضوا خراج البلاد، فوزعوه فيهم، وانتضوا على الطاعة رهنهم. وأقطعهم جهات المختص بأسرها واعصوصبوا عليه. واستحثه يحيى بن رحو ومن هناك من مشيخة بني مرين إلى النهوض للمغرب، فأجمع أمره على ذلك. وتدبر الوزير عمر أمره وخشي أن يضطرم جمره، فأجمع الحركة إليه. ونادى في الناس بالعطاء والصلة، فاجتمعوا إليه وبث العطاء فيهم. واعترض العساكر وأزاح العلل. وارتحل من ظاهر فاس في شعبان من سنة ثلاث وستين وسبعمائة وارتحل معه ظهيره مسعود بن ماساي، وبرز السلطان عبد الحليم إلى لقائهم. ولما تراءت الفئتان بتاغزوطت، عند فرج الجبل المفضي من تلول المغرب إلى الصحراء، هموا باللقاء. ثم تواقفوا أياماً وتمشت بينهم رجالات العرب في الصلح والتجافي لعبد الحليم عن سجلماسة تراث أبيه، فانعقد مسعود ما بينهما وافترقا. ورجع كل واحد منهما إلى عمله ومكانه من سلطانه. ودخل عمر والوزير مسعود إلى البلد الجديد في رمضان من سنته، وتلقاهما سلطانهما بأنواع المبرة والكرامة. ونزع الوزير محمد السبيع عن السلطان عبد الحليم
إلى الوزير عمر وسلطانه، فتقبل وحل محل الكرامة والردافة للوزارة واستقر كل بمكانه. وتودعوا أمرهم، إلى أن كان من خلع عبد المؤمن لأخيه عبد الحليم، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن بيعة العرب لعبد المؤمن وخروج عبد الحليم إلي المشرق: لما رجع عبد الحليم، بعد عقد السلم مع الوزير عمر، إلى سجلماسة واستقر بها. وكان عرب المعقل من ذوي منصور فريقين: الأحلاف وأولاد حسين. وكانت سجلماسة وطناً للأحلاف وفي مجالاتهم فذ أول أمرهم ودخولهم المغرب. وكان من أولاد حسين في ممالأة الوزير عمر ما قدمناه، فكانت صاغية السلطان عبد الحليم إلى الأحلاف بسبب ذلك أكثر، فأسف ذلك أولاد حسين على الأحلاف وتجددت بينهما لذلك فتنة وتزاحفاً. وأخرج السلطان عبد الحليم أخاه عبد المؤمن لرقع ما بينهما من الخرق ولأمته، فلما قدم على أولاد حسين دعوه إلى البيعة والقيام بأمره، فأبى وأكرهوه عليها وبايعوه. وزحفوا إلى سجلماسة في صفر من سنة أربع وستين وستمائة. وبرز عبد الحليم إليهم في أوليائه من الأحلاف. وتواقفوا ملياً وعقلوا رواحلهم. ثم انكشف الأحلاف وانهزموا. وهلك يحبى بن رحو كبير المشيخة من بني مرين يومئذ في حربهم. وتغلبوا على سجلماسة، ودخل إليها عبد المؤمن وتخلى له أخوه عبد الحليم عن الأمر وخرج إلى المشرق لقضاء فرضه، فودعه وزوده بما أراد. وارتحل إلى الحج وقطع المفازة إلى بلد مالي من السودان. وصحب منها ركاب الحاج إلى مصر. ونزل على أميرها المتغلب على سلطانها يومئذ، وهو يلبغا الخاصكي وأنهى خبره إليه. وعرف بمقامه، فاستبلغ في تكريمه بما يناسب بيته وسلطانه. وقضى حجه وانصرف إلى المغرب، فهلك بقرب الإسكندرية سنة ست وستين وسبعمائة. واستمل عبد المؤمن بأمرسجلماسة، حتى كان من نهوض العساكر إليه، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نهوض ابن ماساي بالعساكر إلى سجلماسة واستيلائه عليها ولحاق عبد المؤمن بمراكش:
لما افترقت كلمة أولاد السلطان أبي عنان وخلع عبد المؤمن أخاه تطاولى الوزير
عمر إلى التغلب عليهم. ونزع إليه الأحلاف عدو أولاد حسين وشيعة عبد الحليم المخلوع، فجهز العساكر وبث العطاء وأزاح العلل. وسرح ظهيره مسعود بن ماساي إلى سجلماسة، فنهض إليها في ربيع من سنة أربع وستين وسبعمائة. وتلقاه الأحلاف بحللهم وناجعتهم، وأغذ السير ونزع الكثير من أولاد حسين إلى الوزير مسعود. وبعث عامر بن محمد عن عبد المؤمن، فرحل عن سجلماسة وتركها. ولحق بعامر، فتقبض عليه واعتقله بداره من جبل هنتاتة. ودخل الوزير مسعود إلى سجلماسة واستولى عليها. واقتلع منها جرثومة الشقاق باقتلاع دعوة أولاد أبي علي منها. وكر راجعاً إلى المغرب لشهرين من حركته، فاحتل بفاس إلى أن كان من خبره وانتقاضه على عمر وفساد ما بينهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن انتقاض عامر ثم انتقاض الوزير ابن ماساي علي أثره:
لما استقل عامر بالناحية الغربية من جبال المصامدة ومراكش وما إلى ذلك من الأعمال واستبد بها، ونصب لأمره أبا الفضل ابن السلطان أبي سالم واستوزر له واستكتب، وصارت كأنها دولة مستقلة، فصرف إليه النازعون من بني مرين على الدولة وجوه مفرهم ولجأوا إليه، فأجارهم على الدولة، واجتمع إليه منهم ملأ. وأشاروا عليه باستقدام عبد المؤمن وأنه أبلغ ترشيحاً من أبي الفضل بنسبه وقيامه على أمره وصاغية بني مرين إليه، فاستدعاه وأظهر لعمر أنه يروم بذلك مصلحته والمكر لعبد المؤمن. ونمي ذلك كله إلى عمر، فارتاب به. ونزع إليه آخراً من نزع السبيع بن موسى بن
إبراهيم الوزير. كان لعبد الحليم، فكشف عمر القناع في مطالبته وتجهيز العسكر إليه. واستراب بأهل ولايته. وعثر على كتاب من الوزير مسعود بن ماساي إليه يخالصه ويبذل له
النصيحة، فتقبض على حامله وأودعه السجن، فتنكر مسعود. وأغراه صحابته الملابسون له من بني مرين بالخروج ومنازعة عمر في الأمر. ووعدوه النصر منه، فاضطرب معسكره بالزيتون من خارج فاس، مورياً بالنزعة إبان الربيع وزخرف الأرض في شهر رجب من سنة خمس وستين وسبعمائة. وبنى أصحابه الفساطيط في، معسكره، حتى إذا استوفوا جمعهم واعتزم على الخروج، ارتحل مجاهراً بالخلاف وعسكر بوادي النجا من كان يعده الخروج معه من بني مرين. ثم ارتحل إلى مكناسة. وكتب إلى عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن يستقدمه للبيعة، وكان بجهات تادلاً قد خرج بها بعد انصرافهم من سجلماسة، وتخلفه عن أخيه عبد المؤمن. وبعث عامر إليه بعثاً فهزموه ثم لحق ببني ونكاسن، فبعث إليه ابن ماساي وأصحابه، فقدم عليهم وبايعوه. وأخرج عمر سلطانه محمد بن أبي عبد الرحمن وعسكر بكدية العرائس. وبث العطاء وأزان العلل. ثم ارتحل إلى وادي النجا فبيته مسعود وقومه، فثبت هو ومعسكره في مراكزهم حتى إنجاب الظلام وفروا أمامهم، فاتبعوا آثارهم وانفض جمعهم. وبدا لهم ما لم يحتسبوه من أصفاق الناس على السلطان ووزيره عمر واعتصامهم بطاعته، فانذعروا. ولحق مسعود بن ماساي بن رحو بتادلاً. ولحق الأمير عبد الرحمن ببلاد بني ونكاسن. ورجع عمر والسلطان إلى مكانهم من الحضرة. واستمال مشيخة بني مرين، فرجعوا إليه وعفا لهم عنها واستصلحهم. وتمسك أبو بكر بن حمامة بدعوة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأقامها في نواحيه. وبايعه عليه موسى بن سيد الناس، من بني علي أهل جبل دبدو من بني ونكاسن، بما كان صهراً له. وخالفه قومه إلى الوزير عمر. وأغراه بالنهوض إلى أبي بكر بن حمامة، فنهض وغلبه على بلاده. واقتحم حصنه إيكلوان. وفر هو وصهره موسى وفارقوا سلطانهم عبد الرحمن ونبذوا إليه عهده. ورجعوا إلى طاعة صاحب فاس، فلحق هو بتلمسان ونزل على السلطان أبي حمو.
فاستبلغ في تكريمه. ولحق وزيره مسعود بن ماساي بدبدة ونزل على أميره محمد بن زكدان صاحب ذلك الثغر. ثم بدا له في أمره، وداخل صاحب الثغر وبعث عن الأمير عبد الرحمن من تلمسان ليطارد به لفرصة ظنها في المغرب ينتهزها. وأبى عليه أبو حمو من ذلك، فركب مطية الفرار ولحق بابن ماساي وأصحابه، فنصبوه للأمر وأجلبوا على تازى. ونهض الوزير إليهم في العساكر واحتل بتازى. وتعرضوا للقائه، ففض جموعهم وردهم على أعقابهم إلى جبل دبدو. وسعى بينهم ونزمار بن عريف، ولي الدولة، في قبض عنانهم عن المنازعة والتجافي عن طلب الأمر، وأن يتحيزوا إلى الأندلس للجهاد، فأجاز عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره ابن ماساي من غساسة، فاتح سبع وستين وسبعمائة. وخلا الجو من أجلابهم وعنادهم. ورجع الوزير إلى فاس واحتشد إلى مراكش، كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن نهوض الوزير عمر وسلطانه إلى مراكش: لما فرغ عمر من شأن مسعود وعبد الرحمن بن أبي يفلوسن، صرف نظره إلى ناحية مراكش وانتزاء عامر بن محمد بها. وأجمع أمره على الحركة إليه، فأفاض العطاء ونادى بالسفر إلى حرب عامر وأزاح العلل، وارتحل إليه لرجب من سنة سبع وستين وسبعمائة. وصعد عامر وسلطانه أبو الفضل إلى الجبل، فاعتصم به وأطلق عبد المؤمن من معقله. ونصب له الآلة وأجلسه على سرير حذاء سرير أبى الفضل، يوهم أنه بايع له، وأنه قد حكم أمره يجأجىء بذلك لبني مرين، لما علم من صاغيتهم إليه. وخشي عمر مغبة ذلك، فألان له في القول ولاطفه في الخطاب وسعى بينهما في الصلح حسون بن علي الصبيحي، فعقد له عمر من ذلك ما ابتغاه، وانقلب إلى فاس. ورجع عامر عبد المؤمن إلى معتقله وأجرى الأحوال على ما كانت من قبل، إلى أن بلغهم قتل الوزير عمر لسلطانه، كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مهلك السلطان محمد بن أبي عبد الرحمن وبيعة عبد العزيز ابن السلطان ابني الحسن:
كان شأن هذا الوزير عمر في الاستبداد على سلطانه محمد هذا عجباً، حتى بلغ
مبلغ الحجر للسفهاء من الصبيان. وقد جعل عليه العيون والرقباء حتى من حرمه وأهل قصره. وكان السلطان كثيراً ما يتنفس الصعداء من ذلك مع ندمائه ومن يختصه بذلك من حرمه، إلى أن حدث نفسه باغتيال الوزير. وأمر بذلك طائفة من العبدى كانوا يختصون به، فنمي القول. وأرسل به الوزير بعض الحرم كانوا عيناً له عليه، فخشيه على نفسه. وكان من الاستبداد والدالة، أن الحجاب مرفوع له عن خلوات السلطان وحرمه ومكاشفة رتبه، فخلص إليه في حشمه وهو معاقر لندمائه، فطردوهم عنه وتناولوه غطا حتى فاض، وألقوه في بئر بروض الغزلان. واستدعى الخاصة، فأراهم مكانه وأنه سقط عن دابته وهو
ثمل في تلك البئر، وذلك في المحرم فاتح ثمان وستين وسبعمائة. واستدعى من حينه عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن وكان في بعض الدور بالقصبة من فاس، تحت رقابة وحراسة من الوزير، لما كان السلطان محمد يروم الفتك به غيرة منه على الملك، لمكان ترشيحه، فحضر بالقصر وجلس على سرير الملك. وفتحت الأبواب لبني مرين والخاصة والعامة، فازدحموا على تقبيل يده معطين الصفقة على طاعته. وكمل أمره وبادر الوزير من حينه إلى تجهيز العساكر إلى مراكش. ونادى بالعطاء وفتح الديوان وكمل الاعتراض. وارتحل بسلطانه من فاس في شهر شعبان وأغذ السير إلى مراكش. ونازل عامر بن محمد بمعقله من جبل هنتاتة، ومعه الأمير أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم وعبد المؤمن ابن السلطان أبي علي، أطلقه من الاعتقال أيضاً وأجلسه موازي ابن عمه، واتخذ له الآلة يموه به شأنه الأول ثم سعى بينه وبين عامر في الصلح، فانعقد بينهما وانكفأ راجعاً بسلطانه إلى فاس في شهر شوال، فكان حتفه إثر ذلك، كما نذكره إن شاء الله تعالى والله وأعلم.
الخبر عن مقتل الوزير عمر بن عبد الله واستبداد السلطان عبد العزيز بأمره:
كان عمر قد عظم استبداده على السلطان عبد العزيز، فحجره ومنعه من التصرف
في شيء من أمره. ومنع الناس من التعرض له في شيء من أمورهم. وكان أمه حذرة عليه إشفاقاً وحباً. وكان عمر لما ملك أمره واستبد عليهم سما إلى الإصهار إليهم في بنت السلطان أبي عنان. واشترط لها، زعموا تولية أخيها الأمير. ونمي ذلك إلى السلطان، وأن عم مغتاله لا محالة. وقارن ذلك أن عمر أوعز إلى السلطان بالتحول عن قصره إلى القصبة، فركب أسنة الغرر لاضطراره واعتزم على الفتك به. وأكمن بزوايا داره جماعة في الرجل وأعدهم للتوثب به. ثم استدعاه إلى بيته للمؤامرة معه على سنته، فدخل معه. وأغلق الموالي من الخصيان باب القصر من ورائه. ثم أغلظ له السلطان في القول وعتبه. ودلف الرجل إليه من زوايا الدار، فتناولوه بالسيوف هبراً. وصرخ ببطانته بحيث أسمعهم، فحملوا على الباب وكسروا أغلاقه، فألفوه مضرجاً بدمائه، فولوا الأدبار وانفضوا من القصر وانذعروا. وخرج السلطان إلى مجلسه، فاقتعد أريكته واستدعى خاصته. وعقد لعمر بن مسعود بن منديل بن حمامة من بني مرين وشعيب بن ميمون بن ودرار من الجشم ويحيى بن ميمون أمصمود من الموالي. وكملت بيعته منتصف ذي القعدة سنة ثمان وستين وسبعمائة. وتقبض على علي ابن الوزير عمر وأخيه وعمه وحاشيتهم وذويهم واعتقلهم حتى أتى القتل عليهم لليال. واستأصل النكال شأفتهم. وسكن وأمن ورد المنافرين بأمانه وبسط لهم في وجه بشره. ثم تقبض لأيام على سليمان بن داود ومحمد السبيع وكانا من مخالصة عمر بمكان، فاعتقلهما استرابة بهما ولشيء نمي له عنهما. وأودعهما السجن إلى أن هلك واعتقل معهما علال بن محمد والشريف أبا القاسم ريبة بصحابتهما. ثم امتن عليهما بشفاعة ابن الخطيب وزير ابن الأحمر وأقصاه. ثم أطلق عنانه في الاستبداد. وقبض أيدي الخاصة والبطانة عن التصرف في شيء من سلطانه إلا بإذنه وعن أمره. وهلك لأشهر من استبداده الوزير شعيب بن ميمون. ثم هلك يحيى بر ميمون. على ما نذكره إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
الخبر عن انتزاء أبي الفضل ابن المولى أبي سالم ثم نهوض السلطان إليه ومهلكه:
لما فتك السلطان عبد العزيز بعمر بن عبد الله المتغلب عليه، سولت لأبي الفضل
ابن السلطان أبي سالم نفسه مثلها في عامر بن محمد، لمكان استبداده عليه، وأغراه بذلك بطانته. وتوجس لها عامر، فتمارض بداره. واستأذنه في، الصعود إلى معتصمه بالجبل ليمرضه هنالك حرمه وأقاربه، وارتحل بجملته. ويئس أبو الفضل من الاستمكان منه. وأغراه حشمه بالراحة من عبد المؤمن. ولليال من منصرف عامر، ثمل أبو الفصل ذات ليلة وبعث عن قائد الجند من النصارى، فأمره بقتل عبد المؤمن بمكان معتقله مر قصبة مراكش فجاء برأسه إليه. وطار الخبر إلى عامر، فارتاع وحمد الله أن خلص ص غائلته. وبعث ببيعته إلى السلطان عبد العزيز وأغراه بأبي الفضل ورغبه في ملك مراكش. ووعده بالمظاهرة، فأجمع السلطان أمره على النهوض إلى مراكش. ونادى في الناس بالعطاء وقضى أسباب حركته. وارتحل من فاس سنة تسع وستين وسبعمائة. واستبد أبو الفضل بعد مهلك عبد المؤمن. واستوزر طلحة السنوري وجعل علامته لمحمد بن محمد بن منديل الكناني وجعل شوراه لمبارك بن إبراهيم عطية الخلطي. ثم سخط طلحة التينوري بسعاية الكناني، فقتله واعتمد بعساكره منازلة عامر. ولما فصل لذلك عن مراكش جاءه الخبر بحركة السلطان عبد العزيز إليه، فانفض معسكره. ولحق بتادلا ليعتصم بها في معتقل بني جابر. وعاج السلطان عن مراكش بعساكره إليها، فنازله وأخذ بمخنقه وقاتله، ففل عسكره. وداخله بعض بني جابر في الإخلال بمصافه يوم الحرب مع مال بذله لهم، ففعلوا وانهزمت عساكر أبي الفضل وجموعه وتقبض على أشياعه. وسيق مبارك بن إبراهيم إلى السلطان، فاعتقله إلى أن قتله مع عامر عند مهلكه كما نذكره. وفر الكناني إلى حيث لم يعلم مسقطه. ثم لحق بعامر بن محمد، ولحق أبو الفضل بقبائل صناكة من ورائهم. وداخلهم أشياع السلطان من بني جابر وبذلوا لهم المال الدثر في إسلامه فأسلموه. وبعث السلطان إليهم وزيره يحيى بن ميمون، فجاء به أسيراً.
وأحضره السلطان، فوبخه وقرعه واعتقله بفسطاط في جواره، ثم غط من الليل. وكان مهلكه في رمضان من سنة تسع وستين وسبعمائة. وبعث السلطان إلى عامر يختبر طاعته بذلك، فأبى عليه. وجاهر بالخلاف، إلى أن كان من شأنه، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نكبة الوزير يحيي بن ميمون بن مصمود ومقتله: كان يحيى بن ميمون هذا من رجالات دولتهم ورئي في دولة السلطان أبي الحسن وكان عمه علال عدواً له لعداوة أبيه. ولما انتزى السلطان أبو عنان على ملك أبيه، استخلص يحيى هذا سائر أيامه، وهلك كما ذكرناه. واستعمل يحيى ببجاية، فلم يزل بها إلى أن نقبض عليه الموحدون، لما استخلصوا بجاية من يده. وصار إلى تونس واعتقل بها مدة. ثم صرفوه إلى المغرب أيام عمر، فاختص به. ولما عقد له السلطان عبد العزيز على وزارته وكان قوي الشكيمة شديد الحزم وصعب العداوة مرهف الحد، وكان عمه علال بعد أن أطلقه السلطان من الاعتقال مكنه من إذنه وأقامه متصرفاً بين يديه، فألقى إلى السلطان استبداد يحيى عليه وحذره من شأنه. ورفع إليه أنه يروم تحويل الدعوة لبعض القرابة من آل عبد الحق، وأنه داخل في ذلك قواد الجند من النصارى. وأصاب الوزير وجع قعد به عن مجلس السلطان، فاختلف الناس إلى زيارتة. وعكف ببابه قواد النصارى، فاستراب بأمرهم. وتيقن الأمر بعكوفهم، فأرسل السلطان من حشمه من تقبض عليه وأودعه السجن. ثم جنب إلى مصرعه من الغد وقتل قعصا بالرماح. وقتل المتهمون من القرابة وقواد الجند واستلحموا جميعاً وصاروا مثلاً في الآخرين. والأمر لله. الخبر عن حركة السلطان إلى عامر بن محمد ومنازلته بجبله، ثم الظفر به: لما فرغ السلطان من شأن أبي الفضل، عقد على مراكش لعلي بن محمد بن أجانا من
صنائع دولتهم. وأوعز إليه بالتضييق على عامر والأخذ بمخنقه وإلجائه إلى الطاعة. وانقلب إلى فاس واعتزم على الحركة إلى تلمسان. وبينما هو في الاستغفار كذلك إذ جاء الخبر بأن علي بن أجاناً نهض إلى عامر وحاصره أياماً. وأن عامراً زحف إليه، ففض معسكره. وتقبض على ابن أجاناً والكثير من العسكر، فاعتقلهم، فقام السلطان في ركائبه وقعد وأجمع أمره على النهوض إليه، بكافة بني مرين وأهل المغرب، فبعث في الحشود وبث العطاء. وعسكر بظاهر البلد، حتى استوفى الغرض وعقد على وزارته لأبي بكر بن غازي بن يحيى بن الكاس، لما كان فيه من مخايل الرياسة والكفاية، ورفع محله. وارتحل سنة سبعين وسبعمائة، فاحتل بمراكش، ثم خرج إلى منازلته وكان عامر بن محمد، قد نصب بعض الأعياص من آل عبد الحق، من ولد أبي ثابت بن يعقوب بن عبد الله، إسمه تاشفين. ولحق به علي بن عمر بن ويغلان من شيوخ بني ورتاجن، كبير بني مرين وصاحب الشورى فيهم لعهده، فاشتد أزره به. وتوافى به كثير من الجند النازعين عن السلطان، رهبة من بأسه أو سخطة بحاله أو رغبة فيما عند عامر قريبهم. وأمسك الله يده عن العطاء، فلم يسل بقطرة. وطال مثوى السلطان بساحته وعلى حصاره. وبؤأ المقاعد للمقاتلة، وغاداه بالقتال وراوحه. وتغلب على حصونه شيئاً فشيئاً، إلى أن تعلق بأعلى الجبل تامسكروط، وكان لأبي بكر بن غازي غناء مذكور، ويئس أصحاب عامر وأشياعه من عطائه. وفسد ما بينه وبين علي بن عمر هذا، فدس إلى السلطان بطلب الأمان ويتوثق لنفسه، ثم نزع إليه. وداخله فارس بن عبد العزيز ابن أخي عامر في القيام بدعوة السلطان والخلاف على عمه، لما كان يوسق به من إرهاف الحد وتفضيل ابنه أبي بكر عليه، فبلغ خبره إلى السلطان. واقتضى له وثيقة من الأمان والعهد به بها إليه، فثار بعمه. واستدعى القبائل من الجبل إلى طاعة السلطان فأجابوه. واستحث السلطان للزحف إليهم، فزحفت العساكر والجنود واستوت على معتصم الجبل. ولما استيقن عامر أن قد احيط به، أوعز إلى ابنه أن يلحق بالسلطان مموهاً بالنزوع، فألقى بنفسه إليه وبذل له
الأمان ولحقه بجملته. وانتبذ عامر عن الناس وذهب لوجهه، ليخلص إلى السوس، فرده الثلج وقد كانت السماء أرسلت به منذ أيام برداً وثلجاً، حتى تراكم بالجبل بعضه على بعض. وسد المسالك، فاقتحمه عامر وهلك فيه بعض حرمه ونفق مركوبه. وعاين الهلكة العاجلة، فرجع مخفياً أثره إلى غار أوى إليه مع أدلاء بذل لهم المال، ليسلكوا به ظهر الخبل إلى الصحراء بالسوس. وأقاموا ينتظرون إمساك الثلج. وأغرى السلطان بالبحث عنه، فدلهم عليه بعض البربر وعثروا عليه، فسيق إلى السلطان وأحضره بين يديه. ووبخه فاعتذر وبخع بالطاعة. ورغب في الإقالة واعترف بالذنب، فحمل إلى مضرب بني له وراء فسطاط السلطان، واعتقل هنالك. وتقبض يومئذ على محمد بن الكناني، فاعتقل. وانطلقت الأيدي على معاقل عامر ودياره، فانتهب من الأموال والسلاح والذخيرة والزرع والأقوات والخرثى ما لا عين رأت ولا خطر على قلب أحد منهم. واستولى السلطان على الجبل ومعاقله، في رمضان من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، لحول من يوم حصاره. وعقد على هنتاتة لفارس بن عبد العزيز بن محمد بن علي. وارتحل إلى فاس واحتل بها آخر رمضان. ودخلها في يوم مشهود برز فيه الناس. وحمل عامر وسلطانه تاشفين على جملين، وقد أفرغ عليهما الرث وعبثت بهما أيدي الإهانة، فكان ذلك عبرة لمن رآه. ولما قضى منسك الفطر أحضر عامراً، فقرعه بذنوبه. واوتي كتابه بخطه يخاطب به أبا حمو يستنجده على السلطان، فشهد عليه. وأمر السلطان، فامتحن ولم يزل يجلد حتى انتثر لحمه وضرب بالعصا حتى ورمت أعضاؤه، وهلك بين يدي الوزعة. واحضر الكناني، ففعل به مثله. وجنب تاشفين سلطانهم إلى مصرعه، فقتل قعصاً بالرماح. وجنب مبارك بن إبراهيم من محبسه بعد طول الاعتقال، فألحق بهم. ولكل أجل كتاب. وصفاً الجو للسلطان من المنازعين. وفرغ لغزو تلمسان كما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن ارتجاع الجزيرة الخضراء: قد تقدم لنا ذكر تغلب الطاغية الهنشة على الجزيرة، سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. وأنه نازل إ بعدها جبل الفتح سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وهلك بالطاعون وهو محاصر له عندما استفحل أمره واشتدت شوكته، فكفى الله به شأنه. وولي أمر الجلالقة بعده ابنه
بطرة وعدا على سائر إخوته. وفر أخوه القمط، ابن حظية أبيه المسماة بلغتهم ألريق (بهمزة) إلى قمص برشلونة، فأجاره وأنزله خير نزل. ولحق به من الزعماء المركش ابن خالته وغيره من أقماصهم. وبعث إليه بطرة ملك قشتالة في إسلام أخيه، فأبى من إخفار جواره. وحدثت بينهما بسبب ذلك الفتنة الطويلة، افتتح بطرة فيها كثيراً من معاقل صاحب برشلونة وأوطأ عساكره نواحي أرضه، وحاصر بلنسية قاعدة شرق الأندلس مراراً، وأرجف عليها بعساكره، وملأ البحر إليها بأساطيله، إلى أن ثقلت على النصرانية وطأته وساءت فيهم ملكته، فانتقضوا عليه ودعوا القمط أخاه، فزحف إلى قرطبة. وثار على بطرة أهل إشبيلية، وتيقن صاغية النصارى إليه، ففر عن. ممالكه ولحق بملك الإفرنج وراء جليقية وفي الجوف عنها وهو صاحب أنكلطرة وإسمه ألفنس غالس. ووفد عليه صريخاً سنة سبع وستين وسبعمائة، فجمع قومه وخرج في صريخه إلى أن استولى على ممالكه. ورجع ملك الإفرنج، فعاد النصارى إلى شأنهم مع بطرة. وغلب القمط على سائر الممالك، فتحيز بطرة إلى ثغوره مما يلي بلاد المسلمين. ونادى صريخه بابن الأحمر، فانتهز فيها الفرصة. ودخل بعساكره المسلمين، فأثخن في أرض النصرانية وخرب معاقلهم ومدنهم: مثل أبدة وجيان وغيرهما من أمهات أمصارهم. ثم رجع إلى غرناطة، ولم تزل الفتنة قائمة بين بطرة وأخيه القمط، إلى أن غلبه القمط وقتله. وفي خلال هذه الفتن بقيت ثغورهم مما يلي أرض المسلمين عورة. وتشوف المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين. وكان صاحب المغرب في شغل عن ذلك، بما كان فيه من انتقاض أبي الفضل ابن أخيه وعامر بن محمد، فراسل صاحب الأندلس في أن يزحف إليها بعساكره، على أن عليه عطاءهم وإمداده بالمال والأساطيل، وعلى أن يكون مثوبة جهادها خالصة له، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه أحمال المال. وأوعز إلى أساطيله بسبتة، فعمرت وأقلعت إلى مرسى الجزيرة لحصارها. وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين على أثرها، بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العلل واستعد الآلة للحصار، فنازلها أياماً قلائل. ثم أيقن النصارى بالهلكة لبعدهم عن الصريخ ويأسهم من مدد ملوكهم، فألقوا باليد وسألوا النزول على حكم السلم، فأجابهم السلطان عليه. ونزلوا عن البلد وأقيمت فيها شعائر الإسلام
ومراسمه، ومحيت منها كلمة الكفر وطواغيته. وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته وذلك سنة سبعين وسبعمائة. وولى ابن الأحمر عليها من قبله. ولم تزل لنظره إلى أن تمحض النظر عن هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها، فهدمت أعوام ثمانين وسبعمائة وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس. والبقاء لله وحده.
الخبر عن حركة السلطان إلى تلمسان واستيلائه عليها وعلي سائر بلادها وفرار أبي حمو عنها.
كان عرب المعقل موطنين بصحراء المغرب من لدن السوس ودرعة تافليلالت وملوية وصا. وكان بنو منصور منهم أولاد حسين والأحلاف، مختصين بطاعة بني مرين وفي وطنهم. كانوا مغلبين للدولة وتحت قهر من سلطانها. ولما ارتجع بنو عبد الواد ملكهم بتلمسان على يد أبي حمو، وكان الاختلاف بالمغرب، عاث هؤلاء المعقل وأكثروا في الوطن الفساد. ولما استقلت الدولة من عثارها، تحيزوا إلى بني عبد الواد وأقطعوهم في أوطانهم. واستقروا هنالك من لدن نزوع عبد الله بن مسلم، العامل كان بدرعة، إلى أبي حمو ووزارته له. وفسد ما بين سلطان المغرب وبين أبي حمو من جراء ذلك. ونهض أبو حمو سنة ست وستين وسبعمائة إلى المغرب وعاث في نواحي دبدو ثغر المغرب فشبت لذلك نار العداوة بينه وبين صاحب الثغر محمد بن زكدان، فكان داعية لعداء صاحب المغرب علي الأيام. ولما استبد السلطان عبد العزيز وهلك عبد الله بن مسلم صاحبهم، وترددت الرسل بين أبي حمو وبين السلطان عبد العزيز، كان فيما اشترط عليه التجافي عن قبول المعقل عرب وطنه، لما فيه من الاستكثار بهم عليه. وأبى عليهم أبو حمو منها لاستظهاره بهم على زغبة من أهل وطنه وغيرهم. وكثر التلاحي في ذلك وأحفظ السلطان وهم بالنهوض إليه سنة سبعين وسبعمائة. وأقصر لما أخذ بحجرته من خلاف عامر. وصاحب الثغر محمد بن زكدان، أثناء ذلك يحرضه على الحركة إلى أبي حمو ويرغبه في ملك تلمسان. ولما قضى السلطان من حركة مراكش
وفرغ من شأن عامر ورجع إلى فاس، وافاه بها أبو بكر بن عريف أمير سويد في قومه من بني مالك بحللهم وناجعتهم، صريخاً على أبي حمو لما نال منهم.
وتقبض على أخيهم محمد ورؤساء بني مالك جزاء بما يعرف لهم ولسلفهم من ولاية صاحب المغرب. ووفد عليه معهم رسل أهل الجزائر ببيعتهم يستحثون السلطان لاستنقاذهم من لهواته. ووامر السلطان في ذلك وليه ونزمار بن عريد ومحمد بن زكدان صاحب دبدو، فزعموا له بالغناء في ذلك. واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشرين إلى مراكش للاحتشاد. وتوافى الناس ببابه على طبقاتهم أيام منى من سنة إحدى وسبعين وسبعمائة. وأفاض العطاء وأزاح العلل ولما قضى منسك في الأضحى اعترض العساكر وارتحل إلى تلمسان، واحتل بتازى. وبلغ خبر نهوضه إلى أبي حمو، فجمع صت إليه من زناتة الشرق وبني عامر من عرب زغبة. وتوافت جموعه بساحة تلمسان وأضرب هنالك معسكره واستعرض جنوده واعتزم على الزحف إلى لقاء بني مرين، ثقة بمكان المعقل. وتحيز من كان معه من عرب المعقل الأحلاف وعبيد الله إلى السلطان عبد العزيز، بمداخلة وليهم ونزمار. واجتمعوا إليه وسرح معهم صنائعه، فارتحلوا بين يديه وسلكوا طريق الصحراء. وبلغ خبر تحيزهم وإقبالهم إلى أبي حمو، فأجفل هو وجنوده وأشياعه من بني عامر وسلكوا على البطحاء. ثم ارتحلوا عنها وعاجوا على منداس، وخرجوا إلى بلاد الديالم. ثم لحقوا بوطن رياح ونزلوا على أولاد سباع بن علي بن يحيى. وارتحل السلطان عبد العزيز من تازى وقدم بين يديه وزيره أبا بكر بن غازي، فدخل تلمسان وملكها. ورحل السلطان على أثره واحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة إثنتين وسبعين وسبعمائة، فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي على العسكر من بني مرين والجنود والعرب من المعقل وسويد، وسرحه في أتباعهم، وجعل شوراه إلى وليه ونزمار وفوض إليه في ذلك. وارتحلوا من تلمسان آخر المحرم، وكنت وافداً على أبي حمو، فلما أجفل عن تلمسان ودعته وانصرفت إلى هنين للإجازة إلى الأندلس. ووشى بعض المفسدين عند السلطان بأني احتملت مالا للأندلس، فبعث جريدة من عسكره للقبض علي. ووافوه بوادي الزيتون قبل
مدخلي إلى تلمسان فأحضرني وسألني. وتبين كذب الواشين، فأطلقني وخلع عليّ وحملني، ولما ارتحل الوزير في أتباع أبي حمو استدعاني وأمرني بالنهوض إلى رياح والقيام فيهم بطاعته وصرفهم عن طاعة أبي حمو وصريخه، فنهضت لذلك ولحقت بالوزير بالبطحاء وارتحلت معه إلى وادي وراك من بلاد العطاف، فودعته وذهبت لوجهي وجمعت رياح على طاعة السلطان، ونكبت بهم عن صريخ أبي حمو، فنكبوا عنه. وخرج أبو زيان من محل بؤرته بحصين، فلحق بأولاد محمد بن علي بن سباع من الزواودة. وارتحل أبو حمو من المسيلة، فنزل بالدوسن وتلوم بها. وأوفدت من الزواودة على الوزير ونزمار، فكانوا أدلاءهم في النهوض إليه. ووافوه بمكانه من الدوسن في معسكره من زناتة وحلل بني عامر، والوزير في التعبية. وأمم زناتة والعرب من المعقل وزغبة ورياح محدقة به، فأجهضوه عن ماله ومعسكره، فانتهب بأسره. واكتسحت أموال العرب الذين معه ونجا بدمه إلى مصاب. وتلاحق به ولده وقومه متفرقين على كل مفازة وتلوم الوزير بالدوسن أياماً. ووافاه هنالك إتحاف بن مزني وانقلب إلى المغرب. ومر على قصور بني عامر بالصحراء، فاستباحها وشردهم عنها إلى قاصية القفر ومفازة العطش. ولحق بتلمسان في ربيع الثاني.
ووفدت أنا بالزواودة على السلطان ورئيسهم أبو الدينار بن علي بن أحمد، فبر السلطان مقدمه ورعى له سوابقه عند أبيه، وخلع عليه وحمله. وخلع على الوفد كافة وانصرفوا إلى مواطنهم. وبعث السلطان عماله في الأمصار، وعقد لصنائعه على النواحي ،جهز الكتائب مع وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة، لحصار حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن منديل، كان ربي في حجر الدولة ونشأ في جو نعمتها وسخط حاله لديهم، فنزع إلى وطن سلفه من بلاد معراوة. ونزل بجبل بني بو سعيد، فأجاروه وبايعوه الموت دونه. وسرح السلطان وزيره إلى الأخذ بمخنقهم، فنزل عليهم وقاتلهم. امتنعوا في رأس شاهق لهم، فأوطن الوزير بالخميس من وادي شلف وأحجرهم بمعتصمهم. وتوافت لديه الأمداد من العساكر من تلمسان، فجهزها
كتائب وبوأهم المقاعد للحصار، وأقام هنالك. واستولى السلطان على سائر الوطن من الأمصار والأعمال، وعقد عليها. واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه. والملك بيد يؤنبه من يشاء من عباده.
الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان إلي تيطري وأجلاب العرب بأبى حمو علي تلمسان، إلي أن غلبهم السلطان جميعا علي الأمر واستوسق له الملك:
لما خلص أبو حمو من واقعة الدوسن هو وأحياء بني عامر وأشياعه لحقوا بالصحراء وابعدوا فيها عن قصورهم قبلة جبل راشد. ورجع الوزير ونزمار بن عريف بأحياء العرب من زغبة والمعقل. وكان السلطان لما احتل بتلمسان طلب العرب منه إطلاق أيديهم ما أقطعهم أبو حمو إياه من الوطن على الزبون والاعتزاز عليه، فاستنكف من ذلك سلطانه واستبداد ملكه، فسخطوا أحواله ورجوا أن يكون لأبي حمو ظهور ينالون به .. فلما انهزم وفلت عساكره، وظهر السلطان ظهوراً لا كفاء له، فيئسوا. وأزمع بن منصور بن يعقوب أمير الخوارج من عبيد الله إحدى بطون المعقل الخروج على السلطان. ولما خرج العرب إلى مشاتيهم لحق بأبي حمو وأحياء بني عامر وكاثرهم إلى العيث في الأوطان. وأجلبوا على ممالك السلطان، ونازلوا وجدة في رجب
من سنة إثنتين وسبعين وسبعمائة. وصمد نحوهم العساكر من تلمسان، فأجفلوا وعادوا إلى البطحاء واكتسحوا أوطانهم. ونهض إليهم الوزير في العساكر، ففروا أمامه واتبع آثارهم إلى أن أصحروا. واستنسر خلال ذلك بغاث حمزة بن علي بن راشد، فبيت معسكر الوزير بمكانه من حصاره بشلف، ففض جموعه ولحق مفلولاً بالبطحاء. وبلغ الخبر إلى حصين وكانوا راهبين من السلطان، لما اشتهر عنهم من الخلاف على الدول والقيام بأمر الخوارج فجأجئوا بأبي زئان، الثائر كان عندهم من مكانه بأحياء أولاد يحيى بن علي بن سباع من الزواودة، فلحق بهم وأجلبوا على ضواحي المدية، ونازلوا عسكر السلطان بها. واضطرم المغرب الأوسط نازلاً، واتصل ذلك مدة. ولما كانت سنة ثلاث وسبعين
وسبعمائة، واستمال السلطان رخو بن منصور عن أبي حمو وبذل له مالاً وأقطعه ما أحب من الضواحي، وفعل ذلك بسائرهم وملأ صدورهم ترغيباً. واعتزم على تجهيز العساكر معهم لحسم أدواء الفساد وإخراج الثوار من النواحي. واتهم وزيره عمر بن مسعود بالمداهنة في أمر المغراوي، فسرح من ذويه من تقبض عليه وأشخصه إلى حضرته مقيداً، واعتقله بفاس. وجهز عساكره واعترض جنوده، وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي على حراب الثوار والخوارج، فنهض من تلمسان في رجب من سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. واعتمد حمزة بن علي بن راشد في معتصمه بجبل بني بوسعيد، وألح عليهم بالقتال، فعضتهم الحرب بنابها وداخلهم الرعب وأوفدوا مشيختهم على الوزير بالطاعة. ونبذ العهد إلى حمزة، فعقد لهم ما ابتغوه. ولحق حمزة بأبي زيان بمكانه من حصين. ثم أثنى عزمه عن ذلك ورجع إلى ضواحي شلف. وبيته بعض الحامية بتيمروغت، فثبتوا في مراكزهم وانفض جمعه وتقبض عليه وسيق إلى الوزير، فاعتقله. وبعث إلى السلطان في شأنه، فأمر بقتله، فاحتز رأسه ورؤوس أشياعه وبعث بهم إلى السلطان وعلق أشلاءهم بأسوار مليانه. ثم زحف إلى حصين، فأحجرهم بمعقلهم بتيطرا. واجتمعت إليه أحياء زغبة كافة. فأحاط بهم من كل جانب وطاولهم الحصار وغاداهم الحرب وخاطبني السلطان بمكاني من الزاب، وأوعز إلي بنفير رياح كافة إلى معسكر الوزير، فاستنفرتهم بأحيائهم وناجعتهم. ونازلنا الجليل من جانب الصحراء مما يلي ضواحي رياح، فأصابهم الجهد وداخلهم الرعب وانفضوا من المعقل وانذعروا في الجهات في المحرم فاتح أربع وسبعين وسبعمائة ولحق أبو زيان بواركلي، واستولى الوزير على المعقل وانتهب ما فيه. واقتضى
رهن حصين على الطاعة وقرر عليهم الوضائع والمغارم، فأعطوها عن يد. وكان أبو حمو في خلال ذلك قد أجلب على تلمسان ينتهز فرصة في انتباذ العساكر عن السلطان. وكان وليه خالد بن عامر أمير بني عامر من زغبة مريد الطاعة لما اتهم أبو حمو به بولاية رديفه عبد الله بن عسكر بن معرف دونه، فأسخطه ذلك وداخل السلطان عبد العزيز في الانحراف إليه عن أبي حمو على مال إليه، فنزع عنه. وجهز له السلطان عسكرا لحرب أبي حمو وأشياعه في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من
بني عامر وأولاد يغمور من المعقل، وعقد عليهم لمحمد بن عثمان من قرابة أبي بكر بن غازي. وتعرضوا للقائهم، فانفض جمعهم ومنحوا أكتافهم. وأحيط بمعسكر أبي حمو وحلل العرب، فاكتسح ما فبها واستولى بنو مرين على أمواله وحرمه وولده، فاستاقوهم إلى السلطان، وأشخصهم إلى فاس فأنزلهم بقصوره. وتقبض على مولاه عطية بن موسى صاحب شلف، فامتن عليه وألحقه بجملته. ونجا أبو حمو وألقى بنفسه إلى عبد الله بن صغير مستميتاً، فامتن عليه، وبعث معه الأدلاء إلى تيكورارين من بلاد القبلة، فنزلها، وكان ذلك بين يدي فتح تيطرى بليال. واستوت قدم السلطان في ملكه واستولى على المغرب الأوسط، ودفع الثوار والخوارج عنه. واستمال كافة العرب إلى طاعته، فأتوها راغبين وراهبين. ووفد عليه الوزير أبو بكر بن غازي من قاصية الشرق ومعه مشيخة العرب من كل حيّ من أحيائهم فوصلهم واحتفى بقدومهم، وركب للقاء الوزير وطلب المشيخة في الرهن على الطاعة والإستحثاث لترشيد أبي حموّ من تيكورارين، وأوسع حفايتهم وبرّهم وانصرفوا إلى مشاتيهم معتملين في أسباب الحركة إلى تيكورارين إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى .
الخبر عن قدوم ابن الخطيب على السلطان بتلمسان نازعاً إليه من سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس: أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمّى بالمرج على وادي سنجيل، ويقال شنبيل، المنحرف في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلف معروفون في وزراتها. وانتقل أبو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني، الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام. ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها، واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية، وبرز في الطب وانتحل الأدب، وأخذ عن أشياخه وامتلأ من حوض السلطان من نظمه ونثره، مع انتقاء الجيّد منه. وبلغ في الشعر والترسل بحيث لا بجارى فيهما. وامتدح السلطان أبا الحجّاج من ملوك بني الأحمر لعصره، وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماه، فرقّاه السلطان إلى خدمته وأثبته في
ديوان الكتّاب ببابه مرؤوساً بأبي الحسن بن الجياب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية. وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه، عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبدّ عليه كما مرّ في أخبارهم. فاستبدّ ابن الجياب برياسة الكتّاب من يومئذ، إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعماية، فولّى السلطان أبو الحجّاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه، مثّناة بالوزارة. ولقبه بها، فاستقلّ بذلك. وصدرت عنه غرائب من الترسل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة. ثم داخله السلطان في تولية العمّال على يده بالمشارطات، فجمع له بها أموالاً. وبلغ به المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله. وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة مقرباً بأبيه السلطان أبي الحسن فجلّى في أغراض سفارته.
ثم هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة، وطعنه فأشواه وفاض لوقته، وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء. وبويع ابنه محمد بالأمر لوقته. وأقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبدّ بالدولة. وأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه، واتخذ لكتابته غيره. وجعل ابن الخطيب رديفاً له في أمره وتشاركا في الاستبداد معاً، فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة. ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيراً إلى السلطان أبي عنان مستمدّين له على عدوّهم الطاغية على عادتهم مع سلفه. فلمّا قدم على السلطان ومثل بين يديه، تقدّم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شيء من الشعر يقدّمه بين يدي نجواه، فأذن له وأنشد وهو قائم:
- خليفةَ الله ساعد القــــــدَر ُعُلاك ما لاح في الدُجى قمرُ
- ودافعت عنك كفّ قدرتــــه ما ليس يستطيعُ دَفْعَهُ البشرُ
- وَجهُك في النائبات بدرُدُجـــى لنا وفي المُحْل كفّك المَطَرُ
- والناسُ طرّاً بأرضِ أنْدَلُــــسٍ لولاك ما أوطِنوا ولا عَمُروا
- وجُملةُ الأمر أنه وطــــــن في غير علياك ماله وَطَرُ
- ومن به مذ وصلت حبلهــــم ما جحدوا نعمةً ولا كفروا
- وقد أهَمتهُم نفوسُهُـــــــم فوجهوني إليك وانتظروا
فاهتزّ السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس. وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم إلاّ بجميع طلباتهم. ثم أثقل كاهلهم بالإحسانه وردّهم بجميع ما طلبوه. وقال لي شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف، وكان معه في ذلك الوفد: لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلّم على السلطان إلاّ هذا. ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين. ثم ثار بهم محمد الرئيس ابن عم السلطان، يشاركه في جدّه الرئيس أبي سعيد. وتحيّن خروج السلطان إلى متنزهه خارج الحمراء. وتسوّر دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضواناً في بيته، فقتله. وذهب للملك اسماعيل ابن السلطان أبي الحجّاج، لما كان صهره على شقيقته. وكان معتقلاً بالحمراء، فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبداً عليه. وأحسّ السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان، فركب بادياً إلى وادي آش وضبطها. وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب. وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس. واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيّق عليه في محبسه. وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودّة استحكمت أيام مقامه بالأندلس كما مرّ. وكان غالباً على هوى السلطان أبي سالم، فزيّن له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس، وبكفّ به عادية القرابة المرشّحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب، فقبل ذلك منه. وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه. وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني، وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب. وحل معتقله، فانطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب السلطان. وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتّز لقدوم ابن الأحمر وركب في موكب لتلقّيه وأجلسه إزاء كرسيّه. وأنشد ابن الخطيب قصيدته كما مرّ يستصرخ السلطان لنصره فوعده وقد
كان يوماً مشهوداً، وقد مرّ ذكره. ثم أكرم مثواه وأرغد نُزُله، ووفّر أرزاق القادمين في ركابه وانتظر به، وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والأقطاع. ثم استأنس واستأذن السلطان في التحوّل إلى جهات مراكش والوقوف على آثار الملك بها، فأذن له وكتب إلى العمّال بإتحافه، فتبادروا في ذلك، وحصر منه على حظّ. وعندما مرّ بسلا في قفوله من سفره. دخل مقبرة الملوك بشالة، ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على رويّ الراء الموصلة يرثيه ويستثير به في استرجاع ضياعه بغرناطة ومطلعها:
- إن بان منزلهُ وشطّــــت داره قامت مقام عيانه أخبارُهُ
- قسِّم زمانك غيرةً أو عبــــرةً هذا ثراه وهذه آثــارُهُ
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة، فشفعوه. واستقرّ هو بسلا منتبذاً عن سلطانه طول مقامته بالعدوة. ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين كما مرّ في أخباره. وبعث عن مخلّفه بفاس من الأهل والولد القائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي، فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره. فسرّ السلطان بقدومه ورده إلى منزلته، كما كان مع رضوان كافله. وكان عثمان بن يحيى عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم، قد لحق بالطاغية في ركاب أبيه عندما أحسّ بالشرّ من الرئيس صاحب غرناطة. وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة، وأقام عثمان بدار الحرب، فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك، وتغلب في مذاهب خدمته. وانحرفوا عن الطاغية بعدما يئسوا من الفتح على يديه، فتحوّلوا عنه إلى ثغور بلاده. وخاطبوا عمر بن عبد الله في أن يمكّنهم من بعض الثغور الغربية التي أطاعتهم بالأندلس، يرتقبون منها الفتح. وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك، وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمّة مرعيّة ومخالصة متأكدة، فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله. وحملته على أن يردّ عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه، فقبل إشارتي في ذلك. وتسوّرها السلطان المخلوع ونزل بها، وعثمان بن يحيى في جملته، وهو المقدم في بطانته.
ثم غزوا منها مالقة، فكانت ركاباً للفتح. وملكها السلطان واستولى بعدها على دار
ملكها بغرناطة، وعثمان بن يحيى متقدّم القوم في الدولة عريق في المخالصة، وله على السلطان دالة واستبداد على هواه. فلما فصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده، وأعاده السلطان إلى مكانه في الدولة من علّو يده وقبول إشارته، فأدركته الغيرة من عثمان ونكر على السلطان الاستكفاء به، والتخوّف من هؤلاء الأعياص على ملكه، فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين، وأودعهم المطبق. ثم غرّبهم بعد ذلك، وخلا لابن الخطيب الجوّ وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير المملكة، وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته. وانفرد ابن الخطيب بالحلّ والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصّة والكافّة، وغصّت به بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعايه فيه، وقد صمُّ السلطان عن قبولها. ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب، فشمّر عن ساعده في التقويض عنهم. واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ قي القبّض على ابن عمّه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي، كانوا قد نصّبوه شيخاً على الغزاة في الأندلس، لما أجاز من العدوة، بعد ما جاس خلالها لطلب الملك، وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله، القائم حينئذ بدولة بني مرين، فاضطّرب إلى الإجازة إلى الأندلس، فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماسي ونزلوا على السلطان المخلوع أعوام سبع وستين وبعمائة، فأكرم نزلهم. وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة، فقدم عبد الرحمن مكانه. وكان السلطان عبد العزيز قد استبدّ بملكه بعد قتله الوزير عمر بن عبد الله، فغصّ بما فعله السلطان المخلوع من ذلك. وتوقّع انتقاض أمره منهم. ووقف على مخاطبات ابن عبد الرحمن يسرّ بها في بني مرين، فجزع لذلك. وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي واراحة نفسه من شغبهم، على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه، فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه، على يد سفيره إلى الأندلس وكاتبه أبي يحيى بن أبي مدين. بني مرين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماساي، فتقّبض عليهما واعتقلهما. وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية. وربّما خيّل له أن السلطان مال إلى قبولها وأنهم قد
أحفظوه عليه، فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب. واستأذن السلطان في تفقد الثغور الغربية. وسار إليها في لمّة من فرسانه، ومعه ابنه عليّ الذي كان خالصة السلطان وذهب لطبنة. فلما حاذى جبل الفتح، فرضة المجاز إلى العدوة، مال إليه وسرّح إذنه بين يديه، فخرج قائد الجبل لتلقّيه. وقد كان السلطان عبد العزيز أوعز إليه بذلك وجهّز إليه الأسطول من حينه، فأجاز إلى سبتة. وتلقّاه بها بأنواع التكرمة وامتثال المراسيم. ثم سار لقصد السلطان، فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامته من تلمسان، فاهتزّت له الدولة. وأركب السلطان خاصّته لتلقّيه وأحلّه من بمجلسه محل الأمن والغبطة، ومن دولته بمكان البنوة والعزّة. وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن مدين سفيراً إلى صاحب الأندلس في طلب أهله وولده، فجاء بهم على أكمل حالات من الأمن والتكرمة. ثم لغط المنافسون له في شأنه وأغروا السلطان بتتبع عثراته وأبدى ما كان كامناً في نفسه من سقطات دالته وإحصاء معائبه. وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه. ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي الحسن ابن أبي الحسن، فاستردها وسجّل عليه بالزندقة. وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه. وبعث القاضي ابن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات وامضاء حكم الله فيه، فصمّ لذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يرد وقال لهم: هلا انتقمتم وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه؟ وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري. ثم وفّر الجراية والإقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته. فلمّا هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان، سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي القائم بالدولة، فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنات. وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفي. واتصلت حاله على ذلك، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مهلك السلطان عبد العزيز وبيعة ابنه السعيد واستبداد أبي بكر بن غازي عليه ورجوع بني مرين إلي المغرب: كان السلطان منذ أوّل نشأته قد أزمنت به الحمى بما أصابه من مرض النحول، ولأجل ذلك تجافى السلطان أبو سالم عن احتماله مع الأبناء إلى رندة. ولما شبّ أفاق من مرضه وصلح بدنه. ثم عاوده وجعه في مثواه بتلمسان وتزايد نحوله. ولما كمل الفتح واستفحل سلطانه اشتدّ به الوجع وصابر المرض، وكتمه عن الناس خشية الإرجاف، واضطرب معسكره خارج تلمسان للحاق بالمغرب. ولما كانت ليلة الثاني والعشرين من ربيع الاخر سنة أربع وسبعين وسبعمائة قضى متودعاً بين أهله وولده ودسّ الخدم بالخبر إلى الوزير، فخرج على الناس وقد احتمل محمد السعيد ابن السلطات على كنفه فعزّى الناس عن خليفتهم لسبع سنين من خلافته، وألقى ابنه بين أيديهم، فازدحموا عليه باكين متفجّعين، يعطونه الصفقة ويقبّلون يده للبيعة، وأخرجوه إلى المعسكر. ثم أخرج الوزير شلو السلطان على أعواده وأنزله بفساطيطه، وأيقظ بالليل بحراسة المعسكر. وأذن في للناس بالرحيل، فخرجوا أفواجاً إلى المحلة. ثم ارتحلوا لثلاث وأغذّوا السير إلى المغرب واحتلوا بتازى. ثم أغذّوا السير إلى فاس. واحتلّ ابن السلطان بدار ملكه وجلس للبيعة العامّة بقصره. وتوافت وفود الأمصار ببيعاتهم على العادة. واستبدّ عليه الوزير أبو بكر بن غازي، وحجبه بقصره وحجره عن التصرف في شيء من سلطانه، ولم يكن في سنّ التصرف. واستعمل على الجهات وجلس بمجلس الفضل. واشتغل بأمر المغرب إبراماً ونقضاً، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى . الخبر عن استيلاء أبي حموّ علي تلمسان والمغرب الأوسط: لما فصل بنو مرين من تلمسان إثر مهلك السلطان عبد العزيز واحتلوا بتازى اجتمع المشيخة وعقدوا على تلمسان لإبراهيم بن السلطان أبي تاشفين، كان ربي في كفالة
دولتهم منذ مهلك أبيه، فآثروه بذلك لخلوصته. وبعثوه مع رحّو بن منصور أمير عبيد الله من المعقل وسرّحوا معهما من كان بالمغرب من مغراوة إلى وطن ملكهم بشلف. وعقدوا عليهم لعليّ بن هارون بن منديل بن عبد الرحمن وأخيه رحمون وانصرفوا إلى بلادهم. وكان عطية بن موسى مولى أبي حمّو قد صار إلى السلطان عبد العزيز، فألحقه بجملته وبطانته. فلمّا هلك السلطان، خرج من القصر واختفى بالبلد، حتى إذا فصل بنو مرين من معسكرهم ظاهر البلد، خرج من مكان اختفائه وقام بدعوة مولاه أبي حموّ. واجتمع إليه شيعه من أهل البلد مع من تأشّب إليه من الغوغاء. وحملوا الخاصة على البيعة لأبي حمّو، وصلهم إبراهيم بن أبي تاشفين مع رحّو بن منصور وقومه من عبيد الله، فنبذوه وامتنعوا عليه، فرجع عنهم إلى المغرب. وطيّر أولاد يعمور أولياء أبي حمّو من عبيد الله بالخبر إليه وهو بمثواه من تيكورارين. واتصل بابنه أبي تاشفين وهو عند يحيي ابن عامر، فدخل إلى تلمسان ودخلها ومن معه من بني عبد الواد. وتساقط إليه فلّهم من كل جانب. ووصل السلطان على أثرهم بعد اليأس منه، فدخلها في جمادى من سنة أربع وسبعين وسبعمائة واستقل بملكه. وتقبّض على بطانته الذين آسفوه في اغترابه، ونمي له عنهم السعي عليه، فقتلهم ورجع ملك بني عبد الواد وسلطانهم ونهض إلى مغراوة أولياء بني مرين بمكانهم من شلف، فغلبهم عليه بعد مطاولة وحروب سجال، هلك فيها رحمون بن هارون. ومحا دعوة بني مرين من ضواحي المغرب الأوسط وأمصاره، واستقلّ بالأمر حسبما ذكرناه في أخباره. واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي فهمّ بالنهوض إليه، ثم ثنى عزمه ما كان من خروج الأمير عبد الرحمن بناحية بطوية فشغله شأنه عن ذلك.
الخبر عن إجازة الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن إلى المغرب واجتماع بطوية إليه وقيامهم بشأنه: كان محمد المخلوع بن الأحمر قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة
ثلاث وستين وسبعمائة وقتل له الطاغية عدوّه الرئيس المنتزي على ملكه حين هرب من غرناطة إليه، وفاء بعهد المخلوع، واستوى على كرسّيه واستقلّ بملكه. ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب واستخلصه وعقد له على وزارته، وفوّض إليه في القيام بملكه، فاستولى عليه وملك هواه. وكانت عينه ممتدّة إلى المغرب وسكناه إلى أن نزلت به آفة في رياسته، فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه. وكان لابناء السلطان أبي الحسن كلّهم غيرة على ولد عمّهم السلطان أبي عليّ ويخشونهم على أمرهم. ولمّا لحق الأمير عبد الرحمن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب واستخلصه لنجواه، ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته، وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زناتة مكان بني عمّه من الأعياص، فكانت له آثار في الاضطلاع بها. ولما استبدّ السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه، وكان ابن الخطيب ساعياً في مرضاته عند سلطانه، فدسّ إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره المطارد به مسعود بن ماساي. وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما، إلى أن سطا بهما ابن الأحمرواعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز وتغير الجو بين ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب وأظلم، فتنكر له، فنزع عنه إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة إثنتين وسبعين وسبعمائة، لما قدم من الوسائل ومهّد من السوابق، فقدمه السلطان وأحلّه من مجلسه محل الاصطفاء والقرب. وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده، فبعثهم إليه واستقر في جملة السلطان. ثم تأكدت العداوة بينه وبين ابن الأحمر، فرغب السلطان في ملك الأندلس وحمله عليه وتواعدوا لذلك عند مرجعه من تلمسان إلى المغرب. ونمي ذلك إلى ابن الأحمر، فبعث إلى السلطان بهديّة لم يسمع بمثلها، انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه، وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه، فأبى السلطان من ذلك ونكره. ولمّا هلك واستبدّ الوزير ابن غازي بالأمر تحيّز إليه ابن الخطيب وداخله، وخاطبه ابن الأحمر فيه بمثل ما خاطب السلطان، فلم يؤب واستنكف عن ذلك وأقبح الردّ. وانصرف رسله إليه، وقد رهب سطوته، فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى ساحل بطوية. ونهض إلى جبل الفتح ونازله بعساكره.
ونزل عبد الرحمن ببطوية في ذي القعدة من سنة أربع وسبعين وسبعمائة ومعه وزيره مسعود بن ماسي، فاجتمع قبائل بطوية إليه وبايعوه على القيام بدعوته والموت دونه. واتصل الخبر بالوزير أبي بكر بن غازي، فعقد لابن عمه محمد بن عثمان على سبتة وبعثه لسدّ ثغورها لما خشي عليها من ابن الأحمر. ونهض من فاس بالعساكر والآلة. ونازل عبد الرحمن ببطوية، فامتنع عليه وقاتله أياماً. ثم رجع إلى تازى ثم إلى فاس. ودخل الأمير عبد الرحمن تازى واستولى عليها، ودخل الوزير إلى فاس وقعد بمجلس الفصل، وهو مجمع العودة إلى تازى لتشريد عدوّه، إلى أن جاءه الخبر ببيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم واستقلاله بالملك، وما كان خلال ذلك من الأحداث: لما نزل محمد بن عثمان بالثغر من سبتة لسدّ فروجها، ومدافعة ما يخشى من عادية ابن الأحمر عليها، وكان قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقه. وتكّررت المواصلة بينه وبين محمد بن عثمان بالعتاب، فاستعتب له وقبحّ ما جاء به ابن عمّه من الاستغلاظ له، فوجد ابن الأحمر بذلك السبيل إلى غرضه. وداخله في البيعة للسلطان أبي سالم، من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الرقبة والحوطة، وأن يقيمه للمسلمين سلطاناً يجول بسياجهم ويدافع عنهم ولا يتركهم فوضى وهملاً. ويجب بيعة الصبيّ الذي لم تنعقد بيعته شرعاً. واختصّ هذا بالسلطان من بين أولئك الأبناء وفاء بحقوق أبيه ووعده بالمظاهرة على ذلك، واشترط عليه أن ينزلوا له عن الجبل اذا انعقد أمرهم، ويشخصوا إليه بيعة الأبناء والقرابة من طنجة ليكونوا في إيالته وتحت حوطته. وأن يبعثوا إليه بابن الخطيب متى قدروا عليه، ويبعثوا إليه بقية الأبناء والقرابة فقبل محمد بن عثمان شرطه. وكان سفيره في ذلك أحمد الرعيني من طبقات كتّاب الأشغال بسبتة، كان السلطان أبو الحسن تزّوج أمّه
ليلة إجازته من واقعة طريف وافتقاد حظاياه، حتى لحق به الحرم من فاس، فردّها إلى أهلها. ونشأ الرعيني في توهّم هذه الكفالة، فانتفخ نحره لذلك ويحسبها وصلة إلى أبناء السلطان أبي الحسن. وكان سفيراً بين محمد بن عثمان وابن الأحمر، فأمّل الرياسة في هذه الدولة. وركب محمد بن عثمان من سبتة إلى طنجة وقصد مكان اعتقالهم. واستدعى أبا العبّاس أحمد ابن السلطان أبي سالم من مكانه مع الأبناء، فبايع له وحمل الناس على طاعته. واستقدم أهل سبتة بكتاب للبيعة، فقدموا وخاطب أهل الجبل فبايعوا، وأفرج ابن الأحمر عنهم. وبعث إليه محمد بن عثمان بالنزول له عن جبل الفتح، وخاطبوا أهله بالرجوع إلى طاعته، فارتحل من مالقة إليه ودخله واستولى عليه، ومحا دعوة بني مرين مما وراء البحر. وأهدى للسلطان أبي العبّاس، وأمدّه بعسكر من غزاة الأندلس وحمل إليه مالاً للإعانة على أمره. وكان محمد بن عثمان عند فصوله من فاس، وودّعه الوزير ابن عمّه، وفاوضه في شأن السلطان، وأن يقدّم للناس إماماً يرجعون إليه ويترك له أمرهم، وآمره في ذلك، ولم يفترقا على مبرم من أمرهم. فلمّا ارتكب هذا المرتكب وجاء بهذا الأمر، خاطب الوزير يمّوه عليه بأنه فعل بمقتضى المؤامرة وأنه عن إذنه، والله أعلم بما دار بينهما. ولجّ الوزير في تكذيبه والبراءة للناس مما رمي به ولاطفه في نقض ذلك الأمر وردّ أبا العباس إلى مكانه مع الأبناء تحت الحوطة. وأبي محمد بن عثمان من ذلك ودافعه باجتماع الناس وانعقاد الأمر. وبينما الوزير يروم ذلك، جاءه الخبر بأنّ محمد بن عثمان، أشخص الأبناء المعتقلين كلّهم إلى الأندلس، وأنهم حصلوا في كفالة ابن الأحمر، فوجم وأعرض عن، ابن عمّه وسلطانه. ونهض إلى تازى ليفرغ من عدوّه إليهم فنازل الأمير عبد الرحمن واخذً بمخنقه. واهتبل محمد بن عثمان الغرّة في ملك المغرب. فوصله مدد السلطان ابن الأحمر وعسكره تحت رايته، عقدها عليهم ليوسف بن سليمان بن عثمان بن أبي العلاء من مشيخة الغزاة المجاهدين، وعسكر آخر من رجل الأندلس الناشبة يناهزون سبعماية. وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد بابن عمّه السلطان أبي العبّاس أحمد، ومظاهرته على ملك سلفه بفاس واجتماعهما لمنازلتهما. وعقد بينهما الاتفاق والمواصلة، وأن يختصّ عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا. وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس، خالفوا إليه
الوزير وانتهوا إلى قصر عبد الكريم. وبلغ الخبر إلى الوزير بمكانه من حصار تازى، فانفضّ معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية ا لعرائس.
وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون، فصمد إليه الوزير بعساكره وصمم نحوه بمكانه من قنّة الجبل، فاختل مصافه وانهزمت ساقة العسكر من ورائه. ورجع على عقبه مفلولاً، وانتهب المعسكر ودخل إلى البلد الجديد. وجأجأ بالعرب أولاد حسين أن يعسكروا له بالزيتون ظاهر فاس، ويخرج بمجموعه إلى حللهم، فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازى بمن كان معه من العرب الأحلاف وشرّدهم إلى الصحراء. وشارف السلطان أبا العبّاس أحمد بمجموعة من العرب وزناتة وبعثوا إلى وليّ سلفهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصر مرادة الذي اختطّه بملوية، فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم، فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق، فاجتمعوا بوادي النجا. وحضر لعقدهم واتفاقهم وحلفهم على اتصال اليد على عدّوهم ومنازلته بالبلد الجديد، حتى يمكن الله منه. وارتحلوا بجمعهم إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وسبعمائة وبرز إليهم الوزير بعساكره، فدارت الحرب وحمي الوطيس واشتدّ القتال ملياً. ثم زحف إليه العسكران بساقتهما وآلتهما فاختلّ مصافه وانهزمت جيوشه وأحيط به، وخلص إلى البلد الجديد بعد غصّ الريق. وأضرب السلطان أبو العبّاس معسكره بكدية العرائس، ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائه، وضربوا على البلد الجديد سياجاً بالبناء للحصار، وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاف. ووصله مدد السلطان ابن الأحمر من الرجالة الأندلسية فضيقوا حصارها. واحتكموا في ضياع ابن الخطيب بفاس، فهدموها وعاثوا فيها. ولمّا كان فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة داخل محمد بن عثمان ابن عمه أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان، لما كان الحصار قد اشتدّ به ويئس من الصريخ وأعجزه المال، فأجاب. واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له في أعمال مراكش، وأن يديلوه بها من سجلماسة فعقدوا له على كره وطووا على المكر. وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان أبي العبّاس أحمد وبايعه واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة فبذله. ودخل السلطان أبو
العباس أحمد إلى البلد الجديد سابع المحرم. وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها، وارتحل معه علي بن عمر بن ويغلان شيخ بني مرين والوزير ابن ماساي، ثم نزع عنه ابن ماساي إلى فاس لعهد كان اقتضاه من السلطان أبي العبّاس. وأجاز البحر إلى الأندلس فاستقرّ بها في إيالة ابن الأحمر، واستقلّ السلطان أبو العباس ابن السلطان أبي سالم بملك المغرب ووزيره محمد بن عثمان بن ألكاس، وفوض إليه شؤونه وغلب على هواه. وصار أمر الشورى إلى سليمان بن داود، كان نزع إليهم من البلد الجديد من جملة أبي بكر بن غازي بعد أن كان أطلقه من محبسه واستخلصه. وجعل إليه مرجع أمره فتركه أحوج ما كان إليه. ولحق بالسلطان أبي العباس بمكانه من حصار البلد الجديد. فلمّا استوسق ملكه ألقى الوزير محمد بن عثمان مقاد الدولة له، وصار إليه أمر الشورى ورياسة المشيخة. واستحكمت المودّة بينه وبين ابن الأحمر وتأكّدت المداخلة وجعلوا إليه المرجع في نقضهم وابرامهم لمكان الأبناء المرشحين في إيالته. ولمّا ارتحل الأمير عبد الرحمن إلى مراكش نبذوا إليه العهد، وتعللوا عليه بأنّ العقد الأوّل له، إنّما كان على ملك سلفه، ومراكش إنما ألجأهم إلى العقد عليها إلجاء. واعتزموا على النهوض إليه، ثم أقصروا وانعقدت بينهما السلم سنة ست وسبعين وسبعمائة، وجعلوا التخم بينهما أزمور وعقدوا على ثغرها لحسان بن علي الصبيحي، فلم يزل عليها إلى أن هلك كما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن مقتل ابن الخطيب: ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه، فاتح سنة ست وسبعين وسبعمائة، واستقلّ بسلطانه، والوزير محمد بن عثمان مستبدّ عليه، وسليمان بن داود من أعراب بني عسكر رديف له، وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر عندما بويع بطنجة على نكبة ابن الخطيب وإسلامه إليه، لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز لملك الأندلس. فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقي الوزير أبا بكر بن غازي بساحة البلد الجديد، فهزمه السلطان ولاذ منه بالحصار، آوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفاً على نفسه. فلما استولى السلطان على البلد الجديد، أقام أياماً، ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض عليه، فقبضوا عليه وأودعوه السجن، وطيّروا بالخبر إلى
السلطان ابن الأحمر. وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان بن داود قد بايعه السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس حتى أعاده الله إلى ملكه. فلما استقرّ له سلطانه أجاز إليه سليمان سفيراً عن عمر بن عبد الله ومقتضياً عهده من السلطان، فصدّه ابن الخطيب عن ذلك بأنّ تلك الرياسة إنما هي لأعياص الملك من آل عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة، فرجع سليمان يائسا وحقد ذلك لابن الخطيب. ثم جاور الأندلس بمحل إمارته من جبل الفتح، فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات ينفّس كل واحد منهما لصاحبه بما يحفظه لما كمن في صدورهما. وحين بلغ الخبر بالقبض على ابن الخطيب إلى السلطان ابن الأحمر، بعث كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب، وهو أبو عبد الله بن زمرك، فقدم على السلطان أبي العبّاس وأحضر ابن الخطيب بالشورى في مجلسه الخاصّة و أهل الشورى، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه، فعظم عليه النكرير فيها، فوبّخ ونكل، وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ من الناس، ثم تل إلى محبسه. اشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجّلة عليه وأفتى بعض الفقهاء فيه. ودسّ سليمان بن داود إليه لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله، فطرقوا السجن ليلاً ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر، وقتلوه خنقاً في محبسه، وأخرجوا شلوه من الغد، فدفن بمقبرة باب المحروق. ثم أصبح من الغد علي شأفة قبّره طريحاً، وقد جمعت له أعواد واضرمت عليه ناراً فاحترق شعره واسودّ بشره، وأعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته. وعجب الناس من هذه السفاهة التي جاء بها سليمان واعتدّوها من هناته. وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته. والله الفعال لما يريد. وكان عفى الله عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت، فيتجيش هوأتفه بالشعر يبكي نفسه. ومما قال في ذلك:
- بعُدنا وإن جاورتنا البيـــــوتُ وجئنا لوعد ونحن صموت
- وأنفاسنا سكنت دفعــــــــة كجهر الصلاتِ تلاه القنوت
- وكنا عظاماً فصرنا عظامــــاً وكنا نقوت فها نحن قوتْ
- وكنا شموس سماء العــــــلا زغر بن فباحت علينا السموت
- فكم جزلت ذا الحسام الظبــــا وذو البحث كم خذّلته البخوت
- وكم سيق للقبر في خرقـــــةٍ فتىً ملئت من كساه التخوت
- فقل للعدا ذهب ابن الخطيـــب وفات ومن ذا الذي لا يفوت
- فمن كان يفرح منكم لــــــه فقل يفرح اليوم من لا يموت
الخبر عن إجازة سليمان بن داود إلى الأندلس ومقامه بها إلى أن هلك: بها كان سليمان بن داود هذا منذ عضّته الخطوب واختلفت عليه النكبات، يروم الفرار بنفسه إلى الأندلس، للمقامة مع الغزاة المجاهدين من قومه. ولما استقرّ السلطان ابن الأحمر بفاس، عند خلعه ووفادته على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة، وداخله سليمان بن داود في تأميل الكون عنده، فعاهده على ذلك، وأن يقدّمه على الغزاة المجاهدين من قومه. ولما عاد إلى ملكه، وفد عليه سليمان بن داود بغرناطة في سبيل السفارة عن عمر بن عبد الله سنة ست وستين وسبعمائة، وأن يؤكد عقده من السلطان، فحال دون ذلك ابن الخطيب وثنى رأى السلطان عن ذلك بأنّ شياخة الغزاة مخصوصة بأعياص الملك من بني عبد الحق، لمكان عصابتهم من الأندلس، فأخفق أمل سليمان حينئذ وحقدها على ابن خطيب ورجع إلى مرسله. ثم كانت نكبته أيام السلطان عبد العزيز، فلم يخلص منها إلا بعد مهلكه، أطلقه أبو بكر بن غازي المستبد بالأمر من بعده، ليعتضد بمكانه على شأنه. فلما استبدّ الحصار على ابن غازي، خرج عنه سليمان ولحق بالسلطان أبي العباس ابن المولى أبي سالم بمكانه من ظاهر البلد
الجديد، فكان ذلك من أسباب الفتح. ولما دخل السلطان إلى دار ملكه من البلد الجديد فاتح سنة ست وستين وسبعمائة واستوسق أمره، رفع مجلس سليمان وأحلّه محل الشورى، واعتضد به وزيره محمد بن عثمان واستخلصه كما ذكرناه. وكان يرجع إلى رأيه، وهو في خلال ذلك يحاول اللحاق بالأندلس، فكان من أوّل أمره التقرّب إلى السلطان ابن الأحمر، بإغراء الوزير محمد بن عثمان بقتل ابن الخطيب مشنوئه، فتمّ ذلك لأوّل الدولة. وجرت الأمور بعدها على الاعتمال في مرضاته إلى أن حاول السفارة إليه في أغراض سلطانه سنة ثمان وستين وسبعمائة في صحابة ونزمار بن عريف، فتلقّاهما السلطان ابن الأحمر بما يتلقى به أمثالهما وأغرب في تكرمتهما. وأما ونزمار فانقلب راجعاً لأوّل تأدية الرسالة، يقتضى من السلطان حظه لقواد أسطوله بتسهيل الإجازة إليه متى رامها. وخرج يتصيّد، فلحق بمرسى مالقة ودفع أمر السلطان بخطه إلى قائد الأسطول، فأجازه إلى سبتة ولحق بمكانه. وأمّا سليمان، فاعتزم على المقام عند ابن الأحمر وأقام هنالك خالصةً ونجياً ومشاوراً، إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة.
الخبر عن شأن الوزير أبي بكر بن غازي وما كان من تغريبه إلى مايرقة، ثم رجوعه وانتقاضه بعد ذلك ومهلكه: لما اشتدّ الحصار بالوزير أبي بكر بن غازي وفنيت أمواله وأموال السلطان، وظن أنه احيط به، داخله الوزير محمد بن عثمان من مكانهم بحصاره في النزول عن البلد على الأمان والإبقاء فأجاب. وخرج إلى السلطان أبي العبّاس بن أبي سالم، فعقد له أماناً بخطّه وتحّول إلى داره بفاس. وأسلم سلطانه المنصوب للأمر، فتسلّمه منه الوزير محمد بن عثمان واشتدّ في الاحتياط عليه، إلى أن بعثه إلى السلطان ابن الأحمر، فكان في جملة الأبناء عنده. ودخل السلطان أبو العباس إلى دار ملكه واقتعد سريره ونفذت في الممالك أوامره. وأقام أبو بكر بن غازي على حاله بداره والخاصّة يباكرونه والنفوس منطوية على تأميله، فغصّ به أهل الدولة وتردّدت فيه
السعاية. وتقبّض عليه السلطان وأشخصه إلى غسّاسة، وركب منها السفين إلى ميورقة آخر سنة ست وسبعين وسبعمائة، فأقام بها شهراً، ومخاطباته مترددة إلى الوزير محمد بن عثمان. ثم عطفته عليه رحم، فأذن له في القدوم، إلى المغرب والمقامة بغسّاسة، فقدمها أوائل سنة سبع وسبعين وسبعمائة واسبتدّ بأمارتها. وبدا له رأي في تأميل الرتبة وظهر ما كان يخفيه لابن عمّه من المنافسة، فخاطب السلطان ابن الأحمر من وراء البحر ولاطفه بالتحف والهدايا، فكتب إلى ابن عمّه محمد بن عثمان يحضّه على إعادته إلى مكانه دفعاً لغوائله، فأبى من ذلك. وداخله ونزمار بن عريف في بعضها كذلك، فلح في الامتناع. وحمل سلطانه على نبذ العهد إلى أبي بكر بن غازي، فتنكّر له وأجمع المسير إليه بعساكر العرب، فخرج من فاس سنة تسع وسبعين وسبعمائة. وبلغ الخبر إلى أبي بكر بن غازي، فاستجاش بالعرب واحثّهم للوصول، فوصل إليه الأحلاف من المعقل وسرّب فيهم أمواله. وخرج من غسّاسة، فألقى بينهم وعمد إلى بعض العرب الطارئين، فنصّبه للأمر مشبّهاً ببعض أولاد السلطان أبي الحسن، وزحف إليه السلطان حتى نزل بتازى، فأجفلت أحياء العرب أمام العساكر من بني مرين والجند. ونجا ابن غازي معهم بدمائه. ثم داخله ونزمار بن عريف في الإذعان للسلطان والتنكيب عن شق الخلاف، فأجاب ووصل به إلى سدّة الملك، فبعث به السلطان محتاطاً عليه إلى فاس، فاعتقل بها. ونزلت مقدّمات العساكر بوادي ملويّة، وداخل صاحب تلمسان منها رعب، فأوفد على السلطان من قومه وكبار مجلسه ملاطفاً ومدارياً، فتقبّل منه وعقد السلم، وأصدر به كتابه وعهده بخطّه، وانكفأ راجعاً إلى حضرته، بعد أن بثّ العمّال في تلك النواحي على جبايتها، فجمعوا له منها ما رضي. ولما احتلّ بدار ملكه، أنفذ أمره بقتل أبي بكر بن غازي، فقتل بمحبسه طعناً بالخناجر، وذهب مثلاً في الأيام، واستوسق للسلطان أمره. وأحكم العقد مع الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن صاحب مراكش، واتصل بينهما وترددت المهاداة بينهما بعض إلى بعض، وإلى صاحب الأندلس واليه منهما، فامتلأت المغرب هدنةً وأمناً، وانبعثت الآمال بساطاً وغبطةً. والحال متصلة على ذلك لهذا العهد آخر سنة إحدى وثمانين أيام إشرافنا على هذا التأليف. والله مقدر الليل والنهار.
الخبر عن انتقاض الصلح بين الأمير عبد الرحمن صاحب مراكش والسلطان أبي العباس صاحب فاس واستيلاء عبد الرحمن على أزمور ومقتل عاملها حسون بن علي: كان علي بن عمر كبير بني ورتاجن وشيخ بني ويغلان منهم، قد تحيّز إلى الأمير عبد الرحمن، منذ إجازته إلى الأندلس واستيلائه على تازى، ثم زحفه إلى حصار البلد الجديد مع السلطان أبي العباس كما مرّ. فوصل في جملته إلى مراكش، وكان صاحب شوراه وكبير دولته. وكان يظعن على خالد بن إبراهيم المبرازي شيخ جاجة من قبائل المصامدة، ما بين مراكش وبلاد السوس. وقد كان علي بن عمر انتقض على ابن غازي، الوزير المستبدّ بعد السلطان عبد العزيز، ولحق بالسوس. ومر بخالد بن إبراهيم هذا، فاعترضه في طريقه وأخذ الكثير من أثقاله ورواحله. وخلص هو إلى منجاته بالسوس، وقد حقد ذلك لخالد. ثم بعث عن شيوخ المعقل، عندما أجاز الأمير عبد الرحمن من الأندلس إلى نواحي تازى يروم اللحاق بهم، فوفدوا عليه. وسار معهم إلى أحيائهم وأقام معهم وهو في طاعة الأمير عبد الرحمن ودعوته، إلى أن اتصل به بين يدي حصاره البلد الجديد مع السلطان أبي العباس. فلمّا فتح السلطان البلد الجديد أوّل سنة ست وسبعين وسبعمائة واستولى على ملكهم بها، وفصل عبد الرحمن إلى مراكش، كما كان الوفاق بينهم، وسار علي بن عمر في جملة الأمير عبد الرحمن إلى مراكش. واستأذنه في قتل خالد صاحبه، فلم يأذن له، فأحفظه ذلك وطوى عليه. وبعد أيام صعد إلى جبل وريكة، في غرض من أغراض الدولة. وتقدّم إلى حافده عامر ابن ابنه محمد بقتل خالد، فقتله في بعض الأيام بظاهر مراكش. ولحق بجده علي بن عمر بوريكة، فتلطّف له الأمير عبد الرحمن وراسله بالملاينة والاستعطاف. ثم ركب إليه بنفسه واستخلصه ونزل به إلى مراكش، فأقام معه أياماً. ثم ارتاب ولحق بأزمور وعاملها يومئذ حسّون بن علي الصبيحي فأغراه بالإجلاب على عمل مراكش وزحفوا جميعاً إلى عمل صنهاجة.
وسرّح الأمير عبد الرحمن لمدافعتهم كبير دولته يومئذ، وابن عمّه عبد الكريم بن عيسى بن سليمان بن منصور بن بي مالك، وهو عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، فخرج في العساكر ومعه منصور مولى الأمير عبد الرحمن، فلقوا عليّ بن عمر وهزموه وأخذوا سواده ولجأ إلى أزمور. ثم وفد هو وحسّون بن علي على السلطان بفاس. ووقعت أثناء ذلك المراسلة بين السلطانين وانعقد بينهما الصلح. وأقام علي بن عمر بفاس ورجع حسّون بن علي إلى مكان عمله بأزمور ثم انتقض ما بين السلطانين ثانياً. وكان عند الأمير عبد الرحمن أخوان من ولد محمد بن يعقوب بن حسّان الصبيحي وهما علي وأحمد، جرثومتا بغي وفساد. وعدا على كبيرهما علي ابن عمه علي بن يعقوب بن علي بن حسّان فقتله. واستعدى أخوه موسى عليه السلطان، فأعداه. وأذن له أن يثأر منه بأخيه فيقتله، فجزع لذلك أحمد أخو عليّ وهم بقتل موسى، فاستجار موسى بيعقوب بن موسى بن سيّد الناس كبير بني ونكاسن وصهر الأمير عبد الرحمن، وأقام أياماً في جواره، ثم هرب إلى أزمور، فلفحت نار الفتنة. ونهض الأمير عبد الرحمن إلى أزمور، فلم يطق حسان بن علي دفاعه، فملكها عليه وقتله واستباحها. وبلغ الخبر إلى السلطان بفاس، فنهض في عساكره وانتهى إلى سلا. ورجع الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وسار السلطان في أتباعه، حتى نزل بحصن أكمليم قريبا من مراكش. وأقام هنالك نحواً من ثلاثة أشهر، والقتال يتردّد بينهم. ثم سعى بين السلطانين في الصلح، فاصطلحوا على حدود العمالات أولاً، وانكفأ صاحب فاس إلى عمله وبلده. وبعث الحسن بن يحيى بن حسّون الصنهاجي عاملاً على الثغر بأزمور، فأقام بها وكان أصله من صنهاجة أهل وطن أزمور، وله سلف في خدمة بني مرين مذ أوّل دولتهم. وكان أبوه يحيى في دولة السلطان أبي الحسن عاملاً في الجباية بأزمور وغيرها. وهلك في خدمته بتونس أيام مقام السلطان بها وترك ولده يستعمل في مثل ذلك. ونزع الحسن هذا منهم إلى الجندية، فلبس شارتها وتصرّف في الولاية المناسبة لها. واتصل بخدمة السلطان أبي العباس لأول بيعته بطنجة، وكان يومئذ عاملاً بالقصر الكبير، فدخل في دعوته وصار في جملته. وشهد معه الفتح واستعمله في خطط السيف، حتى ولاّه أزمور هذه الولاية، فقام بها كما نذكره.
وأما الصبيحيون فالخبر عن أوليتهم أن جدهم حسّان من قبيلة صبيح، من أفاريق سويد، جاء مع عبد الله بن كندوز الكمي من بني عبد الواد، حين جاء من تونس
وأوفد على السلطان يعقوب بن عبد الحق ولقيه كما مرّ. وكان حسّان من رعاة إبله. فلما استقرّ عبد الله بن كندوز بناحية مراكش، وأقطعه السلطان يعقوب في أعمالها، وكان الظهر الذي يحمل عليه السلطان متفرقاً في سارية المغرب، فجمعه وجعله لنظر عبد الله بن كندوز، فجمع له الرعاة، وكبيرهم يومئذ حسّان الصبيحيّ، فكان يباشر السلطان في شأن ذلك الظهر ويطالعه في مهمّاته، فحصلت له بذلك مداخلة واجتلبت إليه الحظ، حتى ارتفع وأثرى وكبر. ونشئوا في ظل الدولة وعزّها وتصرفوا في الولايات فيها. وانفردوا بالشاوية، فلم تزل ولايتها متوارثة فيهم منقسمة بينهم لهذا العهد، إلى ما كانوا يتصرفون فيه من غير ذلك من الولايات. وكان لحسّان من الولد عليّ ويعقوب وطلحة غيرهم. ومن حسّان هذا تفرّعت شعوبهم في ولده، وهم لهذا العهد متصرفون في الدولة على ما كان سلفهم من ولاية الشاوية والنظر في رواحل السلطان والظهر الذي يحمل من الإبل، ولهم عدد وكثرة ونباهة في الدولة. والله أعلم.
الانتقاض الثاني بين صاحب فاس وصاحب مراكش ونهوض صاحب فاس إليه وحصاره، ثم عودهما إلي الصلح: ولما رجع السلطان إلى فاس على ما استقرّ من الصلح، طلب الأمير عبد الرحمن أن يدخل عمالة صنهاجة ودكالة في أعماله. وكتب السلطان إلى الحسن بن يحيى عامل أزمور وتلك العمالة، بأن يتوجّه إليه ويسدّ المذاهب دونه في ذلك. وكان الحسن بن يحيى مضطغناً على الدولة. فلما وصل إليه داخله في الخلاف وأن يملّكه تلك العمالة، فازداد الأمير عبد الرحمن بذلك قوّة على أمره. وتعلّل على صاحب فاس بأن يكون الحدود بين الدولتين وادي أم ربيع. واستمرّ صاحب فاس على الإباية من ذلك، فنهض الأمير عبد الرحمن من مراكش. ودخل الحسن بن يحيى في طاعته، فملكها وبعث مولاه منصورا في العساكر إلى أنف، فاستولى عليها وصادر أعيانها وقاضيها وواليها وبلغ الخبر إلى السلطان، فنهض من فاس في عساكره. وانتهى إلى
سلا، فهرب منصور من أنف وتركها. ولحق بمولاه عبد الرحمن، فأجفل من أزمور إلى مراكش، والسلطان في أثره، حتى انتهى إلى قنطرة الوادي، على غلوة من البلد، وأقام خمسة أشهر يحاصرها. واتصل الخبر بالسلطان ابن الأحمر صاحب الأندلس، فبعث خالصته الوزير أبا القاسم ابن الحكيم الرندي ليعقد الصلح بينهما، فعقده على أن يسترهن السلطان أولاد الأمير عبد الرحمن وحافد أبي الحسن. وانكفأ السلطان راجعا إلى سلا. ولحق به جماعة من جملة الأمير عبد الرحمن، من بني مرين وغيرهم، نزعوا عنه، وكان منهم أحمد بن محمد بن يعقوب الصبحي. ولقي في طريقه مولى الأمير عبد الرحمن، جاء به مكرها إلى السلطان. وكان من النازعين أيضاً يعقوب بن سيد الناس، كبير بني ونكاسن، وأبو بكر بن رحّو بن الحسن بن علي بن أبي الطلاق، ومحمد بن مسعود الإدريسي، وزيان بن علي بن عمر الوطاسي، وغيرهم من المشاهير. وقدموا على السلطان بسلا فتقبلهم وأحسن كرامتهم، ورحل راجعا إلى فاس. والله أعلم. انتقاض علي بن زكريا، شيخ الهساكرة، على الأمير عبد الرحمن وفتك بمولاه منصور ومقتل الأمير عبد الرحمان لما رجع السلطان إلى فاس وبدا من الخلل في دولة الأمير عبد الرحمن وانتقاض الناس عليه ما قدّمناه، نزع يده من التعويل على العساكر وشرع في تحصين البلد. وضرب الأسوار على القصبة وحفر الخنادق، وتبّين بذلك اختلال أمره. وكان علي بن زكريا شيخ هسكورة كبير المصامدة في دعوته، مذ دخل مراكش فتلافى أمره مع صاحب فاس، ومد إليه يداً من طاعته. ثم انتقض على الأمير عبد الرحمن ودخل في دعوة السلطان، وبعث إليه الأمير عبد الرحمن مولاه منصوراً يستألفه، فأرصد إليه في طريقه من حاشيته من قتله. ثم بعث برأسه إلى فاس، فنهض السلطان في عساكره إلى مراكش. واعتصم الأمير عبد الرحمن بالقصبة وقد كان افردها عن المدينة بالأسوار. وخندق عليها، فملك السلطان المدينة ورتّب على القصبة المقاتلة من كل جهة، ونصب الآلة. وأدار عليها من جهة المدينة حائطاً وأقام يحاصرها سبعة
أشهر يغاديها القتال ويراوحها. وكان أحمد بن محمد الصبيحي من الذين بوؤا المقاعد لقتالها، فهمّ بالإنتقاض وحدثته نفسه بغدرة السلطان والتوثب به. وسعى بذلك إل السلطان، فتقبض عليه وحبسه. وبعث السلطان بالنفير إلى أعماله، فتوافت الأمداد من كل ناحية. وبعث صاحب الأندلس إليه مداداً من العسكر. فلما اشتد القتال والحصار بالأمير عبد الرحمن ونفذت الأقوات، وأيقن أصحابه بالهلكة، وأهمتهم أنفسهم، وهرب عنه وزيره نجّو العلم من بقية بيت محمد بن عمر، شيخ الهساكرة والمصامدة لعهد السلطان أبي الحسن وابنه وقد مر ذكره. فلما لحق نحو هذا بالسلطان، وعلم أنه إنما جاء مضطرا، قبض عليه وحبسه. ثم انفض الناس عن الأمير عبد الرحمن، ونزلوا من الأسوار ناجين إلى السلطان. وأصبح في قصبته منفرداً، وقد بات ليلته يراوض ولديه على الإستماتة وهما: أبو عامر وسليم. وركب السلطان من الغد في التعبية. وجاء إلى القصبة، فاقتحمها بمقدّمته. ولقيهم الأمير عبد الرحمن وولداه مباشراً إلى الميدان الذي بين أبواب دورهم، فجالوا معهم جولة قتل فيها وولداه. تولى قتلهم على بن إدريس الثنالقتي وزيّان بن عمر الوطاسي. وطالما كان زيّان يمتري ثدي نعمتهم ويجر ذيله خيلاء في جاههم، فذهب مثلاً في كفران النعمة وسوء الجزاء. والله لا يظلم مثقال ذرة. وكان ذلك خاتم جمادى الاخرة سنة أربع وثمانين وسبعمائة لعشر سنين من إمارته على مراكش ثم رحل السلطان منقلباً إلى فاس، وقد استولى على أعمال المغرب، وظفر بعدوّه ودفع المنازعين عن مكه. والله أعلم.
اجلاب العرب إلي المغرب في مغيب السلطان بغريه، من ولد أبي علي، وأبي تاشفين بن أبي حمّو صاحب تلمسان ومجيء أبي حمو علي أثرهم: كان أولاد حسين من عرب المعقل مخالفين علي السلطان من قبل مسيره إلى مراكش. وكان شيخهم يوسف بن علي بن غانم، قد حدثت بينه وبين الوزير القائم على الدولة
محمد بن عثمان منافرة وفتنة. وبعث العساكر إلى سجلماسة، فخرّب ما كان له بها من العقار والأملاك. وأقام منتقضا بالقفر. فلما حاصر السلطان الأمير عبد الرحمن بمراكش وأخذ بمخنقه أرسل أبا العشائر ابن عمّه منصور إلى يوسف بن علي وقومه، ليجلبوا به على المغرب ويأخذوا بحجزة السلطان عن حصاره فسار لذلك. ولما قدم على يوسف، سار به إلى تلمسان، مستجيشاً بالسلطان أبي حمو لذلك القصد، بما كان بينه وبين الأمير عبد الرحمن من العهد على ذلك. فبعث أبو حمو معهم ابنه أبا تاشفين في بعض عساكره، وسار في الباقين على أثرهم. وسار أبو تاشفين وأبو العشائر إلى أحياء العرب، فدخلوا إلى أحواز مكناسة وعاثوا فيها. وكان السلطان عند سفره إلى مراكش، استخلف على دار ملكه بفاس علي بن مهدي العسكري في جماعة من الجند. واستنجد بونزمار ابن عريف شيخ سويد وولي الدولة المقيم بأحياء ملوية، فخالف بين العرب المعقل واستألف منهم العمارنة والمنبات وهم الأحلاف. واجتمعوا مع علي بن مهدي وساروا لمدافعة العدّو بنواحي مكناسة، فصدّوهم عن مرامهم ومنعوهم من دخول البلاد، فأقاموا متوافقين أيّاماً. وقصد أبو حمّو في عسكره مدينة تازى وحاصرها سبعاً. وخرّب قصر الملك هنالك ومسجده المعروف بقصر تازورت. وبينما هم على ذلك بلغ الخبر اليقين بفتح مراكش وقتل الأمير عبد الرحمن، فأجفلوا من كل ناحية. وخرج أولاد حسين وأبو العشائر وأبو تاشفين والعرب الأحلاف في اتباعهم وأجفل أبو حمّو من تازى راجعاً إلى تلمسان ومرّ بقصر ونزمار في نواحي بطوية المعروف بمرادة، هدمه ووصل السلطان إلى فاس وقد تم له الظهور والفتح إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
نهوض السلطان إلى تلمسان وفتحها وتخريبها: كان السلطان لما بلغه ما فعله العرب وأبو حمو بالمغرب، لم يشغله ذلك عن شأنه، ونقم على أبي حمّو ما أتاه من ذلك، وأنه نقض عهده من غير داع إلى النقض. فلمّا احتلّ بدار ملكه بفاس، أراح أياماً، ثم أجمع عزمه على النهوض إلى تلمسان. وخرج في عساكره على عاداتهم وانتهى إلى تاوريرت. وبلغ الخبر إلى أبي حمّو، فاضطرب في أمره واعتزم على الحصار وجمع أهل البلد عليه واستعدّوا له. ثم خرج في بعض
تلك الليالي بولده وأهله وفي خاصته، وأصبح مخيّماً بالصفصيف وانفض أهل البلد إليه، وبعضهم بعياله وولده، مستمسكين به، متفادين من معرّة هجوم عساكر المغرب. ولم يرعه ذلك عن قصده، وارتحل ذاهباً إلى البطحاء. ثم قصد بلاد مغراوة، فنزل في بني بو سعيد قريباً من شلف، وأنزل أولاده الأصاغر وأهله بحصن تاجحمومت. وجاء السلطان إلى تلمسان، فملكها واستقرّ فيها أياماً. ثم هدم أسوارها وقصور الملك بها، بإغراء وليه ونزمار، جزاءً بما فعله أبو حمّو من تخريب قصر تازروت وحصن مرادة. ثم خرج من تلمسان في اتباع أبي حمّو ونزل على مرحلة منها. وبلغه الخبر هنالك بإجازة السلطان موسى ابن عمّه أبي عنّان من الأندلس إلى المغرب وإنه خالفه إلى دار الملك، فانكفأ راجعاً وأغذّ السير إلى المغرب، كما نذكر. ورجع أبو حمّو إلى تلمسان واستقر في ملكه، كما تقدم في أخباره.
اجازة السلطان موسي ابن السلطان ابن عنان، من الاندلس إلى المغرب. واستيلاؤه علي الملك وظفره بابن عمه السلطان ابن العباس وازعاجه إلى الاندلس قد تقدم لنا أن السلطان محمد بن الأحمر المخلوع، كان له تحكم في دولة السلطان أبي العباس بن أبي سالم صاحب المغرب، بما كان من إشارته على محمد عثمان ببيعته وهو معتقل بطنجة، ثم بما أمدّه من مدد العساكر والأموال، حتى تم أمره واستولى على البلد الجديد كما تقدم في أول خبره، ثم بما كان له من الزبون عليهم، بالقرابة المرشحين الذين كانوا معتقلين بطنجة مع السلطان أبي العبّاس، من أسباط السلطان أبي الحسن، من ولد أبي عنان وأبي سالم والفضل وأبي عامر وأبي عبد الرحمن وغيرهم. وكانوا متعاهدين في معتقلهم أنّ من أتاح الله له الملك منهم، يخرجهم من الاعتقال ويجيزهم إلى الأندلس. فلما بويع السلطان أبو العباس وفّى لهم بهذا العهد وأجازهم الاندلس، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر أكرم نزل، أنزلهم بقصور ملكه بالحمراء وقرب لهم المراكب، وأفاض عليهم العطاء ووسّع لهم الجرايات والأرزاق. وأقاموا
هنالك في ظل ظليل من كنفه، فكان له به وثوب على ملك المغرب. وكان الوزير القائم بها محمد بن عثمان يقدر له قدر ذلك كله، فيجري في أغراضه وقصوده ويحكمه في الدولة ما شاء الله أن يحكم، حتى توجهت الوجوه إلى ابن الأحمر وراء البحر من أشياخ بني مرين والعرب وأصبح المغرب كأنه من بعض أعمال الأندلس. ولما نهض السلطان إلى تلمسان خاطبوه وأوصوه بالمغرب. وترك محمد بن عثمان بدار الملك، كاتبه محمد بن حسن، كان مصطنعاً عنده من بقيّة شيع الموحّدين ببجاية، فاختصّه ورقّاه واستخلفه في سفره هذا على دار الملك. فلمّا انتهوا إلى تلمسان وحصل لهم من الفتح ما حصل كتبوا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر، مع شيطان من ذرّية عبّو بن قاسم المزوار، كان بدارهم. وهو عبد الواحد بن محمد بن عبّو، وكان يسمو بنفسه إلى العظائم التي ليس لها بأهل ويتربّص لذلك بالدولة. وكان ابن الأحمر مع كثرة تحكّمه فبهم يتنحي لهم بعض الأوقات، بما يأتونه من تقصير في شفاعة أو مخالفة في أمر لا بجدون عنها وليجة، فيضطغن لهم ذلك. فلمّا قدم عليه عبد الواحد هذا بخبر الفتح وقصّ عليه القصص، دسّ له أنّ أهل الدولة مضطربون على سلطانهم ومستبدلون به لو وجدوا، وبلغ من ذلك ما حمل وما لم يحمل. وأشار له بجلاء المغرب من الحامية جملة، وأن دار الملك ليس بها إلا كاتب حضري لا يحسن المدافعة، وهو أعرف به، فانتهز ابن الأحمر الفرصة وجهز موسى ابن السلطان أبي عنان من الأسباط المقيمين عنده. واستوزر له مسعود بن رحو بن ماساي من طبقة الوزراء من بني مرين ومن بني قودر من أحلافهم. وله في ذلك سلف وكان قد بعثه من قبل وزيراً للأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن، حين أجاز إلى المغرب أيام استبداد أبي بكر بن غازي. فلم يزل معه حتى كان حصار البلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العبّاس عليها. وذهب الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، فاستأذنه مسعود في الانصراف إلى الأندلس، فأذن له ورجع عنه إلى فاس. ثم فارقها وأجاز إلى الأندلس متودعاً ومتودداً للكل ومعولاً على ابن الأحمر، فتلقّاه بالقبول وأوسع له بالنزل والجراية وخلطه بنفسه وأحضره مع ندمائه. ولم يزل كذلك إلى أن جهزه وزيراً إلى المغرب مع السلطان أبي عنان وبعث معهم عسكراً. ثم ركب معهم السفين إلى سبتة، وكانت بينه وبين
شرفائها ورؤساء الشورى بها مداخلة، فقاموا بدعوة السلطان موسى وأدخلوه وقبضوا على عاملها رحّو بن الزعيم المكدوني وجاؤا به إلى السلطان، فملكها غرّة صفر من سنة ست وثمانين. وسلمها لابن الأحمر، فدخلت في طاعته. وسار هو إلى فاس، فوصلها لأيام قريبة، وأحاط بدار الملك، واجتمع إليه الغوغاء. ونزل الدهش بمحمد بن الحسن، فبادر بطاعته. ودخل السلطان موسى إلى دار الملك وقبض عليه لوقته، وذلك في عشر ربيع الأول من السنة، وجاء الناس بطاعتهم من كل جانب. وبلغ الخبر إلى السلطان أبي العبّاس بمكانه من نواحي تلمسان بأنّ السلطان موسى قد نزل بسبتة، فجهز علي بن منصور وترجمان الجند النصارى ببابه مع طائفة منهم. وبعثهم حامية لدار الملك، فانتهوا إلى تازى وبلغهم خبر فتحها، فأقاموا هنالك. وأغذّ السلطان أبو العباس السير إلى فاس، فلقيه خبر فتحها بتاوريرت، فتقدّم إلى ملوية وتردّد في رأيه بين المسير إلى سجلماسة مع العرب أو قصد المغرب. ثم استمرّ عزمه ونازل بتازى وأقام فيها أربعاً. وتقدم إلى الركن، وأهل دولته خلال ذلك يخوضون في الانتقاض عليه تسللاً إلى ابن عمّه السلطان موسى المتولي على فاس. ويوم أصبح مرتحلا من الركن أرجفوا به. ثم انتقضوا عليه طوائف قاصدين فاس ورجع هو إلى تازى بعد أن انتهب معسكره واضرمت النار في خيامه وخزائنه. ثم صبح بتازى من ليلته، فدخلها وعاملها يومئذ الخيّر من موالي السلطان أبي الحسن. وذهب محمد بن عثمان إلى وليّ الدولة ونزمار ابن عريف وأمراء المغرب من المعقل. ولما دخل السلطان أبو العباس إلى تازى، كتب إلى ابن عمّه السلطان موسى يذكره العهد بينهما. وقد كان السلطان ابن الأحمر عهد إليه أن يبعث به إليه إن ظفر به، فبادر السلطان موسى باستدعائه مع جماعة من وجوه بني عسكر، أهل تلك الناحية: وهم زكرياء بن يحيى بن سليمان ومحمد بن داود بن عراب، ومعهم العباس بن عمر الوسناني فجاؤا به وأنزلوه بالزاوية بغدير الحمص بظاهر فاس، فقيّد هنالك. ثم بعثه إلى الأندلس موكلاً به مع عمر بن رحّو أخي الوزير مسعود بن ماساي. واستصحب معه ابنه أبا فارس. وترك سائرهم بفاس وأجاز البحر من سبتة، فأنزله السلطان ابن الأحمر بقلعة ملكه الحمراء. وفكّ قيوده ووكّل به ووسّع له في الجراية. فأقام هنالك
محتاطا به، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. نكبة الوزير محمد بن عثمان ومقتله: أصل هذا الوزير من بني الكاس إحدى بطون بني ورتاجن. وكان بنو عبد الحق عندما تأثلوا ملكهم بالمغرب يستعملون منهم في الوزارة. وربّما وقعت بينهم هنالك وبين الحشم وبني فودود المختصين بالوزارة عندهم مزاحمة، أجازوا بسببها إلى الأندلس. وربما وقع بينهم هنالك وبين بني ادريس وبني عبد الله منافسة، قتلوا فيها بعض بني الكاس ونشأ غازي بن ألكاس منهم في دولة السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن وتهذب بالخلال. ثم استوزره السلطان أبو الحسن بعد مهلك وزيره يحيى بن طلحة بن محلى بمكانه من حصار تلمسان، وقام بوزارته أعواما، وحضر معه واقعة طريف سنة إحدى وأربعين وسبعمائة من هذه المائة واستشهد فيها. ونشأ ابنه أبو بكر في ظلّ الدولة ممتعاً بحسن الكفالة وسعة الرزق. وكانت أمّه أمّ ولد، وخلفه عليها ابن عمه محمد بن عثمان هذا الوزير، فنشأ أبو بكر في حجره. وكان أعلى رتبة منه بأولية أبيه وسلفه، حتى إذا بلغ أشدّه واستوى، سمت به الخلال، وجالت أبصار الملوك في اختياره وترشيحه، حتى استوزره السلطان عبد العزيز كما قلناه وقام بوزارته أحسن قيام، وأصبح محمد بن عثمان هذا رديفه. وهلك السلطان عبد العزيز، فنصّب الوزير أبو بكر ابنه السعيد للملك صبياً لم يثغر. وكان من انتقاض أمره وحصاره بالبلد الجديد واستيلاء السلطان أبي العباس عليه ما قدمناه. قام محمد بن عثمان بوزارة السلطان أبي العباس مستبدا عليه ودفع إليه أمور ملكه وشغل بلذّاته، فقام محمد بن عثمان من أمور الدولة ما عاناه، حتى كان من استيلاء السلطان موسى على ملكهم ما مرّ. وانفض بنو مرين عن السلطان أبو العباس وفارقه محمد بن عثمان إلى ولي الدولة ونزمار بن عريف وهو مقيم بظاهر تازى. وتذمم له فتجهم له ونزمار وأعرض عنه، فسار معداً إلى أحياء المنيات من
عرب المعقل. كانوا هنالك قبلة تازى لذمّة صحابة كانت بينه وبين شيخهم أحمد بن عبّو، فنزل عليه متذمّماً به، فخادعه وبعث بخبره إلى السلطان، فجهز إليه عسكرا مع المزوار عبد الواحد بن محمد بن عبّو بن قاسم وزروق بن بومريطت والحسن العوفي من الموالي، فتبرأ منه العرب وأسلموه إليهم، فجاؤا به وأشهروه يوم دخوله إلى فاس. واعتقل أياماً وامتحن في سبيل المصادرة ثم استصفى، ثم قتل ذبحاً بمحبسه. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
خروج الحسن بن الناصر بغمارة ونهوض الوزير إلي ماساي إليه بالعساكر: لما استقل السلطان موسى بملك المغرب وقام مسعود بن ماساي بوزارته مستبداً عليه، وكان من تغريبهم السلطان أبا العباس إلى الأندلس ونكبتهم وزيره محمد بن عثمان وقتلهم إياه، وافتراق أشياع الوزير محمد بن عثمان قرابته وبطانته، فطلبوا بطن الأرض، ولحق منهم ابن أخيه العبّاس بن المقداد بتونس، فوجد هنالك الحسن بن الناصر ابن السلطان أبي علي قد لحق بها من مقره بالأندلس في سبيل طلب الملك، فثاب له رأي في الرجوع إلى المغرب لطلب الأمر هنالك. فخرج به من تونس وقطع المفاوز، والمشاق إلى أن انتهى إلى جبل غمارة ونزل على أهل الصفيحة منهم، فأكرموا مثواه وتلقيه وأعلنوا بالقيام بدعوته. واستوزر العباس بن المقداد. وبلغ الخبر إلى مسعود بن ماساي بفاس، فجهز العساكر لطلبه مع أخيه مهدي بن ماساي، فحاصرها بجبل الصفيحة أياماً. وامتنع عليهم، فتجهز الوزير مسعود بن ماساي بالعساكر من دار الملك وساروا لحصاره. ثم رجع من طريقه لما بلغه من وفاة السلطان بعده. والله أعلم. وفاة السلطان موسي والبيعة للمنتصر ابن السلطان أبي العباس: كان السلطان موسى لما استقل بملك المغرب، استنكف من استبداد ابن ماساي عليه
وداخل بطانته في الفتك به. وأكثر ما كان يفاوض في ذلك كاتبه وخالصته محمد ابن كاتب أبيه وخالصته محمد بن أبي عمر. وكان للسلطان موسى ندمان يطلعهم على الكثير من أموره منهم العباس بن عمرو بن عثمان الوسناقي، وكان الوزير مسعود بن ماساي قد خلف أبا عمر على أمّه وربي في حجره، فكان يدلي إليه بذلك وينهي إليه ما يدور في مجلس السلطان في شأنه، فحصلت للوزير بسبب ذلك نفرة طلب لأجلها البعد عن السلطان. وبادر الخروج لمدافعة الحسن القائم بغمارة، واستخلف على دار الملك أخاه بعيش بن رحو بن ماساي. فلما انتهى إلى القصر الكبير لحقه الخبر بوفاة السلطان موسى، وكانت وفاته في شهر جمادى الاخرة. طرقه المرض فهلك ليوم وليلة لثلاث سنين من خلافته، حتى كان الناس يرمون يعيش أخا الوزير بأنه سمّه. وبادر يعيش فنصب ابن عمه للملك، وهو المنتصر ابن السلطان أبي العبّاس. وانكفأ لوزير مسعود راجعا من القصر، وقتل السبيع محمد بن موسى بن إبراهيم من طبقة الوزراء، وقد مر ذكر قومه، وكان اعتقله أيام السلطان موسى فقتله بعد وفاته. واستمرت أمور الدولة
في استقلاله، والله أعلم. اجازة الواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن في الاندلس والبيعة له بفاس: كان الوزير مسعود بن ماساي لما استوحش من السلطان موسى، بعث ابنه يحيى وعبد الواحد المزوار إلى السلطان ابن الأحمر يسأل منه إعادة السلطان أبي العباس إلى ملكه، فأخرجه ابن الأحمر من الاعتقال وجاء به إلى جبل الفتح يروم إجازته إلى العدوة. فلما توفي السلطان موسى بدا للوزير مسعود في أمره ودس للسلطان ابن الأحمر ردّه، وأن ببعث إليه بالواثق محمد بن أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن من القرابة المقيمين عنده. ورآه أليق بالاستبداد والحجر، فأسعفه ابن الأحمر في ذلك ورد السلطان أحمد إلى مكانه بالحمراء. وجاء بالواثق، فحضر بجبل الفتح عنده وفي خلال ذلك وصل جماعة من أهل الدولة انتقضوا على الوزير مسعود ولحقوا بسبتة وأجازوا إلى السلطان ابن الأحمر: وهم يعيش بن علي بن فارس الياباني
وسيور بن يحيي بن عمر الونكاسني وأحمد بن محمد الصبيحي، فدفع إليهم الواثق ورجعوا به إلى المغرب على أنهم في خدمة الوزير، حتى إذا انتهو إلى جبل زرهون المطل على مكناسة اظهروا الخلاف على الوزير وصعدوا إلى قبائل زرهون واعتصموا بجبلهم. ولحق بهم من كان على مثل دينهم من الخلاف على ابن ماساي وصاروا معهم يداً. مثل طلحة بن الزبير الورتاجني، وسيور بن يحياتن بن عمر الونكاسني، ومحمد التونسي من بنى أبي الطلاق وفارح بن مهدى من معلوجي السلطان، وأصله من موالي بني زيان ملوك تلمسان. وكان أحمد بن محمد الصبيحي حين جاء مع الواثق، قد استطال على أصحابه وأظهر الاستبداد، بما كان من طائفة الجند المستخدمين، فغص به أهل الدولة وتبرأوا منه للسلطان الواثق، فأظهر لهم البراءة منه، فوثبوا به وقتلوه عند باب خيمة السلطان. وتولى كبر ذلك يعيش بن علي بن فارس الياباني كبير بني مرين، فذهب مثلا في الغابرين ولم تبك عليه سماء ولا أرض. وكان زورق ابن توقريطت من موالي بني علي بن زيان من شيوخ بني وانكاسن، وكان من أعيان الدولة ومقدمي الجند، قد انتقض على الدولة أيام السلطان موسى ولحق بأحياء أولاد حسين من عرب المعقل، المخالفين منذ أيام السلطان موسى. ونزل على شيخهم موسى بن علي بن غانم، لذمة صحابة بينهما من جوارهم في المواطن. وكان معه في ذلك الخلاف محمد بن يوسف بن علال، كان أبوه يوسف من صنائع السلطان أبي الحسن ونشأة دولته استوحشا من الوزير، فلحقا بالمغرب. فلما جاء هذا السلطان الواثق قدما عليه، فلقيهما بالتكرمة وأحلهما في مقامهما من الدولة. وخرج الوزير ابن ماساي في العساكر ونزل قبالتهم بجبل مغيلة وقاتلهم هناك أياما. وداخل الذين مع الواثق واستمالهم. وبعث عساكر إلى مكناسة فحاصروها، وكان بها يومئذ عبد الحق بن الحسن بن يوسف الورتاجني، فاستنفرله منها وملكها. وترددت المراسلات بينه وبين الواثق وأصحابه على أن ينصبه للأمر. ويبعث بالمنتصر المنصوب عنده إلى أبيه السلطان أبي العباس بالأندلس وانعقد الأمر بينهم على ذلك. وسار الواثق في أصحابه إلى الوزير ابن ماساي، فنزل عليه. ومضى يعيش بن علي بن فارس عنهم ذاهبا لوجهه. وسار الوزير بالواثق إلى دار الملك،
فبايعه في شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، بعد أن اشترط عليه لنفسه وأصحابه ما شاء. وأجاز سلطانه المنتصر إلى أبيه السلطان أبي العباس بالأندلس، وقبض على جماعة ممن كان مع الواثق: مثل المزوار عبد الواحد وقتله، وعلى فارح بن مهدي وحبسه. وعلى الخير مولى الأمير عبد الرحمن وامتحنه. وعلى آخرين سواهم. ثم قبض على جماعة من بطانة السلطان موسى، كانوا يداخلونه في القبض والفتك به، فحبسهم وقتل بعضهم. وعلى جند الأندلس الذين جاءوا مداداً للواثق. وعلى قوادهم من معلوجي ابن الأحمر، فأودعهم السجون. ثم قبض على كاتب السلطان موسى بن أبي الفضل محمد بن أبي عمر، مرجعه من السفارة عن سلطانه إلى الأندلس، فاعتقله وصادره، ثم أخلى سبيله. ثم بعث إلى الحسن بن الناصر الثائر بجبل الصفيحة من غماره مع ادريس بن موسى بن يوسف الياباني، فخادعه باستدعائه للملك والبيعة له، فخدعه واستنزله. وجاء به، فاعتقله الوزير أياماً. ثم أجازه إلى الأندلس واستقر الأمر على ذلك. والله أعلم.
الفتنة بين الوزير ابن ماساي وبين السلطان ابن الاحمر واجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة، لطلب ملكها واستيلاؤه عليها: لما بايع الوزير ابن ماساي للواثق ورأى أنه قد استقل بالدولة ودفع عنها الشواغب، صرف نظره إلى استرجاع ما فرط من أعمال الدولة، وافتتح أمره بسبتة. وكان السلطان موسى لأول إجازته، أعطاها لابن الأحمر كما مر، فبعث إليه الآن الوزير ابن ماساي في ارتجاعها منه على سبيل الملاطفة، فاستشاط لها ابن الأحمر ولج في الرد، فنشأت الفتنة لذلك. وجهز ابن ماساي العساكر لحصار سبتة مع العباس ابن عمر بن عثمان الوسنافي ويحيى بن علال بن أمصمود والرئيس محمد بن محمد الأبكم من بني الأحمر، ثم من بيت السلطان الشيخ، فاتح أمرهم وممهد دولتهم. وراسل سلطان إشبيلية والجلالقة من بني أدفونش وراء البحر، بأن يبعث إليه ابن عم السلطان ابن الأحمر محمد بن إسمعيل مع الرئيس الأبكم، ليجلبا من ناحيته على الأندلس. وجاءت عساكر الوزير إلى سبتة، فحاصروها ودخلوها عنوة. واعتصم حامية الأندلس الذين كانوا بها بالقصبة. واتصلت الجولة بين الفريقين وسط البلد. وأوفد
أهل القصبة النيران بالجبل، علامة على أمرهم، لبراها ابن الأحمر. وكان مقيماً بمالقة، فبادر بتجهيز الأسطول مشحوناً بالمقاتلة مدداً لهم. ثم استدعى السلطان أبا العباس من مكانه بالحمراء وأركبه السفين إلى سبتة، فأصبح بالقصبة في غرة صفر سنة تسع وثمانين وسبعمائة. وأشرف عليهم من الغد وناداهم من السور يدعوهم إلى طاعته. فلما رأوه اضطربوا وافترقوا. وخرج إليهم، فنهب سواددهم ودخلوا في طاعته متسايلين. ورجع جمهور العرب ومقدموهم إلى طنجة. واستولى السلطان على مدينة سبتة. وبعث إليه ابن الأحمر بالنزول عنها وردها إليه، فاستقرت في ملكه وكملت بها بيعته. وكان يوليه أمور الضيفان الواردين. والله تعالى أعلم. مسير السلطان أبي العباس من سبتة، لطلب ملكه بفاس ونهوض ابن ماساي لدفاعه ورجوعه منهزما: لما استولى السلطان أبو العباس على سبتة وتم له ملكها، اعتزم على المسير لطلب ملكه بفاس. وأغراه ابن أحمر بذلك ووعده بالمداد، بما كان من مداخلة ابن ماساي لجماعة من بطانته في أن يقتلوه ويملكوا الرئيس الأبكم. يقال إن الذي داخله في ذلك، من بطانة ابن الأحمر، يوسف بن مسعود البلنسي ومحمد ابن الوزير أبي القاسم بن الحكيم الرندي. وشعر بهم السلطان ابن الأحمر وهو يومئذ على جبل الفتح، يطالع أمور السلطان أبي العباس، فقتلهم جميعاً وإخوالهم. ويقال إن ذلك كان بسعاية القائم على دولته مولاه خالد، كان يغص بهم ويعاودهم، فاحتال عليهم بهذه وتمت سعايته بهم، فاستشاط ابن الأحمر غضباً على ابن ماساي. وبعث إلى السلطان أبي العباس يستنفره للرحلة إلى طلب ملكه، فاستخلف على سبتة رخو ابن الزعيم المكدودي عاملها من قبل كما مر. وصار إلى طنجة، وعاملها من قبل الواثق صالح بن حمو الياباني، ومعه بها الرئيس الأبكم من قبل العساكر، فحاصرها أياماً وامتنعت عليه، فجمر عنهم الكتائب وسار عنها إلى أصيلاً، فدخلت في دعوته وملكها. ونهض الوزير ابن فارس في العساكر، بعد أن استخلف أخاه يعيش على دار
الملك وسار. ولحقت مقدمته باصيلا، ففارقها السلطان أبو العباس وصعد إلى جبل الصفيحة فاعتصم به. وجاء الوزير ابن ماسي، فتقدم إلى حصاره بالجبل وجمع عليه رماة الرجل من الأندلس الذين كانوا بطنجة. وأقام يحاصره بالصفيحة شهرين. وكان يوسف بن علي بن غانم، شيخ أولاد حسين من عرب المعقل، مخالفاً على الوزير مسعود وداعية للسلطان أبي العباس وشيعة له، وكان يراسل ابن الأحمر في شأنه. فلما سمع باستيلائه على سبتة وإقباله على فاس، جمع أشياعه من العرب ودخل إلى بلاد المغرب ونزل ما بين فاس ومكناسة. وشن الغارات على البسائط واكتسحها. وأرجف الرعايا وأجفلوا إلى الحصون. وكان ونزمار بن عريف ولي الدولة شيعة للسلطان، وكان يكاتبه وهو بالأندلس ويكاتب ابن الأحمر في شأنه. فلما اشتد الحصار على السلطان بالصفيحة، بعث ابنه أبا فارس إلى ونزمار، بمكانه من نواحي تازى. وبعث معه سيور بن يحياتن بن عمر، فقام ونزمار بدعوته وسار به إلى مدينة نازى، وعاملها سليمان بن بوحياة الغودودي من قرابة الوزير ابن ماساي. فلما نزل به أبو فارس ابن السلطان بادر إلى طاعته وأمكنه من البلد، فاستولى عليها واستوزر سليمان هذا. وسار إلى صفروي ومعه ونزمار للإجتماع بعرب المعقل واصفاقهم على حصار فاس. وكان محمد بن الدمعة عاملاً على ورغة، فبعث إليه السلطان عسكراً مع العباس بن المقداد ابن أخت الوزير محمد بن عثمان، فقتلوه وجاؤا برأسه. ونجم الخلاف على يعيش نائب البلد الجديد من كل جهة وطير يعيش بن ماساي النائب بدار الملك، بالخبر بذلك كله إلى أخيه، بمكانه من حصار السلطان بالصفيحة، فانفضت عنه العساكر وأجفل راجعاً إلى فاس. وسار السلطان في اتباعه. ودخل في طاعته عامل مكناسة الخير مولى الأمير عبد الرحمن. ولقيه يوسف بن علي بن غانم ومن معه من أحياء العرب، وساروا جميعاً إلى فاس. وكان أبو فارس ابن السلطان، قد رحل من تازى إلى صفيروا للقاء أبيه، فاعترضه الوزير ابن ماساي في العساكر، ورجا أن يفله. ولقيه ببني بهلول، فنزع أهل المعسكر إلى أبي فارس. ورجع الوزير منهزماً ودخل البلد الجديد، فاعتصم بها. وبلغ خبره إلى السلطان وهو بمكناسة، فارتحل يغذ السير إلى فاس. وسار ابنه أبو فارس للقائه، فلقيه على وادي النجا. وصبحوا البلد الجديد، فنزلوا عليها بجموعهم. وقد اعتصم بها الوزير في أوليائه وبطانته، ومعه يغمراسن بن محمد السالفي ورهائن بني مرين، الذين استرهنهم عند مسيره معهم للقاء السلطان بأصيلا. والله أعلم.
ظهور دعوة السلطان أبي العباس في مراكش واستيلاء أوليائه عليها: كان الوزير مسعود بن ماساي، قد ولى على مراكش وأعمال المصامدة، أخاه عمر ابن رحو، وكانت البلاد منتظمة في طاعته. فلما بلغ الخبر بوصول السلطان إلى سبتة واستيلائه عليها، تطاولت رؤوس أوليائه إلى إظهار دعوته بجبل الهساكرة، وشيخهم علي بن زكريا. وبعث الوزير مسعود من مكانه بحصار السلطان بالصفيحة في امداده بالعساكر من مراكش، فخف إليه مخلوف بن سليمان الوارتيبي صاحب الأعمال ما بين مراكش والسوس، وقعد الباقون عن قصده وتفرقوا. وصعد أبو ثابت حافد علي بن عمر إلي جبل الهساكرة، ومعه يوسف بن يعقوب بن علي الصبيحي، فاستمد من علي بن زكريا ورجع إلى مراكش مجلباً على عمر بن رحو، فناوشه القتال ساعة. ثم غلبه على البلد وملكها من يده ونزل بقصبة الملك. وحبس عمر بن رحوبها وكتب إلى السلطان بذلك، وهو بمكناسة متوجها إلى فاس، فكتب إليه بأن يصله بعساكر مراكش لحصار دار الملك، فجمع العساكر واستخلف على قصبة مراكش بعض بني عمه ولحق بالسلطان وأقام معه في حصار البلد الجديد. والله أعلم. ولاية المنتصر ابن السلطان أبي علي على مراكش واستقلاله بها: كان السلطان أبو العباس حين ملك المغرب بعث ابنه محمد المنتصر في البحر إلى سلا،
واستوزر له عبد الحق بن الحسن بن يوسف، فوصل إلى سلا وأقام بها. ومر به زروق بن توفريطت، راجعاً من دكالة. وقد بلغه نزول السلطان على البلد الجديد، فتلطف في استدعائه، ثم قبض عليه وبعث به إلى أبيه مقيداً، فأودعه السجن وقتل بعد ذلك في بمحبسه. ثم بعث السلطان إلى ابنه المنتصر بولاية مراكش وأن يسير إليها، فلما وصل امتنع النائب بالقصبة من أن يمكنه من البلد، إلا أن يدخل إليه منفرداً عن أصحابه وبطانته. وكان علي بن عبد العزيز شيخ هنتاتة مداخلاً لنائب القصبة، فدس لعبد الحق وزير المنتصر أن النائب قد هم بقتله. وحينئذ تمكن المنتصر من القصبة، فأجفل بالمنتصر وصعد إلى جبل هنتاتة. وطير بالخبر إلى السلطان، فتغير لأبي ثابت وأمره بأن يكاتب نائبه بتمكين ابنه من القصبة. واستوزر له سعيد بن عبدون وبعثه بالكتاب، وعزل عبد الحق عن وزارة ابنه. واستدعاه إلى فاس، فوصل سعيد بن عبدون إلى مراكش ودفع إلى النائب بالقصبة كتاب مستخلفه، فأجاب إلى الامتثال وأمكنه من القصبة واعتزل منها فدخلها. وبعث عن المنتصر ابن السلطان واستولوا عليها، وقبضوا على نائب عامر الذي كان بها وسائر شيعته وبطانته. وامتحنوهم واستصفوهم، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
حصار البلد الجديد وفتحها ونكبة الوزير ابن ماساي ومقتله. لما نزل السلطان على البلد الجديد واجتمع إليه سائر قبيله وأوليائه وبطانته، داخل الوزير مسعوداً الحنق على وجوه بني مرين لانتباذهم عنه. وهم بقتل أبنائهم الذين استرهنوهم على الوفاء له، فلاطفه يغمراسن السالفي في المنع من ذلك، فأقصر عنه. وضيق السلطان مخنقه بالحصار ثلاث أشهر، حتى دعا إلى النزول والطاعة، فبعث السلطان إليه ولي الدولة ونزمار بن عريف وخالصته محمد بن يوسف، بن علال، فعقد معهم الأمان لنفسه ولمن معه، على أن يستمر على الوزارة ويبعث بسلطانه الواثق إلى الأندلس. واستحلفهم على ذلك وخرج معهم إلى السلطان، فدخل السلطان البلد الجديد خامس رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة لثلاثة أعوام وأربعة أشهر من خلعه. ولحين دخوله قبض على الواثق
وبعث به معتقلاً إلى طنجة حتى قتل بها بعد ذلك. ولما استوى على أمره قبض على الوزير ابن ماسي ليومين من دخوله وعلى إخوانه وحاشيته. وامتحنهم جميعاً، فهلكوا في العذاب. ثم سلط على مسعود من العذاب والانتقام ما لا يعبر عنه. ونقم عليه ما فعله بدور بني مرين النازعين إلى السلطان بأنه كان متى هرب منه أحد منهم يعمد إلى بيوته فينهبها ويخربها، فأمر السلطان بعقابه في أطلالها، فكان يوتى به إلى كل بيت منها، فيضرب عشرين سوطاً إلى أن أفحش فيه العذاب وتجاوز الحد. ثم أمر به فقطع، فهلك عند قطع الثانية من الأربعة، فذهب مثلاً في الآخرين.
وزارة محمد بن علال: كان أبوه يوسف بن علال من نشأة الدولة وصنيعة السلطان أبي الحسن. وربي في داره. ولما ضخم أمره سما به إلى ولاية الأعمال، فولاه على درعة، فأثرى وأنجب وباهى أولياء الدولة. ثم ولاه السلطان أبو عنان أمر مطبخه ومائدته وضيوفه واستكفى في ذلك، وولاه أخوه أبو سالم بعده كذلك. ثم بعثه على سجلماسة فعاش بها من أمور العرب مشقة. وعزله عنها، فهلك بفاس. وكان له جماعة من ولد نشأوا في ظل هذه النعمة، وحدثت النجابة بمحمد منهم. فلما ولي السلطان أبو العباس، استعمله في أمور الضياف والمائدة كما كانت لأبيه. ثم رقاه إلى المخالصة وخلطه بنفسه. فلما خلع السلطان واستولى الوزير ابن ماسي على المغرب، وكانت بينه وبين أخيه يعيش بن ماسي إحن قديمة، فسكن لصولتهم. حتى إذا اضطرمت نار الفتنة بالمغرب وأجلب عرب المعقل في الخلاف، استوحش محمد هذا، فلحق بأحيائهم مع زروق بن توقريطت كما مر ذكره. ونزلا على يوسف بن علي بن غانم شيخ أولاد حسين وأقاما معه في خلافه. حتى إذا أجاز السلطان الواثق من الأندلس ووصل مع أصحابه إلى جبل زرهون، وأظهروا الخلاف على الوزير ابن ماسي، بادر محمد هذا وزروق إلى السلطان ودخلا في طاعته، متبرئين من النفاق الذي حملهم عليه
عداوة الوزير ابن ماسي. فما كان إلا أن انعقد الصلح بين الواثق وابن ماسي، وسار به وبأصحابه إلى فاس. وحصلوا في قبضة ابن ماسي، فعفا لهم عما كان منهم واستعملهم في معهود ولايتهم ثم جاء الخبر بإجازة السلطان أبي العباس إلى سبتة، فاضطرب محمد بن يوسف وذكر لخالصة السلطان ومنافرة بني ماساي، فأجمع أمره ولحق بسبتة، فتلقاه السلطان بالكرامة. وير بمقدمه ودفعه إلى القيام بأمر دولته، فلم يزل متصرفاً بين يديه، إلى أن نزل على البلد الجديد. ولأيام من حصارها، خلع عليه للوزارة ودفعه إليها، فقام بها أحسن قيام. ثم كان الفتح وانتظمت أمور الدولة، ومحمد هذا يصرف الوزارة على أحسن أحوالها، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ظهور محمد بن السلطان عبد الحليم بسجلماسة: قد تقدم لنا عند ذكر السلطان عبد الحليم ابن السلطان أبي علي، وكان يدعى بحلى كيف، بايع له بنو مرين وأجلبوا به على عمر بن عبد الله، سنة ثلاث وستين وسبعمائة، أيام بيعته للسلطان أبي عمر ابن السلطان أبي الحسن. وحاصروا معه البلد الجديد، حتى خرج لدفاعهم وقاتلهم، فانهزموا وافترقوا. ولحق السلطان عبد الحليم بتازى وأخوه عبد المؤمن بمكناسة، ومعه ابن أخيهما عبد الرحمن بن أبي يفلوسن. ثم بايع الوزير عمر بن عبد الله لمحمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن. واستبدل به من أبي عمر، لما كان بنو مرين يرمونه به من بالجنون والوسوسة. فاستدعى محمد بن أبي عبد الرحمن من مطرح اغترابه بإشبيلية وبايع له. وخرج في العساكر لمدافعه عبد المؤمن وعبد الرحمن عن مكناسة، فلقيهما وهزمهما، ولحقا بالسلطان عبد الحليم بتازى وساروا جميعاً إلى سجلماسة فاستقروا فيها، والسلطان لعبد الحليم. وقد تقدم خبر ذلك كله في أماكنه. ثم كان الخلاف بين عرب المعقل أولاد حسين والأحلاف. وخرج عبد المؤمن للإصلاح بينهم، فبايع له أولاد حسين ونصبوه كرهاً للملك. وخرج السلطان عبد الحليم إليهم في جموع الأحلاف فقاتلوه وهزموه. وقتلوا كبار قومه: كان منهم يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي شيخ بني تيربيغن وكبير دولة بني مرين، أجلت المعركة عن قتله. ودخل عبد المؤمن البلد منفرداً بالملك. وصرف السلطان أخاه عبد الحليم إلى المشرق لقضاء فرضه لرغبته في ذلك، فسار على
طريق القفر مسلك الحاج من التكرور، إلى أن وصل القاهرة، والمستبد بها يومئذ يلبغا الخاصكي، على الأشرف شعبان بن حسين، من أسباط الملك الناصر محمد بن قلاوون، فأكرم وفادته ووسع نزله وجرايته، وأدر لحاشيته الأرزاق. ثم أعانه على طريقه إلى الحج بالأزواد والآنية والظهر من الكراع والخف. ولما انصرف من حجه زوده لسفر المغرب. وهلك بتروجه سنة سبع وستين ووسبعمائة. ورجع حاشيته إلى المغرب بحرمه وولده. وكان ترك محمداً هذا رضيعاً، فشب متقلباً بين الدول من ملك إلى آخر منتبذاً عن قومه لغيرة بني السلطان أبي الحسن من بني عمهم السلطان أبي علي. وكان أكثر ما يكون مقامه عند أبي حمو سلطان بني عبد الواد بتلمسان، لما يروم به من الأجلاب على المغرب ودفع عادية بني مرين عنهم. فلما وقع بالمغرب من انتقاض عرب المعقل على الوزير مسعود بن ماساي سنة تسع وثمانين وسبعمائة ما وقع واستمروا على الخلاف عليه، انتهز أبو حمو الفرصة وبعث بمحمد بن علي هذا إلى المعقل ليجلبوا به على المغرب، ويمزقوا من ملكه ما قدروا عليه، فلحق بأحيائهم ونزل على الأحلاف الذين هم أمس رحماً بسجلماسة وأقرب موطناً إليها. وكان الوزير مسعود بن ماساي قد ولى عليها من قرابته عليّ بن إبراهيم بن عبو بن ماسي. فلما ظهر عليه السلطان أبو العباس وضيق مخنقه بالبلد الجديد، دس إلى الأحلاف وإلى قريبه علي بن إبراهيم أن ينصبوا محمد ابن السلطان عبد الحليم يملكوه سجلماسة ويجلبوا به على تخوم المغرب، ليأخذوا بحجزة السلطان أبي العباس عنه وينفسوا من خناقه، ففعلوا ذلك. ودخل محمد إلى سجلماسة، فملكها وقام علي بن إبراهيم بوزارته، حتى إذا استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد وفتك بالوزير مسعود بن ماسي وبإخوته وسائر قرابته، اضطرب علي بن إبراهيم وفسد ما بينه وبين سلطانه محمد، فخرج عنه من سجلماسة وعاد إلى أبي حمو سلطان تلمسان كما كان. ثم زادت هواجس علي بن إبراهيم وارتيابه فخرج عن سجلماسة وتركها ولحق بأحياء العرب. وسارت طائفة منهم معه إلى أن أبلغوه مأمنه. ونزل على السلطان أبي حمو إلى أن هلك، فسار إلى تونس وحضر وفاة السلطان أبي العباس بها سنة ست وتسعين وسبعمائة. ولحق محمد ابن السلطان عبد الحليم بعد مهلك أبي حمو بتونس. ثم ارتحل بعدد وفاة السلطان أبي العباس إلى المشرق في سبيل جولة ومطاوعة واغتراب والله تعالى أعلم.
نكبة ابن أبي عمر ومهلكه وحركات ابن حسون:
لما استقل السلطان بملكه واقتعد سريره، صرف نظره إلى أولياء تلك الدولة ومن يرتاب منه. وكان محمد بن أبي عمرو، وقد تقدم ذكره وأوليته، من جملة خواصه وأوليائه وندمائه. وكان السلطان يقسم له من عنايته وجميل نظره ويرفعه على نظرائه. فلما ولي السلطان موسى نزعت به إليه نوازع المخالصة لأبيه من السلطان أبي عنان. فقد كان أبوه من أعز بطانته كما مر، فاستخلصه السلطان موسى للشورى ورفعه على منابر أهل الدولة. وجعل إليه كتابه علامته على المراسم السلطانية، كما كان لأبيه. وكان يفاوضه في مهماته ويرجع إليه في أموره، حتى غص له أهل الدولة ونمي عنه للوزير مسعود بن ماسي أنه يداخل السلطان في نكبته. وربما سعى عند سلطانه في جماعة من بطانة السلطان أحمد، فأتى عليهم النكال والقتل لفلتات كانت بينهم وبينه في مجالس المنادمة عند السلطان حقدها لهم. فلما ظفر بالحظ من سلطانه، سعى بهم فقتلهم. وكان القاضي أبو إسحق إبراهيم اليزناسي من بطانة سلطانه وكان يحضر مع ندمائه، فحقد له ابن أبي عمرو بعض الكلمات. وأغرى به سلطانه فضربه وأطافه، وجاء بها شنعاء غريبة في القبح. وسفر عن سلطانه إلى الأندلس، وكان يمر بمنزل السلطان هذا ومكان اعتقاله. وربما تلقاه فلم يلم بتحية ولا يوجب له حقاً، فاحفظ ذلك السلطان. ولما فرغ من أمر ابن ماساي، قبض على ابن أبي عمرو هذا وأودعه السجن. ثم امتحنه بعد أيام، إلى أن هلك ضرباً بالسياط، عفا الله عنه. وحمل إلى داره. وبينما أهله يجهزونه إلى قبره، إذا بالسلطان قد أمر بأن يسحب في نواحي البلد إبلاغاً في التنكيل، فحمل من نعشه، وقد ربط حبل من رجله وسحب في سائر انحاء المدينة. ثم ألقي على بعض الكثبان من أطرافها وأصبح مثلا في الآخرين. ثم قبض السلطان على حركات بن حسون النياطي وكان مخباً في الفتنة موضعاً. وكان العرب المخالفون من المعقل، ولما أجاز السلطان إلى سبتة، وحركات هذا بتادلا، أرادوه على طاعة السلطان فامتنع أولا. ثم أكرهوه وجاؤا به
إلى السلطان، فطوى له على ذلك حتى استقام أمره. وملك البلد الجديد، فقبض عليه وامتحنه إلى أن هلك. والله وارث الأرض ومن عليها.
خلاف علي بن زكريا بجبل الهساكرة ونكبته:
لما ملك السلطان البلد الجديد واستوى على ملكه، وفد عليه علي بن زكريا شيخ هسكورة مستصباً بما قدم من سوابقه. وقد كان حضر معه حصار البلد الجديد واستدعاه، فجاء بقومه وعساكر المصامدة. وأبلى في حصارها، فرعى السلطان سوابقه وولاه الولاية الكبرى على المصامدة على عادة الدولة في ذلك. ثم وفد بعده محمد بن إبراهيم المبرازي من شيوخ المصامدة، وكانت له ذمة صهر مع الوزير محمد بن يوسف بن علال على أخته، فولاه السلطان مكان علي بن زكريا فغضب لها علي واستشاط وبادر إلى الانتقاض والخلاف. ونصب بعض القرابة من بني عبد الحق، فجهز إليه السلطان العساكر مع محمد بن يوسف بن علال وصالح بن حمو الياباني. وأمر صاحب درعة، وهو يومئذ عمر بن عبد المؤمن بن عمر أن ينهد إليه بعساكر درعة من جهة القبلة، فساروا إليه وحاصروه في جبلة. وجاولوه مرات ينهزم في جميعها، حتى غلبوه على جبلة. وسار إلى إبراهيم بن عمران الصناكي المجاور له في جبلة، فاستذم به. وخشي إبراهيم معرة الخلاف والغلب، ورغبه الوزير محمد بن يوسف بمال بذله له، فأمكنه منه. وقبض عليه الوزير وجاء به إلى فاس، فأدخله في يوم مشهود وشفره واعتقل. فلم يزل في الاعتقال إلى أن هلك السلطان أبو العباس. وارتاب به أهل الدولة بعده، فقتلوه كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفادة أبي تاشفين علي السلطان أبي العباس صريخا علي أبيه ومسيره بالعساكر ومقتل أبيه السلطان أبي حمو:
كان أبو تاشفين ابن السلطان أبي حمو قد وثب على أبيه آخر ثمان وثمانين وسبعمائة
بممالئته لغيره من إخوته، واعتقله بوهران. وخرج في العساكر لطلب إخوته المنتصر وأبي زيان وعمير، وامتنعوا عند حصين بجبل تيطرى فحاصرهم أياماً. ثم تذكر غائلة أبيه، فبعث ابنه أبا زيان. في جماعة من بطانته: منهم موسى ابن الوزير عمران بن موسى وعبد الله ابن جابر الخراساني، فقتلوا بعض ولده بتلمسان ومضوا إليه وهو بمحبسه في وهران. فلما شعر بهم أسرف من الحصن ونادى في أهل المدينة متذمماً بهم، فهرعوا إليه. وتدلى إليهم في عمامته وقد احتزم بها، فأنزلوه وأحدقوا به وأجلسوه على سريره. وتولى كبر ذلك خطيب البلد ابن خزورت ولحق أبو زيان بن أبي تاشفين ناجياً إلى تلمسان. واتبعه السلطان أبو حمو، ففر منها إلى أبيه. ودخل أبو حمو تلمسان وهي طلل وأسوارها خراب، فأقام فيها رسم دولته. وبلغ الخبر إلى أبي تاشفين، فأجفل من تيطرى. وأغذ السير، فدخلها. واعتصم أبوه بمئذنة المسجد، فاستنزله منها وتجافى عن قتله. ورغب إليه أبو حمو في رحلة المشرق لقضاء فرضه، فأسعفه وأركبه السفين مع بعض تجار النصارى إلى الإسكندرية موكلاً به. فلما حاذى مرسى بجاية لاطف النصارى في تخلية سبيله، فاسعف وملك أمره. وبعث إلى صاحب الأمر ببجاية يستأذنه في النزول، فأذن له. وسار منها إلى الجزائر واستخدم العرب، واستصعب عليه أمر تلمسان، فخرج إلى الصحراء. وجاء إلى تلمسان من جهة المغرب وهزم عساكر ابنه أبي تاشفين وملكها. وخرج أبو تاشفين هارباً منها، فلحق بأحياء سويد في مشاتيهم. ودخل أبو حمو تلمسان قي رجب سنة تسعين وسبعمائة. وقد تقدم شرح هذه الأخبار كلها مستوعبة. ثم وفد أبو تاشفين مع محمد بن عريف شيخ سويد على السلطان أبي العباس صريخاً على أبيه ومؤملاً الكرة بإمداده، فتقبله السلطان وأجمل له المواعيد. وأقام أبو تاشفين في انتظارها، والوزير محمد بن يوسف بن علال يعده ويمنيه ويحلف له على الوفاء. وبعث السلطان أبو حمو إلى السلطان ابن الأحمر، لما علم من استطالته على دولة بني مرين كما مر، يتوسل إليه في أن يصدهم عن صريخ أبي تاشفين وإمداده عليه، فجلا ابن الأحمر في ذلك وجعلها من أهم حاجاته. وخاطب السلطان أبا العباس في أن يجهز إليه أبا تاشفين، فتعلل عليه في ذلك بأنه استجار بابنه أبي فارس، واستذم به. ولم يزل الوزير ابن علال يفتل لسلطانه ولابن الأحمر في
الذروة والغارب، حتى تم أمره وأنجز له السلطان بالنصر موعده. وبعث ابنه الأمير أبا فارس والوزير ابن علال في العساكر صريخين له، وانتهوا إلى تازى. وبلغ الخبر إلى أبي حمو، فخرج من تلمسان في عساكره واستألف أولياءه من عبد الله. ونزل بالغيران من وراء جبل بني ورنيد المطل على. تلمسان، وأقام هنالك متحصناً بالجبل وجاءت العيون إلى عساكر بني مرين بتازى من مكانه هو وأعرابه من الغيران، فأجمعوا غزوه. وسار الوزير ابن علال وأبو تاشفين وسلكوا القفر، ودليليهم سليمان بن ناجي من الاحلاف. ثم صبحوا أبا حمو ومن معه من أحياء الخراج بمكانهم من الغيران، فجاولوهم ساعة، ثم ولوا منهزمين وكبا بالسلطان أبي حمو فرسه، فسقط وأدركه بعض أصحاب أبي تاشفين فقتلوه قعصاً بالرماح وجاؤا برأسه إلى ابنه أبي تاشفين والوزير ابن علال، فبعثوا به إلى السلطان وجيء بابنه عمير أسيراً، فهم أخوه أبو تاشفين بمتله، فمنعه بنو مرين أياماً. ثم أمكنوه منه فقتله، ودخل إلى تلمسان اخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وخيم الوزير وعساكر بني مرين بظاهر البلد، حتى دفع إليهم ما شارطهم عليه من المال. ثم قفلوا إلى المغرب، وأقام أبو تاشفين بتلمسان يقيم دعوة السلطان أبي العباس صاحب المغرب ويخطب له على منابر تلمسان وأعمالها، ويبعث إليه بالضريبة كل سنة، كما اشترط على نفسه. وكان أبو حمو ملك تلمسان، ولى ابنه أبا زيان على الجزائر. فلما بلغه مقتل أبيه امتعض ولحق بأحباء حصين ناجياً وصريخاً. وجاءه وفد بني عامر من زغبة يدعونه للملك، فسار إليهم. وقام بدعوته شيخهم المسعود بن صغير، ونهضوا جميعاً إلى تلمسان في رجب سنة إثنتين وتسعين وسبعمائة، فحاصروها أياماً. ثم سرب أبو تاشفين المال في العرب، فافترقوا عن أبي زيان. وخرج إليه أبو تاشفين، ابنه صريخاً إلى المغرب، فجاءه بمدد من العسكر. ولما انتهى إلى تاوريرت، أفرج أبو زيان عن تلمسان وأجفل إلى الصحراء. ثم أجمع رأيه على الوفادة إلى صاحب المغرب، فوقد عليه صريخاً، فتلقاه بالتكرمة وبر مقدمه ووعده النصر من عدوه. وأقام عنده إلى حين مهلك أبي تاشفين. والله أعلم.
وفاة أبي تاشفين واستيلاء صاحب المغرب علي تلمسان: لم يزل هذا الأمير أبو تاشفين مملكاً على تلمسان ومقيماً فيها لدعوة صاحب المغرب أبي العباس ابن السلطان أبي سالم ومؤدياً الضريبة التي فرضها عليه، منذ ملك. وأخوه الأمير أبو زيان مقيم عند صاحب المغرب ينتظر وعده في النصر عليه، حتى تغير السلطان أبو العباس على أبي تاشفين في بعض النزعات الملوكية، فأجاب داعي أبي زيان وجهزه بالعساكر لملك تلمسان. فسار لذلك منتصف سنة خمس وتسعين وسبعمائة وانتهى إلى تازى، وكان أبو تاشفين قد طرقه مرض أزمنه، ثم هلك منه في رمضان من السنة. وكان القائم في دولته أحمد بن العز من صنائعهم وكان يمت إليه بخؤولة، فولى بعده مكانه صبياً من ابنائه، وقام بكفالته. وكان يوسف بن أبي حمو وهو ابن الزابية والياً على الجزائر من قبل أبي تاشفين، فلما بلغه الخبر أغذ السير مع العرب ودخل تلمسان، وقتل أحمد بن العز والصبي المكفول ابن أخيه أبى تاشفين. فلما بلغ الخبر إلى السلطان أبي العباس صاحب المغرب صاحب المغرب خرج إلى تازى وبعث من هنالك ابنه أبا فارس في العساكر، ورد أبا زيان ابن أبي حمو إلى فاس ووكل به. وسار أبو فارس إلى تلمسان، فملكها وأقام فيها دعوة إبيه. وتقدم وزير أبيه صالح بن أبي حمو إلى مليانة، فملكها وما بعدها من الجزائر وتدلس إلى حدود بجاية. واعتصم يوسف بن الزابية بحصون تاجحمومت. وأقام الوزير صالح يحاصره. وانقرضت دولة بني عبد الواد من المغرب الأوسط. والله غالب على أمره. وفاة السلطان أبي العباس صاحب المغرب واستيلاء أبي زيان ابن أبي حمو علي تلمسان والمغرب الأوسط: كان السلطان أبو العباس بن أبي سالم، لما وصل إلى تازى وبعث ابنه أبا فارس إلى تلمسان فملكها، أقام هو بتازى يشارف أحوال ابنه ووزيره صالح الذي تقدم لفتح البلاد الشرقية. وكان يوسف بن علي بن غانم أمير أولاد حسين من المعقل، قد حج
سنة ثلاث وتسعين وسبعملئة واتصل بملك مصر من الترك الملك الظاهر برقوق. وتقدمت إلى السلطان فيه وأخبرته بمحله من قومه، فأكرم تلقيه وحمله بعد قضاء حجه هدية إلى صاحب المغرب، يطرفه فيها بتحف من بضائع بلده على عادة الملوك. فلما قدم يوسف بها على السلطان أبي العباس، أعظم موقعه. وجلس في مجلس حفل لعرضها والمباهاة بها. وشرع في المكافأة عليها بتجهيز الجياد والبضائع والثياب، حتى استكمل من ذلك ما رضيه. واعتزم على إنفاذها مع يوسف بن علي حاملها الأول. وإنه يرسله من تازى لأيام مقامته تلك، فطرقه هنالك مرض كان فيه حتفه في شهر محرم سنة ست وتسعين وسبعمائة. واستدعوا ابنه أبا فارس من تلمسان، فبايعوه بتازى وولوه مكانه، ورجعوا به إلى فاس. وأطلقوا أبا زيان بن أبي حمو من الاعتقال. وبعثوا به إلى تلمسان أميراً عليها وقائما بدعوة السلطان أبي فارس فيها، فسار إليها وملكها. وكان أخوه يوسف بن الزابية قد اتصل بأحياء بني عامر يروم ملك تلمسان والاجلاب عليها، فبعث إليهم أبو زيان عندما بلغه ذلك. وبذل لهم عطاء جزيلاً على أن يبعثوا به إليه، فأجابوه إلى ذلك وأسلموه إلى ثقاة أبي زيان. وساروا به، فاعترضهم بعض أحياء العرب ليستنقذوه منهم، فبادروا بقتله وحملوا رأسه إلى أخيه أبي زيان، فسكنت أحواله وذهبت الفتنة بذهابه، واستقامت أمور دولته. وهم ذلك لهذا العهد. والله غالب على أمره.
وقد انتهى بنا القول في دولة بني عبد الواد من زناتة الثانية، وبقي علينا خبر الرهط اللذين تحيزوا منهم إلى بني مرين من أول الدولة. وهم بنو كمي من فصائل علي بن القاسم إخوة طاع الله بن علي وخبر بني كندوز أمرائهم بمراكش. فلنرجع إلى ذكر أخبارهم، وبها نسوق الكلام في أخبار بني عبد الواد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
خريطة
الغزاة المجاهدون بالأندلس
الخبر عن القرابة المرشحين من آل عبد الحق الامراء علي الغزاة المجاهدين بالاندلس، الذين قاسموا ابن الاحمر في ملكه وانفردوا برياسة جهاده:
كانت الجزيرة الأندلسية من وراء البحر منذ انقضاء أمر بني عبد المؤمن وقيام ابن الأحمر بأمرها، قليلة الحامية، ضعيفة الأحوال، إلا من يلهمه الله إلى عمل الجهاد من قبائل زناتة المؤملين كرة الملك والمقتسمين ممالك الغرب، خصوصاً بني مرين أهل المغرب الأقصى، لاتصال عدوة الأندلس ببسائطه وتعدد الفراض ببحر الزقاق القريب العدوتين. وما زال هذا الزقاق على قديم الزمان لأجل ذلك فرضة دون سواحل المغرب. (ولما استولى) بنو مرين على ممالكه وضاقت أحوال المسلمين بالأندلس. وبمخنقهم الطاغية حتى ألجأهم إلى سيف البحر واستأثر بالفرنتيرة وما وراءها. واستأثر بنو القمط أهل برشلونة وقطلونية بشرق الأندلس. وانتشر في الأقطار ما كان من أمر قرطبة واختيها إشبيلية وبلنسية. وامتعض لذلك المسلمون وتنافسوا في الجهاد وإمداد الأندلس بأموالهم وأنفسهم وسابق الناس إلى ذلك الأمير أبو زكريا بن أبي حفص بما كان صاحب الوقت والمؤمل للكرة، فاستنقذ الكثير من أمواله ومقرباته في أمدادهم، بعد أن كانوا آثروا القيام بدعوته، وأوفدوا عليه المشيخة ببيعته. وكان ليعقوب بن عبد الحق أمل في الجهاد وحرص عليه. واعتزم في سلطان أخيه أبي يحيى على الإجارة، فمنعه ضنانة به على الاغتراب منه. وأوعز إلى صاحب سبتة يومئذ أبي علي بن خلاص بمنعه منها، فوعر له السبيل وشبه عليه المذاهب.
ولم ينشب يعقوب بن عبد الحق، أن قام بسلطان المغرب، بعد أخيه أبي يحيى وشغل بشأنه. وأهمه شأن بني أخيه إدريس بن عبد الحق، بما كان فيهم من الترشيح والمنافسة لبنيه. واستأذنه عامر بن ادريس منهم في الجهاد بالعداوة، فاغتنمها منه وعقد له من مطوعة زناتة على ثلاثة آلاف أو يزيدون. وأجاز معه رخو ابن عمه عبد الله بن عبد الحق. وفصلوا إلى الأندلس سنة إحدى وستين وسبعمائة، فحسنت
آثارهم في الجهاد وكرمت مقاماتهم. تم رجع عامر بن إدريس إلى المغرب وكثر انتقاض القرابة. ونافسهم أقيال زناتة في مثلها، فاجتمع أبناء الملوك بالمغرب الأوسط مثل عبد الملك بن يغمراسن ابن زيان وعايد بن منديل بن عبد الرحمن وزيان بن محمد بن عبد القوي فتعاقدوا على الإجازة إلى الجهاد، فأجازوا فيمن خف معهم من قومهم سنة ست وسبعين وستمائة، فامتلأت الأندلس بأقيال زناته وأعياص الملك منهم. وكان فيمن أجاز من أعياصهم بنو عيسى بن يحيى بن وسناف بن عبو بن أبي بكر بن حمامة. ومنهم سليمان بن إبراهيم، وكانت لهم آثار في الجهاد ومقامات محمودة، وكان موسى بن رحو، لما نازله السلطان وبني أبيه عبد الله بن عبد الحق بحصن علودان ونزلوا على عهده، لحق بتلمسان. وكان بنو عبد الله بن عبد الحق وإدريس بن عبد الحق عصبة من بين سائرهم، لأن عبد الله وإدريس كانا شقيقين لسوط النساء بنت عبد الحق، فاقتفى أثر يعقوب بن عبد الله بن محمد ابن عمه إدريس وخرج على السلطان بقصر كتامة سنة ثلاث وستين وستمائة. ثم استرضاه عمه واستنزله. وبقي يعقوب بن عبد الله في انتقاضه ينتقل في الجهات، إلى أن قتله طلحة بن محلى من أولياء السلطان سنة ثمان وستين وستمائة بجهة سلا، فكفى السلطان شأنه. ولما كان من عهد السلطان لابنه أبي مالك ما قدمناه، نفس عليه هؤلاء القرابة هذا الشان، فانتقضوا ولحق محمد بن إدريس بحصن علودان. ولحق موسى بن رحو بن عبد الله بجبال غمارة ومعه أولاد عمه أبي عياد بن عبد الحق. ونازلهم السلطان، حتى نزلوا على عهده. وأجازهم إلى الأندلس سنة سبعين وستمائة، فأقاموا بها للجهاد سوقاً. ونافستهم أقيال زنانة في مثلها بتلمسان. وأجاز منها إلى الأندلس سنة سبعين وستمائة، فولاه السلطان ابن الأحمر على جميع الغزاة المجاهدين هنالك بما كان كبش كتيبتهم وفحل شولهم. ولم يلبث أن عاد إلى المغرب، فولى السلطان مكانه أخاه عبد الحق. ثم رجع عنهم مغاضبا إلى تلمسان، فولى مكانه على الغزاة المجاهدين إبراهيم بن عيسى بن يحيى بن وسناف، إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن موسي بن رحو فاتح هذه الرياسة بالأندلس وخبر أخيه عبد الحق من بعده وابنه حمو بن عبد الحق بعدهما: لما هلك السلطان الشيخ ابن الأحمر وولي ابنه السلطان الفقيه، ووفد على السلطان يعقوب بن عبد الحق صريخاً للمسلمين، فأجاز إليه أول إجازته سنة ثلاث وسبعين وستمائة وأوقع بجيوش النصرانية. وقتل الزعيم دننه واستوى له الغلب على الأندلس، وبدا لابن الأحمر في أمره وخشي مغبته. وتوقع أن يكون شأنه معه شأن يوسف بن تاشفين والمرابطين مع ابن عباد. وكان بالأندلس من قرابته بنو أشقيلولة قد قاسموه في ممالكها وانفردوا بوادي آش ومالقة وقمارش، حسبما ذكرناه في أخباره مع السلطان. وانتقض عليه أيضاً من رؤساء الأندلس أبو عبدويل وابن الدليل، فكانوا يجلبون على بلاد المسلمين. وكانوا قد أستنجدوا جيوش النصرانية ونازلوا غرناطة وعاثوا في الجهات. فلما استوت قدم السلطان يعقوب بن عبد الحق بالأندلس وصل هؤلاء الثوار به أيديهم، فخشيهم ابن الأحمر جميعاً على نفسه. وقلب للسلطان أبي يوسف ظهر المجن واستظهر عليه بالأعياص من قرابته. وكان هؤلاء القرابة من أولاد رحو بن عبد الله وإدريس بن عبد الله وإدريس بن عبد الحق- وينسبون جميعاً إلى سوط النساء كما ذكرناه، من أولاد أبي عياد بن عبد الحق- لما أوجسوا الخيفة من السلطان واستشعروا النكير منه، لحقوا بالأندلس ثورية بالجهاد وانتباذا عن الشول فراراً عن محله. ولد كان السلطان أبو يوسف متى أحس بريبة منهم في ذلك، إذا انتقضوا عليه، يشخصهم إلى الأندلس، فاجتمعت منهم عند ابن الأحمر عصابة من أولاد عبد الحق كما قلناه وأولاد وسناف وأولاد نزول وتاشفين بن معطي كبير تيربيغن من بني محمد. وتبعهم أولاد محلي أخوال السلطان أبي يوسف وكان ابن الأحمر كثيراً ما يعقد لهم على الغزاة المجاهدين من زناتة لدار الحرب، فعقد أولا لموسى بن رحو سنة ثلاث وسبعين وستمائة ولأخيه عبد الحق بعد انصرافه إلى المغرب، ثم لابراهيم بن عيسى بعد انصرافهما معا كما قلناه. ثم رجعاً فعقد لموسى بن رحو ثانية على أشياخه،
وثبت له قدماً في الرياسة، ليحسن به دفاع السلطان أبي يوسف عنهم. ثم تداولت الإمارة فيهم ما بينهم وبين عمومتهم. وربما عقد قبل ذلك أزمان الفترة لعلي بن أبي عياد بن عبد الحق في بعض الغزوات، ولتاشفين بن معطي في أخرى سنة تسع وسبعين وستمائة ومعه طلحة بن محلي، فاعترضوا الطاغية دون حصن المسلمين وكان لهم الظهور. ثم حدثت الفتنة بينه وبين السلطان أبي تاشفين. وعقد ابن الأحمر في إحدى حروبه معه لعلي بن أبي عياد على زناتة جميعاً وحاشهم إلى رايته، فانفضت جموع السلطان أبي يوسف وظهروا عليه. وتقبضوا في المعركة على ابنه منديل واستاقوه أسيراً، إلى أن أطلقه السلطان ابن الأحمر، في سلم عقده بعد مهلكه، مع ابنه يوسف بن يعقوب. واستبد موسى بن رحو من بعدهما بإمارة الغزاة بالأندلس، إلى أن هلك، فوليها كلت بعده أخوه عبد الحق إلى أن هلك سنة تسع وتسعين وستمائة، وكان مظفر الراية على عدو المسلمين. ولما هلك ولي من بعده ابنه حمو بن عبد الحق، فكانت هذه الإمارة متصلة في بني رحو، إلى أن انتقلت منهم إلى إخونهم من بني أبي العلاء وغيرهم. واندرج حمو في جملة عثمان بن أبي العلاء من بعده حسبما نذكر. وأما إبراهيم بن عيسى الوسنافي، فرجع إلى المغرب ونزل على يوسف بن يعقوب وقتله، بمكانه من حصار تلمسان بعد حين من الدهر، وبعد أن كبر وعمي. والله مالك الأمور لا رب غيره. وكان مهلك يعلى بن أبي عياد، سنة سبع وثمانين ومعطي بن بوتاشفين، سنة تسع وثمانين وستمائة. وطلحة بن محلي سنة ست وثمانين وستمائة. والله أعلم.
الخبر عن عبد الحق بن عثمان شيخ الغزاة بالأندلس: كان عبد الحق هذا من أعياص الملك المريني ويعاسيبهم، وهو من ولد محمد بن عبد الحق ثاني الأمراء على بني مرين بعد أبيهم عبد الحق. وهلك أبوه عثمان بن محمد بالأندلس، إحدى أيام الجهاد سنة تسع وسبعين وستمائة. وربي ابنه عبد الحق هذا في حجر السلطان يوسف بن يعقوب، إلى أن كان من أمر خروجه مع الوزير رحو بن يعقوب على السلطان أبي الربيع ما ذكرناه في أخباره. ولحق بتلمسان وأجاز منها إلى الأندلس،
وسلطانه يومئذ أبو الجيوش ابن السلطان الفقيه. وشيخ زناتة بها حمو بن عبد الحق بن رحو. وخاطبهم السلطان أبو العباس ملك المغرب في اعتقاله، فأجابوه وفر من محبسه ولحق بدار الحرب. ولما انتقض أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد وبايع لنفسه بمالقة وزحف إلى غرناطة، فنازلها ووقعت الحرب بظاهرها بين الفريقين. وأخذ في بعض أيامها حمو محن عبد الحق أسيراً وسيق إلى السلطان أبي الوليد. وكان معه عمه العباس بن رحو، فأبى من أسار ابن أخيه وخلى عنه، فرجع إلى سلطانه، فارتاب به لذلك. وعقد على الغزاة مكانه لعبد الحق بن عثمان، استدعاه من مكانه بدار الحرب. ثم غلبهم أبو الوليد على غرناطة. وتحول أبو الجيوش إلى وادي آش، على سلم انعقد بينهم، وسار معه عبد الحق بن عثمان على شأنه. ثم وقعت بينه وبين أبي الجيوش مغاضبة لحق لأجلها بالطاغية وأجاز إلى سبتة، فاستظهر به يحى بن أبي طالب العزفي أيام حصار السلطان أبي سعيد اياه، فكان له في حماية ثغره والدفاع ونه آثار مذكورة. ثم عقد السلطان أبو سعيد السلم ليحيى العزفي وأفرج عنه، فارتحل عبد الحق بن عثمان إلى أفريقية. ونزل ببجاية سنة تسع عشرة وسبعمائة على أبيب عبد الرحمن بن عمر صاحب السلطان أبي يحيى المستبد بالثغور الغربية، فأكرم نزله، وأوسع قراه. وضرب له الفساطيط بالرشة من ساحة البلد استبلاغاً في تكريمه وحمله وأصحابه على مائة وخمسين من الخيل ثم أقدمهم على السلطان بتونس فبر مقدمهم، وخلط عبد الحق بنفسه وآثره بالخلة والصحابة، وأخله بمكان الاستظهار به بعصابته. ولما عقد السلطان لمحمد بن سيد الناس على حجابته سنة سبع وعشرين وستمائة واستقدمه لذلك من ثغر بجاية كما ذكرناه، فعظمت رياسته واستغلظ حجابه. وحجب عبد الحق ذات يوم عن بابه، فسخطها وانصرف مغاضباً. وداخل أبا فارس في الخروج على أخيه، فأي به وخرج معه صت تونس، فكان من خبرهم ومقتل أبي فارس وخلوص عبد الحق إلى تلمسان ونزوله على أبي تاشفين وغزوه إلى أفريقية مع عساكر بني عبد الواد، سنه تسع وعشرين وسبعمائة، ما ذكرناه في أخبار الدولة الحفصية. ثم لما رجع بنو عبد الخالق إلى تلمسان صمد مولانا السلطان أبو يحيى إلى تونس في
أخريات سنته. وفر ابن أبي عمران، السلطان المنصوب بتونس من بني أبي حفص إلى أحياء العرب. وتقبض على أبي زيان ابن أخي عبد الحق بن عثمان في لمة من أصحابه، فقتلوا قعصاً بالرماح. ورجع عبد الحق بن عثمان إلى مكانه من تلمسان، فأقام بمثواه عند أبي تاشفين متبوئاً من الكرامة والاعتزاز ما شاء، إلى أن هلك بمهلك أبي تاشفين يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان عليهم سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وقتلوا جميعاً عند قصر الملك أبو تاشفين وابناه عثمان ومسعود وحاجبه موسى بن علي ونزيله عبد الحق هذا وأبو ثابت ابن أخيه، فقطعت رؤوسهم وتركت أشلاؤهم بساحة القصر عبرة للمعتبرين، حسبما ذكرناه في أخبار أبي تاشفين. والبقاء لله وحده. الخبر عن عثمان بن أبي العلاء، من أمراء الغزاة المجاهدين بالأندلس: كان أولاد سوط النساء من ولد عبد الحق، أهل عصابة واعتزاز على قومهم، وهم أولاد إدريس وعبد الله ابنيها لشقيقين كما ذكرناه. وكان مهلك إدريس الأكبر يوم مهلك أبيه بتافرطنيت ومهلك عبد الله قبله. وخلف عبد الله ثلاثة من الولد، تشعب فيهم نسله: وهم يعقوب ورخو وإدريس. واستعمل أبو يحيى بن عبد الحق يعقوباً منهم على سلا عند افتتاحه إياها سنة تسع وأربعين وسبعمائة. ثم انتزى بها بعد ذلك على عمه يعقوب سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وكان من شأن ثورة النصارى بها ما ذكرناه، واستخلصها يعقوب بن عبد الحق. ولحق يعقوب بن عبد الله بعلودان من بلاد غمارة وامتنع بها. خرج على أثره بنو عمه إدريس: وهما عامر ومحمد وانتزوا بالقصر الكبير، ولحق بهم كافة أولاد سوط النساء. وطلبهم السلطان، فلحقوا بجبال غمارة ونازلهم، ثم استنزلهم بعد ذلك على الأمان. وعقد لعامر على الغزو إلى الأندلس سنة ستين وستمائة كما ذكرناه، وأجاز معه رحو ابن عمه عبد الله. ورجع محمد بن عامر وفر إلى تلمسان سنة ثمانين وستمائة وأجاز منها إلى الأندلس.
ثم خرجوا على السلطان يعقوب بن عبد الحق سنة تسع وستين وستمائة، ومعهم أولاد أبي
عياد بن عبد الحق واعتصموا بعلودان. واستنزلهم السلطان على اللحاق بتلمسان، فلحقوا بها. وأجاز أولاد سوط النساء وأولاد أبي عياد كافة إلى الأندلس واستقروا بها يومئذ. ورجع عامر منهم ومحمد، وكان من خبرهم ما نذكر. وهلك يعقوب بن عبد الله سنة ثمان وستين وستمائة في اغترابه وانتزائه بقفوله من رباط الفتح، قتله طلحة بن محلى. واستقر بنوه من أولاد سوط النساء بالمغرب. وكان ابنه أبو ثابت أميراً على بلاد السوس، أيام السلطان يوسف بن يعقوب وأوقع بزكنة سنة تسع وتسعين وستمائة، ولم يزل وبنوه بالمغرب من يومئذ. وكان من إخوانه أبو العلاء ورحو إبنا عبد الله بن عبد الحق، تشعب نسله فيهما: وأجاز رحو ألى الأندلس مع عامر ومحمد ابني عمه إدريس. ثم أجاز ابنه موسى سنة تسع وستين وستمائة، مع أولاد أبي عياد وأولاد سوط النساء. ثم رجع إلى محله من الدولة، وفر بابنه سنة خمس وسبعين وستمائة إلى تلمسان، فأجاز منها إلى الأندلس واستقر بها. وأجاز أولاد أبي العلاء سنة خمس وثمانين وستمائة مع أولاد أبي يحيى بن عبد الحق وأولاد عثمان بن نزول واسقروا بالأندلس، وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم عبد الله بن أبي العلاء. وعقد له ابن الأحمر على الغزاة من زناتة، فيمن كان يعقد لهم من زناتة قبل استقرار المنصب، إلى أن هلك شهيداً في إحدى غزواته سنة ثلاث وتسعين وستمائة. وعقد المخلوع ابن الأحمر لأخيه عثمان بن أبي العلاء، على حامية مالقة وغربيها من الغزاة، لنظر ابن عمه الرئيس أبي سعيد فرج بن إسمعيل بن يوسف بن نصر. ولما غدر الرئيس أبو سعيد بسبتة سنة خمس وسبعمائة، وتمت له الحيلة في تملكها واضطرمت نار العداوة بينهم وبين صاحب المغرب، فنصبوا عثمان هذا للأمر وأجازوه إلى غمامرة، فثار بها ودعا لنفسه وتغلب على أصيلا والعرائش، ثم على القصر. وكان من ذلك ما ذكرناه، إلى أن غلبه أبو الربيع سنة ثمان وستمائة ورجع إلى مكانه من الأندلس. ولما اعتزم أبو الوليد ابن الرئيس أبي سعيد على الخروج على أبي الجيوش صاحب غرناطه، وداخل في ذلك شيخ الغزاة بمالقة عثمان بن أبي العلاء، فساعده عليه واعتقل أباه الرئيس أبا سعيد وزحف
إلى غرناطة سنة أربع عشرة وسبعمائة. فلما استولى عليها، عقد لعثمان هذا على إمارة الغزاة المجاهدين من زناتة وصرف عنها عثمان بن عبد الحق بن عثمأد، للحق بوادي آش مع أبي الجيوش. وصار حمد بن عبد الحق بن رحو في جملته، بعد أن كان شيخاً على الغزاة كما قلناه. واستمرت أيام ولاية عثمان هذا وبعد فيها صيته، وغص صاحب المغرب أبو سعيد بمكانه. ولما استصرخه المسلمون للجهاد سنة ثمان عشرة وسبعمائة، اعتذر بمكان عثمان هذا واشترط عليهم القبض عليه، حتى يرجع عنهم فلم يمكن ذلك. ونازل الطاغية غرناطة وحاصرها، وكان لعثمان وبنيه في ذلك آثار مذكورة.
وأتاح الله للمسلمين في النصرانية، على يد عثمان هذا وبنيه، ما لم تخطر على قلب أحد منهم، فتأكد اغتباط الدولة والمسلمين بمكانهم إلى أن هلك أبو الوليد سنة خمس وعشرين وسبعمائة، باغتيال بعض الرؤساء من قرابته، بمداخلة عثمان هذا زعموا في غدره، ونصب للأمر ابنه محمد صبياً لم يبلغ الحلم. وقام بأمره وزيره محمد بن المحروق من صنائع دولتهم، فاستبد عليه وألقى زمام الدولة بيد عثمان في النقض والإبرام، فاعتز عليهم وقاسمهم في الأمر، واستأثر في أعطيات الغزاة بكثير من أموال الجباية، حتى خشي الوزير على الدولة. وأدار الرأي في كبحه عن التغلب، فجمح وفسد ما بينه وبين الوزير ابن المحروق، فانتقض عليه وخرج مغاضباً، فاضربت فساطيطه بمرج غرناطة. واعصوصب جماعة الغزاة من قبائل زناتة عليه. واعتصم الوزير وأهل الدولة بالحمراء وسعى النائب بينهما أياماً. وأدار الوزير الرأي في أن ينصب له كفؤاً من قرابته، يجاذبه الحبل ويشغله بشأنه عن الدولة، فجأجأ بيحيى بن رحو بن عبد الحق وكان في جملة عثمان وصهراً له، فدخل إليه وعقد له على الغزاة، وتسايلوا إليه. وتفرد عثمان بمعسكره في عشيره وولده وعقد معه السلم، على أن يجيز إلى المغرب. ووافدد بطانته لذلك على السلطان أبي سعيد سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وارتحل من ساحة غرناطة في ألف فارس، زعموا من ذويه وأقاربه وحشمه. وقصد المرية ليجعلها فرضة لمجازه، حته إذا حاذى اندوش.
وكان بينه وبين رؤسائها مداخلة، فخرجوا إليه مؤدين حق مبرته، فغدر بهم وأركب إليها، فملكها وأنزل بها حرمه وأثقاله. ودعا محمد ابن الرئيس أبي سعيد من شلوبانية وكان منزلاً بها، فجاء إليه ونصبه للأمر. وشن الغارات على غرناطة صباحاً ومساءً واضطرمت نار الفتنة. واستركب يحيى بن رحو من قدر عليه من زناته. وطالت الحرب سنين، حتى إذا فتك السلطان محمد بن الأحمر بوزيره ابن المحروق، واستدعى عثمان بن أبي العلاء، وعقد له السلم، على أن يجيز عمه محمد إلى المغرب ويلحق بغرناطة لشأنه من رياسة الغزاة، فتم ذلك سنة تسع وعشرين وسبعمائة ورجع إلى مكانه من الدولة وهلك إثر ذلك. والبقاء لله وحده.
الخبر عن رياسة إبنه أبي ثابت من بعده ومصير أمرهم: لما هلك شيخ الغزاة ويعسوب زناتة عثمان بن أبي العلاء، قام بأمره في قومه ابنه أبو ثابت عامر. وعقد له السلطان أبو عبد الله بن أبي الوليد على الغزاة المجاهدين كما كان أبوه، فعظم شأنه قوة شكيمة وكثرة عصابة ونفوذ رأي وبسالة. وكان لقومه اعتزاز على الدولة، بما عجموا من عودها وكانوا أولي بأس وقوة فيها واستبداد عليها. وكان السلطان محمد بن أبي الوليد مستنكفاً من الاستبداد عليه في القلة والكثرة فكان كثيراً ما يحقدهم بتسفيه آرائهم والتضييق عليهم في جاههم. ولما وفد على السلطان أبي الحسن سنة إثنتين وثلاثين وسبعمائة، صريخاً على الطاغية، واستغذ ابنه الأمير أبا مالك لمنازلته جبل الفتح، اتهموه بمداخلة السلطان أبي الحسن في شأنهم، فتنكروا وأجمعوا الفتك به، وداخلوا في ذلك بعض صنائعه ممن كان متربصاً بالدولة فساعدهم. ولما افتتح الجبل وكان من شأنه ما قدمنا ذكره، وزحف الطاغية فأناخ عليه، وقصد ابن الأحمر الطاغية في بينه راغباً أن يرجع عن الحصن، فرجع
وافترقت عساكر المسلمين، ارتحل السلطان ابن الأحمر إلى غرناطة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ولد قعدوا له بمرصد من طريقه. ونمي إليه الخبر ردعا بأسطوله لركوب البحر إلى مالقة. واستبق إليهم الخبر بذلك، فتبادروا إليه ولقوه بطريقه من ساحل اصطبونة، فلاحوه وعاتبوه في شأن صنيعته عاصم من معلوجاته. وحاجهم عنه، فاعتوروا عاصماً بالرماح، فنكر ذلك عليهم، فألحقوه به وخر صريعاً عن مركوبه وبعثوا إلى أخيه يوسف، فأعطوه بيعتهم وصفقة أيمانهم ورجعوا به إلى غرناطة وهو حذر منهم لفعلتهم التي فعلوا، واستمرت الحال على ذلك. ولما استكمل السلطان أبو الحسن فتح تلمسان وصرف عزائمه إلى الجهاد، داخل ابن الأحمر في إزاحتهم عن الأندلس مكان جهاده، فصادف منه إسعافاً وقبولاً وحرصاً على ذلك. وتقبض على أبي ثابت وإخوته إدريس ومنصور وسلطان. وفر أخوه سليمان، فلحق بالطاغية وكان له في يوم طريف أثر في الإيقاع بالمسلمين. ولما تقبض ابن الأحمر على أبي ثابت وإخوته،. أودعهم جميعا المطبق أياماً. ثم غربهم إلى أفريقية، فنزلوا بتونس على مولانا السلطان أبي يحيى. وأوعز إليه السلطان أبو الحسن بالتوثق منهم أن يتصلوا بنواحي المغرب ويخالفوه إليها أيام شغله بالجهاد في الأندلس، فاعتقلهم وأوفد بهم أبا محمد عبد الله بن تافر كين إلى سدة السلطان أبي الحسن. وكتب إليه شفيعا فيهم، فتقبل شفاعته. وأحسن نزلهم وكرامتهم، حش إذا احتل بسبتة، أيام حصار الجزيرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، سعى بهم عنده فتقبض عليهم واعتقلهم بمكناسة. ولما انتزى ابنه الأمير أبو عنان على الأمر وهزم منصور ابن أخيه أبي مالك صاحب فاس ونازله بالبلد الجديد، بعث فيهم إلى مكناسة، فأطلقهم من الاعتقال وأفاض فيهم الإحسان والعطاء، واستظهر بهم على شأنه. وأحل أبا ثابت محل الشورى من مجلسه، وداخل إدريس أخاه في المكر بالبلد الجديد، فنزع إليها ومكر بهم وثار عليهم، إلى أن نزلوا على حكم السلطان أبي عنان، فعقد لأبي ثابت على سبتة وبلاد الريف ليشارف منها الأندلس محمل إمارته. وأطلق يده في المالى والجند وفصل لذلك، فهلك بالطاعون يومئذ سنة تسع وأربعين وسبعمائة بمعسكره إزاء معسكر السلطان من حصار البلد الجديد. واستقر إخوانه في إيالة السلطان أبي عنان بالمغرب الأقصى، إلى أن كان من مفر أخيه إدريس وولايته على الغزاة بالأندلس، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الخبر عن يحيي بن رحو وامارته علي الغزاة بالأندلس أولي وثانية ومبدأ ذلك
و تصاريفه: كان رحو بن عبد الله كبير ولد عبد الله بن عبد الحق، وكان له بنون كثيرون تشعب نسله فيهم: منهم موسى وعبد الحق والعباس وعمر ومحمد وعلي ويوسف. وأجازوا
كلهم إلى الأندلس مع أولاد سوط النساء من تلمسان كما قدمناه. وأقام عمر بعدهم بتلمسان مدة واتخذ بها الأهل والولد. ثم لحقهم وولى موسى إمارة الغزاة بعد إبراهيم ابن عيسى الوسنافي وبعده أخوه عبد الحق على الغزاة، أقام بها مدة وأجاز منها إلى سبتة مع الرئيس أبي سعيد وعثمان بن أبي العلاء سنة خمس وسبعمائة وولي بها على الغزاة المجاهدين. ثم رجع إلى الأندلس ولم يلبث بعدها أن أجاز إلى المغرب. ونزل على السلطان أبي سعيد، فأكرم نزله، ثم رجع إلى الأندلس. ولما ولي إمارة الغزإة عثمان بن أبي العلاء، وكان بينهم من المنافسة ما يكون بين فحول الشول، فأشخص بني رحو جميعاً إلى أفريقية، فنزلوا على مولانا السلطان أبي يحيى خير نزل، اصطفاهم واستخلصهم واستظهر بهم في حروبه: وهلك عمر بن رحو ببلاد الجريد، وقبره ببشرى من نفزاوة معروف ونزع ابنه يحيى من بين إخوته عن مولانا السلطان أبي يحمى وصار في جملة ابن أبي عمران، ثم لحق بزواوة وأقام في بني يراتن سنين، ثم أجاز إلى الأندلس واستقر بمكانه من قومه. واصطفاه عثمان بن أبي العلاء وأصهر إليه في ابنته. ولما فسد ما بينه وبين ابن المحروق وزير السلطان بغرناطة سنة سبع وعشرين وسبعمائة واعصوصب عليه الغزاة بمعسكر من مرج غرناطة، فدس يومئذ ابن المحروق إلى يحيى بن عمر هذا ودعاه إلى مكان عثمان ليغيظه بذلك فأجاب، ونزع عن عثمان وقومه إلى ابن المحروق وسلطانه. وعقد له على الغزاة، فتسايلوا إليه من عثمان شيخهم، وانصرف إلى المدية وكان من شأنه ما قصصناه في أخباره. وأقام يحيى بن عمر في رياسته إلى أن هلك ابن المحروق بفتكة سلطانه. واستدعى عثمان بن أبي العلاء للرياسة، فرجع إليها.
وصرف يحيى بن عمر إلى وادي آش، وعقد له على الغزاة بها فأقام حيناً، ثم رجع
إلى مكانه بين قومه. واصطفاه عثمان بن أبي العلاء وابنه أبو ثابت، بما كانت أمه بنت موسى بن رحو، فكان بتعصب لخؤلته فيهم. ثم هلك عثمان وكان ما قدمناه من شأن ولده وفتكهم بالسلطان المخلوع. وتقبض أخوه أبو الحجاج عليهم وأشخصهم إلى أفريقية وقوض مباني رياستهم. وعقد على الغزاة مكانهم ليحمى بن عمر هذا، فاضطلع بها أحسن اضطلاع. واستمرت حاله وحضر مشاهد أبي الحجاج مع السلطان أبي الحسن، فظهرت كفايته وغناؤه. ولما هلك أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة، طعيناً بمصلى العيد، في آخر سجدة من صلاته، بيد عبد من عبيد أصطبله مصاب في عقله، أغري زعموا به، وقتل لحينه صبرا بالسيوف. وبوسع لابنه محمد، أخذ له البيعة على الناس يومئذ مولاه رضوان من معلوجيهم، حاجب أبيه وعمه. وقام بأمره واستبد عليه وحجره، فقاسم يحيى بن عمر ست عمر هذا في شأنه وشاركه في أمره وشد أزر سلطانه به، حتى إذا ثار بالحمراء الرئيس ابن عمهم محمد بن إسمعيل بن محمد بن الرئيس أبي سعيد قائماً بدعوة إسمعيل بن أبي الحجاج أخي السلطان محمد كان ساكناً بالحمراء. وتحينوا لذلك مغيب السلطان في متنزهه بروضة خارج الحمراء، فخالفوه إليها وكبسوها ليلاً، فقتلوا الحاجب المستبد رضوان. وجلس السلطان على سرير ملكه ونادوا بالناس إلى بيعته. ولما أصبح غدا عليهم يحيى بن عمر بعد أن يئسوا منه وخشوا عاديته، فأتاهم بيعته وأعطاهم عليها صفقته وانصرف إلى منزله. وبعد أيام من استيلائهم استخلصوا إدريس بن عثمان بن أبي العلاء، كان وصل إليهم من دار الحرب بأرض برشلونة كم نذكر. وولوه إمارة الغزاة وائتمروا في التقبض على يحيى بن عمر. ونذر بذلك، فركب في حاشيته يؤم دار الحرب من أرض الجلالقة. واتبعه إدريس فيمن إليه من قومه، فقاتلهم صدر نهاره وفض جموعهم. ثم خلص إلى تخوم النصرانية ولحق منها بسدة ملك المغرب على أثر سلطانه محمد المخلوع بن أبي الحجاج، وخلف إبنه أبا سعيد عثمان بدار الحرب. ونزل يومئذ على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة، فأكرم مثواه وأحله من مجلسه محل الشورى والمؤامرة. واستقر في جملته، إلى أن بعث ملك قشتالة في السلطان المخلوع، بإشارة إبنه أبي سعيد وسعايته في ذلك، ليجلب به على أهل الأندلس بما نقضوا من عهده. وجهزه السلطان أبو سالم سنة ثلاث وستين وسبعمائة، فصحبه
يحيى بن عمر هذا. ولقيهم ابنه أبو سعيد عثمان وقاموا بأمر سلطانهم واستولى على الأندلس بمظاهرتهم، وكان لهم في ذلك آثار. ولما استولى على غرناطة سنة ثلاث وستين وسبعمائة، عقد ليحيى بن عمر على إمارة الغزاة كما كان وأعلى يده. واستخلص عثمان لشوراه وخلطه ببطانته. ونافسه الوزير يومئذ محمد بن الخطيب، فسعى فيهم. وأغرى السلطان بهم، فتقبض عليهم سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق. ثم أشخص يحيى سنة ست وستين وسبعمائة إلى المشرق وركب السفين من المرية، فنزل بالإسكندرية. ورجع منها إلى المغرب، ونزل على عمر بن عبد الله أيام استب راده واستقر به في كرامة وخير مقامة. ولم يزل بالمغرب على أعز أحوال، إلى أن هلك سنة إثنتين وثمانين وسبعمائة. ثم أشخص ابنه أبا سعيد عثمان من الاعتقال سنة سبع وستين وسبعمائة إلى أفريقية فنزل ببجاية على مولانا السلطان أبي العباس حافد مولانا السلطان أبي يحيى واستقر في جملته. وحضر معهم فتح تونس وأبلى فيه. وأقطع له السلطان وأسنى له الجراية وخلطه بنفسه واصطفاه لشوراه وأخلته، وهو لهذا العهد من عظماء مجلسه وظهرائه في مقامات حروبه، وإخوته بالأندلس على مراكز عزهم وفي ظلال عصبيتهم مع قومهم، وقد ذهب مواجد السلطان بالأندلس عليهم وصار إلى جميل رأيه فيهم. والله مالك الملك ومقلب القلوب لا رب غيره. الخبر عن ادريس بن عثمان بن أبي العلاء وإمارته بالأندلس ومصائر أمره: لما هلك أبو ثابت بن عثمان بن أبي العلاء سنة خمسين وسبعمائة، استقر إخوته في جملة السلطان أبي عنان ملك المغرب وأقطعهم وأسنى جراياتهم، وكان في إدريس منهم بقية من الترشيح يراه الناس بها. فلما نهض السلطان لفتح قسنطينة سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وتوغل في ديار أفريقية وحام قومه على مواقعها، تحيلوا عليه في الرجوع به عن قصده منها. وأذنت المشيخة لمن معهم من قومهم في الإنطلاق إلى المغرب، حتى خفي المعسكر من أهله وتآمروا، زعموا في اغتيال السلطان والإدالة منه
بإدريس هذا. ونذر بذلك، فكر راجعاً كما ذكرناه في أخباره. ولما أشيع ذلك بلغ إدريس شأنه، فركب ظهر الغدر وفر من المعسكر ليلاً. ولحق بتونس، فنزل على القائم بالدولة يومئذ الحاجب أبي محمد بن تافراكين خير نزل وأبره. وركب السفين من تونس إلى العدوة، فنزل على ابن القمط صاحب برشلونه في حشمه وذويه. وأقام هنالك، إلى إن كان من مهلك رضوان الحاجب المستبد بالأندلس سنة ستين وسبعمائة ما قدمناه، فنزع إلى منبت من غرناطة. ونزل على إسمعيل ابن السلطان أبى الحجاج والقائم بدولته يومئذ الرئيس محمد ابن عمه إسمعيل بن محمد والرئيس أبي سعيد، فلقوه مبرة وتكريماً. ورجوه بالإدالة به من يحيى بن عمر أمير الغزاة يومئذ، لما كانوا يتهمونه من ممالأة المخلوع صاحب الأمر عليهم. ولما نزع يحيى بن عمر إلى الطاغية ولحق بدار الحرب سنة إحدى وستين وسبعمائة، عقدوا لإدريس بن عثمان هذا على الغزاة مكانه. وولوه خطة أبيه وأخيه بدولتهم، فاضطلع بها. ومالأ الرئيس محمداً على قتل سلطانه إسمعيل ابن عمه أبي الحجاج واستبد بالأمر. ولسنتين من ولايته غلبهم المخلوع أبو عبد الله محمد على أمرهم. وزحف إليهم من رندة، كان نزل بها بعد خروجه من دار الحرب مغاضباً للطاغية. وأذن له وزير المغرب عمر بن عبد الله في نزلها فنزلها. ثم زحف إلى الثائر بغرناطة. على ملكهم الرئيس وحاشيته، فأجفلوا. ولحق الرئيس محمد بن إدريس هذا بقشتالة ونزلوا في جملتهم وحاشيتهم على الطاغية، فتقبض عليهم وقتل الرئيس محمداً وحاشيته، جزاءً بما أتوه من غدر رضوان. ثم غدر السلطان إسمعيل من بعده وأودع إدريس ومن معه من الغزاة السجن بإشبيلية، فلم يزل في أسره إلى أن تحيل في الفرار بمداخلة مسلم من الدجن، أعد له فرساً إزاء معتقله، ففك قيده. ونقب البيت وامتطى فرسه ولحق بأرض المسلمين سنة ست وستين وسبعمائة. واتبعوه فأعجزهم، وجاء إلى السلطان أبي عبد الله محمد بن أبي الحجاج، فأكرم نزله وأحسن مبرته. ثم طلب إذنه في اللحاق بالمغرب، فأذن له وأجاز إلى سبتة وبلغ شأنه إلى صاحب الأمر بالمغرب يومئذ عمر برت عبد الله، فأوى إلى عامل سبتة بالتقبض عليه لمكان ما يؤنس من ترشيحه. وأودعه الجن به كنهاسة، قم نقله السلطان عبد العزيز إلى سجن الغور بفاس، ثم قتلوه خنقاً سنة سبعين وسبعمائة
. والله وارث الأرض ومن عليها. الخبر عن إمارة علي بن بدر الدين علي الغزاة بالاندلس ومصاير أمره: قد ذكرنا أن موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق، كان أجاز إلى الأندلس مع محمد وعامر إبني إدريس بن عبد الحق وقومهم، أولاد سوط النساء، سنة تسع وستين وسبعمائة. ثم رجع إلى المغرب وفر إلى تلمسان وأجاز منها إلى الأندلس. وولي إمارة الغزاة بها إلى أن هلك، بعد أن أصهر إليه السلطان يوسف بن يعقوب في إبنته، فعقد له عليها وزفها إليه سنة تسع وسبعين وسبعمائة مع وفد من قومهم. وكان لموسى بن رحو من الولد جماعة: أكبرهم المحمدان جمال الدين وبدر الدين، وضع عليهما هذين اللقبين على طريقة أهل المشرق الشريف المكي، الوافد على المغرب لذلك العهد من شرفاء مكة. وكان هؤلاء الاعياص ملوكهم وأقيالهم يعظمون أهل البيت النبوقي ويلتمسون الدعاء والبركة منهم فيما تيسر من أحوالهم، فحمل موسى بن رحو ولدية هذين إلى الشريف عند وضعهما يحنكهما ويدعو لهما، فقال له الشريف: خذ إليك جمال الدين. وقال في الآخر خذ إليك بدر الدين، فاستحب موسى دعاءهما بهذين اللقبين تبركاً بتسمية الشريف بهما، فاشتهرا بهذين الإسمين. ولما بلغا الأشد وشاركا أباهما في حمل الرياسة وكان من مهلكه ما ذكرناه، وانحرفت الغزاة عنهما إلى عمهما عبد الحق وابنه: فلحق جمال الدين منهما بالطاغية سنة ثلاث ، ثم أجاز البحر من قرطاجنة إلى السلطان يوسف بن يعقوب من معسكره من حصار تلمسان واستقر في جملته، حتى إذا هلك السلطان وتصدى ابنه أبو سالم للقيام بالأمر وكان مغلباً مضعفاً فلم يتم أمره، وتناول الملك أبو ثابت حافد السلطان واستولى عليه. وفر أبو سالم عشي مهلكه ومعه من القرابة جمال الدين هذا وأعمامه العباس وعيسى وعلي بنو رحو بن عبد الله، فتقبض عليهم في طريقهم بمديونة وسيقوا إلى السلطان أبي ثابت، فقتل عمه أبا سالم وجمال الدين بن موسى بن رحو وامتن على الباقين واستحياهم. وانصرف العباس بعدها إلى الأندلس، فكانت له في الجهاد آثار كما ذكرناه قبل. وأما بدر الدين، فلم يزل بالأندلس مع قومه. ومحله من الرياسة والتجلة
محله من النسب، إلى أن هلك، فقام بالأمر من بعده ابنه علي بن بدر الدين مزاحماً في الرياسة مباهياً لهم بالترشيح. وكان كثيراً ما يعقد له ملوك بني الأحمر على الغزاة من زناتة المرابطين بالثغور فيما بعد عن الحضرة من قواعد الأندلس: مثل مالقة والمرية ووادي آش، سبيل المرشحين من أهل بيته، وكانت إمارة الغزاة بالأندلس مستأثرة بأمر السيف والحرب، مقاسمة للسلطان أكثر الجباية في الأعطية والأرزاق بما كانت الحاجة إليهم في مدافعة العدو ومقارعة ملك الأندلس، فكانوا يغضون لهم عن استطالتهم عليهم لمكان حاجتهم إلى دفاع العدوين، حتى إذا سكن ريح الطاغية، بما كان من شغله بفتنة أهل دينه منذ منتصف هذه المائة، وشغل بني مرين أيضاً بعد مهلك السلطان أبي الحسن وتناسوا عهد الغلب على أقتالهم وجيرانهم. وتنوسي عهد ذلك أجمع، فاعتزم صاحب الأندلس على محو هذه الخطة من دولته. وأغراه بذلك وزيره ابن الخطيب كما ذكرناه حرصاً على خلاء الجولة، فتقبض على يحيى بن عمر وعلى بنيه سنة أربع وستين وسبعمائة كما ذكرناه. وعقد على الغزاة المجاهدين لابنه ولي عهده الأمير يوسف. ومحا رسم الخطة ببني مرين بالجملة، إلى أن توهم فناء الحامية منهم بفناء بيوت العصبية الكبرى، فراجع رأيه في ذلك. وكان علي بن بدر الدين خالصة له وكان مقدماًصصص على الغزاة بوادي آش. ولما لحق السلطان به ناجياً ليلة مهلك رضوان، مانع دونه وظاهره على أمره، حتى إذا ارتحل إلى المغرب إرتحل معه. ونزلوا جميعاً على السلطان أبي سالم سنة إحدى وستين وسبعمائة كما ذكرناه. ولما رجع إلى الأندلس رجع في جملته، فكان له بذلك عهد وذمة رعاهما السلطان له وكان يستخلصه ويناجيه. فلما تفقد مكان الأمير على الغزاة ونظر فيمن يوليه، عثر اختياره على هذا لسابقته ووسائله وما بلاه من نصحه ووقوفه عند حذه، فعقد له سنة سبع وستين وسبعمائة على الغزاة كما كان أولوه، فقام بها واضطلع بأمورها. واستمرت حاله إلى لأن هلك سنة ثمان وستين وسبعمائة. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
الخبر عن إمارة عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي، علي الغزاة بالاندلس ومصاير أمره: كان ولد السلطان أبي علي قد استوقروا بالأندلس وأجازوا إلى طلب الأمر بالمغرب.
وكان من أمرهم ما شرحناه، إلى أن أجاز عبد الرحمن هذا مع وزيره المطارد به مسعود بن رحو سنة ست وستين وسبعمائة، غساسة على سلم عقده لهم وزير المغرب المستبد بأمره يومئذ عمر بن عبد الله. ونزل عبد الرحمن هذا بالمنكب، وكان السلطان يومئذ معسكراً بها، فتلقاه من الإحتفاء والبر ما يناسبه. وأكرم مثواه وأسنى الجائزة له ولوزيره ولحاشيته. واستقروا في جملة الغزاة المجاهدين، حتى إذا هلك علي بن بدر الدين سنة ثمان وستين وسبعمائة، نظر السلطان فيمن يوليه أمرهم، فعثر اختياره على عبد الرحمن هذا، لما عرف به من البسالة والإقدام ولقرب الشرائح بينه وبين ملك المغرب يومئذ، التي هي ملاك الترشيح لهذه الخطة بالأندلس كما قدمناه، لما كانت رشائح أولاد عبد الله بن عبد الحق قد بعدت باتصال الملك في عمود نسب صاحب المغرب دون نسبهم، فآثره صاحب الأندلس بها وعقد له على الغزاة المجاهدين سنة ثمان وستين وسبعمائة وأضفى عليه لبوس الكرامة والتجلة وأقعده مجلس الوزارة كما كان للأمراء قبله. واتصل الخبر بسلطان المغرب يومئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، فغص بمكانه وتوهم أن هذه الإمارة زيادة في ترشيحه ووسيلة لملكه. وكانت لوزير الأندلس محمد بن الخطيب مداخلة مع صاحب المغرب، بما أمل أن يجعله فيئة لاعتصامه، فأوعز إليه بالتحيل على إفساد ما بينه وبين صاحب الأندلس، فجهد في ذلك جهده. ولبست عليه وعلى وزيره مسعود بن ماسي، كتب إلى عظماء القبيل وبعض البطانة من أهل الدولة، بالتحبيب والدعوة إلى الخروج على صاحب المغرب، فأحضرهم السلطان ابن الأحمر وأعطاهم كتابهم، فشهد عليهم وأمر بهم، فاعتقلوا بالمطبق سنة سبعين وسبعمائة. واسترضى صاحب المغرب بفعلته فيهم. رنزع الوزير ابن الخطيب بعد ذلك إلى السلطان عبد العزيز، وتبين لسلطانه مكره واحتياله عليهم في شأنهم. ولما هلك عبد العزيز وأظلم الجو بين صاحب الأندلس وبين
القائم بالدولة أبي بكر بن غازي كما قدمناه، وامتعض ابن الأحمر للمسلمين من الفوضى، أطلق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماسي من الاعتقال وجهز لهما الأسطول، فأجازوا فيها إلى المغرب ونزل بمرسى غساسة على بطوية داعياً لنفسه، فقاموا بأمره وكان من شأنهم مع الوزير أبي بكر بن غازي ما قصصناه. واستقر آخر بمراكش وتقاسم ممالك المغرب وأعماله مع السلطان أبي العباس، أحمد بن أبي سالم، صاحب المغرب لهذا العهد. وصار التخم بينهما وادي ملوية. ووقف كل واحد منهم عند حده. والله مالك الملك يولي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء. وأغفل صاحب الأندلس هذه الخطة من دولته ومحا رسمها من ملكه. وصار أمر الغزاة المجاهدين إليه ويباشر أحوالهم بنفسه وعمهم بنظره. وخص القرابة المرشحين منهم بمزيد تكرمته وعنايته. والأمر على ذلك لهذا العهد، وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة والحمد لله على كل حال. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
المجلد السابع من صفحة 503 تاريخ ابن خلدون تم كتاب أخبار الدول الإسلامية بالمغرب لولي الدين أبي زيد، عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي الإشبيلي المالكي. والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم(1) التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب ورحلته غرباً وشرقاً وأصل هذا البيت من إشبيلية ؛ انتقل سلفُنا-عند الجَلاء ؤغَلَبِ ملك الجَلالقة ابن أُدْفُونْش عليها – إلى تُونس في أواسط المائة السابعة نسبه : عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خَلدون ، لا أذكر من نسَبي إلىِ خلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب على الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عدداً ؛ لأنَ خَلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس ، فإن كان أول الفتح فالمدّة لهذا العَهد سبعُمائة سنة ، فيكونون زهُاءَ العشرين ، ثلاثة لكل مائة ، كما تقدم في أول الكتاب الأول . وَنَسَبُنا حَضْر مَوت ، من عَرب اليمن ، إلى وائل بن حُجْر، من أقيال العَرب ، معْروف وله صُحبة . قال أبُو محمد بن حزْم في كتاب الجمهرة: وهو وائل بن حُجْر بن سعيد بن مَسْروق بن وائل بن النُّعمان بن ربيعة بن الحَرث بن عَوف بن سعد بن عوف بن عَديَ بن مالك بن شُرحْبيل بن الحارث بن مالك بن مُرة بن حِمْيَرِ بن زيد بن الخضْرَميّ بن عمرو بن عبد اللّه بن
هانىء بن جُرسم بن عبد شمسى بن زيد بن لؤيّ بن ثبْت بن قُدامة بن أعجَب بن مالك بن لؤي بن قحطان . وابنه علقَمة بن وائل وعبد الجبار بن وائل .
وذكره أبو عمر بن عبد البرّ في حرف الواو من "الاستيعاب"، وأنه وفد علىالنبي صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه، وأجلسه عليه، وقال: "اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة".
وبعث معه جارية بن أبي سفيان إلى قومه يعلمهم القرآن والإسلام؛ فكانت له بذلك صحابة مع معاوية. ووفد عليه لأوّل خلافته فأجازه؛ فرّد عليه جائزته ولم يقبلها.
ولما كانت واقعة حجر بن عديّ الكندي بالكوفة، اجتمع رؤوس أهل اليمن، وفيهم هذا، فكانوا مع زياد بن أبي سفيان عليه، حتى أوثقوه وجاؤوا به إلى معاوية، فقتله كما هو معروف.
وقال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون من ولده، جدهم الداخل من المشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانىء بن الخطاب بن كريت بن معد يكرب بن الحرث بن وائل بن حجر. قال: وكان من عقبه كريب بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد، وكانا من أعظم ثوار الأندلس. وقال ابن حزم: وأخوه محمد، كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون. وبنو أبي العاصي: محمد، وأحمد، وعبد الله. قال:- وأخوهم عثمان، وله عقب. ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس من تلاميذ مسلمة المجريطي، وهو أبومسلم عمر بن محمد بن تقي بن عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان بن خالد بن عثمان بن خلدون الداخل. وابن عمّه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله. قال: ولم يبق من ولد كريب
الرئيس المذكور إلا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت- انتهى كلام ابن حزم.
سلفه بالاندلس: ولما دخل خلدون بن عثمان جدّنا إلى الأندلس، نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت، ونشأ بيت بنيه بها، ثم انتقلوا إلى إشبيلية. وكانوا في جند اليمن، وكان الكريت من عقبه وأخيه خالد، الثورة المعروفة بإشبيلية أيام الأمير عبد الله المرواني؛ ثار على ابن أبي عبدة، وملكها من يده أعواماً، ثم ثار عليه إبراهيم بن حجاج، بإملاء الأمير عبد الله وقتله، وذلك في أواخر المائة الثالثة. وتلخيص الخبر عن ثورته، على ما نقله ابن سعيد عن الحجازي وابن حيان وغيرهما، وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرّخ إشبيلية: أنّ الأندلس لما اضطرمت بالفتن أيام الأمير عبد الله ، تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثورة والإستبداد، وكان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة بيوت: بيت بني أبي عبدة، ورئيسهم يومئذ أمية بن عبد الغافر بن أبي عبدة، وكان عبد الرحمن الداخل ولى أبا عبده إشبيلية وأعمالها، وكان حافده أمية من أعلام الدولة بقرطبة، ويولونه الممالك الضخمة. وبيت بني خلدون هؤلاء، ورئيسهم كريب المذكور، ويردفه أخوه خالد. قال ابن حيّان: وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانّية ورياسة علمية. ثم بيت بني حجّاج، ورئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حيّان: هم- يعني بني حجاج- من لَخْم، وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل، نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية. فلمّا عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين ومائتين، وكان الأمير عبد الله قد ولّى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر، وبعث معه ابنه محمداً، وجعله في كفالته، فاجتمع هؤلاء النفر، وثاروا بمحمد ابن الأمير
عبد الله وبأمّية صاحبهم، وهو يمالئهم على ذلك، ويكيد بابن الأمير عبد الله. وحاصروه في القصر، حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه، واستبدّ أمية بإشبيلية، ودسّ على عبد الله بن حجّاج من قتله، وأقام أخاه إبراهيم مكانه. وضبط إشبيلية، واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجاج، ثم ثاروا به، وهمّ بقتل أبنائهم؛ فراجعوا طاعته، وحلفوا له، فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية. وحاربوه فاستمات وقَتَل حُرَمَهَ، وعقر خيوله، وأحرق موجوده. وقاتلهم حتى قتلوه مقبلاً غير مدبر، وعاثت العامة في رأسه. وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خَلَع فقتلوه، فقبل منهم مداراة، وبعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته، فاستبدّوا عليه، وفتكوا بابنه، وتولّى كبر ذلك كريب بن خلدون، واستقل بإمارتها.
وكان إبراهيم بن حجّاج بعدما قتل أخوه عبد الله- على ما ذكره ابن سعيد عن الحجاري- سمت نفسه إلى التفرّد، فظاهر ابن حفصون أعظم ثوّار الأندلس يومئذ، وكان بمالقة وأعمالها إلى رُنْدَة، فكان له منه ردءَ. ثم انصرف إلى مداراة كُرَيب بن خَلدون وملابسته، فردفه في أمره، وأشركه في سلطانه، وكان في كريت تحامل على الرعيّة وتعصّب، فكان يتجهّم لهم، ويغلظ عليهم، وابن حجّاج يسلك بهم الرفق والتلطف في الشفاعة لهم عنده، فانحرفوا عن كريب إلى ابراهيم. ثم دسّ إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية، لتسكن إليه العامّة، فكتب إليه العهد بذلك. وأطلع عليه عرفاء البلد مع ما أشربوا من حبّه، والنفرة عن كُرَيب، ثم أجمع الثورة، وهاجت العامّة بكُرَيْب فقتلوه، وبعث برأسه إلى الأمير عبد الله، واستقرّ بإمارة إشبيلية. قال ابن حيّان: وحصّن مدينة قَرْمُوَنة من أعظم معاقل الأندلس، وجعلها مرتبطاً لخيله، وكان ينتقل بينها وبين إشبيلية. واتخذ الجند ورتّبهم طبقات، وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا، ويبعث إليه المدد في الصوائف. وكان مقصوداً
ممدحاً، قصده أهل البيوتات فوصلهم، ومدحه الشعراء فأجازهم، وانتجعه أبو عمر بن عبد ربّه صاحب العقد، وقصده من بين سائر الثوّار، فعرف حقه، وأعظم جائزته. ولم يزل بيت بني خلدون بإشبيلية- كما ذكره ابن حيّان وابن حزم وغيرهما- سائر أيام بني أمية إلى زمان الطوائف، وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة.
ولما غلب كعب ابن عبّاد بإشبيلية، واستبدّ على أهلها، استوزر من بني خلدون هؤلاء، واستعملهم في رتب دولته، وحضروا معه وقعة الجلالقة كانت لابن عبّاد وليوسف بن تاشفين على ملك الجلالقة، فاستشهد فيها طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ثبتوا في الجولة مع ابن عبّاد فاستلحمّوا في ذلك الموقف. بما كان الظهور للمسلمين، ونصرهم الله على عدّوهم. ثم تغلّب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس، واضمحلّت دولة العرب وفنيت قبائلهم. سلفه بأفريقية: ولما استولى الموحدون على الأندلس، وملكوها من يد المرابطين، وكان ملوكهم: عبد المؤمن وبنيه. وكان الشيخ أبو حفص كبير هنتاتة زعيم دولتهم، وولّوه على إشبيلية وغرب الأندلس مراراً، ثم ولّوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم، ثم ابنه أبا زكرياء كذلك، فكان لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم، وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمّهات، ويعرف بابن المحتسب، للأمير أبي زكريا
يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته عليهم، جاريّة من سبي الجلالقة، اتخذها أم ولد، وكان له منها ابنه أبو يحيى زكريا وليّ عهده الهالك في أيامه، وأخواه: عمر وأبو بكر، وكانت تلقّب أمّ الخلفاء. ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية أفريقية سنة عشرين وستمائة. ودعا لنفسه بها، وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين وستمائة. واستبدّ بأفريقية، وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس، وثار عليهم ابن هود. ثم هلك واضطربت الأندلس،وتكالب الطاغية عليها، وتردّد الغزو إلى الفرنتيرة، بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيّان، وثار ابن الأحمر من غرب الأندلس من حصن أرجُونَة، يرجو التماسك لما بقي من رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيلية. وهم بنو الباجي، وبنو الجدّ، وبنو الوزير، وبنو سيّد الناس، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة على ابن هود، وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة، ويتمسّكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعّرة، من مالقة إلى غرناطة إلى المريّة؛ فلم يوافقوه على بلادهم. وكان مقدّمهم أبو مروان الباجي، فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي، وبايع
مرّة لابن هُود، ومّرة لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن، ومرة للأمير أبي زكرياء صاحب أفريقية. ونزل غرناطة، واتخذها دار ملكه، وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل المُلْك؛ فخشي بنو خَلدون سوء العاقبه مع الطاغية، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة، ونزلوا سبتة وأجلب الطاغية على تلك الثغور؛ فملك قرطبة، وإشبيلية، وقرمونة وجيّان وما إليها، في مدّة عشرين سنة. ولما نزل بنو خَلدون بسبتة أصهر إليهم العزِفيّ بأبنائه وبناته، فاختلط بهم، وكان له معهم صِهْرٌ مذكور. وكان جدّنا الحسن بن محمد، وهو سبط ابن المحتسب، قد أجاز فيمن أجاز إليهم؛ فذكر سوابق سلفه عند الأمير أبي زكريا؛ فقصده، وقدم عليه فأكرم قدومه. وارتحل إلى المشرق؛ فقضى فرضه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكريا على بونة، فأكرمه، واستقرّ في ظل دولته، ومرعى نعمته، وفرض له الأرزاق، وأُقْطع الإقطاع. وهلك هنالك؛ فدفن ببونة. وخلف ابنه محمدا أبا بكر فنشأ في جو تلك النعمة ومرعاها. وهلك الأمير أبو زكرياء ببونة سنة سبع وأربعين وستمائة، وولي ابنه المستنصر
محمد؛ فأجرى جدّنا أبا بكر على ما كان لأبيه. ثم ضرب الدهر ضربانه، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين وسبعمائة، وولي ابنه يحيى، وجاء أخوه الأمير أبو إسحق من الأندلس، بعد أن كان فرّ إليها أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى، واستقلّ هو بملك أفريقية، ودفع جدّنا أبا بكر محمداً إلى عمل الأشغال في الدولة، على سنن عظماء الموحدين فيها قبله، من الإنفراد بولاية العمّال، وعزلهم وحسبانهم، على الجباية، فاضطلع بتلك الرتبة. ثم عقد السلطان أبو اسحق لابنه محمد، وهو جدّنا الأقرب، على حجابة وليّ عهد، ابنه أبي فارس أيام اقضاه إلى بجاية. ثم استعفى جدّنا من ذلك فأعفاه، ورجع إلى الحضرة. ولما غلب الدعي ابن أبي عمارة عل ملكهم بتونس، اعتقل جدّنا أبا بكر محمداً، وصادره على الأموال، ثم قتله خنقاً في محبسه. وذهب ابنه محمد جدّنا الأقرب مع السلطان أبي اسحق وأبنائه إلى بجاية؛ فتقبّض عليه ابنه أبو فارس، وخرج مع العساكر هو وإخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة، وهو يشبه بالفضل ابن المخلوع، حتى إذا استلحمّوا بمرما جنّة خلص جدّنا محمد مع أبي حفص- ابن الأمير أبي زكريا من الملحمة، ومعهما الفازازي وأبو الحسين بن سيّد النأس؛ فلحقوا بمنجاتهم كن قلعة سنان. وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص، وكان يؤثره عليهم. فأما أبل الحسين بن سيّد الناس فاستنكف من إيثار الفازازي عليه، بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية، ولحق بالمولى أبي زكرياء الأوسط بتلمسان، وكان من شأنه ما ذكرناه. وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص، وسكن لإيثار الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمور رعى له سابقته، وأقطعه، ونظمه في جملة القواد ومراتب أهل الحروب، واستكفى به في الكثير من أمر ملكه، ورشحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك، فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة، واصطفى لحجابته محمد بن ابراهيم الدبّاغ كاتب الفازازي، وجعل محمد بن خلدون رديفاً في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك السلطان، وجاءت دولة الأمير خالد، فأبقاه على حاله من التجلّة والكرامة، ولم يستعمله ولا عقد له، إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني، فاصطنعه، واستكفى به عندما تنبّضت عروق التغلّب للعرب؛ ودفعه إلى حماية الجزيرة من دلاج، إحدى بطون سُلَيْم الموطنين بنواحيها؛ فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى المشرق، وقضى فرضه سنة ثمان عشرة، وأظهر التوبة والإقلاع، وعاود الحج متنقلا سنة ثلاث وعشرين، ولزم كسر بيته. وأبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع والجراية، ودعاه إلى حجابته مراراً، فامتنع.
أخبرني محمد بن منصور بن مزنى، قال: لما هلك الحاجب محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار سنة سبع وعشرين وسبعمائة، استدعى السلطان جدّك محمد بن خلدون، وأراده على الحجابة، وأن يفوض إليه في أمره، فأبى واستعفى، فأعفاه، وآمره فيمن يوليه حجابته، فأثار عليه بصاحب الثغر بجاية، محمد بن أبي الحسين بن سيدّ الناس، لاستحقاقة ذلك بكفايته واضطلاعه، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس، وإشبيلية من قبل. وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والدين، فعمل السلطان على إشارته، واستدعى ابن سيّد الناس، وولاّه حجابته. وكان السلطان أبو يحى إذا خرج من تونس يستعمل جدّنا محمداً عليها، وثوقاً بنظره واستنامة إليه، إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين، ونزع ابنه، وهو والدي محمد أبو بكر، عن طريقة السيف والخدمة، إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليها في حجر أبي عبد الله الزبيدي الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده، في العلم والفتيا، وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حسين وعمّه حسن، الوليّين الشهيرين. وكان جدّنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنه، وهو والدي رحمه الله فقرأ وتفقّه، وكان مقدّما في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه. عهدي بأهل البلد بتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حَوْكَهُم عليه، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وإربعين وسبعمائة.
نشأته ومشيخته وحاله:
أمّا نشأتي فإني ولدت بتونس في غرّة رمضان سنة إثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربّيت
في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعتُ وقرأتُ القرآن العظيم على الاستاذ المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال الأنصاري، أصله من جالية الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماما في القراءآت، لا يلحق شأوه، وكان من أشهر شيوخه ففي القراءآت السبع أبو العباس أحمد بن محمد البطرني، ومشيخته فيها، وأسانيده معروفة. وبعد أن استظهرت القرآن الكريم من حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفراداً وجمعاً في إحدى وعشرين ختمة، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى، ثم قرأت برواية يعقوب ختمة واحدة جمعاً بين الروايتين عنه؛ وعرضت عليه رحمه الله قصيدتي الشاطبي؛ اللامية في القراءآت، والرائية في الرسم، وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي العباس البطوي وغيره من شيوخه، وعرضت عليه كتاب التفسير لأحاديث الموطأ لابن عبد البرّ، حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ، مقتصراً على الأحاديث فقط. ودرست عليه كتباً جمّة، مثل كتاب التسهيل لابن مالك ومختصر ابن الجاجب في الفقه، ولم أكملهما بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي
وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله بن العربي الحصايري، وكان إماماً في النحو وله شرح مستوفى على كتاب التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش الزرزالي. ومنهم أبو العباس أحمد بن القصّار؛ كان ممتعاً في صناعة النحو، وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي وهو حيّ لهذا العهد بتونس.
ومنهم إمام العربية والأدب بتونس أبو عبد الله محمد بن بحر؛ لازمت مجلسه وأفدت عليه، وكان بحراً زاخراً في علوم اللسان. وأشار عليّ بحفظ الشعر؛ فحفظت كتاب الأشعار الستة، والحماسة للأعلم، وشعر حبيب، وطائفة من شعر المتنبي، ومن أشعار كتاب الأغاني. ولازمت أيضاً مجلس إمام المحدّثين بتونس؛ شمس الدين أبي عبد الله بن جابر بن سلطان القيسيّ الوادياشي، صاحب الرحلتين؛ وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجّاج، إلاّ فوتا يسيراً من كتاب الصَّيد؛ وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوّله إلى آخره، وبعضاً من الأمّهات الخمس؛ وناولني كتباً كثيرة في العربية والفقة، وأجازني إجازة عامّة، وأخبرني عن مشايخه المذكورين أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العبّاس أحمد بن الغمّاز الخزرجي. وأخذت الفقه بتونس عن جماعة؛ منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحيّاني، وأبو القاسم محمد القصير، قرأت عليه كتاب التهذيب لأبي سعيدد البرادعي، مختصر المدوّنة، وكتاب المالكيّة، وتفقهت عليه. وكنت في خلال ذلك أنتاب مجلس شيخنا الإمام، قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، مع أخي عمر رحمة الله عليهما. وأفدت منه، وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب الموطأ للإمام مالك، وكانت له فيه طرق عالية، عن أبي محمد بن هارون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس، وكلّهم سمعت عليه ، وكتب لي وأجازني، ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.
وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن، عندما ملك أفريقية سنة ثمان وأربعين، جماعة من أهل العلم، وكان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمّل بمكانهم فيه: فمنهم شيخ الفُتيا بالمغرب، وإمام مذهب ممالك، أبو عبد الله محمد بن سليمان السطّي؛ فكنت انتاب مجلسه، وأفدت عليه. ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن، وصاحب علامته التي توضع أسافل مكتوباته، إمام المحدثين والنحاة بالمغرب، أبو محمد بن عبد المهيمن الحضرمي؛ لازمته، وأخذت عنه، سماعاً، وإجازة، الأمهات الست، وكتاب الموطأ، والسير لابن اسحق، وكتاب ابن الصلاح في الحديث، وكتباً كثيرة شذت عن حفظي. وكانت بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة؛ كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر في الحديث والفقه، والعربية، والأدب، والمعقول، وسائر الفنون؛ مضبوطة كلها، مقابلة. ولا يخلو ديوان منها عن ثبت بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفه، حتى الفقه، والعربية، الغريبة الإسناد إلى مؤلفيها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي، إمام المقرئين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم، بالجمع الكبير بين القراءات السبع، من طريق أبي عمرو الداني، وابن شريح، في ختمة لم أكملها، وسمعت عليه عدة كتب، وأجازنى بالإجازة العامة.
ومنهم شيخ العلوم العقلية، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي. أصله من تلمسان، وبها نشأ، وقرأ كتب التعاليم، وحذق فيها. وأظله الحصار الكبير بتلمسان أعوام المائة السابعة؛ فخرج منها، وحج. ولقي أعلام المشرق يومئذ؛ فلم يأخذ عنهم، لأنه كان مختلطا بعارض عرض في عقله. ثم رجع من المشرق، وأفاق، وقرأ المنطق والأصلين، على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام، وكان قرأ بتونس، مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن، على تلاميذ ابن زيتون الشهير الذكر؛ وجاء إلى تلمسان بعلم كثير من المعقول والمنقول، فقرأ الآبلي على أبي موسى منهما كما قلناه. ثم خرج من تلمسان هاربا إلى المغرب، لأن سلطانها يومئذ، أبو حمّو من ولد يغمراسن بن زيان، كان يكرهه على التصرف في أعماله، وضبط الجباية بحسبانه، ففر إلى المغرب، ولحق
بمراكش، ولزم العالم الشهير أبا العباس بن البناء الشهير الذكر، فحصل عنه سائر العلوم العقلية، وورث مقامه فيها وأرفع، ثم صعد إلى جبال الهساكرة، بعد وفاة الشيخ، باستدعاء علي بن محمد بن تروميت، ليقرأ عليه، فأفاده. وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد، والآبلي معه.
ثم اختصه السلطان أبو الحسن، ونظمه في جملة العلماء بمجلسه، وهو في خلال ذلك يعلم العلوم العقلية، ويبثها بين أهل المغرب، حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصارها، وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه. ولما قدم على تونس في جملة السلطان أبي الحسن، لزمته، وأخذت عنه الأصلين، والمنطق، وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية؛ وكان رحمه الله، يشهد لي بالتبريز في ذلك. وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن: صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي. كان يكتب عن السلطان، وبلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطه. وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب، في براعة خطه، وكثرة علمه، وحسن سمته، وإجادته في فقه الوثائق، والبلاغة في الترسيل عن السلطان، وحوك الشِعْر، والخطابة على المنابر، لأنه كان كثيرا ما يصلي بالسلطان. فلما قدم علينا بتونس، صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخا، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما أفدت منهم. وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحوي شاعر تونس في قصيدة علي روي النون، يرغب منه تذكرة شيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه إلى السلطان أبي الحسن، في قصيدته على روي الباء، وقد تقدم ذكرها في أخبار السلطان. وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي هذه:
- عرفت زماني حين أنكرت عرفاني وأيقنت أن لا حظ في كف كيوان
- وأن لا اختيار في اختيار مقـوم وأن لا قراع بالقـــران لأقران
- وأن نظام الشكل أكمل نظمـــه لأضعاف قاض في الدليل برجحـان
- وأنّ افتقار المرء في فقراتـــه ومن ثقله يغني اللبيب بـــأوزان
- فمن بعدما شمت الخلاب ولم أرع لهشة راض أو لشرة غضبـــان
- ولم يعشني للنار لمع شعاعــهـا فما كل نار نار موسى بن عمـران
- ولم يبق لي في الغيب من أمل سوى لقاء ابن رضوان وجنة رضــوان
- هنالك ألفيت العلا تنتـــمي إلى أناس ضئيل عندهم فخر غســان
- وأرعيت من روض التأدب يـانعا وحييت من كنز العلـــوم بقعيان
- وردت فلم تجدب لديه ريــادتي وصدق طرفي ما تلقته آذانـــي
- فحسبك من آدابه كل زاخـــر يحييك معسولا بدر ومرجـــان
- يحييك بالسلك الذي لم تحـط به طروس ابن سهل أو سوالف بوران
- فقل بابلي إن ينافثك لفظـــة وفي وشيه الأطراس قل هو صنعاني
- خلائق لم تخلق سدى بل تكملت بإسداء إنعام وإبلاء إحســـــان
ثم يقول في ذكر العلماء القادمين:
- هم القوم كل القوم، أما حُلومُهــــم فأرسخ من طودي ثبير وثهلان
- فلا طيش يعروهم وأما علومهــــم فأعلامها تهديك من غير نيران
- بفقه يشيم الأصبحي صباحـــــه وأشهب منه يستدل بشهبــان
- وحسن جدال للخصوم ومنطـــــق يجيئان في الأخفى بأوضح برهان
- سقت روضة الآداب منهم سحائـــب سحبن على سحبان أذيال نسيـان
- فلم يبق نأي ابن الإمام شماخـــــة على مدن الدنيا لأنف تلمســـان
- وبعد نوى السطي لم تسط فأســــه بفخر على بغدان في عصر بغدان
- وبالآبلي استسقت الأرض وبلهــــا ومستوبل ما مال عنه لأظعــان
- وهامت على عبد المهيمن تونــــس وقد ظفرت منه بوصل وقربــان
- وما علقت مني الضمائر غيـــــره وإن هويت كلا بحب ابن رضوان
وكتب هذا الشاعر: صاحبنا الرحوي يذكر عبد المهيمن بذلك:
- لهي النفس في اكتساب وسعـــــي وهو العمر في انتهاب وفي
- وأربى الناس بين ساع لرشــــــد يتوخى الهدى وساع لغـي
- وأرى العلم للبرية زينـــــــــا فتزي منه بأحســـن زي
- وأرى الفضل قد تجمع كـــــــلا في ابن عبد المهيمن الحضرمي
- حل بالرتبة العلية في حضــــــرة ملك سامي العماد علــــي
- قلم أوسع الأقاليم أمـــــــــرا فله قد أطاع كل عصـــي
- قدر ما يفيد منـــه احتــــــذار فبأي تراه يقضي بـــــأي
- يمنح العز والعلا ويــوالــــــي بالعطايا الجسام كل ولــــي
- يلجأ الدارعون خوفا إليــــــــه هو يزري بالصارم المشرفــي
- هو أعلى الأقلام في كل عصـــــر ث ينمى إلى الإمــــام علي
- حليت تلكم الرياسة منـــــــــه بفريد في كل معنــــى سني
- سالك ففي النظام درا وطــــــورا ناثر دره بنشر وطــــــي
- بدع للبديع ترمي بحصــــــــر ولصابي بني بويه بعـــــي
- ويرى أخرس العراق لديـــــــه إنه بالشام كالأعجمــــــي
- وعلوم هي البحور ولكــــــــن ينثني الواردون منها بــــري
- تصدر الأمة العظيمة عنـــــــه بحديث مجـــــــود مروي
- وبفقه فيه وحسن مقـــــــــال يضع النور في لحاظ العمــــي
- وبنحو ينحي على سيبويـــــــه ببيان في المبهمات جلــــــي
- عمي الأخفشان عنه وســــــدت عن خفاياه فطنة الفارســـــي
- يا أخا الحكم في الأنام وإنــــــي لأنادي رب الندى والنــــــدي
- بنت فكري تعرضت لحماكــــــم فألقها راضيا بوجه رضــــــي
- تبتغي القرب من مراقــــــــي الأماني والترقي للجانب العلـــوي
- فأنلها مرامها نلت سهــــــــلا كل دان تبغي وكل قصـــــي
ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان، فاتح تسع وأربعين وسبعمائة، فشغلوا عن ذلك، ولم يظفر هذا الرحوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف، فطوى البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس، لخلّة كانت بينه وبين والدي، رحمه الله، أيام قدومهم علينا. فلما كانت واقعة القيروان، ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي الحسن، فاعتصموا بالقصبة دار الملك، حيث كان ولد السلطان وأهله، وانتقض عليه ابن تافراكين، وخرج من القيروان إلى العرب، وهم يحاصرون السلطان، وقد
اجتمعوا على ابن أبي دبّوس، وبايعوا له كما مرّ في أخبار السلطان، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس، فحاصر القصبة، وامتنعت عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس، ووقوع الهيعة، خرج من بيته إلى دارنا، فاختفى عند أبي رحمه الله، وأقام مختفياً عندنا نحواً من ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة، وركب البحر إلى تونس، وفرّ ابن تافراكين إلى المشرق. وخرج عبد المهيمن من الاختفاء، وأعاده السلطان إلى ما كان عليه، من وظيفة الولاية والكتابة، وكان كثيراً ما يخاطب والدي رحمه الله ويشكره على موالاته، ومما كتب إليه وحفظته من خطّه:
- محمد ذوي المكارم قد ثنانـــــــي فعال شكرُهُ أبداً عناني
- جزى الله ابن خلدونٍ حيــــــــاةً مُنَعَّمةً وخُلداً في الجنـان
- فكم أولى ووالى من جمــيــــــل وبر بالفعال وباللســـان
- وراعى الحضرمية في الذي قـــــد حبا من ورده ومن الجنــان
- أبا بكر ثناؤُك طول دهـــــــرى أردّد باللسان وبالجنــــان
- وعن علياك ما امتدت حياتــــــي أكافح بالحسام وباللســــان
- فمنك أفدت خلا لست دهــــــري أرى عن حبه أثني عنـــان
وهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره، هم سُباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب. فأمّا ابنا الإمام منهم فكانا أخوين من أهل برشك، من أعمال تلمسان، واسم أكبرهما: أبو زيد عبد الرحمن، واسم الأصغر: أبو موسى عيسى، وكان أبوهما إماماً ببعض مساجد برشك، واتهمه المتغلّب يومئذ على البلد زيرم بن حمّاد، بأنّ عنده وديعة من المال لبعض أعدائه، فطالبه بها، ولاذ بالامتناع، وبيتّه زيرم، لينتزع المال من يده، فدافعه وقتل وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في آخر المائة
السابعة، وأخذا العلم بها عن تلاميذ ابن زيتون، وتفقّها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدُّكّالي، وانقلبا إلى المغرب بحظّ وافر من العلم. وأقاما بالجزائر يبثّان بها العلم، لامتناع برشك عليهما من أجل أضرر، زيرم المتغلب عليها، والسلطان أبو يعقوب يومئذ، صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور، وقد بث جيوشه في نواحيها، وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها، وملك عمر مغراوة بشلف، وحصر مليانة، فبعث إليها الحسن بن علي بن أبي الطلاق من بني عسكر، وعليّ بن محمد ابن الخيّرمن بني ورتاجن، ومعهما لضبط الجباية واستخلاص الأموال الكاتب منديل بن محمد الكناني، فارتحل هذان الاخوان يومئذ من الجزائر، واحتلا بمليانة، فحليا بعين منديل الكناني، فقرّبهما واصطفاهما، واتخذهما لتعليم ولده محمد. ثم هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب، بمكانه من حصار تلمسان، سنة خمس وسبعمائة على يد خصيّ من خصيانه؛ طعنه فأشواه، وهلك. وأقام بالملك بعده حافده أبو ثابت بعد أمور ذكرناها في أخبارهم، ووقع بينه وبين صاحب تلمسان من بعده يومئذ أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن، وأخيه ابي حمّو، العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان، وردّ أعمالها عليه، فوفّى لهم بذلك، وعاد إلى المغرب. وارتحل ابن أبي الطلاق من شلف والخبري، والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب. ومرّوا بتلمسان، ومع الكناني هذان الاخوان، فأوصى لهما أبو حمّو، وأثنى عليهما. حلّه بمقامهما في العلم؛ واغتبط بهما أبو حمّو، واختط لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان. وأقاما عنده
على هدي أهل العلم وسننهم. وهلك أبو حمّو؛ فكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السلطان أبو الحسن المريني إلى تلمسان، وملكها عنوة، سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب، أسست لهما في نفس السلطان عقيدة صالحة؛ فاستدعاهما لحين دخوله، وأدنى مجلسهما، وشاد بمكرمتهما، ورفع جاههما على أهل طبقتهما. وصار يجمّل بهما مجلسه متى مرّ بتلمسان، ووفدا عليه في الأولى التي نفر فيها أعيان بلادهما. ثم استنفرهما
إلى الغزو، وحضرا معه واقعة طريف، وعادا إلى بلدهما. وتوفي أبو زيد منهما إثر ذلك، وبقي أخوه أبو موسى متبوّئاً ما شاء من ظلال تلك الكرامة. ولما سار السلطان أبو الحسن إلى أفريقية سنة ثمان وأربعين، كما مرّ في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكّرماً موقّراً، عالي المحل، قريب المجلس منه. فلما استولى على أفريقية، سرّحه إلى بلده، فأقام بها يسيرآ، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة. وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين في مسالك تلك الكرامة، وموقرين فيها طبقاً عن طبق إلى هذا العهد. وأمّا السطّي، واسمه محمد بن علي بن سليمان، من قبيلة سطّة، من بطون أوربة بنواحي فاس. فنزل أبوه سليمان مدينة فاس، ونشأ محمد بها وأخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصغير إمام المالكيّة بالمغرب، والطائر الذكر، وقاضي الجماعة بفاس، وتفقّه وقرأ عليه. وكان أحفظ الناس لمذهب مالك، وأفقههم فيه. وكان السلطان أبو الحسن لدينه وسراوته، وبعد شأوه في الفضل، يتشوف إلى تزيين مجلسه بالعلماء، واختار منهم جماعة لصحابته ومجالسته. كان منهم هذا الإمام محمد بن سليمان. وقدم علينا بتونس في جملته، وشهدنا وفور فضائله. وكان في الفقه من بينها لا يجارى، حفظاً وفهماً، عهدي به وأخي محمد رحمه الله يقرأ عليه من كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخمي، وهو يصححه عليه من إملائه وحفظه، في مجالس عديدة. وكذا كان حاله في أكثر ما يعاني حمله من الكتب. وحضر مع السلطان أبي الحسن، واقعة القيروان، وخلص معه إلى تونس، وأقام بها نحواً من سنتين. وانتقض المغرب على السلطان، واستقل به ابنه أبو عنان. ثم ركب السلطان أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين، ومر ببجاية، فأدركه الغرق في سواحلها، فغرقت أساطيله، وغرق أهله، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم. وألقاه البحر ببعض الجزر هناك، حتى استنفذه منه بعض أساطيله، ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجوده، وهلك الكثير من عياله وأصحابه، وكان من أمره ما مرّ في أخباره.
وأمّا الآيّلي واسمه محمد بن إبراهيم، فمنشؤه بتلمسان، وأصله من جالية الأندلس، من أهل آيُلّة، من بلد الجوف منها، أجاز بأبيه وعمه أحمد، فاستخدمهم يغمراسن بن زيّان، وولده في جندهم، وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته، فولدت له محمداً هذا. ونشأ بتلمسان في كفالة جدّه القاضي؛ فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجنديّة التي كانت منتحل أبيه وعمّه. فلما أيفع وأدرك سبق إلى ذهنه محبّة التعاليم؛ فبرز بها، واشتهر. وعكف الناس عليه في تعلّمها وهذا في سنّ البلوغ. ثم أظل السلطان يوسف بن يعقوب على تلمسان، وخيّم عليها يحاصرها. وسيّر العساكر إلى الأعمال فافتتح أكثرها. وكان إبراهيم الآيُلّي قائداً بهنين؛ مرسى تلمسان في لجّة من الجند. فلمّا ملكها يوسف بن يعقوب، اعتقل من وجد بها من أشياع ابن زيان، واعتقل ابراهيم الآيُلّي فيهم. وشاع الخبر في تلمسان بانّ يوسف بن يعقوب يسترهن أبناءهم ويطلقهم فتشوّف ابنه محمد إلى اللحاق بهم، من أجل ذلك. وأغراه أهله بالعزم عليه فتسوّر الأسوار، وخرج إلى أبيه فلم يجد خبر الاسترهان صحيحاً. واستخدمه يوسف بن يعقوب قائداً على الجند الأندلسيين بتاوريرت، فكره المقام على ذلك، ونزع عن طوره، ولبس المسوح، وسار قاصداً الحجّ. وانتهى إلى رباط العبّاد مختفياً في صحبة الفقراء؛ فوجد هنالك رئيساً من كربلاء ثم من بني الحسين، جاء إلى المغرب يروم إقامة دعوتهم فيه، وكان معقلأ؛ فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب، وشدّة هيبته غلب عليه اليأس من مرامه، ونزع عن ذلك، واعتزم الرجوع إلى بلده، فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته. قال لي رحمه الله: وبعد حين انكشف لي حاله، وما جاء له، واندرجت في جملتة
وأصحابه وتابعيه. قال: وكان يتلقّاه في كل بلد من أصحابه وأشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد، والنفقات من بلده، إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الإسكندرية. قال: واشتدّت علي الغلُمَة في البحر، واستحييت من كثرة الاغتسال لكان هذا الرئيس فأشار عليّ بعض بطانته بشرب الكافور؛ فاغترفت منه غرفة، فشربتها فاختلطت. وقدم الديار المصرية على تلك الحال، وبها يومئذ تقيّ الدين بن دقيق العيد، وابن الرفُعَة وصفيّ الدين الهندي، والتبريزي، وابن البديع وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول. فلم يكن قُصَارَاه إلاّ تمييز أشخاصهم، إذا ذكرهم لنا، لما كان به من الاختلاط. ثم حجّ مع ذلك الرئيس، وسار في جملته إلى كربلاء؛ فبعث به من أصحابه من أوصله إلى مأمنه من بلاد زواوة من أطراف المغرب. وقال لي شيخنا رحمه الله: كان معي دنانير كثيرة تزودتها من المغرب، واستبطنتها في جبّة كنت ألبسها؛ فلمّا نزل بي ما نزل انتزعها مني حتى إذا بعث أصحابه يشيّعونني إلى المغرب، دفعها إليهم، حتى إذا أوصلوني إلى المأمن، أعطوني إياها وأشهدوا عليّ بها في كتاب حملوه معهم إليه كما أمرهم. ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار، فعاد إلى تلمسان، وقد أفاق من اختلاطه، وانبعثت همّته إلى تعلّم العلم. وكان مائلاً إلى العقليات؛ فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام، وجملة من الأصلين، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان يومئذ قد استفحل ملكه، وكان ضابطاً للأمور، وبلغه عن شيخنا تقدّمه في علم الحساب؛ فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة عماله. وتفادى شيخنا من ذلك؛ فأكرهه عليه، فأعمل الحيلة في الفرار منه، ولحق بفاس أيام السلطان أبي الربيع. وبعث فيه أبو حمّو، فاختفى بفاس عند شيخ التعاليم من اليهود، خلوف المغيلي؛ فاستوفى عليه فنونها، وحذق. وخرج متوارياً من فاس؛ فلحق بمراكش، أعوام عشروسبعمائة. ونزل على الإمام أبي العبّاس بن البنّاء شيخ المعقول والمنقول، والمّبرز في التصوّف علماً وحالاً، فلزمه، وأخذ عنه. وتضلّع من علم المعقول والتعاليم والحكمة. ثم استدعاه شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، وكان ممرضا في طاعه السلطان؛ فصعد إليه شيخنا وأقام عنده مدة، قرأ عليه فيها وحصّل. واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ، فكثرت إفادته، واستفادته، وعلي بن محمد في ذلك على محبته وتعظيمه، ومحبته، وامتثال إشارته، فغلب على هواه، وعظمت رياسته في تلك القبائل. ولما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من جبله، نزل الشيخ معه، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كلّ ناحية؛ فانتشر علمه، واشتهر ذكره، فلمّا فتح السلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام، ذكره له بأطيب الذكر، ووصفه بالتقدّم في العلوم. وكان السلطان معتنياً بجمع العلماء بمجلسه، كما ذكرنا. فاستدعاه من مكانه بفاس، ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه، وعكف على التدريس والتعليم، ولزم صحابة السلطان، وحضر معه واقعة طريف، وواقعة القيروان بأفريقية. وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله صحابة، كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه؛ فلزمت مجلسه، وأخذت عنه. وافتتحت العلوم العقليّة بالتعاليم. ثم قرأت المنطق، وما بعده من الأصليْن، وعلوم الحكمة وعرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب، وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا، فأشرنا عليه بالمقام، وثبّطناه عن السفر؛ فقبل، وأقام. وطالبنا به السلطان أبو الحسن؛ فأحسنّا له العذر. فتجافى عنه، وكان من حديث غرقه في البحر ما قدّمناه. وأقام الشيخ بتونس، ونحن وأهل بلدنا جميعاً نتساجل هنتاتة، وفرغ ابنه أبو عنان من شواغله، وملك تلمسان من بني عبد الواد، كتب فيه يطلبه من صاحب تونس، وسلطانها يومئذ أبو إسحق ابراهيم ابن السلطان أبي يحيى، في كفالة شيخ الموحّدين أبي محمد بن تافراكين؛ فأسلمه إلى سفيره، وركب معه البحر في أسطول السلطان الذي جاء فيه السفير. ومرّ ببجاية، ودخلها، وأقام بها شهراً، حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول. ثم ارتحل، ونزل بمرسى هنين وقدم على السلطان بتلمسان، وأحلّه محل التكرمة، ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء. وكان يقرأ عليه، ويأخذ عنه إلى أن هلك بفاس سنة سبع وخمسين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة.
وأمّا عبد المهيمن كاتب السلطان أبي الحسن، فأصله من سبتة، وبيتهم بها قديم، ويعرفون ببني عبد المهيمن وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني العزفي. ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته، وأخذ عن مشيختها. واختصّ بالأستاذ أبي إسحق الغافقي. ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد، صاحب الأندلس، سبتة ونقل بني العزفي، مع جملة أعيانها إلى غرناطة، ونقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن، وابنه عبد المهيمن؛ فاستكمل قراءة العلم هنالك وأخذ عن أبي جعفر بن الزبير ونظرائه، وتقدّم في معرفة كتاب سيبويه، وبرز في علو الإسناد، وكثرة المشيخة. وكتب له أهل المغرب والأندلس والمشرق، واستكتبه رئيس الأندلس يومئذ، الوزير أبو عبد الله بن الحكيم الرُندي، المستبد على السلطان المخلوع من بني الأحمر، فكتب عنه، ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه، مثل المحدّث الرحالة أبي عبد الله بن رشيد الفهري، وأبي العباس أحمد العزفي، والعالم الصوفيّ المتجرّد، أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني، وكانا لا يجاريان في البلاغة والشعر- إلى غير هؤلاء ممن كان مختصًّاً به؛ وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة. فلما انكب الوزير ابن الحكيم، وعادت سبتة إلى طاعة بني مرين عاد عبد المهيمن إليها واستقر بها، ثم ولى الأمرأبو سعيد، وغلب عليه ابنه أبو علي، واستبدّ بحمل الدولة. تشّوف إلى استدعاء الفضلاء، وتجمّل الدولة بمكانهم فاستقدم عبد المهيمن من سبتة، واستكتبه سنة إثنتي عشرة وسبعمائة. ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة وسبعمائة، وامتنع بالبلد الجديد، وخرج منها إلى سجلماسة لصلح عقده مع أبيه، فتمسّك السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن، واتخذه كاتباً، إلى أن دفعه لرياسة الكتّاب، ورسم علامته في الرسائل
والأوامر؛ فتقدّم لذلك سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ولم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. وسار مع أبي الحسن إلى أفريقية، وتخلّف عن واقعة القيروان بتونس؛ لما كان به علّة التقرس. فلمّا كانت الهيعة بتونس، ووصل خبر الواقعة، وتحيّز أولياء السلطان إلى القصبة، مع حرمه، تسرب عبد المهيمن في المدينة، منتبذاً عنهم، وتوارى في بيتنا، خشية أن يصاب معهم بمكروه. فلمّا انجلت تلك الغيابة. ورجع السلطان من القيراوان إلى سوسة، وركب منها البحر إلى تونس، أعرض عن عبد المهيمن، لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة، وجعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين، وقد كانت من قبل مقصورة من قبل على هذا البيت، وأقام عبد المهيمن عطلاً من العمل مدة أشهر. ثم اعتبه السلطان، ورضي عنه، وأعاد إليه العلامة كما كان، وهلك لأيام قلائل بتونس في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة. ومولده سنة خمس وسبعين وستمائة من المائة قبلها، وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة فليطالعه هناك من أحبّ الوقوف عليه. وإما ابن رضوان الذي ذكره الرحويّ في قصيدته، فهو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان البحاري؛ أصله من الأندلس نشأ بمالقة، وأخذ عن مشيختها، وحذق في العربية والأدب، وتفنّن في العلوم، ونظم ونثر، وكان مجيداً في الترسيل، ومحسناً في كتابة الوثائق. وارتحل بعد واقعة طريف، ونزل بسبتة، ولقي بها السلطان أبا الحسن، ومدحه، وأجازه، واختصّ بالقاضي إبراهيم بن أبي يحيى، وهو يومئذ قاضي العساكر، وخطيب السلطان، وكان يستنيبه في القضاء والخطابة، ثم نظمه في حلبة الكتّاب بباب السلطان. واختص بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتاب
والأخذ عنه، إلى أن رحل السلطان إلى أفريقية، وكانت واقعة القيروان، وانحصر بقصبة تونس مع من انحصر بها من أشياعه مع أهله وحرمه. وكان السلطان قد خلّف ابن رضوان هذا بتونس في بعض خدمه، فجلا عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات. وتولّى كبر ذلك، فقام فيه أحسن قيام، إلى أن وصل السلطان من القيروان، فرعى له حق خدمته، تأنيساً، وقرباً، وكثرة استعمال، إلى أن ارتحل من تونس في الأسطول، إلى المغرب سنة خمسين وسبعمائة كما مرّ. واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل وخلّف أبا القاسم بن رضوان كاتباً له؛ فأقاما كذلك أياماً. ثم غلبهم على تونس سلطان الموحدّين الفضل ابن السلطان أبي يحى. ونجا أبو الفضل إلى أبيه، ولم يطق ابن رضوان الرحلة معه؛ فأقام بتونس حولاً، ثم ركب البحر إلى الأندلس، وأقام بالمريّة مع جملة من هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن؛ كان فيهم عامر بن محمد بن علي شيخ هنتاتة، كافلاً لحرم السلطان أبي الحسن؛ وابنه. أركبهم السفين معه من تونس عندما ارتحل؛ فخلص إلى الأندلس، ونزلوا بالمرية، وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس؛ فلحق بهم ابن رضوان، وأقام معهم. ودعاه أبو الحجاج سلطان الأندلس إلى أن يستكتبه فامتنع، ثم هلك السلطان أبو الحسن، وارتحل مخلّفه الذين كانوا بالمرّية. ووفدوا على السلطان أبي عنان. ووفد. معهم ابن رضوان؛ فرعى له وسائله في خدمة أبيه، واستكتبه، واختصه بشهود مجلسه، مع طلبة العلم بحضرته. وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة، ونجي الخلوة، وصاحب العلامة، وحسبان الجباية والعساكر، قد غلب على هوى السلطان، واختص به؛ فاستخدم له ابن رضوان حتى علق منه بدمه. ولاية وصحبة، وانتظاماً في السمر، وغشيان المجالس الخاصة، وهو من ذلك يدنيه من السلطان. وينفق سوقه عنده، ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهم فحلي بعين السلطان، ونفقت عنده فضائله. فلما سار ابن أبي عمرو في العساكر إلى بجاية، سنة أربع وخمسين، انفرد ابن رضوان بعلامة الكتاب عن السلطان. ثم رجع ابن أبي عمرو، وقد سخطه السلطان؛ فأقصاه إلى بجاية وولاّه
عليها، وعلى سائر أعمالها، وعلى حرب الموحّدين بقسنطينة. وأفرد ابن رضوان بالكتابة، وجعل إليه العلامة، كما كانت لابن أبي عمرو، فاستقلّ بها، موفّر الاقطاع، والإسهام، والجاه. ثم سخطه آخر سبع وخمسين وسبعمائة، وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مدين، والإنشاء والتوقيع لأبي إسحق إبراهيم بن الحاج الغرناطي. فلما كانت دولة السلطان أبي سالم، جعل العلامة لعلي بن محمد بن سعود صاحب ديوان العساكر، والإنشاء والتوقيع والسرّ لمؤلف الكتاب عبد الرحمن بن خلدون. ثم هلك أبو سالم سنة إثنتين وستين، واستبدّ الوزير عمر بن عبد الله على من كفله من أبنائه، فجعل العلامة لابن رضوان، سائر أيامه، وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، واستبدّ بملكه، فلم يزل ابن رضوان على العلامة، وهلك عبد العزيز، وولى ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس، وابن رضوان على حاله، ثم غلب السلطان أحمد على الملك، وانتزعه من السعيد، وأبي بكر بن غازي، وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس، مستبدّاً عليه، والعلامة لابن رضوان، كما كانت، إلى أن هلك بأزمور في حركات السلطان أحمد إلى مراكش، لحصار عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب وأعيانه،هلك كثيرون منهم في الطاعون الجارف بتونس، وغرق جماعة منهم في أسطوله لما غرق، وتخطت النكبة منهم آخرين إلى أن استوفوا ما قدّر من آجالهم. فمن حضر معه بأفريقية من العلماء، شيخنا أبو العباس أحمد بن محمد الزواوي، شيخ القراءات بالمغرب: أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس، وروى عن الرحالة أبي عبد الله محمد بن رشيد، وكان إماماً في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا تجارى. وله مع ذلك صوت من مزامير آل داود، وكان يصلّي بالسلطان التراويح، ويقرأ عليه بعض الأحيان
حزبه. وممن حضر معه بأفريقية، الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصبّاغ من أهل مكناسة. كان مبرّزاً في المعقول والمنقول، وعارفاً بالحديث وبرجاله، وإماماً في معرفة كتّاب الموطأ وإقرائه أخذ العلوم عن مشيخة فاس ومكناسة، ولقي شيخنا أبا عبد الله الأيلّئ، ولازمه، وأخذ عنه العلوم العقلية فاستنفد بقية طلبه عليه، فبرز آخراً، واختاره السلطان لمجلسه، واستدعاه، ولم يزل معه إلى أن هلك غريقاً في ذلك الأسطول. ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد النور، من أعمال ندرومة، ونسبه في صنهاجة كان مبرّزاً في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس، تفقّه فيه على الأخوين أبي زيد، وأبي موسى ابني الإمام، وكان من جملة أصحابهما. ولما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان، رفع من منزلة ابني الإمام، واختصهما بالشورى في بلدهما. وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري لهم الأرزاق، ويعمر بهم مجلسه؛ فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه من ينظمه في فقهاء المجالس؛ فأشاروا عليه بابن عبد النور هذا؛ فأدناه، وقرّب مجلسه، وولاه قضاء عسكره، ولم يزل في جملته إلى أن هلك في الطاعون بتونس سنة تسع وأربعين. وكان قد خلف بتلمسان أخاه علياً رفيقه في دروس ابن الإمام، إلا أنه أقصر باعاً منه في الفقه. فلمّا خلع السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن، ونهض إلى فاس، استنفره في جملته. وولاّه قضاء مكناسة؛ فلم يزل بها، حتى إذا تغلّب عمر بن عبد الله على الدولة كما مرّ، نزع إلى قضاء فرضه؛ فسرّحه. وخرج حاجا سنة أربع وستين؛ فلما قدم على مكة، وكان به بقيه مرض، هلك في طواف القدوم. وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد، وأن يبلغ وصيته به للأمير المتغلب على الديار المصرية يومئذ، يلبغا الخاصكي، فأحسن خلافته فيه، وولاّه من وظائف الفقهاء ما
سدّ به خلّته، وصان عن سؤال الناس وجهه؛ وكان له عفا الله عنه كلف بعمل الكيمياء، تابعاً لمن غلظ في ذلك من أمثاله. فلم يزل يعاني من ذلك ما يورّطه مع الناس في دينه وعرضه، إلى أن دعته الضرورة للترحل عن مصر، ولحق ببغداد. وناله مثل ذلك؛ فلحق بماردين، واستقر عند صاحبها، وأحسن جواره، إلى أن بلغنا بعد التسعين أنه هلك هنالك حتف أنفه، والبقاء لله وحده. ومنهم شيخ التعاليم أبو عبد الله محمد بن النجّار من أهل تلمسان؛ أخذ العلم ببلده عن مشيختها، وعن شيخنا الآُيلي، وبرّز عليه. ثم ارتحل إلى المغرب، فلقي بسبتة إمام التعاليم، أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجسطي في الهيئة، وأخذ بمراكش عن الإمام أبي العباس بن البناء، وكان إماماً في علوم النجامة وأحكامها، وما يتعلق بها، ورجع إلى تلمسان بعلم كثير، واستخلصته الدولة. فلما هلك أبو تاشفين، وملك السلطان أبو الحسن، نظمه في جملته وأجرى له رزقه، فحضر معه بإفريقية، وهلك في الطاعون. ومنهم أبو العباس أحمد بن شعيب من أهل فاس، برع في الادب واللسان، والأدب، والعلوم العقلية، من الفلسفة، والتعاليم، والطب، وغيرها، ونظمه السلطان أبو سعيد في جملة الكتاب، وأجرى عليه رزق الأطباء لتقدمه فيه؛ فكان كاتبه، وطبيبه؛ وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده؛ فحضر بأفريقية، وهلك بها في ذلك الطاعون. وكان له شعر سابق به الفحول من المتقدّمين والمتأخّرين، وكانت له إمامة في نقد الشعر، وبصر به؛ وما حضرني الآن من شعره:
- دار الهوى نجد وساكنهــــــا أقصى أماني النفس من نجد
- هل باكر الوسمي ساحتهـــــا واستن في قيعانها الجــرد
- أو بات معتل النسيم بهــــــا مستشفياً بالبان والرنـــد
- يتلو أحاديث الذين هـــــــم قصدي وإن جاروا عن القصد
- أيام سمر ظلالها وطنــــــي منها وزرق مياههــا وردي
- ومطارح النظرات في رشـــاءٍ أحوى المدامع أهيف القـــد
- يرنو إليك بعين جــاريــــة قُتل المحب بها على عمـــد
- حتى أجدّ على عجـــــــل ريب الخطوب وعاثر الجــد
- فقدوا فما وأبيك بعدهــــــم ما عشت لا آسى على الفقــد
- وغدوا: دفيناً قد تضمّنـــــه بطن الثرى وقرارة اللحــد
- ومشرداً من دون رؤيتـــــه قذف النوى وتنوفة البعـــد
- أجرى علي العيش بعدهــــم أني فقدت جميعهم وحـــدي
- لا تلحني يا صاح في شجـــن أخفيت منه فوق ما أبـــدي
- بالقرب لي سكن تأوبنـــــي من ذكره سهد على سهـــد
- فرخان قد تركا بمضيعـــــةٍ زويت عن الرفداء والـــرفد
ومنهم صاحبنا الخطيب أبو عبد الله بن أحمد بن مرزوق من أهل تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعُباد، ومتوارثين خدمة تربته، من لدن جدهم خادمه في حياته. وكان جده الخامس أو السادس، واسمه أبو بكر بن مرزوق، معروفاً بالولاية فيهم. ولما هلك دفنه يغمراسن بن زيان، سلطان بتلمسان من بني عبد الواد، ففي التربة بقصره، ليدفن بإزائه، متى قدّر بوفاته. ونشأ محمد هذا بتلمسان. ومولده فيما أخبرني سنة عشر وسبعمائة وارتحل مع أبيه إلى المشرق
. وجاور أبوه بالحرمين الشريفين، ورجع هو إلى القاهرة؛ فأقام بها. وقرأ على برهان الدين الصفاقسي المالكي وأخيه. وبرع في الطلب والرواية، وكان يجيد الخطّين؛ ثم رجع سنة خمس وثلاثين وسبعمائة إلى المغرب، ولقي السلطان أبا الحسن بمكانه من حصار تلمسان، وقد شيد بالعباد مسجداً عظيماً؛ وكان عمه محمد بن مرزوق خطيباً به على عادتهم بالعبّاد. وتوفي، فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمّه. وسمعه يخطب على المنبر، ويشيد بذكره، والثناء عليه، فحلا بعينه، واختصه، وقرّبه، وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام، ويأخذ نفسه بلقاء الفضلاء، والأكابر، والأخذ عنهم؛ والسلطان في كل يوم يزيده رتبة؛ وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين؛ فكان يستعمله في السفارة عنه إلى صاحب الأندلس. ثم سفر عنه، بعد أن ملك أفريقية، إلى ابن أدفونش ملك قشتاله في تقرير الصلح، واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين. كان أسر يوم طريف، فغاب في تلك السفارة عن واقعة القيروان. ورجع بأبي تاشفين مع طائفة من زعماء النصرانيّة، جاءوا في السفارة عن ملكهم، ولقيهم خبر واقعة القيروان، بقسنطينة، من بلاد أفريقية، وبها عامل السلطان وحاميته، فثار أهل قسنطينة بهم جميعأ، ونهبوهم، وخطبوا للفضل ابن السلطان أبي يحيى، وراجعوا دعوة الموحّدين، واستدعوه فجاء إليهم، وملك البلد. وانطلق ابن مرزوق عائداً إلى المغرب مع جماعة من الأعيان، والعمّال والسفراء عن الملوك. ووفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أمه حظية أبي الحسن وأثيرته. كانت راحلة إليه، فأدركها الخبر بقسنطينة. وحضرت الهيعة. واتصل بها الخبر بتوثب ابنها أبي عنان على ملك أبيه، واستيلائه على فاس؛ فرجعت إليه، وابن مرزوق في خدمتها، ثم طلب اللحاق بتلمسان؛ فسرّحوه إليها، وأقام بالعبّاد مكان سلفه. وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان، قد بايع له قبيله بنو عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس، وابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة، كما مرّ في أخبارهم. وانصرفوا إلى تلمسان، فوجدوا بها أبا سعيد عثمان بن جرّار، من بيت ملوكهم، قد استعمله عليها السلطان أبو عنان، عند انتقاضه على أبيه، ومسيره إلى فاس؛ وانتقض ابن جرّار من بعده، ودعا لنفسه، وصمد إليه عثمان بن
عبد الرحمن ومعه أخوه أبو ثابت وقومهما، فملكوا تلمسان من يد ابن جرّار، وحبسوه ثم قتلوه؛ واستبدّ أبو سعيد بملك تلمسان، وأخوه أبو ثابت يردفه. وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس، وغرق أسطوله، ونجا هو إلى الجزائر، فاحتل بها، وأخذ في الحشد إلى تلمسان؛ فرأى أبو سعيد أن يكف غربه عنهم، بمواصلة تقع بينهما، واختار لذلك الخطيب بن مرزوى؛ فاستدعاه وأسر إليه بما يلقيه عنه للسلطان أبي الحسن، وذهب لذلك على طريق الصحراء. واطلّ أبو ثابت وقومهم على الخبر، فنكروه على أبي سعيد، وعاتبوه فأنكر، فبعثوا صغير ابن عامر في اعتراض ابن مرزوق، فجاء به، وحبسوه أياماً. ثم أجازوه البحر إلى الأندلس؛ فنزل على السلطان أبي الحجّاج بغرناطة، وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف؛ فرعى له أبو الحجّاج ذمة تلك المعرفة، وأدناه، واستعمله في الخطابة بجامعه بالحمراء؛ فلم يزل خطيبه إلى إن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه، واستيلائه على تلمسان وأعمالها؛ فقدم عليه ورعى له وسائله، ونظمه في أكابر أهل مجلسه. وكان يقرأ الكتاب بين يديه في مجلسه العليّ، ويدرّس في نوبته مع من يدرس في مجلسه منهم. ثم بعثه إلى تونس عام ملكها سنة ثمان وخمسين؛ ليخطب له ابنة السلطان أبي يحيى، فردت تلك الخطبة واختفت بتونس. ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعاً على مكانها، فسخطه لذلك، ورجع السلطان من قسنطينة؛ فثار أهل تونس بمن كان بها من عماله وحاميته. واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهدية، فجاء، وملك البلد. وركب القوم الاسطول، ونزلوا بمراسي تلمسان. وأوعز السلطان أبو عنان، باعتقال ابن مرزوق، وخرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدمي الجنادرة ببابه، فلقيه بتاسالة، فقيده هنالك. وجاء به، فأحضره السلطان وقرعه، ثم حبسه مدة، وأطلقه بين يدي مهلكه؛ واضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان، وبايع بنو مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق. وحاصروا البلد الجديد، وبها ابنه السعيد، ووزيره المستبد عليه، الحسن بن عمر؛ وكان السلطان أبو سالم بالأندلس، غرّبه إليها أخوه السلطان أبو عنان، مع بني عمّهم، ولد السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن، وحصولهم جميعاً في قبضته. فلما توفي، أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب، فمنعه رضوان القائم يومئذ بملك الأندلس، مستبداً على ابن السلطان أبي الحجّاج، فلحق هو بإشبيلية، من دار الحرب، ونزل على بطره، ملكهم يومئذ، فهيأ له السفين، وأجازه إلى العدوة، فنزل بجبل الصفيحة، من بلاد غمارة، وقام بدعوته بنو مثنى، وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم، حتى تم أمره، واستولى على ملكه؛ في خبر طويل، ذكرناه في أخبار دولتهم. وكان ابن مرزوق يداخله، وهو بالأندلس، ويستخدم له، ويفاوضه في أموره، وربما كان يكاتبه، وهو بجبل الصفيحة، ويداخل زعماء قومه، في الأخذ بدعوته. فلما ملك السلطان أبو سالم، رعى له تلك الوسائل أجمع، ورفعه على الناس، وألقى عليه محبته، وجعل زمام الأمور بيده، فوطىء الناس عقبه، وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفت الوجوه إليه، فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة، ونقموه على السلطان، وتربصوا به، حتى توثب عمر ابن عبد الله بالبلد الجديد، وافترق الناس عن السلطان. وقتله عمر بن عبد الله آخر إثنتين وستين وسبعمائة، وحبس ابن مرزوق وأغرى به سلطانه الذي نصبه؛ محمد بن عبد الرحمن بن أبي الحسن، فامتحنه، واستصفاه، ثم أطلقه، بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله، فمنعه منهم. ولحق بتونس، سنة أربع وستين، ونزل على السلطان أبي إسحق، وصاحب دولته المستبد عليه، أبي محمد بن تافراكين، فأكرموا نزله، وولوه الخطابة، بجامع الموحدين بتونس. وأقام بها، إلى أن هلك السلطان أبو إسحق سنة سبعين وسبعمائة، وولي ابنه خالد. وزحف السلطان أبو العباس، حافد السلطان أبي يحيى، مقره بقسنطينة إلى تونس، فملكها، وقتل خالداً، سنة إثنتين وسبعين وسبعمائة.
وكان ابن مرزوق يستريب منه، لما كان يميل، وهو بفاس، مع ابن عمّه أبى عبد الله محمد، صاحب بجاية، ويؤثره عند السلطان أبي سالم عليه؛ فعزله السلطان أبو العبّاس عن الخطبة بتونس؛ فوجم لها، وأجمع الرحلة إلى المشرق. وسرّحه السلطان، فركب السفن، ونزل بالإسكندرية، ثم ارتحل إلى القاهرة، ولقي أهل العلم، وأمراء الدولة، ونفقت بضائعه
عندهم، وأوصلوه إلى السلطان، وهو يومئذ الأشرف. فكان يحضر يومئذ مجلسه، وولاه الوظائف العلمية، وكان ينتجع منها معاشه. وكان الذي وصل حبله بالسلطان أستاذ داره محمد بن أقبغا آص، لقيه أول قدومه، فحلا بعينه، واستظرف جملته، فسعى له، وأنجح سعايته، ولم يزل مقيماً بالقاهرة، موقّر الرتبة، معروف الفضيلة، مرشحا لقضاء المالكية، ملازما للتدريس في وظائفه، إلى إن هلك سنة إحدى وثمانين.هذا ذكر من حضرنا من جملة السلطان أبي الحسن، من أشياخنا، وأصحابنا؛ وليس موضوع الكتاب الإطالة فلنقتصر على هذا القدر، ونرجع إلى ما كنا فيه من أخبار المؤلف.
ولاية العلامة بتونس، ثم الرحلة بعدها إلي المغرب، والكتابة على السلطان أبي عنان: ولم أزل منذ نشأت، وناهزت مكبّاً على تحصيل العلم، حريصاً على اقتناء الفضائل، متنقّلاً بين دروس العلم وحلقاته، إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب بالأعيان، والصدور، وجميع المشيخة، وهلك أبواي، رحمهما الله. ولزمت مجلس شيخنا أبي عبد الله الآيُلّيالأُيُلّي؛ وعكفت على القراءة عليه ثلاث سنين، إلى أن شدوت بعض الشىء؛ واستدعاه السلطان أبو عنان، فارتحل إليه، واستدعاني أبو محمد بن تافراكين، المستبد على الدولة يومئذ بتونس، إلى كتابة العلامة عن سلطانه أبي إسحق. مذ نهض إليهم من قسنطينة صاحبها الأمير أبو زيد، حافد السلطان أبي يحيى في عساكره، ومعه العرب أولاد مهلهل الذين استنجدوه لذلك، فأخرج ابن تافراكين سلطانه أبا إسحق مع العرب، أولاد أبي الليل، وبث العطاء في عسكره، وعمر له المراتب والوظائف. وتعلل عليه صاحب العلامة أبو عبد الله بن عمر بالإستزادة من العطاء؛ فعزله، وأدالني منه؛ فكتبت العلامة عن لالسلطان، وهي وضع "الحمد لله والشكر لله "، بالقلم الغليظ، مما بين البسملة وما بعدها، من مخاطبة أو مرسوم وخرجت
معهم أول سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. وقد كنت منطوياً على الرحلة من أفريقية، لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي، وعطلاتني عن طلب العلم. فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب، وانحسر تيّارهم عن أفريقية، وأكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة وأشياخ، فاعتزمت على اللحاق بهم. وصدّني عن ذلك أخى وكبيري محمد، رحمه الله، فلما دُعيت إلى هذه الوظيفة، سارعت إلى الإجابة، لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب، وكان كذلك، فإنّا لمّا خرجنا من تونس، نزلنا بلاد هوّارة، وزحفت العساكر بعضها إلى بعض؛ بفحص مرما جنَّة، وانهزم صفُّنا، ونجوت أنا إلى أبَّة؛ فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوشستناتني، من كبراء المرابطين. ثم تحوّلت إلى سبتة، ونزلت بها على محمد بن عبدون، صاحبها؛ فأقمت عنده ليالي حتى هيّأ لي الطريق، وبذرق لي مع رفيق من المغعرب، وسافرت إلى قفصة، وأقمت بها أياماً أترصد الطريق، حتى قدم علينا بها الفقيه محمد بن الرئيس منصور بن مزني، وأخوه يوسف يومئذ صاحب الزاب. وكان هو بتونس، فلمّا حاصرها الأمير أبو زيد، خرج إليه، فكان معه. ثم بلغهم الخبر بأنّ السلطان أبا عنان ملك المغرب، نهض إلى تلمسان؛ فملكها، وقتل سلطانها، عثمان بن عبد الرحمن، وأخاه أبا ثابت، وأنه انتهى إلى المدية، وملك بجاية من يد صاحبها، الأمير أبي عبد الله من حفدة السلطان أبي يحيى، راسله عندما أطلّ على بلده؛ فسار إليه، ونزل له عنها، وصار في جملته، وولى أبو عنان على بجاية عمر بن علي شيخ بني وطّاس، من بني الوزير شيوخهم. فلمّا بلغ هذا الخبر، أجفل الأمير عبد الرحمن من مكانه على حصار تونس، ومرّ بقفصة، فدخل إلينا محمد بن مزني ذاهباً إلى الزاب؛ فرافقته إلى بسكرة، ودخلت إلى أخيه هنالك. ونزل هو ببعض قرى الزاب تحت جراية أخيه، إلى أن انصرم الشتاء.
وكان أبو عنان لما ملك بجاية، ولى عليها عمر بن علي بن الوزير، من شيوخ بني وطّاس، وجاء فارح، مولى الأمير أبي عبد الله لنقل حرمه وولده، فداخل بعض السفهاء من صنهاجة في قتل عمر بن علي فقتله في مجلسه. ووثب هو على البلد، وبعث إلى الأمير أبي زيد، يستدعيه من قسنطينة؛ فتمشّت رجالات البلد بينهم بينهم خشية من سطوة السلطان.
ثم ثاروا بفارح فقتلوه، وأعادوا دعوة السلطان كما كانت. وبعثوا عن عامل السلطان بتدلس، يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن، ي خ بني ونكاسن من بني مرين، فملكوه قيادهم. وبعثوا إلى السلطان بطاعتهم؛ فأخرج لوقته حاجبه محمد بن أبي عمرو، وأكثف له الجند، وصرف معه وجوه دولته وأعيان بطانته. وارتَحَلْتُ من بسكرة، وافداً على السلطان أبي عنان بتلمسان، فلقيت ابن أبي عمرو بالبطحاء، وتلقّاني من الكرامة بما لم أحتسبه، وردّني معه إلى بجاية، فشهدت الفتح. وتسايلت وفود أفريقية إليه فلمّا رجع السلطان، وفدت معهم، فنالني من كرامته وإحسانه ما لم أحتسبه، إذ كنت شاباً لم يطّر شاربي. ثم انصرفت مع الوفود، ورجع ابن أبي عمرو إلى بجاية؛ فأقمت عنده، حتى انصرم الشتاء من أواخر أربع وخمسين وسبعمائة؛ وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس، وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه، وجرى ذكري عنده، وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس، فأخبره الذين لقيتهم بتونس عني، ووصفوني له؛ فكتب إلى الحاجب يستقدمني، فقدمت عليه، سنة خمس وخمسين وسبعمائة، ونظمني في أهل مجلسه العلمي، وألزمني شهود الصلوات معه؛ ثم استعملني في كتابته، والتوقيع بين يديه، على كره مني، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي. وعكفت على النظر، والقراءة، ولقاء المشيخة، من أهل المغرب، ومن أهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة؛ وحصلت من الإفادة منهم على البغية. وكان في جملته يومئذ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الصفّار، من أهل مراكش إمام القراءآت لوقته؛ أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب، وكبيرهم شيخ المحدثين الرحّالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهري، سيّد أهل المغرب، وكان يعارض السلطان القرآن برواياته السبع إلى أن توفي. ومنهم: قاضي الجماعة بفاس، أبو عبد الله محمد المغربي، صاحبنا، من أهل تلمسان. أخذ العلم بها عن أبي عبد الله السلاوي، ورد عليها من المغرب خلوا من المعارف. ثم دعته همته إلى التحلي بالعلم، فعكف في بيته على مدارسة القرآن فحفظه، وقرأه بالسبع. ثم عكف على كتاب التسهيل في العربية، فحفظه ثم على مختصر ابن الحاجب في الفقه، والأصول، فحفظهما، ثم لزم الفقيه عمران المشدّ الي من تلاميذ أبي علي ناصر الدين وتفقه عليه، وبرز في العلوم، إلى حيث لم تلحق غايته. وبنى السلطان أبو تاشفين مدرسة بتلمسان، فقدّمه للتدريس بها، يضاهي به أولاد الإمام. وتفقّه عليه بتلمسان جماعة، كان من أوفرهم سهماً في العلوم أبو عبد الله المغربي هذا.
ولما جاء شيخنا أبو عبد الله الابلي إلى تلمسان، عند استيلاء السلطان أبي الحسن عليها، وكان أبو عبد الله السلوي قد قتل يوم فتح تلمسان، قتله بعض أشياع السلطان، لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي على بسجلماسة، قبل انتحاله العلم، وكان السلطان توعده عليه، فقتل بباب المدرسة، فلزم أبو عبد الله المغربي بعده مجلس شيخنا الايليئ، ومجالس إبني الإمام، واستبحر في العلوم وتفنّن. ولما انتقض السلطان أبو عنان، سنة تسع وأربعين وخلع أباه، ندبه إلى كتب البيعة، فكتبها وقرأها على الناس في يوم مشهود. وارتحل مع السلطان إلى فاس، فلمّا ملكها، عزل قاضيها الشيخ المعمّر أبا عبد الله بن عبد الرزاق وولاّه مكانه، فلم يزل قاضياً بها، إلى أن أسخطه لبعض النزعات الملوكيّة، فعزله وأدال منه بالفقيه أبي عبد الله الفشتالي آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة، ثم بعثه في سفارة إلى الأندلس، فامتنع من الرجوع. وقام السلطان لها في ركابه، ونكر على صاحب الأندلس ابن الأحمر تمسّكه به، وبعث إليه فيه يستقدمه، فلاذ منه ابن الأحمر بالشفاعة فيه، واقتضى له كتاب أمان بخط السلطان أبي عنان، وأوفده مع الجماعة من شيوخ العلم بغرناطة، ومنهم: القاضيان بغرناطة، شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي، شيخ الدنيا جلالة وعلماً ووقاراً، ورياسةً، وإمام اللسان حوكا ونقداً، في نظمه ونثره. وشيخنا الآخر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحاج البلقيني من أهل المرية، شيخ المحدّثين والفقهاء والأدباء والصوفية والخطباء
بالأندلس، وسيّد أهل العلم بإطلاق، والمتفنن في أساليب المعارف، وآداب الصحابة للملوك فمن دونهم؛ فوفدوا به على السلطان شفيعين على عظيم تشوّقه للقائهما؛ فقبلت الشفاعة، وأنجحت الوسيلة.
حضرت بمجلس السلطان يوم وفادتهما، سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وكان يوماً مشهوداً. واستقرّ القاضي المغربي في مكانه، بباب السلطان، عُطلاً من الولاية والجراية. وجرت عليه بعد ذلك محنة من السلطان، بسبب خصومة وقعت بينه وبين أقاربه امتنع من الحضور معهم عند القاضي الفشتالي، فتقدّم السلطان إلى بعض أكابر الوزعة ببابه، أن يسحبه إلى مجلس القاضي حتى ينفذ فيه حكمه، فكان الناس يعدّونها محنة. ثم ولاّه السلطان، بعد ذلك، قضاء العساكر في دولته، عندما ارتحل إلى قسنطينة. فلما افتتحها، وعاد إلى دار ملكه بفاس آخر ثمان وخمسين وسبعمائة، اعتلّ القاضي المغربي في طريقه، وهلك عند قدومه بفاس. ومنهم صاحبنا الإمام العالم الفذ، فارس المعقول والمنقول، صاحب الفروع والأصول، أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني، ويعرف بالعلوي، نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان، تسمّى العلوين، فكان أهل بلده لا يدافعون في نسبهم، وربّما بغمز فيه بعض الفجرة، ممن يروعه دينه، ولا معرفته بالأنساب، ببعض من اللغو، لا يلتفت إليه. نشأ هذا الرجل بتلمسان، وأخذ العلم عن مشيختها، واختص بأولاد الإمام، وتفقّه عليهما في الفقه، والأصول والكلام؛ ثم لزم شيخنا أبا عبد الله الآبلي. وتضلّع من معارفه؛ فاستبحر، وتفجّرت ينابيع العلوم من مداركه؛ ثم ارتحل إلى تونس في بعض مذاهبه، سنة أربعين، ولقي شيخنا القاضي أبا عبد الله بن عبد السلام، وحضر مجلسه، وأفاد منه، واستعظم رتبته في العلم. وكان ابن عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محله، ويعرف حقه، حتى لقد زعموا أنه كان يخلو به في بيته، فيقرأ عليه فصل التصوّف من كتاب الإشارات لابن سينا، بما كان هو أحكم ذلك الكتاب على شيخنا الآبلي؛ وقرأ عليه كثيراً من كتاب الشفاء لابن سينا، ومن تلاخيص كتب أرسطو لابن رشد، ومن الحساب والهندسة، والفرائض، علاوة على ما كان يحمله من الفقه والعربية وسائر علوم الشريعة. وكانت له في كتب الخلافيات يد
طولى، وقدم عالية، فعرف له ابن عبد السلام ذلك كله، وأوجب حقه وانقلب إلى تلمسان؛ وانتصب لتدريس العلم وبثه، فملأ المغرب معارف وتلاميذ، إلى اضطراب المغرب، بعد واقعة القيروان؛ ثم هلك السلطان أبو الحسن، وزحف ابنه أبو عنان، إلى تلمسان؛ فملكها، سنة ثلاث وخمسين؛ فاستخلص الشريف أبا عبد الله، واختاره لمجلسه العلمي، مع من اختار من المشيخة. ورحل به إلى فاس، فتبرم الى شريف من الاغتراب، وردّد الشكوى فأحفظ السلطان بذلك، وارتاب به. ثم بلغه أثناء ذلك أنّ عثمان بن عبد الرحمن، سلطان تلمسان، أوصاه على ولده، وأودع له مالاً عند بعض الأعيان من أهل تلمسان، وأن الشريف مطلع على ذلك فانتزع الوديعة، وسخط الشريف بذلك ونكبه، وأقام في اعتقاله أشهراً، ثم أطلقه أول ست وخمسين وسبعمائة وأقصاه، ثم أعتبه بعد فتح قسنطينة وأعاده إلى مجلسه، إلى أن هلك السلطان، آخر تسع وخمسين وسبعمائة.
وملك أبو حمّو بن يوسف بن عبد الرحمن تلمسان من يد بني مرين، واستدعى الشريف من فاس، فسرحه القائم بالأمر يومئذ، الوزير عمر بن عبد الله فانطلق إلى تلمساني. وتلقاه أبو حمّو براحتيه، وأصهر له في ابنته، فزؤجها إياه، وبنى له مدرسة جعل في بعض جوانبها مدفن أبيه وعمه. وأقام الشريف يدرس العلم إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين. وأخبرني رحمه الله، إن مولده سنة عشر وسبعمائة . ومنهم صاحبنا الكاتب القاضي أبو القاسم محمد بن يحى البرجي من برجة الأندلس. كان كاتب السلطان أبي عنان، وصاحب الإنشاء والسر في دولته، وكان مختصًّاً به، وأثيراً لديه. وأصله من برجة الأندلس، نشأ بها، واجتهد في العلم والتحصيل، وقرأ، وسمع، وتفقه على مشيخة الأندلس، واستبحر في الأدب، وبرز في النظم والنثر. وكان لا يجارى في كرم الطباع، وحسن المعاشرة، ولين الجانب، وبذل البشر والمعروف.
وارتحل إلى بجاية في عشر الأربعين والسبعمائة، وبها الأمير أبو زكرياء ابن السلطان أبي يحيى، منفرداً بملكها، على حين أقفر من رسم الكتابة والبلاغة، فبادرت أهل الدولة إلى اصطفائه، وإيثاره بخطة الإنشاء، والكتاب عن السلطان، إلى أن هلك الأمير أبو زكريا، ونصب ابنه محمّد مكانه، فكتب عنه على رسمه ثم هلك السلطان أبو يحيى، وزحف السلطان أبو الحسن إلى أفريقية، واستولى على بجاية، ونقل الأمير محمداً بأهله وحاشيته إلى تلمسان، كما تقدّم في أخباره. فنزل أبو القاسم البرجي تلمسان وأقام بها، واتصل خبره بأبي عنان، ابن السلطان أبي الحسن، وهو يومئذ أميرها. ولقيه، فوقع من قلبه بمكان، إلى أن كانت واقعة القيروان.
وخلع أبو عنان، واستبدّ بالأمر، فاستكتبه وحمله إلى المغرب، ولم يسم به إلى العلامة، لأنه آثر بها محمد بن أبي عمر بما كان أبوه يعلّمه القرآن والعلم. وربّي محمد بداره، فولاه العلامة، والبرجي مرادف له في رياسته، إلى أن انقرضوا جميعاً. وهلك السلطان أبو عنان، واستولى أخوه أبو سالم على ملك المغرب وغلب ابن مرزوق على هواه كما قدّمناه؛ فنقل البرجي من الكتابة، واستعمله في قضاء العساكر، فلم يزل على القضاء، إلى أن هلك سنة ست وثمانين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن مولده سنة عشر وسبعمائة. ومنهم: شيخنا المعمّر الرحالة أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق شيخ وقته جلالة وتربية وعلماً وخبرةً بأهل بلده، وعظمة فيهم. نشأ بفاس، وأخذ عن مشيختها. وارتحل إلى تونس فلقي القاضي أبا إسحق بن عبد الرفيع، والقاضي أبا عبد الله النفزاوي، وأهل طبقتهما. وأخذ عنهم، وتفقّه عليهم، ورجع إلى المغرب. ولازم سنن الأكابر والمشايخ، إلى أن ولاّه السلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس فأقام على ذلك، إلى أن جاء السلطان أبو عنان من تلمسان، بعد واقعة القيروان، وخلعه أباه، فعزله بالفقيه أبي عبد الله المغربى، وأقام عطلا في بيته. ولما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه، والإفادة منهم، واستدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق فكان يأخذ عنه الحديث، ويقرأ عليه القرآن برواياته، في مجلس خاص إلى أن هلك، رحمه الله، بين يدي مهلك السلطان أبي عنان. إلى آخرين، وآخرين، من أهل المغرب والأندلس، كلهم لقيت وذاكرت وأفدت منه، وأجازني بالإجازة العامّة.
حدوث النكبة من السلطان أبي عنان:
كان اتصالي بالسلطان أبي عنان، آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة، وقربني وأدناني، واستعملني في كتابته، حتى تكدر جوي عنده، بعد أن كان لا يعبر عن صفائه؛ ثم اعتلّ السلطان، آخر سبع وخمسين وسبعمائة، وكان قد حصلت بيني و بين الأمير محمد صاحب بجاية من الموحّدين مداخلة، أحكمها ما كان لسلفي في دولتهم. وغفلت عن التحفّظ في مثل ذلك، من غَيْرة السلطان، فما هو إلا أن شغل بوجعه، حتى نمى إليه بعض الغواة، أنّ صاحب بجاية، معتمل في الفرار ليسترجع بلده، وبها يومئذ وزيره الكبير، عبد الله بن عليّ؛ فانبعث السلطان لذلك، وبادر بالقبض عليه. وكان فيما نمي إليه، أني داخلته في ذلك؛ فقبض عليّ، وامتحنني وحبسني، وذلك في ثامن عشر صفر، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ثم أطلق الأمير محمداً، وما زلت أنا في اعتقاله، إلى أن هلك. وخاطبتُه بين يدي مَهْلكه، مستعطفأ بقصيدة أولها:
- على أي حال لليالي أعاتـــــب وأي صروف للزمان أغالب
- كفى حزناً إني على القرب نــازحٌ وأني على دعوى شهُودي غائبُ
- وأني على حكم الحوادث نـــازل تسالمني طوراً وطورأ تحـارب
ومنها في التشوق:
- سلوتهم إلا ادكار معاهــــــد لها في الليالي الغابرات غرائبُ
- وإنّ نسيم الريح منهم يشوقنـــي إليهم وتصبيني البُروق اللواعبُ
وهي طويلة، نحو مائتين بيتاً، ذهبت عن حفظي، فكان لها منه موّقع، وهَشَّ لها. وكان بتلمسان فوعَد بالإفراج عني عند حلوله بفاس، ولخمس ليال من حلوله طرقَه الوجع. وهلك لخمسَ عشرة ليلة، في رابع وعشرين ذي الحجّة، خاتم تسع وخمسين وسبعمائة. وبادر القائم بالدولة، الوزير الحسن بن عُمَر إلى إطلاق جماعة من المعتقلين، كنت فيهم، فخلع عليَّ، وحملني، وأعادني إلى ما كنتُ
عليه. وطلبتُ منه الإنصراف إلى بلدي، فأبىَ عليَّ، وعاملني بوجوه كرامته، ومذاهب إحسانه، إلى أن اضطرب أمُره، وانتقض عليه بنو مرين، وكان ما قدَّمناه في أخبارهم. الكتابة عن السلطان أبي سالم في السر والانشاء: ولما أجاز السلطان أبو سالم من الأندلُس لطلب مُلكه، ونزَل بجبل الصَّفيحة من بلاد غُماره. وكان الخطيب ابن مرزوق بفاس، فبثَّ دعوته سراً، واستعان بي على أمره، بما كان بيني وبين أشياخ بني مرين من المحبَّة والائتلاف؛ فحملتُ الكثير منهم على ذلك، وأجابوني إليه، وأنا يومئذ أكتب عن القائم بأمر بني مرين منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، وقد نصبوه للملك، وحاصروا الوزير الحسن بن عُمر، وسلطانه السَّعيد ابن أبي عِنَان، بالبلد الجديد. فقصدني ابنُ مرزوق في ذلك، وأوصل إليَّ كتاب السلطان أبي سالم. بالحضّ على ذلك، وإجمال الوعد فيه. وألقى عليَّ حمله؛ فنهَضت به، وتقدّمتُ إلى شيوخ بني مرين، وأمراء الدولة بالتحريض على ذلك، حتى أجابوا، وبعث ابنُ مرزوق إلى الحسن بن عُمَر، يدعو إلى طاعة السلطان أبي سالم، وقد ضجر من الحصار؛ فبادر إلى الإجابة. واتفق رأي بَني مرين على الانفضاض عن منصور بن سُليمان، والدخول إلى البلد الجديد؛ فلما تمّ عقدُهم على ذلك نزعتُ إلى السلطان أبي سالم في طائفة من وجوه أهل الدولة، كان منهم محمد بن عثمان بن الكاس، المستبدّ بعد ذلك بمُلك المغرب على سلطانه، وكان ذلك النُّزوع مبدأ حظّه، وفاتحة رياسته، بسِعايتي له عند السلطان. فلما قدمِتُ على السلطان بالصَّفِيحة، بما عندي من أخبار الدولة، وما أجمعوا عليه من خَلْع منصور بن سليمان، وبالموعد الذي ضربوه لذلك، واستحثثته. فارتحل، ولقِيَنا البشيرُ بإجفال منصور بن سليمان، وفراره إلى نواح بادِس، ودخول بني مرين إلى البلد الجديد، وإظهار الحسن بن عُمر دَعوةَ السلطان أبي سالم. ثم لقِيَتنا، بالقصر الكبير، قبائلُ السلطان، وعساكرُه، على راياتهم، ووزيرُ منصور بن سليمان، وهو مسعود بن رَحُّو بن مَاسَايْ؛ فتلقّاه السلطان
بالكرامة كما يجب له، واستوزره نائباً للحسن بن يوسف بن عليّ بن محمد الورتاجني السابق إلى وزارته، لقِيَه بسبتة، وقد غرّ به منصور بن سليمان إلى الأندلس، فاستوزره واستكفاه. ولما اجتمعت العساكر عنده بالقصر، صَعِد إلى فاس. ولقيه الحسن بن عمر بظاهرها؛ فأعطاه طاعته، ودخل إلى دار ملكه وأنا في ركابه، لخمس عشرة ليلة من نزوعى إليه، منتصف شعبان سنة ستين وسبعمائة؛ فرعى لي السابقة، واستعملني في كتابة سرّه، والترسيل عنه، والإنشاء لمخاطباته، وكان أكثرها يصدر عني بالكلام المرسل، أن يشاركني أحد ممن ينتحل الكتابة في الاسجاع، لضعف انتحالها، وخفاء المعاني منها على أكثر الناس، بخلاف غير المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغرباً عند من هم أهل الصناعة. ثم أخذت نفسي بالشعر، وانثال عليّ منه بحور، توسطت بين الإجادة والقصور، وكان مما أنشدته إيّاه، ليلة المولد النبوي من سنة اثنتين وستين وسبعمائة:
- أسرفن في هجري وفي تعذيبـــــي وأطلن موقف عبرتي ونحيبي
- وأبين يوم البين وقفة ساعـــــــة لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
- لله عهد الظاعنين وغـــــــادروا قلبي رهين صبابة ووجيب
- غربت ركائبهم ودمعي سافــــــح فشرقت بعدهم بماء غروب
- يا ناقعا بالعتب غلة شوقهـــــــم رحماك في عذلي وفي تأنيبي
- يستعذب الصب الملام وإننــــــي ماء الملام لدي غير شروب
- ما هاجني طرب ولا اعتاد الجــــوى لو لا تذكر منزل وحبيب
- أصبوا إلى أطلالٍ كانت مطلعـــــاً للبدر منهم أو كناس ربيب
- عبثت بها أيدي البلى وتـــــرددت في عطفها للدهر أي خطوب
- تبلى معاهدها وإن عهودهـــــــا ليجدها وصفي وحسن نسيبي
- واذا الديار تعرضت لمتيــــــــم هزته ذكراها إلى التشبيب
- إيه عن الصبر الجميل فإنـــــــه ألوى بدين فؤادي المنهوب
- لم أنسها والدهر يثني صرفــــــه ويغض طرفي حاسد ورقيب
- والدار مونقة محاسنها بمـــــــا لبست من الأيام كلى قشيب
- يا سائق الأظعان يعتسف الفـــــلا ويواصل الأسآد بالتأويب
- متهافتاً عن رحل كل مذلـــــــل نشوان من أين ومس لغوب
- تتجاذب النفحات فضل ردائــــــه في ملتقاها من صبا وجنوب
- إن هام من ظمإ الصبابة ضحبـــــه نهلوا بمورد دمعه المسكوب
- أو تعترض مسراهم سدف الدجــــى صدعوا الدجى بغرامه المشبوب
- في كل شعب منية من دونهــــــا هجر الأماني أو لقاء شعوب
- هلا عطفت صدورهن إلى التـــــي فيها لبانة أعين وقلوب
- فتؤم من أكناف يثرب مأمنـــــــاً يكفيك ما تخشاه من تثريب
- حيث النبوة آيها مجلـــــــــوة تتلو من الآثار كل غريب
- سر عجيب لم يحجبه الثـــــــرى ما كان سر الله بالمحجوب
ومنها بعد تعديد معجزاته صلى الله عليه وسلم، والإطناب في مدحه:
- إني دعوتك واثقاً بإجابتــــــي يا خير مدعو وخير مجيب
- قصرت في مدحي فإن يك طيبـــاً فبما لذكرك من أريج الطيب
- ماذا عسى يبغي المطيل وقد حــوى في مدحك القرآن كل مطيب
- يا هل تبلغني الليالـــــــي زورةً تدني إليّ الفوز بالمرغوب
- أمحو خطيئاتي بإخلاصي بهــــــا وأحط أوزاري وإصر ذنوبي
- في فتية هجروا المنى وتعـــــودوا إنضاء كل نجيبة ونجيب
- يطوي صحائف ليلهم نوق الفـــــلا ما شئت من خببٍ ومن تقريب
- إن رنم الحادي بذكــــــرك رددوا أنفاس مشتاق إليك طروب
- أو غرد الركب الخلي بطيبــــــة حنوا لمغناها حنين النيب
- ورثوا اعتساف البيد عن آبائهـــــم إرث الخلافة في بني يعقوب
- الظاعنون الخيل وهي عوابـــــس يغشى مثار النقع كل سبيب
- والواهبين المقربات صوافنــــــاً من كل خوار العنان لعوب
- والمانعين الجار حتى عرضــــــه في منتددى الاعداء غير معيب
- تخشى بوادرهم ويرجى حلمهـــــم والعز شيمة مرتجىً ومهيب
ومنها في ذكر إجازته البحر، واستيلائه على ملكه:
- سائل به طامي العباب وقد ســــرى تزجيه ريح العزم ذات هبوب
- تهديه سهب أسنة وعزائــــــــم يصدعن ليلى الحادث المرهوب
- حتى انجلت ظلم الضلال بسعيـــــه وسطا الهدى بفريقها المغلوب
- يابن الألى شادوا الخلافة بالتقـــــى واستأثروك بتاجها المغصوب
- جمعوا الحفظ الدين أفي مناقــــــبٍ كرموا بها في مشهد ومغيب
- لله مجدك طارفاً أو تالـــــــــداً فلقد شهدنا منهن كل عجيب
- كم رهبة أو رغبة بك والعلـــــــى تقتاد بالترغيب والترهيب
- لا زلت مسروراً بأشرف دولــــــة يبدو الهدى من أفقها المرقوب
- تحمي المعالي غاديا أو رائحــــــاً وحديد سعدك ضامن المطلوب
ومن قصيدة خاطبته بها عند وصول هدية ملك السودان إليه، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة:
- قدحت يد الأشواق من زنــــــدي وهفت بقلبي زفرة الوجد
- ونبذت سلواني على ثقـــــــــة بالقرب فاستبدلت بالبعد
- ولرب وصل كنت آملـــــــــه فاعتضت منه بمؤلمٍ الصد
- لا عهد عند الصبر اطلبــــــــه إن الغرام أضاع من عهدي
- يلحى العدول فما أعنفـــــــــه وأقول ضل فأبتغي رشدي|
- وأعارض النفحات أسألهــــــــا برد الجوى فتزيد في الوقد
- يهدى الغرام إلى مسالكهــــــــا لتعللي بضعيف ما تهدي
- يا سائق الأظعان معتسفــــــــاً طي الفلاة لطية الوجد\
- أرح الركاب ففي الصبا نبـــــــأً يغني عن المستنة الجرد
- وسل الربوع برامة خبــــــــراً عن ساكني نجد وعن نجد
- مالي تلام على الهوى خلقـــــــي وهي التي تأبى سوى الحمد
- لأبيت إلا الرشد مذ وضحــــــت بالمستعين معالم الرشد
- نعم الخليفة في هدى وتقـــــــى وبناء عز شامخ الطود
- نجل السراة الغر شأنهـــــــــم كسب العلى بمواهب الوجد
ومنها في ذكر خلوصي إليه، وما ارتكبته فيه:
- لله مني إذ تأوبنـــــــــي ذكراه وهو بشاهق فرد
- شهم يفل بواتراً قضبـــــــاً وجموع أقيالٍ أولي أيد
- أوريت زند العزم في طلبــــي وقضيت حق المجد من قصدي
- ووردت عن ظمأ مناهلــــــه فرويت من عز ومن رفد
- هي جنة المأوى لمن كلفـــــت آماله بمطالب المجد
- لو لم أغل بورد كوثرهــــــا ما قلت هذي جنة الخلد
- من مبلغ قومي ودونهـــــــم قذف النوى وتنوفة البعد
- أني أنفت على رجائهـــــــم وملكت عز جميعهم وحدي
- ورقيمة الأعطاف حاليـــــــة موشية بوشائح البرد
- وحشية الأنساب ما أنســــــت في موحش البيداء بالقود
- تسمو بجيد بالغ صعـــــــداً شرف الصروح بغير ما جهد
- طالت رءوس الشامخات بــــه ولربما قصرت عن الوهد
- قطعت إليك تنائفاً وصلـــــت إسآدها بالنص والوخد
- تخدي على استصعابها ذلــــلاً وتبيت طوع القن والقد
- بسعودك اللأتي ضمن لنـــــا طول الحياة بعيشه رغد
- جاءتك في وفد الأحابــــش لا يرجون غيرك مكرم الوفد
- وافوك أنضاء تقلبهـــــــم أندي السرى بالغور والنجد
- كالطيف يستقري مضاجعــــه أو كالحسام يسل من غمد
- يثنون بالحسنى التي سبقــــت من غير إنكار ولا جحد
- ويرون لحظك من ونادتهــــم نخراً على الاتراك والهند
- يامستعيناً جل في شـــــرف عن رتبة المنصور والمهدي
- جازاك ربك عن خليقتـــــه خير الجزاء فنعم ما يسدي
- وبقيت للدنيا وساكنهــــــا في عزةٍ أبداً وفي سعد
وأنشدته في سائر أيامه غير هاتين القصيدتين كثيراً، لم يحضرني الآن شيء منه. ثم غلب ابن مرزوق على هواه، وانفرد بمخالطته، وكبح الشكائم عن قربه؛ فانقبضت، وقصرت الخطو، مع البقاء على ما كنت فيه من كتابة سره، وإنشاء مخاطباته ومراسمه. ثم ولأني آخر الدولة "خطة المظالم "، فوفيتها حقها، ودفعت للكثير مما أرجو وثوابه. ولم يزل ابن مرزوق آخذاً في سعايته بي وبأمثالي من أهل الدولة، غيرة ومنافسة، لى أن انتقض الأمر على السلطان بسببه. وثار الوزير عمر بن عبد الله بدار المفك؛ فصار ليه الناس، ونبذوا السلطان وبيعته، وكان في ذلك هلاكه، على من ذكرناه في أخبارهم.
ولما مقام الوزير ضر بالأمر، أقرني على ما كنت عليه، ووفر إقطاعي، وزاد في جرايتي؛ وكنت أسمو، بطغيان الشباب، إلى أرفع مما كنت فيه، وأدل في ذلك بسابقة مودة معه،
منذ أيام السلطان أبي عنان، وصحابة استحكم عقدها بيني وبينه، وبين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية، فكان ثالث آثافينا، ومصقلة فكاهتنا. واشتدت غيرة سلطان لذلك كما مرّ، وسطا بنا، وتغافل عن غفر بن عبد الله لمكان أبيه من ثغر بجاية؛ ثم حملني الإدلال عليه أيام سلطانه، وما ارتكبه في حي من القصور بي عما أسمو إليه، إلى أن هجرته، وقعدت عن دار السلطان، مغاضباً له؛ فتنكل لي، وأقطعني جانباً من الأعراض؛ فطلبت الرحلة إلى بلدي بإفريقية. وكان بنو عبد الواد قد راجعوا ملكهم بتلمسان، والمغرب الأوسط، فمنعني من ذلك، أن يغتبط أبو حمّو صاحب تلمسان بمكاني، فأقيم عنده. ولج في المنع من ذلك، وأبيت أنا إلا الرحلة؛ واستجرت في ذلك برديفه وصديقا، الوزير مسعود بن رحو بن ماساي، ودخلت عليه يوم الفطر، سنة ثلاث وستين وسبعمائة. فأنشدته:
- هنيئاً لصوم لاعداه قبـــــول وبشرى بعيد أنت فيه منيل
- وهنئتها من عزة وسعـــــادة تتابع أعوام بها وفصول
- سقى الله دهراً أنص إنسان عينه ولا مس ربعاً في حمال محول
- فعصرك ما بين الليالي مواسـم لها غرر وضاحة وحجول
- وجانبك المأمول للجود مشـرع يحوم عليه عالم وجهول
- عساك، وإن ضن الزمان منولي فرسم الأماني من سواك محيل
- أجرني فليس الدهر لي بمسالـم إذا لم يكن لي في ذراك مقيل
- وأوليتني الحسنى بما أنا آمــل فمثلك يؤلى راجياً وينيل
- ووالله ما رمت الترحل عن قلى ولا سخطةً للعيش فهو جزيل
- ولا رغبةً عن هذه الدار إنهــا لظل على هذا الأنام ظليل
- ولكن نأى بالشعب عني حبائـب شجاهن خطب للفراق طويل
- يهيج بهن الوجد أني نـــازح وأن فؤادي حيث هن حلول|
- عزيزعليهن الذي قد لقيتـــه وأن اغترابي في البلاد يطول
- توارت بأنبائي البقاع كأننـــي تخطفت أو غالت ركابي غول
- ذكرتك يا مغنى الأحبة والهـوى فطارت لقلبي أنة وعويل
- وحببت عن سوق رباك كأنمـــــــا يمثل لي نؤي بها وطلول
- أحبابنا والعهد بيني وبينكـــــــــم كريم وما عهد الكريم يحول
- إذا أنا لم ترض الحمّول مدامعــــــي فلا قربتني للقاء حمّول
- إلام مقامي حيث لم ترد العـــــــلا مرادي ولم تعط القياد ذلول
- أجاذب فضل العمر يوماً وليلـــــةً وساء صباح بينها وأصيل
- ويذهب بي ما بين يأس ومطمــــع زمان بنيل المعلوات بخيل
- تعللني عنه أمان خــــــــوادع ويؤنسني ليان منه مطول
- أما لليالي لا ترد خطوبهـــــــا ففي كبدي من وقعهن فلول
- يروعني من صرفها كل حــــادث تكاد له صم البلاد تزول
- أداري على الرغم العدى لا لريبـــة يصانع واشٍ خوفها وعذول
- وأغدو بأشجاني عليلاً كأنمــــــا تجود بنفسي زفرة وغليل
- وإنى وإن أصبحت في دار غربـــة تحيل الليالي سلوتي وتديل
- وصدتني الأيام عن خير منـــــزل عهدت به أن لا يضام نزيل
- لأعلم أن الخير والشر ينتهــــــي مداه وأن الله سوف يديل
- وأني عزيز بابن ماساي مكثــــــر وإن هان أنصار وبان خليل
فأعانني الوزير مسعود عليه، حتى أذن لي في الانطلاق على شريطة العدول عن تلمسان، في أي مذهب أردت، فاخترت الأندلس، وصرفت ولدي وأمهم إلى أخوالهم، أولاد القائد محمد بن الحكيم بقسنطينة، فاتح أربع وستين وسبعمائة. وجعلت أنا طريقي على الأندلس، وكان سلطانها أبو عبد الله المخلوع، حين وفد على السلطان أبي سالم بفاس، وأقام عنده، حصلت لي معه سابقة وصلة ووسيلة خدمة، من جهة وزيره أبي عبد الله لن الخطيب، وما كان بيني وبينه من الصحابة، فكنت أقوم بخدمته، وأعتمل في قضاء حاجاته في الدولة. ولما أجاز، باستدعاء الطاغية لاسترجاع ملكه، حين فسد ما بين الطاغية وبين الرئيس المتوثب عليه بالأندلس من قرابته، خلفته فيما
ترك من عياله وولده بفاس، خير خلف؛ في قضاء حاجاتهم، وإدرار أرزاقهم، من المتولين لها، والاستخدام لهم. ثم فسد ما بين الطاغية وبينه، قبل ظفره بملكه، برجوعه عما اشترطه له؛ من التجافي عن حصون المسلمين التي تملكها بأجلابه؛ ففارفي إلى بلد المسلمين، ونزلى بأسجة. وكتب إلى عمر بن عبد الله يطلب مصراً ينزله، من أمصار الأندلس الغربية، التي كانت ركابا لملوك المغرب في جهادهم. وخاطبني أنا في ذلك، فكنت له نعم الوسيلة عند عمر، حتى تم قصده من ذلك. وتجافى عن رندة وأعمالها؛ فنزلها وتملكها، وكانت دار هجرته، وركاب فتحه؛ وملك منها الأندلس أواسط ثلاث وستين وسبعمائة، واستوحشت
أنا من عمر، إثر ذلك كما مرّ. وارتحلت إليه، معولاً على سوابقي عنده، فغرب في المكافأة كما نذكر إن شاء الله تعالى. الرحلة الى الاندلس: ولفا أجمعت الرحلة إلى الأندلس، بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة، وكتبت لهم إلى صاحبها السلطان أبي العباس، من حفدة السلطان أبي يحيى، وأني أمر على الأندلس، وأجيز إليه من هنالك. وسرت إلى سبتة فرضة المجاز، وكبيرها يومئذ الشريف أبو العباس أحمد بن الشريف الحسني، ذو النسب الواضح، السالم من الريبة عند كافة أهل المغرب؛ انتقل سلفه إلى سبتة من صقلية، وأكرمهم بنو العزفي أولاً وصاهروهم. ثم عظم صيتهم في البلد، فتنكروا لهم. وغربهم يحيى العزفي آخرهم إلى الجزيرة؛ فاعترضتهم مراكب النصارى في الزقاق؛ فأسروهم. وانتدب السلطان أبو سعيد إلى فديتهم، رعاية لشرفهم؛ فبعث إلى النصارى في ذلك فأجابوه. وفادى هذا الرجل وأباه على ثلاثة آلاف دينار، ورجعوا إلى سبتة. وانقرض بنو العزفي
ودولتهم، وهل والد الشريف، وصار هو إلى رياسة الشورى. ولما كانت واقعة القيروان، وخلع أبو عنان أباه، واستولى على المغرب، وكان بسبتة عبد الله بن علي الوزير، والياً من قبل السلطان أبي الحسن، فتمسك بدعوته، ومال أهل البلد إلى السلطان أبي عنان. وبث فيهم الشريف دعوته؛ فثاروا بالوزير وأخرجوه، ووفدوا على أبي عنان. وأمكنوه من بلدهم؛ فولى عليها من عظماء دولته سعيد بن موسى العجيسي؛ كافل تربيته في صغره. و أفرد هذا الشريف برياسة الشورى في سبتة؛ فلم يكن يقطع أمر دونه. ووفد على السلطان بعض الأيام، فتلقاه من الكرامة بما لا يشاركه فيه أحد من وفود الملوك والعظماء. ولم يزل على ذلك سائر أيام السلطان وبعد وفاته. وكان معظماً وقور المجلس، هش اللقاء، كريم الوفادة، متحلياً بالعلم والأدب، منتحلاً للشعر، غاية في الكرم وحسن العهد، وسذاجة النفس، ولما مررت به سنة أربع وستين وسبعمائة، أنزلني ببيته إزاء المسجد الجامع، وبلوت منه ما لا يقدر مثله من الملوك، وأركبني الحراقة ليلة سفري؛ يباشر دحرجتها إلى الماء بيده، إغراباً في الفضل والمساهمة. وحططت بجبل الفتح وهو يومئذ لصاحب المغرب. ثم خرجت منه إلى غرناطة، وكتبت إلى السلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني. وليلة بت بقرب غرناطة على بريد منها، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنئني بالقدوم ويؤنسني، ونصه:
- حللت حلول الغيث بالبلد المحـــــل على الطائر الميمون والرحب والسهل
- يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهــــــه من الشيخ والطفل المهدا والكهل
- لقد نشأت عندي للقياك غبطــــــة تنسي اغتباطي بالشبيبة والأهل
- وودي لا يحتاج فيه لشاهــــــــد وتقريري المعلوم ضرب من الجهل
أقسمت بمن حجت قريش لبيته، وقبر صرفت؛ أزمة الأحياء لميته، ونور ضربت الأمثال بمشكاته رزيته. لو خيرت أيها الحبيب الذي زيارته الأمنية السنية، والعارفة الوارفة، والمطيفة المطيفة، بين رجع الشباب يقطر ماء، ويرف نماء، ويغازل عيون الكواكب، فضلاً عن الكواعب، إشارة وإيماء، بحيث لا آلو في
خط يلم بسياج لمته، أو بقدح ذباله في ظلمته، أو يقدم حواريه في ملته، من الأحابش وأفته، وزمانة روح وراح، ومغدىً في النعيم ومراح، وقصف صراح، ورقى وجراح، وانتخاب واقتراح، وصدور ما بها إلا انشراح، ومسرات تردفها أفراح؛ وبين قدومك خليع الرسن، ممتعاً والحمد لله باليقظة والوسن، محكما في نسك الجنيد أو فتك الحسن، ممتعاً بظرف المعارف، مالئاً أكف الصيارف، ماحياً بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب وإن شاقني زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملكبني أزمة آرابي، وغبطني بمائي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي. وعجلت هذه مغبطة بمناخ الماطية، منتهى الطية، وملتقى للسعود غير البطية، وتهني الآمال الوثيرة الوطية. فما شئت من نفوس عاطشة إلى ربك، متجملة بزيك، عاقلة خطاً مهريك؛ ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظان مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، وشمع فضل مجدك في التخلف عن الإصحار، لا، بل للقاء من وراء البحار، والسلام. ثم أصبحت من الغد قادما على البلد، وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة، وقد اهتز السلطان لقدومي، وهيأ لي المنزل من قصوره، بفرشه وماعونه، وأركب خاضته للقائي، تحفياً وبراً، ومجازاة بالحسنى؛ ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك، وخلع علي وانصرفت. وخرج الوزير ابن الخطيب فشيعني إلى مكان نزلي؛ ثم نظمني في علية أهل مجلسه، واختصني بالنجي في خلوته، والمواكبة في ركوبه، والمواكلة والمطايبة والفكاهة في خلوات أنسه؛ وأقمت على ذلك عنده؛ وسفرت عنه سنة خمس وستين وسبعمائة إلى الطاغية ملك قشتالة يومئذ؛ بتره بن الهنشه بن أذفونش، لإتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوة، بهدية فاخرة، من ثياب الحرير، والجياد المقربات بمراكب الذهب الثقيلة؛ فلقيت الطاغية بإشبيلية، وعاينت آثار سلفي بها، وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه، وأظهر الاغتباط بمكاني، وعلم أولية
سلفنا بإشبيلية. وأثنى علي عنده طبيبه إبراهيم بن زرور اليهودي، المقدم في الطب والنجامة، وكان لقيني بمجلس السلطان أبي عنان، وقد استدعاه يستطبه، وهو يومئذ بدار ابن الأحمر بالأندلس. ثم نزع بعد مهلك رضوان القائم بدولتهم إلى الطاغية؛ فأقام عنده، ونظمه في أطبائه. فلما قدمت أنا عليه، أثنى علي عنده، فطلب الطاغية مني حينئذ المقام عنده، وأن يرد علي تراث سلفي بإشبيلية، وكان بيد زعماء دولته، فتفاديت من ذلك بما قبله. ولم يزل على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه؛ فزودني وحملني، واختصني ببغلة فارهة، بمركب ثقيل ولجام ذهبيين، أهديتهما إلى السلطان، فأقطعني قرية إلبيرة من إراضي السقي بمرج غرناطة، وكتب بها منشورا كان نصه:
ثم حضرت المولد النبوي لخامسة قدومي، وكان يحتفل في الصنيع فيها والدعوة، وإنشاد الشعراء، اقتداء بملوك المغرب، فأنشدته ليلتئذ:
- حي المعاهد كانت قبل تحيينـــــي بواكف الدمع يرويها ويظميني
- إن الألى نزحت داري ودارهـــــم تحملوا القلب في آثارهم دوني
- وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهـــــم فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني
- أمثل الربع من شوق فألثمــــــه وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
- وينهب الوجد مني كل لؤلــــــؤة ما زال قلبي عليها غير مأمون
- سقت جفوني مغاني الربع بعدهــــم فالدمع وقف على أطلاله الجون
- قد كان للقلب داعي الهوى شغــــل لو لأن قلبي إلى السلوان يدعوني
- أحبابنا هل لعهد الوصل مدكـــــر منكم وهل نسمة عنكم تحييني
- ما لي وللطيف لا يعتاد زائـــــره وللنسيم عليلاً لا يداويني
- يا أهل نجد وما نجد وساكنهــــــا حسناً سوى جبة الفردوس والعين
- أعندكم أنني ما مرّ ذكركــــــــم إلا انثنيت كأن الراح تثنيني
- أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكـــم شوقاً ولولاكم ما كان يصبيني
- يا نازحاً والمنى تدنيه من خلـــــدي حتى لأحسمه قرباً يناجيني
- أسلى هواك فؤادي عن سواك ومــــا سواك يوماً بحال عنك يسليني
- ترى الليالي أنستك إدكاري يــــــا من لم تكن ذكره الأيام تنسيني
ومنها في وصف الايوان الذي بناه لجلوسه بين قصوره:
- يا مصنعاً شيدت منه السعود حمــــىً لا يطرق الدهر مبناه بتوهين
- صرح يحار لديه الطرف مفتتنـــــاً فيما يروقك من شكل وتلوين
- بعداً لإيوان كسرى إن مشـــــورك السامي لأعظم من تلك الاواوين
- ودع دمشق ومغناها عصـــــرك ذا أشهى إلى القلب من أبواب جيرون "
ومنها في التعريف بمنصرفي من العدوة:
- من مبلغ عني الصحب الألى تركـــوا ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني
- أني أويت من العليا إلى حــــــرم كادت مغانيه بالبشرى تحييني
- وأنني ظاعناً لم ألق بعدهـــــــم دهرا أشاكي ولا خصماً يشاكيني
- لا كالتي أخفرت عهدي ليالــــي إذ أقلب الطرف بين الخوف والهون
- سقياً ورعياً لأيامي التي ظفــــرت يداي منها بحظ غير مغبون
- ارتاد منها ملياً لا يماطلنـــــــي وعداً وارجو كريماً لا يعنينى
- وهاك منها قواف طيها حكــــــم مثل الأزاهر في طي الرياحين
- تلوح إن جليت درا وإن تليـــــت تثني عليك بأنفاس البساتين
- عانيت منها بجهدي كل شـــــاردةٍ لولا سعودك ما كادت تواتين
- يمانع الفكرعنها ما تقسمـــــــه من كل حزن بطي الصدر مكنون
- لكن بسعدك ذلت لي شواردهـــــا فرضت منها تجبير وتزيين
- بقيت دهرك في أمن وفي دعـــــة ودام ملكك في نصر وتمكين
وأنشدته سنة خمس وستين وسبعمائة في إعذار ولده، والصنيع الذي احتفل لهم فيه، ودعا
إليه الجفلى من نواحي الأندلس، ولم يحضرني منها إلا ما أذكره:
- صحا الشوق لولا عبرة ونحيــــب وذكرى تجد الوجد حين تثوب
- وقلب أبى إلا الوفاء بعهـــــــده وإن نزحت دار وبان حبيب
- ولته مني بعد حادثة النـــــــوى فؤاد لتذكار العهود طروب
- يؤرقه طيف الخيال إذا ســـــرى وتذكي حشاه نفحة وهبوب
- خليلي إلا تسعدا فدعا الأســــــى فإني لما يدعو الأسى لمجيب
- ألما على الأطلال يقض حقوقهــــا من الدمع فياض الشئون سكوب
- ولا تعذلاني في البكاء فإنهــــــا حشاشة نفسي في الدموع تذوب
ومنها في تقدم ولده للأعذار من غير نكول:
- فيمم منه الحفل لا متقاعــــس لخطب ولانكسر اللقاء هيوب
- وراح كما راح الحسام من الوغى تروق حلاه والفرند خضيب
- شواهد اهدتهن منك شمائـــل وخلق بصفو المجد منك مشوب
ومنها في الثناء على ولديه:
- هما النيران الطالعان على الهدى بآيات فتح شأنهن عجيب
- شهابان في الهيجا غمامان في الندى تسح المعالي منهما وتصوب
- يدان لبسط المكرمات نماهمــــا إلى المجد فياض اليدين وهوب
وأنشدته ليلة المولد الكريم من هذه السنة:
- أبى الطيف أن يعتاد إلا توهمـــــاً فمن لي بأن ألقى الخيالى المسلما
- وقد كنت استهديه لو كان نافعـــــي وأستمطر الأجفان لو تنقع الظما
- ولكن خيال كاذب وطماعـــــــة تعلل قلباً بالأماني متيما
- أيا صاحبي نجواي والحب لوعــــة تبيح بشكواها الضمير المكتما
- خذا لفؤادي العهد من نفس الصبــــا وطي النقا والبان من اجرع الحمى
- ألا صنع الشوق الذي هو صانـــــع فحبي مقيم أقصر الشوق أو سما
- وإني ليدعوني السلو تعلــــــــلاً وتنهاني الأشجان أن أتقدما
- لمن دمن اقفرن إلا هواتـــــــف ترد في اطلالهن الترنما
- عرفت بها سيما الهوى وتنكـــــرت فعجبت على آياتها متوسما
- وذو الشوق يعتاد الربوع دوارســــاً ويعرف آثار الديار توهما
- تأؤبني والليل بيني وبينــــــــه وميض بأطراف الثنايا تضرما
- أجد لي العهد القديم كأنــــــــه أشار بتذكار العهود فأفهما
- عجبت لمرتاع الجوانح خافـــــق بكيت له خلف الدجى وتبسما
- وبت أرويه كؤوس مدامعــــــي وبات يعاطيني الحديث عن الحمى
- وصافحته عن رسم دار بذي الغضـى لبست بها ثوب الشبيبة معلما
- لعهدي بها تدني الظباء أو انســــا وتطلع في آفاقها الغيد أنجما
- أحن إليها حيث سار بي الهــــوى وأنجد رحلي في البلاد وأنهما
ولما استقر، واطمأنت الدار، وكان من السلطان الاغتباط والاستئثار وكثر الحنين إلى الأهل والتذكار، أمر باستقدام أهلي من مطرح اغترابهم
بقسنطينة، فبعث عنهم من جاء بهم إلى تلمسان. وأمر قائد الاسطول بالمرية؛ فسار لاجازتهم في اسطوله، واحتلوا بالمرية. واستأذنت السلطان في تلقيهم، وقدمت بهم على الحضرة، بعد أن هيأت لهم المنزل والبستان، ودمنة الفلح، وسائر ضرورات المعاش.
وكتب الوزير ابن الخطيب عندما قاربت الحضرة، وقد كتبت إليه استأذنه في القدوم، وما أعتمده في أحواله: سيدي، قدمت بالطير الميامين، على البلد الأمين، واستضفت الرفاء إلى البنين، ومتعت بطول السنين. وصلتني البراءة المعربة عن كثب اللقاء، ودنو المزار، وذهاب البعد، وقرب الدار؛ واستفهم سيدي عفا عندي في القدوم على المخدوم، والحق أن بتقدم سيدي إلى الباب الكريم، في الوقت الذي يجد المجلس الجمهوري لم يفض حجيجه، ولا صوح بهيجه، ويصل الأهل بعده إلى المحل الذي هيأته السعادة لاستقرارهم، واختاره اليمن قبل اختيارهم، والسلام. ثم لم يلبث الأعداء وأهل السعايات أن حملوا الوزير ابن الخطيب من ملابستي للسلطان، واشتماله علي، وحركوا له جواد الغيرة فتنكر. وشممت منه رائحة الانقباض، مع استبداده بالدولة، وتحكمه في سائر أحوالها؛ وجاءتني كتب السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية، بأنه استولى عليها في رمضان خمس وستين وسبعمائة. واستدعاني إليه؛ فاستأذنت السلطان ابن الأحمر في الارتحال إليه. وعميت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء لمودته؛ فارتمض لذلك، ولم يسعه إلا الإسعاف، فودع وزود، وكتب لي مرسوماً بالتشييع من إملاء الوزير ابن الخطيب نصه: هذا ظهير كريم، تضمن تشييعاً وترفيعاً، وإكراماً وإعظاماً، وكان لعمل الصنيعة ختاماً، وعلى الذي أحسن تماماً، وأشاد للمعتمد به بالاغتباط الذي راق قساما وتوفر أقسامأ، وأعلن له بالقبول إن نوى بعد النوى رجوعاً أو آثر على الظعن المزمع مقاماً.
أمر به، وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه، الأمير عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر، أيد الله أمره، وأعز نصره، وأعلى ذكره، للولي الجليس، الحظي المكين، المقرب الأود الأحب، الفقيه الجليل، الصدر الأوحد، الرئيس العلم، الفاضل الكامل، المرفع الأسمى، الأظهر الأرضى، الأخلص الأصفى، أبي زيد عبد الرحمن بن الشيخ الجليل، الحسيب الأصيل، الفقيه المرفع المعظم، الصدر الأوحد الأسنى، الأفضل الأكمل، الموقر المبرور، أبي يحيى أبي بكر، ابن الشيخ الجليل الكبير، الرفيع الماجد، القائد الحظي، المعظم الموقر، المبرور المرحوم، أبي عبد الله بن خلدون. وصل الله له أسباب السعادة، وبلغه من فضله أقصى الإرادة؛ أعلن بما عنده، أيده الله، من الاعتقاد الجميل في جانبه المرفع، وإن كان غنياً عن الإعلان. وأعرب عن معرفته بمقداره، في الحسبان العلماء الرؤساء الأعيان، وأشاد باتصال رضاه عن مقاصده البرة وشيمه الحسان، من لذن وفد بابه، وفادة العز الراسخ البنيان، وأقام المقام الذي عين له رفعة المكان، وإجلال الشان، إلى أن عزم على قصد وطنه، أبلغه الله ذلك في ظل اليمن والأمان، وكفالة الرحمن بعد الاغتباط المربى على الخبر بالعيان، والتمسك بجواره بجهد الإمكان، ثم قبول عذره بما جبلت الأنفس عليه من الحنين إلى المعاهد والأوطان. وبعد أن لم يذخر عنه كرامة رفيعة، ولم يحجب عنه وجه صنيعة، فولاه القيادة والسفارة، وأحله جليساً معتمداً بالإستشارة، وألبسه من الحظوة والتقريب أبهى الشارة، وجعل محله من حضرته مقصوداً بالمثل معنياً بالإشارة، ثم أصحبه تشييعاً يشهد بالضنانة بفراقه، ويجمع له بر الوجهة من جميع آفاقه، ويجعله بيده رتيمة خنصر، ووثيقة سامع أو مبصر؛ فمهما لوى أخدعه إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره، وتمليه من نهمة سفره، أو نزع به حسن العهد وحنين
الود، فصدر العناية به مشروح، وباب الرضا والقبول مفتوح، وما عهده من الحظوة والبر ممنوح. فما كان القصد في مثله من أمجاد الأولياء ليتحول، ولا الاعتقاد الكريم ليتبذل، ولا الأخير من الأحوال لينسخ الأول. على هذا فليطو ضميره، وليرد متى شاء نميره، ومن وقف عليه من القواد والأشياخ والخدام، برا وبحرا، على اختلاف الخطط والرتب، وتباين الأحوال والنسب، أن يعرفوا حق
هذا الاعتقاد، في كل ما يحتاج إليه من تشييع ونزول؛ وإعانة وقبول، واعتناء موصول، إلى أن يكمل الغرض، ويؤدى من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض، بحول الله وقوته.
وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ستة وستين وسبعمائة . وبعد التاريخ العلامة بخط السلطان، ونصها: "صح هذا". الرحلة من الاندلس إلي بجاية، وولاية الحجابة بها علي الاستبداد: كانت بجاية ثغرا لإفريقية في دولة بني أبي حفص من الموحدين. ولما صار أمرهم للسلطان أبي بكر بن يحيى منهم، واستقل بملك أفريقية، ولى في ثغر بجاية إبنه الأمير أبا زكريا، وفي ثغر قسنطينة ابنه الأمير عبد الله. وكان بنو عبد الواد ملوك تلمسان والمغرب الأوسط، ينازعونه في أعماله، ويحمرون العساكر على بجاية، ويجلبون على قسنطينة، إلى أن تمسك السلطان أبو بكر بذمة من السلطان أبي الحسن، ملك المغرب الأقصى من بني مرين، وله الشفوف على سائر ملوكهم. وزحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان؛ فأخذ بمخنقها سنتين أو أزيد، وملكها عنوة، وقتل سلطانها أبا تاشفين، وذلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. وخف ما كان على الموحدين من إصر بني عبد الواد، واستقامت دولتهم. ثم هلك أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبي يحيى بقسنطينة سنة أربعين وسبعمائة، وخلف سبعةً من الولد، كبيرهم أبو زيد عبد الرحمن، ثم أبو العباس أحمد، فولى الأمير أبا زيد مكان أبيه، في كفالة نبيل مولاهم. ثم توفي الأمير أبو زكريا ببجاية سنة ست وأربعين وسبعمائة، وخفف ثلاثة من الولد، كبيرهم أبو عبد الله محمد، وبعث السلطان أبو بكر ابنه الأمير أبا حفص عليها؛ فمال أهل بجاية إلى الأمير أبي عبد الله بن أبي زكريا، وانحرفوا عن الأمير عمر وأخرجوه. وبادر السلطان فرقع هذا الخرق، بولاية أبي عبد الله عليهم كما طلبوه. ثم توفي السلطان أبو بكر منتصف سبع وأربعين وسبعمائة وزحف أبو الحسن إلى أفريقية
فملكها، ونقل الأمراء من بجاية وقسنطينة إلى المغرب. وأقطع لهم هنالك، إلى أن كانت حادثة القيروان، وخلع السلطان أبو عنان أباه. وارتحل من تلمسان، إلى فاس؛ فنقل معه هؤلاء الأمراء، أهل بجاية وقسنطينة، وخلطهم بنفسه، وبالغ في تكرمتهم. ثم صرفهم إلى ثغورهم: الأمير أبا عبد الله أولاً، وإخوته من تلمسان، وأبا زيد وإخوته من فاس، ليستبدوا بثغورهم، ويخذلوا الناس عن السلطان أبي الحسن؛ فوصلوا إلى بلادهم، وملكوها بعد أن كان الفضل ابن السلطان أبي بكر قد استولى عليها من يد بني مرين؛ فانتزعوها منه. واستقر أبو عبد الله ببجاية، حتى إذا هلك السلطان أبو الحسن بجبال المصامدة، وزحف أبو عنان إلى تلمسان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة؛ فهزم ملوكها من بني عبد الواد، وأبادهم، ونزل المدية، وأطل على بجاية. وبادر الأمير أبو عبد الله للقائه، وشكا إليه ما يلقاه من زبون الجند والعرب، وقفة الجباية. وخرج له عن ثغر بجاية فملكها، وأنزل عماله بها. ونقل الأمير أبا عبد الله معه إلى المغرب؛ فلم يزل عنده في حفاية وكرامة. ولما قدمت على السلطان أبي عنان آخر خمس وخمسين وسبعمائة واستخلصني، نبضت عروق السوابق بين سلفي وسلف الأمير أبي عبد الله، واستدعاني للصحابة فأسرعت، وكان السلطان أبو عنان شديد الغيرة من مثل ذلك. ثم كثر المنافسون، ورفعوا إلى السلطان، وقد طرقه مرض أرجف له الناس؛ فرفعوا له أن الأمير أبا عبد الله اعتزم على الفرار إلى بجاية، وأني عاقدته على ذلك، على أن يوليني حجابته؛ فانبعث لها السلطان، وسطا بنا، واعتقلني نحواً من سنتين إلى أن هلك. وجاء السلطان أبو سالم، واستولى على المغرب، ووليت كتابة سره. ثم نهض إلى تلمسان، وملكها من يد بني عبد الواد، وأخرج منها أبا حمّو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، ثم اعتزم على الرجوع إلى فاس، وولى على تلمسان أبا زيان محمد بن أبي سعيد عثمان ابن السلطان أبي تاشفين، وأمده بالأموال والعساكر من أهل وطنه، ليدافع أبا حمّو عن تلمسان، ويكون خالصة له. وكان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية معه كما ذكرناه.، والأمير أبو العباس صاحب قسنطينة، بعد أن كان بنو مرين حاصروا أخاه أبا زيد بقسنطينة أعواماً تباعاً.
ثم خرج لبعض مذاهبه إلى بونة، وترك أخاه أبا العباس بها؛ فخلعه، واستبد بالأمر دونه. وخرج إلى العساكر المحمرة عليها من بني مرين؛ فهزمهم، وأثخن فيهم. ونهض السلطان إليه من فاس، سنة ثمان وخمسين وسبعمائة؛ فتبرأ منه أهل البلد
وأسلموه؛ فبعثه إلى سبتة في البحر، واعتقله بها، حتى إذا ملك السلطان أبو سالم سبتة عند إجازته من الأندلس سنة ستين، أطلقه من الاعتقال، وصحبه إلى دار ملكه، ووعده برد بلده عليه. فلما ولى أبا زيان على تلمسان، أشار عليه خاضته ونصحاؤه، بأن يبعث هؤلاء الموحدين إلى ثغورهم: فبعث أبا عبد الله إلى بجاية، وقد كان ملكها عمه أبو إسحق صاحب تونس، ومكفول بن تافراكين من يد بني مرين؛ وبعث أبا العباس إلى قسنطينة، وبها زعيم من زعماء بني مرين. وكتب إليه السلطان أبو سالم أن يفرج له عنها، فملكها لوقته. وسار الأمير أبو عبد الله إلى بجاية، فطال إجلابه عليها، ومعاودته حصارها. ولج أهلها في الامتناع منه مع السلطان أبي إسحق. وقد كان لي المقام المحمّود في بعث هؤلاء الأمراء إلى بلادهم. وتوليت كبر ذلك مع خاصة السلطان أبي سالم وكبار أهل مجلسه، حتى تم القصد من ذلك. وكتب لي الأمير أبو عبد الله بخطه عهدا بولاية الحجابة متى حصل على سلطانه؛ ومعنى الحجابة- في دولنا بالمغرب- الإستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد. وكان لي أخ إسمه يحيى أصغر مني، فبعثته مع الأمير أبي عبد الله حافظاً للرسم، ورجعت مع السلطان إلى فاس. ثم كان ما قدمته من انصرافي إلى الأندلس والمقام بها، إلى أن تنكر الوزير ابن الخطيب، وأظلم الجو بيني وبينه. وبينا نحن في ذلك، وصل الخبر باستيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية من يد عمه، في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة؛ وكتب لي الأمير أبو عبد الله يستقدمني، فاعتزمت على ذلك، ونكر السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ذلك مني، لا يظنه لسوى ذلك، إذ لم يطلع على ما كان بيني وبين الوزير ابن الخطيب، فأمضيت
العزم، ووقع منه الإسعاف، والبر والألطاف. وركبت البحر من ساحل المرية، منتصف ست وستين وسبعمائة. ونزلت بجاية لخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب أهل دولته للقائي. وتهافت أهل البلد علي من كل أوب يمسحون أعطافي، ويقبلون يدي، وكان يوماً مشهوداً.
ثم وصلت إلى السلطان فحيا وفدى، وخلع وحمل؛ وأصبحت من الغد، وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي، واستقلت بحمل ملكه، واستفرغت جهدي في سياسة أموره وتدبير سلطانه، وقدمني للخطابة بجامع القصبة، وأنا مع ذلك، عاكف بعد انصرافي من تدبير الملك غدوةً- إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع القصبة لا أنفك عن ذلك. ووجدت بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس صاحب قسنطينة فتنة، أحدثتها المشاحة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال، وشب نار هذه الفتنة عرب أوطانهم من الزواودة من رياح، تنفيقاً لسوق الزبون يمترون به أموالهم. وكانوا في كل سنة يجمع بعضهم لبعض؛ فالتقوا سنة ست وستين وسبعمائة بفرجيوة، وانقسم العرب عليهما. وكان يعقوب بن علي مع السلطان أبي العباس؛ فانهزم السلطان أبو عبد الله، ورجع إلى بجاية مفلولاً، بعد أن كنت جمعت له أموالاً كثيرة أنفق جميعها في العرب. ولما رجع أعوزته النفقة؛ فخرجت بنفسي إلى قبائل البربر بجبال بجاية المتمنعين من المغارم منذ سنين؛ فدخلت بلادهم واستبحت حماهم، وأخذت رهنهم على الطاعة، حتى استوفيت منهم الجباية، وكان لنا في ذلك مدد وإعانة؛ ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان أبي عبد الله يطلب منه الصهر؛ فأسعفه بذلك ليصل يده به على ابن عمه، وزوجه ابنته؛ ثم نهض السلطان أبو العباس سنة سبع وستين وسبعمائة، وجاس أوطان بجاية، وكاتب أهل البلد، وكانوا وجلين من السلطان أبي عبد الله، بما كان يرهف الحد لهم، ويشد وطأته عليهم؛ فأجابوه إلى الانحراف عنه. وخرج السلطان أبو عبد الله يروم مدافعته، ونزل جبل ليزو معتصماً به؛ فبيته السلطان أبو العباس في عساكره وجموع الأعراب من أولاد محمد بن رياح بمكانه ذلك،
بإغراء ابن صخر وقبائل سدويكش. وكبسه في مخيمه وركض هارباً، فلحقه وقتله، وسار إلى البلد بمواعده أهلها. وجاءني الخبر بذلك، وأنا مقيم بقصبة السلطان وقصوره، وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر، والبيعة لبعض الصبيان من أبناء السلطان؛ فتفاديت من ذلك؛ وخرجت إلى السلطان أبي العباس، فأكرمني وحباني، وأمكنته من بلده، وأجرى أحوالي كلها على معهودها. وكثرت السعاية عنده في، والتحذير من مكاني. وشعرت بذلك؛ فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك؛ فأذن لي بعدلأي؛ وخرجت إلى العرب، ونزلت على يعقوب بن عليّ. ثم بدا للسلطان في أمري، وقبض على أخي، واعتقله ببونة. وكبس بيوتنا يظن بها ذخيرة وأموالاً، فأخفق ظنه. ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن عليّ، وقصدت بسكرة، لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزني، وبين أبيه؛ وساهم في الحادث بماله وتجاهه والله أعلم. مشايعة أبي حمّو صاب تلمسان: كان السلطان أبو حمّو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصهر في إبنته، وكانت عنده بتلمسان. فلما بلغه مقتل أبيها، واستيلاء السلطان أبي العباس ابن عمه صاحب قسنطينة على بجاية، أظهر الامتعاض لذلك. وكان أهل بجاية قد توجسوا الخيفة من سلطانهم، بإرهاف حده، وشده سطوته؛ فانحرفوا عنه باطناً، وكاتبوا ابن عمه بقسنطينة كما ذكرناه. ودشوا للسلطان أبي حمّو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما. فلما استولى السلطان أبو العباس، وقتل ابن عمه، رأوا أن جرحهم قد اندمل، وحاجتهم قد قضيت، فاعصوصبوا عليه؛ وأظهر السلطان أبو حمّو الامتعاض للواقعة يسر منها
حسواً في ارتغاء، ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية، بما كان يرى نفسه كفؤها بعده وعديده، وما سلف من قومه في حصارها؛ فسار من تلمسان يجر الشوك والمدر، حتى خيم بالرشة من ساحتها، ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم، من لدن تلمسان، إلى بلاد حصين، من بني عامر، وبني يعقوب، وسويد، والديالم والعطاف، وحصين.
وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند، أعجله السلطان أبو حمّو عن استيعاب الحشد، ودافع أهل البلد أحسن الدفاع. وبعث السلطان أبو العباس عن أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمّو من قسنطينة، كان معتقلاً بها، وأمر مولاه وقائد عسكره بشيراً أن يخرج معه في العساكر، وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمّو، وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان، وأبلغهم النذير أنه إن ملك بجاية اعتقلهم بها؛ فراسلوا أبا زيان، وركبوا إليه، واعتقدوا معه. وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن، ودفعوا شرذمة كانت مجمرة إزاءهم؛ فاقتلعوا خباءهم. وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشة. وعاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا، وتتابع الناس في الانجفال حتى أفردوا السلطان في مخيمه، فحمل رواحله وسار، وكضت الطرق بزحامهم. وتراكموا بعض على بعض، فهلك منهم عوالم. وأخذهم سكان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية، وقد غشيهم الليل؛ فتركوا أزودتهم ورحالهم. وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد عصب الريق، وأصبحوا على منجاة. وقذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان؛ وكان السلطان أبو حمّو قد بلغه خروجي من بجاية، وما أحدثه السلطان بعدي في أخي وأهلي ومخففي؛ فكتب إلي يستقدمني قبل هذه الواقعة. وكانت الأمور قد اشتبهت؛ فتفاديت بالأعذار، وأقمت بأحياء يعقوب بن علي، ثم ارتحلت إلى بسكرة؛ فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزنى. فلما وصل السلطان أبو حمّو إلى تلمسان، وقد جزع للواقعة، أخذ في استئلاف قبائل رياح، ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية؛ وخاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم، وملك
زمامهم، ورأى أن يعول عليّ في ذلك، واستدعاني لحجابته وعلامته، وكتب بخطه مدرجة في الكتاب نصها:
" الحمد لله على ما أنعم، والشكر لله على ما وهب، ليعلم الفقيه المكرم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، حفظه الله، على أنك تصل إلى مقامنا الكريم، لما اختصصناكم به من الرتبة المنيعة، والمنزلة الرفيعة، وهو قلم خلافتنا، والانتظام في سلك أوليائنا، أعلمناكم بذلك. وكتب بخط يده عبد الله، المتوكل على الله، موسى بن يوسف لطف الله به وخار له ". وبعده بخط الكاتب ما نصه: بتاريخ السابع عشر من رجب الفرد الذي من عام تسع وستين وسبعمائة عرفنا الله خيره. ونص الكتاب الذي هذه فدرجته، وهو بخط الكاتب: "أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد، ووالى رعايتكم. إنا قد ثبت عندنا، وجمح لدينا ما انطويتم عليه من المحبة في مقامنا، والانقطاع إلى جنابنا، والتشيع قديماً وحديثاً لنا، مع ما نعلمه من محاسن اشتملت عليها أوصافكم، ومعارف فقتم فيها نظراءكم، ورسوخ قدم في الفنون العلمية والاداب العربية. وكانت خطة الحجابة ببابنا العلي- أسماه الله- أكبر درجات أمثالكم؛ وأرفع الخطط لنظرائكم؛ قربا منا، واختصاصاً بمقامنا، واطلاعا على خفايا أسرارنا. آثرناكم بها إيثاراً، وقدمناكم لها اصطفاءً واختياراً؛ فاعملوا على الوصول إلى بابنا العليّ أسماه الله، لما لكم فيه من التنويه، والقدر النبيه، حاجباً لعليّ بابنا، ومستودعاً لأسرارنا، وصاحب الكريمة علامتنا، إلى ما يشاكل ذلك من الأنعام العميم، والخير الجسيم، والاعتناء والتكريم. لا يشارككم مشارك في ذلك ولا يزاحمكم أحد، وإن وجد من أمثالك فاعلموه، وعولوا عليه، والله تعالى يتولاكم، ويصل سراءكم، ويوالي احتفاءكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ". وتأدت إلي هذه الكتب السلطانية على يد سفير من وزرائه، جاء إلى أشياخ الزواودة في هذا الغرض؛ فقمت له في ذلك أحسن مقام، وشايعته أحسن مشايعة، وحملتهم على إجابة داعي السلطان، والبدار إلى خدمته. وانحرف كبراؤهم عن خدمة السلطان أبي العباس إلى خدمته، والاعتمال في مذاهبه، واستقام غرضه من ذلك؛ وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله ببونة، وقدم علي ببسكرة، فبعثته إلي السلطان أبي حمّو كالنائب عني في الوظيفة، متفادياً عن تجشم أهوالها، بما كنت
نزعت عن غواية الرتب. وطال علي إغفال العلم؛ فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس؛ فوصل إليه الأخ، فاستكفى به في ذلك، ودفعه إليه. ووصلني مع هذه الكتب السلطانية كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب
من غرناطة يتشوق إلي، وتأدى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر؛ فبعث إلي به من هنالك ونصه:
- بنفسي وما نفسي علي بهينــــــة فينزلني عنها المكاس بأثمان
- حبيب نأى عيني وصم لأنتــــــي وراش سهام البين عمداً فأصماني
- وقد كان هم الشيب لا كان كائيــــاً فقد ادني لما ترحل همان
- شرعت له من دمع ععيني مـــوارداً فكذر شربي بالفراق وأظماني
- وأرعيته من حسن عهدي جميمــــه فأجدب آمالي وأوحش أزماني
- حلفت على ما عنده لي من رضـــى قياساً بما عندي فأحنث أيماني
- وإني على ما نالني منه من قلــــى لأشتاق من لقياه نغبة ظمآن
- سألت جنوني فيه تقريب عرســــه فقست بجن الشوق جن سليمان
- إذا ما دعا داع من القوم بإسمــــه وثبت وما استثبت شيمة هيمان
- وتالله ما أصغيت فيه لعــــــاذل تحاميته حتى ارعوى وتحاماني
- ولا استشعرت نفسي برحمــــــة عابد تظلل يوماً مثله عبد رحمان
- ولا شعرت من قبله بتشـــــــوقٍ تخلل منها بين روح وجثمان
أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج، وأما الصبر فاسأل به أية درج، بعد لأن تجاوز اللوى والمنعرج، لكن الشدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله الأرج؛ وأنى بالصبر على إبر الدبر، لا. بل الضرب الهبر، ومطاولة اليوم والشهر، تحت حكم
القهر؛ ومن للعين إن تسلو سلو المقصر، عن إنسانها المبصر، أو نذهل ذهول الزاهد، عن سرها الرائي والمشاهد، وفي الجسد بضعة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه وإن نزحت؛ وإذا كان الفراق، هو الحمام الأول، فعلام المعول، أعيت مراوضة الفراق، عمل الراق، وكادت لوعة الإشتياق، إن تفضي إلى السياق:
- تركتموني بعد تشييعكـــــــــم أوسع أمر الصبر عصيانا
- اقرع سني ندما تــــــــــارةً واستميح الدمع أحيانا
وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، وجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، اسأل نون النؤى عن أهليه، وميم الموقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلثة عن منازل الموحدين، وأحار وبين تلك الأطلال حيرة الملحدين، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين؛ كلفت لعمر الله بسال عن جفوني المؤرقة، ونائم عن همومي المتجمعة والمتفرقة. ظعن عن ملال، لا متبرماً منا بشر خلال، وكدر الوصل بعد صفائه، وضرج النصل بعد عهد وفائه:
- أقل اشتياقا أيها القلب إنمـــــــا رأيتك تصفي الود من ليس جازيا
فها أنا أبكي عليه بدم أساله، وأندب في ربع الفراق آسى له، وأشكو إليه حال
قلب صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودعه، وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه، وأستعديه على ظلم ابتدعه.
- خليلي، فيما عشتما هل رأيتمـــــا قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي
فلولا عسى الرجاء ولعله، لا بل شفاعة المحل الذي حله، لنشرت ألوية العتب، وبثثت كتائبها، كمناء في شعاب الكتب، تهز من الألفات رماحا خزر الأسنة وتوتر من النونات أمثال القسي المرنة وتقود من مجموع الطرس، النقس بلقاً تردي في الأعنة،
ولكنه آوى إلى الحرم الأمين، وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة الغوار عن الشمال واليمين، حرم الحلال المزنية، والظلال اليزنية؛ والهمم السنية، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية، حيث الرفد الممنوح، والطير الميامين يزجر لها السنوح والمثوى الذي إليه، مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان فهو الجنوح:
#نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه، وتغمد بالعفو ذنبه( ولله در القائل):
- فوحقه لقد انتدبت لوصفه بالبخل لولا أن حمصاً داره
- بلد متى أذكره تهتج لوعتي وإذا قدحت الزند طار شراره
اللهم غفرا، وأين قراره النخيل، من مثوى الأقلف البخيل، ومكذبة المخيل؛ واين ثانية هجر، من متبوا من ألحد وفجر:
- من أنكر غيثا منشؤه في الأرض ينوء بمخلفها
- فبنان بني مزني مزن تنهل بلطف مصرفها
- مزن مذحل ببسكرة يوما نطقت بمصحفها
- شكرت حتى بعبارتها وبمعناها وبأحرفها
#ضحكت بأبي العباس من ال أيام ثنايا زخرفها
- وتنكرت الدنيا حتى عرفت منه بمعرفها
بل نقول: يا محل الولد، "لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد"، لقد حل بينك عرى الجلد، وخلد الشوق بعدك يا بن خلدون في الصميم من الخلد؛ فحيا الله زمانا شفيت في قربك زمانته، واجتلت في صدف مجدك جمانته، وقضيت في مرعى خلتك لبانته؛ وأهلاً بروض أظلت شباب معارفك
بانته؛ فحمائمه بعدك تنذب، فيساعدها الجندب، ونواسمه ترق فتتغاشى، وعشياته تتخافت وتتلاشى، وأدواحه في ارتباك، وحمائمه في مأتم ذي اشتباك؛ كان لم تكن قمر هالات قبابه، ولم يكن أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابه، ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه؛ فلهفي عليك من درة اختلستها يد النوى، ومطل بردها الدهر ولوى، ونعق الغراب ببينها في ربوع الهوى، ونطق بالزجر فما نطق عن الهوى؛ وبأي شيء يعتاض منك ايتها الرياض، بعد أن طما نهرك الفياض، وفهقت الحياض؛ ولا كان الشاني المشنوء والجرب المهنوء؛ من قطع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الأمر الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل؛ نشر الشراع فراع، وواصل الإسراع، فكأنما هو تمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة، واختطف لهم من الشط نزهة العين وعين النزهة؛ ولجج بها والعيون تنظر، والغمر عن الاتباع يحظر؛ فلم يقدر إلا على الأسف، والتماح الاثر المنتسف والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووقر الجسرة من الحسرة إنما نشكو إلى الله البث والحزن، ونستمطر من عبراتنا المزن، وبسيف الرجاء نصول، وإذا أشرعت لليأس أسنة ونصول: #ما أقدر الله أن يدني على شحطٍ من داره الحزن ممن داره صول فإن كان كلم الفراق رغيبا، لما نويت مغيباً، وجللت الوقت الهني تشغيباً، فلعل الملتقى يكون قريبا، وحديثه يروى صحيحاً غريباً. إيه سيدي ! كيف حاذ تلك الشمائل، المزهرة الخمائل، والشيم، الهامية الديم؟ هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاصف البين ذباله؟ أو ترثي لشئون شأنها سكب لا يفتر، وشوق
يبت حبال الصبر ويبتر، وضنى تقصر عن حفله الفاقعة صنعاء وتستر، والأمر أعظم والله يستر؛ وما الذي يضيرك، صين من لفح السموم نضيرك، بعد أن أضرمت وأشعلت، وأوقدت وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، أن تترفق بذماء، أو ترد بنغبة ماء، أرماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحية يشم عليها شذا أنفاسك، أو تنظر إلينا على البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك، وسواد أنقاسك، فرتما قنعت الأنفس المحبة بخيال زور، وتعللت بنوال منزور، ورضيت، لما لم تصد العنقاء، بزرزور:
#يا من ترحل والرياح لأجله يشتاق إن هبت شذا رياها #تحيا النفوس إذا بعثت تحيةً وإذا عزمت اقرأ "ومن أحياها" ولئن أحييت بها فيما شلف نفوسا تفديك، والله إلى الخير أيهديك، فنحن نقول معشر مواديك: " ثني ولا تجعليها بيضة لديك "؛ وعذراً فإني لم اجترىء على خطابك بالفقر الفقيرة، وأدللت لدى حجراتك برفع العقيرة، عن نشاط بعثت مرموسه، ولا اغتباط بالأدب تغري بسياسته سوسة، وانبساط أوحى إلي على الفترة ناموسه؛ وإنما هو اتفاق
جرته نفثة المصدور وهناء الجرب المجدور؛ وإن تعلل به مخارق، فثم قياس فارق، أو لحن غنى به بعد البعد مخارق؛ والذي هيأ هذا القدر وسببه، وسفل المكروه إلي منه ؛حببه. ما اقتضاه الصنو يحيى مد الله حياته، وحرس من الحوادث ذاته، من خطاب ارتشف به لهذه القريحة بلالتها، بعد أن رضي علالتها، ورشح إلى الصهر ألحضرمي سلالتها؛ فلم يسع إلا إسعافه، بما أعافه؛ فأمليت مجيباً، ما لا يعذ في يوم الرهان
نجيباً، وأسمعته وجيباً لما ساجلت بهذه الترهات سحراً عجيباً؛ حتى إذا ألف القلم العريان سبحه، وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوه وموقف متلوه، إلا وقد تحيز إلى فئتك، معتزاً بل معتراً، واستقبلها ضاحكاً مفتراً، وهشق لها براً، وإن كان من الخجل مصفراً؛ وليس بأول من هجر، في التماس والوصل مضن هجر أو بعث التمر إلى هجر؛ وافي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام؛ بعد أن حال الجريض، دون القريض، وشغل المريض عن التعريض؛ وغلب حتى الكسل، ونصلت الشعرات البيض كأنها الأسل؛ تروع برقط الحيات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات، عند البيات؛ والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرع صبحته المناجل، والمعتبر الاجل؛ وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بابعاده وأسره في ملكة عادة؛ فاغص ابقاك الله وأسمح، لمن قصر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح؛ واغتنم لباس ثوب الثواب، واشف بعض الجوى بالجواب. تولاك الله فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك آية سلكت؛ ووسمك في السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات؛ والسلام الكريم يعتمد حلال ولدي، وساكن خلدي، بل أخي وإن اتقيت عتبه وسيدي، ورحمة الله وبركاته، من محبه المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب، في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني، من عام سبعين وسبعمائة. وكان تقدم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر الي، بعث به إلى تلمسان، فتأخر وصوله، حتى بعث به الأخ يحيى عند وفادته على السلطان، ونمق الكتاب: يا سيدي إجلالا واعتدادا، وأخي ودا واعتقاداً، ومحل ولدي شفقةً سكنت مني
فؤاداً. طال علي انقطاع أنبائك، واختفاء أخبارك؛ فرجوت أن أبلغ النية هذا المكتوب إليك، وتخترق به الموانع دونك، وإن كنت في موالاتك كالعاطش الذي لا يروى، والاكل الذي لا يشبع، شأن من تجاوز الحدود الطبيعية، والعوائد المألوفة؛ فأنا الآن بعد إنهاء التحية المطلولة الروض بماء الدموع، وتقرير الشوق اللزيم، وشكوى البعاد الأليم، وسؤال إتاحة القرب قبل الفوت من الله ميسر العسير، ومقرب البعيد، أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالاً في مجال الخلوص لك، وأشدهم حرصاً على اتصال سعادتك؛ وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك، واستقرارك ببسكرة محل الغبطة بك، باللجأ إلى تلك الرياسة الزكية، الكريمة الأب، الشهيرة الفضل، المعروفة القدر على البعد؛ حرسها الله ملجأً للفضلاء، ومخيماً لرجال العلياء، ومهبا لطيب الثناء، بحوله وقوته؛ وما كل وقت تتاح فيه السلامة؛ فاحمدوا الله على الخلاص، وقاربوا في معاملة الامال، وضنوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاق، وأبخلوا بها عن المتالف، فمطلوب الحريص على الدنيا خسيس، والموانع الحافة جمة، والحاصل حسرة، وبأقل السعي تحصل حالة العافية، والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت، إنما ينال منه الضروري؛ ومثلك لا يعجزه مع التماس العافية أضعاف ما يزجي به العمر من المأكل والمشرب، وحسبنا الله. وإن تشوفت لحال المحب تلك السيادة الفذة، والبنوة البرة؛ فالحال الحال، من جعل الزمام بيد القدر، والسير في مهيع الغفلة، والسبح في تيار الشواغل؛ ومن وراء الأمور غيب محجوب، وأمل مكتوب، نؤمل فيه عادة الستر من الله؛ إلا أن الضجر الذي تعلمونه، حفظه اليأس لما عجزت الحيلة، وأعوز المناص وسدت المذاهب؛ والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال.
وفيما يرجع إلى السلطان تولاه الله، على أضعاف ما باشر سيدي من الاغياء في
البر ووصل سبب الإلتحام، والاشتمال، مع الاستقلال، وما ينتجه متعود الظهور، والحمد لله.
وفيما يرجع إلى الأحباب والأولاد، فعلى ما علمت؛ إلا إن الشوق يخامر القلوب، وتصور اللقاء مما يزهد في الوطن وحاضر النعم. سنى الله ذلك على أفضل حال، ويسره قبل الارتحال، من دار المحال. وفيما يرجع إلى الوطن؛ فأحلام النائم خصباً، وهدنة وظهوراً على العدو؛ وحسبك بافتتاح حصن آشر، وبرغه القاطعة بين بلاد الاسلام، ووبذة، والعارين وبيغه وحصن السهلة، في عام؛ ثم دخل بلد إطريرة بنت إشبيلية عنوة، والاستيلاء على ما يناهز خمسة آلاف من السبي؛ ثم فتح دار الملك، ولدة قرطبة: مدينة جيان عنوة في اليوم الأغر المحجل، وقتل المقاتلة، وسبي الذرية، وتعفية الآثار حتى لا يلم بها العمران؛ ثم افتتاح مدينة أبدة التي تلص جيان في ملاءتها: دار التجر، والرفاهية، والبنآت الحافلة، والنعم الثرة؛ نسأل الله جل وعلا أن يصل عوائد نصره، ولا يقطع عنا سبب رحمته، وإن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه.
ولم يتزيد من الحوادث إلا ما علمتم؛ من أخذ الله لنسمة السوء، وخبث الأرض، المسلوب من أثر الخير: عمر بن عبد الله، وتحكم شر الميتة في نفسه، وإتيان النكال على حاشيته، والاستئصال على ذاته؛ والاضطراب مستولٍ على الوطن بعده؛ إلا أن الغرب على علاته لا يرجحه غيره.
والأندلس اليوم شيخ غزاتها الأمير عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي عليّ، بعد وفاة الشيخ أبي الحسن: علي بن بدر الدين رحمه الله. وقد استقر بها بعد انصراف سيدي الأمير المذكور، والوزير مسعود بن رخو وعمر بن عثمان بن سليمان. والسلطان ملك النصارى بطره، قد عاد إلى ملكة بإشبيلية، وأخوه مجلب عليه بقشتالة، وقرطبة مخالفة عليه، قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم، داعين لأخيه؛ والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح. وخرق الله لهم عوائد في باب الطهور والخير، لم تكن تخطر في الامال. وقد تلقب السلطان أيده الله بعقب هذه المكيفات، بـ " الغنى بالله " وصدرت عنه مخاطبات، بمجمل الفتوح ومفصلها، يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن.
وأما ما برجع إلى ما يتشوف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت؛ فصدرت تقاييد، وتصانيف، يقال فيها بعدما أعتملت تلك السيادة من الانصراف يا إبراهيم، ولا ابراهيم اليوم.
منها: أن كتاباً رفع إلى السلطان في المحبة، من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة، أشار الأصحاب بمعارضته، فعارضته، وجعلت الموضوع أشرف، وهو محبة الله؛ فجاء كتاباً أدعى الأصحاب غرابته. وقد وجه إلى المشرق صحبة كتاب: "تاريخ غرناطة"، وغيره من تآليفي. وتعرف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر؛ وانتال الناس عليه، وهو في لطافة الأغراض، متكلف الإغراض المشارقة. من ملحه:
#سلمت لمصرفي الهوى من بلد يهديه هواؤه لدى استنشاقه #من ينكر دعواي فقل عني له تكفي امرأة العزيز من عشاقه؟ والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه. وصدر عني جزء سميته: "الغيرة على
أهل الحيرة" وجزء سميته: "حمل الجمهور على السنن المشهور". والأكباب على اختصار كتاب "التاج " للجوهري، ورد حجمه إلى مقدار الخمس، مع حفظ ترتبيه
السهل؛ والله المعين على مشغلة تقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيادة والبنوة؛ إذ لا يتعذر وجود قافل من حج، أو لاحقٍ بتلمسان. يبعثها السيد الشريف منها؛ فالنفس شديدة التعطش، والقلوب قد بلغت- من الشوق والاستطلإع- الحناجر. والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه، ويلبسك العافية، ويخلصك وإياي من الورطة، ويحملنا أجمعين على الجادة، ويختم لنا بالسعادة. والسلام الكريم عوداً على بدء ورحمة الله وبركاته، من المحب المتشوق، الذاكر الداعي، ابن الخطيب. في الثاني من جمادى الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة. انتهى. (فأجبته) عن هذه المخاطبات، وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته، فلم يكن شأوه يلحق. ونمق الجواب: سيدي مجداً وعلواً، وواحدي ذخراً مرجواً، ومحل والدي براً وحنواً. ما زال الشوق مذ نأت بي وبك الدار، واستحكم بيننا البعاد يرعي سمعي أنباءك، ويخيل إلي من أيدي الرياح تناول رسائلك، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع، وعهدٍ غير مضاع، وود ذي أجناس وأنواع؛ فنشر بقلبي ميت السلو، وحشر أنواع المسرات، وقد للقائك زناد الأمل؛ ومن الله أسأل الإمتاع بك قبل الفوت على ما يرضيك، ويسني أماني وأمانيك. وحييته تحية الهائم، لمواقع الغمائم، والمدلج، للصباح المتبلج وأمل على مقترح الأولياء، خصوصاً فيك؛ من اطمئنان الحال، وحسن القرار، وذهاب الهواجس، وسكون النفرة؛ وعموماً في الدولة، من رسوخ القدم، وهبوب ريح النصر، والظهور على عدو الله، باسترجاع الحصون التى استنقذوها في اعتلال الدولة، وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانية؛ غربية لا تثبت إلا في الحلم، وآية من آيات الله. وإن خبيئة هذا الفتح في طي العصور السابقة، إلى هذه المدة الكريمة، لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة، حين ظهرت على يدها خوارق العادة، وما تجدد آخر الأيام من معجزات
الملة؛ وكمل فيها والحمد لله بحسن التدبير، ويمن النقيبة، من حميد الأثر، وخالد الذكر، طراز في حلة الخلافة النصرية، وتاج في مفرق الوزارة. كتبها الله لكم فيما يرضاه من عباده. ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا القطر المحروس؛ وأذعته في الملأ سروراً بعز الإسلام، واظهاراً لنغمة الله، واستطراداً لذكر الدولة المولوية بما تستحقه من طيب الثناء، والتماس الدعاء، والحديث بنعمتها، والإشادة بفضلها على الدولة السالفة والخالفة وتقدمها، فانشرحت الصدور حباء وامتلأت القلوب إجلالاً وتعظيماً، وحسنت الآثار اعتقاداً ودعاءً. وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنوانا، ولما عساه يستعجم من لغتي في مناقبها ترجماناً، زاده الله من فضله، وأمتع المسلمين ببقائه. وبثثته شكوى الغريب، من السوق المزعج، والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفاً، للتجافي عن مهاد الأمن، والتقويض عن دار العز، بين المولى المنعم، والسيد الكريم، والبلد الطيب، والإخوان البرة؛(ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ). وان تشوفت السيادة الكريمة إلى الحال، فعلى ما علمتم، سيراً مع الأمل، ومغالبة للأيام على الحظ، وإقطاعا للغفلة جانب العمر:
- هل نافعي والجد في صبب مديً مع الآمال في صعد
رجع الله بنا إليه. ولعل في عظتكم النافعة، شفاء هذا الداء العياء إن شاء الله؛ على أن لطف الله مصاحب، وجوار هذه الرياسة المزنية وحسبك بها علمية عصمة وافية صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدها منهم كما علمتم، على حين تفاقم الخطب، وتلون الدهر، والإفلات من مظان النكبة، وقد رتعت حولها؛ بعد ما جرته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمه، قريعه في الملك، وقسيمه في النسب؛ والتياث الجاه، وتغير السلطان، واعتقال الأخ المخلف،
واليأس منه، لولا تكييف الله في نجائه، والعيث بعده في المنزل والولد، واغتصاب الضياع المقتناة ص بقايا ما متعت به الدولة النصرية- أبقاها الله- من النعمة؛ فآوى إلى الوكر، وساهم في الحادث، وأشرك في الجاه والمال، وأعان على نوائب الدهر، وطلب الوتر، حتى رأى الدهر مكاني، وأمل الملوك استخلاصي، وتجاوزوا في إتحافي. والله المخلص من عقال الامال، والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورطة.
وأنبأني سيدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة، والرسائل البليغة، في هذه الفتوحات الجليلة، وبودي لو وقع الاتحاف بها أو بعضها، فلقد عاودني الندم على ما فرطت. وأما أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم؛ من استقرار السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبدا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره، رحمة الله عليه؛ مضايقاً في جبابة الوطن، وأحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته، مصانعاً لهم بوفره على أمان الرعايا والسابلة، لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت؛ ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة غلاباً كما علمتم، محملا الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها، من الاستبداد والضرب على أيدي المستغلين من الأعراب، منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك، إلا ما شمل البلاد من تغلب العرب، ونقص الأرض من الأطراف والوسط، وخمود ذبال الدول في كل جهة؛ وكل بداية فإلى تمام. وأما أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه، وأما المشرق فأخباز الحاج هذه السنة من اختلاله، وانتقاض سلطانه، وانتزاء الجفاة على كرسية، وفساد المصانع والسقايات المعدة لوفد الله وحاج بيته، ما يسخن العين ويطيل البث، حتى لزعموا أد الهيعة اتصلت بالقاهرة أياماً، وكثر الهرج في طرقاتها وأسواقها، لما وقع بين أسندمر المتغلب بعد يلبغا الخاسكي، وبين سلطانه ظاهر القلعة، من الجولة التي كانت دائرتها عليه، أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى، من حاشية وموالي يلبغا؛
وتقبض على الباقين، فأودع منهم السجون، وصلب الكثير، وقتل سندمر في محبسه، وألقي زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان، فقام بها مستبداً، وقادها مستقلاً؛ وبيد الله تصاريف الأمور، ومظاهر الغيوب، جل وعلاً.
ورغبتي من سيدي أبقاه الله أن لا يغب خطابه عني، متى أمكن، يصل بذلك مننه الجمة، وأن يقبل عني أقدام تلك الذات المولوية، ويعرفه بما عندي من التشيع لسلطانه، والشكر لنعمته، وأن ينهوا عني لحاشيته وأهل اختصاصه، التحية، المختلسة من أنفاس الرياض، كبيرهم وصغيرهم. وقد تأدى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاج نافع سلمه الله تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إياه بتلمسان، بحضرة السلطان أبي حمّو أيده الله فربما يصل، وسيدي يوضح من ثنائي ودعائي ما عجز عنه الكتاب. والله يبقيكم ذخراً للمسلمين، وملاذاً للاملين بفضله. والسلام عليكم وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب، والأهل والحاشية والأصحاب، من المحب فيكم، المعتد بكم شيعة فضلكم، ابن خلدون؛ ورحمة الله وبركاته. عنوانه: سيدي وعمادي، ورب الصنائع والأيادي، والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي، إمام ا أمة، علم الأئمة، تاج الملة، فخر العلماء الجلة، عماد الإسلام، مصطفى الملوك الكرام، نكتة الدول، كافل الإمامة، تاج الدول، أثير الله، ولي أمير المسلمين الغني بالله أيده الله الوزير أبو عبد الله بن الخطيب، أبقاه الله، وتولى عن المسلمين جزاءه. وكتب إلي من غرناطة: يا سيدي وولي، وأخي ومحل ولدي ! كان الله لكم حيث كنتم، ولا أعدمكم لطفه وعنايته. لو كان مستقركم بحيث يتأتى لي إليه ترديد رسول، أو إيفاد متطلع، أو توجيه نائب، لرجعت على نفسي باللائمة في إغفال حقكم؛ ولكن العذر ما علمتم؛ واحمدوا الله على الاستقرار في كهف ذلك الفاضل الذي وسعكم كنفه.وشملكم فضله شكر الله حسبه الذي لم يخلف، وشهرته التي لم تكذب.وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ، وافد الحرمين بمجموع الفتوح، في إيصال كتابي
هذا، وبودي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رئيسها وصدرها، فيكون لكم في ذلك بعض أنس، وربما تأدى ذلك في بعضه مما لم يختم عليه، وظاهر الأمور نحيل علية في تعريفكم بها، وأما البواطن فمما لا يتأتى كثرة وضنانة، وأخص، بالصاد، ما أظن تشوفكم إليه حالي. فاعملوا أني قد بلغ بي الماء الزبى، واستولى علي سؤ المزاح المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز العلاج، لبقاء السبب، والعجز عن دفعه. وهي هذه المداخلة جعل الله العاقبة فيها إلى خير؛ ولم أترك وجهاً من وجوه الحيلة إلا بذلته. فما أغنى ذلك عني شيئاً، ولولا أنني بعدكم شغلت الفكر بهذر التأليف، مع الزهد. وبغد العهد. وعدم الإلماع بمطالعة الكتب. لم يتمش حالي من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد؛ وآخر ما صدر عني كناش سميته باستنزال اللطف الموجود، في أشر الوجود أمليته في هذه الأيام التي أقيم بها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد. بوذى لو وقفتم عليه. وعلى كتابي في المحبة؛ وعسى الله أن ييسر ذلك. ومع هذا كله. والله ما قصرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم. إما من جهة أخيكم؛ أو من جهة السيد الشريف أبي عبد الله. حتى من المغرب إذا سمعت الركب يتوخه منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا. والأحوال كلها على تركتموها عليه. وأحبابكم بخير. على ما علمتم من الشوق والتشوف والارتماض لمفارقتكم. ولا حول ولا قوة إلا بالله. والله يحفظكم. ويكون لكم. ويتولى أموركم؛ والسلام عليكم ورحمة الله. من المحب الواحش الشيخ ابن الخطيب. في غرة ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة. وبباطنه مدرجة نصها: سيدي رضي الله عنكم. استقر بتلمسان. في سبيل تقلب ومطاوعة مزاج تعرفونه صاحبنا المقدم في صنعة الطب أبو عبد الله الشقوري. فإن اتصل بكم فأعينوه على يقف عليه اختياره وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم. عنوانه:- سيدي ومحل أخي. الفقيه الجليل. الصدر الكبير المعظم. الرئيس الحاجب. العالم
الفاضل الوزير ابن خلدون. وصل الله سعده. وحرس مجده. بمنه
وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات. وإن كانت فيما يظهر. خارجة عن غرض الكتاب. لأن فيها كثيراً من أخباري. وشرح حالي. فيستوفي ذلك منها من يتشوف إليه من المطالعين للكتاب. ثم إن السلطان أبا حمّو لم يزل معتملاً في الاجلاب على بجاية. واستئلاف قبائل رياح لذلك. ومعولا على مشايعتي فيه. ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص، لما كان بينه وبين أبي العباس صاحب بجاية وقسنطينة، وهو ابن أخيه، من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك، وكان يوفد رسله عليه في كل وقت، ويمرون بي، وأنا ببسكرة، فأؤكد الوصلة بمخاطبة كل منهما؛ وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمّو بعد إجفاله عن بجاية، واختلال معسكره، قد سار في أثره إلى تلمسان، وأجلب على نواحيها، فلم يظفر بشيء، وعاد إلى بلاد حصين، فأقام بينهم، واشتملوا عليه، ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط، واختلف أحياء زغبة على السلطان، وانتبذ الكثير عنه إلى القفر. ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم؛ فخرج في عساكره في منتصف تسع وستين وسبعمائة إلى حصين وأبي زيان، واعتصموا بجبل تيطري، وبعث إلي في استنفار الزواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء، وكتب يستدعي اشياخهم: يعقوب بن علي كبير أولاد محمد، وعثمان بن يوسف كبير أولاد سباع بن يحيى. وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بإمدادهم في ذلك، فأمدهم؛ وسرنا مغربين إليه، حتى نزلنا القطفا بتل تيطري، وقد أحاط السلطان به من جانب التل، على أنه إذا فرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العباس؛ فاستألف من بقي من قبائل رياح، وعسكر بطرف ثنية القصاب المفضية إلى المسيلة. وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة: وهم خالد بن عامر كبير بني عامر وأولاد عريف كبراء سويد، ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا؛ فأجفلت أحياء الزواودة، وتأخرنا إلى المسيلة، ثم إلى الزاب. وسارت زغبة إلى تيطري، واجتمعوا مع أبي زيان وحصين، وهجموا على معسكر السلطان أبي حمّو ففلوه ورجع منهزماً إلى تلمسان. ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زعبة ورياح يؤمل الظفر بوطنه وابن عمه، والكرة على بجاية عاماً فعاماً، وأنا على حال في مشايعته، وإيلاف ما بينه وبين الزواودة، والسلطان أبي إسحق صاحب تونس، وابنه خالد من بعده. ثم دخلت
زغبة نجي طاعته، واجتمعوا على خدمته، ونهض من تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية، وذلك. في أخريات إحدى وسبعين وسبعمائة؛ فوفدت عليه بطائفة من الزواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله، ونطالعه بما يرسم لهم في خدمته، فلقيناه بالبطحاء. وضرب لنا موعداً بالجزائر، انصرف به العرب إلى أهليهم، وتخففت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم، وصليت به عيد الفطر على البطحاء، وخطبت به، وأنشدته عند انصرافه من المصفى أهنيه بالعيد، وأحرضه:
- هذي الديار فحيهن صباحا وقف المطايا بينهن طلاحا
- لا تسأل الأطلال إن لم تروها عبرات عينك واكفاً ممتاحا
- فلقد أخذن على جفونك موثقا أن لا يرين مع البعاد شحاحا
- إيه عن الحي الجميع وربما طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا
- ومنازل للظاعنين استعجمت حزنا وكانت بالسرور فصاحا
وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها إلا هذا. وبينما نحن في ذلك، بلغ الخبر بأن السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش، وكان آخذا بمخنقه منذ حول. وساقه إلى فاس فقتله بالعذاب، وإنه عازم على النهوض إلى تلمسان، لما سلف من السلطان أبي حمّو أثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبلة، من الأجلاب على ثغور المغرب؛ ولحين وصول هذا الخبر؛ أضرب السلطان أبو حمّو عن ذلك الشأن الذي كان فيه، وكر راجعاً إلى تلمسان. وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء، مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة، فاستألف، وجمع، وشد الرحال، وقضى عيد الأضحى؛ وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس، لتعذر الوجهة إلى بلاد رياح، وقد أظلم الجو بالفتنة، وانقطعت السبل؛ فأذن لي، وحملني رسالة فيما بينه وبين. السلطان ابن الأحمر. وانصرفت إلى المرسى بهنين؛ وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازا في عساكره؛ فأجفل بعدي من تلمسان، ذاهباً إلى الصحراء عن طريق البطحاء. وتعذر علي ركوب البحر من هنين فأقصرت، وتأدى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين، وإن معي وديعة احتملتها إلى صاحب
بالأندلس، تخيل ذلك بعض الغواة، فكتب إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة، واستمر هو إلى تلمسان؛ ووافتني السرية بهنين وكشفوا الخبر فلم يقفوا على صحته، وحملوني إلى السلطان، فلقيته قريباً من تلمسان، واستكشفني عن ذلك الخبر، فأعلمته بيقينه. وعنفنى على مفارقة دارهم، فاعتذرت له بما كان من عمر بن عبد الله المستبد عليهم، وشهد لي كبير مجلسه، وولي أبيه وابن وليه: ونزمار بن عريف، ووزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة؛ واحتفت الألطاف. وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية، وأفهمني أنه يروم تملكها؛ فهونت عليه السبيل إلى ذلك، فسر به؛ وأقمت تلك الليلة في الاعتقال. ثم أطلقني من الغد، فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين، ونزلت بجواره مؤثراً لذ؛ خلي والانقطاع للعلم لو تركت له.
مشايعة السلطان عبد العزيز صاب المغرب علي بني عبد الواد: ولما دخل السلطان عبد العزيز تلمسان، واستولى عليها، وبلغ خبره إلى أبي حمّو وهو بالبطحاء، فأجفل من هنالك، وخرج في قومه وشيعته من بني عامر، ذاهباً إلى بلاد رياح؛ فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه. وجمه عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليه ونزمار وتدبيره؛ ثم أعمل السلطان نظره ورأى أن يقدمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطد أمره، وأحملهم على مناصرته، وشفاء نفسه من عدوه بما كان السلطان آنس مني من استتباع رياح، وتصريفهم فيما أريده من مذاهب الطاعة. فاستدعاني من خلوتي بالعباد عند رباط الولي أبي مدين. وأنا قد أخذت في تدريس العلم، واعتزمت على الانقطاع؛ فانسني، وقربني، ودعاني إلى ما ذهب إليه من ذلك؛ فلم يسعني إلا إجابته. وخلع علي، وحملني؛ وكتب إلى شيوخ الزواودة بامتثال ما ألقيه إليهم من أوامره. وكتب إلى يعقوب بن علي، وابن
مزنى بمساعدتي على ذلك، وأن يحاولوا على استخلاص أبي حمّو من بين أحياء بني عامر، ويحولوه إلى حي يعقوب بن علي؛ فودعته وانصرفت في عاشوراء إثنين وسبعين وسبعمائة، فلحقت الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء. ولقيته، ودفعت إليه كتاب السلطان، وتقدمت أمامه. وشيعني ونزمار يومئذ، وأوصاني بأخيه محمد. وقد كان أبو حمّو قبض عليه عندما أحس منهم بالخلاف، وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب. وأخرجه معه من تلمسان مقيداً، واحتمله في معسكره؛ فأكد علي ونزمار يومئذ في المحاولة على استخلاصه بما أمكن. وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد يبذرق بي ويتقدم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيان من بينهم؛ فسرنا جميعاً، وانتهينا إلى أحياء حصين. وأخبرهم فرح بن عيسى بوصية عمه ونزمار إليهم، فنبذوا إلى أبي زيان عهده، وبعثوا معه منهم من أوصله إلى بلاد رياح. ونزل على أولاد يحيى بن علي بن سباع، وتوغلوا به في القفر، واستمريت أنا ذاهباً إلى بلاد رياح؛ فلما انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمّو وأحياء رياح معسكرين قريباً منها في وطن أولاد سباع بن يحيى من الزواودة، وقد تساتلوا إليه، وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه. فلما سمعوا بمكاني بالمسيلة، جاؤوا إلي فحملتهم على طاعة السلطان عبد العزيز، وأوفدت أعيانهم وشيوخهم على الوزير أبي بكر بن غازي، فلقوه ببلاد الديالم عند نهر واصل؛ فآتوه طاعتهم، ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوه. ونهض معهم، وتقدمت أنا من المسيلة إلى بسكرة، فلقيت بها يعقوب بن علي. واتفق هو وابن مزنى على طاعة السلطان، وبعث ابنه محمداً للقاء أبي حمّو وأمير بني عامر خالد بن عامر؛ يدعوهم إلى نزول وطنه، والبعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز؛ فوجده متدلياً من المسيلة إلى الصحراء. ولقيه على الذوسن وبات ليلته يعرض عليهم التحول من وطن أولاد سباع إلى وطنهم بشرقي الزاب. وأصبح يومه كذلك، فما راعهم آخر النهار إلا انتشار العجاج خارجاً إليهم من أفواه الثنية؛ فركبوا يستشرقون، وإذا بهوادي الخيل طالعة من الثنية، وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة متتالية أمام الوزير أبي بكر بن غازي، قد دل بهم الطريق وفد أولاد سباع الذين بعثتهم من المسيلة؛ فلما أشرفوا على المخيم، أغارو عليه مع غروب الشمس؛ فأجفل بنو عامر، وانتهب فخيم السلطان أبي حمّو ورحائله وأمواله. ونجا بنفسه تحت الليل، وتمزق شمل ولده وحرمه، حتى خلصوا إليه بعد أيام، واجتمعوا بقصور مصاب من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من نهابهم. وانطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة. أطلقه الموكلون به، وجاء إلى الوزير وأخيه وتزمار، وتلقوه بما يجب له. وأقام الوزير أبو بكر بن غازي على الدوسن أياماً أراح فيها وبعث إليه ابن مزنى بطاعته، وارغد له من الزاد والعلوفة، وارتحل راجعاً إلى المغرب وتخففت بعده أياماً عند أهلي ببسكرة. ثم ارتحلت إلى السلطان في وفد عظيم مرّ الزواودة، يقدمهم أبو دينار أخو يعقوب بن علي، وجماعة من أعيانهم؛ فسابقنا الوزير إلى تلمسان، وقدمنا على السلطان؛ فوسعنا من حبائه وتكرمته، ونزله ما بعد العهد بمثله. ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء، بعد أن مرّ بقصور بني عامر هنالك فخربها، وكان يوم قدومه على السلطان يوماً مشهوداً؛ وأذن بعدها لوفود الزواودة بالانصراف إلى بلادهم. وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير، ووليه ونزمار بن عريف؛ فودعوه، وبالغ في الاحسان إليهم، وانصرفوا إلى بلادهم. ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيان من بين أحياء الزواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين؛ فوامرني في ذلك، وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم، فانطلقت لذلك. وكان أحياء حصين قد توجسوا الخيفة من السلطان وتنكروا له، وانصرفوا إلى أهلهم بعد مرجعهم من غزاتهم مع الوزير، وبادروا باستدعاء أبي زيان من مكانه عند أولاد يحيى بن علي، وأنزلوه بينهم؛ واشتملوا عليه، وعادوا إلى الخلاف الذي كانوا عليه أيام أبي حمّو؛ واشتعل المغرب الأوسط ناراً. ونجم صبي من بيت الملك في مغراوة، وهو حمزة بن علي بن راشد؛ فر من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها فاستولى على شلف، وبلاد قومه. وبعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته، وأعيا داؤه؛ وانقطعت أنا ببسكرة، وحال ذلك ما بيني وبين السلطان الا بالكتاب والرسالة. وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس، وقدومه على السلطان بتلمسان؛ توجس الخيفة من سلطانه، بما كان له من الاستبداد عليه، وكثرة السعاية من البطانة فيه؛ فأعمل الرحلة إلى الثغور المغربية لمطالعتها بإذن سلطانه. فلما حاذى جبل الفتح قفل الفرضة، دخل إلى الجبل، وبيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد هنالك بقبوله. وأجاز البحر من حينه إلى سبتة، وسار إلى السلطان بتلمسان، وقدم عليهما في يوم مشهود. وتلقاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النعم بما لا يعهد مثله. وكتب إلي من تلمسان يعرفني يخبره، ويلم ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس. ولم يحضرني الأن كتابه؛ فكان جوابي عنه ما نصه:
الحمد لله ولا قوة إلا بالله، ولا راد لما قضاه الله. يا سيدي وبعم الذخر الأبدي، والعروة الوثقى التي اعتلقتها يدي، أسلم عليكم سلام القدوم، على المخذوم، والخضوع، للملك المتبوع، لا ! بل أحييكم تحية المشوق، للمعشوق، والمدلج، للصباح المتبلج، وأقرر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي فيه من خبي لكم، ومعرفتي بمقداركم، وذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم، والثناء عليكم، والإشادة في الإنفاق بمنقاقبكم، ديدنا معروفاً، وسجيةً راسخةً، يعلم الله وكفى به شهيداً؛ وبهذا كما في علمكم قسما ما اختلف لي فيه أولاً ولا آخراً، ولا شاهداً ولا غائباً. وأنتم أعلم بما في نفسي، وأكبر شهادة في خفايا ضميري. ولو كنت ذاك، فقد سلف من حقوقكم، وجميل اخذكم، واجتلاب الحظ- لو هيأه القدر- بمساعيكم، وإيثاري بالمكان من سلطانكم، ودولتكم، ما يستلين معاطف القلوب، ويستل سخائم الهواجس، فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة، أو إحقاق ظن؛ ولو تعلق بقلب ساق حر ذرء وذرء، فحاش لله أن يقدح في الخلوص لكم، أو يرجح سوابقكم، إنما هو خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء. ووالله وجميع ما يقسم به، ما اطلع على مستكنه مني غير صديقي وصديقكم الملابس- كان- لي ولكم الحكيم الفاضل العلم أبي عبد الله الشقوري أعزه الله. نفثة مصدور، ومباثة خلوص، إذ
أنا أعلم الناس بمكانه منكم، وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان، واضمحلال أمره، من إجماع الأمر على الرحلة إليكم، والخفوف إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدو بكم، تعرضت فيها للتهم، ووقفت بمجال الظنون، حتى تورطت في الهلكة بما ارتفع عني مما لم آته، ولا طويت العقد عليه، لولا حلم مولانا الخليفة، وحسن رأيه في وثبات بصيرته، لكنت في الهالكين الأولين؛ كل ذلك شوقاً إلى لقائكم، وتمثلاً لأنسكم؛ فلا تظنوا بي الظنون، ولا تصدقوا في التوهمات، فانا من علمتم صداقة، وسذاجة، وخلوصا، واتفاق ظاهر وباطن، أثبت الناس عهداً، وأحفظهم غيباً، وأعرفهم بوزن الإخوان ومزايا الفضلاء؛ ولأمر ما تأخر كتابي من تلمسان فأني كنت أستشعر ممن استضافني ريباً بخطاب سواه، خصوصاً جهتكم، لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة واتصال اليد، مع أن الرسول تردد إلي، وأعلمني اهتمامكم واهتمام السلطان، تولاه الله، باستكشاف ما انبهم من حالي؛ فلم أترك شيئاً مما أعلم تشوفكم إليه إلا وكشفت له قناعه، وأمنته على بلاغه؛ ولم أزل بعد انتياش مولانا الخليفة لذمائي، وجذبه بضبعي سابحاً في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر. وسقطت إلي بمحل خدمتي من هذه القاصية أخبار خلوصكم إلى المغرب، قبل وصول راجلي إلى الحضرة، غير جلية ولا ملتئمة ولم يتعين فلقي العصى ولا مستقر النّوى؛ فأرجأت الخطاب إلى استجلائها؛ وأفدت في كتابكم العزيز علي، الجاري على سنن الفضل، ومذهب المجد، غريب ما كيفه القدر من تنويع الحال لديكم. وعجبت من تأتي أملكم الشارد فيه كما كنا نستبعده عند المفاوضة؛ فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه، وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين، العائدة بحسن المآل في المخلف: من أهل وولد ومتاع وأثر، بعد أن رضتم جموح الأيام، وتوقلتم قلل العز، وقدتم الدنيا بحذافيرها، وأخذتم بآفاق السماء على أهلها. وهنيئاً فقد نالت نفسكم التواقة أبعد أمانيها، ثم
تاقت إلى ما عند الله؛ واشهد لما ألهمتم للإعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الإصحاب والإقبال، ونهى الآمال، إلا جذبا وعناية من الله، وحباً؛ وإذا أراد الله أمراً يسر أسبابه.واتصل بي ما كان من تحفي المثابة المولوية بكم، واهتزاز الدولة لقدومكم؛ ومثل
تلك الخلافة، أيدها الله، من يثابر على المفاخر، ويستأثر بالأخاير. وليت ذلك عند إقبالكم على الحظ، وأنسكم باجتلاب الامال، حتى يحسن المتاع بكم، ويتجمل السرير الملوكي بمكانكم؛ فالظن إن هذا الباعث الذي هزم الآمال، ونبذ الحظوظ، وهون المفارق العزيز، يسومكم الفرار إلى الله، حتى يأخذ بيدكم إلى فضاء المجاهدة، ويستوي بكم على خودي الرياضة. والله يهدي للتي هي أقوم. وكأني بالأقدام تلت، والبصائر بإلهام الحق صقلت، والمقامات خلفت بعد أن استقبلت، والعرفان شيمت أنواره وبوارقه، والوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه. وأما حالي، والظن بكلم الاهتمام بها، والبحث عنها، فغير خفية بالباب المولوي- أعلاه الله- ومظهرها في طاعته، ومصدرها عن أمره، وتصاريفها في خدمته، والزعم إني قمت المقام المحمّود في التشيع، والانحياش، واستمالة الكافة، إلى المناصحة، ومخالطة القلوب للولاية؛ وما يتشوفه مجدكم ويتطلع إليه فضلكم واهتمامكم، من خاصيها في النفس والولد، فجهينة خبره مؤذي كتابي إليكم، ناشىء تأديبي، وثمرة تربيتي؛ فسهلوا له الإذن، وألينوا له جانب النجوى، حتى يؤدي ما عندي وما عندكم، وخذوه بأعقاب الأحاديث أن يقف عند مبادئها، وائتمنوه على ما تحدثون، فليس بظنين على السر. وتشوفي لما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المغرب في المجد والفضل، المساهم في الشدائد، كبير المغرب، وظهير الدولة، أبو يحيى بن أبي مدين- كان
الله له- في شأن الولد والمخفف، تشوف الصديق لكم، الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يدكم، فأطلعوني طلع ذلك ولا يهمكم؛ فالفراق الواقع حسن، والسلطان كبير، والأثر جميل، والعدو الساعي قليل وحقير، والنية صالحة، والعمل خالص؛ ومن كان لله كان الله له.
واستطلاع الرياسة المزنية الكافلة- كافأ الله يدها البيضاء- عني وعنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم، ويشكر الزمان على ولاده لمثلكم. وقد قررت لعلومه من مناقبكم، وبعد شأوكم، وغريب منحاكم، ما شهدت به آثاركم الشائعة، الخالدة في الرسائل المتأدية، وعلى ألسنة الصادر والوارد من الكافة؛ من حمل الدولة، واستقامة السياسة؛ ووقفته على سلامكم، وهو يراجعكم بالتحية، ويساهمكم بالدعاء. وسلامي على سيدي، وفلذة كبدي ومحل ولدي، الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم، أعزه الله؛ وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدولة بالمكان العزيز، والرتبة النابهة، والله يلحفكم جميعاً رداء العافية والستر ويمهد لكم محل الغبطة والأمن، ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته، ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته؛ والسلام الكريم يخصكم من المحب الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم: عبد الرحمن بن خلدون، ورحمة الله وبركاته في يوم الفطر عام إثنين وسبعين وسبعمائة.وكان بعث إلي مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس، عندما دخل جبل الفتح، وصار إلى إيالة بني مرين، فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب، فرأيت أن أثبته هنا وإن لم يكن من غرض التأليف لغربته، ونهايته في الجودة، وإن مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب، مع ما فيه من زيادة الاطلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها. ونص الكتاب:
#بانوا فمن كان باكياً يبكي هذي ركاب السرى بلا شك #فمن ظهور الركاب معملة إلى بطون الربى إلى الفلك
#تصدع الشمل مثلما انحدرت إلى صبوب جواهر السلك #من النوى قبل لم أزل حذراً هذى النوى جل مالك الملك
مولاي. كان الله لكم وتولى أمركم. أسلم عليكم سلام الوداع، وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع، بعد التفرق والانصداع؛ وأقرر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار، مسلوب الاختيار، متقلب في حكم الخواطر والأفكار، وأن لا بد لكل أول من آخر، وأن التفرق لما لزم كل إثنين بموتٍ أو في حياة، ولم يكن منه بد، كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب، ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور. وبعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم ومقامه لديكم بحال قلق وقلعة، لولا تعليلكم، ووعدكم، وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم، وقطع مراحل الأيام حريصاً على استكمال سنكم، ونهوض ولدكم واضطلاعكم بأمركم، وتمكن هدنة وطنكم، وما تحمل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم، وما استقر بيده من عهودكم، وأن العبد الآن لما تسبب لكم في الهدنة من بعد الظهور وإلعز، ونجح السعي، وتأتى لسنين كثيرة الصلح، ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس فشغب من القرابة، وتحرك لمطالعة الثغور الغربية، وقرب من فرضة المجاز، واتصال الأرض ببلاد المشرق، طرقته الأفكار، وزعزعت صبره رياح الخواطر، وتذكر إشراف العمر على التمام، وعواقب الاستغراق، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض، فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع، والوطن المليح، والجاه الكبير، والسلطان القليل النظير، وعمل بمقتضى قوله: "موتوا قبل أن تموتوا". فإن صحت هذه الحال المرجو من إمداد الله، تنقلت الأقدام إلى أمام، وقوي التعلق بعروة الله الوثقى، وإن وقع العجز، وافتضح العزم، فالله يعاملنا بلطفه. وهذا المرتكب مرام صعب، لكن سهله علي أمور: منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد، لم يتعين على غير هذه الصورة، إذ كان عندكم من باب المحال. ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف، لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا والله ! ولكان الموت أسبق إليئ؛ وكفى بهذه الوسيلة الحبية- التي يعرفها- وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به، وأظن أني لا اصدق. ومنها اغتنام المفارقة في زمن
الأمان، والهدنة الطويلة، والاستغناء؛ إذ كان الانصراف المفروض ضرورياً قبيحاً في غير هذه الحال. ومنها- وهو أقوى الأعذار- إنني مهما لم أطق تمام هذا الأمر، أو ضاق ذرعي به، لعجز، أو مرض، أو خوف طريقٍ، أو نفاد زاد، أو شوق غالب، رجعت رجوع الأب الشفيق، إلى الولد البر الرضي، إذ لم أخلف ورائي مانعاً من الرجوع، من قول قبيح أو فعل؛ بل خففت الوسائل المرعية، والآثار الخالدة، والسير الجميلة؛ وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي، وكبار وطني، وأهل طوري، وتركتكم على أتم ما أرضاه، مثنياً عليكم، داعياً لكم. وإن فسح الله في الأمد، وقضى الحاجة، فأملي العودة إلى ولدي وتربتي، وإن قطع الأجل، فأرجو أن أكون مفن وقع أجره على الله. فإن كان تصرفي صواباً، وجارياً على السداد، فلا يلام من أصاب، وإن كان عن حمق، وفساد عقل، فلا يلام من اختل عقله؛ وفسد مزاجه، بل يعذر، ويشفق عليه، ويرحم؛ وإن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل، وجلبت الذنوب، وحشرت بعدي العيوب، فحياؤه وتناصفه ينكر ذلك، ويستحضر الحسنات؛ من التربية والتعليم وخدمة السلف وتخليد الاثار وتسمية الولد وتلقيب السلطان، والإرشاد للأعمال الصالحة والمداخلة والملابسة؛ لم يتخلل ذلك قط خيانة في مال ولا سر، ولا غش في تدبير. ولا تعلق به عار، ولا كذره نقص، ولا حمل عليه خوف منكم، ولا طمع فيما بيدكم؛ فإن لم تكن هذه دواعي الرعي والوصلة والإبقاء، ففيم تكون بين بني آدم؛ وأنا قد رحلت. فلا أوصيكم بمال، فهو عندي أهون متروك؛ ولا بولد فهم رجالكم، وخدامكم، ومضن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم؛ ولا بعيال، فهي من مرثيات بيتكم، وخواص داركم، إنما أوصيكم بحظي العزيز- كان علي بوطنكم، وهو أنتم؛ فأنا أوصيكم بكم، فارعوني فيكم خاصة. أوصيكم بتقوى الله، والعمل لغد، وقبض عنان اللهو في موطن الجد، والحياء من الله الذي محص وأقال، وأعاد النعمة بعد زوالها "لينظر كيف تعملون ". وأطلب منكم عوض ما وفرته
عليكم، من زاد طريق، ومكافأة، وإعانة، زاداً سهلاً عليكم، وهو أن تقولوا لي: غفر الله لك ما ضيعت من حقي خطأ أو عمداً؛ وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت. واعلموا أيضاً على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل ملك؛ واعتقاده، وبره، والسؤال عنه، وذكره بالجميل، والإذن في زيارته، نجابة منكم، وسعة ذرع ودهاء، فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت، ثم أقشعت، وتركت الأزاهر تفوح، والمحاسن تلوح؛ ومثاله معكم مثال المرضعة أرضعت السياسة،
والتدبير الميمون، ثم رقدتكم في مهد الصلح والأمان، وغطتكم بقناع العافية، وانصرفت إلى الحمام تغسل اللبن والوضر، وتعود؛ فإن وجدت الرضيع نائما فحسن، أو قد انتبه فلم تتركه إلا في حد الفطام. وتختم لكم هذه الغزارة بالحلف الأكيد: إني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين، ولا في دنيا، إلا وقد وفيتها لكم، ولا فارقتكم إلا عن عجز؛ ومن ظن خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم؛ والله يرشدكم ويتولى أمركم. ونقول: خاطركم في ركوب البحر. انتهت نسخة الكتاب، وفي طيها هذه الأبيات:
#صاب مزن الدموع من جفن صبك عندما استروح الصبا من مهبك #كيف يسلو ياجتي عنك قلب كان قبل الوجود جن بحبك #ثم قل كيف كان بعد انتشاء الروح من أنسك الشهيئ وقربك #لم يدع بيتك المنيع حماه لسواه إلا إلى بيت ربك #أول عذري الرضا فما جئت بدعاً دمت والفضل والرضا من دأبك #وإذا ما ادعيت كرباً لفقدي أين كربي ووحشتي من كربك #ولدي في ذراك وكري في دو حك لحدي وتربتي في تربك #يا زمانا أغرى الفراق بشملي ليتني أهبتي أخذت لحربك #اركبتني صروفك الصعب حتى جئت بالبين وهو أصعب صعبك وكتب آخر النسخة يخاطبني:
هذا ما تيسر، والله ولي الخيرة لي ولكم من هذا الخباط الذي لا نسبة بينه وبين أولي الكمال. ردنا الله إليه، وأخلص توكلنا عليه، وصرف الرغبة إلى ما لديه. وفي طي النسخة مدرجة نصها: رضي الله عن سيادتكم. أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع مما استحضره الولد في الوقت؛ وهو يسلم عليكم بما يجب لكم؛ وقد حصل من حظوة هذا المقام الكريم على حظ وافر، وأجزل إحسانه، ونوه بجرايته، وأثبت الفرسان خلفه. والحمد لله انتهى. ثم اتصل مقامي ببسكرة، والمغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الأتصال بالسلطان عبد العزيز، وحمزة بن علي بن راشد ببلاد مغراوة، والوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمّومت، وأبو زيان العبد الوادي ببلاد خصين، وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته. ثم سخط السلطان وزيره عمر بن مسعود، ونكر منه تقصيره في أمر حمزة وأصحابه، فاستدعاه إلى تلمسان، وقبض عليه، وبعث به إلى فاس معتقلاً، فحبس هناك، وجهز العساكر مع الوزير أبي بكر بن غازي، فنهض إليه، وحاصره؛ ففر من الحصن، ولحق بمليانة مجتازا عليها، فأنذر به عاملها فتقبض عليه، وسيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه، فضرب أعناقهم، وصلبهم عظةً ومزدجر الأهل الفتنة. ثم أوعز السلطان بالمسير إلى حصين، وأبي زيان، فسار في العسكر، واستنفر أحياء العرب من فأوعبهم، ونهض إلى حصين، فامتنعوا بجبل تطري، ونزل الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على الجبل تطري، من جهة التل، فأخذ بمخنقهم، وكاتب السلطان أشياخ الزواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة. وكاتب أحمد بن مزنى صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم وكتب إلي يأمرني بالمسير بهم لذلك، فاجتمعوا علي، وسرت بهم أول سنة أربع وسبعين وسبعمائة؛ حتى نزلنا بالقطفة، ووفدت، في جماعة منهم، على الوزير بمكانه من حصار تيطري، فحد لهم حدود الخدمة، وشارطهم على الجزاء. ورجعنا إلى أحيائهم بالقطفة؛ فاشتدوا في
حصار الجبل، وألجأوهم بسوامهم وظهرهم إلى قنته، فهلك لهم الخف والحافر، وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب؛ وراسل بعضهم في الطاعة خفيةً، فارتاب بعضهم من بعض، فانفضوا ليلاً من الجبل، وأبو زيان معهم، ذاهبين إلى الصحراء؛ واستولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلفهم. ولما بلغوا مأمنهم من القفر، نبذوا إلى أبي زيان عهده. فلحق بجبال غمرة، ووفد أعيانهم على السلطان عبد العزيز بتلمسان، وفاءوا إلى طاعته، فتقبل فيئتهم، وأعادهم إلى أوطانهم. وتقدم إلي الوزير- عن أمر السلطان- بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سباع، للقبض على أبي زيان في جبل غمرة، وفاء بحق الطاعة، لأن غمرة من رعاياهم؛ فمضينا لذلك، نجده عندهم. وأخبرونا أنه ارتحل عنهم إلى بلد وأن كلا من مدن الصحراء؛ فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان؛ فانصرفنا من هنالك. ومضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم، ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة،وخاطبت السلطان بما وقع في ذلك، وأقمت منتظراً أوامره حتى جاءني استدعاؤه الى حضرته، فارتحلت إليه.
فضل الوزير ابن الخطيب: وكان الوزير ابن الخطيب آيةً من آيات الله في النظم والنثر، والمعارف والأدب؛ لا يساجل مداه، ولا يهتدى فيها بمثل هداه. فمما كتب عن سلطانه إلى سلطان تونس جواباً عن كتاب وصل إليه مصحوباً بهدية من الخيل والرقيق، فراجعهم عنه بما نصه إلى آخره: الخلافة التي ارتفع في عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مباني فخرها الشائع، وعزها الذائع، على ما أسسه الأسلاف ووجب لحقها الجازم، وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والاكناف؛ فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا
على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض. الأفواف، لما زارها الغمام الوكاف؛ ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحق والإنصاف. خلافة وجهة تعظيمنا إذ توجهت الوجوه ومن نؤثره إذا أهمنا ما نرجوه، ونفديه ونبديه إذا استمنح المحقوب واستدفع المكروه السلطان الكذا بن أبي اسحق ابن السلطان الكذا، أبي يحى بن أبي بكر ابن السلطان الكذا، أبي زكرياء ابن السلطان الكذا، أبي اسحق ابن الأمير الكذا، أبي زكرياء ابن الشيخ الكذا، أبي محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص، أبقاه الله ومقامه مقام إبراهيم رزقاً وأمانا. لا يخض جلب الثمرات إليه وقتاً ولا يعين زماناً؛ وكان على من يتخطف الناس من حوله مؤيداً بالله معانا. معظم.قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقه بالابتدار، المثنى على معاليه المخلدة الاثار، في أصونة النظام والنثار، ثناء الروضة المعطار، على الأمطار، الداعي إلى الله بطول بقائه في عصمة منسدلة الأستار، وعزة ثابتة المركز مستقيمة المدار، وأن يختم له بعد بلوغ غايات الحال، ونهاية الأعمال، بالزلفى وعقبى الدار.
عبد الله الغني بالته أمير المسلمين، محمد بن مولانا أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر.
سلام كريم كما حملت أحاديث الأزهار نسمات الأسحار، وروت ثغور الأقاحي والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلى على منصة الاشتهار، وجه عروس البهار؛ يخص خلافتكم الكريمة النجار، العزيزة الجار ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن قياسها، وجعل الأرواح "أجناداً مجندة"- كما ورد في الخبر- تحن إلى أجناسها، منجد هذه الملة من أوليائه الجلة بمن يروض الآمال بعد شماسها، وييسر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودات في ذاته وابتغاء مرضاته على حين أخلاق لباسها؛ الملك الحق، واصل الأسباب بحوله بعد انتكاث أمراسها ومغني النفوس بطوله، بعد إفلاسها- حمداً يدر أخلاف النعم بعد إبساسها، وينشر رمم الأموال من أرماسها، ويقدس النفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها عند اقتناء الأنوار واقتباسها، فطهر الأرض من أوضارها وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيد الرسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها، الآتي مهيمناً على آثارها، في حين فترتها ومن بعد نصرتها واستيئاسها، مرغم الضراغم في أخياسها، بعد افترارها وافتراسها، ومعفر أجرام الأصنام وفصمت أجراسها.
والرضا عن آله وأصحابه وعترته وأحزابه، حماة شرعته البيضاء وحراسها، وملقحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام مراسها، ورهبان الدجى تتكفل مناجاة السميع العليم، في وحشة الليل البهيم بإيناسها، وتفاوح نسيم الأسحار، عند الإستغار، بطيب أنفاسها.
والدعاء لخلافتكم العلية المستنصرية بالصنائع التي تشعشع أيدي العزة القعساء
من أكواسها، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها، وأنباء الفتوح، المؤيدة بالملائكة والروح، ريحان جلاسها وآيات المفاخر التي ترك الأول للآخر، مكتتبة الأسطار بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وبأسها، والعز والعدل منسوبين لفسطاطها وقسطاسها، وصفيحة النصر العزيز تقبض كفها، المؤيدة بالته، على رياسها، عند اهتياج أضدادها، وشره أنكاسها، لانتهاب البلاد وانتهاسها وهبوب رياح رياحها وتمرد مرداسها.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من كتائب نصره أمداداً تذعن أعناق الأنام، لطاعة ملككم المنصور الأعلام، عند إحساسها، وآتاكم من آيات العنايات، آية تضرب الصخرة الصماء، ممن عصاها بعصاها، فتبادر بانبجاسها،- من
حمراء غرناطة، حرسها الله، وأيام الإسلام، بعناية الملك العلام تحتفل وفود الملائكة الكرام، لولائمها وأعراسها، وطواعين الطعان، في عدو الدين المعان، تجدد عهدها بعام عمواسها. والحمد لله حمداً معاداً يقيد شوارد النعم، ويستدر مواهب الجود والكرم ويؤمن من انتكاث الجدود وانتكاسها، ولي الامال ومكاسها؛ وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها، زهو الرياض بوردها وآسها، وتستمد أضواء الفضائل من مقباسها، وتروي رواة الإفادة، والإجادة غريب الوجادة، عن ضحاكها وعباسها. وإلى هذا اعلى الله معارج قدركم، وقد فعل، وأنطق بحجج فخركم من احتفى وانتعل، فإنه وصلنا كتابكم الذي حسبناه، على صنائع الله لنا، تميمة لا تلقع بعدها عين، وجعلناه – على حلل مواهبه- قلادةً لا يحتاج معها زين، ودعوناه من جيب الكنانة آيةً بيضاء الكتابة، لم يبق معها شك ولا مين، وقرأنا منه وثيقة ودً هضم فيها عن غريم الزمان دين، ورأينا منه إنشاءً، خدم اليراع بين يديه وشاءً، واحتزم بهميان عقدته مشاءً، وسئل عن معانيه الإختراع فقال: (إنا انشأناهن إنشاءً)؛ فأهلاً به من عربي أبيً يصف السانح والبانة، ويبين فيحسن الإبانة، أدى الأمانة، وسئل عن حيه فانتمى إلى كنانة، وافصح وهو لا ينبس، وتهللت قسماته وليل حبره يعبس؛ وكأن خاتمه المقفل على صوانه، المتحف بباكر الورد في غير اوانه، رعف من مسك عنوانه؛ ولله من قلم دبج تلك الحلل، ونقع بمجاج الدواة المستمدة من عين الحياة الغلل؛ فلقد تخارق في الجود، مقتدياً بالخلافة التي خلد فخرها في الوجود، فجاد بسر البيان ولبابه، وسمح في سبيل الكرم حتى بماء شبابه، وجمع لفرط بشاشته وفهامته، بند شهادة السيف بشهامته، فمشى من الترحيب، في الطرس الرحيب، على أم هامته.
وأكرم به من حكيم، أفصح بملغوز الإكسير، في اللفظ اليسير، وشرح بلسان الخبير، سر صناعة التدبير، كأنما خدم الملكة الساحرة بتلك البلاد، قبل اشتجار الجلاد، فآثرته بالطارف من سحرها والتلاد، أو عثر بالمعلقة، وتيك القديمة المطلقة، بدفينة دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني
الحنايا، قبل أن تقطع به عن أمانيه المنايا، ببديعة، أو خلف جرجير الروم، قبل منازلة القروم، على وديعة، أو أسلمه ابن أبي سرح، في نشب للفتح وسرح، أو حتم له روح بن حاتم ببلوغ المطلب، أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب، أو خصه زيادة الله بمزيد، أو شارك الشيعة في أمر أبي يزيد، أو سار على منهاج، في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كل هاج. وأعجب به، وقد عزز منه مثنى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع، واسترقاق الطباع، بين مثانٍ للإبداع ومثالث، كيف اقتدر على هذا المحيد، وناصح مع التثليث فقام التوحيد؛ نستغفر الله ولي العون، على الصمت والصون، فالقلم هو الموحد قبل الكون، والمتصف من صفات السادة، أولي العبادة، بضمور الجسم وصفرة اللون؛ إنما هي كرامة فاروقية، واثارة من حديث سارية وبقية؛ سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب، عن كريم جناب؛ وإصابة السهم لسواه محسوبة، وإلى الرامي الذي سدده منسوبة؛ ولا تنكر على الغمام بارقة، ولا على المتحققين بمقام التوحيد كرامةً خارقة، فما شاءه الفضل من غرائب بر وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشكر فيها وسجد؛ حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع من مهبها، واستزارت غمائم الطباع من مصبها، فآتت أكلها مرتين بإذن ربها؛ لا. بل كتيبة عزً طاعنت بقنا الألفات سطورها، فلا يرومها النقد ولا يطورها، ونزعت عن قسي النونات خطوطها، واصطفت من بياض الطرس، وسواد النقس، بلق تحوطها.
فما كأس المدير، على الغدير، بين الخورنق والسدير، تقامر بنرد الحباب، عقول ذوي الألباب، وتغم ق كسرى في العباب، وتهدي،- وهي الشمطاء- نشاط الشباب؛ وقد اسرج ابن سريج وألجم، وافصح
الغريض بعد ما جمجم، وأعرب التاي الأعجم، ووقع معبد بالقضيب، وشرعت في حساب العقد بنان الكف الخضيب؛ وكأن الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثقيل بثانية، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه، المراود تشرع في الوشي، أو العناكب تسرع في المشي؛ وما المخبر بنيل الرغائب، أو قدوم الحبيب الغائب؛ لا. بل إشارة البشير، بكم المشير، على العشير، بأجلب للسرور، من زائره المتلقى بالبرور، وادعى للحبور، من سفيره المبهج السفور؛ فلم نر مثله من كتيبة كتاب تجنب الجرد، تمرح في الأرسان، وتتشوف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهز معاطف الارتياح، من صهيلها الصراح، بالنغمات الحسان؛ إذا أوجست الصريخ نازعت أفناء الأعنة، وكاثرت بأسنة آذانها مشرعة الأسنة؛ فإن ادعى الظليم أشكالها فهو ظالم، أو نازعها الظبي هواديها واكفالها فهو هاذٍ أو حالم، وإن سئل الأصمعي عن عيوب الغرر والأوضاح، قال مشيراً إلى وجوهها الصباح:
"جلدة بين العين والأنف سالم " من كل عبل الشوى، مسابق للنجم إذا هوى، سامي التليل، عريض ما تحت الشليل، ممسوحة أعطافه بمنديل النسيم البليل. من أحمر كالمدام، تجلى على الندام، عقب الفدام، أتحف لونه بالورد، في زمن البرد، وحبي أفق محياه بكوكب السعد، وتشوف الواصفون إلى عذ محاسنه فأعيت على العد؛ بحر يساجل البحر عند المد، وريح تباري الريح عند الشد، بالذراع الأشد؛ حكم له مدير فلك الكفل باعتدال فصل القد، وميزه قدره المميز عند الاستباق، بقصب السباق، عند اعتبار الحد، وولد مختط غرته أشكال الجمال، على الكمال، بين البياض والحمرة ونقاء الخد؛ وحفظ الخلق الوجيه، عن جده الوجيه، ولا تنكر الرواية على الحافظ ابن الجد.
وأشقر، أبى الخلق، والوجه الطلق أن يحقر، كأنما صيغ من العسجد، وطرف بالدر وأنعل بالزبرجد، ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة، واختص بفلج الخصام، عند اشتجار المعركة، وانفرد بمضاعف السهام، المنكسرة على الهام، فم الفرائض المشتركة؛ واتصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطبع من أصناف الحركة، أصغى إلى السماء بأذن ملهم؛ وأغرى لسان الصهيل- عند التباس معاني الهمز والتسهيل- ببيان المبهم؛ وفتنت العيون من ذهب جسمه، ولجين نجمه، بالدينار والدرهم؛ فإن انقض فرجم، أو ريح لها حجم، وإن اعترض فشفق لاح به للنجم نجم.
وأصفر قيد الأوابد الحرة، وأمسك المحاسن وأطلق الغرة؛ وسئل من أنت في قواد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب؟ فقال: أنا المهلب بن أبي صفرة؛ نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحثى به وجوه الحرب العوان؛ أغار بنخوة الصائل، على معصفرات الأصائل، فارتداها، وعمد إلى خيوط شعاع الشمس، عند جانحة الأمس، فألحم منها حفته وأسداها، واستعدت عليه تلك المحاسن فما أعداها؛ فهو أصيل تمسك بذيل الليل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من القتام ليله، فيحسده فرقد الأفق وسهيله.
وأشهب تغشى من لونه مفاضة، وتسربل منه لأمةً فضفاضة، قد احتفل زينه، لما
رقم بالنبال لجينه، فهو الأشمط، الذي حقه لا يغمط، والذارع المسارع، والأعزل الذارع، وراقي الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع. وأكرم به من مرتاض سالك، ومجتهد على غايات السابقين الأولين متهالك، وأشهب يروي من الخليفة، ذي الشيم المنيفة، عن مالك.
وحباري كلما سابق وبارى، استعار جناح الحبارى؛ فإذا أعملت الحسبة، قيل من هنا جاءت النسبة، طرد النمر، لما عظم أمره وامر، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزه الفروة ملطخةً بدمه؛ وكأن مضاعف الورد نثر عليه من طبقه، أو الفلك، لما ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه.
وقرطاسيٍ حقه لا يجهل، "متى ما ترقى العين فيه تسفل "؛ إن نزع عنه جله، فهو نجم كله؛ انفرد بمادة الألوان، قبل أن تشوبها يد الأكوان، أو تمزجها اقلام الملوان؛ يتقدم الكتيبة منه لواء ناصع، أو أبيض مناصع؛ لبس وقار المشيب، في ريعان العمر القشيب، وانصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب؛ وإن تعتب منه للتأخير متعتب، قلنا: الواو لا ترتب، ما بين فحل وحرة، وبهرمانةٍ ودرة؛ ويا لله
من ابتسام غزة، ووضوح يمنن في طرة، وبهجة للعين وقرة؛ وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصوا الحديث بفري الأديم، واوجب المتعصب، وإن أبى المنصب، مرتبة التقديم، وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقورن المثري بالعديم، وبخس في شوق الكسد الكيل، ودجا الليل، وظهر في فلك الإنصاف الميل، لما تذوكرت الخيل؛ فجيء بالوجيه والخطار، والذائد وذي الخمار، وداحس والسكب، والأبجر وزاد الركب، والجموح واليحمّوم، والكميت ومكتوم، والأعوج وحلوان، ولاحق والغضبان، وعفزر والزعفران والمحبر واللعاب، والأغر والغراب، وشعلة والعقاب، والفياض واليعبوب، والمذهب واليعسوب، والصموت والقطيب، وهيدب والصبيب، وأهلوب وهداج، والحرون وخراج، وعلوى والجناح، والأحوى ومجاح، والعصا والنعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وخوصاء والعرادة؛ فكم بين الشاهد والغائب، والفروض والرغائب، وفرق ما بين الأثر والعيان، غني عن البيان؛ وشتان بين الضريح والمشتبه؛ ولله درالقائل:
"خذ ما شراه ودع شيئاً سمعت به " والناسخ يختلف به الحكم، وشر الدواب عند التفضيل بين هذه الدواب الضم البكم، إلا ما ركبه نبي، أو كان له يوم الافتخار برهان خفي ومفضل ما سمع على ما رأى غبي؛ فلو أنصفت محاسنها التي وصفت، لأقضمت حب القلوب علفا، وأوردت ماء الشبيبة نطفاً؛ واتخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشية، وعللت بصفير ألحان القيان كل عشية؛ وأنعلت بالأهلة، وغطيت بالرياض بدل الأجلة. إلى الرقيق، الخليق بالحسن الحقيق، يسوقه إلى مثوى الرعاية روقة الفتيان رعاته، ويهدي عقيقها من سبجه أشكالاً تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقفت ناظر الاستحسان لا يريم، لما بهره منظرها الوسيم، وتخامل
الظليم، وتضاؤل الريم وأخرس مفوه اللسان، وهو بملكات البيان، الحفيظ العليم؛ وناب لسان الحال، عن لسان المقال، عند الاعتقال، فقال يخاطب المقام الذي اطلعت أزهارها غمائم جوده، واقتضت اختيارها بركات وجوده: لو علمنا أيها الملك الأصيل، اللأي كرم منه الإجمال والتفضيل، أن الثناء يوازيها، لكلنا لك بكيلك، أو الشكر يعادلها ويجازيها، لتعرضنا بالوشل إلى نيل نيلك، أو قلنا هي التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر بقوله: "أدرك بخيلك "، حين شرق بدمعه الشرق، وانهزم الجمع واستولى الفرق، واتسع فيه – والحكم لله- الخرق ورأى إن مقام التوحيد بالمظاهرة على التثليث، وحزبه الخبيث، الأولى والأحق. والآن قد أغنى الله بتلك النية، عن اتخاذ الطوال الردينية، وبالدعاء من تلك المثابة الدينية إلى رب البنية، عن الأمداد السنية والأجواد تخوض بحر الماء إلى بحر المنية، وعن الجرد العربية، في مقاود الليوث الأبية؛ وجدد برسم هذه الهدية، مراسيم العهود الودية، والذمم الموحدية، لتكون علامة على الأصل، ومكذبة لدعوى الوقف والفصل، وإشعاراً بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل، ولأمها حراماً على النصل. وحضر بين يدينا رسولكم، فقرر من فضلكم ما لا ينكره من عرف علو مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم؛ واجبناه عنه بجهد ما كنا
لنقنع من جناه المهتصر، بالمقتضب المختصر، ولا لنقابل طول طوله بالقصر، لولا طرو الحصر. وقد كان بين الأسلاف- رحمة الله عليهم ورضوانه- ود أبرمت من اجل الله معاقده، ووثرت للخلوص، الجلي النصوص، مضاجعه القارة ومراقده، وتعاهد بالجميل يوجع لفقده فاقد، أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده؛ فنحن الآن لا ندري أفي مكارمكم نذكر، أو أفي فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي في الحقيقة عندنا فتح، أم هديتكم، وفي وصفها للأقلام سبح، ولعدو الإسلام بحكمة حكمتها كبح، إنما نكل الشكر لمن يوفي جزاء الأعمال البرة، ولا يبخس مثقال الذرة ولا ادنى من مثقال الذرة، ذي الرحمة الثرة، والألطاف المتصلة المستمرة، لا إله إلا هو.
وإن تشوفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر الواهية- بقدرة الله- الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها؛ وهو أننا لما أعادنا من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرر على من قبلنا وعلينا- أن الدنيا- وإن غر الغرور وأنام على سرر الغفلة السرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب والمرور-
جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يحبر، إنما هو خبر يخبر؛ وأن الحسرة بمقدار ما على تركه يجبر، وأن الأعمار أحلام، وأن الناس نيام؛ وربما رحل الراحل عن الخان، وقد جلله بالأذى والدخان، أو ترك به طيباً، وثناء يقوم بعد للآتي خطيباً، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا، والتفقد للثغور مسواكا، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} من حجج الاستشهاد؛ وبادرنا رمق الحصون المضاعة وجنح التقية دامس، وعواريها لا ترد يد لامس، وساكنها بائس، والأعصم في شعفاتها من العصمة يائس؛ فزينا ببيض الشرفات ثناياها، وافعمنا بالعذب الفرات ركاياها وغشينا بالصفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفي الأجور ثوابها، وبيضنا بناصع الكلس أثوابها؛ فهي اليوم توهم حس العيان، أنها قطع من بيض العنان، وتكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفلة للمؤمنين من فزع الدنيا والآخرة بالأمان؛ وأقرضنا الله قرضا، واوسعنا مدونة الجيش عرضا، وفرضنا إنصافه مع الأهلة فرضا؛ واستندنا من التوكل على الله الغني الحميد إلى ظل لواء، ونبذنا إلى الطاغية عهده على سواء وقلنا: ربنا أنت العزيز، وكل جبار لعزك ذليل، وحزبك هو الكثير، وما سواه قليل؛ أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض علينا مدارع الصابرين، واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظافرين، وثبت أقدمنا وانصرنا على القوم الكافرين.
فتحركنا أول الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خف من الحشود، واقتصار على ما بحضرتنا من العساكر المظفرة والجنود، إلى حصن آشر البازي المطل، وركاب العدو الضال المضل، ومهدي نفثات الصل، على امتناعه وارتفاعه، وسمو يفاعه، وما بذل العدو فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده؛ فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة، وجلامده الملمومة وأحجاره، حتى فرعنا- بحول من لا حول ولا قوة الا به- أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن البلاد والعباد أضراره، بعد أن استضفنا إليه حصن السهلة جاره؛ ورحلنا عنه بعد أن شحناه رابطة وحامية، وأزوادا نامية، وعملنا بيدنا في رم ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسابقة الرجال، واقتدينا بنبينا- صلوات الله عليه وسلامه- في الخندق لما حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول حديثة والارتجال؛ وما كان ليقر للإسلام مع تركه القرار، وقد كثب الجوار،
وتداعى الدعرة وتعاوى الشرار.
وقد كنا أغرينا من بالجهة الغربية من المسلمين بمدينة برغه التي سدت بين القاعدتين رندة ومالقة الطريق، وألبست ذل الفراق ذلك الفريق، ومنعتهما ان يسيغا الريق؛ فلا سبيل إلى الإلمام، لطيف المنام، إلا في الأحلام، ولا رسالة إلا في أجنحة هدل الحمام؛ فيسر الله فتحها، وعجل منحها، بعد حرب انبتت فيها النحور، وتزينت الحور. وتبع هذه الأم بنات شهيرة، وبقع للزرع والضرع خيرة، فشفي الثغر من بؤسه، وتهلل وجه الإسلام بتلك الناحية الناجية بعد عبوسة. ثم أعملنا الحركة إلى مدينة إطريرة، على بعد المدى، وتغلغلها في بلاد العدا، واقتحام هول الفلا وغول الردى؛ مدينة تبنتها حمص فأوسعت الدار، واغلت الشوار، وراعت الاشتكثار، وبسطت الاعتمار؛ رجح لدينا قصدها على البعد، والطريق الجعد، ما اشفت به المسلمين من استئصال طائفة من اسراهم، مروا بها آمنين، وبطائرها المشئوم متيفنين، قد أنهكهم
الاعتقال، والقيود الثقال، وأضرعهم الإنكسار وجللهم الانكسار، فجدلوهم في مصرع واحد، وتركوهم عبرة للرائي والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواجد، وترة الماجد؛ فكبسناها كبسا، وفجأناها بإلهام من لا يضل ولا ينسى، وصبحتها الخيل، ثم تلاحق الرجل لما جن الليل، وحاق بها الويل؛ فأبيح منها الذمار، وأخذها الذمار، ومحقت من مصانعها البيض الأهلة وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهلها الضلوع الحرار، وسلطت على هياكلها النار، واستولى على الآلاف العديدة من تسبيها الأسار، وانتهى إلى إشبيليه الثكلى المغار فجلل وجوه من بها من كبار النصرانية الصغار، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقله الأوقار. وعدنا والأرض تموج سبياً، لم نترك بعفرين شبلا ولا بوجرة ظبيا، والعقائل حسرى، والعيون يبهرها الصنع الأسرى وصبح السرى قد حمد من بعد المسرى، فسبحان الذي اشرى؛ ولسان الحمية ينادي، في تلك الكنائس المخربة والنوادي: يا لثارات الأسرى!
ولم يكن إلا أن نفلت الأنفال، ووسمت بالأوضاح الأغفال، وتميزت الهوادي والأكفال، وكان إلى غزو مدينة جيان الاحتفال، قدنا إليها الجرد تلاعب الظلال نشاطا، والأبطال تقتحم الأخطار رضى بما عند الله واغتباطاً، والمهندة الدلق تسبق إلى الرقاب استلالا واختراطاً، واستكثرنا من عدد القتال احتياطاً، وأزحنا العلل عمن أراد جهاداً منجياً غباره من دخان جهنم ورباطا، ونادينا الجهاد! الجهاد! يا أمة الجهاد! راية النبي الهاد! الجنة تحت ظلال السيوف الحداد!؛ فهز النداء إلى الله تعالى كل عامر وغامر، وائتمر الجم من دعوى الحق إلى أمر آمر، وأتى الناس من الفجوج العميقة رجالاً وعلى كل ضامر، وكاثرت الرايات ازهار البطاح لوناً وعداً، وسدت الحشود مسالك الطريق العريضة سداً، ومد بحرها الزاخر مداً، فلا يجد لها الناظر ولا المناظر حداً.
وهذه المدينة هي الأم الولود، والجنة التي في النار لسكانها من الكفار الخلود؛ وكرسي الملك، ومجنبة الوسطى من السلك؛ باءت بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان. بغيرها من أمات البلدان، رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيات السود، ومنصب التماثيل الهائلة، ومعلق النواقيس المصلصلة.
فأدنينا إليها المراحل، وعنينا ببحار المحلات المستقلات منها الساحل، ولما أكثبنا جوارها، وكدنا نلتمح نارها، تحركنا إليها ووشاح الأفق المرقوم، بزهر النجوم، فد دار دائره، والليل من خوف الصباح، على سطحه المستباح، قد شابت غدائره، والنسر يرفرف باليمن طائره، والسماك الرامح يثأر بعز الإسلام ثائره، والنعائم راعدة فرائص الجسد، من خوف الأسد، والقوس يرسل سهم السعادة، بوتر العادة، إلى أهداف النعم المعادة، والجوزاء عابرة نهر المجرة، والزهرة تغار من الشعرى العبور
بالضرة؛ وعطارد يسدي في حبل الحروب، على البلد المحروب ويلحمه، ويناظر على أشكالها الهندسية فيفحمه، والأحمر يبهر، وبعلمه الأبيض يغري وينهر، والمشتري يبدى غ في فضل الجهاد ويعيد، ويزاحم في الحلقات، على ما للسعادة من الصفقات، ويزيد؛ وزحل عن الطالع منزحل، وعن العاشر مرتحل، وفي زلق السعود وحل؛ والبدر يطالع حجر المنجنيق، كيف يهوي إلى النيق، ومطلع الشمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب. ولما فشا سر الصباح، واهتزت أعطاف الرايات بتحيات مبشرات الرياح، أطللنا
عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس؛ فنظرنا منظراً يروع بأساً ومنعة، ويروق وضعاً وصنعة، تلفعت معاقله الشم للسحاب ببرود،
ووردت من غدر المزن في برود، واشرعت لاقتطاف أزهار النجوم والذراع بين النطاق معاصم رود، وبلداً يعمي الماسح والذارع، وينتظم المحاني والأجارع؛ فقلنا: اللهم نفله أيدي عبادك، وأرنا فيه آية من آيات جهادك؛ ونزلنا بساحتها العريضة المتون، نزول الغيث الهتون، وتيمنا من فحصها بسورة " التين والزيتون "، متبرئة من من أمان الرحمان للبلد المفتون؛ وأعجلنا الناس بحمية نفوسهم النفيسة، وسجية شجاعتهم البئيسة، عن أن تبوأ للقتال المقاعد، وتدني بأسماع شهير النفير منهم الأباعد، وقبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم؛ فدفعوا من أصحر إليهم من الفرسان. وسبق إلى حومة الميدان، حتى أحجروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد، في موقف يذهل الوالد عن الولد، صابت السهام فيه غماماً، وطارت كأسراب الحمام تهدى حماما، وأضحت القنا قصداً، بعد أن كانت شهاباً رصداً، وماج بحر القتام بأمواج النصول، وأخذ الأرض الرجفان لزلزال الصياح الموصول؛ فلا ترى إلا شهيدا تظلل مصرعه الحور، وصريعاً تقذف به إلى الساحل تلك البحور؛ ونواشب تبأى بها الوجوه الوجيهة عند الله والنحور؛
فالمقضب، فوده يخضب، والأسمر، غصنه يستثمر، والمغفر، حماه يخفر، وظهور القسي تقصم، وعصم الجند الكوافر تفصم، وورق اليلب في المنقلب يسقط، والبيض تكتب والسمر تنقط، فاقتحم الربض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون المبصرين والمستبصرين عزة دينه، وتبرأ الشيطان من خدينه، ونهب الكفار وخذلوا، وبكل مرصد جدلوا؛ ثم دخل البلد بعده غلاباً، وجلل قتلاً واستلاباً؛ فلا تسل إلا الظبا والأسل عن قيام ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت والمباني، وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأول إلى الوجود الثاني؛ وتخارق السيف فجاء بغير المعتاد، ونهلت القنا الردينية من الدماء، حتى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسي وسحت، وأرنت حتى بخت، ونفدت موادها فشخت، مما ألحت،وسدت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوه الشأفة وقطع الدابر، وأزلف الشهيد وأحسب الصابر، وسبقت رسل الفتح الذي يسلم يسمع بمثله في
الزمن الغابر. تنقل البشرى من أفواه المحابر، إلى آذان المنابر. أقمنا بها أياماً نعقر الأشجار، ونستأصل بالتخريب الوجار، ولسان الانتقام من عبدة الأصنام، ينادي: يا لثارات الإسكندرية تشفياً من الفجار، ورعياً لحق الجار؛ وقفلنا وأجنحة الرايات، برياح العنايات، خافقة وأوفاق، التوفيق، الناشئة من خطوط الطريق، موافقة، وأشواق العز بالله نافقة، وحملاء الرفق مصاحبة- والحمد لله- مرافقة؛ وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق الصهب السبال، ورفعت على الأكفال، ردفاء كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام الجبال، بالهندام والاحتيال؛ وهلك بمهلك هذه الأم بنات كن يرتضعن ثديها الحوافل، ويستوثرن حجرها الكافل؛ شمل التخريب أسوارها، وعجلت النار بوارها.
ثم تحركنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء الأدلاء قبل المتح، فبشرت بالمنح؛ وقصدنا مدينة أبدة، وهي ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيان في حين الحين؛ مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق، وتمشت فيه أرباضها تمشي الكتابة الجامحة في المهرق؛ المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع المتناسب، والفلح المعي ريعه عمل الحاسب وكوارة الدبر اللاسب المتعددة اليعاسب؛ فأناخ العفاء بربوعها العامرة، ودارت كؤوس عقار الحتوف، ببنان السيوف، على متديريها المعاقرة، وصبحتها طلائع الفاقرة، وأغريت ببطون أسوارها عوج المعاول الباقرة؛ ودخلت مدينتها عنوة السيف، في أسرع من خطرة الطيف، ولا تسال عن الكيف، فلم يبلغ العفاء من مدينة حافلة، وعقيلة في حلل المحاسن رافلة، ما بلغ من هذه البائسة التي سجدت لآلهة النيران أبراجها،
وتضاءل بالرغام معراجها؛ وضفت على أعطافها ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كناس الغزلان.
ثم تأهبنا لغزو أم القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، و رئة الشهرة السافرة، والأنباء المسافرة؛ قرطبة، وما أدراك ما هيه! ذات الأرجاء الحالية الكاسية، والأطواد الراسخة الراسية، والمباني المباهية، والزهراء الزاهية، والمحاسن غير المتناهية؛ حيث هالة بدر السماء قد استدارت من السور المشيد البناء داراً، ونهر المجرة من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جاراً، وفلك الدولاب، المعتدل الانقلاب، قد استقام مداراً، ورجع الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأول وأذكاراً حيث الطود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج، فيزري بتاج كسرى وداراً؛ حيث قسي الجسور المديدة، كأنها عوج المطي العديدة، تعبر النهر قطاراً؛
حيث آثار العامري المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد، شذى معطاراً؛ حيث كرائم السحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الذر نثاراً؛ حيث شمول الشمال تدار على الأدواح، بالغدو والرواح، فترى الغصون سكارى، وما هي بسكارى؛ حيث أيدي الافتتاح، تفتض من شقائق البطاح، أبكاراً؛ حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبلها بالسحر زوار النواسم، فتخفق قلوب النجوم الغيارى؛ حيث المصلى العتيق، قد رحب مجالاً وطال مناراً، وأزرى ببلاط الوليد احتقاراً؛ حيث الظهور المثارة
بسلاح الفلاح، تجب عن مثل أسنمة المهارى، والبطون كأنها لتدميث الغمائم، بطون العذارى، والأدواح العالية، تخترق أعلامها الهادية، بالجداول الحيارى. فما شئت من جو بقيل، ومعرس للحسن ومقيل، ومالك للعقل وعقيل؛ وخمائل، كم فيها للبلابل، من قال وقيل، وخفيف يجاوز بثقيل؛ وسنابل تحكي من فوق سوقها، وقصب بسوقها، الهمزات على الألفات، والعصافير البديعة الصفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل لهبوب الصبا والجنوب،. مالئة الجيوب، بدر الحبوب، وبطاح لا تعرف عين المحل، فتطلبه بالذحل، ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار، عند افتتاح السوسن والبهار، غير الغبدان من سودان النحل؛ وبحر الفلاحة
الذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ الطية البعيدة راحله؛ إلى الوادي، وسمر النوادي، وقرار دموع الغوادي؛ للتجاسر على تخطيه، عند تمطيه، الجسر العادي، والوطن الذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الذي في جوفه كل صيد؛ أقل كرسيه خلافة الإسلام، وأغار بالرصافة والجسر دار السلام، وما عسى أن تطنب في وصفه السنة الأقلام أو تعبر به عن ذلك الكمال فنون الكلام. فأعملنا إليها السرى والسير، وقدنا إليها الخيل قد عقد الله في نواصيها الخير. ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب؛ والقلوب تلتمس الإعانة من فنعم مجزل، وتستنزل مدد الملائكة من منجد منزل، والركائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل " برز من حاميتها المحاميه، ووقود النار الحاميه، وبقية السيف الوافرة على الحصاد النامية، قطع الغمائم الهامية، وأمواج البحور الطامية؛ واستجنت بظلال أبطال المجال، أعداد الرجال، الناشبة والرامية، وتصدى للنزال،
من صناديدها الصهب السبال، أمثال الهضاب الراسية، تجنها جنن السوابغ الكاسية، وقواميسها المفادية للصلبان يوم بوسها بنفوسها المواسية، وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله، ستور الظلم الغاشية، وصخور القلوب القاسية؛ فكان بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر، وحلى بلجينه، ولآليء زينه، منها النحر، حرث لم تنسج الأزمان على منوالها، ولا أتت الأيام الحبالى بمثل أجنة اهوالها؛ من قاسها بالفجار أفك وفجر؛ أو مثلها بجفر الهباءة خرف وهجر؛ ومن شبهها بحرب داحس والغبراء، فما عرف الخبر، فليسأل من جرب وخبر؛ ومن نظرها بيوم شعب جبله فهو ذو بله؛ أو عادلها ببطن عاقل، فغير عاقل؛ أو احتبئ بيوم ذي قار، فهو إلى
المعرفة ذو افتقار؛ أو ناضل بيوم الكديد، فسهمه غير السديد؛ إنما كان مقاماً غير معتاد، ومرعى نفوس سلم يف بوصفه لسان مرتاد وزلزال جبال أوتاد، ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد؛ اعلم فيه البطل الباسل، وتورد الأبيض الباتر، وتأود الأسمر العاسل، ودوم الجليد المتكاسل، وانبعث من حدب الحنية، إلى هدف الرمية، الناشر الناسل، ورويت لمرسلات السهام المراسل؛ ثم أفضى أمر الرماح إلى التشاجر والإرتباك، ونشبت الأسنة في الدروع نشب السمك في الشباك؛ ثم اختلط المرعي بالهمل، وعزل الرديني عن العمل؛ وعادت السيوف من فوق المفارق تيجاناً، بعد أن شقت غدر السوابغ خلجاناً؛ واتحدت جداول الدروع، فصارت بحراً وكان التعانق، فلا ترى إلا نحراً يلازم نحراً، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة منادٍ إلى فراق الأبد وداع؛ واستكشفت مآل الصبر الأنفس الشفافة، وهبت بريح النصر الطلائع المبشرة الهفافة؛ ثم أمد السيل ذلك العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللباب، وقال لسان النصر: ( ادخلوا عليهم الباب)؛ فأصبحت طوائف الكفار، حصائد مناجل الشفار، فمغافرهم قد رضيت حرماتها بالأخفار، ورءوسهم محطوطة في غير مقام الاستغفار، وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرقة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح البوار، لولا الانتهاء إلى الحد والمقدار، والوقوف عند اختفاء سر الأقدار.
ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيقنا حصرها، وأدرنا بلالىء القباب البيض خضرها؛ وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما، وترمي الأدواح ببوارها، وتسلط النيران على أقطارها؛ فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر، فرأينا أن نروضها بالأجتثاث والانتساف، ونوالي على زروعها وربوعها كرات رياح الاعتساف؛ حى يتهيأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنا بفضل الله إرث نعمتها؛ ثم كانت من موقفها الإفاضة من بعد نحر النحور، وقذف جمار الدمار على العدو المدحور، وتدافعت خلفنا السيقات المتسقات تدافع أمواج البحور. وبعد أن ألححنا على جناتها المصحرة، وكرومها المستبحرة إلحاح الغريم، وعوضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائف من ربنا فاصبحت كالصريم، وأغرينا حلاق النار بجمم الجميم، وراكمنا في أحواف
أجرافها غمائم الدخان؛ يذكر طيبه البان بيوم العميم، وأرسلنا رياح الغارات (لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم )؛ واستقبلنا الوادي يهول مداً، ويروع سيفه الصقيل حداً؛ فيسره الله من بعد الأعواز، وانطلقت على الفرصة بتلك الفرضة أيدي الانتهاز، وسألنا من سائله أسد بن الفرات فأفتى برجحان الجواز، فعم الاكتساح والاستباح جميع الأحواز فأديل المصون، وانتهبت القرى، وهذت الحصون، واجتثت الأصول، وحطمت الغصون؛ ولم نرفع عنها إلى اليوم غارة تصابحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضاحكة باليوم العبوس؛ فهي الآن مجرى السوابق ومجر العوالي، على التوالي، والحسرات تتجدد في أطلالها البوالي؛ وكان بها قد ضرعت، وإلى الدعوة المحمدية أسرعت، بقدرة من لو أنزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدعت، وعزة من أذعنت الجبابرة لعره وخضعت، وعدنا والبنود لا يعرف اللص نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التقطيب بشرها؛ والأيدي بالعروة الوثقى متعلقة، والألسن بشكر نعم الله منطلقة، والسيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسراييل الدروع خلقه، والجياد من ردها إلى المرابط والأواري، رد العواري، حنقة، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقة؛ ننظر إلينا نظر العاتب، وتعود من ميادين الاختيال والمراح، تحت حلل السلاح، عود الصبيان إلى المكاتب؛ والطبل بلسان العز هادر، والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر، ووجود نوع الرماح، من بعد ذلك الكفاح نادر، والقاسم يرتب بين يديه من السبي النوادر، ووارد مناهل الأجور، غير المحلاء ولا المهجور، غير صادر، ومناظر الفصل الآتي، عقب أخيه الشاتي، على المطلوب المواتي مصادر والله على تيسير الصعاب، وتخويل المنن الرغاب، قادر؛ لا اله إلا هو. فما أجمل لنا صنعه الحفي، وإكرم بنا لطفه الخفي، الفهم لا نحصي ثناء عليك، ولا نلجأ منك إلا إليك، ولا نلتمس خيم الدنيا والآخرة إلا لديك؛ فأعد علينا عوإئد نصرك، يا مبدىء يا معيد، وأعنا من وسائل شكرك، على ما ينثال به المزيد، يا حي يا قيوم يا فعال لما يريد.
وقارنت رسالتكم الميمونة لدينا حذق فتح بعيد صيته مشرئبً ليته، وفخر من فوق النجوم العواتم مبيته، عجبناً من تأتي أمله الشارد، وقلنا: البركة في قدم الوارد؛ وهو أن ملك النصارى لاطفنا بجملةٍ من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت ادالها الله- بمحاولتنا- الطيب من الخبيث، والتوحيد من التثليث، وعاد إليها الإسلام عود الأب الغائب، إلى البنات الحبائب، يسأل عن شؤونها، ويمسح دموع الرقة من
جفونها؛ وهي للروم خطة خسف قلما ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرة من نوادر الوجود. وإلى الله علينا وعليكم عوارف الجود، وجعلنا في محاريب الشكر من الركع السجود.
عرفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيات عسير لنسركم بما منح الله دينكم، ونتوج بعز الملة الحنيفية جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم؛ فإن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب المسئولة من المنعم الوهاب متقاض؛ وأنتم أولى من ساهم في بر، وعامل الله بخلوص سر؛ وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيكم، وتراث ميتكم، ولكم مزية القدم، ورسوخ القدم؛ والخلافة مقرها إيوانكم، وأصحاب الإمام مالك- رضي الله عنه- مستقرها قيروانكم، وهجير المنابر ذكر إمامكم، والتوحيد إعلام أعلامكم، والوقائع الشهيرة في الكفر منسوبة إلى أيامكم، والصحابة الكرام فتحة أوطانكم، وسلالة الفاروق عليه السلام وشائج سلطانكم؛ ونحن نستكثر من بركة خطابكم، ووصلة جنابكم؛ ولولا الأعذار لوالينا بالمتزيدات تعريف أبوابكم. والله- عز وجل- يتولى عنا من شكركم المحتوم، ما قصر المكتوب منه عن المكتوم؛ ويبقيكم لإقامة الرسوم، ويحل محبتكم من القلوب محل الأرواح من الجسوم؛ وهو سبحانه يصل سعدكم، وبحرس مجدكم، ويوالي نعمه عندكم. والسلام الكريم، الطيب الزكي المبارك البر العميم، يخصكم كثيراً أثيراً، ما أطلع الصبح وجهاً منيرا، بعد أن أرسل النسيم سفيراً، وكان الوميض الباسم لأكواس الغمائم، على أزهار الكمائم، مديرا؛ ورحمة الله وبركاته.
وكتب إلي يهنئني بمولود، ويعاتب على تأخير الخبر بولاده عنه:
#هنيئاً أبا الفضل الرضا وأبا زيد وأفنت من بغي يخاف ومن كيد #بطالع يمني طال في السعد شأوه فما هو من عمرو الرجال و، زيد #وقيد بشكر الله أنعمه التي أوابدها تأبى سوى الشكر من قيد أهلا بدري المكاتب، وصدري المراتب، وعتبى الزمن العاتب وبكر المشتري والكاتب؛ ومرحباً بالطالع، في أسعد المطالع، والثاقب، في أجلى المراقب؛ وسهلاً بغيي البشير، وعزة الأهل والعشير، وتاج الفخر الذي يقصر عنه كسرى واردشير؛ الآن اعتضدت الحلة الحضرمية بالفارس، وأمن السارح في حمى الحارس، وسعدت بالمنير الكبير، أفلاك التدوير، من حلقات المدارس، وقرت بالجنى الكريم عين الغارس، واحتقرت أنظار الآبلي وأبحاث ابن الدارس؛ وقيل للمشكلات: طالما الفت الخمرة، وأمضيت على الأذهان الإمرة، فتأهبي للغارة المبيحة لحماك، وتحيزي إلى فئة البطل المستأثر برشف لماك. ولله من نصبة احتفى سفيها المشتري واحتفل، وكفى سني تربيتها وكفل، واختال عطارد في حلل الجذل لها ورفل، واتضحت الحدود، وتهللت الوجوه، وتنافست المثلثات تؤمل الحظ وترجوه، ونبه البيت على واجبه، وأشار لحظ الشرف بحاجبه، وأسرع نير النوبة في الأوبة، قائما في الإعتذار مقام التوبة؛ واستأثر بالبروج المولدة بيت البنين، وتخطت خطا القمر رأس الجوزهر وذنب التنين؛ وساوق منها حكم الأصل، حذوك النعل بالنعل، تحويل السنين، وحقق هذا المولود بين المواليد نسبة عمر الوالد، فتجاوز درجة المئين؛ واقترن بعاشره السعدان اقتران الجسد، وثبت بدقيقة مركزه قلب الأسد، وسرق من بيت أعدائه خرثي الغل والحسد؛ ونظفت طرق التسيير، كما نفعل بين يدي السادة عند المسير، وسقط الشيخ الهرم من الدرج في البير، ودفع المقاتل إلى الوبال الكبير: #لم لا ينال العلا أو يعقد التاج والمشتري طالع والشمس هيلاج #والسعد يركض في ميدانها مرحاً جذلان والفلك الدوار هملاج
كان به- والله يهديه- قد انتقل من مهد التنويم، إلى النهج القويم؛ ومن أريكة الذراع، إلى تصريف اليراع، ومن كتد الداية، إلى مقام الهداية، والغاية المختطفة البداية؛ جعل الله وقايته عليه عودة، وقسم حسدته قسمة محرم الفحم، بين منخنقةٍ ونطيحةٍ ومترديةٍ
وموقوذة؛ وحفظ هلاله في البدار إلى تمه وبعد تمه، وأقر به عين أبيه وأمه، غير أني- والله يغفر لسيدي- بيد أني راكع في سبيل الشكر وساجد، فأنا عاتب وواجد؛ إذ كان ظني أن البريد بهذا الخبر إلي يعمل، وأن إتحافي به لا يهمل، فانعكست القضية، ورابت الحال المرضية، وفضلت الأمور الذاتية الأمور العرضية، والحكم جازم، واحذ الفرضين لازم؛ إما عدم السوية، ويعارضه اعتناء حبله مغار، وعهدة سلمٍ لم يدخلها جزية ولا صغار؛ أو جهل بمقدار الهبة، ويعارضه علم بمقدار الحقوق، ورضى مناف للعقوق، فوقع الاشكال؛ وربما لطف عذر كان عليه الاتكال. وإذا لم يبشر مثلي بمنحة الله قبل تلك الذات السرية، الخليقة بالنعم الحرية؛ فمن الذي يبشر، وعلى من يعرض بزها أو ينشر، وهي التي واصلت التفقد، وبهرجت المعاملة وأبت أن تنقد، وأنست الغربة وجرحها غير فندمل، ونفست الكربة وجنحها على الجوانح مشتمل؛ فمتى فرض نسيان الحقوق لم ينلني فرض، ولا شهد به علي سماء ولا
أرض؛ وإن قصر فيما يجب لسيدي عمل، لم يقصر رجاء ولا أمل، ولي في شرح حمده ناقة وجمل. ومنه جل وعلا نسأل أن يريه قرة العين في نفسه وماله وبنيه، ويجعل أكبر عطايا الهيالج أصغر سنيه، ويقلد عواتق
الكواكب البابانية حمائل أمانيه. وإن تشوف سيدي لحال وليه، فخلوة طيبة، ورحمة من جانب الله صيبة، وبرق يشام، فيقال: حدث ما وراءك يا هشام. ولله در شيخنا إذ يقول:
- لا بارك الله في إن لم أصرف النفس في الأهم
#وكثر الله في همومي إن كان غير الخلاص همي
وإن انعم سيدي بالإلماع بحالة، وحال الولد المبارك، فذلك من غرر إحسانه، ومنزلته في لحظ لحظي بمنزلة إنسانه؛ والسلام. العودة إلى المغرب الأقصي ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب، كما ذكرت تفاصيله، وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى، وهو صاحب زمام رياح، وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزاب، وهم يرجعون إليه في الكثير من أمورهم؛ فلم أشعر إلا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب، ووغر صدره، وصدق في ظنونه وتوهماته، وطاوع الوشاة فيما يوردون على سمعه من التقول والاختلاق، وجاش صدره بذلك؛ فكتب إلى ونزمار بن عريف، ولي السلطان، وصاحب شواره، يتنفس الصعداء من ذلك، فأنهاه إلى السلطان؛ فاستدعاني لوقته، وارتحلت من بسكرة
بالأهل والولد، في يوم المولد الكريم، سنة أربع وسبعينى وسبعمائة، متوجها إلى السلطان، وقد كان طرقه المرض؛ فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط؛ فلقيني هنالك خبر وفاته، وأن ابنه أبا بكر السعيد نصب بعده للأمر، في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وانه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذاً السير إلى فاس؛ وكان على مليانة يومئذ علي بن حسون بن أبي علي اليناطي من قواد السلطان وموالي بيته، فارتحلت معه إلى أحياء العطاف، ونزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم، وبذرق لي بعضهم إلى حلة أولاد عريف: أمراء سويد؛ ثم لحق بنا بعد أيام، علي بن حسون في عسكره، وارتحلنا جميعاً إلى المغرب على طريق الصحراء؛ وكان أبو حمّو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان، فاستولى عليها وعلى سائر أعماله؛ فأوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله من المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين مخرج وادي زا فاعترضونا هنالك، فنجا من نجا منا على خيولهم إلى جبل دبدو، وانتهبوا جميع ما كان معنا، وأرجلوا الكثير من الفرسان وكنت فيهم؛ وبقيت يومين في قفره، ضاحياً عارياً إلى أن خلصت إلى العمران، ولحقت بأصحابي بجبل دبدو، ووقع في خلال من الألطاف ما لا يعبر عنه، ولا يسع الوفاء بشكره. ثم سرنا إلى فاس، ووفدت على الوزير أبي بكر، وابن عمه محمد بن عثمان بفاس، في جمادى من السنة؛ وكان لي معه قديم صحبة واختصاص، منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة عند إجازته من الأندلس، لطلب ملكه، كما مرّ في غير موضع من الكتاب؛ فلقيني من بر الوزير وكرامته، وتوفير جرايته واقطاعه، فوق ما احتسب، وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل، نابه الرتبة، عريض الجاه، منوه المجلس. ثم انصرم فصل الشتاء، وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي، وبين السلطان ابن الأحمر، منافرة بسبب ابن الخطيب، وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاده عنهم؛ وانف الوزير من ذلك، فأظلم الجو بينهما؛ واخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر ليشغل به ونزع ابن،
الأحمر إلى إطلاق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي، والوزير مسعود بن رخو بن ماساي، كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز، وبإشارته بذلك لابن الخطيب حين كان ي وزارته بالأندلس؛ فأطلقهما الآن، وبعثهما لطلب الملك بالمغرب، واجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة، فنزلوا بها، ولحقوا بقبائل بالوية هنالك، فاشتملوا عليهم، وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن. ونهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس؛ فنزل على جبل الفتح يحاصره. وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدولة بني مرين، فجهز لحينه ابن عمه محمد بن الكاس إلى سنته لامداد الحامية الذين لهم بالجبل، ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن، فوجده قد ملك تازى، فأقام عليها يحاصره؛ وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شباباً من بني أبيه المرشحين، فحبسهم بطنجة، فلما وافى محمد بن الكاس سبتة، وقعت المراسلة بينه وبين ابن الأحمر، وعتب كل منهما صاحبه على ما كان منه، واشتد عذل ابن الأحمر على
إخلائهم الكرسي من كفئه، ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبياً لم يثغر؛ فاستعتب له محمد، واستقال من ذلك، فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة؛ وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضاً بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن، فيفرج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء. وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه، فبادر من وقته إلى طنجة، وأخرج أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه، وبايع له، وسار به إلى سبتة، وكتب لابن الأحمر يعرفه بذلك، ويطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح؛ فأمده بما شاء من بالمال والعسكر، واستولى على جبل الفتح، وشحنه بحاميته، وكان أحمد ابن السلطان أبي سالم، قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم، على أن من صار الملك إليه منهم، يجيز الباقين إلى الأندلس؛ فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم، وأجازهم جميعاً؛ فنزلوا على السلطان ابن الأحمر، فأكرم نزلهم ووفر جراياتهم. وبلغ الخبر بذلك كله إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازة، فأخذه المقيم المقعد من فعلة ابن عمه،
وقوض راجعاً إلى الملك، وعسكر بكدية العرائس من ظاهرها، وتوعد ابن عمه محمد بن عثمان، فاعتذر بأنه إنما امتثل وصيته، فاستشاط وتهدده؛ واتسع الخرق بينهما، وارتحل محمد بن عثمان بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون المطل على مكناسة، وعسكر به، واشتملوا عليه؛ وزحف إليهم الوزير أبو بكر، وصعد الجبل، فقاتلوه وهزموه، ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك. وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن، والاعتضاد به، ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبد به لنفسه؛ فراسله محمد بن عثمان في ذلك، واستدعاه، واستمده. وكان ونزمار بن عريف ولي سلفهم قد أظلم الجو بينه وبين الوزير أبي بكر، لأنه سأله- وهو يحاصر تازى- في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع- واتهمه بمداخلته، والميل له، فاعتزم على القبض عليه، ودس إليه بذلك بعض عيونه، فركب الفيل، ولحق باحياء الأحلاف من المعقل، وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن، ومعهم علي بن عمر الويعلاني كبير بني ورتاخن، كان انتقض على الوزير ابن غازي، ولحق بالسوس، ثم خاض القفر إلى هؤلاء. الأحلاف، فنزل بينهم مقيماً لدعوة الأمير عبد الرحمن. فجاءهم ونزمار مفلتا من حبالة الوزير أبي
بكر، وحرضهم على ما هم فيه، ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم، ووزيره محمد بن عثمان؛ وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم، وخرج من تازى فلقيهم، ونزل بين أحيائهم، ورحلوا جميعاً بلى إمداد السلطان أبي العباس، حتى انتهوا إلى صفووى. ثم اجتمعوا جميعا على وادي النجا، وتعاقدوا على شأنهم، وأصبحوا من الغد على التعبئة، كل من ناحيته.
وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق، وولى منهزما، فانحجر بالبلد الجديد، وخيم القوم بكدية العرائس محاصرين له، وذلك أيام عيد الفطر من خمس وسبعين وسبعمائة، فحاصروها ثلاثة أشهر، واخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه، فأذعن للصلح على خلع الصبي المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز، وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمه، والبيعة له، وكان السلطان أبو العباس، والأمير عبد الرحمن، قد تعاهدوا- عند الاجتماع بوادي النجا- على التعاون والتناصر، على أن الملك للسلطان أبي العباس بسائر أعمال المغرب، وأن للأمير عبد الرحمن بلداً سجلماسة ودركة، والأعمال التي كانت لجذه السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن؛ ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار، واشتط بطلب مراكش وأعمالها، فأغضوا له في ذلك، وشارطوه عليه حتى يتم لهم الفتح؛ فلما انعقد بما بين السلطان أبي العباس، والوزير أبي بكر، وخرج إليه من البلد الجديد، وخلع سلطانه الضبي المنصوب، ودخل السلطان أبو العباس إلى دار الملك، فاتح ست وسبعين وسبعمائة، وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذ السير إلى مراكش، وبدا للسلطان أبي العباس، ووزيره محمد بن عثمان في شأنه، فسرحوا العساكر في اتباعه، وانتهوا خلفه إلى وادي بهت، فواقفوه ساعة من نهار، ثم أحجموا عنه، وولوا على راياتهم وسار هو إلى مراكش، ورجع عنه وزيره مسعود بن ماساي، بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودع بها، فسرحه لذلك، وسار إلى مراكش فملكها.
وأما أنا فكنت مقيماً بفاس، في ظل الدولة وعنايتها، منذ ندمت على الوزير سنة أربع وسبعين كما مرّ، عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه؛ فلما جاء السلطان أبو العباس، والأمير عبد الرحمن، وعسكروا بكدية العرائس، وخرج أهل الدولة إليهم، من الفقهاء والكتاب، والجند، وأذن للناس جميعاً في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك، فكنت أباكرهما معا. وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مرّ
ذكره قبل هذا، فكان يظهر لي رعاية ذلك، ويكثر من المواعيد؛ وكان الأمير عبد الرحمن يميل إلي ويستدعيني أكثر أوقاته يشاورني في أحواله؛ فغص بذلك الوزير محمد بن عثمان، وأغرى سلطانه فقبض علي. وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك، وعلم أني إنما أوتيت من جراه، فحلف ليقوضن خيامه، وبعث وزيره مسعود بن ماساي لذلك، فأطلقوني من الغد، ثم كان افتراقهما لثالثه. ودخل السلطان أبو العباس دار الملك، وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وكنت أنا يومئذٍ مستوحشاً، فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزماً على الإجازة إلى الأندلس من ساحل اشفي، معولا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماساي لهواي فيه، فلما رجع مسعود انثنى عزمي في ذلك، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف لنقدمه وسيلة إلى السلطان أبي العباس، صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس، ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس، واستأذنه في شأني، فاذن لي بعد مطاولة، وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان، وسليمان بن داود بن أعراب، ورجال الدولة.
وكان الأخ يحيى لما رحل السلطان أبو حمّو من تلمسان، رجع عنه من بلاد زغبة إلى السلطان عبد العزيز فاستقر في خدمته، وبعده في خدمة ابنه محمد السعيد المنصوب مكانه. ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد، استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان، فأذن له، وقدم على السلطان أبي حمّو، فأعاده إلى كتابة سره كما كان أول مرة، وأذن لي أنا بعده، فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار والدعة، إلى أن كان ما نذكر. الاجازة الثانية إلي الاندلس، ثم إلى تلمسان، واللحاق باحياء العرب، والمقامة عند أولاد عريف: ولما كان ما قصصته من تنكر السلطان أبي العباس صاحب فاس، والذهاب مع الأمير عبد الرحمن، ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف، طلباً لوسيلته في انصرافي إلى الأندلس بقصد القرار والانقباض، والعكوف على قراءة العلم؛ فتم ذلك، ووقع الإسعاف به بعد الامتناع، وأجزت إلى الأندلس في ربيع سنة ست وسبعين وسبعمائة؛ ولقيني السلطان بالبر والكرامة وحسن النزل على عادته، وكنت لقيت بجبل الفتح كاتب
السلطان ابن الأحمر، من بعد ابن الخطيب، الفقيه أبا عبد الله بن زمرك، ذاهباً إلى فاس في غرض التهنئة، وأجاز إلى سبتة في أسطوله، وأوصيته بإجازة أهلي وولدي إلى غرناظة؛ فلما وصل إلى فاس، وتحدث مع أهل الدولة في إجازتهم، تنكروا لذلك، وساءهم استقراري بالأندلس، واتهموا أني ربما احمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبد الرحمن، الذي اتهموني بملابسته، ومنعوا اهلي من اللحاق بي. وخاطبوا السلطان ابن الأحمر في أن يرجعني إليهم؛ فأبى من ذلك، فطلبوا منه أن يجيزني إلى عدوة تلمسان؛ وكان مسعود بن ماسي قد أذنوا له في اللحاق بالأندلس، فحملوه على مشافهة السلطان بذلك، وأبدوا له أني كنت ساعياً في خلاص ابن الخطيب، وكانوا قد اعتقلوه لأول استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به. وبعث إلي ابن الخطيب من محبسه مستصرخاً بي، ومتوسلاً. فخاطبت في شأنه أهل الدولة، وعولت فيه منهم على ونزمار، وابن ماساي، فلم تنجح تلك السعاية، وقتل ابن الخطيب بمحبسه؛ فلما قدم ابن ماساي على السلطان ابن الأحمر- وقد اغروه بي- فألقى إلى السلطان ما كان مني في شأن ابن الخطيب، فاستوحش لذلك، وأسعفهم بإجازتي إلى الغدوة، ونزلت بهنين، والجو بيني وبين السلطان أبي حمّو مظلم، بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزاب كما مرّ. فأوعز بمقامي بهنين، ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني فبعث عني إلى تلمسان، واستقررت بها بالعباد. ولحق بي اهلي وولدي من فاس، وأقاموا معي، وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين وسبعمائة، وأخذت في بث العلم، وعرض للسلطان أبي حمّو أثناء ذلك رأي في الدواودة، وحاجة إلى استئلافهم؛ فاستدعاني، وكلفني السفارة إليهم في هذا الغرض، فاستوحشت منه، ونكرته على نفسي، لما آثرته من التخلي والانقطاع، واجبته إلى ذلك ظاهراً، وخرجت مسافراً من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء، فعدلت ذات اليمين إلى منداس، ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول، فتلقوني بالتحفي والكرامة، وأقمت بينهم أياماً حتى بعثوا عن أهلي وولدي من تلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني باهلي في قلعة ابن سلامة، من بلاد بني توجين التي صارت لهم بإقطاع السلطان، فأقمت بها أربعة أعوام، متخلياً عن الشواغل كلها؛ وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا فقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتألفت نتائجها؛ وكانت من بعد ذلك الفيئة إلى تونس كما نذكره.
الفيئة إلي السلطان أبي العباس بتونس والمقام بها: ولما نزلت بقلعة ابن سلامة بين أحياء أولاد عريف، وسكنت منها بقصر أبي بكر بن عريف الذي اختطه بها، وكان من أحفل المساكن وأوثقها. ثم طال مقامي هنالك، وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان، وعاكف على تأليف هذا الكتاب، وقد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة، وتشوفت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار، بعد أن أمليت الكثير من حفظي، واردت التنقيح والتصحيح؛ ثم طرقني مرض أوفى بي على، الثنية، لولا ما تدارك من لطف الله؛ فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس، والرحلة إلى تونس، حيث قرار آبائي، ومساكنهم، وآثارهم، وقبورهم؛ فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته، والمراجعة، وانتظرت، فما كان غير بعيد، وإذا بخطابه وعهوده بالأمان، والاستحثاث للقدوم؛ فكان الخفوف للرحلة؛ فطعنت عن أولاد عريف مع عرب الأخضر من بادية رياح، كانوا هنالك ينتجعون الميرة بمنداس. وارتحلنا في رجب سنة ثمانين وسبعمائة، وسلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب. ثم صعدت إلى التل مع حاشية يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار، الضيعة التي اختطها بالزاب، فرحلتهم معي إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة، ومعه صاحبها الأمير إبراهيم أن السلطان أبي العباس بمخيمه، وفي عسكره؛ فحضرت عنده، وقسم لي من بره، وكرامته فوق الرضى. وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة، واقامة أهلي في كفالة إحسانه، بينما أصل إلى حضرة أبيه. وبعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومه،
وسرت إلى السلطان أبي العباس، وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد، لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها، فوافيته بظاهر سوسة، فحيا وفادتي، وبز مقدمي، وبالغ في تأنيسي، وشاورني في مهمات أموره؛ ثم ردني إلى تونس، وأوعز إلى نائبه بها مولاه فارح بتهيئة المنزل، والكفاية في الجراية، والعلوفة، وجزيل الإحسان؛ فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة، وآويت إلى ظلٍ ظليل من عناية السلطان وحرمته، وبعثت عن الأهل والولد، وجمعت شملهم في مرعى تلك النعمة، وألقيت عصا التسيار؛ وطالت غيبة السلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد، وذهب فلهم في النواحي، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة، ونزل على صهره ابن مزني، وقسم السلطان بلاد الجريد بين ولده، فأنزل ابنه محمداً المنتصر بتوزر، وجعل نفطة، ونفزاوة من أعماله، وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة، وعاد إلى تونس مظفراً، مزهراً، فأقبل علي، واستدناني لمجالسته، والنجي في خلوته، فغمق بطانته بذلك، وأفاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح؛ وكانوا يعكفون على إمام الجامع، وشيخ الفتيا، محمد بن عرفة، وكانت في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المربى بمجالس الشيوخ، فكثيراً ما كان يظهر شفوفي عليه، وإن كان أسن مني، فاسودت تلك النكتة في قلبه، ولم تفارقه. ولما قدمت تونس انثال علي طلبه العلم من أصحابه وسواهم؛ يطلبون الإفادة والاستغال، واسعفتهم بذلك، فعظم عليه. وكان يسم التنفير إلى الكثير منهم فلم يقبلوا، واشتدت غيرته، ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه، فاتفقوا على شأنهم في التأنيب علي، والسعاية بي، والسلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك، وقد كلفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوفه إلى المعارف والأخبار، وأقتناء الفضائل، فأكملت منه أخبار البربر، وزناته. وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إلي منها، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته، وكان مما يغرون به السلطان علي، قعودي عن امتداحه، فإني كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة، وتفرغت للعلم فقط، فكانوا يقولون له إنما ترك ذلك استهانة بسلطانك، لكثرة امتداحه للملوك قبلك، وتنسمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم؛ فلما رفعت له الكتاب، وتوجته باسمه، أنشدت في ذلك اليوم، هذه الق صيدة أمتدحه، وأذكر سيره وفتوحاته، وأعتذر عن انتحال الشعر، وأستعطفه بهدية الكتاب إليه؛ وهي هذه:
- هل غير بابك للغريب مؤمل أوعن جنابك للأماني معدل
- هي همة بعثت إليك على النوى عزما كما شحذا الحسام الصيقل
#متبؤأ الدنيا ومنتجع المنى والغيث حيث العارض المتهلل
- حيث القصور الزاهرات منيفة تعنى بها زهر النجوم وتحفل
- حيث الخيام البيض يرفع للعلا والمكرمات طرافها المتهدل
- حيث الحمى للعزفي ساحاته ظل أفاءته الوشيج الذبل
- حيث الكرام ينوب عن نار القرى عرف الكباء بحيهم والمندل
- حيث المحرماح يكاديورق عودها مما تعل من الدماء وتنهل
- حيث الجياد املن شجعان الوغى مما أطالوا في المنار واوغلوا
- حيث الوجوه الغرقنعها الحيا والبشرفي صفحاتها يتهلل
- حيث الملوك الصيد والنفر الألى عز الجوار لديهم والمنزل
- من شيعة المهدي بل من شيعة التوحيد به الكتاب مفصل
- بل شيعة الرحمن ألقى حبهم في خلقه فسموا بذاك وفضلوا
- شادوا على التقوى مباني عزهم لله ما شادوا بذاك وأثلوا
- قوم ابوحفصٍ أب لهم وما ادراك! والفاروق جد اول
- نسب كما اطردت انابيب القنا واتى على تقويمهن معدل
- سام على هام الزمان كأنه للفخرتاج بالبدورمكلل فضل
- فضل الأنام حديثهم وقد يمهم ولأنت إن فضلوا اعزوافضل
- وبنوا على قلل النجوم ووطدوا وبناؤك العالي أشذ واطول
- * *
ولقد اقول لخائض بحر الفلا
ماضٍ على غول الذجى لايتقي
متقلب فوق الرحال كأنه
يبغي منال الفوز من طرق الغنى ارح الركاب فقد ظفرت بواهبٍ
لله من خلق كريمٍ في الندى
هذا امير المؤمنين إمامنا
هذا ابوالعئاس خيرخليفة
مستنصر بالله في قهر العداً سبق الملوك إلى العلا متمهلاً
والليل مزبد الجوانب أليل
تيها وذابله ذبال مشعل طيف بأطراف المهاد موكل ويرود مخصبها الذي لا يمجل يعطي عطاء المنعمين فيجزل كالروض حياه ندقي مخضوضل
في الدين والذنيا إليه الموئل شهدت له الشيم التي لا تجهل
وعلى إعانة ربه متوكل لله منك السابق المتمهل
فلا أنت اعلى المالكين وإن غدوا
قايس قديماً منكم بقديمهم دانوا لقومكم بأقوم طاعةٍ
سائل تلمساناً بها وزناتةً واسال باندلس مدائن ملكها
واسال بذا مراً كشاً وقصورها
يتسابقون إلى العلاء وأكمل
فالامر فيه واضح لا يجهل هي عروة الدين التي لا تفصل
ومرين قبلهم كما قد ينقل تخبرك حين استياشوا واستوهلوا
ولقد تجيب رشومها من يسأل
يا أيها الملك الذي في نعته ملاء القلوب وفوق ما يتمثل
لله منك مؤيد، عزماته تمضي كمايمضي القضاءالمرسل
جئت الزمان بحيث أعضل خطبة فافترعنه وهوأكلح أعصل
والشمل من ابنائه فتضدع وحمى خلافته مضاع مهمل
والخلق قد صرفوا إليك قلوبهم ورجوا صلاح الحال منك واملوا
فعجلته لما انتدبت لأمره بالبأس والعزم الذي لا يمهل ذئلت منه جامحا ًلاينثني سهلت وعراً كاد لايتسهل وألنت من سوس العتاة وذدتهم عن ذلك الخرك الذي قد حللوا
كانت بصولة صولة ولقومة يعدو ذويب بهاوتسطوالمعقل ومهلهل تسدي وتلحم في التي ما أحكموهافهي بعد مهلهل
المراد بصولة هنا صولة بن خالد بن حمزه أمير أولاد أبي الليل. وذؤيب: هو ابن عمه أحمد بن حمزة. والمعقل فريق من العرب من احلافهم. ومهلهل: هم بنو مهلهل ابن قاسم أنظارهم وأقتالهم. ثم رجعت إلى وصف العرب وأحيائهم:
- عجب الأنام لشأنهم بادون قد قذفت بحيهم المطيئ الذلل
#رفعوا القباب على العماد وعندها الجرد السلاهب والرماح العسل #في كل ظامي الترب متقد الحصى تهدي للجته الظماءفتنهل
- جن شرابهم السراب ورزقهم رمح يروح به الكمي ومنصل
#حيئ حلول بالعراء ودونهم قذف النوى إن يظعنوا اويقلبوا #كانوا يروعون الملوك بما بدوا وغدت ترفه بالنعيم وتخضل
- فبدوت لا تلوي على دعةٍ ولا
- اطورا يصافحك الهجير وتارة
- وإذا تعاطي ضمراً يوم الوغى
- مخشوشناً في العزمعتملاً له
- تفري حشى البيداء لايسري بها
- وتجر أذيال الكتائب فوقها
- ترميهم منها بكل مدجج
- وبكل اشمر غصنه متاؤد
- حتى تفرق ذلك الجمع الألى
- ثم استملتهم بانعمك التي
- ونزعت من أهل الجريد غواية
- خربت من بنيانها ما شيدوا
- ونظمت من أمصاره وثغوره
- فسددت مطلع النفاق وأنت لا
- بشكيمة مرهوبةٍ وسياسةٍ
- عذب الزمان لها ولذ مذاقه
- فضوى الأنام لعز أروع مالكٍ
- وتطابقت فيك القلوب على الرضى
- يامالكاً و!سع الزمان وأهله
- فالأرض لا ئخشى بها غول ولا
- والسفر يجتابون كل تنوفة
- سبحان منن بعلاك قد أحيا المنى
- سبحان من بهداك أوضح للورى
- فكأنما الدنيا عروس تجتلى
- وكأن مطبقة البلاد بعدله
- وكأن أنوار الكواكب ضوعفت
تأوي إلى ظلل القصور تهدل فيه بخفاق البنود تظلل
كأس النجيع فبالصهيل تعلل في مثل هذا يحسن المستعمل ركب ولا يهوي إليه جحفل تختال في السمر الطوال وترفل شاكي السلاح إذا استعار الأعزل وبكل أبيض شطه متهدل
عصفت بهم ريح الجلاد فزلولوا خضعوا لعزك بعدها وتذللوا
كانت بهم أبدا تجد وتهزل وقطعت من أسبابها ما اصلوا للملك عقدا بالفتوح يفضل تنبو ظباك ولا العزيمة تنكل تجري كما يجري فرات سلسل من بعدماقدمرمنه الحنظل
سهل الخليقة، ماجد متفضل
سيان منها الطفل والمتكهل دعة وامنا فوق ما قد أملوا يعدو بساحتها الهزبر المشبل سرب القطا ما راعهن الأجدل وأعاد حلي الجيد وهو معطل
قصد السبيل فابصر المتافل
فتميس في حلل الجمال وترفل
عادت فسيحاً ليس فيه مجهل من نور غرته التي هي اجمل
#وكأنما رفع الحجاب لناظرٍ فرأى الحقيقة في الذي يتخيل
ومنها في العذر عن مدحه:
- مولاي غاضت فكرتي وتبلدت
- تسمو إلى درك الحقائق همتي
#وأجد ليلي في امتراء قريحتي #فابيت يعتلج الكلام بخاطري
- من بعدحول انتقيه ولم يكن
#فاصونه عن أهله متوارياً #وهي البضاعة في القمول نفاقها #وبنات فكري إن أتتك كليلة #فلها الفخار إذا منحت قبولها
مني الطباع فكل شي مشكل
فأصذ عن إدراكهن وأعزل وتعود غوراً بينما تسترسل
والنظم يشرد والقوافي تجفل
في الشعرلي قول يعاب ويمهل
أن لا يضمهم وشعري محفل
سيان فيها الفحل والمتطفل مرهاء تخطرفي القصوروتخطل وأنا على ذاك البليغ المقول
ومنها في ذكر الكتاب المؤلف لخزانته:
- وإليك من سير الزمان وأهله
#صحفا تترجم عن أحاديث الألى #تبدي التبابع والعمالق سرها #والقائمون بملة الإسلام من #لخصت كتب الأولين لجمعها #وألنت حوشي الكلام كأنما #أهديت منه إلى علاك جواهراً #وجعلمه لصوان ملكك مفخراً #والله ما أسرفت فيما قلته #ولأنت أرسخ في المعالي رتبة #فملاك كل فضيلة وحقيقة #والحق عندك في الأمور مقدم #والله اعطاك التي لا فوقها عبراً يدين بفضلها من يعدل درجوا فتجمل عنهم وتفصل
وثمود قبلهم وعاد الأول
مضر و بربرهم إذا ما حصلوا وأتيت أولها بما قد أغفلوا شي اللغات بها لنطقي ذلل مكنونة وكواكباً لا تأفل يبأى الندي به ويزهو المحفل شيئاً ولا الاسراف مني يجمل من أن يموة عنده متطفل
بيديك تعرف وضعها إن بدلوا
أبداً فماذا يدعيه المبطل فاخكم بما ترضى فانت الأعدل
- أبقاك ربك للعباد تربهم فالله يخلقهم ورعيك يكفل
وكنت لما انصرفت عنه من معسكره على سوسة إلى تونس، بلغني- وأنا مقيم بها- أنه أصابه في طريقه مرض، وعقبه إبلال، فخاطبته بهذه القصيدة:
- ضحكت وجوه الدهربعدعبوس وتخللتنا رحمة من بوس
- وتوضحت غررالبشائر بعد ما انبهمت فأطلعهاحداة العيس
- صدعوا بها ليل الهموم كأنما صدعوا الظلام بجذوة المقبوس
- فكانهم بثوا حياة في الورى نشرت لها الامال من مرموس
- قرت عيون الخلق منها بالتي اضفت من النعماء خيرلبوس
- فكأن قومي نادمتهم قرقف شربوا النعيم لها بغيركؤوس
- يتمايلون من المسرة والرضى ويقابلون أهلة بشموس
- من راكب وافى يحيي راكباً وجليس أنس قاده لجليس
- ومشفع لبه يؤنس عنده أثرالهدى في المعهد المأنوس
- يعتد منهارحمة قدسية فيبوء للرحمن بالتقديس
- طب بإخلاص الدعاء وإنه يشفي من الداء العياء ويوسي
والمعنى به إمام الجامع الأعظم، جامع الزيتونة بتونس.
- يا ابن الخلائف والذين بنورهم نهجت سبيل الحق بعد دروس
- والناصر الدين القويم بعزمة طرد استقامتها بغيرعكوس
- هجرالمنى فيها ولذات المنى في لذة التهجييروالتغليس
- حاط الرعية بالسياسة فانضوت منه لإكرم مالك وسؤوس
- أسد يحامي عن حمى اشباله حتى ضووا منه لأمنع خيس
- قسماً بموشي البطاح وقد غدت تختال زهواً في ثياب عروس
- والماثلات من الحنايا جثماً يخبرن عن طسم وفل جديس
- خوص مضفرة البطون كانها أنضاء ركب في الفلاة حبيس
- وخز البلى منها الغوارب والذرى فلفتن خزراً بالعيون الشوس
- لبقاك حرزالأنام وعصمة وحياة أرواح لنا ونفوس
- ولأنت كافل ديننا بحماية لولاك ضيع عهدها وتنوسي
- الله أعطاك التي لا فوقها وحباك حظا ليس بالموكوس
- تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا سيان من رأس ومن مرءوس
- فإذا أقصت فإن رعبك راجل يحمي على الأعداء كل وطيس
- وإذا رحلت فللسعادة آية تقتادها في موكب وخميس
- وإذا الأدلة في الكمال تطابقت جاءت بمسموع لها ومقيس
- فانعم بملكك دولة عادية تشقي الأعادي بالعذاب البيس
• * * *
- وإليكها مني على خجل بها
- عذراك فقد طمس الشباب ونوره
- لولا عنايتك التي أوليتني
- والله ما أبقت ممارسة النوى
- أنحى الزمان علي في الأدب الذي
- فسطا على وفري وروع مأمني
- ورضاك رحمتي التي أعتدها عذراء قد حليت بكل نفيس
وأضاء صبح الشيب عند طموس ما كنت أعنى بعدها بطروس مني سوى مرس أحم دريس دارسته بمجامع ودروس واجتث من دوح النشاط غروسي تحيي منى نفسي وتذهب بوسي
ثم كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات، وابن عربة يزيد في إغرائهم مى اجتمعوا إليه، إلى ان أغروا السلطان بسفري معه، ولقنوا النائب بتونس القائد
فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامي معه، خشية على أمره مني بزعمه، وتواطأوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان، فشهد به في غيبة مني، ونكر السلطان عليهم ذلك، ثم بعث إليّ وأمرني بالسفر معه، فسارعت إلى الامتثال، وقد شق ذلك علي، إلا أني لم أجد محيصاً [عنه] ، فخرجت معه، وانتهيت إلى تبسة، وسط وطن تلول أفريقية، وكان منحدراً في عساكره وتواليفه من العرب إلى توزر؛ لأن ابن يملول كان أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، واستنقذها من يد إبنه، فسار السلطان إليه، وشرده عنها، وأعاد إليها ابنه وأولياءه. ولما نهض من تبسة، رخعني إلى تونس؛ فأقصت بضيعتي الرياحين من نواحيها لضم زروعي بها، إلى أن قفل السلطان ظافرا منصورا، فصحبته إلى تونس.ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، أجمع السلطان الحركة إلى الزاب؛
بما كان صاحبه ابن مزنى قد آوى ابن يملول إليه، ومهد له في جواره؛ فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السفرة قبلها. وكانت بالمرسى سفينة لتجار الإسكندرية قد شحنها التجار بأمتعهم وعروضهم، وهي مقلعة إلى الإسكندرية، فتطارحت على السلطان، وتوسلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي، فأذن لي في ذلك، وخرجت إلى المرسى، والناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودعتهم، وركبت البحر منتصف شعبان من السنة، وقوضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه، وتفرغت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم، والله ولي الأمور سبحانه. الرحلة الى المشرق، وولاية القضاء بمصر: ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر. ولعشر ليالٍ من جلوس الملك الظاهر على التخت، واقتعاد كرسى الملك دون أهله بني قلاوون؛ وكنا على ترقب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك، وتمهيده له. وأقمت بالإسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج ولم يقذر عامئذ، فاننقلت إلى القاهرة أول ذي
القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الحوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطىء بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجه؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نحدث عن هذا البلد، وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال؛ ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا، حاجهم وتاجرهم، بالحديث عنه. سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس، وكبير العلماء بالمغرب؛ أبا عبد الله المغربي، مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة، فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال من لم يرها لم يعرف عز الإسلام.
وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من الحساب؛ يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب. وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس، الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر، وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم، سنة ست وخمسين وسبعمائة وسأله عن القاهرة فقال: أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إن الذي يتخيله الإنسان، فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها، لاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون لذلك. ولما دخلتها، أقمت أياماً، وانثال علي طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قفة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً؛ فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها. ثم كان الاتصال بالسلطان، فأبر مقامي اللقاء، وأنس الغربة، ووفر الجراية من صدقاته، شأنه
مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر، اغتباطا بعودي إليه، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه في تخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك بما نصه. بسم الله الرحمن الرحيم. عبد الله ووليه أخوه برقوق <…………..> السلطان الأعظم، المالك الملك الظاهر، السيد الأجل، العالم العادل، المؤيد المجاهد، المرابط المثاغر، المظفر، الشاهنشاه، سيف الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، مولي الاحسان، مملك أصحاب التخوت والأسرة والتيجان، واهب الأقاليم والأقطار، مبيد الطغاة والبغاة والكفار، ملك البحرين، مسلك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، سلطان البسيطة مؤمن الأرض المحيطة، سيد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين، أبو سعيد برقوق ابن الشهيد شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس. خلد الله سلطانه، ونصر
جيوشه وأعوانه- يخص الحضرة السنية السرية، المظفرة الميمونة، المنصورة المصونة، حضرة السلطان العالم، العادل المؤيد، المجاهد الأوحد، أبي العباس، ذخر الإسلام والمسلمين، عدة الدنيا والدين، قدوة الموحدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدول. لا زالت مملكته بقوته عامرة، ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة، ومعدلته تبوئه غرفات العز في الدنيا والآخرة. سلام صفا ورده وضفا برده، وثناء فاح نده، ولاح سعده، ووداد زاد وجده، وجاد جده.
أما بعد حمد الله الذي جعل القلوب أجناداً مجندة، وأسباب الوداد على البعاد مؤكدة، ووسائل المحبة بين الملوك في كل يوم مجددة؛ والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الذي نصره لله بالرعب مسيرة شهر وأيده وأعلى به منار الدين وشئده؛ وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده، صلاة دائمة مؤبده. فإننا نوضح لعلمه الكريم، ان الله- وله الحمد- جعل جبلتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف وأهله، ورفعة شأنه، ونشر أعلامه، ومحبة أهله وخذامه، وتيسير مقاصدهم، وتحقيق أملهم، والإحسان إليهم، والتقرب إلى الله بذلك في السر والعلانية؛ فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، وهداة خلق الله في أرضه؛ لاسيما من رزقه الله الدراية فيما علمه من ذلك، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك، مثل من سطرنا هذه المكاتبة بسببه: المجلس السامي، الشيخي، الأجلي، الكبيرى، العالمي، الفاضلي، الأثيلي، الأثيري، الإمامي، 1لعلامي ا لقدوة، المقتدي، الفريدى؛ المحققي، الأصيلي، الأوحدي، الماجدي، الولوي، جمال الإسلام والمسلمين، جمال العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة البلغاء، علامة الأمة، إمام الأئمة، مفيد
الطالبين، خالصه الملوك والسلاطين عبد الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته؛ فإنه أولى بالإكرام، وأحرى، وأحق بالرعاية وأجل قدراً؛ وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة، وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية، لا رغبة عن بلاده، بل تحبباً إلينا، وتقرباً إلى خواطرنا، بالجواهر النفيسة، من ذاته الحسنة، وصفاته الجميلة؛ ووجدنا منه فوق ما في النفوس، مما يجل عن الوصف ويُربي على التعداد. ياله من غريب وصف ودار، قد أتى عنكم بكل غريب؛ وما برح- من حين ورد علينا- يبالغ في شكر الحضرة العلية، ومدح صفاتها الجميلة، إلى أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حُبَّها، وآثرنا المُكاتبة إليها
"والعين تعشق قبل الأذن أحياناً"
وذكر لنا في أثناء ذلك، أن أهله وأولاده، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العليّة، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده، ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا، فاقتضت آراؤنا الشريفة، الكتابة إلى الحضرة العليّة لهذين السببين الجميلين؛ وقد آثرنا إعلام الحضرة العليّة بذلك، ليكون على خاطره الكريم، والقصد من محبته، يُقدَّمُ أمرَه العالي بطلب أهل الشيخ وليَّ الدين المشار إليه، وإزاحة أعذارهم، وإزالة عوائقهم، والوصيَّة بهم، وتجهيزهم إليه مُكرَّمين، محترمين، على أجمل الوجوه صُحبة قاصِده الشيخ الصالح، العارف السالك الأوحد، سعد الدين مسعود المكْناسي، الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله؛ ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة العلية، مع تَوصيةَ من بها من البحرية بمضاعفة إِكرام المشار إليهم وَرِعايتهم، والتَّأكيد عليهم في هذا المعنى، وإذا وصَل من بها مَن البحرية، كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفُسهم، ويُرْبي على أملهِم؛ بحيثُ يَهتَمُّ بذلك على ما عُهد من محبَّتِه، وجميل اعتمادِه، مع ما يُتحفُ به من مراسلاته، ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يَحرسُهُ بملائكته وآياته، بِمَنّه ويُمْنِه إن شاء الله.
كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف.الحمد لله وصلواته على سيّدنا محمَّد وآله وصَحبه وسلّم.
ثم هلك بعضُ المدرَّسين بمدرسة القمحية بمصر، من وَقْف صلاح الدين بن أَيُّوب، فولاَّني تدريسها مكانه، وبَينا أَنا في ذلك، إِذ سَخِط السلطان قاضي المالكية في دولته، لبعض النَّزَعات فعزله، وهو رابعُ أربعة بعدد المذاهب، يُدعى كلُّ منهم قاضي القُضاة، تمييزاً عن الحُكَّام بالنيابة عنهم، لاَّتساع خُطَّة هذا المعْمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفعُ من الخصومات في جوانبه؛ وكبيرُ جماعتهم قاضي الشَّافعية، لِعُموم ولايته في الأعمال شرقاً وغرباً، وبالصَّعيد والفيوم، واستقلاله بالنظر في أموال الأيتام، والوصايا؛ ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديماً بالولاية إنّما كانت تكون له.
فلما غزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة، اختصنى السلطان بهذه الولاية، تأهيلاً لمكاني، وتنويهاً بذكري، وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلاّ إمضاءه؛ وخلع علي بإيوانه، وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقصت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمّود، ووفّيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزغبني عنه جاه ولا سطوة، مسّوياً في ذلك بين الخصمين، آخذاً بحقَّ الضعيف من الحكمين، مُعْرِضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين؛ جانحاً إلى التثّبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل
الشهادات؛ فقد كان البرّ منهم مختلطاً بالفاجر، والطيّب ملتبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة؛ فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنّون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء؛ والتوسّل لهم؛ فاعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفتُ على بعضِها فعاقبت فيه بموجع العِقَاب، ومؤلم النِكال؛ وتأدّى لعلمى الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل الشهادة؛ وكان منهم كتاب الدواوين القضاة، والتوقيع في مجالسهم، قد درّبوا على إملاء الدعاوي، وتسجيل الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها؛ فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويهٌ على القضاة بجاههم، يدّرعون به مما يتوقعونه من مغبتهم، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم؛ وقد يسلّط بعضٌ منهم قَلَمَهُ على العقود المُحْكَمَة، فيُوجِدُ السبيلَ إلى حلّها بوجة فِقهيّ، أو كتابيّ؛ ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاَه أو منحة؛ وخصوصاً في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه؛ فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضةً للبُطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعاً أو تمليكاً شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا فيه سدّ الحظر والمنع حمايةً عن التّلاعب؛ وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر في العقود والأملاك.
فعاملتُ الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم؛ ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الحيرة، لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم؛ وإذا فيهم أصاغر، بيناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون؛ إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها، وتناولوها بالخزاف، وأجازوها من غير مرتّب ولا مستند للأهلية ولا مرشح؛ إذ
الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقّة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مُرْسَلَ، يتجاذب كل الخصوم منها رَسَناً، ويتناول من حافته شِقّاً، يروم به الفتح على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المُفتي من ذلك ملءَ رضاه، وكَفاءَ أمنيته، متتبعاً إياه في شغب الخلاف؛ فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم؛ والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذَّر، وأهلية المفتي و شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي؛ فلا يكاد هذا المدى ينحسم، ولا الشغب ينقطع.
فصدعت في ذلك بالحق، وكبحتُ أعنّة أهل الهوى والجَهْل، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب؛ يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك،ولا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب فى فنّ، قد اتخذوا الناس هزواً، وعقدوا المجالس مثلبةً للأعراض، ومأبنه للحرم؛ فارغمهم ذلك مني، وملأهم حسدا وحقداً عليّ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، ليشترون بها الجاه ليجيروا به على الله؛ وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخّصون به الإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرّض لأحكام الله بالجهل؛ فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيتُ حكم الله فيمن أجازوه، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة. وانطلقوا يراطؤن السفهاء من النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك، وقول الزور، ويبثّونه في الناس، ويدسّون إلى السلطان التظلّم مني فلا يصغي إليهم؛ وأَنا في ذلك مُحْتسِبٌ عند الله ما منيت به من هذا الأمر، ومُعْرِضٌ فيه عن الجاهلين، وماضٍ على سبيل سويّ من الصرامة، وقوّة الشكيمة، وتحرّي العدَالة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأعراض متى غمزني لامِسُها؛ ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه مني، ودعوني إلى تبعهم فيما
يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الآعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذرّت، بناءً على أن الحاكم لا يتعيّن علبه الحكم مع وجود غيره، وهم يعملون أن قد تمالؤا عليه.
وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة، إذا علموا خلافها؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك: <<من قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقضي له من النار>>.
فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقّها؛ والوفاء لها ولمن قلّدنيها، فأصبح الجميع علىّ ألبا، ولمن ينأدي بالتأفّف مني عوناً، وفي النكير عليّ أمّة؛ وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحق، لاعتمادي على عِلْمي في الجَرْح، وهي قضية إجماع؛ وانطلقَتِ الألسنُ، وارتفع الصخبُ، وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فتوقفت، وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان؛ وجمع القضاة وأهل الفتياء في مجلس حفل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز، وتبين امرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله إرغاماً لهم، فغدوا على حَرَد قادرين، ودسوا لأولياء السلطان وعظماء الدولة، يقبحون لهم إهمال جاههم، ورد شفاعتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح، وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إلي، تبعث الحليم، وتغري الرشيد، يستثيرون حفائظهم علي، ويشربونهم البغضاء لي؛ والله مجازيهم وسائلهم.
فكثر الشغب علي من كل جانب، وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته، خشية من نكير السلطان وسخطه؛ فوقفت بين الورْد والصَدْر، وعلى صراط الرجاء واليأس؛ وعن قريب تداركني اللطف الربّاني، وشملتني نعمة السلطان- أيده الله- في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت- كما زعموا- مصطلحها؛ فردها إلى صاحبها الأول، وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد
الأثر، مشيعاً من الكإفة بالأسف والدعاء وحميد الثناء؛ تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في بالعودة؛ ورَتَعْتُ فيما كنت راتعاً فيه قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته، قانعا بالعافية التي سألها رسول الله من ربه، عاكفاً على تدريس علم، أو قراءة كتاب، أو أعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤمّلاً من الله؛ قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته. السفر لقضاء الحج ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة؛ فودعت السلطان والأمراء، وزودوا وأعانوا فوق الكفاية. وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، إلى مرسى الطور بالجانب الشرقي من بحر السويس؛ وركبت البحر من هنالك، عاشر الفطر، ووصلنا إلى اليَنْبُع لشهر، فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي الحجة، فقضيت الفريضة في هذه السنة، ثم عدت إلى الينبع، فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح، فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي. ونزلنا بساحل القصير، ثم بَذْرَقْنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد، فأرحنا بها أياماً، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا، ودخلتها في جمادى سنة تسعين؛ وقضيت حق السلطان في لقائه، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبل ذلك (مني) بقبول حسن، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظل إحسانه.
وكنت لما نزلت بالينبع، لقيت بها الفقيه الأديب المتفنن، أبا القاسم بن محمد ابن شيخ الجماعة، وفارس الأدباء، ومنفق سوق البلاغة، أبي إسحق إبراهيم الساحلي المعروف جدّه بالطُّوَيْجن، وقد قدم حاجاً، وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم، كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظي لديه، أبي عبد الله بن زمرك؛ خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوق، ويذكر بعهود الصحبة نصه
- سلوا البارق النجدي من علمي نجد تبسم فاستبكى جفوني من الوجد
- أجاد ربوعي باللوى بورك اللوى وسح به صوب الغمائم من بعدي
- ويا زاجري الأظعان وهي ضوامر دعوها ترد هيما عطاشفا على نجد
# ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا فإن زفير الشوق من مثلها يعدي # يراها الهوى بري القداح وخطها حروفا على صفح من القفر ممتد
- عجبت لها أني تجاذبني الهوى وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي
- لئن شاقها بين العذيب وبارق مياه بفيء الظل للبان والرند
- فما شاقني إلا بدور خدورها وقد لحن يوم النفر في قصب ملد
- فكم في قباب الحي من شمس كلة وفي فلك الأزرار من قمر سعد
- وكم صارِم قد سُل من لَحظِ أحْوَرٍ وكم ذابلٍ قد هُزَّ من ناعم القَدِّ
- خُذوا الحِذر من سُكَّان رامَة إِنْها ضعِيفات كرِّ اللَّحْظِ تَفتكُ بالأسْدِ
- سِهام جُفونٍ عن قِسِّيَ حواجِبٍ يُصَابُ بها قَلبُ البَريء على عَمْدِ
- وروض جَمال ضاعَ عَرْفُ نَسِيمِه وما ضاع غيرُ الوَرْد في صَفحة الخدِّ
ونرجِس لَخظٍ أرسل الدَّمعَ لؤْلؤاً فَرَشَّ بماءِ الوَرْد رَوضاً من الوَردِ وكم غُصُنٍ قد عانَق الغُصْنَ مثلَهُ وكلٌّ على كلٍّ من الشًوْق يَسْتَعْدي قبيحُ وداعُ قد جَلَا لعُيُونِنا محاسِنَ من روضِ الجمال بلا عَدِّ رعَى الله لَيْلَى لو عَلمتُ طريقَها فَرَشْتُ لأخفاف المَطِيِّ به خَذي وما شاقني والطَيْفُ يُرهِبُ أدْمُعى وَيسْبَح في بحرٍ من الئَيْل مزْبَذ وقد سُلَّ خفَّاقُ الذُّؤابة بارقٌ كما سُلَّ لَمَّاع الصِّقالِ من الغِمْدِ وهُزتْ مُحَلاَّةً يدُ الشوقِ في الدُّجى فَحُلَّ الذي أبْرَمْتُ للصَّبْرِ من عَقْدي وأفلق خفَّاقُ الجوانح نسْمَةً تَنِتُم مع الإصباح خافقَة البُردِ وهبَّ عليلٌ لَفَّ طيّ بُرُودِهِ أحاديثَ أهْداها إلى الغَور من نَجْدِ سَوَى صادِحٍ في الأيكِ لم يَدْرِ ما الهَوَى ولكن دعا مِنِّي الشُجُونَ على وعدِ
فهَلْ عِندَ لَيْلَى نَعَّم الله لَيْلَها بانَّ جُفوني ما تَمَل من السهْدِ
وليلةَ إِذْ ولَّى الحَجِيجُ على مِنىً وفَت لي المُنَى منها بما شئتُ من قَصْدِ فَقضيتُ منها-فوقَ ما احسَبُ –المُنَى وبُرْدُ عَفافي صانَه الله من بُردِ وليْسَ سوى لَحظٍ خفيّ نُجِيلُهُ وشَكْوى كما آرفضق الجُمانُ من العِقْد غَفَرْتُ لِدَهْري بعدها كلّ ما جَنى سِوَى ما جَنَى وفْدُ المَشِيبِ على فَوْدِي عرفْت بهذا الشَّيب فضْلَ شَبِيبتي وما زال فَضْل الضِّدِّ يُعرَفُ بالضدِّ ومن نامَ في ليْلِ الشاب ضَلَالَةً سَيُوقظُهُ صُبْح المَشِيب إلى الرُشْدِ أما والهَوى ما حُلتُ عن سَنَن الهَوَى ولا جُرْتُ في طُرْقِ الصَّبابة عنٍ قَصْدِي تَجاوزتُ حدَّ العاشقين الألى قَضَوْا وأصبَحْتُ في دِينِ الهَوَى أُمَّة وحدي نَسِيتُ وما أنسَى وفائي لخلَّتي وأقفَر رَبْع القلْب إِلا منَ الوَجْد
- * * *
إليكَ أبا زيْد شَكاةً رفعْتُها وما أنتَ من عَمْرو لدَيّ ولا زَيْد
بعَيشِكَ خَبِّرني وما زلتَ مفْضِلا أعِندَك من شَوقٍ كمِثل الذي عِندي فكمِ ثارَ بي شَوْق إليك مُبرِّحٌ فظَلّت يَدُ الأشواق تَقْدَح من زَنْدي وصَفقَ حتى الرِّيحُ في لُمَمِ الرُّبَى وأشفَق حتى الطَفْلُ في كَبدِ المَهْدِ يُقابِلُني منكَ الصَّباحُ بوَجْنَةٍ حَكَى شفقاً فيه الحَياءُ الذي تُبْدي وتُوهِمُني الشمْسَ المنيرةَ غُرَّةٌ بوَجْهك صان الله وجهَكَ عن رَدِّ مُحيَّاك أجْلَى في العُيون من الضُحى وذِكرُكَ أحْلَى في الشِّفاهِ من الشهْدِ وما أنتَ إِلّاَ الشَّمسُ في عُلْو أُفْقِها تُفيدُك من قُرْب وتُلحَظُ من بُعْدِ وفي عَمَةٍ من لا تَرَى الشَّمسَ عينُه وما نَفْعُ نُورِ الشَّمًسِ في الأعين الرُّمْدِ مَن القَوْم صانوا المَجْدَ صَوْنَ عُيُونهِم كما قد أباحُوا المَال يُنْهَب لِلرِّفْدِ إِذا ازدَحَمت يوْماً على المال أُسْرةٌ فما ازدَحمّوا إِلَّا مَوْرِد المَجْدِ ومَهْما أغارُوا مُنجِدينَ صَرِيخَهم يَشُبُّونَ نارَ الحَرْبِ في الغَوْر والنَّجْد ولم يَقْتَنُوا بَعْدَ البِناءِ ذَخِيرَة سِوَى الصَّارم المَصْقُول والصَافِنِ النَّهْدِ وما اقتَسمَ الأنفالَ إِلآَ مُمَدَّحٌ بَلاَها بأعْرافِ المُطَهَّمَةِ الجُرْدِ أتَنسَى ولا تَنْسَى ليالينَا التي خَلَسْنا بِهنَ العَيْشَ في جَنةِ الخُلْدِ ركِبنا إلى اللَّذاتِ في طَلَق الصِّبا مَطايا اللَّيالي وادِعينَ إلى حَدّ فإِن لم نَرِدْ فيها الكُؤُسَ فإنَنا ورَدْنا بها للأنْسِ مُسْتَعْذَبَ الوِرْدِ أتيتُك في غَرْب وأنتَ رئيسُهُ وبابُكَ للأعْلاَم مُجْتَمَع الوَفْدِ فآنسْتَ حتى ما شَكَوْتُ بِغُرْبَة ووالَيْت حتى لم أجِد مَضَضَ الفَقْدِ وعُدت لقطْرِي شاكراً ما بَلَوْتُه مِنَ الخُلُق المَحمّودِ والحَسَبِ العِدّ إلى أن أجَزْتَ البَحْر يا بَحْرُ نَحْوَنا وزُرتَ مَزار الغَيْثِ في عَقِب الجَهْد ألذّ منَ النُّعْمَى على حالِ فاقَةٍ وأشْهَى من الوَصْلِ الهَنيً على صَدِّ وإِن ساءني أن قَوَضَتْ رِحْلَك النوَى وعُوِّضتَ عَنا بالذَمِيلِ وبالوَخْدِ لقَد سَرَّني أن لُحْت فيِ أفُقِ العُلا على الطَّائِر المَيْمُونِ والطَّالِعِ السَّعد طَلَعتَ بأفْقِ الشَّرقِ نجْمَ هِدايةٍ فجئْت معَ الأنْوار فيه على وعد
- * * *
يَميناً بمَن تَسْرِي المَطِيُّ سَواهِماً عَليها سِهامٌ قَد رَمَت هَدفَ القَصدِ
إِلى بيْتِه كيْما تَزُورَ معاهداً أبان بها جِبْرِيلُ عَن كَرَم العَهْدِ لأنتَ الذي مَهْما دَجا لَيْلُ مشْكِلٍ قَدَحْتَ به للنّور واريِةَ الزَّنْدِ وحيثُ استقلَّت بي ركابٌ لِطِية فأنتَ نَجيُّ النَفْس في القُرْبِ والبُعْدِ
- * * *
وإني ببَابِ المُلْك حيث عَهِدتَني مديدَ ظِلال الجاه مُسْتَحْصَفَ العَقْد
أُجَهِّز بالإنشاءِكُ كل كَتِيبةٍ منَ الكُتْبِ ؛ والكُتَّابى في عَرْضِها جُنْدي نَلوذُ مِنَ المولَى الإمام محمَّدٍ بظل على نَهْر المَجرَّة مُمتَدِّ إِذا فاض من يُمناه بحرُ سَماحةٍ وعمَّ به الطّوفانُ في النجْد والوَهْد رَكبنا إلى الإحْسان في سفُن الرَّجَا بحورَ عطاءٍ ليس تجزُرُ عن مَدِّ فَمَن مُبلِغُ الأمصار عني ألوكةً مغَلْغَلَةً في الصِّدق مُنْجَزَةَ الوَعْد بآيةِ ما أعطى الخليفةَ رَبُّهُ مفاتيحَ فَتْحٍ ساقها سائقُ السعدِ ودُونك من رَوض المحامِدِ نَفحْةً تفوت إذا اصطفَّ النَّديُّ عن النِّدِّ
ثناءً يَقولُ المِسْك إِن ضاعَ عرفُه أيا لك من نَدٍّ أما لك من نِدِّ
وما الماءُ في جَوف السَّحابُ مُرَوَّقاً بأطهر ذَاتاً منكَ في كَنفِ بالمَهْدِ فكيْفَ وقد حَلَتْك أسْرابَها الحُلى وباهَت بكَ الأعلاَم بالعَلَم الفَرد وما الظَلُ في ثَغْرٍ منَ الدَّهر ِباسِمٍ بأصْفَى وأذكَى مِن ثَنائِي ومِن وُدِّي ولا البَدْرُ مَعْصُوباً بتاجِ تَمامِهِ بأبهر من وُدِّي وأسْيَرَ مَنْ حَمْدِي
بَقيتُ ابنَ خَلْدُون إِمامَ هِدايهَ ولا زِلْت من دُنْياك في جَنَةِ الخُلْدِ
ووصَلها بقولة : سَيِّدي علَم الأعلام ، كبير رؤساءِ الإسلام ، مُشرِّف حَمَلة السُّيوِف والأقْلام ، جمال الخَواصّ والظُّهَراء ، أثير الذُّوَل ، خالِصَة المُلُوك ، مُجْتَبَى الْخُلفاء ، نيِّر أفُق العَلاء، أوْحَد الفُضَلاء، قُدْوة العُلَماء، حجَّة البلَغاء . أبقاكم اللّه
بقاءً جميلاً يَعْقِد لوَاء الفَخْر، وُيعْلىِ منارَ الفَضْل ، ويَرفَع عِمادَ المَجْد، ويوَضِح مَعالم السُّؤدُد ، وُيرسِل أشِعَّة السّعادة ، وُيفِيض أنوارَ الهِداية ، وُيطلق ألسنَة المحامد ، ويَنشُرُ أفُقَ المَعارِف ، وُيعْذِب مَوارِد العِناية وُيمْتِعُ بعُمُر النِّهاية ولا نهايةَ .
بآيّ التَّحِيات أفاتحُك وقدرُك أعلى ، ومَطْلِع فَضْلِكَ أوْضَحُ وأجْلى ؛ إِن قُلْتُ تحيَّةُ كِسرى في السناء وتبّع فأثرك لا يقتفى ولا يتبع، تلك تحية عجماء لا تبينُ ولا تُبين، وزمزمةٌ نافَرَها اللسان العربي المبين، وهذه جهالة جهلاء، لا ينطبق على حروفها الاستعلاء، قد محا رسومها الجفاء، وعلى آثار دمنتها العفاء؛ وإن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد، ولكن أين يقعان مما أريد. تحية الإسلام آصل في الفخر نسباً، وأوْصَلُ بالشرع سبباً، فالأولى أن أحييك بما حيا الله في كتابه رسله وأنبياءه، وحيت به ملائكته في جواره أولياءه فأقول: سلام عليكم يُرْسِلُ من رحمات الله غماماً، ويفتق من الطُّرُوس عن أزهار المحامد كماماً، ويستصحب من البركات ما يكون على الذي أحسن من ذلك تماما؛ وأجدد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والذين، المستمدة من أنوارها سرج المهتدين. زادهاً الله صلاحاً، وعرفها نجاحاً يتبع فلاحاً؛ وأقرر ما عندي من تعظيم أرتقي كل آونة شرفه، واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه، وثناء انشر بيد الترك صحفه؛ وعلى ذلك أيها السيد المالك، فقد تشعبت علي في مخاطبتك المسالك؛ إن أخذتُ في تقرير فخرك العميم، ونسبك الصميم، فو الله ما ادري بأي ثنية للفخر يرفع العلم، وفي أى بحر من ثنائك يسبح القلم، الأمر جَلَل، "والشمس تكبر عن حلي وعن حلل "، وإن أخذت في شكاة الفراق، والاستعداء على الأشواق، اتسع المجال، وحصرت الروية والارتجال، فالأولى أن اترك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق، وأسلة اليراع تخضب مفارق الطُّروس بصبيغ الحبر المُرَاق؛ وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع، في مجال الرقاع، مستولية على أمد الإبدإع والاختراع؛ فإنما هو بثُّ يُبْكى، وفراق يُشْكى، فيعلم الله مرضي على أن أشافه
عن أنبائك ثغور البروق البواسم، وأن أحملك الرسائل حتى مع سفراء النواسم، وأن اجتلي غرر ذلك الجبين في مُحَيّا الشارق، ولمح البارق. ولقد وجهت لك جملة من الكتب والقصائد، ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر التي استأثر بهن البحر؛ قدس الله أرواحهم، وأعظم أجرك فيهم؛ فإنها أنافت على مائة وخمسين بيتاً، ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع، وغدر وصوله بعد المسافة؛ والذي يطرق لي سوء الظن بذلك، ما صدر في مقابله منكم. فإني على علم من كرم قصدكم، وحسن عهدكم. ومن حين استغرنباكم بذلك بالأفق الشرقي، لم يصلني منكم كتاب، مع علمي بضياع إثنين منها بهذا الأفق الغربي. انتهى. وفي الكتاب إشارة إلى أنه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر، ويطلب مني رفعها إلى السلطان، وعرضها عليه بحسب الإمكان؛ وهي على روي الهمزة، ومطلعها:
أمدامع منهلة أم لؤلؤ لما استهل العارض المتلألىء
وبعثها في طيّ الكتاب، واعتذر بأنه استناب في نسخها، فكتبت همزة رويها ألفاً، قال وحقها أن تكتب بالواو، لأنها تبدل بالواو، وتسهل بين الهمزة والواو، وحرف الإطلاق أيضاً يسوقها واواً. هذا مقتضى الصناعة، وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفاً على كل حال، على لغة من لا يسهل، لكنه ليس بشيء. وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقى لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك، ورفعت النسخة والأصل للسلطان، وقرأها كاتب سّره عليه، ولم يرجع إلي منهما شيء، ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان، فضاعت من يدي. وكان في الكتاب فصل عرّفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحّو المستبد بأمر المغرب لذلك العهد، وما جاء به من الانتقاض عليهم، والكفران لصنيعهم، يقول فيه: كان مسعود بن رخو الذي أقام بالأندلس عشرين عاماً يتَبَثَّك النعيم؛ ويقود الدنيا، ويتحيّز العيش والجاه، قد أجيز صحبة وُلدَ أبي عثمان، كما تعرفتم من نسخة كتاب أنشأئه
بجبل الفتح لأهل الحضرة، فاستولى على المملكة، وحصل على الدنيا، وانفرد برياسة دار المغرب، لضعف السلطان رحمه الله؛ ولم يكن إلا أن كفرت الحقوق، وحُنْظِلَت نخلته السحوق؛ وشف على سواد جلدته العقوق؛ وداخل من بسبتة، فانتقضت طاعة أهلها، وظنوا أن القصبة لا تثبت لهم؛ وكان قائدها الشيخ البهمة، فل الحصار وحلي القتال، ومحش الحرب، أبو زكريا بن شعيب، فثبت للصدمة، ونوّر للأندلس فبادره المدد من الجبل، ومن مالقة. وتوالت الأمداد، وخاف أهل البلد، وراجع شرفاؤه، ودخلوا القصبة. واستغاث أهل البلد بمن جاورهم وجاءهم المدد أيضاً. ثم دخل الصالحون في رغبة هذا المقام، ورفع القتال. وفي أثناء ذلك غدروا ثانية، فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العباس لتبادر القصبة به، ويتوجه منها إلى المغرب، لرغبة (بني) مرين وغيرهم فيه، وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الذي قلدكم رياسة داره، وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره انتهى. وبعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه: والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة، إذ لا يمكن بعث تفسير كامل؛ لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو النفع به عند الله. وقد أعلمتكم أن عندي التفسير أوصله إلى المغرب عثمان النجاني من تأليف الطيبي، والسفر الأول من تفسير أبي حيان، وملخص إعرابه، وكتاب المغني لابن هشام وسمعت عن بدأة تفسير للإمام بهاء الدين بن عقيل، ووصلت إلي بدأة من كلام أكمل الذين الأثيري رضي الله عن جميعهم. ولكن لم يصل إلا للبسملة، وذكر أبو حيان في صدر تفسيره أن شيخه سليمان النقيب، أو أبو سليمان. لا أدري الآن، صنف كتاباً في البيان في سفرين، جعله مقدمة في كتاب تفسيرة الكبير، فإن أمكن سيدي توجيهه لا بأس. انتهى. وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعددة لا حاجة إلى ذكرها هنا. ثم ختم الكتاب بالسلام، وكتب اسمه: محمد بن يوسف بن زَمْرَك الصّريحي، وتاريخه
العشرون من محرم تسع وثمانين وسبعمائة. وكتب إلي قاضي الجماعة بغرناطة؛ أبو الحسن علي بن الحسن البنّي: الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله. يا سيدي وواحدي وُدُّاً وحبًّا، ونجي الروح بعداً وقرباً. أبقاكم الله، وثوب سيادتكم سابغ، وقمرُ سعادتكم- كلما افلت الأقمار- بازغ، أسلم بأتم السلام عليكم، وأقرر بعض ما لدي من الأشواق إليكم، من حضرة غرناطة- مهّدها الله-، عن ذكر لكم يتضوع طيبُه، وشكر لا يذوي- وإن طال الزمان- طيبه وقد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلدتم أمرها، وتحملتم أمرها، فتمثلّت بما قاله شيخنا أبو الحسن ابن الجياب، عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم عن خطة القضاء:
لا مرحبا بالناشز الفارك إذ جهلت رفعة مقدارك لو أنها قد أوتيت رشدها ما برحت تعشو إلى نارك
ثم تعرّفت كيفية انفصالكم، وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيد هنا لكم، فرددت- وقد توهمت مشاهدتكم- هذه الأبيات:
لك الله يا بدر السماحة والبشر لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر
ولكنك استعفيت عنها تورعا وتلك سبيل الصالحين كما تدري
جريت على نهج السلامة في الذي تخيرته أبشر بأمنك في الحشر وحقق بأن العلم ولاك خطة من العز لا تنفك عنها مدى العمر تزيد على مرّ الجديدين جدة وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري ومن لاحظ الأحوال وازن بينها ولم ير للدنيا الدنية من خطر وأمسى لأنواع الولايات نابذا فغير نكير أن تواجه بالنكر فيهنيك يهنيك الذي أنت أهله من الزهد فيها والتوقي من الوزر ولا تكترث من حاسديك فإنهم حصى والحصى لا يرتقي مرتقى البدر ومن عامل الأقوام بالته مخلصا له منهم نال الجزيل من الأجر بقيت لربع الفضل تحمي ذماره وخار لك الرحمن في كل ما تجري
إيه سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم، وأطنبتم في كتابكم في الثناء على السلطان الذي أنعم بالإعفاء، والمساعدة على الانفصال عن خطة القضاء، واستوهبتم الدعاء له من هنا من الأولياء، ولله دركم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم، فالدعاء له من الواجب، إذ فيه استقامة الأمور، وصلاح الخاصة والجمهور، وعند ذلك ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم بجميل الدعاء. أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله، وبلغ كل واحد منكم ما قصده وأمله. وأنتم أيضاً من أنتم من أهل العلم والجلالة، والفضل والأصالة، وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه، والحظ الشريف النبيه؛ لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد المعظمة ظهور، وتحدث بعد الأمور أمور؛ وبكل اعتبارٍ ، فالزَّمان بكم – حَيثُ كنتُم – مباه ، والمحامدُ مجموعةٌ لكم جمعَ تثناه . ولما وقَف على مَكتوبكم إِليّ مَولانا السلطان أبو عَبدِ الله ، أطال الثناءَ على مقاصدكم ، وتحقَّقَ صحيحَ ودادكم ، وجَميل اعتقادِكم ، وعَمَّر مَجْلِسَه يومئذ بالثَّناءِ عليكم ، والشكر لما لديكم . ثم ختم الكتابَ بالسَّلام من كاتِبه عليّ بن عبد الله بن الحَسن مؤرخاً بصَفرِ تسعين وسبعمائة. وفي طيِّه مُدْرَجَة بخطه ، وقَد قصَّر فيها عَن الإجادة نَصُّها : سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم ، وأظفَر يمناكم بذَوائب مُناكم . أعتذر لكم عن الكِتاب المدْرَج به هذا بِغَيْر خطّي ، فإني في الوَقْت بِحالٍ مَرَض من عَينيَّ ، ولكم العافية الوَاقية، فيَسَعُني سَمْحُكم وربما أن لديكم تشوفّ لما نَزَل في هذه المدة بالمغْرب من الهرْج أماطه الله ، وأمَّن جَميعَ بلاد المسلمين . والموجب أن الحصَّة الموجهة لتلك البِلادِ في خِدمةِ أميرهم الوَاثق ، ظهر له ولوزيره ومن ساعده على
رأيه إِمساكُها رهينة، وجعْلُهم في القيود إلى أن يقعَ الخروجُ لهم عن مدينة سَبتة . وكان القائد على هذه الحصَّة العِلج المسمى مهنَّد، وصاحبُه الفتى المدعو نَصر الله . وكثر التَّردّد في القضية ، إلى أن أبرز القَدَرُ توجيهَ السلطان أبي العباسِ -تولاَّه الله - صحبةَ فَرَج بن رِضْوان بحصَّة ثانية، وكان ما كان ، حسبما تلقيتم من الركبان ، هذا ما وسِع الوَقْت من الكلام . ثم دعا، وخَتَم الكتاب.
وإِنما كتبتُ هذه الأخبار وإن كانت خارجة عن غَرض هذا التَّعريف بالمؤلِّف ، لأن فيها تَحقيقاً لهذه الواقِعات ، وهي مذكورة في أماكنها من الكِتاب ، فربَّما يحتاج الناظر إلى تحقِيقها من هذا الموضع . وبعدَ قَضاءِ الفريضة، رجعتُ إلى القاهرة محفُوفاً بستر الله ولُطفه ولقيتُ السلطان ، فتلقَّاني - أيَّده الله - بِمَعهودِ مَبَرَّته وعِنايته . وكانت فتنَةُ النَاصِري بعدها سَنَة إحدى وتسعين وسبعمائة. ولحقَت السلطانَ النكبة التي مَحصَهُ الله فيها وأقالَه ، وجَعَلَ إلى الخْير فيها عاقبتَه ومآلَه ؛ ثم أعاده إلى كرسيّه للنظر في مصالح عباده ؛ فطوَّقه القِلادة التي ألبَسه كما كانت ؛ فأعاد لي ما كان أجراهُ من نِعمته ، ولزمتُ كِسْر البيتِ ممتًعأ بالعافية، لابساً بُرْد العُزْلة، عاكفاً على قراءَة العلم وتدريسِه ، لهذا العهد فاتح سبع وتسعين . ولاية الدروس والخوانق : أهل هذه الدَّولة التركية بمصر والشام مَعنِيُّون - على القِدَم مُنذُ عَهد مَواليهم مُلوك بني أيوب - بإنشاءِ المدارس لتدريس العلم ، والخَوانق لإقامةُ رُسُومِ الفُقراء في التَخلق بآداب الصُّوفية السُّنِّية في مُطارحة الأذكار، ونَوافِل الصَلوات . أخَذُوا ذلك عَمن قَبْلَهم من الدُّول الخِلافِية ؛ فيَخْتَطُّون مَبانِيها ويَقِفُون الأراضِي المُغِلة للإنفاق منها على طلَبَة العِلْم ، ومُتَدَربي الفقراء. وإن استفضَل الريْعُ شَيئاً عن ذلك ، جعلوه في أعقابهم خَوفاً على الذُرية الضِّعاف من العَيْلة . واقْتَدَى بِسُنَّتِهم في ذلك من تَحتَ أيديهم من أهل الرِّياسَة والثَّروة، فكثُرت لذلك المدارسُ والخَوانقُ بمدِينة
القاهرة ، وأصبَحت مَعاشاً للفُقراء من الفُقهاء والصوفية ، وكان ذلك مِن محاسِن هذه الدولة التُركية، وآثارها الجَميلة الخالِدة . وكنتُ لأول قُدُومي على القاهرة، وحُصولي في كفالَة السلطان ، شَغَرَتْ مَدرسة بِمصْر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب ، وقَفها على المالكية يتدارسَون بها الفِقه ، ووقف عليها أراضي من الفَيُوم تُغِل القمح ، فسُمًيت لذلك القَمْحِيَّة ؛ كما وقَف أُخرَى على الشافعية هنالك ؛ وتُوفي مُدَرّسُها حينئذ، فَولاني السلطانُ تَدْرِيسَها ، وأعقَبه بولاية قضاء المالكية سنةَ ستِ وثمانين وسبعمائة، كما ذكرت ذلك من قَبْل ؛ وحضَرني يومَ جُلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويهاً بذكري ، وعِنايةً من السلطان ومنهم بجانبي ؛ وخطبتُ يومَ جلوسي في ذلك الحفل بخُطبة ألممتُ فيها بذكر القوم بما يُناسِبهم ، وُيوفي حَقَّهم ، ووَصَفْت المَقَام ، وكان نَصُها : الحمد لله الذي بدأ بالنِّعَم قبل سُؤالها، ووفَّق مَن هَداه للشُكر على مَنَالِها، وجعَل جزاءَ المُحْسِنين في مَحبَّته ، ففازوا بعَظيم نَوالِها. وَعَلمَ الإنسانَ الأسماءَ والبَيان ، وما تم يَعْلَمْ من أمثالِها ، ومَيَّزه بالعَقْل الذي فَضَّله على أصناف الموجُودات وأجْيالها، وهَدَاه لقَبول أمانةِ التَكليف ، وحَمْل أثقالِها . وخَلَق الجنَّ والإنسَ للعِبادة، فَفازَ مِنهُمِ بالسعادة مَنْ جَدَّ في امتثَالها وَيسَّر كلاًّ لما خُلِق لَه ، من هداية نَفْسِه أو إضلالها ؛ وفَرغ ربُّك من خلْقها وخُلقها وأرْزاقها وآجالها . والصَّلاةُ على سَيدنا ومولانا محمد نُكتَةِ الأكوان وجمالها، والحجة البالغة لله على كمالها، الذي رَقَّاه في أطوار الاصْطفاء، وآدم بين الطين والماء؛ فجاء خاتم أنبيائها وأرسالها؛ ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميز حرامها من حلالها؛ ورضي لنا الإسلام ديناً، فأتم علينا النعمة بإكمالها. والرضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها، وليوث ملاحمه
المشتهرة وأبطالها. وخير أمة أخرجت للناس، في توسطها واعتدالها، و ظهور الهداية والاستقامة في أحوالها، صلى الله عليه وعليهم صلاة تتصل الخيرات باتصالها، وتنال البركات من خلالها. أما بعد فإن الله سبحانه لما أقر هذه الملة الإسلامية في نصابها، وشفاها من أدوائها واوصابها، وأورث الأرض عباده الصالحين من أيدي غصابها، بعد أن باهلت فارس بتاجها، وعصابها، وخلت الروم إلى تماثيلها وأنصابها؛ وجعل لها من العلماء حفطة وقواما، ونجوما يهتدي بها التابع وأعلاما، يقربونها للدراية تبيانا وإفهاما، ويوسعونها بالتدوين ترتيبا وإحكاما، وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما. ثم اختار لها الملوك يرفعون عمدها، ويقيمون صغاها بإقامة السياسة وأودها، ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها؛ فكان لها بالعلماء الظهور والانتشار، والذكر السيار، والبركات المخلدة والآثار؛ ولها بالملوك العز والفخار، والصولة التي يلين لها الجبار، ويذل لعزة المؤمنين بها الكفار، وتجلل وجوه الشرك معها الصغار؛ ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار، والدول تحتفل والأمصار، والليل يختلف والنهار، حتى أظلت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الترك، الماحين بأنوار أسنتهم ظلم الضلالة والشك، القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك، المصيبين بسهامهم النافذة ثغر الجهالة والشرك، المظهرين سر قوله: "لا تزال طائفة من أمتي " فيما يتناولونه من الأخذ والترك؛ ففسحوا خطة الإسلام، وقاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام، وبثوها في أقصى التخوم من الحجاز والشام، واعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام. واقتعدوا كرسي مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام، على قدم الأيام؛ فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران، وتجاوبت فيها المدارس بترجيع
المثاني والقرآن، وعمرت المساجد بالصلوات والأذان، تكاثر عدد الحصى والشهبان. وقامت المآذن على قدم الاستغفار والسبحان معلنة بشعار الإيمان، وازدان جوها بالقصر والإيوان فالإيوان. ونظم دستها بالعزيز، والظاهر، والأمير، والسلطان. فما شئت من ملك يخفق العز في أعلامه، وتتوقد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنته وسهامه؛ ومن أسرة للعلماء نتناول العلم بوعد الصادق ولو تعلق بأعنان السماء، وتنير سراجه في جوانب الشبه المدلهمة الظلماء؛ ومن قضاة يباهون بالعلم والسؤدد عند الانتماء، ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصماء، ويفصلون الخصومات برأي يفرق بين اللبن والماء.
ولا كدولة السلطان الظاهر، والعزيز القاهر، يعسوب العصائب والجماهر، ومطلع أنواع العز الباهر، ومصرف الكتائب تزري بالبحر الزاخر، وتقوم بالحجة للقسي على الأهلة في المفاخر؛ سيف الله المنتضى على العدو الكافر، ورحمته المتكفلة للعباد باللطف الساتر؛ رب التيجان والأسرة والمنابر، والأواوين العالية والقصور الأزاهر، والملك المؤيد بالبيض البواتر، والرماح الشواجر، والأقلام المرتضعة أحلاف العز في مهود المحابر، والفيض الرباني الذي فاق قدرة القادر، وسبقت به العناية للأواخر. سيد الملوك والسلاطين، كافل امير المؤمنين، أبو سعيد أمده الله بالنصر المصاحب، والسعد المؤازر، وعرفه آثار عنايته في الموارد والمصادر، واراه حسن العاقبة في الأولى وسرور المنقلب في الاخر؛ فإنه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه، وآوى الملك إلى كنفه العزيز وحزمه، أصاب شاكلة الرأي عندما سدد من سهمه، واوقع الرعايا في ظل من أمنه، وعدل من حكمه، وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه؛ ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها، وشدّ
بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها؛ من بين مصرف لعنانها، متقدم القدم على أعيانها، في بساط إيوانها؛ ورب مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها، ولا يذهب الصواب عن مكانها؛ ومنفذ أحكام يشرق الحق في بيانها، ويضوع العدل من أردانها ونجي خلوة في المهم الأعظم من شأنها؛ وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرار، فيشفي الغليل بإعلانها. حفظ الله جميعهم وشمل بالسعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم.
ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحه المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق، وينابيع العلوم والفضائل تمدو شلنا من فراته المغدق؛ أو لوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا بهمتي إيضاحاً، ونكرتي تعريفاً؛ ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف، من حسنات السلطان صلاح الدين أيوب ملك الجلاد والجهاد، وماحي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد، ومطهر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النواقيس والصلبان فيه بمكان العقود من الأجياد. وصاحب الأعمال المتقبلة يسعى نورها بين يديه في يوم التناد؛ فأقامني السلطان- أيده الله- لتدريس العلم بهذا المكان، لا تقدماً على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان؛ وإني موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء؛ وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء، أن يلمحوا بعين الارتضاء، ويتغمدوا بالصفح والاغضاء، والبضاعة بينهم مزجاة، والاعتراف من اللوم- إن شاء الله- منجاة؛ والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في
مدارج القبول أعماله، ويبلغه في الدارين آماله، ويجعل للحسنى والمقر الأسنى، منقلبه ومآله؛ ويُديُم على السادة الأمراء نعمته، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشمل دولتهم ودولته، ويمد قضاة المسلمين وحكامهم بالعون والتسديد، ويمتعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد، بمنِّه وكرمه.
وانفض ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار، وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب؛ وأقمت على الاشتعال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية، فعزله، واستدعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه؛ فتفاديت من ذلك، وأبى إلا إمضاءه. وخلع علي، وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكم في المدرسة الصالحية في رجب ست وثمانين وسبعمائة؛ فقمت في ذلك المقام المحمّود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق، وتحري المعدلة، حتى سخطني من لم تُرْضِه أحكام الله، ووقع من شغب أهل الباطل والمِراء ما تقدم ذكره. وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس؛ فمنعهم سلطان تونس من اللحاق بي اغتباطاً بمكاني، فرغبت من السلطان أن يشفع عنده في شأنهم، فأجاب، وكتب إليه بالشفاعة؛ فركبوا البحر من تونس في السِّفين؛ فما هو إلا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندرية؛ فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه، وما فيه، وذهب الموجود والمولود؛ فعظم الأسف، واختلط الفكر، وأعفاني السلطان من هذه الوظيفة وأراحني، وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريساً وتأليفاً. ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته بين القصرين، وجعل فيها مدافن أهله، وعين لي فيها تدريس المالكية، فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التدريس على عادتهم في ذلك ونصها: "الحمد لله الذي من على عباده، بنعمة خلقه وإيجاده، وصرفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده، وعرفهم أشرار توحيده، في مظاهر وجوده، وآثار لطفه في وقائع
عباده، وعرضهم على أمانة التكاليف ليبلوهم بصادق وعده وإبعاده، ويسر كلا لما خلق له، من هدايته أو إضلاله، وغَيِّه أو رشاده، واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النجدين لصلاحه أو فساده، وعلمه ما لم يكن يعلم، من مدارك سمعه وبصره والبيان عما في فؤاده؛ وجعل منهم أنبياء وملوكاً يجاهدون في الله حق جهاده، ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده؛ ورفع البيوت المقدسة بسبحات الذكر وأوراده. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد سيد البشر من نسل آدم وأولاده، لا. بل سيد الثقلين في العالم من إنسه وجنه وأرواحه و أجساده، لا. بل سيد الملائكة والنبيين، الذي ختم الله، كمالهم بكماله وآمادهم بآماده، الذي شرف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم لنور ولاده؛ وفصل له الذكر الحكيم تفصيلاً، كذلك ليثبت من فؤاده وألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل رب العالمين، ليكون من المنذرين لعباده؛ فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله وجلاده وانزل عليه النصر العزيز، وكانت ملائكة السماء من إمداده، حتى ظهر نور الله على رغم من رغم. بإطفائه وإخماده، وكمل الدين الحنيف فلا تخشى والحمد لله غائلة انقطاعه ولا نفاده؛ ثم أعد له من الكرامات ما أعد في معاده، وفضله بالمقام المحمّود في عرصات القيامة بين أشهاده، وجعل له الشفاعة فيمن انتظم في أمته، واعتصم بمقاده. والرضى عن آله وأصحابه، غيوث رحمته، ولُيوث إنجاده، من ذوي رحمه
الطاهرة وأهل وداده المتزودين بالتقوى من خير أزواده، والمراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحق وعناده، وأراد في الدين بظلمه وإلحاده، حتى استقام الميسم في دين الله وبلاده، وانتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم، وشعوب الأنام، من عربه وعجمه وفارسه ورومه وتركه وأكراده. صلى الله عليه وعليهم صلاة تؤذن باتصال الخير واعتياده، وتؤهل لاقتناء الثواب وزياده، وسلم كثيراً؛ وعن الأئمة الأربعة، علماء السنة المتبعة، والفئة المجتباة المصطنعة؛ وعن إمامنا من بينهم الذي حمل الشريعة وبينها، وحرر مقاصدها الشريفة وعينها، وتعرض في الآفاق منها والمطالع، بين شهبها اللوامع؛ فزينها. نكتة الهداية إذا حقق مناطها، وشرط التحصيل والدراية إذا روعيت أشراطها، وقصد الركاب إذا ضربت في طلب العلم آباطها؛ عالم المدينة وإمام هذه الأمة الأمينة، ومقبس أنوار النبوة من مشكاتها المبينة، الإمام مالك بن انس. ألحقه الله برضوانه، وعرفنا بركة الاقتداء بهدية وعرفانه؛ وعن سلف المؤمنين والمهتدين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته، ويكفلهم بفضله ونعمته، وييسرهم لأسباب السعادة بآداب دينه وشرعته، و يحملهم في العناية بأمورهم، و الرعاية لجمهورهم، على مناهج سنته ولطائف حكمته. ولذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل وفطرته، وهداهم إلى التمسك بكلمته. ثم فضلهم بما خولهم من سعة الرزق وبسطته واشتقاق التمكين في الأرض من قدرته، فتسابقوا بالخيرات إلى جزائه ومثوبته، وذهبوا بالدرجات العلى في وفور الأجر ومزيته. وإن مولانا السلطان الملك الظاهر، العزيز القاهر، العادل الطاهر، القائم بأمور الإسلام عندما أعيا حملها الأكتاد، وقطب دائرة الملك الذي أطلع الله من
حاشيته الأبدال وانبت الأوتاد، ومنفق أسواق العز بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد؛ رحمة الله الكافلة للخلق، ويداه المبسوطتان بالأجل والرزق، وظله الواقي للعباد بما اكتنفهم في العدل والحق، قاصم الجبابرة، والمعفي على آثار الأعاظم من القياصرة، وذوي التيجان من التبابعة والأكاسرة، أولي الأقيال والأساورة؛ وحائز قصب السبق في الملوك عند المناضلة والمفاخرة، ومفوض الأمور بإخلاصه إلى ولي الدنيا والآخرة؛ مؤيد كلمة الموحدين، ورافع دعائم الدين، وظهير خلافة المؤمنين، سلطان المسلمين أبو سعيد. صدق الله فيما يقتفي من الله ظنونه، وجعل النصر ظهيره، كما جعل السعد قرينه، والعز خدينه، وكان وليه على القيام بأمور المسلمين ومعينه، وبلغ الأمة في اتصال أيامه، ودوام سلطانه، ما يرجونه من الله ويؤملونه. لما قلده الله هذا الأمر الذي استوى له على كرسي الفلك، وانتظمت عقود الدول في لبات الأيام، وكانت دولته واسطة السلك وجمع له الدين بولاية الحرمين، والدنيا بسلطان الترك. وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال؛ فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ والترك. وجمع عليه قلوب العباد. فشهد سرها بمحبه الله له، شهادة خالصة من الريب، بريئة من الشك. حتى استولى من العز والملك على المقام الذي رضيه وحمده. ثم تاقت نفسه إلى ما عند الله، فصرف قصده إليه واعتمده، وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة، لا يسال عليها أجراً ولا يكدرها بالمنِّة، واحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الإنس والجنة، لا؛ بل النَّسَم والأجنة. ثم آوى الخلق إلى عدله
تصديقاً بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنة، ونافس في اتخاذ المدارس والربط لتعليم الكتاب والسنة، وبناء المساجد المقدسة يبني له بها الله البيوت في الجنة، والله لا يضيع عمل عامل فيما أظهره أو أكنه. وإن ما أنتجته قرائح همته وعنايته، وأطلعته آفاق عدله وهدايته، ووضحت شواهده على بعد مداه في الفخر وغايته، ونجح مقاصده في الدين وسعايته؛ هذا المصنع الشريف، والهيكل السامي المنيف، الذي راق الكواكب حسنه وظرفه، وأعجز الهمم البشرية ترتيبه ورصفه، لا بل! الكلم السحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة السحب ومناولة الشهب مارِنه العزيز وأنفه، وازدهى بلبوس السعادة والقبول من الله عطفه؛ إن فاخر بلاط الوليد، كان له الفخار أو باهى القصر والإيوان، شهد له المحراب والمنار؛ أو ناظر صنعاء وغمدان، قامت بحجته الآثار. إنما هو بهو ملؤه دين وإسلام، وقصر عليه تحية وسلام، وفضاء رباني ينشأ في جوه للرحمة والسكينة ظلة وغمام، وكوكب شرق يضاحك وجه الشمس منه ثغر بسام؛ دفع إلى تشييد أركانه، ورفع القواعد من بنيانه، سيف دولته الذي استله من قراب ملكه وانتصاه، وسهمه الذي عجم عيدان كنانته فارتضاه، وحسام أمره الذي صقل فرنده بالعز والعزم وأمضاه، فارتضاه، وحسام أمره الذي طالب غريم الأيام، بالأمل العزيز المرام؛ فاستوفى دينه واقتضاه، الأمير الأعزَّ الأعلى جهركس الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع. حرسه الله من خطوب الأيام، وقسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ والسهام؛ فقام بالخطو الوساع، لأمره المطاع، وأغرى بها أيدي الاتقان والابداع. واختصها من اصناف الفعلة بالماهر الصناع، يتناظرون في إجاده الأشكال منها والأوضاع، ويتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم بالامتناع؛ فكأن العبقري، يفري- الفري، أو
العفاريت، قدمت من أماريت. وكأنما حشرت الجن والشياطين، أو نشرت القهارمة من الحكماء الأول والأساطين، جابوا لها الصخر بالأذواد لا بالواد، واستنزلوا صم الأطواد على مطايا الأعواد، ورفعوا سمكها إلى أقصى الآماد، على بعيد المهوى من العماد. وغشوها من الوشي الأزهر، المصاعف الصدف والمرمر، ومائع الفجين الأبيض والذهب الأحمر، بكل مسهم الحواشي حالي الأبراد؛ وقدروه مساجد للصلوات والأذكار، ومقاعد للسبحات بالعشي والإبكار، ومجالس للتلاوة والاستغفار، في الآصال والأسحار، وزوايا للتخلي عن ملاحظة الأسماع والأبصار، والتعرض للفتوح الربانية والأنوار؛ ومدارس لقدح زناد الأفكار، ويتاج المعارف الأبكار، وصوغ اللجين والتضار، في محك القرائح والأبصار. تتفجر ينابيع الحكمة في رياضه وبستانه، وتتفتح أبواب الجنة من غرفه وإيوانه، وتقتاد غر السوابق من العلوم والحقائق، في طلق ميدانه، ويصعد الكلم الطيب والعمل الصالح إلى الله من نواحي اركانه؛ وتوفر الأجور لغاشيته محتسبة عند الله في ديوانه، راجحة في ميزانه.
ثم اختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعياناً، ومن شيوخ الحقائق الصوفية فرساناً؛ تصفح لهم أهل مملكته إنساناً، وأشاد بقدرهم عناية وإحساناً، ودفعهم إلى وظائفه توسعاً في مذاهب الخير وافتناناً. وعهد إليهم برياضة المريدين، وإفادة المستفيدين، احتساباً لله وقرباناً، وتقُّيلا لمذاهب الملوك من قومه واستناناً؛ ثم نظمني معهم تطولا وامتناناً، ونعمة عظمت موقعاً وجفت شاناً؛ وأنا وإن كنت لقصور البضاعة، متأخراً عن الجماعة، ولقعود الهمة، عيالاً على هؤلاء الأئمة، فسمحهم يغطي ويلحف، وبمواهب العفو والتجاوز يمنح ويُتْحف. وإنما هي رحمة من مولانا السلطان- أيده الله- خَصّت كما عفت، ووسمت اغفال النكرة والإهمال وسمَّت؛ وكملت بها مواهب عطفه وجبره وتمت؛ وقد ينتظم الدّر
مع المرجان، وتلتبس العصائب بالتيجان؛ وتراض المسومة العراب على مسابقة الهجان؛ والكل في نظر مولانا السلطان وتصريفه، والأهلية بتأهيله والمعرفة بتعريفه، وقوام الحياة والآمال بلطائف إحسانه وصنوفه؛ والله يوزعنا شكر معروفه، ويوفقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف وتكليفه، ويحمي حماه من غير الدهر و صروفه، ويفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه ورماحه وسيوفه، ويريه قرة العين في نفسه وبنيه، وحاشيته وذويه، وخاصته ولفيفه، بمن الله وفضله. ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية، القائم للسلطان بأمور مدرسته، وأغروه بصدي عنها، وقطع أسبابي من ولايتها، ولم يمكن السلطان إلا إسعافه فأعرضت عن ذلك، وشغلت بما أنا عليه من التدريس والتأليف. ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة للحج، واقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف، وزود هو وأمراؤه بما أوسع الحال وارغده؛ وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع؛ ثم صعدت مع المحمل إلى مكة؛ فقضيت الفرض عامئذ. وعدت في البحر؛ فنزلت بساحل القصير؛ ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد، وركبت منها بحر النيل إلى مصر، ولقيت السلطان، وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة، وأعادني إلى ما عهدت من كرامته، وتفيّثىء ظله. ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني إياها بدلاً من مدرسته وجلست للتدريس فيها في محرم أحد وتسعين وسبعمائة، وقمت ذلك اليوم- على العادة- بخطبة نصها: " الحمد لله إجلالاً وإعظاماً، واعترافاً بحقوق النعم والتزاماً، واقتباساً للمزيد منها
واغتناماً، وشكراً على الذي أحسن وتماماً، وسع كل شيء رحمة وإنعاماً، وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات واضحة وأعلاماً، وصرف الكائنات في قبضة قدرته ظهوراً وخفاء وإيجاداً وإعداماً، وأعطى كل شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاماً، وأودع مقدور قضائه في مسطور كتابه، فلا يجد محيصاً عنه ولا مراماً.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة الهامية غماماً والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعاً وحطمت أصناماً، والعروة الوثقى، فاز من اتخذها عصاماً، أول النبيين رتبة وآخرهم ختاماً، وسيدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة والرسل إماماً؛ وعلى أله وأصحابه الذين كانوا ركناً لدعوته وسناماً وحرباً على عدوه وسماماً، وصلوا في مظاهرته جداً واعتزاماً، وقطعوا في ذات الله وابتغاء مرضاته أنساباً وأرحاماً، حتى ملأوا الأرض إيماناً وإسلاماً، وأوسعوا الجاحد والمعاند تبكيتاً وإرغاماً فأصبح ثغر الدين بساماً ووجه الكفر والباطل عبوساً جهاماً. صلى الله عليه وعليهم ما عاقب ضياء ظلاماً، صلاة ترجح القبول ميزاناً، وتبوىء عند الله مقاماً. والرضى عن الأئمة الأربعة، الهداة المتبعة، مصابيج الأمان ومفاتيح السنة الذين أحسنوا بالعلم قياما وكانوا للمتقين إماماً. أما بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء والطهور، والعز الخالد على الظهور، وانفساح خطته في آفاق المعمور، فلم يزل دولة عظيمة الآثار، غزيرة الأنصار، بعيدة الصيت عالية المقدار جامعة- بمحاسن آدابه وعزة جنابه- معاني الفخار، منفقة بضائع علومه في الأقطار، مفجرة ينابيعها كالبحار، مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق أضوأً من النهار؛ ولا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام ومنابره، وفاخرت بحرمات الله وشعائره واعتمدت بركة الإيمان وأواصره ، في خدمة الحرمين الشريفين- بالمتين من أسباب الدين وأواصره، واعتملت في إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره، وشاهدا بالكمال لأوَّله وآخره. وإن مولانا السلطان الملك الظاهر، العزيز القاهر، شرف الأوائل والأواخر، ورافع
لواء المعالي والمفاخر، رب التيجان والأسرة والمنابر، والمجلي في ميدان السابقين من الملوك الأكابر، في الزمن الغابر، حامل الأمة بنظره الرشيد ورأيه الظافر، وكافل الرعايا في ظله المديد وعدله الوافر، ومطلع أنوار العز والسعادة من أفقه السافر؛ واسطة السلك من هذا النظام، والتاج المحلى في مفارق الدول والأيام، سيد الملوك والسلاطين، بركة الإسلام والمسلمين، كافل أمير المؤمنين، أبو سعيد. أعلى الله مقامه، وكافأ عن الأمة إحسانه الجزيل وإنعامه، وأطال في السعادة والخيرات المبداة المعادة لياليه وأيامه؛ لما أوسع الدين والملك نظراً جميلاً من عنايته، وأنام الخلق في حجر كفالته، ومهاد كفايته، وأيقظ لتفقد الأمور، وصلاح الخاصة والجمهور، عين كلاءته، كما قلده الله رعايته وأقام حكام الشريعة والسياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته، ويطلعون وجه العدل سافراً عن آيته. ونصب في دست النيابة من وثق بعدله وسياسته، ورضي الدين بحسن إيالته، وأمنه على سلطانه ودولته، وهو الوفي- والحمد لله- بأمانته؛ ثم صرف نظره إلى بيوت الله يعنى بإنشائها وتأسيسها، ويعمل النظر الجميل في إشادتها وتقديسها، ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبث العلم من يؤهله لوظائفها ودروسها؛ فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها، حتى زهت الدولة بملكها ومصرها، وفاخرت الأنام بزمانها الزاهر وعصرها. وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها؛ فابتهج العالم سروراً بمكانها، واهتزت الأكوان للمفاخرة بشأنها، وتكفل الرحمن، لمن اعتز به الإيمان، وصلح على يده الزمان، بوفور المثوبة ورجحانها.
وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء الترك، خفف الله حسابه وثقل في الميزان- يوم يعرض على الرحمن- كتابه، وأعظم جزاءه في هذه الصدقة الجارية وثوابه، عناية جدد لي لباسها، وإيثاراً بالنعمة التي صححت قياسها، وعرفت منه أنواعها وأجناسها، فامتثلت المرسوم، وانطلقت أقيم الرسوم، وأشكر من الله وسلطانه الحظ المقسوم. وأنا مع هذا معترف بالقصور، بين أهل العصور، مستعيذ بالله وبركة هؤلاء الحضور،
السادة الصدور، أن يجمح بي مركب الغرور، أو يلج شيطان الدعوى والزور، في شيء من الأمور. والله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله، ويعرفه الحسنى وزيادة الحظ الأسنى في عاقبته ومآله، ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه قرة عينه ورضى آماله، ويديم على السادة الأمراء ما خولهم من رضاه وإقباله، ويحفظ المسلمين في هذا الأمر السعيد بدوامه واتصاله، ويسدد قضاتهم وحكامهم لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله.
وقد رأيت أن أقرر للقراءه في هذا الدرس، كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه، فإنه من أصول السنن، وأمهات الحديث، وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله، ومناط أحكامه، وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه. فلنفتتح الكلام بالتعريف بمؤلفه- رضي الله عنه- ومكانه من الأمانة والديانة، ومنزلة كتابه "الموطأ" من كتب الحديث. ثم نذكر الروايات والطرق التي وقعت في هذا الكتاب، وكيف اقتصر الناس منها على رواية يحيى بن يحيى، ونذكر أساندي فيها، ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب. أما الإمام مالك- رضي الله عنه- فهو إمام دار الهجرة، وشيخ أهل الحجاز في الحديث والفقه غير منازع، والمقلد المتبوع لأهل الأمصار وخصوصا أهل المغرب. قال البخاري: مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي. كنيته أبو عبد الله، حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي ابن أخي طلحة بن عبيد الله. كان إماماً، روى عنه يحيى بن سعيد. انتهى كلام البخاري. وجده أبو عامر بن الحرث بن عثمان ويقال: غيمان بغين معجمة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة؛ ابن جثيل بجيم مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة؛ ويقال حثيل أوخثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة، عوض الجيم؛ ويقال حسل بحاء مهملة مكسورة، وسين مهملة ساكنة، ابن عمرو بن الحرث؛ وهو ذو أصبح. وذو اصبح بطن من حمير، وهم إخوة يحصب، ونسبهم معروف؛ فهو حميري صليبة، وقرشي حلفا. ولد سنة إحدى وتسعين-
فيما قال ابن بكير، واربع وتسعين- فيما قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ونشأ بالمدينة، وتفقه بها. إخذ عن ربيعة الرأي، وابن شهاب وعن عمه أبي سهيل، وعن جماعة ممن عاصرهم من التابعين وتابعي التابعين؛ وجلس للفتيا والحديث في مسجد رسول الله شاباً يناهز العشرين، وأقام مفتياً بالمدينة ستين سنة. واخذ عنه الجم الغفير من العلماء الأعلام، وارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة؛ وأعظم من أخذ عنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وابن وهب، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وابن المبارك- في أمثال لهم وانظار. وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق من الناقلين لوفاته، وقال الواقدي: عاش مالك تسعين سنة، وقال سحنون عن ابن
نافع: توفي مالك ابن سبع وثمانين سنة، ولم يختلف أهل زمانه في أمانته، وإتقانه، وحفظه وتثبته وورعه، حتى لقد قال سفيان بن عيينة: كنا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله : "تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم اعلم من عالم المدينة" أنه مالك بن أنس. وقال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم، وقال: إذا جاءك الحديث فمالك أمير المؤمنين. وقد ألف الناس فضائله كتباً، وشأنه مشهور.
وأما الذي بعثه على تصنيف "الموطأ"- فيما نقل أبو عمر بن عبد البر- فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عمل كتاباً على مثال "الموطأ"، ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة، ولم يذكر فيه شيئاً من الحديث، فأتي به مالك، ووقف عليه وأعجبه، وقال: ما أحسن ما عمل هذا! ولو كنت أنا الذي عملت لبدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام. وقال غيره: حج أبو جعفر المنصور، ولقيه مالك بالمدينة، فأكرمه وفاوضه. وكان فيما فاوضه: يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وقد شغلتني الخلافة، فصغ أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس
توطئة. قال مالك: فلقد علمني التأليف؛ فكانت هذه وأمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب، فصنفه وسماه "الموطأ" أي المسهل. قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطاءة، أي صار وطيئاً؛ ووطأته توطئة؛ ولا يقال وطيته. ولما شغل بتصنيفه أخذ الناس بالمدينة يومئذ في تصنيف فوطات، فقال لمالك أصحائه: نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه الناس؛ وأتي ببعضها فنظر فيه، ثم طرحه من يده وقال: ليعلمن أن هذا لا يرتفع منه إلا ما أريد به وجه الله؛ فكأنما ألقيت تلك الكتب في الابار، وما سمع لشيء منها بعد ذلك ذكر، وأقبل مالك على تهذيب كتابه وتوطئته؛ فيقال إنه أكمله في أربعين سنة. وتلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها، ومن لدن ضنف إلى هلم. وطال ثناء العلماء في كل عصر عليه، ولم يختلف في ذلك إثنان. قال الشافعي، وعبد الرحمن بن مهدي: ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أنفع، وفي رواية أصح، وفي رواية أكثر صواباً، من "موطأ" مالك. وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت كتاباً ألف في العلم أكثر صواباً من "موطأ" مالك. وأما الطرق والروايات التي وقعت في هذا الكتاب، فإنه كتبه عن مالك جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية، وقيل موطأ فلان لرواية عنه فمنها موطأ الإمام محمد بن
إدريس الشافعي، ومنها موطأ عبد الله بن وهب، ومنها موطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي، ومنها موطأ مطرف بن عبد الله اليساري نسبة إلى سليمان بن يسار، ومنها موطأ عبد الرحمن بن القاسم رواه عنه سحنون بن سعيد؛ ومنها موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي. رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس وأخذ عنه الفقه والحديث، ورجع بعلم كثير وحديث جم؛ وكان فيما أخذ عنه "الموطأ"، وأدخله الأندلس والمغرب؛ فأكب الناس عليه، واقتصروا على روايته دون ما سواها، وعولوا على نسقها وترتيبها في شرحهم لكتاب "الموطأ" وتفاسيرهم، ويشيرون إلى الرويات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها، فهجرت الروايات الأخرى، وسائر تلك الطرق، ودرست تلك الموطآت إلا موطأ يحيى ابن يحيى، فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقاً وغرباً.
وأما سندي في هذا الكتاب المتصل بيحيى بن فعلى ما أصفه: حدثني به جماعة من شيوخنا رحمة الله عليهم. منهم إمام المالكية، قاضي
الجماعة بتونس وشيخ الفتيا بها، أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري، سمعته عليه بمنزله بتونس، من أوله إلى آخره. ومنهم شيخ المسندين بتونس، الرحالة أبو عبد الله محمد بن جابر ابن سلطان القيسي الوادي آشي، سمعت عليه بعضه، وأجازني بسائره. ومنهم شيخ المحدثين بالأندلس، وكبير القضاة بها، أبو البركات محمد بن محمد بن محمد- ثلاثة من المحدثين- بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي، لقيته بفاس سنة ست وخمسين وسبعمائة من هذه المائة الثامنة، مقدمه من السفارة بين ملك الأندلس وملك المغرب. وحضرت مجلسه بجامع القرويين من فاس؛ فسمعت عليه بعضاً من هذا الكتاب، وأجازني بسائره. ثم لقيته لقاءة أخرى سنة إثنتين وستين وسبعمائة، استقدمه ملك المغرب، السلطان أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن للأخذ عنه؛ وكنت أنا القارىء فيما يأخذه عنه، فقرأت عليه صدرا من كتاب " الموطأ"، وأجازنى بسائره إجازة أخرى.
ومنهم شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية، ومفيد جماعتهم، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي، قرأت عليه بعضه، وأجازني بسائره، قالوا كفهم: حدثنا الشيخ المعفر، أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي، عن القاضي أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقي، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي. وحدثني به أيضا شيخنا أبو البركات، عن إمام المالكية ببجاية، ناصر الدين أبي علي، منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدالي، عن الإمام شرف الدين
محمد بن أبي الفضل المرسي، عن أبي الحسن علي بن موسى بن النقرات عن أبي الحسن على بن أحمد الكناني. قال الخزرجي والكناني: حدثنا أبو عبد الله محمد بن فرج مولى ابن الطلاع، عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصفار قاضي الجماعة بقرطبة. وحدثني به أيضاً شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز، عن شيخه أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي، عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش، وأبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون، شارح كتاب "الموطأ"، قال ابن زرقون: حدثنا به أبو عبد الله الخولاني، عن أبي عمرو عثمان بن أحمد القيجاطي، وقال ابن حبيش: حدثنا به القاضي أبو عبد الله بن اصبغ ويونس بن محمد بوق مغيث، قالا: قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطلاع. وقال ابن حبيش أيضاً: حدثنا به أبو
القاسم أحمد بن محمد ورد، عن القاضي أبي عبد الله محمد ابن خلف بن المرابط، عن المقرىء أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطلمنكي؛ قال القاضي أبو الوليد بن مغيث، والقيجاطي، والطلمنكي: حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى. وقال الطلمنكي: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن حدير البزار، قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن وضاح، قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك، إلا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف، أولها خروج المعتكف إلى العيد فإن يحيى شك في سماعها عن مالك، فسمعها من زياد بن عبد الرحمن الملقب شبطون عن مالك. ولي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتصال سندي فيها. فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي كاتب السلطان أبي الحسن، لقيته بتونس عند استيلاء السلطان عليها، وهو في جملته سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وحضرت مجلسه، وأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه بعض "الموطأ"، وأجازني بالاجازة العامة، وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وعن شيخه الأستاذ أبي إسحق الغافقي، وعن أبي القاسم القبتوري، وجماعة من مشيخة أهل سبتة؛ ويتصل سنده فيه بالقاضي عياض، وأبي العباسى العزفي صاحب كتاب (الدر المنظم في المولد المعظم) .
ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناظة، سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكار، وجماعة من مشيخة أهل الأندلس،. ويتصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي، والحافظ أبي عمر بن عبد البر بسندهما.
ومنها عن شيخنا المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال الأنصاري شيخ القراءة بتونس، ومعلمي كتاب الله؛ قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع وعرضت عليه قصيدتي الشاطبي في القراءة، وفي الرسم، وعرضت عليه كتاب التقصي لابن عبد البر، وغير ذلك، وأجازني بالإجازة العامة، وفي هذه بالإجازة الخاصة، وهو يروي هذا الكتاب عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز، وعن شيخه أبي العباس أحمد بن موسى البطرني بسندهما. ومنها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصفار المراكشي، شيخ القراآت بالمغرب، سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السلطان أبي عثمان ملك المغرب، وهو يسمعه إياه، وأجازني بسائره؛ وهو يرويه عن شيخه محدث المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهري السبتي عن مشيخة أهل سبتة، وأهل الأندلس، حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم وطرق أسانيدهم، إلا أنها لم تحضرني الآن، وفيما ذكرناه كفاية والله يوفقنا أجمعين لطاعته وهذا حين أبتدي، وبالله أهتدي. وانفض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون، واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب، واخلص النجي في ذلك الخاصة والجمهور، وأنا انتاب مجلس السلطان في أكثر الأحيان، لتأدية الواجب من التحية والمشافهة بالدعاء، إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية، فابعده، وأخره عن خطة القضاء في رجب ست وثمانين وسبعمائة، ودعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه فتفاديت من ذلك، وأبى إلا إمضاءه، وخلع علي، وبعث الأمراء
معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء؛ فقمت في ذلك المقام المحمّود، ووفيت عهد الله وعهده في إقامة رسوم الحق، وتحري المعدلة، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله، ووقع في ذلك ما تقدم ذكره، وكثر شغب أهل الباطل والمراء، فأعفاني السلطان منها لحول من يوم الولاية، وكان تقدمها وصول الخبر بغرق السفين الواصل من تونس إلى الإسكندرية، وتلف الموجود والمولود، وعظم الأسف، وحسن العزاء، والله قادر على ما يشاء. ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة لقضاء الفرض، وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع، ورافقت المحمل إلى مكة، فقضيت الحج عامئذ، وعدت إلى مصر في البحر كما سافرت أولا. وشغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش، فولاني السلطان إياها بدلاً من مدرسته في محرم أحد وتسعين وسبعمائة، ومضيت على حالي من الانقباض، والتدريس، والتأليف، حتى ولاّني خانقاه بيبرس، ثم عزلني عنها بعد سنة أو أزيد، بسبب أنا اذكره الآن. ولاية خانقاه بيبرس، والعزل منها: لما رجعت من قضاء الفرض سنة تسعين وسبعمائة، ومضيت على حالي من التدريس والتأليف، وتعاهد السلطان باللقاء والتحية والدعاء، وهو ينظر إلي بعين الشفقة، ويحسن المواعيد. وكانت بالقاهرة خانقاه شيدها السلطان بيبرس، ثامن ملوك الترك الذي استبد على الناصر محمد بن قلاوون هو ورفيقه سلار وأنف الناصر من استبدادهما، وخرج للصيد، فلمّا حاذى الكرك امتنع به، وتركهم وشأنهم، فجلس بيبرس على التخت مكانه، وكاتب الناصر أمراء الشام من مماليك ابيه، واستدعوه للقيام معه، وزحف بهم إلى مصر، وعاد إلى سلطانه، وقتل بيبرس
وسلار سنة ثمان وسبعمائة. وشيد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر من أعظم المصانع وأحفلها، وأوفرها ريعا، وأكثرها أوقافا، وعين مشيختها، ونظرها لمن يستعد له بشرطه في وقفه، فكان رزق النظر فيها والمشيخة واسعا لمن يتولاه، وكان ناظرها يومئذ شرف الدين الأشقر إمام السلطان الظاهر. فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض، فولاني السلطان مكانه توسعة علي، وإحساناً إلي، وأقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري.
فتنة الناصري وسياقه الخبر عنها بلد تقديم كلام في احوال الدول يليق بهذا الموضع، ويطلعك علي أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج إلي الضخامة والاستيلاء، ثم إلى الضعف والاضمحلال، والله بالغ امره وذلك أن الدول الكلية، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحداً بعد واحد في مده طويلة، قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلبهم، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب مستحقين آخرين ينرعونه من أيديهم بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى؛ يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلة؛ وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس، والاقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة، وعدم الثروة من قبل. ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها، ويزين حب الشهوات للاقتدار عليها، فيعظم الترف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئاً فشيئاً
بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم، لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كل أحد نظره فيما فيه من ذلك، فيرجع وراءه، ويطلب كفاء خرجه بدخله.
ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم؛ فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن الترف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك؛ فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحق الناس به، وأقربهم إليه؛ فيصير الملك له، وفي عشيره؛ وتصير كأنها دولة أخرى، تمر عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى؛ فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب، أو الولاء. سنة الله في عباده. وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أن بني أيوب لما ملكوا مصر والشام، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقل بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان، وهم قليلون، وإنما كثر منهم جماعة المسلمين، بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه؛ فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه، ونصر الله الذين على يده. وانتزع السواحل كلها من أيدي نصارى الفرنج، حتى مسجد بيت المقدس؛ فانهم كانوا ملكوه وافحشوا فيه بالقتل والسبي؛ فاذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم؛ واقتسموا مدن الشام، ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدين، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدولة، وإقامة رسوم الملك، وان ذلك يحصل باتخاذ المماليك، والاكثار منهم، كما كان
آخراً في الدولة العباسية ببغداد؛ وأخذ التجار في جلبهم إليه، فاشترى منهم أعداداً، وأقام لتربيتهم أساتيذ معلمين لحرفة الجندية، من الثقافة والرمي، بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف؛ وكان مقيما بأحواز دمياط في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلبين على حصنها دمياط. وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سمَّاها المنصورة، وبها توفي رحمه الله، فكان نجم الدين نازلاً بها في مدافعة ساكني دمياط من الفرنج، فأصابه هنالك حدث الموت، وكان ابنه المعظم تورنشاه نائبا ًفي حصن كيفا من ديار بكر وراء الفرات، فاجتمع الجند على بيعته، وبعثوا عنه، وانتظروا. وتفطن الفرنج لشأنهم، فهجموا عليهم، واقتتلوا فنصر الله المسلمين، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس؛ فبعثوا به إلى مصر. وحبس بدار لقمان، إلى أن فادَوْه بدمياط، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب. ونصبوا- للملك، ولهذا اللقاء- زوجة الصالح أيوب واسمها شجرة الدر، فكانت تحكم بين الجند، وتكتب على المراسيم، وركبت بوم لقاء الفرنج، تحت الصناجق، والجند محدقون بها، حتى أعز الله دينه، وأتم نصره. ثم وصل تورنشاه المعظم؛ فأقاموه في خطة الملك مكان أبيه الصالح
أيوب، ووصل معه مماليك يدلون بمكانهم منه، ولهم به اختصاص، ومنه مكان؛ وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجده. اقطاي الجمدار وايبك التركماني، وقلاوون الصالحي، فانفوا من تصرفات مماليك تورنشاه، واستعلائهم بالحظ من السلطان، وسخطوهم وسخطوه، وأجمعوا قتله. فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكو، وقتلوه، ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم، واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها؛ وهلك بعد أيبك ابنه علي المنصور، ثم مولاه قطز، ثم الظاهر بيبرس البندقداري. ثم ظهر أمر الطَّطَر، واستفحل ملكهم. وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان من خراسان إلى بغداد؛ فملكها، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس. ثم زحف إلى الشام؛ فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب، إلى أن استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان، زحف إلى خراسان؛ فامتعض لذلك، وكر راجعاً، وشغل بالفتنة معه إلى أن هلك. وخرج قطز من مصر عندما شغل هولاكو بفتنة بركة؛ فملك الشام كله، أمصاره ومدنه، واضاره للترك موالي بني أيوب.، استفحلت دولة هؤلاء المماليك، واتصلت أيامها واحداً بعد واحد، كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاوون عندما ملك بيبرس الظاهر منهم، فتظاهر به، وأصهر إليه، والترف يومئذ لم يأخذ منهم، والشدة والشكيمة موجودة فيهم، والبأس والرجولة شعار لهم؛ وهلك الظاهر بيبرس، وابناه من بعده، كما في أخبارهم. وقام قلاوون بالأمر، فاتسع نطاق ملكه، وطال ذرع سلطانه، وقصرت أيدي الطَّطَر عن الشام بمهلك هولاكو، وولاية الأصاغر من ولده، فعظم مُلك قَلاَوُون، وحَسُنت آثارُ سياسته، وأصبح حجة على من بعده؛ ثم ملك بعده ابناه: خليل الأشرف، ثم محمد الناصر. وطالت أيامه، وكثرت عصابته من مماليكه،
حتى كَمُل منهم عَدد لم يقع لغيره. ورتَّب للدَّولة المراتب، وقَدَّم منهم في كل رُتبة الأمراء، وأوسع لهم الإقطاع والولايات، حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالتَّرَف أحوالهم. ورحل أربابُ البضائع من العلماءِ والتُّجَّار إلى مصر؛ فأوسَعهم حِباءً وبرّا. وتنافست أمراءُ دَولته في اتخاذ المدارس والرُّبط والخوانق، وأصبحت دولتهم غُرَّة في الزمان، وواسطةً في الدوَل. ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة، فطفِق أمراء دولته ينصبُون بنيه للملك، واحداً بعد آخر، مستبدّين عليهم، متنافسين في الملك، حتى يغلبَ واحد منهم الآخر، فيقتُلَه، ويقتُلَ سلطانه من أولاد الناصر، وينصب آخر منهم مكانه، إلى أن انساق الأمرُ لولده حسن النَّصر؛ فقتَلَ مُستَبدَّه شيخون، وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبُغا؛ فقام بها، ونافسه أقرانُه، وأغروا به سلطانه؛ فاجمع قتله. ونُمي إليه الخبرُ وهو في علوفة البرسيم عند خيله المُرتبطة لذلك؛ فاعتزم على الامتناع، واستعدّ للّقاء. واستدعاه سلطانُه؛ فتثاقل عن القدوم. واستشاط السلطان، وركب في خاصته إليه، فركب هو لمصادمته. وهاجم السلطان ففلَّه، ورجع إلى القلعة، وهو في اتِّباعه، فلم يُلفه بقصره، وأغرى به البحث فتقبَّض عليه، واستصفاه، وقتله؛ ونصب للملك محمد المنصور بن المظفّر حاجي بن الناصر. وقام بالدولة أحسن قيام، وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك، وتهذيبهم بالتَّربية، وتوفير النِّعم عندهم بالاقطاع، والولايات، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم خلع المنصور بن المظفَّر لسنتين، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن النَّاصر؛ فأقام على التخت وهو في كفالته، وهو على أوَّله في إعزاز الدولة، وإظفار التَّرَف والثروة، حتى ظهرت مخايل العزّ والنّعم، في المساكن والجياد والمماليك والزينة؛ ثم بطرُوا النِّعمة؛ وكفروا الحقوق، فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب، فهمّوا بقتله وخلصوا نجيا لذلك في مُتَصيَّدهم الشَّتوي، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم. ولما أحسّ بذلك ركب ناجياً بنفسه إلى القاهرة؛ فدخلوا على السلطان الأشرف، وجاءوا به على إثره، وأجازوا البحر؛ فقبضوا عليه عشيّ يومهم، ثم قتلوه في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرات لم يعهدوها من أول دولتهم، من النّهب والتّخطُّف وطُروق المنازل والحمّامات للعبث بالحُرم، وإطلاق أعنّة الشّهوات والبغي في كل ناحية؛ فمرج أمر النّاس، ورفع الأمر إلى السُّلطان، وكثر الدعاء واللَّجَأُ إلى الله. واجتمع أكابر الأمر إلى السلطان، وفاوضوه في كفِّ عاديتهم، فأمرهم بالركوب، ونادى في جُنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم، والاحتياط بهم في قَبضَة القهر؛ فلم يكن إلا كلمح البصر، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عُمِّرت بهم السّجُون، وصفِّدوا وطيف بهم على الجمال ينادى بهم، إبلاغاً في الشهرة؛ ثم وُسِّط أكثرهم، وتُتُبِّع البقيَّةُ بالنَّفي والحبس بالثغور القَصِيَّة، ثم أُطلِقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعةٌ منهم بحبس الكرك: فيهم برقوق الذي ملك امرهم بعد ذلك، وبركة الجوباني، وألطُنُبغا الجوباني وجهركس الخليلي.
وكان طشتمر، دوادار يلبغا، قد لطف محلَّه عند السلطان الأشرف، وولي الدوادارية له، وكان يؤمّل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا، فكان يحتال في ذلك بجمع هؤلاء المماليك اليلبغاوية من حيث سقطوا، يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه، ويغري السلطان بها شفاها ورسالة، إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السلطان الأشرف، وجعلهم في خدمة ابنه علي ولي عهده. فما كثروا، واخذتهم أريحية العز بعصبيتهم، صاروا يشتطون على السلطان في المطالب، ويعتزون بعصبية اليلبغاوية. واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين وسبعمائة على قضاء الفرض، فخرج لذلك خروجاً فخماً، واستناب ابنه عليّا على قلعته وملكه في كفالة قرطاي من أكابر اليلبغاوية، وأخرج معه الخليفة والقضاة. فلما بلغ العقبة اشتط المماليك في
طلب جرايتهم من العلُّوفة والزّاد، واشتطَّ الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولّين للجباية. وصار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال، وطشتمر الدوادار يغضي عنهم، يحسب وقت استبداده قد أزف، إلى أن راغمهم السلطان بالزجر؛ فركبوا عليه هنالك، وركب من خيالته مع لفيف من خاصته، فنضحوه بالنبل، ورجع إلى خيامه، ثم ركب الهجن مساء، وسار فصبّح. القاهرة، وعرّس هو ولفيفه بقبّة النّصر. وكان قرطاي كافل ابنه عليّ المنصور حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه؛ فأغرى عليّا المنصور بن السلطان بالتوثّب على المُلك، فارتاح لذلك وأجابه، وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة؛ وقد أجلس عليَّا مكفوله بباب الاسطبل، وعقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت؛ وبينما هم في ذلك، صبَّحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ، فطاروا إليه زرافات ووحدانا، فوجدوا أصحابه نياما هنالك، وقد تسلل من بينهم هو ويلبغا الناصري من أكابر اليلبغاوية؛ فقطعوا رءوسهم جميعاً، ورجعوا بها تسيل دماً. ووجموا لفقدان الأشرف، وتابعوا النداء عليه، وإذا بامرأة قد دلَّتهم عليه في مكان عرفته؛ فتسابقوا إليه، وجاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم، ومخلّف السلطان، واعتزم على قتالهم طمعاً في الاستبداد الذي في نفسه؛ فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم، فخلعوا عليه بنيابة الشام، وصرفوه لذلك، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميراً آخر من اليلبغاوية قد ساهم قرطاي في هذا الحادث، وأصهر إليه في بعض حرمه؛ فاستنام له قرطاي، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلا صبوحه بغبوقه، ويستغرق في ذلك؛ فركب في بعض أيامه؛ وأركب معه السلطان عليا، واحتاز الأمر من يد قرطاي،
وصيره إلى صفد، واسّتقّلّ بالدولة، ثم انتقض طشتمر بالشّام مع سائر أمرائه؛ فخرج أينبك في العساكر، وسرّح المقدّمة مع جماعة من الأمراء؛ وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك؛ وخرج هو والسلطان في السّاقة؛ فلما انتهوا إلى بلبيس، ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه، ورجع إليه أخوه منهزماً؛ فرجع إلى القلعة. ثم اختلف عليه الأمراء، وطالبوه بالحرب في قبة النصر؛ فسرّح العساكر لذلك؛ فلمّا فصلوا فرّ هو هارباً، وقبض عليه وثقف بالإسكندرية. واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي، ويلبغا الناصري ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق؛ فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق، إلى الاستقلال بالأمر وتغلبوا على سائر الأمراء؛ واعتقلوهم بالاسكندرية. وفوضوا الأمر إلى يلبغا الناصري، وهم يرونه غير خبير، فأشاروا باستدعاء طشتمر، وبعثوا إليه، وانتظروا. فلما جاءه الخبر بذلك ظنها منية نفسه، وسار إلى مصر؛ فدفعوا الأمر إليه، وجعلوا له التولية والعزل وأخذ برقوق، وبركة يستكثران من المماليك، بالاستخدام والجاه، وتوفير الاقطاع، إكثافاً لعصبيتهما؛ فانصرفت الوجوه عن سواهما، وارتاب طشتمر بنفسه، وأغراه أصحابه بالتوثّب؛ ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين وسبعمائة استعجل أصحابه على غير روية، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم، وقاتلوا فانهزموا. وتقبض على طشتمر، وحبس بالإسكندرية، وبعث معه يلبغا الناصري، وخلت الدولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين، وعمروا المراتب بأصحابهما. ثم كثر شغب التركمان والعرب بنواحي الشام، فدفعوا يلبغا الناصري إلى النيابة بحلب ليستكفوا به في تلك الناحية. ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال، وأضمر كل واحد منهما لصاحبه، وخشي معه، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليحض بذلك جناحه؛ فارتاع لذلك بركة، وخرج بعصابته إلى قبة النصر ليواضع برقوقا وأصحابه الحرب هنالك، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الاسطبل، وسرب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياماً يغادونهم ويراوحونهم ثلاثا، إلى أن عضت بركة وأصحابه الحرب؛ فانفضوا عنه، وجيء ببركة، وبعث به إلى
الإسكندرية؛ فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرام نائب الإسكندرية. وارتفع اصحابه إلى برقوق شاكين؛ فثأرهم منه بإطلاق أيديهم في النصفة؛ فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة، بعد ان سمر، وحمل على جمل عقابا له؛ ولم يقنعهم ذلك، فاطلق أيديهم فيما شاءوا منه، ففعلوا ما فعلوا. وانفرد برقوق- بعد ذلك- بحمل الدولة ينظر في اعطافها بالتهديد، والتسديد، والمقاربة، والحرص على مكافأة الدخل بالخرج. ونقص ما أفاض فيه بنو قلاوون من الإمعان في الترف، والسرف في العوائد والنفقات، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الراجح، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها؛ وراقب ذلك كفه برقوق، ونظر في سد خلل الدولة منه، وإصلاحها من مفاسده، يعتد ذلك ذريعة للجلوس على التخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاوون، بما أفسد الترف منهم، وأحال الدولة بسببهم، إلى ان حصل من ذلك على البغية، ورضي به أصحابه وعصابته؛ فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وتلقب بالظاهر. ورتب أهل عصابته في مراتب الدولة؛ فقام وقاموا بها احسن قيام، وانقلبت الدولة من آل قلاوون إلى برقوق الظاهر وبنيه. واستمر الحال على ذلك، ونافسه اليلبغاوية- رفقاؤه في ولاء يلبغا- فيما صار إليه من الأمر، وخصوصا يلبغا نائب حلب، فاعتزم على الانتقاض. وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه؛ فجاء وحبسه مده، ثم رجعه إلى نيابة حلب، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر؛ فبعث سنة تسعين وسبعمائة دواداره للقبض عليه، ويستعين في ذلك بالحاجب. وانتقض، واستدعى نائب ملطية، وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية، وكان قد انتقض قبله، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر؛ فأجابوه، وساروا في جملته، وتحت لوائه؛ وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق؛ فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من اصحابه: وهم الدوادار الأكبر يونس،
وجهركس الخليلي أمير الاسطبل، والأتابكي ايتمش، وايدكار حاجب الحجاب واحمد بن يلبغا أستاذهم. وخرج الناصري من حلب في عسكره، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام؛ ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق، نزع كثير من عسكر السلطان إليهم، وصدقوا الحملة على من بقي فانفضوا. ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق؛ فدخلها، وقتل جهركس، ويونس، ودخل الناصري دمشق؛ ثم أجمع المسير إلى مصر، وعميت أنباؤهم حتى أطلوا على مصر. وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة انمى عنه، أنه داخله شيطان من شياطين الجند، يعرف بقرط في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين، فلما صح الخبر أمر بقتله، وحبس الخليفة سبعا إلى تلك السنة، فأطلقه عند هذا الواقع؛ ولما وصل إلى قيطا اجتمعت العساكر، ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل، ثم دخل إلى بيته وخرج متنكرا، وتسرب في غيابات المدينة، وباكر الناصري وأصحابه القلعة، وأمير حاج بن الأشرف؛ فأعادوه إلى التخت ولقبوه المنصور. وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وكان فيهم الطنبغا الجوباني الذي كان أمير مجلس، وقبض السلطان الظاهر عليه، وحبسه أياما، ثم أطلقه وبعثه نائبا على دمشق، ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض، وداخل الناصر في نائب حلب في ذلك، وأكد ذلك عند السلطان ما كان بينه وبين الناصري من المصافاة والمخالصة، فبعث عنه. ولما جاء حبسه بالإسكندرية؛ فلما ملك الناصري مصر، وأجلس أمير حاج بن
الأشرف على التخت، بعث عنه ليستعين به على أمره؛ وارتابوا لغيبة الظاهر، وبالغوا في البحث عنه، فاستدعى الجوباني واستنام له، واستحلفه على الأمان؛ فحلف له، وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصر في المضي إليه وتأمينه. وحبسوه في بعض قصور الملك، وتشاوروا في أمره؛ فأشار أمراء اليلبغاوية كلهم بقتله، وبالغ في ذلك منطاش، ووصل نعير أمير بني مهنا بالشام للصحابة بينه وبين الناصري، فحضهم على قتله، ومنع الجوباني من ذلك وفاء بيمينه، فغلت صدورهم منه. واعتزموا على بعثه إلى الكرك، ودافعوا منطاشا بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية، فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه. ووثق بذلك، فقعد له عند المرساة، وخالفوا به الطريق إلى الكرك، وولوا عليها نائبا واوصوه به؛ فأخفق مسعى منطاش، ودبر في اغتيال الدولة، وتمارض في بيته. وجاءه الجوباني عائذا فقبض عليه، وحبسه بالإسكندرية، وركب منتقضا، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة. واستحاش هو بأمراء اليلبغاوية؛ فداهنوا في إجابته، ووقفوا بالرميلة أمام القلعة. ولم يزل ذلك بينهم أياما حتى انفض جمع الناصري، وخرج هاربا؛ فاعترضه اصحاب الطريق بفارسكو، وردوه؛ فحبسه منطاش بالإسكندرية مع صاحبه، واستقل بأمر الملك. وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر؛ فامتنع النائب، واعتذر بوقوفه على خط السلطان والخليفة والقضاة. وبث الظاهر عطاءه في عامة أهل الكرك؛ فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الذي جاء في ذلك؛ فقتلوه؛ وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا. واستألف أفاريق من العرب، واتصل به بعض مماليكه، وسار إلى الشام. واعترضه ابن باكيش نائب غزة، فأوقع به الظاهر، وسار إلى دمشق، واخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج، وسار على التعبئة ليمانع الظاهر عن دمشق. وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق؛ فواقعه، وأقام محاصرا له. ووصل إليه كمشبغا الحمّوي نائب حلب، وكان اظهر دعوته في عمله، وتجهز للقائه بعسكره؛ فلقيه وأزال علله، فأقام له أبهة الملك. وبينا هم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه وعساكره لقتالهم، فلقيهم الظاهر بشقحب، فلما تراءى الجمعان، حمل الظاهر على السلطان أمير حاج وعساكره ففضهم، وانهزم كمشبغا إلى حلب. وسار منطاش في اتباعه؛ فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج؛ ففضها، واحتاز السلطان، والخليفة والقضاة، ووكل بهم. واختلط الفريقان، وصاروا في عمياء من أمرهم، وفر منطاش إلى دمشق. واضطرب الظاهر أخبيته، ونزل على دمشق محاصرا لها. وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه، وجمع القضاة والخليفة؛ فشهدوا على أمير حاج بالخلع، وعلى الخليفة بإعادة الظاهر إلى ملكه. ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر، وتغلب مماليكه عليها؛ وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية، وكان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعد لهم، فتناجوا في التسور منه إلى ظاهره، والتوثب على القلعة والملك، فخرجوا، وهرب دوادار منطاش الذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية. وملك مماليك الظاهر القلعة، ورأسهم
مملوكه بطا، وساس امرهم، وانتظر خبر سلطانه، فلما وصل الخبر بذلك إلى الظاهر، أغذ السير إلى مصر. وتلقاه الناس فرحين مسرورين بعوده وجبره. ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين، وولى بطا دوادارا، وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وأعتبهم، وأعادهم إلى مراتبهم. وبعث الجوباني إلى دمشق، والناصري إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه. وولى سودون على نيابته، وكان ناظرا بالخانقاه التي كنت فيها، وكان ينقم علي أحوالا من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء ازمان كنت عليه، ومن تصرفات دواداره بالخانقاه، وكان يستنيبه عليها؛ فوغر صدره من ذلك؛ وكان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى استدعاها منا منطاش، واكرهنا على كتابها؛ فكتبناها، وورينا فيها بما قدرنا عليه. ولم يقبل السلطان ذلك، وعتب عليه، وخصوصا علي؛ فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عني، فولى فيها غيري وعزلني عنها. وكتبت إلى الجوباني بأبيات أعتذر عن ذلك ليطالعه بها؛ فتغافل عنها، وأعرض عني مدة، ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه وإحسانه، ونص الأبيات:
سيدي والظنون فيك جميلة وأياديك بالأماني كفيله لا تحل عن جميل رأيك إني ما لي اليوم غير رأيك حيله واصطنعني كما اصطنعت بإسداء يد من شفاعة أو وسيله لا تضعني فلست منك مضيعا ذمة الحب، والأيادي الجميله وأجرني فالخطب عض بنابيه وأجرى إلى حماي خيوله ولو أني دعا بنصري داع كنت لي خير معشر وفصيله أنه أمري إلى الذي جعل الله أمور الدنيا له مكفوله وأراه في ملكه الآية الكبرى فولاه ثم كان مديله أشهدته عناية الله في التمحيص أن كان عونه ومنيله العزيز السلطان والملك الظا هر فخر الدنيا وعز القبيله ومجير الإسلام من كل خطب كاد زلزال بأسه أن يزيله ومديل العدو بالطعنة النجلا ء تفري ماذيه ونصوله وشكور لأنعم الله يفني في رضاه غدوه وأصيله وتلطف في وصف حالي وشكوى خلتي يا صفيه وخليله
قل له والققالُ يَكرمُ من مثْلك في مَحفِل العُلا أن يَقُولَه يا خوندَ الملوك يا معدل الذَهر إِذا عَدل الزمان فُصُولَه لا تقصِّر في جَبر كسْرى فما زِلْتُ أرجيك للأيادي الطَويلَة أنا جارٌ لكم منعتم حماه ونَهجتم إلى المعالي سَبليه وغريب أنَستَموه على الوَحْشة والحُزْن بالرضى والسُّهولَه وجَمعتم من شمله فقضى الله فراقاً وما قَضَى مأمولَه غالَه الدّهرُ في البنين وفي الأهـل وما كان ظنُّه أن يَغُوله ورمته النَّوَى فقيداً قد اجْتَاحت عليه فُروعَه وأُصولَه فجذبتم بضَيْعِه وأنَلتُم كل ما شاءت العُلَا أن تُنيلَه ورفعتم من قدره قبل أن يشكو إِليكم عَياءَه وخُمُولَه وفرضتم له حقيقةَ وُدٍّ حاش لله أن تُرَى مُسْتَحِيلَه همةٌ ما عرفتُها لسواكم وأنا من خَبرتُ دَهرِي وجِيلَه والعِدا نمَّقوا أحاديث إِفْكٍ كلها في طرائق معلولَه روًجوا في شأني غرائب زور نصبوها لأمرهم أُحبُولَه ورَموا بالذي أرادوا من البهتان ظناً بأنها مقبولَة زعموا أنني أتيت من الأقوال ما لا يظنُ بي أن أقولَه كيف لي أغمطُ الحقوق وأنِّي شكرُ نَعماكم عليّ الجزيله ؟ كيفَ لي أنكرُ الأيادي التي تعرِفها الشمْسُ والظِّلالُ الظليله ؟ إن يكن ذا فقد برئتُ من الله تعالى رخُنتُ جهراً رسولَه
طوقونا أمر الكتاب فكانت لقداح الظنون فينا مُجيلَه
لا ورَبِّ الكتاب أنزله الله على قلب من وعَى تنزيلَه ما رضينا بذاك فعلاً ولا جئنا طوعاً ولا اقتفينا دليلَه إِنما سامنا الكتابَ ظَلُوم لا يُرَجَّى دِفاعًه بالحِيلَه سَخطٌ ناجزٌ وحِلمٌ بَطيءٌ وسلاح للوْخز فينا صَقِيلَه ودعوني ولست من مَنْصِب الحكم ولا سَاحباً لَدَيهم ذُيولَه غيرَ أنَي وشَى بذكريَ واش يَتَقَصَّ أوتارَه وذُحُوله فكتبنا معوِّلين على حلمك تمحو الاصار عَنَا الثَّقيلَه ما أشرنا بهِ لِزيد ولا عمرو ولا عينوا لنا تفصيله إِنما يذكرون عمَّن وفيمَن مُبْهماتٍ أحكامُها منقولَه ويظنُّون أنَ ذاك على ما أضمروا من شناعةٍ أو رذيله وهْو ظن عن الصًواب بعيدٌ وظلَامٌ لم يُحْسِنُوا تأويلَه وجناب السُّلطان نزَهه الله عن العاب بالهُدَى والفضيلهَ وأجَلُّ الملوك قدراً صفوحٌ يَرْتَجي ذنبَ دَهره ليُقِيلَه فاقبلوا الغذرَ إِنَّنا اليوم نرجُو بحياةِ السُلطان منكُم قبُولَه وأعينوا على الزمان غريباً يشتكي جَدْب عَيشِه ومُحُولَه جارُكم ضيفُكم نزيلُ حِماكم لا يُضيعُ الكريمُ يوماً نَزِيلَه جَدِّدوا عندَه رُسومَ رضاكم فَرُسُومُ الكرام غَيرُ مُحيلَه داركوه برحمة فلقد أمسَتْ عقودُ اصطباره محلولَه وانحَلوه جَبْرا فليس يُرجِّي غيرَ إحسانكم لهَذِي النحِيلَه يا حميدَ الآثار في الدهر يا ألطْنبُغا يا رَوْض العُلاَ ومَقِيلَه كيفَ بالخانِقاه ينقلُ عنَي لا لذَنب أو جُنْحَةٍ مَنقولَه بل تقلَّدتُها شَغُوراً بمرسُوم شَريفٍ وخِلعة مَسْدُولَه ولقد كنت آملًا لسواها وشواها بوْعدِه أن ينِيلَه وتوثَّقتُ للزمان علَيْها بعقود ما خِلتُها محلولَه أبلغن قِصَّتي فمثلُك من يقصد فعل الحسنى بمن ينتمي لَه واغنموا من مثوبتي ودعائي قُربَةً عند ربكم مقبوله وفي التَّعريض بسَفَره إلى الشام : واصحَب العزَ ظافرأ بالأماني واترُك العُصبةَ العِدا مَفْلولَه واعتَمِل في سعادة الملك الظاهر أن تَمحو الأذَى وتُزيِلَه وتُعيدَ الدُّنيا لأحْسَن شَمْلٍ حين تُضْحِي بسَعْده مشمُولَه واطلُب النَّصر من سَعادته يصحَبْك داباً في الظعن والحَيلُولَه وارتَقِب ما يُحِلُّه بالأعادي في جُمادَى أو زد علَيه قَليلَه
وخذوه فألا بحسن قبول صدق الله في الزمان مقوله فلقد كان يحسن الفال عند المصطفى دائما ويرضى جميله السعاية في المهاداة والاتحاف بين ملوك المغرب والملك الظاهر: كثيرا ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضا بالإتحاف بطرف أوطانهم،
للمواصلة والإعانة متى دعا إليها داع. وكان صلاح الدين بن أيوب هادى يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن، واستجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشام حين كان معنيا بإرجاعهم عنها، وبعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ من أمراء شيزر، فأكرم المنصور رسوله، وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه من العدول عن تخطيطه بأمير المؤمنين؛ فوجدها غصة في صدره منعته مي إجابته إلى سؤاله؛ وكان المانع لصلاح الذين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني بما كان يشاوره في أفوره، وكان مقيما لدعوة الخليفة العباسي بمصر؛ فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لإثنين في الملة كما هو المشهور، وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك، لما يرون أن الخلافة ليست لقبا فقط، وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدة والحماية؛ والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحق. فلما انقرضت دولة الموحدين، وجاءت دولة بني مرين من بعدهم، وصار كبراؤهم ورؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقية، فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم، وتسهيل طريقهم؛ فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البر والمواصلة، بالإتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية؛ فسنت لذلك طرائق وأخبار مشهورة، من حقها أن تذكر؛ وكان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ثالث ملوك بني مرين، أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة، وهو يومئذ الناصر بن محمد بن قلاوون، هدية ضخمة، اصحبها كريمة
من كرائم داره، احتفل فيها ما شاء من أنواع الطرف، وأصناف الذخائر، وخصوصا الخيل والبغال. أخبرني الفقيه أبو إسحق الحسناوي، كاتب الموحدين بتونس، أنه عاين تلك الهدية عند مرورها بتونس، قال: وعددت من صنف البغال الفارهة فيها أربعمائة، وسكت عما سوى ذلك. وكان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب، أبو الحسن التنسي كبير أهل الفتيا بتلمسان ثم كافأ الناصر عن هذه الهدية بأعلى منها وأحفل مع أميرين من أمراء دولته، أدركا يوسف بن يعقوب وهو يحاصر تلمسان، فبعثهما إلى مراكش للنزاهة في محاسنها، وأدركه الموت في مغيبهما، ورجعا من مراكش؛ فجهزهما حافده أبو ثابت المالك بعده، وشيعهما إلى مصر؛ فاعترضتهما قبائل حصين ونهبوهما، ودخلا بجاية، ثم مضيا إلى تونس، ووصلا من هنالك إلى مصر. ولما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان، اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد، وكانت لها عليه تربية؛ فأرادت الحج في أيامه وبعنايته؛ فأذن لها في ذلك، وبعث في خدمتها وليه عريف بن يحيى من أمراء سويد، وجماعة من أمرائه وبطانته، واستصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء. وانتقى من الخيل العتاق، والمطايا الفره وقماش الحرير والكتان، والصوف ومدبوغ الجلود الناعمة، والأواني المتخذة من النحاس والفخار المخصوص كل مصر من المغرب بأصناف من صنائعها، متشابهة الأشكال والأنواع، حتى لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلىء والفصوص، وكان ذلك وقر خمس مائة بعير، وكانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس، بالسروج الذهبية المرصعة بالجواهر، واللجم المذهبة، والسيوف المحلاة بالذهب واللآلىء؛ كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار،
وتدرجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة؛ فكانت قيمته مائة دينار. تحدث الناس بهذه الهدية دهراً، وعرضت بين يدي الملك الناصر، فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه، وبولغ في كرامة أولئك الضيوف، في إنزالهم وقراهم وأزوادهم إلى الحجاز والى بلادهم؛ وبقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم؛ وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة. ولما فصل أرسال ملك المغرب، وقد قضوا فرضهم، بعث الملك الناصر معهم هدية كفاء هديتهم، وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة بالإسكندرية، تحمل كل عام إلى دار السلطان، قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار، وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور، تشتمل على بيوت للمراقد، واواوين للجلوس والطبخ، وأبراج للإشراف على الطرقات، وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض؛ وفيها تمثال مسجد بمحرابه، وعمده، ومأذنته؛ حوائطها كلها من خرق الكتان الموصولة بحبك الخياطة مفضلة على الأشكال التي يقترحها المتخذون لها. وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل،، عالية السمك، مخروطة الرأس، رحبة الفناء، تظل خمس مائة فارس أو أكثر، وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الضقيلة، ولجمها كذلك؛ ومرت هذه الهدية بتونس، ومعها الخدام القائمون بنصب الأبنية، فعرضوها على السلطان بتونس. وعاينت يومئذ أصناف تلك الهدية، وتوجهوا بها إلى سلطانهم، وبقي التعجب منها دهرا على الألسنة. وكان ملوك تونس من الموحدين، يتعاهدون ملوك مصر بالهدية في الأوقات. ولما وصلت إلى مصر، واتصلت بالملك الظاهر، وغمرني بنعمه وكرامته، كاتبت السلطان بتونس يومئذ، وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التشوف إلى جياد الخيل، وخصوصا من المغرب، لما فيها من تحمل الشدة والصبر على المتاعب، وكان يقول مثل ذلك، وأن خيل مصر قصرت بها الراحة والتنعم، عن الصبر على التعب؛ فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك والظاهر بما ينتقيه من الجياد الرائعة، فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه، وحملها في البحر في السفين الواصل بأهلي وولدي؛ فغرقت بمرسى الإسكندرية، ونفقت تلك الجياد، مع ما ضاع في
ذلك السفين، وكل شيء بقدر. ثم وصل إلينا عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة شيخ الأعراب: المعقل بالمغرب، يوسف بن علي بن غانم، كبير أولاد حسين ناجياً من سخط السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم، من ملوك بني مرين بفاس، لروم قضاء فرضه، ويتوسل بذلك لرضى سلطانه؛ فوجد السلطان غائبا بالشام في فتنة منطاش؛ فعرضته لصاحب المحمل. فلمّا عاد من قضاء فرضه، وكان السلطان قد عاد من الشام، فوصلته به، وحضر بين يديه، وشكا بثه؛ فكتب الظاهر فيه شفاعة لسلطان وطنه بالمغرب، وحفله مع ذلك هدية إليه من قماش وطيب وتسي، وأوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب، وانصرف؛ فاقبل سلطانه فيه شفاعة الظاهر، وأعاده إلى منزلته. وانتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك الظاهر، وأحسن في انتقاء أصناف الهدية؛ فعاجلته المنية دون ذلك، وولي ابنه أبو فارس، وبقي أياما ثم هلك، وولى أخوه أبو عامر، فاستكمل الهدبة، وبعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول. وكان السلطان الملك الظاهر، لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب، أراد أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشراء، فعين لذلك مملوكا من مماليكه منسوبا إلى تربية الخليلي، اسمه قطلوبغا، وبعث عني، فحضرت بين يديه، وشاورني في ذلك فوافقته، وسألني كيف يكون طريقه، فأشرت بالكتاب في ذلك إلى سلطان تونس من الموحدين، وسلطان تلمسان من بني عبد الواد، وسلطان فاس والمغرب من بني مرين، وحمله لكل واحد منهم هدية خفيفة من القماش والطيب والقسي، وانصرف عام تسعة وتسعين وسبعمائة إلى المغرب، وشيعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه. وبالغ في إكرامه بما يتعين. ووصل إلى فاس، فوجد الهدية قد استكملت، ويوسف بن علي على المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب أولا. وأظلهم عيد الأضحى بفاس، وخرجوا متوجهين إلى مصر، وقد أفاض السلطان من إحسانه وعطائه، على الرسول قطلوبغا ومن في جملته بما أقر عيونهم، وأطلق بالشكر ألسنتهم، وملأ بالثناء ضمائرهم، ومروا بتلمسان، وبها
يومئذ أبو زئان، ابن السلطان أبي حمّو من آل يغمراسن بن زيان، فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراكبها، وكان يحوك الشعر، فأمتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته، ونصها من أولها إلى اخرها: لمن الركاب سيرهن ذميل
يا أيها الحادي رويدك إنها
رفقا بمن حملته فوق ظهورها
لله آية أنجم: شفافة شهب بآفاق الصدور طلوعها في الهودج المزرور منها غادة
فكأنها قمر على غصن على ثارت مطايا فثار بي الهوى
أومت لتوديعي فغالب عبرتي دمع أغيض منه خوف رقيبها ويح المحب وشت به عبراته صان الهوى وجفونه يوم النوى وتهابه أسد الشرى في خيسها
والصبر- إلا بعدهن- جميل
ظعن يميل القلب حيث تميل فالحسن فوق ظهورها محمّول تنجاب عنها للظلام سدول
ولها بأستار الجدول أفول
تزع الدجى بجبينها فيحول متني كثيب والكثيب مهيل واعتاد قلبي زفرة وغليل
نظر تخالسه العيون كليل
طورا ويغلبني الأسى فيسيل
فكأنها قال عليه وقيل
لمصون جوهر دمعهن تذيل
ويروعه ظبي الحمى المكحول
تأبى النفوس الضيم إلا في الهوى
يا بانة الوادي ويا أهل الحمى
ما لي إذا هب النسيم من الحمى خفوا الضبا يخلص إلي نسيمها ما لي أحلأ عن ورود محله والباب ليس بمرتج عن مرتج
فالحر عبد والعزيز ذليل
هل ساعة تصغين لي فأقول أرتاح شوقا للحمى وأميل إن الصبا لصبابتي تعليل وأذاد عنه وورده منهول والظن في المولى الجميل جميل
من لي بزورة روضة الهادي الذي
هو أحمد ومحمد والمصطفى
يا خير من أهدى الهدى وأجل من
وحي من الرحمن يلقيه على
مدحتك آيات الكتاب وبشرت
جملة الصلاة عليك تحلو في فمي
فوربعك المأهول إن بأضلعي
هل من سبيل للسرى حتى أرى
حتام تمطلني الليالي وعدها
ما عاقني إلا عظيم جرائمي
أنا مغرم فتعطفوا أنا مذنب
وأنا البعيد فقربوا والمستجير
يا سائقاً نحو الحجاز حمّولة
لمحمد بلغ سلام سميه
وسل الإله له اغتفار ذنوبه
ما مثله في المرسلين رسول
والمجتبى وله انتهى التفضيل
أثنى عليه الوحي والتنزيل
قلب النبي محمد جبريل
بقدومك التوراة والإنجيل
مهما تكرر ذكرك المعسول
قلبا بحبك ربعه مأهول
خير الورى فهو المنى والسول
إن الزمان بوعده لبخيل
إن الجرائم حملهن ثقيل
فتجاوزوا أنا عاثر فأقيلوا
فأمنوا والمرتجى فأنيلوا
والقلب بين حمّوله محمّول فذمامه بمحمد موصول يسمع هناك دعاؤك المقبول
وعن المليك أبي سعيد فلتنب متحمل لله كسوة بيته سعد المليك أبي سعيد إنه فلكم له نحو الرسول رسول يا حبذاك المحمل المحمّول
سيف على أعدائه مسلول
ملك بجح المغرب الأقصىبه فلهم به نحو الرسول وصول
ملك به نام الأنام وأمنت سبل المخاف فلا يخاف سبيل
فالملك ضخم والجناب مؤمل والفضل جم والعطاء جزيل
والصنع أجمل والفخار مؤثل والمجد أكمل والوفاء أصيل
يا مالك البحرين بلغت المنى قد عاد مصر على العراق يصول
يا خادم الحرمين حق لك الهنا فعليك من روح الإله قبول
يا متحفي ومفاتحي برسالة سلسالة يزهى بها الترسيل
أهديتها حسناء بكرا ما لها غيري، وإن كثر الرجال، كفيل
ضاء المداد من الوداد بصحفها حتى اضمحل عبوسه المجبول
جمعت وحاملها بحضرتنا كما جمعت بثينة في الهوى وجميل
وتأكدت بهدية ودية هي للإخاء المرتضى تكميل
اطلعت فيها للقسي أهلة يرتد عنها الطرف وهو كليل
وحسام نصر زاهيا بنضاره راق العيون فرنده المعسول
ماضي الشبا لمصابه تعنو الظبا فبه تصول على العدا وتطول
وبدائع الحلل اليمانية التي روى معاطفها بمصر النيل
فأجلت فيها ناظري فرأيتها تحفا يجول الحسن حيث تجول
جلت محاسنها فأهوى نحوها بفم القبول اللثم والتقبيل
يا مسعدي وأخي العزيز ومنجدي ومن القلوب إلى هواه تميل
إن كان رسم الود منك مذيلا بالبر وهو بذيله موصول
فنظيره عندي وليس يضيره بمعارض وهم ولا تخييل
ود "يزيد" و"ثابت " شهدابه و "لخالد" بخلوده تذييل
وإليكها تنبيك صدق مودتي صح الدليل ووافق المدلول
فإذا بذاك المجلس السامي سمت فلديك إقبال لها وقبول
دام الوداد على البعاد موصلا بين القلوب وحبله موصول وبقيت في ندم لديك مزيدها وعليك يضفو ظلها المسدول ثم مروا بعدها بتونس، فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العباس من ملوك الموحدين، هدية ثالثة انتقى لها جياد الخيل، وعزز بها هدية السلطانين وراءه، مع رسوله من كبار الموحدين أبي عبد الله بن تافراكين؛ ووصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظاهر في آخر الله، وعرضت بين يدي السلطان، وانتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة والسيوف والبسط ومراكب الخيك، وحمل كثيرا منهم على كثير من تلك الجياد وارتبط الباقيات. وكانت هدية صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج واللجم الذهبية، والسيوف المحلاة، وخمسة وثلاثين حملا من أقمشة الحرير والكتان والصوف والجلد، منتقاة من أحسن هذه الأصناف. وهدية صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموهة، وأحمالا من الأقمشة. وهدية صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشاة ببراقع الثياب من غير مراكب، وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه؛ وجلس السلطان يوم عرضها جلوسا فخما في إيوانه، وحضر الرسل، وأدوا ما يجب عن ملوكهم. وعاملهم السلطان بالبر والقبول، وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة، والأحوال الضخمة. ثم حضر وقت خروج الحاج؛ فاستأذنوا في الحج مع محمل السلطان، فاذن لهم، وارغد أزودتهم. وقضوا حجهم، ورجعوا الى حضرة السلطان ومعهود مبرته. ثم انصرفوا إلى مواطنهم، وشيعهم من بر السلطان وإحسانه، ما ملأ حقائبهم، وأسنى ذخيرتهم، وحصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الباقية على الأبد، خمدت الله على ذلك. ولاية القضاء الثانية بمصر. ما زلت، منذ العزل عن القضاء الأول سنة سبع وثمانينوسبعمائة، مكبا على
الاشتغال بالعلم، تأليفا وتدريساً؛ والسلطان يولي في الوظيفة من يراه أهلا متى دعاه إلى ذلك داع، من موت القائم بالوظيفة، أو عزله؛ وكان يراني الأولى بذلك، لولا وجود الذين شغبوا من قبل في شأني، من أمراء دولته، وكبار حاشيته، حتى انقرضوا. واتفقت وفاة قاضى المالكية إذ ذاك ناصر الدين بن التنسي، وكنت مقيما بالفيوم لضم زرعي هنالك؛ فبعث عني، وقلدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى وثمانمائة؛ فجريت على السنن المعروف مني، من القيام بما يجب للوظيفة شرعا وعادة؛ وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عني في ذلك. ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها، وأحضر الخليفة والقضاة والأمراء، وعهد إلى كبير أبنائه فرج، ولإخوته من بعده واحدا واحدا، وأشهدهم على وصيته بما أراد. وجعل القائم بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه أيتمش، وقضى رحمة الله عليه، وترتبت الأمور من بعده كما عهد لهم، وكان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم، وسمع بالواقعات بعد السلطان فغص أن لم يكن هو كافل ابن الظاهر بعده، ويكون زمام الدولة بيده. وطفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك، وبينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك أيتمش، وذلك أنه كان للأتابك دوادار غر يتطاول إلى الرئاسة، ويترفع على أكابر الدولة بحظه من أستاذه، وما له من الكفالة على السلطان؛ فنقموا حالهم مع هذا الدَّوادار، وما يسومهم به من الترفع عليهم، والتعرض لإهمال نصائحهم؛ فأغروا السلطان
بالخروج عن ربقه الحجر، وأطاعهم في ذلك، وأحضر القضاة بمجلسه للدعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل، بما علم من قيامه بأمره وحسن تصرفاته. وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافة، وأهل المراتب والوظائف منهم، شهادة قبلها القضاة. وأعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم، ونفذ الحكم يومئذ برفع الحجر عن السلطان في تصرفاته وسياسة ملكه، وانفضّ الجمع، ونزل الأتابك من الاسطبل إلى بيت سكناه. ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك؛ فلم يروه صوابا، وحملوا الأتابك على نقضه، والقيام بما جعل له السلطان من كفالة ابنه في سلطانه. وركب، وركبوا معه في آخر شهر المولد النبوي، وقاتلهم أولياء السلطان فرج عشي يومهم وليلتها؛ فهزموهم، وساروا إلى الشام مستصرخين بالنائب تنم، وقد وقر في نفسه ما وقر من قبل؛ فبر وفادتهم، وأجاب صريخهم. واعتزموا على المضي إلى مصر. وكان السلطان لما انفضت جموع الأتابك، وسار إلى الشام، اعتمله في الحركة والسفر لخضد شوكتهم، وتفريق جماعتهم؛ وخرج في جمادى حش انتهى إلى غزة، فجاءه الخبر بأن نائب الشام تنم، والأتابك، والأمراء الذين معه، خرجوا من الشام زاحفين للقاء السلطان، وقد احتشدوا واوعبوا، وانتهوا قريبا من الرملة؛ فراسلهم السلطان مع قاضي القضاة الشافعي صدر الدين المناوي، وناصر الدين الرماخ، أحد المعلمين لثقافة الرماح، يعذر إليهم، ويحملهم على اجتماع الكلمة، وترك الفتنة، وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم؛ فاشتطوا في المطالب، وصمموا على ما هم فيه. ووصل الرسولان بخبرهم، فركب السلطان من الغد، وعبى عساكره، وصمم لمعاجلتهم؛ فلقيهم أثناء طريقه، وهاجمهم فهاجموه، ثم ولوا الأدبار منهزبين. وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه، فما غشيهم الليل إلا وهم مصفدون في الحديد، يقدمهم الأمير تنم نائب الشام واكابرهم كلهم. ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق، فآوى إليها، واعتقله نائب القلعة. وسار السلطان إلى دمشق؛ فدخلها على التعبئة في يوم أغر، وأقام بها أياما، وقتل هؤلاء
الأمراء المعتقلين، وكبيرهم الأتابك ذبحا، وقتل تنم من بينهم خنقا، ثم ارتحل راجعا إلى مصر. وكنت استأذنت في التقدم إلى مصر بين يدي السلطان لزيارة بيت المقدس، فأذن لي في ذلك. ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد، وتبركت بزيارته والصلاة فيه، وتعففت عن الدخول إلى القمامة لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن، إذ هو بناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم، فنكرته نفسي، ونكرت الدخول إليه. وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب، وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه السلام. ومررت في طريقي إليه ببيت لحم، وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح، شيدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصخور، منجدة مصطفة، مرقوما على رؤوسها صور ملوك القياصرة، وتواريخ دولهم، ميسرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتراجمة العارفين لأوضاعها؛ ولقد يشهد هذا المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم. ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى غزة، وارتحلت منها، فوافيت السلطان بظاهر مصر، ودخلت في ركابه اواخر شهر رمضان سنة إثنين وثمانمائة. وكان بمصر فقيه من المالكية يعرف بنور الدين بن الخلال، ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكية؛ فحرضه بعض أصحابه على السعي في المنصب، وبذل ما تيسر من موجوده لبعض بطانة السلطان الساعين له في ذلك، فتفت سعايته في ذلك، ولبس منتصف المحرم سنة ثلاث وثنانمائة؛ ورجعت أنا للاشتغال بما كنت مشتغلا به من تدريس العلم وتأليفه، إلى أن كان السفر لمدافعة تمر عن الشام. سفر السلطان إلي الشام لمدافعة الطَّطَر عن بلاده: هؤلاء الطَّطَر من شعوب الترك، وقد اتفق النسابه والمؤرخون على أن أكثر أمم العالم فرقتان، وهما: العرب والترك، وليس في العالم أمة أوفر منهما عدداً، هؤلاء في
جنوب الأرض، وهؤلاء في شمالها، وما زالوا يتناوبون الملك في العالم؛ فتارة يملك العرب ويزحلون الأعاجم إلى آخر الشمال، وأخرى يزحلهم الأعاجم والترك إلى طرف الجنوب، سنة الله في عباده. فلنذكر كيف انساق الملك لهؤلاء الطَّطَر، واستقرت الدول الإسلامية فيهم لهذا العهد فنقول: إن الله سبحانه خلق هذا العالم واعتمره بأصناف البشر على وجه الأرض، في وسط البقعة التي انكشفت من الماء فيه، وهي عند أهل الجغرافيا مقدار الربع منه، وقسموا هذا المعمور بسبعة أجزاء يسمونها الأقاليم، مبتدئة من خط الاستواء بين المشرق والمغرب، وهو الخط الذي تسامت الشمس فيه رؤوس السكان، إلى تمام السبعة أقاليم. وهذا الخط في جنوب المعمور، وتنتهي- السبعة الأقاليم في شماله. وليس في جنوب خط الاستواء عمارة إلى آخر الربع المنكشف، لإفراط الحر فيه، وهو يمنع من التكوين؛ وكذلك ليس بعد الأقاليم السبعة في جهة الشمال عمارة، لإفراط البرد فيها، وهو مانع من التكوين أيضأ. ودخل الماء المحيط بالأرض من جهة الشرق فوق خط الاستواء بثلاث عشرة درجة، في مدخل فسيح، وانساح مع خط الإستواء مغربا؛ فمر بالضين، والهند والسند واليمن، في جنوبها كفها. وانتهى إلى وسط الأرض، عند باب المندب، وهو البحر الهندي والصيني، ثم انحرف من طرفه الغربي في خليج عند باب المندب، ومر في جهة الشمال مغربا باليمن وتهامة والحجاز ومدين وأيلة وفاران، وانتهى إلى
مدينة القلزم، وشممى بحر السويس، وفي شرقيه بلاد الصعيد إلى عيذاب، وبلا البجاة؛ وخرج من هذا البحر الهندي من وسطه خليج آخر يسمى الخليج الأخضر، ومر شمالا إلى الأبلة، ويسمى بحر فارس، وعليه في شرقيه بلاد فارس، وكرمان، والسند؛ ودخل الماء أيضا، من جهة الغرب في خليج متضايق في الإقليم الرابع، ويسمى بحر الزقاق، تكون سعته هنالك ثمانية عشر ميلا. ويمر مشرقا ببلاد البربر، من المغرب الأقصى والأوسط وأرض أفريقية والإسكندرية وأرض التيه وفلسطين والشام؛ وعليه في الغرب بلاد الإفرنج كلها؛ وخرج منه في الشمال خليجان: الشرقي منهما خليج القسطنطينية والغربي خليج البنادقة، ويسمى هذا البحر البحر الرومي، والشامي. ثم إن هذه السبعة الأقاليم المعمورة، تنقسم من شرقيها وغربيها بنصفين: فنصفها
الغربي في وسطه البحر الرومي، وفي النصف الشرقي من جانبه الجنوبي البحر الهندي، وكان هذا النصف الغربي أقل عمارة من النصف الشرقي، لأن البحر الرومي المتوسط فيه، انفسح في انسياحه، فغمر الكثير من أرضه. والجانب الجنوبي منه قليل العمارة لشدة الحر؛ فالعمران فيه من جانب الشمال فقط، والنصف الشرقي عمرانه أكثر بكثير، لأنه لا بحر في وسطه يزاحم. وجانبه الجنوبي فيه البحر الهندي، وهو متسع جدا؛ فلطف الهواء فيه بمجاورة الماء، وعذل مزاجه للتكوين؛ فصارت أقاليمه كلها قابلة للعمارة؛ فكثر عمرانه. وكان مبدأ هذا العمران في العالم، من لدن آدم صلوات الله عليه، وتناسل ولده أولا في ذلك النصف الشرقي، وبادت تلك الأمم ما بينه وبين نوح، ولم نعلم شيئا من أخبارها، لأن الكتب الإلهية لم يرد علينا فيها إلا أخبار نوح وبنيه؛ وأما ما قبل نوح فلم نعرف شيئا من أخباره؛ وأقدم الكتب المنزلة المتداولة بين أيدينا التوراة، وليس فيها من أخبار تلك الأجيال شيء، ولا سبيل إلى اتصال الأخبار القديمة إلا بالوحي؛ وأما الأخبار فهي تدرس بدروس أهلها. واتفق النسابون على أن النسل كله منحصر في بني نوح، وفي ثلاثة من ولده، وهم سام، وحام، ويافث؛ فمن سام: العرب، والعبرانيون، والسبائيون؛ ومن حام: القبط، والكنعانيون، والبربر، والسودان؛ ومن يافث: الترك، والروم.، والخزر، والفرس، والديلم؛ والجيل. ولا أدري كيف صح انحصار النسب في هؤلاء الثلاثة عند النسابين؛ أمن النقل؛وهو بعيد كما قدمناه، او هو رأي تفرع لهم من انقسام جماعة المعمور؛ فجعلوا شعوب كل جهة لأهل نسب واحد يشتركون فيه؛ فجعلوا الجنوب لبني لمسام، والمغرب لبني حام، والشمال لبني يافث. إلا أنه المتناقل بين النسابة في العالم، كما قلناه، فلنعتمده ونقول: أول من ملك الأرض من نسل نوح عليه السلام، النمرود بن كنعان بن كوش، بن حام ووقع ذكره في التوراة. وملك بعده عابر بن شالخ الذي ينسب إليه
العبرانيون، والسريانيون، وهم النبط؛ وكانت لهم الدولة العظيمة، وهم ملوك بابل، من نبيط بن اشور بن سام، وقيل نبيط بن ماش بن إرم؛ وهم ملوك الأرض بعد الطوفان على ما قاله المسعودي. وغلبهم الفرس على بابل، وما كان في أيديهم من الأرض، وكانت يومئذ في العالم دولتان عظيمتان، لملوك بابل هؤلاء، وللقبط بمصر: هذه في المغرب، والأخرى في المشرق؛ وكانوا ينتحلون الأعمال السحرئة، ويعولون عليها في كثير من أعمالهم، وبرابي مصر، وفلاحة ابن وحشية، يشهدان بذلك. فلما غلب الفرس على بابل، استقل لهم ملك المشرق، وجاء موسى- صلوات الله عليه- بالشريعة الأولية، وحرم السحر وطرقه، وغلب الله له القبط بإغراق فرعون وقومه؛ ثم ملك بنو إسرائيل الشام، واختطوا بيت المقدس، وظهر الروم في ناحية الشمال والمغرب، فغلبوا الفرس الأولى على ملكهم. وملك ذو القرنين الإسكندر ما كان بأيديهم، ثم صار ملك الفرس بالمشرق إلى ملوكهم الساسانية، وملك بني يونان بالشام والمغرب إلى القياصرة، كما ذكرنا ذلك كله من قبل. وأصبحت الدولتان عظيمتين، وانتظمتا العالم بما فيه. ونازع الترك ملوك فارس في خراسان، وما وراء النهر، وكانت بينهم حروب مشهورة، واستقر ملكهم في بني افراسياب؛ ثم ظهر خاتم الأنبياء محمد صلوات الله عليه، وجمع العرب على كلمة الإسلام، فاجتمعوا له، (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )، وقبضه الله إليه، وقد أمر بالجهاد، ووعد عن الله بأن الأرض لأمته، فزحفوا إلى كسرى، وقيصر بعد سنتين من وفاته، فانتزعوا الملك من أيديهما، وتجاوزوا الفرس إلى الترك، والروم إلى البربر والمغرب، وأصبح العالم كله منتظما في دعوة الإسلام. ثم اختلف أهل الدين من بعده في رجوعهم إلى من ينظم أمرهم، وتشيع قوم من العرب فزعموا أنه
أوصى بذلك لإبن عمه علي، وامتنع الجماعة من قبول ذلك، وابوا إلا الاجتهاد في تعيينه، فمضى على ذلك السلف في دولة بني أمية التي استفحل الملك والإسلام فيها، وتنافل التشيع بتشعب المذاهب، في استحقاق بني علي، وأيهم يتعين له ذلك، حتى انساق مذهب من مذاهبهم إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ فظهرت شيعته بخراسان، وملكوا تلك الأرض كلها، والعراق بأسره. ثم غلبوا على بنى أمية، وانتزعوا الملك من أيديهم، واستفحل ملكهم، والإسلام باستفحاله، وتعدد خلفاؤهم. ثم خامر الدولة ما يخامر الذول من الترف والراحة؛ ففشلوا. وكثر المنازعون لهم من بني علي وغيرهم؛ فظهرت دولة لبني جعفر الصادق بالمغرب، وهم العبيديون بنو عبيد الله المهدي بن محمد، قام بها كتامة وقبائل البربر، واستولوا على المغرب ومصر؛ ودولة بني العلوي بطبرستان، قام بها الديلم وإخوانهم الجيل؛ ودولة بني أمية النائية بالأندلس، لأن بني العباس لما غلبوهم بالمشرق، وأكثروا القتل فيهم، هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ونجا إلى المغرب. ثم ركب البحر إلى الأندلس؛ فاجتمع عليه من كان هنالك من العرب وموالي بني أمية، فاستحدث هنالك ملكا آخر لهم، وانقسمت الملة الإسلامية بين هذه الدول الأربع إلى المائة الرابعة. ثم انقرض ملك العلوية من طبرستان، وانتقل إلى الديلم، فاقتسموا خراسان وفارس والعراق، وغلبوا على بغداد، وحجر الخليفة بها بنو بويه منهم. وكان بنو سامان – من اتباع بني طاهر- قد تقلدوا عمالات ما وراء النهر، فلما فشل أمر الخلافة استبدوا بتلك النواحي، وأصاروا لهم فيها ملكاً ضخما، وكان آخرهم محمّود بن سبكتكين من مواليهم، فاستبد عليهم، وملك خراسان، وما وراء النهر إلى الشاش، ثم
غزنة، وما وراءها جنوبا إلى الهند. وأجاز إلى بلاد الهند؛ فافتتح منها كثيرا، واستخرج من كنوزها ذخائر ليم يعثر عليها أحد قبله. وأقامت الملة على هذا النمط إلى انقضاء المائة الرابعة، وكان الترك منذ تعبدوا للعرب، وأسلموا على ما بأيديهم وراء النهر، من كاشغر والصاغون إلى فرغانة، وولاهم الخلفاء عليها؛ فاستحدثوا بها ملكا، وكانت بوادي الترك في تلك النواحي منتجعة أمطار السماء، وعشب الأرض، وكان الظهور فيهم لقبيلة الغزّ من شعوبهم، وهم الخوز، إلا أن استعمال العرب لها عرب خاءها المعجمة غينا، وأدغمت واوها في الزاي الثانيه؛ فصارت زاياً واحدة مشددة. وكانت رياسة الغزّ هؤلاء شي بني سلجوق بن ميكائيل، وكانوا يستخدمون لملوك الترك بتركستان تارة، ولملوك بني سامان في بخارى أخرى. وتحدث بينهما الفتنة؛ فيتألفون من شاءوا منهما؛ ولما تغلب محمّود بن سبكتكين على بني سامان، وأجاز من خراسان فنزل بخارى، واقتعد كرسيهم، وتقبض على كبار بني سلجوق هؤلاء، وحبسهم بخراسان. ثم مات وقام بالأمر أخوه مسعود، فملك مكانه، وانتقض على بنو سلجوق هؤلاء، وأجاز الغز إلى خراسان فملكوها، وملكوا طبرستان من يد الديلم، ثم إصبهان
وفارس، من أيدي بني بويه، وملكهم يومئذ طغرلبك بن ميكائيل من بني سلجوق، وغلب على بغداد من يد بني معز الدولة بن بويه المستبدين على الخليفة يومئذ المطيع، وحجره عن التصرف في أمور الخلافة والملك، ثم تجاوز إلى عراق العرب، فغلب على ملوكه، وأبادهم، ثم بلاد البحرين وعمان، ثم على الشام، وبلاد الروم، واستوعب ممالك الإسلام كفها، فأصارها في ملكه؛ وانقبضت العرب راجعة إلى الحجاز، مسلوبة من الملك، كأن لم يكن لهم فيه نصيب، وذلك أعوام الأربعين والأربعمائة، وخرج الإفرنج على بقايا بني أمية بالأندلس، فانتزعوا الملك من ايديهم، واستولوا على حواضر الأندلس وأمصارها، وضاق النطاق على العبيديين بالقاهرة بملوك الغز يزاحمّونهم فيها من الشام، بمحمّود بن زنكي وغيره من أبنائهم ومماليكهم، وبملوك المغرب قد اقتطعوا ما وراء الإسكندرية، بملوك صنهاجة في أفريقية، والملثمين المرابطين بعدهم بالمغرب الأقصى والأوسط، والمصامدة الموحدين بعدهم كذلك، وأمام الغز والسلجوقية في ملك المشرق، وبنوهم ومواليهم من بعدهم إلى انقضاء القرن السادس؛ وقد فشل ريح الغز، واختلت دولتهم، فظهر فيهم جنكيزخان أمير المغل من شعوب الطَّطَر، وكانت كاهناً، وجده النجر كاهناً مثله. ويزعمونه أنه ولد من غير أب؛ فغلب الغز في المفازة، واستولى على ملك الطَّطَر، وزحف إلى كرسي
الملك بخوارزم. وهو علاء الدين خوارزم شاه، سلفه من موالي طغرلبك، فغالبه على ملكه، وفر أمامه، واتبعه إلى بحيرة طبرستان؛ فنجا إلى جزيرة فيها، ومرض هنالك ومات، ورجع جنكيزخان إلى زندران، من أمصار طبرستان فنزلها، وأقام بها، وبعث عساكره من المغل حتى استولوا على جميع ما كان للغز، وأنزل ابنه طولى بكرسي خراسان، وابنه دوشيخان بصراي وبلاد الترك، وابنه جقطاي بكرسي الترك فيما وراء النهر، وهي كاشغر وتركستان، وأقام بما زندران إلى أن مات جنكيزخان ودفن بها؛ ومات ابنه طولي وله ولدان، قبلاي وهولاكو، ثم هلك قبلاي، واستقل هولاكو بملك خراسان، وحدث بينه وبين بركة بن دوشيخان فتنة بالمنازعة في القانية، تحاربوا فيها طويلا، ثم اقصروا،
وصرف هولاكو وجهه إلى بلاد أصبهان، وفارس، ثم إلى الخلفاء المستبدين ببغداد، وعراق العرب، فاستولى على تلك النواحي، واقتحم بغداد على الخليفة المستعصم، آخر بني العباس وقتله، وأعظم فيها العيث والفساد، وهو يومئذ على دينه من المجوسية؛ ثم تخطاه إلى الشام؛ فملك أمصاره وحواضره إلى القدس، وملوك مصر يومئذ من موالي بني أيوب قد استحاشوا ببركة صاحب صراي؛ فزحف إلى خراسان ليأخذ بحجزة هولاكو عن الشام ومصر. وبلغ خبره إلى هولاكو فحرد لذلك، لما بينهما من المنافسة والعداوة، وكر راجعا إلى العراق، ثم إلى خراسان، لمدافعة بركة. وطالت الفتنة بينهما إلى أن هلك هولاكو. سنة ثلاث وستين من المائة السابعة، وزحف أمراء مصر من موالي بني أيوب، وكبيرهم يومئذ قطز، وهو سلطانهم فاستولى على أمصار الشام التي كان هولاكو انتزعها من أيدي بني أيوب، واحدة واحدة، واستضاف الشام إلى مصر في ملكه. ثم هدى الله أبغا بن هولاكو إلى الإسلام، فأسلم بعد أن كان أسلم بركة ابن عمه صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان على يد مريد من اصحاب شمس.. الدين كبرى، فتواطا هو وابغا بن هولاكو علي الإسلام. ثم اسلم بعد ذلك بنو جقطاي وراء النهر؛ فانتظمت ممالك الإسلام في أيدي ولد جنكيزخان من المغل، ثم من الطَّطَر، ولم يخرج عن ملكهم منها إلا المغرب والأندلس ومصر والحجاز، واصبحوا، وكأنهم في تلك الممالك خلص من السلجوقية والغز. واستمر الأمر على ذلك لهذا العهد، وانقرض ملك بني هولاكو بموت أبي سعيد آخرهم سنة أربعين من المائة الثامنة. وافترقت دولتهم بين عمال الدولة وقرابتها من المغل؛ فملك عراق العرب، واذربيجان
وتوريز، الشيخ حسن سبط هولاكو، واتصل ملكها في بنيه لهذا العهد؛ وملك خراسان وطبرستان شاه ولي من تابعة بني هولاكو؛ وملك إصبهان، وفارس، بنو مظفر البردي من عمالهم أيضا؛ وأقاموا بنو دوشي خان في مملكة صراي وآخرهم بها طقطمش بن بردي بك؛ ثم سما لبني جقطاي وراء النهر، وملوكهم أمل في التغلب على أعمال بني هولاكو، وبني دوشي خان، بما استفحل ملكهم هنالك، لعدم الترف والتنعم، فبقوا على البداوة؛ وكان لهم ملك اسمه ساطلمش هلك لهذا العهد، واجلسوا ابنه على التخت مكانه، وأمراء بني جقطاي جميعا في خدمته، وكبيرهم تيمور المعروف بتمر بن طرغاي فقام بأمر هذا الصبي وكفله، وتزوج أمه، ومد يده إلى ممالك بني دوشي خان التي كاممت على دعوتهم وراء النهر، مثل سمرقند، وبخارى، وخوارزم، وأجاز إلى طبرستان وخراسان فملكها. ثم ملك اصبهان، وزحف إلى بغداد؛ فملكها من يد احمد بن أوشى. وفر احمد مستجيرا بملك مصر، وهو الملك الظاهر برقوق، وقد تقدم ذكره؛ فأجاره، ووعده النصر من عدوه. وبعث الأمير تمر رسلا إلى صاحب مصر، يقررون معه الولاية والاتحاد، وحسن الجوار؛ فوصلوا إلى الرحبة؛ فلقيهم عاملها، ودار بينهم الكلام فأوحشوه. في الخطاب، وانزلهم، فبيت جميعهم، وقتلهم. وخرج الظاهر برقوق من مصر، وجمع العرب والتركمان، واناخ على الفرات، وصرخ بطقطمش من كرسيه بصراي؛ فحشد ووصل إلى الأبواب. ثم زحف تمر إلى الشام سنة ست وتسعين وسبعمائة، وبلغ الرها، والظاهر يومئذ على
الفرات، فخام تمر عن لقائه. وسار إلى محاربة طقطمش؛ فاستولى على أعماله كفها، ورجعت قبائل المغل إلى تمر؛ وساروا تحت رايته. وذهب طقطمش في ناحية الشمال، وراء بلغار، متذمما بقبائل أروس من شعوب الترك في الجبال. وسارت عصائب الترك كلها تحت رايات تمر؛ ثم اضطرات ملوك الهند، واستصرخ خارج منهم بالأمير تمر؛ فسار إليهم في عساكر المغل، وملك دلي، وفر صاحبها إلى كنباية مرسى بحر الهند، وعاثوا في نواحي بلاد الهند. ثم بلغه هنالك مهلك الظاهر برقوق بمصر؛ فرجع إلى البلاد، ومر على العراق، ثم على أرمينية وأرزنكان، حتى وصل سيواس فخربها، وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التاسعة. ونازل قلعة الروم، فامتنعت، وتجاوزها إلى حلب؛ فقابله نائب الشام وعساكره في ساحتها؛ ففضهم، واقتحم المغل المدينة من كل ناحية. ووقع فيها من العيث والنهب والمصادرة واستباحة الحرم، ما لم يعهد الناس مثله؛ ووصل الخبر إلى مصر، فتجهز السلطان فرج ابن الملك الظاهر إلى المدافعة عن الشام، وخرج في عساكره من الترك مسابقا المغل وملكهم تمر أن يصدهم عنها. لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر ملك بلاد الروم، وخرب سيواس، ورجع
إلى الشام، جمع السلطان عساكره، وفتح ديوان العطاء، ونادى في الجند بالرحيل إلى الشام، وكنت أنا يومئذ معزولا عن الوظيفة؛ فاستدعاني دواداره يشبك، وأرادني على السفر معه في ركاب السلطان؛ فتجافيت عن ذلك. ثم أظهر العزم علي بلين القول، وجزيل الإنعام فأصخيت، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث وثمانمائة؛ فوصلنا إلى غزة، فأرحنا بها أياما نترقب الأخبار؛ ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الطَّطَر إلى أن نزلنا شقحب، وأسرينا فصبحنا دمشق، والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصدا دمشق، فضرب السلطان خيامه وأبنيته بساحة قبة يلبغا. ويئس الأمير تفر من مهاجمة البلد، فأقام بمرقب على قبة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثاً أو أربعا، فكانت حربهم سجالا؛ ثم نمي الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه، أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها؛ فاجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم، واختلال الدّولة
بذلك، فأسروا ليله الجمعة من شهر [0000]، وركبوا جبل الصالحية، ثم انحطوا في شعابه، وساروا على شافة البحر إلى غزة، وركب الناس ليلا يعتقدون أن السلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر؛ فساروا عصبا وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر، وأصبح أهل دمشق متحيرين قد عميت عليهم الأنباء. وجاءني القضاة والفقهاء، واجتمعت بمدرسة العادلية، واتفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم، وشاوروا في ذلك نائب القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره؛ فلم يوافقوه. وخرج القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي ومعه شيخ الفقراء بزاوية [0000] فأجابهم إلى التأمين، وردهم باستدعاء الوجوه والقضاة، فخرجوا إليه متدلين من السور بما صبحهم من التقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان، وردهم على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرف الناس في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها، ويملك أمرهم بعزّ ولايته.
وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني، وهل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه؛ فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول. وبلغني الخبر من جوف الليل؛ فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج أو التدلي من السور، لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر؛ فأبوا علي أولا، ثم أصخوا لي، ودلوني من السور؛ فوجدت بطانته عند الباب، ونائبه الذي عينه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك، من بني جقطاي أهل عصابته، فحييتهم وحيوني، وفديت وفدوني، وقدم لي شاه ملك، مركوبا، وبعث معي من بطانة السلطان من أوصلني إليه. فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني، ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئا على مرفقه، وصحاف الطعام تمر بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام خيمته، حلقاً حلقاً. فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام، وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومد يده إلي فقبلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من اين جئت من المغرب؛ ولما جئت؛ فقلت: جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها البحر، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة اربع وثمانين من هذه المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها. فقال لي: وما فعل معك؟ قلت كل خير، بر مقدمي، وأرغد قراي، وزودني للحج، ولما رجعت وفر جرايتي، وأقمت في ظله ونعمته؛ رحمه الله وجزاه. فقال: وكيف كانت توليته إياك القضاء؟ فقلت: مات قاضي المالكية قبل موته بشهر، وكان يظن بي المقام المحمّود في القيام بالوظيفة، وتحري المعدلة والحق، والإعراض عن الجاه، فولاني مكانه، ومات لشهر بعدها، فلم يرض أهل الدولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي: وأين ولدك؟ فقلت: بالمغرب الجواني كاتب للملك الأعظم هنالك. فقال وما معنى الجواني في وصف المغرب؟ فقلت هو في عرف خطابهم معناه الداخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كفه على ساحل البحر الشامي من جنوبه؛ فالأقرب إلى هنا برقه، وإفريقية؛ والمغرب الأوسط: تلمسان وبلاد زناتة؛ والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى
الجواني. فقال لي: وأين مكان طنجة من ذلك المغرب؟ فقلت: في الزاوية التي بين البحر المحيط، والخليج المسمى بالزقاق، وهو خليج البحر الشامي؛ فقال: وسبته؛ فقلت: على مسافة من طنجة على ساحل الزقاق، ومنها التعدية إلى الأندلس، لقرب مسافته، لأنها هناك نحو العشرين ميلا. فقال: وفاس؛ فقلت: ليست على البحر، وهي في وسط التلول، وكرسي ملوك المغرب من بني مرين. فقال: وسجلماسة؟ قلت: في الحد ما بين الأرياف والرمال من جهة الجنوب. فقال: لا يقنعني هذا، وأحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها، أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده. فقلت: يحصل ذلك بسعادتك؛ وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنظفة القطع. ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة، ويحكمونه على أبلغ ما يمكن؛ فأحضرت الأواني منه، وأشار تعرضها علي، فمثلت قائما، وتناولتها وشربت واستطبت؛ ووفي ذلك منه أحسن المواقع؛ ثم جلست وسكتنا، وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية، صدر الدين المناوي، اشره التابعون لعسكر مصر. بشقحب، وردوه؛ فحبس عندهم في طلب الفدية منه؛ فأصابنا من ذلك وجل؛ فزورت في نفسي كلاما أخاطبه به، وأتلطفه بتعظيم أحواله، وملكه. وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيرا من الحدثان في ظهوره، وكان المنجمون المتكلمون في قرانات العلويين يترقبون القران- العاشر في المثلثة الهوائية، وكان يترقب عام ستة وستين من المائة السابعة. فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين بجامع القرويين من فاس، الخطيب أبا علي بن باديس خطيب قسنطينة، وكان ماهرا في ذلك الفن، فسألته عن هذا القران المتوقع، وما هي آثاره؟ فقال لي: يدل على ثائر عظيم في الجانب الشمالي الشرقي، من أمة بادية
أهل خيام، تتغلب على الممالك، وتقلب الدول، وتستولي على أكثر المعمور. فقلت: ومتى زمنه؟ فقال: عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره. وكتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي، طبيب ملك الإفرنج ابن أذفونش ومنجمه. وكان شيخي رحمه الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته في ذلك، أو سابلته عنه يقول: أمره قريب، ولا بذلك إن عشت أن تراه. وأما المتصوفة فكنا نسمع عنهم بالمغرب ترقبهم لهذا الكائن، ويرون إن القائم به هو الفاطمي المشار إليه في الأحاديث النبوية من الشيعة وغيرهم، فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب، إن الشيخ قال لهم ذات يوم، وقد انفتل من صلاة الغداة: إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي، وكان ذلك في عشر الأربعين من المائة الثامنة؛ فكان في نفسي من ذلك كله ترقب له. فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح اليه، ويأنس به مني، ففاتحته وقلت: أيدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك. فقال لي الترجمان عبد الجبار: وما سبب ذلك؛ فقلت: أمران، الأول أنك سلطان العالم، وملك الدنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإني من أهل العلم، وأبين ذلك فأقول: إن الملك إنما يكون بالعصبية، وعلى كثرتها يكون قدر الملك؛ واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد، أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك، وأنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لما اجتمعوا في دينهم على نبئهم، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس، وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك. ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى، أو قيصر، أو الإسكندر، أو بختنصر، أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم؛ وأين الفرس من الترك؟ وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم، وأين الروم من الترك؛ وأما بختنصر فكبير أهل بابل، والنبط. وأين هؤلاء من الترك؟ وهذا برهان ظاهر على ما ادعيته في هذا
الملك. وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمنى لقائه، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب، والأولياء، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي: وأراك قد ذكرت بختنصر مع كسرى، وقيصر، والاسكندر، ولم يكن في عدادهم، لأنهم ملوك اكابر. وبختنصر قائد من قواد الفرس، كما أنا نائب من نواب صاحب التخت، وهو هذا، وأشار إلى الصف القائمين وراءه، وكان واقفا معهم، وهو ربيبه الذي تقدم لنا أنه تزوج أمه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصف أنه خرج عنهم.
فرجع إليّ فقال: ومن أي الطوائف هو بختنصر؛ فقلت: بين الناس فيه خلاف،فقيل من النبط بقية ملوك بابل، وقيل من الفرس الأولى، فقال: يعني من ولد منوشهر قلت نعم هكذا ذكروا، فقال: ومنوشمهر له علينا ولادة من قبل الأمهات. ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه، وقلت له: وهذا مما يجعلني على بني لقائه.
فقال الملك: وأي القولين أرجح عندك فيه؛ فقلت إنه من عقبة ملوك بابل، فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر. فقلت: يعكر علينا رأي الطبري؟ فإنه مؤرخ الأمة ومحدثهم، ولا يرجحه غيره، فقال : وما علينا من الطبري؛ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونناظرك. فقلت: وأنا أيضا أناظر على رأي الطبري، وانتهى بنا القول، فسكت؛ وجاءه الخبر بفتح باب المدينة، وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان، فرفع هن بين أيدينا، لما في ركبته من الداء، وحمل على فرسه فقبض شكائمه، واستوى في مركبه. وضربت الآلات حفافيه حتى ارتج لها الجو. وسار نحو دمشق، ونزل في تربة منجك عند باب الجابية؛ فجلس هناك، ودخل إليه القضاة وأعيان البلد، ودخلت في جملتهم؛ فأشار إليهم بالانصراف، وإلى شاه ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم؛ وأشار إلي بالجلوس، فجلست بين يديه. ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء؛
فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين، وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة، لعلهم يعثرون بالصناعة على منفذه؛ فتناظروا في مجلسه طويلا، ثم انصرفوا، وانصرفت إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك، فأذن فيه. وأقمت في كسر البيت، واشتغلت بما طلب مني في وصف بلد المغرب؛ فكتبته في أيام قليلة، ورفعته إليه فأخذه من يدي، وأمر موقعه بترجمته إلى اللسان المغلى. ثم اشتد في حصار القلعة ونصب عليها الآلات من المجانيق، والنفوط، والعرادات، والنقب؛ فنصبوا لأيام قليلة ستين منجنيقا إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهذم بناؤها من كل جهة، فطلبوا الأمان. وكان بها جماعة من خدام السلطان ومخلفه، فأفنهم السلطان تمر، وحضروا عنده. وخرب القلعة وطمس معالمها، وصادر أهل البلد على قناطير من الأموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلفه صاحب مصر هنالك، من الأموال والظهر والخيام. ثم أطلق أيدي النهابة على بيوت أهل المدينة؛ فاستوعبوا أناسيها، وأمتعتها، واضرموا النار شيما بقي من سقط الأقمشة والخرثي؛ فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب؛ فلم تزل تتوقد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه؛ فسال رصاصه، وتهدمت سقفه وحوائطه، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشناعة والقبح. وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في ملكه ما يشاء. وكان أيام مقامي عند السلطان تمر، خرج إليه من القلعة يوم أمن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر، من ذرية الحاكم العباسي الذي نصبه الظاهر بيبرس؛ فوقف إلى السلطان تمر يسأله النصفة في أمره؛ ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه، فقال له السلطان تمر: أنا أحضر لك الفقهاء والقضاة، فان حكموا لك بشيء أنصفتك فيه، واستدعى الفقهاء والقضاة، واستدعاني فيهم، فحصرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسأل منصب الخلافة، فقال له عبد الجبار: هذا مجلس النصفة فتكلم. فقال. إن هذه الخلافة لنا ولسلفنا، وإن الحديث صح بأن
الأمر لبني العباس ما بقيت الدنيا، يعني أمر الخلافة. وأني أحق من صاحب المنصب الآن بمصر، لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه، وصار إلى هذا بغير مستند؛ فاستدعى عبد الجبار كلا منا في أمره، فسكتنا برهة، ثم قال: ما تقولون في هذا الحديث؟ فقال برهان الدين بن مفلح: الحديث ليس بصحيح. واستدعى ما عندي في ذلك فقلت: الأمر كما قلتم من أنه غير صحيح، فقال السلطان تمر: فما الذي أصار الخلافة لبني العباس إلى هذا العهد في الإسلام؟ وشافهني بالقول، فقلت: أيدك الله! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم، أم لا يجب ذلك؛ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب، ومنهم الخوارج، وذهب الجماعة إلى وجوبه، واختلفوا في مستند ذلك الوجوب؛ فذهب الشيعة كلهم إلى حديث الوصية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ، أوصى بذلك لعليّ، واختلفوا في تنقلها عنه إلى عقبه إلى مذاهب كثيرة تشذ عن الحصر. وأجمع أهل السنة على إنكار هذه الوصية، وأن مستند الوجوب في ذلك إنما هو الاجتهاد، يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحق والفقه والعدل، يفوضون إليه النظر في أمورهم. ولما تعدّدت فرق العلوية وانتقلت الوصية بزعمهم من بني الحنفية إلى بني العباس، أوصى بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وبث دعاته بخراسان. وقام أبو مسلم بهذه الدعوة؛ فملك خراسان والعراق، ونزل شيعتهم الكوفة، واختاروا للأمر أبا العباس السفاح بن صاحب هذه الدعوة؛ ثم أرادوا أن تكون بيعته على إجماع من أهل السنة والشيعة، فكاتبوا كبار الأمة يومئذ، وأهل الحل والعقد، بالحجاز والعراق، يشاورونهم في أمره؛ فوقع اختيارهم كلهم على الرضى به، فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع وإصفاق. ثم عهد بها إلى أخيه المنصور، وعهد بها المنصور إلى بنيه، فلم تزل متناقلة فيهما، إما
بِعَهدٍ أو باختيار أهل العصر، إلى أن كان المستعصم آخرهم ببغداد. فلمّا استولى عليها هولاكو وقتله، افترق قرابته، ولحق بعضهم بمصر، وهو أحمد الحاكم من عقب الراشد، فنصبه الطاهر بيبرس بمصر، بممالأة أهل الحل والعقد من الجند والفقهاء. وانتقل الأمر في بيته إلى هذا الذي بمصر، لا يعلم خلاف ذلك. فقال لهذا الرافع: قد سمعت مقال القضاة، وأهل الفتيا، وظهر أنه ليس لك حق تطلبه عندي. فانصرف راشداً. الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر: كنت لما لقيته، وتليت إليه من السور كما مرّ أشار علي بعض الصحاب ممن يخير أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم؛ فأشار بأن أطرفه ببعض هدية، وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم، فانتقيت من سوق الكتب مصحفا رائعا حسنا في جزء محذو، وسجادة أنيقة، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة لأبوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. وجئت بذلك فدخلت عليه، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه؛ فلمّا رآني مقبلا مثل قائما وأشار إلي عز يمينه؛ فجلست وأكابر مرّ الجقطية حفافية؛ فجلست قليلا، ثم استدرت بين يديه، وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها، وهي بيد خدامي؛ فوضعتها، واستقبلني؛ ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه، قام مبادرا فوضعه على رأسه. ثم ناولته البردة، فسألني عنها وعن ناظمها فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها. ثم ناولته السجادة، فتناولها وقبلها. ثم وضعت علب الحلوى بين يديه، وتناولت منها حرفا على العادة في التأنيس بذلك. ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه، وتقبل ذلك كله، واشعر بالرضى به. ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي، وشأن اصحاب لي هنالك. فقلت ايدك الله! لي كلام اذكره بين يديك، فقال: قل. فقلت أنا غريب بهذه البلاد غربتين، واحدة من
المغرب الذي هو وطني ومنشئي وأخرى من مصر وأهل جيلي بها، وقد حصلت في ظلك، وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي، فقال: قل الذي تريد افعله لك، فقلت: حال الغربة انستني ما أريد، وعساك- أيدك الله- أن تعرف لي ما أريد. فقال: انتقل من المدينة إلى الأردو عندي، وأنا إن شاء الله أوفى كنه قصدك. فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك، فأشار إليه بإمضاء ذلك، فشكرت ودعوت وقلت: وبقيت لي أخرى، فقال: وما هي؛ فقلت: هؤلاء المخلفون عن سلطان مصر. من القراء والموقعين، والدواوين، والعمال، صاروا إلى إيالتك والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير، وعمالاتكم متسعة، وحاجة ملككم إلى المتصرفين في صنوف الخدم أشد من حاجة غيركم، فقال وما تريد لهم؛ قلت: مكتوب أمان يستنيمون إليه، ويعولون في أحوالهم عليه. فقال لكاتبه: أكتب لهم بذلك، فشكرت ودعوت. وخرجت مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الأمان، وختمه شاه ملك بخاتم السلطان، وانصرفت إلى منزلي. ولما قرب سفره واعتزم على الرحيل عن الشام، دخلت عليه ذات يوم، فلما قضينا المعتاد، التفت إلي وقال: عندك بغلة هنا؛ قلت نعم، قال حسنة؛ قلت نعم، قال وتبيعها؛ فأنا اشتريها منك، فقلت أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك، إنما أنا أخدمك بها، وبأمثالها لو كانت لي، فقال: أنا أردت أن أكافئك عنها بالإحسان، فقلت: وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به، اصطنعتني، واحللتني من مجلسك محل خواصك، وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله ان يقابلك بمثله، وسَكَت وسكتُّ وحملت البغلة- وأنا معه في المجلس- إليه، ولم أرها بعد. ثم دخلت عليه يوماً آخر فقال لي: أتسافر إلى مصر؟ فقلت أيَّدك الله، رغبتي إنما هي أنت، وأنت قد آويت وكفلت، فإن كان السفر إلى مصر في خدمتك فنعم، وإلا فلا بغية لي فيه، فقال لا، بل تسافر إلى عيالك واهلك، فالتفت إلى أببه، وكان مسافراً إلى شقحب لمرباع دوابه، واشتغل يحادثه، فقال لي الفقيه عبد الجبار الذي كان يترجم بيننا: إن السلطان يوصي ابنه بك، فدعوت له؛ ثم رأيت أن
السفر مع ابنه غير مستبين الوجهة، والسفر إلى صفد اقرب السواحل إلينا أملك لأمري، فقلت له ذلك؛ فاجاب إليه، وأوصى بي قاصدا كان عنده من حاجب صفد ابن الداويداري، فودعته وانصرفت، واختلفت الطريق مع ذلك القاصد، فذهب عني، وذهبت عنه. وسافرت في جمع من أصحابي؛ فاعترضتنا جماعة من العشير قطعوا علينا الطريق، ونهبوا ما معنا، ونجونا إلى قرية هنالك عرايا. واتصلنا بعد يومين أو ثلاث بالصبيبة فخلفنا بعض الملبوس، واجزنا إلى صفد، فاقمنا بها أياما. ثم مرّ بنا مركب من مراكب ابن عثمان سلطان بلاد الروم، وصل فيه رسول كان سفر إليه عن سلطان مصر، ورجع بجوار رسالته؛ فركبت معهم البحر إلى غزة، ونزلت بها، وسافرت منها إلى مصر، فوصلتها في شعبان من هذه السنة، وهي سنة ثلاث وثمانمائة؛ وكان السلطان صاحب مصر، قد بعث من بابه سفيرا إلى الأمير تمر إجابة إلى الصلح الذي طلب منه؛ فأعقبني إليه. فلما قضى رسالته رجع، وكان وصوله بعد وصولي؛ فبعث إلي مع بعض أصحابه يقول لي: إن الأمير تمر قد بعث معي إليك ثمن البغلة التى ابتاع منك، وهي هذه فخذها، فإنه عزم علينا من خلاص ذمته من مالك هذا. فقلت لا اقبله إلا بعد إذن من السلطان الذي بعثك إليه، وأما دون ذلك فلا. ومضيت إلى صاحب الدولة فأخبرته الخبر فقال وما عليك؛ فقلت إن ذلك لا يجمل بي ان افعله دون اطلاعكم عليه، فاغضى عن ذلك، وبعثوا إلي بذلك المبلغ بعد مدة، واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أعطيه كذلك، وحمدت الله على الخلاص.
وكتبت حينئذ كتاباً إلى صاحب المغرب، عرفته بما دار بيني وبين سلطان الططرتمر، وكيف كانت واقعته معنا بالشام، وضمنت ذلك في فصل من الكتاب نصه:
"وإن تفضلتم بالسؤال عن حال المملوك، فهي خير والحمد لله، وكنت في العام الفارط توجهت صحبة الركاب السلطاني إلى الشام عندما زحف الطَّطَر إليه من بلاد الروم والعراق، مع فلكهم تمر، واستولى على حلب وحماة وحمص وبعلبك،
وخرّبها جميعاً، وعاثت عساكره فيها بما لم يسمع أشنع منه. ونهض السلطان في عساكره لاستنقاذها، وسبق إلى دمشق، وأقام في مقابلته نحواً من شهر؛ ثم قفل راجعاًأ إلى مصر، وتخلف الكثير من أمرائه وقضاته، وكنت في المخلفين. وسمعت أن سلطانهم تمر سأل عني؛ فلم يسع إلا لقاؤه فخرجت إليه من دمشق، وحضرت مجلسه، وقابلني بخير، واقتضيت منه الأمان لأهل دمشق، وأقمت عنده خمسة وثلاثين يوما، أباكره وأراوجه ثم صرفني، وودعني على أحسن حال، ورجعت إلى مصر. وكان طلب مني بغله كنت أركبها فأعطيته إياها، وسألني البيع فتأففت منه، لما كان يعامل به من الجميل، فبعد انصرافي إلى مصر بعث إلي بثمنها مع رسول كان من جهة السلطان هنالك، وحمدت الله تعالى على الخلاص من ورطات الدنيا. وهؤلاء الطَّطَر هم الذين خرجوا من المفازة وراء النهر، بينه وبين الصين، أعوام عشرين وستمائة مع ملكهم الشهير جنكزخان وملك المشرق كله من أيدي السلجوقية ومواليهم إلى عراق العرب، وقسم الملك بين ثلاثة من بنيه وهم جقطاي، وطولي، ودوشي خان: فجفَّطاي كبيرهم، وكان في قسمته تركستان وكاشغر، والصاغون، والشاش وفرغانة، وسائر ما وراء النهر من البلاد. وطولي كان في قسمته أعمال خراسان، وعراق العجم، والري إلى عراق العرب وبلاد فارس وسجستان والسند. وكان أبناؤه: قبلاي، وهولاكو. ودوشي خان كان في قسمته بلاد قبجق، ومنها صراي، وبلاد الترك إلى خوارزم. وكان لهم أخ رابع يسمى أوكداي كبيرهم، ويسمونه وشممونه الخان، ومعناه صاحب التخت، وهو بمثابة الخليفة في ملك الإسلام. وانقرض عقبه، وانتقلت الخانية إلى قبلاي، ثم إلى بني دوشي خان، أصحاب صراي. واستمر ملك الطَّطَر في هذه الدول الثلاث، وملك هولاكو بغداد، وعراق العرب، إلى ديار بكر ونهر الفرات. ثم زحف إلى الشام وملكها، ورجع عنها، وزحف إليها بنوه مرارا، وملوك مصر من الترك يدافعونهم عنها، إلى أن انقرض ملك بني هولاكو أعوام أربعين وسبعمائة،
وملك بعدهم الشيخ حسن النوين وربنوه. وافترق ملكهم في طوائف من أهل دولتهم، وارتفعت نقمتهم عن ملوك الشام ومصر. ثم في أعوام السبعين أو الثمانين وسبعمائة، ظهر في بني جُقفطاي وراء النهر أمير اسمه تيمور، وشهرته عند الناس تضمر، وهو كافل لصبي متصل النسب معه إلى جَقْفطاي في آباء كفلهم ملوك، وهذا تمر بن طرغاي مما هو ابن عمهم، كفل صاحب التخت منهم اسمه محمّودمحمود، وتزوج أمهّ صرغتمش، ومذدَّ يده إلى ممالك التتر كلها؛ لفاستولى عليها إلى ديار بكر، ثم جال في بلاد الروم والهند، وعاثت عساكره في نواحيها، وخرب حصونها ومدنها، في أخبار يطول شرحها. ثم زحف بعد ذلك إلى الشام، ففعل به ما فعل، والله غالب على أمره. ثم رجع آخراً إلى بلاده، والأخبار تتصل بأنه قصد سمرقند، وهي كرسيه. والقوم في عدد لا يسعه الإحصاء، إن قدرت ألف ألف فغير كثير، ولا تقول أنقص، وإن حسخيموا في الأرض ملأوا الساح، وأإن سارت كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء؛ وهم في الغارة والنهب والفتك بأهل العمران، وابتلائهم بأنواع العذاب، على ما يحصلونه من فئاتهم آية عجب، وعلى عادة بوادي الأعراب. وهذا الملك تمر من زعماء الملوك وفراعنتهم، والناس ينسبونه إلى العلم، وآخرون إلى اعتقاد الرفض، لما يرون من تفضيله لأهل البيت، وآخرون إلى انتحال السحر؛ وليس من ذلك كله في شىء؛ إنما هو شديد الفطنة والذكاء، كثير البحث واللجاج بما يعلم وبما لا يعلم، عمره بين الستين والسبعين، وركبته اليمنى عاطلة من سهم أصابه في الغارة أيام صباه على ما أخبرني، فيجرها في قريب المشي، ويتناوله الرجال على الأيدي عند طول المسافة، وهو مصنوع له؛ والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده. ولاية القضاء الثالثة والرابعة والخامسة بمصر: كنت- لما أقمت عند السلطان تمر تلك الأيام التي أقمت- طال مغيبي عن
مصر، وشُيعت الأخبار عني بالهلاك، فقدم للوظيفة من يقوم بها من فُضلاء المالكية، وهو جمال الدين الأقفهسي، غزير الحفظ والذكاء، عفيف النفس عن التصدي لحاجات الناس، ورع في دينه؛ فقلدوه منتصف جمادى الآخرة من السنة. فلما رجعتُ إلى مصر، عدلُوا عن ذلك الرأي، وبدا لهم في أمري؛ فولوني في أواخر شعبان من السنة. واستمررت على الحال إلي كنت عليها من القيام بالحق، والإعراض عن الأغراض، والإنصاف من المطالب؛ ووقع الإنكازرُ عليّ مقمن لا يدين للحق، ولا يعطي النصفة من نفسه؛ فسعوا عند السلطان في ولاية شخص من المالكية يعرف بجمال الدين البساطي، بذل في ذلك لسعاة داخلوه، قطعة من ماله، ووجوها من الأغراض في قضائه. قاتل الله جميعهم؛ فخلعوا عليه أواخر رجب، سنة أربع وثمانمائة. ثم راجع السلطان بصيرته، وانتقد رأيه، ورجع إلي الوظيفة خاتم سنة أربع، فأجريت الحال على ما كان. وبقي الأمر كذلك سنة وبعض الأخرى. وأعادوا البساطي إلى ما كان، وبما كان، وعلى ما كان، وخلعوا عليه سادس ربيع الأول سنة ست وثمانمائة ، ثم أعادوني عاشر شعبان سنة سبع وثمانمائة، ثم أدالوا به مني أواخر ذي القعدة من السنة وبيد الله تصاريف الأمور. تم بحمد الله الكتاب