تاريخ ابن خلدون - الجزء الخامس
تاريخ ابن خلدون، الجزء الخامس.
بسم الله الرحمن الرحيم من صفة3 إلى 178 المجلد الخامس القسم الأول
من تاريخ العلامة ابن خلدون
الخبر عن الدولة السلجوقية من الترك المستولين على ممالك الإسلام ودوله بالمشرق كلها إلى حدود مصر مستبدّين على الخليفة ببغداد من خلافة القائم إلى هذا الزمان وما كان لهم من الملك والسلطان في أقطار العالم وكيف فعلوا بالعلماء وحجروهم وما تفرّع عن دولتهم من الدول قد تقدّم لنا ذكر أنساب الأمم، والكلام في أنساب الترك، وأنهم من ولد كومر بن يافث أحد السبعة المذكورين من بني يافث في التوراة وهم : ماواق وماذاي وماغوغ وقطوبال وماشخ وطيراش. وعدّ ابن إسحق منهم ستة ولم يذكر ماذاي . وفي التوراة أيضاً أنّ ولد كومر ثلاثة : توغرما واشكان وريعات. ووقع في الإسرائيليات أنّ الإفرنج من ريعات ، والصقالبة من اشكان، والخزر من توغرما. والصحيح عند نسّابة الإسرائيليين أن الخزر هم التركمان. وشعوب الترك كلهم من ولد كومر، ولم يذكر من أيّ ولده الثلاثة، والظاهر أنهم من توغرما. وزعم بعض النسابة أنهم من طيراش بن يافث . ونسبهم ابن سعيد إلى ترك بن غامور ين سويل ، والظاهر أنه غلط . وأن غامور تصحيف كما مرّ . وأما سويل فلم يذكر أحد أنه من بني يافث وقد مر ذكر ذلك كله .
(والترك أجناس) كثيرة وشعوب ، فمنهم الروس والإعلان ، ويقال إبلان ، والخفشاخ، وهم القُفجق والهياطلة والخلج والغزُّ الذين منم السلجوقية، والخطا وكانوا بأرض طمعاغ والقور وتزكس واركس والططر ويقال الطغرغر وأنكر، وهم مجاورون للروم . وأعلم أنا هؤلاء الترك أعظم أمم العالم، وليس في أجناس البشر أكثر منهم ومن العرب في جنوب المعمور، وهؤلاء في شماله قد ملكوا عامة الأقاليم الثلاثة من الخامس والسادس والسابع، في نصف طوله مما يلي المشرق . فأول مواطنهم من الشرق على البحر بلاد الصين وما فوقها جنوباً إلى الهُنك ، وما تحتها شمالاً إلى سد يأجوج ومأجوج. وقد قيل انهم من شعوب الترك، وآخر مواطنهم من جهة الغرب بلاد الصقالبة المجاورين للافرنج مما يلي رومة إلى خليج القسطنطينية. وأول مواطنهم من جهة الجنوب بلاد القور المجاورة للنهر ، ثم خراسان واذربيجان وخليج القسطنطينية، وآخرها من الشمال بلاد فرغانة والشاش وما وراءها من البلاد الشمالية المجهولة لبعدها .
وما بين هذه الحدود من بلاد غزنة ونهر جيحون، وما بخفافيه من البلاد، وخوارزم ومفاوز الصين. وبلاد القفجق والروس حفافي خليج القسطنطينية من جهة الشمال الغربي، قد اعتمر لهذه البسائط. منهم أمم لا يحصيهم إلا خالقهم ، رحالة متنقلون فيها مستنجعين مساقط الغيث في نواحيه، يسكنون الخيام المتخذة من اللبود لشدة البرد في بلادهم فقروا عليها.
ومر بديار بكر وخرج إليه صاحبها نصر بن مروان ، وحمل مائة ألف دينار لنفقته، فلما سمع أنه قبضها من الرعايا ردها عليه ثم مر بناهرو وأمنها وأطاف على السور، وجعل يمسحه بيده ويمر بها على خدوده تبركاً بثغر المسلمين . ثم مر بالرُّها وحاصرها فامتنعت عليه . ثم سار إلى حلب فبعث إليه صاحبها محمود ريعول القائد الذي عنده يخبر بطاعته وخطبته، ويستعفيه من الخروج إليه منكراً منه الأذى ، وبحي على خير العمل فقال : لا بد من خروجه. واشتدّ الحصار فخرج محمود ليلاً مع أمه بنت وثاي الهني متطارحاً على السلطان فأكرم مقدمها ، وخلع عليه وأعاده إلى بلده .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
غزاة السلطان ألب أرسلان إلى خلاط وأسر ملك الروم
كان ملك اليوم بالقسطنطينية لهذا العهد اسمه أرمانوس، وكان كثيراً ما يخيف ثغور المسلمين. وتوجه في سنة اثنتين وستين في عساكر كثيرة إلى الشام، ونزل على مدينة منبج واستباحها. وجمع له محمود بن صالح بن مردإس الكلابي وابن حسان الطائي قومهما، ومن إليهم من العرب فهزمتهم الروم. ثم رجع أرمانوس إلى القسطنطينية، واحتشد الروم والإفرنج والروس والكرخ ومن يليهم من العرب والطوائف، وخرج إلى بلاد كرد من أعمال خلاط. وكان السلطان ألب أرسلان بمدينة حوف من اذربيجان، منقلباً من حلب فبعث بأهله وأثقاله إلى همذان مع وزيره نظام الملك، وسار هو في خمسة عشر ألف مقاتل، وتوجه نحوهم متهيأ. ولقيت مقدمته الروس فهزموهم، وجاؤوا بملكهم أسيراً إلى السلطان فجدعه ، وبعث أسلابهم إلى نظام الملك. ثم توجه إلى سمرقند ففارقها التكير، وأرسل في الصلح، ويعتذر عن تومق فصالحه ملك شاه ، وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين مكين، إلى خراسان ثم إلى الريّ .
فتنة قاروت بك صاحب كرمان ومقتله
كان بكرمان قاروت بك أخو السلطان ألب أرسلان أميراً عليها، فلما بلغه وفاة أخيه سار إلى الريّ لطلب الملك فسبقه إليها السلطان ملك شاه، ونظام الملك، ومعهما مسلم بن قريش ومنصور بن دبيس، وأمراء الأكراد. والتقوا على نهرمان، فانهزم قاروت بك وجيء به إلى أمام سعد الدولة كوهراس فقتله خنقاً. وأمر كرمان بسير بنيه ، وبعث إليهم بالخلع، وأقطع العرب والأكراد مجازاةً لما أبلوا في الحرب . وقد كان السلطان ألب رسلان شافعاً فيه على الخليفة فلقيهم خبر وفاة ألب أرسلان في طريقهم، فروا إلى ملك شاه ، وسبق إليه مسلم بطاعته. وأما بهاء الدولة منصور بن دبيس فإن أباه أرسله بالمال إلى ملك شاه، فلقيه سائراً للحرب فشهدها معه.
ثم توفي أياز أخو السلطان ملك شاه ببلخ سنة خمس وستين فكفله ابنه ملك شاه إلى سنة سبع وستين. وتوفي القائم منتصف شعبان منها لخمس وأربعين سنة من خلافته، ولم يكن له يومئذ ولد، وانما كان له حافد، وهو المقتدي عبد الله بن محمد. وكان أبوه محمد بن القائم ولي عهده، وكان يلقب ذخيرة الدين، ويكنى أبا العباس. وتوفي سنة وعهد القائم لحافده ، فلما توفي اجتمع أهل الدولة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك ، والوزير فخر الدولة بن جهير، وابنه عميد الدولة، والشيخ أبو اسحق الشيرازي ونقيب النقباء طراد، وقاضي القضاة الدامغاني فبايعوه بالخلافة لعهد جده إليه بذلك . وأقر فخر الدولة بن جهير على الوزارة ، وبعث ابنه عميد الدولة إلى السلطان ملك شاه لأخذ بيعته، والله الموفق للصواب.
استيلاء السلجوقية على دمشق وحصارها مصر ثم استيلاء تتش ابن السلطان ألب أرسلان على دمشق
قد تقدم لنا ملك انسز الرملة وبيت المقدس وحصاره دمشق سنة احدى وستين، ثم عاد عنها وجعل يتعاهد نواحيها بالعيث والافساد كل سنة. ثم سار اليها في رمضان سنة سبع وستين وحاصرها، ثم عاد عنها، وهرب منها أميرها من قبل المستنصر العلوي صاحب مصر المعلى بن حيدرة، لأنه كثر عسفه بالجند والرعية وظلمه، فثاروا به فهرب إلى بانياس، ثم إلى صور، ثم إلى مصر فحبس ومات بها محبوساً. واجتمعت المصامدة بدمشق، وولي عليهم أنصار بن يحيى المصمودي، ويلقب نصير الدولة. وغلت الأقوات عندهم، واضطربوا فعاد إليها انسز في شعبان سنة ثمان وستين فاستأمنوا إليه، وعوض انتصاراً منها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل، ودخلها في ذي القعدة، وخطب بها للمقتدي، ومنع من النداء بحيّ على خير العمل، وتغلب على كثير من مدن الشام . ثم سار سنة تسع وستين إلى مصر وحاصرها وضيق عليها. واستنجد المستنصر بالبوادي من نواحيها فوعدوه بالنصر. وخرج بدر الجمالي في العساكر التي كانت بالقاهرة وجاء أهل البلاد لميعادهم فإنهزم أنسز وعساكره، ونجا إلى بيت المقدس فوجدهم قد بمخلفه فتحصنوا منه بالمعاقل فافتتحها عليهم عنوة واستباحها ، حتى قتلهم في المسجد. وقد تقدم ضبط هذا الاسم وأنه عند أهل الشأم انسيس، والصحيح انسز، وهو اسم تركي. ثم ان السلطان ملك شاه اقطع أخاه تتش بن ألب أرسلان بلاد الشأم ، وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة ، فقصد حلب أولاً وحاصرها، ومعه جموع من التركمان. وكان بدر الجمالي المستولي على مصر قد بعث العساكر لحصار دمشق، وبها أنسز، فبعث إلى تتش وهو على حلب يستنجده فسار إليه، وأخرت عساكر مصر عنه منهزمين. ولما وصل إلى دمشق قعد انسز على لقائه، وانتظر قدومه فلقيه عند السور، وعاتبه على ذلك فتساهل في العذر فقتله لوقته، وملك البلد، واستولى على الشام أجمع كما سيأتي، وكان يلقب تاج الدولة. ثم سار في سنة اثنتين وسبعين إلى حلب فحاصرها أياماً، وأفرج عنها، وملك مراغة والبيرة، وعاد إلى دمشق. وخالفه مسلم بن قريش إلى حلب فملكها كما تقدم في أخباره وضمنها للسلطان ملك شاه فولاه إياها. وسار مسلم بن قريش فحاصرها آخر سنةأربع وسبعين . ثم أفرج عنها فخرج تتش وقصد طرسوس من الساحل فافتتحها ورجع. ثم حاصرها مسلم ثانية سنة تسع وسبعين. وبلغه أن تاج الدولة تتش سار إلى بلاد الروم غازياً فخالفه إلى دمشق، وحاصرها معه العرب والأكراد. وبعث إليه العلوي صاحب مصر بعده بالمدد. وبلغ الخبر إلى تتش فكر راجعاً، وسبقه إلى دمشق فحاصرها أياماً. ثم خرج اليه تتش في جموعه فهزمه واضطرب أمره، ووصله الخبر بانتقاض أهل حران فرحل من مرج الصفر راجعاً إلى بلاده. ثم سار أمير الجيوش من مصر في العساكر إلى دمشق سنة ثمان وسبعين، وحاصرها فامتنعت عليه، ورجع . فلحقوا بأخيه تُكش في ، فقوي به وأظهر العصيان، واستولى على مرو الروذ ومرو الساهجان وغيرهما، وسار إلى نيسابور طامعاً في ملك خراسان. وبلغ الخبر إلى السلطان فسبقه إلى نيسابور، فرجع تتش وتحصن بترمذ. وحاصره السلطان حتى سأل الصلح وأطلق من كان في أسره من عسكر السلطان، ونزل عن ترمذ وخرج إليه فأكرمه. ثم عاود العصيان سنة سبع وسبعين، وملك مرو الروذ، ووصل قريباً من سرخس وحاصر قلعة هناك لمسعود ابن الأمير فاخر. وتحيل أبو الفتوح الطوسي صاحب نظام، وهو بنيسابور على ملطفة وضعوها على شبه خط نظام الملك، يخاطب فيها صاحب القلعة بأنه واصل في ركاب السلطان ملك شاه، وأنه مصالح للقلعة. وتعرض حاملها لأهل المعسكر حتى أخذوا كتابه بعد الضرب والعرض على القتل . وحدثهم بمثل ما في الصحيفة وأن السلطان وعساكره في الريّ فأجفلوا لوقتهم إلى قلعة
ربح. وخرج أهل الحصن فأخذوا ما في العسكر وجاء السلطان بعد ثلاثة أشهر فحاصره في قلعته حتى افتتحها، وحده ودفعه إلى ابنه أحمد فتسلمه وحبسه ، فخرجا من يمينه معه.
سفارة الشيخ أبي اسحق الشيرازي عن الخليفة: كان الخليفة المقتدي وكان عميد العراق أبو الفتح بن أبي الليث يسيء معاملة الخليفة، فبعث المقتدي الشيخ أبا اسحق الشيرازي إلى السلطان ملك شاه، ووزيره نظام الملك بأصبهان شاكياً من العميد . فسار الشيخ لذلك ، ومعه الإمام أبو بكر الشافي وغيره من الأعيان . ورأى الناس عجباً في البلاد التي يمر بها من إقبال الخلق عليه، وازدحامهم على محفته يتمسحون بها، ويلثمون أذيالها، وينشرون موجودهم عليها من الدراهم والدنانير لأهلها، والمصنوعات لأهل الصنائع، والبضائع للتجار، والشيخ في ذلك يبكي وينتحب . ولما حضر عند السلطان أظهر المحرمة، وأجابه إلى جميع ما طلبه. ورفعت يد العميد عن كل ما يتعلق بالخليفة. وحضر الشيخ مجلس نظام الملك فجرت بينه وبين إمام الحرمين مناظرة خبرها معروف. اتصال بني جهير بالسلطان ملك شاه ومسير فخر الدولة لفتح ديار بكر: كان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير المقتدي قد عزل سنة احدى وسبعين على يد نظام الملك، ولحق به ابنه عميد الدولة واسترضاه فرضي نظام الملك، وشفع إلى الخليفة فاعتمد عميد الدولة دون أبيه كما تقدم في أخبار الخلفاء . ثم أرسل المقتدي سنة أربع وسبعين فخر الدولة إلى ملك شاه يخطب له ابنته، فسار إلى أصبهان وعقد له نكاحها على خمسين ألف دينار معجلة، وعاد إلى بغداد . ثم عزل المقتدي ابنه عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين ، وكانوا قد علقوا بخطة من نظام الملك فبعث عن نفسه وعن ملك شاه يطلب حضور بني جهير عندهم ، فساروا بأهليهم فعظمت حظوظهم عند السلطان . وعقد لفخر الدولة على ديار بكر، وبعث معه العساكر لفتحها من يد بني مروان، وأذن له اتخاذ الآلة وأن يخطب لنفسه ، ويكتب اسمه على السكة فسار في العساكر السلطانية.
استيلاء ابن جهير على الموصل
ولما سار فخر الدولة ابن جهير لفتح ديار بكر، استنجد ابن مروان مسلم بن قريش ، وشرط له
أمراً وتحالفا على ذلك، واجتمعا لحرب ابن جهير. وبعث السلطان الأمير أرتق بن أكسك في العساكر مدداً لابن جهير، فجنح ابن جُهير إلى الصلح، وبادر أرتق إلى القتال فهزم العرب والأكراد، وغنم معسكرهم. ونجا مسلم بن قريش إلى آمد ، وأحاطت به العسكر، فلما اشتد مخنقه راسل الأمير أرتق في الخروج على مال بذله له فقبله ، وكانت له حراسة الطريق فخرج إلى الرقة. وسار ابن جهير إلى ميافارقين، وفارقه منصور بن مزيد وابنه صدقة فعاد منها إلى خلاط. ولما بلغ السلطان انحصار مسلم في آمد بعث عميد الدولة في جيش كثيف إلى الموصل، ومعه آقسنقر قسيم الدولة الذي أقطعه بعد ذلك حلب. وساروا إلى الموصل فلقيهم أرتق، ورجع معهم . ولما نزلوا علىالموصل بعث عميد الدولة إلى أهلها بالترغيب والترهيب فأذعنوا واستولى عليها، وجاء السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش، وقد خلص من الحصار، وهو مقيم قبالة الرحبة فبعث إليه مؤيد الكتاب، ولاطف السلطان واسترضاه، ووفد إليه بالقوارح ، وردّه السلطان إلى أعماله وعاد لحرب أخيه تتش الذي ذكرناه آنفاً.
فتح سليمان بن قطلمش أنْطاكِية والخبر عن مقتله ومقتل مسلم ابن قريش واستيلاء تتش على حلب
كان سليمان بن قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق قد ملك قرسة ، واقصرا وأعمالها، من بلاد الروم إلى الشام . وكانت أنْطاكِية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. وكان ملكها لعهده الفردروس فأساء السيرة إلى جنده ورعاياه، وتنكر لابنه وحبسه فداخل الشحنة في تمكين سليمان من البلد، فاستدعوه سنة سبع وسبعين فركب إليها البحر، وخرج إلى البر في أقرب السواحل إليها في ثلثمائة ألف فارس ورجل كثير. وسار في جبال وأوعار فلما انتهى إلى السور، وأمكنه الشحنة من تسلم السور دخل البلد، وقاتل أهلها فهزمهم، وقتل كثيراً منهم . ثم عفا عنهم وملك القلعة، وغنم من أموالهم ما لا يحصى. وأحسن إلى أهلها وأمر لهم بعمارة ما خرب، وأرسل إلى السلطان ملك شاه بالفتح. ثم بعث إليه مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمل إليه الفردروس ملك انْطاكِية من المال، ويخوفه معصية السلطان فأجابه بتقرير الطاعة للسلطان، وبأن الجزية لا يعطيها مسلم، فسار مسلم ونهب نواحي انْطاكِية ، فنهب سليمان نواحي حلب. ثم جمع سليمان العرب والتركمان، وسار لنواحي انْطاكِية ومعه جماهير التركمان. وجمع سليمان كذلك، والتقيا آخر صفر سنة ثمان وسبعين، وانحاز جق إلى سليمان فانهزمت العرب، وقتل مسلم وسار سليمان بن قطلمش إلى حلب وحاصرها فامتنعت عليه، وأرسل إليه ابن الحثيثي العباسي كبير حلب بالأموال، وطالبه أن يمهل حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودس الى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعيه لملكها فجاء لذلك، ومعه أرسوس أكسك، وكان خائفاً على نفسه من السلطان ملك شاه لفعلته في أمر فاستجار بتتش، وأقطعه المورس، وسار معه لهذه الحرب. وبادر سليمان بن قطلمش إلى اعتراضهم وهم على تعبية. وأبلى أرتق في هذه الحروب، وانهزم سليمان، وطعن نفسه بخنجر فمات، وغنم تتش معسكره، وبعث إلى ابن الحثيثي العباسي فيما استدعاه إليه فاستمهله الى مشورة السلطان ملك شاه، وأغلظ في القول فغضب تتش ، وداخله بعض أهل البلد فتسورها وملكها . واستجار ابن الحثيثي بالأمير أرتق فأجاره وسمع له.
استيلاء ابن جهير على ديار بكر
ثم بعث ابن جهير سنة ثمان وسبعين ابنه زعيم الرؤساء أبا القاسم إلى حصار آمد ، ومعه جناح الدولة اسلار فحاصرها واقتلع شجرها، وضيق عليها حتى جهدهم الجوع. وغدر بعض العامة في ناحية من سورها، ونادى بشعار السلطان ، واجتمع إليه العامة لما كانوا يلقون من عسف العمال النصارى فبادر زعيم الرؤساء إلى البلد، وملكها، وذلك في المحرم. وكان أبوه فخر الدولة محاصراً لميافارقين، ووصل إليه سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد بمدد العساكر فاشتد الحصار، وسقطت من السور ثلمة في سادس جمادى فنادوا بشعار السلطان، ومنعوا ابن جهير من البلد. واستولى على أموال بني مروان، وبعثها مع ابنه زعيم الرؤساء إلى السلطان، فسار مع كوهراس إلى بغداد. ثم فارقه إلى السلطان بأصبهان. ولما انقضى أمر ميافارقين بعث فخر الدولة جيشاً إلى جزيرة ابن عمر فحاصرها، وقام بعض أهلها بدعوة السلطان، وفتحوا مما يليهم باباً قريباً دخل منه العسكر فملكوا البلد. وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر، والبقاء لله. ثم أخذ السلطان ديار بكر من فخر الدولة بن جهير، وسار إلى الموصل فأقام بها إلى أن توفي سنة ثلاث وثمانين. استيلاء السلطان ملك شاه علم حلب وولاية اقسنقر عليها: لما ملك تاج الدولة تتش مدينة حلب، وكان بها سالم بن ملك بن مروان ابن عم مسلم بن قريش، وامتنع بالقلعة وحاصره تتش سبعة عشر يوماً، حتى وصل الخبر بمقدم أخيه السلطان ملك شاه، وقد كان ابن الحثيثي كتب إليه يستدعيه لما خاف من تتش فسار من اصبهان منتصف تسع وسبعين، وفي مقدمته برسق وبدران وغيرهما من الأمراء. ومر بالموصل في رجب. ثم سار إلى هراة وبها ابن الشاطىء فملكها وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، وأقطعه معها مدينة الرحبة وأعمالها وحران وسروج والرقة وخابور، وزوجه أخته زليخا خاتون . ثم سار إلى الرها وافتتحها من الروم، وكانوا اشتروها من ابن عطية كما مر . وسار إلى قلعة جعفر فملكها وقتل من كان بها من بني قشير، وكان صاحبها جعفر أعمى ، وكان يخيف السابلة هو وولده فأزال ضررهم ثم. ملك منبج ، وعبر الفرات إلى حلب فأجفل تتش عن المدينة ودخل ومعه الأمير أرتق. ورجع إلى دمشق فلما وصل السلطان إلى حلب ملكها ، ثم إلى القلعة فملكها من سالم بن ملك على أن يعطيه قلعة جعفر، فلم تزل بيد عقبه إلى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد.ثم بعث إليه نصر بن علي بن منقذ الكناني بالطاعة فأقره على شيزر، وتسلم منه اللاذقية وبعرطاف وجامية ورجع . ثم رجع السلطان بعد أن ولي على حلب قسيم الدولة أقسنقر. ورغب اليه أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فأخرجه عنهم إلى ديار بكر وتوفي بها . ثم رجع السلطان إلى بغداد فدخلها في ذي الحجة من سنته ، ونزل بدار المملكة، وأهدى للخليفة هدايا كثيرة . واجتمع بالخليفة ليلاً. ثم دخل إليه في مجلسه نهاراً وأفيضت عليه الخلع . وسلم أمراء السلجوقية على الخليفة، ونظام الملك قائم يقربهم واحداً واحداً، ويعرف بهم. ثم صرح المقتدي للسلطان ملك شاه بالتفويض، وأوصاه بالعدل فقبل يده ووضعها على عيتيه، وخلع الخليفة على نظام الملك، وجاء إلى مدرسته التي فيها الحديث وأملى.
خبر الزفاف
قد قدمنا أن السلطان ملك شاه زوج ابنته من الخليفة المقتدي سنة أربع وسبعين ، بخطبة الوزير بن جهير، فلما كان سنة ثمانين في المحرم نقل جهازها للزفاف إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي ، أكثرها ذهب وفضة، ومعه ثلاث عماريات ، ومعها أربع وسبعون بغلاً مجللة بأنواع الديباج المكي، وقلائدها الذهب ، وعلى ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة مملوءة بالحلي والجواهر، ومهد عظيم من ذهب. وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة
كوهراس والأمير أرتق وغيرهما من الأمراء، والناس ينثرون عليهم الدنانير والثياب. وبعث الخليفة وزيره أبا شجاع إلى زوجة السلطان تركمان خاتون، ومعه خادمه، ظفر بمحفة لم ير مثلها، ومعهم ثلثمائة من الشمع الموكف ، ومثلها مشاعل. وأوقدت الشموع في دكاكين الحريم الخلافي. وقال الوزير لخاتون : سيدنا أمير المؤمنين يقول : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره فقالت : سمعاً وطاعةً . ومشى بين يديها أعيان الدولة مع كل واحد الشمع والمشاعل، يحملها الفرسان. ثم جاءت المأمون من بعدهم في محفةمجللة عليها من الذهب والجواهر ما لا يحد، ويحيط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك على مراكب رائعة. وأولم الخليفة وليمة لم يسمع بمثلها. ثم أطلع للناس من الغد سماط مائدة عليها أربعون ألفاً من السكر، وخلع على أعيان العسكر، وعلى جميع الحواشي.
استيلاء السلطان ملك شاه على ما وراء النهر: كان صاحب سمرقند لهذا العهد من الخانية أحمد خان بن خضر خان أخي شمس الملك الذي كان أميراً عليها ، وعمته خاتون زوجة ملك شاه. وكان رديء السيرة فبعثوا إلى السلطان يسألونه الرجوع إلى إيالته . وجاء بذلك مفتي سمرقند أبو طاهر الشافعي قدم حاجاً وأسر ذلك إلى السلطان فسار من أصبهان سنة اثنتين وثمانين، ومعه رسول الروم بالخراج المقدر عليهم فاستعجم وأحضر للفتح. ولما انتهى إلى خراسان جمع العساكر وعبر النهر بجيوش لا تحصى، وأخذ ما في طريقه من البلاد. ثم انتهى إلى بخارى فملكها وما جاورها. ثم سار إلى سمرقند فحاصرها، وأخذ بهجتها ثم رماها بالمنجنيق، وثلم سورها ودخل مني الثلمة، وملك البلد. واختفى أحمد خان، ثم جيء به أسيراً فأطلقه، وبعث به الى اصبهان وولى على سمرقند أبا طاهر عميد خوارزم ، وسار الى كاشغر فبلغ الى نور وكمن وبعث الى كاشغر بالخطبة، وضرب السكة فأطاع وحضر عند السلطان فأكرمه وخلع عليه، وأعاده الى بلده. ورجع السلطان الى خراسان. وكان بسمرقند عساكر يعرفون بالحكلية فأرادوا الوثوب بالعميد نائب السلطان، فلاطفهم ولحق ببلده خوارزم. عصيان سمرقند وفتحها ثانيا: كان مقدم الحكلية بسمرقند اسمه عين الدولة ، وخاف السلطان لهذه الحادثة فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر وكانت مملكته تعرف بارياسي فاستحضره وملكه. ثم شكر له يعقوب، وحمل أعداءه من الرعية على طلب الثأر منه، وقتله بفتاوي الفقهاء ، واستبد بسمرقند وسار السلطان ملك شاه إليها سنة اثنتين وثمانين. لما انتهى إلى بخارى هرب يعقوب إلى فرغانة ولحق بولايته. وجاء بعسكره مستأمنين إلى السلطان فلقوه بالطواويس من قرى بخارى، ووصل السلطان إلى سمرقند وولي عليها الأمير انز وأرسل العساكر في طلب يعقوب وأرسل إلى ملك كاشغر بالجّد في طلبه. وشعب على يعقوب عساكره ونهبوا خزائنه، ودخل على أخيه كاشغر مستجيراً به. وبعث السلطان في طلبه منه فتردد بين المخافة والأنفة. ثم غلب عليه الخوف فقبض على أخيه يعقوب وبعثه مع ابنه وأصحابه إلى السلطان، وأمرهم أن يسملوه في طريقه فإن قنع السلطان بذلك وإلا أسلموه إليه، فلما قربوا على السلطان وعزموا على سمله بلغهم الخبر بأن طغرل بن نيال أسرى من ثمانين فرسخاً بعساكر لا تحصى، فكبس ملك كاشغر وأسره فأطلقوا يعقوب . ثم خشي السلطان شأن طغرل بن نيال وكثرة عساكره فرجع على البلد، ودس تاج الملك في استصلاح يعقوب فشفع له، ورده إلى كاشغر، ورد الطغرل ورجع هو إلى خراسان. ثم قدم إلى بغداد سنة أربع وثمانين العزمة الثانية، ووجد عليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب الشام، وقسيم الدولة أقسنقر صاحب حلب، وبوران صاحب الرها وعمال الأطراف وأقام صنيع الميلاد ببغداد، وتأنق بما لم يعهد مثله، وأمر وزيره نظام الملك وأمراءه ببناء الدور ببغداد لنزلهم، ورجع إلى أصبهان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
استيلاء تتش على حمص وغيرها من سواحل الشام
لما قدم السلطان سنة أربع وثمانين، وفد عليه أمراء الشام كما قدمنا، فلما انصرفوا من عنده أمر أخاه تاج الدولة تتش أن يذهب دولة العلويين من ساحل الشام ويفتح بلادهم. وأمر أقسنقر وبوران أن يسيراً لانجاده. فلما رجعوا إلى دمشق سار إلى حمص وبها صاحبها ابن ملاعب، وقد عظم ضرره وضرر ولده على الناس فحاصرها وملكها. ثم سار إلى قلعة عرفة فملكها عنوة، ثم إلى قلعة أفامية فاستأمن إليه خادم كان بها، فأرسل إلى أمراء تتش في إصلاح حاله فسدوا عليه المذاهب، فأرسل إلى وزير اقسنقر يسعى له عند صاحبه، وعمل له على ثلاثين ألف دينار، ومثلها عروضاً فجنح إلى مصالحته، واختلف مع تتش على ذلك، وأغلظ كل منهما لصاحبه في القول فرحل أُقسنقر مغاضباً، واضطر الباقون إلى الرحيل وانتقض أمرهم.
ملك اليمن
كان فيمن حضر عند السلطان ببغداد كما قدمناه عثمان حق أمير التركمان صاحب قرمسيس وغيرها، فأمره السلطان أن يسير في جموع التركمان للحجاز واليمن فيظهر أمرهم هناك. وفوض إلى سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد فولى عليهم أميراً اسمه ترشك. وسار إلى الحجاز فاستولى عليه، وأساء السيرة فيه، حتى جاء أمير الحجاز محمد بن هاشم مستغيثاً منهم. ثم ساروا سنة خمس وثمانين إلى اليمن، وعاثوا في نواحيه، وملكوا عدن، وأساؤا السيرة في أهلها، وأهلكوا ترشك سابع دخولها، وأعاده أصحابه إلى بغداد فدفنوه بها. مقتل الوزير نظام الملك : ثم ارتحل السلطان ملك شاه إلى بغداد سنة خمس وثمانين فانتهى إلى أصبهان في رمضان، وخرج نظام الملك من بيته بعد الإفطار عائداً إلى خيمته فاعترضه بعض الباطنية في صورة متظلم فلما استدناه لسماع شكواه، طعنه بخنجر فأشواه . وعثر الباطني في أطناب الخيام، ودخل نظام الملك الخيمة فمات لثلاثين سنة من وزارته. واهتاج عسكره فركب إليه السلطان وسكن الناس ويقال إن السلطان ملك شاه وضع الباطني على قتله لما وقع منه ومن بنيه من الدالة والتحكم في الدولة. وقد كان السلطان دس على ابنه جمال الدين من قتله سنة خمس وسبعين. كان بعض حواشي السلطان سعى به فسطا به جمال الدين وقتله فأحقد السلطان بذلك، وأخذ عميد خراسان فقتله خنقاً فدس لخادم من خدم جمال الدين بذلك ، وأنهم إذا تولوا قتله بأنفسهم كان أحفظ لنعمتهم فسقاه الخادم سماً ومات.وجاء السلطان إلى نظام الملك وأغراه به. وما زال بطانة السلطان يغضون منه، ويحاولون السعاية فيه إلى أن ولي حافده عثمان بن جمال الملك على مرو، وبعث السلطان إليها كردن من أكابر المماليك والأمراء شحنة. ووقعت بينه وبين عثمان منازعة في بعض الأيام فأهانه وحبسه، ثم أطلقه. وجاء إلى السلطان شاكياً فاستشاط غضباً، وبعث فخر الملك ألب أرسلان الى نظام الملك وأغراه به وما زال يقول: إن كنت تابعاً فقف عند حدك، وإن كنت شريكي في سلطاني فافعل ما بدا لك. وقرر عليه فعل حافده وسائر بنيه في ولايتهم، وأرسل معه نكبرذ من خواصه ثقة على ما يؤديه من القول، ويجيبه الآخر فانبسط لسان نظام الملك يعدد الوسائل منه، والمدافعة عن السلطان، وجمع الكلمة، وفتح الأمصار في كلام طويل حملته عليه الدالة. وقال في آخره إن شاء فله مؤيد مروآتي، ومتى
أطعت هذه زالت تلك فليأخذ حذره.ثم زاد في انبساطه وقال: قولوا عني ما أردتم فإن توبيخكم نتأ في عضدي. ومضى نكبرذ فصدق السلطان الخبر، وجاء الآخرون، وحاولوا الكتمان فلم يسعهم لما وشى نكبرذ بجلية القول فصدقوه كما صدقه. ومات نظام الملك بعدها بقليل، ومات السلطان بعده بنحو شهر. وكان أصل نظام الملك من طوس من أبناء الدهاقين اسمه أبو علي الحسن بن علي بن إسحق ذهبت نعمة آبائه، وماتوا فنشأ يتيماً. ثم تعلم وحذق في العلوم والصنائع، وعلق بالخدم السلطانية في بلاد خراسان وغزنة وبلخ. ثم لازم خدمة أبي علي بن شاذان وزير ألب أرسلان. ومات ابن شاذان فأوصى به السلطان ألب أرسلان. وعرفه كفايته فاستخدمه فقام بالأمور أحسن قيام فاستوزره.ثم هلك السلطان ألب أرسلان وهو في وزارته. ثم استوزره ملك شاه بعد أبيه،وكان عالماً جواداً صفوحاً مكرماً للعلماء وأهل الدين ملازما لهم في مجلسه. شيد المدارس، وأجرى فيها الجرايات الكثيرة. وكان يملي الحديث، وكان ملازماً للصلوات محافظاً على أوقاتها. وأسقط في أيامه كثيراً من المكوس والضرائب، وأزال لعن الاشعرية من المنابر بعد أن فعله الكندوي من قبله وحمل عليه السلطان طغرلبك، وأجراهم مجرى الرافضة وفارق إمام الحرمين، وابو القاسم القشيري البلاد من أجل ذلك، فلما ولي ألب أرسلان حمله نظام الملك على إزالة ذلك، ورجع العلماء إلى أوطانهم. ومناقبه كثيرة، وحسبك من عكوف العلماء على مجلسه، وتدوينهم الدواوين باسمه. فعل ذلك أمام الحرمين وأشباهه. وأما مدارسه فقد بنى النظامية ببغداد، وناهيك بها، ورتب الشيخ أبا إسحق الشيرازي للتدريس بها. وتوفي سنة ست وسبعين فرتب ابنه مؤيد الملك مكانه أبا سعيد المتولي فلم يرضه نظام الملك ؛ وولى فيها الإمام أبا نصر الصباغ صاحب الشامل ومات أبو نصر في شعبان من تلك السنة فولي أبو سعيد من سنة ثمان وسبعين، ومات فدرس بعده الشريف العلوي أبو القاسم الدبوسي ، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وولي تدريسه بعدها أبو عبد الله الطبري ، والقاضي عبد الوهاب الشيرازي بالنوبة يوماً بيوم. ثم ولي تدريسها الإمام أبو حامد الغزالي سنة أربع وثمانين، واتصل حكمها على ذلك. وفي أيامه عكف الناس على العلم واعتنوا به، لما كان من حسن أثره في ذلك والله أعلم.
وفاة السلطان ملك شاه وولاية ابنه محمود: ثم لما سار السلطان بعد مقتل نظام الملك إلى بغداد، ودخلها آخر رمضان، وكان معه في الدولة أبو الفضل الهروستماني وزير زوجته الخاتون الجلالية من الملوك الخانية فيما وراء النهر، وكان
أشد الناس سعاية في نظام الملك، وعزم السلطان أن يستوزره لأول دخوله بغداد فعاقت المنية عن ذلك، وطرقه المرض ثالث الفطر، وهلك منتصف شوال سنة خمس وثمانين. وكانت زوجته تركمان خاتون الجلالية عنده في بغداد، وابنها محمود غائباً في أصبهان فكتمت موته، وسارت بشلوه إلى أصبهان، وتاج الملك في خدمتها. وقدمت بين يديها قوام الدين كربوقا الذي ولي الموصل من بعد، وأرسلته بخاتم السلطان إلى مستحفظ القلعة فملكها، وجاءت على أثره، وقد أفاضت الأموال في الأمراء والعساكر ودعتهم إلى بيعة ولدها محمود، وهو ابن أربع سنين فأجابوا إلى ذلك وبايعوه. وأرسلت إلى المقتدر في الخطبة له فأجابها على أن يكون الأمير أنز قائماً بتدبير الملك، ومجد الملك مشيراً وله النظر في الأعمال والجباية فنكرت ذلك أمه خاتون، وكان السفير أبا حامد الغزالي فقال لها إن الشرع لا يجيز ولاية ابنك فقبلت الشرط، وخطب له آخر شوال سنة خمس وثلاثين، وأرسلت تركمان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق فحبس بأصبهان. وكان السلطان ملك شاه من أعظم ملوك السلجوقية ؛ ملك من الصين إلى الشام، ومن أقصى الشام إلى اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية ومناقبه عظيمة مشهورة .
منازعة بركيارق لأخيه محمود وانتظام سلطانه
كان بركيارق أكبر أولاد السلطان ملك شاه، وكانت أمه زبيدة بنت ياقوتي بن داود، وياقوتي عم ملك شاه. ولما حبس بركيارق وخافت عليه أمه زبيدة دست لمماليك نظام الملك فتعصبوا له، وكانت خاتون غائبة ببغداد مع ابنها محمود لفقد سلطانه فوثب المماليك النظامية على سلاح لنظام الملك بأصبهان. وأخرجوا بركيارق من محبسه، وخطبوا له، وبلغ الخبر إلى خاتون فسارت من بغداد. وطلب العسكر تاج الملك في عطائهم فهرب إلى قلعة بوجين لينزل منها الأموال، وامتنع فيها، ونهب العسكر خزائنه، وساروا إلى أصبهان وقد سار بركيارق والنظامية إلى الريّ فأطاعه أرغش النظامي في عساكره، وفتحوا قلعة طغر عنوة، وبعثت خاتون العساكر لقتال بركيارق فنزع إليه سبكرد وكمستكن الجاندار وغيرهما من أمراء عساكره، ولقيهم بركيارق فهزمهم وسار في أثرهم إلى أصبهان فحاصرهم بها. وكان عز الملك بأصبهان، وكان والياً على خوارزم فحضر عند السلطان قبل مقتل أبيه، وبقي هناك بعد وفاة السلطان فخرج إلى بركيارق، ومعه جماعة من اخوانه فاستوزره بركيارق، وفوض إليه الأمور كما كان أبوه.
مقتل تاج الملك
وهو أبو الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز، كان وزيرا لخاتون وابنها. ولما هرب إلى قلعة بوجين خوفاً من العسكر كما قدمنا، وملكت خاتون أصبهان عاد إليها واعتذر بأن صاحب القلعة حبسه فقبلت عذره وبعثته مع العساكر لقتال بركيارق. فلما انهزموا حمل أسيراً عنده، وكان يعرف كفاءته فأراد أن يستوزره، وكان النظامية ينافرونه ويتهمونه بقتل نظام الملك، وبذل فيهم أموالاً فلم يغنه، ووشوا به فقتلوه في المحرم سنة ست وثمانين. وكان كثير الفضائل جم المناقب ، وإنما غطى على محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك. وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي اسحق الشيرازي والمدرسة بازائها، ورتب بها أبا بكر الشاشي مدرّساً.
مهلك محمود
ثم هلك السلطان محمود وهو محاصر بأصبهان لسنة من ولايته، واستقل بركيارق بالملك. منازعة تتش بن ألب أرسلان وأخباره الى حين انهزامه: كان تاج الدولة تتش أخو السلطان ملك شاه صاحب الشام، وسار إلى لقاء أخيه ملك شاه ببغداد قبيل موته فلقيه خبر موته بهيت فاستولى عليها، وعاد إلى دمشق فجمع العساكر وبذل الأموال، وأخذ في طلب الملك فبدأ بحلب، ورأى صاحبها قسيم الدولة أقسنقر اختلاف ولد ملك شاه وحقرهم فأطاع تاج الدولة تتش، وتبعه في طاعته. وبعث الى باعي يسار صاحب انْطاكِية، وإلى مران صاحب الرها وحران يشير عليهما بمثل ذلك فأجابا وخطبوا لتاج الدولة تتش في بلادهم وساروا معه إلى الرحب فملكها، ثم إلى نصيبين فملكها واستباحها وسلمها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش. وساروا إلى الموصل وقدم عليه الكافي بن فخر الدولة ابن جهير من جزيرة ابن عمر فاستوزره، وكانت الموصل قد ملكها علي بن شرف الدولة مسلم بن قريش، وأمه صفية عمة ملك شاه، وأطلقت تركمان خاتون عمه إبراهيم فجاء، وملك الموصل من يده كما تقدم في أخبار بني المقلد ، فبعث إليه تتش في الخطبة وأن يهيئ له الطريق إلى بغداد فامتنع، وزحف لحربه فانهزم العرب، وسيق إبراهيم أسيراً إلى تتش في جماعة من أمراء العرب فقتلوا صبراً، ونهبت أموالهم، واستولى تتش على الموصل وغيرها. واستناب عليها علي بن مسلم وهو ابن صفية عمة أبيه. وبعث إلى بغداد في الخطبة، ووافقه كوهراس الشحنة، وحرر الجواب بانتظار الرسل من العسكر فسار تتش إلى ديار بكر فملكها. ثم سار الى اذربيجان، وزحف بركيارق يعتذر من سعيه مع تتش فعزله بركيارق بسعاية كمستكن الجاندار بقسيم الدولة، وأقام عوضه شحنة ببغداد الأمير مكرد، وأعطاه أقطاعه، وسار إلى بغداد. ثم رده من دقوقالكلام بلغه عنه وقتله وولى على شحنة بغداد فتكين حب.
مقتل اسمعيل بن ياقوتي
كان اسمعيل بن ياقوتي بن داود بن عم ملك شاه وخال بركيارق أميراً على أذربيجان فبعثت تركمان خاتون إليه فأطمعته في الملك وأنها تتزوج به فجمع جموعاً من التركمان وغيرهم، وسار لحرب بركيارق فلقيه عند كرخ ونزع عنه مكرد إلى بركيارق فانهزم اسمعيل إلى أصبهان فخطبت له خاتون، وضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود. وأرادت العقد معه فمنعها الأمير أنز مدبر الدولة، وصاحب العسكر وخوفهم وفارقهم. ثم أرسل أخته زبيدة أم بركيارق فأصلحت حاله مع ابنها، وقدم عليه فأكرمه. واجتمع به رجال الدولة كمستكن الجاندار وأقسنقر وبوران، وكشفوا سره في طلب الملك. ثم قتلوه وأعلموا بركيارق فأهدر دمه. مهلك توران شاه بن قاروت بك: كان توران شاه بن قاروت بك صاحب فارس، وأرسلت خاتون الجلالية الأمير أنز لفتح فارس سنة سبع وثمانين فهزمه أولاً. ثم أساء السيرة مع الجند فلحقوا بتوران شاه، وزحف إلى أنز فهزمه واسترد البلد من يده، وأصاب توران شاه في المعركة بسهم هلك منه بعد شهرين. وفاة المقتدي وخلافة المستظهر وخطبته لبركيارق: ثم توفي المقتدي منتصف محرم سنة سبع وثمانين، وكان بركيارق قد قدم بغداد بعد هزيمة عمه تتش فخطب له وحملت إليه الخلع فلبسها، وعرض التقليد على المقتدي فقرأه وتدبره وعلم فيه، وتوفي فجأة وبويع لابنه المستظهر بالخلافة فأرسل الخلع والتقليد إلى بركيارق، وأخذت عليه البيعة للمستظهر.
استيلاء تتش على البلاد بعد مقتل أقسنقر ثم هزيمة بركيارق : لما عاد تتش منهزماً من أذربيجان جمع العساكر واحتشد الأمم وسار من دمشق إلى حلب سنة سبع وثمانين، واجتمع قسيم الدولة أقسنقر وبوران، وجاء كربوقا مدداً من عند
بركيارق، وساروا لحرب تتش ولقوه على ستة فراسخ من حلب فهزمهم، وأخذ أقسنقر أسيراً فقتله، ولحق كربوقا وبوران بحلب، واتبعهما تتش فحاصرهما، وملك حلب وأخذهما أسيرين وبعث إلى حران والرها في الطاعة فامتنعوا فبعث إليهم برأس بوران، وملك البلدين، وبعث بكربوقا إلى حمص فحبسه بها. وسار إلى الجزيرة فملكها، ثم إلى ديار بكر وخلاط فملكها، ثم إلى أذربيجان. ثم سار إلى همذان، ووجد بها فخر الدولة بن نظام الملك، جاء من خراسان إلى بركيارق فلقيه الأمير قماج من معسكر محمود بأصبهان فنهب ماله، ونجا إلى همذان فصادف بها تتش فأراد قتله، وشفع فيه باغي بسار، وأشار بوزارته لميل الناس إلى بيته، واستوزره. وكان بركيارق قد سار إلى أقسيس فخالفه تتش إلى أذربيجان وهمذان فسار بركيارق من نصيبين، وعبر دجلة من فوق الموصل إلى إربل. فلما تقارب العسكران أشرف الأمير يعقوب بن أنق من عسكر تتش فكبس بركيارق، وهزمه ونهب سواده، ولم يبق معه إلا برسق وكمستكن الجاندار والبارق من أكابر الأمراء فلجأوا إلى أصبهان، وكانت خاتون أم محمود قد ماتت فمنعه محمود وأصحابه من الدخول. ثم خرج إليه محمود وأدخله إلى أصبهان واحتاطوا عليه، وأرادوا أن يسلموه فرفض محمود فأبقوه.
مقتل تتش واستقلال بركيارق بالسلطان: ثم مات محمود منسلخ شوال سنة سبع وثمانين، واستولى بركيارق على أصبهان. وجاء مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره عوض أخيه عز الملك، وكان قد توفي بنصيبين فكاتب مؤيد الملك الأمراء، واستمالهم فرجعوا إلى بركيارق، وكشف جمعه. وبعث تاج الملك تتش بعد هزيمة بركيارق يوسف بن أفق التركماني شحنة إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخول بغداد. وزحف إليه صدقة بن مزيد صاحب الحلة فقاتله في يعقوب، وانهزم صدقة إلى الحله، ودخل يوسف بن أنق بغداد وأقام بها.وكان تتش لما هزم بركيارق سار إلى همذان، وقد تحصن بها بعض الأمراء فاستأمن إليه، واستولى على همذان وسار في نواحي أصبهان، وإلى مرو. وراسل الأمراء بأصبهان يستميلهم فأجابوه بالمقاربة والوعد، وبركيارق مريض. فلما أفاق من مرضه خرج إلى جرباذقان، واجتمع إليه من العسكر ثلاثون ألفاً، ولقيه تتش فهزمه بركيارق، وقتله بعض أصحاب أقسنقر بثأر صاحبه. وكان فخر الملك بن نظام الملك أسيراً عنده فانطلق عند هزيمته، واستقامت أمور بركيارق وبلغ الخبر إلى يوسف.
استيلاء كربوقا على الموصل
قد كنا قدمنا أن تاج الدولة تتش أسر قوام الدولة أبا سعيد كربوقا، وحبسه بعد ما قتل أقسنقر بوزان فأقام محبوساً بحلب إلى أن قتل تتش، واستولى رضوان ابنه على حلب فأمره السلطان بركيارق بإطلاقه لأنه كان من جهة الأمير انز فأطلقه رضوان، وأطلق أخاه التوسطاش فاجتمعت عليهما العساكر. وكان بالموصل علي بن شرف الدولة مسلم منذ ولاه عليها تتش بعد وقعة المضيع. وكان بنصيبين أخوه محمد بن مسلم، ومعه مروان بن وهب وأبو الهيجاء الكردي، وهو يريد الزحف إلى الموصل فكاتب كربوقا واستدعاه للنصرة، ولقيه على مرحلتين من نصيبين فقبض عليه كربوقا، وسار إلى نصيبين وحاصرها أربعين يوماً وملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه فتحول عنها إلى بلد وقتل بها صمد بن شرف الدولة تغريقاً، وعاد إلى حصار الموصل ونزل منها على فرسخ، واستنجد علي بن مسلم بالأمير مكرس صاحب جزيرة ابن عمر فجاء لانجاده، واعترضه التوسطاش فهزمه. ثم سار إلى طاعة كربوقا، وأعانه على حصار الموصل. ولما اشتد بصاحبه علي بن مسلم الحصار بعد تسعة أشهر هرب عنها، ولحق بصدقة بن مزيد. ودخل كربوقا إلى الموصل وعاث التوسطاش في أهل البلد ومصادرتهم، واستطال على كربوقا فأمر بقتله ثالثة دخوله سنة تسع وثمانين. وسار كربوقا إلى الرحبة فملكها، وعاد فأحسن السيرة في أهل الموصل، ورضوا عنه. واستقامت أموره. استيلاء أرسلان أرغون أخي السلطان ملك شاه على خراسان ومقتله: كان أرسلان أرغون مقيماً عند أخيه السلطان ملك شاه ببغداد، فلما مات وبويع ابنه محمود سار إلى خراسان في سبعة من مواليه، واجتمعت عليه جماعة، وقصد نيسابورفامتنعت عليه فعاد إلى مرو، وكأن بها شحنة الأمير قودر من موالي السلطان ملك شاه، وكان أحد الساعين في قتل
نظام الملك فمال إلى طاعة أرغون، وملكه البلد. وسار إلى بلخ، وكان بها فخر الدين بن نظام الملك ففر عنها، ووصل إلى همذان ووزر لتاج الدولة تتش كما مر. وملك أرسلان أرغون بلخ وترمذ ونيسابور وسائر خراسان، وأرسل إلى السلطان بركيارق وزيره مؤيد الملك في تمرير خراسان عليه بالضمان كما كانت لجده داود ما عدا نيسابور فاعرض عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش. ثم عزل بركيارق مؤيد الملك عن الوزارة بأخيه فخر الملك.واستولى فخر الملك ألب أرسلان على أمور فقطع أرسلان مراسلة بركيارق،فبعث حينئذٍ عمه بورسوس في العساكر لقتاله فانهزم أرسلان إلى بلخ، واقام بورسوس بهراة، وسار أرسلان إلى مرو وفتحها عنوة وخربها واستباحها. وسار إليه بورسوس من هراة سنة ثمان وثمانين، وكان معه مسعود بن تاخر الذي كان أبو مقدم عساكر داود، ومعه ملك شاه من أعاظم الأمراء فبعث إليه أرسلان واستماله فمال إليه، ووثب لمسعود بن تاخر وابنه فقتلهما في خيمته فضعف أمر بورسوس وانفض الناس عنه، وجيء به أسيراً إلى أخيه أرسلان أرغون فحبسه بترمذ. ثم قتله في محبسه بعد سنة. وقتل أكابر خراسان، وخرب أسوارها: مثل سودان ومرو الشاهجان وقلعة سرخس ونهاوند ونيسابور، وصادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك على ثلثمائة ألف دينار. ثم قتله واستبد بخراسان، وكان مرهف الحد كثير العقوبة لمواليه، وأنكر على بعضهم يوماً بعض فعلاته وهو في خلوة، وضربه فطعنه الغلام بخنجر معه فقتله، وذلك في المحرم من سنة تسعين.
ولاية سنجر على خراسان: ولما قتل أرسلان أرغون ملك أصحابه من بعده صبياً صغيراً من ولده، وكان السلطان بركيارق قد جهز العساكر لخراسان للقتال ومعه الآتابك قماج، ووزيره علي بن الحسن الطغرائي. وانتهى إليه مقتل أرسلان بالدامغان فاقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق، وساروا إلى نيسابور فملكها في جمادى سنة تسعين وأربعمائة، وملك سائر خراسان، وسار إلى بلخ. وكان أصحاب أرسلان قد هربوا بابنه الذي نصبوه للملك إلى جبل طخارستان، وبعثوا يستأمنون له ولهم فأمنهم السلطان، وجاؤا بالصبي في آلاف من العساكر فأكرمه السلطان، وأقطعه ما
كان لأبيه أيام ملك شاه، وانفض عنه المعسكر الذين كانوا معه، وافترقوا على أمراء السلطان، وأفردوه فضمته أم السلطان إليها، وأقامت من يتولى رتبته، وسار السلطان إلى ترمذ فملكها، وخطب له بسمرقند، ودانت له البلاد، وأقام على بلخ سبعة أشهر. ثم رجع وترك أخاه سنجر نائباً بخراسان.
ظهور المخالفين بخراسان: لما كان السلطان بخراسان خالف عليه محمود بن سليمان من قرابته، ويعرف بأمير أميران. وسار إلى بلخ واستمد صاحب غزنة من بني سبكتكين فأمّده بالعساكر والخيول، على أن يخطب له فيما يفتح من خراسان فقويت شوكته، فسار إليه الملك سنجر، وكبسه فانهزم وجيء به اسيراً فسمله. ولما انصرف السلطان عن خراسان سار نائب خوارزم واسمه اكنجي في اتباعه، وسبق إلى مرو فتشاغل بلذاته ، وكان بها الأمير تورد قد تشاغل عن السلطان، واعتذر بالمرض فداخل بارقطاش من الأمراء في قتل أكنجي صاحب خوارزم فكبسه في طائفة من أصحابه، وقتلوه وساروا إلى خوارزم فملكوها مظهرين أن السلطان ولاهما عليها. وبلغ الخبر إلى السلطان، وكان قد بلغه في طريقه خروج الأمير أنز بفارس عن طاعته فمضى إلى العراق، وأعاد داود الحبشي ابن التونطاق في العساكر لقتالهما فسار إلى العراق من هراة، وأقام في انتظار العسكر فعاجلاه فهرب أمامهما. وهرب جيحون، وتقدم بارقطاش قبل تودن وقاتله فهزمه داود وأسره، وبلغ الخبر إلى تودن فثار به عسكره ونهبوا اثقاله، ولحق بسنجار فقبض عليه صاحبها. ثم أطلقه فلحق بالملك سنجر ببلخ فقتله سنجر، وأفرغ هو طاعته في نظمه، وجمع العساكر على طاعته. ثم مات قريباً وبقي بارقطاش أسيراً عند داود إلى أن قتل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
دولة بني خوارزم شاه
بداية دولة بني خوارزم شاه كان أبو شكين مملوكاً لبعض أمراء السلجوقية، واشتراه من بعض أهل غرشقان فدعي أبا شكين غرشه، ونشأ على حال مرضية، وكان مقدماً. وولد له ابنه محمد فاحسن تأديبه، وتقدم هو بنفسه. ولما سار الأمير داود الحبشي إلى خراسان كما مر سار محمد في جملته فلما مهد
خراسان، وأزال الخوارج نظر فيمن يوليه خوارزم ، و كان نائبها أكنجي قد قتله كما مر، فوقع اختياره على محمد بن أبي شكين فولاه، ولقبه خوارزم شاه فحسنت سيرته، وارتفع محله. وأقره السلطان سنجر وزاده عناية بقدر كفايته واضطلاعه. وغاب في بعض الايام عن خوارزم فقصدها بعض ملوك الأتراك. وكان طغرلتكين محمد الذي كان أبوه أكنجي نائباً بخوارزم، وبادر محمد بن أبي شكين إلى خوارزم بعد ان استمد السلطان سنجر، وسار بالعساكر مدداً له. وتقدم محمد بن ابي شكين فتأخر الأتراك إلى منقشلاع. ورحل طغرلتكين إلى جرجان، وازداد محمد بذلك عناية عند سنجر. ولما توفي ولي ابنه بعده أقسز ، وأحسن السيرة. وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه ، وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاع. ولما توفي اختصه السلطان سنجر، وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه. واتصل الملك في بني محمد بن أبي شكين خوارزم، وكانت لهم الدولة. وتمت دولة بني ملك شاه، وعليها كان ظهور الططر بعد المائة السادسة ومنهم أخذوا الملك كما سيأتي في أخبارهم.
استيلاء الإفرنج على انْطاكِية وغيرها من سواحل الشام: كان الإفرنج قد ظهر أمرهم في هذه السنين، وتغلبوا على صقلية، واعتزموا على فصد الشام، وملك بيت المقدس. وأرادوا المسير إليها في البر فراسلوا ملك الروم. بالقسطنطينية أن يسهل لهم الطريق إلى الشام فأجابهم على أن يعطوه انْطاكِية، فعبروا خليج القسطنطينية سنة تسعين وأربعمائة. وسار أرسلان بن سليمان بن قطلمش صاحب مرقية وبلاد الروم لمدافعتهم فهزموه. ثم مروا ببلاد ابن ليون الأرمني ووصلوا الى انْطاكِية فحاصروها تسعة أشهر وصاحبها يومئذ باغي سياه فأحسن الدفاع عنها. ثم تبوؤا البلد بمداخلة بعض الحامية، أصعدهم السور بعد أن رغبوه بالأموال والاقطاع . وجاؤوا إلى السور فدلهم على بعض المخادع ودخلوا منه، ونفخوا البوق فخرج باغي سياه هارباً ، حتى إذا كان على أربعة فراسخ راجع نفسه، وندم فسقط مغشياً عليه. ومر به أرمني فحمل رأسه الى انْطاكِية، وذلك سنة احدى وتسعين وأربعمائة.واجتمعت عساكر المسلمين، وزحفوا الى انْطاكِية من كل ناحية ليرتجعوها من الإفرنج وجاء قوام الدين كربوقا إلى الشام، واجتمعت عليه العساكر بمرج دابق فكان معه: دقاق بن تتش وطغرلتكين أتابك، وجناح الدولة صاحب حمص، وأرسلان تاش صاحب سنجار، وسقمان بن أرتق
وغيرهم. وساروا الى انْطاكِية فنازلوها واستوحش الامراء من كربوقا، وأنفوا من ترفعه عليهم. وضاق الحصار بالإفرنج لعدم الاقوات، لاّن المسلمين عاجلوهم عن الاستعداد فاستأمنوا كربوقا فمنعهم الأمان، وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل وكمدمري والقمص صاحب إليها، وسمند صاحب انْطاكِية، وهو مقدم العساكر فخرجوا مستأمنين وضربوا مصياف، وتخاذل الناس لما كان في قلوبهم من الأضغان لكربوقا فتمت الهزيمة عليهم. وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، واستشهد منهم العرب، وغنم العدو سوادهم بما فيه. وساروا إلى معرة النعمان فملكوها وأفحشوا في استباحتها. ثم ساروا الى غزة فحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم. وصالحهم ابن منقذ على بلدة شيزر، وحاصروا حمص فصالحهم صاحبها جناح الدولة. ثم ساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان هذا بداية الإفرنج بسواحل الشام. ويقال انّ المصريين استنابوا رجلاً يعرف بافتخار الدولة، من خلفاء العميد بن نصر، لما خشوا من السلجوقية عند استيلائهم على الشام إلى غزة، وزحف الاقسيس من أمرائهم إلى مصر وحاصرها فراسلوا الإفرنج، واستدعوهم لملك الشام لينشلوهم عن أنفسهم، ويحولوا بينهم وبين مصر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتقاض الأمير انز وقتله: لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى على بلاد فارس الأمير انز، وكانت قد تغلبت الشوانكار، واستظهروا بإيران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان. فلما سار إليهم انز قاتلوه فهزموه، ورجع إلى أصبهان فاستأذن السلطان فأمره بالمقام هناك، وولاه امارة العراق. وكانت العساكر في جواره بطاعته، وجاء مؤيد الملك بن نظام الملك من بغداد على الحلة، فأغراه بالخلاف وخوفه غائلة بركيارق، وأشار عليه بمكاتبة محمد بن ملك شاه وهو في كنجة. وشاع عنه ذلك فازداد خوفه، وجمع العساكر، وسار من أصبهان إلى الريّ . وجاهر السلطان بالخلاف، وطلب منه أن يسلم إليه فخر الملك ألب أرسلان. وبينما هو في ذلك إذ هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم من جنده فطعنوه فقتلوه، واهتاج عسكره فنهبوا خزائنه، وحمل شلوه إلى أصبهان فدفن بها. وأشهر خبر قتله وحمله إلى السلطان في أحواز الريّ وهو سائر لقتاله فسر بذلك هو وفخر الملك ألب أرسلان، وذلك في سنة ثنتين وتسعين. وكان محمود المذاهب كبيرالمناقب ولما
قتل هرب اصهنرصبار إلى دمشق فأقام بها مدة. ثم قدم على السلطان محمد سنة إحدى وخمسمائة فأكرمه وأقطعه رحبة مالك بن طوق.
استيلاء الإفرنج على بيت المقدس
كان بيت المقدس لتاج الدولة تتش ، وأقطعه الأمير سقمان بن أرتق التركماني، وكان تتش ملكه من يد العلويين أهل مصر. فلما وهن الأتراك بواقعة أنْطاكِية طمع المصريون في ارتجاعه. وسار صاحب دولتهم الأفضل بن بدر الجمالي ، وحاصر الأمير سقمان وأخاه ايلغازي وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج ، ونصب المجانيق فثلموا سوره، ثم ملكوه بالأمان لأربعين يوماً من حصاره في شعبان سنة تسع وثمانين وأحسن الأفضل إلى سقمان وايلغازي ومن معهما، وأطلقهم فأقام سقمان ببلد الرها. وسار ايلغازي إلى العراق وولى الافضل على بيت المقدس افتخار الدولة من أمرائهم، ورجع إلى مصر فلما رجع الإفرنج من عكا وجاؤوا إلى بيت المقدس فحاصروه أربعين يوماً واقتحموه من جهة الشمال آخر شعبان من سنة اثنتين وتسعين، وعاثوا في أهله. واعتصم ففهم بمحراب داود عليه السلام ثلاثاً حتى استأمنوا، وخرجوا ليلاً إلى عسقلان .وقتل بالمسجد سبعون ألفاً أو يزيدون من المجاورين: فيهم العلماء والزهاد والعباد، وأخذوا نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة، زنة كل واحد ثلاثة آلاف وستمائة درهم، ومائة وخمسين قنديلاً من الصفار، وتنورا من الفضة زنته أربعون رطلاً بالشامي، وغير ذلك مما لا يحصى ووصل الصريخ إلى بغداد مستغيثين فأمر المقتدي أن يسير إلى السلطان بركيارق أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي وأبو القاسم الزنجاني، وأبو الوفاء بن عقيد، وأبو سعد الحلواني، وأبو الحسين بن السماك. فساروا إلى بركيارق يستصرخونه للمسلمين فانتهوا الى حلوان، وبلغهم مقتل مجد الملك ألب أرسلان، وفتنة بركيارق مع أخيه محمد فرجعوا، وتمكن الإفرنج من البلاد. ونحن عازمون على إفراد أخبارهم بالشام، وما كان لهم فيه من الدولة على حكم أخبار الدول في كتابنا.
ظهور السلطان محمد بن ملك شاه والخطبة له ببغد اد وحروبه مع أخيه بركيارق
كان محمد وسنجر شقيقين، وكان بركيارق استعمل سنجر على خراسان . ثم لحق به محمد بأصبهان وهو يحاصرها سنة ثمان وثمانين فأقطعه كنجة وأعمالها، وأنزل معه الأمير قطلغ تكين أتابك، وكانت كنجة من أعمال ارّان وكانت لقطون فانتزعها ملك شاه، وأقطعه استراباذ. وولى على ازان: سرهناسا، وتكين الخادم. ثم ضمن قطون بلاده وأعيد إليها. فلما قوي رجع إلى العصيان فسرح إليه ملك شاه الأمير بوزان فغلبه على البلاد وأسره، ومات ببغداد سنة أربع وثمانين. وأقطع ملك شاه بلاد ازان لأصحاب باغي سيان صاحب أنْطاكِية. ولما مات باغي سيان رجع ابنه إلى ولاية أبيه. ثم أقطع السلطان بركيارق كنجة وأعمالها لمحمد كما قلناه سنة ست وثمانين. ولما اشتدا واستفحل قتل اتابك قطلغ تكين، واستولى على بلاد أران كلها ولحق مؤيد الملك عبد الله بن نظام الملك بعد مقتل صاحبه أنز فاستخلصه وقربه، وأشار عليه مؤيد الملك فطلب الأمر لنفسه فخطب له بأعماله واستوزر مؤيد الملك. وقارن ذلك مقتل مجد الملك البارسلاني المتغلب في دولة بركيارق فاستوحش أصحابه لذلك، ونزعوا إلى محمد وساروا جميعاً إلى الريّ، وكان بركيارق قد سبقهم إليها. واجتمع إليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي من أكابر الأمراء، وعز الملك بن نظام الملك. ولما بلغه مسير أخيه محمد إليه رجع إلى أصبهان فمنعوه من الدخول فسار إلى خوزستان وملك محمد الريّ في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين، ووجد بها زبيدة أم بركيارق قد تخلفت عن ابنها فحبسها مؤيد الملك وصادرها. ثم قتلها خنقاً بعد ان تنصح له أصحابه في شأنها فلم يقبل. وكان سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد قد استوحش من بركيارق، فاتفق هو وكربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، وسرخاب بن بدر صاحب كنكسون، وساروا إلى السلطان محمد بقم فخلع عليهم ورد كوهراس إلى بغداد في شأن الخطبة فخطب له بالخليفة، ولقبه حياة الدين والدنيا وسار كربوقا وجكرمش مع السلطان محمد إلى أصبهان والله سبحانه وتعالى أعلم. مقتل البارسلاني: كان أبو الفضل سعد الباسلاني ويلقب مجد الملك متحكماًعند السلطان بركيارق، ومتحكماً في دولته. ولما فشا القتل في أمرائه من الباطنية استوحشوا، ونسبوا ذلك للباسلاني وكان من أعظم من قتل منهم الأمير برسق فاتهم ابنه زنكي وأقبورني الباسلاني في قتله، ونزعوا عن بركيارق إلى السلطان محمد فاجتمع الأمراء، ومقدمهم أمير الحيرة لكابك وطغابرك من الروز، وبعثوا
إلى بني برسق يستدعونهم للطلب بثار أبيهم، فجاؤوا واجتمعوا قريباً من همذان، ووافقهم العسكر جميعاً على ذلك، وبعثوا إلى بركيارق يطلبون البارسلاني فامتنع، وأشار عليه البارسلاني بإجابتهم لئلا يفعلوا ذلك بغير رأي السلطان فيكون وهنأ على الدولة، فاستحلفهم السلطان فدفعه إليهم فقتله الغلمان قبل أن يتصل بهم، وسكنت الفتنة، وحمل رأسه إلى مؤيد الملك. واستوحش الأمراء لذلك من بركيارق وأشاروا عليه بالعودة إلى الريّ، ويكفونه قتال أخيه محمد فعاد متشاغلاً، ونهبوا سرادقه وساروا إلى أخيه محمد، ولحق بأصبهان. ثم لحق رستاق كما تقدّم. إعادة الخطبة ببغداد لبركيارق: ولما سار بركيارق إلى خوزستان ومعه نيال بن أبي شكين الحسامي مع عسكره، سار من هنالك إلى واسط، ولقيه صدقة بن مزيد صاحب الحلة. ثم سار إلى بغداد، وكان سعد الدولة كوهراس الشحنة على طاعة محمد، فخرج عن بغداد، ومعه أبو الغازي بن أرتق وغيره، وخطب لبركيارق ببغداد منتصف صفر سنة ثلاث وتسعين، بعد أن فارقها كوهراس وأصحابه. وبعثوا إلى السلطان محمد ومؤيد الملك يستحثونهما فأرسلا إليهم كربوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر يستكثرون بهم في المدافعة. وطلب جكرمش من كوهراس السير لبلده خشية عليها فأذن له. ثم يئس كوهراس وأصحابه من محمد فبعثوا إلى بركيارق بطاعتهم فخرج إليهم واسترضاهم، ورجع إلى بغداد وقبض على عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة، وطالبه بما أخذ هو وأبوه من الموصل وديار بكر أيام ولايتهم عليها، فصادرهم على مائة وستين ألف دينار. واستوزر الأغر أبا المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني، وخلع الخليفة على بركيارق. المصاف الأول بين بركيارق ومحمد ومقتل كوهراس وهزيمة بركيارق والخطبة لمحمد: ثم سار بركيارق من بغداد لحرب أخيه محمد، ومر بشهرزور فاجتمع إليه عسكر كثير من التركمان، وكاتب رئيس همذان يستحثه فركب وسار للقاء أخيه على فراسخ من همذان في أول رجب من سنة ثلاث وتسعين، وفي ميمنته كوهراس وعزّ الدولة بن صدقة بن مزيد وسرحاب
ابن بدر، وفي ميسرته كربوقا. وفي ميمنة محمد بن اضر وابنه أياز وفي ميسرته مؤيد الملك والنظامية. ومعه في القلب أمير سرخو شحنة أصبهان. فحمل كوهراس من الميمنة على مؤيد الملك والنظامية فهزمهم، وانتهى إلى خيامهم فنهبها. وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزموا. وحمل محمد على بركيارق فهزمه، ووقف محمد مكانه، وعاد كوهراس من طلب المنهزمين فكبا به فرسه فقتل. وجيء بالأغر أبي المحاسن يوسف وزير بركيارق أسيراً فأكرمه مؤيد الملك، ونصب له خيمة، وبعثه الى بغداد في الخطبة لمحمد فخطب له منتصف رجب من السنة. وكانت أولية سعد الدولة كوهراس أنه كان خادما للملك ابي كالينجار بن بويه، وجعله في خدمة ابنه أبي نصر. ولما حبسه طغرلبك مضى معه إلى قلعة طغرل، فلما مات انتقل إلى خدمة السلطان ألب أرسلان، وترقى عنده، وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد، وحضر يوم قتله فوقاه بنفسه. ثم أرسله ملك شاه إلى بغداد في الخطبة، وجاء بالخلع والتقليد، وحصل له من نفوذ الأمر واتباع الناس ما لم يحصل لغيره، إلى أن قتل في هذه المعركة وولي شحنة بغداد بعده ايلغازي بن أُرتق. مسير بركيارق إلى خراسان وانهزامه من أخيه سنجر ومقتل الأمير داود حبشي أمير خراسان: لما انهزم بركيارق من أخيه محمد خلص في الفلّ إلى الريّ، واجتمع له جموع من شيعته فسار إلى خراسان، وانتهى إلى اسفراين . وكتب الأمير داود حبشي إلى التونطاق يستدعيه من الدامغان، وكان أميراً على معظم خراسان، وعلى طبرستان وجرجان فأشار عليه بالمقام بنيسابور فقصدها. وقبض على عميدها أبي محمد وأبي القاسم بن إمام الحرمين. ومات أبو القاسم في محبسه مسموماً. ثم زحف سنجر إلى الأمير داود فبعث إلى بركيارق يستدعيه لنجدته، فسار إليه والتقى الفريقان بظاهر بوشنج وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته الأمير كوكر. ومعه في القلب الأمير رستم فحمل بركيارق على رستم فقتله، وانقض الناس على سنجر، وكاد ينهزم. وأخذ بركيارق أم سنجر أسيرة، وشغل أصحاب بركيارق بالنهب فحمل علي برغش وكوكر فانهزموا، واستمرت الهزيمة على بركيارق، وهرب الأمير داود فجيء به إلى برغش أسيراً
فقتله. وسار بركيارق إلى جرجان، ثم إلى الدامغان، ودخل البرية. ثم استدعاه أهل أصبهان، وجاءه جماعة من الأمراء منهم جاول صباوو، وسبقه محمد إلى أصبهان فعدل عنها إلى عسكر مكرم. المصاف الثاني بين بركيارق ومحمد وهزيمة محمد وقتل وزيره مؤيد الملك والخطبة لبركيارق: لما انهزم بركيارق أمام سنجر سنة ثلاث وتسعين، وسار إلى أصبهان فوجد أخاه محمداً قد سبقه إليها فعدل عنها إلى خوزستان، ونزل إلى عسكر مكرم. وقدم عليه هناك الأميران زنكي والبكي ابنا برسق سنة أربع وتسعين، وساروا معه إلى همذان. وهرب إليه الأمير اياز في خمسة آلاف من عسكر محمد، لأن صاحب أميراً ضراً مات في تلك الأيام، وظنوا أن مؤيد الملك دس عليه وزيره فسمه. وكان اياز في جملة أمير أضر فقتل الوزير المتهم، ولحق بركيارق. ثم وصل إليه سرخاب بن كنجر وصاحباه فاجتمع له نحو من خمسين ألف فارس. ولقيه محمد في خمسة عشر ألفاً، واستأمن أكثرهم إلى بركيارق يوم المصاف أول جمادى الأخيرة سنة أربع وتسعين. واستولت الهزيمة على محمد، وجيء بمؤيد الملك أسيراً فوبخه ثم قتله بيده، لأنه كان سيئ السيرة مع الأمراء كثير الحيل في تدبير الملك. ثم بعث الأغرّ أبو المحاسن وزير بركيارق أبا إبراهيم الاستراباذي لاستقصاء أموال مؤيد الملك وذخائره ببغداد، فحمل منها ما لا يسعه الوصف. يُقال انه وجد في ذخائره ببلاد العجم قطعة بلخش زنتها أربعون مثقالاً واستوزر محمد بعده خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين. ثم سار السلطان بركيارق إلى الريّ، ووفد عليه هنالك كربوقا صاحب الموصل ودبيس بن صدقة، وأبوه يومئذ صاحب الحلة. وسار السلطان قافلاً الى جرجان، وبعث الى أخيه سنجر يستجديه فبعث إليه ما أقامه. ثم طلبه في المدد فسار اليه سنجر من خراسان. ثم سارا جميعاً الى الدامغان فخرباها، وسار إلى الريّ،
واجتمعت عليه النظامية وغيرهم فكثرت جموعهم. وكان بركيارق بعد الظفر قد فرق عساكره لضيق الميرة، ورجع دبيس بن صدقة الى أبيه. وخرج باذربيجان داود بن اسمعيل بن ياقوتي فبعث لقتاله قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف، واستأذنه اياز في المسير إلى ولايته بهمذان، ويعود بعد الفطر فبقي في قلة من العساكر. فلما بلغه قرب أخيه محمد وسنجر اضطرب حاله، وسار إلى همذان ليجتمع مع اياز فبلغه أنه قد راسل أخاه محمداً وأطاعه فعاد إلى خوزستان. ولما انتهى الى تستر استدعى ابن برسق، وكان من جملة أياز فلم يحضر، وتأخر فأمنه فسار نحو العراق، فلما بلغ حلوان لحق به اياز، وكان راسل محمدا فلم يقبله. وبعث عساكره إلى همذان، فلحق بهمذان اياز. وأخذ محمد محلة اياز بهمذان وكانت كثيرا من كل صنف وصودر أصحابه بهمذان بمائة ألف دينار. وسار بركيارق و اياز إلى بغداد فدخلها منتصف ذي القعدة من سنة أربع وتسعين، وطلب من الخليفة المال للنفقة فبعث إليه بعد المراجعة بخمسين ألف دينار. وعاث أصحاب بركيارق في أموال الناس وضجروا منه ووفد عليه أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن المصلحية قاضي جبلة من سواحل الشام منهزماً من الإفرنج بأموال جليلة المقدار فأخذها بركيارق منه. وقد تقدم خبر ابن المصلحية في دولة العباسيين. ثم بعث وزير بركيارق الأغر بالمحاسن إلى صدقة بن مزيد صاحب الحلة في ألف ألف دينار، يزعم أنها تخففت عنده من ضمان البلاد، وتهدده عليها فخرج عن طاعة بركيارق، وخطب لمحمد أخيه. وبعث إليه بركيارق في الحضور والتجاوز عن ذلك. وضمن له اياز جميع مطالبه فأبى إلا أن يدفع الوزير، واستمر على عصيانه، وطرد عامل بركيارق عن الكوفة واستضافها إليه. مسير بركيارق عن بغد اد ودخول محمد وسنجر إليها: ولما استولى السلطان محمد، وأخوه سنجر على همذان، سار في اتباع بركيارق إلى حلوان فقدم عليه هنالك أبو الغازي ابن أرتق في عساكره وخدمه، وكثرت جموعه فسار إلى بغداد، وبركيارق عليل بها فاضطرب أصحابه، وعبروا به إلى الجانب الغربي. ووصل محمد إلى بغداد آخر سنة
أربع وتسعين، وتراءى الجمعان بشاطئ دجلة، وجرت بينهم المراماة والنشاب، وكان عسكر محمد ينادون عسكر بركيارق يا باطنية. ثم سار بركيارق الى واسط ونهب عسكره جميع ما مروا عليه، ودخل محمد الى دار المملكة ببغداد، وجاءه توقيع المستظهر بالاستبشار بقدومه وخطب له. ونزل الملك سنجر بدار كوهراس، ووفد على السلطان محمد ببغداد صدقة صاحب الحلة في محرم سنة خمس وسبعين.
قتل بركيارق الباطنية:
كان هؤلاء الباطنية قد ظهروا بالعراق وفارس وخراسان، وهم القرامطة، والدعوة بعينها دعوتهم، الا أنهم سموا في هذه الأجيال بالباطنية والاسماعيلية والملاحدة والمداوية. وكل اسم منها باعتبار : فالباطنيةلا نهم يبطنون دعوتهم، والاسماعيلية لانتساب دعوتهم في أصلها لاسمعيل بن الإمام جعفر الصادق. والملاحدة لان بدعتهم كلها إلحاد. والفداوية لانهم يفادون أنفسهم بالمال على قتل من يسلطون. والقرامطة نسبة إلى قرمط منشئ دعوتهم. وكان أصلهم من البحرين في المائة الثالثة وما بعدها. ثم نشأ هؤلاء بالمشرق أيام ملك شاه، فأول ما ظهروا بأصبهان. واشتد في حصار بركيارق وأخيه محمود وأمه خاتون فيها. ثم ثارت عامة أصبهان بهم بإشارة القضاة وأهل الفتيا فقتلوهم في كل جهة، وحرقوهم بالنار.
ثم انتشروا واستولوا على القلاع ببلاد العجم كما تقدم في أخبارهم. ثم أخذ بمذهبهم نيران شاه بن بدران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان، حمله عليه كاتب من أهل خوزستان يسمى أبا زرعة. وكان بكرمان فقيه من الحنفية يسمى أحمد بن الحسين البلخي مطاع في الناس، فخشي من نكيره فقتله فهرب عنه صاحب جيشه، وكان شحنة البلد، ولحق بالسلطان محمد ومؤيد الملك بأصبهان. وثار الجند بعده بتيران شاه فسار إلى مدينة كرمان فمنعه أهلها ونهبوه فقصد قلعة سهدم واستجار بصاحبها محمد بهستون. وبعث أرسلان شاه عساكر لحصارها فطرده بهستون، وبعث مقدم العساكر في طلبه فجيء به أسيراً وبأبي زرعة الكاتب معه فقتلهما أرسلان شاه، واستولى على بلاد كرمان.
وكان بركيارق كثيراً ما يسلطهم على من يريد قتله من الأمراء، مثل انز شحنة أصبهان، وأرغش وغيرهم فأمنوا جانبه، وانتشروا في عسكره، واغروا الناس ببدعتهم
وتجاوزوا إلى التهديد عليها، حتى خافهم أعيان العسكر. وصار بركيارق يصرفهم على أعدائه، والناس يتهمونه بالميل إليهم فاجتمع أهل الدولة، وعذلوا بركيارق في ذلك فقبل نصيحتهم ، وأمر بقتل الباطنية حيث كانوا فقتلوا وشردوا كل مشي. وبعث إلى بغداد بقتل أبي إبراهيم الاستراباذي الذي بعثه أبو الأغر لاستقصاء أموال مؤيد الملك، وكان يتهم بمذهبهم، فقتل. وقتل بالعسكر الأمير محمد من ولد علاء الدين بن كاكويه ، وهو صاحب مدينة تيرد، وكان يتهم بمذهبهم. وسعى بالكيا الهراسي مدرس النظامية أنه باطني فأمر السلطان محمد بالقبض عليه، حتى شهد المستظهر ببراءته وعلو درجته في العلم فاطلقه، وحسمت علة الباطنية بين الجمهور. وبقي أمرهم في القلاع التي ملكوها إلى أن انقرضوا كما تقدم في أخبارهم مستوفى. المصاف الثالث بين بركيارق ومحمد والصلح بينهما: ولما رحل بركيارق عن بغداد إلى واسط، ودخل إليها السلطان محمد أقام بها إلى منتصف المحرم من سنة خمس وتسعين. ثم رحل إلى همذان، وصحبه السلطان سنجر لقصد خراسان موضع إمارته، وجاءت الأخبار إلى المستظهر باعتزام بركيارق على المسير إلى بغداد، ونقل له عنه قبائح من أقواله وأفعاله فاستدعى السلطان محمداً من همذان أو قال: أنا أسير معك لقتاله فقال محمد أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين، ورجع ورتب ببغداد أبا المعالي شحنة وكان بركيارق لما سار من بغداد إلى واسط، هرب أهلها منه إلى الزبيدية، ونزل هو بواسط عليلاً فلما أفاق أراد العبور. إلى الجانب الشرقي فلم يجد سفناً ولا نواتية. وجاءه القاضي أبو علي الفارسي إلى العسكر واجتمع بالأمير أياز والوزير فاستعطفهما لأول واسط، وطلب إقامة الشحنة بينهم فبعثاه وطلبا من القاضي من يعبر فأحضر لهم رجالاً عبروا بهم. فلما صاروا في الجانب الشرقي نهب العسكر البلد فجاء القاضي واستعطفهم فمنعوا النهب. واستأمن إليهم عسكر واسط فأمنوهم.وسار بركيارق إلى بلاد بلخ برسق في الأهواز، وساروا معه ثم بلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار في اتباعه على نهاوند إلى أن أدركه، وتصافوا ولم يقتتلوا لشدة البرد. ثم عاودوا في اليوم الثاني كذلك. وكان الرجل يخرج لقريبه من الصف الآخر فيتصافحان ويتساءلان ويفترقان. ثم جاء الأمير بكراج وعبر من عسكر محمد إلى الأمير اياز والوزير الأغر فاجتمعوا، وعقدوا الصلح بين الفريقين على أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل، وتكون المكاتبة بينهما من الوزيرين، ولا يعارض أحدمن العسكر في قصد أيهما شاء. والملك محمد، يضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد حرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل، ويمده بركيارق بالعساكر على من يمتنع عليه منها. وتحالفاً على ذلك وافترقاً. وكان العقد في ربيع الأول سنة خمس وتسعين. وسار بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى استراباذ، وكل أمير على اقطاعه. والله سبحانه وتعالى أعلم
. انتقاض الصلح والمصاف الرابع بين السلطانين وحصار محمد بأصبهان: لما انصرف السلطان محمد إلى استراباذ، وكان اتهم الأمراء الذين سعوا في الصلح بالخديعة فسار إلى قزوين، ودس إلى رئيسها لأن يصنع صنيعاً ويدعوه إليه مع الأمراء ففعل وجاء السلطان إلى الدعوة. وقد تقدم إلى أصحابه بحمل السلاح، ومعه يشمك وافتكين من أمرائه فقبض عليهما، وقتل يشمك وسمل افتكين. وورد عليه الأمير نيال بن أبى شكين الحسامي نازعاً عن أخيه بركيارق. ولما التقى الفريقان حمل سرخاب بن كشمرالديلي صاحب ساوة على نيال الحسامي فهزمه، واتبعه عامة العسكر، واستولت الهزيمة على عسكر محمد. ومضى بعضهم إلى طبرستان، وبعضهم إلى قزوين وذلك في جمادى من سنة خمس وتسعين لأربعة أشهر من المصاف قبله. ولحق محمد في الفل بأصبهان، ومعه نيال الحسامي، وأصبهان في حكمه فحصنها وسد ما ثلم من سورها، وأعمق الخندق، وفرق الأمراء في الأسوار وعلى الأبواب، ونصب المجانيق. وجاء بركيارق في خمسة عشر ألف مقاتل فأقام محاصراً للبلد حتى اشتدّ الحصار وعدمت الأقوات. واستقرض محمد المال للجند من أعيان البلدة مرة بعد أخرى، فلما جهده الحصار خرج من البلد ومعه الأمير نيال، وترك باقي الأمراء. وبعث بركيارق الأمير أياز في عسكر لطلبه فلم يدركه، وقيل بل أدركه، وذكره العهد فرجع عنه بعد ان أخذ رايته وجشره وثلاثة أحمال من المال. ولما خرج محمد عن أصبهان طمع المفسدون والسوادية في نهبها فاجتمع منهم ما يزيد على مائة ألف، وزحفوا بالسلالم والذبابات، وطموا الخندق وصعدوا في السلالم بإشارة أهل البلد، وجدوا في دفاعهم، وعادوا خائبين. ورحل بركيارق آخر ذي القعدة من سنة خمس وتسعين، واستخلف على البلاد القديم الذي يقال له شهرستان مرشد الهراس في ألف فارس، مع ابنه ملك شاه، وسار إلى همذان. وفي هذا الحصار قتل وزير بركيارق الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني، عرض له يوماً بعض الباطنية عندما ركب من خيمته لباب السلطان، طعنه طعنات
وتركه بآخر رمق، وقتل غلام من غلمان بعض المكوس للوزير، ثار فيه بمولاه. وكان كريماً واسع الصدر، وولي الوزارة على حين فساد القوانين وقفة الجباية فكان يضطر لأخذ أموال الناس بالإخافة فنفرت الصفوة منه. ولما مات استوزر بركيارق بعده الخطير أبا منصور الميبذي كان وزيرا لمحمد، وقد وكله في الحصار ببعض الأبواب فبعث إليه محمد نيال بن أبي شكين يطالبه بالأموال لإقامة العسكر فخرج من الباب ليلاً ولحق ببلده، وامتنع بقلعتها فأرسل السلطان بركيارق إليها عساكر، وحاصروها حتى استأمن وجاء عند قتل وزيره الأغر فاستوزره بركيارق مكانه والله تعالى أعلم بغيبه.
مسير صاحب البصرة الى واسط: كان صاحب البصرة لهذا العهد اسمعيل بن ارسلان حين كان السلطان ملك شاه شحنة بالري، وولاه عليها عندما اضطّر أهلها ، وعجز الولاة عنهم فحسنت كفايته، وأثخن فيهم وأصلح أمورها. ثم عزل عنها، وأقطع السلطان بركيارق البصرة للأمير قماج، وكان ممن لا يفارقه فاختار اسمعيل لولاية البصرة. ثم نزع قماج عن بركيارق وانتقل إلى خراسان فحدثت اسمعيل نفسع بالاستبداد بالبصرة، وانتقض وزحف إليه مهذب الدولة بن أبي الخير من البطيحة ومعقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي من الجزيرة في العساكر والسفن فقاتلوه في مطاري. وقتل معقل بسهم أصابه فعاد ابن أبي الخير إلى البطيحة فأخذ اسمعيل السفن، وذلك سنة إحدى وتسعين. أسرهما واستفحل أمره بالبصرة. وبنى قلعة بالأبلة وقلعة الشاطئ قبالة مطاري. وأسقط كثيراً من المكوس، واتسعت إمارته لشغل السلاطين بالفتنة. وملك المسبار أضافها إلى ما بيده.ولما كان سنة خمس وتسعين طمع في واسط وداخل بعض أهلها، وركب إليهاالسفن إلى نعما جار، وخيم عليها بالجانب الشرقي أياماً. ودافعوه فارتحل راجعاً حتى ظن خلاء البلد من الحامية فدس إليها من يضرم النار بها ليرجعوا فرجع عنهم. فلما دخل أصحابه البلد فتك أهل البلد فيهم، وعاد إلى البصرة منهزماً فوجد الأمير أبا سعيد محمد بن نصر بن محص ود صاحب الأعمال لعمان وجنايا وشيراز وجزيرة بني نفيس محاصراً للبصرة. وكان أبو سعيد قد استبد بهذه الأعمال منذ سنين. وطمع اسمعيل في الاستيلاء على أعماله وبعث إليها السفن في البحر فرجعوا خائبين فبعث أبو سعيد خمسين من سفنه في البحر فظفروا بأصحاب اسمعيل واتفقوا معهم على الصلح، ولم بقع منه وفاء به فسار أبو سعيد بنفسه في مائة سفينة. وأرسى بفوهة نهر الأبلة، ووافق دخول اسمعيل من واسط فتزاحفوا براً وبحراً. فلما رأى اسمعيل عجزه عن المقاومة كتب إلى ديوان الخليفة بضمان البلد. ثم تصالحاً، ووقعت بينهما المهاداة، وأقام إسمعيل مستبداً بالبصرة إلى أن ملكها من يده صدقة بن مزيد في المائة الخامسة كما مر في أخباره وهلك برامهرمز . وفاة كربوقا صاب الموصل واستيلاء جكرمش عليها واستيلاء سقمان بن ارتق علي حصن كيفا: كان السلطان بركيارق أرسل كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن اسمعيل بن ياقوتي الخارج بها سنة أربع وتسعين، فاستولى على أكثر أذربيجان من يده. ثم توفي منتصف ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وكان معه أصهرصباوو بن خمارتكين، وسنقرجة من بعده. وأوصى الترك بطاعته فسار سنقرجة إلى الموصل، واستولى عليها. وكان أهل الموصل لما بلغهم وفاة كربوقا قد استدعوا موسى التركماني من موضع نيابته عن كربوقا بحصن كيفا للولاية عليهم، فبادر إليهم، وخرج سنقرجه للقائه فظن أنه جاء البه، وجرت بينهما محاورات. ورد سنقرجه الأمر إلى السلطان فآل الأمر بينهما إلى المطاعنة. وكان مع موسى منصور بن مروان، بقية أمراء ديار بكر. وضرب سنقرجة فأبان رأسه، وملك موسى البلد. ثم زحف جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر إلى نصيبين فملكها، وخالفه موسى إلى الجزيرة فبادر إليه جكرمش وهزمه. واتبعه إلى الموصل فحاصره بها فبعث موسى إلى سقمان بن أرتق بديار بكر يستنجده على أن يعطيه حصن كيفا فسار سقمان إليه. وأفرج عنه جكرمش. وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه، ورجع سقمان إلى كيفا وجاء جكرمش الى الموصل فحاصرها وملكها صلحاً، واستلحم قتلة موسى. ثم استولى بعد ذلك على الخابور، وأطاعه العرب والأكراد. وأما سقمان بن أرتق فسار بعد مقتل موسى إلى حصن كيفا، واستمر بيده. قال ابن الأثير: وصاحبها الآن في سنة خمس وعشرين وستمائة محمود بن محمد بن الفراء أرسلان. وكان صاحبها سنة عشرين وستمائة غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق والله تعالى أعلم .أخبار نيال بالعراق:كان نيال بن أبي شتكين الحسامي مع السلطان صمد بأصبهان لما حاصرها بركيارق بعد المصاف الرابع سنة خمس وتسعين، فلما خرج محمد من الحصار إلى أذربيجان، ومعه نيال، استأذنه في قصد الريّ ليقيم بها دعوتهم، وسار هو وأخوه علي، وعسف بأهل الريّ وصادرهم . وبعث السلطان بركيارق الأمير برسق بن برسق في ربيع من سنة ست
وتسعين فقاتله وهزمه، واستولى برسق على الريّ ، وأعاده على ولاية بقزوين، وسلك نيال على الجبال، وهلك كثير من أصحابه، وخلص إلى بغداد فأكرمه المستظهر، وأظهر طاعة السلطان محمد. وتحالف هو وأبو الغازي وسقمان بن أرتق على مناصحة السلطان محمد، وساروا إلى صدقة بن مزيد بالحلة فاستحلفوه على ذلك.ثم إن نيال بن أبي شتكين عسف بأهل بغداد، وتسلط عليهم وصادر العمال فاجتمع الناس إلى أبي الغازي بن أرتق. وكان نيال صهره على أخته التي كانت زوجا لتتش، وطلبوا منه أن يشفع لهم عنده. وبعث المستظهر إليه قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني بالنهي عما يرتكبه فأجاب وحلف. ثم نكث فأرسل المستظهر إلى صدقة بن مزيد يستدعيه فوصل في شوال من السنة، واتفق مع نيال على الرحيل من بغداد. ورجع إلى حلته، وترك ولده دبيساً يزعج نيال للخروج فسار نيال إلى أوان، وعاث في السابلة وأقطع القرى لأصحابه. وبعث إلى صدقة فأرسل إليه العساكر، وخرج فيها أبو الغازي بن أرتق، وأصحاب المستظهر فسار نيال إلى أذربيجان ورجعوا عنه.
ولاية كمستكين النصيري شحنة بغداد وفتنته مع أبي الغازي وحربه: كال أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد، ولاه عليها السلطان محمد عند مقتل كوهراس. ولما ظهر الآن بركيارق على محمد، وحاصره بأصبهان. ونزل بركيارق همذان، وأرسل إلى بغداد كمستكين النصيري في ربيع سنة ست وتسعين. وسمع أبو الغازي بمقدمه فاستدعى أخاه سقمان بن أرتق من حصن كيفا يستنجده وسار إلى صدقة بن مزيد فخالفه على النصرة والمدافعة. ورجع إلى بغداد، ووصل إليه أخوه سقمان بعد أن نهب في طريقه. ووصل كمستكين إلى قرقيسيا ولقيه شيعة بركيارق، وخرج أبو الغازي وسقمان عن بغداد، ونهب قرى دجيل واتبعتهما العساكر. ثم رفعت عنهما وأرسل كمستكين إلى صدقة صاحب الحلة فامتنع عن طاعة بركيارق، وسار من الحلة إلى صرصر؛ وقطع خطبة بركيارق، وعبر بغداد واقتصر على الدعاء للخليفة. وبعث صدقة إلى أبي الغازي وسقمان يعرفهما بوصوله، وهما بالحرني وجاء إلى دجيل. ونهب القرى واشتد فسادهم. وأضر ذلك بحال بغداد في غلاء الأسعار . وجاء أبو الغازي وسقمان ومعهما دبيس بن
صدقة فخيموا بالرملة، وقاتلهم العامة ففتكوا فيهم.وبعث المستظهر قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني، وتاج الرؤساء بن الرحلات إلى صدقة بن مزيد بمراجعة الطاعة فشرط خروج كمستكين عن بغداد، فأخرجه المستظهر إلى النهروان . وعاد صدقة إلى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد. ثم سار كمستكين النصيري إلى واسط، وخطب فيها لبركيارق، ونهب عسكره سوادها فسار صدقة وأبو الغازي إليه، وأخرجاه من واسط. وتحصن بدجلة فقصده صدقة فانفض عنه أصحابه، ورجع إلى صدقة بالأمان فأكرمه، وعاد إلى بركيارق. وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وبعده لصدقة وأبي الغازي، وولى كل واحد فيها ولده. وعاد أبو الغازي إلى بغداد، وعاد صدقة إلى الحلة، وبعث ابنه صوراً مع ابي الغازي يطلب الرضا من المستظهر لأنه كان سخطه من أجل هذه الحادثة. المصاف الخامس بين بركياق ومحمد: كان السلطان محمد لما سار عن كنجة وبلاد أران استخلف بها الأمير غزغلي ، وأقام بها في طائفة من عسكره مقيماً خطبة السلطان محمد في جميع أعماله إلى زنجان من آخر اذربيجان. فلما انحصر محمد بأصبهان سار غزغلي لإنجاده ، ومعه منصور بن نظام الملك، ومحمد ابن أخيه مؤيد الملك فانتهوا إلى الرى، وملكوها آخر خمس وتسعين، ولقوا السلطان محمدا بهمذان، عندما خرج من أصبهان، ومعه نيال بن أبي شكين وأخوه علي، وأقاموا معه بهمذان. ثم جاء الخبر بمسير بركيارق إليهم فتوجه السلطانمحمد قاصداً شروان، وانتهى إلى أذربيجان فبعث إليه مودود بن إسمعيل بن ياقوتي، الذي كان بركيارق قتل أباه إسمعيل، وكانت أخت مودود هذا تحت محمد، وكان له طائفة من أعمال أذربيجان، فاستدعى محمداً ليظاهره على بركيارق فسار إليه، وانتهى إلى سقمان. وتوفي مودود في ربيع سنة ست وتسعين، واجتمع عساكره على السلطان محمد وفيهم سقمان القطي ومحمد بن ياغي سياه، الذي كان أبوه صاحب أنْطاكِية. ونزل أرسلان بن السبع الأحمر فسار إليهم بركيارق، وقاتلهم على خراسان. وسار أياز من عسكر بركيارق، وجاء من خلف السلطان محمد فانهزم محمد وأصحابه، ولحق بارقيش من أعمال خلاط. ولقيه الأمير علي صاحب ارزن الروم فمضى إلى أصبهان، وصاحبها منوجهر أخو فظون الروادي، ثم سار إلى هرمز. وأما محمد بن مؤيد الملك ابن نظام الملك فنجا من الوقعة إلى ديار بكر، ثم إلى جزيرة ابن عمر، ثم إلى بغداد. وكان أيام أبيه مقيماً ببغداد في جوار المدرسة النظامية فشكى إلى أبيه، وخاطب كوهراس بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة،
ولحق سنة اثنتين وتسعين بمجد الملك الياسّلاني، وأبوه بكنجة عند السلطان محمد، فلما خطب السلطان محمد لنفسه، واستوزر أباه مؤيد الملك، ولحق محمد هذا بأبيه، ثم قتل أبوه وبقي في جملة السلطان محمد.
استيلاء ملك بن بهرام على مدينة غانة: كان ملك بن بهرام بن أرتق بن أخي أبي الغازي بن أرتق مالكاً مدينة سروج فملكها الإفرنج من يده، فسار عنها إلى غانة، وغلب عليها بني العيش بن عيسى من خلاط، وكانت لهم، فقصدوا صدقة بن مزيد مستنجدين به فأنجدهم، وجاء معهم فرحل ملك بن بهرام والتركمان عنها، ودخلها بنو العيش، وأخذ صدقة رهائنهم، وعاد إلى الحلة فرجع ملك إليها في ألفي رجل من التركمان، وحاربها قليلاًَ ثم عبر المخاضة، وملكها واستباح أهلها، ومضى إلى هيت ورجع عنها.
الصلح بين السلطان بركيارق ومحمد: ثم استقر الأمر اخيراً بالسلطان بركيارق في الرى، وكان له الجبال وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين، ولمحمد اذربيجان وبلاد أران وارمينية وأصبهان والعراق جميعاً، غير تكريت والبطائح بعضها، وبعضها والبصرة لهما جميعاً،وخراسان لسنجر من جرجان إلى ما وراء النهر يخطب فيها لأخيه محمد. وله من بعده والعساكر كلهم يتحكمون عليهم بسبب الفتنة بينهما. وقد تطاول الفساد وعم الضرر، واختلفت قواعد الملك فأرسل بركيارق إلى أخيه محمد في الصلح مع فقيهين من أماثل الناس، ورغباه في ذلك، وأعاد معهما رسلا آخرين. وتقرر الأمر بينهما أن يستقر محمد على ما بيده سلطاناً، ولا يعارضه بركيارق في الطبل، ولا يذكر اسمه في أعمال محمد، وأن المكاتبة تكون بين الوزيرين والعساكر بالخيار في خدمة من شاؤا منهما. ويكون للسلطان محمد من النهر المعروف بأستراباذ إلى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام والعراق بلاد صدقة بن مزيد، وبقية الممالك الإسلامية لبركيارق.وتحالفاً على ذلك، وانتظم الأمر، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان بالخروج عنها لأخيه بركيارق، واستدعاهم إليه فأبوا وجنحوا إلى خدمة بركيارق. وساروا إليه بحريم السلطان محمد الذي كانوا معهم فأكرمهم بركيارق، ودلهم إلى صاحبهم. وحضر أبو الغازي بالديوان ببغداد. وسار المستظهر في الخطبة لبركيارق فخطب له سنة سبع وتسعين، وكذلك بواسط. وكان أبو الغازي قبل ذلك في طاعة محمد فأرسل صدقة إلى المستظهر يعذله في شأنه، ويخبره بالمسير لإخراجه من بغداد. ثم سار
صدقة ونزل عند الفجاج. وخرج أبو الغازي إلى عقرباً. وبعث لصدقة بأنه إنما عدل عن طاعة محمد للصلح الواقع بينه وبين أخيه، وأنهما تراضيا على ان بغداد لبركيارق، وأنا شحنة بها، واقطاعي حلوان فلا يمكنني التحول عن طاعة بركيارق فقبل منه ورجع إلى الحلة. وبعث المستظهر في ذي القعدة سنة سبع وتسعين بالخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والوزير الخطير واستخلفهم جميعاً، وعاد إلى بغداد، والله سبحانه ولي التوفيق.
حرب سقمان وجكرمس الإفرنج: قد تقدم لنا استيلاء الإفرنج على معظم بلاد الشام وشغل الناس عنهم بالفتنة، وكانت حران لقراجا من مماليك ملك شاه. وكان غشوماً فخرج منها لبعض مذاهبه، وولى عليها الأصبهاني من أصحابه فعصي فيها، وطرد أصحاب قراجا منها ما عدا غلاماً تركياً اسمه جاولي جعله مقدم العسكر، وأيس به فقرره وتركه، وملك حران. وسار الإفرنج البها وحاصروها. وكان بين جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر وسقمان صاحب كيفا حروب، وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه فانتدبا لنصر المسلمين واجتمعا على الخابور وتحالفا. وسار سقمان في سبعة آلاف من التركمان، وجكرمش في ثلاثة آلاف من الترك والعرب والأكراد، والتقوا بالإفرنج على نهر بلخ فاستطرد لهم المسلمون نحو فرسخين، ثم كروا عليهم فغنموا فيهم، وقتلوا سوادهم.وأخذ القمص بردويل صاحب الرها، أسره تركماني من أصحاب سقمان في نهر بلخ. وكان سمند صاحب انْطاكِية من الإفرنج ونيكري صاحب الساحل منهم قد كمنا وراء الجبل ليأتيا المسلمين من ورائهم عند المعركة. فلما عاينوا الهزيمة كمنوا بقية يومهم، ثم هربوا فاتبعهم المسلمون واستلحموهم وأسروا منهم كثيراً، وفلت سمند ونيكري بدماء أنفسهم. ولما حصل الظفر للمسلمين عصى أصحاب جكرمس باختصاص سقمان وشق ذلك عليه وأراد أصحابه فأبى حذراً من افتراق المسلمين ورحل، وفتح في طريقه غدة حصون. وسار جكرمش إلى حران ففتحها. ثم سار إلى الرها فحاصرها خمس عشرة ليلة، وعاد إلى الموصل. وقاد من القمص بخمسة وثلاثين ألف ديناراً، ومائة وستين أسيراً من المسلمين.
وفاة بركيارق وولاية ابنه ملك شاه
ثم توفي السلطان بركيارق بن ملك شاه بنردجرد في أوائل ربيع الاخر سنة ثمان وتسعين لاثنتي عشرة سنة ونصف من ملكه، جاء إليها عليلاً من أصبهان، واشتد مرضه ببروجرد ، فولى عهده لابنه ملك شاه، وعمره نحو من خمس سنين. وخلع عليه، وجعل الأمير أياز كافله، وأوصى أهل الدولة بالطاعة والمساعدة. وبعثهم إلى بغداد فأدركهم خبر وفاته بالطريق. ورجع أياز حتى دفنه بأصبهان، وجمع السرادقات والخيام والجثر والسمسمة لابنه ملك شاه. وكان بركيارق قد لقي في ملكه من الرخاء والشدة والحرب والسلم ما لم يلقه أحد. فلما استقر واستقامت سعادته أدركته المنية. ولما توفي خطب لابنه ملك شاه ببغداد، وكان أبو الغازي قد سار من بغداد إليه، وهو بأصبهان يستحثه إلى بغداد. وجاء معه، فلما مات سار مع ابنه ملك شاه والأمير اياز إلى بغداد، وركب الوزير أبو القاسم على بن جهير فلقيهم به، مالي. وحضر أبو الغازي والأمير طغلبرك بالديوان، وطلبا الخطبة لملك شاه فخطب له، ولقب بألقاب جده ملك شاه.
حصار السلطان محمد الموصل
لما انعقد الصلح بين بركيارق ومحمد، واختص كل منهما أعماله، وكانت أذربيجان في قسمة محمد، رجع محمد إلى اذربيجان، ولحق به سعد الملك أبو المحاسن الذي كان نائباً بأصبهان بعد أن أبلى في المدافعة عنها. ثم سلمها بعد الصلح الى نواب بركيارق، واستوزره فأقام محمد إلى صفر من سنة ثمان وتسعين. ثم سار يريد الموصل على طريق مراغة، ورحل وبلغ الخبر إلى جكرمش فاستعد للحصار، وأدخل أهل الضاحية إلى البلد وحاصره محمد. ثم بعث له يذكره ما استقر عليه بينه وبين أخيه وأن الموصل والجزيرة له، وعرض عليه خط بركيارق بذلك وبايمانه عليه، ووعده أن يقرها في عمالته فقال له جكرمس: انّ السلطان كتب إلى بعد الصلح بخلاف ذلك فاشتد في حصاره، واشتدّ أهل البلد في المدافعة ونفس الله عنهم برخص الأسعار. وكان عسكر جكرمس مجتمعين قريباً من الموصل، وكانوا يغزون على أطراف العسكر
، ويمنعون عنهم الميرة. ثم وصل الخبر عاشر جمادى الأولى بوفاة السلطان بركيارق فاستشار جكرمس أهل البلد فردوا النظر إليه، واستشار الجند فأشاروا بطاعة السلطان محمد فأرسل إليه بذلك، واستدعى وزيره سعد الملك فدخل عليه، وأشار عليه بلقاء السلطان فخرج إليه على كره من أهل البلد فتلقاه السلطان بالكرامة، وأعاده سريعاً إلى البلد ليطمئن الناس. استيلاء السلطان محمد على بغد اد وخلع ملك شاه ابن أخيه ومقتل أياز: قد كنا قدمنا صلح بركيارق وأخيه محمد من أنه يستقل بركيارق بالسلطنة، وينفرد محمد بالأعمال التي ذكرنا، وموت بركيارق أثر ذلك، وتقديم ابنه ملك شاه ببغداد. فوصل الخبر بذلك إلى محمد، وهو يحاصر الموصل فأطاعه جكرمس وسار محمد إلى بغداد، ومعه جكرمس وسقمان القطبي مولى قطب الدولة اسمعيل بن ياقوتي عم ملك شاه ومحمد وغيرهما من الامراء وجمع صدقة صاحب الحلة العساكر، وبعث إبنه بدران ودبيساً إلى محمد يستحثانه، وجاء السلطان محمد إلى بغداد فاعتزم الأمير أياز أتابك ملك شاه على دفاعه، وخيم خارج بغداد، وأشار عليه بذلك أصحابه، وخالفهم وزيره أبو المحاسن الضبعي، وأبلغ في النصيحة له بطاعة السلطان فأقام متردداً، ونزل محمد بالجانب الغربي، وخطب له هنالك منفرداً، ولهما معاً في بعض الجوامع. واقتصر على سلطان العالم في بعضها.ورجع أياز إلى استحلاف الأمراء ثانياً فوقف بعضهم وقال: لا فائدة في إعادة اليمين. وارتاب أياز عندها، وبعث وزيره الضبعي أبا المحاسن لعقد الصلح مع السلطان واستحلافه، فقرأ على وزيره سعد والملك أبي المحاسن سعد بن محمد فدخل معه إلى السلطان، وأجابه إلى ما طلب. وجاء معه من الغد قاضي القضاة والمفتيان، واستحلفاه لأياز وللأمراء فحلف إلا أن ينال الحسامي ، وقال: أما ملك شاه فهو ابني وأنا أبوه. وجاء أياز من الغد، وقارن وصول صدقة بن مزيد فأنزلهما واحتفى بهما، وذلك آخر جمادى الأولى من سنة ثمان وتسعين.ثم احتفل أياز بعدها في عمل صنيع للسلطان في بيته، وهي دار كوهراس، وأهدى إليه تحفاً من جملتها حبل
البلخش الذي أخذه من تركة نظام الملك بن مؤيد الملك. واتفق أن أياز تقدم لمواليه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان، وكان عندهم مصفعان فألبسوه درعاً تحت ثيابه، وتناولوه بالنخس فهرب عنهم، ودخل في حاشية السلطان مذعوراً فلمسوه فإذا الدرع تحت ثيابه فارتابوا. ونهض السلطان إلى داره ثم دعا الأمراء بعد ذلك بأيام ، فاستشارهم في بعث يبعثهم إلى ديار بكر ّان أرسلان بن سليمان بن قطلمش قصدها فاتفقوا على الإشارة بمسير اياز، وطلب هو أن يكون معه صدقة بن مزيد فأسعفه السلطان بذلك، واستدعاهما لانفاذ ذلك. وقد أرصد في بعض المخادع بطريقهم جماعة لقتل أياز فلما مر بهم تعاورته سيوفهم، وقطع رأسه وهرب صدقة، وأغمي على الوزير. وهرب عسكر أياز فنهبوا داره. وأرسل السلطان من دفعهم عنها. وسار السلطان من بغداد إلى أصبهان وهذا اياز من موالي لسلطان ملك شاه. ثم سار في جملة ملك آخر فساء. وأما الضبعي وزير أياز فاختفى أشهراً . ثم حمل إلى الوزير سعد الملك في رمضان فلما وصل كان ذلك سبب رياسته بهمدان.
استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين و موته: كان هذا الحصن في ديار بكر أقطعه السلطان بركيارق لمغنٍ كان عنده، وكان حواليها خلق كثير من الأكراد يغيرون عليها ويخيفون سابلتها. واتفق أن كربوقا خرج من الموصل لحصار آمد وكانت لبعض التركمان فاستنجد بسقمان فسار لإنجاده. ولقيه كربوقا ومعه زنكي بن أقسنقر وأصحابه، وأبلوا ذلك اليوم بلاء شديداً فانهزم، وأسر ابن أخيه ياقوتي بن أرتق فحبسه بقلعة ماردين عند المغني، فبقي مدة محبوساً. وكثر خروج الأكراد بنواحي ماردين فبعث ياقوتي إلى المغني يسأله أن يطلقه، ويقيم عنده بالريف لدفاع الأكراد ففعل، وصار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط. وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للإغارة فلا يهيجهم. ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام بعد مرجعه من الإغارة، ودنا من القلعة وعرضهم للقتل إن لم يفتحها أهلوهم ففتحوها وملكها. وجمع الجموع وسار إلى نصيبين وإلى جزيرة ابن عمر وهي لجركمس فكبسه جكرمس وأصحابه، وأصابه في الحرب سهم فقتله
وبكاه جكرمس وكانت تحت ياقوتي بنت عمه سقمان فمضت إلى أبيها. وجمعت التركمان وجاء بهم إلى نصيبين لطلب الثأر فبعث إليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته فرجع. وأقام بماردين بعد ياقوتي أخوه على طاعة جكرمس، وخرج منها لبعض المذاهب، وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه تملك ماردين على جكرمس فبادر إليها سقمان واستولى عليها، وعوض عنها ابن أخيه جبل جور، وأقامت ماردين في حكمه مع حصن كيفا، واستضاف إليها نصيبين. ثم بعث إليها فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يستنجده على الإفرنج، وكان استبد بها على الخلفاء العبيديين أهل مصر. وثار له الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن أرتق سنة ثمان وتسعين فأجابه. وبينما هو يتجهز للمسير، وافاه كتاب طغتكين صاحب دمشق المستبد بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفاً على دمشق من الإفرنج، فأسرع السير معتزماً على قصد طرابلس، وبعدها فانتهى إلى القريتين وندم طغتكين على استدعائه، وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه. ومات هو بالقريتين فكفاهم الله تعالى أمره. وقد كان أصحابه عندما أيقن بالموت أشاروا عليه بالعودة إلى كيفا فامتنع، وقال: هذا جهاد، وإن مت كان لي ثواب شهيد.
خروج منكبرس على السلطان محمد ونكبته: كان منكبرس بن يورس بن ألب أرسلان مقيماً بأصبهان، وانقطعت عنه المواد من السلطان فخرج إلى نهاوند، ودعا لنفسه، وكاتب الأمراء بني برسق بخوزستان، وبعثوا به إلى طاعته وكان أخوهم زنكي عند السلطان محمد فقبض عليه، وكاتب اخوته في التدبير على منكبرس فأرسلوا إليه بالطاعة حتى جاءهم فقبضوا عليه بخوزستان، وبعثوا به إلى أصبهان فاعتقل مع ابن عمه تتش، وأطلق زنكي بن برسق، وأعيد إلى مرتبته. وكانت اقطاع بني برسق الأسير وسابور وخوزستان وغيرها ما بين الأهواز وهمدان فعوضهم عنها بالدينور، وأخرجهم من تلك الناحية والله تعالى أعلم.
مقتل فخر الملك بن نظام الملك: قد ذكرنا قبل أن فخر الملك بن نظام الملك كان وزيراً لتتش، ثم حبسه. ولما هزمه بركيارق وجده في حبسه أطلقه، وكان أخوه مؤيد الملك وزيراً له فمال إليه فخر الدولة بسعاية مجد الملك الباسلاني، واستوزره سنة ثمان وثمانين. ثم فارق وزارته ولحق بسنجر بن ملك شاه بخراسان فاستوزره. فلما كان في آخر المائة الخامسة، جاء باطني يتظلم إلى باب داره فأدخله يسمع شكواه، فطعنه بخنجر فقتله، وأمر السلطان سنجر بضربه فأقر على جماعة من الناس وقتل. ولاية جاولي سكاور علي الموصل وموت جكرمش: كان جاولي سكاوو قد استولى على ما بين خوزستان وفارس فعمر قلاعها، وحصنها وأساء السيرة في أهلها. فلما استقل السلطان حمد بالملك خافه جاولي، وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن أنوتكين فتحصن منه جاولي، وحاصره مودود ثمانية أشهر. ودس جاولي إلى السلطان بطلب غيره فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر، فسار إليه بأصبهان، وجهزه في العساكر لجهاد الإفرنج بالشام، واسترجاع البلاد منهم. وكان جكرمش صاحب الموصل قد قطع الحمل فأقطع السلطان الموصل وديار بكر والجزيرة لجاولي فسار إلى الموصل، وجعل طريقه على البواريح فاستباحها أياماً. ثم سار إلى إربل وكان صاحبها أبو الهيجاء بن برشك الكردي الهرباني إلى جكرمش يستحثه، فسارفي عسكر الموصل والتقوا قريباً من اربل فانهزم أصحاب جكرمش. وكان يحمل في المحفة فقاتل عنده غلمانه، وأحمد بن قاروت بك فخرج وانهزم إلى الموصل ومات. وجيء بجكرمش فحبسه، ووصل من الغد إلى الموصل فولوا ازنكين بن جكرمش.وأقام بالجزيرة، وقام بأمره غرغلي مولى مولى أبيه. وفرق الأموال والخيول، وكتب إلى قلج أرسلان صاحب بلاد الروم، وكان قد شيد الموصل وبنى أسوارها وحصنها بالخندق. وبينما هو كذلك سار إليه قلج أرسلان من بلاد الروم باستدعاء غرغلي كما تقدم. وانتهى إلى نصيبين فرحل جاولي عن الموصل. ثم جاء البرسقي شحنة بغداد،
ونزل عن الموصل وخاطبهم فلم يجيبوه فرجع من يومه. وسار قلج أرسلان من نصيبين الى الموصل، وتأخر عنها جاولي إلى سنجار واجتمع أبو الغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش. وجاء صريخ رضوان بن تتش من الشام على الإفرنج فسار إلى الرحبة، وبعث أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين واستحلفوا فحلف، وجاء إلى الموصل فملكها في منتصف ختام المائة الخامسة. وخلع على ابن جكرمش، وخطب لنفسه بعد الخليفة. وقطع خطبة السلطان محمد، وأحسن إلى العسكر. وأخذ القلعة من غرغلي فولى جكرمش. وأقر القاضي أبا محمد، عبد الله بن القاسم الشهرزوري على القضاء. وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن خميس. وكان في جملة فلهم أرسلان إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد، ومحمد بن حموا صاحب خرتبرت. كان إبراهيم بن نيال ولاه تتش على آمد فبقيت بيده. وكان ابن حموا ملك خرتبرت من يد القلادروس ترجمان الروم. كانت له الرها وانْطاكِية فملك سليمان قطلمش أنْطاكِية، وبقيت له الرها وخرتبرت وأسلم القلادروس الرها. فلما ولي فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف القلادروس عن الرها على يد ملك شاه وأمره عليها. ولما سار جاولي إلى الرحبة قاصداً صريخ رضوان بن تتش نزل عليها آخر رمضان من السنة، وحاصرها وبها محمد بن السباق من بني شيبان، ولاه عليها دقاق فاستبد بها وخطب لقلج أرسلان، حاصره جاولي، وكتب إلى رضوان يستدعيه ويعده بالمسير معه لدفاع، فجاء رضوان، وحاصر معه الرحبة. ثم دس إلى جاولي جماعة من حامية الأسوار فوثبوا بها، ودخلوا. وملك البلد، وأبقى على محمد الشيباني، وسار معه. ثم إن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل ولي عليها إبنه ملك شاه في عسكر ومعه أميريدبره، وسار إلى قتال جاولي، ورجع عنه إبراهيم بن نيال إلى بلده آمد من الخابور فبعث إلى بلده في الحشد، فعاجله جاولي بالحرب، والتقوا في آخر ذي القعدة من السنة، وانهزم أصحاب قلج أرسلان على دفاعه. وأعاد الخطبة للسلطان، واستصفى أصحاب جكرمش. ثم سار إلى الجزيرة وبها حبيس بن جكرمش، ومعه غرغلي من موالي أبيه فحاصره مدة، ثم صالحه على ستةآلاف دينار، ورجع إلى الموصل، وأرسل ملك شاه من قلج أرسلان إلى السلطان محمد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مقتل صدقة بن مزيد: ولما استوحش صدقة بن مزيد صاحب الحلة من السلطان محمد سار إليه السلطان، وملك أعماله، ولقيه صدقة فهزمه السلطان، وقتل في المعركة كما ذكرنا ذلك في أخبار صدقة في دولة ملوك الحلة والله سبحانه وتعالى أعلم. قدوم ابن عمار صاحب طرابلس علي السلطان محمد: كان فخر الدولة أبو علي بن عمار صاحب طرابلس استبد بها على العبيديين، فلما ملك الإفرنج سواحل الشام رددوا عليها الحصار فضاقت أحوالها. فلما انتظم الأمر للسلطان محمد، واستقام ملكه قصده فخر الملك بن عمار صريخاً للمسلمين بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب، وفرق في الجند عطاءهم لستة أشهر، ورتب الجامكية في مقاعدهم للقتال، وسار إلى دمشق فلقيه طغتكين أتابك، وخيم بظاهرها أياماً ، ورحل إلى بغداد فأركب السلطان الأمراء لتلقيه، ولم يدخر عنه براً ولا كرامة، وكذلك الخليفة. وأتحف السلطان بهدايا وذخائر نفيسة، وطلب النجدة، وضمن النفقة على العسكر فوعده بالنصر وأقام. ثم لقي الأمير حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال صدقة جاولي، ثم يسير حسين معه إلى الشام. ثم رحل السلطان عن بغداد سنة إحدى وخمسمائة لقتال صدقة، واستدعى ابن عمار وهو بالنهروان فودعه. وسار معه الأمير حسين إلى دمشق، وكان ابن عمار لما سار عن طرابلس استخلف عليها ابن عمه ذا المناقب فانتقض، واجتمع مع أهل طرابلس على إعادة الدولة العلوية، وبعثوا إلى الأفضل بن أمير الجيوش المستبد على الدولة بمصر بطاعتهم، ويسألون الميرة فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً ومعه الزاد من الأقوات والسلام، فدخل البلد، وقبض على أهل ابن عمار وأصحابه، واستصفى ذخائرهم وحمل الجميع إلى مصر في البحر. استيلاء مودود بن أبي شكين على الموصل من يد جاولي: قد تقدم لنا استيلاء جاولي على الموصل من يد قلج بن أرسلان وابن جكرمش،
وهلاكهما على يده. واستفحل ملكه بالموصل، وجعل السلطان محمد بن ألية ولاية ما يفتحه من البلاد له فقطع الحمل عن السلطان، واستنفره لحرب صدقة فلم ينفر معه. وداخل صدقة بأنه معه فلما فرغ السلطان من أمر صدقة، بعث مودود بن أبي شتكين في العساكر، وولاه الموصل، وبعث معه الأمراء ابن برسق، وسقمان القطبي، وأقسنقر البرسقي ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وأبو الهيجاء صاحب أربل مددا فوصلوا الموصل، وخيموا عليها فوجدوا جاولي قد استعد للحصار، وحبس الأعيان، وخرج عن البلد، وترك بها زوجته هي وابنه برسق في ألف وخمسمائة مقاتل، فأحسن في مصادرة الناس. واشتد عليهم الحصار فلما كان المحرم سنة اثنتين، خرج بعض الحامية من فرجة من السور وأدخلوا منها مودود والعساكر، وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام. ثم استأمنت وخرجت إلى أخيها يوسف بن برسق بأموالها، واستولى مودود على الموصل وأعمالها.وأما جاولي فلما سار عن الموصل وحمل معه القمص الذي كان أسره بنعمان،وأخذه منه جكرمش، وسار به إلى نصيبين. وسأل من صاحبها أبو الغازي بن أرتق المظاهرة على السلطان فلم يجبه إلى ذلك، ورحل عن نصيبين إلى ماردين بعد أن ترك ابنه مقيماً مع الحامية فتبعه جاولي، ودخل عليه وحده بالقلعة متطارحاً عليه فأجابه، وسار معه إلى نصيبين، ثم إلى سنجار وحاصراها فامتنعت عليهما. ثم هرب أبو الغازي ليلاً الى نصيبين وتركه فسار جاولي إلى الرحبة وأطلق القمص بردويل لخمس سنين من الصرة على مال قرره عليه، وأسرى من المسلمين يطلقهم، وعلى النصرة مهما طلبه. وأرسله إلى سالم بن مالك بقلعة جعفر، حتى جاء ابن خالته جوسكر صاحب تل ناشز من زعماء الإفرنج، وكان أسر مع القمص فافتدى بعشرين ألف دينار، وأقام جوسكر رهينة، وسار القمص إلى انْطاكِية.ثم أطلق جاولي جوسكر وأخذ رهناً عنه صهره وصهر القمص، وبعثه في إتمام ما ضمن. ولما وصل إلى انْطاكِية أعطاه شكري صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلا وسلاحاً وغير ذلك. وكانت الرها وسروج بيد القمص. ولما أسر ملك جكرمش الرها من أصحابه طلبها منه الآن فلم يجبه، فخرج القمص مغاضبا له، ولحق بتل ناشز، وقدم عليه جوسكر عندما طلقه جاولي. ثم سار إليهما شكري يعاجلهما قبل اجتماع أمرهما فحاصرهما أياماً، ورجع القمص وجوسكر على حصون انْطاكِية، واستمد أبو سيل الأرمني صاحب رعيان وكيسوم والقلاع شمالي حلب فأنجدهم بألف فارس. وسار اليهم شكري، وحضر البترك، وشهد جماعة من القسيسين والبطارقة أن أسمند خال شكري قال له عند ما ركب البحر إلى بلاده: أعد الرها إلى القمص إذا خلص من الأسر فحكم البترك بإعادتها فأعادها تاسع صفر من السنة، وعبر القمص الفرات ليرفع إلى جاولي المال والأسرى كما شرط له.
وكان جاولي لما أطلق القمص سار إلى الرحبة ولقيه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور، وكانا مقيمين بعد قتل أييهما عند سالم بن مالك فاستنجداه ، ووعداه أن يسير معهما إلى الحلة، واتفقوا على تقديم أبي الغازي تكين. ثم قدم عليهم أصبهبز صباوو، وقد أقطعه السلطان
الرحبة فأشار على جاولي بقصد الشام لخلوها عن العساكر، والتجنب عن العراق وطريق السلطان فقبل إشارته، وأحصر على الرحبة. ثم وفد عليه صريخ سالم بن مالك صاحب جعفر يستغيث به من بني نمير، وكان جيوش البصري قد نزل على ابن سالم بالرقة وملكها، وسار إليه رضوان من حلب فصالحه بنو نمير بالمال. ورجع عليهم فاستنجد سالم الآن جاولي فجاء وحاصر بني نمير بالرقة سبعين يوماً. فأعطوه مالاً وخيلاًا، ورحل عنهم واعتذر لسالم.
ثم وصل جاولي إلى الأمير حسين بن أتابك قطلغ تكين؟ كان أبوه أتابك السلطان محمد بكنجة فقتله، وتقدم ولده هذا عند السلطان، وبعثه مع ابن عمار ليصلح أمر جاولي، وتسير العساكر كلها إلى الجهاد مع ابن عمار فأجاب جاولي لذلك، وقال لحسين سر إلى الموصل، ورحل العساكر عنها وأنا أعطيك ولدي رهينة، وتكون الجباية لوال من قبل السلطان فجاء حسين إلى العساكر قبل أن يفتحوها فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه امتنع من الرحيل إلا بإذن من السلطان. وأقام محاصراً لها حتى افتتحها، وعاد ابن قطلغ إلى السلطان فأحسن الاعتذار عن جاولي. وسار جاولي إلى بالس فملكها من أصحاب رضوان بن تتش، وقتل جماعة من أهلها فيهم القاضي محمد بن عبد العزيز بن إلياس، وكان فقيها صالحاً. ثم سار رضوان بن دقاق لحرب جاولي، واستمد شكري صاحب انْطاكِية فأمده بنفسه، وبعث إلى القمص بالرها يستمده، وترك له مال المفاداة فجاء إليه بنفسه، ولحقه بمنبج. وجاء الخبر إلى جاولي باستيلاء مودود وعساكر السلطان على الموصل وعلى خزائنه فاضطرب أمره، وانفض عنه كثير من أصحابه: منهم زنكي بن اقسنقر وبكتاش. وبقي معه أصبهبذ صباوو وبدران بن صدقة وابن جكرمش، وانضم إليه كثير من المتطوعة، ونزل تل ناشر وأتى عسكر رضوان وشكري، وكاد أن يهزمهم لولا أن أصحابه ساروا عنه، وسار في اتباعهم فأبوا عليه فمضى منهزماً. وقصد اصبهبذ الشام وبدران بن صدقة قلعة جعفر وابن جكرمش جزيرة ابن عمر، وقتل من المسلمين خلق، ونهب صاحب انْطاكِية سوادهم. وهرب القمص وجوسكر إلى تل باشر. وكان المنهزمون من المسلمين يمرون بهم فيكرمونهم وبجيزونهم إلى بلادهم. ولحق جاولي بالرحبة فلقي بها سرايا مودود صاحب الموصل وخفي عنهم فارتاب في أمره، ولم ير الخير له من قصد السلطان محمد ثقة بما القى إليه حسين بن قطلغ تكين في شأنه فأوغر في السير، ولحق بالسلطان قريبا من أصبهان. ونزل حسين بن قطلغ فدخل به إلى السلطان فأكرمه، وطلب منه بكتاش ابن عمه تتش واعتقله بأصبهان. مقتل مودود بن توتكين صاحب الموصل في حرب الإفرنج وولاية البرسقي مكانه: كان السلطان محمد قد أمر مودوداً صاحب الموصل سنة خمس وخمسمائة بالمسير لقتال الإفرنج، وأمدّه بسقمان القطبي صاحب ديار بكر وأرمينية، وأياكي وزنكي ابني برسق أمراء همذان وما جاورها، والأمير أحمد بك أمير مراغة، وأبو الهيجاء صاحب اربل والأمير أبو الغازي صاحب ماردين وبعث إليه أياز مكانه فسار إلى سنجار، وفتحوا حصوناً الإفرنج وحاصروا مدينة الرها فامتنعت عليهم وأقام الإفرنج على الفرات بعد أن طرقوا أعمال حلب فعاثوا فيها. ثم حاصر العساكر الإسلامية قلعة باشر فامتنعت ودخلوا إلى حلب فامتنع رضوان من لقائهم فعادوا، ومات سقمان القطبي في دلاس فحمله أصحابه في تابوت إلى بلاده. واعترضهم أبو الغازي بن أرتق ليأخذهم فهزموه. ثم افترقت العساكر بمرض ابن برسق ومسير أحمد بن صاحب مراغة إلى السلطان لطلب بلاد سقمان القطبي واجتمع قطلغتكين صاحب دمشق بمودود ، ونزل معه على نهر القافي. وسمع الإفرنج بافتراق العساكر فساروا إلى افاميه. وجاء السلطان ابن منقذ صاحب شيزر إلى مودود وقطلغتكين، وحصرهما على الجهاد. ونزلوا جميعاً على شيزار ونزل الإفرنج قبالتهم. ثم رأوا قوة المسلمين فعادوا إلى أفامية. ثم سار مودود سنة ست إلى الرها وسروج فعاث في نواحيها فكبسه جوسكر صاحب تلك ناشر في الإفرنج، ونال ثم اجتمع المسلمون سنة سبع للجهاد باستنجاد قطلغتكين صاحب دمشق لمودود فاجتمع معه بمنزل صاحب سنجار وأياز بن أبي الغازي، وعبروا الفرات إلى قطلغتكين، وقصدوا القدس فسار إليهم صاحبها بقزوين، ومعه جوسكر، ومعه تل ناشر، على جيشه. ونزلوا الأردن واقتتلوا قريباً من طبرية فانهزم الإفرنج، وقتل كثير منهم، وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن، وغنم المسلمون سوادهم. ثم لقيهم عسكر طرابلس وإنْطاكِية من الإفرنج فاستعانوا بهم، وعاودوا الحرب ونزلوا في جبل طبرية فحاصرهم فيه المسلمون ثم ساروا فعاثوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا إلى القدس. ثم نزلوا دمشق، وفرق مودود عساكره ووعدهم العود من قابل للجهاد. ودخل دمشق ليستريح عند قطلغتكين فصلى الجمعة في الجامع فطعنه باطني فأثواه ، وهلك لآخر يومه. واتهم قطلغتكين به، وقتل الباطني من يومه. ولما بلغ الخبر السلطان بقتل مودود ولي
على الموصل وأعمالها أقسنقر البرسقي سنة ثمان وخمسمائة، وبعث معه ابنه الملك مسعود في جيش كثيف، وأمره بجهاد الإفرنج، وكتب إلى الأمراء بطاعته فوصل إلى الموصل، واجتمعت إليه عساكر النواحي: فيهم عماد الدين زنكي بن أقسنقر ونمير صاحب سنجار. وسار البُرسقي إلى جزيرة ابن عمر فأطاعه نائب مودود بها. ثم سار إلى ماردين فأطاعه أبو الغازي صاحبها، وبعث إبنه أياز فسار إلى الرها فحاصرها شهرين، ثم ضاقت الميرة على عسكره. ثم رحل إلى شميشاط بعد أن خرب نواحي الرها وسروج وشميسشاط وكانت مرعش للإفرنج هي وكسوم ورعيان ؛ وكان صاحبها كراسك. واتفقت وفاته، وملكت زوجته بعده فراسلت البرسقي بالطاعة، وبعث إليها رسوله فأكرمته وأرجعته إلى البرسقي بالهدايا والطاعة. وفرّ عنها كثيرٌ من الإفرنج إلى إنْطاكِية. ثم قبض البرسقي على أياز بن أبي الغازي لإتهامه اياه في الطاعة فسار إليه أبو الغازي في العساكر، وهزمه واستنقذ إبنه أياز من أسره كما ترى في أخبار دولة أبي الغازي وبنيه. وبعث السلطان يهدده فوصل يده بقطلغتكين صاحب دمشق والإفرنج، وتحالفوا على التظاهر. ورجع أبو الغازي إلى ديار بكر فسار إليه قزجان بن مراجاً صاحب حمص، وقد تفرّق عنه أصحابه فظفر به وأسره. وجاء قطلغتكين في عساكره، وبعث إلى قزجان في إطلاقه قامتنع وهم بقتله فعاد عنه قطلغنكين إلى دمشق. وكان قزجان قد بعث إلى السلطان بخبره وانتظر من يصل في قتله فأبطأ عليه، فأطلق أبا الغازي بعد أن توثق منه بالخلف، وأعطاه ابنه أياز رهينة. ولما خرج سار إلى حلب، وجمع التركمان وحاصر قزجان في طلب ابنه إلى أن جاءت عساكر السلطان.
مسير العساكر لقتال أبي الغازي وقطلغتكين والجهاد بعد هما: ولما كان ما ذكرناه من عصيان أبي الغازي وقطلغتكين على السلطان محمد، وقوّة الإفرنج على المسلمين جهز السلطان جيشاً كثيراً مقدمهم الأمير برسق صاحب همدان، ومعه الأمير حيوّش بك، والأمير كشغرة، وعساكر الموصل والجزيرة، وأمرهم بقتال أبي الغازي وقطلغتكين. فإذا فرغوا منهما ساروا إلى الإفرنج فارتجعوا البلاد من أيديهم، فساروا لذلك في رمضان من سنة ثمان، وعبروا الفرات عند الّرقة. وجاؤا إلى حلب وطلبوا من صاحبها لؤلؤ الخادم ومن مقدم العسكر المعروف بشمس الخواص تسليم حلب بكتاب السلطان في ذلك فتعلل عليهم، وبعث إلى إبي الغازي وقطلغتكين بالخبر، واستنجدهما فسار إليه في ألفين وامتنعت حلب على
عساكر السلطان فسار برسق بالعساكر إلى حماة، وهي لقطلغتكين فملكها عنوة، وسلمها إلى قرجان صاحب حمص بعهد السلطان له بذلك في كل ما يفتحونه من البلاد فثقل ذلك على الأمراء، وتخاذلوا وتسلم قزجان حماة من برسق، وأعطاه ابن أبي الغازي إبنه رهينة عنده. ثم سار أبو الغازي وقطلغتكين وشمس الخواص إلى إنْطاكِية مستنجدين بصاحبها بردويل، وجاءهم بعد ذلك بغدوين صاحب القدس وصاحب طرابلس وغيرهما من الإفرنج، واتفقوا على تأخير الحرب إلى إنصرام الشتاء. واجتمعوا بقلعة أفامية، وأقاموا شهرين، وانصرم الشتاء، والمسلمون مقيمون فوهنت عزائم الإفرنج، وعادوا إلى بلادهم. وعاد أبو الغازي إلى ماردين وقطلغتكين إلى دمشق، وسار المسلمون إلى كفر طاب من بلاد الإفرنج فحاصروه، وملكوه عنوة وأسروا صاحبه، واستلحموا من فيه ، ثم ساروا إلى قلعة أفامية فامتنعت عليهم فعادوا إلى المعرة. وفارقهم حيوش بك إلى مراغة فملكه. وسارت العساكر من المعرة إلى حلب، وقدموا أثقالهم وخيامهم فصادفهم بردويل صاحب إنْطاكِية في خمسمائة فارس وألفي راجل صريخاً لأهل كفر طاب . وصادف مخيم العسكر ففتك فيه، وفعل الأفاعيل، وهم متلاحقون. وجاء الأمير برسق، وعاين مصارعهم، وأشار عليه إخوته بالنجاء بنفسه فنجا بنفسه. وأتبعهم الإفرنج، ورجعوا عنهم على فرسخ وعاثوا في المسلمين في كلّ ناحية. وقتل أياز بن أبي الغازي قتله الموكلون به. وجاء أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين ما لم يحتسبوه، ويئسوا من النصرة ورجعت العساكر منهزمة إلى بلادها وتوفي برسق زنكي سنة عشر بعدها.
ولاية حيوش بك ومسعود بن السلطان محمد علي الموصل: ثم أقطع السلطان الموصل، وما كانَ بيد أقسنقر البرسقي للأمير حيوش بك، وبعث معه إبنه مسعوداً، وأقام البرسقي بالَرحَبَةَ وهي اقطاعه إلى أن توفي السلطان محمد. ولاية جاولي سكاو على فارس وأخباره فيها ووفاته: كان جاولي سكاو لما رجع إلى السلطان محمد ورضي عنه ولاه فارساً وأعمالها، وبعث معه إبنه جعفري بك طفلاً كما فصل من الرضاع. وعهد إليه بأصلاحها فسار إليها ومّر بالأمير بلداجي في بلاده كليل وسرماة وقلعة اصطخر، وكان من مماليك السلطان ملك شاه فاستدعاه للقاء جعفري بك. وتقدّم إليه بأن يأمر بالقبض عليه فقبض عليه، ونهبت أمواله، وكان أهله وذخائره في قلعة
اصطخر، وقد استناب فيها وزيره الخيمي ، ولم يمكنه الاّ من بعض أهله فلما وصل جاولي إلى فارس ملكها منه ، وجعل فيها ذخائره. ثم أرسل إلى خسرو، وهو الحسين بن مبارز صاحب نسا وأمير الشوامكار من الأكراد فاستدعاه للقاء جعفري بك من السلطان، خشية مما وقع لبلداجي فأعرض عنه، وأظهر الرجوع إلى السلطان. ومضى رسول بخبره فبشر بأنصافه عن فارس فما أدى إليه الخبر إلا وجاولي قد خالطهم، رجع من طريقه وأوغر في السير إليهم.ثم هرب خسرو إلى عمدالج، وفتك جاولي في أصحابه وماله. ثم سار جاولي إلى مدينة نسا فملكها، ونهب جهرم وغيرها، وسار إلى خسرو فامتنع عليه بحصنه فرجع إلى شيراز وأقام بها. ثم سار إلى كازرون فملكها، وحاصر أبا سعيد بن محمد في قلعته مدةعامين وراسله في الصلح فقتل الرسل مرتين. ثم اشتد عليه الحصار، واستأمن فأمنه وملك الحصن. ثم استوحش من جاولي فهرب وقبض على ولده، وجيء به أسيرًا فقتل. ثم سار جاولي إلى دار بكرد فهرب صاحبها إبراهيم إلى كرمان، وصاحبها أرسلان شاه بن كرمان شاه بن أرسلان بك بن قاروت بك، فسار جاولي إلى حصار دار بكرد فامتنعت عليه فخرج إلى البرية. ثم جاءهم من طريق كرمان كاء نه مدد لهم من صاحب كرمان فأدخلوه فملك البلد، واستلحم أهله ثم سار إلى كرمان، وبعث إلى خسرو مقدم الشوذ كان يستدعيه للمسير معه فلم يجد بداً من موافقته. وجاء وصاحبه إلى كرمان، وبعث إلى ملك كرمان بإعادة الشواذ كان الذين عنده فبعث بالشفاعة فيهم، فاستخلص السلطان الرسول بالإحسان وحثه على صاحبه، ووعده بأن يرد العساكر عن وجهه ويخذلهم عنه ما استطاع. وإنقلب عنه إلى صاحبها فقي عساكر كرمان مع وزيره بالسيرجان فتراءى لهم أن جاولي عازم على مواصلتهم، وأنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان. وأشار عليه بالرجوع فرجعوا وسار جاولي في أثر الرسول، وحاصر حصناً بطرف كرمان فاٌرتاب ملك كرمان بخبر الرسول. ثم أطلع عليه من غير جامعة فقتله، ونهب أمواله، وبعث العساكر لقتاله. واجتمع معهم صاحب الحصن المحاصر، وسلك بهم غير الجادة. وسمع جاولي بخبرهم فارسل بعض الأمراء ليأتيه بالخبر فلم يجد بالجادة أحداً فرجع، وأخبره أن عسكر كرمان قد رجع فاطمأنّ، ولم يكن الا قليل حتى بيتته عساكر كرمان في شوال سنة ثمان وخمسمائة فانهزم وفتكوا فيه قتلاً وأسراً، وأدركه خسرو بن أبي سعد الذي كان قتل أباه فلما رآهما خاف منهما فآنساه، وأبلغاه إلى مأمنه بمدينة نسا، ولحقه عساكره ، وأطلق ملك كرمان الأسرى، وجهزهم إليه. وبينما هو يجهز العساكر لكرمان لأخذ ثأره توفي جعفري بك ابن السلطان في ذي الحجة من تسع لخمس سنين من عمره فقطعه ذلك عن معاداة كرمان. ثم بعث ملك كرمان
إلى السلطان ببغداد في منع جاولي عنه فقال: لا بد أن تسلم الحصن إلى حاصره جاولي في حد كرمان، وإنهزم عليه، وهو حصن فرح. ثم توفي جاولي في ربيع سنة عشر فأمنوا إعادته والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة السلطان محمد وملك إبنه محمود: ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة سنة إثنتي عشرة من ملكه،بعد أن أجلس ولده محمودا على الكرسي قبل وفاته بعشر ليال. وفوض إليه أمور الملك فلما توفي نفذت وصيته لابنه محمود فأمره فيها بالعدل والإحسان، وخطب له ببغداد، وكان مناهز الحلم. وكان السلطان محمد شجاعاً عادلاً حسن السيرة، وله آثار جميلة في قتال الباطنية، وقد مر ذكرها في أخبارهم ولما ولي قام بتدبير دولته الوزير أبو منصور، وأرسل إلى المستظهر في طلب الخطبة ببغداد له في منتصف المحرم من سنة اإثنتي عشرة. وأقر طهرون شحنة على بغداد، وقد كان السلطان محمد ولأه عليها سنة إثنتين وخمسمائة. ثم عاد البرسقي وقاتله، وإنهزم إلى عسكر السلطان محمود على الحلة دبيس بن صدقة. وقد كان عند السلطان محمد منذ قتل أبوه صدقة، وأحسن إليه وأقطعه. وولى على الحلة سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة. فلما توفي رغب من ابنه السلطان محمود بالعودة إلى الحلة فأعاده، وإاجتمع عليه العرب والاكراد. وفاة المستظهر وخلافة إبنه المسترشد: ثم توفي المستظهر بن المقتدي سنة إثنتي عشرة وخمسمائة منتصف ربيع الآخر، ونصب للخلافة إبنه المسترشد، وإسمه الفضل وقد تقدّم ذلك في أخبار الخلفاء. خروج مسعود ابن السلطان محمد على أخيه محمود: تقدم لنا أنّ السلطان ولى على الموصل إبنه مسعودا، ومعه حيوس بك وأن السلطان محمود اودبيس بن صدقة سارا إلى الحلّة. فلما توفي السلطان محمد، وولي إبنه محمود، وسار مسعود من الموصل مع أتابك حيوس بك ووزيره فخر الملك علي بن عمار، وقسيم الدولة، وزنكي بن اقسنقر صاحب سنجار، وأبي الهيجاء صاحب اربل، وكرباوي بن خراسان صاحب
المواريح وقصدوا الحلة فدافعهم دبيس فرجعوا إلى بغداد. وسار البرسقي إلى قتالهم فبعث إليه حيوس بك بأنهم إنما جاؤا لطلب الصريخ على دبيس صاحب الحلة، فاتفقوا وتعاهدوا، ونزل مسعود بدار الملك ببغداد. وجاء الخبر بوصول عماد الدين منكبرس الشحنة. وقد كان البرسقي هزم إبنه حسيناً كما مر فسار بالعساكر إلى البرسقي، فلما علم بدخول مسعود إلى بغداد عبر دجلة من النعمانية إلى دبيس بن صدقة فاستنجده. وخرج مسعود وحيوس بك والبرسقي ومن معهم للقائهم، وانتهوا إلى المدائن فأتتهم الأخبار بكثرة جموع منكبرس ودبيس فرجعوا، وأجازوا نهر صرصر، ونهبوا السواد من كل ناحية. وبعث المسترشد إلى مسعود والبرسقي ، والحث على الموادعة والصلح وجاءهم الخبر بأن منكبرس ودبيس بعثا مع منصور أخي دبيس وحسين بن أرز وبني منكبرس عسكرا لحماية بغداد فرجع البرسقي إلى بغداد د ليلاً، ومعه زنكي بن أقسنقر، وترك إبنه عزالدين مسعوداً على العسكر بصرصر فالتقى ، ومنع معسكر منكبرس من العبور، وأقام يومين. ثم وافاه كتاب إبنه بأن الصلح تم بين الفريقين بعده ففشل وعبر إلى الجانب الغربي، ومنصور وحسين في أثره ونزلا عند جامع السلطان، وخيم البرسقي عند القنطرة القبلية، وخيم مسعود وحيوس بك عند المارستان، ودبيس ومنكبرس تحت الرقة وعز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفرداً عن أبيه.وكان سبب إنعقاد الصلح أن حيوس بك أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود فأقطعهما أذربيجان. ثم وصل الخبر بمسيرهما إلى بغداد فاستشعر منهما العصيان، وجهز العساكر إلى الموصل فكتب إليه رسوله وبذلك، ووقع الكتاب بيد منكبرس الشحنة فبعث إليه، وضمن له إصلاح الحال له وللسلطان مسعود. وكان منكبرس متزوجاً بأم السلطان مسعود، وإسمها سرجهان فكان يؤثر مصلحته فاستقر الصلح، واتفقوا على إخراج البرسقي من بغداد إلى الملك، وأقام عنده، واستقر منكبرس شحنة بغداد، وساء أثره في الرعية، وتعرض لأموال الناس وحرمهم، وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فاستدعاه إليه فبقي يدافع. ثم سار خوفاً من عامة بغداد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
خروج الملك طغرل على أخيه السلطان محمود: كان الملك طغرك بن السلطان محمد عند وفاة أبيه مقيماً بقلعة سرجهان، وكان أبوه أقطعه سنة أربع سماوة وآوة وزنجان، وجعل اتابكه الأمير شيركير الذي حاصر قلاع الإسماعيلية كما مر في أخبارهم، وكان عمره يومئذ عشراً فأرسل السلطان محمد الأمير كسعدي أتابكاً له وأعجله إليه، وكان كسعدي حاقداً عليه فحمل طغرل على العصيان، ومنعه من المجيء إلى أخيه وإنتهى ذلك إلى محمود فأرسل إلى أخيه بتحف وخلع، وثلاثين ألف دينار ومواعد جميلة فلم يصيخوا إليها، وأجابه كسعدي اننا في الطاعة ومعترضون لمراسم الملك فسار إليهم السلطان مغذاً ليكبسهم، وجعل طريقه على قلعة شهران، التي فيها ذخائر طغرل وأمواله. ونما الخبر إلى طغرل وكسعدي فخرجا من العسكر في خفية قاصدين شهران وأخلى الطريق عنها لما سبق من اللطف، فوقعا على قلعة سرجهان. وجاء السلطان إلى العسكر فأخذ خزائن أخيه طغرل وفيها ثلاثمائة ألف دينار. ثم أقام بزنجان أياما ولحق منها بالري، ولحق طغرل وكسعدي بكنجة، واجتمع إليه أصحابه، وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه. فتنة السلطان محمود مع عمه سنجر: ولما توفي السلطان محمود، وبلغ الخبر إلى أخيه سنجر بخراسان أظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله حتى جلس للعزاء على الرماد، وأغلق بابه سبعاً. ثم سمع بولاية إبنه محمود فنكر ذلك، وعزم على قصد بلاد الجبل والعراق، وطلب السلطنة لنفسه مكان أخيه. وكان قد سار إلى غزنة سنة ثمان وخمسين، وفتحها وتنكر لوزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك ابي المظفر بن نظام الملك، لما بلغه أنه أخذ عليه الرشوة من صاحب غزنة ليثنيه عن قصده إليه، وفعل مثل ذلك بما وراء النهر، وامتحن أهل غزنة بعد فتحها، وأخذ منها أموالاً عظيمة، وشكا إليه الأمراء إهانته أياهم فلما عاد إلى بلخ قبض عليه وقتله، واستصفى أمواله، وكانت لا يعبر عنها: كان فيها من العين وحده ألف ألف دينار مرتين، واستوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك، وكان يعرف بابن الفقير، فلما مات أخوه السلطان محمد عزم على طلب الأمر
لنفسه، وعاوده الندم على قتل وزيره أبي جعفر لما يعلم من اضطجاعه بمثلها. ثم انّ السلطان محمود بعث إليه يصطنعه بالهدايا والتحف، وضمن له ما يزيد عن مائتي ألف دينار كل سنة، وبعث في ذلك شرف الدين أنو شروان بن خالد وفخر الدين طغرل فقال لهما سنجر أن ابن أخى صغير، وقد تحكم عليه وزيره وعلى ابن عمر الحاجب فلا بد من المسير، وبعث في مقدمته الأميرأنزوسار السلطان محمود، وبعث في مقدمته الحاجب علي بن محمد، وكان حاجب أبيه قبله، فلما تقاربت المقدمتان بعث الحاجب علي بن عمر إلى الأمير أنز، وهو بجرجان بالعتاب ونوع من الوعيد فتأخر عن جرجان فلحقته بعض العساكر، ونالوا منه. ورجع الحاجب إلى السلطان محمود بالري فشكر له فعله، وأقاموا بالري. ثم ساروا إلى كرمان، وجاءته الأمداد من العراق مع منكبرس ومنصور بن صدقة أخي دبيس وأمراء فسار إلى همذان، وتوفي وزيره الربيب فاستوزر أبا طالب الشهيري .
ثم سار السلطان في عشرين ألفاً وثمانية عشر فيلاُ، ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد، والأمير أنز والأمير قماج، وكرشاسف بن ضرام بن كاكويه صاحب برد، وهو صهره على أخته، وكان خصيصاً بالسلطان محمد فاستدعاه بعد موته سنجر، وتأخر عنه، وأقطع بلده لقراجا السامر فبادر إليه، وتراجعوا بقرب ساوة في جمادى ثالث عشر فسبقت عساكر السلطان محمود إلى الماء من أجل المسافة التي بين ساوة وخراسان. وكانت عساكر السلطان ثلاثين ألفاً ومعه الحاجب علي بن عمر ومنكبرس وأتابك غزغلي، وبنو برسق وأقسنقر البحاري وقراجاً الساني، ومعه سبعمائة حمل من السلاح. فعندما اصطفوا جلى الحرب إنهزم عساكر السلطان سنجر ميمنة وميسرة، وثبت هو في القلب، والسلطان محمود قبالته.وحمل السلطان سنجر في الفيلة فانهزمت عساكر السلطان محمود، وأسر أتابك غزغلي، وكان يكاتب السلطان سنجر بأنه يحمل إليه ابن أخيه فعاتبه على ذلك، ثم قتله. ونزل سنجر في خيام محمود، واجتمع إليه أصحابه، ونجا محمود من الواقعة، وأرسل دبيس بن صدقة للمسترشد في الخطبة لسنجر فخطب له أواخر جمادى الأولى من السنة، وقطعت خطبة محمود. ثم أنّ السلطان سنجر رأى قلة أصحابه وكثرة أصحاب محمود فراسله في الصلح، وكانت تحضه على ذلك والدته، فامتنع ولحق البرسقي بسنجر، وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من يوم خروجه من بغداد فسار سنجر من همذان إلى الكرخ، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح، ووعده بولاية عهده فأجاب وتحالفاً على ذلك. وسار محمود إلى عمه سنجر في شعبان بهدية حافلة، ونزل على جدته فتقبل منه شجر، وقدم له خمسة أفراس عربية. وكتب لعماله بالخطبة لمحمود بعده في جميع ولابته، وإلى بغداد بمثل ذلك.
وأعاد عليه جميع ما أخذه من بلاده سوى الريّ، وصار محمود في طاعة عمه سنجر. ثم سار منكبرس عن السلطان محمود إلى بغداد، وبعث دبيس بن صدقة من منعه من دخولها فعاد ووجه الصلح بين الملكين قد أسفر فقصد السلطان سنجر مستجيراً به من الاستبداد عليه، ومسيره لشحنة بغداد من غير إذنه. ثم أنّ الحاجب علي بن عمر ارتفعت منزلته في دولته وكثرت سعاية الأمراء عنه، فأضمر السلطان نكبته فاستوحش وهرب إلى قلعة له كان ينزل بها أهله وأمواله، وسار منها إلى خوزستان. وكانت بنو برسق: اسوري وابن أخويه ارغوي بن ملتكي وهدد بن زنكي بعثوا عسكراً يصدونه عن بلادهم، ولقوه قريباً من تستر فهزموه، وجاؤوا به أسيراً. وكاتبوا السلطان محمودا بأمرهم فأمرهم بقتله، وحمل رأسه إليه. ثم أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الذين تهددوا إلى شحنة بغداد فعاد إليها وعزل نائب دبيس بن صدقة.
استبداد علي بن سكمان بالبصرة: كان السلطان محمد قد أقطع البصرة للأمير أقسنقر البخاري، واستخلف عليها سنقر الشامي فاحسن السيرة. فلما توفي السلطان محمد، وثب عليه غزغلي مقدم الاتراك الاسماعيلية وكان يحج بالناس منذ سنين وسنقر ألبا، وملكا البصرة من يده وحبساه، وذلك سنة إحدى عشرة.وهم سنقر ألبا بقتله فعارضه غزغلي فلم يرجع وقتله. فقتله غزغلي به، وسكن الناس. وكان بالبلد أمير اسمه علي بن سكمان حج بالناس، وغاب عن هذه الواقعة فغمق به غزغلي لتمام الحج على يده، وخشي أن يثار منهم بسنقر ألبا لتقدمه عليهم فاوغر إلى عرب البرية فنهب الحاج وانثنى علي بن سكمان في الدفاع عنهم إلى أن قارب البصرة، والعرب يقاتلونه فبعث إليه غزغلي بالمنع من البصرة فقصد القرى أسفل دجلة، وصدق الحملة على العرب فهزمهم. ثم سار إليه غزني وقاتله فأصابه سهم فمات وسار علي بن سكمان إلى البصرة وملكها، وكاتبه أقسنقر البخاري وصاحب عمان بالطاعة وأقر نوابه على أعماله، وكان عند السلطان، وطلبه أن يوليه البصرة فأى وبقي ابن سكمان مستبدا بالبصرة إلى أن بعث السلطان أقسنقر البخاري إلى البصرة سنة أربع
عشرة فملكها من علي بن سكمان.
الاستيلاء الكرج على تفليس كان الكرج قديما يغيرون على أذربيجان، وبلاد أران. قال ابن الأثير: والكرج هم الخزر وقد بينا الصحيح من ذلك عند ذكر الأنساب. وأن الخزر هم التركمان إلا أن يكون الكرج من بعض شعوبهم فيمكن. ولما استفحل ملك السلجوقية أمسكوا عن الإغارة على البلاد المجاورة لهم. فلما توفي السلطان محمد رجعوا إلى الغارة فكانت سراياهم وسرايا القفجاق تغير على البلاد. ثم اجتمعوا وكانت بلد الملك طغرل، وهي أران ونقجوان إلى أوس مجاورة لهم فكانوا يغيرون عليها إلى العراق لملك بغداد. ونزل على دبيس بن صدقة فسار هو وأتابك كبغري ودبيس بن صدقة وأبي الغازي بن أرتق. وسار في ثلاثين ألفاً إلى الكرج والقفجاق فاضطرب المسلمون وانهزموا، وقتل منهم خلق، وتبعهم الكفار عشرة فراسخ. وعادوا عنهم وحاصروا مدينة تفليس، وأقاموا عليها سنة وملكوها عنوة سنة خمس عشرة ووصل صريخهم سنة ست عشرة الى السلطان محمود بهمدان فسار لصريخهم، وأقام بمدينة تبريز، وانفذ عساكره الى الكرج فكان من أمرها ما يذكر ان شاء الله تعالى. الحرب بين السلطان محمود وأخيه مسعود: قد تقدم لنا مسير مسعود إلى العراق وموت أبيه السلطان محمد، وما تقرر بينهما من الصلح ورجوعه إلى الموصل بلده، وان السلطان محموداً زاده اذربيجان، ولحق به قسيم الدولة البرسقي عندما طرده عن شحنة بغداد فأقطعه مسعود مراغة مضافة إلى الرحبة. وكاتب دبيس حيوس بك أتابك مسعود يحرضه على نكبة البرسقي، وانه يباطن السلطان محموداً ووعده على ذلك بالأموال، وحرضهم على طلب الأمر لمسعود ليقع الاختلاف فيحصل له علو الكلمة كما حصل لأبيه في فتنة بركيارق ومحمد. وشعر البرسقي بسعاية ديبس فخشي على نفسه ولحق بالسلطان محمود فقبله وأعلى محله.ثم اتصل بالملك مسعود الأستاذ أبو اسمعيل الحسين بن علي
الأصبهاني الطغرائي وكان ابنه أبو الوليد محمد بن أبي اسمعيل يكتب الطغري للملك مسعود، فلما وصل أبوه استوزره مسعود، وعزل أبا علي بن عمار صاحب طرابلس سنة ثلاث عشرة فأغرى مسعوداً بالخلاف على أخيه السلطان محمود فكتب إليهم السلطان بالترغيب والترهيب فأظهروا أمرهم، وخاطبوا الملك مسعوداً بالسلطان وضربوا له النوب الخمس، وآغزوا إليه السير وهو في خف من العسكر فسار إليهم في خمسة عشرألفاً، وفي مقدمته البرسقي. ولقيهم بعقبة أستراباذ منتصف ربيع الأول سنة أربع عشرة فانهزم الملك مسعود وأصحابه، وأسر جماعة من أعيانهم: منهم الأستاذ أبو اسمعيل الطغرائي وزير الملك مسعود فأمر السلطان محمود بقتله وقال: ثبت عندي فساد عقيدته، وكان قتله لسنة من وزارته. وكان كاتبا شاعرا يميل إلى صناعة الكيمياء، وله فيها تصانيف معدودة.ولما انهزم الملك مسعود لحق ببعض الجبال على إثني عشر فرسخاً من المعركة فاختفى فيه مع غلمان صغار، وبعث يستأمن إلى أخيه فأرسل إليه أقسنقر البرسقي يؤمنه ويجيء به إليه، وخالفه إليه بعض الأمراء، فحرضه على اللحاق بالموصل وأذربيجان ومكاتبة دبيس ومعاودة الحرب فسار معه لذلك. وجاء البرسقي إلى مكانه الأول فلم يجده، فاتبعه إلى أن أدركه على ثلاثين فرسخاً، وأعلمه حال أخيه من الرضا عنه وأعاده فرجع، ولقيه العساكر بأمر السلطان محمود وأنزله عند أمه. ثم أحضره وهش له وبكى وخلطه بنفسه، وذلك لثمانية وعشرين يوما من الخطبة بأذربيجان وأما حيوس بك الأتابك فافترق عن السلطان من المعركة، وسار إلى الموصل، وجمع الغلال من سوادها. واجتمعت إليه العساكر، وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب موريا بالصيد. ثم أجد السير إلى السلطان بهمدان فأمنه، وأحسن إليه، وبلغ الخبر بالهزيمة إلى دبيس وهو بالعراق فنهب البلاد وأخربها، وبعث إليه السلطان فلم يصغ الى كتابه.
ولاية اقسنقر البرسقي على الموصل ثم على واسط وشحنة العراق: ولما وصل حيوس بك الى السلطان محمود بعثه الى أخيه طغرل وأتابك كبغري فسار الى كنجة وبقي أهل الموصل فوضى من غير وال، وكان اقسنقر البرسقي قد أبلى في خدمة السلطان محمود ورد اليه أخاه مسعوداً يوم الهزيمة فعرف له حق نصحه وحسن أثره فأقطعه الموصل وأعمالها،
وما يضاف إليها كسنجار والجزيرة فسار اليها سنة خمس عشرة، وتقدم الى سائر الامراء بطاعته. وأمره بمجاهدة الإفرنج واسترجاع البلاد منهم فوصل الى الموصل، وقام بتدبيرها واصلاح أحوالها. ثم أقطعه سنة ست عشرة بعدها مدينة واسط وأعمالها مضافة الى الموصل، وجعله شحنة بالعراق فاستخلف عماد الدين رنكي بن اقسنقر وبعثه اليها فسار اليها في شعبان من السنة.
مقتل حيوس بك والوزير الشهيرمي: ثم انّ السلطان بعد وصول حيوس بك بعثه لحرب أخيه طغرل كما قلناه، وأقطعه أذربيجان فتنكر له الامراء وأغروا به السلطان فقتله على باب هرمز في رمضان سنة عشر وأصله تركي من موالي السلطان محمد، وكان عادلاً حسن السيرة. ولما ولي الموصل والجزيرة، وكان الاكراد بتلك الاعمال انتشروا وكثرت قلاعهم وعظم فسادهم فقصدهم، وفتح كثيراً من قلاعهم كبلد البكاريه وبلد الزوزن وبلد النكوسة وبلد التخشيبة، وهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق، وصلحت السابلة وأمن الناس. وأمًا الوزير الكمال أبو طالب الشهيرمي فانه برز مع السلطان دبيس الى همدان، وخرج في موكبه، وضاق الطريق فتقدًم الموكب بين يديه فوثب عليه باطني وطعنه بسكين فأنفذه، واتبعه الغلمان فوثب عليه آخر فجذبه عق سرجه وطعنه طعنات. وشّردهم الناس عنه فوثب آخر فجذبه، وذلك لاربع سنين من وزارته. وكان سيئ السيرة ظلوما غشوماً كثير المصادر. ولما قتل رفع السلطان ما كان أحدث من المكوس. رجوع طغرل الى طاعة أخيه السلطان محمود: قد ذكرنا عصيان طغرل على أخيه السلطان محمود بالريّ سنة ثلاث عشرة، وأن السلطان محمود سار اليه وكبسه فلحق برجهان. ثم لحق منها بكنجة وبلاد أرّان، ومعه أنابك كبغري فاشتدّت شوكته، وقصد التغلب على بلاد اذربيجان، وهلك كبغري في شّوال سنة خمس عشرة، ولحق باقسنقر الارمني صاحب مراغة ليقيم له الاتابكية، وحرضه على قتال السلطان محمود فسار معه الى مراغة، ومروا باردبيل فامتنعت عليهم فساروا الى هرمز. وجاءهم الخبر
هنالك بأنّ السلطان محمود بعث الامير حيوس بك الى أذرببجان وأقطعه البلاد، وأنه وصل الى مراغة في عسكر كثيف فساروا عن هرمز الى خونج ، وانتقض عليهم وراسلوا الامير بشيركين الذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يستنجد به. وكان كبغري الاتابك قبض عليه بعد السلطان محمد، ثم أطلقه السلطان سنجر، وعاد الى أبهر وزنجان، وكانت أقطاعه فأجاب داعيهم، وسار أمامهم الى أبهر، ولم يتم
أمرهم فراسلوا السلطان في الطاعة، وعاد طغرل الى أخيه وانتظم أمرهم. مقتل وزير السلطان محمود: وكان وزير السلطان محمود شمس الملك بن نظام الملك، وكان حظيا عنده فكثرت سعاية أصحابه فيه. وكان ابن عمه الشهاب أبو المحاسن وزير السلطان سنجر فتوفي، واستوزر سنجر بعده أبا طاهر القمي، عدواً لبني نظام الملك فأغرى السلطان سنجر حتى أمر السلطان محمود بنكبته فقبض عليه، ودفعه الى طغرل فحبسه بقلعة جلجلال. ثم قتله بعد ذلك، وكان أخوه نظام الدين أحمد قد استوزره المسترشد، وعزل به جلال الدين أبا علي بن صدقه فلما بلغه نكبة شمس الملك ومقتله، عزل أخاه نظام الدين وأعاد اإبن صدقة إلى وزارته والله سبحانه وتعالى أعلم. ظفر السلطان بالكرج: ثم وفد سنة سبع عشرة على السلطان محمود جماعة من أهل دنباوند وشروان يستصرخونه على الكرج، ويشكون ما يلقون منهم فسار لصريخهم. ولما تقارب الفئتان همّ السلطان بالرجوع، وأشار به وزيره شمس، وتطارح عليه أهل شروان فأقام وباتوا على وجل. ثم وقع الاختلاف بين الكرج وقفجاق واقتتلوا ليلتهم ورحلوا منهزمين وعاد السلطان إلى همدان والله تعالى أعلم.
عزل البرسقي عن شحنة العراق وولاية برتقش الزكوي:
كان الخليفة المسترشد قد وقعت بينه وبين دبيس بن صدقة حروب شديدة بنواحي المباركة من أطراف غانة، وكان البرسقي معه وانهزم دبيس فيها هزيمة شنيعة كما مّر في أخباره وقصد غزنة صريخاً فلم يصرخوه فقصد المنتفق، وسار بهم الى البصرة فدخلوها واستباحوها، وقتلوا سلمان نائبها فأرسل الخليفة الى البرسقي بالنكير على اهمال أمر دبيس، حتى فتك في البصرة فسار البرسقي اليه، وهرب دبيس فلحق بالإفرنج وجاء معهم لحصار حلب فامتنعت فلحق بطغرل بن السلطان محمد يستحثه لقصد العراق كما مر ذلك في أخبار دبيس. وبقيت في نفس المسترشد عليه. ولحق بها أمثالها فتنكر له، وبعث الى السلطان محمود في عزله فعزله، وأمره بالعود الى الموصل لجهاد الإفرنج، ووصل نائب برتقش الى بغداد وأقام بها الشحنة، وبعث السلطان ابناً له صغيراً ليكون معه على الموصل، وسار البرسقي به، ووصل الموصل وقام بولايتها.بداية أمر بني اقسنقر وولاية عماد الدين زنكي علي البصرة: كان عماد الدين زنكي في جملة البرسقي، ولما أقطعه السلطان واسط بعث عليها زنكي فأقام فيها أياماً . ثم كان مسير البرسقي الى البصرة في أتباع دبيس. فلما هرب دبيس عنها بعث البرسقي اليها عماد الدين زنكي فأقام بحمايتها، ودفع العرب عنها. ثم استدعاه البرسقي عندما سار الى الموصل فضجر من تلوّن الاحوال عليه، واختار اللحاق باصفبان فقدم عليه باصفبان فأكرمه السلطان، وأقطعه البصرة، وعاد إليها سنة ثمان عشرة والله تعالى أعلم. استيلاء البرسقي على حلب: لما سار دبيس الى الإفرنج حرّضه على حلب، وان ينوب فيها عنهم، ووجدهم قد ملكوا مدينة صور، وطمعوا في بلاد المسلمين. وساروا مع دبيس الى حلب فحاصروها حتى جهد أهلها الحصار، وبها يومئذ تاس بن ، ابن ارتق فاستنجد بالبرسقي صاحب الموصل، وشرط عليهم ان يمكنوه من القلعة، ويسلموها إلى نوابه. وسار الى انجادهم فاجفل عنهم
الإفرنج، ودخل الى حلب فأصلح أمورها. ثم سار إلى كفرطاب فملكها من الإفرنج. ثم سار الى قلعة إعزاز من أعمال حلب، وصاحبها جوسكين فحاصرها وسارت اليه عساكر الإفرنج فانهزم، وعاد الى حلب فخلف فيها ابنه مسعوداً، وعبر الفرات إلى الموصل. مسير طغرل ودبيس الى العراق: ولما ارتحل الإفرنج عن حلب فارقهم دبيس، ولحق بالملك طغرل فتلقاه بالكرامة والميرة، وأغراه بالعراق، وضمن له ملكه فساروا لذلك سنة تسع عشرة، وانتهوا إلى دقوقا فكتب مجاهد الدين بهرام بن تكريت الى المسترشد يخبرهم فتجهز للقائهم وأمر برتقش الزكوي ان يتجهز معه خامس صفر وانتهى الى الخالص ، وعدل طغرل ودبيس الى طريق خراسان، ثم نزلوا رباط جلولاء. ونزل الخليفة بالدسكرة ، في مقدّمته الوزير جلال الدين بن صدقة. وسار دبيس الى جسر النهروان لحفظ المقابر، وقد كان رأيه مع طغرل أن يسير طغرل الى بغداد فيملكها، وتقدّم دبيس في انتظاره فقعد به المرض عن لحاقه وغشيتهم أمطار أثقلتهم عن الحركات. وجاء دبيس الى النهروان طريحا من التعب والبرد والجوع. واعترضوا ثلاثين حملا للخليفة جاءت من بغداد بالملبوس والمأكول فطعموا وأكلوا وناموا في دفء الشمس، واذا بالمسترشد قد طلع عليهم في عساكره، بلغه الخبر بأن دبيساً وطغرل خالفوه الى بغداد فاضطرب عسكره، واجفلوا راجعين الى بغداد فلقوا في طريقهم دبيساً كما ذكرنا على دبال غرب النهروان، وقف الخليفة عليه فقبل دبيس الارض، واستعطف حتى همّ الخليفة بالعفو عنه، ثم وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه، ووقف دبيس مع برتقش الزكوي يحادثه. ثم شغل الوزير بمدّ الجسر للعبور فتسلل دبيس، ولحق بطغرل. وعاد المسترشد الى بغداد، ولحق طغرل ودبيس بهمدان فعاثوا في أعمالها، وصادروا أهلها. وخرج إليهم السلطان محمود فانهزموا بين يديه، ولحقوا بالسلطان سنجر بخراسان شاكين من المسترشد برتقش الشحنة والله أعلم بغيبه وأحكم.
مقتل البرسقي وولاية ابنه عز الدين على الموصل:
ثم إن المسترشد تنكر للشحنة برتقش وتهدده فلحق بالسلطان محمود في رجب
سنة عشرين فأغراه بالمسترشد، وخوفه غائلته، وانه تعود الحروب، وركب العيث ويوشك أن يمتنع عنك ويستصعب عليك فاعتزم السلطان على قصد العراق، وبعث إليه الخليفة يلاطفه في الرد لغلاء البلاد وخرابها، ويؤخره إلى حين صلاحها فصدق عنده حديث الزكوي، وسار مجدّا فعبر المسترشد بأهله وولده، وأولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة راحلا عن بغداد، والناس باكون لفراقه. وبلغ ذلك إلى السلطان فشق عليه، وأرسل يستعطفه في العودة إلى داره فشرط عليه الرجوع عن العراق في القوت كما شرط أوّلا فغضب السلطان، وسار نحو بغداد، والخليفة بالجانب الغربي، ثم أرسل خادمه عفيفا إلى واسط يمنع عنها نواب السلطان فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة، وهزمه وفتك في عسكره قتلاً وأسراً. وجمع المسترشد السفن إليه وسد أبواب قصره، ووكل حاجب الباب أبن الصاحب بدار الخلافة ووصل السلطان إلى بغداد في عشر من ذي الحجة، ونزل باب الشماسية وأرسل المسترشد في العود والصلح، وهو يمتنع. وجرت بين العسكرين مناوشة. ودخل جماعة من عسكر السلطان إلى دار الخليفة، ونهبوا التاج أول المحّرم سنة إحدى وعشرين وخمسمائة فضج العامة لذلك، ونادوا بالجهاد، وخرج المسترشد من سرادقه ينادي بأعلى صوته. وضربت الطبول ونفخت البوقات، ونصب الجسر وعبر الناس دفعة، وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب في دور الخلافة والأمراء، وكان في دار الخلافة ألف رجل كامنون في السرداب فخرجوا عند ذلك، ونالوا من عسكر السلطان وأسروا جماعة من أمرائه. ونهب العامة دور وزير السلطان وأمرائه وحاشيته، ومثل منهم خلق وعبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد. ودفع السلطان وعسكره عن بغداد، وحفر عليها الخنادق، واعتزموا على كبس السلطان فأخافهم أبو الهيجاء الكردي صاحب اربل ركب للقتال فلحق بالسلطان، ووصل عماد الدين زنكي من البصرة في جيش عظيم في البّر والبحر أذهل الناس برؤيته فحام المسترشد عن اللقاء. وتردّد الرسل بينهما فأجاب إلى الصلح، وعفا السلطان عن أهل بغداد، وأقام بها إلى عاشر ربيع الآخر. وأهدى إليه المسترشد سلاحا وخيلا وأموالا، ورحل إلى همدان. وولى زنكي بن اقسنقر شحنة بغداد ثقة بكفايته، واستقامت أحواله مع الخليفة. وأشار به أصحابه ورأوا أنه يرقع الخرق، ويصلح الأمر فولاه على ذلك مضافا إلى ما بيده من البصرة وواسط، وسار إلى همدان، وقبض في طريقه على وزيره أبي القاسم علي بن الناصر الشادي اتهمه بممالأة المسترشد لكثرة سعيه
في الصلح فقبض عليه، واستدعى شرف الدولة أنوشروان بن خالد من بغداد فلحقه بأصبهان في شعبان، واستوزره عشرة أشهر، ثم عزله ورجع إلى بغداد، وبقي أبو القاسم محبوسا إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الريّ فأطلقه وأعاده إلى وزارة السلطان محمود آخر اثنتين وعشرين.وفاة عز الدين بن البرسقي وولاية عماد الدين زنكي علي الموصل وأعمالها ثم استيلاؤه علي حلب:
ولما استولى عز الدين على الموصل وأعمالها، واستفحل أمره طمحت همته إلى الشام فاستأذن السلطان في المسير إليه. وسار إلى دمشق ومرّ بالرحبة فحاصرها وملكها. ثم مات إثر ذلك وهو عليها، وافترقت عساكره وشغلوا عن دفنه. ثم دفن بعد ذلك ورجعت العساكر إلى الموصل، وقام بالأمر مملوكه جاولي. ونصب أخاه الأصغر، وأرسل إلى السلطان يطلب تقرير الولاية له. وكان الرسول في ذلك القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي الشهرزوري، وصلاح الدين محمد الباغسياني أمير حاجب البرسقي، واجتمعا بنصير الدين جعفر مولى عماد الدين زنكي، وكان بينه وبين صلاح الدين سر فخوفهما جعفر ابن جاولي، وحملهما على طلب عماد الدين زنكي، وضمن لهما عنه الولايات والاقطاع فأجابوه، وجاء بهما إلى الوزير شرف الدين أنو شروان بن خالد فقالا له انّ الجزيرة والشام قد تمكن منهما الإفرنج، من حدود ماردين إلى عريش مصر. وكان البرسقي يكفهم وقد قتل وولده صغير، ولا بد للبلد ممن يضطلع بأمرها ويدفع عنها، وقد خرجنا عن النصيحة إليكم فبلغ الوزير مقالتهما إلى السلطان فأحضرهما واستشارهما فذكرا جماعة: منهم عماد الدين زنكي، وبذلا عنه مقرباً إلى خزانة السلطان مالا جزيلاً فولاه السلطان لما يعلم من كفايته، وولى مكانه شحنة العراق مجاهد الدين بهروز صاحب تكريت، وسار عماد الدين زنكي فبدأ بالبوازيج وملكها، ثم سار إلى الموصل وتلقاه جاولي مطيعا وعاد إلى الموصل في خدمته فدخلها في رمضان، واقطع جاولي الرحبة وبعثه إليها، وولى نصير الدين جعفراً قلعة الموصل وسائر القلاع، وجعل صلاح الدين محمد الباغسياني أمير صاحب، وولى بهاء الدين الشهرزوري قضاء بلاده جميعا، وزاده أملاكاً وأقطاعاً وشركه في رأيه ثم سار إلى جزيرة ابن عمر، وقد امتنع بها مماليك البرسقي فجد في قتالهم وكانت دجلة تحول بينه وبين البلد فعبر بعسكره الماء سبحاً، واستولى على المسافة التي بين دجلة والبلد، وهزم من كان فيها من الحامية حتى أحجزهم بالبلد وضيق حصارهم فاستأمنوا وأمنهم. ثم سار إلى نصيبين وهي لحسام الدين تمرتاش ابن أبي الغازي صاحب ماردين فحاصرها واستنجد حسام الدين ابن عمه ركن الدولة داود بن سكمان بن أرتق صاحب كيفا فأنجده بنفسه، وأخذ في جمع العساكر. وبعث تمرتاش ماردين إلى نصيبين يعرّف العساكر بالخبر، وأنّ العساكر واصلة إليهم عن خمسة أيام، وكتبه في رقعة وعلقها في جناح طائر فاعترضه عسكر زنجي وصادوه، وقرأ زنكي الرقعة، وعوض الخمسة أيام بعشرين يوما، وأطلق الطائر بها إلى البلد فقرؤا الكتاب وسقط في أيديهم، واستطالوا العشرين، واستأمنوا لعماد الدين زنكي فأمنهم وملك نصيبين، وسار عنها إلى سنجار فملكها صلحا، وبعث العساكر إلى الخابور فملكها. ثم سار إلى حرّان وخرج إليه أهل البلد بطاعتهم، وكانت الرها وسروج والميرة ونواحيها للافرنج، وعليها جرسكين صاحب الرها فكاتب زنكي وهادنه ليتفّرغ للجهاد بعد. ثم عبر الفرات إلى حلب في المحّرم سنة اثنتين وعشرين، وقد كان عز الدين مسعود بن اقسنقر البرسقي لما سار عنها إلى الموصل بعد قتل أبيه استخلف عليها قرمان من أمرائه. ثم عزله بآخر اسمه قطلغ أبه وكتب له إلى قرمان فمنعه الا أن يرى العلامة التي بينه وبين عز الدين ابن البرسقي فعاد قطلغ إلى مسعود ليجيء بالعلامة فوجده قد مات بالرحبة، فعاد إلى حلب وأطاعه رئيسها فضائل بن بديع والمقدّمون بها، واستنزلوا قرمان من القلعة على ألف دينار أعطوه إياها، وملك قطلغ القلعة منتصف إحدى وعشرين. ثم ساءت سيرته، وظهر ظلمه وجورهو وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وكان ملكها قبل، وخلع عنها فدعاه الناس إلى البيعة وثاروا بقطلغ فامتنع بالقلعة فحاصروه. وجاء مهيار صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لإصلاح أمرهم فلم يتفق، وطمع الإفرنج في ملكها. وتقدّم جوسكين بعسكره إليها فدافعوه بالمال. ثم وصل صاحب أنْطاكِية فحاصرهم إلى آخر السنة، وهم محاصرون القلعة فلما ملك عماد الدين زنكي الموصل والجزيرة والشام فأطاعوا، وسار عبد الجبار وقطلغ إلى عماد الدين بالموصل وأقام أحد الأميرين بحلب حتى بعث عماد الدين زنكي صاحبه صلاح الدين محمد الباغسياني في عسكر فملك القلعة ، ورتب الأمور، وولى عليها. وجاء عماد الدين بعساكره في أثره، وملك في طريقه منبج ومراغة. ثم دخل حلب، وأقطع أعمالها الأجناد والأمراء، وقبض على قطلغ ابه، وسلمه لابن بديع فكحله فمات. واستوحش ابن بديع فهرب إلى قلعة جعفر، وأقام عماد الدين مكانه في رئاسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق. قدوم السلطان سنجر إلى الريّ ثم قدوم السلطان محمود إلى بغد اد: الموصل طغرل ودبيس إلى السلطان سنجر بخراسان. حرضه دبيس على العراق والسلطان
محمود قد اتفقا على الامتناع منه فسار سنجر وأخبر السلطان محمود باستدعائه فوافاه لأقرب وقت، وأمر العساكر بتلقيه وأجلسه معه على التخت. وأقام السلطان محمود عند إلى آخر اثنتين وعشرين. ثم رجع سنجر إلى خراسان، بعد أن أوصى محمود بدبيس، وأعاده إلى بلده، ورجع محمود إلى همذان. ثم سار إلى العراق، وخرج الوزير للقائه، ودخل بغداد في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين. ثم لحقه دبيس بمائة ألف دينار في ولاية الموصل، وسمع بذلك زنكي، وجاء إلى السلطان وحمل المائة ألف مع هدايا جليلة فخلع عليه، وأعاده وسار منتصف السنة عن بغداد إلى همذان، بعد أن ولى الحلة مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد.
وفاة السلطان محمود وملك ابنه د اود: ثم توفي السلطان محمود بهمذان في شوّال سنة خمس وعشرين، لثلاث عشرة سنة من ملكه، بعد أن كان قبض على جماعة من أمرائه وأعيان دولته. منهم عزيز الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي، وأبو شكين المعروف بشيركين بن حاجب، وابنه عمر، فخافهم الوزير أبو القاسم الشابادي فاغرى بهم السلطان فنكبهم وقتلهم. ولما توفي اجتمع الوزير أبو القاسم والأتابك اقسنقر الأحمديلي وبايعوا لابنه داود، وخطبوا له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان. ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل. ثم سكنت وهرب الوزير إلى الريّ مستجيراً بالسلطان فأمّر بها. منازعة السلطان مسعود لد اود ابن أخيه واستيلاؤه على السلطان بهمذان: لما هلك السلطان محمود سار أخوه مسعود من جرجان إلى تبريز فملكها، فسار داود من همذان في ذي القعدة سنة خمس وعشرين، وحاصره بتبريز في محّرم سنة ست وعشرين. ثم اصطلحوا وتأخر داود عن الأمر لعمه مسعود فسار مسعود من تبريز إلى همذان، وكاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل يستنجده فوعده بالنصر، وأرسل إلى المسترشد في طلب الخطبة ببغداد. وكان
داود أرسل في ذلك قبله، وردّ المسترشد الأمر في الخطبة إلى السلطان سنجر. ودسّ إليه أن لا يأذن لواحد منهما، وأن تكون الخطبة له فقط. وحسن موقع ذلك عنده، وسار السلطان مسعود إلى بغداد، وسبقه إليها أخوه سلجوق شاه مع أتابك قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان، ونزل في دار السلطان ، واستخلفه الخليفة لنفسه. ولما سار السلطان مسعود أوعز إلى عماد الدين زنكي أن يسير إلى بغداد فسار من الموصل إليها، وأنتهى السلطان مسعود إلى عباسة الخالص، وبرزت إلية عساكر المسترشد وسلجوق شاه. وسار قراجا الساقي إلى مدافعة زنكي فدافعه على المعشوق فهزمه، وأسر كثيراً من أصحابه، ومرّ منهزما إلى تكريت، وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو الأملاك الايوبية فهيأ له المعابر، وعبر دجلة إلى بلاده. وسار السلطان مسعود من العباسة، وقاتلت طلائعه طلائع أخيه سلجوق، وبعث سلجوق يستحث قراجا بعد انهزام زنكي فعاد سريعاً . وتأخر السلطان مسعود بعد هزيمة زنكي، وأرسل إلى المسترشد بأنّ عمه سنجر وصل إلى الريّ عازما على بغداد، ويشير بمدافعته عن العراق، وتكون العراق لوكيل الخليفة. ثم تراسل القوم واتفقوا على ذلك، وتحالفوا عليه، وان يكون مسعود السلطان ولىّ العهد، ودخلوا إلى بغداد فنزل مسعود ديار السلطان وسلجوق دار الشحنة، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
هزيمة السلطان محمود وملك طغرل أخيه: لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر من خراسان إلى بلاد الجبال، ومع طغرل ابن أخيه محمد، وانتهى إلى الريّ. ثم سار إلى همذان فسار مسعود لقتاله، ومعه قراجا الساقي وسلجوق شاه. وقد كان الخليفة عزم أن لا يتجهز معهم فأبطأ فبعثوا اليه قراجا فسار إلى خانقين وأقام، وقطعت خطبة سنجر من العراق. وخالفهم إلى بغداد دبيس وزنكي، وقد سمي اقطاعه لسنجر الحلة، وزنكي ولاه شحنة بغداد فرجع المسترشد إلى بغداد لموافقتهما. وسار السلطان وأخوه سلجوق شاه للقاء سنجر. ثم سمعا بكثرة عساكره فتأخرا فسار في طلبهم يوما وليلة. ثم تراجعوا عند الدينور. وكان مسعود يماطل باللقاء انتظارا للمسترشد فلم يجد بّدا من اللقاء فالتقوا على النقيبة، وحمل قراجا عليهم وتورّط في المعركة وأصيب بجراحات. ثم
التفوا عليه وأسروه، وانهزم من أصحاب مسعود قزل وقد كان واطأهم على الهزيمة فانهزم السلطان مسعود عند ذلك منتصف ستة وعشرين، وقتل كثير من أكابر الأمراء. ونزل سنجر في خيامهم، وأحضر قراجا فقتله، وجيء اليه بالسلطان مسعود فأكرمه وأعاده إلى كنجة، وخطب للملك طغرل ابن أخيه في السلطنة، وخطب له في جميع البلاد. واستوزر له أبا القاسم الساباذي وزير السلطان محمود، وعاد إلى نيسابور آخر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة.
هزيمة السلطان داود واستيلاء طغرل بن محمد على الملك: لما وليّ طغرل همذان وولى عنه السلطان سنجر إلى خراسان، وبلغه أن صاحب ما وراء النهر المرخان قد انتقض عليه فسار لإصلاحه، وشغل بذلك فقام الملك داود باذربيجان وبلاد كنجة، وطلب الأمر لنفسه. وجمع العساكر، وسار إلى همذان ومعه برتقش الزكوي وأتابك اقسنقر الأحمديلي، ومعه طغرل بن برسق، ونزل وقد استقر. ثم اضطرب عسكر داود وأحسوا من برتقش الزكوي بالفشل فنهب التركمان. خيامه، وهرب اقسنقر أتابك، وانهزم في رمضان سنة ست وعشرين. ثم قدم بغداد في ذي القعدة ومعه أتابك أقسنقر فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان. عود السلطان مسعود إلى الملك وهزيمة طغرل: قد تقدم لنا هزيمة السلطان مسعود من عمه سنجر، وعوده الى كنجة، وولاية طغرل السلطان، ثم محاربة داود ابن أخيه له وانهزام داود، ثم رجوع داود إلى بغداد. فلما بلغ الخبر إلى مسعود جاء إلى بغداد، ولقيه داود قريبا منها، وترجل له عن فرسه، ودخلا بغداد في صفر سنة سبع وعشرين. ونزل مسعود بدار السلطان، وخطب له ولداود بعده، وطلبا من السلطان عسكراً ليسير معهما الى أذربيجان فبعث معهما العساكر الى اذربيجان، ولقيهم اقسنقر الأحمديلي في مراغة بالإقامة والأموال وملك مسعود بلاد أذربيجان، وهرب بين يديه من كان بها من الأمراء، وامتنعوا بمدينة أذربيجان فحاصرهم بها، وملكها عليهم، وقتل منهم جماعة وهرب الباقون. ثم سار الى همذان لمحاربة أخيه طغرل فهزمه، وملك همذان في شعبان من السنة، ولحق طغرل بالريّ وعاد إلى أصبهان. ثم قتل اقسنقر الأحمديلي بهمذان غيلة، ويقال انّ السلطان مسعوداً دسّ عليه من قتله. ثم سار إلى حصار طغرل بأصبهان ففارقها طغرل إلى فارس، وملكها مسعود، وسار في أثر طغرل إلى البيضاء فاستأمن اليه بعض أمراء طغرل فأمنه. وخشي طغرل أن يستأمنوا اليه فقصد الريّ
، وقتل في طريقه وزيره أبا القاسم الساباذي في شوّال السنة، ومثل به غلمان الأمير شيركين الذي سعى في قتله كما مرّ. ثم سار الأمير مسعود يتبعه إلى أن تراجعا ودارت بينهما حرب شديدة، وانهزم طغرل وأسر من أمرائه الحاجب تنكي، وأتى بقرا، وأطلقهما السلطان مسعود وعاد إلى همذان والله تعالى أعلم. عود الملك طغرل إلى الجبل وهزيمة السلطان مسعود: ولما عاد مسعود من حرب أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه، وحاصره بقلعة ، فحصر جمع طغرل العساكر، وتغلب على بلاده وسار إليه، واستعمل بعض قواده فسار مسعود للقائه، ولقيه عند قزوين. وفارق مسعود الأمراء الذين استمالهم طغرل، ولحقوا به فانهزم مسعود في رمضان سنة ثمان وعشرين وبعث إلى المسترشد يستأذنه في دخول بغداد فأذن له. وكان أخوه سلجوق بأصبهان مع نائبه فيها البقش السلاحي. فلما سمع بانهزامه سبقه إلى بغداد، وأنزله المسترشد بدار السلطان، وأحسن إليه بالأموال. ووصل مسعود، وأكثر أصحابه رجلا فوسع عليه الخليفة بالانفاق والمراكب والظهر واللباس والآلة، ودخل دار السلطان منتصف شوّال وأقام طغرل بهمذان. وفاة طغرل واستيلاء مسعود على الملك: ولما وصل مسعود إلى بغداد حمل إليه المسترشد ما يحتاج إليه، وأمره بالمسير إلى همذان لمدافعة طغرل ووعده بالمسير معه بنفسه فتبطأ مسعود عن المسير، واتصل جماعة من أمرائه بخدمة الخليفة. ثم أطلع على مداخلة بعضهم لطغرل فقبض عليه، ونهب ماله وارتاب الآخرون فهربوا عن السلطان مسعود. وبعث المسترشد في إعادتهم إليه فدافعه ووقعت لذلك بينهما وحشة فقعد المسترشد عن نصره بنفسه. وبينما هم في ذلك وصل الخبر بوفاة أخيه طغرل في المحرم سنة تسع وعشرين فسار مسعود إلى همذان، واستوزر شرف الدين أنو شروان بن خالد حمله من بغداد، وأقبلت إليه العساكر فاستولى على همذان وبلاد الجبل اه. فتنة المسترشد مع السلطان مسعود ومقتله وخلافة ابنه الراشد: قد تقدم لنا أن الوحشة وقعت عندما كان ببغداد بسبب أمرائه الذين اتصلوا بخدمة
المسترشد، ثم هربوا عنه إلى السلطان مسعود فلما سار السلطان مسعود إلى همذان بعد أخيه طغرل، وملكها استوحش منه جماعة من أعيان أمرائه: منهم برتقش وقزل وقرا سنقر الخمار تكين والي همذان وعبد الرحمن بن طغرلبك ودبيس بن صدقة. وساروا إلى خوزستان ووافقهم صاحبها برسق بن برسق، واستأمنوا إلى الخليفة فارتاب من دبيس، وبعث إلى الآخرين بالأمان مع سديد الدولة بن الأنباري. وارتاب دبيس منهم أن يقبضوا عليه فرجع إلى السلطان مسعود، وسار الآخرون إلى بغداد فاستحثوا المسترشد للمسير إلى قتال مسعود فأجابهم، وبالغ في تكرمتهم وبرز آخر رجب من سنة تسع وعشرين وهرب صاحب البصرة إليها وبعث إليه بالأمان فأبى فتكاسل عن المسير فاستحثوه، وسهلوا له الأمر فسار في شعبان. ولحق به برسق بن برسق، وبلغ عدة عسكره سبعة آلاف، وتخلف بالعراق مع خادمه اقبال ثلاثة آلاف. وكاتبه أصحاب الأطراف بالطاعة، وأبطأ في مسيره فاستعجلهم مسعود، وزحفوا إليه فكان عسكره خمسة عشر ألفا. وتسلل عن المسترشد جماعة من عسكره، وأرسل إليه داود بن محمود من أذربيجان يشير بقصد الدينور والمقام بها حتى يصل في عسكره فأبى واستمّر في مسيره.وبعث زنكي من الموصل عسكرا فلم يصل حتى تواقعوا . وسار السلطان محمود إليهم مجّداً فوافاهم عاشر رمضان، ومالت ميسرة المسترشد إليه، وانهزمت ميمنته وهو ثابت لم يتحّرك حتى أخذ أسيراً، ومعه الوزير والقاضي وصاحب المحرر وابن الأنباري والخطباء والفقهاء والشهود فأنزل في خيمة، ونهب مخيمه، وحمل الجماعة أصحابه إلى قلعة ترجمعان. ورجع بقية الناس إلى بغداد. ورجع السلطان إلى همذان، وبعث الأمير بك أبه إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عميد، وقبضوا أملاك المسترشد وغلاتها وكانت بينهم وبين العامّة فتنة قتل فيها خلق من العامة. وسار السلطان في شّوال إلى مراغة، وقد ترددت الرسل بينهما في الصلح على مال يؤدّيه المسترشد، وأن لا يجمع العساكر، ولا يخرج من داره لحرب ماعاش، وأجابه السلطان وأذن له في الركوب. وحمل الغاشية، وفارق المسترشد بعض الموكلين به فهجم عليه جماعة من الباطنية فألحموه جراحا وقتلوه، ومثلوا به جدعا وصلبا، وتركوه سليباً في نفر من أصحابه قتلوهم معه، وتبع الباطنية فقتلوا، وكان ذلك منتصف ذي القعدة سنة ست وعشرين لثمان عشر سنة من خلافته. وكان كاتبا بليغا شجاعاً قرماً. ولما قتل بمراغة كتب السلطان مسعود إلى بك أبه شحنة بغداد بأن يبايع لابنه فبويع ابنه الراشد أبو جعفر منصور بعهده إليه لثمانية أيام من مقتله، وحضر بيعته جماعة من أولاد الخلفاء وأبو النجيب الواعظ. وأمّا
اقبال خادم المسترشد فلما بلغه خبر الواقعة، وكان مقيما ببغداد كما قدّمناه عبر إلى الجانب الغربيّ، ولحق بتكريت ونزل على مجاهد الدين بهروز.
فتنة الراشد مع السلطان مسعود: لما بويع الراشد بعث إليه السلطان مسعود برتقش الزكوي يطالبه بما استقرّ عليه الصلح مع أبيه المسترشد، وهو أربعمائة ألف دينار فأنكر الراشد أن يكون له مال، وانما مال الخلافة كان مع المسترشد فنهب. ثم جمع الراشد العساكر وقدّم عليهم كجراية وشرع في عمارة السور. واتفق برتقش مع بك أبه على هجوم دار الخلافة، وركبوا لذلك في العساكر فقاتلهم عساكر الراشد والعامّة، وأخرجوهم عن البلد إلى طريق خراسان. وسار بك أية إلى واسط، وبرتقش إلى سرخس. ولما علم داود بن محمود فتنة عمه مسعود مع الراشد سار من أذربيجان إلى بغداد في صفر سنة ثلاثين، ونزل بدار السلطان. ووصل بعده عماد الدين زنكي من الموصل، وصدقه بن دبيس من الحلة، ومعه عش بن أبي العسكر يدبر أمره ويديره، وكان أبوه دبيس قد قتل بعد مقتل المسترشد بأذربيجان، وملك هو الحلة.ثم وصل جماعة من أمراء مسعود منهم برتقش بازدار صاحب فروق، والبقش الكبير صاحب أصبهان، وابن برسق وابن الأحمديلي. وخرج للقائهم كجراية والطرنطاي، وكان اقبال خادم المسترشد قد قدم من تكريت فقبض عليه الراشد، وعلى ناصر الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير فاستوحش أهل الدولة، وركب الوزير جلال الدين بن صدقة إلى لقاء عماد الدين زنكي فأقام عنده مستحيراً حتى أصلح حاله مع الراشد. واستجار به قاضي القضاة الزينبي، ولم يزل معه إلى الموصل. وشفع في إقبال فأطلق وسار إليه. ثم جد الراشد في عمارة السور وسار الملك داود لقتال مسعود استخلفه الراشد، واستخلفه عماد الدين زنكي، وقطعت خطبة مسعود من بغداد، وولىّ داود شحنة بغداد برتفش بازدار.ثم وصل الخبر بأنّ سلجوق شاه أخا الأمير مسعود ملك واسط، وقبض على الأميربك أبه فسار الأمير زنكي لدفاعه فصالحه، ورجع وعبر إلى طريق خراسان للحاق داود واحتشد العساكر. ثم سار السلطان مسعود لقتالهم، وفارق زنكي داود ليسير إلى مراغة، ويخالف السلطان مسعود إلى همذان. وبرز الراشد من بغداد أوّل رمضان، وسار إلى طريق خراسان، وعاد بعد ثلاث. وعزم على الحصار ببغداد واستدعى داود الأمراء ليكونوا معه عنده فجاؤا لذلك، ووصلت رسل السلطان مسعود بطاعة الراشد، والتعريض بالوعيد
للأمراء المجتمعين عنده فلم يقبل طاعة من أجلهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
حصار بغداد ومسير الراشد إلى الموصل وخلعه وخلافة المقتفى: ثم انّ السلطان مسعوداً أجمع المسير إلى بغداد، وانتهى إلى الملكية فسار زين الدين علي من أصحاب زنكي حتى شارف معسكره، وقاتلهم ورجع. ونزل السلطان على بغداد. والعيارون أفسدوا سائر المحال ببغداد، وانطلقت أيديهم وأيدي العساكر في النهب، ودام الحصار نيفا وخمسين يوما. تأخر السلطان مسعود إلى النهروان عازما على العود إلى أصبهان فوصله طرنطاي صاحب واسط في سفن كثيرة فركب إلى غربي بغداد فاضطرب الأمراء، وافترقوا وعادوا إلى أذربيجان. وكان زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد، وسار معه إلى الموصل، ودخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة فسكن الناس، وجمع القضاة والفقهاء وأوقفهم على يمين الراشد التي كتبها بخطه. اني متى جمعت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه. واتفق أرباب الدولة ممن كان ببغداد ومن أسر مع المسترشد، وبقي من عند السلطان مسعود كلهم على ذمه وعدم أهليته على ما مر في أخباره بين أخبار الخلفاء.وبويع محمد بن المستظهر ولقب المقتفي، وقد قدمت هذه الأخبار بأوسع من ذلك. ثم بعث السلطان العساكر مع قراسنقر لطلب داود فأدركته عند مراغة، وقاتله فهزمه، وملك اذربيجان ومضى داود إلى خوزستان، واجتمع عليه عساكر من التركمان وغيرهم فحاصر تستر، وكان عمه سلجوق بواسط فسار إليه بعد أن أمره أخوه مسعود بالعساكر، ولقي داود على تستر فهزمه داود ثم عزل السلطان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد، واستوزر كمال الدين أبا البركات بن سلامة من أهل خراسان. ثم بلغه أن الراشد قد فارق الموصل فأذن للعساكر التي عنده ببغداد في العودة إلى بلادهم، وصرف فيهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد أن أصهر إليه في ابنته، وقدم عليه جماعة من الأمراء الذين كانوا مع داود منهم البقش السلامي وبرسق بن برسق وصاحب تستر وسنقر الخمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم، وأمنهم وعاد إلى همذان سنة إحدى وثلاثين. الفتنة بين السلطان مسعود وبين د اود الراشد وهزيمة مسعود ومقتل الراشد: كان الأمير بوزابة صاحب خوزستان، والأمير عبد الرحمن طغرلبك صاحب خلخال، والملك
داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان فاجتمعوا عند الأمير منكبرس صاحب فارس. وبلغهم مسير الراشد من الموصل إلى مراغة فراسلوه في أن يجتمعوا عليه، ويردّوه إلى خلافته فاجابهم. وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود فسار إليهم في شعبان سنة اثنتين وثلاثين، وأوقع بهم. وأخذ منكبرس أسيراً فقتله، وافترقت عساكره للنهب فانفرد بوزابة وطغرلبك، وصدقا الحملة عليه فانهزم. وقبض على جماعة من الأمراء مثل صدقة بن دبيس صاحب الحفل، وكافله نمبترين أبي العساكر، وابن أتابك قراسنقر صاحب اذربيجان. وحبسهم بوزابة حتى تحقق قتل منكبرس.ولحق السلطان مسعود باذربيجان منهزماً، وسار داود إلى همذان فملكها، ووصل إليه الراشد هنالك. وأشار بوزابة وكان كبير القوم بالمسير إلى فارس فساروا معه، واستولى عليها وملكها ولما علم شلجوق شاه وهو بواسط أن أخاه السلطان مسعود أمضى إلى أذربيجان سار هو إلى بغداد ليملكها، ودافعه البقش النحت، ونظم الخادم أمير الحاج. وثار العيارون بالبلدان وأفحشوا في النهب فلما رجع الشحنة استأصل شأفتهم، وأخذ المستورين بجنايتهم فجلا الناس عن بغداد إلى الموصل وغيرها. ولما قتل صدقة بن دبيس أقرّ السلطان مسعود أخاه محمدا على الحلة ومعه مهلهل بن أبي العساكر أخو عش المقتول كما مر في أخباره.ثم لما ملك بوزابة فارس رجع مع الراشد والملك داود، ومعهما خوارزم شاه إلى خوزستان وخربوا الجزيرة فسار إليهم مسعود ليمنعهم عن العراق فعاد الملك داود إلى فارس وخوارزم شاه إلى بلده، وسار الراشد إلى أصبهان فثار به نفر من الخراسانية كانوا في خدمته فقتلوه عند القائلة في خامس عشر رمضان من السنة، ودفن بظاهر أصبهان. ثم قبض السلطان آخر السنة على وزيره أبي البركات بن سلامة الدركريني ، واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الخازن، وكان نبيهاً حسن السيرة فرفع المظالم وأزال المكوس، وأقام وظائف السلطان، وجمع له الأموال وضرب على أيدي العمال، وكشف خيانتهم فثقل عليهم وأوقعوا بينه وبين الأمراء فبالغوا في السعاية فيه عند السلطان. وتولىّ كبرها قراسنقر صاحب أذربيجان فإنه بعث إلى السلطان يتهدّده بالخروج عن طاعته، فأشار على السلطان خواصه بقتله خشية الفتنة فقتله على كره، وبعث برأسه إلى قراسنقر فرضي.وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة لسبعة أشهر من وزارته، واستوزر بعده أباالعز طاهر بن محمد اليزدجردي وزير قراسنقر، ولقب عز الملك، وضاقت الأمور على السلطان وأقطع البلاد للأمراء. ثم قتل السلطان البقش السلاحي الشحنة بما ظهر منه من الظلم والعسف فقبض عليه وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز. ثم أمر بقتله فلما قرب للقتل ألقى نفسه في دجلة فمات، وبعث برأسه إلى السلطان فقدّم مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فحسن أثره. ثم عزله السلطان سنة ست وثلاثين، وولىّ فيها قرلي أميراً آخراً من موالي السلطان محمود، وكانت له يزدجرد والبصرة فأضيف له إليهما والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
فتنة السلطان سنجر مع خوارزم شاه: وهو أوّل بداية بني خوارزم قد تقدم لنا ذكر أولية محمد خوارزم شاه، وهو محمد بن أبي شتكين، وانّ خوارزم شاه لقب له، وأنّ الأمير داود حبشي لما ولاه بركيارق خراسان وقتله إكنجي وليّ محمد بن ابي شتكين، ووليّ بعده ابنه أتسز فظهرت كفاءته، وقربه السلطان سنجر واستخلصه واستظهر به في حروبه فزاده ذلك تقدماً ورفعة، واستفحل ملكه في خوارزم. ونمي للسلطان سنجر انه يريد الاستبداد فسار إليه سنة ثلاث وثلاثين، وبرز أتسز ولقيه في التعبئة فلم يثبت وانهزم، وقتل من عسكره خلق، وقتل له ابن فحزن عليه حزناً شديداً. وملك سنجر خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمد، ورتب له وزيراً وأتابك وحاجباً، وعاد إلى مرو منتصف السنة فخالفه أتسز إلى خوارزم، وهرب سليمان شاه ومن معه إلى سنجر، واستولى أتسز على خوارزم وكان من أمره ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. استيلاء قراسنقر صاحب أذربيجان على بلاد فارس: ثم جمع أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان، وبرز طالبا ثأر أبيه الذي قتله بوزابة في المصاف كما مر. وأرسل السلطان مسعود في قتل وزيره الكمال فقتله كما مر فانصرف عنه إلى بلاد فارس، وتحصن عنه بوزابة في القلعة البيضاء ووطئ قراسنقر البلاد وملكها، ولم يمكنه مقام فسلمه لسلجوق شاه ابن السلطان محمود وهو أخو السلطان مسعود، وعاد إلى اذربيجان فنزل بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين، وهزم سلجوق شاه وأسره وحبسه ببعض قلاعه واستولى على البلاد. ثم هلك قراسنقر صاحب اذربيجان وأران بمدينة أردبيل، وكان من مماليك طغرل، وولي مكانه جاولي الطغرلي ، والله سبحانه ولي التوفيق. مسير جهان دانكي إلى فارس: ثم أمر السلطان سنة خمس وثلاثين الأمير اسمعيل جهان دانكي فسار إليها، ومنعها مجاهد الدين بهروز من الوصول، واستعدّ لذلك بخسف المعابر وتغريقها فقصد الحلة فمنعها أيضاً فقصد واسط، فقاتله طرنطاي وانهزم، ودخل واسط ونهبها، ونهب النعمانية وما إليها، واتبعهم طرنطاي إلى البطيحة، ثم فارقه عسكره إلى طرنطاي فلحق بتستر وكتب اسمعيل إلى السلطان فعفا عنه
. هزيمة السلطان سنجر أمام الخطا واستيلاؤهم على ما وراء النهر: وتلخيص هذا الخبر من كتاب ابن الأثيرأن أتسز بن محمد ملك خوارزم واستقر بها فبعث إلى الخطا، وهم أعظم الترك فيما وراء النهر، وأغراهم بمملكة السلطان سنجر، واستحثهم لها فساروا في ثلاثمائة ألف فارس. وسار سنجر في جميع عساكره وعبر إليهم النهر، ولقيهم سنة ست وثلاثين واقتتلوا أشد قتال. ثم انهزم سنجر وعساكره وقتل منهم مائة ألف فيهم أربعة آلاف امرأة، وأسرت زوجة السلطان سنجر ولحق سنجربترمذ، وسار منها إلى بلخ. وقصد أتسز مدينة مرو فدخلها مراغماً للسلطان وفتك فيها، وقبض على جماعة من الفقهاء والأعيان. وبعث السلطان سنجر إلى السلطان مسعود يأذن له في النصر وفي الريّ ليدعوه ان احتاج إليه فجاء عباس صاحب الريّ بذلك إلى بغداد. وسار السلطان مسعود إلى الريّ امتثالا لأمر عمه سنجرقال ابن الأثير: وقيل إنّ بلاد تركستان وهي كاشغر وبلاد سامسون وجبى وطرازوغيرها مما وراء النهر، كانت بيد الخانية وهم مسلمون من نسل مراسيان ملك الترك المعروف خبره مع ملوك الكينيّة، وأسلم جدهم الأول سبق قراخان، لأنه رأى في منامه أنّ رجلا نزل من السماء وقال له بالتركية ما معناه: أسلم تسلم في الدنيا والآخرة، وأسلم في منامه، ثم أسلم في يقظته. ولما مات ملك مكانه موسى بن سبق، ولم يزل الملك في عقبه إلى أرسلان خان بن سليمان بن داود بن بقرخان بن إبرهيم طغاج خان بن ايلك نصر بن أرسلان بن علي بن موسى بن سبق فخرج عليه قردخان وانتزع الملك منه. ثم نصر سنجر وقتل قردخان، وخرج بعد ذلك خوارزم ونصره السلطان سنجر منهم وأعاده إلى ملكه، وكان في جنده نوع من الأتراك يقال لهم القارغلّية، والأتراك الغزية الذين نهبوا خراسان على ما نذكره بعد. وهم صنفان: صنف يقال لهم حق وأميرهم طوطي بزداديك، وصنف يقال لهم برق وأميرهم برغوث بن عبد الحميد.وكان لأرسلان نصر خان شريف يصحبه من أهل سمرقند، وهو الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلوي فحمل ابن أرسلان نصرخان، وطلبوا انتزاع الملك منه فاستصرح السلطان سنجر فعبر إليه في عساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة وانتهى إلى سمرقند فهرب القارغلية أمامه، وعاد إلى سمرقند فقبض على أرسلان خان وحبسه ببلخ فمات بها، وولى على
سمرقند مكانه قلج طمقاج أبا المعالي الحسن بن علي بن عبد المؤمن، ويعرف بحسن تكر من أعيان بيت الخانية. إلا أن أرسلان خان اطرحه فولاه سنجر، ولم تطل أيامه فولى بعده ابن أرسلان خان، وأبوه هو الذي ملك سمرقند من يده وهو ابن أخت سنجر.وكان في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة قد خرج كوهرخان من الصين إلى حدود كاشغر في جموع عظيمة، وكوهر الأعظم بلسانهم، وخان السلطان فمعناه أعظم ملك. ولقيه صاحب كاشغر أحمد بن الحسن الخان فهزمه، وقد كان خرج قبله من الصين أترا الخطا، وكانوا في خدمة الخانيّة أصحاب تركسان. وكان أرسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم على الدروب بينه وبين الصين مسالح، ولهم على ذلك جرايات وإقطاعات. وسخط عليهم بعض السنين وعاقبهم بما عظم عليهم فطلبوا فسيحا من البلاد يأمون فيه من أرسلان خان لكثرة ما كان يغزوهم، ووصفت لهم بلاد سامسون فساروا إليها ولما خرج كونان من الصين ساروا إليه واجتمعوا عليه. ثم ساروا جميعاً إلى بلاد ما وراء النهر، ولقيهم الخان محمود بن أرسلان خان محمد في حدود بلاده في رمضان سنة إحدى وثلاثين فهزموه وعاد إلى سمرقند، وعظم الخطب على أهلها وأهل بخارى. واستمدّ محمود السلطان سنجر، وذكر ما لقي السلطان من العنت، واجتمع عنده ملوك خراسان. وملك سجستان من بني خلف، وملك غزنة من الغوريين، وملك مازندران، وعبر النهر للقاء الترك في أكثر من ألف وذلك لآخر خمس وثلاثين وخمسمائة.وشكا إليه محمود خان من القارغليّة فقصدهم، واستجاروا بكوهرخان ملك الصين فكتب إلى سنجر بالشفاعة فيهم فلم يشفعه، وكتب إليه يدعوه للإسلام ويتهدده بكثرة العساكر فأهان الرسول وزحف للقاء سنجر. والتقى الجمعان بموضع يسمى قطران خاص صفر سنة ست وثلاثين، وأبلى القارغليّة من الترك وصاحب سجستان من المسلمين. ثم انهزم المسلمون فقتل كثير منهم، وأسر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان سنجر فأطلقهم كوهرخان ومضى السلطان سنجر منهزما. وملك الترك الكفار والخطا بلاد ما وراء النهر إلى أن مات كوهرخان ملكهم سنة سبع وثلاثين، ووليت بعده ابنته. ثم ماتت قريباً وملكت أمّها من بعدها وهي زوجة كوهرخان وابنة محمد. وصار ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه عماد الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة.
أخبار خوارزم شاه بخراسان وصلحه مع سنجر: ولما عاد السلطان منهزما سار خوارزم شاه إلى سرخس في ربيع سنة ست وثلاثين فأطاعته، ثم إلى مرو الشاهجان فشفع فيهم الإمام أحمد الباخرزي، ونزل بظاهرها. وبينما هو قد استدعى أبا الفضل الكرماني وأعيان أهلها للشورى ثار عامّة البلد وقتلوا من كان عندهم من جنده، وامتنعوا فطاولها ودخلها عنوة، وقتل كثيراً من علمائها. ثم رجع في شوّال من السنة إلى نيسابور، وخرج إليه علماؤها وزهادها يسألون معافاتهم مما نزل بأهل مرو فأعفاهم، واستصفى أصحاب السلطان، وقطع خطبة سنجر. وبعث عسكرا إلى أعمال صغد فقاتلوهم أياماً ، ولم يطق سنجر مقاومته لمكان الخطا وجوارهم له. ثم سار السلطان سنجر سنة ثمان وثلاثين لقتال خوارزم، وحاصرها أياما وكاد يملكها، واقتحمها بعض أمرائه يوما فدافعه أتسز بعد حروب شديدة. ثم أرسل أتسز إلى سنجر بالطاعة والعود إلى ما كان عليه فقبله وعاد سنة ثمان وثلاثين. صلح زنكي مع السلطان مسعود: ثم وصل السلطان مسعود سنة ثمان وثلاثين إلى بغداد ، عادته فتجهز لقصد الموصل، وكان يحمل لزنكي جميع ما وقع من الفتن فبعث إليه زنكي يستعطفه مع أبي عبد الله بن الأنباري، وحمل معه عشرين ألف دينار، وضمن مائة ألف على أن يرجع عنه فرجع، وانعقد الصلح بينهما. وكان مما رغب السلطان في صلحه أن ابنه غازي بن زنكي هرب من عند السلطان خوفا من أبيه فردّه إلى السلطان، ولم يجتمع به فوقع ذلك من السلطان أحسن موقع والله تعالى أعلم. انتقاض صاحب فارس وصاحب الريّ: كان بوزابة صاحب فارس وخوزستان كما قدمنا فاستوحش من السلطان مسعود فانتقض سنة أربعين وخمسمائة، وبايع لمحمد بن محمود، وهو ابن أخي السلطان مسعود، وسار إلى مامشون، واجتمع بالأمير عباس صاحب الريّ ووافقه على شأنه. واتصل به سليمان شاه أخو السلطان مسعود، وتغلبوا على كثير من بلاده فسار إليهم من بغداد في رمضان السنة، ومعه الأمير ُطغابرك حاجبه، وكان له التحكم في الدولة والميل إلى القوم. واستخلفه وسار فلما تقاربوا للحرب نزع السلطان شاه عنهم إلى أخيه مسعود، وسعى عبد الرحمن في الصلح
فانعقد بينهما على ما أحبه القوم، وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية اذربيجان وأرّان إلى خلخال عوضا من جاولي الطغرلي، واستوزر أبا الفتح بن دراست وزير بوزابة. وقد كان السلطان سنة تسع وثلاثين قبض على وزيره اليزدجردي، واستوزر مكانه المرزبان بن عبد الله بن نصر الأصبهاني، وسلم إليه اليزدجردي واستصفى أمواله. فلما كان هذه السنة وفعل بوزابة في صلح القوم ما فعل اعتضد بهم على مقامه عند السلطان وتحكم عليه وعزل وزيره واستوزر له أبا الفتح هذا. مقتل طغابرك وعباس: قد قدّمنا أن طغابرك وعبد الرحمن تحكما على السلطان واستبدّا عليه، ثم آل أمره إلى أن منعا بك أرسلان المعروف بابن خاص بك بن البتكري من مباشرة السلطان، وكان تربته وخاصاً به ونجيّ خلوته. وتجهز طغابرك لبعض الوجوه فحمله في جملته فأسّر السلطان إلى أرسلان الفتك بطغابرك وداخل رجال العسكر في ذلك فأجاب منهم زنكي جاندار أن يباشر قتله بيده، ووافق بك أرسلان جماعة من الأمراء، واعترضوا له في موكبه فضربه الجاندار فصرعه عن فرسه، وأجهز عليه ابن خاص بك، ووقف الأمراء الذين واطؤه على ذلك دون الجاندار فمنعوه، وكان ذلك بظاهر صهوة. وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود ببغداد، ومعه عباس صاحب الريّ في جيش كثيف فامتعض لذلك ونكره فداراه السلطان حتى سكن. وداخل بعض الأمراء في قتله فأجابوه وتولى كبر ذلك البقش حروسوس للحف، وأحضر السلطان عبّاساً وأدخله في داره وهذان الأميران عنده، وقد أكمنوا له في بعض المخادع رجالا وعدلوا به إلى مكانهم فقتلوه، ونهبت خيامه وأصاخت البلاد لذلك، ثم سكنت. وكان عبّاس من موالي السلطان محمود، وكان عادلا حسن السيرة، وله مقامات حسان في جهاد الباطنية. وقتل في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ثم ، حبس السلطان أخاه سليمان شاه في قلعة تكريت، وسار عن بغداد إلى أصبهان والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
مقتل بوزابة صاحب فارس:
قد تقدّم لنا أنّ طغابرك كان مستظهرا على السلطان بعبّاس صاحب الريّ وبوزابة صاحب فارس وخوزستان، فلما قتل طغابرك وامتعض له عبّاس قتل أثره، وانتهى الخبر إلى بوزابة فجمع العساكر وسار إلى أصبهان سنة اثنتين وأربعين فحاصرها، وبعث عسكراً آخراً لحصار همذان وآخراً إلى قلعة الماهكي من بلاد اللحف من قلاع البقش كوزخر فسار إليها، ودفعهم عنها. ثم سار بوزابة عن أصبهان لطلب السلطان مسعود فامتنع وتراجفا بمرج مزاتكن، واشتدّ القتال بينهما، وكبا الفرس ببوزابة وسيق إلى السلطان فقتل بين يديه، وقيل أصابه سهم فسقط ميتا وانهزمت عساكره، وكان هذا الحرب من أعظم الحروب بين السلجوقية.
انتقاض الأمراء على السلطان:
ولما قتل طغابرك وعباس وبوزابة اختص بالسلطان ابن خاص بك لميله إليه، وأطرح بقية الأمراء فاستوحشوا وارتابوا بأنفسهم أن يقع بهم ما وقع بالآخرين ففارقوه، وساروا نحو العراق أبو ركن المسعودي صاحب كنجة وارّان والبقش كوزحر صاحب الجبل، والحاجب خريطاي المحمودي شحنة واسط، وابن طغابرك والركن وقرقوب ومعهم ابن أخي السلطان وهو محمد بن محمود، وانتهوا إلى حرّان فاضطرب الناس ببغداد وغلت الأسعار. وبعث إليهم المقتفي بالرجوع فلم يرجعوا، ووصلوا إلى بغداد في ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين ونزلوا بالجانب الشرقي، وهرب أجناد مسعود شحنة بغداد إلى تكريت، ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الجبلة ونزل بالجانب الغربي، وجمع الخليفة العساكر. ثم قاتل العامة عساكر الأمراء فاستطردوا لهم، ثم كروا عليهم فملؤوا الأرض بالقتلى. ثم جاست خيولهم خلال الديار فنهبوا وسبوا. ثم جاؤا مقابل التاج يعتذرون، وردّدوا الرسل إلى الخليفة سائر يومهم. ثم ارتحلوا من الغد إلى النهروان فعاثوا فيها. وعاد مسعود من بلاد تكريت إلى بغداد. ثم افترق الأمراء وفارقوا العراق، ثم عاد البقش كوزحر والطرنطاي وابن دبيس سنة أربع وأربعين، ومعهم ملك شاه بن محمود، وهو ابن أخي السلطان وطلبوا من الخليفة الخطبة لملك شاه فأبى، وجمع العساكر وشغل بما كان فيه من أمر عم السلطان سنجر. وذلك أن السلطان سنجر بعث إليه يلومه في تقديم ابن خاص بك ويأمره بإبعاده، وتهدّده فغالطه ولم يفعل فسار إلى الريّ فبادر إليه مسعود وترضاه فرضي عنه. ولما علم البقش كوز حر مراسلة
المقتفي لمسعود نهب ألنهروان، وقبض على علي بن دبيس. وسار السلطان بعد لقاء عمه إلى بغداد فوصلها منتصف شوّال سنة أربع وأربعين فهرب الطرنطاي إلى النعمانية، ورحل البقش إلى النهروان بعد أن أطلق علي بن دبيس فجاء إلى السلطان واعتذر فرضي عنه.
وفاة السلطان مسعود وولاية ملك شاه ابن أخيه محمود ثم أخيه محمد من بعده:
ثم توفي السلطان مسعود بهمذان في رجب منتصف سبع وأربعين لاثنتين وعشرين سنة من طلبه الملك، وبه كمل استفحال ملك السلجوقية، وركب الخمول دولتهم بعده،وكان عهد إلى ملك شاه ابن أخيه محمود فلما توفي بايع له الأمير ابن خاص بك وأطاعه العسكر، وانتهى خبر موته إلى بغداد فهرب الشحنة بلاك إلى تكريت، وأمر المقتفي بالحوطة على داره ودور أصحاب السلطان مسعود. ثم بعث السلطان ملك شاه، عسكر الى الجبلة مع سلاد كرد من أمرائه فملكها، وسار إليه بلاك الشحنة فخادعه حتى استمكن منه فقبض عليه وغرّقه، واستبد بلاك الشحنة بالجبلة. وجهز المقتفي العساكر مع الوزير عون الدين بن عبيرة إلى الجبلة. وبعث عساكراً إلى الكوفة وواسط فملكهما ووصلت عساكر السلطان ملك شاه فملكوها، وسار إليهم الخليفة بنفسه فارتجعها منهم وسار منها الى الجبلة ثم إلى بغداد آخر ذي القعدة من السنة.ثم إنّ ابن خاص بك طمع في الانفراد بالأمر فاستدعى محمد بن محمود من خوزستان فأطمعه في الملك ليقبض عليه وعلى أخيه ملك شاه فقبض على ملك شاه أولاً لستة أشهر من ولايته، ووصل محمد في صفر من سنة ثمان وأربعين فأجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة وحمل إليه الهدايا، وقد سعى للسلطان محمد بما انطوى عليه ابن خاص بك. فلما باكره صبيحة وصوله فتك به وقتله وقتل معه زنكي الجاندار قاتل طغابرك، وأخذ من أموال ابن خاص بك كثيراً، وكان صبيا كما بينا، اتصل بالسلطان مسعود وتنصح له فقدمه على سائر العساكر والأمراء. وكان أنوغري التركي المعروف بشملة في جملة ابن خاص بك ومن أصحابه، ونهاه عن الدخول إلى السلطان محمد فلما قتل ابن خاص بك نجا شملة إلى خوزستان، وكان له بها بعد ذلك ملك والله أعلم بغيبه وأحكم.
الغز
تغلب الغز على خراسان وهزيمة السلطان سنجر وأسره كان هؤلاء الغز فيما وراء النهر، وهم شعب من شعوب الترك، ومنهم كان السلجوقية أصحاب هذه الدولة، وبقوا هنالك بعد عبورهم، وكانوا مسلمين فلما استولى الخطا على ملك الصين وعلى ما وراء النهر حجر هؤلاء الغزّ إلى خراسان، وأقاموا بنواحي بلخ. وكان لهم من الأمراء محمود ودينار وبختيار وطوطي وأرسلان ومعز. وكان صاحب بلخ الأمير قماج فتقدّم إليهم أن يبعدوا عن بلخ فصانعوه فتركهم، وكانوا يعطون الزكاة ويؤمنون السابلة. ثم عاد إليهم في الانتقال فامتنعوا وجمعوا فخرج إليهم في العساكر وبذلوا له مالا فلم يقبل وقاتلوه فهزموه، وقتلوا العسكر والرعايا والفقهاء وسبوا العيال، ونجا قماج إلى مرو، وبها السلطان سنجر فبعث إليهم يتهدّدهم ويأمرهم بمفارقة بلاده فلاطفوه وبذلوا له فلم يقبل. وسار إليهم في مائة ألف فهزموه وأثخنوا في عسكره، وقتل علاء الدين قماج، وأسروا السلطان سنجر ومعه جماعة من الأمراء فقتلوا الأمراء واستبقوا السلطان سنجر وبايعوه، ودخلوا معه إلى مرو فطلب منه بختيار إقطاعها فقال: هي كرسي خراسان فسخروا منه. ثم دخل سنجر خانقاه فقسط على الناس وأطرهم وعسفهم، وعلق في الأسواق ثلاث غرائر وطالبهم بملئها ذهبا فقتله العامّة، ودخل الغز نيسابور ودمّروها تدميرا، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها، وقتلوا القضاة والعلماء في كل بلد. ولم يسلم من خراسان غير هراة وسبستان لحصانتهما. وقال ابن الأثير عن بعض مؤرّخي العجم: إن هؤلاء الغز انتقلوا من نواحي التغرغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر أيام المقتفي وأسلموا، واستظهر بهم المقنّع الكنديّ على مخارقه وشعوذته حتى تمّ أمره فلما سارت إليه العساكر خذلوه وأسلموه، وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخانية. ثم طردهم الأتراك القارغلية عن إقطاعهم فاستدعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان، وأنزلهم بلاده واستظهر بهم على قماج صاحب بلخ، وسار بهم لمحاربته فخذلوه لأنّ قماج كان استمالهم فانهزم زنكي وأسر هو وابنه وقتلهما قماج وأقطع الغز في بلاده. فلما سار الحسين بن الحسين الغوري إلى بلخ برز إليه قماج ومعه هؤلاء الغز فخذلوه، ونزعوا عنه إلى الغوري حتى ملك بلخ فسار السلطان سنجر إلى بلخ وهزم الغوري واستردّها، وبقي الغّز بنواحي طخارستان. وفي نفس قماج حقد عليهم فأمرهم بالانتقال عن بلاده فتألفوا وتجمّعوا في طوائف من الترك، وقدموا عليهم أرسلان بوقاء التركي، ولقيهم قماج فهزموه وأسروه وابنه أبا بكر وقتلوهما واستولوا على نواحي بلخ وعاثوا فيها. وجمع السلطان سنجر وفي مقدمته محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول والمؤيد ابنه في محرم سنة ثمان وأربعين. وجاء السلطان سنجر على أثرهم وبعثوا إليه بالطاعة والأموال فلم يقبل منهم، وقاتلهم فهزموه إلى بلخ. ثم عاود قتالهم فهزموه إلى مرو واتبعوه فهرب هو وعسكره من مرو رعباً منهم، ودخلوا البلد وأفحشوا فيه قتلا ونهبا، وقتلوا القضاة والأئمة والعلماء.
ولما خرج سنجر من مرو وأسروه أجلسوه على التخت على عادته وآتوه طاعتهم. ثم عاودوا الغارة على مرو فمنعهم أهلها وقاتلوهم، ثم عجزوا واستسلموا فاستباحوها أعظم من الأولى. ولما أسر سنجر فارقه جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، ووصلوا إلى نيسابور واستدعوا سليمان شاه بن السلطان محمود، وخطبوا له بالسلطان في منتصف السنة، واجتمعت عليه عساكر خراسان وساروا لطلب الغزّ فبارزوهم على مرو، وانهزمت العساكر رعباً منهم، وقصدوا نيسابور والغز في اتباعهم، ومرّوا بطوس فاستباحوها وقتلوا حتى العلماء والزهاد، وخربوا حتى المساجد ثم ساروا إلى نيسابور في شوّال سنة تسع وأربعين ففعلوا فيها أفحش من طوس حتى ملؤا البلاد من القتلى، وتحصن طائفة بالجامع الأعظم من العلماء والصالحين فقتلوهم عن آخرهم، وأحرقوا خزائن الكتب. وفعلوا مثل ذلك في جوين واسفراين فحاصروهما واقتحموهما مثل ما فعلوا في البلاد الأخرى. وكانت، أفعال الغز في هذه البلاد أعظم وأقبح من أفعال الغز في غيرها. ثم انّ السلطان سليمان شاه توفي وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك في شوّال سنة ثمان وأربعين فاستوزر ابنه نظام الملك وانحلّ أمره وعجز عن القيام بالملك فعاد إلى جرجان في صفر سنة تسع وأربعين فاجتمع الأمراء وخطبوا للخان محمود بن محمد بن بقراخان وهو ابن أخت سنجر، واستدعوه فملكوه في شوّال من السنة وساروا معه لقتال الغز وهم محاصرون هراة فكانت حروبه معهم سجالا، وأكثر الظفر للغز. ثم رحلوا عن هراة إلى مرو منتصف خمسين، وأعادوا مصادرة أهلها. وسار الخان محمد إلى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد كما يذكر فراسل الغز في الصلح فصالحوه في رجب.
استيلاء المؤيد علي نيسابور وغيرها: هذا المؤيد من موالي سنجر واسمه... وكان من أكابر أوليائه ومطاعاً فيهم ولما كانت هذه الفتنة، وافترق أمر الناس بخراسان تقدم... فاستولى على نيسابور وطوس ونسا ، وان ورد وشهرستان والدامغان وحصنها، ودافع الغز عنها، ودانت له الرعية لحسن سيرته فعظم شأنه وكثرت جموعه. واستبدّ بهذه الناحية وطالبه الخان محمود عندما ملكوه بالحضور عنده وتسليم البلاد فامتنع. وتردّدت الرسل بينهما على مال
يحمله للخان محمود فضمنه المؤيد وكف عنه محمود، واستقر الحال على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء ايتاخ علي الريّ: وكان إيتاخ من موالي السلطان سنجر، وكانت الريّ أيضا من أعمال سنجر فلما كانت فتنة الغز لحق بالريّ واستولى عليها، وصانع السلطان محمد شاه بن محمود صاحب همذان وأصبهان وغيرهما وبذل له الطاعة فأقّره فلما مات السلطان محمد مدّ يده إلى أعمال تجاوزته، وملكها فعظم أمره، وبلغت عساكره عشرة آلاف فلما ملك سليمان شاه همذان على ما نذكره. وقد كان أنس به عند ولاية سليمان على خراسان سار إليه، وقام بخدمته وبقي مستبداً بتلك البلاد، والله سبحانه وتعالى أعلم الخبرعن سليمان شاه وحبسه بالموصل:
كان سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر، وجعله وليّ عهده، وخطب له على منابر خراسان فلما وقعت فتنة الغز وأسر سنجر قدمه أمراء خراسان على أنفسهم. ثم عجز ومضى إلى خوارزم شاه فزّوجه ابنة أخيه، ثم سعى به عنده فأخرجه من بلده، وجاء إلى أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فمضى إلى قاشان، فبعث السلطان محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا ليدفعه عنها فسار إلى خوزستان فمنعه ملك شاه منها فقصد اللحف ونزل. وأرسل المقتفي في أثره فطلبه في زوجته رهينة ببغداد فبعث بها مع جواريها وأتباعها فأكرمهم المقتفي، وأذن له في القدوم وخرج الوزير ابن هبيرة وقاضي القضاة والفتيان لتلقيه، وخلع عليه المقتفي وأقام ببغداد. حتى إذا دخلت سنة إحدى وخمسين أحضر بدار الخلافة، وحضر قاضي القضاة والأعيان واستحلف على الطاعة والتجافي للخليفة عن العراق، وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه، وأمدّ بثلاثة آلاف من العسكر، وجعل معه الأمير دوران أمير حاجب صاحب الجبلة. وسار إلى بلاد الجبل في ربيع الأوّل من السنة، وسار المقتفي إلى حلوان وبعث إلى ملك شاه بن السلطان محمود يدعوه إلى موافقة عمه سليمان شاه، وأن يكون وليّ عهده فقدم في ألفي فارس وتحالفا وأمدّهما المقتفي بالمال والأسلحة، واجتمع معهم ايلد كز صاحب كنجة وأرانية، وساروا لقتال السلطان محمد فلما بلغه خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود بن زنكي ونائبه زين الدين علي كوجك في المساعدة والارتفاق فأجاباه، وسارا للقاء عمه سليمان شاه ومن معه، واقتتلوا في جمادى الأولى فهزمهما السلطان محمد وافترقوا، وتّوجه سليمان شاه إلى بغداد على شهرزور وكانت لصاحب الموصل، وبها الأمير بوران من جهة علي كوجك نائب الموصل فاعترضه هنالك كوجك وبوران فاحتمله كوجك إلى الموصل فحبسه بها، وبعث إلى السلطان محمد بالخبر وانه على الطاعة والمساعدة فقبل منه وشكر.له
فرار سنجر من أسر الغز: قد تقدّم لنا ما كان من أسر السلطان سنجر بيد الغز وافتراق خراسان، واجتماع الأمراء بنيسابور وما إليها على الخان محمود بن محمد، وامتنعوا من الغز، وامتنع أتسز بن محمد أنوشكين بخوارزم وانقسمت خراسان بينهم، وكانت الحرب بين الغز وبينهما سجالاً ثم هرب سنجر من أسر الغز وجماعة من الأمراء كانوا معه في رمضان سنة إحدى وخمسين ولحق بترمذ. ثم عبر جيحون إلى دار ملكه بمرو فكانت مدّة أسره من جمادى سنة ثمان وأربعين ثلاث سنين وأربعة أشهر. ولم يتفق فراره من الأسر إلا بعد موت علي بك مقدّم القارغلية لأنه كان أشدّ شيء عليه. فلما توفي انقطعت القارغلية إليه وغيرهم ووجد فسحة في أمره والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار السلطان محمد بغداد: كان السلطان محمد بن محمود لاّول ولايته الملك بعد عمه مسعود بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد والعراق على عادتهم، فمنعه لما رجا من ذهاب دولتهم استفحالهم واستبدادهم، فسار السلطان من همذان في العساكر نحو العراق، ووعده صاحب الموصل ونائبه بمدد العساكر فقدم آخر إحدى وخمسين. وبعث المقتفي في الحشد فجاء خطا وفرس في عسكر واسط. وخالفهم مهلهل إلى الجبلة فملكها، واهتم المقتفي وابن هبيرة بالحصار، وقطع الجسر وجمع السفن تحت التاج، ونودي في الجانب الغربي بالعبور فعبروا في محرم سنة اثنتين وخمسين. وخرب المقتفي ما وراء الخرسة صلاحا في استبداده. وكذلك السلطان محمد من الجهة الأخرى ونصبت المنجنيقات والعرّادات، وفّرق المقتفي السلاح على الجند والعامة. وجاء زين الدين كجك في عسكر الموصل، ولقي السلطان علي أوانا، واتصلت الحرب واشتدّ الحصار وفقدت الأقوات وانقطعت المواد عن أهل بغداد، وفتر كجك وعسكره في القتال أدبا مع المقتفي. وقيل أوصاه بذلك نور الدين محمود بن زنكي أخو قطب الدين الأكبر. ثم جاء الخبر بأنّ ملك شاه أخا السلطان محمد وايلدكز صاحب ارّان وربيبه أرسلان بن طغرل قصدوا همذان فسار عن بغداد مسرعا إلى همذان آخر ربيع الأول، وعاد زين الدين إلى الموصل. ولما وصل ملك شاه وايلدكز وربيبه أرسلان إلى همذان أقام بها قليلا، وسمعوا بمجيء السلطان فاجفلوا، وساروا إلى الريّ فقاتلهم الشحنة انبانج فهزموه
وحاصروه. وأمده السلطان محمد بعسكر بن سقمس بن قماز فوجدهم قد أفرجوا عنه، وقصدوا بغداد فقاتلهم فهزموه، ونهبوا عسكره فسار السلطان محمد ليسابقهم إلى بغداد. فلما انتهى إلى حلوان بلغه أن ايلدكز بالدينور. ثم وافاه رسول انبانج بأنه ملك همذان وخطب له فيها، وان شملة صاحب خراسان هرب عن ايلدكز وملك شاه إلى بلاده فعاد إلى أرّان، ورجع السلطان إلى همذان قاصدا للتجهز إلى بلاد ايلدكز باران.
وفاة سنجر: ثم توفي السلطان سنجر صاحب خراسان في ربيع سنة اثنتين وخمسين، وقد كان ولي خراسان منذ أيام أخيه بركيارق. وعهد له أخوه محمد فلما مات محمد خوطب بالسلطنة، وكان الملوك كلهم بعدها في طاعته نحو أربعين سنة. وخطب له قبلها بالملك عشرين سنة، وأسره الغز ثلاث سنين ونصف، ومات بعد خلاصه من الأسر، وقطعت خطبته ببغداد والعراق. ولما احتضر استخلف على خراسان ابن أخته محمد بن محمود بن بقراخان فأقام بجرجان، وملك الغز مرو وخراسان، وملك به المؤيد نيسابور وناحيته من خراسان، وبقي الأمر على هذا الخلاف سنة أربع وخمسين، وبعث الغز إلى محمود الخان ليحضر عندهم فيملكوه فخافهم على نفسه، وبعث ابنه إليهم فأطاعوه مدّة ثم لحق هو بهم كما نذكر بعد.
منازعة ايتاق للمؤيد: كان إيتاق هذا من موالي السلطان سنجر فلما كانت الفتنة، وافترق الشمل، ومات السلطان سنجر، وملك المؤيد نيسابور، وحصل له التقدم بذلك على عساكر خراسان حسده جماعة من الأمراء، وانحرف عنه إيتاق هذا فتارة يكون معه وتارة يكون في مازندران. فلما كان سنة اثنتين وخمسين سار من مازندران في عشرة آلاف فارس من المنحرفين عن المؤيد، وقصد نسا وابيورد، وأقام بها المؤيد ايتاق فسار إليه وكبسه وغنم معسكره. ومضى إيتاق منهزما إلى مازندران، وكان بين ملكها رستم وبين أخيه علي منازعة فتقرب إيتاق إلى رستم بقتال أخيه علي فوجد لذلك غلبة ودفعه عنه، وسار يتردد في نواحي خراسان بالعيث والفساد. وألح على
اسفراين فخربها. وراسله السلطان محمود الخان والمؤيد في الطاعة والاستقامة فامتنع، فساروا إليه في العساكر في صفر سنة ثلاث وخمسين فهرب إلى طبرستان، وبعث رستم شاه مازندران إلى محمود والمؤيد بطاعته، بأموال جليلة وهدية فقبلوا منه، وبعث إيتاق ابنه رهنا على الطاعة فرجعوا عنه واستقّر بجرجان ودستان وأعمالها.
منازعة سنقر العزيزي للمؤيد ومقتله: كان سنقر العزيزي من أمراء السلطان سنجر، وكان في نفسه من المؤيد ما عند الباقين فلما شغل المؤيد بحرب إيتاق سار سنقر من عسكر السلطان محمود بن محمد إلى هراة فملكها، واشترط عليه أن يستظهر بملك الغورية الحسين فأبى وطمع في الاستبداد لما رأى من استبداد الأمراء على السلطان محمود بن محمد فحاصره المؤيد بهراة، واستمال الأتراك الذين كانوا معه فأطاعوه، وقتلوا سنقر العزيزي غيلة. وملك السلطان محمد هراة، ولحق الفل من عسكر سنقر بإيتاق وتسلطوا على طوس وقراها، واستولى الخراب على البلاد والله تعالى أعلم. فتنة الغز الثانية بخراسان وخراب نيسابور على يد المؤيد: كان الغز بعد فتنتهم الأولى أوطنوا بلخ ونزعوا عن النهب والقتل بخراسان، وانفقت الكلمة بها على طاعة السلطان محمود بن محمد الخان وكان القائم بدولته المؤيد أبوابه . فلما كان سنة ثلاث وخمسين في شعبان سار الغز إلى مرو فزحف المؤيد إليهم، وأوقع طائفة منهم وتبعهم إلى مرو وعاد إلى سرخس، وخرج معه الخان محمود لحربهم فالتقوا خامس شوّال وتواقعوا مرارا ثلاثا انهزم فيها الغز على مرو وأحسنوا السيرة وأكرموا العلماء والأئمة. ثم أغاروا على سرخس وطوس واستباحوهما وخربوهما، وعادوا إلى مرووأمّا الخان محمود بن محمد فسار إلى جرجان ينتظر مآل أمرهم، وبعث إليه الغز سنة أربع وخمسين يستدعونه ليملكوه فاعتذر لهم خشية على نفسه، فطلبوا منه جلال الدين عمر فتوثق منهم بالحلف، وبعثه إليهم فعظموه وملكوه في ربيع الآخر من سنة أربع ثم سار أبوه محمود إلى خراسان وتخفف عنه المؤيد أبوابه وانتهى إلى حدود نساوا بيورد فولى عليهم الأمير عمر بن حمزة النسوي فقام في حمايتهما المقام المحمود بظاهر نسا. ثم سار الغز من نيسابور إلى طوس لامتناع أهلها من طاعتهم فملكوها واستباحوها
وعادوا إلى نيسابور فساروا مع جلال الدين عمر بن محمود الخان إلى حصار سارورا وبها النقيب عماد الدين محمد بن يحيى العلوي الحسيني فحاصروه، وامتنعت عليهم فرجعوا إلى نسا وأبيورد للقاء الخان محمود بجرجان كما قدمناه، فخرج منها سائرإلى خراسان واعترضه الغز ببعض القرى في طريقه فهرب منه وأسر بعضهم. ثم هرب منه ولحق بنيسابور. فلما جاء الخان محمود إليها مع الغز فارقها منتصف شعبان ودخلها الغز وأحسنوا السيرة، وساروا إلى سرخس ومرو فعاد المؤيد في عساكره إلى نيسابور، وامتنع أهلها عليه فحاصرها وافتتحها عنوة وخربها، ورحل عنها إلى سبق في شوّال سنة أربع وخمسين.ستيلاء ملك شاه بن محمود على خوزستان:
ولما رجع السلطان ملك شاه محمد بن محمود من حصار بغداد، وامتنع الخليفة من الخطبة له أقام بهمذان عليلاً، وسار أخوه ملك شاه إلى قم وقاشان فأفحش في نهبها ومصادرة أهلها، وراسله أخوه السلطان محمد في الكف عن ذلك فلم يفعل، وسار إلى أصبهان وبعث إلى ابن الجمقري وأعيان البلد في طاعته فاعتذروا بطاعة أخيه فعاث في قراها ونواحيها، فسار السلطان إليه من همذان، وفي مقدمته كرجان الخادم فافترقت جموع ملك شاه ولحق ببغداد. فلما انتهى إلى قوس لقيه موبذان وسنقر الهمذاني فأشاراعليه بقصد خوزستان من بغداد، فسار إلى واسط ونزل بالجانب الشرقي، وسار أثر عسكره في النواحي ففتحوا عليهم البثوق وغرق كثير منهم. ورجع ملك شاه إلى خوزستان فمنعه شملة من العبور فطلب الجوار في بلده إلى أخيه السلطان فمنعه فنزل على الأكراد الذين هنالك، فاجتمعوا عليه من الجبال والبسائط، وحارب شملة، ومع ملك شاه سنقر الهمذاني وموبذان وغيرهما من الأمراء فانهزم شملة، وقتل عامة أصحابه، واستولى ملك شاه على البلاد وسار إلى فارس، والله هو المؤيد بنصره. وفاة السلطان محمد وولاية عمه سليمان شاه: ثم توفي السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه آخر سنة أربع وخمسين، وهو الذي حاصر بغداد يطلب الخطبة له من الخليفة ومنعه فتوفي آخر هذه السنة لسبع سنين ونصف من ولايته. وكان له ولد صغير فسلمه إلى سنقر الأحمديلي وقال: هو وديعة عندك فأوصل به
إلى بلادك فإنّ العساكر لا تطيعه فوصل به إلى مراغة، واتفق معظم الجند على البيعة لعمه سليمان شاه. وبعث أكابر الأمراء بهمذان إلى أتابك أ،، زين الدين مودود أتابك ووزير مودود وزيره فأطلقه مودود، وجهزه بما يحتاج إليه في سلطانه وسار معه زين الدين على كجك في عساكر الموصل. فلما انتهى إلى بلاد الجبل، وأقبلت العساكر للقاء سليمان شاه ذكر معاملتهم مع السلطان ودالتهم عليه فخشي على نفسه، وعاد إلى الموصل، ودخل سليمان شاه همذان وبايعوا له والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة المقتفي وخلافة المستنجد: ثم توفي المقتفي لأمر الله في ربيع الأول سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة من خلافته، وقد كان استبد في خلافته وخرج من حجر السلجوقية عند افتراق أمرهم بعد السلطان مسعود كما ذكرناه في أخبار الخلفاء، ولما توفي بويع بعده بالخلافة ابنه المستنجد فجرى على سنن أبيه في الاستبداد، واستولى على بلاد الماهلي ونزل اللحف، وولى عليها من قبله كما كانت لأبيه، وقد تقدم ذكر ذلك في أخبارهما انتهى. اتفاق المؤيد مع محمود الخان: قد كنا قدمنا أنّ الغز لما تغلبوا استدعوا محمود الخان ليملكوه فبعث إليهم بابنه عمر فملكوه. ثم سار محمود من جرجان إلى نسا وجاء الغز فساروا به إلى نيسابور فهرب عنها المؤيد ودخلها محمود والغز، ثم ساروا عنها فعاد إليها المؤيد فحاصرها وملكها عنوة وخربها في شوال سنة أربع وخمسين. ورحل عنها إلى سرخس فعاد إليها المؤيد فحاصرها وملكها عنوة ورحل عنها إلى بيهق. ثم رجع إليها سنة خمس وخمسين وعفر خرابها وبالغ في الإحسان إليها. ثم سار لإصلاح أعمالها ومحو آثار المفسدين والثوّار من نواحيها ففتح حصن أشقيل، وقتل الثوار الزيدية وخربه، وفتح حصن خسروجور من أعمال بيهق وهو من بناء كنجرو ملك الفرس أيام حربه مع جراسياق، وملكه ورتب فيه الحامية وعاد إلى نيسابور. ثم قصد مدينة كندر من أعمال طرسا وفيها متغلب اسمه خرسدة يفسد السابلة ويخرب الأعمال ويكثر الفتك، وكان البلاء به عظيما في خراسان فحاصره. ثم ملك عليه الحصن عنوة وقتله وأراح البلاد منه. ثم قصد في رمضان من السنة مدينة بيهق، وكانوا قد
عصوا عليه فراجعوا الطاعة وقبلهم واستفحل أمره فأرسل إليه الخان محمود بن محمد وهو مع الغز بالولاية على نيسابور وطوس وما إليها فاتصلت يده به واستحكم الصلح بينه وبين الغز وذهبت الفتن.
الحرب بين عسكر خوارزم شاه والأتراك البرزية: كان هؤلاء الأتراك البرزية من شعوب الترك بخراسان، وأميرهم بقراخان بن داود فأغار عليهم جمع من عساكر خوارزم شاه وأوقعوا بهم وفتكوا فيهم، ونجا بقراخان في الفل منهم إلى السلطان محمود بخراسان ومن معه من الغز مستصرخاً بهم، وهو يظن أن أيتاق هو الذي هيج عليهم فسار الغز معه على طريق نسا وابيورد، وقصدوا إيتاق فلم يكن له بهم قّوة فاستنصر... شاه مازندران فسار لنصره واحتشد في أعماله من الأكراد والديلم والتركمان وقاتلوا الغز والبرزية ، بنواحي دهستان فهزمهم خمسا. وكان إيتاق في ميمنة شاه مازندان، وأفحش الغز في قتل عسكرهم، ولحق شاه مازندان بسارية وايتاق شهرزور وخوارزم. ثم ساروا إلى دهستان فنهبوها وخربوها سنة ست وخمسين وخربوا جرجان كذلك، وافترق أهلها في البلاد. ثم سار إيتاق إلى بقراتكن المتغلب على أعمال قزوين فانهزم من بين يديه ولحق بالمؤيد وصار في جملته واكتسح إيتاق سائر أعماله ونهب أمواله فقوي بها.
وفاة ملك شاه بن محمود: قد قدمنا أن ملك شاه بن محمود سار بعد أخيه السلطان محمد من خوزستان إلى أصبهان، ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس فأطاعه ابن الخجندي رئيس أصبهان وسائر أهلها وجمع له الأموال. وأرسل ملك شاه إلى أهل الدولة بأصبهان يدعوهم إلى طاعته وكان هواهم مع عمه سليمان فلم يجيبوه إلى ذلك، وبعثوا عن سليمان من الموصل وملكوه، وانفرد ملك شاه بأصبهان واستفحل أمره، وبعث إلى المستنجد في الخطبة له ببغداد مكان عمه سليمان شاه، وان تعاد الأمور إلى ما كانت ويتهدّدهم فوعد الوزير عميد الدين بن هبيرة جارية جاعلها على سمه فسمته في الطعام، وفطن المطبب بأنه مسموم، وأخبر بذلك شملة
ودكلا فاحضروا الجارية وأقرت ومات ملك شاه، وأخرج أهل أصبهان أصحابه وخطبوا لسليمان شاه. وعاد شملة إلى خراسان فارتجع ما كان ملك شاه تغلب عليه منها.
قتل سليمان شاه والخطبة لأرسلان: كان سليمان لما ملّك أقبل على اللهو ومعاقرة الخمر حتى في نهار رمضان، وكان بعاشر الصفاعين والمساخر، وعكف على ذلك مع ما كان فيه من الخرق والتهور فقعد الأمراء عن غشيان بابه، وشكوا إلى شرف الدين كردبازه الخادم، وكان مدبر مملكته، وكان حسن التربية والدين فدخل عليه يوما يعذله على شأنه وهو مع ندمائه بظاهر همذان، فأشار إليهم أن يعبثوا بكردبازة فخرج مغضبا، واعتذر إليه عندما صحا فأظهر له القبول وقعد عن غشيان مجلسه. وكتب سليمان شاه إلى انبانج صاحب الريّ يدعوه إلى الحضور فوعده بذلك إذا أفاق من مرضه. وزاد كردبازة استيحاشاً فاستحلف الأمراء على خلع سليمان، وبدأ بقتل جميع الصفاعين الذين كانوا ينادمونه وقال: إنما فعلته صونا لملكك. ثم عمل دعوة في داره فحضر سليمان شاه والأمراء، وقبض على سليمان شاه ووزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الخاقدي وعلى خواصه، وذلك في شوّال سنة خمس وخمسين، وقتل وزيره وخواصه، وحبس سليمان شاه قليلا ثم قتله.ثم أرسل إلى ايلدكز صاحب أرّان واذربيجان يستقدم ربيبه أرسلان بن طغرل ليبايع له بالسلطنة، وبلغ الخبر إلى انبانج صاحب الريّ فسار إلى همذان، ولقيه كردبازة وخطب له بالسلطنة بجميع تلك البلاد، وكان ايلدكز قد تزوج بأم أرسلان، وولدت له ابنه البهلوان محمد ومزد أرسلان عثمان فكان ايلدكز أتابك، وابنه البهلوان حاجبا، وهو أخو أرسلان لأمه. وايلدكز هذا من موالي السلطان مسعود. ولما ملك أقطعه ازّان وبعض أذربيجان، وحدثت الفتن والحروب فاعتصم هو بازان ولم يحضر عند أحد من ملوكهم. وجاء إليه أرسلان شاه من تلك الفتن فأقام عنده إلى أن ملك. ولما خطب له بهمذان بعث ايلدكز أتابك إلى انبانج صاحب الريّ، ولاطفه وصاهره في ابنته لابنه البهلوان وتحالفا على الاتفاق.وبعث إلى المستنجد بطلب الخطبة لأرسلان في العراق، وإعادة الأمور إلى عادتها أيام السلطان مسعود فطرد رسوله بعد الإهانة. ثم أرسل ايلدكز إلى أقسنقر الأحمديلي يدعوه إلى طاعة السلطان أرسلان فامتنع، وكان عنده ابن السلطان شاه بن محمود المدني أسلمه إليه عند موته فتهدده بالبيعة له، وكان الوزير ابن هبيرة يكاتبه من بغداد ويقمعه في الخطبة لذلك الصبي قصدا للنصر من بينهم فجهز ايلدكز العساكر مع البهلوان إلى أقسنقر. واستمدّ أقسنقر شاهر بن سقمان
القطبي صاحب خلاط، وواصله فمده بالعساكر. وسار نحو البهلوان وقاتله فظفر به ورجع البهلوان إلى همذان مهزوما والله تعالى أعلم.
الحرب بين ايلدكز واينانج: لما مات ملك شاه بن محمود بأصببهان كما قلناه لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس، ومعهم ابنه محمود فانتزعه منهم صاحب فارس زنكي بن دكلا السلقدي وأنزله في قلعة إصطخر فلما ملك ايلدكز السلطان أرسلان وطلب الخطبة ببغداد، وأخذ الوزير ابن هبيرة في استفساد الأطراف عليهم، وبعث لابن اقسنقر في الخطبة لابن السلطان محمد شاه الذي عنده، وكاتب صاحب فارس أيضاً يشير عليه بالبيعة للسلطان محمد ابن السلطان ملك شاه الذي عنده، وبعده بالخطبة له ان ظفر بايلدكز فبايع له ابن دكلا وخطب له بفارس، وضرب النوب الخمس على بابه وجمع العساكر وبلغ إلى ايلدكز فجمع وسار في أربعين ألفا إلى أصبهان يريد فارس فأرسل إلى زنكي في الخطبة لأرسلان شاه فأبى فقال له ايلدكز أن المستنجد أقطعني بلادك وأنا سائر إليها، وتقدمت طائفة إلى نواحي أرجان فلقيتها سريّة لأرسلان بوقا صاحب أرجان فأوقعوا بطائفته وقتلوامنهم، وبعثوا بالخبر إلى انبانج فنزل من الريّ في عشرة آلاف، وأمده أقسنقر الأحمديلي بخمسة آلاف فقصد ، وهرب صاحب ابن البازدان وابن طغايرك وغيرهما من أولياء ايلدكز للقاء انبانج، ورد عسكر المدافعة زنكي عن شهبرم وغيرها من البلاد فهزمهم زنكي بن دكلا، ورجعوا إليه فاستدعى عساكره من أذربيجان. وجاء هبيس بن مزد أرسلان واستمد انبانج، وقتل أصحابه ونهب سواده، ودخل الريّ وتحصن في قلعة طبرك. ثم ترددت الرسل بينه وبين ايلدكز في الصلح وأقطعه حربادفان وغيرها وعاد ايلدكز إلى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفتنة بنيسابور وتخريبها
وفي ربيع سنة ست وخمسين قبض المؤيد على أحياء نيسابور وحبسهم وفيهم نقيب العلويين ابو القاسم زيد بن الحسن الحسني، وآخذهم على ما فعله آباؤهم بأهل البلد من النهب والاعتداء على الناس في أموالهم وأعراضهم فأخذ هؤلاء الأعيان ينهونهم كأنهم لم يضربوا على أيديهم وقتل جماعة من أهل الفساد فخرب البلد وامتدت الأيدي الى المساجد والمدارس وخزائن الكتب، وأحرق بعضها ونهب بعضها. وانتقل المؤيد الى الشادباخ فأصلح سوره وسدّ ثلمه وسكنه، وخرب نيسابور بالكلية. وكان الذي اختط هذا الشادباخ عبد الله بن طاهر أيام ولايته على خراسان، ينفرد بسكناه هو وحشمه عن البلد تجافيا عن مزاحمتهم. ثم خربت وجددّها ألب أرسلان. ثم خربت فجددّها الآن المؤيد، وخربت نيسابور بالكلية. ثم زحف الغز والخان محمود معهم، وهو ملك خراسان لذلك العهد فحاصروا المؤيد بالشادباخ شهرين. ثم هرب إلخان عنهم إلى شهرستان كأنه يريد الحمام وأقام بها، وبقي الغز إلى آخر شوّال. ثم رجعوا فنهبوا البلاد ونهبوا طوس. ولما دخل الخان إلى نيسابور أمهله المؤيد إلى رمضان سنة سبع وخمسين، ثم قبض عليه وسلمه وأخذ ما كان معه من الذخائر وحبسه، وحبس معه جلال محمد فماتا في محبسهما، وخطب المؤيد لنفسه بعد المستنجد. ثم زحف المؤيد إلى شهرستان وقرب نيسابور فحاصرها حش نزلوا على حكمه في شعبان سنة تسع وخمسين، ونهبها عسكره، ثم رفع الأيدي عنهم واستقامت في ملكه والله أعلم. فتح المؤيد طوس وغيرها: ثم زحف المؤبد إلى قلعة دسكرة من طوس وكان بها أبو بكر جاندار ممتنعا فحاصره بها شهراً، وأعانه أهل طوس لسوء سيرته فيهم. ثم جهده الحصار فاستأمن ونزل فحبسه، وسار إلى كرمان فأطاعوه، وبعث عسكراً إلى اسفراين فتحصن بها رئيسها عبد الرحمن بن محمد بالقلعة فحاصره واستنزله، وحمله مقيداً إلى الشادباخ فحبر، ثم قتل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين. ثم ملك المؤيد قهندر ونيسابور واستفحل ملكه وعاد إلى ما كان عليه. وعمر الشادباخ وخرّب المدينة العتيقة. ثم بعث عسكراً إلى بوشنج وهراة وهي في ولاية محمد بن الحسين ملك الغور فحاصرها، وبعث الملك محمد عسكراً لمدافعته فأفرجوا عنها وصفت ولاية هراة للغورية.
الحرب بين المسلمين والكرج: كان الكرج قد ملكوا مدينة أنى من بلاد أران في شعبان سنة ست وخمسين واستباحوها قتلا وأسرا، وجمع لهم شاه أرمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط جموعا من الجند والمتطوعة، وسار إليهم فقاتلوه وهزموه واسر كثير من المسلمين. ثم جمع الكرج في شعبان سنة سبع وخمسين ثلاثين ألف مقاتل وملكوا دوس من أذربيجان والجبل وأصبهان فسار إليهم ايلدكز. وسار معه شاه أرمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط واقسنقر صاحب مراغة في خمسين ألفا، ودخلوا بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين فاستباحوها وأسروا الرجال وسبوا النساء والولدان، وأسلم بعض أمراء الكرج، ودخل مع المسلفين وكمن بهم في بعض الشعاب حتى زحف الكرج، وقاتلوا المسلمين شهراً أو نحوه. ثم خرج الكمين من ورائهم فانهزموا واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون. وعادوا ظافرين. ملك المؤيد أعمال قومس والخطبة للسلطان أرسلان بخراسان: ثم سار المؤيد أي أبه صاحب نيسابور إلى بلاد قومس فملك بسطام ودامغان، وولى بسطام مولاه ننكز فجرى بينه وبين شاه مازندران اختلاف أدى إلى الحرب واقتتلوا في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين. ولما ملك المؤيد قومس بعث إليه السلطان أرسلان بن طغرل بالخلع والأولية لما كان بين المؤيد ايلدكز من المودة، وأذن له في ولاية ما يفتحه من خراسان، ويخطب له فيها فخطب له في أعمال قومس وطوس وسائر أعمال نيسابور، ويخطب لنفسه بعد أرسلان وكانت الخطب في جرجان ودهستان لخوارزم شاه أرسلان بن أتسز، وبعده للأمير إتياق، والخطبة في مرو وبلخ وسرخس وهي بيد الغز، وهراة وهي بيد الأمير اتيكين، وهو مسالم للغز للسلطان سنجر، يقولون اللهم اغفر للسلطان السعيد سنجر، وبعده لأمير تلك المدينة، والله تعالى ولي التوفيق.
إجلاء القارغلية من وراء النهر:
كان خان خاقان الصيني ولى على سمرقند وبخارى الخان جغرا بن حسين تكين وهو من بيت
قديم في الملك. ثم بعث إليه سنة سبعة وخمسين باجلاء القارغلية من أعماله إلى كاشغر، ويشتغلون بالمعاش من الزراعة وغيرها فامتنعوا فألح عليهم فاجتمعوا وساروا إلى بخارى. فدس أهل بخارى إلى جغراخان وهو بسمرقند، ووعدوا القارغلية بالمصانعة وطاوعوهم إلى أن صبحهم جغر في عساكره فأوقع بهم، وقطع دابرهم والله تعالى أعلم.
استيلاء سنقر علم الطالقان وغرشتان: وفي سنة تسع وخمسين استولى الأمير صلاح الدين سنقر من موالي السلطان سنجر على بلاد الطالقان، وأغار على غرستان حتى ملكها وصارت في حكمه بحصونها وقلاعها، وصالح أمراء الغز وحمل لهم الاتاوة. قتل صاب هراة: كان صاحب هراة الأمير اتكين وبينه وبين الغز مهادنة. فلما قتل الغز ملك الغور محمد بن الحسين كما مرّ في أخباره طمع اتكين في بلاده فجمع جموعه، وسار إليها في رمضان سنة تسع وخمسين وتوغل في بلاد الغور فقاتله أهلها وهزموه، وقتل في المعركة. وتصد الغز هراة وقد اجتمع أهلها على أثير الدين منهم فاتهموه بالميل للغز وقتلوه، واجتمعوا على أبي الفتوح بن علي بن فضل الله الطغرائي. ثم بعثوا إلى المؤيد بطاعتهم فبعث إليهم مملوكه سيف الدين تنكز فقام بأمرهم، وبعث جيشا إلى سرخس ومرو، وأغاروا على دواب الغز فأفرجوا عن هراة ورجعوا لطاعته والله تعالى أعلم. ملك شاه مازندران قومس وبسطام ووفاته: قد ذكرنا استيلاء المؤيد على قومس وبسطام وولاية مولاه تنكز عليها. ثم إنّ شاه مازندران وهو رستم بن علي بن هربار بن قاروت جهز إليها عسكرا مع سابق الدين القزويني من أمرائه فملك دامغان، وسار إليه تنكز فيمن معه من العسكر فكبسهم القزويني وهزمهم واستولى على البلاد. وعاد تنكز إلى المؤيد بنيسابور، وجعل يغير على بسطام وقومس. ثم توفي شاه مازندران في ربيع سنة ستين فكتم ابنه علاء الدين موته حتى استولى على حصونه وبلاده. ثم أظهره وملك مكانه ونازعه إتياق صاحب جرجان ودهستان ولم يرع ما كان بينه وبين أبيه فلم يظفر بشيء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حصر عسكر المؤيد نسا: ثم بعث المؤيد عساكره في جمادى سنة ستين لحصار مدينة نسا فبعث خوارزم شاه بك أرسلان بن أتسز في عساكره إليها، فأجفلت عنها عساكر المؤيد، ورجعوا إلى نيسابور وصارت نسا في طاعة خوارزم شاه، وخطب له فيها. ثم سار عسكر خوارزم إلى دهستان وغلبوه عليها وأقام فيها بطاعته والله أعلم. الحرب بين البهلوان وصاحب مراغة: ثم بعث اقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة سنة ثلاث وستين إلى بغداد في الخطبة للملك الذي عنده، وهو ابن السلطان محمد شاه على أن يتجافى عن العراق، ولا يطلب الخطبة منه إلا إذا أسعف بها فأجيب بالوعد الجميل، وبلغ الخبر إلى ايلدكز صاحب البلاد فبعث ابنه البهلوان في العساكر لحرب اقسنقر فحاربه وهزمه، وتحصن بمراغة فنازله البهلوان وضيق عليه، وتردّد بينهما الرسل واصطلحوا، وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان. ملك شملة فارس وإخراجه عنها: كان زنكي بن دكلا قد أساء السيرة في جنده فأرسلوا إلى شملة صاحب خوزستان واستدعوه ليملكوه فسار ولقي زنكي وهزمه، ونجا إلى الأكراد الشوابكار، وملك شملة بلاد فارس فأساء السيرة في أهلها، ونهب ابن أخيه خرسنكا البلاد فنفر أهل فارس عنه ولحق بزنكي بعض عساكره فزحف إلى فارس، وفارقها شملة إلى بلاده خوزستان وذلك كله سنة أربع وستين وخمسمائة. ملك ايلدكز الريّ: كان إينانج قد استولى على الريّ واستقرّ فيها بعد حروبه مع ايلدكز على جزية يؤذيها إليه. ثم منع الضريبة واعتذر بنفقات الجند فسار إليه إيلدكز سنة أربع وستين وحاربه إينانج فهزمه ايلدكز، وحاصره بقلعة طبرك، وراسل بعض مماليكه ورغبهم فغدروا به وقتلوه. واستولىأيلدكز
على طبرك وعلى الريّ وولى عليها علي بن عمر باغ، ورجع إلى همذان، وشكر لموالي إينانج الذين قتلوه ولم يف لهم بالوعد فافترقوا عنه. وسار الذي تولى قتله إلى خوارزم شاه فصلبه لما كان بينه وبين انبانج من الوصلة، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. وفاة صاحب كرمان والخلف بين أولاده: ثم توفي سنة خمس وستين الملك طغرل بن قاروت بك صاحب كرمان، وولي إبنه أرسلان شاه مكانه، ونازعه أخوه الأصغر بهرام شاه فحاربه أرسلان وهزمه فلحق بالمؤيد في نيسابور فأنجده بالعساكر. وسار إلى أخيه أرسلان فهزمه وملك كرمان، ولحق أرسلان بأصبهان مستنجداً بايلدكز فأنجده بالعساكر وارتجع كرمان ولحق بهرام بالمؤيد وأقام عنده. ثم هلك أرسلان فسار بهرام إلى كرمان وملكها. ثم توفي المستنجد وولي إبنه المستضئ . ولم نترجم لوفاة الخلفاء ههنا لأنها مذكورة في أخبارهم، وإنما ذكرناها قبل هؤلاء لأنهم كانوا في كفالة السلجوقية وبني بويه قبلهم فوفاتهم من جملة أخبار الدولتين. وهؤلاء من لدن المقتفي قد استبدوا بأمرهم وخلافتهم من بعد ضعف السلجوقية بوفاة السلطان مسعود، وافترقت دولتهم في نواحي المشرق والمغرب. واستبد بها الخلفاء ببغداد ونواحيها ونازعوا من قبلهم أنهم كانوا يخطبون لهم في أعمالهم، ونازعهم فيها مع ذلك حرصاً على الملك الذي سلبوه، وأصبحوا في ملك منفرد عن أولئك المنفردين مضافاً إلى الخلافة التي هي شعارهم، وتداول أمرهم إلى أن انقرضوا بمهلك المستعصم على يد هولاكوا. وفاة خوارزم شاه وولاية إبنه سلطان شاه ومنازعته مع أخيه الأكبر علاء الدين تكش:
لما انهزم خوارزم شاه أرسلان أمام الخطا رجع إلى خوارزم فمات سنة ثمان وستبن. وولي ابنه سلطان شاه فنازعه أخوه الأكبر علاء الدين تكش، واستنجد بالخطا وسار إلى خوارزم فملكها، ولحق سلطان شاه بالمؤيد صريخا فسار معه بجيوشه، ولقيهم تكش فانهزم المؤيد وجيء به أسيراً إلى تكش فقتل بين يديه صبراً. وعاد أصحابه إلى نيسابور فولوا إبنه طغان شاه أبو بكر ابن المؤيد، وكان من أخبار طغان شاه وتكش ما نذكره في أخبار دولتهم وفي كيفية قتله خبر آخر نذكره هنالك. ثم سار خوارزم شاه سنة تسع وستين إلى نيسابور وحاصرها مرّتين، ثم هزم في الثانية طغان شاه بن المؤيد وأخذه أسيراً، وحمله إلى خوارزم وملك نيسابور وأعمالها وجميع ما كان لبني المؤيد بخراسان، وانقرض أمرهم والبقاء لله وحده والله تعالى أعلم.
وفاة الأتابك شمس الدين أيلد يكز وولاية إبنه محمد البهلوان: ثم توفي الأتابك شمس الدين ايلدكز أتابك أرسلان شاه بن طغرل صاحب همذان وأصبهان والريّ وأذربيجان، وكان أصله مملوك الكمال الشهير ابن وزير السلطان محمود. ولما قتل الكمال صار السلطان وترقى في كتب الولاية. فلما ولي السلطان مسعود ولاه أرانية فاستولى عليها، وبقيت طاعته للملوك على البعد، واستولى على أكثر أذربيجان. ثم ملك همذان وأصبهان والريّ وخطب لربيبه أرسلان بن طغرل وبقي أتابك. وبلغ عسكره خمسين ألفاً وإتسع ملكه من تفليس إلى مكران، وكان متحكماً على أرسلان، وليس له من الدولة إلا جراية تصل إليه. ولما هلك أيلدكز قام بالأمر بعده إبنه محمد البهلوان، وهو أخو السلطان أرسلان لأمّه فسار أوّل ملكه لإصلاح أذربيجان، وخالفه ابن سنكي، وهو ابن أخي شملة صاحب خوزستان إلى بلد نهاوند فحاصرها. ثم تأخر ابن سنكي من تستر، وصحبهم من ناحية أذربيجان يوهمهم أنه مدد البهلوان ففتحوا له البلد، ودخل فطلب القاضي والأعيان ونصبهم وتوجه نحو ماسندان قاصدا العراق، ورجع إلى خوزستان. ثم سار شملة سنة سبعين، وقصد بعض التركمان فاستنجدوا البهلوان بن أيلدكز فأنجدهم، وقاتلوه فهزموه. وأسر شملة جريحا وولده وابن أخيه. وتوفي بعد يومين وهو من التركمان الأتسزية، وملك إبنه من بعده. وسار البهلوان سنة سبعين إلى مدينة تبريز، وكان صاحبها اقسنقر الأحمديلي قد هلك، وعهد بالملك بعده لإبنه ملك الدين فسار إلى بلاده، وحاصر مراغة وبعث أخاه فنزل وعاد عن مراغة إلى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة السلطان أرسلان بن طغرل: ثم توفي السلطان أرسلان بن طغرل مكفول البهلوان بن أيلدكز، وأخوه لاّمه بهمذان سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وخطب بعده لابنه طغرل.
وفاة البهلوان محمد بن أيلديكز وملك أخيه قزل.
ثم توفي البهلوان محمد بن أيلدكز أوّل سنة إثنتين وثمانين وخمسمائة، وكانت البلاد والرعايا في غاية الطمأنينة فوقع عقب موته بأصبهان بين الحنفية والشافعية وبالريّ بين أهل السنة والشيعة فتن وحروب آلت إلى الخراب، وملك البلاد بعد البهلوان أخوه فنزل أرسلان وإسمه عثمان، وكان البهلوان كافلاً للسلطان طغرل وحاكماً عليه. ولما هلك قزل لم يرض طغرل بتحكمه عليه، وفارق همذان، ولحق به جماعة من الأمراء والجند، وجرت بينه وبين قزل حروب. ثم غلبه طغرل إلى الخليفة فأمره بعمارة دار السلطان فطرد رسوله، وهدمت دار السلطنة وألحقت بالأرض، وبعث الخليفة الناصر لدين الله سنة أربع وثمانين عسكرا مع وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس لانجاده قزل على طغرل قبل همذان، وهزمهم ونهب جميع ما معهم وأسر الوزير ابن يونس.
قتل قزل أرسلان قتلغ وولاية أخيه:
قد تقدّم لنا ما كان بين السلطان طغرل وبين قزل بن أيلدكز من الحروب، ثم أن قزل غلبه واعتقله في بعض القلاع، ودانت له البلاد وأطاعه ابن دكلا صاحب فارس وخوزستان، وعاد إلى أصبهان والفتن بها متصلة فأخذ جماعة من أعيان الشافعية وصلبهم وعاد إلى همذان، وخطب لنفسه بالسلطنة سنة سبعة وثمانين. ثم قتل غبلة على فراشه ولم يعرف قاتله. وأخذ جماعة من غلمانه بالظنة، وكان كريماً حليماً يحب العدل ويؤثره. ولما هلك ولي من بعده قتلغ بن أخيه البهلوان وإستولى على الممالك التي كانت بيده.
قتل السلطان طغرل وملك خوارزم شاه الريّ ووفاة أخيه سلطان شاه:
ولما توفي قزل وولي قتلغ بن أخيه البهلوان كما قلناه أخرج السلطان طغرل من محبسه بالقلعة التي كان بها، وإجتمع إليه العساكر، وسار إلى همذان فلقيه قتلغ بن البهلوان فانهزم بين يديه ولحق بالريّ، وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تتش
ليستنجده فسار إليه سنة ثمان وثمانين وندم قتلغ على استدعائه فتحصن ببعض قلاعه، وملك خوارزم شاه الريّ، وملك قلعة طبرك،
وصالح السلطان طغرل وولى على الريّ وعاد إلى خوارزم سنة تسعين فأحدث أحدوثة السلطان شاه نذكره في أخبارهم. وسار السلطان طغرل إلى الريّ فأغار عليها، وفر منه قتلغ بن البهلوان وبعث إلى خوارزم شاه يستنجده، ووافق ذلك وصول منشور من الخليفة إليه بإقطاعه البلاد فسار من نيسابور إلى الريّ، وأطاعه قتلغ وسار معه إلى همذان. وخرج طغرل للقائهم قبل أن يجمع العساكر، ولقيهم قريباً من الريّ في ربيع الأوّل فحمل عليهم، وتورط بينهم فصرع عن فرسه وقتل. وملك خوارزم شاه همذان وتلك البلاد جميعاً. وأنقرضت مملكة بني ملك شاه، وولي خوارزم شاه على همذان، وملك الأعمال فبلغ انبانج بن البهلوان، وأقطع كثيراً منها مماليكه وقدم عليهم مساحق منهم. ثم استولى وزير الخليفة ابن العطاف على همذان وأصبهان والريّ من يد موإليه، وانتزعها منهم خوارزم كما ذكرناه في أخبار الخلفاء. وجاءت العساكر من قبل الخليفة إلى همذان مع أبي الهيجاء الشمس من أمراء الأيوبية، وكان أميراً على القدس فعزلوه عنها وسار إلى بغداد فبعثه الناصر سنة ثلاث وتسعين بالعساكر إلى همذان، ولقي عندها أزبك بن البهلوان مطيعاً فقبض عليه، وأنكر الخليفة ذلك وبعث بإطلاقه، وخلع عليه وعاد إلى بلاد أذربيجان.
ملك الكرج الدويرة: كان أزبك بن البهلوان قد استولى على أذربيجان بعد موته، وكان مشغولاً بلذاته فسار الكرج إلى مدينة دوير وحاصروها وبعث أهلها إليه بالصريخ فلم يصرخهم حتى ملكها الكرج عنوة واستباحوها والله تعالى أعلم.
قتل كوجة ببلاد الجبل وملك أيدغمش:
كان كوجه من موالي البهلوان قد تغلب على الريّ وهمذان وبلاد الجبل، واصطنع
صاحبه أيدغمش ووثق به فنازعه الأمر وحاربه فقتله، واستولى أيدغمش على البلاد وبقي أزبك بن البهلوان مغلباً ليس له من الحكم شيء.
قصد صاحب مراغة وصاب أربل أذربيجان:
قد ذكرنا أن أزبك كان مشغولا بلذاته مهملا لملكه، ثم حدثت بينه وبين صاحب أزبل، وهو مظفر الدين كوكبري سنة إثنتين وستمائة فتنة حملت مظفر الدين على قصده فسار إلى مراغة، واستنجد صاحبها علاء الدين بن قراسنقر الأحمديلي فسار معه لحصار تنريز، وبعث أزبك الصريخ إلى أيدغمش بمكانه من بلاد الجبل فسار إليه، وأرسل مظفر الدين بالفتن والتهديد فعاد إلى بلده، وعاد علاء الدين بن قراسنقر إلى بلاد مراغة فسار أيدغمش وأزبك وحاصروه بمراغة حتى سلم قلعة من قلاعه، ورجعوا عنه، والله تعالى أعلم.
وفاة صاحب مازندران والخلف بين أولاده:
ثم توفي حسام الدين أزدشير صاحب مازندران وولي إبنه الأكبر وأخرج أخاه الأوسط عن البلاد فلحق بجرجان، وبها علي شاه برتكش نائباً عن أخيه خوارزم فاستنجده على شرط الطاعة له، وأمره أخوه تكش بالمسير معه فساروا من جرجان، وبلغهم في طريقهم مهلك صاحب مازندران المتولي بعد أبيه، وأن أخاه الأصغر استولى على الكراع والأموال فساروا إليه، وملكوا البلاد ونهبوها مثل سارية وآمد وغيرها، وخطب لخوارزم شاه فيها، وعاد علي شاه إلى خراسان، وأقام ابن صاحب مازندران، وهو الأوسط الذي استصرخ به، وقد إمتنع أخوه الأصغر بقلعة كوري، ومعه الأموال والذخائر وأخوه الأوسط فراسله واستعطف، وقد ملك البلاد جميعا والله ولي التوفيق.
ملك ابن البهلوان مراغة: ثم توفي سنة أربع وستمائة علاء الدين بن قراسنقر الاحمديلي صاحب مراغة، وأقام بأمرها من بعده خادمه ونصب إبنه طفلا صغيراً، وعصى عليه بعض الأمراء. وبعث العسكر لقتاله فانهزموا أولاً ، ثم استقّر ملك الطفل. ثم توفي سنة خمس وستمائة وانقرض أهل بيته فسار أزبك بن البهلوان من تبريز إلى مراغة، واستولى على مملكة آل قراسنقر ما عدا القلعة التي اعتصم بها الخادم، وعنده الخزائن والذخائر. استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها وهرب أيدغمش وقتله: لما تمكن أيدغمش في بلاد الجبل بهمذان وأصبهان والريّ وما إليها عظم شأنه حتى طلب الأمر لنفسه، وسار لحصار أزبك ا بن مولاه الذي نصبه للأمر. وكان بأذربيجان فخرج عليه مولى من موالي البهلوان اسمه منكلي وكثرجمعه، واستولى على البلاد. وقدم أيدغمش إلى بغداد، وإحتفل الخليفة لقدومه، وتلقاه وذلك سنة ثمان، وأقام بها ، كان أيدغمش قد وفد سنة ثمان وستمائة إلى بغداد وشرفه الخليفة بالخلع والألوية، وولاه على ما كان بيده ورجع إلى همذان، ووعده الخليفة بمسير العساكر فأقام ينتظرها عند سليمان بن مرحم أمير الإيوانية من التركمان فدس إلى منكلي بخبره. ثم قتل أيدغمش وحمل أصحابه إلى منكلي وافترق أصحابه، واستولى منكلي، وبعث إليه الخليفة بالنكير فلم يلتفت إليه فبعث إلى مولاه أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان يحّرضه عليه، وإلى جلال الدين الإسماعيلي صاحب قلعة الموت لمساعدته على أن يكون للخليفة بعض البلاد ولأزبك بعضها ولجلال الدين بعضها. وبعث الخليفة العساكر مع مولاه سنقر الملقب بوجه السبع، وأمره بطاعة مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كجك صاحب أربل وشهرزور، وهو مقدّم العساكر جميعاً فسار
لذلك، وهرب منكلي وتعلق بالجبل، ونزلوا بسفحه قريباً من كوج فناوشهم الحرب فانهزم أزبك. ثم عاد ثم أسرى من ليلته منهزماً، وأصبحوا فاقتسموا البلاد على الشريطة، وولي أزبك فيما أخذ منها مولى أحيه فاستولى عليها، ومضى منكلي إلى ساوة وبها شحنة كان صديقاً له فقتله، وبعث برأسه الى أزبك واستقر في بلاد الجبل حتى قتله الباطنية سنة أربع عشرة وستمائة، وجاء خوارزم شاه فملكها كما نذكر في أخباره ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران في طاعته، وخطب له على منابر أعماله، وانقرض أمر بني ملك شاه ومواليهم من العراقين وخراسان وفارس وجميع ممالك المشرق، وبقي أزبك ببلاد أذربيجان. ثم استولى التتر على أعمال محمد بن تكش فيما وراء النهر وخراسان وعراق العجم سنة ثماني عشرة وستمائة وموالي الهند. وسار جنكزخان فأطاعه أزبك بن البهلوان سنة إحدى وعشرين، وأمره بقتل من عنده من الخوارزمية ففعل، ورجع عنه إلى خراسان. ثم جاء جلال الدين بن محمد بن تكش من الهند سنة إثنتين وعشرين فاستولى على عراق العجم وفارس، وسار إلى أذربيجان فملكها، ومرّ من أزبك إلى كنجة من بلاد أران. ثم ملك كنجة وبلاد أران، ومدأزبك إلى بعض القلاع هنالك. ثم هلك وملك جلال الدين على جميع البلاد، وانقرض أمر بني أزبك، واستولى التتر على البلاد، وقتلوا جلال الدين سنة ثمان وعشرين كما يأتي في أخبارهم جميعاً. انتهى الكلام في دولة السلجوقية فلنرجع إلى أخبار الدول المتشعبة عنها واحدة بعد واحدة، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير ا لوا رثين.
خريطة بنو أنوشتكين: كان أنوشتكين جدّهم تركيا مملوكا لرجل من غرشتان، ولذلك يقال له أنوشتكين غرشه ثم صار لرجل من أمراء السلجوقية وعظمائهم اسمه ملكابك، وكان مقدماً عنده لنجابته وشجاعته. ونشأ إبنه محمد على مثل حاله من النجابة والشجاعة، وتحفى بالأدب والمعارف، واختلط بأمراء السلجوقية، وولي لهم الأعمال واشتهر فيهم بالكفاية وحسن التدبير.ولما ولي بركيارق ابن السلطان ملك شاه، وانتقض عليه عمه أرسلان أرغون، واستولى على خراسان، وبعث إليه العساكر سنة تسعين وأربعمائة مع أخيه سنجر، وسار في أثره، ولقيهم في طريقهم خبر مقتل أرغون عمهم، وأن بعض مواليه خلفه فعدا عليه فقتله كما مر قبل. فسار بركيارق في نواحي خراسان وما وراء النهر حتى دّوخها وولي عليها أخاه سنجر، وانتقض عليه أمير أميران من قرابته اسمه محمد بن سليمان فسار إليه سنجر وظفر به وسلمه. وعاد بركيارق إلى العراق بعد أن ولي على خوارزم أكنجي شاه. ومعنى شاه بلسانهم السلطان فأضيف إلى خوارزم على عادتهم في تقديم المضاف إليه على المضاف.ولما إنصرف بركيارق إلى العراق تأخر من أمرائه قودز وبارقطاش وإنتقضا على السلطان ووثبا بالأمير اكنجي صاحب خوارزم وهو بمرو ذاهباً إلى السلطان شاه فقتلاه. وبلغ الخبر إلى السلطان وقد إنتقض عليه بالعراق الأمير أنزو مؤيد الملك بن نظام الملك فمضى لحربهما، وأعاد الأمير داود حبشي بن أيتاق في عسكر إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة وعاجلاه قبل إجتماع عساكره فعبر جيحون وسبق إليه بارقطاش فهزمه داود وأسره. وبلغ الخبر إلى قودز فثار به عسكره، وفرّ إلى بخارى فقبض عليه نائباً ثم أطلقه، ولحق بالملك سنجر فقبله. وأقام برقطاش أسيراً عند الأمير داود وصفت خراسان من الفتنة والثوار، واستقام أمرها للأمير داود حبشي فاختار لولاية خوارزم محمد بن أنوشتكين فولاه وظهرت كفايته وكان محباً لأهل الذين والعلم مقّربا لهم عادلا في رعيته فحسن ذكره وارتفع محله. ثم استولى الملك سنجر على خراسان فأقر محمد بن أنوشتكين وزاده تقديماً وجمع بعض ملوك الترك وقصد خوارزم وكان محمد غائباً عنها ولحق بالترك محمد بن إكنجي الذي كان أبوه أميراً على خوارزم وإسمه طغرل تكين محمد، فحرض الترك على خوارزم وبلغ الخبر إلى محمد بن أنوشتكين فبعث إلى سنجر بنيسابور يستمده وسبق إلى خوارزم فافترق الترك وطغرل تكين
محمد وسار كلّ منهما إلى ناحية ودخل محمد بن أنوشتكين إلى خوارزم فازداد عند سنجر ظهوراً والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق لا رب سواه.
وفاة محمد بن أنوشتكين وولاية إبنه أتسز: ثم هلك محمد بن أنوشتكين خوارزم ولي بعده إبنه أتسز وسار بسيرة أبيه، وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وحارب الأعداء فلما ولي افتتح أمره بالاستيلاء على مدينة مقشلاع، وظهرت كفايته في شأنها فاستدعاه السلطان سنجر فاختصه، وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه، وكلما مرّ يزيد تقدّما عنده، والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم. الحرب بين السلطان سنجر واتسز خوارزم شاه: ثم كثرت السعاية عند السلطان سنجر في أتسز خوارزم شاه، وإنه يحدّث نفسه بالامتناع فسار سنجر إليه لينتزع خوارزم من يده فتجهز أتسز للقائه، واقتتلوا فانهزم أتسز وتتل إبنه وخلق كثير من أصحابه، واستولى سنجر على خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمدا، ورتب له وزيراً وأتابك وحاجبا، وعاد إلى مرو منتصف ثلاث وثلاثين. وكان أهل خوارزم يستغيثون لأتسز فعاد إليهم بعد سنجر فأدخلوه البلد، ورجع سليمان شاه إلى عمه سنجر، واستبدّ أتسز بخوارزم والله أعلم. انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا وملكهم ما وراء النهر: ثم سار سنجر سنة ست وثلاثين لقتال الخطا من الترك فيما وراء النهر لما رجعوا لملك تلك البلاد، فيقال أن أتسز أغراهم بذلك ليشغل السلطان سنجر عن بلده وأعماله. ويقال أن محمود بن محمد بن سليمان بن داود بقراخان ملك الخانية في كاشغر وتركستان وهو ابن أخت سنجر زحفت إليه أمم الخطا من الترك ليتملكوا بلاده فسار إليهم، وقاتلهم فهزموه وعاد إلى سمرقند، وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فعبر النهر إليه في عساكر المسلمين وملوك خراسان، والتقوا في أوّل صفر سنة ست وثلاثين فانهزم سنجر والمسلمون وفشا القتل فيهم. يقال كان القتلى مائة ألف رجل وأربعة آلاف أمرأة، وأسرت زوجة السلطان سنجر وعاد منهزماً، وملك الخطا ما
وراء النهر، وخرجت عن ملك الإسلام، وقد تقدّم ذكر هذه الواقعة مستوفى في أخبار السلطان سنجر. ولما إنهزم السلطان سنجر قصد أتسز خوارزم شاه خراسان فملك سرخس، ولقي الإمام أبا محمد الزيادي، وكان يجمع بين العلم والزهد. فأكرمه وقبل قوله. ثم قصد مرو الشاهجان فخرج إليه الإمام أحمد الباخوري وشفع في أهل مرو، وأن لا يدخل لهم أحد من العسكر فشفعه، وأقام بظاهر البلد فثار عامة مرو وأخرجوا أصحابه وقتلوا بعضهم ، وامتنعوا فقاتلهم أتسز وملكها عليهم غلابا أوّل ربيع سنة ست وثلاثين وقتل الكثير من أهلها، وكان فيهم جماعة من أكابر العلماء، وأخرج كثيراً من علمائها إلى خوارزم: منهم أبو بكر الكرماني. ثم سار في شوّال إلى نيسابور، وخرج إليه جماعة من العلماء والفقهاء متطارحين أن يعفيهم مما وقع بأهل مرو فأعفاهم، واستصفى أموال أصحاب السلطان وقطع الخطبة لسنجر وخطب لنفسه. ولما صرخ باسمه على المنبر هم أهل نيسابور بالثورة، ثم ردهم خوف العواقب فاقصروا، وبعث جيشاً إلى أعمال بيهق فحاصرها خمساً. ثم ساروا في البلاد ينهبون ويكتسحون والسلطان سنجر خلال ذلك متغافل عنه فيما يفعله في خراسان لما وراءه من مدد الخطا وقوتهم.ثم أوقع الغز سنة ثمان وأربعين بالسلطان سنجر واستولوا على خراسان، وكان هؤلاء الغز مقيمين بما وراء النهر منذ فارقهم ملوك السلجوقية، وكانوا يدينون بالإسلام فلما استولى الخطا على ما وراء النهر أخرجوهم منها فأقاموا بنواحي بلخ وأكثروا في العيث والفساد، وجمع لهم سنجر وقاتلهم فظفروا به وهزموه وأسروه. وانتثر سلك دولته فلم يعد انتظامه وافترقت أعماله على جماعة من مواليه، واستقلّ حينئذ أتسز بملك خوارزم وأعمالها وأورثها بنيه. ثم استولوا على خراسان والعراق عندما ركدت رب السلجوقية وكانت لهم بعد ذلك دولة عظيمة نذكر أخبارها مفضلة عند دول أهلها، والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.
وفاة أتسز وملك ولده أرسلان: ثم توفي أتسز بن محمد أنوشتكين في منتصف إحدى وخمسين وخمسمائة لستين سنة من ولايته، وكان عادلا في رعيته حسن السيرة فيهم. ولما توفي ملك بعده أرسلان بن أتسز فقتل جماعة من عماله وسمل أخاه. ثم بعث بطاعته للسلطان سنجر عندما هرب من أسر الغز فكتب له بولاية خوارزم. وقصد الخطا خوارزم، وجمع أرسلان للقائهم وسار غير بعيد. ثم طرقه المرض فرجع وأرسل الجيوش لنظر أمير من أمرائه فقاتله الخطا وهزموه وأسروه، ورجع إلى ما وراء النهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة خوارزم شاه أرسلان وملك ولد ه سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وملك طغان شاه بن المؤيد ثم موته وملك ابنه سنجر شاه: ثم توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز من مرضه الذي قعد به عن لقاء الخطا، وملك بعده إبنه الأصغر سلطان شاه محمود في تدبير أمه. وكان إبنه الأكبر علاء الدين تكش مقيماً في إقطاعه بالجند فاستنكف من ولاية أخيه الأصغر، وسار إلى ملك الخطا مستنجدا، ورغبة في أموال خوارزم وذخائرها فأنجده بجيش كثيف، وجاء إلى خوارزم ولحق سلطان شاه وأمه بالمؤيد أنه صاحب نيسابور، والمتغلب عليها بعد سنجر وأهدى له، ورغبّه في الأموال والذخائر فجمع وسار معه حتى إذا كان على عشرين فرسخاً من خوارزم سار إليه تكش وهزمه، وجيء بالمؤيد أسيراً إلى تكش فأمر بقتله، وقتل بين يديه صبراً. ولحق أخوه سلطان شاه بدهستان، وتبعه تكش فملكها عنوة وهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش وعاد إلى خوارزم، ولحق سلطان شاه بنيسابور وقد ملكوا طغان شاه أبا بكر بن ملكهم المؤيد. ثم سار سلطان شاه من عنده إلى غياث الدين ملك الغورية فأقام عنده، وعظم تحكم الخطا على علاء الدين تكش صاحب خوارزم واشتطوا عليه، وبعثوا يطلبونه في المال فأنزلهم متفرقين على أهل خوارزم ودس إليهم فبيتوهم ولم ينج منهم أحد. ونبذ إلى ملك الخطا عهده وسمع ذلك أخوه سلطان شاه فسار من غزنة إلى ملك الخطا يستنجده على أخيه تكش، وادعى أنّ أهل خوارزم يميلون إليه فبعث معه جيشاً كثيفاً من الخطا، وحاصروا خوارزم فامتنعت وأمر تكش بإجراء ماء النهر عليهم فكادوا يغرقون،وأفرجوا عن البلاد، ولاموا سلطان شاه فيما غّرهم فقال لقائدهم : أبعث معي الجيش لمرو لانتزعها من دينار الغزي الذي استولى عليها من حين فتنتهم مع سنجر فبعث معه الجيش، وسار إلى سرخس واقتحمها على الغز الذين بها، وأفحش في قتلهم واستباحهم، ولجأ دينار إلى القلعة فتحصن بها. ثم سار سلطان شاه إلى مرو وملكها وأقام بها، ورجع الخطا إلى ما وراء النهر. وأقام سلطان شاه بخراسان يقاتل الغز فيصيب منهم كثيراً، وعجز دينار ملك الغز عن سرخس فسلمها لطغان شاه بن المؤيد صاحب نيسابور فولى عليها مراموش من أمرائه.ولحق دينار بنيسابور فحاصر دينار سلطان شاه، وعاد إلى نيسابور ولحق به مراموش، وترك قلعة سرخس، ثم ملك نطوش والتم، وضاقت الأمور على طغان شاه بنيسابور إلى أن مات في محرم سنة اثنتين وثمانين، وملك إبنه سنجر شاه، واستبدّ عليه منكلي تكين مملوك
جدّه المؤيد. وأنف أهل الدولة من استبداده وتحكمه فلحق أكثرهم بسلطان شاه في سرخس. وسار الملك دينار من نيسابور في جموع الغز إلى كرمان فملكها. ثم أساء منكلي تكين السيرة بنيسابور في الرعية بالظلم، وفي أهل الدولة بالقتل فسار إليه خوارزم شاه علاء الدين تكش في ربيع سنة اثنتين وثمانين فحاصره بنيسابور شهرين، فامتنعت عليه فعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث وثمانين فحاصرها وملكها على الأمان، وقتل منكلي تكين، وحمل سنجر شاه إلى خوارزم فأنزله بها وأكرمه. ثم بلغه أنه يكاتب أهل نيسابور فسمله وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين.قال ابن الأثير: ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مسارب التجارب، وذكر غيره أن تكش بن أرسلان لما أخرج أخاه سلطان شاه من خوارزم، وقصد سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغز ثم ارتجعوها منه ونالوا من عساكره فعبر إلى الخطا واستنجدهم وضمن لهم المال، وجاء بجيوشهم فملك مرو وسرخس ونسا وأبيورد من يد الغز وصرف الخطا فعاد إلى بلادهم. ثم كاتب غياث الدين الغوري وله هراة وبوشنج وباذغيس وأعمالها من خراسان يطلب الخطبة له، ويتوعده فأجابه غياث الدين بطلب الخطبة منه بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان.ثم ساءت سيرة سلطان شاه في خراسان وصادر رعاياها فجهز غياث الدين العساكر مع صاحب سجستان، وأمر ابن أخته بهاء الدين صاحب باميان بالمسير معه فساروا إلى هراة، وخاف سلطان شاه من لقائهم فرجع من هراة إلى مرو حتى أنصرم فصل الشتاء ثم أعاد مراسلة غياث الدين فامتعض وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالخبر، وكان بالهند فرجع مسرعاً إليه، وساروا إلى خراسان واجتمعوا بعسكرهم الأول على الطالقان. وجمع سلطان شاه جموعه من الغز وأهل الفساد ونزل بجموع الطالقان، وتواقفوا كذلك شهرين، وترددت الرسل بين سلطان شاه وغياث الدين حتى جنح غياث الدين إلى النزول عن بوشنج وباذغيس، وشهاب الدين ابن أخته وصاحب سجستان يجنحان إلى الحرب، وغياث الدين يكفهم حتى حضر رسول سلطان شاه عند غياث الدين لاتمام العقد، والملوك جميعاً حاضرون فقام الدين العلوي الهودي، وكان يختصه وهو يدلّ عليه فوقف في وسط المجمع، ونادى بفساد الصلح، وصرخ ومزق ثيابه، وحثى التراب على رأسه، وأفحش لرسول سلطان شاه. وأقبل على غياث الدين وقال كيف تعمد إلى ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك والسنجرية فتعطيه هذا الطريد إذ لا يقنع منا أخوه، وهو الملك بخوارزم ولا بغزنة والهند فأطرق غياث الدين ساكنا فنادي في عسكره بالحرب والتقدم إلى مرو الروذ، وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه وأخذ أكثر أصحابه أسرى، ودخل الى مرو في عشرين فارساً.ولحق الفل من عسكره، وبلغ الخبر إلى أخيه تكش فسار من خوارزم لاعتراضه وقدم العساكر إلى جيحون يمنعون إلى الخطا، وسمع أخوه سلطان شاه بذلك فرجع عن جيجون وقصد غياث الدين، ولما قدم عليه أمر بتلقيه وأنزله معه في بيته، وأنزل أصحابه عند نظرائهم من أهل دولته، وأقام إلى انصرام الشتاء. وكتب أخوه علاء الدين خوارزم الى غياث الدين في ردّه إليه ويعدّد فعلاته في بلاده، وكتب مع ذلك إلى نائب غياث الدين بهراة يتهدّده فامتعض غياث الدين لذلك، وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير له وشفيع في التجافي عن بلاده وانصافه من وراثة أبيه، ويطلب مع ذلك الخطبة له بخوارزم، والصهر مع أخيه شهاب الدين فامتعض خوارزم شاه، وكتب إليه يتهدّده ببعض بلاده فجهز غياث الدين إليه العساكر مع ابن خته أبو غازي إلى بهاء الدين سامي صاحب سجستان، وبعثهما مع سلطان شاه إلى خوارزم، وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده، وكانت إبنته تحت غياث الدين فجمع المؤيد عساكره وخيم بظاهر نيسابور. وكان خوارزم شاه عزم على لقاء أخيه والغورية، وسار عن خوارزم فلما سمع خبر المؤيد عاد إلى خوارزم، واحتمل أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا وترك خوارزم. وسار أعيانها إلى أخيه سلطان شاه والبوغازي ابن أخت غياث الدين فآتوا طاعتهم، وطلبوا الوالي عليهم. وتوفي سلطان شاه منسلخ رمضان سنة تسع، وعاد البوغازي إلى خاله غياث الدين ومعه أصحاب سلطان شاه فاستخدمهم غياث الدين وأقطعهم ، وبلغ وفاة سلطان شاه إلى أخيه خوارزم تكش فعاد إلى خوارزم، وعاد الشحنة إلى بلاد سرخس ومرو فجهز إليهم نائب الغورية بمرو عمر المرغني عسكرا ومنعهم منها حتى يستأذن غياث الدين. وأرسل خوارزم شاه إلى غياث في الصلح والصهر في وفد من فقهاء خراسان، والعلوية يعظمونه ويستجيرون به من خوارزم شاه أن يجيز إليهم الخطا، ويستحثهم ولا يحسم ذلك إلا صلحه أو سكناه بمرو فأجابهم إلى الصلح وعقدوه. ورد على خوارزم تكش بلاد أخيه، وطمع الغز فيها فعاثوا في نواحيها وجاء خوارزم شاه إليها، ودخل مرو وسرخس فسار إلى البورد وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد إبنه فجمع وسار إليها وعاد خوارزم شاه إلى بلده، وأفسد الماء في طريقه واتبعه المؤيد فلم يجد ماء. ثم كرّ عليه خوارزم شاه وقد جهد عسكره العطش فأوقع بهم، وجيء إليه بالمؤيد أسيراً فقتله وعاد إلى خوارزم وقام بنيسابور بعد المؤيد إبنه طغان شاه، ورجع إليه خوارزم شاه من قابل فحاصره بنيسابور، وبرز إليه فأسره وملك نيسابور. واحتمل طغان شان وعياله وقرابته فأنزلهم بخوارزم. قال ابن الأثير: هذه الرواية مخالفة للأولى، وإنما أوردتها ليتأمل الناظر ويستكشف أيهما أوضح فيعتمدها والله تعالى أعلم.
وفاة أيلد يكز وملك إبنه محمد البهلوان: قد تقدم لنا في أخبار الدولة السلجوقية ولاية أرسلان شاه بن طغرل في كفالة ايلدكز وإبنه محمد البهلوان من بعده، ثم أخيه أزبك أرسلان بن أيلدكز، وأنه إعتقل السلطان طغرل، ثم توفي فولى مكانه قطلغ ابن أخيه البهلوان، فخرج السلطان من محبسه وجمع لقتاله سنة ثمان وثمانين فهزمه ولحق قطلغ بالريّ، وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش فسار إليه، وندم قطلغ على استدعائه فتحصن منه ببعض قلاعه. وملك خوارزم شاه الريّ وقلعة طبرك، ورتب فيها الحامية، وعاد إلى خوارزم لما بلغه أن أخاه سلطان شاه خالفه إليها، ولما كان ببعض الطريق لقيه الخبر بأن أهل خوارزم منعوا سلطان شاه وعاد خائباً فتمادى إلى خوارزم وأقام إلى إنسلاخ فصل الشتاء. ثم سار إلى أخيه سلطان شاه بمرو سنة تسع وثمانين، وتردّدت الرسل بينهما في الصلح. ثم استأمن إليه نائب أخيه بقلعة سرخس فسار إليها وملكها، ومات أخوه سلطان شاه سنة تسع فسار خوارزم شاه إلى مرو وملكها وملك ابيورد ونسا وطوس وسائر مملكة أخيه، واستولى على خزائنه، وبعث على إبنه علاء الدين محمد فولاه مرو، وولى إبنه الكبير ملك شاه نيسابور وذلك آخر تسع وثمانين.ثم بلغه أنّ السلطان طغرل أغار على أصحابه بالريّ قطلغ أبنانج فبعث إليه بابنه يستنجده، ووصل إليه رسول الخليفة يشكو من طغرل، وأقطعه أعماله فسار من نيسابور الى الريّ وتلقاه قطلغ أبنانج بطاعته، وسار معه ولقيهم السلطان طغرل قبل استكمال تعبيته، وحمل عليهم بنفسه وأحيط به فقتل في ربيع سنة تسعين، وبعث خوارزم شاه برأسه إلى بغداد، وملك همذان وبلاد الجبل أجمع. وكان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد بعثه الخليفة الناصر مدداً لخوارزم شاه في أمره. فرحل إليه واستوحش ابن القصاب فامتنع ببعض الجبال هنالك، وعاد خوارزم شاه إلى همذان وسلمها وأعمالها إلى قطلغ أبنانج، وأقطع
كثيراً منها مماليكه. وقدم عليهم مناجي، وأنزل معه إبنه وعاد إلى خوارزم. ثم اختلف مناجي وقطلغ أبنانج واقتتلوا سنة إحدى وتسعين فانهزم قطلغ وكان الوزير ابن القصاب قد سار إلى خوزستان فملكها وكثيراً من بلاد فارس وقبض على بني شملة وأمرائها وبعث بهم إلى بغداد، وأقام هو يمهد البلاد فلحق به قطلغ أينانج هنالك مهزوماً سليباً. واستنجده على الريّ فأزاح علله، وسار معه إلى همذان فخرج مناجي وابن خوارزم شاه إلى الريّ وملك ابن القصاب همذان في سنة إحدى وتسعين وسار إلى الريّ فأجفل الخوارزميون أمامهم، وبعث الوزير العساكر في أثرهم حتى لحقوهم بالدامغان وبسطام وجرجان ورجعوا عنهم، واستولى الوزير على الريّ. ثم انتقض قطلغ ابنانج على الوزير، وامتنع بالريّ فحاصره الوزير وغلبه عليها، ولحق أبنانج بمدينة ساوة. ورحل الوزير في أتباعه حتى لحقه على درينكرخ فهزمه، ونجا أبنانج بنفسه.وسار الوزير إلى همذان فأقام بظاهرها ثلاثة أشهر وبعث إليه خوارزم شاه بالنكير على ما فعل، ويطلب إعادة البلاد فلم يجب إلى ذلك. وسار خوارزم إليه، وتوفي قبل وصوله فقاتل العساكر بعده في شعبان سنة اثنتين وتسعين فهزمهم وأثخن فيهم، وأخرج الوزير من قبره فقطع رأسه وبعث به إلى خوارزم لأنه كان قتل في المعركة، واستولى على همذان وبعث عسكره إلى أصبهان فملكها وأنزل بها إبنه وعاد إلى خوارزم. وجاءت عساكر الناصر أثر ذلك مع سيف الدين طغرل فقطع بلاد اللحف من العراق فاستدعاه أهل أصبهان فملكوا البلد، ولحق عسكر خوارزم شاه بصاحبهم. ثم اجتمع مماليك البهلوان وهم أصحاب قطلغ، وقدموا على أنفسهم كركجة من أعيانهم، وساروا إلى الريّ فملكوها ثم إلى أصبهان كذلك. وأرسل كركجة إلى الديوان ببغداد يطلب أن يكون الريّ له مع جوار الريّ وساوة وقم وقاشان وما ينضاف إليها، وتكون أصبهان وهمذان وزنجان ومرو من الديوان فكتب له بذلك والله أعلم.
وفاة ملك شاه بن خوارزم شاه تكش: قد تقدم لنا أنّ خوارزم شاه تكش ولى إبنه ملك شاه على نيسابور سنة تسع وثمانين وأضاف إليه خراسان، وجعله ولي عهده في الملك فأقام بها إلى سنة ثلاث وتسعين. ثم هلك في ربيع منها، وخلف إبناً إسمه هندوخان، وولى خوارزم شاه على نيسابورإبنه الآخرفطلب الذين الذي كان ولاه بمرو.
الخَطَا إنهزام الخطا من الغورية كان خوارزم شاه تكش لما ملك الريّ وهمذان وأصبهان، وهزم ابن القصاب وعساكر الخليفة بعث إلى الناصر يطلب الخطبة ببغداد فامتعض الناصر لذلك، وأرسل إلى غياث الدين ملك غزنة والغور فقصد بلاد خوارزم شاه فكتب إليه غياب الدين يتهدّده بذلك، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم على غياث الدين ويحذرهم أن يملك البلاد كما ملك بلخ فسار الخطا في عساكرهم، ووصلوا بلاد الغور وراسلوا بهاء الدين سام ملك باميان وهو ببلخ يأمرونه بالخروج عنها، وعاثوا في البلاد وخوارزم شاه قد قصد هراة وانتهى إلى طوس، واجتمع أمراء الغورية بخراسان مثل محمد بن بك مقطع الطالقان والحسين بن مرميل وحروس، وجمعوا عساكرهم وكبسوا الخطا وهزموهم وألحقوهم بجيمون فتقسموا بين القتل والغرق. وبعث ملك الخطا إلى خوارزم شاه يتجنى عليه في ذلك ويطلب الدية على القتلى من قومه، ويجعله السبب في قتلهم فراجع غياث الدين واستعطفه ووافقه على طاعة الخليفة، وأعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام. وأجاب ملك الخطا بأن قومه إنما جاؤالإنتزاع بلخ من يد الغورية، ولم يأتوا لنصرتي وأنا قد دخلت في طاعة غياث الدين فجهز ملك الخطا عساكره إليه، وحاصروه فامتنع فرجعوا عنه بعد أن فني أكثرهم بالقتل. وسار في أثرهم وحاصر بخارى وأخذ بمخنقها حتى ملكها سنة أربع وتسعين فأقام بها مدّة وعاد إلى خوارزم، والله تعالى ولي التوفيق. ملك خوارزم شاه تكين الريّ وبلاد الجبل: ثم سار خوارزم شاه تكين لإرتجاع الريّ وبلاد الجبل من يد مناجق والبهلوانية الذين انتقضوا عليه فهرب مناجق عن البلاد وتركها، وملكها خوارزم شاه واستدعاه فامتنع من الحضور، واتبعه فاستأمن أكثر أصحابه ووجعوا عنه، ولحق هو بقلعة من أعمال مازندران فامتنع بها فبعث خوارزم شاه إلى الخليفة الناصر فبعث بالخلع له ولولده قطب الدين، وكتب له تقليداً
بالأعمال التي بيده. ثم سار خوارزم شاه لقتال الملحدة فافتتح قلعة لهم قريبة من قزوين، وانتقل إلى حصار قلعة الموت من قلاعهم فقتل عليها رئيس الشافعية بالريّ صدر الدين محمد بن الوزان وكان مقدماً عنده ولازمه، ثم عاد إلى خوارزم فوثب الملحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه، فجهز إبنه قطب الدين لقتالهم فسار إلى قلعة مرنسيس من قلاعهم فحاصرها حتى سألوه في الصلح على مائة ألف دينار يعطونها فامتنع أوّلا. ثم بلغه مرض أبيه فأجابهم وأخذ منهم المال المذكور وعاد والله أعلم.
وفاة خوارزم شاه: ثم توفي خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان بن أتسز بن محمد انوشتكين صاحب خوارزم بعد أن استولى على الكثير من خراسان وعلى الريّ وهمذان وغيرها من بلاد الجبل، وكان قد سار من خوارزم إلى نيسابور فمات في طريقه إليها في رمضان سنة ست وتسعين وخمسمائة. وكان عندما اشتدّ مرضه بعث لأبنه قطب الدين محمد يخبره بحاله ويستدعيه فوصل بعد موته فبايع له أصحابه بالملك، ولقبوه علاء الدين لقب أبيه، وحمل شلو أبيه إلى خوارزم فدفنه بالمدرسة التي بناها هنالك. وكان تكش عادلاً عارفاً بالأصول والفقه على مذهب أبي حنيفة. ولما توفي إبنه علاء الدين محمد كان ولده الآخر علي شاه بأصبهان فاستدعاه أخوه محمد فسار إليه، ونهب أهل أصبهان فخلعه، وولاه أخوه على خراسان فقصد نيسابور، وبها هندوخان ابن أخيهما ملك شاه منذ ولاه جدّه تكش عليها بعد أبيه ملك شاه. وكان هندوخان يخاف عمه محمدا لعداوة بينه وبين أبيه ملك شاه، ولما مات جدّه تكش نهب الكثير من خزائنه ولحق بمرو، وبلغ وفاة تكش إلى غياث الدين ملك غزنة فجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة إعظاماً لقدره. ثم جمع هندوخان جموعا وسار إلى خراسان فبعث علاء الدين محمد بن تكش العساكر لدفاعه مع جنقر التركي فخام هندوخان عن لقائه، ولحق بغياث الدين مستنجداً فأكرمه ووعده النصر. ودخل جنقر مدينة مرو، وبعث بام هندوخان وولده إلى خوارزم مكرمين فأرسل غياث الدين صاحب غزنة إلى محمد بن خربك نائبه بالطالقان أن ينبذ إلى جنقر العهد ففعل. وسار من الطالقان إلى مرو الروذ فملكها، وبعث إلى جنقر يأمره بالخطبة في مرو لغياث الدين أو يفارقها فبعث إليه جنقر يتهددّه ظاهراً ويسأله سراً أن يستأمن له غياث الدين فقوي طمعه في البلاد بذلك، وأمر أخاه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان والله أعلم.
ملوك الغوريَّة استيلاء ملوك الغورية أعمال خوارزم شاه محمد تكش بخراسان وارتجاعه إياها منهم ثم حصاره هراة من أعمالهم ولما استأمن جنقر نائب مرو إلى غياث الدين طمع في أعمال خوارزم شاه بخراسان كما قلناه، واستدعاه أخوه شهاب الدين للمسير إليها فسار إلى غزنة. واستشار غياث الدين نائبه بهراة عمر بن محمد المرغني في المسير إلى خراسان فنهاه عن ذلك، ووصل أخوه شهاب الدين في عساكر غزنة والغور وسجستان، وساروا منتصف سبع وتسعين. ووصل كتاب جنقر نائب مرو إلى شهاب الدين وهو بقرب الطالقان يحثه للوصول، وأذن له غياث الدين فسار إلى مرو وقاتل العساكر الذين بها من الخوارزمية فغلبهم وأحجرهم بالبلد. وسار بالفيلة إلى السور فاستأمن أهل البلد وأطاعوا وخرج جنقرإلى شهاب الدين. ثم جاء غياث الدين بعد الفتح إلى هراة مكرما، وسلم مرو إلى هندوخان بن ملك شاه كما وعده. ثم سار إلى سرخس فملكها صلحا وولىّ عليها زنكي بن مسعود من بني عمه، وأقطعه معها نسا وأبيورد.ثم سار إلى طوس وحاصرها ثلاثا، واستأمن إليه أهلها فملكها وبعث إلى علي شاه علاء الدين محمد بن تكش بنيسابور في الطاعة فامتنع فسار إليه وقاتل نيسابور من جانب وأخوه شهاب الدين من الجانب الاخر إليه سقوطه ودخلوا نيسابور وملكوها ونادوا بالأمان. وجيء بعلي شاه من خوارزم إلى غياث الدين فأمنه وأكرمه، وبعثه بالأمراء الخوارزمية إلى هراة، وولى على خراسان ابن عمه وصهره على ابنته ضياء الدين محمد بن علي الغوري ولقبه علاء الدين، وأنزله نيسابور في جمع من وجوه الغورية، وأحسن إلى أهل نيسابور وسلم علي شاه إلى أخيه شهاب الدين، ورحل إلى هراة.ثم سار شهاب الدين إلى قهستان وقيل له عن قرية من قراها انهم إسماعيلية فأمر بقتلهم، وسبى ذراريهم ونهب أموالهم وخرب القرية. ثم سار إلى حصن من
أعمال قهستان وهم اسماعيلية فملكه بالأمان بعد الحصار، وولىّ عليه بعض الغورية فأقام بها الصواب وشعار الإسلام. وبعث صاحب قهستان إلى غياث الدين يشكو من أخيه شهاب الله ين ويقول: إنّ هذا نقض العهد الذي بيني وبينكم. فما راعه إلا نزول أخيه شهاب الدين على حصن آخر للاسماعيلية من أعمال دهستان فحاصره، فبعث بعض ثقاته إلى شهاب الدين يأمره بالرحيل فامتنع فقطع أطناب سرادقه ورحل مراغما، وقصد الهند مغاضباً لأخيه.ولما اتصل بعلاء الدين محمد بن تكش مسيرهما عن خراسان كتب إلى غياث الدين يعاتبه عن أخذه بلاده ويطلب إعادتها، ويتوعده باستنجاد الخطا عليه فماطله بالجواب إلى خروج أخيه شهاب الدين من الهند لعجزه عن الحركة لاستيلاء مرض النقرس عليه، فكتب خوارزم شاه إلى علاء الدين الغوري نائب غياث الدين بنيسابور يأمره بالخروج عنها فكتب بذلك إلى غياث الدين فأجابه يعده بالنصر. وسار إليه خوارزم شاه محمد بن تكش آخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة. فلما قرب أبيورد هرب هندوخان من موالي غياث الدين، وملك محمد بن تكش مدينة مرو ونسا وأبيورد، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين الغوري فحاصرها وأطال حصارها حتى استأمنوا إليه واستحلفوه،
وخرجوا إليه فأحسن إليهم وسأل من علاء الدين الغوريّ السعي في الإصلاح بينه وبين غياث الدين فضمن ذلك، وسار إلى هراة وبها أقطاعه، وغضب على غياث الدين لقعوده عن إنجاده فلم يسر إليه وبالغ محمد بن تكش في الإحسان إلى الحسن بن حرميل من أمراء الغورية . ثم سار إلى سرخس وبها الأمير زنكي من قرابة غياث الدين فحاصرها أربعين يوماً وضيق مخنقها بالحرب وقطع الميرة. ثم سأله زنكي الافراج ليخرج عن الأمان فأفرج عنه قليلا. ثم ملأ البلد من الميرة بما احتاج إليه، وأخرج العاجزين عن الحصار وعاد إلى شأنه فندم محمد بن تكش ورحل عنها، وجهز عسكراً لحصارها. وجاء نائب الطالقان مدداً لمحمد بن خربك داحس بعد أن أرسل إليه بأنه ، عساكر الخوارزمية المجمرة عليه، وأشاع ذلك فأفرجوا عنه. وجاء إليه زنكي من الطالقان فخرج معه ابن خربك إلى مرو الروذ، وجي خراجها وما يجاورها. وبعث إليه محمد بن تكش عسكراً نحوا من ثلاثة آلاف مع خاله فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فارس فهزمهم، وأثخن فيهم قتلا وأسراً، وغنم سوادهم، وعاد خوارزم شاه محمد بن تكش إلى خوارزم.وأرسل إلى غياث الدين في الصلح فأجابه مع الحسن بن، محمد المرغني من كبراء
الغورية، وغالطه في القول. ولما وصل الحسن المرغني إلى خوارزم شاه وأطلع على أمره قبض على الحسن، وسار إلى هراة فحاصرها. وكتب الحسن إلى أخيه عمر بن محمد المرغني أمير هراة بالخبر فاستعدّ للحصار. وقد كان لحق بغياث الدين أخوان من حاشية سلطان شاه عمّ محمد بن تكش المتوفى في سرخس فأكرمهما غياث الدين وأنزلهما بهراة فكاتبا محمد بن تكش وداخلاه في تمليكه هراة فسار لذلك، وحاصر البلد وأميرها عمر المرغني، مرّ إلى الأخوين وعندهما مفاتيح البلد. وأطلع أخوه الحسن في محبسه على شأن الأخوين في مداخلة محمد بن تكش فبعث إلى أخيه عمر بذلك فلم يسعفه، فبعث إليه بخط أحدهما فقبض عليهما وعلى أصحابهما واعتقلهم.وبعث محمد بن تكش عسكراً إلى الطالقان للغارة عليها فظفر بهم ابن خربك، ولم يفلت منهم أحد. ثم بعث غياث الدين ابن أخته البوغاني في عسكر من الغورية فنزلوا قريباً من عسكر خوارزم شاه محمد بن تكش وقطع عنهم الميرة. ثم جاء غياث الدين في عسكر قليل لأنّ أكثرها مع أخيه شهاب الدين بالهند وغزنة فنزل قريبا من هراة ولم يقدم على خوارزم فلما بلغ الحصار أربعين يوما، وانهزم أصحاب خوارزم شاه بالطالقان، ونزل غياث الدين وابن أخته البوغاني قريباً منه، وبلغه وصول أخيه شهاب الدين من الهند إلى غزنة أجمع الرحيل عن هراة، وصالح عمر المرغني على مال حمله إليه، وارتحل إلى مرو منتصف ثمان وتسعين.وسار شهاب الدين من غزنة إلى بلخ، ثم إلى باميان معتزما على محاربة خوارزم شاه، والتقت طلائعهما فقتل بين الفريقين خلق. ثم ارتحل خوارزم شاه عن مرو فجفلا إلى خوارزم، وقتل الأمير سنجر صاحب نيسابور لاتهامه بالمخادعة. وسار شهاب الدين إلى طوس، وأقام بها إلى انسلاخ الشتاء معتزماً على السير لحصار خوارزم فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فرجع إلى هراة، واستخلف بمرو محمد بن خربك فسار إليه جماعة من أمراء خوارزم شاه سنة تسع وتسعين ابن خربك، ولم ينج منهم إلا القليل فبعث خوارزم شاه الجيوش مع منصور التركي لقتال ابن خربك، ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو، وقاتلهم فهزموه، ودخل مرو منهزما فحاصروه خمسة عشر يوماً.ثم استأمن إليهم وخرج فقتلوه. وأسف ذلك شهاب الدين، وترددّت الرسل بينه وبين خوارزم شاه في الصلح فلم يتم. وأراد العود إلى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخته البوغاني، وملك علاء الدين بن أبي علي الغوري مدينة مرو وزكورة وبلد الغور واعمال خراسان، وفوض إليه في مملكته، وعاد غزنة سنة تسع وتسعين وخمسمائة. ثم عاد خوارزم شاه إلى هراة منتصف سنة ستمائة، وبها البوغاني ابن أخت شهاب الدين الغوري، وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوون غازيا فحصر خوارزم شاه هراة الى منسلخ شعبان. وهلك في الحصار بين الفريقين خلق. وكان الحسن بن حرميل مقيماً بخوزستان وهي إقطاعه فارسل إلى خوارزم شاه يخادعه، ويطلب منه عسكرا يستلمون الفيلة وخزانة شهاب الدين فبعث إليه ألف فارس فاعترضهم هو والحسن بن محمد المرغني فلم ينج منهم إلا القليل، فندم خوارزم شاه على إنفاذ العسكر، وبعث إلى البوغاني أن يظهر بعض طاعته ويفرج عنه الحصار فأمتنع. ثم أدركه المرض فخشي أن يشغله المرض عن حماية البلد فيملكها عليه خوارزم شاه فرجع إلى إجابته، واستحلفه وأهدى، وخرج له ليلقاه ويعطيه بعض الخدمة فمات في طريقه. وارتحل خوارزم شاه عن البلد، وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها.
حصار شهاب الدين خوارزم شاه وانهزامه أمام الخطا: ولما بلغ شهاب الدين بغزنة ما فعل خوارزم شاه بهراة وموت نائبه بها البوغاني ابن أخته، وكان غازيا إلى الهند فانثنى عزمه، وسار إلى خوارزم وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس، وأقام بظاهر مرو، فلما بلغه خبر مسيره اجفل راجعا إلى خوارزم فسبق شهاب الدين إليها وأجرى الماء في السبخة حواليها، وجاء شهاب الدين فأقام أربعين يوما يطرق المسالك حتى أمكنه الوصول. ثم التقوا واقتتلوا، وقتل بين الفريقين خلق كان منهم الحسن المرغني من الغورية، وأسر جماعة من الخوارزمية فقتلهم شهاب الدين صبرا. وبعث خوارزم شاه إلى الخطا فيما وراء النهر يستنجدهم على شهاب الدين فجمعوا وساروا إلى بلاد الغور، وبلغ ذلك شهاب الدين فسار إليهم فلقيهم بالمفازة فهزموه وحصروه في أيدحوى حتى صالحهم، وخلص إلى الطالقان، وقد كثر الإرجاف بموته فتلقاه الحسن بن حرميل صاحب الطالقان وأزاح علله. ثم سار إلى غزنة واحتمل ابن حرميل معه خشية من شدّة جزعه أن يلحق بخوارزم شاه ويطيعه فولاه حجابته ، وسار معه ووجد الخلاف قد وقع بين أمرائه لما بلغهم من الإرجاف بموته حسبما مرّ في أخبار الغورية فأصلح من غزنة ومن الهند، وتأهب للرجوع لخوارزم شاه، وقد وقع في خبر هزيمته أمام الخط بالمفازة وجه آخر ذكرناه هنالك، وهو أنه فّرق عساكره في المفازة لقلة الماء فأوقع بهم الخطا منفردين. وجاء في الساقة فقاتلهم أربعة أيام مصابرا. وبعث إليه صاحب
سمرقند من عسكر الخطا وكان مسلما، وأشار عليه بالتهويل عليهم فبعث عسكرا من الليل، وجاؤا من الغد متسائلين وخوفهم صاحب سمرقند بوصول المدد لشهاب الدين فرجعوا إلى الصلح، وخلص هو من تلك الواقعة، وذلك سنة إحدى وستمائة، ومات شهاب الدين أثر ذلك.
استيلاء خوارزم شاه علي بلاد الغورية بخراسان: كان نائب الغورية بهراة من خراسان الحسن بن حرميل، ولما قتل شهاب الدين الغوري في رمضان سنة اثنتين وستمائة قام بأمرهم غياث الدين محمود ابن أخيه غياث الدين، واستولى على الغور من يد علاء الدين محمد بن أبي علي سرور كاه. ولما بلغ وفاة شهاب الدين إلى الحسن بن حرميل نائب هراة جمع أعيان البلد وقاضيهم واستحلفهم على الامتناع من خوارزم شاه ظاهراً، ودّس إلى خوارزم شاه بالطاعة، ويطلب عسكرا يمتنع به من الغورية وبعث إبنه رهينة في ذلك فأنفذ إليه عسكرا من نيسابور، وأمرهم بطاعة ابن حرميل، وغياث الدين خلال ذلك يكاتب ابن حرميل ويطلبه في الطاعة فيراوغه بالمواعدة. وبلغه خبره مع خوارزم شاه فاعتزم على النهوض إليه، واستشار ابن حرميل بهراة أعيان البلد يختبر ما عندهم فقال له علي بّن عبد الخالق مدرسّ أمية وناظر الأوقاف: الرأي صدق الطاعة لغياث الدين. فقال إنما أخشاه فسر إليه وتوثق لي منه ففعل. وسار إلى غياث الدين فأطلعه عن الجليّ من أمر ابن حرميل، ووعده الثورة به.وكتب غياث الدين إلى نائبه بمرو يستدعيه فتوقف، وحمله أهل مرو على المسيرفسار فخلع عليه غياث الدين وأقطعه. واستدعى غياث الدين أيضاً نائبه بالطالقان أميران قطر فتوقف فأقطع الطالقان سونج مملوك إبنه المعروف بأمير شكار، وبعث إلى ابن حرميل مع ابن زياد بالخلع، ووصل معه رسوله يستنجز خطبته له فمطله أياماً حتى وصل عساكر خوارزم شاه من نيسابور، ووصل في أثرهم خوارزم شاه، وانتهى إلى بلخ على أربعة فراسخ فندم ابن حرميل عندما عاين مصدوقة الطاعة. وعرف عسكر خوارزم شاه بأن صاحبهم قد صالح غياث الدين، وترك له البلاد فانصرفوا إلى صاحبهم، وبعث إليه معهم بالهدايا.ولما سمع غياث الدين بوصول عسكر خوارزم شاه إلى هراة أخذ إقطاع بن حرميل، وقبض على أصحابه واستصفى أمواله وما كان له من الذخيرة في حروبان. وتبين ابن حرميل في أهل هراة الميل إلى غياث الدين والانحراف عنه، وخشي من ثورتهم به فأظهر طاعة غياث الدين. وجمع أهل البلد على مكاتبته بذلك فكتبوا جميعا وأخرج الرسول بالكتاب ودسّ
إليه بأن يلحق عساكر خوارزم شاه فيردهم إليه، فوصل الرسول بهم لرابع يومه. ولقيهم ابن حرميل وأدخلهم البلد، وسمل ابن زياد الفقيه، وأخرج صاعدا القاضي وشيع الغورية فلحقوا بغياث الدين، وسلم البلد لعسكر خوارزم شاه. وبعث غياث الدين عسكره مع علي بن أبي علي، وسار معه أميران صاحب الطالقان، وكان منحرفا عن غياث الدين بسبب عزله فدسّ إلى ابن حرميل بأن يكبسه وواعده الهزيمة، وحلف له على ذلك فكبسه ابن حرميل فانهزم عسكر غياث الدين وأسر كثير من أمرائه.وشنّ ابن حرميل الغارة على بلاد باذغيس وغيرها من البلاد واعتزم غياث الدين على المسير بنفسه إلى هراة، ثم شغل عن ذلك بأمر غزنة ومسير صاحب باميان إلى الدوس فأقصر، واستظهر خوارزم شاه إلى بلخ، وقد كان عند مقتل شهاب الدين أطلق الغورية الذين كان أسرهم في المصاف على خوارزم، وخيرهم في المقام عنده أو اللحاق بقومهم، واستصفى من أكابرهم، محمد بن بشير وأقطعه فلما قصد الآن بلخ قدم إليها أخوه علي شاه في العساكر، وبرز إليه عمر بن الحسن أميرها فدافعه عنها، ونزل على أربعة فراسخ وأرسل إلى أخيه خوارزم شاه بذلك فسار إليه في ذي القعدة من السنة، ونزل على بلخ وحاصرها وهم ينتظرون المدد من صاحبهم باميان بن بهاء الدين، وقد شغلوا بغزنة فحاصرها خوارزم شاه أربعين يوما، ولم يظفر فبعث محمد بن بشير الغوري إلى عماد الدين عمر بن الحسن نائبها يستنزله فامتنع فاعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة.ثم بلغه أن أولاد بهاء الدين أمراء باميان ساروا إلى غزنة وأسرهم تاج الدين الزر فأعاد محمد بن بشير إلى عمر بن الحسين فأجاب إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له، وخرج إليه فأعاده إلى بلده وذلك في ربيع سنة ثلاث وستمائة. ثم سار خوارزم شاه إلى جوزجان وبها علي بن علي فنزل له عنها، وسلمها خوارزم شاه إلى ابن حرميل لأنها كانت من أقطاعه، وبعث إلى غياث الدين عمر بن الحسين من بلخ يستدعيه. ثم قبض عليه وبعث به إلى خوارزم شاه، وسار إلى بلخ فاستولى عليها واستخلف عليها جغري التركي وعاد إلى بلاده.
استيلاء خوارزم شاه على ترمذ وتسليمها للخطا : ولما أخذ خوارزم شاه بلخ سار عنها إلى ترمذ، وبها عماد الدين عمر بن الحسين الذي كان صاحب بلخ، وقدم إليه محمد بن علي بن بشير بالعذر عن شأن أبيه، وأنه إنما بعثه لخوارزم مكرما وهو أعظم خواصه ويعده بالاطلاع فاتهم على صاحبها أمره، واجتمع عليه خوارزم شاه
والخطا من جميع جوانبه، وأسر أصحابه ملوك باميان بغزنة فاستأمن إلى خوارزم شاه وملك منه البلد، ثم سلمها إلى الخطا وهم على كفرهم ليسالموه حتى يملك وينتزعها منهم فكان كما قدره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء خوارزم شاه على الطالقان: ولما ملك خوارزم شاه ترمذ سار إلى الطالقان وبها سونج، واستناب على الطالقان أمير شكار نائب غياث الدين محمود، وبعث إليه يستميله فامتنع وبرز للحرب حتى تراءى الجمعان فنزل عن فرسه ونبذ سلاحه، وجاء متطارحا في العفو عنه فأغرض عنه وملك الطالقان واستولى على ما فيها، وبعث إليه سونج واستناب على الطالقان بعض أصحابه، وسار إلى قلاع كالومين ومهوار، وبها حسام الدين علي بن علي فقاتله ودفعه على ناحيته. وسار إلى هراة وخيم بظاهرها. وجاء رسول غياث الدين بالهدايا والتحف، ثم جاء ابن حرميل في جمع من عساكر خوارزم شاه إلى اسفراين فملكها على الأمان في صفر من السنة، وبعث إلى صاحب سجستان وهو حرب بن محمد بن إبراهيم من عقب خلف الذي كان ملكها منذ عهد ابن سبكتكين في الطاعة لخوارزم والخطبة له فامتنع، وقصد خوارزم شاه وهو على هراة القاضي صاعد بن الفضل الذي أخرجه ابن حرميل، ولحق بغياث الدين فلما جاء إلى خوارزم شاه رماه ابن حرميل بالميل إلى الغورية فحبسه بقلعة زوزن، ووليّ القضاء بهراة الصفي أبا بكر بن محمد السرخسي، وكان ينوب عن صاعد وإبنه في القضاء. استيلاء خوارزم شاه علي مازندران وأعمالها: ثم توفي صاحب مازندران حسام الدين ازدشير، ووليّ مكانه إبنه الأكبر، وطرد أخاه الأوسط فقصد جرجان، وبها الملك علي شاه ينوب عن أخيه خوارزم شاه محمد بن نكش واستنجده فاستأذن أخاه وسار معه من جرجان سنة ثلاث وستمائة، ومات الأخ الذي وليّ على مازندران ووليّ مكانه أخوهما الأصغر، ووصل علي شاه، ومعه أخو صاحب مازندران فعاثوا في البلاد، وامتنع الملك بالقلاع مثل سارية، وآمد فملكوها من يده، وخطب فيها لخوارزم شاه، وعاد علي شاه إلى جرجان، وترك ابن صاحب مازندران الذي استجار به ملكاً في تلك البلاد وأخوه بقلعة كورة.
استيلاء خوارزم شاه على ما وراء النهر وقتاله مع الخطا وأسره وخلاصه: قد تقدّم لنا كيف تغلب الخطا على ما وراء النهر منذ هزموا سنجر بن ملك شاه، وكانوا أمّة بادية يسكنون الخيام التي يسمونها الخركاوات، وهم على دين المجوسية كما كانوا. وكانوا موطنين بنواحي أوزكندة وبلاد ساغون وكاشغر، وكان سلطان سمرقند وبخارى من ملوك الخانية الاقدمين عريقا في الإسلام والبيت والملك، ويلقب خان خاقان، بمعنى سلطان السلاطين. وكان الخطا وضعوا الجزية على بلاد المسلمين فيما وراء النهر، وكثر عيثهم وثقلت وطأتهم فأنف صاحب بخارى من تحكمهم، وبعث إلى خوارزم شاه يستصرخه لمحاربتهم على أن يحمل إليه ما يحملونه للخطا، وتكون له الخطبة والسكة. وبعث في ذلك وجوه بخارى وسمرقند فحلفوا له ووضعوا رهائنهم عنده فتجهز لذلك، وولّى أخاه علي شاه على طبرستان مع جرجان، وولىّ على نيسابور الأمير كزلك خان من أخواله وأعيان دولته، وندب معه عسكرا. وولىّ على قلعة زوزن أمين الدين أبا بكر، وكان أصله حمالا فارتفع وترقى في الرتب إلى ملك كرمان، وولى على مدينة الجام الأمير جلدك، وأقّر على هراة الحسن بن حرميل، وأنزل معه ألفا من المقاتلة، واستناب في مرو وسرخس وغيرهما. وصالح غياث الدين محمودا على ما بيده من بلاد الغور وكرمسين، وجمع عساكر وسار إلى خوارزم فتجهز منها، وعبر جيحون واجتمع بسلطان بخارى وسمرقند، وزحف إليه الخطا فتواقعوا معه مرّات، وبقيت الحرب بينهم سجالا.ثم انهزم المسلمون وأسر خوارزم شاه، ورجعت العساكر إلى خوارزم معلولة، وقد أرجف بموت السلطان. وكان كزلك خان نائب نيسابور محاصراً لهراة، ومعه صاحب زوزن فرجعا إلى بلادهما وأصلح كزلك خان سور نيسابور، واستكثر من الجند والأقوات وحدثته نفسه بالاستبداد، وبلغ خبر الإرجاف إلى أخيه علي شاه بطبرستان فدعا لنفسه، وقطع خطبة أخيه. وكان مع خوارزم شاه حين أسر أمير من أمرائه يعرف بابن مسعود فتحيل للسلطان بأن أظهر نفسه في صورته، واتفقا على دعائه بأسم السلطان، وأوهما صاحبهما الذي أسرهما أن ابن مسعود هو السلطان، وأنّ خوارزم شاه خديمه فاوجب ذلك الخطائي حقه، وعظمه لاعتقاده أنه السلطان. وطلب منه بعد أيام أن يبعث ذلك الخديم لأهله، وهو خوارزم شاه في الحقيقة ليعرف أهله بخبره، ويأتيه بالمال فيدفعه إليه فأذن له الخطائي في ذلك وأطلقه بكتابه، ولحق بخوارزم ودخل إليها في يوم مشهود. وعلم بما فعله أخوه علي شاه بطبرستان، وكذلك خان بنيسابور، وبلغهما خبر خلاصه
فهرب كزلك خان إلى العراق، ولحق علي شاه بغياث الدين محمود فأكرمه وأنزله. وسارخوارزم شاه إلى نيسابور فاصلح أمورها وولىّ عليها، وسار إلى هراة فنزل عليها وعسكره محاصر دونها، وذلك سنة أربع وستمائة والله أعلم.
مقتل ابن حرميل ثم استيلاء خوارزم شاه علي هراة: كان ابن حرميل قد تنكر لعسكر خوارزم شاه الذين كانوا عنده بهراة لسوء سيرتهم، فلما عبر خوارزم شاه جيحون، واشتغل بقتال الخطا قبض ابن حرميل على العسكر وحبسهم، وبعث إلى خوارزم شاه يعتذر ويشكو من فعلهم فكتب إليه يستحسن فعله، ويأمره بإنفاذ ذلك العسكر إليه ينتفع بهم في قتال الخطا، وكتب إلى جلدك بن طغرل صاحب الجام أن يسير إليه بهراة ثقة بفعله وحسن سريرته. وأعلم ابن حرميل بذلك، ودسّ إلى جلدك بالتحيل على ابن حرميل بكل وجه والقبض عليه فسار في ألفي مقاتل، وكان يهوى ولاية هراة لأنّ أباه طغرل كان واليا بها لسنجر، فلما قارب هراة أمر ابن حرميل الناس بالخروج لتلقيه، وخرج هو في أثرهم بعد أن أشار عليه وزيره خواجا الصاحب فلم يقبل. فلما التقى جلدك وابن حرميل ترجلا عن فرسيهما للسلام، وأحاط أصحاب جلدك بابن حرميل وقبضوا عليه، وانهزم أصحابه إلى المدينة فأغلق الوزير خواجا الأبواب، واستعدّ للحصار، وأظهر دعوة غياث الدين محمود. وجاء جلدك فناداه من السور وتهدّده بقتل ابن حرميل، وجاء بابن حرميل حتى أمره بتسليم البلد لجلدك فأبى وأساء الردّ عليه وعلى جلدك فقتل ابن حرميل، وكتب إلى خوارزم شاه بالخبر فبعث خوارزم شاه إلى كزلك خان نائب نيسابور وإلى أمين الدين أبي بكر نائب زوزن بالمسير إلى جلدك، وحصار هراة معه فسار لذلك في عشرة آلاف فارس. وحاصروها فامتنعت وكان خلال ذلك ما قدّمناه من انهزام خوارزم شاه أمام الخطا وأسرهم إياه. ثم تخلص ولحق بخوارزم، ثم جاء إلى نيسابور ولحق بالعساكر الذين يحاصرون هراة فأحسن إلى أمرائهم لصبرهم، وبعث إلى الوزير خواجا في تسليم البلد لأنه كان يعد عسكره بذلك حين وصوله فامتنع وأساء الردّ، فشدّ خوارزم في حصاره، وضجر أهل المدينة وجهدهم الحصار وتحدّثوا في الثورة فبعث جماعة من الجند للقبض عليه فثاروا بالبلد، وشعر جماعة العسكر من خارج بذلك فرجعوا إلى السور واقتحموه، وملك البلد عنوة وجيء بالوزير أسيراً إلى خوارزم شاه فأمر بقتله فقتل، وكان ذلك سنة خمس وستمائة، وولى على هراة خاله أمير ملك وعاد وقد استقرّ له أمر خراسان.
استيلاء خوارزم شاه على بيروز كوه وسائر بلاد خراسان:
لما ملك خوارزم شاه هراة وولىّ عليها خاله أمير ملك، وعاد إلى خوارزم بعث إلى
أمير ملك يأمره بيروزكوه، وكان بها غياث الدين محمود بن غياث الدين، وقد لحق به أخوه علي شاه، وأقام عنده فسار أمير ملك، وبعث إليه محمود بطاعته، ونزل إليه فقبض عليه أمير ملك وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه وقتلهما جميعاً سنة خمس وستمائة. وصارت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش، وانقرض أمر الغورية، وكانت دولتهم من أعظم الدول وأ حسنها، والله تعالى وليّ التوفيق.
هزيمة الخطا:
ولما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه واستنغر وعبر نهير جيحون وسار إليه الخطا وقد احتفلوا للقائه، وملكهم يومئذ طانيكوه ابن مائة سنة ونحوها، وكان مظفرا مجربا بصيرا بالحرب. واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند وبخارى وتراجعوا سنة ست وستمائة ووقعت بينهم حروب لم يعهد مثلها. ثم انهزم الخطا وأخذ فيهم القتل كل مأخذ وأسر ملكهم طانيكوه فأكرمه خوارزم شاه وأجلسه معه على سريره، وبعث به إلى خوارزم، وسار هو إلى ما وراء النهر، وملكها مدينة مدينة إلى أوركند، وأنزل نّوابه فيها وعاد إلى خوارزم ومعه صاحب سمرقند فأصهر إليه خوارزم شاه بأخته، وردّه إلى سمرقند، وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان أيام الخطا، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء.
انتقاض صاحب سمرقند:
ولما عاد صاحب سمرقند إلى بلده، أقام شحنة خوارزم شاه، وعسكره معه نحوا
من سنة. ثم استقبح سيرتهم وتنكر لهم، وأمر أهل البلاد فثاروا بهم وقتلوهم في كل مذهب، وهمّ بقتل
زوجته أخت خوارزم شاه فغلقت الأبواب دونه، واسترحمته فتركها وبعث إلى ملك الخطا بالطاعة. وبلغ الخبر إلى خوارزم شاه فامتعض، وهمّ بقتل من في بلده من أهل سمرقند. ثم انثنى عن ذلك وأمر عساكره بالتوجه إلى ما وراء النهر فخرجوا أرسالاً ، وهو في أثرهم، وعبر بهم النهر ونزل على سمرقند وحاصرها، ونصب عليها الآلات، وملكها عنوة واستباحها ثلاثاً وقتل فيها نحوا من مائتي ألف، واعتصم صاحبها بالقلعة. ثم حاصرها وملكها عنوة وقتل صاحبها صبرا في جماعة من أقرانه. ومحا آثار الخانية، وأنزل في سائر البلاد وراء النهر نوّابه، وعاد إلى خوارزم، والله تعالى وليّ النصر بمنه وفضله.
استلحام الخطا: قد تقدّم لنا وصول طائفة من أمم الترك إلى بلاد تركستان وكاشغر، وانتشارهم فيما وراء النهر، واستخدموا للملوك الخانية أصحاب تركستان. وكان أرسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الريف فيما بينه وبين الصين، ولهم على ذلك الإقطاعات والجرايات. وكان يعاقبهم على ما يقع منهم من الفساد والعيث في البلاد ويوقع بهم ففّروا من بلاده، وابتغوا عنه فسيحا من الأرض، ونزلوا بلاد ساغون. ثم خرج كوخان ملك الترك الأعظم من الصين سنة اثنتين وعشرين، وخمسمائة فسارت إليه أمم الخطا، ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بقراخان، وهو ابن أخت السلطان سنجر فهزموه، وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين، وعبر جيحون للقائهم في صفر سنة ست وثلاثين، ولقيه أمم الترك والخطا فهزموه وأثخنوا في المسلمين وأسرت زوجة السلطان سنجر. ثم أطلقها كوخان بعد ذلك، وملك الترك بلاد ما وراء النهر. ثم مات كوخان ملكهم سنة سبع وثلاثين، ووليت بعده ابنته وماتت قريبا، وملكت من بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد، ثم انقرض ملكهم. واستولى الخطا على ما وراء النهر إلى آن غلبهم عليه خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش كما قدّمنا. وكانت قد خرجت قبل ذلك خارجة عظيمة من الترك يعرفون بالتتر، ونزلوا في حدود الصين وراء تركستان، وكان ملكهم كشلي خان، ووقع بينه وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم، وزحف كشلي في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له، ويسألونه النصر من عدّوهم قبل أن يستحكم أمرهم وتضيق عنه قدرته وقدرتهم. وبعث إليه كشلي يغريه بهم، وأن يتركه وإئاهم، ويحلف له على مسالمة بلاده فسار
خوارزم شاه يوهم كل واحد من الفريقين أنه له، وأقام منتبذا عنهما حتى تواقعوا. وانهزم الخطا فمال التتر عليهم، واستلحموهم في كل وجه، ولم ينج منهم إلا القليل فتحصنوا بين جبال في نواحي تركستان، وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه كانوا معه. وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتدّ عليه بهزيمة الخطا، وإنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره، ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم، وسار لحربهم. ثم علم انه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم على اللقاء، كشلي خان يعذله في ذلك وهو يغالطه، واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وساغون. ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاش وفرغانة وإسحان وكاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه منها، ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد الإسلام، وخّرب جميعها خوفا أن يملكها التتر ثم اختلف التتر بعد ذلك، وخرج على كشلي طائفة أخرى منهم يعرفون بالمغل وملكهم جنكزخان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه فعبر النهر إلى خراسان وترك خوارزم شاه إلى أن كان أمره ما نذكره والله تعالى أعلم. استيلاء خوارزم شاه على كرمان ومكران والسند: وقد تقّدم لنا أنه كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش تاج الدين أبو بكروانه كان كريا للدواب. ثم ترقت به الأحوال إلى أن صار "سروان " لتكش، والسروان مقدّم الجهاد. ثم تقدّم عنده لجلده واماتته، وصار أميرا وولاه قلعة زوزن. ثم تقدّم عند علاء الدين محمد بن تكش، واختصه فأشار عليه بطلب بلاد كرمان لما كانت مجاور لوطنه فبعث معه عسكرا، وسار إلى كرمان سنة اثنتي عشرة، وصاحبها يومئذ محمد بن حرب أبي الفضل الذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر فغلبه على بلا ا وملكها. ثم سار إلى كرمان وملكها كلها إلى السند من نواحي كابل، وسار إلى هرمز كل مدن فارس بساحل البحر، واسم صاحبها مكيك فأطاعه وخطب لخوارزم شاه، وضمن ما يحمله، وخطب له بقلعات وبعض عمان من وراء النهر لأنهم كانوا يتقربون إلى صاحب هرمز بالطاعة، وتسير سفنهم بالتجار إلى هرمز لأنه المرسى العظيم الذي تسافر إلى التجار من الهند والصين. وكان بين صاحب هرمز وصاحب كيش مغاورات وفتن، واحد منهما ينهى مراكب بلاده أن ترسي ببلاد الآخر. وكان خوارزم شاه يطيف بنواحى سمرقند خشية أن يقصد التتر أصحاب كشلي خان بلاده.
استيلاء خوارزم شاه على غزنة وأعمالها: ولما استولى خوارزم شاه محمد بن تكش على بلاد خراسان، وملك باميان وغيرها، وبعث تاج الدين ألمرز صاحب غزنة، وقد تغلب عليها بعد ملوك الغورية. وقد تقدّم في أخبار دولتهم فبعث إليه في الخطبة له، وأشار عليه كبير دولته قطلغ تكين مولىّ شهاب الدين الغوري وسائر أصحابه بالإجابة إلى ذلك فخطب له ونقش السكة باسمه. وسار إلى قنصيرا، وترك قطلغ تكين بغزنة نائباً عنه فبعث قطلغ تكين لخوارزم شاه يستدعيه فأغذ له السير، وملك غزنة وقلعتها، وقتل الغورية الذين وجدوا بها خصوصا الأتراك. وبلغ الخبر ألمرز فهرب إلى أساون. ثم أحضر خوارزم شاه قطلغ ووبخه على قلة وفائه لصاحبه، وصادره على ثلاثين حملا من أصناف الأموال والأمتعة، وأربعمائة مملوك. ثم قتله وعاد إلى خوارزم وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقيل سنة اثنتي عشرة بعد أن استخلف عليها ابنه جلال الدين منكبرس والله أعلم بغيبه وأحكم. استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل: كان خوارزم شاه محمد بن تكش قد ملك الرها وهمذان وبلاد الجبل كلها أعوام تسعين وخمسمائة من يد قطلغ أبنايخ بقية أمراء السلجوقية، ونازعه فيها ابن القضاب وزير الخليفة الناصر فغلبه خوارزم شاه وقتله كما مرّ في أخباره. ثم شغل عنها تكش إلى أن توفي، وذلك سنة سبع وتسعين، وصار ملكه لابنه علاء الدين محمد بن تكش. ونغلب موالي البهلوإن على بلاد الجبل واحدا بعد واحد، ونصبوا أزبك بن مولاهم البهلوان. ثم انتقضوا عليه وخطبوا لخوارزم شاه، وكان آخر من وليّ منهم أغماش، وأقام بها مدة يخطب لعلاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه. ثم وثب عليه بعض الباطنية، وطمع أزبك بن محمد البهلوان بقية الدولة السلجوقية باذربيجان وارّان في الاستيلاء على أعمال أصبهان والريّ وهمذان وسائر بلاد الجبل. وطمع سعد بن زنكي صاحب فارس ويقال سعد بن دكلا في الاستيلاء عليها أيضا كذلك. وسار في العساكر فملك أزبك أصبهان بممالأة أهلها، وملك سعد الريّ وقزوين وسمنان. وطار الخبر إلى خوارزم شاه بأصبهان وسمرقند فسار في العساكر سنة أربع عشرة وستمائة في مائة ألف بعد أن جهز العساكر فبما وراء النهر وبثغور الترك، وانتهى الى قومس ففارق العساكر، وسار متجرّداً في اثني عشر ألفا. فلما ظفرت مقدمته بأهل الريّ، وسعد مخيم يظاهرها ركب
للقتال يظن أنه السلطان. ثم تبين الآلة والمركب، واستيقن أنه السلطان فولت عساكره منهزمة، وحصل في أسر السلطان.وبلغ الخبر إلى أزبك بأصبهان فسار إلى همذان. ثم عدل عن الطريق في خواصه، وركب الأوعار إلى أذربيجان، وبعث وزيره أبا القاسم بن علي بالاعتذار فبعث إليه في الطاعة قاجابه، وحمله الضريبة فاعتذر بقتال الكرج. وأمّاسعد صاحب فارس فبلغ الخبر بأسره إلى إبنه نصرة الدين أبي بكر فهاج بخلعان أبيه، وأطلق السلطان سعدا على أن يعطيه قلعة اضطخر، ويحمل إليه ثلث الخراج، وزوجه بعض قرابته. وبعث معه من رجال الدولة من يقبض اصطخر. فلما وصل إلى شيراز، ودخل على إبنه واستولى على ملكه، وخطب لخوارزم شاه. واستولى خوارزم شاه على شاور وقزوين وجرجان وأبهر وهمذان وأصبهان وقم وقاشان وسائر بلاد الجبل. واستولى عليها كلها من اصحابها، واختص الأمير طأيين بهمذان، وولىّ إبنه ركن الدولة ياورشاه عليهم جميعاً، وجعل معه جمال الدين محمد بن سابق الشاوي وزيراً.
طلب الخطبة وامتناع الخليفة منها: ثم بعد ذلك بعث خوارزم شاه مجمد بن تكش إلى بغداد يطلب الخطبة بها من الخليفة كما كانت لبني سفجوق، وذلك سنة أربع عشرة. وذلك لما رأي من استفحال أمره، واتساع ملكه فامتنع الخليفة من ذلك، وبعث في الاعتذار عنه الشيخ شهاب الدين السهروردي فأكبر السلطان مقدمه، وقام لتلقيه. وأوّل ما بدأ به الكلام على حديث الخطبة ببغداد، وجلس على ركبتيه لاستماعه. ثم تكلم وأطال وأجاد، وعرض بالموعظة في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم في بني العباس وكبيرهم والتعرض لإذايتهم فقال السلطان: حاشا لله من ذلك، وأنا ما آذيت أحدا منهم، وأمير المؤمنين كان أولى مني بموعظة الشيخ، فقد بلغني أنّ في محبسه جماعة من بني العباس مخلدين يتناسلون، فقال الشيخ: الخليفة إذا حبس أحدا للاصلاح لا يعترض عليه فيه فما بويع ألا للنظر في المصالح. ثم ودعه السلطان، ورجع إلى بغداد. وكان ذلك قبل أن يسير إلى العراق. فلما استولى على بلاد الجبل وفرغ من أمرها سار إلى بغداد، وانتهى إلى عقبة سراباد وأصابه هنالك ثلج عظيم أهلك الحيوانات، وعفن أيدي الرجال وأرجلهم حتى
قطعوها، ووصله هنالك شهاب الدين السهروردي، ووعظه فندم ورجع عن قصده فدخل إلى خوارزم سنة خمس عشرة، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
قسمة السلطان خوارزم شاه الملك بين ولده: ولما استكمل السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش ملكه بالاستيلاء على الريّ وبلاد الجبل، قسم أعمال ملكه بين ولده فجعل خوارزم وخراسان ومازندران لوليّ عهده قطب الدين أولاغ شاه، وإنما كان وليّ عهده دون إبنه الأكبر جلال الدين منكبرس لأن أمّ قطب الدين وأمّ السلطان، وهي تركمان خاتون من قبيلة واحدة، وهم: فياروت من شعوب يمك إحدى بطون الخطا فكانت تركمان خاتون متحكمة في إبنها السلطان محمد بن تكش وجعل غزنة وباميان والغور وبست ومكسا مادومان من الهند لابنه جلال الدين منكبرس. وكرمان وكيش ومكرمان لابنه غياث الدين يترشاه. وبلاد الجبل لابنه ركن الدين غورشاه كما قدمناه. وأذن لهم في ضرب النوب الخمس له، وهي دبادب صغار تقرع عقب الصلوات الخمس. واختص هو بنوبة سماها نوبة ذي القرنين سبع وعشرين دبدبة كانت مصنوعة من الذهب والفضة مرصعه بالجواهر. هكذا ذكر الوزير محمد بن أحمد النسوي المنشىء كاتب جلال الدين منكبرس في أخباره وأخبار أبيه علاء الدين محمد بن تكش، وعلى كتابه اعتمدت دون غيره لأنه أعرف بأخبارهما. وكانت كرمان ومكرمان وكيش لمؤيد الملك قوام الدين. وهلك متصرف السلطان من العراق فأقطعها لابنه غياث الدين كما قلناه. وكان الملك هذا سوقة فأصبح ملكاً. وأصل خبره أنّ أمّه كانت داية في دار نصرة الدين محمد بن أنز صاحب زوزن، ونشأ في يته واستخدمه وسفر عنه للسلطان فسعى به أنه من الباطنية. ثم رجع فخوفه من السلطان بذلك فانقطع نصرة الدين إلى الإسماعيلية، وتحصن ببعض قلاع زوزن، وكتب قوام الدين بذلك إلى السلطان فجعل إليه وزارة زوزن، وولاية جبايتها. ولم يزل يخادع صاحبه نصرة الدين إلى أن رجع فتمكن من السلطان وسمله. ثم طمع قوام الدين في ملك كرمان، وكان بها أمير من بقية الملك دينار، وأمدّه السلطان بعسكر من خراسان فملك كرمان وحسن موقع ذلك من السلطان فلقيه مؤيد الملك وجعلها في أقطاعه. ولما رجع السلطان من العراق وقد نفقت جماله بعث إليه بأربعة آلاف بختي ، وتوفي أثر ذلك فرد السلطان أعماله إلى ابنه غياث الدين كما قلناه، وحمل من تركته إلى السلطان سبعون حملا من الذهب خلا الأصناف.
أخبار تركمان خاتون أمّ السلطان محمد بن تكش: كانت تركمان خاتون أمّ السلطان محمد بن تكش من قبيلة بياروت من شعوب الترك يمك من الخطا، وهي بنت خان حبكش من ملوكهم، تزوّجها السلطان خوارزم شاه تكش فولدت له السلطان محمدا. فلما ملك لحق بها طوائف يمك ومن جاورهم من الترك، واستظهرت بهم وتحكمت في الدولة فلم يملك السلطان معها أمره. وكانت تولي في النواحي من جهتها كما يولي السلطان، وتحكم بين الناس وتنصف من الظلامات وتقدم على الفتك والقتل وتقيم معاهد الخير والصدقة في البلاد، وكان لها سبعة من الموقعين يكتبون عنها، وإذا عارض توقيعها لتوقيع السلطان عمل بالمتأخر منهما. وكان لقبها: خداوندجهان أي صاحبة العالم، وتوقيعها في الكتاب عصمة الدنيا والدين أولاغ تركمان ملك نساء العالمين. وعلامتها اعتصمت بالله وحده، تكتبها بقلم غليظ وتجود كتابتها أن تروّر عليها، واستوزرت للسلطان وزيره نظام الملك، وكان مستخدما لها فلما عزل السلطان وزيره أشارت عليه بوزارة نظام الملك هذا فوزر له على كره من السلطان، وتحكم في الدولة بتحكمها. ثم تنكر له السلطان لأمور بلغته عنه، وعزله فاستمر على وزارتها، وكان شانه في الدولة أكبر. وشكاه إليه بعض الولاة بنواحي خوارزم أنه صادرة فأمره بعض خواصه بقتله فمنعته تركمان من ذلك، وبقي على حاله وعجز السلطان عن إنفاذ أمره فيه، والله يؤيد بنصره من يشاء. التتر خروج التتر وغلبهم على ما وراء النهر وفرار السلطان أمامهم من خراسان ولما عاد السلطان من العراق سنة خمس عشرة كما قدمناه، واستقر بنيسابور وفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من المعدنين، ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الطائية التي تنسج من وبر الإبل البيض، ويخبر أنه ملك الصين وما يليها من بلاد الترك، ويسأل الموادعة والأذن للتجار من الجانبين في التردّد في متاجرهم وكان في خطابه اطراء السلطان بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك، واستدعى محمودا الخوارزمي من الرسل، واصطنعه ليكون عيناً له على جنكزخان، واستخبره على ما قاله في كتابه من ملكه الصين، واستيلائه على مدينة
طوغاج فصدق ذلك، وانكر عليه الخطاب بالولد. وسأله عن مقدار العساكر فغشه وقللها، وصرفهم السلطان بما طلبوه من الموادعة والاذن للتجار فوصل بعض التجار من بلادهم إلى إنزار، وبها نيال خان بن خان السلطان في عشرين ألفاً من العساكر فشره إلى أموالهم، وخاطب السلطان بأنهم عيون وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم فقتلهم خفية، وأخذ أموالهم. وفشا الخبر إلى جنكزخان فبعث بالنكير إلى السلطان في نقض العهد . وإن كان فعل نيال افتياتاً فبعث إليه يتهدّده على ذلك فقتل السلطان الرسل، وبلغ الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر. واعتزم السلطان أن يحضن سمرقند بالاسوار فجبى لذلك خراج سنتين، وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان. وسار إلى أحياء جنكزخان فكبسهم وهو غائب عنها في محاربة كشلي خان فغنم ورجع، وأتبعهم ابن جنكزخان فكانت بينهم واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين.ولجأ خوارزم شاه إلى جيحون فأقام عليه ينتظر شأن التتر. ثم عاجله جنكزخان فأجفل وتركها وفرق عساكره في مدن ما وراء النهر: إنزار وبخارى وسمرقند وترمذ وجند. وأنزل أبنايخ من كبراء أمرائه وحجاب دولته في بخارى. وجاء جنكزخان إلى إنزار فحاصرها وملكها غلابا، وأسر أميرها نيال خان الذي قتل التجار وأذاب الفضة في أذنيه وعينيه. ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان، وقاتلوا معه القلعة حتى ملكوها. ثم غدر بهم وقتلهم وسلبهم وخربها. ورحل جنكزخان إلى سمرقند ففعلوا فيها مثل ذلك سنة تسع عشرة وستمائة. ثم كتب كتبا على لسان الأمراء قرابة أمّ السلطان يستدعون جنكزخان، ويعدها بزيادة خراسان إلى خوارزم، وبعث من يستخلفه على ذلك. وبعث الكتب مع من يتعرّض بها السلطان فلما قرأها ارتاب بأمّه وبقرابتها.
إجفال السلطان خوارزم شاه إلى خراسان ثم إلى طبرستان ومهلكه: ولما بلغ السلطان استيلاء جنكزخان على إنزار وبخارى وسمرقند، وجاءه نائب بخارى ناجيا في الفلّ أجفل حينئذ وعبر جيحون. ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه، وعلاء الدين صاحب قيدر، وتخاذل الناس وسرّح جنكزخان العساكر في أثره نحواً من عشرين ألفا يسميهم التتر المغّربة لسيرهم نحو غرب خراسان فتوغلوا في البلاد، وانتهوا إلى بلاد بيجور واكتسحوا كل ما مرّوا عليه. ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يثبت بها، ودخل إلى ناحية العراق بعد أن أودع أمواله. قال المنشىء في كتابه حدّثني الأمير تاج الدين البسطامي قال: لما انتهى خوارزم شاه في مسيره إلى العراق استحضرني وبين يديه عشرة صناديق مملوءة لآلئ لا تعرف قيمتها، وقال في
اثنين منها فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بأسرها، وأمرني بحملها إلى قلعة أردهز من أحصن قلاع الأرض، وأخذت خط يد الموالي بوصولها ثم أخذها التتر بعد ذلك حين ملكوا العراق انتهى. ولما ارتحل خوارزم شاه من نيسابور قصد مازندران والتتر في أثره، ثم انتهى إلى أعمال همذان فكبسوه هناك، ونجا إلى بلاد الجبل، وقتل وزيره عماد الملك محمد بن نظام الملك وأقام هو بساحل البحر بقرية عند الفريضة يصلي ويقرأ ويعاهد الله على حسن السيرة. ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر وخاضوا في أثره فغلبهم الماء، ورجعوا ووصلوا إلى جزيرة في بحر طبرستان فأقام بها وطرقه المرض فكان جماعة من أهل مازندران يمرضونه ويحمل إليه كثيرا من حاجته فيوقع لحاملها بالولايات والإقطاع، وأمضى ابنه جلال الدين بعد ذلك جميعها. ثم هلك سنة سبع عشرة وستمائة ودفن بتلك الجزيرة لاحدى وعشرين سنة من ملكه بعد ان عهد لابنه جلال الدين منكبرس، وخلع ابنه الاصغر قطب الدين أولاغ شاه. ولما بلغ خبر إجفاله إلى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت هاربة بعد أن قتلت نحوا من عشرين من الملوك والأكابر المحبوسين هنالك، ولحقت بقلعة إيلان من قلاع مازندران فلما رجع التتر المغربة عن السلطان خوارزم شاه بعد أن خاض بحر طبرستان إلى الجزيرة التي مات بها فقصدوا مازندران، وملكوا قلاعها على ما فيها من الامتناع. ولقد كان فتحها بأخر إلى سنة تسعين أيام سليمان بن عبد الملك فملكوها واحدة واحدة، وحاصروا تركمان خاتون في قلعة إيلان إلى ان ملكوا القلعة صلحا وأسروها. وقال ابن الأثير انهم لقوها في طريقها إلى مازندران فأحاطوا بها وأسروها ومن كان معها من بنات السلطان، وتزّوجهنّ التتر، وتزّوج دوش خان بن جنكزخان بإحداهنّ، وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهنّ في خمول وذل. وكانت تحضر سماط جنكزخان كإحداهنّ، وتحمل قوتها منه. وكان نظام الملك وزير السلطان مع أمّه تركمان خاتون فحصل في قبضة جنكزخان، وكان عندهم معظما لما بلغهم من تنكر السلطان له. وكانوا يشاورونه في أمر الجباية فلما استولى دوش خان على خوارزم، وجاء بحرم السلطان الذين كانوا بها، وفيهنّ مغنيات فوهب إحداهنّ لبعض خدمه فمنعت نفسها منه، ولجأت للوزير نظام الملك فشكاه ذلك الخادم لجنكزخان ورماه بالجارية فأحضره جنكزخان وعدّد عليه خيانة استاذه وقتله.
مسير التتر بعد مهلك خوارزم شاه من العراق إلى أذربيجان وما وراءها من البلاد هنالك ولما وصل التتر إلى الريّ في طلب خوارزم شاه محمد بن تكش سنة سبع عشرة وستمائة ولم
يجدوه عادوا إلى همذان، واكتسحوا ما مرّوا عليه، وأخرج إليهم أهل همذان ما حضرهم من الأموال والثياب والدواب فأمّنوهم. ثم ساروا إلى زنجان ففعلوا كذلك، ثم إلى قزوين فامتنعوا منهم فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها ويقال أنّ القتلى بقزوين زادوا على أربعين ألفا. ثم هجم عليهم الشتاء فساروا إلى اذربيجان على شأنهم من القتل والاكتساح، وصاحبها يومئذ أزبك بن البهلوان، مقيم بتبريز عاكف على لذاته فراسلهم وصانعهم، وانصرفوا إلى بوقان ليشتوا بالسواحل. ومرّوا إلى بلاد الكرج فجمعوا لقتالهم فهزمهم التتر وأثخنوا فيهم فبعثوا إلى ازبك صاحب أذربيجان، وإلى الاشرف بن العادل بن أيوب صاحب خلاط والجزيرة يطلبون اتصال ايديهم على مدافعة التتر. وانضاف إلى التتر أقوش من موالي أزبك، وإليه جموع من التركمان والأكراد. وسار مع التتر إلى الكرج واكتسحوا بلادهم وانتهوا إلى بلقين. وسار إليهم الكرج فلقيهم أقوش أوّلا. ثم لقيهم التتر فانهزم الكرج، وقتل منهم ما لا يحصى وذلك في ذي القعدة من سنة سبع عشرة. ثم عاد التتر إلى مراغة ومرّوا بتبريز فصانعهم صاحبها كعادته، وانتهوا إلى مراغة ا فقاتلوها أياما وبها امرأة تملكها. ثم ملكوها في صفر سنة ثماني عشرة واستباحوها. ثم رحلوا عنها إلى مدينة إربل وبها مظفر الدين بن زين الدين فاستمد بدرالدين صاحب الموصل فأمدّه بالعساكر. ثم همّ بالخروج لحفظ الدروب على بلاده فجاءت كتب الخليفة الناصر إليهم جميعا بالمسير إلى دقوقا ليقيموا بها مع عساكره، ويدافع عن العراق. وبعث معهم بشتمر كبير امرائه، وجعل المقدّم على الجميع مظفر الدين صاحب اربل فخاموا عن لقاء التتر وخام التتر عن لقائهم وساروا إلى همذان، وكان لهم بها شحنة منذ ملكوها أوّلا فطالبوه بفرض المال على أهلها. وكان رئيس همذان شريفا علونا قديم الرياسة بها فحضهم على ذلك فضجروا وأساؤا الردّ عليه، وأخرجوا الشحنة وقاتلوا التتر، وغضب العلوي فتسلل عنهم إلى قلعة بقربها فامتنع، وزحف التتر إلى البلد فملكوه عنوة واستباحوه واستلحموا أهله. ثم عادوا إلى أذربيجان فملكوا أدربيل واستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز وقد فارقها ازبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأرّان، وقصد لقجوان وبعث بأهله وحرمه إلى حوى فرارا من التتر لعجزه وانهماكه فقام بأمر تبريز شمس الدين الطغرائي، وجمع أهل البلد واستعدّ للحصار فأرسل إليه التتر في المصانعة فصانعهم وساروا إلى مدينة سوا فاستباحوها وخّربوها، وساروا إلى بيلقان فحاصروها وبعثوا إلى أهل البلد رجلا من أكابرهم يقّرر معهم في المصانعة والصلح فقتلوه فأسرى التتر في حصارهم وملكوا البلد عنوة في رمضان سنة ثمان عشرة واستلحموا أهلها وأفحشوا في القتل والمثلة، حتى بقروا البطون على الأجنة واستباحوا جميع الضاحية قتلا ونهبا وتخريبا. ثم ساروا إلى قاعدة أرّان وهي كنجة ورأوا امتناعها فطلبوا المصانعة من أهلها فصانعوهم. ولما فرغوا من أعمال أذربيجان وارّان ساروا إلى بلاد الكرج وكانوا قد جمعوا لهم واستعدّوا ووقعوا في حدود بلادهم فقاتلهم التتر فهزموهم إلى بلقين قاعدة ملكهم فجمعوا هنالك ؛ ثم خاموا عن لقائهم لما رأوا من اقتحامهم المضائق والجبال فعادوا إلى بلقين واستولى التتر على نواحيها فخربوها كيف شاؤا ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة الأوعار والدوسرات فعادوا عنها، ثم قصدوا درنبر شروان، وحاصروا مدينة سماهي وفتكوا في أهلها ووصلوا إلى السور فعالوه بأشلاء القتلى حتى ساموه واقتحموا البلد فأهلكوا كل من فيه. ثم قصدوا الدرنبر فلم يطيقوا عبوره فأرسلوا إلى شروان في الصلح فبعث إليهم رجلا من أصحابه فقتلوا بعضهم، واتخذوا الباقين أذلاء فسلكوا بهم درنبر شروان وخرجوا إلى الأرض الفسيحة، وبها أمم القفجاق واللان واللكن وطوائف من الترك مسلمون وكفار فأوقعوا بتلك الطوائف واكتسحوا عامّة البسائط، وقاتلهم قفجاق واللان ودافعوهم.
ولم يطق التتر مغالبتهم، ورجعوا وبعثوا إلى القفجاق وهم واثقون بمسالمتهم فأوقعوا بهم، وجر من كان بعيداً منهم إلى بلاد الروس، واعتصم آخرون بالجبال والغياض. واستولى التتر على بلادهم وانتهوا إلى مدينتهم الكبرى سراي على بحر نيطش المتصل بشليج القسطنطينية وهي مادّتهم، وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال. وركب بعضهم إلى بلاد الروم في إيالة بني قلج أرسلان. ثم سار التتر سنة عشر وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروم المجاورة لها، وهي بلاد فسيحة، وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلادهم ؛ ومعهم جموع من القفجاق سافروا إليهم فاستطرد لهم التتر مراحل. ثم كّروا عليهم وهم غارون فطاردهم القفجاق والروم أياما. ثم انهزموا وأثخن التتر فيهم
قتلا وسبيا ونهبا. وركبوا السفن هاربين إلى بلاد المسلمين، وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر. ثم عادوا إليها وقصدوا بلغار أواخر السنة، واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم، وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلأ القليل، وارتحلوا عائدين إلى جنكزخان بأرض الطالقان ورجع القفجاق إلى بلادهم واستقّروا فيها. والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء. أخبار خراسان بعد مهلك خوارزم شاه: قد كنا قدّمنا مهلك خوارزم شاه، ومسير هؤلاء التتر المغربة في طلبه، ثم انتهائهم بعد مهلكه إلى النواحي التي ذكرناها. وكان جنكزخان بعد اجفال خوارزم شاه من جيحون، وهو بسمرقند قد بعث عسكرا إلى ترمذ، فساروا منها إلى كلات من أحصن القلاع إلى جانب جيحون فاستولوا عليها وأوسعوها نهباّ وسير عسكرا آخر إلى فرغانة، وكذلك عسكراً آخر إلى خوارزم، وعسكرا آخر إلى خوزستان فعبر عسكر خراسان إلى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع وستمائة، ولم يعرضوا لها بعيث، وأنزلوا شحنتهم بها. ثم ساروا إلى زوزن وميمنة وايدخوي وفارياب فملكوها وولوا عليها، ولم يعرضوا لأهلها بأذى وإنما استنفروهم لقتال البلد معهم ثم ساروا إلى الطالقان، وهي ولاية متسعة فقصدوا قلعة صور كوه من أمنع بلادها فحاصروها ستة أشهر، وامتنعت عليهم فسار إليهم جنكزخان بنفسه، وحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى إذا رأى امتناعها أمر بنقل الخشب والتراب، حتى اجتمع منه تلّ مشرف على البلد، واستيقن أهل البلد، الهلكة واجتمعوا وفتحوا الباب، وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرّقوا في الجبال والشعاب وقتل الرجالة، ودخل التتر البلد فاستباحوها. ثم بعث جنكزخان صهره قفجاق قوين إلى خراسان ومرواسا وقاتلوها فامتنعت عليهم، وقتل قفجاق قوين فأقاموا على حصارها وملكوها عنوة واستباحوها وخّربوها. ويقال قتل فيها أزيد من سبعين ألفا وجمع عدداً من الجثث كبيرا فكان كالتلال العظيمة وكان رؤساؤها بني حمزة بخوارزم منذ ملكها خوارزم شاه تكش، فعاد إليها اختيار الدين جنكي بن عمر بن حمزة وبوعمه وضبطوها. ثم بعث جنكزخان ابنه في العساكر إلى مدينة مرو، واستنفر أهل البلاد التي ملكوها من قبل مثل بلخ وأخواتها. وكان الناجون من هذه الوقائع كلها قد لحقوا بمرو، واجتمع بها ما يزيد على مائتي ألف، وعسكروا بظاهرها لا يشكون في الغلب. فلما قاتلهم التتر صابروهم فوجدوا في مصابرتهم ما لم يحتسبوه فولوا منهزمين. وأثخن التتر فيهم، ثم حاصروا البلد خمسة أيام، وبعثوا إلى أميرها يستميلونه للنزول عنها
فاستأمن إليهم وخرج فأكرموه أوّلا. ثم أمروا بإحضار جنده للعرض حتى استكملوا وقبضوا عليهم ثم استكتبوا رؤساء البلد وتجاره وصناعه على طبقاتهم. وخرج أهل البلد جميعا، وجلس لهم جنكزخان على كرسي من ذهب فقتل الجند في صعيد واحد، وقام العامة رجالا وأطفالاً ونساء بين الجند فاقتسموهم، وأخذوا اموالهم. وامتحنوهم في طلب المال ونبشوا القبور في طلبه. ثم أحرقوا البلد وتربة السلطان سنجر. ثم استلحم في اليوم الرابع أهل البلد جميعاً. يقال كانوا سبعمائة. ثم ساروا إلى نيسابور وحاصروها خمسا. ثم اقتحموها عنوة وفعلوا فيها فعلهم في مرو أو أشدّ. ثم بعثوا عسكراً إلى طوس وفعلوا فيها مثل ذلك وخربوها، وخربوا مشهد علي بن موسى الرضا. ثم ساروا إلى هراة وهي من أمنع البلاد فحاصروها عشرا وملكوها، وأمنوا من بقي من أهلها، وأنزلوا عندهم شحنة وساروا لقتال جلال الدين بن خوارزم شاه كما يذكر بعد فوثب أهل هراة على الشحنة وقتلوه. فلما رجع التتر منهزمين اقتحموا البلد واستباحوه وخربوه وأحرقوه ونهبوا نواحيه أجمع، وعادوا إلى جنكزخان بالطالقان وهو يرسل السرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا ؛ وكان ذلك كله سنة سبع عشرة، وبقيت خراسان خرابا. وتراجع أهلها بعض الشيء فكانوا فوضى، واستبدّ آخرون في بعض مدنها كما نذكر ذلك في أماكنه، والله أعلم.
أخبار السلطان جلال الدين منكبرس مع التتر بعد مهلك خوارزم شاه واستقراره بغزنة: ولما توفي السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش بجزيرة بحر طبرستان ركب ولده البحر إلى خوارزم يقدمهم كبيرهم جلال الدين منكبرس، وقد كان وثب بها بعد منصرف تركمان خاتون أمّ خوارزم شاه رجل من العيارين فضبطها وأساء السيرة، وانطلقت إليها أيدي العيارين. ووصل بعض نواب الديوان فأشاعوا موت السلطان ففّر العيارون. ثم جاء جلال الدين واخوته واجتمع الناس إليهم فكانوا معهم سبعة آلاف من العساكر، أكثرهم اليارونية قرابة أمّ خوارزم شاه فمالوا إلى أولاغ شاه، وكان ابن أختهم كما مرّ وشاوروا في الوثوب بجلال الدين وخلعه، ونمي الخبر إليه فسار إلى خراسان في ثلثمائة فارس، وسلك المفازة إلى بلد نسا فلقي هناك رصدا من التتر فهزمهم ولجأ فلهم إلى نسا، وكان بها الأمير اختيار زنكي بن محمد بن
عمر بن حمزة قد رجع إليها من خوارزم كما قدّمناه، وضبطها فاستلحم فل التتر وبلغ. وبعث إلى جلال الدين بالمدد فسار إلى نيسابور. ثم وصلت عساكر التتر إلى خوارزم بعد ثلاث من مسير جلال الدين فأجفل أولاغ واخوته وساروا في اتباعه ومرّوا بنسا فسار معه اختيار الدين صاحبها، واتبعتهم عساكر التتر فأدركوهم بنواحي خراسان وكبسوهم فقتل أولاغ شاه وأخوه انشاه، واستولى التتر على ما كان معهم من الاموال والذخائر، وافترقت في أيدي الجند والفلاحين فبيعت بأبخس الأثمان. ورجع اختيار الدين زنكي إلى نسا فاستبد بها، ولم يسم إلى مراسم الملك. وكتب له جلال الدين بولايتها فراجع أحوال الملك. ثم بلغ الخبر إلى جلال الدين بزحف التتر إلى نيسابور، وأنّ جنكزخان بالطالقان، فسار إلى نيسابور ومن نيسابور إلى بست، واتبعه نائب هراة أمير ملك خان ابن خا ل السلطان خوارزم شاه في عشرة آلاف فارس هاربا أمام التتر وقصد سجستان فامتنعت عليه فرجع، واستدعاه جلال الدين فسار إليه واجتمعوا فكبسوا التتر، وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحموهم، ولم يفلت منهم أحد فرجع جلال الدين إلى غزنة، وكانت قد استولى عليها اختيار الدين قربوشت صاحب الغور، عندما ساروا إليها وعندما قدم جلال الدين صريخا عن أمس ملك خان من سجستان فخالفه قربوشت إليها، وملكها فثار به صلاح الدين النسائي والي قلعتها، وقتله وملك غزنة، وكان بها رضا الملك شرف الدين بن أمير ملك خان، ففتك به رضا الملك واستبدّ بغزنة. فلما ظفر جلال الدين بالتتر على قندهار رجع إلى غزنة فقتله وأوطنها وذلك سنة ثمان عشرة.
استيلاء التتر علي مدينة خوارزم وتخريبها: قد كنا قدمنا أنّ جنكزخان بعدما أجفل خوارزم شاه من جيحون بعث عساكره إلى النواحي، وبعث إلى مدينة خوارزم عسكرا عظيما لعظمها لأنها كرسي الملك وموضع العساكر فسارت عساكر التتر إليها مع ابنه جنطاي وأركطاي فحاصروها خمسة أشهر، ونصبوا عليها الآلات فامتنعت فاستمدّوا عليها جنكزخان فأمدّهم بالعساكر متلاحقة فزحفوا إليها وملكوا جانبا منها. وما زالوا يملكونها ناحية ناحية إلى أن استوعبوها، ثم فتحوا السدّ الذي يمنع ماء جيحون عنها فسار إليها جيحون فغّرقها. وانقسم أهلها بين السيف والغرق، هكذا قال ابن الأثير. وقال النسائي الكاتب إنّ دوشن خان بن جنكزخان عرض عليهم الأمان فخرجوا إليه فقتلهم أجمعين، وذلك في محرم سنة سبع عشرة. ولما فرغ التتر من خراسان وخوارزم رجعوا إلى ملكهم جنكزخان بالطالقان
خبر آبنايخ نائب بخاري وتغلبه علي خراسان ثم فراره أمام التتر إلى الريّ:. كان آبنايخ أمير الأمراء والحجاب أيام خوارزم شاه وولاه ثانياً بخارى فلما ملكها التتر عليه كما قلناه أجفل إلى المفازة، وخرج منها إلى نواحي نسا، وراسله اختيار الدين صاحبها يعرضها عليه للدخول عنده فأبى فوصله وأمده. وكان رئيس بشخوان من قرى نسا أبو الفتح فداخل التتر فكتب إلى شحنة خوارزم بمكان آبنايخ، فجرد إليهم عسكراً فهزمه آبنايخ وأثخن فيهم، وساروا إلى بشخوان فحاصروها وملكوها عنوة، وهلك أبوالفتح أيام الحصار. ثم ارتحل آبنايخ إلى ابيورد، وقد تغلب تاج الدين عمر بن مسعود على أبيورد وما بينها وبين مرو فجبى خراجها واجتمع عليه جماعة من أكابر الأمراء، وعاد إلى نسا وقد توفي نائبها اختيار الدين زنكي، وملك بعده ابن عمه عمدة الدين حمزة بن محمد بن حمزة فطلب منه آبنايخ خراج سنة ثمان عشرة، وسار إلى شروان وقد تغلب عليها ايكجي بهلوان فهزمه وانتزعها من يده. ولحق بهلوان بجلال الدين في الهند، واستولى آبنايخ خان على عامّة خراسان وكان تكين بن بهلوان متغلبا بمرو فعبر جيحون وكبس شحنة التتر ببخارى فهزموه سنة سبع، ورجع إلى شروان وهم باتباعه ولحقوا بآبنايخ خان على جرجان فهزموه، ونجا إلى غياث الدين يترشاه بن خوارزم شاه بالريّ فأقام عنده إلى أن هلك كما نذكر إن شاء الله تعالى. خبر ركن الدين غورشاه صاحب العراق من ولد خوارزم شاه: قد كان تقدّم لنا أنّ السلطان لما قسم ممالكه بين أولاده جعل العراق في قسمة غورشاه منهم. ولما أجفل السلطان إلى ناحية الريّ لقيه ابنه غورشاه، ثم سار من الريّ إلى كرمان فملكها تسعة أشهر. ثم بلغه أن جلال الدين محمد بن آبه القزويني، وكان بهمذان أراد أن يملك العراق، واجتمع إليه بعض الأمراء، وأن مسعود بن صاعد قاضي أصبهان مائل إليه فعاجله ركن الدولة، واستولى على أصبهان. وهرب القاضي إلى الأتابك سعد بن زنكي صاحب فارس فأجاره. وبعث ركن الدين العساكر لقتال همذان فتخاذلوا ورجعوا دون قتال. ثم مضى إلى الريّ ووجد بها قوما من الإسماعيلية يحاولون إظهار دعوتهم. ثم زحف التتر إلى ركن الدولة فحاصروه بقلعة راوند، واقتحموها فقاتلوه واستأمن إليهم ابن آبه صاحب همذان فأمنوه، ودخلوا همذان فولوا عليها علاء الدين الشريف الحسيني عوضا من ابن آبه
. خبر غياث الدين ثيرشاه صاحب كرمان من ولد السلطان خوارزم شاه: قد كنا قدّمنا أنّ السلطان خوارزم شاه ولي ابنه غياث الدين ثيرشاه كرمان وكيش، ولم ينفذ إليها أيام أبيه. ولما كانت الكبسة على قزوين خلص إلى قلعة ماروت من نواحي أصبهان، وأقام عند صاحبها. ثم رجع إلى أصبهان ومر به التتر ذاهبين إلى أذربيجان فحاصروه وامتنع عليهم، وأقام بها إلى آخر سنة عشرين وستمائة فلما جاء أخوه ركن الدين غورشاه من كرمان إلى أصبهان لقيه هنالك. وحرّضه غياث الدين على كرمان فنهض إليها وملكها، فلما قتل ركن الدين كما قلناه سار غياث الدين إلى العراق وكان ركن لما ولاه أبوه العراق جعل معه الأمير بقاطابستي اتابكين فاستبدّ عليه فشكاه إلى أبيه، وأذن له في حبسه فحبسه ركن الدين بقلعة سرجهان. فلما قتل ركن الدين كما قلناه أطلقه نائب القلعة أسد الدين حولي فاجتمع عليه الناس وكثير من الأمراء واستماله غياث الدين وأصهر إليه بأخته، وماطله في الزفاف يستبرئ ذهاب الوحشة بينهما. وكانت أصبهان بعد مقتل ركن الدين غلب عليها أزبك خان، واجتمعت عليه العساكر وزحف إليه الأمير بقاطابستي فاستنجد ازبك غياث الدين فأنجده بعسكر مع الأمير دولة ملك، وعاجله بقاطابستي فهزمه بظاهر أصبهان وقتله وملكها. ورجع دولة ملك إلى غياث الدين فزحف غياث الدين إلى أصبهان، وأطاعه القاضي والرئيس صدر الدين، وبادر بقاطابستي إلى طاعته، ورضي عنه غياث الدين وزفّ إليه أخته. واستولى غياث الدين على العراق ومازندان وخراسان، وأقطع مازندان وأعمالها دولة ملك، وبقاطابستي همذان وأعمالها. ثم زحف غياث الدين إلى أذربيجان وشن الغارة على مراغة، وترددت رسل صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان في المهادنة فهادنه، وتزّوج بأخته صاحب بقحوان، وقويت شوكته وعظم فكان بقاطابستي في دولته وتحكم فيها. ثم حدثته نفسه بالاستبداد وانتفض وقصد اذربيجان، وبها مملوكان منتقضان على أزبك بن البهلوان فاجتمعا معه، وزحف إليهم غياث الدين فهزمهم ورجعوا مغلوبين إلى أذربيجان ويقال إن الخليفة دس بذلك إلى بقاطابستي وأغراه بالخلاف على غياث الدين. ثم لحق بغياث الدين آبنايخ خان نائب بخارى مفلتا من واقعته مع التتر بجرجان فأكرمه وقدّمه، ونافسه خال السلطان دولة ملك وأخوه وسعوا إليها فزجرهما عنه فذهبا مغاضبين. ووقع
دولة ملك في عساكر التتر بمرو وزنجان فقتل وهرب ابنه بركة خان إلىأزبك بأذربيجان ثم أوقع عساكر التتر بقاطابستي وهزموه ونجا إلى الكرم. وخلص الفل إلى غياث الدين وعاد التتر إلى ما وراء جيحون. ثم تذكر صاحب فارس سعد الدين بن زنكي، وكاتبته أهل أصبهان حين كانوا منهزمين فسار إليه وحاصره في قلعة اصطخر وملكها. ثم سار إلى شيراز وملكها عليه عنوة. ثم سار إلى قلعة حرة فحاصرها حتى استأمنوا، وتوفي عليها آبنايخ خان ودفن هنالك، بشعب سلمان، وبعث عسكراً إلى كازرون فملكها عنوة واستباحها. ثم سار إلى ناحية بغداد. وجمع الناس الجوع من إربل وبلاد الجزيرة. ثم راسل غياث الدين في الصلح فصالحه ورجع إلى العراق. أخبار السلطان جلال الدين منكبرس وهزيمته أمام التتر ثم عوده إلى الهند: قد كان تقدّم لنا أن أباه خوارزم شاه لما قسم البلاد بين ولديه جعل في قسمه غزنة وباميان والغور وبست وهكياباد وما يليها من الهند، واستناب عليها أمير ملك وأنزله غزنة فلما انهزم السلطان خوارزم شاه أمام التتر زحف إليه حربوشة والي الغور فملكها من يده وكان من أمره ما قدّمناه إلى أن استقّر بها رضا الملك شرف الدين. ولما أجفل السلطان جلال الدين من نيسابور إلى غزنة واستولى التتر على بلاد خراسان، وهرب أمراؤها فلحقوا بجلال الدين فقتل نائب هراة أمين الملك خال السلطان. وقد قدّمنا محاصرته بسجسآن، ثم مراجعته طاعة المسلطان جلال الدين، ولحق به أيضا سيف الدين بقراق البلخي وأعظم ملك من بلخ ومظهر ملك والحسن فزحف كل منهم في ثلاثين ألفا، ومع جلال الدين من عسكره مثلها فاجتمعوا وكبسوا التتر المملوكة محاصرين قلعة قندهار كما قلنا. واستلحموهم ولحق فلهم بجنكزخان فبعث ابنه طولي خان في العساكر فساروا إلى جلال الدين فلقيهم بشروان وهزمهم، وقتل طولي خان بن جنكزخان في المعركة، وذهب التتر منهزمين واختلف عسكر السلطان جلال الدين على الغنائم وتنازع سيف الدين بقراق مع أمين الملك نائب هراة وتحيز إلى العراق، وأعظم ملك وظفر ملك، وقاتلوا أمين الملك فقتل أخ لبقراق وانصرف مغاضبا إلى الهند وتبعه أصحابه ، ولاطفهم جلال الدين ووعظهم فلم يرجعوا. وبلغ خبر الهزيمة إلى جنكزخان فسار في أمم التتر، وسار
جلال الدين فلقي مقدّمة عساكره فلم يفلت من التتر إلا القليل. ورجع فنزل على نهر السند وبعث بالصريخ إلى الأمراء المنحرفين عنه، وعاجله جنكزخان قبل رجوعه فهزمه بعد القتال والمصابرة ثلاثا، وقتل أمين الملك قريب أبيه. واعترض المنهزمين نهر السند فغرق أكثرهم، وأسر ابن جلال الدين فقتل وهو ابن سبع سنين، ولما وقف جلال الدين على النهر والتتر في اتباعه فقتل أهله وحرمه جميعاً، واقتحم النهر بفرسه فخلص إلى عدوته،وتخلص من عسكره ثلاثمائة فارس وأربعة آلاف راجل وبعض أمرائه، ولقوه بعد ثلاث. وتخلص بعض خواصه بمركب مشحون بالأقوات والملابس فسد من حاجتهم، وتحصن أعظم ملك ببعض القلاع. وحاصره جنكزخان وملكها عنوة، وقتله ومن معه. ثم عاد التتر إلى غزنة فملكوها واستباحوها وأحرقوها وخربوها واكتسحوا سائر نواحيها، وكان ذلك كله سنة تسع عشرة. ولما سمع صاحب جبل جردي من بلاد الهند بجلال الدين جمع للقائه، وخام جلال الدين وأصحابه عن اللقاء لما نهكتهم الحرب فرجعوا أدراجهم، وأدركهم صاحب جلال الدين صوري فقاتلهم وهزموه وملكوا أمرهم، وبعث إليهم نائب ملك . الهند فلاطفهم وهاداهم والله تعالى وليّ التوفيق.
أخبال جلال الدين بالهند: كان جماعة من أصحاب جلال الدين، وأهل عسكره لما عبروا إليهم، حصلوا عند قباجة ملك الهند منهم بنت أمين الملك خلصت إلى مدينة أرجاء من عمله، ومنهم شمس الملك وزير جلال الدين حياة أبيه، ومنهم قزل خان بن أمين الملك خلص إلى مدينة كلور فقتله عاملها، وقتل قباجة شمس الملك الوزير لخبر جلال الدين بأموره وبعث أمين الملك. ولحق بجلال الدين جماعة من أمراء أخيه غياث الدين فقوي بهم، وحاصر مدينة كلور وافتتحها، وافتتح مدينة ترنوخ كذلك فجمع قباجة للقائه، وسار إليه جلال الدين فخام عن اللقاء وهرب، وترك معسكره فغنمه جلال الدين بما فيه، وسار إلى لهاوون وفيها ابن قباجة ممتنعا عليه فصالحه على مال يحمله، ورحل إلى تستشان وبها فخر الدين السلاوي نائب قباجة فتلقاه بالطاعة. ثم سار إلى أوجا وحاصرها فصالحوه على المال. ثم سار إلى جانس وهي لشمس الدين اليتمشي من ملوك الهند، ومن موالي شهلب الدين الغوري فأطاعه أهلها وأقام بها، وزحف إليه ايتش في ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل وثلاثمائة فيل. وزحف جلال الدين في عساكره، وفي مقدمته جرجان بهلوان أزبك، واختلفت المقدمتان فلم يمكن اللقاء. وبعث ايتش في الصلح
فجنح إليه جلال الدين، ثم اجتمع قباجة وايتش وسائر ملوك الهند فخام عن لقائهم، ورجع لطلب العراق، واستخلف جهان بهلوان الملك على ما ملك من الهند،، وعبر النهر إلى غزنة فولى عليها وعلى الغور الأمير وفاملك واسمه الحسن فزلف، وسار إلى العراق وذلك سنة احدى وعشرين بعد مقدّمه لها بسنتين.
أحوال العراق وخراسان في ايالة غياث الد ين: كان غياث الدين بعد مسير جلال الدين إلى الهند اجتمع إليه شراد العساكر بكرمان، وسار بهم إلى العراق فملك خراسان ومازندران كما تقدم، وأقام منهمكاً في لذاته. واستبد الأمراء بالنواحي فاستولى قائم الدين على نيسابور، وتغلب يقز بن ايلجي بهلوان على شروان، وتملك ينال خطا بهاتر، ونظام اسفراين، ونصرة الدين بن محمد مستبدّ بنسا كما مرّ واستولى تاج الدين عمر بن مسعود التركماني على أبيورد، وغياث الدين مع ذلك منهمك في لذاته. وسارت إليه عساكر التتر فخرج لهم عن العراق إلى بلاد الجبل، واكتسحوا سائر جهاته. واشتط عليه الجند وزادهم في الاقطاع والإحسان فلم يشبعهم، وأظهروا الفساد وعاثوا في الرعايا. وتحكمت أمّ السلطان غياث الدين في الدولة لإغفاله أمرها، واقتفت طريقة تركمان خاتون أم السلطان خوارزم شاه وتلقبت بلقبها خداوندجهان، إلى أن جاء السلطان جلال الدين فغلب عليه كما قلناه. وصول جلال الدين من الهند إلى كرمان واخباره بفارس والعراق مع أخيه غياث الدين: ولما فارق جلال الدين الهند كما قلناه سنة إحدى وعشرين، وسار إلى المفازة وخلص منها إلى كرمان بعد أن لقي بها من المتاعب والمشاق ما لا يعبر عنه، وخرج معه أربعة آلاف راكب على الحمير والبقر، ووجد بكرمان براق الحاجب نائب أخيه غياث الدين. وكان من خبر براق هذا أنه كان حاجبا لكوخان ملك الخطا وسفر عنه إلى خوارزم شاه فأقام عنده. ثم ظفر خوارزم شاه بالخطا وولاه حجابته. ثم صار إلى خدمة إبنه غياث الدين ترشه بمكران فأكرمه. ولما سار جلال الدين إلى الهند ورجع عنه التتر سار غياث الدين لطلب العراق فاستناب براق في
كرمان، فلما جاء جلال الدين من الهند اتهمه، وهمّ بالقبض عليه فنهاه عن ذلك وزيره شرف الملك فخر الدين علي بن أبي القاسم الجندي خواجا جهان أن يستوحش الناس لذلك.ثم سار جلال الدين إلى شيراز، وأطاعه صاحبها برد الأتابك وأهدى له، وكان أتابك فارس سعد بن زنكي قد استوحش من غياث الدين فاصطلحه جلال الدين وأصهر إليه في ابنته. ثم سار إلى أصبهان فأطاعه القاضي ركن الدين مسعود بن صاعد، وبلغ خبره إلى أخيه غياث الدين وهو بالريّ فجمع لحربه، وبعث جلال الدين يستعطفه.وأهدى له سلب طولي خان بن جنكزخان الذي قتل في حرب بزوان كما مرّ وفرسه وسيفه، ودلق إلى الأمراء الذين معه بالاستمالة فمالوا إليه ووعدوه بالمظاهرة ونمي الخبر إلى غياث الدين فقبض على بعضهم، ولحق الآخرون بجلال الدين فجاؤا به إلى المخيم فمال إليه أصحاب غياث الدين وعساكره، واستولى على مخيمه وذخائره وأمه. ولحق غياث الدين بقلعة سلوقان وعاتب جلال الدين أمه في فراره فاستدعته وأصلحت بينهما، ووقف غياث الدين موقف الخدمة لأخيه السلطان جلال الدين، وجاء المتغلبون بخراسان والعراق وأذعنوا إلى الطاعة، وكانوا من قبل مستبدين على غياث الدين فاختبر السلطان طاعتهم وعمل فيها على شاكلتها والله أعلم.
استيلاء ابن آبنايخ على نسا: كان نصرة الدين بن محمد قد استولى على نسا بعد ابن عمه اختيار الدين كما مرّ، واستناب في أموره محمد بن أحمد النسائي المنشىء، صاحب التاريخ المعتمد عليه في نقل أخبار خوارزم شاه وبنيه فأقام فيها تسع عشرة سنة مستبدا على غياث الدين ثم انتقض عليه وقطع الخطبة له، فسرّح إليه غياث الدين العساكر مع طوطي بن آبنايخ، وأنجده بأرسلان وكاتب المتغلبين بمساعدته فراجع نصرة الدين محمد بن حمزة نفسه، وبعث نائبه محمد بن أحمد المنشىء إلى غياث الدين بمال صالحه عليه فبلغه الخبر في طريقه بوصول جلال الدين واستيلائه على غياث الدين، فأقام بأصبهان ينتظر صلاح السابلة وزوال الثلج. ثم سار إلى همذان فوجد السلطان غائبا في غزو الأتابك بقطابستي. وكان من خبره أنه صهر إلى غياث الدين على أخته كما قدّمنا فهرب بعد خلعه إلى أذرببجان واتفق هو والأتابك سعد وسار إليهما جلال الدين فخالفه الأمير ايغان طائسي إلى همذان وسار إلى جلال الدين وكبسه هنالك فأخذه ثم أمنه، وعاد إلى مخيمه ولقيه وافد نصرة الدين على بلاد نسا وما يتاخمها، وبعث إلى ابن آبنايخ بالافراج عن نسا. ثم بلغ الخبر بعد يومين بهلاك نصرة الدين واستيلاء ابن آبنايخ على نسا.
مسير السلطان جلال الدين إلى خوزستان ونواحي بغد اد:
ولما استولى السلطان جلال الدين على أخيه غياث الدين واستقامت أموره، سار الى خوزستان شاتياً وحاصر قاعدتها، وبها مظفر الدين وجه السبع مولى الخليفة الناصر.وانتهت سراياه في الجهات إلى بادرايا وإلى البصرة فأوقع بهم تلكين نائب البصرة، وجاءت عساكر الناصر مع مولاه جلال الدين قشتمر وخاموا عن اللقاء وأوفد ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود السوي العارض على الخليفة ببغداد عاتبا، وكان في مقدّمته جهان بهلوان فلقي في طريقه جمعا من العرب وعساكر الخليفة فرجع، ووقع بهم ورجعوا إلى بغداد. وجيء بأسرى منهم إلى السلطان فأطلقهم، واستعد أهل بغداد للحصار وسار السلطان إلى يعقوبا على سبع فراسخ من بغداد. ثم إلى دقوقا فملكها عنوة وخربها، وقاتلت بعوثه عسكر تكريت، وترددّت الرسل بينه وبين مظفر الدين صاحب إربل حتى اصطلحوا، واضطربت البلد بسبب ذلك، وأفسد العرب السابلة. وأقام ضياء الملك ببغداد إلى أن ملك السلطان مراغة والله تعالى أعلم.
أولية الوزير شرف الد ين:
هذا الوزير هو فخر الدين علي بن القاسم خواجة جهان ويلقب شرف الملك أصله
من أصبهان، وكان أوّل أمره ينوب عن صاحب الديوان بها، وكان نجيب الدين الشهرستاني وزير السلطان وإبنه بهاء الملك وزير الجند وفخر الدين هذا يخدمه بها. ثم تمكن من منصب الإفتاء وطمح إلى مغالبة نجيب الدين على الوزارة، وسعى جند السلطان بأنه تناول من جبايتها مائتي ألف دينار فسامحه بها السلطان، ولم يعرض له. ثم سعى بفخر الدين ثانية فولي وزارة الجند وأقام بها أربع سنين حتى عبر السلطان إلى بخارى فكثرت به الشكايات فأمر بالقبض عليه فاختفى، ولحق بالطالقان إلى أن اتصل بجلال الدين حين كان بغزنة بعد مهلك إبنه فرتبه في الحجابة إلى أن أجاز بحر السند، وكان وزيره شهاب الدين الهروي فقتله قباجة ملك الهند كما مرّ، واستوزر جلال الدين مكانه فخر الدين هذا ولقبه شرف الملك، ورفع رتبته على الوزراء وموقفه وسائر آدابه وأحواله.
عودة التتر إلى الريّ وهمذان وبلاد الجبل: وبعد رجوع التتر المغربة من أذربيجان وبلاد قفجاق وسروان كما قدّمناه، وخراسان يومئذ فوضى ليس بها ولاة إلا متغلبون من بعض أهلها بعد الخراب الاوّل والنهب فعمروها، فبعث جنكز خان عسكرا آخراً من التتر إليها فنهبوها ثانيا وخربوها وفعلوا في ساوة وقاشان وقم مثل ذلك ولم يكن التتر أوّلا أصابوا منها. ثم ساروا إلى همذان فأجفل أهلها وأوسعوها نهبا وتخريباً، وساروا في اتباع أهلها إلى أذربيجان وكبسوهم في حدودها فأجفلوا، وبعضهم قصد تبريز فسار التتر في اتباعهم وراسلوا صاحبها أزبك ابن البهلوان في إسلام من عنده فبعث بهم بعد أن قتل جماعة منهم وبعث برؤوسهم وصانعهم بما أرضاهم فرجعوا عن بلاده والله تعالى أعلم. وقائع أذربيجان قبل مسير جلال الدين إليها: لما رجع التتر من بلاد قفجاق والروس، وكانت طائفة من قفجاق لما افترقوا وفروا أمام التتر ساروا إلى دربنر شروان، واسم ملكه يومئذ رشيد، وسألوه المقام في بلاده وأعطوه الرهن على الطاعة فلم يجبهم ريبة بهم فسألوه الميرة فأذن لهم فيها فكانوا يأتون إليها زرافات، وتنصح له بعضهم بأنهم يرومون الغدر به، وطلب منه الإنجاد بعسكره وسار في أثرهم فأوقع بهم وهم باخلون بالطاعة فرجع ذلك القفجاقي بالعسكر. ثم بلغه أنهم رحلوا من مواضعهم فاتبعهم ثانيا بالعساكر حتى أوقع بهم، ورجع إلى رشيد ومعه جماعة منهم مستأمنين، وقد اختفى فيهم كبير من مقدميهم وتلاحق به جماعة منهم فاعتزموا على الوثوب فهرب خائفا، ولحق ببلاد شروان واستولت طائفة القفجاق على القلعة وعلى مخلف رشيد فيها من المال والسلاح، واستدعوا أصحابهم فلحقوا بهم واعتزموا وقصدوا قلعة الكرج فحاصروها. وخالفهم رشيد إلى القلعة فملكها وقتل من وجد بها منهم فعادوا من حصار تلك المدينة إلى دربنر، وامتنعت عليهم القلعة فرجعوا إلى تلك المدينة فاكتسحوا نواحيها وساروا إلى كنجة، من بلاد أرّان وفيها مولى لأزبك صاحب أذربيان فراسلوه بطاعة أزبك فلم يجبهم إليها، وعدد عليهم ما بدر منهم في الغدر ونهب البلاد، واعتذروا بأنهم إنما غدروا شروان لأنه منعهم الجواز إلى صاحب أذربيجان. وعرضوا عليه الرهن فجاءهم بنفسه ولقوه في عدد قليل فعدا عن محال التهمة فبعث بطاعتهم إلى سلطانه، وبعث بذلك إلى ازبك، وجاء بهم إلى كنجة فأفاض فيهم الخلع والأموال وأصهر إليهم وأنزلهم بجبل كيكلون.وجمع لهم الكرج فآواهم إلى كنجة. ثم
سار إليهم أمير من أمراء قفجاق، ونال منهم فرجعوا إلى جبل كيكون. وسار القفجاق الذين كبسوهم إلى بلاد الكرج فاكتسحوها وعادوا فاتبعهم الكرج واستنقذوا الغنائم منهم، وقتلوا ونهبوا فرحل القفجاق إلى بردعة، وبعثوا إلى أمير كنجة في المدد على الكرج فلم يجبهم فطلبوا رهنهم فلم يعطهم فمدّوا أيديهم في المسلمين، واسترهنوا أضعاف رهنهم. وثار بهم المسلمون من كل جانب فلحقوا بشروان وتحفظهم المسلمون والكرج وغيرهم فأفنوهم، وبيع سبيهم وأسراهم بأبخس ثمن، وذلك كله سنة تسع عشرة، وكانت مدينة بيلقان من بلاد أرّان فأخربها التتر كما قدمناه، وساروا عنها إلى بلاد قفجاق فعاد إليها أهلها وعمروها، وسار الكرج في رمضان من هذه السنة إليها فملكوها وقتلوا أهلها وخربوها واستفحل الكرج.
ثم كانت بينهم وبين صاحب خلاط غازي بن العادل بن أيوب واقعة هزمهم فيها وأثخن فيهم كما يأتي في دولة بني أيوب. ثم انتقض على شروان شاه إبنه، وملك البلاد من يده فسار إلى الكرج واستصرخ بهم، وساروا معه فبرز إبنه إليهم فهزمهم وأثخن فيهم فتشاءم الكرج بشروان شاه فطردوه عن بلادهم. واستقر إبنه في الملك واغتبط الناس بولايته وذلك سنة اثنتين وعشرين. ثم سار الكرج من تفليس إلى أذربيجان وأتوها من الأوعار والمضائق يظنون صعوبتها على المسلمين فسار المسلمون وولجوا المضائق إليهم فركب بعضهم بعضاً منهزمين، ونال المسلمون منهم أعظم النيل. وبينما هم يتجهزون لأخذهم الثأر من المسلمين، وصلهم الخبر بوصول جلال الدين إلى مراغة فرجعوا إلى مراسلة أزبك صاحب أذربيجان في الاتفاق على مدافعته، وعاجلهم جلال الدين عن ذلك كما نذكره إن شاء الله تعالى. استيلاء جلال الدين على أذر بيجان وغزو الكرج: قد تقدم لنا مسير جلال الدين في نواحي بغداد وما ملك منها، وما وقع بينه وبين صاحب إربل من الموافقة والصلح. ولما فرغ من ذلك سار إلى اذربيجان سنة اثنتين وعشرين، وقصد مراغة أوّلا فملكها، وأقام بها وأخذ في عمارتها. وكان بغان طابش خال أخيه غياث الدين مقيما بأذربيجان كما مر فجمع عساكره، ونهب البلد وسار إلى ساحل أرّان فشتى هنالك. ولما عاث جلال الدين في نواحي بغداد كما قدمناه بعث الخليفة الناصر إلى بغان طابش، واغراه بجلال الدين، وأمره بقصد همذان وأقطعه إياها وما يفتحه من البلاد فعاجله جلال الدين وصبحه بنواحي همذان على غرة، وعاين الجند فسقط في يده، وأرسل زوجته أخت
السلطان جلال الدين فاستأمنت له فآمنه وجرد العساكر عنه. وعاد إلى مراغة. وكان أزبك بن البهلوان قد فارق تبريز كرسي ملكه إلى كنجة فأرسل جلال الدين إلى أهل تبريز يأمرهم بميرة عسكره فأجابوا إلى ذلك، وترددّت عساكره إليها فتجمع الناس، وشكا أهل تبريز إلى جلال الدين ذلك فأرسل إليهم شحنة يقيم عندهم للنصفة بين الناس.وكانت زوجة أزبك بنت السلطان طغرلبك بن أرسلان، وقد تقدم ذكرها في أخبار سلفها مقيمة بتبريز حاكمة في دولة زوجها أزبك. ثم ضجر أهل تبريز من الشحنة فسار جلال الدين إليها وحاصرها خمسا، واشتدّ القتال وعابهم بما كان من إسلام أصحابه إلى التتر فاعتذروا بأن الأمر في ذلك لغيرهم والذنب لهم. ثم استأمنوا فآمنهم، وأمر ببنت السلطان طغرل، وأبقى لها مدينة طغرل إلى خوي كما كانت، وجمع ما كان لها من المال والاقطاع، وملك تبريز منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين، وبعث بنت السلطان طغرل إلى خوي مع خادميه فليح وهلال. وولى على تبريز ربيبها نظام الدين ابن أخي شمس الدين الطغرائي، وكان هو الذي داخله في فتحها، وأفاض العدل في أهلها وأوصلهم إليها، وبالغ في الإحسان إليهم. ثم بلغه آثار الكرج في أذربيجان وأرّان وأرمينية ودربنر شروان وما فعلوه بالمسلمين فاعتزم على غزوهم. وبلغه اجتماعهم برون فسار إليهم وعلى مقدمته جهان بهلوان الكنجي ، فلما تراءى الجمعان وكان الكرج على جبل لم يستهلوه فتسمنت إليهم العساكر الأوعار فانهزموا وقتل منهم أربعة آلاف أو يزيدون، وأسر بعض ملوكهم، واعتصم ملك آخر منهم ببعض قلاعهم فجهز جلال الدين عليها عسكرا لحصارها وبعث عساكره في البلاد فعاثوا فيها واستباحوها.
فتح السلطان مدينة كنجة ونكاحه زوجة أزبك: لما فرغ السلطان من أمر الكرج واستولى على بلادهم، وكان قد ترك وزيره شرف الدين بتبريز للنظر في المصالح وولىّ عليها نظام الملك الطغرائي فقصد الوزير الوشاية به وكتب إلى السلطان بأنه وعمه شمس الدين داخلوا أهل البلد في الانتقاض وإعادة أزبك لشغل السلطان بالكرج فلما بلغ ذلك إلى السلطان أسرّه حتى فرغ من أمر الكرج. وترك أخاه غياث الدين نائبا على ما ملك منها، وأمره بتدويخ بلادهم وتخريبها، وعاد إلى تبريز فقبض على نظام الملك الطغرائي وأصحابه فقتلهم، وصادر شمس الدين على مائة ألف وحبسه بمراغة ففرّ منها إلى أزبك. ثم لحق ببغداد وحج سنة خمس وعشرين. وبلغ السلطان تنصله في المطاف ودعاؤه على نفسه إن كان فعل شيئا من ذلك فأعاده إلى تبريز ورد عليه أملاكه. ثم بعثت إليه زوجة أزبك في
الخطبة، وأنّ أازبك حنث فيها بالطلاق فحكم قاضي تبريز عز الدين القزويني بحلها للنكاح فتزوجها السلطان جلال الدين، وسار إليها فدخل في خوي، ومات أزبك لما لحقه من الغمّ بذلك.ثم عاد السلطان إلى تبريز فأقام بها مدة ثم بعث العساكر مع أرخان إلى كنجة من أعمال نقجوان وكان بها أزبك ففارقها، وترك بها جلال الدين القمي نائبا فملكها عليه أرخان واستولى على أعمالها مثل وشمكور وبردعة وشنة، وانطلقت أيدي عساكره في النهب فشكا أزبك إلى جلال الدين فكتب إلى أرخان بالمنع من ذلك، وكان مع أرخان نائب الوزير إلى السلطان فعزل أرخان، وذهب مغاضبا إلى أن قتلته الإسماعيلية. وفي آخرر مضان من سنة اثنتين وعشرين توفي الخليفة الناصر لسبع وأربعين سنة من خلافته واستخلف بعده ابنه الظاهر أبو نصر محمد بعهده إليه بذلك كما مرّ في أخبار الخلفاء.
استيلاء جلال الد ين على تفليس من الكرج بعد هزيمته إياهم: كان هؤلاء الكرج اخوة الأرمن، وقد تقدم نسبة الأرمن إلى إبراهيم عليه السلام، وكان لهم استطالة بعد الدولة السلجوقية، وكانوا من أهل دين النصرانية فكان صاحب أرمن الروم يخشاهم ويدين لهم بعض الشيء حتى إن ملك الكرج كان يخلع عليه فيلبس خلعته. وكان شروان صاحب الدربند يخشاهم، وكذلك ملكوا مدينة أرجيش بلاد ارمينية ومدينة فارس وغيرها، وحاصروا مدينة خلاط قاعدتها فأسر بها مقدّمهم أيواي، وفادوه بالرحيل عنهم بعد أن اشترطوا عليه متابعته لهم في قلعة خلاط فبنوها، وكذلك هزموا ركن الدولة فليحا أرسلان صاحب بلاد الروم لما زحف لأخيه طغرل شاه بارزن الروم، استنجدهم طغرل فأنجدوه وهزموا ركن الدين أعظم ما كان ملكا واستفحالا. وكانوا يجوسون خلال أذربيجان ويعيشون في نواحيها.وكان ثغر تفليس من أعظم الثغور طرزاً على من يجاوره منذ عهد الفرس، وملكه الكرج سنة خمسة عشرة وخمسمائة أيام محمود بن محمي بن ملك شاه، ودولة السلجوقية يومئذ أفحل ما كانت وأوسع إيالة وأعمالا فلم يطق ارتجاعه من أيديهم، واستولى ايلدكز بعد ذلك وابنه البهلوان على بلاد الجبل والريّ وأذربيجان وارّان وأرمينيةوخلاط وجاورهم بكرسيه. ومع ذلك لم يطق ارتجاعه منهم. فلما جاء السلطان جلال الدين إلى أذربيجان وملكها زحف إلى الكرج وهزمهم سنة اثنتين وعشرين. وعاد إلى تبريز في مهمة كما قدمناه. فلما فرغ من مهمة ذلك، وكان قد ترك العساكر ببلاد الكرج مع أخيه غياث الدين ووزيره شرف الدين فأغذ
السير إليه غازيا من تبريز. وقد جمع الكرج واحتشدوا وامدّهم القفجاق وللكز وساروا للقاء. فلما التقى الفريقان انهزم الكرج وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب ولم يبقوا على أحد حتى استلحموهم وأفنوهم. ثم قصد جلال الدين تفليس في ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين، ونزل قريبا منها، وركب يوما لاستكشاف أحوالها وترتيب مقاعد القتال عليها وأكمن الكمائن حولها. واطلع عليهم في خف من العسكر فطمعوا فيه وخرجوا فاستطرد لهم حتى تورطوا. والتفت عليهم الكمائن فهربوا إلى البلد والقوم في اتباعهم. ونادى المسلمون من. داخلها بشعار الإسلام، وهتفوا باسم جلال الدين فالقى الكرج بأيديهم وملك المسلمون البلد، وقتلوا كل من بها إلا من اعتصم بالإسلام، واستباحوا البلد وامتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى والسبايا. وكان ذلك من أعظم الفتوحات. هذه سياقة ابن الأثير في فتح تفليس. وقال النسائي الكاتب: أنّ السلطان جلال الدين سار نحو الكرج فلما وصل نهر أرس مرض واشتد الثلج، ومرّ بتفليس فبرز أهلها للقتال فهزمهم العساكر وأعجلوهم عن دخولها فملكوها واستباحوها، وقتلوا من كان فيها من الكرج والأرمن، واعتصم أهلها بالقلعة حق صالحوا على أموال عظيمة فحملوها وتركوهم. انتقاض صاحب كرمان ومسير السلطان إليه: ولما إشتغل السلطان جلال الدين بشأن الكرج وتفليس طمع براق الحاجب في الاننقاض بكرمان والاستيلاء على البلاد، وقد كنا قدمنا خبره، وأن غياث الدين استخلفه على كرمان عند مسيره إلى العراق، وان جلال الدين لما رجع من الهند ارتاب به وهم بالقبض عليه ثم تركه وأقره على كرمان. فلما انتقض الآن، وبلغ خبره إلى السلطان وهو معتزم على قصد خلاط فتركها، وأغذ السير إليه، واستصحب أخاه غياث الدين ووعده بكرمان وترك مخلفة بكيكلون، وترك وزيره شرف الدين بتفليس وأمره باكتساح بلاد الكرج. وقدّم إلى صاحب كرمان بالخلع والمقاربة والوعد فارتاب بذلك ولم يطمئن.وقصد بعض قلاعه فاعتصم بها، ورجع الرسول إلى جلال الدين فلما علم أن المكيدة لم تتم عليه أقام بأصبهان، وبعث إليه وأقره على ولايته وعاد. وكان الوزير شرف الدين بتفليس كما قلناه، وضاف الحال به من الكرج، وأرجف عند الأمراء بكيكلون أن الكرج حاصروه بتفليس فسار أرخان منهم في العساكر إلى تفليس. ثم وصل البشير من نقجوان برجوع السلطان من العراق فأعطاه الوزير أربعة آلاف دينار. ثم افترقت العساكر في بلاد الكرج وبها ايواني مقدّمهم مع بعض أعيانهم، وبعث عسكرا آخر
إلى مدينة فرس، واشتدّ عليها الحصار. ثم جر العساكر عليها وعاد إلى تفليس.
مسير جلال الدين إلى حصار خلاط: كانت خلاط في ولاية الأشرف بن العادل بن أيوب، وكان نائبه بها حسام الدين علي الموصلي، وكان الوزير شرف الدين حين أقامّ بتفليس عند مسير جلال الدين إلى كرمان ضاقت على عساكره الميرة فبعث عسكرا منهم إلى أعمال أرزن الروم فاكتسحوا نواحيها، ورجعوا فمروا بخلاط فخرج نائبها حسام الدين واعترضهم واستنقذ ما معهم من الغنائم. وكتب الوزير شرف الدين بذلك إلى جلال الدين وهو بكرمان فلما عاد جلال الدين من كرمان، وحاصر مدينة أنى استقر حسام الدين نائب خلاط للامتناع منه فارتحل هو إلى بلاد انحاز ليأتيه على غرة. ورحل جلال الدين من أنحاز فسار إلى خلاط وحاصر مدينة ملاذ كرد في ذي القعدة من السنة، وانتقل منها إلى مدينة خلاط وحاصرها وضيق مخنقها وقاتلها مراراً. واشتد أهل البلد في مدافعته لما يعملون من سيرة الخوارزمية الألوائية، وكانوا متغلبين على الكثير من بسائط أرمينية وأذربيجان فبلغه أنهم أفسدوا البلاد وقطعوا السابلة، وأخذوا الضريبة من أهل خوي وخربوا سائر النواحي، وكتب إليه بذلك نوابه وبنت السلطان طغرل زوجته فلما رحل عن خلاط قصدهم على غّرة قبل أن يصعدوا إلى حصونهم بجبالهم الشاهقة فأحاطت بهم العساكر، واستباحوهم واقسموهم بين القتل والغنيمة، وعاد إلى تبريز. دخول الكرج مدينة تفليس وإحراقها: ولما عاد السلطان من خلاط وغزو التركمان فرق عساكر للمشتى، وكان الأمراء اساؤا السيرة في تفليس، وهرب العسكر الذين بها واستلحموا بقيتهم، وخربوا البلاد وحرقوها لعجزهم عن حمايتها من جلال الدين، وذلك في ربيع سنة أربع وعشرين وستمائة. وعند النسائي الكاتب أن استيلاء الإفرنج على تفليس وإحراقهم إياها كان والسلطان جلال الدين على خلاط، وأنه لما بلغه ذلك رجع وأغار على التركمان في طريقه لما بلغه من إفسادهم فنهب أموالهم وساق مواشيهم إلى موقان وكان خمسها ثلاثين ألفا. ثم سار إلى خوي لملاقاة بنت طغرل. ثم سار إلى كنجة فبلغه الخبر بانصراف الكرج عن تفليس بعد إحراقها. قال: ولما وصل كنجة قدم عليه هنالك خاموش بن الأتابك ازبك بن البهلوان مؤدًيا منطقة بلخش قدر الكف مصنوعاً عليه منقوشاً اسم كيكاوس وجماعة من ملوك الفرس، فغير السلطان صناعتها ونقشها على اسمه
وكان يلبس تلك المنطقة في الأعياد وأخذها التتر يوم كبسوه، وحملت إلى الخان الأعظم ابن جنكزخان بقراقدوم. وأقام خاموش في خدمة السلطان إلى أن صرعه الفقر ولحق بعلاء الملك ملك الإسماعيلية فتوفي عنده. انتهى كلام النسائي.
أخبار السلطان جلال الدين مع الإسماعيلية: كان السلطان جلال الدين بعد وصوله من الهند ولي أرخان على نيسابور وأعمالها، وكان وعده بذلك بالهند فاستخلف عليها وأقام مع السلطان. وكان نائبه بها يتعرّض لبلاد الإسماعيلية المتاخمة له، بهستان وغيرها، بالنهب والقتل فأوفدوا على السلطان وهو بخوي- وقد أمنهم- يشكون من نائب أرخان، وأساء عليهم أرخان في المجاورة. ولما عاد السلطان إلى كنجة وكان قد أقطعها وأعمالها لأرخان. فلما خيم بظاهرها وثب ثلاثة من الباطنية، ويسمون الفداوية، لأنهم يقتلون من أمرهم أميرهم بقتله ويأخذون فديتهم منه، وقد فرغوا عن أنفسهم فوثبوا به فقتلوه، وقتلتهم العامة. وكانت الإسماعيلية قد استولوا على الدامغان أيام الفتنة، ووصل رسولهم بعد هذه الواقعة إلى السلطان وهو ببيلقان فطالبهم بالنزول على الدامغان فطلبوا ضمانها بثلاثين ألف دينار وقّررت عليهم. وكان الرسول الوافد في خدمة الوزير وهم راجعون إلى أذربيجان فاستخفه الطرب ليلة، وأحضر له خمسة من الفداوية معه بالعسكر، وبلغ خبرهم السلطان فأمره بإحراقهم. انتهى كلام النسائي. وقال ابن الأثير: أنّ السلطان بعد مقتل أرخان سار في العساكر إلى بلاد الإسماعيلية من الموت إلى كردكوه فاكتسحها وخرّبها، وانتقم منهم، وكانوا بعد واقعته قد طمعوا في بلا،، الإسلام فكف عاديتهم وقطع أطماعهم، وعاد فبلغه أنّ طائفة من التتر بلغوا الدامغان قريبا من الريّ فسار إليهم وهزمهم وأثخن فيهم. ثم جاء الخبر بأن التتر متلاحقة لحربه فأقام في انتظارهم في الريّ أنتهى. استيلاء حسام الدين نائب خلاط علم مدينة خوي: قد تقدّم لنا أن بنت السلطان طغرل زوجة ازبك بن البهلوان لما ملك السلطان، جلال الدين تبريز من يدها أقطعها مدينة خوي، ثم تزّوجها بعد ذلك كما قدّمناه، وتركها لما هو فيه من أشغال ملكه فوجدت لذلك ما فقدته من العز والتحكم. قال النسائي الكاتب: وأضاف لها السلطان مدينتي سلماس وأرمينية، وعين رجلا لقبض أقطاعها فتنكر لها، وأغرى بها الوزير فكاتب السلطان بأنها تداخل الأتابك ازبك وتكاتبه. ثم وصل الوزير إلى خوي فنزل بدارها
واستصفى، وكانت مقيمة بقلعة طلع فحاصرها وسألت المضي إلى السلطان فأبى إلا نزولها على حكمه انتهى. وكان أهل خوي مع ذلك قد ضجروا من ملكة جلال الدين وجوره، وتسلط عساكره فاتفقت الملكة معهم وكاتبوا حسام الدين الحاجب النائب عن الاشراف بخلاط فسار إليهم في مغيب السلطان جلال الدين بالعراق، واستولى على مدينة خوي وأعمالها وما يجاورها من الحصون، وكاتبه أهل نقجوان وسلموها له، وعاد إلى خلاط واحتمل الملكة بنت طغرل زوجة جلال الدين إلى خلاط إلى ان كان ما نذكره.
واقعة السلطان مع التتر علي أصبهان: ثم بلغ الخبر إلى السلطان بأنّ التتر زحفوا من بلادهم فيما وراء النهر إلى العراق فسار من تبريز للقائهم، وجرد أربعة آلاف فارس إلى الريّ والدامغان طليعة فرجعوا وأخبروه بوصولهم إلى أصبهان فنهض للقائم، واستخلف العساكر على الاستماتة. وأمر القاضي بأصبهان باستنفار العامّة، وبعث التتر عسكرا إلى الريّ فبعث السلطان عسكرا لاعتراضهم فأوقعوا بالتتر فنالوا منهم. ثم التقى الفريقان في رمضان سنة خمس وعشرين لرابعة وصولهم إلى أصبهان، وانتقض عنه أخوه غياث الدين وجهان بهلوان الكجي في طائفة من العسكر. وانهزمت ميسرة التتر والسلطان في اتباعهم وكانوا قد أكمنوا له فخرجوا من ورائه وثبت واستشهد جماعة من الأمراء، وأسر آخرون وفيهم علاء الدولة صاحب يزد. ثم صدق السلطان عليهم الحملة فافرجوا له وسار على وجهه، وانهزمت العساكر فبلغوا فارس وكرمان. ورجعت ميمنة السلطان من قاشان فوجدوه قد انهزم فتفّرقوا أشتاتا وفقد السلطان ثمانية من فرقه. وكان بقاطي بستي عقيما بأصبهان فاعتزم أهل أصبهان على بيعته. ثم وصل السلطان فاقصروا عن ذلك وتراجع بعض العسكر، وسار السلطان فيهم إلى الريّ. وكان التتر قد حاصروا أصبهان بعد الهزيمة فلما وصل السلطان خرج معه أهل أصبهان فقاتلوا التتر وهزموهم، وسار السلطان في اتباعهم إلى الريّ، وبعث العساكر وراءهم إلى خراسان. وعند ابن الأثير أن صاحب بلاد فارس وهو ابن الأتابك سعد الذي ملك بعد أبيه حضر مع السلطان في هذه الواقعة، وأن التتر انهزموا أوّلا فاتبعهم صاحب فارس، حتى إذا أبعدوا انفرد عن العسكر. ورجع عنهم فوجد جلال الدين قد انهزم لانحراف أخيه غياث الدين وأمرائه عنه، ومضى إلى شهرم تلك الأيام ثم عاد الى أصبهان كما ذكرناه
. الوحشة بين السلطان جلال الدين وأخيه غياث الدين: كان ابتداؤها أنّ الحسن بن حرميل نائب الغورية بهراة لما قتلته عساكر خوارزم شاه محمد بن تكش، وحاصروا وزيره الممتنع بها حتى اقتحموها عليه عنوة وقتلوه، هرب محمد بن الحسن بن حرميل إلى بلاد الهند. فلما ملك السلطان جلال الدين وحظي لدبه، وأقامه شحنة بأصبهان. فلما سار السلطان إلى أصبهان للقاء التتر انحرف جماعة من غلمان غياث الدين عنه فصاروا إلى نصرة الدين بن حرميل ؛ واسترجعهم منه غياث الدين في بيته وطعنه فأشواه ومات لليال. وأحفظ ذلك السلطان، وأقام غياث الدين مستوحشا فلما كان يوم اللقاء انحرف عن أخيه، ولحق بخوزستان وخاطب الخليفة فبعث إليه بثلاثين ألف دينار. وسار من هنالك إلى قلعة الصوت عند صلاح الدين شيخ الإسماعيلية. فلما رجع السلطان من وقعة التتر إلى الريّ سار إلى قلعة الموت وحاصرها فاستأمن علاء الدين إلى السلطان غياث الدين فأمنه، وبعث من يأتيه به فامتنع غياث الدين وفارق القلعة، واعترضه عساكر السلطان بنواحي همذان وأوقعوا به وأسروا جماعة من أصحابه، ونجا إلى براق الحاجب بكرمان فتزوج بأمّه كرها ونمي إليه أنها تحاول سمه فقتلها وقتل معها جهان بهلوان الكجي، وحبس غياث الدين ببعض القلاع . ثم قتله بمحبسه، ويقال بل هرب من محبسه ولحق بأصبهان، وقتل بأمر السلطان. قال النسائي: وقفت على كتاب براق الحاجب إلى الوزير شرف الملك والسلطان بتبريز وهو يعدّد سوابقه فعد منها قتله أعدى عدّو السلطان، والله تعالى وليّ التوفيق. انتقاض البهلوانية: لما ارتحل السلطان والوزير شرف الملك معه، وانتهى إلى همذان بلغه أنّ الأمراء البهلوانية اجتمعوا بظاهر تبريز يرومون الانتقاض، واتبعه خاموش بن الأتابك ازبك من قلعة قوطور، وكان مقيما بها فرجع السلطان إليهم وقدّم بين يديه الوزير شرف الملك قريبا من تبريز وهزمهم، وقبض على الذين تولوا أكبر الفتنة منهم ودخل تبريز قصبتهم، وقبض على القاضي المعزول فصادمه قوام الدين الحرادي ابن أخت الطغرائي وصادره، وسار السلطان للقاء التتر وأقام الوزير نائباً للبلاد.
إيقاع نائب خلاط بالوزير:
ولما كان ما ذكرناه من مسير حسام الدين نائب خلاط إلى أذربيجان، واحتماله
زوجة السلطان جلال الدين إلى خلاط امتعض الوزير لذلك فسار إلى موقان من بلاد أران، وجمع التركمان وفّرق العمال للجباية، وطلب الحمل من شروان شاه وهو خمسون ألف دينار فتوقف. وأغار على بلاده فلم يظفر بشيء ورجع إلى أذربيجان. وكانت بنت الأتابك بهلوان في بقجان فارقها مولانا إيدغمش وجاء إلى الوزير فأطمعه فيها، وصار الوزير مضمراً الغدر بها وامتنعت عليه. ونزل بالمرج فأكرمته وقربته، ورحل إلى حورس من أعمالها، وكانت للأشرف صاحب خلاط أيام أزبك فانتشرت أيدي العسكر في تلك الضياع، وقاتلها الوزير. وجاء الحاجب صاحب خلاط في عساكره فانهزم الوزير وترك أثقاله وذلك سنة أربع وعشرين. وكان مع الحاجب فخر الدين سام صاحب حلب وهشام الدين خضر صاحب تبريز برم. وكان الوزيروتكاليفه فظفر الآن بمخلفه وخلص الوزير إلى أرّان وسار الحاجب علي في اتباعه. ثم عاد إلى تبريز، ومّر بخوي فنهبها ثم سار إلى بقجان فملكها، ثم تدمر كذلك. وأقام الوزير بتبريز، وكان بها الأتابك أزبك متنسكا منعه أهل تبريز من الدخول، وحملوا إليه النفقة. ثم جاء الخبر برجوع السلطان إلى أصبهان بعد الهزيمة كما مرّ فسار الوزير إلى أذربيجان، ولقي ثلاثة من الأمراء جاؤا مددا له من عند السلطان، وأمره بحصار خوي فسار إليها وبها نائب الحاجب حسام الدين صاحب خلاط، وهو بدر الدين بن صرهنك، والحاجب حسام الدين علي منوشهر فنهض إليه الوزير من خوي فتأخر إلى تركري. والتقيا هنالك فانهزم الحاجب ودخل تركري فاعتصم بها، وحاصره الوزير، وطلب الصلح فلم يسعفه. ورجع الامراء الذين كانوا معه بعساكرهم إلى أذربيجان. وأفرج الوزير عن حصار تركري ومّر بخوي، وقد فارقها ابن صرهنك إلى قلعة قوطور. واستأمن للسلطان من بعد ذلك، ودخل الوزير مدينة خوي وصادر أهلها، وسار الى ترمذ ونقجوان ففعل فيهما مثل ذلك، وانقطعت إيالة الحاجب صاحب خلاط، والله أعلم.
فتوحات الوزير بأذربيجان وارّان:
ولما تخلف الوزير عن السلطان صرف همته إلى تمهيد البلاد ومدافعة صاحب خلاط وارتجاع البلاد التي ملك من أذربيجان وارّان، وفتح القلاع العاصية فكان بينه وبين الحاجب حسام الدين صاحب خلاط ما ذكرناه، وهو خلال ذلك يستميل أصحاب القلاع ويفيض فيهم الأموال والخلع حتى أجاب أكثرهم. ثم قبض على ناصر الدين محمد من أمراء البهلوانية، وكان معتزلا ًعند نصرة الدين بن سبكتكين فصادره على مال وتسلم من نائبه قلعة كانت بيده. ثم مات نائب السلطان بكنجة أقسنقر الاتابكي فنهض إليها وقبض على نائبه شمس الدين كرشاسف وصادره، وتسلم منه قلعة هردوجار برد من أعمال ارّان. ثم جهز العساكر لحصار قلعة زونين، وبها زوجة السلطان خاموش فأطال حصارها وعرضت عليه نكاحها فأبى. ولما رجع السلطان من العراق تزوّجها وولىّ خادمه سعد الدين على القلعة فآساء إليها، وانتزع أملاكها فأخرجوه وعادوا إلى الانتقاض. ولما خلص الوزير من واقعته مع الحاجب نائب خلاط قصد أرّان فجي الأموال، وجمع واحتشد وقصد قلعة مردانقين ؛ وكانت لصهر الوزير ركبة الدين فصانعه،بأ ربعة آلاف دينار حملها إليه. ثم سار إلى قلعة حاجين وبها جلال الدولة ابن أخت أبواني أمير الكرج فصالحه على عشرين ألف دينار وسبعمائة أسير من المسلمين. ثم كانت فتنة البهلوانية فسكنها وشرح الجند عنها. وشرح الخبر عنها أن بعض مماليك أتابك أزبك كان قد أفحش في قتل الخوارزمية بأذربيجان عند زحفهم إليها أيام فرارهم من التتر، فلما ملك السلطان جلال. الدين أذربيجان ومحا ملك البهلوانية منها لحق الأمير مقدي هذا بالأشرف بن العادل بن أيوب صاحب الشام، وأقام عنده فلما بلغه انهزام الوزير شرف الملك أمام الحاجب حسام الدين نائب الأشرف بخلاط فر من الشام إلى أذربيجان ليقيم مع الأتابكية، ومرّ بالحاجب في خوي فاتبعه وعبر النهر، وخاطب من عدوته معتذراً فرجع عنه. ودخل مقدي بلاد قبار، وفيها قلاع استولى عليها المنتقضون والعصاة فراسلهم في إقامة الدعوة الأتابكية والبيعة لابن خاموش بن أزبك يستدعونه من قلعة قوطور. واتصل ذلك بالوزير فأقلقه. ثم جاء خبر هزيمة السلطان بأصبهان فازداد قلقا. وسار الأمير مقدي إلى نصرة الدين محمد بن سبكتكين يدعوه لذلك فلاطفه في القول. وكتب للوزير بالخبر فأجابه بأن يضمن لمقدي ما أحب في مراجعة الطاعة ففعل، وجاء به إلى الوزير فأكرمه وخلع عليه وعلى من جاء معه، وعاهده العفو عن دماء الخوارزمية. وجاء الخبر
برجوع السلطان من أصبهان فارتحل الوزير للقائه ومعه الأمير مقدي وابن سبكتكين وأكرمهما السلطان.
أخبار الوزير بخرا سان: كان صفي الدين محمد الطغرائي وزيرا بخراسان. وأصل خبره أنه كان من قرية كلاجرد وأبوه رئيسها، وكان هو حسن الخط ورتبة الأطوار. ثم لحق بالسلطان في الهند وخدم الوزير شرف الملك فما عادوا إلى العراق ولاه الطغرائي ولما ملك السلطان تفليس من يد الكرج وليّ عليها أقسنقر مملوك الأتابك أزبك، وأقام صفي الدين في وزارتها فلما حاصرها الكرج هرب أقسنقر، وأقام صفي الدين فحاصروه أياماً. ثم أفرجوا ووقع ذلك من السلطان أحسن المواقع، وولاه وزارة خراسان فأقام بها سنة. وضجر منه أهلها فلما جاء السلطان إلى الريّ وأقام بها كثرت به الشكايات، ونكبه السلطان واستصفى أمواله وقبض على مواليه وحاشيته وقيدت خيله إلى مرابط السلطان، وكانت ثلثمائة. وخلص من مواليه علي الكرماني إلى قلعة كان حصنها فامتنع بها واستوزر السلطان مكانه تاج الدين البلخي المستوفي وسلم إليه الصفي ليستصفيه ويقلع القلعة من مولاه، وشدّد في امتحانه. وكان عدوّه فلم يظفر منه بشيء. وكان لما نكب، طالبه خاتون السلطان بإحضار الجواهر، وما ساقه لخدمة الوزير وغيره فأحضر أربعة آلاف دينار وسبعين فصاً من ياقوت وبلخش، واستأثر الخازن بها لظنه أنه مقتول.ثم كاتب الصفي أرباب الدولة ووعدهم بالأموال فشفعوا فيه وخلصوه، وكتب السلطان بخطه بسراحه فجاء واستخلص ماله من الخازن، إلا الفصوص فإنه تعذر عليه ردها. وولىّ السلطان على وزارة نسا محمد بن مودود النسوي العارض، من بيت رياسة بهما. ورمت به الحادثة إلى غزنة فلما جاء السلطان من الهند ولاه الإنشاء والحبس، وعظم أمره، وغص به الوزير شرف الملك. فلما ورد أحمد بن محمد المنشىء الكاتب رسولاً عن نصرة الدين محمد بن حمزة صاحب نسا كما مرّ، ولاه السلطان الإنشاء فارتمض لذلك ضياء الدين، وطلب وزارة نسا فولاه السلطان إياها. وأقطع له عشرة آلاف دينار في السنة زيادة على أرزاق الوزارة. وذهب إليها لإقامة وظيفته. واستناب في ديوان العرض مجد الملك النيسابوري. ثم قطع الحمل فعزله السلطان، وولىّ مكانه الكاتب أحمد بن محمد المنشىء وتعرض للسعاية فيه فطرده السلطان وهلك في طرده.
خبر بلبان صاحب خلخال: كان من أتابكية أزبك. ولما كانت فتنة التتر وخلاء خراسان واستيلاء السلطان جلال الدين على أذربيجان لحق بمدينة خلخال فاستولى عليها وعلى قلاعها، وشغل عنه السلطان بأمر العراق وصاحب خلاط. فلما انصرف المسلمون من واقعة التتر بالعراق حاصروه بقلعة فيروز أباد حتى استأمن، وملكها السلطان وولىّ عليها حسام الدين بكتاش مولى سعد أتابد فارس. ثم خلف السلطان أثقاله بموقان وتجرد لخلاط، وعاقه البرد بارجيش فنهب بعض قلاع. وكان عز الدين الخلخالي في كفرطاب قريبا من أرجيش فلحق بخلاط، وجهزه الحاجب إلى أذربيجان يشغلهم بإثارة الفتنة فيها فلم يتمّ قصده من ذلك فلحق بجبال زنجان وأقام يخيف السابلة. وكتب له السلطان بالأمان. ونزل إلى أصبهان فبعث نائبها شرف الدولة برأسه إلى السلطان. ثم رجع السلطان من كفرطاب إلى خرت برت فنهبها وخربها، ووصله خلال ذلك الخبر بوفاة الخليفة الظاهر منتصف ثلاث وعشرين، وولاية إبنه المنتصر وجاء كتابه بأخذ البيعة، وأن يبعث إليه بالخلع، والله تعالى وليّ التوفيق لارب غيره. تنكر السلطان للوزير شرف الملك لما رجعت العساكر إلى موقان، وأقام السلطان بخويّ شكا إليه أهلها بكثرة مصادرة الوزير لهم، واطلع على إساءته للملكة بنت طغرل واستصفائه مالها مع براءتها مما نسب إليها. ثم جاء إلى تبريز فبلغه عنه أكثر من ذلك، وهو بقرية كورتان من أعمالها فافتقد رئيسها، وكان يخدمه فقيل أن الوزير صادره على ألف دينار لمملوكين. فلما وصل إلى تبريز حبس من أخذها حتى ردّها على صاحبها، وأسقط عن أهل تبريز خراج ثلاث سنين، وكتب لهم بذلك. وكثرت الشائعات على الوزير بما فعله في مغيب السلطان، هذا مع ما كان منه في محاربة الإسماعيلية بأنّ السلطان كاتبه من بغداد بأن يفتش فلول الشام من أجل رسول من عند التتر بعثوه إلى الشام. وقصد بذلك معاتبة الخليفة إن عثر على الرسول فمرّ به فلّ من الإسماعيلية فقتلهم، واستولى على أموالهم. فلما عاد السلطان إلى أذربيجان وصله رسول علاء الدين ملك الإسماعيلية يعاتبه على ذلك، ويطلب المال فنكر السلطان على الوزير ما فعله، ووكل به أميرين حتى ردّ ما أخذ من أموالهم، وكانت ثلاثين ألف دينار وعشرة أفراس فانطوى السلطان للوزير من ذلك كله على سخط، وأعرض عن خطابه. وكان يكاتب فلا يجاب، وعجزت تبريز عن علوفة السلطان فأمر بفتح أهراء الوزير والتصرف فيها. ورجع السلطان إلى موقان فلم يغير عليه شيئاً، ووقع له بتناول عشر الخاص فكان يأخذ من عشر العراق سبعين ألف دينار في كل سنة والله أعلم.
وصول القفجاق لخد مة السلطان:
كان للقفجاق على قديم العهد هوى مع قوم هذا السلطان وأهل بيته، وكانوا يصهرون إليهم غالباً ببناتهم. ومن أجل ذلك استأصلهم جنكزخان واشتدّ في طلبهم، فلما عاد السلطان من واقعة أصبهان وقد هاله أمر التتر رأى أن يستظهر عليهم بقبائل قفجاق، وكان في جملته سبير جنكش منهم فبعثه إليهم يدعوهم لذلك ويرغبهم فيه فأجابوا، وجاءت قبائلهم أرسالا. وركب البحر كور كان من ملوكهم في ثلثمائة من قرابته، ووصل إلى الوزير بموقان فشى بها. ثم جاء السلطان فخلع عليه وردّه بوعد جميل في فتح دربند وهو باب الأبواب. ثم أرسل السلطان لصاحب دربند، وكان طفلاً ، وأتابكه يلقب بالأسد يدبر أمره فقدم على السلطان فخلع عليه، وأقطع له وملكه العمل على أن يفتح له الدربند. وجهز عساكر وأمراء فلما فصلوا من عنده قبضوا على الأسد وشنوا الغارة على نواحي الباب، وأعمل الأسد الحيلة وتخفف من أيديهم وتعذر عليهم ما أ رادوه. استيلاء السلطان على أعمال كستاسفى: كان علم الوزير يشكر أنّ السلطان أراد أن ينتصح له ببعض مذاهب الخدمة فسار في العساكر، وعبر نهرزاس فاستولى على أعمال كستاسفي من يد شروان شاه. فلما عاد السلطان إلى موقان أقطعها لجلال الدين سلطان شاه بن شروان شاه، وكان أسيراً عند الكرج أسلمه أبوه إليهم، على أن يزّوجوه بنت الملك رسودان بنت تاماد. فلما فتح السلطان بلاد الكرج استخلصه من الأسر ورباه، وبقي عنده وأقطعه الآن كستاسفي. وكان أيضا عند الكرج ابن صاحب ارزن الروم، وكان تنضر فزّوجوه رسودان بنت تاماد فأحرجه السلطان لما فتح بلاد الكرج، ثم رجع إلى ردنّة ولحق بالكرج فوجد رسودان قد تزّوجت. قدوم شروان شاه: كان السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان لما ملك ارّان أطلق الغارة على بلاد شروان فوفد عليه ملكها افريدون بن فرتبريز، وضمن حمل مائة ألف دينار في السنة. فلما ملك السلطان جلال الدين أرّان سنة اثنتين وعشرين وستمائة طلب شروان شاه افريدون بالحمل فاعتل بتغلب
الكرج، وضعف البلاد فأسقط عنه نصف الحمل. فلما عاد الآن قدم عليه شروان شاه وأهدى له خمسمائة فرس، وللوزير خمسين فاستقلها. وأشار على السلطان بحبسه فلم يقبل إشارته، ورده بالخلع والتشريف، وأسقط عنه من الحمل عشرين ألفا فبقي ثلاثون: قال النسائي الكاتب: وأعطاني في التوقيع ألف دينار، والله نعالى اعلم.
مسير السلطان إلى بلاد الكرج وحصاره قلاع بهرام: لما كان السلطان مقيماً بموقان منصرفه من اذربيجان بعث عساكره مع ايلك خان فأغار على بلاد الكرج واكتسحها، ومر ببحيرة بتاج فكبسه الكرج وأوقعوا به. وفقد اريطاني وامتعض السلطان لما وقع بعسكره وارتحل لوقته، وقد جمع له الكرج فهزمت مقدمتهم، وجيء بالأسرى منهم فقتلهم وسار في اتباعهم. ونازل كوري وطالبهم بإطلاق أسرى البحيرة فأطلقوهم. وأخبر أنّ اريطاني خلص تلك الليلة إلى أذربيجان، ثم وجده السلطان في نقجوان. ثم سار إلى بهران الكرجي وقد كان أغار على نواحي كنجة فعاث في أعماله، وحاصر قلعة سكان ففتحها عنوة، وكذلك قلعه كاك. وبعث الوزير لحصار كوزاني، فحاصرها ثلاثة أشهر حتى طلبوا الصلح على مال حملوه فرحل عنهم إلى خلاط والله أعلم. مسير السلطان إلى خلاط وحصارها: ولما فرغ السلطان من شأن الكرج وقدّم أثقاله إلى خلاط على طريق قاقروان، وسار هو إلى نقجوان، وصبح الكرج واستاق مواشيهم. ثم أقام أيامأ، وقضى أشغال أهل خراسان والعراق ليفرغ لحصار خلاط. قال النسائي الكاتب: وحصل لي منهم تلك الأيام ألف دينار. ثم ارتحل إلى خلاط ولحق عساكره، ولقيه رسول من عز الدين أيبك . نائب الأشرف بخلاط، وقد كان الأشرف بعثه وأمره بالقبض على نائبها حسام الدين علي بن حماد فقبض عليه ثم قتله غيلة. وبعث إلى السلطان يستخدم إليه بذلك وانّ سلطانه الأشرف أمره بطاعة السلطان جلال الدين، وبالغ في الملاطفة فأبى السلطان إلا إمضاء ما عزم عليه. وقال إن كان هذا حقا فابعث إلىّ بالحاجب فلما سمع هذا الجواب قتله، وسار السلطان إلى خلاط، ونزل عليها بعد عيد الفطر من سنة ست وعشرين. وجاءه ركن جهان بن طغرل صاحب أرزن الروم فكان معه، وحاصرها ونصب عليها المجانيق، وأخذ بمخنقها حتى فر أهلها عنها من الجوع وتفرقوا في البلاد.
ثم داخله بعض أهلها في أن يمكنهم من بقيتها على أن يؤمنوه ويقطعوه في اذربيجان فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع هنالك. وأصعد الرجال ليلا إلى الأسوار فقاتلوا الجند بالمدينة وهزموهم وملكوها، وأسروا من كان بها، وأسروا النصارى وأسد بن عبد الله. وتحصن النائب عز الدين أيبك بالقلعة فأمنه وجسه بقلعة درقان. فلما وقعت المراسلة في الصلح قفل لئلا يشترط. وقال ابن الأثير إن مولى من موالي حسام الدين كان هرب إلى السلطان، فلما ملك خلاط طلب أن يثأر منه بمولاه فدفعه إليه وقتله، ونهب البلد ثلاثا وسّرح السلطان صاحب أرزن وهرب القمهري من محبسه فقتل أسد بن عبد الله المهراني بجزيرته، وأقطع السلطان خلاط للأمراء وعاد، والله تعالى ولي التوفيق.
واقعة السلطان جلال الدين مع الأشرف وكيقباد وانهزامه أمامهما: ولما استولى السلطان جلال الدين على خلاط تجهز الأشرف من دمشق، وقد كان ملكها وسار لقتال السلطان جلال الدين في عساكر الجزيرة والشام، وذلك في سنة تسع وعشرين ولقيه علاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم على سيراس. وكان كيقباد قد خشي من اتصال جهان شاه ابن عمه طغرل صاحب ارزن الروم بالسلطان جلال لما بينهما من العداوة، فسار الأشرف وكيقباد من سيراس، وفي مقدمة الأشرف عز الدين عمر بن علي من أمراء حلب من الأكراد الهكارية، وله صيت في الشجاعة. وجاء السلطان علاء الدين للقائهم فلما تراءى الجمعان حمل عز الدين صاحب المقدمة عليهم فهزمهم، وعاد السلطان إلى خلاط. وكان الوزير على ملاركرد يحاصرها فلحق به وارتحلوا جميعا إلى اذربيجان. وأسرركن الدين جهان شاه بن طغرل. وجيء به إلى ابن عفه علاء الدين كيقباد فجاء به الى ارزن فسلمها وسائر أعمالها. ووصل الأشرف إلى خلاط فوجدها خاوية. ولما رجع السلطان إلى أذربيجان ترك العساكر مع الوزير سكمان، وأقام بخوي، وخلص الترك في الهزيمة الى موقان. وتردّد شمس الدين التكريتي رسول الأشرف بينه وبين السلطان جلال الدين في الصلح بينهم، ودخل فيه علاء الدين صاحب الروم، وانعقد بينهم جميعا ، وسلم لهم السلطان سر من رأى مع خلاط، والله تعالى أعلم.
الحوادث أيام حصار خلاط: منها وفادة نصر الدين اصبهبد صاحب الجبل مع ارخا من أمراء السلطان يصهره على أخيه، فقبض السلطان عليه إلى أن عاد من بلاد الروم منهزماً فأقطعه وأعاده إلى بلاده. ومنها رسالة أخت السلطان وكانت عند دوشي خان أخذها من العيال الذ ين جاؤا معه، وتركمان خاتون من خوارزم، وأولدها، وكانت تكاتب أخاها بالأخبار فبعثت إليه الآن في الصلح مع خاقان والمصاهرة. وأن يسلم له فيما وراء جيحون فلم يجبها. ومنها وفادة ركن الدين شاه بن طغرل صاحب ارزن الروم، وكان في طاعة الأشرف ومظاهرا للحاجب نائب خلاط على عداوة السلطان منافرة لابن عمه علاء الدين كيقباد بن كنخسرو صاحب الروم، وكان قتل رسول السلطان منقلبا من الروم، ومنع الميرة عن العسكر. فلما طال حصار السلطان بخلاط استأمن وقدم عليه السلطان فاحتفل لقدومه واركب الوزير للقائه . ثم خلع عليه وردّه إلى بلاده، واستدعى منه آلات الحصار فبعث بها. ثم حضر بد ذلك واقعة الأشرف مع السلطان كما مرّ.ومنها وصول سعد الدين الحاجب برسالة الخليفة إلى السلطان بالخطبة في أعمالها، وأن لا يتعرض لمظفر الدين كوكبرون صاحب إربل، ولا للولد صاحب الموصل، ولا لشهاب الدين سليمان شاه ملك ولا لعماد الدين بهلوان بن هراست ملك الجبال ويعدهم في أولياء الديوان فامتثل مراسله. وبعث نائب العراق شرف الدين على بأنّ ملك العراق لا يتم إلا بطاعة ملك الجبال عماد الدين بهلوان وملك سليمان شاه فبعث إليهما السلطان من لاطفهما حتى كانت طاعتهما اختيارا منهما.وبعث السلطان الحاجب بدر الدين طوطو بن أبنايخ خان فأحسن في تأدية رسالته،وجاء بهدية حافلة من عند الخليفة خلعتان للسلطان احداهما جبة وعمامة وسيف هندي مرصع الحلية، والأخرى قنع وكمة وفرجية وسيف محلى بالذهب، وقلادة مرصعة ثمينة، وفرسان رائعان بعدّتين كاملتين، ونعال لكلّ واحدة من أربعمائة دينار، وترس ذهب مرضع بالجوهر وفيه أحد وأربعون فصا من الياقوت وبندخستاني في وسطه فيروزجة كبيرة، وثلاثون فرسا عربية مجفلة بالأطلس الرومي المبطن بالأطلس البغدادي بمقاود الحرير ونعاق الذهب، لكل واحدة منها ستون ديناراً وعشرون مملوكا بالعدة والمركوب، وعشرة فهو بجلال الأطلس وقلائد الذهب، وعشرة صقور بالأكمام
الملكة، ومائة وخمسون بقجة في كل واحدة عشرة ثياب، وخمس أكر من العنبر مضلعة بالذهب وشجرة من العود الهندي، طولها خمسة أذرع وأربع عشرة خلعه نسوانية للخانات من خوالص الذهب، وكنائس للخيل تفليسية.وللأمراء ثلثمائة خلعة لكل أمير خلعة قباء وكمة، للوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيف هندي، واكرتان من العنبر وخمسون ثوبا وبغلة. ولأصحاب الديوان عشرون خلعة في كل خلعة جبة وعمامة وعشرون ثوبا أكثرها أطلس رومي وبغدادي، وعشرون بغلة شهباء. ورفعت للسلطان خباء فدخلها ولبس الخلعتين، وشفع الرسول في أهل خلاط فاعتذر له السلطان.ومنها وصول هدية من صاحب الروم ثلاثون بغلا مجفلة بثياب الأطلس الخطائي،وفرو القندسي والسمور، وثلاثون مملوكاً والعدة، ومائة فرس وخمسون بغلا. ولما مروا بأذربيجان اعترضهم ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب ارزن، وكان في طاعة الأشرف فأمسك الهدية عنده إلى أن وفد على السلطان بطاعته فأحضرها.ومنها أسار وزير المورخا ، جاء إلى الجبل المطلّ على قزوين لحصاد الحشيش على عادته، وكان السلطان قد تغير على علاء الدين صاحبهم بسبب أخيه غياث الدين، ولحاقه بهم في الموت فسار مقطع سارة إلى ذلك الجبل، وأكمن لهم الوزير. وبعث به إلى السلطان وهو يحاصر خلاط فحبسه بقلعة رزمان، وهلك لأشهر قلائل. ثم بعث السلطان كاتبه محمد بن أحمد النسائي إلى علاء الدين صاحب قلعة الموت بطلب الخوارج، وطلب الخطبة فامتنع منها أوّلا واحتج عليه بأنّ أباه جلال الدين الحسن خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش والد السلطان فأنكر والتزم أن يبعث إلى الديوان مائة ألف في كل سنة.
وصول جهان بهلوان ازبك من الهند: كان السلطان لما فصل من الهند بقصد العراق، واستخلف على البلاد التي ملكها هنالك جهان بهلوان أزبك فأقام هنالك إلى أن قصده عسكر شمس الدين ايتماش صاحب لهاوون ففارق مكانه، وسار إلى بلاد قشمير فزاحموه وطردوه عن البلاد فقصد العراق، وتخلف عنه أصحابه، وعادوا إلى ايتماش، وفيهم الحسن برلق الملقب رجاملك، وكاتب جهان عليها ملك العراق بوصوله في سبعمائة فارس، فأجاب الحسن رأي السلطان فيه. وبعث اليه بعشرة آلاف دينار للنفقة. ووصل توقيع السلطان بأن تحمل إليه عشرون ألفا، وأن يشتي بالعراق يستريح بها من التعب فصادف عود السلطان من بلاد الروم، وزحف السلطان إلى أذربيجان فحال قدر الله بينه وبين مرامه، وقتل هناك سنة ثمان وعشرين.
وصول التتر إلى أذربيجان: كان التتر عندما ملكوا ما وراء النهر، وزحفوا إلى خراسان فضعضعوا ملك بني خوارزم شاه، وانتهوا إلى قاصية البلاد وخربوا ما مرّوا عليه، واكتسحوا ونهبوا وقتلوا. ثم استقر ملكهم بما وراء النهر وعمروا تلك البلاد، واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوّض منها. وبقيت خراسان خالية، واستبد بالمدن فيها أمراء شبه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين لما جاء من الهند، وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان واذربيجان وأرّان وما وراء ذلك. وبقيت خراسان مجالات لغارات التتر وحروبهم. ثم صارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين فكان بينهم وبين جلال الدين لما جاء من الهند،المواقعة على أصبهان كما مرّ. ثم كان بين جلال الدين وبين الأشرف صاحب الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب الروم المواقعة سنة سبع وعشرين كما مرّ واوهنت من جلال الدين وحلت عرى ملكه.وكان علاء الدين مقدّم الإسماعيلية في قلعة الموت فعاد جلال الدين لما أثخن في بلاده، وقرر عليه وظائف الأموال فبعث إلى التتر يخبرهم بالهزيمة الكائنة عليه، وأنها أوهنته، ويحثهم على قصده فساروا إلى أذربيجان أول سنة ثمان وعشرين وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فبعث بوغر من أمرائه طليعة لاستكشاف خبرهم فلقي مقدّمتهم، فانهزم ولم ينج من أصحابه غيره. وجاء بالخبر فرحل من تبريز إلى موقان، وخلف عياله بتبريز لنظر الوزير وأعجله الحال عن أن يبعثهم إلى بعض الحصون ثم ورد كتاب من حدود زنجان بأن المقدّمة التي لقيها بوغر باهر أقاموا بمرج الخان، وأنهم سبعمائة فارس فظنّ السلطان أنهم لا يجاوزونها فسري عنه، ورحل إلى موقان فأقام بها، وبعث في أحشاد الأميرين بغان شحنة خراسان، وأوسمان بهلوان شحنة مازندران، وشغل بالصيد. وبينما هو كذلك كبسه التتر بمكانه ونهبوا معسكره وخلص إلى نهراوس.ثم ورى بقصد كنجة وعطف إلى أذربيجان، فتنكر لماهان. وكان عز الدين صاحب قلعة شاهن غاضبا منذ سنين لإغارة الوزير على بلده. فلما نزل السلطان ماهان كان يخدمه بالميرة وبأخبار التتر ثم أنذره آخر الشتاء بمسير التتر إليه من أزجان، وأشار عليه بالعود إلى أرّان لكثرة ما فيها من العساكر وأجناد التركمان متحصنين بها. فلما فارقها وكان الوزير فوق بيوت السلطان وخزائنه في قلاع حسام الدين منهم: أرسلان كبير أمراء التركمان بأرّان، وكان قد عمر هنالك قلعة سنك سراخ من أحصن القلاع فأنزل عياله بها وكان مستوحشا من السلطان فجاهر بالعصيان.وكانت وحشته من السلطان لأمور منها: تبذير أمواله في العطاء والنفقة، ومنها أنه ظنّ
أنّ السلطان مجفل إلى الهند فكاتب الأشرف صاحب الشام وكيقباد صاحب الروم فوعدهم من نفسه الطاعة، وهما عدوا السلطان. ومنها أنه كاتب قليج أرسلان التركماني فأمره بحفظ حرم السلطان وخزائنه ولا يسلمها إليه. وبعث في الكتاب له، والكباس قبله ليغزو الروم . فلما مرّ السلطان بقلعته بعث إليه يستدعيه فوصل وحمل كفنه في يده، فلاطفه السلطان وكايده فظنها مخالصة فاطمأن والله تعالى ولي التوفيق.
استيلاء التتر علي تبريز وكنجة: ولما أجفل السلطان بعد الكبسة من موقان إلى أرّان بلغ الخبر إلى أهل تبريز فثاروا بالخوارزمية، وأرادوا قتلهم، ووافقهم بهاء الدين محمد بن بشير فاربك الوزير بعد الطغرياني. وكان الطغرياني رئيس البلد كما مر فمنعهم من ذلك، وعدوا على واحد من الخوارزمية وقتلوه فقتل به اثنين من العامة. واجتهد في تحصين تبريز وحراستها وشحنها بالرجال، ولم تنقطع كتبه عن السلطان ثم هلك فسلمها العوام إلى التتر ثم ثار أهل كنجة وسلموا بلدهم للتتر وكذا أهل ببلغازة والله اعلم. نكبة الوزير ومقتله: لما وصل السلطان إلى قلعة جاربرد بلغه استيحاش الوزير، وخشي ان يفر إلى بعض الجهات فركب إلى القلعة موريا بالنظر في احوالها والوزير معه. وأسّر إلى والي القلعة أن يمسك الوزير ويقيده هنالك ففعل. ونزل السلطان فجمع مماليك الوزير وكبيرهم الناصر قشتمر، وضمهم إلى أوترخان. ثم نمي إلى والي القلعة ان السلطان مستبدل منه فاستوحش، وبعث بخاتم الوزير إلى قشتمر كبير المماليك يقول: نحن وصاحبكم متوازرون، فمن أحب خدمته فليأت القلعة فسقط في يد السلطان. وكان ابن الوالي في جملته وحاشيته. فأمره السلطان أن يكاتب أباه ويعاتبه ففعل، واجابه بالتنصل من ذلك. فقال له السلطان: فليبعث إلىّ براس الوزير فبعث به. وكان الوزير مكرماً للعلماء والأدباء مواصلا لهم، كثير الخشية والبكاء متواضعاً منبسطاً في العطاء، حتى استغرق أموال الديوان. لولا أن السلطان جذب من عنانه. وكان فصيحاً في لغة الترك، وكانت عمالته على التواقيع السلطانية: "الحمد لله العظيم " وعلى التواقيع الديوانية: "يعتمد ذلك " وعلى تواقيعه إلى بلاده: "ابو المكارم علي بن ابي القاسم خالصة امير المؤمنين " .
ارتجاع السلطان كنجة:
لما ثار أهل كنجة بالخوارزمية كان القائم بأمرهم رجل منهم اسمه بندار، وبعث السلطان إليهم رسوله يدعوهم إلى الطاعة فوصلوا قريبا منه، وأقاموا وخرج إليهم الرئيس جمال الدين القمي بأولاده. وامتنع الباقون. ثم وصل السلطان وردد إليهم فلم تغن، وبرزوا بعض الأيام للقتال، ورموا على خيمته فركب، وحمل عليهم فانهزموا وازدحموا في الباب فمنعهم الزحام من إغلاقه فاقتحم السلطان المدينة، وقبض على ثلاثين من أهل الفتنة فقتلهم. وجيء ببندار، وكان بالغاً في الفساد، وكسر سرير الملك الذي نصبه بها محمد بن ملك شاه فمثل به، وفصل أعضاءه بين يديه. واقام السلطان بكنجة نحواً من شهر. ثم سار إلى خلاط مستمداً للأشرف فارتحل الأشرف إلى مصر، وعلل بالمواعيد ووصل السلطان في وجهته إلى قلعة شمس، وبها اراك بن إيوان الكرجي فخرج وقبل الأرض على البعد. ثم بعث إلى السلطان ما أمر به وبعث السلطان إلى جيرانه من الملوك مثل صاحب حلب وآمد وماردين يستنجدهم بعد يأسه، من الأشرف. وجرّد عسكرا إلى خرت برت وملطية واذربيجان فأغاروا في تلك النواحي، واستاقوا نعمها لما بين ملكها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميعهم من ذلك، وقعدوا عن نصرته والله تعالى ولي التوفيق.
واقعة التتر على السلطان بآمد ومهلكه
كان السلطان بلغه وهو بخلاط أن التتر ساروا إليه، فبعث السلطان الأمير أترخان
في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبر أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد. وكان الأمراء أشاروا على السلطان، الانتقال بديار بكر وينجرون إلى أصبهان. ثم جاءه رسول صاحب آمد وزين له قصد بلاد الروم، وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر، وأنه يمده بنفسه في أربعة آلاف فارس. وكان صاحب آمد يروم الانتقام من صاحب الروم بما ملك من قلاعه فجنح السلطان إلى كلامه، وعدل عن أصبهان إلى آمد
فنزل بها. وبعث إليه التركمان بالنذير وانهم رأوا نيران التتر بالمنزل الذي كانوا به أمس فاتهم خبرهم، وصبحه التتر على آمد، وأحاطوا بخيمته قبل أن يركب فحمل عليهم أوترخان حتى كشفهم عن الحركات. وركب السلطان وركض وأسلم زوجته بنت الأتابك سعد إلى أميرين يحملانها إلى حيث تنتهي الحفلة. ثم رد أوترخان والعساكر عنه ليتوارى بانفراده عن عين العدو وسار أوترخان في أربعة آلاف فارس فخلص إلى أصبهان، واستولى عليها إلى أن ملكها التتر عليه سنة تسعة وثلاثين. وذهب السلطان مستخفياً إلى باشورة آمد، والناس يظنون أن عسكره غدروا به فوقفوا يردّونهم فذهب إلى حدود الدربندات، وقد ملئت المضايق بالمفسدين. فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع، وانتهى إلى قرية من قرى ميافارقين فنزل في بيدرها، وفارقه أوترخان، إلى شهاب الدين غازي صاحب حلب لمكاتبات كانت بينهما فحبسه. ثم طلبه الكامل فبعث به إليه محبوساً ثم سقط من سطح فمات، وهجم التتر على السلطان بالبيدر فهرب، وقتل الذين كانوا معه، وأخبر التتر أنه السلطان فاتبعوه. وأدركه اثنان منهم فقتلهما ويئس منه الباقون فرجعوا عنه. وصعد جبل الأكراد فوجدهم مترصدين في الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله. وأسرّ إلى بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي ودخل البيت في غيبة بعض سفلتهم وبيده حربة، وهو يطلب الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله، ولم يغن عنه البيت، وكانت الوقعة منتصف شوال سنة ثمان وعشرين. هذه سياقة الخبر من كتاب النسائي كاتب السلطان جلال الدين. وأما ابن الأثير فذكر الواقعة، وأنه فقد فيها، وبقوا أياما في انتظار خبره، ولم يذكر مقتله. وانتهى به التأليف ولم يزد على ذلك. قال النسائي: وكان السلطان جلال الدين أسمر قصيراً تركيا شجاعاً حليماً وقوراً لا يضحك إلا تبسما، ولا يكثر الكلام مؤثرا للعدل، إلا أنه مغلوب من أجل الفتنة وكان يكتب للخليفة والوحشة قائمة بينهما كما كان أبوه يكتب خادمه المطواع فلان، فلما بعث اليه بالخلع عن خلاط كما مر كتب إليه عبده فلان، والخطاب بعد ذلك سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، قدوة المشارق والمغارب المنيف على الذروة العليا ابن لؤي بن غالب. ويكتب لملوك الروم ومصر والشام. السلطان فلان بن فلان ليس معها أخوة ولا محبة. وعلامته على تواقيعه: النصرة من الله وحده. وعلامته لصاحب الموصل بأحسن خط، وشق القلم شقين ليغلظ. ولما وصل من الهند كاتبه الخليفة: الجناب الرفيع الخاقاني فطلب الخطاب بالسلطان فأجيب بأنه لم تجر به عادة مع أكابر الملوك فألح في ذلك حين حملت له الخلع فخوطب بالجناب العالي الشاهستاني. ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين
وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها، وملكوا مدينة اسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام، ومروا بماردين فامتنعت. ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها، ثم إلى سنجار وجبالها والخابور. ثم ساروا إلى تدليس فأحرقوها، ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا أباكري وارتجيس. وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال إربل، ومروا في طريقهم بالتركمان الاموامية والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا وخرج مظفر الدين صاحب إربل بعد ان استمد صاحب الموصل فلم يدركهم، وعادوا وبقيت البلاد قاعاً صفصفاً ؛ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وافترق عسكر جلال الدين منكبرس، وساروا إلى كيقباد ملك الروم
فأثبتهم في ديوانه واستخدمهم . ثم هلك سنة أربع وثلاثين، وولي ابنه غياث الدين كنخسرو فارتاب بهم وقبض على كبيرهم وفر الباقون. واكتسحوا ما مروا به، وأقاموا مستبدين بأطراف البلاد. ثم استمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وكان نائبا لأبيه بالبلاد الشرقية حران وكيفا وآمد. واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له كما يأتي في أخباره، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وفضله. الخبر عن دولة بني تتش في أبى أرسلان ببلاد الشام دمشق وحلب وأعمالها وكيف تناوبوا فيها القام بالدعوة العباسية والدعوة العلوية حين انقراض أمرهم: قد تقدم لنا استيلاء السلجوقية على الشام لأوّل دولتهم، وكيف سار أتسز بن أرتق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه إلى فلسطين، ففتح الرملة وبيت المقدس، وأقام فيهما الدعوة العباسية، ومحا الدعوة العلوية. ثم حاصر دمشق وذلك سنة ثلاث وستين وأربعمائة. ثم أقام يرّدد الحصار على دمشق حتى ملكها سنة ثمان وستين. وسار إلى مصر سنة تسع وستين، وحاصرها وعاد منها. وولي السلطان ملك شاه بعد أبيه ألبارسلان سنة خمس وستين، فأقطع أخاه تتش بلاد الشام، وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فسار إلى حلب وحاصرها. وكان أمير الجيوش بدر الجمالي قد بعث العساكر لحصار دمشق، وبها أتسز فبعث بالصريخ إلى تاج الدولة تتش فسار لنصرته، واجفلت عساكر مصر، وخرج أتسز لتلقيه فتعلل عليه ببطئه عن تلقيه، وقتله واستولى على دمشق، وقد تقدم ذلك كله. ثم استولى سليمان بن قطلمش على أنْطاكِية، وقتل مسلم بن قريش. وسار إلى حلب فملكها، وسمع بذلك تتش فسار إليها واقتتلا سنة تسع وسبعين، وقتل سليمان بن قطلمش في الحرب وسار السلطان ملك شاه إلى حلب فملكها وولى عليها قسيم الدولة أقسنقر جدّ نور الدين العادل. ثم جاء السلطان إلى بغداد سنة أربع وثمانين، وسار إليه أخوه تاج الدين تتش من دمشق، وقسيم الدولة أقسنقر صاحب حلب، وبوزان صاحب الرها، وحضروا معه صنيع المولد النبوي ببغداد، فلما وعدوه العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان بان يسيرا بعسكرهما مع تاج الدولة تتش لفتح البلاد بساحل الشام، وفتح مصر من يد المستنصر العلوي، ومحو الدولة العلوية منها فساروا لذلك. وملك تتش حمص من يد ابن ملاعب، وغزة عنوة، وأماسية من يد خادم العلوي بالأمان. وحاصر طرابلس، وبها جلال الدين ابن عمار فداخل قسيم الدولة أقسنقر، وصانعه بالمال في أن يشفع له عند تتش فلم
يشفعه فرحل مغاضبا، وأجفلوا إلى جبلة وانتقض أمرهم. وهلك السلطان ملك شاه سنة خمس وثمانين ببغداد، وقد كان سار إلى بغداد، وسار تتش أخوه من دمشق للقائه وبلغه في طريقه خبر وفاته، وتنازع ولده محمود وبركيارق الملك فاعتزم على طلب الأمر لنفسه، ورجع إلى دمشق فجمع العساكر وقسم العطاء. وسار إلى حلب فأعطاه أقسنقر الطاعة لصغر أولاد ملك شاه والتنازع الذي بينهم، وحمل صاحب أنْطاكِية وبوزان صاحب الرها وحران على طاعته. وساروا جميعا في محرم سنة ست وثمانين فحاصروا الرحبة وملكوها، وخطب فيها تتش لنفسه. ثم ملك نصيبين عنوة واستباحها وأقطعها لمحمد بن مسلم بن قريش. ثم سار إلى الموصل وبها إبراهيم بن قريش بن بدران، وبعث إليه في الخطبة على منابره فامتنع وبرز للقائه في ثلاثين ألفا، وكان تتش في عشرة آلاف والتقوا بالمضيع من نواحي الموصل فانهزم إبراهيم وقتل، واستبيحت أحياء العرب، وقتل أمراؤهم، وأرسل إلى بغداد في طلب الخطبة فلم يسعف إلا بالوعد. ثم سار إلى ديار بكر فملكها في ربيع الآخر، وسار منها إلى أذربيجان. وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الريّ وهمذان، وكثير من بلاد الجبل فسار في العساكر لمدافعته. فلما تقاربا نزع أقسنقر وبوزان إلى بركيارق.وعاد تتش منهزماً إلى الشام، وجمع العساكر، واستوعب في الحشد. وسار إلى أقسنقر في حلب فبرز إليه، ومعه بوزان صاحب الرها وكربوقا الذي ملك الموصل فيما بعد، ولقيهم تتش على ستة فراسخ من حلب لانهزموا وجيء باقسنقر أسيراً فقتله صبرا. ولحق كربوقا وبوزان بحلب فحاصرها تتش وملكها وأخذهما أسيرين. وبعث إلى حران والرها في الطاعة فامتنعوا فقتلى بوزان وملكهما وحبس كربوقا بحمص . ثم سار إلى الجزيرة فملكها جميعا، ثم إلى ديار بكر وخلاط ثم اذربيجان ثم همذان. وبعث إلى بغداد في الخطبة. وكان بركيارق يومئذ بنصيبين فعبر دجلة إلى إربل، ثم منها إلى بلد سرحاب بن بدر. وسار الأمير يعقوب بن أرتق من عسكر تتش فكسبه وهزمه، ونجا إلى أصبهان فكان من خبره ما تقدم. وبعث تتش يوسف بن أرتق التركماني شحنة إلى بغداد فمنع منها فعاث في نواحيها. ثم بلغه مهلك تتش فعاد إلى حلب. وهذه الأخبار كلها قد تقدمت في أول دولة السلجوقية وإنما ذكرناها هنا توطئة لدولة بني تمش بدمشق وحلب والله أعلم. مقتل تتش. ولما انهزم بركيارق أمام عمه تتش لحق بأصبهان، وبها محمود وأهل دولته فأدخلوه وتشاوروا في قتله ؛ ثم أبقوه إلى إبلال محمود من مرضه فقدر هلاك محمود. وبايعوا لبركيارق فبادر إلى
أفهان، وقدم أميراً آخر بين يديه لاعداد الزاد والعلوفة، وسار هو إلى أصبهان. ورجع تتش إلى الريّ، وأرسل إلى الأمراء بأصبهان يدعوهم ويرغبهم فأجابوه باستبراء أمر بركيارق. ثم ابل بركيارق من مرضه، وسار في العساكر إلى الريّ فانهزم تتش وانهزم عسكره، وثبت هو فقتله بعض أصحاب أقسنقر بثأر صاحبه، واستقام الأمر لبركيارق والله تعالى أعلم. استيلاء رضوان بن تتش علي حلب: كان تتش لما انفصل من حلب استخلف عليها أبا القاسم الحسن بن علي الخوارزمي وأمكنه من القلعة، ثم أوصى أصحابه قبل المصاف بطاعة ابنه رضوان، وكتب إليه بالمسير إلى بغداد ونزول دار السلطنه فسار لذلك، وسار معه أبو الغازي بن أرتق. وكان أبوه تتش تركه عنده وسار معه ومعه محمد بن صالح بن مرداس وغيرهما. وبلغه مقتل أبيه عند هيت فعاد إلى حلب، ومعه الأميران الصغيران أبو طالب وبهرام وأمه وزوجها جناح الدولة الحسن بن أفتكين، ولحق بهم من المعركة. فلما انتهوا إلى حلب امتنع أبو القاسم بالقلعة، ومعه جماعة من المغاربة، وهم أكثر جندها فاستمالهم جناح الدولة فثاروا بالقلعة من الليل، ونادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على أبي القاسم، فبعث إليه رضوان بالأمان وخطب له على منابر حلب وأعمالها، وقام بتدبير دولته جناح الدولة، وأحسن السيرة. وخالف عليهم الأمير باغيسيان بن محمد بن أبه التركماني صاحب أنْطاكِية ، ثم أطاع وأشار على رضوان بقصد ديار بكر، وسار معه لذلك. وجاءهم أمراء الأطراف الذين كان تتش رأسهم فيها، وقادوا سروج فسبقهم إليها سلمان بن أرتق وملكها فساروا إلى الرها، وبها الفارقليط من الروم، كان يضمن البلاد من بوزان فتحضن بالقلعة ودافعهم، ثم غلبوه عليها، وملكها رضوان. وطلبها منه باغيسيان. وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب، ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان فأقطعها له. ثم سار إلى حران وأميرها قراجا فدس إليهم بعض أهلها بالطاعة، واتهم قراجا بذلك ابن المعني من أعيانها، كان تتش يعتمد عليه في حفظ البلده، وقتل بني أخيه. ثم فسد ما بين جناح الدولة وباغيسيان وخشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب، ورجع رضوان والأمراء على أثره فسار باغيسيان إلى لجده أنْطاكِية، وسار معه أبو القاسم الخوارزمي، ودخل رضوان إلى حلب دار ملكه وكان من أهل دولته
يوسف بن أرتق الخوارزمي الذي بعثه تتش إلى بغداد شحنة، وكان من الفتيان بحلب، وكان قنوعا، وكان يعادي يوسف بن أرتق فجاء إلى جناح الدولة القائم بأمر رضوان ورمى يوسف بن أرتق عنده بأنه يكاتب باغيسيان ويداخله في الثورة، واستأذنه في قتله فأذن له، وأمده بجماعة من الجند. وكبس يوسف في داره فقتله ونهب ما فيها واستطال على الدولة. وطمع في الاستبداد على رضوان، ودس لجناح الدولة أن رضوان أمره بقتله فهرب إلى حمص. وكانت إقطاعاً له واستبد على رضوان ثم تنكر له رضوان سنة تسع وثمانين، وأمر بالقبض عليه فاختفى ونهبت دوره وأمواله ودوابه. ثم قبض عليه فامتحن وقتل هو وأولاده.
استيلاء دقاق بن تتش علي دمشق: كان تتش قد بعث ابنه دقاقا إلى أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فأقام هنالك إلى أن توفي ملك شاه، فسار معه ابنه محمود وأمه خاتون الجلالية إلى أصبهان. ثم ذهب عنهم سرّا إلى بركيارق ثم لحق بأبيه وحضر معه الواقعة التي قتل فيها. ولما قتل تتش أبوه سار به مولاه تكهن إلى حلب فأقام عند أخيه رضوان، وكان بقلعة من قلاعها ساو تكين الخادم من موالي تتش، ولاه عليها قبل موته فبعث إلى دقاق يستدعيه للملك فسار إليه، وبعث رضوان في طلبه فلم يدركه. ووصل دمشق، وكتب إليه باغيسيان صاحب أنْطاكِية يشير عليه بالاستبداد بدمشق على أخيه رضوان. ووصل معتمد الدولة طغتكين مع جماعة من خواص تتش، وكان قد حضر المعركة وأسر فخلص الآن من الاسار. وجاء إلى دمشق فلقيه دقاق ومال إليه، وحكمه في أمره وداخله في مثل ساوتكين الخادم فقتلوه. ووفد عليهم باغيسيان من أنْطاكِية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي فأكرمهما واستوزر الخوارزمي وحكمه في دولته. الفتنة ببن دقاق أخيه رضوان: ثم سار رضوان إلى دمشق سنة تسعين وأربعمائة قاصداً انتزاعها من يد دقاق فامتنعت عليه فعاد إلى مالس، وقصد الورس فامتنعت عليه فعاد إلى حلب، وفارقه باغيسيان صاحب أنْطاكِية إلى أخيه دقاق، وحض على المسير إلى أخيه بحلب فسار لذلك. واستنجد رضوان
سكمان من سروج في أمم من التركمان. ثم كان اللقاء بقنسرين فانهزمت عساكر دقاق ونهب سوادهم، وعاد رضوان إلى حلب. ثم سعى بينهما في الصلح على أن يخطب لرضوان بدمشق وأنْطاكِية قبل دقاق فانعقد ذلك بينهما. ثم لحق جناح الدولة بحمص عندما عظمت فيه سعاية المجن كما ذكرناه. وكان باغيسيان منافرا له. فلما فصل من حلب جاء باغيسيان إلى رضوان وصالحه. ثم بعث إلى رضوان المستعلي خليفة العلويين بمصر يعده بالامداد على أخيه، على أن يخطب له على منابره، وزين له بعض أصحابه صحة مذهبهم فخطب له في جميع أعماله سوى أنْطاكِية والمعّرة وقلعة حلب. ثم وفد عليه بعد شهرين من هذه الخطب سكمان بن أرتق صاحب سروج وباغيسيان صاحب أنْطاكِية فلم يقم بها غير ثلاث، حتى وصل الإفرنج فحاصروه وغلبوه على أنْطاكِية وقتلوه كما مر في خبره.
استيلاء دقاق علي الرحبة: كانت الرحبة بيد كربوقا صاحب الموصل فلما قتل كما مرّ في خبره استولى عليها قائما من موالي السلطان البارسلان، فسار دقاق بن تتش ملك دمشق وأتابكه طغركين إليها سنة خمس وتسعين، وحاصروها فامتنعت عليهم فعادوا عنها. وتوفي قانمار صاحبها في صفر سنة ست وتسعين، وقام بأمرها حسن من موالي الأتراك فطمع في الاستبداد، وقتل جماعة من أعيان البلد، وحبس آخرين. واستخدم جماعة من الجند، وطرد آخرين. وخطب لنفسه لسار دقاق إليه وحاصره في القلعة حتى استأمن، وخرج إليه وأقطعه بالشام اقطاعات كثيرة، وملك الرحبة وأحسن إلى أهلها وولى عليهم ورجع إلى دمشق، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق لا رب غيره. وفاة دقاق وولاية أخيه تلتاش ثم خلعه: ثم توفي دقاق صاحب دمشق سنة سبع وتسعين واستقلّ أتابكه طغركين بالملك وخطب لنفسه سنة، ثم قطع خطبته وخطب لتلتاش أخي دقاق صبياً مراهقا، وخّوفته أمه من طغركين بزواجه أم دقاق، وأنه يميل إلى ابن دقاق من أجل جدته فاستوحش وفارق دمشق إلى بعلبك في صفر سنة ثمان وتسعين، ولحقه ايتكين الحلبي صاحب بصرى، وكان ممن حسن له ذلك فعاث في نواحي خوارزم، ولحق به أهل الفساد، وراسلا هدويل ملك الإفرنج فأجابهما بالوعد، ولم يوف لهما فسار إلى الرحبة واستولى عليها تلتاش. وقيل إن تلتاش لما استوحش منه طغركين
من دخول البلد مضى إلى حصون له، وأقام بها. ونصب طغركين الطفل ابن دقاق، وخطب له واستبد عليه، وأحسن إلى الناس واستقام أمره، والله تعالى ولي التوفيق وهو نعم الرفيق.
حروب الإفرنج الحرب بين طغركين والإفرنج أشهراً كان قمص من قمامصة الإفرنج على مرحلتين من دمشق فلج بالغارات على دمشق، فجمع طغركين العساكر وسار إليه وجاء معرون ملك القدس وعكا من الإفرنج بإنجاد القمص فأظهر الغنية عليه وعاد إلى عكا، وقاتل طغركين القمص فهزمه وأحجزه بحصنه. ثم حاصره حتى ملك الحصن عنوة وقتل أهله وأسر جماعته، وعاد إلى دمشق ظافرا غانما. ثم سار إلى حصن رمسة من حصون الشام، وقد ملكه الإفرنج، وبه ابن أخت سميل المقيم على طرابلس يحاصرها فحاصر طغركين حصن رمسة، حتى ملكه وقتل اهله من الإفرنج وخرّبه، والله أعلم. مسير رضوان صاحب حلب لحصار نصيبين: ثم إن رضوان صاحب حلب اعتزم على غزو الإفرنج، واستدعى الأمراء من النواحي لذلك فجاءه أبو الغازي بن أرتق الذي كان شحنة ببغداد وأصفهان وصباوو، وألبي بن أرسلان ماش صاحب سنجار، وهو صهر جكرمش في صاحب الموصل. وأشار أبو الغازي بالمسير إلى بلاد جكرمش للاستكثار بعسكرها وأموالها، ووافقه ألي وساروا إلى نصيبين في رمضان سنة تسع وتسعين وأربعمائة فحاصرها، وفيها أميران من قبل جكرمش واشتد الحصار، وجرح ألي بن أرسلان بسهم أصابه فعاد إلى سنجار، وأجفل أهل السواد إلى الموصل، وعسكر جكرمش بظاهرها معتزما على الحرب. ثم كاتب أعيان العسكر، وحثهم على رضوان. وأمم أصحابه بنصيبن بإظهار طاعه، وطلب الصلح معه. وبعث إلى رضوان بذلك والامداد بما يشاؤه على أن يقبض على أبي الغازي فمال إلى ذلك، واستدعى أبا الغازي فخبره أن المصلحة في صلح
جكرمش ليستعينوا به في غزو الإفرنج وجمع شمل المسلمين فجاوبه أبو الغازي بالمنع من ذلك. ثم قبض عليه وقيده فانتقص التركمان ولجأوا إلى سور المدينة، وقاتلوا رضوان. وبعث رضوان بأبي الغازي إلى نصيبين فخرجت منه العساكر لامداده، فافترق منها التركمان، ونهبوا مما قدروا عليه. ورحل رضوان من وقته إلى حلب. وانتهى الخبر إلى جكرمش بتلّ أعفر، وهو قاصد حرب القوم فرحل عند ذلك إلى سنجار، وبعث إليه رضوان في الوفاء بما وعده من النجدة فلم يف له. ونازل صهره ألبي بن أرسلان بسنجار، وهو جريح من السهم الذي أصابه على نصيبين فخرج إليه ألبي محمولا. واعتذر إليه فأعتبه وأعاده إلى بلده فمات وامتنع أصحابه بسنجار، رمضان وشوالا. ثم خرج إليه عم ألي وصالح جكرمش وعاد إلى الموصل، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه. استيلاء الإفرنج علي افامية: كان خلف بن ملاعب الكلابي في حمص، وملكها مه تاج الدولة تتش فسار إلى مصر واقام بها. ثم بعث صاحب افامية من جهة رضوان بن تتش بطاعته إلى صاحب مصر العلوي، فبعث إليها ابن ملاعب وملكها وخلع طاعة العلوية، وأقام يخيف السبيل كما كان في حمص فلما ملك الإفرنج سرمين لحق به قاضيها وكمان على مذهب الرافضة فكتب إلى ابن الطاهر الصائغ من أكابر الغلاة، ومن أصحاب رضوان، وداخلهم في الفتك بابن فلاعب. ونمي الخبر إليه من أولاده فحلف له القاضي بما اطمأن إليه، وتحيل مع ابن الصانع في جند من قبلهم يستأمنون إلى ابن ملاعب، ويعطونه خيلهم وسلاحهم ويقيمون للجهاد معه ففعلوا، وأنزلهم بربض أفامية. ثم بيته القاضي ليلا بمن معه من أهل سرمين، ورفع أولئك الجند من الربض بالحبال، وقتلوا ابن ملاعب في بيته وقتلوا معه ابنه، وفر الآخر إلى أبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر.وجاء الصانع من حلب إلى القاضي فطرده، واستبد بأفامية. وكان بعض أولاد ابن ملاعب عند طغركين، وولاه حماية بعض الحصون فعظم ضرره، فطلب طغركين فهرب إلى الإفرنج وأغراهم بأفامية، ودلهم على عورتها، وعدم الأقوات فيها فحاصروها شهرا وملكوها عنوة، وقتلوا القاضي والصانع، وذلك سنة تسع وتسعين. وقد ذكرنا قبل أن الصانع قتله ابن بديع أيام تتش صاحب حلب إثر مهلك رضوان، فالله أعلم أيهما الصحيح. ثم ملك صاحب
أنْطاكِية من الإفرنج حصن الإمارة بعد حصار طويل فملكه عنوة واستلحم أهله، وفعل في ذريته مثل ذلك. ورحل أهل منبج وبالس وتركوهما خاويين، وملكوا حيد بالأمان. وطلب الإفرنج من أهل الحصون الإسلافية الجزية فأعطوهم ذلك على ضريبة فرضوها عليهم، فكان على رضوان في حلب وأعمالها ثلاثون ألف دينار، وعلى صور سبعة آلاف، وعلي ابن منقذ في شيزر أربعة آلأف، وعلى حماة ألفا دينار وذلك سنة خمس وخمسمائة.
استيلاء طغركين علي بممرى: قد تقدم لنا سنة سبع وتسعين حال تلتاش بن تتش، والخطبة له بعد أخيه دقاق، وخروجه من دمشق واستنجاده الإفرنج. وأن الذي تولى كبر ذلك كله اسكين الحملي صاحب بصرى فسار طغركين آخر المائة الخامسة إلى بصرى، وحاصرها حتى أذعنوا ا وضربوا له أجلا للفرنج، فعاد إلى دمشق حتى انقضى الأجل فآتوه طاعتهم، وملك البلد وأحسن إليهم، والله تعالى ولى التوفيق لا رب غيره . غزو طغركين وهزيمته: ثم سار طغركين سنة اثنتين وخمسمائة إلى طبرية، ووصل إليها ابن أخت بغدوين ملك القدس من الإفرنج فاقتتلوا فانهزم المسلمون أوّلا، فنزل طغركين ونادى بالمسلمين فكروا وانهزم الإفرنج وأسر ابن أخت بغدوين. وعرض طغركين عليه الإسلام فامتنع فقتله بيده وبعث بالأسرى إلى بغداد. ثم انعقد الصلح بين طغركين وبغدوين بعد أربع سنين. وسار بعدها طغركين إلى حصن غزة في شعبان من السنة. وكان ليدمولى القاضي فخر الملك ثم علي بن عمار صاحب طرابلس فعصى عليه وحاصره الإفرنج، وانقطعت عنه الميرة فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق أن يمكنه من الحصن، فأرسل إليه إسرائيل من أصحابه فملك الحصن، وقتل صاحبه مولى بن عمار غيلة ليستأثر بمخلفه، فانتظر طغركين دخول الشتاء وسار إلى الحصن لينظر في أمره. وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فلما سمع بوصول طغركين حصن الأكمة أغذ السير إليه فهزمه، وغنم سواده- ولحق طغركين بحمص ونازل السرداني غزة فاستأمنوا إليه وملكها، وقبض على اسرائيل فادى به أسيراً كان لهم بدمشق منذ سبع سنين، ووصل طغركين
إلى دمشق. ثم قصد ملك الإفرنج رمسة من أعمال دمشق فملكها وشحنها بالأقوات والحامية، فقصدها طغركين بعد أن نمي إليه الخبر بضعف الحامية الذين بها فكبسها عنوة، وأسر الإفرنج الذين بها والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتقاض طغركين علي السلطان محمد: كان السلطان محمد بن ملك شاه قد أمر مودود بن بوشكين صاحب الموصل بالمسير لغزو الإفرنج، لأن ملك القدس تابع الغارات على دمشق سنة ست وخمسمائة، واستصرخ طغركين بمودود فجمع العساكر، وسار سنة تسع. ولقيه طغركين بسهلة وقصدوا القدس وانتهوا إلى الانحوانة على الأردن وجاء بغدولن فنزل قبالتهما على النهر، ومعه جوسكين صاحب جيشه، واقتتلوا منتصف محرم سنة عشر على بحيرة طبرية فانهزم الإفرنج، وقتل منهم كثير، وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الأردن. ولقيتهم عساكر طرابلس وأنْطاكِية فاشتدوا وأقاموا بجبل قرب طبرية، وحاصرهم المسلمون فيه. ثم يئسوا من الظفر به فساحوا في بلادهم واكستحوها وخربوها، ونزلوا مرج الصفر . وأذن مودود للعساكر في العود والراحة ليتهيأوا للغزو. وسلخ الشتاء ودخل دمشق آخر ربيع من سنة ليقيهم عند طغركين تلك المدة. وصلى معه أول جمعة، ووثب عليه باطني بعد الصلاة فطعنه، ومات آخر يومه واتهم طغركين بقتله، وولى السلطان مكانه على الموصل أقسنقر البرسقي فقبض على أياز بن أبي الغازي وأبيه صاحب حصن كيفا، فسار بنو أرتق إلى البرسقي وهزموه، وتخلص أياز من أسره فلحق أبو الغازي أبوه بطغركين صاحب دمشق، وأقام عنده. وكان مستوحشا من السلطان محمد لاتهامه بقتل مودود فبعث إلى صاحب أنْطاكِية من الإفرنج، وتحالفوا على المظاهرة، وقصد أبو الغازي ديار بكر فظفر به قيرجان بن قراجا صاحب حمص وأسره. وجاء طغركين لاستنقاذه فحلف قيرجان ليقتلنه إن لم يرجع طغركين إلى بلاده. وانتظر وصول العساكر من بغداد تحمله فأبطأت فأجاب طغركين إلى اطلاقه. ثم بعث السلطان حمد العساكر لجهاد الإفرنج والبداءة بقتال طغركين وابي الغازي فساروا في رمضان سنة ثمان وخمسمائة، ومقدمتهم برسق بن برسق صاحب همذان، وانتهوا إلى حلب، وبعثوا إلى متوليها لؤلؤ الخادم، ومقدم عسكرها شمس الخواص يأمرونهما بالنزول عنها. وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك فدافعا بالوعد، واستحثا طغركين
وأبا الغازي في الوصول فوصلا في العساكر، وامتنعت حلب على العساكر، وأظهروا العميان فسار برسق إلى حماة، وهي لطغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا. وسألهما الأميرة قيرجان صاحب حمص الصلح، وكان جميع ما يفتحه من البلاد له بأمر السلطان فانتقض الأمراء من ذلك وكسلوا عن الغزو. وسار أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص إلى أنْطاكِية يستنجدون صاحبها دجيل من الإفرنج. ثم توادعوا إلى انصرام الشتاء، ورجع أبو الغازي إلى ماردين وطغركين إلى دمشق. ثم كان في اثر ذلك هزيمة المسلمين. واستشهد برسق وأخوه زنكي، وقد تقدم خبر هذه الهزيمة في أخبار البرسقي. ثم قدم السلطان محمد بغداد فوفد عليه أتابك طغركين صاحب دمشق في ذي القعدة من سنة تسع مستعينا فأعانه وأعاده إلى بلده، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة رضوان بن تتش صاحب حلب وولاية ابنه ألب أرسلان: ثم توفي رضوان بن تتش صاحب حلب سنة تسح وخمسمائة، وقد كان قتل أخويه أبا طالب وبهرام ، وكان يستعين بالباطنية في أموره ويداخلهم. ولما توفي بايع مولاه لؤلؤ الخادم لابنه ألبارسلان صبياً مغتلماً ، وكانت في لسانه حبسة فكان يلقب الأخرس. وكان لؤلؤ مستبداً عليه، ولأول ملكه قتل أخويه، وكل ملك شاه منهما شقيقه. وكانت الباطنية كثيراً في حلب في أيام رضوان حتى خافهم ابن بديع واعيانها فلفا توفي أذن لهم ألب أرسلان في الإيقاع بهم، فقبضوا على مقدمهم ابن طاهر الصائغ وجماعة من أصحابهم فقتلوهم وافترق الباقون. مهلك لؤلؤ الخادم واستيلاء أبي الغازي ثم مقتل ألب أرسلان وولاية أخيه سلطان شاه: كان لؤلؤ الخادم قد استولى على قلعة حلب، وولىّ أتابكية ألب أرسلان ابن مولاه رضوان. ثم تنكر له فقتله لؤلؤ ونصب في الملك أخاه سلطان شاه واستبد عليه. فلما كان سنة إحدى عشرة سار إلى قلعة جعفر للاجتماع بصاحبها سالم بن مالك، فغدر به مماليكه الأتراك وقتلوه عند خرتبرت وأخذوا خزائنه. واعترضهم أهل حلب فاستعادوا منهم ما أخذوه. وولى أتابكية سلطان شاه ابن رضوان شمس الخواص بارقياس ، وعزل لشهر، وولي بعده أبو المعالي بن
الملحي الدمشقي. ثم عزل وصودر واضطربت الدولة، وخاف أهل حلب من الإفرنج فاستدعوا ابا الغازي بن أرتق وحكموه على أنفسهم. ولم يجد فيها مالأ فصادر جماعة الخدم، وصانع بمالهم الإفرنج حتى صار إلى ماردين بنية العود إلى حمايتها، واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش، وانقرض ملك رضوان بن تتش من حلب والله سبحانه وتعالى أعلم.
هزيمة طغركين أمام الإفرنج: كان ملك الإفرنج بغدوين صاحب القدس قد توفي سنة اثنتي عشرة، وقام بملكهم بعده القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمس واطلقه جاولي كما تقدم في اخبارهم. وبعث إلى طغركين في المهادنة. وكان قد سار من دمشق لغزوهم فابى من إجابته، وسار إلى طبرية فنهبها، واجتمع بقواد المصريين في عسقلان، وقد أمرهم صاحبهم بالرجوع إلى رأي طغركين. ثم عاد إلى دمشق وقصد الإفرنج حصنا من اعماله فاستأمن إليهم أهله وملكوه. ثم قصدوا أذرعات فبعث طغركين ابنه بوري لمدافعتهم فتنحوا عن أذرعات إلى جبل هناك. وحاصرهم بوري، وجاء إليه أبو طغركين فراسلوه ليفرج عنهم فابى طمعا في أخذهم، واستماتوا وحملوا على المسلمين حملة صادقة فهزموهم ونالوا منهم. ورجع الفل إلى دمشق. وسار طغركين إلى أبي الغازي بحلب يستنجده فوعده بالنجدة وسار إلى ماردين للحشد ورجع طغركين إلى دمشق كذلك وتواعدوا للجبال وسبق الإفرنج إلى حلب وكان بينه وبين ابي الغازي ما نذكره في موضعه من دولة بني أرتق والله سبحانه تعالى وليّ التوفيق لا ربّ غيره. منازلة الإفرنج دمشق ثم اجتمع الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة ملوكهم وقمامصتهم وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر. وبعث أتابك طغركين بالصريخ إلى تركمان بديار بكر وغيرها وخيم قبالة الإفرنج واستخلف ابنه بوري على دمشق ثم ناجزهم الحرب آخر السنة فاشتد القتال وصرع طغركين عن فرسه فانهزم المسلمون وركب طغركين واتبعهم ومضت خيالة الإفرنج في اتباعهم وبقي رجالة التركمان في المعركة. فلما خلص إليهم رجالة الإفرنج اجتمعوا واستماتوا وحملوا على رجالة الإفرنج فقتلوهم، ونهبوا معسكرهم وعادوا غانمين ظافرين إلى دمشق. ورجعت خيالة الإفرنج من اتباعهم منهزمين فوجدوا معسكرهم منهوبا ورجالتهم قتلى وكان ذلك من الصنع الغريب.
تاريخ ابن خلدون المجلد الخامس صفحة 179 حتى صفحة 342
وفاة طغركين وولاية ابنه بوري ثم توفي أتابك طغركين صاحب دمشق في صفر سنة اثنتين وعشرين وكان من موالي تاج الدولة تتش وكان حسن السيرة مؤثرا للعدل محبا في الجهاد ولقبه ظهير الدين ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الدولة بوري أكبر أولاده بعهده إليه بذلك وأقر وزير أبيه أبي علي طاهر بن سعد المزدغاني على وزارته وكان المزدغاني يرى رأي الرافضية الإسماعيلية وكان بهرام ابن أخي إبراهيم الاستراباذي لما قتل عمه إبراهيم ببغداد على هذا المذهب لحق بالشام وملك قلعة بانياس ثم سار إلى دمشق وأقام بها خليفة يدعو إلى مذهبه. ثم فارقها وملك القدموس وغيره من حصون الجبال، وقابل البصرية والدرزة بوادي التيم من أعمال بعلبك سنة اثنتين وعشرين. وغلبهم الضحاك وقتل بهرام. وكان المزدغاني قد أقام له خليفة بدمشق يسمى أبا الوفاء فكثر اتباعه وتحكم في البلد وجاء الخبر إلى بوري بأن وزيره المزدغاني والاسماعيلية قد راسلوا الإفرنج بأن يملكوهم دمشق فجاء إليها، وقتل المزدغاني ونادى بقتل الإسماعيلية وبلغ الخبر إلى الإفرنج فاجتمع صاحب القدس وصاحب أنْطاكِية وصاحب طرابلس وسائر ملوك الإفرنج وساروا لحصار دمشق. واستصرخ تاج الملك بالعرب والتركمان وجاء الإفرنج في ذي الحجة من السنة وبثوا سراياهم للنهب والاغارة ومضت منها سرية إلى خوارزم فبعث تاج الدولة بوري سرية من المسلمين مع شمس الخواص من أمرائه لمدافعتهم فلقوهم وظفروا بهم واستلحموهم وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا منهزمين وأحرقوا مخلفهم واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون والله تعالى ولي التوفيق. أسرتاج الملك لدبيس بن صدقة وتمكين عماد الدين زنكي منه كان بصرخد من أرض الشام أميرا عليها فتوفي سنة خمس وعشرين وخلف سريته واستولت على القلعة، وعلمت أنه لا يتم لها استيلاؤها إلا بتزويج رجل من أهل العصابة فوصف لها دبيس فكتبت إليه تستدعيه وهو على البصرة منابذا للسلطان عندما
رجع من عند سنجر فاتخذ الأدلاء وسار إلى صرخد فضل به الدليل بنواحي دمشق ونزل على قوم من بني كلاب شرقي الغوطة فحملوه إلى تاج الملك فحبسه وبعث به إلى عماد الدين زنكي يستدعيه ويتهدده على منعه وأطلق سريج بن تاج الملوك والأمراء الذين كانوا مأسورين معه فبعث تاج الملك بدبيس إليه وأشفق على نفسه. فلما وصل إلى زنكي خالف ظنه وأحسن إليه وسد خلته وبسط أمله. وبعث فيه المسترشد أيضاً بطلبه وجاء فيه الأنباري وسمع في طريقه بإحسان زنكي إليه فرجع، ثم أرسل المسترشد يشفع فيه فأطلق.
وفاة تاج الملوك بوري صاحب دمشق وولاية ابنه شمس الملوك إسمعيل كان تاج الملوك بوري قد ثار به جماعة من الباطنية سنة خمس وعشرين، وطعنوه فأصابته جراحة واندملت. ثم انتقضت عليه في رجب من سنة ست وعشرين لأربع سنين ونصف من إمارته وولي بعده ابنه شمس الملوك إسمعيل بعهده إليه بذلك. وكان عهد بمدينة بعلبك وأعمالها لابنه الآخر شمس الدولة وقام بتدبير أمره الحاجب يوسف ابن فيروز شحنة دمشق وأحسن إلى الرعية وبسط العدل فيهم والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء شمس الملوك علي الحصون ولما تولى شمس الملوك إسمعيل وسار أخوه محمد إلى بعلبك خرج اليها وحاصر أخاه محمدا بها، وملك البلد. واعتصم محمد بالحصن وسأل الابقاء فأبقي عليه ورجع إلى دمشق. ثم سار إلى باشاش ، وقد كان الإفرنج الذين بها نقضوا الصلح وأخذوا جماعة من تجار دمشق في بيروت فسار إليها طاويا وجه مذهبه، حتى وصلها في صفر سنة سبع وعشرين وقاتلها ونقب أسوارها وملكها عنوة، ومثل بالافرنج الذين بها. واعتصم فقهم بالقلعة حتى استأمنوا، وملكها ورجع إلى دمشق. ثم بلغه انّ المسترشد زحف إلى الموصل طمع هو في حماة وسار آخر رمضان وملكها يوم الفطر من غده فاستأمنوا إليه وملكها واستولى على ما فيها. ثم سار إلى قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحاصرها، وصانعه صاحبها بمال حمله إليه فأفرج عنه وسار إلى دمشق في ذي القعدة من السنة. ثم سار في محرم سنة ثمان وعشرين إلى حصن شقيق في الجبل المطل على بيروت وصيدا، وبه الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه وامتنع به وتحاماه المسلمون والافرنج يحتمي من كل طائفة بالأخرى فسار إليه وملكه من وقته وعظم ذلك على الإفرنج فساروا إلى حوران وعاثوا في نواحيها فاحتشد هو واستنجد بالتركمان، وسار حتى نزل قبالتهم وجهز العسكر هنالك وخرج في البرّ وأناخ على طبرية وعكا فاكتسح نواحيها وامتلأت أيدي عسكره بالغنائم والسبي. وانتهى الخبر إلى الإفرنج بمكانهم من بلاد حوران فأجفلوا إلى بلادهم، وعاد هو إلى دمشق وراسله الإفرنج في تجديد الهدنة فهادنهم. مقتل شمس الملوك وولاية أخيه شهاب الدين محمود كان شمس الملوك سيء السيرة كثير الظلم والعدوان على رعيته مرهف الحد لأهله وأصحابه، حتى إنه وثب عليه بعض مماليك جده سنة سبع وعشرين وعلاه بالسيف ليقتله فأخذ وضرب فأقر على جماعة داخلوه فقتلهم وقتل معهم أخاه سونج فتنكر الناس له، وأشيع عنه بأنه كاتب عماد الدين زنكي ليملكه دمشق واستحثه في الوصول لئلاً يسلم البلد إلى الإفرنج فسار زنكي فصدق الناس الإشاعة وانتقض أصحاب أبيه لذلك، وشكو لامّه فأشفقت ثم تقدمت إلى غلمانه بقتله فقتلوه في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين، وقيل أنه اتهم أمه بالحاجب يوسف بن فيروز فاعتزم على قتلها فهرب يوسف، وقتلته أمه. ولما قتل ولي أخوه شهاب الدين محمود من بعده، ووصل أتابك زنكي بعد مقتله فحاصر دمشق من ميدان الحصار، وجدوا في مدافعته والامتناع عليه. وقام في ذلك معين الدين أنز مملوك جده طغركين مقاماً محمودا وجفى في المدافعة والحصار. ثم وصل رسول المسترشد أبو بكر بن بهثر الجزري إلى أتابك زنكي يأمره بمسالمة صاحب دمشق الملك ألب ارسلان شهاب الدين محمود، وصلحه معه فرحل عن دمشق منتصف السنة. استيلاء شهاب الدين محمود على حمص: كانت حمص لقيرجان بن قراجا ولولده من بعده والموالي بها من قبلهما، وطالبهم عماد الدين زنكي في تسليمها، وضايقهم في نواحيها فراسلوا شهاب الدين صاحب دمشق في أن يملكها ويعوضهم عنها بتدمر ؛ فأجاب واستولى على حمص، وسار إليها سنة ثلاثين وأقطعها لمملوك جده معين الدين أنز، وأنزل معه حامية من عسكره ورجع إلى دمشق واستأذنه الحاجب يوسف بن
فيروز في العود من تدمر إلى دمشق وقد كان هرب إليها كما قدمناه. وكان جماعة من الموالي منحرفين عنه بسبب ما تقدم في مقتل سونج فنكروا ذلك فلاطفهم ابن فيروز واسترضاهم، وحلف لهم أنه لا يتولى شيئا من الأمور. ولما دخل رجع إلى حاله فوثبوا عليه وقتلوه، وخيموا بظاهر دمشق واشتطوا في الطلب فلم يسعفوا بكلمة فلحقوا بشمس الدولة محمد بن تاج الملوك في بعلبك، وبثوا السرايا إلى دمشق فعاثت في نواحيها حتى أسعفهم شهاب الدين بكل ما طلبوه فرجعوا إلى ظاهر دمشق، وخرج لهم شهاب الدين وتحالفوا ودخلوا إلى البلد. وولى مرواش كبيرهم على العساكر، وجعل إليه الحل والعقد في دولته والله أعلم.
استيلاء عماد الدين زنكي على حمص وغيرها من أعمال دمشق ثم سار أتابك زنكي إلى حمص في شعبان سنة إحدى وثلاثين، وقدم إليه حاجبه صلاح الدين الباغيسياني وهو أكبر أمرائه مخاطبا واليها معين الدين أنز في تسليمها فلم بفعل. وحاصرها فامتنعت عليه فرحل عنها آخر شوال من السنة. ثم سار سنة اثنتين وثلاثين إلى نواحي بعلبك فملك حصن المحولي على الأمان، وهو لصاحب دمشق. ثم سار إلى حمص وحاصرها، وعاد ملك الروم إلى حلب فاستدعى الفرنج، وملك كثيراً من الحصون مثل عين زربة وتل حمدون ، وحاصر أنْطاكِية ثم رجع وأفرج أتابك زنكي حلال ذلك عن حمص. ثم عاود منازلتها بعد مسير الروم وبعث إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه مرد خاتون ابنة جاولي طمعاً في الاستيلاء على دمشق فزوجها له، ولم يظفر بما أمله من دمشق. وسلموا له حمص وقلعتها، وحملت إليه خاتون في رمضان من السنة والله أعلم. مقتل شهاب الدين محمود وولاية أخيه محمد: لما قتل شهاب الدين محمود في شوال سنة ثلاث وثلاثين، إغتاله ثلاث من مواليه في مضجعه بخلوته وهربوا فنجا واحد منهم وأصيب الآخران، كتب معين الدين أنز إلى أخيه شمس الدين محمد بن بوري صاحب بعلبك بالخير فسارع ودخل دمشق، وتبعه الجند والأعيان وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنز مملوك جده وأقطعه بعلبك واستقامت أموره
. استيلاء زنكي على بعلبك وحصاره دمشق ولما قتل شهاب الدين محمود وبلغ خبره إلى أمه خاتون زوجة أتابك زنكي بحلب عظم جزعها عليه، وأرسلت إلى زنكي بالخبر، وكان بالجزيرة، وسألت منه الطلب بثأر ابنها فسار إلى دمشق، واستعدوا للحصار فعدل إلى بعلبك. وكانت لمعين الدين أنز كما قلناه، وكان أتابك زنكي دس إليه الأموال ليمكنه من دمشق فلم يفعل فسار إلى بلده بعلبك، وجد في حربها ونصب عليها المجانيق حتى استأمنوا إليه، وملكها في ذي الحجة آخر سنة ثلاث وثلاثين. واعتصم جماعة من الجند بقلعتها ثم استأمنوا فقتلهم وأرهب الناس بهم. ثم سار إلى دمشق وبعث إلى صاحبها في تسليمها والنزوك عنها على أن يعوضه عنها فلم يجب إلى ذلك، فزحف إليها ونزل داريا منتصف ربيع الأول سنة أربع وثلاثين. وبرزت إليه عساكر دمشق فظفر بهم وهزمهم ونزل المصلى، وقاتلهم فهزمهم ثانيا. ثم أمسك عن قتالهم عشرة أيام، وتابع الرسل إليه بأن يعوضه عن دمشق ببعلبك أو حمص أو ما يختاره فمنعه أصحابه، فعاد زنكي إلى القتال واشتد في الحصار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. وفاة جمال الدين بن بوري وولاية ابنه مجير الدين أنز: ثم توفي جمال الدين محمد بن بوري صاحب دمشق رابع شعبان سنة أربع وثلاثين وزنكي محاصر بها، وهو معه في مراوضة الصلح وجمع زنكي فيما عساه أن يقع بين الأمراء من الخلاف فاشتد في الزحف فما وهنوا لذلك، وولوا من بعد جمال الدين محمداً ابنه مجير الدين أنز وأقام بتربيته وتدبير دولته معين الدين أنز مدبر دولته.وأرسل إلى الإفرنج يستنجدهم على مدافعة زنكي على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم إياها فأجابوا إلى ذلك حذراً من استطالة زنكي بملك دمشق، فسار زنكي للقائهم قبل إتصالهم بعسكر دمشق ونزل حوران في رمضان من السنة فخام الإفرنج عن لقائه، وأقاموا ببلادهم فعاد زنكي إلى حصار دمشق في شوال من السنة، ثم أحرق قرى المرج والغوطة ، ورحل عائدا إلى بلده. ثم وصل الإفرنج إلى دمشق بعد رحيله فسار معهم معين الدين أنز إلى قاشاش من ولاية زنكي ليفتحها ويعطيها للافرنج كما عاهدهم عليه، وقد كان واليها أغار على مدينة صور، ولقيه في طريقه صاحب
أنْطاكِية وهو قاصد إلى دمشق لإنجاد صاحبها على زنكي فقتل الوالي ومن معه من العسكر، ولجأ الباقون.إلى قاشاش، وجاء معين الدين أنز أثر ذلك في العساكر فملكها وسلمها للافرنج. وبلغ الخبر إلى أتابك زنكي فسار إلى دمشق بعد أن فرق سراياه وبعوثه على حوران وأعمال دمشق، وسار هو متجردا إليها فصبحها وخرج العسكر لقتاله فقاتلهم عامة يومه. ثم تأخر ا إلى مرج راهط وانتظر بعوثه حتى وصلوا إليه، وقد امتلأت أيديهم بالغنائم، ورحل عائدا إلى بلده.
مسير الإفرنج لحصار دمشق كان الإفرنج منذ ملكوا سواحل الشام ومدنه، تسير إليهم أمم الإفرنج من كل ناحية من بلادهم مددا لهم على المسلمين لما يرونه من تفرد هؤلاء بالشام بين عدوهم. وسار في سنة ثلاث وأربعين ملك الالمان من أمراء الإفرنج من بلاده في جموع عظيمة قاصدا بلاد الإسلام لا يشك في الغلب والإستيلاء، لكثرة عساكره وتوفر عدده وأمواله. فلما وصل الشام اجتمع عليه عساكر الإفرنج الذين له ممتثلين أمره فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق، فساروا لذلك سنة ثلاث وأربعين وحاصروها، فقام معين الدين أنز في مدافعتهم المقام المحمود. ثم قاتلهم الإفرنج سادس ربيع الأول من السنة فنالوا من المسلمين بعد الشدة والمصابرة، واستشهد ذلك اليوم الفقيه حجة الدين يوسف العندلاوي المغربي، وكان عالماً زاهداً. وسأله معين الدين يومئذ في الرجوع لضعفه وسنه فقال له: " قد بعت واشترى مني فلا أقيل ولا أستقيل " يشير إلى آية الجهاد وتقدم حتى استشهد عند أسرت على نصف فرسخ من دمشق. واستشهد معه خلق، وقوي الإفرنج، ونزل ملك الألمان الميدان الأخضر. وكان عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة إحدى وأربعين، وولي ابنه سيف الدين غازي الموصل وابنه نور الدين محمود حلب فبعث معين الدين أنز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده، فجاء لإنجاده ومعه أخوه نور الدين، وانتهوا إلى مدينة حمص. وبعث إلى الإفرنج يتهددهم فاضطروا إلى قتاله، وانقسمت مؤنتهم بين الفريقين، وأرسل معين الدين إلى الألمان يتهددهم بتسليم البلد إلى ملك المشرق يعني صاحب الموصل، وأرسل إلى فرنج الشام يحذرهم من إستيلاء ملك الألمان على دمشق فإنه لا يبقى لكم معه مقام في الشام. ووعدهم بحصن قاشاش فاجتمعوا إلى ملك الألمان وخوفوه من صاحب الموصل أن يملك دمشق فرحل عن البلد، وأعطاهم معين الدين قلعة قاشاش، وعاد ملك الألمان إلى بلاده على البحر المحيط في أقصى الشمال والمغرب. ثم توفي معين الدين أنز مدبر دولة أرتق، والمتغلب عليه سنة أربع وأربعين لسنة من حصار ملك الألمان والله أعلم.
استيلاء نور الدين محمود العادل على دمشق وإنقراض بني تتش من الشام
كان سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة أربع وأربعين، وملك أخوه قطب الدين، وانفرد أخوه الآخر نور الدين محمي بحلب وما يليها. وتجرد لطلب دمشق ولجهاد الإفرنج. واتفق أن الإفرنج سنة ثمان وأربعين ملكوا عسقلان من يد خلفاء العلوية لضعفهم كما مر في أخبار دولتهم. ولم يجد نور الدين سبيلاً إلى إرتجاعها منهم لاعتراض دمشق بينه وبينهم. ثم طمعوا في ملك دمشق بعد عسقلان. وكان أهل دمشق يؤدون إليهم الضريبة فيدخلون لقبضها ويتحكمون فيهم، ويطلقون من أسرى الإفرنج الذين بها كل من أراد الرجوع إلى أهله فخشي نور الدين عليها من الإفرنج، ورأى أنه إن قصدها استنصر صاحبها عليه بالإفرنج، فراسل صاحبها مجير الدين واستماله بالهدايا حتى وثق به، فكان يقريه بأمرائه الذين يجد بهم القوة على المدافعة واحداً واحداً، ويقول له: أن فلاناً كاتبني بتسليم دمشق فيقتله مجير الدين حتى كان آخرهم عطاء بن حافظ السلمي الخادم، وكان شديداً في مدافعة نور الدين فأرسل إلى مجير الدين بمثلها فيه فقبض عليه وقتله. فسار حينئذ نور الدين إلى دمشق بعد أن كاتب الأحداث الذين بها واستمالهم فوعدوه، وأرسل مجير الدين إلى الإفرنج يستنجده من نور الدين على أن يعطيهم بعلبك فأجابوه وشرعوا في الحشد وسبقهم نور الدين إلى دمشق فثار الأحداث الذين كاتبهم وفتحوا له الباب الشرقي فدخل منه وملكها. واعتصم مجير الدين بالقلعة فراسله في النزول عنها، وعوضه مدينة حمص فسار إليها، ثم عوضه عن حمص بالس فلم يرضها. وسار إلى بغداد واختط ا بها داراً قرب النظامية وتوفي بها. واستولى نور الدين على دمشق وأعمالها، واستضافها إلى ملكه حتى حلب. وانقرض ملك بني تتش من الشام والبلاد الفارسية أجمع والبقاء لله وحده، والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه وتعالى
. خريطة
الخبر عن دولة قطلمش وبنيه ملوك قونية وبلاد الروم من السلجوقية ومبادىء أمورهم وتصاريف أحوا لهم
كان قطلمش هذا من عظماء أهل هذا البيت ونسبه فيهم مختلف، فقيل قطلمش بن بيقو، وابن الأثير تارة يقول قطلمش ابن عم طغرلبك، وتارة يقول قطلمش بن اسرائيل من سلجوق، ولعله بيان ذلك الاجمال. ولما انتشر السلجوقية في البلاد طالبيين للملك، دخل قطلمش هذا إلى بلاد الروم وملك قونية وأقصرا ونواحيهما، وبعثه السلطان طغرلبك بالعساكر مع قريش بن
بدران صاحب الموصل، في طلب دبيس بن مزيد عنده أظهر الدولة العلوية في الحلة وأعمالها، فهزمهم دبيس والبساسيري كمما تقدم في أخبارهم. ثم عصى على السلطان ألب ارسلان بعد طغرلبك وقصد الري ليملكه، وقاتل ألب ارسلان سنة ست وخمسين فانهزم عسكرقطلمش، ووجد بين القتلى فتجمع ألب ارسلان وقعد للعزاء فيه كما تقدم في أخبارهم. وقام بأمره ابنه سليمان وملك قونية وأقصرا وغيرهما من الولاية التي كانت بيد أبيه، وافتتح أنْطاكِية من يد الروم سنة سبعوسبعين وأربعمائة، وقد كانوا ملكوها منذ خمس وخمسين وأربعمائة فأخذها منهم وأضافها إلى ملكه.وقد تقدم خبر ملكه إياها في دولتهم، وكان لمسلم بن قريش صاحب الموصل ضريبة على الروم بأنْطاكِية، فطالب بها سليمان بن قطلمش فامتعض لذلك وأنف منه. فجمع مسلم العرب والتركمان لحصار أنْطاكِية، ومعه جق أمير التركمان، والتقيا سنة ثمان وسبعين. وانحاز جق إلى سليمان فانهزم العرب، وسار سليمان بن قطلمش لحصار حلب فامتنعت عليه، وسألوه الإمهال حتى يكاتب السلطان ملك شاه. ودسوا إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعونه فأغذ السير، واعترضه سليمان بن قطلمش على غير تعبئة فانهزم، وطعن نفسه بخنجر فمات، وغنم تتش معسكره.وملك بعده ابنه قليج ارسلان ، وأقام في سلطانه. ولما زحف الإفرنج إلى سواحل الشام سنة تسعين وأربعمائة جعلوا طريقهم على القسطنطينية فمنعهم من ذلك ملك الروم، حتى شرط عليهم أن يعطوه أنْطاكِية إذا ملكوها فأجابوا لذلك، وعبروا خليج القسطنطينية ومروا ببلاد قليج ارسلان بن سليمان بن قطلمش فلقيهم في جموعه قريباً من قونية فهزموه، وانتهوا إلى بلاد ابن ليون الأرمني فمروا منها إلى أنْطاكِية، وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فاستعد للحصار، وأمر بحفر الخندق فعمل فيه المسلمون يوماً، ثم عمل فيه النصارى الذين كانوا بالبلد من الغد. فلما جاؤا للدخول منعهم وقال: أنا لكم في مخلفكم حتى ينصرف هؤلاء الإفرنج. وزحفوا إليه فحاصروه تسعة أشهر.ثم عدا بعض الحامية من سور البلد عليهم فادخلوهم من بعض مسارب الوادي، وأصبحوا في البلد فاستباحوه، وركب باغيسيان للصلح فهرب، ولقيه حطاب من الأرمن فجاء برأسه إلى الإفرنج، وولى عليها بمشد من زعماء الإفرنج. وكان صاحب حلب وصاحب دمشق قد عزما على النفير إلى أنْطاكِية لمدافعتهم فكاتبهم الإفرنج بالمسالمة، وأنهم لا يعرضون لغير أنْطاكِية فأوهن ذلك من عزائمهم، وأقصروا عن إنجاد باغيسيان. وكان التركمان قد انتشروا في نواحي العراق، وكان كمستكين بن طبلق المعروف أبوه بمالوانشمند، ومعناه المعلم عندهم، قد ملك سيواس من بلاد الروم مما يلي أنْطاكِية.وكان بملطية مما يجاورها متغلب آخر من التركمان، وبينه وبين الوانشمند حروب،
فاستنجد صاحب ملطية عليه الإفرنج، وجاء بيضل من أنْطاكِية سنة ثلاث وتسعين في خمسة آلاف فلقيه ابن الوانشمند وهزمه وأخذه أسيراً. وجاء الإفرنج لتخليصه فنازلوا قلعة أنكورية وهي أنقرة فأخذوها عنوة. ثم ساروا إلى أخرى فيها إسمعيل بن الوانشمند وحاصروها فجمع ابن الوانشمند وقاتلهم، وأكمن لهم وكانوا في عدد كثير. فلما قاتلهم استطرد لهم حتى خرج عليهم الكمين، وكر عليهم فلم يفلت منهم أحد. وسار إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها، وجاءه الإفرنج من أنْطاكِية فهزمهم. استيلاء قليج ارسلان على الموصل كانت الموصل وديار بكر والجزيرة بيد جكرمس من قواد السلجوقية فمنع الحمل وهم بالإنتقاض، فأقطع السلطان الموصل وما معها لجاولي بن سكاوو، والكل من قوادهم، وأمرهم بالمسير لقتال الإفرنج. فسار جاولي وبلغ الخبر لجكرمش فسار من الموصل إلى اربل، وتعاقد مع أبي الهيجاء بن موشك الكردي الهدباي صاحب اربل، وانتهى إلى البواريج فعبر إليه جكرمس دجلة، وقاتله فانهزمت عساكر جكرمس، وبقي جكرمس واقفاً لفالج كان به فأسره جاولي، ولحق الفل بالموصل فنصبوا مكانه ابنه زنكي صبياً صغيراً وأقام بأمره غزغلي مولى أبيه، وكانت القلعة بيده، وفرق الأموال والخيول . واستعد لمدافعة جاولي، وكاتب صدقة بن مزيد والبرسقي شحنة بغداد، وقليج ارسلان صاحب بلاد الروم يستنجدهم، ويعد كلأ منهم بملك الموصل إذا دافعوا عنه جاولي فأعرض صدقة عنه ولم يحتفل بذلك. ثم سار جاولي إلى الموصل وحاصرها وعرض جكرمس للقتل أو يسلموا إليه البلد فامتنعوا، وأصبح جكرمس في بعض أيام حصارها وسمع جاولي بأن قليج ارسلان سار في عساكره إلى نصيبين فأفرج عن الموصل، وسار إلى سنجار وسبق البرسقي إليها بعد رحيل جاولي، وأرسل إلى أهلها فلم يجيبوه بشيء. وعاد إلى بغداد، واستدعى رضوان صاحب دمشق جاولي سكاوو لمدافعة الإفرنج عنه، فساروا إليه. وخرج من الموصل عسكر جكرمس إلى قليج ارسلان بنصيبين فتحالفوا معه، وجاؤا به إلى الموصل فملكها آخر رجب من سنة خمسمائة.وخرج إليه ابن جكرمس وأصحابه وملك القلعة من غزغلي وجلس على التخت وخطب لنفسه بعد الخليفة، وأحسن إلى العسكر، وسار في الناس بالعدل. وكان في جملته إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد
، ومحمد بن جق التركماني صاحب حصن زياد، وهو خرت برت. وكان إبراهيم بن نيال قد ولى تتش على آمد حين ولي ديار بكر، وكانت بيده. وأما خرت برت فكانت بيد القلادروس ترجمان الروم، والرها وأنْطاكِية من أعماله، فملك سليمان بن قطلمش أنْطاكِية. وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر فض حف الفلادروس ، وملك جق خرت برت من يده. وأسلم القلادروس على يد السلطان ملك شاه وأمره على الرها فأقام بها حتى مات. وملكها جق ، هي وما جاورها من الحصون، أورثها ابنه محمدا بعد موته، والله تعالى ولي التوفيق. الحرب بين قليج ارسلان وبين الإفرنج: كان سمند صاحب أنْطاكِية من الإفرنج قد وقعت بينه وبين ملك الروم بالقسطنطينية وحشة واستحكمت. وسار سمند فنهب بلاد الروم وعزم على قصد أنْطاكِية، فاستنجد ملك الروم بقليج ارسلان فأمده بعساكره. وسار مع ذلك الروم فهزموا الإفرنج وأسروهم، ورجع الفل إلى بلادهم بالشام فاعتزموا على قصد قليج ارسلان بالجزيرة فأتاهم خبر مقتله فأقصروا ، والله تعالى ولي التوفيق. مقتل قليج ارسلان وولاية ابنه مسعود: وقد تقدم لنا استيلاء قليج ارسلان على الموصل وديار بكر وأعمالها، وجلوسه على التخت، وإن جاولي سكاوو سار إلى سنجار ثم سار منها إلى الرحبة. وكان قليج ارسلان خب له بها صاحبها محمد بن السباق من بني شيبان بعد مهلك دقاق، وانتقاضه على أبيه. فلما حاصرها جاولي بعث إليه رضوان بن تتش صاحب حلب في النجدة على الإفرنج لما ساروا إلى بلاده، فوعده لإنقضاء الحصار. وجاء رضوان فحضر عنده واشتد الحصار على أهل الرحبة وغدر بعضهم فأدخل أصحاب جاولي ليلا ونهبوها إلى الظهر. وخرج إليه صاحبها محمد الشيباني فأطاعه ورجع عنه.وبلغ الخبر إلى قليج ارسلان فسار من الموصل لحرب جاولي، واستخلف عليها ابنه ملك شاه صبياً صغيراً مع أمير يدبره. فلما إنتهى إلى الخابور هرب عنه إبراهيم بن نيال صاحب آمد ولحق ببلده. واعتزم قليج ارسلان على المطاولة، واستدعى عسكره الذين أنجدهم ملك الروم على الإفرنج فجاؤا إليه، واغتنم جاولي قلة عسكره فلقيه آخر القعدة من السنة، واشتدت الحرب. وحمل قليج ارسلان على جاولي بنفسه. وصرع صاحب الراية وضرب جاولي بسيفه. ثم حمل أصحاب جاولي عليه فهزموه، وألقى نفسه في الخابور فغرق.
وسار جاولي إلى الموصل فملكها، وأعاد خطبة السلطان محمد. وبعث إليه ملك شاه بن قليج ارسلان وولى مكان قليج ارسلان في قونية وأقصرا وسائر بلاد الروم ابنه مسعود، واستقام له ملكها.
استيلاء مسعود بن قليج ارسلان على ملطية وأعمالها: كانت ملطية وأعمالها وسيواس لابن الوانشمند من التركمان كما مر وكانت بينه وبينهم حروب وهلك كمستكين بن الوانشمند وولي مكانه ابنه محمد. واتصلت حروبه مع الإفرنج كما كان أبوه معهم. ثم هلك سنة سبع وثلاثين فاستولى مسعود بن قليج ارسلان على الكثير منها وبقي الباقي بيد أخيه باغي ارسلان بن محمد. وفاة مسعود بن قليج وولاية ابنه قليج أ رسلان: ثم توفي مسعود بن قليج ارسلان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وملك مكانه ابنه قليج ارسلان فكانت بينه وبين باغي ارسلان بن الوانشمند وصاحب ملطية وما جاورها من ملك الروم حروب، بسبب أن قليج ارسلان تزوج بنت الملك طليق بن علي بن أبي القاسم فزوجها إليه بجهاز عظيم، وأغار عليه باغي ارسلان صاحب ملطية فأخذها بما معها وزوجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بين الوانشمند أن أشار عليها بالردة لينفسخ النكاح. ثم عادت إلى الإسلام وزوجها بابن أخيه فجمع قليج ارسلان عساكره، وسار إلى باغي ارسلان بن الوانشمند فهزمه باغي ارسلان ، واستنجد ملك الروم فأمده بعسكر. وسار باغي ارسلان خلال ذلك.وولي إبراهيم ابن أخيه محمد، وملك قليج ارسلان بعض بلاده واستولى أخوه ذوالنون بن محمد بن الوانشمند على قيسارية. وانفرد شاه بن مسعود أخو قليج ارسلان بمدينة انكورية، وهي انقرة، واستقرت الحال على ذلك. ثم وقعت الفتنة بين قليج ارسلان وبين نور الدين محمود بن زنكي، وتراجعوا للحرب. وكتب الصالح بن رزبك المتغلب على العلوي بمصر إلى قليج ارسلان ينهاه عن ذلك. ثم هلك إبراهيم بن محمد بن الوانشمند وملك مكانه أخوه ذو النون، وانتقض قليج ارسلان عليه، وملك ملطية من يده، والله تعالى أعلم. مسير نور الدين العادل إلى بلاد قليج ارسلان : ثم سار نور الدين محمود بن زنكي سنة ثمان وستين إلى ولاية قليج ارسلان بن مسعود
ببلاد الروم، وهي ملطية وسيواس وأقصرا، فجاءه قليج ارسلان متنصلا معتذراً فأكرمه وثنى عزمه عن قصد بلاده. ثم أرسل إليه شفيعاً في ذي النون بن الوانشمند يرد عليه بلاده فلم يشفعه، فسار إليه. وملك مرعش ونهسنا وما بينهما في ذي القعدة من السنة. وبعث عسكراً إلى سيواس فملكوها فمال قليج ارسلان إلى الصلح. وبعث إلى نور الدين يستعطفه، وقد بلغه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه على أن يمده بالعساكر للغزو، وعلى أن يبقي سيواس، بيد نواب نور الدين، وهي لذي النون بن الوانشمند. ثم جاءه كتاب الخليفة بإقطاع البلاد، ومن جملتها بلاد قليج ارسلان وخلاط وديار بكر. ولما مات نور الدين عادت سيواس لقليج ارسلان ، وطرد عنها نواب ذي النون.
مسير صلاح الدين لحرب قليج ارسلان : كان قليج ارسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم، قد زوج بنته من نور الدين محمود بن قليج ارسلان بن داود بن سقمان صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر، وأعطاه عدة حصون فلم يحسن عشرتها وتزوج عليها، وهجر مضجعها، وامتعض أبوها قليج ارسلان لذلك. واعتزم على غزو نور الدين في ديار بكر وأخذ بلاده فاستجار نور الدين بصلاح الدين بن أيوب، واستشفع به فلم يشفعه. وتعلل بطلب البلاد التي أعطاه عند المصاهرة فامتعض صلاح الدين لذلك. وكان يحارب الإفرنج بالشام فصالحهم، وسار في عساكره إلى بلاد الروم. وكان الصالح إسمعيل بن نور الدين محمود بالشام فعدل عنه ومر على تل ناشر إلى زغبان، ولقي بها نور الدين محمد صاحب كيفا. وبعث إليه قليج ارسلان رسولا يقرر غدره بابنته فاغتاظ على الرسول، وتوعده بأخذ بلادهم فتلطف له الرسول. وخلص معه نجياً فقبح له ما إرتكبه من أجل هذه المرأة من ترك الغزو، ومصالحة العدو، وجمع العساكر وخساره ، وأن بنت قليج ارسلان لو بعثت إليه بعد وفاة أبيها تسأل منه النصفة بينها وبين زوجها لكان أحق ما تقصده فامتنعت. وعلم أن على نفسه الحق فأمر الرسول أن يصلح بينهم، ويكون هو عوناً له على ذلك فداخلهم ذلك الرسول في الصلح على أن يطلق هذه المرأة بعد سنة، ويعقد بينهم ذلك. ورجع كل إلى بلده، ووفى نور الدين بما عقد على نفسه، والله سبحانه وتعالى أعلم
. قسمة قليج ارسلان أعماله بين ولده وتغلبهم عليه: ثم قسم قليج ارسلان سنة سبع وثمانين أعماله بين ولده: فأعطى قونية بأعمالها لغياث الدين كسنجر وأقصرا وسيواس لقطب الدين، ودوقاط لركن الدين سليمان وأنقرة وهي أنكورية لمحيي الدين وملطية لعز الدين قيصر شاه ولغيث الدين وقيسارية لنور الدين محمود، وأعطى تكسار وأماساً لابني أخيه. وتغلب عليه ابنه قطب الدين وحمله على انتزاع ملطية من يد قيصر شاه فانتزعها، ولحق قيصر شاه بصلاح الدين بن أيوب مستشفعاً به فأكرمه، وزوجه ابنة أخيه العادل. وشفع له عند أبيه وأخيه فشفعوه وردوا عليه ملطية. ثم زاد تغلب ركن الدين وحجر عليه وقتل دائبة في مدينته وهو إختيار الدين حسن فخرج سائر بنيه عن طاعته، وأخذ قطب الدين أباه، وسار به إلى قيسارية ليملكها من أخيه فهرب قليج ارسلان ودخل قيسارية. وعاد قطب الدين إلى قونية وأقصرا فملكهما وبقي قليج ارسلان ينتقل بين ولده من واحد إلى آخر، وهم معرضون عنه حتى استنجد بغياث الدين كسنجر صاحب منهم فأنجده، وسار معه إلى قونية فملكها. ثم سار إلى أقصرا وحاصرها، ثم مرض قليج ارسلان ، وعاد إلى قونية فتوفي فيها. وقيل إنما إختلف ولده عليه لأنه ندم على قسمة أعماله بينهم، وأراد إيثار ابنه قطب الدين بجميعها وانتقضوا عليه لذلك وخرجوا عن طاعته، وبقي يتردد بينهم وقصد كسنجر وصاحب قونية فأطاعه، وخرج معه بالعساكر لحصار محمود أخيه في قيسارية، وتوفي قليج ارسلان وهو محاصر لقيسارية ورجع غياث الدين إلى قونية. وفاة قليج ارسلان وولاية ابنه غياث الدين: ثم توفي قليج ارسلان بمدينة قونية أو على قيسارية كما مر من الخلاف منتصف ثمان وثمانين لسبع وعشرين سنة من ملكه، وكان مهيباً عادلاً حسن السياسة كثير الجهاد. ولما توفي واستقل ابنه غياث الد ين كسنجر بقونية وما إليها. وكان قطب الدين أخوه صاحب أقصرا وسيواس. وكان كلما سار من إحداهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، وبها أخوه نور الدين محمود
يتلقاه بظاهرها حتى استنام إليه مدة فغدر به وقتله، وامتنع أصحابه بقيسارية. وكان كبيرهم حسن فقتله مع أخيه، ثم أطاعوه وأمكنوه من البلد، ومات قطب الدين أثر ذلك.
استيلاء ركن الدين سليمان على قونية وأكثر بلاد الروم وفرار غياث الدين: ولما توفي قليج ارسلان ، وولي بعده في قونية ابنه غياث الدين كسنجر، وبنوه يومئذ على حالتهم في ولايتهم التي قسمها بينهم أبوهم. وملك قطب الدين منهم قيسارية بعد أن كدر بأخيه محمود صاحبها. ومات قطب الدين أثر ذلك فسار ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى التغلب على أعمال سلفه ببلاد الروم، فسار إلى سيواس وأقصرا وقيسارية أعمال قطب الدين فملكها. ثم سار إلى قونية فحاصر بها غياث الدين وملكها، ولحق غياث الدين بالشام كما يأتي خبره. ثم سار إلى نكسار وأماساً فملكهما وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين فملكها من يد معز الدين قيصر شاه، ولحق معز الدين بالعادل أبي بكر بن أيوب. ثم سار إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن حليق من بيت ملك قديم، وخرج إليه صاحبها ليقرر معه صلحاً فقبض عليه، وملك البلد فاجتمع لركن الدين سائر أعمال أخوته ما عدا أنقرة لحصانتها فجمر عليها الكتائب، وحاصرها ثلاثاً. ثم دس من قتل أخاه، وملك البلد سنة إحدى وستمائة، وتوفي هو عقب ذلك والله تعالى أعلم. و فاة ركن الدين وولاية ابنه قليج ارسلان : ثم توفي ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان أوائل ذي القعدة من تمام سنة إحدى وستمائة، وولي بعده ابنه قليج ارسلان فلم تطل مدته. وكان ركن الدين ملكاً حازماً شديداً على الأعداء، إلا أنه ينسب إلى التزين بالفلسفة، والله تعالى أعلم. استيلاء غياث الدين كسنجر على بلاد الروم من أخيه ركن الدين: كان غياث الدين كسنجر بن قليج ارسلان ، لما ملك أخوه ركن الدين قونية من يده لحق بحلب، وفيها الظاهر غازي بن صلاح الدين فلم يجد عنده قبولا، فسار إلى القسطنطينية وأكرمه
ملك الروم، وأصهر إليه بعض البطارقة في إبنته. وكانت له قرية حصينة في أعمال قسطنطينية فلما استولى الإفرنج على القسطنطينية سنة ستمائة لحق غياث الدين بقلعة صهره البطريق. وبلغ إليه خبر أخيه تلك السنة، وبعث إليه بعض الأمراء من قونية يستدعيه للملك فسار إليه، واجتمعوا على حصار قونية. وخرجت إليهم العساكر منها فهزموه ولحق ببعض البلاد فتحصن بها. ثم قام أهل أقصرا بدعوته وطردوا واليهم، وبلغ الخبر إلى أهل قونية فثاروا بقليج ارسلان بن ركن الدين، وقبضوا عليه واستدعوا غياث الدين فملكوه وأمكنوه من ابن أخيه. وكان أخوه قيصر شاه قد لحق بصهره العادل أبي بكر بن أيوب فاستنصر به على أخيه ركن الدين عندما ملك ملطية من يده، فأمر له بالرها. واستفحل ملك غياث الدين، وقصده علي بن يوسف صاحب شميشاط، ونظام الدين بن ارسلان صاحب خرت برت وغيرهما. وعظم شأنه إلى أن قتله أشكر صاحب قسطنطينية سنة سبع وستمائة، والله تعالى ولي التوفيق.
مقتل غياث الدين كسنجر وولاية ابنه كيكاوس: ولما قتل غياث الدين كسنجر وولي بعده ابنه كيكاوس ، ولقبوه الغالب بالله. وكان عمه طغرل شاه بن قليج ارسلان صاحب أرزن الروم طلب الأمر لنفسه وسار إلى قتال كيكاوس ابن أخيه وحاصره في سيواس وقصد أخوه كيغباد بن كسنجر بلد أنكورية من أعماله فاستولى عليها وبعث كيكاوس صريخه إلى الملك العادل صاحب دمشق فانفذ إليه العساكر وأفرج طغرك عن سيواس قبل وصولهم فسار كيكاوس إلى أنكورية وملكها من يد أخيه كيغباد وحبسه، وقتل أمراءه وسار إلى عمه طغرل في أرزن الروم فظفر به سنة عشر، وقتله وملك بلاده. مسير كيكاوس إلى حلب واستيلاؤه على بعض أعمالها ثم هزيمته وإرتجاع البلد من يده كان الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قد توفي، وملك بعده ابنه طفلاً صغيراً، وكان بعض أهل حلب قد لحق بكيكاوس فراراً من الظاهر، وأغراه بملك حلب، وهون عليه أمرها وملك ما بعدها. ولما مات الظاهر قوي عزمه وطمعه في ذلل و، واستدعى الأفضل بن صلاح الدين من شميشاط للمسير معه، على أن تكون الخطبة لكيكاوس ، والولاية للأفضل في جميع ما يفتحونه من حلب وأعمالها. فإذا فتحوا بلاد الجزيرة مثل حران والرها من يد الأشرف تكون ولايتها لكيكاوس، وتعاقدوا على ذلك. وساروا سنة خمسة عشرة فملكوا قلعة
زغبان، وتسلمها الأفضل على الشرط ثم ملكوا قلعة تل ناشر فاستأثر بها كيكاوس، وارتاب الأفضل. ثم بعث ابن الظاهر صاحب حلب إلى الأشرف بن العادل صاحب الجزيرة وخلاط يستنجده على أن يخطب له بحلب، وينقش إسمه على السكة فسار لإنجاده، ومعه أحياء طيء من العرب فنزل بظاهر حلب. وسار كيكاوس والأفضل إلى منبج، ولقيت طليعتهم طليعة الظاهر فاقتتلوا. وعاد عسكر كيكاوس منهزمين إليه فأجفل وسار الأشرف إلى زغبان وتل ناشر وبهما أصحاب كيكاوس فغلبهم عليهما. وأطلقهم إلى صاحبهم فأحرقهم بالنار وسلم الأشرف الحصنين إلى شهاب الدين بن الظاهر صاحب حلب، وبلغه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل بمصر فرجع عن قصد بلاد الروم.
وفاة كيكاوس وملك أخيه كيغباد: كان كيكاوس بعد الواقعة بينه وبين الأشرف قد اعتزم على قصد بلاد الأشرف بالجزيرة، واتفق مع صاحب آمد وصاحب اربل على ذلك، وكانا يخطبان له. ثم سار إلى ملطية يشغل الأشرف عن الموصل، حتى ينال منها صاحب اربل. ومرض في طريقه فعاد. ومات سنة ست عشرة وخلف بنيه صغاراً. وكان أخوه كيغباد محبوساً منذ أخذه من أنكورية فأخرجه الجند من محبسه وملكوه وقيل بل أخرجه هو من محبسه وعهد إليه. ولما ملك خالف عليه عمه صاحب أرزن الروم فوصل يده بالأشرف، وعقد معه صلحاً. الفتنة بين كيغباد وصاحب آمد من بني أرتق وفتح عدة من حصونه كانت الفتنة قد حدثت بين الأشرف صاحب الجزيرة والمعظم صاحب دمشق، وجاء جلال الدين خوارزم من الهند سنة ثلاث وعشرين بعد هروبه أمام التتر فملك أذربيجان واعتضد به المعظم صاحب دمشق على الأشرف، وظاهرهما الملك مسعود صاحب آمد من بني أرتق فأرسل الأشرف إلى كيغباد ملك الروم يستنجده على صاحب أمد، والأشرف يومئذ محاصر لماردين فسار كيغباد وأقام على ملطية، وجهز العساكر من هناك إلى آمد ففتح حصوناً عدة. وعاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف فكتب إلى كيغباد أن يرد عليه ما أخذه فامتنع، فبعث عساكره إلى صاحب آمد مدداً على كيغباد. وكان محاصراً القلعة الكحنا فلقيهم وهزمهم، وأثخن فيهم، وعاد ففتح القلعة والله أعلم.
استيلاء كيغباد على مدينة أرزنكان:
كمان صاحب أرزنكان هذه بهرام شاه من بني الأحدب بيت قديم في الملك،وملكها ستين سنة، ولم يزل في طاعة قليج ارسلان وولده. وتوفي فملك بعده ابنه علاء الدين داود شاه، وأرسل عنه كيغباد سنة خمس وعشرين ليعسكر معه فسار إليه وقبض عليه، وملك مدينة أرزنكان. وكان من حصونه كماح، فامتنع نائبه فيه، وتهدد داود شاه فبعث إلى نائبه فسلم له الحسن. ثم قصد أرزن الروم، وبها ابن عمر طغرل شاه بن قليج ارسلان فبعث بن طغرك شاه بطاعته للأشراف، واستنجد نائبه بخلاط حسام الدين علي فسار إليه فخام كيغباد عن لقائه، وعاد من أرزنكان إلى بلاده فوجد العدو من الإفرنج قد ملك قلعة منها تسمى صنوباً مطلة على بحر الخزر فحاصرها براً وبحراً، وارتجعها المسلمون والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
فتنة كيغباد مع جلال الدين:
كان صاحب أرزن الروم وهو ابن عم كيغباد صار إلى طاعة جلال الدين خوارزم
شاه، وحاصر معه خلاط، وفيها أيبك مولى الأشرف فملكها جلال الدين، وقتل ايبك كما يأتي في أخباره. فخافهما كيغباد صاحب الروم فاستنجد الملك الكامل، وهو بحران فأمده بأخيه الأشرف من دمشق فجمع عساكر الجزيرة والشام، وسار إلى كيغباد فلقيه بسيواس واجتمعوا في خمسة وعشرين ألفاً. وساروا من سيواس إلى خلاط فلقيهم جلال الدين في نواحي أرزنكان فهاله منظرهم، ومضى منهزماً إلى خلاط. ثم سار منها إلى أذربيجان فنزلوا عند خوي. وسار الأشرف إلى خلاط فوجد جلال الدين قد خربها فعادوا إلى بلادهم، وترددت الرسل في الصلح فاصطلحوا.
مسير بني أيوب إلى كيغباد وهزيمتهم
كان علاء الدين كيغباد قد استفحل ملكه ببلاد الروم، ومد يده إلى ما يجاوره من البلاد فملك خلاط، بعد أن دافع عنها مع الأشرف بن العادل جلال الدين خوارزم شاه فنازعه الأشرف في ذلك، واستصرخ بأخيه الكامل فسار في العساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين. وسار معه الملوك من أهل بيته، وإنتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم. وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيغباد وهزمه، وحصره في خرت برت وكانت لبني أرتق. ورجع
الكامل بالعساكر إلى مصر سنة إثنتين وثلاثين، وكيغباد في اتباعهم. ثم سار إلى حران والرها فملكهما من يد نواب الكامل وولى عليهما من قبله، وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين فارتجعهما.
وفاة كيغباد وملكه ابنه كنجسرو: ثم توفي علاء الدين كيغباد سنة أربع وثلاثين وستمائة، وملك بعده ابنه غياث الدين كنجسرو، وقارن ذلك إنقراض الدولة السلجوقية من ممالك الإسلام وإختلال دولة بني خوارزم شاه وخرج التتر من مفازة الترك وراء النهر، واستيلاء جنكزخان سلطانهم على الممالك وانتزاعها من يد بني خوارزم شاه. وفر جلال الدين آخرهم إلى الهند، ثم رجع واستولى على أذربيجان وعراق العجم. وكان بنو أيوب يومئذ بممالك الشام وأرمينية كما نذكر ذلك كله في أماكنه إن شاء الله تعالى. وانتشر التتر في سائر النواحي وعاثوا فيها وتغلبوا عليها. واستفحل ملكهم فسارت منهم طوائف إلى بلاد الروم سنة إحدى وأربعين، فبعث غياث الدين كنجسرو بالصريخ إلى بني أيوب وغيرهم من الترك في جواره. وجاء المدد من كل جانب فسار للقائهم، ولقيتهم المقدمة على قشمير زنجان فانهزمت المقدمة، ووصلوا إليه فانهزم، ونجا بعياله وذخيرته إلى مدينة على مسيرة شهر من المعترك ونهبوا سواده ومخلفه وانتشروا في نواحي بلاد الروم وعاثوا فيها، وتحصن كباث الدين بهذه المدينة، واستولى التتر على خلاط وآمد. ثم استأمن لهم غياث الدين ودخل في طاعتهم واستقامت أموره معهم إلى أن مات قريباً من رجوعه. وملك التتر قيسارية والله أعلم. وفاة غياث الدين وولاية ابنه كيغباد: ثم توفي غياث الدين كنجسرو سنة أربع وخمسين وترك ثلاثاً من الولد، أكبرهم علاء الدين كيغباد وعز الدين كيكاوس، وركن الدين قليج ارسلان . وولى علاء الدين كيغباد بعهده إليه، وكان يخطب لهم جميعاً وأمرهم واحد. وكان جنكزخان ملك التتر قد هلك، وكان كرسي سلطانهم بقراقروم ، وولي مكانه ابنه طلوخان وجلس على كرسيه وهو الخان الأعظم عندهم وحكمه ماض في ملوك الشمال والعراق من أهل بيته وسائر عشيرته- ثم هلك طلوخان وولي مكانه في كرسيه ابنه منكوخان فبعث أخاه هلاكو لفتح العراق وبلاد الإسماعيلية
سنة خمسين وستمائة، فسار لذلك وملك العراقين وبغداد. ثم جرد الخان الأعظم منكوخان إلى بلاد الروم سنة أربع وخمسين أميراً من أمراء المغل إسمه بيكو في العساكر فسار إلى أرزن الروم وبها سنان الدين ياقوت مولى السلطان علاء الدين فحاصرها شهرين ونصب عليها المجانيق. ثم ملكها عنوة، وأسر ياقوت، واستلحم الجند بأسرهم واستبقى الباعة والصناع. ثم سار إلى بلاد الروم فملك قيسارية ومسيرة شهر معها ورجع. ثم عاد سنة خمس وخمسين وعاث في البلاد واستولى على أكثر من الأولى والله تعالى أعلم.
وفاة كيغباد وملك أخيه كيكاوس: ولما كثر عيث التتر الذين مع بيكو في مملكة علاء الدين كيغباد، واعتزم على المسير إلى الخان الأعظم منكوخان يؤكد الدخول في طاعته، ويقتضي مراسمه إلى بيكو ومن معه من المغل بالكف عن البلاد، سار من قونية سنة خمس وخمسين ومعه سيف الدين طرنطاي من موالي أبيه. واحتمل معه الأموال والهدايا وسار. ووثب أخوه عز الدين كيكاوس على أخيه الاخر قليج ارسلان فاعتقله بقونية، واستولى على الملك. وكتب في أثر أخيه إلى سيف الدين طرنطاي مع بعض الأكابر من أصحابه أن يمكنوه من الهدايا التي معهم يتوجه بها إلى الخان ويردوا علاء الدين فلم يدركوه حتى دخل بلاد الخان، ونزل على بعض أمرائه فسعى ذلك الرسول في علاء الدين وطرنطاي بأن معهم سما فكبسهم الأمير فوجد شيئاً من المحمودة، فعرض عليهم أكلها فامتنعوا فتخيل تحقيق السعاية فسألوه إحضار الأطباء فأزالوا عنه الشك، وبعث بهم إلى الخان. ومات علاء الدين أثناء طريقة. ولما اجتمعوا عند الخان اتفقوا على ولاية عز الدين كيكاوس وأنه أكبر، وعقدوا له الصلح مع الخان فكتب له وخلع عليهم. ثم كتب بيكو إلى الخان بأن أهل بلاد الروم قاتلوه ومنعوه العبور فأحضر الرسل، وعرفهم الشبر فقالوا إذا بلغناهم كتاب السلطان اذعنوا. فكتب الخان بتشريك الأميرين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج ارسلان على أن تكون البلاد قسمة بينهما. فمن سيواس إلى القسطنطينية غرباً لعز الدين، ومن سيواس إلى أرزن الروم شرقاً المتصلة ببلاد التتر ركن الدين، وعلى الطاعة وحمل الأتاوة لمنكوخان ملكهم صاحب الكرسي بقراقروم، ورجعوا إلى بلاد الروم وحملوا معه شاه كيغباد إلى أن دفنوه.
استيلاء التتر على قونية:
ثم سار بيكو في عساكر المغل إلى بلاد الروم ثالثة فبعث عز الدين كيكاوس العساكر للقائه مع ارسلان أيدغمش من أمرائه فهزمه بيكو، وجاء في إتباعه إلى قونية فهرب عز الدين كيكاوس إلى العلايا بساحل البحر فنزل بيكو على قونية، وحاصرها حتى استأمنوا إليه على يد خطيبهم. ولما حضر إليه أكرمه ورفع منزلته، وأسلمت أمرأته على يده، وأمن أهل البلد. ثم سار هلاكو إلى بغداد سنة خمس وستين، وبعث عن بيكو وعساكره من بلاد الروم بالحضور معه فاعتذر بالأكراد الذين في طريقه من الفراسلية والياروقية فبعث إليهم هلاكو العساكر فأجفلوا وانتهت العساكر إلى أذربيجان، وقد أجفل أهلها أمام الاكراد فاستولوا عليها. ورجعوا صحبة بيكو إلى هلاكو فحضر معه فتح بغداد وقد مر خبرها في أخبار الخلفاء. ويأتي في أخبار هلاكو ونيال أن بيكو لما بعث هلاكو لم يحضر معه فتح بغداد، واستمر على غدره فلما انقضى أمر بغداد بعث إليه هلاكو من سقاه السم فمات لأنه اتهمه بالإستبداد. ثم سار هلاكو بعد فتح بغداد إلى الشام سنة ثمان وخمسين وحاصر حلب، وبعث عن عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج ارسلان ، وعن معين الدين سليمان البرنواه صاحب دولتهم. وكان من خبره أن أباه مهذب الدين علي كان من الديلم، وطلبط. العلم ونبغ فيه. ثم تعرض للوزير سعد الدين المستوفي أيام علاء الدين كيغباد يسأله أجراء رزقه. وكان وصافا فاستحسنه وزوجه أبنته فولدت سليمان، ونشأ في الدولة. ومات سعد الدين المستوفي فرقى السلطان مهذب الدين إلى الوزارة، وألقى إليه بالمقاليد. ونوفي مهذب الدين وترقى أبنه سليمان مهذب الدولة وكان يلقب معين الدين وترقى في الرتب إلى أن ولي الحجابة وكان يدعى البرنواه، ومعناه الحاجب بلغتهم. وكان مختصاً بركن الدين فلما حضر معهما عند هلاكو كما قلناه حلا بعينه، وقال لركن الدين لا يأتيني في أموركم إلا هذا فرقت حاله إلى أن ملك بلاد الروم أجمع.
الفتنة بين عز الدين كيكاوس وأخيه قليج ارسلان واستيلاء قليج ارسلان على الملك ثم وقعت الفتنة سنة تسع وخمسين بين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج ارسلان ، وسار ركن الدين ومعه البرنواه إلى هلاكو يستمده على أخيه فأمده بالعساكر، وحارب أخاه فهزمه عز الدين أولا، ثم أمده هلاكو فانهزم عز الدين ولحق بالقسطنطينية. واستولى ركن الدين
على سائر الأعمال. وهرب التركمان إلى أطراف الجبال والثغور والسواحل، وبعثوا إلى هلاكو يطلبون الولاية منه على أحيائهم فولاهم، وأذن لهم في أتخاذ الآلة فصاروا ملكوكاً من حينئذ. وكان محمد بك أميرهم وأخوه علي بك رديفه فاستدعى هلاكو محمد بك فلم يأته فأمر قليج ارسلان وعساكر التتر الذين معه بقتاله فساروا وقاتلوه فانهزم. ثم استأمن إلى السلطان ركن الدين فأمنه وجاء به إلى قونية فقتله، واستقر علي بك أميراً على التركمان، وأورثها بنيه. واستولى التتر على البلاد إلى أن كان ما سنذكره إن شاء الله.
خبر عز الدين كيكاوس ولما انهزم عز الدين كيكاوس، ولحق بالقسطنطينية أحسن إليه مخاييل الشكري صاحب قسطنطينية، وأجرى عليه الرزق. وكان معه جماعة من الروم أخواله فحدثتهم أنفسهم بالثورة، وتملك القسطنطينية. ونمي ذلك عنهم فقبض الشكري عليه، وعلى من معه، واعتقله ببعض القلاع. ثم وقعت بين الشكري وبين منكوتمر بن طغان ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان فتنة، وغزا منكوتمر القسطنطينية وعاث في نواحيها فهرب إليه كيكاوس من محبسه فمضى معه إلى كرسيه بصراي فمات هنالك سنة سبع وسبعين. وخلف أبنه مسعودا وخطب منكوتمر ملك صراي أمه فمنعها وهرب عنه، ولحق بابق بن هلاكو ملك العراق فأحسن إليه، وأقطعه سيواس وأرزن الروم وأرزنكان فاستقر بها. مقتل لكن الدين قليج ارسلان وولاية ابنه كنجسرو: كان معين الدين سليمان البرنواه قد استبد على ركن الدين قليج ارسلان . ثم تنكر له ركن الدين فخاف سليمان البرنواه على مكان أخيه عز الدين كيكاوس بالقسطنطينية أن يحدث فيه أمراً. فلما بلغه خبر كيكاوس واعتقاله بالقسطنطينية أحكم تدبيره في ركن الدولة فقتله غيلة، ونصب للملك ابنه غياث الدين في كفالته وتحت حجره، واستقل بملك بلاد الروم، واستقامت أموره، والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء الظاهر ملك مصر علي قيسارية ومقتل البرنواه كان هلاكو قد زحف إلى الشام سنة ثمان وخمسين مراراً، وزحف ابنه إبقا كذلك، وقاتلهم الملك الظاهر صاحب مصر والشام. وكان كثيراً ما يخالفهم إلى بلادهم فدخل سنة خمس
وسبعين إلى بلاد الروم، وأميرها يومئذ من التتر طغا. وأمده إبقا بأميرين من التتر وهما كداون وترقوا لحماية بلاد الروم من الظاهر فزحفوا إلى الشام. وسار إليهم الظاهر من مصر في مقدمته سقر الأسقر فلقيت مقدمته مقدمتهم على كوكصو فانهزم التتر، وتبعهم الظاهر، والتقى الجمعان على إبليش فانهزموا ثانية.أثخن فيهم الظاهر بالقتل والأسر إلى قيسارية فملكها. وكان البرنواه قد دسق إليه واستحثه للوصول إلى بلاده فأقام الظاهر على قيسارية ينتظره، وبلغ ملك التتر إبقا خبر الواقعة فزحف في جموع المغل إلى قيسارية بعد منصرف الظاهر إلى بلاده. فلما وقف على مصارع قومه وجد على البرنواه وصدقت عنه السعاية فيه، وأنه الذي استحث الظاهر لأنه لم ير في المعركة مصرع أحد من بلاد الروم، ورجع إلى معسكره ومعه سليمان البرنواه واستبد بملكه. والله تعالى ولي التوفيق، وهو نعم الرفيق، لا رب سواه ولا معبود إلا إياه سبحانه.
خلع كنجسرو ثم مقتله وولاية مسعود ابن عمه كيكاوس كان قنطغرطاي بن هلاكو مقيماً ببلاد الروم مع غياث الدين كنجسرو ملك بلاد الروم وصار أمير المغل بها منذ عهد أبقا. ولما ولي أحمد تكرار بن هلاكو بعد أخيه أبقا بعث عن أخيه قنطغرطاي فامتنع من الوصول إليه خشية على نفسه. ثم حمله غياث الدين على إجابة أخيه، وسار معه فقتل تكرار أخاه قنطغرطاي، واتهم المغل غياث الدين بأنه علم برأي تكرار فيه واعتمد. فلما ولي أرغون بن إبقا بعد تكرار عزل غياث الدين عن بلاد الروم وحبسه بارزنكاي، وولي مكانه على المغل ببلاد الروم هولاكو وذلك سنة إثنتين وثمانين. وأقام مسعود ملكاً ببلاد الروم سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وأصابه الفقر وانحل أمره، وبقي الملك بها للتتر. ثم فشل أمرهم واضمحلت دولتهم إلا بقايا بسيواس من بني أرثا مملوك دمرداش بن جومان. واستولى التركمان على تلك البلاد أجمع،وأصبح ملكها لهم، والله غالب على أمره يؤتي الملك من يشاء وهو العزيز الحكيم
خريطة
الخبر عن بني سكمان موالي السلجوقية ملوك. خلاط وبلاد أرمينية ومصير الملك إلى مواليهم من بعدهم ومبادي أمرهم وتصاريف أحوالهم: كان صاحب مزيد من أذربيجان اسمعيل بن ياقوتي بن داود أخو ألب ارسلان، وداود أخو طغرلبك كما مر ولقب إسمعيل قطب الدولة. وكان له مولى تركي إسمه سكمان بالكاف والقاف. وكان ينسب إليه فيقال سكمان القطبي، وكان شهماً عادلا في أحكامه. وكانت خلاط وأرمينية لبني مروان ملوك ديار بكر، وكانوا في آخر دولتهم قد اشتد عسفهم وظلمهم، وساء حال أهل البلد معهم فاجتمع أهل خلاط وكاتبوا سكمان واستدعوه ليملكوه عليهم، فسار إليهم سنة اثنتين وخمسمائة إلى ميافارقين من ديار بكر فحاصرها حق استأمنوا إليه وملكها.ثم أمر السلطان محمد شاه بن ملك شاه الأمير مودود بن مزيد ابن صدقة صاحب الموصل بغزو الإفرنج وانتزاع البلاد من أيديهم وأمر أمراء الثغور بالمسير معه فسار معه برسق صاحب همذان، وأحمد بك صاحب مراغة، وأبو الهيجاء صاحب اربل وأبو الغازي صاحب ماردين، وسقمان القطبي صاحب ديار بكر. فساروا لذلك وفتحوا عدة حصون، وحاصروا الرها فامتنعت عليهم، ثم تل ناشر كذلك. واستدعاهم رضوان بن نتش صاحب حلب فلما ساروا إليه امتنع من لقائهم. ومرض سكمان القطبي هنالك فرجع عنهم وتوفي في طريقه ببالس. وافترقت العساكر، وملك خلاط وبلاد ارمينية بعد مهلكه ابنه ظهير الدين إبراهيم، وسار فيهم بسيرة أبيه إلى أن هلك سنة إحدى وعشرين. وملك بعده أخوه أحمد بن سكمان عشرة أشهر. ثم توفي فنصب أصحابه للملك بأرمينية وخلاط شاه أرمن سكمان ابن أخيه إبراهيم بن سكمان صبياً دارجا. واستبدت عليه جدته أم إبراهيم. ثم أزمعت قتله فقتلها أهل الدولة.وعمد سنة ثمان وعشرين، واستبد شاه أرمن، وكانت بينه وبين الكرج وقائع.وساروا سنة ست وخمسمائة إلى مدينة أنى من أعمال أزان فاستباحوها. وسار إليهم في العساكر فهزموه ونالوا منه، وكانت عنده أخت طليق بن علي صاحب أرزن الروم، ووقعت بينه وبين الكرج حرب فانهزم طليق وأسر وبعث شاه أرمن إلى ملك الكرج وفادى طليقاً ورده إلى ملكه
بارزن.ثم استولى صلاح الدين بن أيوب على مصر والشام واستفحل ملكه، وكاتبه مظفرالدين كوكبري وأغراه بملك الجزيرة، ووعده بخمسين ألف دينار. وسار صلاح الدين إلى سنجار فحاصرها وهو جمع المسير إلى الموصل، وبها يومئذ عز الدين مودود بن زنكي فاستنجد بشاه أرمن صاحب خلاط فبعث شاه أرمن مولاه مكتمر إلى صلاح الدين شفيعاً في صاحب الموصل، ووفد عليه وهو محاصر لسنجار، ولم يشفعه صلاح الدين فرجع عنه مغاضباً. وسار شاه أرمن لقتاله واستدعى قطب الدين نجم الدين إلى صاحب ماردين وهو ابن أخيه، وابن خال عز الدين. وحضر معه دولة شاه بن طغرك شاه بن قليج ارسلان صاحب . وسار سنة ثمان وسبعين وقد ملك صلاح الدين سنجار وافترقت العساكر. فلما بلغه مسيرهم بعث عن تقي الدين ابن أخيه شاه من حماة فوافاه سريعا، ورحل إلى رأس عين وافترقت جموعهم. وسار صلاح الدين إلى ماردين فعاث في نواحيها ورجع. ثم سار إلى الموصل آخر إحدى وثلاثين، وعبر إلى الجزيرة، وانتهى إلى حران. ولقيه مظفر الدين كوكبري بن زين الدين ولم يف له بالخمسين ألفاً التي وعده بها. وأخذ منه حران والرها. ثم أطلقه بما نفذه من مكاتبته وعاد عليه بلدته، وسار من حران فحضر عنده عساكر الحصن وداراً، ولقيه سنجر شاه صاحب الجزيرة ابن أخي عز الدين مودود مفارقا لطاعة عفه، وسار معه إلى الموصل. ولما انتهى إلى مدينة بله بعث إليه عز الدين ابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة راغبين في الصلح فأكرمهم، واستشار أصحابه من أعيان الدولة فأشار علي بن أحمد المشطوب كبير الهكارية بالامتناع من ذلك فردهم صلاح الدين واعتذر، وسار فنزل على فرسخين من الموصل واشتدوا في مدافعته فامتنعوا عليه فندم على عدم الصلح. ورجع على علي المشطوب ومن وافقه باللائمة. وخاطبه القاضي الفاضل البيساني من مصر، وعزله في ذلك. وجاء زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فتلقاهما بالتركمه، وأنزلهما مع الحشود الوافدة بالجانب الشرقي. وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فحاصرها، واجتمع عليه الاكراد ولم يزل محاصرا لها حتى عاد صلاح الدين من الموصل. وأقام صلاح الدين على حصارها مدة. وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة يكاتبه فمنعه من الصعود إليها، وكان يقتدي برأي مجاهد الدين وبعثه في الصلح فسعى فيه إلى أن تحمله ووصل صلاح الدين إلى ميارفارقين
. وفاة شاه أرمن سكمان وولاية مكتمر مولى أبيه ثم لوفي شاه أرمن سقمان بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست وسبعين، وكان مكتمر مولى أبيه بميافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك، واستولى على كرسي بني سكمان. وولى على ميافارقين أسد الدين برتقش من موالي شاه أرمن. وكان البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان مر بقائد ملوك السلجوقية وقد زوج ابنته من شاه أرمن طمعا في ملك خلاط. فلما توفي شاه أرمن سار إليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن أيوب، ودافعوا كلا منهما بالاخر. وسار صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما. ونزلوا قريباً من خلاط فتردد الرسل من صلاح الدين، ومن شمس الدين البهلوان إلى أهل خلاط وهم يدافعون الفريقين. وكان قد بلغه وفاة صاحبها قطب الدين، وأن برتقش نصب ابنه طفلا صغيراً واستبد عليه، فسار صلاح الدين إليها وحاصرها حتى تسلمها على الأمان، وأقام مكتمر أميراً بخلاط، وطالت مدته، وجرت بينه وبين صلاح الدين فتن وحروب إلى أن توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين. فأظهر الشماتة به وتسمى عبد العزيز، وتلقب سيف الدين وتوفي أثر ذلك والله تعالى أعلم. وفاة مكتمر وولاية اقسنقر كان مكتمر لأول ولايته قد اختص اقسنقر من موالي شاه ارمن وتلقب هزار ديناري وزوجه ابنته، وجعله أتابكه فأقام على ذلك مدة. ثم استوحش من مكتمر وتربص به حتى إذا توفي صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين فامكنته فيه الفرصة فقتله لعشر سنين من ولايته ؛ وذلك بعد وفاة صلاح الدين بشهرين واستبد بملك خلاط وارمينية، واعتقل ابن مكتمر وأمه في بعض القلاع، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة اقسنقر وولاية محمد بن مكتمر : ثم هلك اقسنقر صاحب خلاط وارمينية سنة أربع وتسعين، لخمس سنين من ملكه. وقام بملك خلاط بعده حجر اشتد قطلغ الأرمني، ولم يرضه أهل خلاط فوثبوا به لسبعة أيام من ولايته وقتلوه. واستدعوا محمد بن مكتمر من محبسه وملكوه ولقبوه الملك المنصور، وقام بدولته
شجاع الدين قطلغ القفجاقي دوادار شاه أرمن، وأقام تحت استبداده إلى سنة ثلاث وستمائة. ثم دبر على الدوادار وقبض عليه، وكان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند والعامة. وعكف بعد نكبة الدوادار على لذاته فاجتمع أهل خلاط والجند، وكبيرهم بلبان مملوك شاه ارمن. وكتبوا إلى أرتق بن أبي الغازي بن إلى صاحب ماردين يستدعونه للملك، بما كان ابن أخت شاه أرمن. وجاهر بلبان بالعصيان إلى ملازكرد واجتمع الجند عليه.
نكبة ابن مكتمر واستيلاء بلبان على خلاط وأعمالها ولما ملك بلبان مدينة ملازكرد وأعمالها، واجتمع عليه الجند وسار يريد خلاط، ووصل أرتق بن أبي الغازي صاحب ماردين لموعدهم، ونزل قريباً من خلاط فبعث إليه بلبان أن الجند والرعية اتهموني فيك فارجع، وإذا ملكت البلد سلمته إليك فتنخ قليلا فبعث إليه يتوعده على مقالته وبطئه. فعاد إلى ماردين، وكان الأشرف موسى بن العادل بن أيوب صاحب الجزيرة وحران لما سمع بمسير أرتق إلى خلاط طمع فيها لنفسه، وخشي أن يزداد بملكها قوة عليهم فخالفه إلى ماردين، وأقام بتدليس، وجبى ديار بكر حتى استوعبها وعاد إلى حران. ثم جمع بلبان العساكر، وسار إلى خلاط فحاصرها. وبرز ابن مكتمر فيمن عنده فانهزم بلبان وعاد إلى ولايته بملازكرد وأرجيش وغيرها. ثم جمع ورجع إلى خلاط فحاصرها وضيق عليها، وابن مكتمر عاكف على لذاته. فلما جهدهم الحصار ثاروا به وقبضوه، ومكنوا بلبان منه. ودخل إلى خلاط واستولى عليها وعلى سائر أعمالها، وحبس ابن مكتمر في قلعة هناك واستبد بملكهما. وكان الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب قد ولي على ميافارقين من قبل أبيه إلى خلاط سنة أربع وستمائة، وقصد مدينة سوس وحاصرها وملك ما يجاورها، وعجز بلبان عنه. ثم ملك سوس وقصد خلاط فبرز له بلبان وهزمه فعاد إلى ميافارقين وجمع واستمد أباه العادل فأمده بالعساكر، ونهض إلى خلاط فبرز له بلبان ثانية، وهزمه الاوحد وحاصره في خلاط فبعث بلبان إلى طغرك يستنجده فانهزم الأوحد أمامهما. وسار بلبان مع طغرل إلى مراش فحاصرها وغدر به طغرك وقتله، وسار إلى خلاط فمنعه أهلها فسار إلى ملازكرد فمنعوه كذلك فعاد إلى أرزن. وأرسل خلاط بطاعتهم إلى الأوحد نجم الدين فجاء وملك خلاط، واستولى على أعمالها. وزحف الكرج فأغاروا على خلاط وعاثوا في نواحيها، والأوحد مقيم بخلاط لم يفارقها. وانتقض عليه جماعة من العسكر بحصن رام، وساروا إلى مدينة ارجيش فملكوها واجتمع إليهم المفسدون. وبعث نجم الدين إلى أبيه العادل يستنجده
فأمده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر حسن رام حتى استأمن إليه من كان به من الجند، ورجع الأشرف إلى عمله بحران والرها، واستقر نجم الدين بخلاط. ثم سار إلى ملازكرد ليطالع أمورها ويمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فأخرجوهم، وحصروا أصحاب نجم الدين بالقلعة، ونادوا بشعار شاه أرمن وقومه فرجع الأوحد، ولاقاه عسكر الجزيرة وحاصر خلاط. ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة واستباحها. ونقل جماعة من أعيانها إلى ميافارقين، وقتل كثيراً منهم هنالك. واستكان أهل خلاط بعدها وانمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا مستحكمين فيها يولون ملوكها ويخلعونهم. وانقرضت دولة بني سكمان من خلاط، وصارت لبني أيوب والبقاء لله وحده، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وإليه المرجع.
خريطة
أخبار الإفرنج فيما ملكوه من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصائره قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة، عند ذكر أنساب الأمم، وأنهم من ولد يافث بن نوح، ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث أخوة الصقالبة والخزر والترك. وقال هروشوش أنهم من عصر ابن غومر. وأمّا مواطنهم من بلاد المعمور فإنهم من شمال البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غرباً وشمالاً ، وكانوا أوّلا يدينون لليونان والروم بالطاعة عند استفحال أمرهم فلما إنقرضت دولة أولئك استقلّ هؤلاء الإفرنج بملكهم وافترقوا دولاً مثل دولة القوط بالأندلس والجلالقة بعدهم، وملك اللمانين بالتفخيم من جزيرة إنكلطرة بالبحر المحيط الغربي الشمالي وما يحاذيه ويقابله من المعمور، ومثل ملوك إفرنسة وهو عندهم إسم إفرنجة بعينه والجيم ينطقون بها سينا. وهم ما وراء خليج رومة غرباً إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط من شرقيها وتسمى تلك الثنايا البردت. وكانت دولة هؤلاء الإفرنس منهم من أعظم دولهم، واستفحل أمرهم بعد الروم وصدرا من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها. وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة. وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالاً من ملوكهم إلى صقلية، وملكها من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة. ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من أفريقية وبلاد الشام والإستيلاء على بيت المقدس، وطال ترددهم في ذلك ثم استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيديين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية وانتزعوا الشام من أيديهم، وحاصروهم في مصر فيقال أنّ المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج، وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك، وجعلوا طريقهم في البرّ على القسطنطينية. ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له إنْطاكِية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه، وسهل لهم العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد والعدّة وانتهوا إلى بلاد قليج ارسلان وجمع للقائهم فهزموه وفرّ بلاد ابن اليون الأرمني ووصلوا إنْطاكِية، وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصدوا غير إنْطاكِية
فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض الحامية فملك الإفرنج البلاد، وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه وكان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريري والقمص وإسمند وهو مقدم العساكر فردّوا إليه أمر إنْطاكِية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقاً وغرباً وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل، وجمع عساكر الشام، وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان صاحب سنجار، وسكمان أرتق وغيرهم من الأمراء، وزحفوا إلى إنْطاكِية فحاصروها ثلاثة عشر يوماً ووهن الإفرنج واشتدّ عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد، وطلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا. ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين، وأساء كربوقا السيرة فيهم، وأزمعوا من استكثاره عليهم ، فخرج الإفرنج إليهم، واستماتوا فتخاذل المسلمون، وإنهزموا من غير قتال، حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن إتباعهم، واستشهد من المسلمين ألوف، والله تعالى أعلم. استيلاء الإفرنج على معرّة النعمان ثم على بيت المقدس ولما حصلت للإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلدا وساروا إلى معرّة النعمان وحاصروها. واشتدّ القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا بالدور، وتركوا السور فملكه الإفرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثاً. وأقاموا بها أربعين يوماً ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر، وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها. وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة. وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم. وكان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش، وأقطعه لسكمان بن أرتق من التركمان. فلما كانت واقعة الإفرنج بإنطاكية طمع أهل مصر فيهم، وسار الأفضل بن بدر الجُمال المستولي على العلويين بمصر إلى بيت المقدس، وبها سكمان وأبو الغازي إبناً أرتق وابن عمهما سوع ، وابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفا وأربعين يوماً ونصبوا عليه نيفا وأربعين منجنيقاً، وملكوه بالأمان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الأفضل إلى سكمان وأبي الغازي وأصحابها، وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات وأقام سكمان بالرها، وسار أبو الغازي إلى العراق، واستناب الأفضل عليها افتخار الدولة الذي كان بدمشق فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا، وامتنعت عليهم
فحاصروه أربعين ليلة، وافترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة. واستباحوها وأقاموا فيها أسبوعاً. واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود، وقاتلوا فيه ثلاثاً حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان وأحصى القتلى من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفاً أو يزيدون وأخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة وستون درهماً من الفضة زنته أربعون رطلاً بالشامي ومائة وخمسون قنديلاً من الصغار، وما لا يحصى من غير ذلك وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء والأسف، ووسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان والعلماء، فيهم القاضي أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي وأبو الوفاء بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للإسلام. فساروا إلى حلوان، وبلغهم إضطراب الدولة السلجوقية، وقتل محمد الملك ألب ارسلان المتحكم في الدولة، واختلاف السلاطين فعادوا. وتمكن الإفرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفري من ملوكهم.
عساكر مصر وحرب الإفرنج مسير العساكر من مصر لحرب الإفرنج ولما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش والعساكر، واحتشد وسار إلى عسقلان. وأرسل إلى الإفرنج بالنكير والتهديد فأعادوا الجواب، ورحلوا مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبة فهزموه واستلحموا المسلمين ونهبوا سوادهم، ودخل الأفضل عسقلان وافترق المنهزمون. واستبدّوا وابخر الحمير، ووصل الأفضل من عسقلان إلى مصر، ونازلها الإفرنج حتى صانع أهلها الإفرنج بعشرين ألف دينار، وعادوا إلى القدس. إيقاع ابن الدانشمند بالإفرنج كان كمستكين بن الدانشمند من التركمان، ويعرف بطابوا. ومعنى الدانشمند المعلم كان أبوه يعلم التركمان، وتقلبت به الأحوال حتى ملك سيواس وغيرها. وكان صاحب ملطية يعاديه فاستنجد عليه إسمند صاحب إنْطاكِية فجاءه في خمسة آلاف، وسار إليه ابن الدانشمند وأسره. ثم جاء الإفرنج إلى قلعة أنكورية فملكوها، وقتلوا من بها من المسلمين. ثم حاصروا إسماعيل بن
الدانشمند فلقيهم كمستكين وهزمهم واستلحمهم، وكانوا ثلثمائة ألف. ثم ساروا إلى ملطية فملكوها وأسروا صاحبها. وزحف إليه إسمند من إنْطاكِية في الإفرنج فهمّ بهم ابن الدانشمند. فأتاح الله للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد متقاربة، حتى خلص إسمند من الأسر. وجاء إلى إنْطاكِية والإفرنج بها، وبعث إلى قيس والعواصم وما جاورها يطلب الإمارة فامتعض المسلمون لذلك، وقلدوه بعد العهد الذي إلتزمه.
حصار الإفرنج قلعة جبلة كانت جبلة من أعمال طرابلس، وكان الروم قد ملكوها، وولوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم. فلما صارت للمسلمين رجع أمرها لجمال الملك أبي الحسن علي بن عمار المستبدّ بطرابلس، وبقي منصور بن صليحة على عادته فيها. ثم توفي منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار، وأراد القبض عليه فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العباسية، واستنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش فجاءه، ومعه أتابك طغركين فامتنع عليهم ورجعوا. ثم جاء الإفرنج فحاصروها فامتنعت عليهم أيضاً وشاع أن بركيارق جاء إلى الشام فرحلوا. ثم عادوا وأظهروا أن المصريين جاؤا لإنجاده فرحلوا. ثم عادوا فتقدّم للنصارى الذين عنده أن يداخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم ثلثمائة من أعيانهم فرفعهم بالحبال واحداً بعد واحد، وهو قاعد على السور حتى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه ثم عادوا إليه فهزمهم وأسر ملهم كبرانيطل، وفادى نفسه منه بمال عظيم ثم ابن صليحة وجهده الحصار فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق. وبعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله، ويعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل. وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحله من الأنبار فبعث الوزير من استولى عليها فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس والعمائم والمتاع، وانتزع ذلك كله. ولما ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا علي بن عمار صاحب طرابلس، واستدعوه لملكها فبعث إليهم عسكراً وقاتلوا تاج الملك ومن معه فهزموه وأخذوه أسيرا
ً
وملكوا جبلة بدعوة ابن عمار وحملوا تاج الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه، وبعث إلى أبيه بدمشق واعتذر له بأنه خاف على جبلة من الإفرنج.
استيلاء الإفرنج علي سروج وقيسارية وغيرهما ثم سار كبريري ملك الإفرنج من بيت المقدس سنة أربع وتسعين لحصارها فأصابه منهم سهم فقتله، فسار أخوه بغدوين في خمسمائة فارس إلى القدس. ونهض دقاق صاحب دمشق، ومعه جناح الدولة صاحب حمص لاعتراضه فهزموا الإفرنج وأثخنوا فيهم ثم كاتب أهل المدينة الإفرنج وكان أكبرهم، ودخل في طاعتهم. وكان سقمان بن أرتو صاحب سروج جمع جموعه من التركمان، وسار إلى الرها فلقيه الإفرنج وهزموه في ربيع سنة أربع وتسعين. وساروا إلى سروج فحاصروهم حتى ملكوها عنوة واستباحوها. ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة، وملكوا أرسوف بالأمان. ثم ساروا في رجب إلى قيسارية فملكوها عنوة واستباحوها، والله تعالى ولي التوفيق بمنّه كرمه. حصار الإفرنج طرابلس وغيرها كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس، وزحف إليه قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فظفر به. وعاد صنجيل مهزوماً فأرسل فخر الدولة بن عمار صاحب طرابلس، إلى أمير آخر، نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته. فجاء تاج الدولة بنفسه، وجاء العسكر مدداً من عند دقائق، واجتمعوا على طرابلس. وفرّق صنجيل الفلّ الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم، وفتك هو في أهل طرابلس وشدّ حصارها. وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها. ثم صالحوه على مال وخيل. ورحل عنهم إلى طرطوس من أعمال طرابلس فحاصرها وملكها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار ومقدمه ابن العريض فامتنع عليهم، وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره، وأسروا زعيماً من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير، ولم يعاوده. وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة. ثم سار صنجيل إلى حصن الأكراد وحاصره جناح الدولة لغزوه فوثب عليه باطني بالمسجد وقتله. ويقال أنّ رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص، وحاصرها وملك أعمالها. ثم نزل القمص على عكا في جمادي الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل لقتاله، وهزموه وأحرقوا أهله والمنجنيقات التي نصبت للحرب. ثم سار القمص صاحب الرها إلى السروج وحاصرها فامتنعت عليه، وزحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون، ونجا إلى الرملة، وهم في أتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا، وفشل القتل والأسر في الإفرنج والله تعالى ولي التوفيق.
حصار الإفرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر
لما طمع الإفرنج في عسقلان، واستفحل أمرهم بالشام، جهز الأفضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسي مولى أبيه. وزحف بغدوين ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا وهزمهم. ومات سعد متردّياً عن فرسه، واستولى الإفرنج على سواده. وبعث الأفضل بعده إبنه شرف المعالي فلقيهم في العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم ونال منهم، ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة مرة ليلة، وملك الحصن فقتل وأسر ونجا بغدوين إلى يافا ، ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيارة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فامتنعت ورجعوا وبعث شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البرّ مع تاج العجم مولى أبيه، والأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس. فلما وصل الأسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع، فأرسل الأفضل من قبض عليه، وولّى على العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرفت السنة، وبيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان، ولهم أيضاً من الشام يافا وأرسوف وقيسارية وحيفا وطبرية والأردن واللاذقية وإنْطاكِية، ولهم بالجزيرة الرها وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس، وهو يرسل أسطوله للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية. ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعفر، واكتسحوا نواحيها. وكانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه إياها سنة تسع وسبعين كما مرّ الله أعلم.
استيلاء الإفرنج على جبيل وعكا
وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقاً كثيراً من التجّار والحجّاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصروها حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان. ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في استباحتها. ثم استنجدهم بغدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها برّاً وبحراً وفيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا، وهرب عنها إلى دمشق وملك الإفرنج عكا عنوة وأفحشوا في استباحتها، والله تعالى أعلم.
غزو أمراء السلجوقية بالجزيرة الفرنج
كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة واختلاف تمكن فيها الإفرنج واستطالوا وكانت حرّان وحمص لمولى من موالي ملك شاه إسمه قراجا، والموصل لجكرمش وحصن كيفا لسقمان بن أرتق وعصى في حران على قراجا بأمته فيها فاغتاله جاولي، مولى من موالي الترك وقتله فطمع الإفرنج في حرّان وحاصروها. وكان بين جكرمش وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران، واجتمعا على الخابور وتحالفا، ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان، ومع جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك، ومن العرب والأكراد. وسار إليهم الإفرنج من حران فاقتتلوا، واستطرد لهم المسلمون بعيداً، ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم وكان إسمند صاحب أنْطاكِية وشكرى صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم، وأقاموا هنالك إلى الليل. ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا فيهم. وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها، أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من الغنائم، وحسنوا له أخذ القمص من سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة جكرمش وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذراً من إختلاف المسلمين وسار مفارقاً لهم وكان يمرّ
بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظناً بنصر أصحابهم فملكها عليهم. وسار جكرمش إلى حران فملكها وولى عليها من قبله. ثم سار إلى الرها وحاصرها أياماً وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردويل بخمسة وثلاثين ألف دينار ومائة وستين أسيراً، والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب ثم سار شكري صاحب إنْطاكِية من الإفرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن أريام من حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم، وخرج الإفرنج للقائه. ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد صباوو، من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز، ولقيهم الإفرنج فانهزموا أوّلاً ثم استماتوا وكرّوا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم، وقتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى. ونجا رضوان وأصحابه إلى حلب، ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق، ورجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب وملكه الإفرنج ، والله تعالى ولي التوفيق. حرب الإفرنج مع عساكر مصر كان الأفضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين إبنه شرف المعالي في العساكر إلى الرملة فملكها، وقهر الإفرنج. ثم اختلف العسكر في إدعاء الظفر وكادوا يقتتلون، وأغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر فبعث الأفضل إبنه الآخر سناء الملك حسيناً مكانه في العساكر، وخرج معه جمال الدين صاحب عسقلان، واستمدوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم أصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية. وقصدهم بغدوين صاحب القدس وعكا فاقتتلوا وكثرت بينهم القتلى، واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا، وعاد كل إلى بلده. وكان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكباش بن تتش ذهب مغاضباً عن دمشق لما عدل عنه طغركين الاتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق، وأقام عند الإفرنج، والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بِمنّه. حرب الإفرنج مع طغركين كان قمص من قمامصة الإفرنج بالقرب من دمشق، وكان كثيراً ما يغير عليها ويحارب عساكرها
فسار إليه طغركين في العساكر، وجاء بقدوين ملك القدس لإنجاده على المسلمين فرده ذلك القمص ثقة بكفاءته فرجع إلى عكا وسار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم. ثم خرب الحصن وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به، وقتل من سواهم من أهله وعاد إلى دمشق ظافراً. ثم سار بعد أسبوع إلى وبه ابن أخت صنجيل فملكه وقتل حاميته.
استيلاء الإفرنج على حصن أفامية كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلباً على حمص وملكها منه تتش كما مر، وانتقلت الأحوال إلى مصر. ثم أن رضوان صاحب حلب إنتقض عليه وإليه بحصن أفامية، وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر، واستدعى منهم والياً فبعثوا خلف بن ملاعب لإيثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعبى في أفامية واستبدّ بها واجتمع عليه المفسدون. ثم ملك الإفرنج من أعمال حلب وأهله رافضة، ولحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية. ثم اعمل التدبير عليه، وبعث إلى أبي طاهر الصائغ من أصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم، وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان. وشعر بذلك إبنا ابن ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضي عليه وجاء القاضي فحلف له على كذبه، وصدّقه وعاد القاضي إلى مداخلة أبي طاهر ورضوان في ذلك التدبير، وبعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض أفامية حتى تمّ التدبير، وأصعدهم القاضي وأصحابه ليلاً إلى القلعة فملكوها وقتلوا ابن ملاعب. وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر وقتل الآخر. وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد أن الحصن له فلم يمكنه القاضي وأقام عنده. وكان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضباً لأبيه فولاه حصناً من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه طغركين فهرب إلى الإفرنج، واستحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع وقتلوا القاضي المتغلب فيه والصائغ، وذلك سنة تسع وتسعين وخمسمائة.
خبر الإفرنج في حصار طرابلس
كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازماً لحصار طرابلس، وملك جبلة من يد ابن أبي صليحة وبنى على طرابلس حصنا وأقام عليها. ثم هلك وحمل إلى القدس ودفن. وأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الإفرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن. وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا وأسروا واستمّر الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات. واستنفد أهل الثروة مكسوبهم في الانفاق وضاقت أحوالهم، وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص وإنْطاكِية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم. ثم بلغ ابن عمار إنتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخاً، واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس. وخيم ابن عمار على دمشق وأكرمه طغركين. ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر بتبليغه والإحتفال لقدومه ووعده بالإنجاد
ولما رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان، وأمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه، وأن يستصحب العساكر التي بعثها مع الأمير مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو وأمره بإصلاح جاولي والمسير مع ابن عمار حسبما مرّ في أخبارهم. ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد واصطلحوا وودّعه ابن عمار بعد أن خلع عليه، وسار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر الموصل مودود والإنتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرّم سنة إثنتين وخمسمائة وسار منها إلى فملكها. وبعث أهل طرابلس إلى الأفضل أمير الجيوش بمصريستمدّونه ويسألون الوالي عليهم فبعث إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيب بالمدد والأقوات والسلاح وعدّة الحصار، واستولى على ذخائر ابن عمار، وقبض على جماعة من أهله، وحمل الجيمع في البحر إلى مصر.
خبر القمص صاحب الرها مع جاولي ومع صاحب إنْطاكِية
كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمس، ثم إنتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل، وحمل معه القمص بردويل صاحب الرها الذي كان
أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وأصحابه، وترك الموصل. ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم، وعلى أن يمدّه بنفسه وعساكره وماله متى أحتاج إلى ذلك ولما إنبرم العقد بينهما بعث يوالي سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل ناشر فأقام رهينة مكانه. ثم أطلقه جاولي ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة القمص. فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها ونهبها وسبى جماعة من أصحاب جاولي إلى الغدر فاعتذر بأنّ هذه البلاد ليست لكم.لما أطلق القمص سار إلى إنْطاكِية ليستردّ الرها من يد شكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردّها، وأعطاه ثلاثين ألف دينار. ثم سار القمص إلى تل ناشر، وقدم عليه أخوه جوسكين الذي وضعه رهينة عند جاولي. وسار شكري صاحب إنْطاكِية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولي فقاتلوه ورجع إلى إنْطاكِية وأطلق القمص مائة وستين من أسرى المسلمين ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على حصون إنْطاكِية وأمدّهم صاحب زغبان وكيسوم وغيرهما من القلاع شمال حلب، وهو من الأرمن، بألف فارس، وألقي راجل وخرج إليهم شكري وتراجعوا للحرب.
ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على شكري بردّ الرها على القمص صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة والأساقفة بأنّ إسمند خال شكري لما انصرف إلى بلاده، أوصاه بردّ الرها على صاحبها إذا خلص من الأسر فردّها شكري على القمص في صفر سنة ثلاث، ووفى القمص لجاولي بما كان بينهما. ثم قصد جاولي الشام ليملكه وتنقل في نواحيه كما مرّ في أخباره. وكتب رضوان صاحب حلب إلى شكري صاحب إنْطاكِية يحذره من جاولي ويستنجده عليه فأجابه وبرز من أنْطاكِية، وبعث إليه رضوان بالعساكر واستنجد جاولي القص صاحب الرها فأنجده بنفسه، ولحق به على منبج، وجاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل، وعلى خزائنه بها وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن أقسنقر فنزل جاولي تل ناشر، وتزاحف مع شكري هنالك
واشتدّ القتال واستمرّ أصحاب إنْطاكِية فتخاذل أصحاب جاولي وإنهزموا وذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين إلى تل ناشر والله تعالى أعلم.
حروب الإفرنج مع طغركين كان طغركين قد سار إلى طبرية سنة ثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت بقدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون. ثم استماتوا وهزموا الإفرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده، بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل ثم اصطلح طغركين وبقدوين لمدّة أربع سنين. وكان حصن غزيّة من أعمال طرابلس بيد مولي ابن عمار فعصى عليه، وانقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن، ونزل منه مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذراً أن يطلع الاتابك على مخلفه وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج، حتى إذا انقشع وانجلى سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصوناً للإفرنج منها حصن الأكمة وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه إنهزم طغركين وأصحابه إلى حمص، وملك السرداني حصن غزية بالأمان، ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بقدوين من القدس بالبقاء على الصلح وذلك في شعبان سنة إثنتين. استيلاء الإفرنج على طرابلس وبيروت وصيدا وجبيل وبانياس ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولي عليها نائبه، والإفرنج يحاصرونها وزعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل، وليس صنجيل الأوّل وإنما هو قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين السرداني فتنة واقتتلوا وجاء شكري صاحب إنْطاكِية مددا للسرداني. ثم جاء بقدوين ملك القدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس، ونصبوا عليها الأبراج فاشتد بهم الحصار، وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة، ثم زحفوا إلى قتالها بالأبراج وملكوها عنوة ثاني الأضحى واستباحوها وأثخنوا فيها. وكان النائب
بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال وملكها بالأمان، ونزل على مدينة جبيل، وبها فخر الملك ابن عمار فاستأمنوا إلى شكري وملكها. ولحق ابن عمار بشيزر فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن منقذ الكناني، ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبداني، من أعمال دمشق، في محرم سنة أربع، ووصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فأرسى بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت. ثم استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة. وذلك أنه وصل أسطول للإفرنج من ستين مركباً مشحونة بالرجال والذخائر، وبها ملوكهم بقصد الحج والغزو فاجتمعوا مع بقدوين صاحب القدس، ونازلوا صيدا براً وبحراً، وأسطول مصر يعجز عن إنجادهم. ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الإفرنج في جمادى الأولى، ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوما من الحصار. وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان، وعاد بقدوين إلى القدس.
استيلاء أهل مصر على عسقلان كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر، وقد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم عليها، وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مر آنفاً . وولي عليها شمس الخلافة فراسل بقدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر. وبعث الأفضل بن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد من قوادهم مورياً بالغزو، وأسر إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية مكانه بعسقلان. وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها الإفرنج فراسله وأقره على عمله، وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد، ووثبوا به فقتلوه، وبعثوا إلى الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله واستقامت أمورهم. استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب وغيره ثم جمع شكري صاحب أنْطاكِية واحتشد، وسار إلى حصن الأقارب على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي. ثم سار إلى حصن وزدناد
ففعل فيه مثل ذلك، وهرب أهله منه، ومارس على بلديهما. ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان، وأشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام. وراسلوهم في الهدنة فامتنعوا إلا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على إثنين وثلاثين ألف دينار وعدة من الخيول والثياب، وصاحب صور على سبعة آلاف دينار، وابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار، وعلي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار. ومدة الهدنة إلى حصاد الشعير. ثم اعترضت مراكب الإفرنج التجار من مصر فأخذوها وأسروهم. وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين، ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء، وقصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم، وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد. وبعث من دار الخلافة منبراً للجامع.
ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم، ومنعهم صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر، وبطلت الجمعة. وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء بالتجهز للجهاد، وأرسل إبنه الملك مسعوداً مع الأمير مودود صاحب الموصل ليلحق به الأمراء ويسيروا جميعاً إلى قتال الإفرنج. مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج ولما سار مسعود بن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل، إجتمع معهم الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر وإبنا برسق إبلتكي وزنكي أصحاب همذان، والأمير أحمد بك صاحب مراغة، وأبو الهيجاء صاحب اربل، وأياز بن أبي الغازي، بعثه أخوه صاحب ماردين. وساروا جميعاً إلى سنجار وفتحوا عدة حصون للإفرنج، ونزلوا على مدينة الرها وحاصروها، واجتمعوا مع الإفرنج على الفرات. وخام الطائفتان عن اللقاء، وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها، وشحنوها أقواتاً وعدة وأخرجوا الضعفاء منها. ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب، لأن الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة إرتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها. وجاءت عساكر السلطان إلى الرها، وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات، وحاصروا قلعة تل
ناشر شهراً ونصفاً فامتنعت، فرحلوا إلى حلب فقعد الملك رضوان عن لقائهم، ومرض هنالك سقمان القطبي، ورجعوا فتوفي في بالس، وحمل شلوه إلى بلده، ونزلت العساكر السلطانية على معرة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى مودود، ونزل عليه. ثم ارتاب لما رأى من الأمراء في حقه فدس للإفرنج بالمهادنة.
ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم. وبقي مودود مع طغركين على نهر العاصي. وطمع الإفرنج بافتراقهم فساروا إلى افامية. وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيزر إلى مودود وطغركين فرحل بهم إلى شيزر، وهون عليهم أمر الإفرنج. وضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا وأتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم حتى أبعدوا والله تعالى أعلم. حصار الإفرنج مدينة صور ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بقدوين ملك القدس وجمع الإفرنج، ونزلوا على مدينة صور في جمادي الأولى من سنة خمس وهي للأمير الأفضل صاحب مصر، ونائبه بها عز الملك الأغّر، ونصبوا عليها الأبراج والمجانيق. وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم. واشتدّ القتال بينهم وبعث أهل صور إلى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء إلى بانياس، وبعث إليهم بمائتي فرس واشتدّ القتال، وبعث نائب البلد إلى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد. وكان طغركين يغير على أعمال الإفرنج في نواحيها، وملك لهم حصناً من أعمال دمشق، وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر. ثم سار إلى صيدا وأغار عليها ونال منها ثم أزهت الثمرة وخشي الإفرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور إلى عكا. وجاء طغركين إلى صور فأعطى الأموال واشتغلوا بإصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم. أخبار مودود مع الإفرنج ومقتله ووفاة صاحب أنْطاكِية ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست إلى سروج، وعاث في نواحيها فخرج جكرمش صاحب تل ناشر وأغار على دوابهم فاستاقها من راعيها، وقتل كثيراً من العسكر
ورجع. ثم توفي الأمير الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن كاور فسار شكري صاحب أنْطاكِية من الإفرنج إلى بلاده ليملكها فمرض وعاد إلى انْطاكِية، ومات منتصف سنة ست، وملكها بعده ابن أخته سرجان واستقام أمره ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه تميرك صاحب سنجار واياز بن أبي الغازي صاحب ماردين، وطغركين صاحب دمشق، ودخلوا في محرّم سنة سبع إلى بلاد الإفرنج وخرج بقدوين ملك القدس وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات، وقصدوا القدس، ونزلوا على الأردن والافرنج عدوتهم، واقتتلوا منتصف المحرّم فانهزم الإفرنج، وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والأردن، وغنم المسلمون سوادهم. وساروا منهزمين فلقيهم عسكر طرابلس وانْطاكِية فشردوا معهم وأقاموا على جبل طبرية ، وحاصرهم المسلمون نحوا من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا إلى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فصل الربيع، وأذنوا للعساكر في الانطلاق. ودخل مودود إلى دمشق يقيم بها إلى أوان اجتماعهم، فطعنه باطني في الجامع حين منصرفه من صلاة الجمعة آخر ربيع الأول من السنة ومات من يومه، وأتهم طغركين بقتله، والله تعالى أعلم. أخبار البرسقي مع الإفرنج ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه اقسنقر البرسقي، ومعه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الإفرنج. وبعث إلى الأمراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكي بن أقسنقر وتميرك صاحب سنجار. وسار إلى جزيرة ابن عمر وملكها من يد نائب مودود. ثم سار إلى ماردين حاصرها إلى أن أذعن أبو الغازي صاحبها، وبعث معه ابنه أيازا في العساكر فساروا إلى الرها وحاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدّة سبعين يوماً فامتنعت وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا إلى شمشاط وسروج، وعاثوا في تلك النواحي وهلك في خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش، وكيسوم وزغبان من الإفرنج، وملكت زوجته بعده وامتنعت من الإفرنج. وأرسلت إلى البرسقي على الرها بطاعته، فبعث إليها صاحب الخابور فردّته بالأموال والهدايا وبطاعتها، فعاد من كان عندها من الإفرنج إلى أنْطاكِية والله أعلم.
الحرب بين العساكر السلطانية والفرنج كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق، لاتهامه إياه بقتل مودود فعصى وأظهر الخلاف، وتابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه وبين البرسقي فأهمّ السلطان شأنهما وشأن الإفرنج وقوّتهم، وجهز العساكر مع الأمير برسق صاحب همذان وبعث معه الأمير حيوس بك والأمير كسقري وعساكر الموصل والجزيرة، وأمرهم بغزو الإفرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان، وعبروا الفرات عند الرملة وجاؤا إلى حلب، وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص، وعرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب، واستنجدا أبا الغازي وطغركين فوصلا إليهما في ألفي فارس، وامتعا بها على العسكر فسار الأمير برسق إلى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثاً وسلمها للأمير قرجان صاحب حمص، بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء ذلك وفسدت ضمائرهم. وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص قد ساروا إلى إنْطاكِية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها، ووصل إليهم بانْطاكِية بقدوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الإفرنج، واجتمعوا على افامية واتفقوا على مطاولة المسلمين إلى فصل الشتاء ليتفرقوا. فلما أظلّ الشتاء، والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازي إلى ماردين وطغركين إلى دمشق والافرنج إلى بلادهم، وقصد المسلمون كفرطاب، وكانت هي وأفامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالافرنج فيها وأسروا صاحبها. ثم ساروا إلى قلعة أفامية فاستعصت عليهم فعادوا إلى المعرة وهي للافرنج. وفارقهم الأمير حيوس بك إلى وادي مراغة فملكه، وسارت العساكر من المعرة إلى حلب، وأثقالهم ودوابهم وهم متلاصقون فوصلت مقدمتهم إلى الشام وخربوا الأبنية وكان روميل صاحب إنْطاكِية قد سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمدافعة عن كفرطاب، وأظلّ على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان، وأقام الإفرنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها، حتى وصل الأمير برسق وأخوه زنكي فصعدا ربوة هناك. وأحاط الفلّ من المسلمين به وعزم برسق على الاستماتة. ثم غلبه أخوه زنكي على النجاة فنجا فيمن معه، واتبعهم الإفرنج فرسخا ورجعوا عنه، وافترقت العساكر الإسلامية منهزمة إلى بلادها وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد الشام من الإفرنج بعد هذه الواقعة، وسار الإفرنج إلى رميلة من أعمال دمشق فملكوها، وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الإفرنج. ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من
الحامية فبادر إليها سنة تسع وملكها عنوة، وقاتل وأسر وغنم وعاد إلى دمشق. ولم تزل رميلة بيد المسلمين إلى أن حاصرها الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم. وفاة ملك الإفرنج وأخبارهم بعده مع المسلمين ثم توفي بقدوين ملك الإفرنج بالقدس آخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان قد زحف إلى ديار بكر طامعا في ملكها فانتهى إلى تنيس، وشج في الليل فانتقض عليه جرحه وعاد إلى القدس فمات. وعاد القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمش وأطلقه جاولي، وكان حاضراً عنده لزيارة قمامة وكان أتابك طغركين قد سار لقتال الإفرنج، ونزل اليرموك فبعث إليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة إلى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين إلى طبرية. ونهب نواحيها، وسار منها إلى عسقلان. ولقي سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاؤا في أثر بقدوين عندما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أن صاحبهم تقدّم إليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد إلى دمشق وأتاه الخبر بأنّ الإفرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد أن ملكوا حصناً من أعماله فأرسل إليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك، حتى يئسوا من أنفسهم. وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل، وعاد الفلّ إلى دمشق وسار طغركين إلى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأنّ الإفرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران واكتسحوها فرجع طغركين إلى دمشق، وأبو الغازي إلى ماردين إلى حشد العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الإفرنج. ثم سار الإفرنج سنة ثلاثة عشر إلى نواحي حلب فملكوا مراغة، ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم أملاكهم، وزحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفا من العساكر والمتطوعة، ومعه أسامة بن مالك بن شيرز الكناني، والأمير طغان ارسلان بن افتكين بن جناح صاحب أرزن وسار الإفرنج إلى صنبيل عرمس قرب الأثارب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك، وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازي، وسار إليهم ودخل عليهم في مجتمعهم، وقاتلوه أشد القتال فلم يقاوموه وفتك بهم فتكة شنعاء. وقتل فيهم سرحان صاحب انْطاكِية وأسر سبعون من زعمائهم، وذلك منتصف ربيع من السنة ثم اجتمع فلّ الإفرنج
وعاودوا الحرب فهزمهم أبو الغازي وملك عليهم حصن الآت ربّ وزدنا ، وجاء إلى حلب فأصلح أحوالها وعاد إلى ماردين ثم سار جوسكين صاحب تل ناشر في مائتين من الإفرنج ليكبس حلة من أحياء طيء يعرفون ببني خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم، ودلوه على بقية قومهم من بني ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه إليهم، وسار هو من طريق آخر فضلّ عن الطريق، ووصل أصحابه إليهم، وأميرهم وعدة من ربيعة فقاتلهم وغلبهم، وقتل منهم سبعين وأسراثني عشر ففاداهم بمال جزيل من الأسرى، وبلغ إلى جوسكين في طريقه فعاد إلى طرابلس وجمع جمعا وأغار على عسقلان فهزمه المسلمون، وعاد مفلولا والله أعلم.
ارتجاع الرها من الإفرنج ثم سار بهرام أخو أبي الغازي إلى مدينة الرها وحاصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها. ولقيه النذير بأن جوسكين صاحب الرها وسروج قد سار لاعتراضه، وقد تفرق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل إليه الإفرنج، ودفعهم لأرض سنجة فوصلت فيها خيولهم فلم يفلت منهم أحد، وأسر جوسكين وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته إلا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل، وحبسه في خرت برت، ومعه كلمام ابن خالته وكان من شياطينهم وجماعة من زعمائهم، والله تعالى أعلم وبه التوفيق. استيلاء الإفرنج علي خرت برت وارتجاعها منهم كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت، وكان في جواره الإفرنج في قلعة كركر فحاصرهم بها، وسار بقدوين اليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الإفرنج، وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها وأصحابه. وسار مالك إلى حران في ربيع الأول وملكها ولما غاب من خرت برت تحيل الإفرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند. وسار بقدوين إلى بلده، وملك الآخرون القلعة فعاد مالك إليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم، ورتب فيها الحامية، والله تعالى ولي التوفيق.
استيلاء الإفرنج على مدينة صور
كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر، وكان بها عز الملك من قبل الأفضل بن
أمير الجيوش المستبدّ على الأمر بمصر، وتجهز الإفرنج لحصارها سنة ست فاستمدّوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله إسمه مسعود، فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة. وكتب إلى الأفضل بذلك، وسأله تردّد الأسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره. ثم قتل الأفضل، وجاء الأسطول إليها من مصر على عادته، وقد أمر مقدّمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الأسطول وحمله إلى مصر، وبعثوا به إلى دمشق وأقام الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور، وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر. ولما بلغ الإفرنج إنصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها. وبعث الوالي الأمير بذلك وبعجزه عن مقاومة حصارهم لها وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريباً من صريخها، وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد، وخروج من فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادى الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح البرسقي كفر طاب وإنهزامه من الإفرنج
ثم جمع البرسقي عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفرطاب وحاصرها فملكها
من الإفرنج. ثم سار إلى قلعة أعزاز شمالي حلب وبها جوسكين فحاصرها واجتمع الإفرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديدا فمحص الله المسلمين وانهزموا. وفتك النصارى فيهم، ولحق البرسقي بحلب فاستخلف بها إبنه مسعوداً وعبر الفرات إلى الموصل ليستمدّ العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله بمقتله، وولي إبنه عز الدين بعده قليلاً ثم مات سنة إحدى وعشرين، وولى السلطان محمود عماد الدين زنكي بن أقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة وديار بكر كما مرّ في أخبار دولة السلجوقية. ثم استولى منها على الشام وأورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه
الأعمال نذكرها إن شاء الله تعالى. ونشأت عن دولتهم دولة بني أيوب وتفرّعت منها كما نذكره ونحن الآن نترك من أخبار الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي وبني أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا تتكّرر الأخبار، ونذكر في هذا الموضع من أخبار الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعه المتأمل علم كيف يردّ كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه. الحرب بين طغركين والافرنج ثم إجتمعت الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة، وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاؤا إليه، وكان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين، وقاتلهم وسقط في المعترك فظنّ أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب فرسه، وسار معهم منهزماً والإفرنج في إتباعهم وقد أثخنوا في رجالة التركمان، فلما أتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق. ورجع الإفرنج من المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغاني والإسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله، وسار صاحب القدس وصاحب إنْطاكِية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة، ومن وصل في البحر للتجارة أو الزيارة، وساروا إلى دمشق في ألفي فارس ومن الرجال ما لا يحصى وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية آلاف فارس، وجاء الإفرنج آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للإغارة بالنواحي وجمع الميرة، وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه، ولقوا سرية الإفرنج، وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاؤا إلى دمشق. وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون. ثم أنّ إسمند صاحب إنْطاكِية سار إلى حصن القدموس وملكه، والله تعالى يؤيد من يشاء. هزيمة صاحب طرابلس ثم إجتمع سنة سبع وعشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة، وأغاروا على بلاد طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له. ثم كّروا عليه فهزموه ونالوا منه ونجا إلى
قلعة بقوين فتحصن بها، وحاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلاً في عشرين من أعيان أصحابه، ونجا إلى طرابلس، واستصرخ الإفرنج من كل ناحية. وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة. ثم تحيزوا إلى أرمينية، وتعذر على التركمان أتباعهم فرجعوا عنهم إنتهى.
فتح صاحب دمشق بانياس
كان بوري بن طغركين صاحب دمشق لما توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة، وولي مكانه إبنه شمس الملوك إسماعيل فاستضعفه الإفرنج، وتعرضوا لنقض الهدنة. ودخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم. وراسلهم شمس الملوك في ردّها عليهم فلم يفعلوا فتجهز وسار إلى بانياس في صفر سنة سبع وعشرين فنازلها وشدّد حصارها ونقب المسلمون سورها وملكوها عنوة واستلحموا الإفرنج بها. واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين. وكان الإفرنج قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا.
استيلاء شمس الملوك على الشقيف
ثم سار شمس الملوك إسمعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت وهو في الجبل المطلّ على بيروت وصيدا، وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم وهو ممتنع به. وقد تحاماه المسلمون والإفرنج وهو يحتمي من كل منهما بالآخر، فسار إليه شمس الملوك وملكه في المحرّم سنة ثمان وعشرين. وعظم ذلك على الإفرنج، وخافوا شمس الملوك فساروا إلى بلد حوران وعاثوا في جهاتها. ونهض شمس الملوك ببعض عساكره، وجمر الباقي قبالة الإفرنج، وقصد طبرية والناصرة وعكا فاكتسح نواحيها. وجاء الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا إلى بلادهم، وعظم عليهم خرابها وراسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجدّدها لهم إنتهى والله أعلم.
استيلاء الإفرنج على جزيرة جربة من أفريقية
كانت جزيرة جربة من أعمال أفريقية ما بين طرابلس وقابس، وكان أهلها من قبائل البربر قد
إستبدّوا بجزيرتهم عندما دخل العرب الهلاليون أفريقية، ومزقوا ملك صنهاجة بها. وقارن ذلك استفحال ملك الإفرنج برومة وما إليها من البلاد الشمالية. وتطاولوا إلى ملك بلاد المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم وأقماصهم إلى الشام فملكوا مدنه وحصونه كما ذكرناه آنفا وكان من ملوكهم القمص رجار بن نيغر بن خميرة، وكان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلية. ولما ضعف أمر المسلمين بها وانقرضت دولة بني أبي الحسين الكلبي منها سما رجار هذا إلى ملكها وأغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في الأسطول في سبيل التضريب بينهم ثم ملكها من أيديهم معقلاً معقلاً إلى أن كان آخرها فتخاطر إبّنه وما زرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار بها فملكها من يده صلحاً سنة أربع وستين وأربعمائة، وإنقطعت كلمة الإسلام بها. ثم مات رجار سنة أربع وتسعين فولى إبنه رجار مكانه، وطالت أيامه واستفحل ملكه، وذلك عندما هبت ريح الإفرنج بالشام، وجاسوا خلالها وصاروا يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين وكان رجار بن رجار يتعاهد سواحل أفريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث وخمسين أسطول صقلية إلى جزيرة جربة، وقد تقلص عنها ظلّ الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها وإشتدّ القتال. ثم اقتحموا الجزيرة عليهم عنوة وغنموا وسبوا واستأمن الباقون، وأقرّهم الإفرنج في جزيرتهم على جزية، وملكوا عليهم أمرهم والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
فتح صاحب دمشق بعض حصون الإفرنج:
ثم بعث شمس الملوك إسمعيل صاحب دمشق عساكره مع الأمير خزواش سنة إحدى وثلاثين إلى طرابلس الشام، ومعه جمع كثير من التركمان والمتطوعة. وسار إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه وهزموه وأثخنوا في عساكره، وأحجزه بطرابلس وعاثوا في أعماله وفتحوا حصن وادي ابن الأحمر من حصونه عنوة، واستباحوه واستلحموا من فيه من الإفرنج. ثم سار الإفرنج سنة خمس وثلاثين إلى عسقلان وأغاروا في نواحيها. وخرج إليهم عسكر مصر الذين بها فهزموا الإفرنج، وظفروا بهم وعادوا منهزمين، وكفى الله شرهم بمنه وكرمه.
استيلاء الإفرنج علي طرابلس الغرب: كان أهل طرابلس الغرب لما أنحلّ نظام الدولة الصنهاجية بأفريقية وتقلص ظلها عنهم قد استبدّوا بأنفسهم، وكان بالمهدية آخر الملوك من بني باديس، وهو الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز فاستبدّ لعهده في طرابلس أبو يحيى بن مطروح، ورفضوا دعوة الحسن وقومه. وذلك عندما تكالب الإفرنج على الجهات فطمع رجار في ملكها. وبعث أسطوله في البحر فنازلها آخر سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فنقبوا سورها. وإستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم وخرجوا إلى الإفرنج فهزموهم، وغنموا أسلحتهم ودوابهم. ورجع الإفرنج إلى صقلية فتجهزوا إلى المغرب، وطرقوا جيجيل من سواحل بجاية. وهرب أهلها إلى الجبل ودخلوها فنهبوها وخربوا القصر الذي بناه بها يحيى بن العزيز بن حماد ويسمى النزهة، ورجعوا إلى بلادهم. ثم بعث رجار أسطوله إلى طرابلس سنة إحدى وأربعين فأرسى عليها ونزل المقاتلة وأحاطوا بها براً وبحراً وقاتلوها ثلاثاً وكان أهل البلد قد إختلفوا قبل وصول الإفرنج وأخرجوا بني مطروح، وولوا عليهم رجلاً من أمراء لمتونة قام حاجا في قومه فولوه أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الإفرنج، إجتمعت شيعة بني مطروح وأدخلوهم للبلد. ووقع بينهم القتال فلما شعر الإفرنج بأمرهم بادروا إلى الأسوار فنصبوا عليها السلالم، وتسنموها وفتحوا البلد عنوة، وأفحشوا في القتل والسبي والنهب ونجا كثير من أهلها إلى البربر والعرب في نواحيها. ثم رفعوا السيف ونادوا بالأمان فتراجع المسلمون إلى البلد، وأقروهم على الجزية وأقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها وفنادقها، وولوا عليها ابن مطروح وأخذوا رهنه على الطاعة، ونادوا في صقلية بالمسير إلى طرابلس فسار إليها الناس وحسنت عمارتها. استيلاء الإفرنج على المهدية: كانت قابس عندما إختلّ نظام الدولة الصنهاجية واستبدّ بها ابن كامل بن جامع من قبائل رياح، إحدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجرائي وزير المستنصر بمصر على المعز بن باديس وقومه فأضرعوا الدولة، وأفسدوا نظامها وملكوا بعض أعمالها واستبدّ آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس هذه في قسمة بني دهمان هؤلاء وكان لهذا العهد
رشيد أميراً بها كما ذكرنا ذلك في أخبار الدولة الصنهاجية من أخبار البربر. وتوفي رشيد سنة إثنتين وأربعين وخمسمائة ونصب مولاه يوسف إبنه الصغير محمد بن رشيد، وأخرج إبنه الكبير معمراً وإستبد على محمد وتعرض لحرمه سرّاً. وكان فيهن امرأة رشيد، وساروا إلى التمحض، بصاحب المهدية يشكون فعله وكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه، وتهدّده بإدخال الإفرنج إلى قابس فجهز إليه العساكر. وبعث يوسف إلى رجار صاحب طرابلس بطاعته، وأن يوليه على قابس كما ولى ابن مطروح على طرابلس. وشعر أهل البلد بمداخلته للإفرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم، وتحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة، وأخذ يوسف أسيراً وملك معمر قابس مكان أخيه محمد. وامتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك، وأخذ بنو قرة أختهم، ولحق عيسى أخو يوسف وولد يوسف برجار صاحب صقلية واستجاروا به وكان الغلاء قد اشتدّ بأفريقية سنة سبع وثلاثين ولحق أكثر أهلها بصقلية، وأكل بعضهم بعضاً وكثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة ونقض الصلح الذي كان بينه وبين الحسن بن علي صاحب المهدية لسنين. وجهز أسطوله مائتين وخمسين من الشواني وشحنها بالمقاتلة والسلاح، ومقدّم الأسطول جرجي بن ميخاييل أصله من المتنصرة، وقد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة والموحدين فقصد قوصرة وصادف بها مركباً من المهدية فغنمه ووجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الإفرنج أقلع إلى القسطنطينية. ثم أقلع فأصبح قريباً من المرسى في ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين، وقد بعث الله الريح فعاقتهم عن دخول المرسى ففاته غرضه وكتب إلى الحسن بأنه باق على الصلح، وإنما جاء طالباً بثأر محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع الحسن الناس، واستشارهم فأشاروا بالقتال فخام عنه وإعتذربقلة الأقوات وارتحل من البلد، وقد حمل ما خف حمله، وخرج الناس بأهاليهم وما خف من أموالهم، واختفى كثير من المسلمين في الكنائس. ثم ساعد الريح أسطول الإفرنج ووصلوا إلى المرسى ونزلوا إلى البلد من غير مدافع. ودخل جرجي القصر فوجده على حاله مملوءاً بالذخائر النفيسة التي يعز وجود مثلها. وبعث بالأمان إلى كلّ من شرد من أهلها فرجعوا وأقرهم على الجزية. وسار الحسن بأهله وولده إلى المعلقة وبها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين، ولقيه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال إنكسر له في ديوانه فأخذ إبنه يحيى رهينة به ولما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه وبرمقدمه، جزاء بما كان يؤثره على العرب ويرفع محله وأقام عنده شهراً. ثم عزم على المسير إلى مصر، وبها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجي الشواني في البحر
فرجع عن ذلك، وإعتزم على قصد عبد المؤمن من ملوك الموحدين بالمغرب، وفي طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بني عمه حماد فأرسل إليه أبناءه يحيى وتميماً وعلياً يستأذنه في الوصول فأذن له. وبعث إليه من أوصله إلى جزائر بني مذغنة، ووكل به وبولده حتى ملك عبد المؤمن بجاية سنة أربع وأربعين وخبرهم مشروع هنالك ثم جهز جرجي أسطولاً آخر إلى صفاقس، وجاء العرب لإنجادهم فلما توافوا للقتال استطرد لهم الإفرنج غير بعيد فهزموهم. ومضى العرب عنهم، وملك الإفرنج المدينة عنوة ثالث عشر صفر، وفتكوا فيها ثم أمنوهم وفادوا وأسراهم وأقروهم على الجزية وكذا أهل سوسة. وكتب رجار صاحب صقلية إلى أهل سواحل أفريقية بالأمان والمواعد. ثم سار جرجي إلى إقليبية من سواحل تونس، واجتمع إليها العرب فقاتلوا الإفرنج وهزموهم ورجعوا خائبين إلى المهدية. وحدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلية وبين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل رجار بها عن أفريقية. وكان متولي كبرها جرجي بن ميخاييل صاحب المهدية. ثم مات سنة ست وأربعين فسكنت تلك الفتنة، ولم يقم لرجار بعده أحد مقامه، والله تعالى أعلم.
استيلاء الإفرنج على بونة ووفاة رجار صاحب صقلية وملك إبنه غليالم: ثم سار أسطول رجار من صقلية سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة، وقائد الأسطول بها وقتات المهدوي فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها واستباحها، وأغضى عن جماعة من أهل
العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى القرى. وأقام بها عشرا ورجع إلى المهدية، ثم إلى صقلية فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه. ثم إتهم في دينه فاجتمع الأساقفة والقسوس وأحرقوه. ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولي إبنه غليالم مكانه. وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقياني فأساء التدبير، واختلفت عليه حصون من صقلية وبلاد قلورية، وتعدّى الأمراء على أفريقية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.
استيلاء الإفرنج علي عسقلان: كانت عسقلان في طاعة الظافر العلوي ومن جملة ممالكه وكان الإفرنج يتعاهدونها بالحصار مرة بعد مرة. وكان الوزراء يمدّونها بالأموال والرجال والأسلحة. وكان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما قتل ابن السلار سنة ثمان وأربعين إضطرب الحال بمصر، حتى ولي عباس الوزارة فسار الإفرنج خلال ذلك من بلادهم بالشام وحاصروا عسقلان وامتنعت عليهم ثم اختلف أهل البلد وآل أمرهم إلى القتال فاغتنم الإفرنج الفرصة، وملكوا البلد وعاثوا فيها، والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده. ثورة المسلمين بسواحل أفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها: قد تقدّم لنا وفاة رجار وملك إبنه غليالم، وإنه ساء تدبير وزيره فاختلف عليه الناس وبلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بافريقية. وكان رجار قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس
لما تغلب عليها أبو الحسن الفرياني منهم، وكان من أهل العلم والدين. ثم عجز عن ذلك، وطلب ولاية إبنه عمر فولاه رجار، وحمل أبا الحسين إلى صقلية رهينة، وأوصى إبنه عمر وقال: يا بني أنا كبير السنّ، وقد قرب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في إنقاذ المسلمين من ملكة العدو فافعل، ولا تخش علي وأحسبني قدمت. فلما اختل أمر غليالم دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالإفرنج فثاروا بهم، وقتلوهم سنة إحدى وخمسين، وأتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس، ومحمد بن رشيد بقابس. وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها، وذهب حكم الإفرنج عن أفريقية ما عدا المهدية وسوسة وأرسل عمر الفرياني إلى زويلة قريباً من المهدية يغريهم بالوثوب على الإفرنج الذين معهم فوثبوا، وأعانهم أهل ضاحيتهم، وقاتلوا الإفرنج بالمهدية، وقطعوا الميرة عنهم. وبلغ الخبر إلى غليالم فبعث إلى عمر الفرياني بصفاقس، وأعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة ودفنها وقال: هذا قد دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين، ومات شهيداً رحمه الله تعالى. وسار أهل صفاقس والعرب إلى زويلة واجتمعوا مع أهلها على حصار المهدية وأمدّهم غليالم بالأقوات والأسلحة، وصانعوا العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب وركب أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضاً وأتبعهم الإفرنج فعاجلوهم عن زويلة وقتلوهم ثم إقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها واستباحوه.
إرتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الإفرنج: ولما وقع بأهل زويلة من الإفرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب يستصرخونه فأجاب صريخهم ووعدهم وأقاموا في نزله وكرامته وتجهز للمسير، وتقدّم إلى ولاته وعماله بتحصيل الغلات وحفر الآبار. ثم سار في صفر سنة أربع وخمسين في مائة ألف مقاتل، وفي مقدمته الحسن بن عليّ صاحب المهدية، ونازل تونس منتصف السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة صنهاجة وجاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر. ثم نزل إليه من سورها عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لأهل البلد ولأنفسهم فأمنهم على مقاسمتهم في أموالهم، وعلى أن يخرج إليه ابن خراسان فتم ذلك كله. وسار عنها إلى المهدية وأسطوله محاذيه في البحر فوصلها منتصف رجب من السنة، وبها أولاد الملوك والزعماء من الإفرنج وقد أخلوا
زويلة وهي على غلوة من المهدية فعمرها عبد المؤمن لوقتها. وامتلأ فضاء المهدية بالعساكر وحاصرها أياماً وضاق موضع القتال من البّر لاستدارة البحر عليها لأنها صورة يد في البحر وذراعها في البر، وأحاط الأسطول بها في البحر وركب عبد المؤمن البحر في الشواني ومعه الحسن بن عليّ فرأى حصانتها في البحر وأخذ في المطاولة، وجمع الأقوات حتى كانت في ساحة معسكرة كالتلال وبعث إليه أهل صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة بطاعتهم وبعث عسكراً إلى قابس فملكها عنوة وبعث إبنه عبد الله ففتح كثيراً من البلاد ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند صاحب قفصة في جماعة من أعيانها فبذل طاعته، ووصله عبد المؤمن بألف دينار ولما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلية في مائة وخمسين من الشواني غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها، وبعث إليه صاحب صقلية بقصد المهدية. فلما أشرفوا على المرسى قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن، ووقف عسكره على جانب البرّ وعبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب ويجأر بالدعاء فانهزم أسطول الإفرنج وأقلعوا إلى بلادهم وعاد أسطول المسلمين ظافراً. وأيس أهل المهدية من الإنجاد، ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم الحصار ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الإسلام فأبوا ولم يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم وأعطاهم السفن فركبوا فيها وكان فصل شتاء فمال عليهم البحر وغرقوا ولم يفلت منهم إلا الأقل ودخل عبد المؤمن المهدية في محرم سنة خمس وخمسين لاثنتي عشرة سنة من ملك الإفرنج، وأقام بها عشرين يوماً فأصلح أمورها وشحنها بالحامية والأقوات، واستعمل عليها بعض أصحابه، وأنزل معه الحسن بن علي وأقطعه بأرضها له ولأولاده، وأمر الوالي أن يقتدي برأيه، ورجع إلى المغرب، والله تعالى أعلم. حصار الإفرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس: كان أسد الدين شيركوه بن شادي عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل سنة تسع وخمسمائة، منجداً لشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعة الضرغام كما سيأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى. وسار نور الدين من دمشق في عساكره إلى بلاد الإفرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه وخرج ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين
على تنيس وأتبعه إلى القاهرة ونزلها منتصف السنة وأعاد شاور إلى الوزارة ونقض ما بينه وبين أسد الدين وتأخر إلى تنيس. وخشي منه ودس إلى الإفرنج يغريهم به، وبذل لهم المال فطمعوا بذلك في ملك الديار المصرية وسار ملك القدس في عساكر الإفرنج، وإجتمعت معه عساكر المسلمين. وساروا إلى أسد الدين فحاصروه في بلبيس ثلاثة، ولم يظفروا منه بشيء. ثم جاءهم الخبر بأن نور الدين العادل هزم أصحابهم على خارد وفتحها.ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم وطلبوا الصلح من أسد الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك، وخرج من بلبيس سائراً إلى الشام. ثم عاد إلى مصر سنة إثنتين وستين وعبر النيل من أطفج ونزل الجزيرة. واستمد شاور الإفرنج فساروا إليه بجموعهم. وكان أسد الدين قد سار إلى الصعيد، وانتهى إلى فسار الإفرنج والعساكر المصرية في أثره فأدركوه منتصف السنة، وإستشار أصحابه فاتفقوا على القتال، وأدركته عساكر الإفرنج ومصر، وهو على تعبيته، وقد أقام مقامه في القلب راشد حذرا من حملة الإفرنج وانحاز فيمن يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الإفرنج على القلب فهزموهم وأتبعوهم وخالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم وأثخن فيهم ورجع الإفرنج من أثناء القلب فانهزموا وإنهزم أصحابهم، ولحقوا بمصر. ولحق أسد الدين بالاسكندرية فملكها صلحاً، وأنزل بها صلاح الدين ابن أخيه، وحاصرته عساكر الإفرنج ومصر وزحف إليهم عمه أسد الدين من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها إياه، ولا يقيم في البلد أحد من الإفرنج، ولا يملكون منها شيئاً فقبلوا ذلك وعادوا إلى الشام. وملك أهل مصر الاسكندرية، واستقر بينهم وبين الإفرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة، وأن يكون أبوابها في علقها وفتحها بأيديهم وأن لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة ولم ذلك منه وعاد الإفرنج إلى بلادهم بالسواحل الشامية والله تعالى أعلم.
حصار الإفرنج القاهرة: ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر وقتله شاور سنة أربع وستين باستدعاء العاضد، لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين. وأرسل إلى الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة
يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم وملك الإفرنج يومئذ بالشام مرى ولم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأيا فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها. وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها، وإن ملكها قبلنا إحتاج إلى مصانعتنا فأبوا عليه وقالوا: إنما نزداد بها قوة فرجع إلى رأيهم. وساروا جميعاً إلى مصر، وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع وستين فملكوها عنوة واستباحوها ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر شاور بإحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة، فنهبت المدينة، ونهب أموال أهلها وبغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدة شهرين. وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتدّ عليه الحصار. وبعث شاور إلى ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف ألف دينار مصرية، ويهدّده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريباً حتى يصل إليهم بقية المال، وعجز عن تحصيله والافرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شيركوه في عسكر يقيمون عندهم، على أنّ لنور الدين ثلث بلاد مصر، ولأسد الدين إقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص، وكانت إقطاعه. وأمر بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والأسلحة، وحكمه في العساكر والخزائن وما يحتاج إليه وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده، وأعانهم أسد الدين بعشرين دينارا لكل فارس. وبعث معه جماعة من الأمراء: منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج، وشرف الدين بن بخش وعين الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان، وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب. وسار إلى مصر فلما قاربها إرتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم، ودخل هو إليها منتصف السنة، وخلع عليه العاضد وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات الوافرة ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين بما وقع إتفاقهم معه عليه، وحدّث نفسه بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الإفرنج ولم يتم له ذلك. وشعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه، وعز الدين خرديك مولاه عند قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه وقتلاه وفوّض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين وتقاصر الإفرنج عنها. ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في أخبار دولته والله أعلم.
حصار الإفرنج دمياط: ولما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشية الإفرنج على ما بأيديهم من مدن الشام وسواحله، وكاتبوا أهل ملتهم ونسبهم بصقلية وافرنسة يستنجدونهم على مصر ليملكوها، وبعثوا الأقسة والرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم لحمايتها وواعدوهم بدمياط طمعا في أن يملكوها ويتخذوها ركابا للاستيلاء على مصر فاجتمعوا عليها وحاصروها لأول أيام صلاح الدين وأمدهم صلاح الدين بالعساكر والأموال. وجاء بنفسه، وبعث إلى نور الدين يستنجده ويخوفه على مصر فتابع إليه الأمداد، وسار بنفسه إلى بلاد الإفرنج بالشام. واكتسحها وخربها
فعاد الفرنج إلى دمياط بعد حصار خمسين يوما نفَسّ الله عليهم ومن هذه القصة بقية أخبار الإفرنج متعلقة بالدولتين: دولة بني زنكي بالشام ودولة بني أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم إلى أن نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسبما تراه. ولم يبق إلا استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه ههنا.
استيلاء الإفرنج علي القسطنطينية: كان هؤلاء الإفرنج بعد ما ملكوه من بلاد الشام اختلفت أحوالهم في الفتنة والمهادنة مع الروم بالقسطنطينية، لاستيلائهم على الثغور من بلاد المسلمين التي تجاور الروم التي كانت بأيديهم من قبل وظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرات ثم غلبوا عليهم آخراً . وملكوا القسطنطينية من أيديهم فأقامت في أيديهم مدة. ثم ارتجعها الروم على يد شكري من بطارقتهم وكيفية الخبر عن ذلك أنّ ملوك الروم أصهروا إلى ملوك الإفرنج وتزوجوا منهم بنتاً لملك الروم فولدت ذكرا خاله الافرنسيس وثب عليه أخوه فانتزع الملك من يده وحبسه، ولحق الولد بملك الإفرنج خاله مستصرخاً به فوصل إليه، وقد تجهز الإفرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين. وكان صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى. وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دموس البنادقة وهو صاحب الأسطول الذي ركبوا فيه وكان
شيخا أعمى لا يركب ولا يمشي إلا بقائد. ومقدم الفرنسيس ويسمى المركيش، والثالث يسمى كبداقليد وهو أكثرهم عددا فجعل الملك ابن أخته معهم، وأوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية، ووصلوا إليها في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فخرج عمّ الصبي وقاتلهم. واضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلاد فاضطرب العسكر ورجعوا، وفتح شيعة الصبي باب المدينة، وأدخلوا الإفرنج. وخرج عمه هارباً ونصب الإفرنج الصبي في الملك، وأطلقوا أباه من السجن واستبدوا بالحكم وصادروا الناس وأخذوا مال البيع، وما على الصلبان من الذهب، وما على تماثيل المسيح والحواريين، وما على الإنجيل فعظم ذلك على الروم ووثبوا بالصبي فقتلوه، وأخرجوا الإفرنج من البلد، وذلك منتصف سنة ستمائة. وأقام الإفرنج بظاهرها محاصرين لهم. وبعث الروم صريخا إلى صاحب قونية ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان، ينهض لذلك وكان بالمدينة متخلفون من الإفرنج يناهزون ثلاثين ألفاً فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال أصحابهم، وأضرموا النار ثانياً فاقتحم الإفرنج وأفحشوا في النهب والقتل. ونجا كثير من الروم إلى الكنائس وأعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم. وخرج القسيسون والأساقفة في أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم. ثم تنازع الملوك الثلاثة على الملك بها، وتقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد فملكها على أن يكون لدموس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش ورودس وغيرهما. ويكون لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج، ولم يحصل أحد منهم شيئا إلا ملك القسطنطينية كبداقليد وتغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة الروم اسمه شكري فلم يزل بيده إلى أن مات. ثم غلب بعد ذلك على القسطنطينية وملكها من يد الإفرنج، والله غالب على أمره.
الخبر عن دولة بني أرتق وملكهم لماردين وديار بكر ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم: كان أرتق بن أكسك ويقال اكست، والأول أصح. كلمة أولها همزة ثم كافان الأولى ساكنة بينهما سين، من مماليك السلطان ملك شاه بن ألب ارسلان ملك السلجوقية، وله مقام محمود في
دولتهم وكان على حلوان وما إليها من أعمال العراق. ولما بعث السلطان ملك شاه عساكره إلى حصار الموصل مع فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفة بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم بن قريش فحاصره بآمد. ثم داخله في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه، ونجا إلى الرقة. ثم خشي أرتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار إلى حلب طامعاً في ملكها فلقيه تتش وهزمه. وكان لأرتق في تلك الواقعة المقام المحمود. ثم سار تتش إلى حلب وملكها، واستجار مقدمها ابن الحسين بأرتق فأجاره من السلطان تتش. ثم هلك ارتق سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة بالقدس. وملك من بعد ابنا ارتق ابن أخيهما أبو الغازي وسقمان. وكان لهما معه الرها وسروج. ولما ملك الإفرنج أنْطاكِية سنة إحدى وتسعين وأربعمائة اجتمعت الأمراء بالشام والجزيرة وديار بكر وحاصروها. وكان لسقمان في ذلك المقام المحمود. ثم تخاذلوا وافترقوا وطمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم. وسار إليها الملك الأفضل المستولي على دولتهم فحاصرها أربعين يوما وملكها بالأمان. وخرج سقمان وأبو الغازي ابنا ارتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج، وأحسن إليهم الأفضل وولى على بيت المقدس ورجع إلى مصر. وجاء الإفرنج فملكوها كما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية. ولحق أبو الغازي بالعراق فولي شحنة بغداد، وسار سقمان إلى الرها فأقام بها وكان بينه وبين كربوقا صاحب الموصل فتن وحروب أسر في بعضها ياقوتي ابن أخيه. ثم توفي كربوقا سنة خمسة وتسعين وولي الموصل بعده موسى التركماني وكان نائباً بحصن كيفا فزحف إليه جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وحاصره بالموصل واستنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كيفا فانجده وسار إليه وأفرج عنه جكرمس وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدراً، ورجع سقمان إلى حصن كيفا فملكه ثم كانت الفتنة بين أبي الغازي وكمستكين القيصري لما بعثه بركيارق شحنة على بغداد وكان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري من الدخول واستنجد أخاه سقمان فجاء إليه من حصن كيفا في عساكره ونهب تكريت وخرج إليه أبو الغازي، واجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الحلة، وعاثوا في نواحي بغداد وفتكوا بنفر من أهل البلد وبعث إليهم الخليفة في الصلح على أن يسير القيصري إلى واسط فسار إليها ودخل أبو الغازي بغداد، ورجع سقمان إلى بلده وقد مرّ ذلك في أخبارهم ثم استولى مالك بن بهرام أخي سقمان على عامّة الخرمية سنة سبع وتسعين، وكان له مدينة سروج فملكها منه الإفرنج، وسار إلى غانة فملكها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط. واستصرخوا بصدقة بن مزيد، وارتجعها لهم منه، وعاد إلى الحلة فعاد مالك فملكها واستقرّت في ملكه. ثم اجتمع سقمان وجكرمس صاحب الموصل على جهاد الإفرنج سنة سبع وتسعين، وهم محاصرون حران فتركوا المنافسة بينهم وقصدوهم وسقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الإفرنج، وأسروا القمص بردويل صاحب الرها، أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمس وأخذوه، وافترقوا بسبب ذلك وعادوا إلى ما كان بينهم من الفتن، والله أعلم.
استيلاء سقمان بن ارتق علي ماردين: كان هذا الحصن ماردين من ديار بكر، وأقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده، وكان في ولاية الموصل، وكان ينجّر إليه خلق كثير من الأكراد يفسدون السابلة. واتفق ان كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد، وهي لبعض التركمان، فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لإنجاده، وقاتل كربوقا قتالا شديداً. ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق وحبسه بقلعة
ماردين عند المغني فبقي محبوساً مدة طويلة، وكثر ضرر الأكراد فبعث ياقوتي إلى المغني صاحب الحصن في أن يطلقه، ويقيم عنده بالربض لدفاع الأكراد ففعل، وصار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط. وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للإغارة معهم فلا يهيجهم ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الإغارة ودنا من القلعة وعرضهم على القتل إن لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها. وجمع الجموع وسار إلى نصيبين، وأغار على جزيرة ابن عمر، وهي لجكرمس فكبسه جكرمس وأصحابه في الحرب بينهم فقتله، وبكاه جكرمس. وكان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت إلى أبيها وجمعت التركمان. وجاء سقمان بهم إلى نصيبين فترك طلب الثأر فبعث إليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته، ورجع وقدم بماردين بعد ياقوتي أخوه علي بطاعة جكرمس، وخرج منها لبعض المذاهب. وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمس فسار إليها سقمان، وعوض عليا ابن أخته جبل جور، وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا واستضاف إليهما نصيبين، والله أعلم. وفاة سقمان بن أرتق وولاية أخيه أبي الغازي مكانه بماردين: ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن أرتق على الإفرنج، وكان استبدّ بها على الخلفاء العلويين أهل مصر، ونازله الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن أرتق سنة ثمان وتسعين. وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبدّ بها من موالي بني تتش، يستدعيه لحضور وفاته، خوفاً على دمشق من الإفرنج فأسرع المسير إليه معتزماً على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين، وندم طغركين على استدعائه، وجعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه. ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره، وقد كان أصحابه عندما أشقي على الموت أشاروا عليه بالرجوع إلى كيفا فامتنع وقال: هذا جهاد وان مت كان لي ثواب شهيد. فلما مات حمله ابنه إبراهيم إلى
حصن كيفا فدفنه بها وكان أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد كما قدّمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين أخيه بركيارق. فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون بغداد له، وممالك أخرى من الممالك الإسلامية ومن جملتها حلوان، وهي أقطاع أبي الغازي فبادر وخطب لبركيارق ببغداد، فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد وكان من شيعة السلطان محمد فجاء إلى بغداد ليزعج أبا الغازي عنها ففارقها إلى يعقوب وبعث إلى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق، ويحكم الصلح في اقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك ومات بركيارق على أثر ذلك فخطب، أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه، فلما استولى على الأمر عزله عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمس فحاصروها. وبعث جكرمس إلى رضوان وأغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما، ورحلوا مفترقين على نصيبين. وسار أبو الغازي إلى ماردين، وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله تعالى أعلم.
اضطراب أبي الغازي في طاعته وأسره ثم خلاصه لما ولى السلطان محمد على الموصل والجزيرة وديار بكر سنة اثنتين وخمسمائة مودود بن أفتكين مكان جاولي سكاوو الذي ملكها من يد جكرمرّ كما مر في أخبارهم فوصل مودود إلى الموصل، وسار جاولي إلى نصيبين وهي يومئذ لأبي الغازي، وراسله في المظاهرة والانجاد فوصل إليه بماردين على حين غفلة مس مستنجدا به فلم يسعه إلا اسعافه، وسار معه إلى سنجار والرحبة وحاصرهما، وشق عليهما فلما نزل الخابور هرب أبو الغازي راجعاً إلى نصيبين، ثم إلى بلده، وبقي مضطرباً. ثم بعث السلطان محمد سنة خمس وخمسمائة إلى الأمير مودود بالمسير إلى قتال الإفرنج، وأن يسير الأمراء معه من كل جهة، مثل سقمان القطبي صاحب ديار بكر، وأحمد بك صاحب مراغة، وأبي الهيجاء صاحب اربل، وأبي الغازي صاحب ماردين فحضروا كلهم إلا أبا الغازي، فإنه بعث ولده أياز في عسكر فسارت العساكر إلى الرها وحاصروها، وامتنعت عليهم. ثم ساروا سنة ست وخمسمائة إلى سروج كذلك ثم ساروا سنة سبع إلى بلاد الإفرنج فهزموهم على طبرية ودوّخوا بلادهم وعاد مودود إلى دمشق وافترقت العساكر، ودخل دمشق ليشتي بها عند طغركين صاحبها فقتل غيلة بها واتهم طغركين في أمره وبعث السلطان مكانه
على العساكر والموصل اقسنقر البرسقي، وأمره بقصد الإفرنج وقتالهم، وكتب إلى الأمراء بطاعته، وبعث ابنه الملك مسعودا في عسكر كثيف ليكونوا معه فسار أقسنقر سنة ثمان وخمسمائة، وفرّ أبو الغازي وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه اياز في عسكر فحاصروا الرها وعاثوا في نواحيها، ثم سروج وشمشاط، وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع فقبض على أياز بن أبي الغازي، ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته إلى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان، وهو بحصن كيفا مستنجدا به فأنجده وساروا إلى البرسقي آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه أياز من الأسر. وأرسل السلطان إلى أبي الغازي يتهدّده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخا وكان طغركين مستوحشاً لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد وبعثا بذلك إلى صاحب انْطاكِية فجاء إليهما قرب حمص، وتحالفا وعاد إلى انْطاكِية. وسار أبو الغازي إلى ديار بكر في خف من اصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث إلى السلطان بخبره، وأبطأ عليه وصول جوابه فيه. وجاء طغركين إلى حمص فدخل على قيرجان وألحّ عليه بقتل أبي الغازي ثم أطلقه قيرجان وأخذ عليه وسار أبو الغازي إلى حلب وبعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الأمراء لقتال أبي الغازي، وقتال الإفرنج بعده فساروا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم، مولى رضوان بن تتش، كفل ابنه ألب ارسلان بعد موته، ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان إليهما في ذلك وبادر أبو الغازي وطغركين فدخلا إليهما فامتنعت عليهما فساروا إلى حماة من أعمال طغركين، وبها ذخائره ففتوها عنوة ونهبوها، وسلموها إلى الأمير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم اياز بن أبي الغازي وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص ساروا إلى روجيل صاحب أنْطاكِية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بقدوين صاحب القدس، والقمص صاحب طرابلس وغيرهما. واتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرّقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة افامية فلم تبرح العساكر مكانها فافترقوا وعاد طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين والافرنج إلى بلادهم. ثم كان اثر ذلك فتح كفرطاب على المسلمين، واعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب انْطاكِية، وقد جاء في خمسمائة فارس مدداً للافرنج في كفرطاب فانهزم المسلمون، وكان تمحيصهم ، ورجع برسق أمير العساكر وأخوه منهزمين إلى بلادهم. وكان اياز بن أبي الغازي أسيراً عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة، والله تعالى أعلم.
استيلاء أبي الغازي علي حلب: كان رضوان بن تتش صاحب حلب لمّا توفي سنة سبع وخمسمائة، قام بأمر دولته
لؤلؤ الخادم. ونصب ابنه ألب ارسلان في ملكه. ثم استوحش منه ونصب مكانه أخاه سلطان شاه واستبدّ عليه. ثم سار لؤلؤ الخادم إلى قلعة جعفر سنة إحدى عشرة ، بينه وبين مالك بن سالم بن بدران فغدر به مماليك الأتراك وقتلوه عند خرت برت، واستولوا على خزائنه. واعترضهم أهل حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولّي شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ . ثم عزل لشهر ووليّ أبو المعالي بن الملحي الدمشقي. ثم عزل وصودر واضطربت الدولة، وخشي أهل حلب على بلدهم من الإفرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق من ماردين وسلموا له البلد. وانقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم. ولما ملكها لم يجد فيها مالاً فصادر جماعة من الخدم، وصانع الإفرنج بمالهم. ثم سار إلى ماردين بغية العودة إلى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش.
واقعة أبي الغازي مع الإفرنج: ولما استولى أبو الغازي على حلب وسار عنها طمع في الإفرنج، وساروا إليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها، وحاصروها فلم يكن لأهلها بد من مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل المصانعة. وبعثوا إلى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا. وجمع أبو الغازي من العساكر والمتطوعة نحوا من عشرين ألفاً. وسار بهم إلى الشام سنة ثلاثة عشرة، ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني، وطغان ارسلان بن اسكين بن جناح صاحب ارزن الروم. ونزل الإفرنج قريباً من حصون الأماري في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش، وتحصنوا بالجبال من كل جهة إلا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي، ودخل عليهم من تلك المسارب، وهم غارون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين، وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت إلا القليل، وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلاثمائة ألف دينار، وقتل سرجان صاحب انْطاكِية ونجا فلهم من المعركة فاجتمع جماعة من الإفرنج وعاودوا اللقاء
فهزمهم أبو الغازي، وفتح حصن الأربارت ورزدنا، وعاد إلى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات إلى ماردين، وولّى على حلب ابنه سليمان. ثم وصل دبيس بن صدقة إلى أبي الغازي مستجيراً به. فكتب إليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي ، بإبعاد دبيس. ثم وقع بينه وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع. وسار أبو الغازي إلى الإفرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم. ثم سار هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الإفرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن، وكان لا يطيل المقام بدار الحرب لأن أكثر الغزاة معه. التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاة، فيستعجل العود إن فنيت ازوادهم والله أعلم.
انتقاض سليمان بن أبي الغازي بحلب: كان أبو الغازي قد ولّي على حلب ابنه سليمان فحمله بطانته على الخلاف على أبيه. وسار إليه أبوه تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه، وقبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك. وكان متولّي كبرها أمير كان لقيطاً لأبيه ونشأ في بيته فسمله وقطع لسانه. وكان منهم آخر من أهل حماة قدمه أبو الغازي على أهل حلب فقطعه وسمله فمات وأراد قتل ابنه. ثم ثنته الشفقة عليه، وهرب إلى دمشق وشفع فيه طغركين فلم يشفعه. ثم استخلف على حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار ولقبه بدر الدولة، وعاد إلى ماردين وذلك سنة خمس عشرة، ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضي بهاء الدولة أبي الحسن الشهرزوري شافعاً في دبيس وضامناً في طاعته فلم يتم ذلك. فلما انصرف تمرتاش إلى أبيه اقطع السلطان أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين. وكانت لسقمان القطبي صاحب خلاط فتسلمها أبو الغازي ولم تزل في يده إلى أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة، والله تعالى أعلم. واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها: قد تقدم لنا أن جوسكين من الإفرنج كان صاحب الرها وسروج، وأن مالك بن بهرام كان قد
ملك مدينة عانة فسار سنة خمس عشرة إلى الرها، وحاصرها أياما فامتنعت عليه، وسار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع الإفرنج، وقد تفرق عن مالك أصحابه. ولم يبق معه إلا أربعمائة فلحقوه في أرض رخوة قد نضب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم ولم يقدروا على التخلص فظفر بهم أصحاب مالك وأسروهم وجعل جوسكين في اهاب جمل وخيط عليه، وطلبوا منه تسليم الرها فلم يفعل، وحبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالا فلم يفادوه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
وفاة أبي الغازي وملك بنيه من بعده: ثم توفي أبو الغازي بن أرتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة فولي بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش، وملك سليمان ميافارقين. وكان بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها. ثم سار مالك بن بهرام بن أرتق إلى مدينة حران فحاصرها وملكها. وبلغه أن سليمان ابن عمه عبد الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعة الإفرنج، وأعطاهم حصن الاماري فطمع في ملك بلاده وسار إليها في ربيع سنة عشرة، وملكها من يده على الأمان. ثم سار سنة ثمان عشرة إلى منبج وحاصرها وملك المدينة، وحبس صاحبها حسان التغلبي. وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها، وسمع الإفرنج بذلك فساروا إليه فترك على القلعة من يحاصرها، ونهض إليهم فهزمهم، وأثخن فيهم، وعاد إلى منبج فحاصرها. وأصابه بعض الأيام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر وافترقوا، وخلص حسان من محبسه. وكان تمرتاش ابن أبي الغازي صاحب ماردين معه على منبج فلما قتل حمل شلوه إلى حلب ودفنه بها واستولى عليها. ثم استخلف عليها، وعاد إلى ماردين وجاء الإفرنج إلى مدينة صور فملكوها، وطمعوا في غيرها من بلاد المسلمين. ولحق بهم دبيس بن صدقة ناجيا من واقعته فع المسترشد فأطمعهم في ملك حلب، وساروا معه فحاصروها وبنوا عليها المساكن. وطال الحصار وقلت الأقوات، واضطرب أهل البلد وظهر لهم العجز من صاحبهم، ولم يكن في الوقت أظهر من البرسقي صاحب الموصل، ولا أكثر قوة وجمعاً منه فاستدعوه ليدافع عنهم ويملكوه. وشرط عليهم ان يمكنوه من القلعة قبل وصوله. ونزل فيها بوابه وسار فلما أشرف على الإفرنج ارتحلوا عائدين إلى بلادهم. وخرج أهل حلب فتلقوا البرسقي فدخل واستولى على حلب وأعمالها، ولم تزل بيده إلى أن هلك وملكها ابنه عز الدين. ثم هلك فولى السلطان محمود عليها أتابك زنكي حسبما يأتي
في أخبار دولته. ورجع تمرتاش إلى ماردين واستمر ملكه بها وكان مستولياً على كثير من قلاع ديار بكر. استولى سنة اثنتين وثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر، وكانت بيد بعض بني مروان من بقايا ملوك الأولين. وكان هذا آخرهم بهذه القلعة، وكان ملك ميافارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش، وملكها من يد أخيه سليمان، ولم يزل تمرتاش ملكاً بماردين إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وخمسمائة لاحدى وثلاثين سنة من ملكه، والله تعالى ولي التوفيق.
وفاة تمرتاش وولاية ابنه البي بعده: ثم توفي حسام الدين تمرتاش سنة سبع وأربعين وخمسمائة كما قلنا فملك بعده ابنه بماردين ألبي بن تمرتاش، وبقي ملكا عليها إلى أن مات وولّي بعده ابنه أبو الغازي بن ألبي إلى أن مات. ولم يذكر ابن الأثير تاريخ وفاتهما. وقال مؤرخ حماة: لم يقع إلى تاريخ وفاتهما. ولاية حسام الدين بولق ارسلان بن أبي الغازي بن ألبي: ولما توفي أبو الغازي بن ألبي قام بأمر ملكه نظام الملك النقش، ونصب للملك مكانه ابنه بولق ارسلان طفلا، واستبدّ عليه. وكان النقش غالبا على هواه حيث صار أمر الطفل في يده. ولم تزل حالهم على ذلك إلى أن هلك حسام الدين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة على عهد بولق هذا وكناه ابن الأثير حسام الدين ناصر الملك، قصد العادل أبو بكر بن أيوب ماردين، وخشيت ملوك الجزيرة، ولم يقدروا على منعه. ثم توفي العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر، وولّي أخوه الأفضل فاستنفر العادل أهل مصر ودمشق وأهل سنجار، وبعثهم مع ابنه الكامل، وحاصروا ماردين فبعث إليه النقش المستولي على بولق بالطاعة، وتسليم القلعة لأجل معلوم على أن يدخل إليهم الأقوات. ووضع العادل ابنه على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال، وشحنوها بالأقوات. وبينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لإنجادهم، وقاتلهم فانهزم عساكر العادل، وخرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه فرحلوا جميعاً منهزمين. ونزل حسام الدين بولق إلى نور الدين، ولقيه وشكر وعاد. ونزل نور الدين على دبيس، ثم رحل عنها قاصدا حوران كما نذكره في أخبار دولته إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
وفاة بولق وولاية أخيه أرتق:
ولما هلك بولق ارسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الأصغر ناصر الدين أرتق ارسلان بن قطب الدين أبي الغازي. ولم يذكر ابن الأثير خبر وفاته أيضاً، وبقي مملكا في كفالة النقش إلى سنة إحدى وستمائة، والله أعلم.
مقتل النقش واستبداد أرتق المنصور واتصال الملك في عقبه:
ثم استنكف أرتق من المحر، ومرض النقش سنة إحدى وستمائة فجاء أرتق لعيادته، وقتل لؤلؤ ا خادمه في بعض زوايا بيته، ورجع إلى النقش فقتله في فراشه، واستقل بملك ماردين، وتلقب المنصور وتوفي سنة ست وثلاثين وثلثمائة وملك بعده ابنه السعيد نجم الدين غازي بن أرتق وتوفي سنة ثمان أو ثلاث وخمسين، وملك بعده أخوه المظفر قرا ارسلان بن أرتق فأقام سنة أو بعضها. ثم هلك سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وملك بعده أخوه المنصور نجم الدين غازي بن قرا ارسلان إلى ان توفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لأربع وخمسين سنة من ولايته. وملك بعده ابنه المنصور أحمد إلى أن توفي سنة تسع وستين لثلاث سنين من ولايته. ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود أربعة أشهر، وخلعه عمه المظفر فخر الدين داود المنصور أحمد إلى أن توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وملك بعده ابنه مجد الدين عيسى وهو السلطان بماردين لهذا العهد. والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده.
ولما ملك هلاكو بن طلوخان بن جنكزخان مدينة بغداد وأعمالها، أعطاه المظفر قرا ارسلان طاعته، وخطب له في أعماله، ولم يزالوا يدينون بطاعة بنيه إلى أن هلك أبو سعيد بن خربهرا آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع وثلاثين فقطعوا الخطبة لهم، واستبد أحمد المنصور منهم وهو الثاني عشر من لدن أبي الغازي جدّهم الأول وأما داود بن سقمان فإنه ملك حصن كيفا من بعد سقمان أبيه وإبراهيم أخيه، ولم أقف على خبر وفاته وملك بعده ابنه فخر الدين قرا ارسلان بن داود، وملك أكثر ديار بكر مع حصن كيفا. وتوفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وملك بعده ابنه نور الدين محمد بعهده
إليه بذلك، وكانت بينه وبين صلاح الدين مواصلة ومظاهرة. ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد فظاهره صلاح الدين، وحاصرها من صاحبها ابن سنان سنة تسع وستين، وصارت من أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين. ثم توفي نور الدين محمد سنة إحدى وثمانين وخلف ولدين : فملك الأكبر منهما قطب الدين سقمان، وأقام بتدبير دولته العوام ابن سماق الأسعد وزير أبيه، وكان عماد الدين أخو نور الدين هو المرشح للإمارة، إلا أنه سار في العساكر مددا لصلاح الدين على حصار الموصل. فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد أخيه نور الدين فلم يظفر واستولى على خرت برت فانتزعها منهم وملكها وأورثها بنيه. فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان، وأقره على ملك أبيه بكيفا، وأبقى بيده آمد التي كان ملكها لأبيه، وشرط عليه مراجعته في أحواله والوقوف عند أوامره. وأقام أميراً من أصحاب ابنه قرا ارسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته. واستقر ملكه بكيفا وآمد وما إليهما، إلى أن توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة، تردى من جوسق له بحصن كيفا فمات. وكان أخوه محمود مرشحا لمكانه، إلا أن قطب الدين سقمان كان شديد البغضاء له، واشخصه إلى حصن منصور من آخر عملهم، واصطفى مملوكه اياسا وزّوجه بأخته وجعله ولي عهده. ولما توفي ملك بعده مملوكه، وشخص أهل الدولة فدسوا إلى محمود فسار إلى آمد، وسبقه اياس إليها ليدافعه فلم يطق، وملك محمود آمد واستولى على البلد كلها وحبس اياسا إلى أن أطلقه بشفاعة صاحب بلاد الروم ولحق به وانتظم في أمرائه، واستقل محمود بملك كيفا وآمد وأعمالهما ولقب ناصر الدين وكان ظالماً قبيح السيرة، وكان ينتحل العلوم الفلسفية وتوفي سنة تسعة عشر وستمائة وولي مكانه المسعود، وحدثت بينه وبين الأفضل بن عادل فتنة. واستنجد عليه أخاه الكامل فسار في العساكر من مصر، ومعه داود صاحب الكرك، والمظفر صاحب حماة فحاصروه بآمد إلى أن نزل عنها وجاء إلى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيساً إلى أن مات الكامل فذهب إلى التتر فمات عندهم. وأما عماد الدين بن قرا ارسلان الذي ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين فلم تزل في يده إلى أن توفي سنة إحدى وستمائة لعشرين سنة من ملكه إياها. وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر، وكانت بينه وبين ناصر الدين محمود ابن عمه نور الدين صاحب آمد وكيفا عداوة. ودخل محمود في طاعة العادى بن أيوب وحضر مع ابنه الأشرف في حصار الموصل على أن يسير معه بعدها إلى خرت برت فيملكها له، وكان نظام الدين مستنجدا به<*> الدين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فمات وسار الأشرف مع محمود بعساكره وحاصروا خرت برت في شعبان سنة إحدى وستين وملكوا ربضها. وبعث غياث الدين صاحب الروم إلى نظام الدين المدد بالعساكر مع الأفضل بن صلاح الدين صاحب سميساط، فلما انتهوا إلى ملطية أفرج الأشرف ومحمود عن خرت برت إلى بعض حصون نظام الدين بالصحراء ببحيرة سهنين، وفتحت في ذي الحجة سنة إحدى وستين فلما وصل الأفضل بعساكر غياث الدين ووصل الأشرف عن البحيرة راجعاً. جاء نظام الدين بالعساكر إلى الحصن فامتنع عليه، وبقي لصاحب آمد. ثم ملك كيغباد صاحب الروم حصن خرت برت من أيديهم سنة إحدى وثلاثين، وانقرض منها ملك بني سقمان، والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
خريطة
دولة بني زنكي بن أقسنقر
الخبر عن دولة بني زنكي بن أقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة والشام ومبادئ أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا ذكر اقسنقر مولى السلطان ملك شاه، وأنه كان يلقب قسيم الدولة. وان السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة ابن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد بن مروان، واستنجد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل، وهزمته العساكر، وانحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة إلى السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضي عنه ورده إلى بلده الموصل. واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكركما مر في موضعه من دولة بني مروان. ثم كان بعد ذلك شأن حلب، واستبد بها أهلها بعد انقراض دولة بني صالح بن مرداس الكلابي، وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش، وسليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم، وتُتش ابن السلطان ألب ارسلان. وقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش. ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء إلى حلب فملكها، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها. وقد كانوا بعثوا إلى السلطان ملك شاه واستدعوه لملكها فوصل إليهم سنة تسع وسبعين: ورحل تتش عن القلعة، ودخل البرية. واستولى السلطان على حلب، وولى عليها قسيم الدولة اقسنقر، وعاد إلى العراق فعمرها أقسنقر وأحسن السيرة فيها، وسار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه بفتح بلاد العلوية بمصر والشام ففتح الكثير منها وهو معه كما مر. وزحف قبل ذلك سنة ثمانين إلى بني منقذ بشيزر، فحاصره وضيق عليه. ثم رجع عنه عن صلح، وأقام بحلب ولم يزل والياً عليها إلى أن هلك السلطان سنة خمس وثمانين.
واختلف ولده من بعده، وكان أخوه تتش قد استولى على الشام منذ سنة إحدى وسبعين. فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر، وسار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه بالشام، وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة أقسنقر، وحمل باغيسيان صاحب أنْطاكِية وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الأمر في ولد سيدهم ملك شاه. وساروا مع تتش إلى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها، ثم إلى نصيبين ففتحها عنوة، ثم إلى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران، وتولى كبر هزيمته أقسنقر، وقتل قريش بن إبراهيم وملك الموصل من يده وولى تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش. وسار إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان. وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الري وهمذان وكثير من البلاد فسار لمدافعته، وجنح قسيم الدولة أقسنقر وبوزان صاحب الرها إلى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائداً إلى الشام ساخطاً على اقسنقر وبوزان ما فعلاه، فجمع العساكر وسار إلى حلب سنة سبع وثمانين لقتال قسيم الدولة. وأمده بركيارق بالأمير كربوقا في العساكر فبرزوا إلى لقائهم، والتقوا على ست فراسخ من حلب. ونزع بعض عساكر أقسنقر إلى تش فاختل مصافه، وتمت الهزيمة عليه وجيء به أسيراً إلى تتش فقتله صبراً. ولحق كربوقا وبوزان بحلب، وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مر في أخبار الدولة. وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل، وكانت بلاده آمنة. ولما مات نشأ ولده في ظل الدولة السلجوقية. وكان أكبرهم زنكي فنشأ مرموقا بعين التجلة. ولما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق وأخيه محمد، كان زنكي في جملته، لأنه كان صاحب أبيه. وسار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان. وأنجده سقمان بن أرتق. وكان زنكي بن أقسنقر يومئذ صبيا، وهو في جملة رجال كربوقا ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب. وانهزم سقمان وظهر كربوقا. وفي هذه الحرب أسر بن ياقوتي ابن ارتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سبباً لملك بني أرتق فيها كما مر في أخبار دولتهم. ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمس بعد كربوقا، وبعده جاولي سكاوو، وبعده مودود بن ايتكين، وبعده اقسنقر البرسقي كما تقدم في أخبار السلجوقية. وولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين، وبعث معه ابنه مسعودا. كتب إلى سائر الأمراء هناك بطاعته، ومنهم يومئذ عماد الدين زنكي بن اقسنقر فاختص به. ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة احدى عشرة، كان اخوه مسعود بالموصل، كما تقدم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقي من الموصل إلى شحنة بغداد. وانتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان محمود، وجمع البرسقي العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود وأتابكه حيوس بك بالموصل، وأغراهما بالمسير إلى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك وأبو علي بن عمار صاحب طرابلس، وزنكي بن قسيم الدولة اقسنقر وجماعة من أمراء الجزيرة. ووصلوا إلى بغداد وصالحهم البرسقي وسار معهم. ودخل مسعود إلى بغداد، وجاء منكبرس إلى بغداد ونزع إليه دبيس بن صدقة. ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدم في أخبار الدولة. وأقام منكبرس ببغداد. ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخيه مسعود مقامات جليلة. وغلب السلطان أخاه مسعودا، وأخذه عنده، واستنزل أتابكه حيوس بك من الموصل، وأعاد إليها البرسقي سنة خمسة عشر فعاد زنكي إلى الاختصاص به كما مر. ثم أضاف إليه السلطان محمود شحنة بغداد، وولاية واسط مضافة إلى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما. ولما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد، وبرز المسترشد لقتاله من بغداد، وحضر البرسقي من الموصل وعماد زنكي فانهزم دبيس عماد الدين في ذلك المقام . ثم ذهب دبيس إلى البصرة، وجمع المنتفق من بني عقيل فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها. وبعث المسترشد إلى البرسقي فعذله في إهماله أمر دبيس، حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر إلى قصره، وهرب دبيس واستولى على البصرة وولى عليها عماد الدين زنكي بن اقسنقر فأحسن حمايتها والدفاع عنها. وكبس العرب في حللهم بضواحيها، وأجفلوا. ثم عزل البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد، وعاد إلى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك، وقال كل يوم للموصل جديد يستنجدنا . وسار إلى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصفهان أقطعه البصرة وأعاده عليها من قبله. ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها سنة تسع عشرة. وكان ابنه عز الدين مسعود بحلب فبادر إلى الموصل، وأقام ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود، وبعث الخليفة عفيفا الخادم إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة، وقاتله فهزمه ونمى عفيف إلى المسترشد وأقام عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن، وفي البر فجمع السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكي السلاح، وأصعد في البر وقدم على السلطان، وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم، ووهن المسترشد لما رأى فأجابه إلى الصلح.
ولاية زنكي شحنة بغداد والعراق:
ولما ظهر من عماد الدين زنكي من الكفاءة والغناء في ولاية البصرة وواسط ما
ظهر، ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مر ولاه شحنة بغداد والعراق، لما رأى أنه يستقيم إليه في أمور الخليفة، بعد أن شاور أصحابه فأشاروا به وذلك سنة إحدى وعشرين وسار عن بغداد بعد أن ولأه على كرسي ملكه بأصفهان والله تعالى أعلم.
ولاية عماد الدين زنكي علي الموصل وأعمالها:
قد قدمنا ان عز الدين مسعود بن البرسقي لما قتل الباطنية أباه بالموصل، وكان نائبه بحلب فبادر إلى الموصل وضبط أمورها، وخاطب السلطان محمودا فولاه مكان أبيه وكان شجاعاً قرماً فطمع في ملك الشام فسار وبدأ بالرحبة فحاصرها، حتى استأمن إليه أهل القلعة. وطرقه مرض فمات، وتفرقت عساكره ونهب بعضهم بعضاً، حتى شغلوا عن دفنه. وكان جاولي مولى أبيه مقدم العساكر عنده فنصب مكانه أخاه الأصغر، وكاتب
السلطان في تقرير ولايته. وأرسل في ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني، والقاضي أبا الحسن علي ابن القاسم الشهرزوري فأوصى صلاح الدين صهره جقري فيما جاء فيه. وكان شيعة لعماد الدين زنكي فخوف الحاجب وحذره مغبة حاله معه. وأشار عليه وعلى القاضي بطلب عماد الدين زنكي، وضمن لهما عنده الولايات والإقطاع. وركب القاضي مع الحاجب إلى الوزير شرف الدين أنو شروان ابن خالد. وذكر له حال الجزيرة والشام واستيلاء الإفرنج على أكثرها من ماردين إلى العريش. وأنها تحتاج إلى من يكف طغيانهم، وابن البرسقي المنصوب بالموصل صغير لا يقوى على مدافعتهم، وحماية البلاد منهم. ونحن قد خرجنا عن العهدة وأنهينا الأمر إليكم فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فشكرهما، واستدعاهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة، وأدرجا فيهم عماد الدين زنكي، وبذلا عنه مالا جزيلا لخزانة السلطان فأجابهما إليه لما يعلم من كفايته وولاه البلاد كلها وكتب منشوره بها وشافهه بالولاية. وسار إلى ولايته فبدأ بالفوارع وملكها. ثم سار إلى الموصل، وخرج جاولي والعساكر للقائه.
ودخل الموصل في رمضان سنة إحدى وعشرين وبعث جاولي واليا على الرحبة، وولى على القلعة نصير الدين جقري. وولى على حجابته صلاح الدين الباغيسياني. وعلى القضاء ببلاده جميعا بهاء الدين الشهرزوري. وزاد في إقطاعه. وكان لا يصدر إلا عن رأيه. ثم خرج إلى جزيرة ابن عمر وبها موالي البرسقي
فامتنعوا عليه وحاصرهم. وكان بينه وبين البلد دجلة فعبرها. وبين دجلة والبلد فسيح من الأرض فعبر دجلة. وقاتلهم في ذلك الفسيح. وهزمهم فتحصنوا بالأسوار.
ثم استأمنوا فدخل البلد وملكه وسار لنصيبين. وكانت لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بمن سقمان صاحب كيفا فوعده بالنجدة وبعث حسام الدين بذلك إلى أهل نصيبين، يأمرهم بالمصابرة عشرين يوما إلى حين وصوله فسقط في أيديهم لعجزهم عن ذلك. واستأمنوا لعماد الدين فأمنهم وملكها وسار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أولا. ثم استأمنوا وملكها. وبعث منها إلى الخابور فملك جميعه. ثم سار إلى حران. وكانت الرها وسروج والبيرة في جوارها للافرنج وكانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران إلى طاعته. وأرسل إلى جوسكين وهادنه حتى يتفرغ له فاستقر بينهما الصلح. والله تعالى أعلم. استيلاء الاتابك زنكي علي مدينة حلب: كان البرسقي قد ملك حلب وقلعتها سنة ثماني عشرة. واستخلف عليها ابنه مسعودا. ثم قتل الباطنية البرسقي بالموصل فبادر ابنه مسعود إلى الموصل. واستحلف على حلب الأمير قرمان. ثم عزله وبعث بولايتها إلى الأمير قطلغ أبه فمنعه قرمان وقال: بيني وبينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع إلى مسعود فوجده قد أ،، الرحبة فعاد إلى حلب مسرعا ومال إليه أهل البلد ورئيسها مضال بن ربيع، وأدخلوه وملكوه واستنزلوا قرمان من القلعة وأعطوه ألف دينار وبلغوه مأمنه. وملك قطلغ القلعة والبلد منتصف إحدى وعشرين. ثم ساءت سيرته وفحش ظلمه، واشتمل عليه أشرار فاستوحش الناس منه، وثاروا به في عيد الفطر من السنة وقبضوا على أصحابه. وولوا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي كان ملكها من قبل، وحاصروا قطلغ بالقلعة. ووصل حسان صاحب منبج، وحسن صاحب مراغة لإصلاح الأمر فلم يتم. وزحف جوسكين صاحب الرها من الإفرنج إلى حلب فصانعوه بالمال، ورجع فزحف صاحب أنْطاكِية وحاصر البلد، وهم يحاصرون القلعة إلى منتصف ذي القعدة من آخر السنة. وانتهى عماد الدين زنكي إلى صاحب حران كما ذكرناه فبعث إلى أهل حلب أميرين من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل والجزيرة والشام فبادروا إلى الطاعة. وسار إليه بدر الدولة ابن عبد الجبار وقطلغ أبه. وأقام أحد الأميرين بحلب. ولما وصلا إلى عماد الدين أصلح بينهما
وأقاما عنده. وبعث الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني في عسكر إليهما فملك القلعة ورتب الأمور وولى. ثم وصل عماد الدين بعده في محرم سنة إثنتين وعشرين، وملك في طريقه منبج من يد حسان ومراغة من يد حسن. وتلقاه أهل حلب فاستولى وأقطع أعمالها للأمراء والأجناد ثم قبض على قطلغ أبه وأسلمه إلى ابن بديع فكحله ومات واستوحش ابن بديع فلحق بقلعة جعفر مستنجدا بصاحبها، وأقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب علي بن عبد الرزاق، وعاد إلى الموصل والله أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي علي مدينة حماة: ثم سار عماد الدين زنكي لجهاد الإفرنج وعبر الفرات إلى الشام. واستنجد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه. وبعث عسكره من دمشق إلى ابنه سونج وأمره بالمسير إلى زنكي فلما وصلوا إليه أكرمهم. ثم غدر بهم بعد أيام، وقبض على سونج والأمراء الذين معه فاعتقلهم بحلب ونهب خيامهم، وبادر إلى حماة وهي خلو من الحامية فملكها، وسار عنها إلى حمص، وصاحبها قيرجان بن قراجا معه في عس!اكره وهو الذي أشار بحبس سونج وأصحابه فقبض عليه يظن أن أهل حمص يسلمون بلادهم إليه فامتنعوا وبعث إليهم قيرجان بذلك فلحق إليها فحاصرها مدة، وامتنعت عليه، فعاد إلى الموصل ومعه سونج بن بوري والله أعلم. فتح عماد الدين حصن الأتارب وهزيمة الإفرنج: ولما عاد عماد الدين إلى الموصل أراح عساكره أياما ثم تجهز سنة أربع وعشرين إلى الغزو وعاد إلى الشام وقصد حلب، واعتزم على قصد حصن الأتارب، وهو على ثلاثة فراسخ من حلب. وكان الإفرنج الذين به قد ضيقوا على حلب فسار إليه وحاصره وجاء الإفرنج من أنْطاكِية لدفاعه. واستفرغوا فتبعهم وترك الحصن وسار إليهم، واستمات المسلمون فانهزم الإفرنج وأسر كثير من زعمائهم، وقتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك الموضع أكثر من ستين سنة. ثم عاد إلى حصن الأتارب فملكه عنوة وخربه، وتقسم جميع من فيه بين القتل والأسر وسار إلى
قلعة حارم قرب أنْطاكِية، وهي للافرنج فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها. وملىء الإفرنج رعبا منه ومن استبداد المسلمين به وذهب ما كان عندهم من الطمع.
واقعة عماد الدين مع بني أرتق: ولما فرغ عماد الدين من غزو الافرنج وفتح الاثارب وقلعة حارم عاد إلى الجزيرة، وحاصر مدينة سرخس، وهي لصاحب ماردين، بينها وبين نصيبين فاجتمع حسام الدين صاحب ماردين وركن الدولة صاحب آمد، وهما لأبي الغازي صاحب ماردين بن حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي وصاحب كيفا ركن الدولة داود بن سقمان وتمرتاش بن ارتق. وجمعوا من التركمان نحوا من عشرين ألفا. وساروا لمدافعة زنكي فهزمهم وملك سرخس وسار ركن الدولة إلى جزيرة ابن عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع إلى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه. وملك من قلاعه همرد، ورجع إلى الموصل إلى آخره. حصول دبيس بن صدقة في أسر الاتابك زنكي: قد تقدم لنا أن دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار إلى سرخد من قلاع الشام سنة خمس وعشرين، باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوج بها، وأنه مرّ في الغوطة بحي من أحياء كلب فأسروه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق. وبلغ الخبر إلى الاتابك زنكي. وكان عدوا له فبعث فيه إلى تاج الملوك بوري. وفادى من ابنه سونج والأمراء الذين معه عنده فأطلقهم. وبعث بوري إليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه، وأحسن إليه وأزاح علله. وبعث المسترشد فيه إلى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسلمه إلى زنكي. فذم الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم وسيقوا إليه وهم: سديد الدولة بن الانباري. وأبو بكر بن بشر الجزري فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد. وبقي دبيس عنده حتى انحدر معه إلى العراق.
مسير الاتابك زنكي إلى العراق لمظاهرة السلطان مسعود وانهزامه:
ولما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين. واختلف ولده داود وأخوه مسعود. وسار داود إلى مسعود وحاصره بتبريز في محرم سنة ست وعشرين. ثم صالحه وخرج مسعود من تبريز، واجتمعت عليه العساكر وسار إلى همذان، وبعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الاتابك عماد الدين زنكي يستنجده. وسار إلى بغداد فحاصرها وكان قد سبق إليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس وخوزستان، مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير. وأنزله المسترشد بدار السلطان، فلما جاء مسعود ونزل عباسة. وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه وقراجا الشامي لمحاربة مسعود أتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكي من ورائهم. وأنه وصل إلى المعشوب، فرجع قراجا الشامي إلى محاربته، وسار سلجوق شاه بالعساكر إلى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير. وصبح عماد الدين بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه. وأسر كثيراً من أصحابه. وسار زنكي منهزماً إلى والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان صلاح الدين فتأخر. ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له، والسلطنة لمسعود. وولاية العهد لسلجوق شاه. وذلك منتصف سنة ست وعشرين. مسير الاتابك عماد الدين إلى بغد اد بابنه وانهزامه: قد قدمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود وأخويه مسعود وسلجوق شاه. ثم استقرار مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه سلجوق. على أن يكون ولي عهده. ثم إن السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيما فبلغ همذان. وخرج السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم وخرج المسترشد إلى فجاءته الأخبار بوصول الاتابك زنكي ودبيس بن صدقة إلى بغداد فذكر دبيس أن السلطان سنجر
أقطعه الحلة وبعث يسترضي، فلم يشفعه، وذكر الاتابك زنكي أن السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد. واستمر السلطان مسعود وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مرّ فعاد المسترشد إلى بغداد. ونزل العباسة من الجانب الغربي ولقي الاتابك زنكي ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق الاتابك بالموصل.
واقعة الافرنج على أهل حلب: وفي غيبة الاتابك زنكي سار ملك الافرنج من القدس إلى حلب فخرج نائبها عن الاتابك زنكي، وهو الأمير اسوار. وجمع التركمان مع عساكره. وقاتل الافرنج عند قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا إلى حلب وسار ملك الافرنج في أعمال حلب ظافراً ثم سار بعض الافرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج إليهم الأمير اسوار، ومعه حسان التغلبي الذي كان صاحب منبج فأوقعوا بهم، واستلحموهم وأسروا من بقي منهم وعادوا ظافرين. حصار المسترشد الموصل: ولما وقع ما قدمناه من وصول زنكي. إلى بغداد، وانهزامه أمام المسترشد حقد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص. ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية، واعتزلهم جماعة من أمرائهم فرارا من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الاتابك زنكي، فقدم إليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسقرابن الواعظ وحمله عتابا أغلظ فيه، وزاده الواعظ غلظة حفظا على ناموس الخلافة في معتقده، فامتعض الاتابك لما شافهه به وأهانه وحبسه. وأرسل المسترشد إلى السلطان مسعود على قصد الموصل وحاصرها لما وقع من زنكي. ثم سار في شعبان سنة سبع وعشرين إلى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل. فلما قارب الموصل فارقها الاتابك زنكي إلى سنجار، وترك نائبه بها نصر الدين جقري، وجاء المسترشد فحاصرها والأتابك زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الأقوات، وضاقت عليهم الأحوال، وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها. وسعى بهم فأخذوا وصلبوا ودام الحصار ثلاثة أشهر، وامتنعت عليه فأفرج عنها وعاد إلى بغداد. وقيل انّ مطر الخادم جاءه من بغداد وأخبره أن السلطان مسعودا عازم على قصد العراق، فعاد مسرعاً.
ارتجاع صاحب دمشق مدينة حماة:
قد كنا قدمنا أن الاتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين، وأقامت في ملكه أربع سنين. وتوفي تاج الملوك بوري في رجب سنة ست وعشرين، وولي بعده ابنه شمس الملوك إسمعيل، وملك بانياس من الافرنج في صفر سنة سبع وعشرين، ثم بلغه أن المسترشد بالله حاصر الموصل فسار هو إلى حماة وحاصرها، وقاتلها يوم الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم. ثم حصر الوالي ومن معه بالقلعة فاستأمنوا أيضاً، واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح، وسار منها إلى قلعة شيزر فحاصرها ابن منقذ فحمل إليه مالاً صانعه به، وعاد إلى دمشق في ذي الحجة من السنة.
حصار الاتابك زنكي قلعة آمد واستيلاؤه على قلعة النسور ثم حصار قلاع الحميدية:
وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الاتابك زنكي صاحب الموصل وصاحب ماردين على حصار آمد. واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر وسار إليهما ليدافعهما عنه، وقاتلاه فهزماه، وقتل كثير من عسكره. وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها، وامتنعت عليهما فرحلا عنها. وسار زنكي إلى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة. ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي فاستوزره الاتابك، وكان حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محببا في الجند، وتوفي سنة ست وثلاثين بعدها. ثم استولى الاتابك على سائر قلاع الأكراد الحميدية، مثل قلعة العقر، وقلعة سوس وغيرهما. وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الأمير عيسى الحميري على ولايتها. فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام، وجمع له الأكراد. فلما عاد المسترشد إلى بغداد من قتال الاتابك زنكي حاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالاً شديداً حتى ملكوها في هذه السنة، ورفع الله شرهم عن أهل السواد المحاربين لهم، فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم ، والله تعالى أعلم.
استيلاء الاتابك على قلاع الهكارية وقلعة كواشي:
حدّث ابن الأثير عن الجنيبي أن الاتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم
عنها، خاف أبو الهيجاء بن عبد الله على قلعة أشب والجزيرة وكواشي فاستأمن الاتابك واستحلفه، وحمل له مالا. ثم وفد عليه بالموصل بعد أن أخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها، وأعطاه قلعة كواشي وولى على أشب رجلا من الكرد، واسمه باد الأرمني. وإبنه أحمد هذا هو أبو علي بن أحمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين. ولما مات أبو الهيجاء واسمه موسى، وسار أحمد إلى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلي الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الاتابك زنكي في عساكره، ونزل على أشب، وبرز أهلها لقتاله. واستجرهم حتى أبعدوا، ثم كرّ عليهم فأفناهم قتلا وأسرا، وملك القلعة في الحال. وسيق إليه باد في جماعة من مقدمي الأكراد، وقتلهم، وعاد إلى الموصل. ثم سار غازياً في بعض مذاهبه فبعث نائبه نصر الدين جقري عسكرا، وخلى كنجا ورسى في قلعة العمادية، وحاصروا قلعة الشغبان وفرح وكواشي والزعفراني والغيّ وسرف وسفروه، وهي حصون الهكارية فحاربها وملكها جميعا. واستقام أمر الجبل والزوزن. وأمنت الرعية من الأكراد. وأما باقي قلاع الهكارية وهي حلا وصورا وهزور والملايسي ويامرما ومانرجا وباكرا ونسرفان قراجا صاحب العمادية فتحها بعد قتل زنكي بمدة طويلة. كان أميراً على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي، على ما قال ابن الأثير. ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هنا. قال وحدّثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد. أن أبا بكر زنكي، لما فتح قلعة أسب وحرساني وقلعة العمادية، ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جبل صورا وصاحب هزور، ولم يكن لهما شوكة يخشى منهما. ثم عاد إلى الموصل وخافه أهل القلاع الجبلية. ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة والغي، وفرح وملكها بعده ابنه علي وكانت أمه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم وعيسى، وهما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها علي إلى أخويها المذكورين، وهما خالاه ليستأمنا له من الاتابك فاستحلفاه، وقدم عليه فأقره على قلاعه، واستقل بفتح قلاع الهكارية. وكان الشغبان هذا الأمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه، وخربه لكبره وقلة أعماله. وكان نصر الدين جقري يكره عليا صاحب الريبة والغي وفرح فسعى عند الاتابك في حبسه فأمره بحبسه ثم ندم وكتب إليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين بقتله. ثم بعث العساكر إلى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة وملكوها عنوة وأسروا ولد علي وإخوته، ونجت أمه خديجة لمغيبها.
وجاء البشير إلى الاتابك بفتح الريبة فسره ذلك. وبعث العساكر إلى ما بقي من قلاع علي فأبى إلا أن يزيدوه قلعة كواشي، فمضت خديجة أم علي إلى صاحب كواشي من المهرانية، واسمه جرك راهروا وسألته النزول عن كواشي لاطلاق اسراهم ففعل ذلك، وتسلم زنكي القلاع، وأطلق الأسرى، واستقامت له جبال الاكراد، والله تعالى أعلم.
حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق: كان شمس الملوك إسمعيل بن بوري قد انحلّ أمره وضعفت دولته، واستطال عليه الافرنج، وخشي عاقبه أمرهم فاستدعى الاتابك زنكي سراً ليملكه دمشق ويريح نفسه. وشعر بذلك أهل دولته فشكوا إلى أمه فوعدتهم الراحة منه، ثم اغتالته فقتلته. وجاء الاتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات، وولي. مكانه أخوه محمود، واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا الخبر إلى الاتابك فلم يحفل به. وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتد أهل الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين. ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري إلى الاتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه، ورحل عنه منتصف السنة، والله سبحانه وتعالى أعلم. فتنة الراشد مع السلطان مسعود ومسيره إلى الموصل وخلعه: كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود والخروج عليه. ولحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنين وثلاثين، فأنزل بدار السلطنة، وراسله أولئك الأمراء. وقدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين، وصاحب أصبهان، وصاحب الأهواز وصاحب الأبلة وصاحب الموصل الاتابك زنكي. وخرجت إليهم العساكر من بغداد، وولي داود شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي، وكان الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضي القضاة الزينبي، فسمع بهم الاتابك. ثم وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود والأتابك زنكي، وحلف كل منهم لصاحبه وبعث الراشد إلى الاتابك بمائتي ألف دينار. ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض على الامير بك آبه، ونهب ماله فانحدر الاتابك زنكي لمدافعته فاصطلحا، وعاد زنكي إلى بغداد، ومر على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود. وخرج على طريق خراسان، وبلغهم أن السلطان مسعودا سار إلى بغداد
فعاد إليها ثم عاد الملك داود، وجاء السلطان مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفا وخمسين يوما، وارتحل إلى النهروان. ثم قدم عليه طرنطاي صاحب واسط بالسفن فرجع إلى بغداد، وعبر إلى الجانب الغربي. ثم اختلف العسكر ببغداد، ورجع الملك داود إلى ولايته بأذربيجان. وافترق الأمراء الذين معه، ولحق الراشد بالاتابك زنكي في نفر من أصحابه، وهو بالجانب الغربي. وسار معه إلى الموصل، ودخل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة سنة ثلاثين واستقر بها وسكن الناس. وجمع القضاة والفقهاء، وعرض عليهم يمين الراشد بخطه، بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه. ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة وغيرهم إلى الراشد بموجبات العزل وكتبت، وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل، وحكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع الراشد، ونصب للخلافة ابن المستظهر. وجاء رسول الاتابك زنكي إلى بغداد، وهو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري وبايع - بعد أن ثبت عنده الخلع، وانصرف إلى الاتابك باقطاع من خاص الخليفة، ولم يكن ذلك لأحد قبله. وعاد كمال الدين إلى الاتابك، وحمل كتب الخلع فحكم بها قاضي القضاة بالموصل. وانصرف الراشد عن الموصل إلى أذربيجان كما مرّ في أخبار الخلفاء والسلجوقية، والله تعالى ولي التوفيق.
غزاة عساكر حلب إلى الافرنج: ثم اجتمعت عساكر حلب (3) مع الأمير اسوار نائب الاتابك زنكي بحلب في شعبان سنة ثلاثين، وساروا غازين إلى بلاد الافرنج وقصدوا اللاذقية على غرة فنالوا منها، وانساحوا في بسائطها واكتسحوها، وامتلأت أيديهم من الغنائم، وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيزر وملؤا الشام بالأتراك والظهر ووهن الافرنج لذلك. والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
حصار الاتابك زنكي مدينة حمص واستيلاؤه على بغدوين وهزيمة الافرنج واستيلاؤه على حمص:
ثم سار الاتابك في العساكر في شعبان سنة إحدى وثلاثين إلى مدينة حمص، وبها
يومئذ معين الدين بن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه، فقدم إليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأن ذلك ليس من الاصابة فحاصرها والرسل تردد بينهما، وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بغدوين من حصون الافرنج في شوال من السنة فجمع الافرنج، وأوعبوا وزحفوا إليه واشتد القتال بينهم. ثم هزم الله العدو ونجا المسلمين منهم، ودخل ملوكهم إلى حصن بغدوين فامتنعوا به، وشد الاتابك حصاره. وذهب القسوس والرهبان إلى بلاد النصرانية من الروم، والافرنج يستنجدونهم على المسلمين، ويخوفونهم استيلاء الاتابك على قلعة بغدوين، وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس. وجد الاتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها حتى جهدهم الحصار ومنع عنهم الأخبار. ثم استأمنوا على أن يحملوا إليه خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة. ثم سمعوا بمسير الروم والافرنج لانجادهم ، وكان الاتابك خلال الحصار قد فتح المعرة وكفرطاب في الولايات التي بين حلب وحماة ووهن الافرنج. ثم سار الاتابك زنكي في محرم سنة اثنين وثلاثين إلى بعلبك وملك حصن الممدل من أعمال صاحب دمشق. وبعث إليه نائب بانياس بالطاعة كذلك. ثم كانت حادثة ملك الروم ومنازلته حلب كما نذكره. فسار إلى سلمية ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمه مردخان بنت جاولي التي قتلت ابنها فتزوجها، وملك حمص وقلعتها. وحملت الخاتون إليه في رمضان، وظن أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك. والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
مسير الروم إلى الشام وملكهم مراغة:
ولما استنجد الافرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مرّ، جمع ملك الروم بالقسطنطينية، وركب البحر سنة إحدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار إلى مدينة قيقية فحاصرها، وصالحوه
بالمال وسار عنها إلى أدنة والمصيصة، وهما لابن ليون الأرمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما. وسار إلى عين زربة فملكها عنوة، وملك تل حمدون، ونقل أهله إلى جزيرة قبرص. ثم ملك مدينة أنْطاكِية في ذي القعدة من السنة، وبها رغيد من ملوك الافرنج فصالحه، ورجع إلى بفراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالأموال ودخل في طاعته. ثم خرج إلى الشام أول سنة اثنتين وثلاثين، وحاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب، وبعثوا بالصريخ إلى الاتابك زنكي فبعث بالعساكر إلى حلب لحمايتها، وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالأمان منتصف السنة. ثم غدر بهم واستباحهم، ورحل إلى حلب فنزل بدابق ومعه الافرنج ورجعوا من الغد إلى حلب وحاصروها ثلاثاً فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم. ورحل عنها إلى قلعة الاتاود في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها، ووضع الروم بها الأسرى والسبي ، وأنزلوا بها حامية. وبعث إليهم أسوار نائب حلب عسكراً فقتلوا الحامية، وخلصوا الأسرى والسبي ورحل الاتابك من حصن الأثارب بعد فتحه إلى سلمية وقطع الفرات إلى الرقة. واتبع الروم فقطع عنهم الميرة وقصد الروم قلعة شيزر، وبها سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فحاصروها، ونصبوا المجانيق عليها. واستصرخ صاحبها بالأتابك زنكي فسار إليه، ونزل نهر العاصي بين شيزر وحماة. وبعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم. وبعث إلى الروم يدعوهم إلى المناجزة والنزول إلى البسيط فخافوا عن ذلك، فرجع إلى التضريب بين الروم والافرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر، حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيزر أربعين يوماً وأتبعه الاتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم. ثم أرسل القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده على العدو ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب، وينحدرون من الفرات إلى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جامع القصر من ينادي بصريخ المسلمين والخطيب على المنبر، وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء، وتسايلت العوام من كل جانب، وجاؤا إلى دار السلطان في تلك الحالة، وقد وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكراً عظيماً. وخاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر القاضي السلطان مسعود بذلك ومن مسير العسكر والله تعالى أعلم.
استيلاء الاتابك زنكي على بعلبك: ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوال كما مرّ في أخبار دولتهم، وكانت أمه زمردخان متزوجة بالاتابك كما مرّ فبعثت إليه وهو بالجزيرة تعرفه بالخبر، وتطلب منه أن يسير إلى دمشق ويثأر بولدها من أهل دولته فسار لذلك. واستعد أهل دمشق للحصار ثم قصد الاتابك مدينة بعلبك ونزلها. وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق وتزوج أمه، وبعث بجاريته إلى بعلبك. فلما سار الاتابك إلى دمشق قدم رسله إلى أنز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبى من ذلك وسار الاتابك إلى بعلبك فنازلها آخر ذي الحجة من السنة، ونصب عليها المجانيق. وشدد حصارها حتى استأمنوا فملكها. واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا إلى الاتابك. فلما ملكها قبض عليهم وصلبهم وتزوج جارية أنز ونقلها إلى حلب، إلى أن بعثها ابنه نور الدين محمود إلى صاحبها بعد موت الاتابك والله تعالى أعلم. حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق: ثم سار الاتابك زنكي إلى حصار دمشق في ربيع الأول من سنة أربع وثلاثين بعد الفراغ من بعلبك فنزل بالبقاع، وأرسل إلى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها إليه، ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب إلى ذلك فزحف إليه، ونزل داريا، والتقت الطلائع فكان الظفر لأصحاب الاتابك. ثم تقدم إلى المصلى فنزل بها، وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم. ثم أمسك عن القتال عشرا يراود فيها صاحب دمشق. وبذل له بعلبك وحمص وما يختاره من البلاد فجنح إلى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب. ثم توفي صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة، ونصب معين الدين أنز مكانه ابنه محيي الدين أنز وقام بأمره. وطمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه. وبعث معز الدين أنز إلى الافرنج يستدعيهم إلى النصر على الاتابك، ويبذل لهم ويخوفهم غائلته، ويشترط لهم إعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الافرنج لذلك، وأجفل زنكي إلى حوران خامس رمضان من السنة معتزما على لقائهم فلم يصلوا فعاد إلى حصار دمشق، وأحرق قراها وارتحل إلى بلاده. ثم وصل الافرنج، وارتحل معين الدين أنز في عساكر دمشق إلى بانياس، وهي للاتابك زنكي ليوفي
للافرنج بشرطه لهم فيها. وقد كان نائبها سار للاغارة على مدينة صور، ولقيه في طريقه صاحب أنْطاكِية ذاهبا إلى دمشق منجداً فهزم عسكر بانياس، وقتلوا ولحق فلهم بالبلد، وقد وهنوا، وحاصرهم معين الدين أنز والافرنج وملكها عنوة، وسلمها للافرنج، وأحفظه ذلك. وفرق العسكر في حوران وأعمال دمشق، وسار هو فصابح دمشق ولم يعلموا بمكانه فبرزوا إليه وقاتلوه، وقتل منهم جماعة. ثم احجم عنهم لقلة من معه، وارتحل إلى مرج راهط في انتظار عس!اكره فلما توافوا عنده عاد إلى بلاده.
استيلاء الاتابك على شهرزور وأعمالها: كان شهرزور بيد قفجاق بن ارسلان شاه أمير التركمان وصالحهم، وكانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه، واشتمل عليه التركمان وسار إليه الاتابك زنكي سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به الاتابك واستباح معسكره، وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها. واستأمن إليه قفجاق فأمنه وسار في خدمته وخدمة بنيه بعده إلى آخر المائة. ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الاتابك زنكي وبين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة وحروب. وانهزم داود وملك الاتابك من بلاده قلعة همرد وادركه فعاد إلى الموصل ثم سار الاتابك إلى مدينة الحرمية فملكها سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها إلى الموصل، ورتب أصحابه مكانهم. ثم خطب له صاحب آمد، وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه. ثم بعث الاتابك لسنة سبع وثلاثين عسكراً إلى قلعة أشهب، وهي من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها. وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها، وأمره الاتابك بتخريبها وبنى قلعة العمادية عوضاً عنها، وكانت خربت قبل ذلك لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن. وكان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم. صلح الاتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه على أكثر ديار بكر: كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الاتابك زنكي شأن الخارجين على طاعته من أهل الأطراف، وينسب ذلك إليه، وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه. فلما فرغ السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، سار إلى بغداد عازما على قصد الاتابك وحصار الموصل فأرسل الاتابك يستعطفه ، على ان يدفع إليه مائة ألف دينار ويعود عنه فشرع في ذلك، وحمل منها عشرين ألفا. ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج إلى مداراته وترك له الباقي، وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث إن ابنه غازي كان عند السلطان فهرب إلى الموصل، فبعث إلى نائبها نصير الدين جقري يمنعه من دخولها وبعث إلى ابنه بالرجوع إلى خدمة السلطان. وكتب إلى السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغير السلطان عليه وقد أعدته إلى الخدمة ولم ألفه، وانا مملوكك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع. ثم سار الاتابك إلى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن ذي القرنين وغير هذه، وملك أيضاً من بلاد ماردين الافرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان وأنزل بها الحامية وقصد آمد فحاصرها، وسير عسكراً إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكها والله تعالى أعلم.
فتح الرها وغيرها من أعمال الافرنج
كان الافرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم، مثل آمد ونصيبين ورأس العين والرقة وكان زعيمهم ومقدمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم ورأى الاتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو ديار بكر كما قلناه وجوسكين وعبر الفرات من الرها إلى غزنة. وجاء الخبر بذلك إلى الاتابك فارتحل منتصف جمادى الاخيرة سنة تسع وثلاثين، وحرض المسلمين وحثهم على عدوهم، ووصل إلى الرها، وجوسكين غائب عنها فانحجز الافرنج بالبلد، وحاصرهم شهرا وشد في حصارهم وقتالهم، ولج في ذلك قبل اجتماع الافرنج ومسيرهم إليه. ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه، وملك البلد عنوة. ثم حاصر القلعة وملكها كذلك. ثم رد على أهل البلد ما أخذ منهم وأنزل فيه حامية. وسار إلى سروج وجميع البلاد التي بيد الافرنج شرقيا فملكها جميعا إلا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت ورحل عنها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مقتل نصير الدين جقري نائب الموصل وولاية زين الدين على كجك مكانه بالقلعة: كان استقر عند الاتابك زنكي بالموصل الملك ألبارسلان ابن السلطان محمد، ويلقب الخمفاجي، وكان شبيها به وتوهم السلطان ان البلاد له وأنه نائبه وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه. وكان يتردد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الاتابك، وزين له قتل نصير الدين النائب، والاستيلاء على الموصل. فلما دخل إليه أغرى به أجناد الاتابك ومواليه فوثبوا به، وقتلوه في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين. ثم ألقوا برأسه إلى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوصبوا واقتحموا عليه الدار. ودخل عليه القاضي تاج الدين يحيى ابن الشهرزوري فأوهمه بطاعته، وأشار عليه بالصعود إلى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب وصعد معه، وتقدم إلى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول. ثم يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة، وعاد القاضي إلى البلد. وطار الخبر إلى الاتابك زنكي بحصار البيرة فخشي اختلاف البلد وعاد إلى الموصل، وقدم زين الدين على بن كجك، وولاه القلعة مكان نصير الدين، وأقام ينتظر الخبر. وخاف الافرنج الذين بالبيرة من عودته إليهم فبعثوا إلى نجم الدين صاحب ماردين، وسلموها له فملكها المسلمون. حصار زنكي حصن جعبر وفنك: ثم سار الاتابك زنكي سنة إحدى وأربعين في المحرم إلى حصن جعبر، ويسمى دوس وهو مطل على الفرات، وكان لسالم بن مالك العقيلي ، أقطعه السلطان ملك شاه لأبيه حين أخذ منه حلب وبعث جيشاً إلى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة ابن عمر فحاصروها، وصاحبها يومئذ حسام الدين الكردي فحاصر قلعة جعبر حتى توسط الحال بينهما حسان المنبجي ورغبه ورهبه. وقال في كلامه من يمنعك منه فقال الذي منعك أنت من مالك بن بهرام، وقد حاصر حسان منبج فأصابه في بعض الأيام سهم فقتله، وأفرج عن حسان وقدر قتل الاتابك كذلك والله تعالى أعلم.
مقتل الاتابك عماد الدين زنكي:
كان الاتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل. والشام محاصراً لقلعة جعبر كما ذكرنا، واجتمع جماعة من مواليه واغتالوه ليلا وقتلوه على فراشه، ولحقوا بجعبر وأخبروا أهلها فنادوا من السور بقتله. فدخل أصحابه إليه وألفوه يجود بنفسه. وكان قتله لخمس من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين، عن ستين سنة من عمره ودفن بالرقة، وكان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين. ولما قتل دفن بالرقة وكان حسن السياسة كثير العدل مهيباً عند جنده. عمر البلاد وأمنها، وأنصف المظلوم من الظالم. وكان شجاعاً شديد الغيرة كثير الجهاد. ولما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك، وصاحبها غفار. قال ابن الأثير: سمعتهم يزعمون أن لهم فيها نحو ثلثمائة سنة، وفيهم رفادة وعصبية ويجيرون كل من يلجأ إليهم والله أعلم.
استيلاء ابنه غازي على الموصل وابنه الآخر محمود على حلب:
ولما قتل الاتابك زنكي نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده، وسار به إلى حلب فاستولى عليها. وخرج الملك ألبارسلان ابن السلطان محمود، واجتمعت عليه العساكر، وطمع في الاستقلال بملك الموصل. وحضر ابنه جمال الدين محمد بن علي بن متولي الديوان، وصلاح الدين بن محمد الباغيسياني الحاجب، وقد اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لأصحابهما، وحسنا لألبارسلان ما هو فيه من الاشتغال بلذاته، وأدخلاه الرقة فانغمس بها. وهما يأخذان العهود على الأمراء لسيف الدين غازي، ويبعثانهم إلى الموصل وكان سيف الدين غازي في مدينة شهرزور، وهي أقطاعه، وبعث إليه زين الدين على كوجك نائب القلعة بالموصل يستدعيه ليحضر عنده. وسار البارسلان إلى سنجار، والحاجب وصاحبه معه، ودسوا إلى نائبها بأن يعتذر للملك البارسلان بتأخره حتى يملك الموصل، فساروا إلى الموصل ومروا بمدينة سنجار وقد وقف العسكر فأشاروا على ألبارسلان بعبور دجلة إلى الشرق وبعثوا إلى سيف الدين غازي بخبره وقلة عسكره، فأرسل إليه عسكراً فقبضوه وجاؤا به فحبسه بقلعة الموصل. واستولى سيف الدين غازي على الموصل والجزيرة، وأخوه نور الدين محمود على حلب ولحق به صلاح الدين الباغيسياني فقام بدولته، والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
عصيان الرها
ولما قتل الاتابك زنكي ملك الرها جوسكين، كان جوسكين مقيما في ولايته بتل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها، وعامتهم من الأرمن، وحملهم على العصيان على المسلمين، وتسليم البلد له فأجابوه، وواعدوه ليوم عينوه فسار في عساكره وملك البلد وامتنعت القلعة. وبلغ الخبر إلى نور الدين محمود، وهو بحلب فأغذ السير إليها، وأجفل جوسكين إلى بلده. ونهب نور الدين المدينة وسبى أهلها، وارتحلوا عنها وبعث سيف الدين غازي العساكر إليها فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا، وذلك سنة إحدى وأربعين. ثم قصد صاحب دمشق بعد قتل الاتابك حصن بعلبك، وبه نجم الدين أيوب بن شادي نائب الاتابك فأبطأ عليه انجاد بنيه، فصالح صاحب دمشق، وسلم له. بعلبك على اقطاع ومال أعطاه إياه وعشر قرى من بلاد دمشق وانتقل معه إلى دمشق فسكنها وأقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة اثنتين وأربعين من حلب إلى الإفرنج ففتح مدينة أرتاج عنوة وحاصر حصونا أخرى. وكان الإفرنج بعد قتل الاتابك يظنون أنهم يستردون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ولما قتل الاتابك زنكي طمع صاحب ماردين وصاحب كيفا أن يستردوا ما أخذ من بلادهم، فلما تمكن سيف الدين غازي سار إلى أعمال ديار بكر فملك دارا وغيرها، وتقدم إلى ماردين وحاصرها وعاث في نواحيها، حتى ترحم صاحبها حسام الدين تمرتاش على الاتابك مع عداوته. ثم أرسل إلى سيف الدين غازي وصالحه، وزوجه بنته فعاد إلى الموصل، وزفت إليه وهو مريض فهلك قبل زفافها، وتزوجها أخوه قطب الدين من بعده، والله أعلم. مصاهرة سيف الدين غازي لصاحب دمشق وهزيمة نور الدين محمود للافرنج: كان تقدم لنا في دولة بني طغركين موالي دقاق بن تتش أن ملك اللمان من الإفرنج سار سنة ثلاث وأربعين، وحاصر دمشق بجموع الإفرنج، وبها محي الدين أرتق بن بوري بن محمد بن طغركين في كفالة معين الدين أنز مولي أعمال . فبعث معين الدين إلى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي بالموصل يدعوه إلى نصرة المسلمين، فجمع عساكره وسار إلى الشام،
واستدعى أخاه نور الدين من حلب، ونزلوا على حمص فأخذوا بحجز الإفرنج عن الحصار، وقوي المسلمون بدمشق عليهم. وبعث معين الدين إلى طائفتي الإفرنج من سكان الشام واللمان الواردين، فلم يزل يضرب بينهم. وجعل لافرنج الشام حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك اللمانيين ففتلوا له في الذروة والغارب، حتى رحل عن دمشق، ورجع إلى بلاده وراء قسطنطينية بالشمال. وحسن أمر سيف الدين غازي وأخيه في الدفاع عن المسلمين، وكان مع ملك اللمان حين خرج إلى الشام ابن ادفونش ملك الجلالقة بالأندلس، وكان جده هو الذي ملك طرابلس الشام من المسلمين حين خروج الإفرنج إلى الشام فلما جاء الآن مع ملك اللمان ملك حصن العريمة، وأخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين محمود ومعين الدين أنز وهما مجتمعان ببعلبك بعد رحيل ملك اللمانيين عن دمشق، وأغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة واستخلاص حصن العريمة من يده، فسارا لذلك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وبعث إلى سيف الدين وهو بحمص فأمدهما بعسكر مع الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر، وحاصروا حصن العريمة أياما، ثم نقضوا سوره وملكوه على الإفرنج، وأسروا من كان به من الإفرنج ومعهم ابن ادفونش، وعاد إلى سيف الدين عساكره. ثم بلغ نور الدين ان الإفرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشام للإغارة على أعمال حلب، فسار إليهم وقتلهم وهزمهم، وأثخن فيهم قتلا وأسرا، وبعث من غنائمهم وأسراهم إلى أخيه سيف الدين غازي وإلى المقتفي. الخليفة انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة سيف الدين غازي وملك أخيه قطب الدين مودود: ثم توفي سيف الدين غازي بن الاتابك زنكي صاحب الموصل منتصف أربع وأربعين وخمسمائة، لثلاث سنين وشهرين من ولايته، وخلف ولدا صغيرا ربي عند عمه نور الدين محمود. وهلك صغيرا فانقرض عقبه. وكان كريماً شجاعاً متسع المائدة يطعم بكرة وعشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة، وهو أول من حمل الصنجق على رأسه، وأمر بتعليق السيوف بالمناطق، وترك التوشح بها، وحمل الدبوس في حلقة السرج. وبنى المدارس للفقهاء، والربط للفقراء. ولما أنشده حيص بيص الشاعر يمدحه:
- الام يراك المجد في زي شاعر وقد نحلت شوقاً إليك المنابر
فوصله بألف مثقال سوى الخلع وغيرها. ولما توفي سيف الدين غازي انتقض الوزير جمال الدين وأمير الجيوش زين الدين علي، وجاؤا بقطب الدين مودود، بادروا إلى تمليكه واستخلفوه وحلفوا له. وركب إلى دار السلطنة، وزين الدين في ركابه فبايعوا له وأطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل والجزيرة. وتزوج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التي هلك أخوه قبل زفافها، فكان ولده كلهم منها والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء السلطان محمود على سنجار: ولما ملك قطب الدين مودود الموصل، وكان أخوه نور الدين محمود بالشام، وكان أكبر منه، وله حلب وحماة، كاتبه جماعة من الأمراء بعد أخيه غازي. وفيمن كاتبه نائب سنجار المقدم عبد الملك فبادر إليه في سبعين فارسا من أمرائه، وسبق أصحابه في يوم مطير إلى مساكن. ودخل البلد، ولم يعرفوا منه إلا أنه أمير من جند التركمان. ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده وأطاعه، ولحق به أصحابه، وساروا جميعاً إلى سنجار، وأغذ السير فقطع عنه أصحابه ووصل إلى سنجار في فارسين، ونزل بظاهر البلد. وبعث إلى المقدم فوصله، وكان قد سار إلى الموصل. وترك ابنه شمس الدين محمد بالقلعة فبعث في أثر أبيه وعاد من طريقه، وسلم سنجار إلى نور الدين محمود فملكها. واستدعى فخر الدين قرى ارسلان صاحب كيفا لمودة بينهما فوصل في عساكره، وبلغ الخبر إلى قطب الدين صاحب الموصل، ووزيره جمال الدين، وأمير جيشه زين الدين فساروا إلى سنجار للقاء نور الدين محمود، وانتهوا إلى تل اعفر، ثم خاموا عن لقائه. وأشار الوزير جمال الدين بمصالحته وسار إليه بنفسه فعقد معه الصلح، وأعاد سنجر على أخيه قطب الدين. وسلم له أخوه مدينة حمص والرحبة والشام فانفرد بملك الشام، وانفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة واتفقا. وعاد نور الدين إلى حلب، وحمل ما كان لأبيهم الاتابك زنكي من الذخيرة لسنجار، وكان لا يعبر عنها، والله تعالى أعلم. غزو نور الدين إلى أنْطاكِية وقتل صاحبها وفتح افاميا: ثم غزا نور الدين سنة أربع وأربعين إلى أنْطاكِية فعاث فيها، وخرب كثيرا من حصونها وبينما
هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الإفرنج وزحفوا إليه فلقيهم وحاربهم، وأبلى في ذلك الموقف فهزم الإفرنج وقتل البرنس صاحب أنْطاكِية، وكان من عتاة الإفرنج. وملك بعده ابنه سمند طفلا، وتزوجت أمه برنس آخر يكفل ولدها ويدبر ملكها فغزاه نور الدين، ولقوه فهزمهم، وأسر ذلك البرنس الثاني. وتمكن الطفل سمند من ملكه بأنْطاكِية. ثم سار نور الدين سنة خمس وأربعين إلى حصن افاميا بين شيزر وحماة وهو من أحسن القلاع فحاصره وملكه، وشحنه حامية وسلاحا وأقواتا. ولم يفرغ من أمره إلا والإفرنج الذين بالشام جمعوا وزحفوا إليه. وبلغهم الخبر فخاموا عن اللقاء وصالحوه في المهادنة فعقد لهم انتهى.
هزيمة نور الدين جوسكين وأسر جوسكين: ثم جمع نور الدين بعد ذلك وسار غازيا إلى بلاد زعيم الإفرنج، وهي تل باشر وعنتاب وعذار وغيرها من حصون شمالي حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها، ولقيه فاقتتلوا ومحص الله المسلمين، واستشهد كثير منهم وأسر آخرون، وفيهم صاحب صلاح نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج ارسلان يعيره به، لمكان صهره نور الدين على إبنته فعظم ذلك عليه، وأعمل الحيلة في جوسكين. وبذل المال لإحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في القبض عليه ففعلوا، وظفر به بعضهم فشاركهم في إطلاقه على مال، وبعث من يأتي به . وشعر بذلك والي حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكراً ليسوا من ذلك الحي جاؤا بجوسكين أسيراً إلى حلب وسار نور الدين إلى القلاع فملكها، وهي: تل باشر وعنتاب وعذار وتل خالد وقورص وداوندار ومرج الرصاص وحصن النادة وكفرشود وكفرلات ودلوكا ومرعش ونهر الجود، وشحنها بالأقوات. وزحف اليه الإفرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك. وانهزم الإفرنج وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والأسر، ورجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها، وتأخر فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق، واستأمنوا إليه وبعث إليهم حسان المنبجي فتسلمها منهم وحصنها، وذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، والله سبحانه وتعالى أعلم. استيلاء نور الدين على دمشق: كان الإفرنج سنة ثمان وأربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر، واعترضت دمشق بين نور الدين وبينهما فلم يجد سبيلاً إلى المدافعة عنها، واستطال الإفرنج على دمشق
بعد ملكهم عسقلان، ووضعوا عليها الجزية، واشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم، وكان بها يومئذ مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغركين الاتابك واهن القوى، مستضعف القوة. فخشي نور الدين عليها من الإفرنج، وربما ضايق مجير الدين بعض الملوك من جيرانه فيفزع إلى الإفرنج فيغلبون عليه. وأمعن النظر في ذلك ، وبدأ أمره بمواصلة مجيز الدين وملاطفته حتى استحكمت المودة بينهما حتى صار يداخله في أهل دولته وبرميهم عنده أنهم كاتبوه فيوقع الآخر بهم، حتى هدم أركان دولته، ولم يبق من أمرائه إلا الخادم عطاء بن حفاظ وكان هو القائم بدولته فغصى به نور الدين وحال بينه وبين دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه وقتله. وخلت دمشق من الحامية فسار حينئذ نور الدين مجاهراً بعداوة مجير الدولة ومتجنياً عليه. وإستنجد بالإفرنج على أن يعطيهم الأموال ويسلم لهم بعلبك فجمعوا واحتشدوا. وفي خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع وأربعين، وكاتب جماعة من أحداثها ووعدهم من أنفسهم، فلما وصل ثاروا بمجير الدين ولجأ إلى القلعة. وملك نور الدين المدينة وحاصره. بالقلعة، وبذل له إقطاعاً منها مدينة حمص. فسار إليها مجير الدين، وملك نور الدين القلعة. ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها، ولحق ببغداد وابتنى بها داراً وأقام بها إلى أن توفي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على تل باشر وحصاره قلعة حارم: ولما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الإفرنج الذين في تل باشر في شمالي حلب، واستأمنوا إليه ومكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجي من كبراء أمراء نور الدين سنة تسع وأربعين. ثم سار سنة إحدى وخمسين إلى قلعة بهرام بالقرب من أنْطاكِية وهي لسمند أمير أنْطاكِية من الإفرنج فحاصرها، واجتمع الإفرنج لمدافعته، ثم خاموا عن لقائه وصالحوه على نصف أعمال حارم فقبل صلحهم ورحل عنها، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه. استيلاء نور الدين على شيزر: شيزر هذه حصن قريت من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة، وكانت لبني منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين وأربعمائة، إلى أن انتهى ملكه إلى المرهف نصر بن علي بن
نصير بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي. فلما حضره الموت سنة تسعين وأربعمائة عهد لأخيه أبي سلمة بن مرشد، وكان عالماً بالقراءات والأدب، وولى مرشد أخاه الأصغر سلطان بن علي، وكان بينهما من الإتفاق والملاءمة ما لم يكن بين إثنين. ونشأ لمرشد بنون كثيرون و في السود، منهم عز الدولة أبو الحسن علي، ومؤيد الدولة أسامة وولده علي وتعدد ولده ونافسوا بني عمهم، وفشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد والتئامه بأخيه. فلما مات مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة تنكر أخوه سلطان لولده، وأخرجهم من شيزر فتفرقوا وقصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم وكان مشتغلا عنهم بالافرنج. ثم توفي سلطان وقام بأمر شيزر أولاده، وراسلوا الإفرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك. ثم وقعت الزلازل بالشام وخرب أكثر مدنه مثل: حماة وحمص وكفرطاب والمعرة وأفامية وحصن الأكراد وعرقة ولاذقية وطرابلس وأنْطاكِية. هذه سقطت جميعها وتهدمت سنة إثنتين وخمسين، وما سقط بعضه وتهدمت أسواره فأكثر بلاد الشام. وخشي نور الدين عليها من الإفرنج فوقف بعساكره في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من أسوارها. وكان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة فأصابتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة، ولم ينج منهم أحد. وكان بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر وصعد إليها، وملكها منه نور الدين ورم ما تثلم من أسوارها، وجدد بناءها فعادت كما كانت، هكذا قال ابن الأثير. وقال ابن خلكان: وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة استولى بنو منقذ على شيزر من يد الروم، والذي تولى فتحها منهم علي بن منقذ بن نصر بن سعد، وكتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه:
كتابي من حصن شيزر حماه الله، وقد رزقني الله من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق في هذا الزمان. وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هزبر هذه الأمة، وسليمان الجن والمردة، وأنا أفرّق بين المرء وزوجه، واستنزل القمر من محله. أنا أبو النجم وشعري شعري نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمراً يذهل الألباب، يسع ثلاثة آلاف رجل بالأهل والمال، وتمسكه خمس نسوة فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالحواص، ويسمى هذا التل بالحصن فعمرته حصناً، وجمعت فيه أهلي وعشيرتي ونفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف من الروم ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وعشيرتي، وخلطت خنازيرهم بغنمي، ونواقيسهم بصوت الأذان. ورأى أهل شيزر فعلي ذلك فأنسوا بي، ووصل إلى منهم قريب من نصفهم فبالغت في إكرامهم. ووصل إليهم مسلم بن قريش العقيلي فقتل
من أهل شيزر نحو عشرين رجلاً. فلما إنصرف مسلم عنهم سلموا إلى الحصن. إنتهى كتاب علي بن منقذ. وبين هذا الذي ذكره ابن خلكان والذي ذكره ابن الأثير نحو خمسين سنة. وما ذكره ابن الأثير أولي لأن الإفرنج لم يملكوا من الشام شيئاً في أوائل المائة الخامسة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء نور الدين على بعلبك: كانت بعلبك في يد الضحاك البقاعي، نسبة إلى بقاعة والآن عليها صاحب دمشق. فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبك، وشغل نور الدين عنه بالافرنج. فلما كانت سنة اثنتين وخمسين إستنزله نور الدين عنها وملكها، والله أعلم. استيلاء أخي نول الدين على حران ثم إرتجاعها: كان نور الدين سنة أربع وخمسين وخمسمائة بحلب، ومعه أخوه الأصغر أمير أميران، فمرض نور الدين بالقلعة، واشتد مرضه فجمع أخوه وحاصر قلعة حلب. وكان شيركوه ابن شادي أكبر أمرائه بحمص، فلما بلغه لأزحاف سار إلى دمشق ليملكها، وعليها أخوه نجم الدين أيوب فنكر عليه، وأمره بالمسير إلى حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته. فأغذ السير إلى حلب، وصعد القلعة، وأظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران. فسار إلى حران فملكها. فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين علي كجك نائب أخيه قطب الدين بالموصل، وسار إلى الرقة فحاصرها، والله تعالى ولي التوفيق. خبر سليمان شاه وحبسه بالموصل ثم مسيره منها إلى السلطنة بهمذان: كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر لخراسان، وقد عهد له بملكه وخطب باسمه على منابر خراسان. فلما حصل سنجر في أسر العدو سنة ثمان وأربعين وخمسمائة كما مرّ في أخبار دولتهم، واجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا، وقدموه
فلم يطق مقاومة العدو فمضى إلى خوارزم شاه وزوجه إبنة أخيه. ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم، وقصد أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان، فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا دافعوه عنها فسار إلى خراسان، فمنعه ملك شاه منها فقصد النجف، ونزل وأرسل للخليفة المستنصر، وبعث أهله وولده رهناً بالطاعة و استأذن في دخول بغداد، فأكرمهم الخليفة وأذن له وخرج ابن الوزير ابن هبيرة لتلقيه في الموكب، وفيه قاضي القضاة. والتقيا ودخل بغداد، وخلع عليه آخر سنة خمسين. وبعد أيام أحضر بالقصر واستخلف بحضرة قاضي القضاة والأعيان، وخطب له ببغداد، ولقب ألقاب أبيه. وأمر بثلاثة آلاف فارس، وسار نحو بلاد الجبل في ربيع سنة إحدى وخمسين. ونزل الخليفة حلوان واستنفر له ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان، فقدم إله في ألفي فارس، وجعله سليمان شاه ولي عهده، وأمدهما الخليفة بالمال والسلاح ولحق بهما ايلدكز صاحب الريّ فكثرت جموعهم. وبعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل، وزين الدين علي كجك نائبه في المظاهرة والإنجاد، وسار إلى لقاء سليمان شاه فانهزم وتمزق عسكره. وفارقه أيلدكز فذهب إلى بغداد على طريق شهرزور. وبلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين علي كجك فخرج في جماعة من عسكر الموصل، وقعد له بشهرزور، ومعه الأمير إيراق حتى مرّ بهم سليمان شاه فقبض عليه زين الدين، وحمله إلى الموصل فحبسه بها مكرماً، وطير إلى السلطان محمود بالخبر. فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس وخمسين، أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين أتابك يطلبون توليه الملك سليمان شاه، ويكون جمال الدين وزير قطب الدين وزيراً له، وتعاهدوا على ذلك. وجهزه قطب الدين جهاز الملك، وسار معه زين الدين علي كجك في عسكر الموصل إلى همذان. فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والأمداد للقائهم إرسالاً، واجتمعوا على سليمان شاه وجروا معه على مذاهب الدولة، فخشيهم زين الدين على نفسه، وفارقهم إلى الموصل. وسار سليمان شاه إلى همذان فكان من أمرهم ما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية.
حصار قلعة حارم وانهزام نور الدين إمام الإفرنج ثم هزيمتهم وفتحها: ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب، وحاصر الإفرنج بقلعة حارم، وجمعوا لمدافعته ثم خاموا عن لقائه ولم يناجزوه ، وطال عليه أمرها فعاد عنها. ثم جمع عساكره وسار سنة ثمان وخمسين معتزماً على غزو طرابلس، وإنتهى إلى البقيعة تحت حصن الأكراد فكبسهم الإفرنج هنالك وأثخنوا فيهم. ونجا نور الدين في الفل إلى بحيرة مرس قريباً من حمص، ولحق به المنهزمون. وبعث إلى دمشق وحلب في الأموال والخيام والظهر، وأزاح علل العسكر. وعلم الإفرنج بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها. وسألوه الصلح فامتنع فأنزلوا حاميتهم بحصن الأكراد ورجعوا. وفي هذه الغزاة عزل نور الدين رجلا يعرف بابن نصري، تنصح له بكثرة خرجه بصلاته وصدقاته على الفقراء والفقهاء والصوفية والقراء إلى مصارف الجهاد فغضب وقال: والله لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنهم يقاتلون عني بسهام الدعاء في الليل. وكيف أصرفها عنهم، وهي من حقوقهم في بيت المال ذلك شيء لا يحل لي. ثم أخذ في الإستعداد للأخذ بثأره من الإفرنج، وسار بعضهم إلى ملك مصر فأراد أن يخالفهم إلى بلادهم، فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل، وإلى فخر الدين قرا ارسلان صاحب كيفا، وإلى نجم الدين ولي صاحب ماردين بالنجدة، فسار من بينهم أخوه قطب الدين. وفي مقدمته زين الدين علي كجك صاحب جيشه ثم نبعه صاحب كيفا. وبعث نجم الدين عسكره، فلما توافت الأمداد سار نور الدين نحو حارم سنة تسع وخمسين فحاصرها ونصب عليها المجانيق، وإجتمع من بقي بالساحل من ملوك الإفرنج، ومقدمهم البرنس سمند صاحب أنْطاكِية، والقمص صاحب طرابلس وابن جوسكين، واستنفر لهم أمم النصرانية وقصدوه فأفرج عن حارم إلى إرتاج. ثم خاموا عن لقائه وعادوا إلى حصن حارم، وسار في إتباعهم وناوشهم الحرب فحملوا على عساكر حلب، وصاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها ومروا في أتباعهم. وحمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن فيهم واستلحمهم، وعاد الإفرنج من أتباع الميمنة فسقط في أيديهم. ودارت رحا الحرب على الإفرنج فانهزموا، ورجع المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا منهم امماً فيهم سمند صاحب أنْطاكِية والقمص صاحب طرابلس. وبعث السرايا في تلك الأعمال بقصد أنْطاكِية لخلوها من الحاميه فأبى وقال: أخشى أن يسلمها أصحابها لملك الروم فإن سمند ابن أخته
ومجاورته أحق إلى من مجاورة ملك الروم. ثم عاج على قلعة حارم فحاصرها وافتتحها ورجع مظفراً، والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
فتح نور الدين قلعة بانياس: ولما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل وحصن كيفا بالإنطلاق إلى بلادهم، وعزم على منازلة بانياس وكانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الإفرنج همتهم إلى حمايتها، وخالف هو إلى بانياس لقلة حاميتها فحاصرها، وضيق عليها في ذي الحجة من سنة تسع وخمسين. وكان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فاصيب بسهم في إحدى عينيه وأخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح. وخافه الإفرنج فشاطروه في أعمال طبرية وضرب عليهم الجزية في الباقي ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح وعاد إلى دمشق. ثم سار سنة إحدى وستين متجرداً إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرة وملكه عنوة، ولم يجتمع الإفرنج إلا وقد ملكه فافترقوا ويئسوا من إرتجاعه، والله تعالى أعلم. وفادة شاور وزير العاضد بمصر على نور الدين العادل صريخاً وإنجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه: كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي وصارت إلى استبداد وزرائها على خلفائها، وكان من آخر المسلمين بها شاور السعدي إستعمله الصالح بن زربك على قوص وندم. فلما هلك الصالح بن رزبك وكان مستبداً على الدولة قام ابنه رزبك مقامه فعزل شاور عن قوص فلم يرض بعزله. وجمع وزحف إلى القاهرة فملكها، وقتل رزبك واستبد على العاضد ولقبه أمير الجيوش. وكانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ثم نازعه الضرغام، وكان صاحب الباب ومقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارته، وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام، وقصد نور الدين محمود بن زنكي مستنجداً به على أن يكون له ثلث الجباية بمصر. ويقيم عسكر نور الدين بها مدداً له فاختار من أمرائه لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي،
وكان بحمص، وجهزه بالعساكر فسار له لك في جمادى سنة تسع وخمسين، وأتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الإفرنج فشغلهم عن التعرض للعساكر. وسار أسد الدين مع شاور، وسار معه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب، وانتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فانهزم ورجع إلى القاهرة. واتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها. وقتل أخوه وعاد شاور إلى وزارته. وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد عليه نور الدين فنكث شاور العهد، وبعث إليه بالرجوع إلى بلده فلج في طلب ضريبته، ورحل إلى بلبيس والبلاد الشرقية فاستولى عليها. واستمد شاور عليه بالافرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوّف غائلته، وطمعوا في ملك مصر. وسار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجزتهم عن المسير فلم يثنهم ذلك، وتركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين، وإجتمع الإفرنج وعساكر مصر فحاصروه ثلاثة أشهر، يغاديهم القتال ويراوحهم. وجاءهم الخبر بهزيمة الإفرنج على حارم، وما هيأ الله لنور الدين في ذلك فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح، وطووا عنه الخبر فصالحهم وخرج ولحق بالشام. ووضع له الإفرنج المراصد بالطريق فعدل عنها. ثم أعاده نور الدين إلى مصر سنة إثنتين وستين فسار بالعساكر في ربيع، ونزل أطفيح، وعبر النيل. وجاء إلى القاهرة من جانبها الغربي ونزل الجيزة في عدوة النيل، وحاصرها خمسين يوماً. واستمد شاور بالإفرنج وعبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد، ولقيهم منتصف السنة فهزمهم. وسار إلى ثغر الإسكندرية فملكها، وولى عليها صلاح الدين ابن أخيه ورجع فدوخ بلاد الصعيد. وسارت عساكر مصر والإفرنج إلى الإسكندرية، وحاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فتلقوه بطلب الصلح فتم ذلك بينهم، وعاد إلى الشام وترك لهم الإسكندرية. وكاتب شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه وعن طائفة من الأمراء. ثم استطال الإفرنج على أهل مصر وفرضوا عليهم الجزية وأنزلوا بالقاهرة الشحنة، وتسلموا أبوابها واستدعوا ملكهم بالشام إلى الإستيلاء عليها فبادر نور الدين، وأعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع وستين فملكها وقتل شاور، وطرد الإفرنج عنها. وقدمه العاضد لوزارته والإستبداد عليه كما كان من قبله. ثم هلك أسد الدين وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه، وهو مع ذلك في طاعة نور الدين محمود. وهلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بإقامة الدعوة العباسية بمصر، والخطبة للمستضيء. ويقال أنه كتب له بذلك في حياة العاضد، وبين يدي وفاته. وهلك لخمسين يوماً أو نحوها فخطب للمستضيء العباسي، وإنقرضت الدولة العلوية بمصر، وذلك سنة سبع وستين كما نأتي على شرحه وتفصيله في دولة بني أيوب إن شاء الله تعالى. ووقعت خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود وبين صاحب الروم قليج ارسلان بن مسعود بن قليج ارسلان سنة ستين وخمسمائة، وكتب الصالح بن رزبك إلى قليج ارسلان ينهاه عن الفتنة، والله تعالى ولي التوفيق.
فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر
ثم جمع نور الدين عساكره سنة إثنتين وستين، واستدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم عليه بحمص، ودخلوا جميعا بلاد الإفرنج، ومروا بحصن الأكراد واكتسحوا نواحيه. ثم حاصروا عرقة وخربوا جكة وفتحوا العريمة وصافيتا، وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان، وانتقلوا إلى بانياس، وقصدوا حصن حموص فهرب عنه الإفرنج فهدم نور الدين سوره وأحرقه. واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور الدين من عمله الرقة على الفرات. ثم إنتقض بمدينة منبج غازي بن حسان. وبعث إليها العساكر فملكها عنوة، وأقطعها أخاه قطب الدين ينال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب. ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلى صاحب قلعة جعبر، وكانت تسمى دوس، ثم سميت باسم جعبر بانيها وكان السلطان ملك شاه أعطاها لجده عندما ملك حلب كما مر في أخباره. ولم تزل بيده ويد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين، وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه، وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرماً. وحاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى وبعث بالعساكر مع الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفراني وحاصرها مدة فامتنعت، فبعث عسكراً آخرا. وقدم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب، وعوضه نور الدين عنها سروج وأعمالها، وساحة حلب ومراغة وعشرين ألف دينار. وملك قلعة جعفر سنة أربع وستين، وإنقرض أمر بني مالك منها، والبقاء لله وحده.
رحلة زين الدين نائب الموصل إلى أربل واستبداد قطب الدين بملكه:
قد كان تقدم لنا أن نصير الدين جقري كان نائب الاتابك زنكي بالموصل، وقتل ألبارسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعاً في الملك لغيبة الاتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين الدين علي بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الاتابك، وأيام ابنه غازي، وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصبهاني فاعتقله، وهلك لسنة من الاعتقال. وحمل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فدفن بها في رباط هناك أعده لذلك. وكانت وفاته أيام سيف الدين غازي بن قطب الدين فولى مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه. وكان زين الدين علي بن كمستكين ويعرف بكجك قد استبد في دولة قطب الدين واستقل بحكم الدولة. وصارت بيده أكثر البلاد إقطاعاً مثل: اربل وشهرزور والقلاع التي في تلك البلاد الهكارية. منها: العمادية وغيرها، والحميدية وتكريت وسنجار. وقد كان نقل أهله وولده وذخائره إلى اربل، وأقام بمحل نيابته من قلعة الموصل فأصابه الكبر، وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته بأربل، فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا اربل. وسار إليها سنة أربع وستين، وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصياً من موالي جده الاتابك زنكي، وحكمه في دولته فنزل بالقلعة وعمرها، وكان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء، والله تعالى أعلم.
حصار نور الدين قلعة الكرك:
ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر، واجتمع إليه خلق من التجار ومن أصحاب صلاح الدين، وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت العساكر إلى الكرك، وهو حصن إختطه من الإفرنج البرنس أرقاط وإختط له قلعة فحاصره نور الدين، وجمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم. وسار في بلادهم فاكتسحها، وخرب ما مر به من القلاع، وإنتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب. وبعث
نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس وستين، وركب العاضد للقائه. ولما كان نور الدين بعشيرا سار للقاء شهاب الدين محمد بن إلياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره. فلما إنتهى إلى نواحي بعلبك لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم، وجاء بالأسرى ورؤس القتلى إلى نور الدين، وعرف الرؤس مقدم الإستبان صاحب حصن الأكراد، وكان شجىّ في قلوب المسلمين. وبلغه وهو بهذا المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام والموصل والجزيرة والعراق، وخربت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده. واشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضاً خوفاً من غائلته، والله تعالى أعلم.
وفاة قطب الدين صاحب الموصل وملك إبنه سيف الدين غازي: ثم توفي قطب الدين مودود بن الاتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة خمس وستين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه، وعهد لإبنه الأكبر عماد الدين بالملك. وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح، وكان شديد الطواعية لنور الدين محمود، ويعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازي ابن مودود بموافقة أمه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي. ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصراً به. وقام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبد بها، والله تعالى أعلم. استيلاء نور الدين على الموصل وإقراره ابن أخيه سيف الدين عليها: ولما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين، واستبد عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدم، وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك، وسار في خف من العسكر، وعبر الفرات عند جعبر أول سنة ست وستين. وقصد الرقة فملكها، ثم الخابور فملك جميعه، ثم
نصيبين وكلها من أعمال الموصل. وجاءه هناك نور الدين محمد بن قرا ارسلان ابن داود بن سقمان صاحب كيفا مدداً. ثم سار إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين. ثم جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك. ثم عبر الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل. وسقطت ذلك اليوم ثلمة كبيرة من سور الموصل. وكان سيف الدين غازي قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الاتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل وأذربيجان وأصبهان والري يستنجده على عمه نور الدين، فأرسل أيلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده، وأقام يحاصر الموصل. ثم إجتمع أمراؤها على طاعة نور الدين. ولما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقي سيف الدين ابن أخيه على ملكها، فأجابه على أن يخرج هو عنه، ويكون معه بالشام. وتم ذلك بينهما، وملك نور الدين منتصف جمادى الأولى من سنة ست وستين. ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصياً إسمه كمستكين ولقبه سعد الدين. فأقر سيف الدين ابن أخيه على ملكه، وخلع عليه خلعة، وردت عليه من الخليفة المستضيء وهو يحاصرها، وأمر ببناء جامع بالموصل فبني وشهر باسمه. وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره، وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى الشام، والله تعالى أعلم.
الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين. ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازياً ونازل حصن الشوبك من أعمال واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام، فأجابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازياً أيضاً بلاد الإفرنج من جانب آخر، وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك ان ظاهرته على الإفرنج إضمحل امرهم فاستطال عليك نور الدين، ولا تقدر على الإمتناع منه فترك الشويك وكر راجعاً إلى مصر. وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب، فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك، واعتزم على عزله عن مصر. فاستشار صلاح الدين أباه وخاله شهاب الدين
الحارمي وقرابتهم، فأشار عليه تقي الدين عمر ابن أخيه بالإمتناع والعصيان فنكر عليه نجم الدين أبوه وقال له: ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشارعليه بأن يكاتبه بالطاعة، وأنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه. وافترق المجلس فخلا به أبوه وقال: ما لك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في استطالتهم عليك. ولو فعلتم ما فعلتم كنت أول الممتنعين عليه، ولكن ملاطفته أولى. وكتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه من الملاطفة فتركهم نور الدين وأعرض عن قصدهم. ثم توفي، واشتغل صلاح الدين بملك البلاد. ثم جمع نور الدين العساكر وسار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من مراكب التجار، ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم. وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم نحو أنْطاكِية وطرابلس، وحاصر هو حصن عرقة، وخرب ربضه، وأرسل عسكرا إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة وخربهما. ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح كل ما مر عليه، حتى رجع الإفرنج إلى الإنصاف من أنفسهم، وردوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين، وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت أموالهم. ثم أتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام... بالشام تطير إلى أوعارها من لإتساع بلاده، ووصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبه، وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها. ثم أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق، وكان نور الدين ينزل الكسوة فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد، وتبعهم المسلمون ونالوا منهم. ونزل نور الدين على عشيرا وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها، وسار الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها وأتبعهم الإفرنج فعبروا النهر، وطمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشد قتال إلى أن استنقذت، وتحاجزوا ورجع الإفرنج خائبين، والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه وكرمه.
واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم: كان مليج بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نور الدين محمود بن زنكي، وأمره على الحمالة
وأقطعه ببلاد الشام، وكان يسير في خدمته ويشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته. وكان الأرمني أيضاً يستظهر به على أعدائه، وكانت أدنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون، وهي بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها. وبعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشاً كثيفاً. مع عظيم من بطارقته، فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر، وقاتلهم فهزمهم، وبعث بغنائمهم. وأسراهم إلى نور الدين، وقويت شوكة ابن ليون، ويئس الروم من تلك البلاد، والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين إلى بلاد الروم: كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس وأخصرى وقيسارية ملكها بعد عمه باغي ارسلان، وأخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج ارسلان بن محمد بن قليج ارسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها. ولحق ذو النون بنور الدين صريخاً. وأرسل إلى قليج ارسلان بالشفاعة في رد بلاده فلم يشفعه، فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما في ذي القعدة سنة ثمان وستين. ثم بعث عسكراً إلى سيواس فملكوها. ثم أرسل قليج ارسلان إلى نور الدين يستعطفه، وقد كان يجيز أمامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الإفرنج، ويبقي سيواس بيد ذي النون وعساكر نور الدين الذي معه فيها. ورجع نور الدين إلى بلاده وبقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين، وعاد قليج ارسلان. ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري، ومعه منشور من الخليفة المستضيء لنور الدين بالموصل والجزيرة واربل وخلاط والشام وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه: ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدمنا، واعتزم نور الدين على عزله عن مصر، واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك، وأيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان وستين، وسبق إلى الكرك وحاصره. وخرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح من مصر، وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه، وخشي أن يعذله عند لقائه.
وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذر لنور الدين، وكرّ راجعاً إلى مصر. وبعث الفقيه عيسى بذلك العذر وان حفظة مصر أهمّ عليه. فلما وصل مصر وجد أباه قد توفي من سقطة سقطها عن مركوبه، هزه المرح فرماه، وحمل إلى بيته وقيذا ومات لأيام قريبة آخر ذي الحجة من السنة. ورجع نور الدين إلى دمشق، وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوري القاضي ببلاده، وصاحب الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر والشام والجزيرة والموصل، والتي دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم، وأن يعاد له ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق وهي: صريفين ودرب هرون ، وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة للشافعية فاسعف بذلك كله.
وفاة نور الدين محمود وولاية إبنه إسمعيل الصالح: ثم توفي نور الدين محمود بن الاتابك زنكي حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته، وكان قد شرع في التجهز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب ، واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر مورياً بغزو الإفرنج. وكان قد إتسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب. وكان معتنياً بمصالح المسلمين مواظباً على الصلاة والجهاد، وكان عارفاً بمذهب أبي حنيفة ومتحرياً للعدل ومتجافياً عن أخذ المكوس في جميع أعماله، وهو الذي حصن قلاع الشام وبنى الأسوار على مدنها مثل: دمشق وحمص وحماة وشيزر وبعلبك وحلب، وبنى مدارس كثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل، والمارستانات والخانات في الطريق، والجواسق للصوفية في البلاد. واستكثر من الأوقاف عليها. يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري. وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائماً، ويؤنسهم في المجالسة، ولا يرد لهم قولاً، وكان متواضعاً مهيباً وقوراً. ولما توفي إجتمع الأمراء والمقدمون وأهل الدولة بدمشق، وبايعوا ابنه الملك الصالح إسمعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة. وحلفوا له وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر، وخطب له هنالك وضرب السكة باسمه، وقام بكفالته وتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم، وأشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوري بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك، والله تعالى ولي التوفيق.
استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة:
قد كنا قدمنا أن نور الدين استولى على بلاد الجزيرة، وأقر سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل، واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الذي ولى سيف الدين واستبد عليه بأمره. وولى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين. ولما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي وكمستكين الخادم في العساكر، وبلغهم في طريقهم خبر وفاته. وكان كمستكين في المقدمة فهرب إلى حلب، واستولى سيف الدين على مخلفة وسواده، وعاد إلى نصيبين فملكها، وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها. ثم سار إلى حران، وبها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياماً، ثم استنزله على أن يقطعه حران. فلما نزل قبض عليه وملكها. ثم سار إلى الرها وبها خادم لنور الدين فتسلمها وعوضه عنها قلعة الزعفراني من جزيرة ابن عمر، وانتزعها منه بعد ذلك. ثم سار إلى الرقة وسروج فملكها، واستوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لإمتناعها، وسوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين، وهو ابن خاله. وكان شمس الدين علي بن الداية بحلب، وهو من أكبر أمراء نور الدين، ومعه العساكر، ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح. وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن الدانشمند. فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي، وهو الذي كان ملكه فوجده بالجزيرةوقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام. وعارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله، وعاد إلى الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة، ويتهدد ابن المقدم وأهل الدولة على إنفرادهم بأمر الملك الصالح دونه، وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازي. ثم أرسل شمس الدين بن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك، مخافة أن يستولي عليه ابن الداية، والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
حصار الإفرنج بانياس:
ولما مات نور الدين محمود اجتمع الإفرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق. وجمع شمس الدين بن المقدم العساكر،، وسار عن دمشق، وراسل الإفرنج وتهددهم بسيف الدين صاحب الموصل، وصلاح الدين صاحب مصر صالحوه على مال يبعثه إليهم. واشترى من الإفرنج
وأطلعهم، وتقررت الهدنة. وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه، وكتب إلى المالح وأهل دولته بقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة الإفرنج، وقصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد، وإنما صالح ابن المقدم الإفرنج خوفاً منه . ومن سيف الدين، والله تعالى أعلم. استيلاء صلاح الدين على دمشق: ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة، خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب.. وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة. فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدم إليه عسكراً. فنهبوه وعاد إلى حلب. ثم رأى ابن المقدم وأهل الدولة بدمشق أن مسير الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك الصالح. فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الداية وإخوته، وعلى رئيس حلب ابن الخشاب، وعلى مقدم الأحداث بها. واستبد بأمر الصالح. وخشي ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم، وظنها مكيدة. وبعث بخبرهم إلى كمستكين، وصالحه على مال أخذه من البلاد فكثر إرتياب القوم في دمشق، فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب فسار إليهم ونكب عن الإفرنج في طريقه، وقصد بصرى وأطاعه صاحبها. ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم، وهو الذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مرّ، ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفي. وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري بأنه على طاعة الصالح، والخطبة له في بلاده، وأنه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها من الأموال، وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح، ويخطب له وينقش السكة باسمه إنتهى والله أعلم. استيلاء صلاح الدين على حمص وحماة ثم حصاره حلب ثم ملكه بعلبك: ولما ملك صلاح الدين دمشق من أيالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف الإسلام طغركين بن أيوب، وكان حصن وحماة وقلعة مرعش وسليمة وتل خالد والرها من بلاد الجزيرة
في إقطاع فخر الدين مسعود الزعفرانى من أمراء نور الدين، ما عدا القلاع منها. ولما مات نور الدين أجفل الزعفراني عنها لسوء سيرته. ولما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك البلد، وامتنعت القلعة بالوالي الذي بها فجهز عسكراً لحصارها، وسار إلى حماة فنازلها منتصف شعبان، وبقلعتها الأمير خرديك فبعث إليه صلاح الدين بأنه في طاعة الملك الصالح ، وإنما جاء لمدافعة الإفرنج عنه، وإرتجاع بلاده بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل، واستخلفه على ذلك عز الدين. ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الإتفاق ، وإطلاق شمس الدين علي حسن وعثمان تقي الدين من الإعتقال فسار عز الدين لذلك، واستخلف بالقلعة أخاه. ولما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين وحبسه فسلم أخوه قلعة حماة لصلاح الدين وملكها. ثم سار صلاح الدين من وقته إلى حلب وحاصرها، وركب الملك الصالح وهو صبي مناهز فسار في البلد واستعان بالناس، وذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له واستماتوا دونه، وخرجوا فدافعوا عسكر صلاح الدين. ودس كمستكين إلى مقدم الإسماعيلية في الفتك بصلاح الدين فبعث لذلك فداوية منهم. وشعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين وجماعة منهم معه، وقتلوا عن آخرهم وأقام صلاح الدين محاصراً لحلب، وبعث كمستكين إلى الإفرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم. وكان القمص سمند السنجيلي صاحب طرابلس أسره نور الدين في حارم سنة تسع وخمسين، وبقي معتقلا بحلب فأطلقه الآن كمستكين بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير، وكان متغلباً على ابن مري ملك الإفرنج لكونه محذوفاً لا يصدر إلا عن رأيه فسار بجموع الإفرنج إلى حصن الرستن سابع رجب وصالحهم صلاح الدين من الغد فأجفلوا، وحاصر هو القلعة وملكها آخر شعبان، واستولى على أكثر الشام. ثم سار إلى بعلبك، وبها يمن الخادم من موالي نور الدين فحاصرها، حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة، وأقطعها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم بما تولى له من إظهار طاعته بدمشق وتسليمها له، والله تعالى أعلم.
حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب الموصل وغلبه إياه واستيلاؤه على بغدوين، غيرها من أعمال الملك الصالح ثم مصالحته على حلب: لما ملك صلاح الدين حمص وحماة، وحاصر حلب، كاتب الملك الصالح إسمعيل من حلب
إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجمع عساكره، واستنجد أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار فلم يجبه لما كان بينه وبين صلاح الدين، وأنه ولاه سنجار، ويطمعه في الملك فبعث سيف الدين غازي بالعساكر لمدافعة صلاح الدين عن الشام في رمضان سنة سبعين وخمسمائة، مع أخيه عز الدين مسعود وأمير جيوش عز الدين القندار، وجعل التدبير إليه، وسار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين، وامتنع عليه. وبينما هو يحاصره جاءه الخبر بأن صلاح الدين هزم أخاه عز الدين وعساكره فصالح عماد الدين على سنجار، وعاد إلى الموصل. ثم جهز أخاه عز الدين في العساكر ثانية ومعه القندار. وساروا إلى حلب فانضمت إليهم عساكره، وساروا جميعاً إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في الصلح بينه وبين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص وحماة، ويسوغه الصالح دمشق فأبى إلا إرتجاع جميع بلاد الشام واقتصاره على مصر، فسار صلاح الدين إلى عساكرهم ولقيها قريباً من حماة، فانهزمت وثبت عز الدين قليلاً. ثم صدق عليه صلاح الدين الحملة فانهزم وغنم سوادهم ومخلفهم، وأتبع عساكر حلب حتى أخرجهم منها وحاصرها، وقطع خطبة الملك الصالح، وبعث بالخطبة للسلطان في جميع بلاده. ولما طال عليهم الحصار صالحوه على إقراره على جميع ما ملك من الشام. ورحل عن حلب عاشر شوال من السنة، وعاد إلى حماة. ثم سار منها إلى بغدوين، وكانت لفخر الدين مسعود بن الزعفراني من أمراء نور الدين، وكان قد إتصل بالسلطان صلاح الدين واستخدم له. ثم فارقه حيث لم يحصل على غرضه عنده فلحق ببغدوين، وبها نائب الزعفراني فحاصرها حتى استأمنوا إليه. وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، وأقطع حمص ناصر الدين بن عمه شيركوه، وعاد إلى دمشق آخر سنة سبعين. وكان سيف الدين غازي صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما قلناه إلى الموصل، فجمع العساكر وفرق الأموال. واستنجد صاحب كيفا وصاحب ماردين، وسار في ستة آلاف فارس، وإنتهى إلى نصيبين في ربيع سنة إحدى وسبعين فأقام إلى إنسلاخ فصل الشتاء وسار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب. وبعث صلاح الدين عن عساكره من مصر، وقد كان أذن لهم في الإنطلاق فجاؤا إليه. وسار من دمشق إلى سيف الدين وكمستكين فلقيهم بتل الفحول وانهزموا راجعين إلى حلب وترك سيف الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر، وعبر الفرات إلى الموصل بظن أن صلاح الدين في اتباعه. وشاور الصالح وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية فعارضاه في ذلك. ثم عزل القندار عن إمارة الجيوش لأنه كان جرّ الهزيمة برأيه ومفارقته، وولى مكانه مجاهد الدين قايماز. ولما إنهزمت العساكر أمام صلاح الدين وغنم مخلفها سار إلى مراغة وملكها وولى عليها. ثم سار إلى منبج وبها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي، وكان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة، وحاصره بالقلعة وضيق مخنقه. ثم نقب أسواره وملكها عليه عنوة وأسره. ثم أطلقه سليباً فلحق بالموصل، وأقطعه سيف الدين الرقة ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة عزاز وهي في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوماً حتى استأمنوا إليه فتسلمها في الأضحى. ثم رحل إلى حلب فحاصرها، وبها الملك الصالح، وأشتد أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة. ثم سعى بينهما في الصلح وعلى أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل وصاحب كيفا وصاحب ماردين فاستقر الأمر على ذلك، وخرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها، وأفاض عليها العطاء وطلبت منه قلعة عزاز فأعطاها إياها، ورحل إلى بلاد الإسماعيلية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين صاحب الموصل ورجوعه: كان مجاهد الدين قايماز متولي مدينة اربل، وكان بينه وبين شهاب الدين محمد بدران صاحب شهرزور عداوة. فلما ولى سيف الدين مجاهد الدين قايماز نيابة الموصل خاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل، وأظهر الامتناع، وذلك سنة اثنتين وسبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في ذلك مخاطبة بليغة، وحذره ورغبه فعاود الطاعة وبادر إلى الحضور بالموصل، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. نكبة كمستكين الخادم ومقتله: كان سعد الدين كمستكين الخادم قائما بدولة الملك الصالح في حلب وكان يناهضه فيها أبو صالح العجمي فقدم عند نور الدين وعند ابن الملك الصالح، وتجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله، وخلا الجو لكمستكين، وانفرد بالاستبداد على الصالح وكثرت السعاية فيه بحجر السلطان والاستبداد عليه وأنه قتل وزيره فقبض عليه وامتحنه. وكان قد أقطعه قلعة حارم فامتنع بها أصحابه، وأرادهم الصالح تسليمها فامتنعوا، وهلك
كمستكين في المحنة. وطمع فيها وساروا إليها وحاصروا وصانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها، وبعث هو عساكره إليها وقد جهدهم الحصار فسلموها له، وولى عليها، والله تعالى أعلم.
وفاة الصالح إسمعيل واستيلاء ابن عمه عز الدين مسعود على حلب: ثم توفي الملك الصالح إسمعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته، وعهد بملكه لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل. واستحلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد الدين صاحب سنجار أخي عز الدين الأكبر لمكان صهره على أخت الصالح، وأن أباه نور الدين كان يميل إليه فأبى. وقال عز الدين : أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب. فلما قضى نحبه أرسل الأمراء بحلب إلى عز الدين مسعود يستدعونه هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، ولقي هنالك أمراء حلب، وجاؤا معه فدخلها آخر شعبان من السنة، وصلاح الدين يومئذ بمصر بعيدا عنهم وتقي الدين عمر ابن أخيه في منبج، فلما أحسن بهم فارقها إلى حماة، وثار به أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين. وأشار أهل حلب عليه بقصد دمشق وبلاد الشام وأطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الذي بينه وبين صلاح الدين ثم أقام بحلب شهورا وسار عنها إلى الرقة، والله تعالى أعلم. استيلاء عماد الدين على حلب ونزوله عن سنجار لأخيه عز الدين: ولما انتهى عز الدين إلى الرقة منقلبا من حلب، وافقه هنالك رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يملكه مدينة سنجار، وينزل هو له عن حلب فلم يجبه إلى ذلك. فبعث عماد الدين إليه بأنه يسلم سنجار إلى صلاح الدين فحمل الأمراء حينئذ على معارضته على سنجار وتحمسهم له. ولم يكن لعز الدين مخالفا لتمكنه في الدولة وكثرة بلاده وعساكره فأخذ سنجار من أخيه عماد الدين، وأعطاه حلب، وسار إليها عماد الدين وملكها. وسهل أمره على صلاح الدين بعد ان كان متخوّفا من عز الدين على دمشق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير صلاح الدين إلى بلاد الجزيرة وحصاره الموصل واستيلاؤه على كثير من بلادها ثم على سنجار:
كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كوكبري زين الدين كجك مدينة حران وقلعتها. ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح إليه مظفر الدين، ووعده النصر، واستحثه للقدوم على الجزيرة فسار إلى الفرات موريا بقصد وعبر إليه مظفر الدين فلقيه، وجاء معه إلى البيرة، وهي قلعة منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة. وكان صاحبها من بني أرتق أهل ماردين قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها وعز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار ومعه مجاهد الدين إلى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب. فلما بلغهما عبوره الفرات عادا إلى الموصل، وبعثا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين ملوك النواحي بالنجدة والوعد على ذلك. وكان تقدم العهد بينه وبين نور الدين محمد بن قرى ارسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد ويسلمها إليه. فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أول مجيب، وسار صلاح الدين إلى الرها فحاصرها في جمادى سنة ثمان وسبعين، وبها يومئذ فخر الدين مسعود الزعفراني فلما اشتد به الحصار استأمن إلى صلاح الدين، وحاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه، وأقطعها صلاح الدين مظفر الدين كوكبري صاحب حران. وسار عنها إلى الرقة، وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي فأجفل عنها إلى الموصل، وملكها صلاح الدين وسار إلى الخابور وهو قرقيسيا وماكسين وعرمان فاستولى على جميعها. وسار إلى نصيبين فملكها لوقتها، وحاصر القلعة أياما وملكها، وأقطعها أبا الهيجاء السمين من أكبر أمرائه. وسار عنها وملكها، ومعه صاحب كيفا. وجاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على أعمال دمشق ووصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم، واستمر على شأنه وأغراه مظهر الدين كوكبري وناصر الدين محمد بن شيركوه بالموصل، ورجحا قصدها على سنجار وجزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار صلاح الدين وصاحبها عز الدين، ونائبه مجاهد الدين، وقد جمعوا العساكر وأفاضوا العطاء وشحنوا البلاد التي بايديهم كالجزيرة وسنجار والموصل واربل، وسار صلاح الدين حتى قاربها وسار هو ومظفر الدين وابن شيركوه في أعيان دولته إلى السور فرآه مخايل الامتناع. وقال لمظفر الدين ولناصر الدين ابن عمه قد
أغررتماني. ثم صبح البلد وناشبه وركب أصحابه في المقاعد للقتال. ونصب منجنيقا فلم يغن ونصب إليه من البلد تسعة. ثم خرج إليه جماعة من البلد وأخذوه وكانوا يخرجون ليلاً من البلد بالمشاعل يوهمون الحركة. فخشي صلاح الدين من البيات وتأخر عن القصد، وكان صدر الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من خواصة، في الصلح بين الفريقين على اعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب على إعادة الآخرين حلب فامتنعوا. ثم رجع عن شرط حلب إلى ترك مظاهرة صاحبها فاعتذروا عن ذلك، ووصلت رسل صاحب أذربيجان قرا ارسلان. وأرسل صاحب خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر، ورحل صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار فحاصرها، وبها أمير أميران وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عساكر، ولقيه شرف الدين وجاءها المدد من الموصل فحال بينهم وبينها، وداخله بعض أمراء الأكراد من الدوادية من في داخلها فكبسها صلاح الدين ولحق بالموصل. وملك صلاح الدين سنجار وصارت سياجا على جميع ما ملكه بالجزيرة. وولى عليها سعد الدين ابن معين الدين أنز الذي كان متغلبا بدمشق على آخر طغركين وعاد فمرّ بنصيبين وشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله وسار إلى حران بلدة مظفر الدين كوكبري فوصلها في القلعة من سنة سبع وثمانين فأراح بها، وأذن لعساكره في الإنطلاق وكان عز الدين قد بعث إلى شاهرين صاحب خلاط يستنجده. وأرسل شاهرين إلى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلاً عديدة آخرهم مولاه سكرجاه، وهو على سنجار، فلم يشفعه أخاه من ذلك وفارقه مغاضباً. وسار شاهرين إلى قطب الدين صاحب ماردين وهو ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته فاستنجده، وسارمعه، وجاءهم عز الدين من الموصل في عساكره، واعتزموا على قصد صلاح الدين وبلغه الخبر وهو مريح بحران فبعث عن تقي الدين ابن أخيه صاحب حمص وحماة، وارتحل للقائهم ونزل رأس عين، فخاموا عن لقائه، ولحق كل ببلده، وسار صلاح الدين إلى ماردين فأقام عليها أياما ورجع، والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على حلب وأعمالها: ولما ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع وسبعين، وملكها وسلمها لنور الدين محمد بن قرا ارسلان كما كان العهد بينهما، وقد أشرنا إليه. ثم سار إلى الشام فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا إليه، وملكها في محرم سنة تسع وسبعين وسار منها إلى عينتاب، وبها ناصر الدين أخوه الشيخ إسمعيل خازن نور الدين محمود وصاحبه، ولاه عليها نور الدين فلم يزل بها فاستأمن إلى صلاح الدين على أن يقره على الحصن، ويكون في خدمته فأقره وأعلمه. ورحل صلاح الدين إلى حلب وبها عماد الدين زنكي بن مودود، ونزل عليها بالميلان الأخضر أياما. ثم انتقل إلى جبل جوشن أياما أخرى، وأظهر أنه أبنى عليها، أوعجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل صلاح الدين أن يعوضه عنها سنجار ونصيبين . والخابور والرقة وسروج فأجاب إلى ذلك، وأعطاه عنها تلك البلاد وملكها، وكان في شرط صلاح الدين عليه أنه يبادر إلى الخدمة متى دعاه إليها. وسار عماد الدين إلى بلاده تلك، ودخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع وسبعين. ومات عليها أخوه الأصغر تاج الملوك يوري بضربة في ركبته تصدعت لها، ومات بعد فتح حلب. ثم ارتحل صلاح الدين إلى قلعة حارم وبها سرجك من موالي نور الدين، ولاه عليها عماد الدين. فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم فحاصره صلاح الدين وترددت الرسل بينهما، وقد دس إلى الإفرنج ودعاهم. وخشي الجند الذين معه أن يسلمها إليهم فحبسوه، واستأمنوا إلى صلاح الدين فملكها وولى عليها بعض خواصه، وعلى تل خالد الأمير داروم الباروقي صاحب تل باشر، وأقطع قلعة إعزاز الأمير سليمان بن جندر فعمرها بعد ان كان عماد الدين خربها، وأقطع صلاح الدين أعمال حلب لأمرائه وعساكره، والله تعالى أعلم. نكبة مجاهد الدين قايمان: كان مجاهد الدين قايمان قائما بدولة الموصل ومتحكما فيها كما قلناه وكان عز الدين محمود الملقب بالقندار صاحب الجيش، وشرف الدين أحمد بن أبي الخير الذي كان صاحب
العراق. كانا من أكابر الأمراء عند السلطان عز الدين مسعود صاحب الموصل، وكانا يغريانه بمجاهد الدين ويكثران السعاية عنده فيه، حتى اعتزم على نكبته، ولم يقدر على ذلك في مجلسه لاستبداد مجاهد الدين وقوة شوكته. فانقطع في بيته لعارض مرض، وكان مجاهد الدين خصياً لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده فقبض عليه، وركب إلى القلعة فاحتوى على أمواله وذخائره. وولى بها القندار نائبا، وجعل ابن صاحب العراق أمير حاجباً، وحكمهما في دولته. وكان في يد مجاهد الدين اربل وأعمالها فيها زين الدين يوسف ابن زين الدين علي كجك صبياً صغيراً تحت استبداده وبيده أيضاً جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي، وهو صبي تحت استبداده. وبيده أيضاً شهرزور وأعمالها ودقوقا وقلعة عقر الحميدية، ونوابه في جميعها ولم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل وقلعتها لمجاهد الدين، وهو الملك في الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب اربل، واستبد بنفسه، وكان صاحب جزيرة ابن عمر، وبعث بطاعته إلى صلاح الدين. وبعث الخليفة الناصر شيخ الشيوخ، وبشير الخادم بالصلح بين عز الدين وصلاح الدين على أن تكون الجزيرة واربل من أعماله، وامتنع عز الدين وقال: هما من أعمالي. وطمع صلاح الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقندار ولابن صاحب العراق، لما حملاه عليه من الفساد لنكية مجاهد الدين فبدأ أولا بعزل صاحب أذربيجان فقال له: أنا أكفله وجهز له عسكراً ونحو ثلاثة آلاف فارس. وساروا نحو اربل فاكتسحوا البلد وخربوها، وسار إليهم زين الدين يوسف باربل فوجدهم مفترقين في النهب فهزمهم ومن كان معهم وعاد مظفرا، ولحق العجم ببلادهم. وعاد مجاهد الدين إلى الموصل، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
حصار صلاح الدين الموصل وصلحه مع عز الدين صاحبها: ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذي القعدة سنة إحدى وثمانين، فلما انتهى إلى حران قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري لأنه كان لذلك وعده بخمسين ألف دينار، حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه، فأطلقه ورد عليه عمله بحران والرها. وسار عن حران، وجاء معه عساكر كيفا وداري، وعساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز الدين سنجر شاه ابن أخي معز الدين صاحب الموصل، وقد استبد بأمره، وفارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلنا، فساروا مع صلاح الدين إلى الموصل ولما انتهوا إلى مدينة
بله وفدت عليه أم عز الدين، وابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة ظنا بأنه لا يردهم وأشار عليه الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهم، ورحل إلى الموصل فقاتلها وامتنعت عليه، وندم على رد الوفد، وجاءه كتاب القاضي الفاضل باللائمة. ثم قدم عليه زين الدين يوسف صاحب اربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبري وغيره من الأمراء. ثم بعث الأمير علي بن أحمد المشطوب إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الأكراد الهكارية وأقام يحاصرها، وكاتب نائب القلعة القندار. ونمي خبر مكاتبته إلى عز الدين فمنعه واطرحه من المشورة، وعدل إلى مجاهد الدين قايماز، وكان يقتدي برأيه فضبط الأمور وأصلحها. ثم بلغه في آخر ربيع من سنة اثنين وثمانين، وقد ضجر من حصار الموصل ان شاهرين صاحب خلاط توفي تاسع ربيع، واستولى عليها مولاه بكتمر فرحل عن الموصل، وملك ميافارقين كما يأتي في أخبار دولته ولما فرغ منها عاد إلى الموصل، ومر بنصيبين، ونزل الموصل في رمضان سنة اثنتين وثمانين، وترددت الرسل بينهما في الصلح، على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الفرائلي وما وراء الزاب، ويخطب له على منابرها، وينقش اسمه على سكته. ومرض صلاح الدين أثناء ذلك ووصل إلى حران ولحقته الرسل بالإجابة إلى الصلح وتحالفا عليه، وبعث من يسلم البلاد وأقام ممرضا بحران، عند أخوه العادل وناصر الدولة ابن عمه شيركوه، وامنت بلاد الموصل. ثم حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان والأكراد بالجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقتل فيها ما لا يحصى من الأمم، واتصلت أعواما وسببها أن عروسا من التركمان أهديت إلى زوجها، ومروا بقلعة الزوزان والاكراد، وطلبوا منهم الوليمة على عادة الفتيان فأغلظوا في الرد فقتل صاحب القلعة الزوج، وثار التركمان بجماعة من الأكراد فقتلوهم. ثم أصلح مجاهد الدين بينهم وأفاض فيهم العطاء فعادوا إلى الوفاق، وذهبت بينهم الفتنة، والله تعالى أعلم.
وفاة زين الدين يوسف صاحب اربل وولاية أخيه مظفر الدين اقتهى: كان زين الدين يوسف بن علي كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه قبل، وإربل من أعماله. ووقع الصلح على ذلك بينه وبين عز الدين صاحب الموصل سنة ست وثمانين
للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة واستولى أخوه على موجوده وقبض على جماعة من أمرائه مثل بلداحي صاحب قلعة حقبير كان وغيره، وطلب من صلاح الدين أن يقطعه اربل مكان أخيه، وينزل عن حران والرها فأقطعه اربل، وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودوقبر قرابلي وبني قفجاق وراسل أهل اربل مجاهد الدين قايماز واستدعوه لمجلكوه، وهو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفا من صلاح الدين. ولان عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد ان أطلقه من الاعتقال لم يمكنه كما كان أول مرة، وجعل معه رديفا في الحكم كان من بعض غلمانه، فكان أسفا لذلك. فلما راسله أهل اربل قال: والله لا أفعل لئلا يحكم معي فيها فلان، وسار مظفر الدين إليها وملكها.
حصار عز الدين صاحب الموصل جزيرة ابن عمر: كان سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية أبيه، وخرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه، وصار عيناً على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره ويغريه به ويسعى في القطيعة بينهما. ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست وثمانين، واستنفر لها أصحاب الأطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل، وأخيه عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين وسنجار شاه هذا ابن عمه وصاحب كيفا وغيرهم. واجتمعوا عنده على عكا، وجاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف واستأذن في الانطلاق، فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق هذه العساكر فألح عليه في ذلك، وغدا عليه يوم الفطر مسلما فوعده وانصرف وكان تقي الدين عمر بن شاه أخي صلاح الدين مقبلا من حماة في عسكر فأرسل إليه صلاح الدين باعتراضه، ورده طوعا أو كرها فلقيه بقلعة فنك ورده كرها وكتب صلاح الدين إلى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة فتلقاها بالمراجعة، وطلب إقطاع الجزيرة فأسعفه، وسار إليها وحاصرها أربعة أشهر فامتنعت عليه. ثم صالحه على نصف أعماله، ورجع إلى الموصل، والله تعالى أعلم. مسيرة عز الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة ورجوعه عنها: كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران والرها وسميساط وميافارقين، وكانت بيد
ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاه. ثم توفي تقي الدين فأقطعها أخاه العادل أبا بكر بن أيوب. ثم توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها، واستشار أصحابه فأشار عليه بعضهم بمعاجلتها وأن تستنفر أصحاب الأطراف لها مثل: صاحب اربل، وصاحب جزيرة ابن عمر، وصاحب سنجار ونصيبين. ومن امتنع يعاجله حربا ويعاجل البلد قبل أن يستعد أهلها للمدافعة. وأشار مجاهد الدين قايمان بمشاورة هؤلاء الملوك والعمل بإشارتهم فقبل من مجاهد الدين وكاتبهم فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين، وأن البلد في طاعته، وأنه القائم بدولته، وأنه بلغه أن صاحب ماردين تعرض لبعض بلاده فجهز جيشاً كثيفا لقصد ماردين فوجموا الكتابة وتركوا الحركة. ثم بلغهم أنه بظاهر حران في خف من العسكر فتجهز للحركة عليه. ولما وقع الاتفاق مع سنجار جاءت عساكر الشام إلى العادل من الأفضل، فامتنع وسار عز الدين في عساكره من الموصل إلى نصيبين، واجتمع بأخيه عماد الدين، وساروا إلى الرها، وقد عسكر العادل قريبا منهم بمرج الريحان، وخافهم فأقاموا أياما كذلك. ثم طرق عز الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وساروا إلى الموصل، والله أعلم.
وفاة عز الدين صاحب الموصل وولاية ابنه نور الدين: ولما رجع عز الدين إلى الموصل أقام بها مدّة شهرين، واشتد مرضه فتوفي آخر شعبان سنة تسع وثمانين، وولى ابنه نور الدين ارسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي، وقام بتدبير دولته مجاهد الدين قايمان مدبر دولة أبيه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة عماد الدين صاحب سنجار وولاية قطب الدين: ثم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي، صاحب سنجار والخابور ونصيبين والرقة وسروج، وهي التي عوضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه. توفي في محرم سنة أربع وتسعين، وملك بعده ابنه قطب الدين، وتولى تدبير دولته مجاهد برتقش مولى أبيه. وكان دينا خيراً عادلاً متواضعاً محباً لأهل العلم والدين معظما لهم، وكان متعصبا على الشافعية، حتى انه بنى مدرسة للحنفية بسنجار، وكان حسن السيرة، والله تعالى أعلم.
استيلاء نور الدين صاحب الموصل على نصيبين:
كان عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين، قد امتدت أيدي نوابه بنصيبين إلى قرى
من أعمال الموصل تجاورهم، وبعث إليه في ذلك مجاهد الدين قايمان صاحب دولة الموصل يشكو إليه نوابه سراً من سلطانه نور الدين، فلج عماد الدين في ادعاء انها من أعماله، وأساء الرد فأعاد نور الدين الرسالة إليه مع بعض مشايخ دولته، وقد طرقه المرض فأجاب مثل الأول فنصح الرسول، وكان من بقية الاتابك زنكي. وعاد إلى فأغلظ له في القول، واعتزم نور الدين على المسير إلى نصيبين، ووصل الخبر اثر ذلك بوفاة عماد الدين، وولاية ابنه قطب الدين فقوي طمع نور الدين في نصيبين، وتجهز لها في جمادي سنة أربع وتسعين. وسار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الديني إلى نصيبين. فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين، ودخل إلى قلعة نصيبين مهزوماً ثم أسرى منها إلى حران، ومعه نائبه مجاهد الدين برتقش، وكاتبوا العادل أبا بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق. وأقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل إلى الجزيرة ففارقها إلى الموصل في رمضان من السنة. وعاد قطب الدين إليها. وكان الموتان قد وقع في عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل. ومات مجاهد الدين قايمان القائم بالدولة. ولما عاد نور الدين إلى الموصل، وعاد قطب الدين إلى نصيبين سار العادل إلى ماردين فحاصرها أياما وضيق عليها ثم انصرف، والله تعالى أعلم.
هزيمة الكامل بن العادل على ماردين أمام نور الدين صاحب الموصل وبني عمه ملوك الجزيرة:
لما رحل العادل عن ماردين كما قدمناه جر العساكر عليها للحصار مع ابنه الكامل، وعظم ذلك على ملوك الجزيرة وديار بكر، وخافوا ان ملكها يغلبهم على أمرهم، ولم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين إلا تقية لكثرة عساكره. فلما رجع إلى دمشق، وبقي الكامل على ماردين استهانوا بأمره، وطمعوا في مدافعته. وأغراهم بذلك الظاهر والأفضل ابنا
صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل. فتجهز نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل، وسار أول شعبان سنة خمس وتسعين، وانتهى إلى دبيس فأقام بها، ولحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار، وابن عمه الآخر سنجار شاه ابن غازي صاحب جزيرة ابن عمر، حتى إذا انقضى عيد الفطر ارتحلوا وتقدموا إلى مزاحمة الكامل على ماردين. وكان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم وجهدهم الحصار وبعث النظام المستولي على دولة صاحبها إلى الكامل يراوده في الصلح، وتسليم القلعة له إلى أجل سماه على أن يبيح لهم بقوتهم من الميرة فأسعفهم بذلك وبينما هم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا، وزحف الكامل مهزوما إلى معسكره بالربض فخرج أهل القلعة إليهم وقاتلوهم إلى المساء ثم أجفل الكامل من ليلته منتصف شوال، وعاد إلى بلاده ونهب أهل القلعة مخلفه، وخرج صاحب ماردين وهو بولو ارسلان ابن أبي الغازي فلقي نور الدين وشكره، وعاد إلى حصنه، ورجع نور الدين وأصحابه إلى تستر. ثم سار منها إلى رأس عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه السكة والخطبة، فوجم لذلك وثنى عزمه عن مظاهرتهم. ثم طرقه المرض فبعث إليهم بالعذر، وعاد إلى الموصل في ذي الحجة آخر السنة، والله تعالى أعلم.
مسير نور الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة: ثم ان الملك العادل ملك مصر سنة ست وتسعين من يد الأفضل ابن أخيه، فخشيه الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين، وراسلوا نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق، وأن يسير إلى بلاد العادل بالجزيرة: حران والرها والرقة وسنجار، فسار نور الدين لملكها في شعبان سنة سبع وتسعين. وسار معه ابن عمه قطب الدين سنجار، وحسام الدين صاحب ماردين، وانتهوا إلى رأس العين، وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل إلى نور الدين في الصلح فبادر إلى الإجابة لما وقع في عسكره من الموتان، واستحلف وحلف لهم. وبعثوا إلى العادل فحلف وعاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة، والله تعالى أعلم. هزيمة نور الدين صاحب الموصل أمام عسكر العادل: لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار، ويستميله إلى أن خطب له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل إلى نصيبين من أعمال قطب الدين فحاصرها
وملك المدينة. وأقام يحاصر القلعة فبينما هو قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبه بالموصل بأن مظفر الدين كوكبري صاحب اربل من أعمال الموصل فرحل عن نصيبين معتزما على قصد اربل فلم يجد كل الخبر صحيحا فسار إلى تل اعفر من أعمال سنجار فحاصرها وملكها. وكان الأشرف موسى بن العادل قد سار من حران إلى رأس العين نجدة لصاحب سنجار. وقد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب اربل وصاحب كيفا وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر، وتراسلوا وتواعدوا للاجتماع. فلما ارتحل نور الدين عن نصيبين اجتمعوا عليها، وجاءهم أخو الأشرف نجم الدين صاحب ميافارقين وساروا إلى البقعا من تل اعفر إلى كفررقان. وقصده المطاولة حتى جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه وأطمعه فيهم، وكان من مواليه فوثق بقوله ورحل إلى نوشري قريبا منهم. وتراءى الجمعان فالتقوا، وانهزم نور الدين ونجا في فل قليل، ونزلت العساكر كفررقان ونهبوا مدينة فيد، وما إليها، وأقاموا هنالك. وترددت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل اعفر لقطب الدين صاحب سنجار فأعادها، واصطلحوا سنة إحدى وستمائة، ورجع كل إلى بلده. والله تعالى ولي التوفيق.
مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر وولاية ابنه محمود بعده: كان سنجر شاه بن غازي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب جزيرة ابن عمر وأعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مرّ وكان سيء السيرة غشوما ظلوما مرهف الحد على رعيته وجنده وحرمه وولده، كثير القهر لهم والانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محمودا ومودودا إلى قلعة فرج من بلاد الزوزان، لتوهم توهمه فيهما. وأخرج ابنه غازي إلى دار بالمدينة ووكل به فساءت حاله. وكانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله وتناول حية وبعثها إلى أبيه فلم يعطف عليه، فتسلل من الدار واستخفى في المدينة وبعث إلى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله إليه فبعث إليه بنفقة وردة خوفا من أبيه وترك أبوه طلبه لما
شاع انه بالشام فلم يزل غازي يعمل الحيلة حتى دخل دار أبيه، واختفى عند بعض حظاياه ، وطرق عليه الخلاء في بعض الليالي وهو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة. ثم ذبحه وأقام مع الحرم. وعلم استاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة، وأغلق أبواب القصر، وبايع الناس لمحمود بن سنجر شاه واستدعاه وأخاه مودودا من قلعة فرج. ثم دخلوا إلى غازي وقتلوه. ووصل محمود فملكوه ولقبوه معن الدين لقب أبيه، وعمد إلى الجواري التي واطأت على قتل ابيه فغرّقهنّ في الدجلة، والله تعالى أعلم.
استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من أعمال صاحب سنجار وحصاره اياه: كان بين قطب الدين محمود بن زنكي بن مودود، وبين ابن عمه نور الدين ارسلان شاه، بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة، قد مرّ كثير من أخبارها. ولما كانت سنة خمس وستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر والشام إلى نور الدين في ابنته، فزوجها نور الدين من ابنه واستكثر به، وطمح إلى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر، وتكون ولاية قطب الدين وهي: سنجار ونصيبين والخابور للعادل. وتكون ولاية غازي بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل فأجاب إلى ذلك العادل، وأطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا ملكها لابنه الذي هو صهره على ابنته، وتحالفا على ذلك. وسار العادل سنة ست وستمائة من دمشق لملك الخابور. وراجع نور الدين رأيه فاذا هو قد تورط، وانه يملك البلاد كما يحب دونه إن وفى له. وسار نور الدين إلى الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه وبين الموصل، وان انتقض نور الدين عليه سار إليه فاضطرب في أمره، وملك العادل الخابور ونصيبين. واعتزم قطب الدين على أن يعتاض منه عن سنجار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن برتقش مولى أبيه، وجهز نور الدين عسكراً مع ابنه القاهر مدداً للعادل كما اتفقا عليه. وفي خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه إلى مظفر الدين صاحب اربل يستنجده فأرسل إلن العادل شافعا في أمره، فلم يشفعه لمظاهرة نور الدين إياه فغضب مظفر الدين وأرسل إلى نور الدين في المساعدة على دفاع العدو فأجاب نور الدين إلى ذلك، ورجع عن مظاهرة العادل. وأرسل هو ومظفر الدين إلى الطاهر بن صلاح الدين صاحب حلب والي كسنجر بن قليج ارسلان صاحب الروم يستنجدانهما فأجاباهما وتداعوا إلى قصد بلاد العادل إن لم يرحل عن سنجار. وبعث الخليفة
الناصر أستاذ الدار أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك ة والأمير اقناش من خواص مواليه في الافراج عن سنجار، وتخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه، وسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة فانه جاهر بخلافة في ذلك فأجاب العادل في الصلح، على أن تكون نصيبين والخابور اللذان ملكهما له، وتبقى سنجار لقطب الدين، وتحالفوا على ذلك، ورجع العادل إلى حران، ومظفر الدين إلى اربل، والله تعالى أعلم.
وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية ابنه القاهر: ثم توفي نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي منتصف سنة سبع وستمائة لثمان عشرة سنة من ولايته، وكان شهما شجاعا مهيبا عند أصحابه حسن السياسة لرعيته. وجدد ملك آبائه بعد أن أشفى على الذهاب. ولما احتضر عهد بالملك لابنه عز الدين مسعود، وهو ابن عشرين سنة، وأوصاه أن يتولى تدبير ملكه مولاه بدر الدين لؤلؤ لما فيه من حسن السياسة. وكان قائما بأمره منذ توفي مجاهد الدين قايمان وأوصى لولده الأصغر عماد الدين بقلعة عقر الحميدية، وقلعة شوش وولايتها، ولفته إلى العقر. فلما توفي نور الدين بايع الناس ابنه عز الدين مسعودا ولقبوه القاهر، واستقر ملك الموصل. وأعمالها له، وقام بدر الدين لؤلؤ بتدبير دولته، والبقاء لله وحده. وفاة القاهر وولاية ابنه نور الدين ارسلان شاه في كفالة بدر الدين لؤلؤ : لما توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زكي صاحب الموصل، آخر ربيع الأول سنة خمس عشرة وخمسمائة لثمان سنين من ولايته بعد أن عهد بالملك لابنه الأكبر نور الدين ارسلان شاه، وعمره عشرون سنة، وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته لؤلؤا كما كان في دولة القاهر، وابنه نور الدين فبايع له وقام بملكه. وأرسل إلى الخليفة في التقليد والخلع على العادة فوصلت، وبعث إلى الملوك في الأطراف في تجديد العهد كما كان بينهم وبين سلفه وضبط أمور. وكان عمه نور الدين زنكي ارسلان شاه بقلعة عقر الحميدية لا يشك في مصير السلطان له فدفعه عن ذلك، واستقامت أموره وأحسن السيرة،
وسمع شكوى المتظلمين وأنصفهم، ووصل في تقليد الخليفة لنور الدين اسناد التتر في أموره لبدر الدين لؤلؤ والله أعلم.
استيلاء عماد الدين صاحب عقر علي قلاع الهكارية والزوزان: كان عماد الدين زنكي قد ولاه أبوه قلعتي العقر والشوش قريبا من الموصل، وأوصى له بهما وعهد بالملك لابنه الأكبر القاهر. فلما توفي القاهر كما ذكرنا طمح زنكي إلى الملك، وكان يحدث به نفسه فلم يحصل له. وكان بالعمادية نائب من موالي جده مسعود فداخله في الطاعة له. وشعر بذلك بدر الدين لؤلؤ فعزل ذلك النائب، وبعث إليها أميراً أنزله بها وجعل فيها نائبا من قبله. واستبد بالنواب في غيرها. وكان نور الدين بن القاهر لا يزال عليلا لضعف مزاجه وتوالي الأمراض عليه فبقي محتجبا طول المدة. فأرسل زنكي إلى نور الدين بالعمادية يشيع موته، ويقول: أنا أحق بملك سلفي فتوهموا صدقه، وقبضوا على نائب لؤلؤ ومن معه، وسلموا البلد لعماد الدين زنكي منتصف رمضان سنة خمس عشرة. وجهز لؤلؤ العساكر وحاصروه بالعمادية في فصل الشتاء وكلب البرد وتراكم الثلج، ولم يتمكنوا من قتاله. وظاهره مظفر الدين صاحب اربل على شأنه، وذكر لؤلؤا بالعهد الذي بينهما ان لا يتعرض لأعمال الموصل، والنص فيها على قلاع الهكارية والزوزان وأنه مظاهر لهم على من يتعرض لها فلج في مظاهرته، واعتمد نقض العهد وأقام العسكر محاصرا لزنكي بالعمادية. وتقدموا بعض الليالي وركبوا الأوعار إليه فبرز إليهم أهل العمادية، وهزموهم في المضايق والشعاب فعادوا إلى الموصل، وأرسل عماد الدين قلاع الهكارية والزوزان ني الطاعة له نأجابوه، وملكها وولى عليها، والله أعلم. مظاهرة الأشرف بن العادل ل لؤلؤ صاحب الموصل: ولما استولى عماد الدين زنكي على قلاع الهكارية والزوزان، وظاهره مظفر الدين صاحب اربل خاف لؤلؤ عائلته فبعث بطاعته إلى الأشرف موسى بن العادل، وقد ملك أكثر بلاد الجزيرة وخلاط وأعمالها، وش!أله المعاضدة فأجابه. وكان يومئذ يجلب في مدافعة كيكاوس صاحب
بلاد الروم من أعمالها فأرسل إلى مظفر الدين بالنكير عليه فيما فعل من نقضه العهد الذي كان بينهم جميعا كما مر، ويعزم عليه في إعادة ما أخذ من بلاد الموصل، ويتوعده إن أصر على مظاهرة زنكي بقصد بلاده فلم يجب مظفر الدين إلى ذلك، واستألف على أمره صاحب ماردين وناصر الدين محمودا صاحب كيفا وآمد فوافقوه، وفارقوا طاعة الأشرف في ذلك فبعث الأشرف عساكره إلى نصيبين لانجاد لؤلؤ متى احتاج إليه، والله تعالى أعلم.
واقعة عساكر لؤلؤ بعماد الدين: ولما عاد عسكر الموصل عن حصار العمادية، خرج زنكي إلى قلعة العقر ليتمكن من أعمال الموصل الصحراوية إذ كان قد فرغ من أعمالها الجبلية، وأمده مظفر الدين صاحب اربل بالعساكر، وعسكر جند الموصل على أربع فراسخ من البلد من ناحية العقر. ثم اتفقوا على المسير إلى زنكي وصبحوه آخر المحرم سنة ست عشرة وستمائة وهزموه فلحق بإربل، وعاد الرسل إلى مكانهم. ووصل رسل الخليفة الناصر والأشرف ابن العادل في الصلح بينهما فاصطلحوا وتحالفوا والله تعالى أعلم. وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية أخيه ناصر الدين: لما توفي نور الدين ارسلان شاه بن الملك القاهر كما قدمنا من سوء مزاجه واختلاف الأسقام عليه، فتوفي قبل كمال الحول. ونصب لؤلؤ مكانه أخاه ناصر الدين محمد بن القاهر في سن الثلاث، واستحلف له الجند وأركبه في الموكب فرضي به الناس لما أبلوا من عجز أخيه عن الركوب لمرضه، والله تعالى وليئ التوفيق. هزيمة لؤلؤ صاحب الموصل من مظفر الدين صاحب اربل: ولما توفي نور الدين، ونصب لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمدا على صغر سنه، تجدد الطمع لعماد الدين عمه ولمظفر الدين صاحب اربل في الاستيلاء على الموصل، وتجهزوا لذلك. وعاثت سراياه في نواحي الموصل. وكذا لؤلؤ قد بعث ابنه الأكبر في العساكر نجدة للملك الأشرف، وهو يقصد بلاد الإفرنج بالسواحل ليأخذ بحجزتهم عن إمداد إخوانهم بدمياط عن أبيه
الكامل بمصر، فبادر لؤلؤ إلى عسكر الأشرف الذين بنصيبين واستدعاهم فجاؤوا إلى الموصل منتصف سنة عشر وستمائة، وعليهم ايبك مولى الأشرف فاستقلهم لؤلؤ ورآهم مثل عسكره الذين بالشام ودونهم. وألح ايبك على عبور دجلة إلى اربل فمنعه أياما فلما أصر عبر لؤلؤ معه، ونزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة وجمع مظفر الدين زنكي وعبروا الزاب وتقدم إليهم ايبك في سكره وأصحاب لؤلؤ وسار منتصف الليل من رجب، وأشار عليه لؤلؤ بانتظار الصباح فلم يفعل ولقيهم بالليل. وحمل أيبك على زنكي في الميسرة فهزمه. وانهزمت ميسرة لؤلؤ فبقي في نفر قليل فتقدم إليه مظفر الدين فهزمه، وعبر دجلة إلى الموصل. وظهر مظهر الدين على تبريز ثلاثا.ثم بلغه أن لؤلؤا يريد تبييته فأجفل راجعا، وترددت الرسل بينهما فاصطلحا على أن يبقى لكل ما بيده، والله أعلم.
وفاة صاحب سنجار وولاية ابنه ثم مقتله وولاية أخيه: ثم توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن الاتابك أنكي صاحب سنجار في ثامن صفر سنة ست عشرة وستمائة، وكان حسن السيرة مسلما إلى نوابه. وملك بعده ابنه عماد الدين شاهين شاه، واشتمل الناس عليه شهورا. ثم سار إلى تل اعفر فاغتاله أخوه عمر، دخل إليه في جماعة فقتلوه وملك بعده. وبقي مدة إلى أن تسلم الأشرف بن العادل مدينة سنجار في جمادى سنة سبع عشر وستمائة، والله أعلم. استيلاء عماد الدين على قلعة كواشي و لؤلؤ على تل أعفر والأشرف على سنجار: كانت كواشي من أحصت قلاع الموصل وأمنعه وأعلاه، ولما رأى الجند الذين بها بعد أهل العمادية واستبدادهم بأنفسهم طمعوا في مثل ذلك، وأخرجوا نواب لؤلؤ عنهم وتمسكوا بإظهار الطاعة على البعد خوفا على رهائنهم بالموصل. ثم استدعوا عماد الدين زنكي وسلموا له القلعة، وأقام عندهم وبعث لؤلؤإلى مظفر الدين يذكره العهود التي لم يجز ثلمها بعد، فأعرض وأرسل
إلى الأشرف بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات إلى حران. وكان مظفر الدين صاحب اربل يراسل الملوك بالأطراف ويغريهم بالأشرف ويخوفهم غائلته. ولما كان بين كيكاوس بن كنجسرو صاحب الروم من الفتنة ما نذكره في أخباره، وسار كيكاوس إلى حلب دعا مظفر الدين الملوك بناحيته إلى وفاق كيكاوس مثل صاحب كيفا وآمد وصاحب ماردين فأطاعوه وخطبوا له في أعمالهم. ومات كيكاوس وفي نفس الأشرف منه ومن مظفر الدين ما في نفسه. ولما سار الأشرف إلى حران لمظاهرة لؤلؤ وأرسل مظفر الدين جماعة من أمرائه مثل أحمد بن علي المشطوب وعز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما، واستمالهم ففارقوا الأشرف ونازلوا دبيس تحت ماردين ليجتمعوا مع ملوك الأطراف لمدافعة الأشرف. واستمال الأشرف صاحب آمد وأعطاه مدينة حالى وجبل حودي، ووعده بدارا إذا ملكها فأجاب وفارقهم إليه. واضطر آخرون منهم إلى طاعته فانحل أمرهم. وانفرد ابن المشطوب بمشاقة الأشرف فقصد اربل ومر بنصيبين فقاتله شيخ بها فانهزم إلى سنجار فأسره صاحبها. وأطلقه فجمع المفسدين، وقصد البقعا من أعمال الموصل فاكتسح نواحيها وعاد. ثم سار من سنجار ثانية إلى الموصل، وأرصد له لؤلؤ عسكراً فاعترضوه فهزمه. واجتاز بتل أعفر من أعمال! سنجار فأقاموا عليها وبعثوا إلى لؤلؤ فسار وحاصرها وملكها في ربيع سنة سبع عشرة وستمائة، وأسر ابن المشطوب وجاء به إلى الموصل. ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران سنين، وهلك في محبسه. ولما أطاع صاحب آمد الأشرف رحل من حران إلى ماردين، ونزل دبيس وحاصر ماردين، ومعه صاحب آمد. وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين على أن يرد عليه رأس العين. وكان الأشرف قد!قطعها له على أن يحمل إليه ثلاثين ألف دينار، وأن يعطي لصاحب امد الورزني بلد وانعقد الصلح بينهما، وارتحل الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل، فلقيه رسل صاحب سنجار يطلب من يتسلمها منه على أن يعوضه الأشرف منها بالرقة بما أدركه من الخوف عند استيلاء لؤلؤ على تل أعفر ونفرة أهل دولته عنه لقتله أخاه كما ذكرناه. فأجابه الأشرف وأعطاه الرقة، وملك سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة، ورحل عنها بأهله وعشيرته وانقراض أمر بني زنكي منها بعد أربع وتسعين سنة، والبقاء لله وحده.
صلح الأشرف مع مظفر الدين: ولما ملك الأشرف سنجار سار إلى الموصل، ووافاه بها رسل الخليفة الناظر ومظفر الدين صاحب اربل في الصلح، ورد القلاع المأخوذة من إيالة الموصل على صاحبها لؤلؤ ما عدا العمادية فتبقى بيد زنكي. وتردد الحديث في ذلك شهرين، ولم يتم فرحل الأشرف بقصد اربل حتى قارب نهر الزاب. وكان العسكر قد ضجروا سوء صاحب آمد مع مظفر الدين فأشار بإجابته إلى ما سأل، ووافق على ذلك أصحاب الأشرف فانعقد الصلح، وساق زنكي إلى الأشرف رهينة على ذلك. وسلمت قلعة العقروشوش لنواب الأشرف وهما لزنكي رهنا أيضاً. وعاد الأشرف إلى سنجار في رمضان سنة سبع عشرة. وبعثوا إلى القلاع فلم يسلمها جندها وامتنعوا بها. واستجار عماد الدين زنكي بشهاب ابن العادل فاستعطف له أخاه الأشرف فأطلقه، ورد عليه قلعتي العقر وشوش. وصرف نوابه عنهما. وسمع لؤلؤ الأشرف يميل إلى قلعة تل أعفر، وانها لم تزل لسنجار قديما فبعث إليه بتسليمها، والله تعالى أعلم. رجوع قلاع الهكارية والزوزان إلى طاعة صاحب الموصل: لما رأى زنكي أنه ملك قلاع الهكارية والزوزان وساوة، فلم يروا عنده ما ظنوه من حسن السيرة كما يفعله لؤلؤ ، وطلبوه في الإقطاع فأجابهم. واستأذن الأشرف فلم يأذن له، وجاء زنكي من عند الأشرف فحاصر العمادية، ولنم يبلغ منها غرضا فأعادوا مراسلة لؤلؤ فاستأذن الأشرف، وأعطاه قلعة جديدة ونصيبين وولاية ما بين النهرين وأذن له في تملك القلاع، وأرسل نوابه إليها، ووفى لهم بما عاهدهم عليه. وتبعهم بقية القلاع من أعمال الموصل فدخلوا كلهم في طاعة لؤلؤ وانتظم له ملكها، والله تعالى أعلم.. استيلاء صاحب الموصل على قلعة سوس: كانت قلعة سوس وقلعة العقر متجاورتين على اثني عشر فرسخا من الموصل، وكانتا لعماد الدين زنكي بن نور الدين ارسلان شاه بوصية أبيه كما مر. وملك معهما قلاع الهكارية والزوزان، ورجعت إلى الموصل وسار هو سنة تسعة عشر إلى ازبك بن البهلوان صاحب أذربيجان من بقية السلجوقية فسار معه، وأقطع له الاقطاعات وأقام عنده فسار لؤلؤ من الموصل إلى قلعة
سوس فحاصرها، وضيق عليها. وامتنعت عليه فجمر العساكر لحصارها وعاد إلى الموصل. ثم اشتد الحصار بأهلها، وانقطعت عنهم الأسباب فاستأمنوا إلى لؤلؤ ونزلوا له عنها على شروط اشترطوها وقبلها، وبعث نوابه عليها، والله تعالى أعلم.
حصار مظفر الدين الموصل: كان الأشرف بن العادل بن أيوب قد استولى على الموصل، ودخل لؤلؤ في طاعته واستولى على خلاط وسائر أرمينية، وأقطعها أخاه شهاب الدين غازي، ثم جعله ولي عهده في سائر أعماله. ثم نشأت الفتنة بينهما فاستظهر غازي بأخيه المعظم صاحب دمشق وبمظهر الدين كوكبري. وتداعوا لحصار الموصل فجمع أخوهما الكامل عساكره، وسار إلى خلاط فحاصرها بعد أن بعث إلى المعظم صاحب دمشق وتهدده فأقصر عن مظاهرة أخيه. واستنجد غازي مظفر الدين كوكبري صاحب اربل فسار إلى الموصل وحاصرها ليأخذ بحجزة الأشرف عن خلاط. ونهض المعظم صاحب دمشق لإنجاد أخيه غازي وكان لؤلؤ صاحب الموصل قد استعذ للحصار فأقام عليها مظفر الدين عشرا. ثم رحل منتصف إحدى وعشرين لامتناعها عليه، ولقيه الخبر بأن الأشرف قد ملك خلاط من يد أخيه فندم على ما كان منه. إنتقاض أهل العمادية على لؤلؤ ثم استيلاؤه عليها: قد تقدم لنا انتقاض أهل قلعة العمادية من أعمال الموصل سنة خمس عشرة، ورجوعه إلى عماد الدين زنكي، ثم عودهم إلى طاعة لؤلؤ فأقاموا على ذلك مدة. ثم عادوا إلى ديدنهم من التمريض في الطاعة وتجنوا على لؤلؤ بعزل نوابه فعزلهم مرة بعد أخرى. ثم استبد بها أولاد خواجا إبراهيم وأخوه فيمن تبعهم، وأخرجوا من خالفهم وأظهروا العصيان على لؤلؤ فسار إليهم سنة اثنتين وعشرين، وحاصرهم وقطع الميرة عنهم. وبعث عسكراً إلى قلعة هزوران وقد كانوا اتبعوا أهل العمادية في العصيان فحاصرهم حتى استأمنوا وملكها. ثم جهز العساكر إلى العمادية مع نائبه أمين الدين، وعاد إلى الموصل واستمر الحصار إلى ذي القعدة من السنة. ثم راسلوا أمين الدين في الصلح على مال واقطاع وعوض عن القلعة، وأجاب لؤلؤإلى ذلك. وكان أمين الدين قد وليها تبل ذلك فكان له فيها بطانة مستمدون على عهده ومكاتبته، وسخط كثير من أهل البلد فعل أولاد خواجا إبراهيم واستئثارهم بالصلح دونهم فوجد
أولئك البطانة سبيلاً إلى التسلط علبهم، ودسوا لأمين الدين أن يبيت البلد ويصالحها فصالحهم فوثبوا بأولاد خواجا، ونادوا بشعار لؤلؤ فصعد العسكر القلعة وملكها أمين الدين وبعث بالخبر إلى لؤلؤ قبل أن ينعقد اليمين مع وفد أولاد خواجا. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
مسير مظفر الدين صاحب أربل إلى أعمال الموصل وعوده منها: كان جلال الدين شكري بن خوارزم شاه قد غلبه التتر أول خروجهم سنة سبع عشرة وستمائة على خوارزم وخراسان وغزنة، وفر أمامهم إلى الهند، ثم رجع عنها سنة اثنتين وعشرين، واستولى على العراق، ثم على أذربيجان وجاور الأشرف بن العادل في ولايته بخلاط والجزيرة، وحدثت بينهما الفتنة. وراسله أعيان الأشرف في الأغراء به مثل: مظفر الدين صاحب اربل، ومسعور صاحب آمد وأخيه المعظم صاحب دمشق. واتفقوا على ذلك، وسار جلال الدين إلى خلاط وسار مظفر الدين إلى الموصل، وانتهى إلى الزاب ينتظر الخبو عن جلال الدين، وسار المعظم صاحب دمشق إلى حمص وحماة. وبعث لؤلؤمن الموصل يستنجد الأشرف فسار إلى حران، ثم إلى دبيس فاكتسح أعمال ماردين. وكان جلال الدين قد بلغه انتقاض نائبه بكرمان فأغذ السير إليه، وترك خلاط بعد أن عاث في أعمالها، وفت ذلك في أعضاد الاخرين ، وعظمت سطوة الأشرف بهم. وبعث إليه أخوه المعظم وقد نازل حمص وحماة يتوعده بمحاصرتهما ومحاصرة مظفر الدين الموصل، فرجع إلى ماردين، ورجع الآخران عن حمص وحماة والموصل ولحق كل ببلده، والله تعالى أعلم. مسير التتر في بلاد الموصل وأربل: ولما أوقع بجلال الدين خوارزم شاه على آمد سنة ثمان وعشرين وقتلوه، ولم يبق لهم مدافع من الملوك ولا مانع انساحوا في البلاد طولا وعرضأ، ودخلوا ديار بكر، واكتسحوا سواد آمد وارزن وميافارقين وحاصروا وطكوها بالأمان. ثم استباحوها وساروا إلى
ماردين فعاثوا في نواحيها. ثم دخلوا الجزيرة واكتسحوا أعمال نصيبين. ثم مروا إلى سنجار فنهبوها، ودخلوا الخابور واستباحوه. وسارت طائفة منهم إلى الموصل فاستباحوا أعمالها، ثم أعمال اربل وأفحشوا فيها. وبرز مظفر الدين في محساكره، واستمد عساكر الموصل فبعث بها لؤلؤ إليه. ثم عاد التتر عنهم إلى أذربيجان فعاد كل إلى بلاده، والله أعلم.
وفاة مظفر الدين صاحب أربل وعودها إلى الخليفة: ثم توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك صاحب اربل سنة تسع وعشرين لأربع وأربعين سنة من ولايته عليها ؛ أيام صلاح الدين بعد أخيه يوسف؟ ولم يكن له ول فأوصى بإربل للخليفة المستنصر فبعث إليها نوابه، واستولى عليها وصارت من أعمال والله تعالى أعلم.
بقية أخبار لؤلؤ صاحب الموصل: كان عسكر خوارزم شاه بعد مهلكه سنة ثمان وعشرين على آمد لحقوا بصاحب الروم كيغباد فاستنجدهم وهلك سنة أربع وثلاثين وستمائة، وولي ابنه كنجسرو فقبض على أميرهم ومر الباقون وانتبذوا بأطراف البلاد. وكان الصالح نجم الدين أيوب في حران، وكيفا وآمد نائبا عن أبيه الملك العادل، فرأى المصلحة في استضافتهم إليه فاستمالهم، واستخدمهم بعد أن أذن أبوه له في ذلك. فلما مات ابوه سنة خمس انتقضوا ولحقوا بالموصل، واشتد عليهم لؤلؤ وسار معهم فحاصر الصالح بسنجار إلى الخوارزمية واستمالهم فرجعوا إلى طاعته، على أن يعطيهم حران والرها ينزلون بها فاعطاهما إياهم وملكوهما، ثم ملكوا نصيبين من أعمال لؤلؤ ، وبنو أيوب يومئذ متفرقون على كراسي الشام، وبينهم من الأنفة والفرقة ما نتلو عليك قصصه في دولتهم. ثم استقر ملك سنجار للجواد يونس منهم، وهو ابن مودود بن العادل أخذها من الصالح نجم الدين أيوب عوضا عن دمشق، واستولى لؤلؤ على سنجار من يده سنة سبع وثلاثين. ثم حدثت بين صاحب حلب وبين الخوارزمية فتنة ولجأوا يومئذ لصفيتهم خاتون بنت العادل فبعثت العساكر إليهم مع المعظم بوران شاه بن صلاح الدين فهزموا عساكره، وأسروا ابن أخيه الأفضل ودخلوا حلب واستباحوها. ثم فتحوا منبج وعاثوا فيها، وقطعوا الفرات من الرقة وهم يذهبون. وتبعهم عسكر دمشق وحمص فهزموهم وأثخنوا فيهم، ولحقوا ببلدهم حران فسارت إليهم عساكر حلب، واستولوا على حران. ولحق الخوارزمية بغانة وبادر لؤلؤ
صاحب الموصل إلى نصيبين فملكها من أيديهم. ثم توفيت صفية بنت العادل سنة أربعين في حلب، وكانت ولايتها بعد وفاة أبيها العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فولي بعدها ابنه الناصر يوسف بن العزيز في كفالة مولاه حيال الخاتوني . فلما كانت سنة ثمان وأربعين، وستمائة وقع بين عسكره وبين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل حرب انهزم فيها لؤلؤ ، وملك الناصر نصيبين وترقيسيا ولحق لؤلؤ بحلب. ثم زحف هلاكو ملك التتر إلى بغداد سنة وملكها، وقتل الخليفة المستعصم واستلحم العلية من بغداد كما مر في أخبار الخلفاء. ويأتي في أخبار التتر، وتخطى منها إلى أذربيجان فبادر لؤلؤ ووصل إليه بأذربيجان وآتاه طاعته وعاد إلى الموصل، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
وفاة صاحب الموصل وولاية ابنه الصالح: ثم توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان يلقب الملك الرحيم وملك بعده على الموصل ابنه الصالح اسمعيل، وعلى سنجار ابنه المظفر علاء الدين علي وعلى جزيرة ابن عمر ابنه المجاهد إسحق، وأبقاهم هلاكو عليها مدة؟ ثم أخذها منهم ولحقوا بمصر فنزلوا على الملك الظاهر بيبرس كما نذكر في أخباره. وسار هلاكو إلى الشام فملكها وانقرضت دولة الاتابك زنكي وبنيه ومواليه من الشام والجزيرة أجمع كأن لم تكن، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، والبقاء لله نعالى وحده، والله تعالى أعلم.
خريطة
دولة بني أيوب
الخبر عن دولة بني أيوب القائمين بالدولة العباسية وما كان لهم من الملك بمصر و الشام واليمن والمغرب و أولية ذلك ومصايره هذه الدولة من فروع دولة بني زنكي كما تراه، وجدهم هو أيوب بن شادي بن مروان بن علي بن عشرة ابن الحسن بن علي بن أحمد بن علي عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحرث بن سنان بن عمر مرّة بن عوف الحميري الدوسي هكذا نسبه بعض المؤرخين لدولتهم قال ابن الأثير: أنهم من الأكراد الروادية. وقال ابن خلكان: شادي أبوهم من أعيان درين، وكان صاحبه بها بهروز فأصابه خصي من بعض أمرائه وفر حياء من المثلة ، فلحق بدولة السلطان مسعود بن محمد بن ملك شاه، وتعلق بخدمة داية بنيه حتى إذا هلك الداية أقامه السلطان لبنيه مقامه فظهرت كفايته، وعلا في الدولة محله فبعث عن شادي بن مروان صاحبه لما بينهما من الألفة وأكيد الصحبة فقدم عليه. ثم ولي السلطان بهروز شحنة بغداد فسار إليها، واستصحب شادي معه. ثم أقطعه السلطان قلعة تكريت فولي عليها شادي فهلك وهو وال عليها. وولى بهروز مكانه ابنه نجم الدين أيوب وهو أكبر من أسد الدين شيركوه، فلم يزل واليا عليها. ولما زحف عماد الدين زنكي صاحب الموصل لمظاهرة مسعود على الخليفة المسترشد سنة عشرين وخمسمائة، وإنهزم الأتابك وانكفأ راجعاً إلى الموصل، ومر بتكريت قام نجم الدين بعلوفته وازواده، وعقد له الجسور على دجلة، وسهل له عبورها. ثم أن شيركوه أصاب دماً في تكريت ولم يفده منه أخوه أيوب فعزله بهروز، وأخرجهما من تكريت فلحقا بعماد الدين بالموصل فأحسن إليهما وأقطعهما. ثم ملك بعلبك سنة إثنتين وثلاثين جعله نائباً بها، ولم يزل بها أيوب. ولما مات عماد الدين زنكي سنة إحدى وأربعين زحف صاحب دمشق فخر الدين طغركين إلى بعلبك وحاصرها، واستنزل أيوب منها على ما شرط لنفسه من الإقطاع، وأقام معه بدمشق. وبقي شيركوه مع نور الدين محمود بن زنكي، وأقطعه حمص والرحبة لإستطلاعه وكفايته، وجعله مقدم عساكره. ولما صرف نظره إلى الإستيلاء على دمشق، واعتزم على مداخلة أهلها، وكان ذلك على يد شيركوه وبمكاتبته لأخيه أيوب، وهو بدمشق فتم ذلك على أيديهما وبمحاولتهما، وملكها سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وكانت دولة العلويين بمصر قد أخلقت جدتها، وذهب استفحالها واستبد وزراؤها على خلفائها. فلم يكن الخلفاء يملكون معهم. وطمع الإفرنج في سواحلهم وأمصارهم لما نالهم من الهرم والوهن، فمالوا عليهم وانتزعوا البلاد من
أيديهم، وكانوا يردون عليهم كرسي خلافتهم بالقاهرة، ووضعوا عليهم الجزية وهم يتجرعون المصاب من ذلك، ويتحملونه مع بقاء أمرهم. كاد الأتابك زنكي وقومه السلجوقية من قبله أن يمحوا دعوتهم، ويذهبوا بدولتهم. وأقاموا من ذلك على مضض وقلق وجاء الله بدعوة العاضد آخرهم. وتغلب عليه بعد الصالح بن رزبك شاور السعدي، وقتل رزبك بن صالح سنة ثمان وخمسين، واستبد على العاضد. ثم نازعه الضرغام لتسعة أشهر من ولايته وغلبه وأخرجه من القاهرة فلحق بالشام، ولحق بنور الدين صريخاً سنة تسع وخمسين، وشرط له على نفسه ثلث الجباية بأعمال مصر، على أن يبعث معه عسكراً يقيمون بها فأجابه إلى ذلك، وبعث أسد الدين شيركوه في العساكر فقتل الضرغام، ورد شاور إلى رتبته وآل أمرهم إلى محو الدولة العلوية، وإنتظام مصر وأعمالها في ملكة ابن أيوب بدعوة نور الدين محمود بن زنكي، ويخطب للخلفاء العباسيين لما هلك نور الدين محمي واستبد صلاح الدين بأمره في مصر. ثم غلب على بني نور الدين محمود، وملك الشام من أيديهم وكثر عيث ابن عمهم مودود واستفحل ملكه، وعظمت دولة بنيه من بعده إلى أن . إنقرضوا والبقاء لله وحده.
مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر وإعادة شاور إلى وزارته: لما إعتزم نور الدين محمود صاحب الشام على صريخ شاور، وإرسال العساكر معه واختار لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي، وكان من أكبر أمرائه فاستدعاه من حمص وكان أميراً عليها وهي أقطاعه، وجمع له العساكر وأزاح عللهم. وفصل بهم شيركوه من دمشق في جمادى سنة تسع وخمسين. وسار نور الدين بالعساكر إلى بلاد الإفرنج ليأخذ بحجزتهم عن إعتراضه أو صده، لما كان بينهم وبين صاحب مصر من الألفة والتظاهر، ولما وصل أسد الدين بلبيس لقيه هنالك ناصر الدين أخو الضرغام وقاتله فانهزم، وعاد إلى القاهرة مهزوماً. وخرج الضرغام منسلخ جمادى الأخيرة فقتل عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، وقتل أخوه، وأعاد شاور إلى وزارته وتمكن فيها. وصرف أسد الدين إلى بلده وأعرض عما كان بينهما فطالبه أسد الدين بالوفاء، فلم يجب إليه فتغلب أسد الدين على بلبيس والبلاد الشرقية. وبعث شاور إلى الإفرنج يستنجدهم، ويعدهم فبادروا إلى إجابته، وسار بهم ملكهم مرى لخوفهم أن يملك أسد الدين مصر، واستعانوا بجمع من الإفرنج جاؤا لزيارة القدس. وسار نور الدين إليهم ليشغلهم فلم يثنهم ذلك وطمعوا لعزمهم ورزأ أسد الدين إلى بلبيس، وإجتمعت العساكر المصرية والإفرنج عليه، وحاصروه ثلاثة أشهر وهو يفاديهم القتال ويراوحهم، وإمتنع عليهم، وقصاراهم
منع الأخبار عنه. واستنفر نور الدين ملوك الجزيرة وديار بكر وقصر حارم. وسار الإفرنج لمدافعته فهزمهم وأثخن فيهم. وأسر صاحب أنْطاكِية وطرابلس وفتح حارم قريباً من حلب. ثم سار إلى بانياس قريباً من دمشق ففتحها كما مر في أخبار نور الدير وبلغ الخبر بذلك إلى الإفرنج وهم محاصرون أسد الدين في بلبيس ففت في عزائمهم، وطووا الخبر عنه وراسلوه في الصلح على أن يعود إلى الشام فصالحهم، وعاد إلى الشام في ذي الحجة من السنة، والله تعالى أعلم.
مسير أسد الدين ثانياً إلى مصر وملكه الإسكندرية ثم صلحه عليها وعوده ولما رجع أسد الدين إلى الشام لم يزل في نفسه ما كان من غدر شاور، وبقي يشحن لغزوهم إلى سنة إثنتين وستين فجمع العساكر وبعث معه نور الدين جماعة من الأمراء، وأكثف له العسكر خوفاً على حامية الإسلام، وسار أسد الدين إلى مصر، وانتهى إلى أطفيح وعبر منها إلى العدوة الغربية، ونزل الجيزة وأقام نحوا من خمسين يوماً. وبعث شاور إلى الإفرنج يستمدهم على العادة، وعلى ما لهم من التخوف من استفحال ملك نور الدين وشيركوه فسارعوا إلى مصر، وعبروا مع عساكرها إلى الجيزة، وقد إرتحل عنها أسد الدين إلى الصعيد، وانتهى منها إلى *، وأتبعوه وأدركوه بها منتصف إثنتين وستين. ولما رأى كثرة عددهم واستعدادهم مع تخاذل أصحابه فاستشارهم. فأشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية والعود إلى الشام وأبى زعماؤهم إلا الإستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين، وتقدم صلاح الدين بذلك وأدركهم القوم على تعبية وجعل صلاح الدين في القلب، وأوصاه أن يندفع أمامهم، ووقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته. وحمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته وخالفهم أسد الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم وأثخن قتلا وأسرا. ورجعوا عن صلاح الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم واستباحه فانهزموا إلى مصر. وسار أسد الدين إلى الإسكندرية فتلقاه أهلها بالطاعة، واستخلف بها صلاح الدين ابن أخيه. وعاد إلى الصعيد فاستولى عليه، وفرق العمال على جباية أمواله. ووصلت عساكر مصر والإفرنج إلى القاهرة، وأزاحوا عللهم وساروا إلى الإسكندرية فحاصروا
بها صلاح الدين، وجهده الحصار. وسار أسد الدين من الصعيد لإمداده، وقد إنتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره. وبينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم الإسكندرية، ويعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد فأجابهم إلى ذلك، على أن يرجع الإفرنج إلى بلادهم، ولا يملكوا من البلاد قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوال. وعاد أسد الدين وأصحابه إلى الشام منتصف ذي القعدة. ثم شرط الإفرنج على شاور أن ينزلوا بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين، فضربوا عليه مائة ألف دينار في كل سنة جزية فقبل ذلك، وعاد الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام وتركوا بمصر جماعة من زعمائهم. وبعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور الدين بطاعته، وأن يبث بمصر دعوته. وقرر على نفسه مالاً يحمل كل سنة إلى نور الدين فأجابه إلى ذلك وبقي شيعة له بمصر، والله تعالى أعلم.
استيلاء أسد الدين على مصر ومقتل شاور ولما ضرب الإفرنج الجزية على القاهرة ومصر، وأنزلوا بها الشحنة وملكوا أبوابها تمكنوا من البلاد، وأقاموا فيها جماعة من زعمائهم فتحكموا وأطلعوا على عورات الدولة، فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء وراسلوا بذلك ملكهم بالشام، وإسمه مري، ولم يكن ظهر بالشام من الإفرنج مثله فاستدعوه لذلك وأغروه فلم يجبهم، واستحثه أصحابه لملكها. وما زالوا يفتلون له في الذروة والغارب، ويوهمونه القوة بتملكها على نور الدين، ويريهم هو أن ذلك يؤل إلى خروج أصحابها عنها لنور الدين فبقي بها إلى أن غلبوا عليه. فرجع إلى رأيهم. وتجهز وبلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره، واستنفر من في ثغوره. وسار الإفرنج إلى مصر مفتتح أربع وستين فملكوا بلبيس عنوة في صفر واستباحوها وكاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا مكاتبتهم، وساروا إلى مصر ونازلوا القاهرة. وأمر شاور بإحراق مدينة مصر لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحصار فانتقلوا وأخذهم الحريق، وامتدت الأيدي وأنتهبت أموالهم وإتصل الحريق فيها شهرين. وبعث العاضد إلى نور الدين يستغيث به فأجاب وأخذ في تجهيز العساكر فاشتد الحصار على القاهرة، وضاق الأمر بشاور فبعث إلى ملك الإفرنج يذكره بقديمه، ون هواه معه دون العاضد ونور الدين، ويسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين مما سوى ذلك فأجابه ملك الإفرنج على ألف ألف دينار لما رأى من إمتناع القاهرة، وبعث إليهم شاور بمائة ألف منها، وسألهم في الإفراج فارتحلوا. وشرع في جمع المال فعجز الناس عنه ورسل
العاضد خلال ذلك تردد إلى نور الدين في أن يكون أسد الدين وعساكره حامية عنده وعطاؤهم عليه، وثلث الجباية خالصة لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص وأعطاه مائتي ألف دينار، وجهزه بما يحتاجه من الثياب والدواب والأسلحة، وحكمه في العساكر والخزائن ونقل العسكر عشرين دينارا لكل فارس، وبعث معه من أمرائه مولاه عز الدين مرعش، وعز الدين قليج، وشرف الدين مرعش وعز الدولة الباروقي وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي. وأمد صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه أسد الدين فتعلل عليه، واعتزم عليه فأجاب. وسار أسد الدين منتصف ربيع. فلما قارب مصر رجع الإفرنج إلى بلادهم فسر بذلك نور الدين، وأقام عليه البشائر في الشام.ووصل أسد الدين القاهرة ودخلها منتصف جمادى الأخيرة ونزل بظاهرها، ولقي العاضد وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عساكره الجرايات والاتاوات. وأقام أسد الدين ينتظر شرطهم، وشاور يماطله ويعلله بالمواعيد. ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين واستخدام جنده فمنعه ابنه الكامل من ذلك فأقصر. ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور، وتفاوض أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خردك على قتل شاور وأسد الدين ينهاهم. وغدا شاور يوماً على أسد الدين في خيامه فألقاه قد ركب لزيارة تربة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، فتلقاه صلاح الدين وخردك، وركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم، وطيروا بالخبر إلى أسد الدين. وبعث العاضد لوقته يحرضهم على قتله فبعثوا إليه برأسه، وأمر العاضد بنهب دوره فنهبها العامة.وجاء أسد الدين لقصر العاضد فخلع عليه الوزارة، ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش. وخرج له من القصر منشور من إنشاء القاضي الفاضل البيساني، وعليه مكتوب بخط الخليفة ما نصه: هذا عهد لا عهد لوزير بمثله، فتقلد ما رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحمله، وعليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، وأسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة، واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا. ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التي كان فيها شاور، وجلس مجلس الأمروالنهي وولى على الأعمال، وأقطع البلاد للعساكر، وأمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم ورمها وعمارتها. وكاتب نور الدين بالواقع مفصلاً وانتصب للأمور. ثم دخل للعاضد ، وخطب الأستاذ جوهر الخصي عنه وهو يومئذ أكبر الأساتيذ فمال: يقول لك مولانا نؤثر مقامك عندنا من أول قدومك، وأنت تعلم الواقع من ذلك، وقد تيقنا أن الله عز وجل أدخرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة وإظهار الدولة. فقال الأستاذ عن العاضد الأمر بيدك هذا وأكثر. ثم جددت الخلع واستخلص أسد الدين الجليس عبد القوي. وكان قاضي القضاة وداعي الدعاة واستحسنه واختصه. وأما الكامل بن شاور فدخل القصر مع أخوته معتصمين به، وكان آخر العهد به وأسف أسد الدين عليه لما كان منه في رد أبيه، وذهب كل بما كسب، والله تعالى أعلم.
وفاة أسد الدين وولاية ابن أخيه صلاح الدين ثم توفي أسد الدين شيركوه آخر جمادي الأخيرة من سنة أربع وستين لشهرين من وزارته. ولما احتضر أوصى أحد حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له: "الحمد لله الذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا، وصار أهلها راضين عنا فلا تفارقوا سور القاهرة، ولا تفرطوا في الأسطول " ولما توفي تشوف الأمراء الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقي، وشرف الدين المشطوب الهكاري، وقطب الدين نيال بن حسان المنبجي وشهاب الدين الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وجمع كل لمغالبة صاحبه. وكان أهل القصر وخواص الدولة قد تشاوروا فأشار جوهر بإخلاء رتبة الوزارة، وإصطفاء ثلاثة آلاف من معسكر الغز يقودهم قراقوش، ويعطي لهم الشرقية إقطاعا ينزلون بها حشداً دون الإفرنج من يستبد على الخليفة بل يقيم واسطه بينه وبين الناس على العادة. وأشار آخرون بإقامة صلاح الدين مقام عمه والناس تبع له، ومال القاضي لذلك حياء من صلاح الدين وجنوحاً إلى صغر سنه، وأنه لا يتوهم فيه من الإستبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه، وأنهم في سعة من رأيهم مع ولايته فاستدعاه وخلع عليه، ولقبه الملك الناصر. واختلف عليه أصحابه فلم يطيعوه وكان عيسى الهكاري شيعة له، واستمالهم إليه إلا الباروقي فإنه إمتنع وعاد إلى نور الدين بالشام وثبتت قدم صلاح الدين في مصر، وكان نائباً عن نور الدين ونور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسار، ويجمعه في الخطاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية. وما زال صلاح الدين يحسن المباشرة ويستميل الناس، ويفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس، وضعف أمر العاضد. ثم أرسل يطلب أخوته وأهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشام. واستقامت أموره وأطردت سعادته، والله تعالى ولي التوفيق
واقعة السودان بمصر:
كان بقصر العاضد خصي حاكم على أهل القصر يدعى مؤتمن الخلافة فلما غص أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم، وكاتب الإفرنج يستدعيهم ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه. ثم يتبعونه وقد ناشب الإفرنج فيأتون عليه. وبعثوا الكتاب مع ذي طمرين حمله في نعاله فاعترضه بعض التركمان واستلبه، ورأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاؤا به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب ودخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الأمر فطوى ذلك وإنتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزها وبعث من جاء برأسه، ومنع الخصيان بالقصر عن ولاية أموره وقدم عليهم بهاء الدين قراقوش خصياً أبيض من خدمه وجعل إليه جميع الأمور بالقصر وامتعض السودان بمصر لمؤتمن الخلافة. واجتمعوا لحرب صلاح الدين وبلغوا خمسة آلاف وناجزوا عسكره من القصر في ذي القعدة من السنة وبعث إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم وأولادهم فلما سمعوا بذلك إنهزموا وأخذهم السيف في السكك فاستأمنوا وعبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم وأبادهم والله أعلم.
منازلة الإفرنج دمياط وفتح إيلة
ولما استولى صلاح الدين على دولة مصر وقد كان الإفرنج أسفوا على ما فاتهم
من صده وصد عمه عن مصر وتوقعوا الهلاك من استطالة نور الدين عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان والأقسة إلى بلاد القرانية يدعونهم إلى المدافعة عن بيت المقدس وكاتبوا الإفرنج بصقلية والأندلس يستنجدونهم فنفروا واستعدوا لامدادهم. واجتمع الذين بسواحل الشام في فاتح خمس وستين وثلاثمائة وركبوا في ألف من الأساطيل وأرسلوا لدمياط ليملكوها ويقربوا من مصر. وكان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش، وأمراء الغز في البر متتابعين، وواصل المراكب بالأسلحة والإتاوات وخاطب نور الدين يستمدّه لدمياط لأنه لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر، فبعث نور الدين إليها العساكر أرسالاً. ثم سار
بنفسه وخالف الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام فاستباحها وخربها.وبلغهم الخبر بذلك على دمياط، وقد إمتنعت عليهم، ووقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوماً من حصارها. ورجع أهل سواحل الشام لبلادهم فوجدوها خراباً. وكان جملة ما بعثه نور الدين في المدد لصلاح الدين في شأن دمياط هذه ألف ألف دينار سوى الثياب والأسلحة وغيرها. ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعي منه أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر وإجتمع معهم من التجار جماعة وخشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج الذين بالكرك فسار إلى الكرك وحاصرهم بها. وجمع الإفرنج الآخرون فصمد للقائهم فخاموا عنه وسار في وسط بلادهم، وسار إلى عشيرا، ووصل نجم الدين أيوب إلى مصر، وركب العاضد لتلقيه. ثم سار صلاح الدين سنة ست وستين لغزو بلاد الإفرنج، وأغار على أعمال عسقلان والرملة. ونهب ربط غزة ولقي ملك الإفرنج فهزمه، وعاد إلى مصر. ثم أنشأ مراكب وحملها مفصلة على الجمال إلى أيلة فألفها وألقاها في البحر، وحاصر أيلة براً وبحراً، وفتحها عنوة في شهر ربيع من السنة، واستباحها وعاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة، وأقام قاضياً شافعياً فيها. وولّى في جميع البلاد كذلك. ثم بعث أخاه شمس الدولة توران شاه إلى الصعيد فأغار على العرب وكانوا قد عاثوا وأفسدوا فكفهم عن ذلك والله تعالى أعلم.
الخطبة العباسية بمصر إقامة الخطبة العباسية بمصر ثم كتب نور الدين بإقامة الخطبة للمستضيء العباسي وترك الخطبة للعاضد بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويين، وفي باطن الأمر خشي من نور الدين فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك، ولم تسعه مخالفته، وأحجم عن القيام بذلك. ورد على صلاح الدين شخص من علماء الأعاجم يعرف بالخبشاني ويلقب بالأمير العالم فلما رآهم محجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة قبل الخطيب ودعا للمستضيء ، فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد والخطبة للمستضيء، فتراسلوا بذلك ثاني جمعة من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة.وكان المستضيء قد ولي الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها. ولما خطب له بمصر كان العاضد مريضاً فلم يشعروه بذلك. وتوفي يوم عاشوراء من السنة. ولما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره ووكل به بهاء الدين قراقوش، وكان فيه من الذخائر ما يعز وجوده مثل حبل الياقوت الذي وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالاً، ومصاف الزمرد الذي طوله أربعة أصابع طولا
في عرض، ومثل طبل القولنج الذي يضربه ضاربه فيعافى بذلك من داء القولنج، وكسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم منفعته ندموا عليه، ووجدوا من الكتب النفيسة ما لا يعد. ونقل أهل العاضد إلى بعض حجر القصر ووكل بهم، وإخرج الأماء والعبيد وقسمهم بين البيع والهبة والعتق. وكان العاضد لما اشتد مرضه استدعاه فلم يجب داعيه، وظنها خديعة فلما توفي ندم، وكان يصفه بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه والإنقياد. ولما وصل الخبر إلى بغداد بالخطبة للمستضيء ضربت البشائر وزينت بغداد أياماً وبعثت الخلع لنور الدين وصلاح الدين مع صندل الخادم من خواص المقتفي، فوصل إلى نور الدين وبعث بخلعة صلاح الدين وخلع الخطباء بمصر والأعلام السود، والله تعالى أعلم.
الوحشة بين صلاح الد ين ونور الدين قد كان تقدم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مستوفاة وأن صلاح الدين غزا بلاد الإفرنج سنة سبع وستين، وحاصر حصن الشوبك على مرحلة من الكرك حتى استأمنوا إليه، فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد الإفرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره وفي لقاء نور الدين وإظهار طاعته، وما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر، واعتذر لنور الدين بشيء بلغه عن شيعة العلويين ليعتزله نور الدين، وأخذ في الاستعداد لعزله. وبلغ ذلك صلاح الدين وأصحابه فتفاوضوا في مدافعته ونهاهم أبوه نجم الدين أيوب وأشار بمكاتبته والتلطف له مخافة أن يبلغه غير ذلك فيقوى عزمه على العمل به، ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين. وعادت المخالطة بينهما كما كانت، واتفقا على إجتماعهما لحصار الكرك فسار صلاح الدين لذلك سنة ثمان وستين، وخرج نور الدين من دمشق بعد أن تجهز. فلما إنتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك، وبلغ صلاح الدين خبره إرتابه ثانياً. وجاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكر راجعاً. وأرسل إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكاري بما وقع من حديث المرض بأبيه، وأنه رجم من أجله فأظهر نور الدين القبول، وعاد إلى دمشق، والله تعالى أعلم. وفاة نجم الدين أيوب كان نجم الدين أيوب بعد إنصرف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند نور الدين
، ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عندما استوثق له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس وستين في عسكره. وسار لحصار الكرك ليشغل الإفرنج عن اعتراضه كما مر ذكره. ووصل إلى مصر وخرج العاضد لتلقيه، وأقام مكرماً. ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان وستين المرة الثانية في مواعدة نور الدين وأقام نجم الدين بمصر، وركب يوماً في مركب وسار ظاهر البلد، والفرس في غلواء مراحه وملاعبة ظله فسقط عنه، وحمل وقيذاً إلى بيته فهلك لأيام منها آخر ذي الحجة من السنة. وكان خيراً جوادا محسناً للعلماء والفقراء، وقد تقدم ذكر أوليته، والله ولي التوفيق. استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب كان قراقوش من موالي تقي الدين عمر بن شاه بن نجم الدين أيوب، وهو ابن أخي صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات، وذهب مغاضباَ إلى المغرب ولحق بجبل نفوسة من ضواحي طرابلس الغرب. وأقام هنالك دعوة مواليه، وكان في بسائط تلك الجبال مسعود بن زمام المعروف بالبلط في أحيائه من رياح من عرب هلال ابن عامر، وكان منحرفاً عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين، وخليفة المهدي فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب وأفريقية إلى تلك القاصية، فدعاه قراقوش إلى إظهار دعوة مواليه بني أيوب فأجابه ونزل معه بأحيائه على طرابلس فحاصرها قراقوش وافتتحها ونزل بأهله وعياله في قصرها.ثم استولى على قابس من ورائها، وعلى توزر ونفطة وبلاد نفزاوة من أفريقية،وجمع أموالا جمة، وجعل ذخيرته بمدينة قابس، وخربت تلك البلاد أثناء ذلك باستيلاء العرب عليها. ولم يكن لهم قدرة على منعهم. ثم طمع في الاستيلاء على جميع أفريقية ووصل يده بيحيى بن غانية اللمتوني الثائر بتلك الناحية بدعوة لمتونة، من بقية الأمراء في دولتهم. فكانت لهما بتلك الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على ما ملك من تلك البلاد، وقتله كما هو مذكور في أخبارهم، والله أعلم.
استيلاء نور الدين تول ان شاه بن أيوب على بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن
كان صلاح الدين وقومه على كثرة إرتيابهم من نور الدين، وظنهم به الظنون يحاولون ملك
القاصية عن مصر ليمتنعوا بها أن طرقهم منه حادث، أو عزم على المسير إليهم في مصر فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد النوبة أو بلاد اليمن. وتجهز شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وهو أخو صلاح الدين الأكبر إلى ملك النوبة. وسار إليها في العساكر سنة ثمان وستين، وحاصر قلعة من ثغورهم ففتحها واختبرها فلم يجد فيها خرجاً ولا في البلاد بأسرها جباية. وأقواتهم الذرة وهم في شظف من العيش ومعاناة للفتن. فاقتصر على ما فتحه من ثغورهم، وعاد في غنيته بالعبيد والجواري. فلما وصل إلى مصر أقام بها قليلا، وبعثه صلاح الدين إلى اليمن، وقد كان غلب عليه علي بن مهدي الخارجي سنة أربع وخمسين، وصار أمره إلى ابنه عبد النبي، وكرسي ملكه زبيد منها. وفي عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بني الربيع.وكان عمارة اليمني الشاعر العبيدي وصاحب بني رزيك من أمرائهم، وكان أصله من اليمن. وكان في خدمة شمس الدولة ويغريه به فسار إليه شمس الدولة بعد أن تجهز، وأزاح العلل، واستعد للمال والعيال. وسار من مصر منتصف سنة تسع وستين، ومر بمكة وانتهى إلى زبيد. وبها ملك اليمن عبد النبي بن علي بن مهدي فبرز إليه وقاتله فانهزم وانحجر بالبلد. وزحفت عساكر شمس الدولة فتسنموا أسوارها وملكوها عنوة واستباحوها، وأسروا عبد النبي وزوجته. وولى شمس الدولة على زبيد مبارك بن كامل ابن منقذ من أمراء شيزر كان في جملته، ودفع إليه عبد النبي ليستخلص منه الأموال فاستخرج من قرابته دفائن كانت فيها أموال جليلة. ودلتهم زوجته الحرة على ودائع استولوا منها على أموال جمة.وأقيمت الخطبة العباسية في زبيد، وسار شمس الدولة توران شاه إلى عدن وبها ياسر بن بلال، كان أبوه بلال بن جرير مستبداً بها على مواليه بني الزريع، وورثها عنه ابنه ياسر، فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة، وسارت عساكره إلى البلد فملكوها، وجاؤوا بياسر أسيراً إلى شمس الدولة فدخل عدن وعبد النبي معه في الإعتقال، واستولى على نواحيها، وعاد إلى زبيد. ثم سار إلى حصون الجبال فملك تعز، وهي من أحصن القلاع، وحصن التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون. وولى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلي، واتخذ زبيد سبباً لملكه. ثم استوخمها، وسار في الجبال ومعه الأطباء يتخير مكاناً صحيح الهواء للسكنى فوقع إختيارهم على تعز، فاختط هنالك مدينة واتخذها كرسياً لملكه. وبقيت لبنيه ومواليهم بني رسول كما نذكره في أخبارهم والله تعالى ولي التوفيق.
واقعة عمارة ومقتله كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم: عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد
الكاتب، والقاضي العويدس، وابن كامل، وداعي الدعاة، وجماعة من الجند وحاشية القصر، اتفقوا على استدعاء الإفرنج من صقلية وسواحل الشام، وبذلوا لهم الأموال على أن يقصدوا مصر فإن خرج صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة، وأعادوا الدولة العبيدية. وإلا فلا بد له إن أقام من بعث عساكره لمدافعة الإفرنج فينفردون به ويقبضون عليه. وواطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين، وتحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن، وثقوا بأنفسهم وصدقوا توهماتهم ورتبوا وظائف الدولة وخططها. وتنازع في الوزارة بنو رزبك وبنو شاور. وكان علي بن نجي الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو في الباطن إليهم. ونمي الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الإفرنج فوضع على الرسول عنده عيوناً جاؤه بجلية خبره، فقبض حينئذ عليهم. وقيل إن علي بن نجي أنمى خبرهم إلى القاضي فأوصله إلى صلاح الدين. ولما قبض عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم، ومر عمارة ببيت القاضي وطلب لقاءه فلم يسعفه، وأنشد البيت المشهور:
- عبد الرحيم قد احتجب أن الخلاص هو العجب
ثم صلبوا جميعاً، ونودي في شيعة العلويين بالخروج من ديار مصر إلى الصعيد، واحتيط على سلالة العاضد بالقصر، وجاء الإفرنج بعد ذلك من صقلية إلى الاسكندرية كما يأتي خبره إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وصول الإفرنج من صقلية إلى الاسكندرية لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الإفرنج بصقلية تجهزوا، وبعثوا مراكبهم مائتي أسطول للمقاتلة فيها: خمسون ألف رجل، وألفان وخمسمائة فارس، وثلاثون مركبا للخيول، وستة مراكب لآلة الحرب، وأربعون للأزواد. وتقدم عليهم ابن عم الملك صاحب صقلية، ووصلوا إلى ساحل الاسكندرية سنة سبعين. وركب أهل البلد الأسوار، وقاتلهم الإفرنج، ونصبوا الآلات عليها. وطار الخبر إلى صلاح الدين بمصر، ووصلت الأمراء إلى الاسكندرية من كل جانب من نواحيها. وخرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الإفرنج فظفروا عليهم. ثم نجاءهم البشير آخر النهار بمجيء صلاح الدين فاهتاجوا للحرب وخرجوا عند اختلاط الظلام فكبسوا الإفرنج في خيامهم بالسواحل وتبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا بين القتل والغرق ولم ينج إلا القليل. وإعتصم منهم نحو من ثلثمائة برأس رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم وأسر الباقون، وأقلعوا بأساطيلهم راجعين، والله تعالى أعلم.
واقعة كنز الدولة بالصعيد
كان أمير العرب بنواحي أسوان يلقب كنز الدولة، وكان شيعة للعلوية بمصر، وطالت أيامه واشتهر. ولما ملك صلاح الدين قسم الصعيد اقطاعا بين أمرائه. وكان أخو أبي الهيجاء السمين من أمرائه، واقطاعه في نواحيهم فعصى كنز الدولة سنة سبعين، واجتمع إليه العرب والسودان. وهجم على أخي أبي الهيجاء السمين في إقطاعه فقتله. وكان أبو الهيجاء من أكبر الأمراء فبعثه صلاح الدين لقتال الكنز، وبعث معه جماعة من الأمراء، والتف له الجند فساروا إلى أسوان، ومروا بالصعيد فحاصروا بها جماعة وظفروا بهم فاستلحموهم. ثم ساروا إلى الكنز فقاتلوه وهزموه، وقتل واستلحم جميع أصحابه، وأمنت بلاد أسوان والصعيد، والله تعالى ولي التوفيق.
استيلاء صلاح الدين على قواعد الشام بعد وفاة العادل نور الدين كان صلاح الدين كما قدمناه قائما في مصر بطاعة العادل نور الدين محمود بن زنكي. ولما توفي سنة تسع وستين، ونصب ابنه الصالح إسماعيل في كفالة شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم، وبعث إليه صلاح الدين بطاعته، ونقم عليهم انهم لم يردوا الأمر إليه. وسار غازي صاحب الموصل بن قطب الدين مودود بن زنكي إلى بلاد نور الدين التي بالجزيرة وهي: نصيبين والخابور وحران والرها والرقة فملكها. ونقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى يدافعه عن بلادهم. وكان الخادم سعد الدين كمستكين الذي ولاه نور الدين قلعة الموصل، وأمر سيف الدين غازي بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور الدين بحلب، وأقام بها عند شمس الدين علي بن الداية المستبد بها بعد نور الدين فبعثه ابن الداية إلى دمشق في عسكر ليجيء بالملك الصالح إلى حلب لمدافعة سيف الدين غازي فنكروه أولا وطردوه.ثم رجعوا إلى هذا الرأي، وبعثوا عنه فسار مع الملك الصالح إلى حلب ولحين دخوله قبض على ابن الداية وعلى مقدمي حلب، واستبد بكفالة الصالح، وخاف الأمراء بدمشق، وبعثوا إلى سيف الدين غازي ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه. وامتنع عليهم وصالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق إلى صلاح الدين، وتولى كبر ذلك ابن المقدم فبادر إلى الشام وملك بصرى. ثم سار إلى دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين وخمسمائة. ونزل دار أبيه المعروفة بالعفيفي وبعث القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري إلى ريحان الخادم بالقلعة أنه
على طاعة الملك الصالح وفي خدمته، وما جاء إلا لنصرته فسلم إليه القلعة وملكها.واستخلف على دمشق أخاه سيف الإسلام طغركين، وسار إلى حمص، وبها والٍ من قبل الأمير مسعود الزعفراني. وكانت من أعماله فقاتلها وملكها، وجمر عسكراً لقتال قلعتها. وسار إلى حماة مظهرا لطاعة الملك الصالح، وارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة. وبعث بذلك إلى صاحب قلعتها خرديك واستخلفه. وسار إلى الملك الصالح ليجمع الكلمة، ويطلق أولاد الداية. واستخلف على قلعة حماة أخاه. ولما وصل إلى حلب حبسه كمستكين الخادم، ووصل الخبر إلى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين. وسار إلى حلب فحاصرها ثالث جمادى الأخيرة، واستمات أهلها في المدافعةعن الصالح. وكان بحلب سمند صاحب طرابلس من الإفرنج محبوسا منذ أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين فأطلقه كمستكين على مال وأسرى ببلده. وتوفي نور الدين أول السنة وخلف ابناً مجذوماً فكفله سمند واستولى على ملكهم. فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين إلى سمند يستنجده، فسار إلى حمص ونازلها فسار إليه صلاح الدين، وترك حلب.وسمع الإفرنج بمسيره فرحلوا عن حمص ووصل هو إليها عاشر رجب فحاصرقلعتها، وملكها آخر شعبان من السنة. ثم سار إلى بعلبك وبها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى استأمن إليه، وملكها رابع رمضان من السنة، وصار بيده من الشام: دمشق وحماة وبعلبك. ولما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح، كتب الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود، وصاحب جيشه عز الدين زلقندار. وسارت معهم عساكر حلب، وساروا جميعا لمحاربة صلاح الدين.وبعث صلاح الدين إلى سيف الدين غازي أن يسلم لهم حمص وحماة، ويبقى بدمشق نائبا عن الصالح فأبى إلا رد جميعها، فسار صلاح الدين إلى العساكر ولقيهم آخر رمضان بنواحي حماة فهزمهم وغنم ما معهم. واتبعهم إلى حلب وحاصرها، ورحل عن حلب لعشرين من شوال. وعاد إلى حماة، وكان فخر الدين مسعود بن الزعفراني من الأمراء النورية، وكانت ماردين من أعماله مع حمص وحماة وسلمية وتل خالد والرها. فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه. فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب إلى حماة سار إلى بعلبك، واستأمن إليه وإليها فملكها، وعاد إلى حماة فأقطعها خاله شهاب الدين محمود، وأقطع حمص ناصر الدولة بن شيركوه، وأقطع بعلبك شمس الدين بن المقدم ودمشق إلى عماد، والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه
. واقعة صلاح الدين مع الملك الصالح وصاحب الموصل وما ملك من الشام بعد انهزامهما ثم سار سيف الدين غازي صاحب الموصل في سنة إحدى وسبعين بعد انهزام أخيه وعساكره، واستقدم صاحب كيفا وصاحب ماردين، وسار في ستة آلاف فارس وانتهى إلى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام. وسار إلى حلب فخرجت إليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم، وسار صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم واتبعهم إلى حلب. وعبر سيف الدين الفرات منهزما إلى الموصل، وترك أخاه عز الدين بحلب. واستولى صلاح الدين على مخلفهم، وسار إلى مراغة فملكها وولي عليها. ثم إلى منبج وبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي وكان حنقا عليه لقبح آثاره في عداوته فلحق بالموصل، وولاه غازي مدينة الرقة.ثم سار صلاح الدين إلى قلعة إعزاز فحاصرها أوائل ذي القعدة من السنة أربعين يوماً وشد حصارها فاستأمنوا إليه فملكها ثاني الأضحى من السنة. وثب عليه في بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه، وكان مسلحا فأمسك يد الفداوي حتى قتل رقتل جماعة كانوا معه لذلك ورحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على قلعة إعزاز إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح. واعصوصب عليه أهل البلد واستماتوا في المدافعة عنه. ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما وبين صاحب الموصل وكيفا وصاحب ماردين فانعقد بينهم في محرم سنة اثنتين وتسعين، وعاد صلاح الدين إلى دمشق بعد أن رد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح بوسيلة أخته الصغيرة، خرجت إلى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة إعزاز فوهبها لها، والله تعالى أعلم. مسير صلاح الدين إلى بلاد الإسماعيلية ولما رحل صلاح الدين عن حلب، وقد وقع من الاسماعيلية على حصن إعزاز ما وقع، قصد بلادهم في محرم سنة إثنتين وتسعين ونهبها وخربها، وحاصر قلعة مصياف، ونصب عليها المجانيق. وبعث سنان مقدم الإسماعيلية بالشام إلى شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم، ويتوعده بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم. وقدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه وإظهار دعوتهم فيه، وولى على مدنه وامصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق، وسار إلى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد. ولما وصل
إليها أمر بإدارة سور على مصر القاهرة والقلعة التي بالجبل دورة تسعة وعشرون ألف ذراع بالهاشمي. واتصل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين، وكان متولي النظر فيه مولاه قراقوش، والله تعالى ولي التوفيق بمنه. غزوات بين المسلمين والافرنج كان شمس الدين محمد بن المقدم صاحب بعلبك، وأغار جمع من الإفرنج على البقاع من أعمال حلب فسار إليهم وأكمن لهم في الغياض، حتى نال منهم وفتك فيهم. وبعث إلى صلاح الدين بمائتي ألى جر منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أن جمعا من الإفرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار إليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه، وأسر سيف الدين أبو بكر بن السلار من أعيان الجند بدمشق، وتجاسر الإفرنج على تلك الولاية. ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الإفرنج فبعثوا في الهدنة وأجابهم إليها وعقد لهم، والله تعالى ولي التوفيق. هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الإفرنج ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين إلى ساحل الشام لغزو بلاد الإفرنج، وانتهى إلى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا للافرنج خبرا فانساحوا في البلاد وانقلبوا إلى الرملة فما راعهم إلا الإفرنج مقبلين في جموعهم وأبطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه واشتد القتال وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة وكان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطر شاربه. فأبلى يومئذ واستشهد، وتمت الهزيمة على المسلمين. وكان بعض الإفرنج تخلصوا إلى صلاح الدين فقتل بين يديه وعاد منهزما، وأسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديدا. وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل. ثم دخل البرية في فلّ قليل إلى مصر، ولحقهم الجهد والعط!ش، ودخل إلى القاهرة منتصف جمادي الأخيرة. قال ابن الأثير: ورأيت كتابه إلى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة
- ذكرتك والخطي يخطر بيننا وقد فتكت فينا المثقفة السمر
ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما نجانا الله سبحانه منه إلا لأمر يريده، وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر انتهى وأما السرايا التي دخلت بلاد الإفرنج فتقسمهم القتل والأسر وأما الفقيه عيسى الهكاري فلما ولي منهزما، ومعه أخو الظهير ضل عن الطريق، ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا. وفداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار، والله تعالى أعلم.
حصار الإفرنج مدينة حماة ثم وصل في جمادي الأولى إلى ساحل الشام زعيم من طواغيت الإفرنج، وقارن وصوله هزيمة صلاح الدين. وعاد إلى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر، وهو مع ذلك منهمك في ملذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام، وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة، وبها شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين مريضاً. وشد حصارها وقتالها حتى أشرف على أخذها وهجموا يوماً على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم، ومنعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام، وساروا إلى حارم فحاصروها. ولما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي، ولم يزل الإفرنج على حارم يحاصرونها، وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمستكين الخادم كافل دولته. ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها. ثم عاد الإفرنج إلى مدينة حماة في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا أعمالها، وخرج العسكر حامية البلد إليهم فهزموهم، واستردوا ما أخذوا من السواد، وبعثوا بالرؤس والأسرى إلى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلبا من الشام، فأمر بقتل الأسرى، والله تعالى ولي التوفيق. انتقاض ابن المقد م ببعلبك وفتحها كان صلاح الدين لما ملك بعلبك استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق، وكان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئا في ظل أخيه وكفالته فكان يميل إليه، وطلب منه أقطاع بعلبك فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى. وذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم إلى بعلبك وامتنع فيها، ونازلته العساكر فامتنع، وطاولوه حتى بعث إلى صلاح الدين يطلب العوض فعوضه عنها. وسار أخوه شمس الدين إليها فملكها، والله تعالى ولي التوفيق.
هذا النص موجود فى نسخة أخرى صفحة 250 ج 5 تعليق على بعض الأخبار المهمة
ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا
وفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا وكان أول من وصل منهم الملك فيليب ملك افرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسبا وإن كان ملكه ليس بالكثير. وكان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ولم يكن في الكثرة التي
ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظيمة فقويت به نفوس من على عكا منهم ولحوا في قتال المسلمين الذين فيها وكان صلاح الدين بشفرعم فكان يركب كل يوم وبقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد. وأرسل إلى الأمير أسامة مستحفظ بيروت يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ففعل ذلك وسير الشواني في البحر فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالا من أصحاب ملك إنكلترا الفرنج وكان قد سيرهم بين يديه وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها فاقتتلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوهم وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا وأما الفرنج الذين على عكا فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبع منجنيقات رابع جمادى الأولى فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم فقرب منهم وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم فكانوا يشتغلون بقتالهم فيخف القتال عمن بالبلد. ثم وصل ملك إنكلترا ثالث عشر جمادى الأولى وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس واخذها من الروم فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعا فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج. فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كبارا مملوءة رجالا وأموالا فعظم به شر الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين وكان رجل زمانه شجاعة ومكرا وجلدا وصبرا وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها. ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بسطة كبيرة مملوءة من الرجال والعدد والأقوات فتجهزت وسيرت من بيروت. وفيها سبعمائة مقاتل: فلقيها ملك إنكلترا مصادفة: فقاتلها وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص ونزل مقدم من بها إلى أسفلها وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية يعرف بغلام ابن شقتين فخرقها خرقا واسعا لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر فغرق جميع ما فيها وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ثم إن الفرنج عملوا دبابات وزحفوا بها فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخذوا تلك الكباش فلما رأى الفرنج ان ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلا كبيرا من التراب مستطيلا وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من وراءه لا ينالهم من البلد أذى حتى صار على نصف علوه فكانوا يستظلون به ويقاتلون من خلفه فلم يكن
للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها. فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين ة.-، سلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم فلم يقدر لهم على نفع.
ذكر ملك الفرنج عكا:
في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة عكا وكان أول وهن دخل على من بالبلد ان الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم فخرج إلى ملك افرنسيس وبذل تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم فلم يجبه إلى ذلك فعاد علي بن أحمد إلى البلد فوهن من فيه وضعفت نفوسهم وتخاذلوا وأهمتهم أنفسهم. ثم إن أمراء ممن كان بعكا لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب والفرنج لم يجيبوا إلى التسليم، اتخذوا الليل جملا وركبوا في شيء صغير وخرجوا سراً من أصحابهم ولحقوا بعسكر المسلمين وهم: عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الوشاقي ومعهم غيرهم فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهنا إلى وهنهم وضعفا إلى ضعفهم وأيقنوا بالعطب. ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت فلم يقنعوا بما بدل فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يدا واحدة ويتركوا البلد بما فيه، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ويقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به فشرعوا في ذلك واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح فبطل ما عزموا عليه لظهوره. فلما عجز الناس من حفظ البلد زحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم فظهروا من البلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون وكانت هي العلامة إذا اخترمهم أمر. فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم طلبا منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا وصلاح الدين يحرضهم وهو في أولهم. وكان الفرنج قد خفوا عن خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد فقرب المسلمون من خنادقهم حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضرا خرج إلى
الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وحلفوا له عليه، وأن يكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين. فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه سلما فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم. وأظهروا انهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم، وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم فشرع في جمع المال وكان هو الأمان له إنما يخرج ما يحصل إليه من دخل البلاد أولا بأول. فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم فأشاروا بأن لا يرسل شيئا حتى يعاود يستحلفهم على إطلاق أصحابه وان يضمن الداوية ذلك لأنهم أهل دين يرون الوفاء فراسلهم صلاح الدين في ذلك فقال الداوية: لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا. وقال ملوكهم: إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا، فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر فلم يرسل إليهم شيئا وأعاد الرسالة إليهم وقال: نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ونعطيكم رهنا بالباقي وتطلقون أصحابنا وتضمن الداوية الرهن ويحلفون على الوفاء لهم فقالوا لا نحلف. إنما نرسل المائة ألف دينار التي حصلت والأسرى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فعلم الناس حينئذ غدرهم وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموالى ويطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ركب الفرنج وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وقصدوهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن مواقفهم وإذ أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم، ومن لا مال له. فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه وسير الأسرى والصليب إلى دمشق. ذكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان وتخريبها: لما فرغ الفرنج لعنهم الله من إصلاح أمر عكا برزوا منها في الثامن والعشرين من
ذكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان وتخريبها رجب وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطىء البحر لا يفارقونه فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا وكان على اليزك ذلك اليوم الملك الأفضل ولد صلاح الدين ومعه سيف الدين اياز كوش وعز الدين جورديك وعدة من شجعان الأمراء فضايقوا الفرنج في مسيرهم، وأرسلوا عليهم من السهام ما كان يحجب الشمس ووقعوا على ساقة الفرنج فقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة. وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال، فأمر العساكر بالمسير إليه فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب وإنما كانوا على عزم المسير لا غير. فبطل المدد وعاد ملك الانكلتار إلى ساقة الفرنج، فحماها وجمعهم وساروا حتى أتوا حيفا فنزلوا بها ونزل المسلمون بقيه ص ن قرية بالقرب منهم، واحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم واسر ذلك اليوم وعوض ما هلك من الخيل. ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم من قدروا عليه فيقتلونهم لأن صلاح الدين كان قد أقسم إلا يظفر بأحد منهم إلا قتلهم بمن قتلوا ممن كان بعكا فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون وقاتلوهم أشد قتال فنالوا منهم نيلا كثيرا. ونزل الفرنج بها وبات المسلمون قريباً منهم فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك فقتلوا منهم وأسروا منهم. ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف وكان المسلمون قد سبقوهم إليها ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق. فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة الحقوهم بالبحر ودخله بعضهم فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد. وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريبا من المعركة فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم فلما انهزم المسلمون عنهم قتل منهم كثير والتجأ المنهزمون إلى القلب وفيه صلاح الدين فلو علم الفرنج انها هزيمة لتبعتهم واشتهرت الهزيمة وهلك المسلمون. لكن كان بالقرب من المسلمين شعرى كثيرة الشجر فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة فعادوا وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم، وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه اياز الطويل وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله فلما نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها ولم يكن بها أحد من المسلمين فملكوها ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة واجتمع بأثقاله بها وجمع الأمراء
واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بتخريب عسقلان وقالوا له: قد رأيت ما منا بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان، ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلونا لننزاح عنها وينزلون عليها فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا، ويعظم الأمر علينا لأن العدو وقد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها ونحن قد ضعفنا بما خرج عن أيدينا ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها فلم تسمح نفسه بتخريبها وندب الناس إلى دخولها وحفظها فلم يجبه أحد إلى ذلك. وقالوا إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان وأمر بتخريبها تاسع عشر شعبان والقيت حجارتها في البحر وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع. ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها. وكان المركيس لعنه الله لما أخذ الفرنج عكا قد أحسن من ملك انكلتار بالغدر به فهرب من عنده إلى مدينة صور وهي له وبيده وكان رجل الفرنج رأياً وشجاعة. وكل هذه الحروب هو اثارها فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك انكلتار يقول له مثلك لا ينبغي ان يكون ملكا ويتقدم على الجيوش تسمع ان صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك يا جاهل لما بلغك انه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجداً فرحلته وملكتها صفوا عفوا بغير قتال ولا حصار فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها. وحق المسيح لو انني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان ومضى إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد. وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب تجاه الفرنج ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر، وقرر قواعده وأسبابه وما يحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان. وفي هذه الأيام خرج ملك انكلتار من يافا ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم فوقع به نفر من المسلمين فقاتلوهم قتالاً شديدا وكاد ملك انكلتار يؤسر ففد بعض أصحابه بنفسه فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمين وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون.
المجلد الخامس من صفحة 413- عساكرها مع المعظم تورانشاه بن صلاح الدين فهزموه وأسروه. وقتلوا الصالح بن الأفضل صاحب سميساط، وكان في جملته. وملكوا منبج عنوة ورجعوا. ثم ساروا من حران وعبروا من ناحية الرقة وعاثوا في البلاد. وجمع أهل حلب العساكر، وأمدهم الصالح إسماعيل من دمشق بعسكر مع المنصور إبراهيم صاحب حمص، وقصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى حران. ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا، واستولى عسكر حلب على حران والرها وسروج والرقة ورأس عين وما إليها. وخلص المعظم تورانشاه فبعث به لؤلؤ صاحب الموصل إلى عسكر حلب. ثم سار عسكر حلب إلى آمد وحاصروا المعظم تورانشاه وغلبوه على آمد. وأقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر، واستدعي لملكها فسار لذلك وولى ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن غلب التتر على بلاد الشام. ثم سار الخوارزمية سنة أربعين مع المظفر غازي صاحب ميافارقين من أقتال صاحب حلب، ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. أخبار حلب قد كان تقدم لنا ولاية الظاهر غازي على حلب بعد وفاة أبيه. ثم توفي سنة أربع وثلاثين، ونصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته أم العزيز صفية خاتون بنت العادل، و لؤلؤ الأرمني وإقبال الخاتوني وعز الدين بن مجلي قائمون بالدولة في تصريفها. وما زالت تجهز العساكر لدفاع الخوارزمية وتفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين، واستقل الناصر بتدبير ملكه، وصرف النظر في أموره لجمال الدين إقبال الخاتوني والله أعلم. الصالح أيوب مع عمه الصالح إسماعيل على دمشق واستيلاء أيوب آخراً عليها قد كان تقدم لنا أن الصالح إسماعيل بن العادل خالف الصالح أيوب على دمشق عند مسيره إلى مصر فملك دمشق سنة ست وثلاثين، وكان بعد ذلك إعتقال الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع وثلاثين، وبقيت الفتنة متصلة بينهما. وطلب الصالح إسماعيل صاحب دمشق من الإفرنج المظاهرة على أيوب صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف وصفد فأمضى ذلك ونكره مشيخة العلماء بعصره. وخرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام
الشافعي، ولحق بمصر فولاه الصالح خطة القضاء بها. ثم خرج بعده جمال الدين بن الحاجب المالكي إلى الكرك، ولحق بالاسكندرية فمات بها.ثم تداعى ملوك الشام لفتنة الصالح أيوب ؛ واتفق عليها إسماعيل الصالح صاحب دمشق، والناصر يوسف صاحب حلب، وجدته صفية خاتون، وإبراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص. وخالفهم المظفر صاحب حماة، وجنح إلى ولاية نجم الدين أيوب، وأقام حالهم في الفتنة على ذلك. ثم جنحوا إلى الصلح على أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب الذي إعتقله بدمشق فلم يجب إلى ذلك، واستجدت الفتنة. وسار الناصر داود صاحب الكرك مع إسماعيل الصالح صاحب دمشق، واستظهروا بالإفرنج، وأعطاهم إسماعيل القدس على ذلك. واستنجد بالخوارزمية أيضاً فأجابوه، واجتمعوا بغزة.وبعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس وكانت له ذمة باعتقاله معه فتلاقوا مع الخوارزمية، وجاءت عساكر مصر مع المنصور إبراهيم بن شيركوه، ولاقوا الإفرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر والخوارزمية واتبعوهم إلى دمشق، وحاصروا بها الصالح إسماعيل إلى أن جهده الحصار، وسأل في الصلح على أن يعوض عن دمشق ببعلبك وبصرى والسواد فأجابه أيوب إلى ذلك. وخرج إسماعيل من دمشق إلى بعلبك سنة ثمان وأربعين. وبعث نجم الدين إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني، وكان معتقلا عند إسماعيل بدمشق فشرط نجم الدين إطلاقه في الصلح الأول فأطلقه، وبعث إليه بالنيابة عنه بدمشق فقام بها. وإنصرف إبراهيم المنصور إلى حمص وانتزع صاحب حماة منه سلمية فملكها.واشتط الخوارزمية على الهدباني في دمشق في الولايات والإقطاعات وامتعضوا لذلك فسار بهم الصالح إسماعيل إلى دمشق موصلا الكرة، ومعه الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام. وبعث نجم الدين من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في عساكره، ومعه إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق سنة أربع وأربعين، وقتل مقدمهم حسام الدين بركت خان، وذهب بقيتهم مع مقدمهم الآخر كشلو خان فلحقوا بالتتر واندرجوا في جملتهم، وذهب أثرهم من العام واستجار إسماعيل الصالح وكان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من نجم الدين أيوب. وسار حسام الدين الهدباني بعساكر دمشق إلى بعلبك وتسلمها بالأمان، وبعث بأولاد إسماعيل ووزيره ناصر الدين يغمور إلى نجم الدين أيوب فاعتقلهم بمصر. وسارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب إلى الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ ، وملك الناصر نصيبين ودارا أو قرقيسياً، وعاد عسكره إلى حلب، والله تعالى أعلم.
مسير الصالح أيوب إلى دمشق اولا وثانيا وحصار حمص وما كان مع ذلك من الأحداث ثم بعث الصالح عن حسام الدين الهدباني من دمشق، وولى مكانه جمال الدين بن مطروح. ثم سار إلى دمشق سنة خمس وأربعين واستخلف الهدباني على مصر. ولما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان وطبرية فحاصرهما مدة، وفتحهما من يد الإفرنج ووفد على الصالح بدمشق المنصور صاحب حماة وكان أبوه المظفر توفي سنة ثلاث وأربعين، وولى المنصور ابنه هذا وإسمه محمد. ووفد أيضاً الأشرف موسى صاحب حمص، وقد كان أبوه إبراهيم المنصور توفي سنة أربع وأربعين قبلها بدمشق وهو ذاهب إلى مصر وافداً على الصالح أيوب. وأقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى ولقب الأشرف. وجاءت عساكر حلب سنة ست وأربعين مع لؤلؤ الأرمني وحصروا مصر شهرين وملكوها من يد موسى الأشرف، وأعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب مضافة إلى الرحبة وتدمر، وكانتا بيده مع حمص. وغضب لذلك الصالح فسار من مصر إلى دمشق، وجهز العساكر إلى حصار حمص مع حسام الدين الهدباني وفخر الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدة. وجاء رسول الخليفة المستعصم إلى الصالح أيوب شافعاً فأفرج العساكر عنها، وولى على دمشق جمال الدين يغمور، وعزل ابن مطروح والله تعالى أعلم.
استيلاء الإفرنج على دمياط كانت إفرنسة أمة عظيمة من الإفرنج، والظاهر أنهم أصل الإفرنج. وأن إفرنسة هي إفرنجة إنقلبت السين بها جيما عندما عربتها العرب، وكان ملكها من أعظم ملوكهم لذلك العصر ويسمونه ري الإفرنس ؛ ومعنى ري في لغتهم ملك إفرنس. فاعتزم هذا الملك على سواحل الشام وسار لذلك، كما سار من قبله من ملوكهم. وكان ملكه قد استفحل فركب البحر إلى قبرص في خمسين ألف مقاتل وشتى بها. ثم عبر سنة سبع وأربعين إلى دمياط، وبها بنو كنانة أنزلهم الصالح بها حامية فلما رأوا ما لا قبل لهم به أجفلوا عنها فملكها ري إفرنس، وبلغ الخبر إلى الصالح وهو بدمشق وعساكره نازلة بحمص، فكر راجعاً إلى مصر، وقدم فخر الدين ابن
الشيخ أتابك عساكره، ووصل بعده فنزل المنصورة وقد أصابه بالطريق وعك واشتد عليه والله تعالى أعلم.
استيلاء الصالح على الكرك: كان بين الصالح أيوب وبين الناصر داود ابن عمه المعظم من العداوة ما تقدم، وقد ذكرنا إعتقال الناصر له بالكرك فلما ملك الصالح دمشق بعث العساكر مع أتابكة فخر الدين يوسف ابن الشيخ لحصار الكرك. وكان أخوه العادل إعتقله وأطلقه الصالح وألزمه بيته، ثم جهزه لحصار الكرك فسار إليها سنة أربع وأربعين وحاصرها، وملك سائر أعمالها وخرب نواحيها. وسار الناصر من الكرك إلى الناصر يوسف صاحب حلب مستجيراً به بعد أن بعث بذخيرته إلى المستعصم، وكتب له خطه بوصولها. وكان قد استخلف على الكرك عندما سار إلى حلب ابنه الأصغر عيسى ولقبه المعظم فغضب أخواه الأكبران الأمجد حسن والظاهر شادي فقبضا على أخيهما عيسى، ووفدا على الصالح سنة ست وأربعين وهو بالمنصورة قبالة الإفرنج فملك الكرك والشويك منهما وولى عليهما بدرا الصواي ، وأقطعهما بالديار المصرية والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة الصالح أيوب صاحب مصر والشام وسيد ملوك الترك بمصر وولاية ابنه تورانشاه وهزيمة الإفرنج وأسر ملكهم ثم توفي الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل سنة سبع وأربعين بمكانه من المنصورة قبالة الإفرنج، وخشي أهل الدولة من الإفرنج فكتموا موته، وقامت أمّ ولده شجرة الدر بالأمر، وجمعت الأمراء وسيروا بالخبر إلى حسا م الدين الهدباني بمصر فجمع الأمراء وقوى جأشهم واستحلفهم. وأرسل الأتابك فخر الدين بن الشيخ بالخبر إلى المعظم تورانشاه بن الصالح، واستدعاه من مكان إمارته بحصن كيفا. ثم إنتشر خبر الوفاة وبلغ الإفرنج فشرهوا إلى قتال المسلمين، ودلفوا إلى المعسكر فانكشف المسلمون، وقتل الأتابك فخر الدين. ثم أتاح الله الكرة للمسلمين، وإنهزم الإفرنج، ووصل المعظم تورانشاه من مكانه بحصن كيفا لثلاثة أشهر أو تزيد فبايعه المسلمون واجتمعوا عليه، واشتدوا في قتال الإفرنج وغلبت أساطيلهم أساطيل العدو. وسأل الإفرنج في الإفراج عن دمياط على أن يعاضوا بالقدس فلم يجبهم المسلمون إلى ذلك.
وسارت سرايا المسلمين من حولهم وفيما بين معسكرهم وبين دمياط فرحلوا راجعين إليها. وأتبعهم المسلمون فأدركهم الدهش وانهزموا، وأسر ملكهم ريّ إفرنس وهو المعروف بالفرنسيس. وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفاً. واعتقل الفرنسيس بالدار المعروفة بفخر الدين بن لقمان ووكل به الخادم صبيح المعظمي. ثم رحل المعظم بعساكر المسلمين راجعاً إلى مصر، والله تعالى أعلم.
مقتل المعظم تورانشاه وولاية شجرة الدر وفداء الفرنسيس بدمياط: ولما بويع المعظم تورانشاه وكانت له بطانة من المماليك جاء بهم من كيفا فتسلطوا على موالي أبيه، وتقسموهم بين النكبة والإهمال. وكان للصالح جماعة من الموالي وهم البحرية الذين كان ينزلهم بالدار التي بناها إزاء المقياس، وكانوا بطانته وخالصته. وكان كبيرهم بيبرس، وهو الذي كان الصالح بعثه بالعساكر لقتال الخوارزمية عندما زحفوا مع عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق. وقد مر ذكر ذلك فصارت صاغيته معهم. ثم استمالهم الصالح فصاروا معه وزحفوا مع عساكره إلى عساكر دمشق والإفرنج فهزموهم وحاصروا دمشق وملكوها بدعوة الصالح كما مر. واستوحش بيبرس حتى بعث إليه الصالح بالأمان سنة أربع وأربعين ولحقه بمصر فحبسه على ما كان منه، ثم أطلقه.وكان من خواص الصالح أيضاً قلاون الصالحي كان من موالي علاء الدين قراسنقرمملوك العادل، وتوفي سنة خمس وأربعين وورثه الصالح بحكم الولاء. ومنهم أقطاي الجامدار وأيبك التركماني وغيرهم فأنفوا من استعلاء بطانة المعظم تورانشاه عليهم وتحكمهم فيهم فاعصوصبواً واعتزموا على الفتك بالمعظم. ورحل من المنصورة بعد هزيمة الإفرنج راجعاً إلى مصر فلما قربت له الحراقة عند البرج ليركب البحر كبسوه بمجلسه، وتناوله بيبرس بالسيف فهرب إلى البرج فاضرموه ناراً فهرب إلى البحر فرموه بالسهام فألقى نفسه في الماء وهلك بين السيف والماء لشهرين من وصوله وملكه. ثم إجتمع هؤلاء الأمراء المتولون قتل تورانشاه ونصبوا للملك أم خليل شجرة الدر زوجة الصالح، وأم ولده خليل المتوفى في حياته، وبه كانت تلقب. وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها ووضعت علامتها على المراسم، وكان نص علامتها أم خليل وقدم أتابك على العساكر عز الدين الجاشنكيرأيبك التركماني، فلما استقرت الدولة طلبهم الفرنسيس في الفداء على تسليم دمياط للمسلمين فاستولوا عليها سنة ثمان وأربعين. وركب الفرنسيس البحر إلى عكا وعظم
الفتح وأنشد الشعراء في ذلك وتساجلوا. ولجمال الدين بن مطروح نائب دمشق ابيات في الواقعة يتداولها الناس لهذا العصر، والله تعالى ولي التوفيق وهي:
- قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدق عن قول فصيح
- آجرك الله على ما جرى من قتل عباد يسوع المسيح
- أتيت مصراً تبتغي ملكها تحسب أن الزمر بالطبل ريح
- فساقك الحين إلى أدهم ضاق بهم في ناظريك الفسيح
- وكل أصحابك أودعتهم بسوء تدبيرك بطن الضريح
- خمسون ألفاً لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح
- وفقك الله لأمثالها لعلنا من شركم نستريح
- إن كان باباكم بذا راضياً فرب غش قد أتى من نصيح
- أوصيكم خيراً به إنه لطف من الله إليكم أتيح
- لو كان ذا رشد على زعمكم ما كان يستحسن هذا القبيح
- فقل لهم إن أضمروا عودة لأخذ ثأر أو لقصد قبيح
- دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشى صبيح
والطواشي في لغة أهل المشرق هو الخصي، ويسمونه الخادم أيضاً والله أعلم. استيلاء الناصر صاحب حلب على دمشق وبيعة الترك بمصر لموسى الأشرف بن أطسز بن المسعود صاحب اليمن وتراجعهما ثم صلحهما ولما قتل المعظم تورانشاه ونصب الأمراء بعده شجرة الدر زوجة الصالح إمتعض لذلك أمراء بني أيوب بالشام، وكان بدر الصوابي بالكرك والشوبك ولأه الصالح عليهما، وحبس عنده فتح الدين عمر ابن أخيه العادل فأطلقه من محبسه وبايع له. وقام بتدبير دولته جمال الدين بن يغمور بدمشق، واجتمع مع الأمراء القصرية بها على استدعاء الناصر صاحب حلب وتمليكه فسار وملك دمشق، واعتقل جماعة من موالي الصالح. وبلغ الخبر إلى مصر فخلعوا شجرة الدر ونصبوا موسى الأشرف بن مسعود أخي الصالح بن الكامل، وهو الذي ملك أخوه أطسز واسمه يوسف باليمن بعد أبيهما مسعود، وبايعوا له وأجلسوه على التخت، وجعلوا أيبك أتابكه. ثم
انتقض الترك بغزة ونادوا بطاعة المغيث صاحب الكرك، فنادى الترك بمصر بطاعة المستعصم وجددوا البيعة للأشرف وأتابكه. ثم سار الناصر يوسف بعسكره من دمشق إلى مصر فجهز الأمراء العساكر إلى الشام مع أقطاي الجامدار كبير البحرية، ويلقب فارس الدين فأجفلت عساكر الشام بين يديه. ثم قبض الناصر يوسف صاحب دمشق على الناصر داود لشيء بلغه عنه وحبسه بحمص، وبعث عن ملوك بني أيوب فجاءه موسى الأشرف صاحب حمص والرحبة وتدمر، والصالح إسماعيل بن العادل من بعلبك، والمعظم تورانشاه وأخوه نصر الدين ابنا صلاح الدين، والأمجد حسام الدين والظاهر شادي ابنا الناصر ، وداود صاحب الكرك، وتقي الدين عباس بن العادل ؛ واجتمعوا بدمشق.وبعث في مقدمته مولاه لؤلؤ الأرمني، وخرج أيبك التركماني في العساكر من مصر للقائهم، وأفرج عن ولدي الصالح إسماعيل المعتقلين منذ أخذهم الهدباني من بعلبك ليتهم الناس أباهم ويستريبوا به والتقى الجمعان في العباسية فانكشفت عساكر مصر، وسارت عساكر الشام في أتباعهم، وثبت أيبك، وهرب إليه جماعة من عساكر الناصر . ثم صدق أيبك الحملة على الناصر فتفرقت عساكره وسار منهزماً، وجيء لأيبك بلؤلؤ الأرمني أسيراً فقتله، وأسر إسماعيل الصالح وموسى الأشرف وتورانشاه المعظم وأخوه. ولحق المنهزمون من عسكر مصر بالبلد وشعر المتبعون لهم من عساكر الشام بهزيمة الناصر وراءهم فرجعوا. ودخل أيبك إلى القاهرة، وحبس بني أيوب بالقلعة.ثم قتل يغمور وزير الصالح إسماعيل المعتقل ببعلبك مع بنيه، وقتل الصالح إسماعيل في محبسه. ثم جهز الناصر العساكر من دمشق إلى غزة، فتواقعوا مع فارس الدين أقطاي مقدم عساكر مصر، فهزموهم واستولوا عليها. وترددت الرسل بين الناصر وبين الأمراء بمصر، واصطلحوا سنة خمسين، وجعلوا التخم بينهم نهر الأردن. ثم أطلق أيبك حسام الدين الهدباني فسار إلى دمشق، وسار في خدمة الناصر . وجاءت إلى الناصر شفاعة المستعصم في الناصر داود صاحب الكرك الذي حبسه بحمص فأفرج عنه، ولحق ببغداد ومعه ابناه الأمجد والظاهر فمنعه الخليفة من دخولها فطلب وديعته فلم يسعف بها. وأقام في أحياء عرية ، ثم رجع إلى دمشق بشفاعة من المستعصم للناصر وسكن عنده، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
خلع الاشرف بن أطسز واستبداد أيبك وأمراء الترك بمصر قد تقدم لنا آنفاً بيعة أمراء التركمان بمصر للأشرف موسى بن يوسف أطسز بن الكامل، وأنهم خطبوا له وأجلسوه علىالتخت بعد أن نصبوا للملك أيبك، وكان طموحاً إلى الاستبداد. وكان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية يدافعه عن ذلك، ويغض من عنانه منافسة وغيرة فأرصد له أيبك ثلاثة من المماليك اغتالوه في بعض سكك القصر وقتلوه سنة اثنتين وخمسين. وكانت جماعة البحرية ملتفة عليه فانفضوا ولحقوا بالناصر في دمشق، واستبد أيبك بمصر، وخلع الأشرف وقطع الخطبة له فكان آخر أمراء بني أيوب بمصر، وخطب أيبك لنفسه. ثم تزوج شجرة الدر أم خليل الملكة قبله فلما وصل البحرية إلى الناصر بدمشق أطمعوه في ملك مصر واستحثوه فتجهز وسار إلى غزة، وبرز أيبك بعساكره إلى العباسية فنزل بها. وانتقض عليه فتوهموا بالثورة به فإرتاب بهم ولحقوا بالناصر. ثم ترددت الرسل بين الناصر وأيبك فاصطلحوا على أن يكون التخم بينهم العريش. وبعث الناصر إلى المستعصم مع وزيره كمال الدين بن العديم في طلب الخلعة. وكان أيبك قد بعث بالهدية والطاعة إلى المستعصم فمطل المستعصم الناصر بالخلعة حتى بعثها إليه سنة خمس وخمسين. ثم قتل المعز أيبك قتلته شجرة الدر غيلة في الحمام سنة خمس وخمسين غيرة من خطبته بنت لؤلؤ صاحب الموصل فنصبوا مكانه ابنه علياً ولقبوه المنصور، وثاروا به من شجرة الدر كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى. مسير المغيث بن العادل صاحب الكرك مع البحرية إلى مصر وإنهزامهم كان البحرية منذ لحقوا بالناصر بعد مقتل أقطاي الجامدار مقيمين عنده، ثم ارتاب بهم وطردهم آخر سنة خمس وخمسين فلحقوا بغزة وكاتبوا المغيث فتح الدين عمر بن العادل بالكرك وقد كنا ذكرنا إن بدرا الصوافي أخرجه من محبسه بالكرك بعد مقتل تورانشاه بمصر، وولاه الملك وقام بتدبير دولته. وبعث إليه الآن بيبرس البندقداري مقدم البحرية من غزة
يدعوه إلى الملك، وبلغ الخبر إلى الناصر بدمشق فجهز العساكر إلى غزة فقاتلوهم وإنهزموا إلى الكرك فتلقاهم المغيث وقسم فيهم الأموال واستحثوه لملك مصر فسار معهم، وبرزت عساكر مصر لقتالهم مع قطز مولى أيبك المعز ومواليه، فالتقى الفريقان بالعباسية فانهزم المغيث والبحرية إلى الكرك، ورجعت العساكر إلى مصر.وفي خلال ذلك أخرج الناصر داود بن المعظم من دمشق حاجا، ونادى في الموسم بتوسله إلى المستعصم في وديعته، وإنصرف مع الحاج إلى العراق فأكرهه المستعصم على براءته من وديعته فكتب وأشهد ولحق بالبرية. وبعث إلى الناصر يوسف يستعطفه فأذن له وسكن دمشق. ثم رجع مع رسول المستعصم الذي جاء معه إلى الناصر بالخلعة والتقليد فأقام بقرقيسيا حتى يستأذن له الرسول فلم يأذن له فأقام عنده بأحياء العرب في التيه فقربوا في تقلبهم من الكرك، فقبض عليه المغيث صاحب الكرك وحبسه، حتى إذا زحف التتر لبغداد بعث عنه المستعصم ليبعثه مع العساكر لمدافعتهم، وقد استولى التتر على بغداد فرجع ومات ببعض قرى دمشق بالطاعون سنة ست وخمسين إنتهى، والله تعالى أعلم.
زحف الناصر صاحب دمشق إلى الكرك وحصارها والقبض على البحرية ولما كان من المغيث والبحرية ما قدمناه، ورجعوا منهزمين إلى الكرك بعث الناصر عساكره من دمشق إلى البحرية فالتقوا بغزة، وإنهزمت عساكر الناصر وظفرت البحرية بهم. واستفحل أمرهم بالكرك فسار الناصر بنفسه إليهم بالعساكر من دمشق سنة سبع وخمسين، وسار معه صاحب حماة المنصور بن المظفر محمود فنزلوا على الكرك وحاصروها. وأرسل المغيث إلى الناصر في الصلح فشرط عليه أن يحبس البحرية فاجاب. ونمي الخبر إلى بيبرس أميرهم البندقداري فهرب في جماعة منهم، ولحق بالناصر. وقبض المغيث على الباقين، وبعث بهم إلى الناصر في القيود ورجع إلى الكرك. ثم بعث إلى الأمراء بمصر وزيره كمال الدين بن العديم يدعوهم إلى الإتفاق إلى مدافعة التتر. وفي أيام مقدم ابن العديم مصر خلع الأمراء على ابن المعز أيبك، وقبض عليه أتابك عسكره وموالي أبيه، وجلس على التخت وخطب لنفسه،
وقبض على الأمراء الذين يرتاب منازعتهم كما نذكره في أخبارهم. وأعاد ابن العديم إلى مرسله صاحب دمشق بالإجابة والوعد بالمظاهرة، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
استيلاء التتر على الشام وإنقراض ملك بني أيوب وهلاك من هلك منهم ثم زحف التتر وسلطانهم هلاكو إلى بغداد، واستولى على كرسي الخلافة، وقتلوا المستعصم وطمسوا معالم الملة. وكادت تكون من أشراط الساعة. وقد شرحناها في أخبار الخلفاء ونذكرها في أخبار التتر فبادر الناصر صاحب دمشق بمصانعته، وبعث ابنه العزيز محمدا إلى السلطان هلاكو بالهدايا والألطاف فلم يغن ورده بالوعد. ثم بعث هلاكو عساكره إلى ميافارقين، وبها الكامل محمد بن المظفر شهاب الدين غازي بن العادل الكبير فحاصروها سنتين، ثم ملكوها عنوة سنة ثمان وخمسين وقتلوه. وبعث العساكر إلى إربل فحاصروها ستة أشهر وفتحوها. وسار ملوك بلاد الروم كيكاوس وقليج أرسلان ابنا كنجسرو إلى هلاكو أثر ما ملك بغداد فدخلوا في طاعته ورجعوا إلى بلادهم. وسار هلاكو إلى بلاد أذربيجان، ووفد عليه هنالك لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين ودخل في طاعته ورده إلى بلده وهلك أثر ذلك. وملك الموصل مكانه ابنه الصالح وسنجار ابنه علاء الدين.ثم أوفد الناصر ابنه على هلاكو بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة، واعتذر عن لقائه بالتخوف على سواحل الشام من الإفرنج فتلقى ولده بالقبول، وعذره وأرجعه إلى بلده بالمهادنة والمواعدة الجميلة. ثم سار هلاكو إلى حران وبعث ابنه في العساكر إلى حلب وبها المعظم تورانشاه ابن صلاح الدين نائباً عن الناصر يوسف فخرج لقتالهم في العساكر. وأكمن له التتر واستجروهم ثم كروا عليهم فاثخنوا فيهم ورحلوا إلى أعزاز فملكوها صلحا. وبلغ الخبر إلى الناصر وهو بدمشق معسكر من ثورة سنة ثمان وخمسين. وجاء الناصر بن المظفر صاحب حماة فأقام معه ينتظر أمرهم. ثم بلغه أن جماعة من مواليه اعتزموا على الثورة به فكر راجعاً إلى دمشق، ولحق أولئك الموالي بغزة. ثم أطلع على خبثهم وأن قصدهم تمليك أخيه الظاهر فاستوحش منهم ولحق الظاهر بهم فنصبوه للأمر، واعصوصبوا عليه. وكان معهم بيبرس البندقداري وشعر بتلاشي أحوالهم فكاتب المظفر صاحب مصر واستأمن إليه فأمنه. وسار إلى مصر فتلقي بالكرامة وأنزل بدار الوزارة، وأقطعه السلطان قطر قليوب بأعماله. ثم هرب هلاكو إلى الفرات فملك وكان بها
إسماعيل أخو الناصر معتقلا فأطلقه وسرحه إلى عمله بالصبينة وبانياس وولاه عليهما. وقدم صاحب أرزن إلى تورانشاه نائب حلب يدعوه إلى الطاعة فامتنع فسار إليها وملكها عنوة وأمنها. واعتصم تورانشاه والحامية بالقلعة. وبعث أهل حماة بطاعتهم إلى هلاكو وأن يبعث عليهم نائباً من قبله ويسمى برطانتهم الشحنة. فأرسل إليهم قائداً يسمى خسروشاه، وينسب في العرب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه. وبلغ الناصر أخذ حلب فأجفل عن دمشق واستخلف عليها، وسار إلى غزة واجتمع عليه مواليه وأخوه. وسار التتر إلى نابلس فملكوها وقتلوا من كان بها من العسكر. وسار الناصر من غزة إلى العريش، وقدم رسله إلى قطز تسأله النصر من عدوهم وإجتماع الأيدي على المدافعة ثم تقدموا إلى واستراب الناصر بأهل مصر فسار هو وأخوه الظاهر ومعهما الصالح بن الأشرف موسى بن شيركوه إلى التيه فدخلوا إليه وفارقهم المنصور صاحب حماة والعساكر إلى مصر فتلقاهم السلطان قطز بالصالحية، وآنسهم ورجع بهم إلى مصر واستولى التتر على دمشق وسائر بلاد الشام إلى غزة، وولوا على جميعها أمراءهم. ثم افتتحت قلعة حلب، وكان بها جماعة من البحرية معتقلين منهم سنقر الأشقر فدفعهم هلاكو إلى السلطان جق من أكابر أمرائه. وولى على حلب عماد الدين القزويني. ووفد عليه بحلب الأشرف موسى بن منصور بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص. وكان الناصر قد أخذها منه كما قدمناه فأعادها عليه هلاكو ورد جميع ولايته بالشام إلى رأيه. وسار إلى قلعة حارم فملكها واستباحها وأمر بتخريب أسوار حلب وقلعتها وكذلك
حماة وحمص وحاصروا قلعة دمشق طويلا، ثم تسموها بالأمان. ثم ملكوا بعلبك وهدموا قلعتها وساروا إلى الصبينة وبها السعيد بن العزيز بن العادل فملكوها منه على الأمان وسار معهم ووفد على هلاكو فخر الدين بن الزكي من أهل دمشق فولاه القضاء بها. ثم اعتزم هلاكو على الرجوع إلى العراق فعبروا الفرات وولى على الشام أجمع أميراً اسمه كتبغا من أكابر أمرائه، واحتمل. عماد الدين القزويني من حلب، وولى مكانه آخر. وأما الناصر فلما دخل في التيه هاله أمره، وحسن له أصحابه قصد هلاكو فوصل إلى كتبغا نائب الشام يستأذنه. ثم وصل فقبض عليه وسار به إلى حتى سلمها إليه أهلها. وبعث به إلى هلاكو فمر
بدمشق ثم بحماة، وبها الأشرف صاحب حمص وخسروشاه نائبها فخرجا لتلقيه. ثم مر بحلب ووصل إلى هلاكو فأقبل عليه ووعده برده إلى ملكه. ثم ثار المسلمون بدمشق بالنصارى أهل الذمة، وخربوا كنيسة مريم من كنائسهم وكانت من أعظم الكنائس في الجانب الذي فتحه خالد بن الوليد رحمه الله. وكانت لهم أخرى في الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بالأمان. ولما ولي طالبهم في هذه الكنيسة ليدخلها في جامع البلد، وأعلى لهم في السوم فامتنعوا فهدمها وزادها في الجامع لأنها كانت لصقه. فلما ولي عمر بن عبد العزيز استعاضوه فعوضهم بالكنيسة التي ملكها المسلمون بالعنوة مع خالد بن الوليد رحمه الله، وقد تقدم ذكر هذه القصة. فلما ثار المسلمون الآن بالنصارى أهل الذمة خربوا كنيسة مريم هذه، ولم يبقوا لها أثراً . ثم إن العساكر الإسلامية أجمعت بمصر، وساروا إلى الشام لقتال التتر صحبة السلطان قطز صاحب ومعه ا لمنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل فسار إليه كتبغا نائب الشام، ومعه الأشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الصبينة ابن العزيز بن العادل والتقوا على عين. جالوت بالغور فانهزم التتر وقتل أميرهم النائب كتبغا وأسر السعيد صاحب الصبينة فقتله قطز، واستولى على الشام أجمع. وأقر المنصور صاحب حماة على بلده ورجع إلى مصر فهلك في طريقه، قتله بيبرس البندقداري، وجلس على التخت مكانه وتلقب بالظاهر حسبما يذكر ذلك كله في دولة الترك.
ثم جاءت عساكر التتر إلى الشام، وشغل هلاكو عنهم بالفتنة مع قومه وأسف على قتل كتبغا نائبه وهزيمة عساكره فأحضر الناصر ولامه على ما كان منه من تسهيله عليه أمر الشام وتجنى عليه بأنه غره بذلك فاعتذر له الناصر فلم يقبل فرماه بسهم فأنفذه. ثم أتبعه بأخيه الظاهر وبالصالح بن الأشرف موسى صاحب حمص، وشفعت زوجة هلاكو في العزيز بن الناصر وكان مع ذلك يحبه فاستبقاه. وانقرض ملك بني أيوب من الشام كما انقرض قبلها من مصر؛ واجتمعت مصر والشام في مملكة الترك، ولم يبق لبني أيوب بهما ملك إلا للمنصور بن المظفر صاحب حماة فإن قطز أقره عليها والظاهر، بيبرس من بعده وبقي في إمارته هو وبنوه مدة من دولة الترك وطاعتهم، حتى أذن الله بانقراضهم وولى عليها غيرهم من أمرائهم كما نذكر في أخبار دولتهم، والله وارث الأرض ومن عليها والعاقبة للمتقين
الخريطة
دولة الترك
الخبر عن دولة الترك القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بني أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم قد تقدم لنا ذكر الترك وأنسابهم أول الكتاب عند ذكر أمم العالم، ثم أخبار الأمم السلجوقية، وأنهم من ولد يافث بن نوح باتفاق من أهل الخليقة. فعند نسابة العرب أنهم من عامور بن سويل بن يافث، وعند نسابة الروم أنهم من طيراش بن يافث. هكذا وقع في التورارة. والظاهر أن ما وقع لنسابة العرب غلط، وان عامور هو مصحف كومر لأن كافه تنقلب عند التعريب غيناً معجمة فربما صحفت عيناً مهملة أو بقيت بحالها. وأما سويل فغلط بالزيادة وأما ما وقع للروم من نسبتهم إلى طيراش فهو منقول في الإسرائيليات، وهو رأي مرجوح عندهم لمخالفته لما في التوراة. وأما شعوبهم وأجناسهم فكثيرة وقد عددنا منهم أول الكتاب التغرغر، وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طغماح، وهي بلاد ملوكهم في الإسلام تركستان وكاشغر. وعددنا منهم أيضاً الخزلخية والغز كان منهم السلجوقية، والهياطلة الذين منهم الخلج وبلادهم الصغد قريباً من سمرقند ويسمون بها أيضاً. وعددنا منهم أيضاً الغور والخزر والقفجاق، وبقال الخفشاخ ويمك والعلان، ويقال اللان وشركس وأركش. وقال صاحب كتاب زجار في الكلام على الجغرافيا أجناس من الترك كلهم وراء النهر إلى البحر المظلم، وهي العسية والتغرغرية والخرخيرية والكيماكية والخزلخية والخزر والحاسان وتركش وأركش وخفشاخ والخلخ والغزية وبلغار وخجاكت ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر. وذكر في موضع آخر أنكر من شعوب الترك، وأنهم في بلاد البنادقة من أرض الروم وأما مواطنهم فإنهم ملكوا الجانب الشمالي من المعمور في النصف الشرقي منه قبالة الهند والعراق في ثلاثة أقاليم: هي السادس والسابع والخامس، كما ملك العرب الجانب الجنوبي من المعمور أيضاً في جزيرة العرب وما إليها من أطراف الشام والعراق وهم رجالة مثلهم وأهل حرب وافتراس ومعاش من التغلب والنهب إلا في الأقل. وقد ذكرنا أنهم عند الفتح لم يذعنوا إلا بعد طول حرب وممارسة أيام سائر دولة بني أمية، وصدراً من صولة بني العباس. وامتلأت أيدي العرب يومئذ من سبيهم فاتخذوهم خولا في المهن والصنائع، ونساءهم فرشا للولادة كما فعلوه في سبي الفرس والروم وسائر الأمم الذين قاتلوهم على الدين، وكان شأنهم أن لا يستعينوا برقيقهم في شيء مما يغانونه من الغزو والفتوح ومحاربة الأمم، ومن أسلم منهم تركوه لسبيله التي هو
عليها من أمر معاشه على طاغية هواه.لأن عصبية العرب كانت مستفحلة يومئذ وشوكتهم قائمة مرهفة، ويدهم ويد سلطانهم في الأمر جميعاً، ومرماهم إلى العز والمجد واحد. وكانوا كأسنان المشط لتزاحم الأنساب وغضاضة الدين، حتى إذا أرهف الملكم حده ونهج إلى الإستبداد طريقه وإحتاج السلطان في القيام بأمره إلى الإستظهار على المنازعين فيه من قومه بالعصبية المدافعة دونه، والشوكة المعترض شباها في أذياله حتى تجدع أنوفهم عن التطاول إلى رتبته، وتغض أعنتهم عن السير في مضماره اتخذ بنو العباس من لدن المهدي والرشيد بطانة إصطنعوهم من موالي الترك والروم والبربر، ملؤا منهم المواكب في الأعياد والمشاهد والحروب والصوائف والحراسة على السلطان، وزينة في أيام السلم واكثافاً لعصابة الملك. حتى لقد إتخذ المعتصم مدينة سامرا لنزلهم تحرجاً من أضرار الرعية باصطدام مراكبهم، وتراكم القتال بجوهم، وضيق السكك على المارين بزحامهم.
وكان إسم الترك غالباً على جميعهم فكانوا تبعا لهم ومندرجين فيهم. وكانت حروب المسلمين لذلك العهد في القاصية وخصوصاً مع الترك متصلة والفتوح فيهم متعاقبة، وأمواج السبي من كل وجه متداركة. وربما رام الخلفاء عند استكمال بغيتهم واستجماع عصابتهم إصطفاء علية منهم للمخالصة، وقواد العساكر ورؤساء المراكب، فكانوا يأخذون في تدريجهم لذلك بمذاهب الترشيح فينتقون من أجود السبي الغلمان كالدنانير، والجوار كاللآلىء ويسلمونهم إلى قهارمة القصور وقرمة الدواوين، يأخذونهم بحدود الإسلام والشريعة وآداب الملك والسياسة، ومراس الثقافة في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح، والبصر بأمور الحرب والفروسية، ومعاناة الخيول والسلاح والوقوف على معاني السياسة. حتى إذا تنازعوا في التشريح وإنسلخوا من جلدة الخشونة إلى رقة الحاشية وملكة التهذيب إصطنعوا منهم للمخالصة، ورقوهم في المراتب وإختاروا منهم لقيادة العساكر في الحروب، ورئاسة المواكب أيام الزينة، ورتق الفتوق الحادثة وسد الثغور القاصية كل على شاكلة غنائه وسابق إصطناعه. فلم يزل هذا دأب الخلفاء في إصطناعهم، ودعامة سرير الملك بعمدهم ؛ وتمهيد الخلافة بمقاماتهم حتى سموا في درج الملك، وامتلأت جوانجهم من الغزو، وطمحت أبصارهم إلى الإستبداد فتغلبوا على الدولة، وحجروا الخلفاء وقعدوا بدست الملك ومدرج النهي والأمر، وقادوا الدولة بزمامهم، وأضافوا إسم السلطان إلى مراتبهم.وكان مبدأ ذلك واقعة المتوكل، وما حصل بعدها من تغلب الموالي واستبدادهم بالدولة والسلطان. ونهج السلف منهم في ذلك السبيل للخلف، وإقتدى الاخر بالأول فكانت لهم دول في الإسلام متعددة تعقب غالباً دولة أهل العصبية وشوكة النسب: كمثل دولة بني
سامان وراء النهر، وبني سبكتكين بعدهم، وبني طولون بمصر، وبني طغج. وما كان بعد الدولة السلجوقية من دولتهم مثل: بني خوارزم شاه بما وراء النهر، وبني طغرلتكين بدمشق، وبني أرتق بماردين، وبني زنكي بالموصل والشام، وغير ذلك من دولهم التي قصصناها عليك في تصانيف الكتاب.حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبثت أثواب البلاء والعجز ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق البلاد، وأدالوا بالكفر من الإيمان بما أخذ أهلها عند الإستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والإسترسال في الترف من تكاسل الهمم والقعود عن المناصرة، والإنسلاح من جلدة البأس وشعار الرجولية، فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بأحياء رمقه وتلافى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه، وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصاراً متوافية، يجلبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مقادة الرق الذي كمن اللطف في طيه، وتعرفوا العز والخير في مغبته، وتعرضوا للعناية الربانية بتلافيه. يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع، ولا خالطتها أقذار اللذات، ولا دنستها عوائد الحضارة، ولا كسر من سورتها غزارة الترف.ثم يخرج بهم التجار إلى مصر أرسالا كالقطا نحو الموارد فيستعرضهم أهل الملك منهم، ويتنافسون في أثمانهم بما يخرج عن القيمة لا لقصد الإستعباد، إنما هو إكثاف للعصبية وتغليظ للشوكة، ونزوع إلى العصبية الحامية يصطفون من كل منهم بما يؤنسونه من شيم قومهم وعشائرهم. ثم ينزلونهم في غرف الملك ويأخدونهم بالمخالصة ومعاهدة التربية، ومدارسة القرآن وممارسة التعليم، حتى يشتدوا في ذلك. ثم يعرضونهم على الرمى والثقافة وركض الخيل في الميادين، والمطاعنة بالرماح والمطاعنة بالسيوف، حتى تشتد منهم السواعد وتستحكم الملكات، ويستيقنوا منهم المدافعة عنهم والاستماتة دونهم.فإذا بلغوا إلى هذا الحد ضاعفوا أرزاقهم، ووفروا من أقطاعهم وفرضوا عليهم إستجادة السلاح وإرتباط الخيول، والإستكثار من أجناسهم لمثل هذا القصد. وربما عمروا بهم خطط الملك، ودرجوهم في مراتب الدولة فيسترشح من يسترشح منهم لإقتعاد كرسي السلطان، والقيام بأمور المسلمين عناية من الله تعالى سابقة، ولطائف في خلقه سارية. فلا يزال نشو منهم يردف نشوا وجيل يعقب جيلا، والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغناء، والدولة ترف أغصانها من نضرة الشباب. وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام، وأخوه العادل أبو بكر من بعده ثم بنوهم من بعدهم قد تناغوا في ذلك يما فوق الغاية. وإختص الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوكهم بالمبالغة في ذلك والإمعان فيه، فكان عامة عسكره منهم. فلما إنفض عشيره، وخذله أنصاره، وقعد عنه أولياؤه وجنوده، لم يدع سببا في استجلابهم إلا أتاه من إستجادة المترددين إلى ناحيتهم، ومراضاة التجار في أثمانهم بأضعاف ثمنهم، وكان رقيقهم قد بلغ الغاية من الكثرة لما كان التتر قد دوخوا الجانب الغربي من ناحية الشمال، وأوقعوا بسكانه من الترك وهم شعوب القفجاق والروس والعلان والمولات وما جاورهم من قبائل جركس. وكان ملك التتر بالشمال يومئذ دوشي خان بن جنسكزخان قد أصابهم بالقتل والسبي فامتلأت أيدي أهل تلك النواحي برقيقهم، وصاروا عند التجار من أنفس بضائعهم والله تعالى أعلم.
ذكر بيبرس البندقداري في تاريخه حكاية غريبة عن سبب دخول التتر لبلادهم بعد أن عد شعوبهم فقال: ومن قبائلهم- يعني القفجاق- قبيلة طغصبا وستا وبرج أغلا والبولى وقنعرا على وأوغلي ودورت وقلابا أعلى وجرثان وقد كابر كلي وكنن. هذه إحدى عشرة قبيلة وليس فيها ذكر الشعوب العشرة القديمة الذكر التي عددها النسابة كما قدمناه أول الترجمة. وهذه والله أعلم بطون متفرعة من القفجاق فقط، وهي التي في ناحية الغرب من بلادهم الشمالية، فإن سياق كلامه إنما هو في الترك المجلوبين من تلك الناحية لا من ناحية خوارزم ولا ما وراء النهر. قال بيبرس: ولما استولى التتر على بلادهم سنة ست وعشرين، والملك يومئذ بكرس جنكز خان لولده دوشي خان، وإتفق إن شخصاً من قبيلة دورت يسمى منقوش بن كتمر خرج متصيداً فلقيه آخر من قبيلة طغصبا إسمه أقاكبك وبين القبيلتين عداوة مستحكمة فقتله. وأبطأ خبره عن أهله فبعثوا طليعة لإستكشاف أمره إسمه جلنقر فرجع إليهم وأخبرهم، وأنه قتل وسمى لهم قاتله فجمعوا للحرب. وتزاحفت القبيلتان فانهزمت قبيلة طغصبا، وخرج أقاكبك القاتل، وتفرق جمعه فأرسل أخاه أقصر إلى ملكهم دوشي يستعلم ما على ذوي قبيلة دورت القفجاقية. وذكره ما فعل كتمر وقومه بأخيه وأغر بهم، وسهل له الشأن فيهم. وبعث دوشي خان جاسوسه لإستكشاف حالهم وإختيار مراسلهم وشكيمتهم، فعاد إليه بتسهيل المرام فيهم. وقال: إن رأيت كلاباً مكبين على فريستهم متى طردتهم عنها تمكنت منها فأطمعه ذلك في بلاد القفجاق، واستحثه أقصر الذي جاء صريخاً وقال له، ما معناه نحن ألف رأس تجر ذنباً واحداً، وأنتم رأس واحد تجر ألف ذنب، فزاده ذلك إغراء. ونهض بجموع التتر فأوقع بالقفجاق، وأثخن فيهم قتلا وسبيا وأسرا، وفرقهم في البقاع وامتلأت أيدي التجار، وجلبوهم إلى مصر فعوضه الله بالدخول
في الإيمان والاستيلاء على الملك والسلطان. إنتهى كلام بيبرس. ومساق القصة يدل على أن قبيلة دورت من القفجاق، وأن قبيلة طغصبا من التتر. فيقتضي ذلك أن هذه البطون التي عددت ليست من بطن واحد، وكذلك يدل مساقها على أن أكثر هؤلاء الترك الذين بديار مصر من القفجاق، والله تعالى أعلم.
الخبر عن استبد اد الترك بمصروإنفراد هم بها عن بني أيوب ودولة المعز أيبك أول ملوكهم قد تقدم لنا أن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل قد استكثر من المماليك الترك، ومن في معناهم من التركمان والأرمن والروم وجركس وغيرهم. إلا أن اسم الترك غالب على جميعهم لكثرتهم ومزيتهم، وكانوا طوائف متميزين بسمات من ينسبون إليه من نسب أو سلطان: فمنهم العزيزية نسبة إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين، ومنهم الصالحية نسبة إلى هذا الصالح أيوب، ومنهم البحرية نسبة إلى القلعة التي بناها الصالح بين شعبتي النيل إزاء المقياس بما كانوا حاميتها. وكان هؤلاء البحرية شركة دولته وعصابة سلطانه وخواص داره، وكان من كبرائهم عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني، ورديفه فارس الدين أقطاي الجامدار، وركن الدين بيبرس البندقدارى ولما كان ما قدمناه ووفاة الصالح بالمنصورة في محاصرة الإفرنج بدمياط في سنة سبع وأربعين، وكتمانهم موله ورجوعهم في تدبير أمورهم إلى شجرة الدر زوجة الصالح وأم ولد خليل، وبعثهم إلى ابنه المعظم تورانشاه وإنتظاره، وأن الإفرنج شعروا بموت الصالح فدلفوا إلى معسكر المسلمين على حين غفلة فانكشف أوائل العسكر وقتل فخر الدين الأتابك. ثم أفرغ الله الصبر وثبت أقدامهم، وأبلى أمراء الترك في ذلك اليوم بلاء حسناً، ووقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوهون بمكانها فكانت لهم الكرة وهزم الله العدو. ثم وصل المعظم تورانشاه من كيفا فبايعوا له وأعطوه الصفقة وإنتظم الحال ، واستطال المسلمون على الإفرنج براً وبحراً فكان ما قدمناه من هزيمتهم والفتك بهم وأسر ملكهم الفرنسيس. ثم رحل المعظم إثر هذا الفتح إلى مصر لشهرين من وصوله، ونزل بفارس كور يريد مصر، وكانت بطانته قد استطالوا على موالي أبيه، وتقسموهم بين النكبة والإهمال فاتفق كبراء البحرية على قتله وهم: أيبك وإقطاي وبيبرس فقتلوه كما مر ونصبوا للملك شجرة الدر أم الخليل، وخطب لها على المنابر، ونقش إسمها على السكة، ووضعت علامتها على المراسم ونصها أم خليل. وقام أيبك التركماني بأتابكية العسكر. ثم فودي الفرنسيس بالنزول عن دمياط وملكها المسلمون سنة ثمان وأربعين. وسرحوه في البحر إلى بلاده بعد أن توثقوا منه باليمين أن لا
يتعرض لبلاد المسلمين ما بقي. واستقلت الدولة بمصر للترك وانقرضت منها دولة بني أيوب، وبلغ الخبر إلى بني أيوب بقتل المعظم وولاية المرأة، وما اكتنف ذلك فامتعضوا له. وكان فتح الدين عمر بن العادل قد حبسه عمه الصالح أيوب بالكرك لنظر بدر الصوابي خادمه الذي ولاه على الكرك والشويك لما ملكهما كما مر فأطلق بدر الدين من محبسه. وبايع له وقام بأمره ولقبه المغيث وأتصل الخبر بمصر وعلموا أن الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيبك لتقدمه عند الصالح وأخيه العادل قبله فبايعوا له، وخلعوا أم خليل ولقبوه بالمعز فقام بالأمر وانفرد بملك مصر. وولى مولاه سيف الدين قطز نائباً، وعمر المراتب والوظائف بأمراء الترك، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
نهوض الناصر صاحب دمشق من بني أيوب إلى مصر وولاية الاشرف موسى مكان أيبك كان الملك الصالح أيوب قبل موته قد استخلف جمال الدين بن يغمور على دمشق مكان ابن مطروح، وأمراء الدولة الأيوبية بها متوافرون فلما بلغهم استبداد الترك بمصر وولاية أيبك وبيعة المغيث بالكرك أمعنوا النظر في تلافي أمورهم. وكبراء بني أيوب يومئذ بالشام: الناصر يوسف بن العزيز، محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين حلب وحمص وما إليها فاستدعوه وبايعوا له بدمشق وأغروه بطلب مصر. وإتصل الخبر للترك في مصر فاعتزموا على أن ينصبوا بعض بني أيوب فيكفوا به ألسنة النكير عنهم ، فبايعوا لموسى الذي كان أبوه يوسف صاحب اليمن، وهو يوسف أطسز بن المسعود بن الكامل، وهو يومئذ ابن ست سنين ولقبوه الأشرف. وتزحزح له أيبك عن كرسي السلطان إلى رتبة الأتابكية، واستمر الناصر على غلوائه في النهوض إلى مصر. واستدعى ملوك الشام من بني أيوب فأقبل إليه موسى الأشرف الذي كان صاحب حمص، وإسماعيل الصالح بن العادل صاحب بعلبك، والمعظم تورانشاه بن صلاح الدين وأخوه نصر الدين، وإبنا داود الناصر صاحب الكرك وهما الأمجد حسن والظاهر شادي. وإرتحل من دمشق سنة ثمان وأربعين، وفي مقدمته أتابكه لؤلؤ الأرمني، وبلغ الخبر إلى مصر فاضطرب الأمر ونادوا بشعار الخلافة والدعاء للمستعصم، وجددوا البيعة على ذلك للأشرف وجهزوا العساكر وخرجوا للقائهم. وسار في المقدمة أقطاي الجامدار وجمهور البحرية، وتبعهم أيبك ساقة في العساكر. والتقى الجمعان بالعباسية فانكشف عسكر مصر أولا، وتبعهم أهل الشام وثبت المعز في القلب، ودارت عليه رحى الحرب. وهرب إليه جماعة من عسكر الناصر فيهم أمراء العزيزية
مثل جمال الدين لا يدعون، وشمس الدين أتسز اليرلي، وشمس الدين أتسز الحسامي. غضبوا من رياسة لؤلؤ عليهم فهربوا وبقي لؤلؤ في المعركة صامداً. ثم حمل المعز على الناصر وأصحابه فانهزموا وإنفض عسكره وجيء بلؤلؤ الأتابكي أسيراً فقتله صبراً، وبأمراء بني أيوب فحبسهم ورجع أيبك من الوقعة فوجد عساكر الناصر مجتمعين بالعباسية يظنون الغلب لهم. فعدل إلى بلبيس، ثم إلى القلعة. ورجعت عساكر الشام من أتباع المنهزمين لما شعروا بهزيمة صاحبهم فلحقوا بالناصر بدمشق، ودخل أيبك إلى القاهرة وحبس بني أيوب بالقلعة. ثم قتل منهم إسماعيل الصالح ووزيره ابن يغمور الذي كان معتقلا من قبل. ولما وصل الناصر إلى دمشق أزاح علل عساكره وعجل الكرة إلى مصر، ونزل غزة سنة خمسين وبرزت عساكر مصر للقائه، فتواقفوا ملياً. ثم وصل نجم الدين البادرإلى رسول المستعصم فأصلح بين الطائفتين على أن يكون القدس والساحل إلى نابلس للمعز، والتخم بين المملكتين نهر الأردن. وإنعقد الأمر على ذلك، ورجع كل إلى بلده، و أخرج المعز عن أمراء بني أيوب الذين حبسهم يوم الواقعة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واقعة العرب بالصعيد مع أقطاي: لما شغل الصالح بالإفرنج وما بعدهم عظم فساد العرب بالصعيد واجتمعوا على الشريف خضر الدين أبي ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين إسماعيل بن حصن الدين ثعلب الجعفري، من ولد جعفر بن أبي طالب الذين أجازوا من الحجاز لما غلبهم بنو عمهم بنواحي المدينة، في الحروب التي كانت بينهم. وأطاعه أعراب الصعيد كافة، ولم يقدر على كفهم عن الراية. وإتصل ذلك وهلك الصالح واستبد الترك بمصر، وشغلوا عنهم بما كان من مطالبة بني أيوب لهم. فلما فرغ المعز أيبك من أمر الناصر وعقد الصلح معه، بعث لحربهم فارس الدين أقطاي وعز الدين أيبك الأقرم أمير البحرية فساروا إليهم ولقوهم بنواحي أخميم فهزموهم، وفرّ الشريف ناجيا بنفسه. ثم قبض عليه بعد ذلك وقتل، ورجعت العساكر إلى القاهرة، والله تعالى أعلم. مقتل أقطاي الجامدار وفرار البحرية إلى الناصر ورجوع أيبك إلى كرسيه: كان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية وعظمائهم، ويلقب فارس الدين، وكان رديفاً للمعز أيبك في سلطانه وأتابكه. وكان يغض من عنانه عن الطموح إلى الكرسي، وكان يخفض من
جناحه للبحرية يتألفهم بذلك فيميلون له عن أيبك فاعتز في الدولة واستفحل أمره وأخذ من المعز الإسكندرية إقطاعاً، وتصرف في بيت المال. وبعث فخر الدين محمد بن بهاء الدين بن حياء إلى المظفر صاحب حماة في خطبة إبنته فتزوجها، وأطلق يده في العطاء والإقطاع فعم الناس وكثر تابعه. وغص به المعز أيبك، وأجمع قتله فاستدعاه بعض الأيام للقصر للشورى سنة اثنتين وخمسين. وقد أكمن له ثلاثة من مواليه في ممّره بقاعة الأعمدة وهم: قطز وبهادل وسنجر فوثبوا عليه عند مروره بهم وبادروه بالسيوف، وقتلوه لحينه. واتصلت الهيعة بالبحرية فركبوا وطافوا بالقلعة فرمى إليهم برأسه فانفضوا. واستراب أمراؤهم فاجتمع ركن الدين بيبرس البندقداري وسيف الدين قلاون الصالحي، وسيف الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بنسر الشمسي، وسيف الدين بلبان الرشيدي، وسيف الدين تنكر وأخوه سيف الدين موافق، ولحقوا بالشام فيمن إنضم إليهم من البحرية، واختفى من تخلف منهم، واستصفيت أموالهم وذخائرهم. وارتجع ما أخذه أقطاي من بيت المال، ورد ثغر الإسكندرية إلى أعمال السلطان، وإنفرد المعز أيبك بتدبير الدولة، وخلع موسى الأشرف وقطع خطبته وخطب لنفسه. وتزوج شجرة الدر زوجة الصالح التي كانوا ملكوها من قبل. واستخلص علاء الدين أيدغدي العزيزي وجماعة العزيزية، وأقطعه دمياط. ولما وصل البحرية وأمراؤهم إلى غزة كاتبوا الناصر يسأذنونه في القدوم، وساروا إليه فاحتفل في مبرتهم، وأغروه بملك مصر فأجابهم وجهز العساكر. وكتب المعز فيهم إلى الناصر، وطلبوا منه القدس والبلاد الساحلية فأقطعها لهم. ثم سار الناصر إلى الغور وبرز إلى القاهرة في العزيزية ومن إليهم، ونزل العباسية وتواقف الفريقان مدة. ثم اصطلحوا ورجع كل إلى بلده سنة أربع وخمسين وبعث أيبك رسوله إلى المستعصم بطاعته وطلب الألوية والتقليد. ولما رجع إلى مصر قبض على علاء الدين أيدغدي لإسترابته به، وأعاد دمياط إلى أعمال السلطان، واتصلت أحواله إلى أن هلك في الدولة، والله تعالى أعلم.
فرار الافرم إلى الناصر بدمشق: كان عز الدين أيبك الأفرم الصالحي والياً على قوص واخميم وأعمالها فقوي أمره، وهم بالإستبداد وأراد المعز عزله فامتنع عليه، فبعث بعض الخوارزمية مداداً له. ودس إليهم الفتك به. فلما وصلوا إليه استخدمهم وخلطهم بنفسه فاغتالوه وقبضوا عليه وتراموا اليه للحين فبطشوا بهم وقتلوهم وخلعوه. ثم عزله بعد ذلك عز الدين الصيمري عن خدمته واستدعاه إلى مصر فأقام عنده ثم بعثه مع أقطاي إلى الصعيد وحضر ومعه الشريف أبو ثعلب والعرب كما مرّ
وعاد أقطاي إلى مكانه من الدولة وأوعز المعز أيبك إلى الأفرم بالمقام لتمهيد بلاد الصعيد وأن يكون الصيمري في خدمته وبلغه وهو هناك أن المعز عدا على أقطاي وقتله وأن أصحابه البحرية فروا إلى الشام فاستوحش وأظهر العصيان واستدعى الشريف أبا ثعلب وتظاهر معه على الفساد وجمعوا الأعراب من كل ناحية ثم بعث المعز سنة ثلاث وخمسين شمس الدين اليرلي في العساكر فهزمهم. واعتقل الشريف فلم يزل في محبسه إلى أن قتله الظاهر. ونجا الأفرم في فل من مواليه إلى الواحات. ثم اعتزم على قصد الشام فرجع إلى الصعيد مع جماعة من أعراب جذام مروا به على السويس والطور، ورجع عنه مواليه إلى مصر. ولما انتهى إلى غزة تولع به الناصر فأذنه بالقدوم عليه بدمشق وركب يوم وصوله فتلقاه بالكسوة وأعطاه خمسة آلاف دينار. ولم يزل عنده بدمشق إلى أن هرب البحرية من الكرك إلى مصر كما يذكر فخشي أن يأخذه الناصر وكاتب الأتابك قطز بمصر، وسار إليه فقبله أوّلا. ثم قبض عليه بعد ذلك واعتقله بالإسكندرية. وكان الصيمري قد بقي بعد الأفرم في ولاية الصعيد، واستفحل فيه فسولت له نفسه الإستبداد ولم يتم له فهرب إلى الناصر سنة أربع وخمسين إنتهى، والله تعالى أعلم. مقتل المعز أيبك وولاية إبنه علي المنصور: كان المعز أيبك عندما استفحل أمره ومهد سلطانه ودفع الأعداء عن حوزته طمحت نفسه إلى مظاهرة المنصور صاحب حماة، و لؤلؤ صاحب الموصل ليصل يده بهما، وأرسل إليهما في الخطبة. وأثار ذلك غيرة من زوجته شجرة الدر وأغرت به جماعة من الخصيان منهم محسن الخزري، وخصى العزيزي، ويقال سنجر الخادمان فبيتوه في الحمام بقصره وقتلوه سنة خمس وخمسين لثلاث سنين من ولايته. وسمع مواليه الناعية من جوف الليل فجاؤا مع سيف الدين قطز وسنجر الغتمي وبهادر فدخلوا القصر وقبضوا على الجوجري فقتلوه، وفرّ سنجر العزيزي إلى الشام، وهموا بقتل شجرة الدر. وقام الموالي الصالحية دونها فاعتقلوها ونصبوا للملك علي بن المعز أيبك ولقبوه المنصور، وكان أتابكه علم الدين سنجر الحلي واشتمل موالي المعز على إبنه المنصور فكبسوا علم الدين سنجر واعتقلوه وولوا مكانه أقطاي المعزي الصالحي مولى العزيز على الدولة في نقضها وإبرمها سنة ست وخمسين. وأغرته أم المنصور بالصاحب شرف الدين الغازي لأن المعز كان يستودعه سراياه عنده فاستصفاه وقتله. وفي هذه السنة توفي زهير بن
علي المهلي، وكان يكتب عن الصالح ويلازمه في سجنه بالكرك، ثم صحبه إلى مصر، والله تعالى أعلم.
نهوض البحرية بالمغيث صاحب الكرك وإنهزامه: قد ذكرنا فرار البحرية إلى الناصر ونهوضهم به إلى مصر، وخروج أيبك إلى العباسة وما كان بينهما من الصلح. فلما إنعقد الصلح ورجع الناصر إلى دمشق، ورجعوا عنه إلى قلعة ، ولم يرضوا الصلح فاستراب بهم الناصر وصرفهم عنه فلحقوا بغزة ونابلس. وبعثوا إلى المغيث صاحب الكرك بطاعتهم فأرسل الناصر عساكره للإقاع بهم فهزموهم فسار إليهم بنفسه فهزموه إلى البلقاء ولحقوا بالكرك، وأطمعوا المغيث في مصر واستمدوه لها فأمدهم بعسكره، وقصدوا مصر وكبراؤهم: بيبرس البندقداري وقلاوون الصالحي وبليان الرشيدي. وبرز الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر إلى الصالحية فهزمهم، وقتل بلغار الأشرف وأسر قلاوون الصالحي وبليان الرشيدي. وأطلق قلاوون الصالحي بعد أيام في كفالة أستاذ الدار فاختفى، ثم لحق بأصحابه واستحثوا المغيث إلى مصر فنهض في عساكره سنة ست وخمسين ونزل الصالحية، وقدم إليه عز الدين الرومي والكافوري والهواشر ممن كان يكاتبه من أمراء مصر. وبرز سيف الدين قطز في عساكر مصر والتقى الجمعان فانهزم المغيث ولحق في الفل بالكرك. وفرت البحرية إلى الغور فوجدوا هنالك أحياء من الأكراد فروا من جبال شهرزور أمام التتر فاجتمعوا بهم، والتحموا بالصهر معهم، وخشي الناصر غائلة اجتماعهم فجهز العساكر من دمشق إليهم والتقوا بالغور فانهزمت عساكره فتجهز ثانياً بنفسه، وسار إليهم فخاموا عن لقائه وافترقوا فلحق الأكراد بمصر، واعترضهم التركمان في طريقهم بالعريش فأوقعوا بهم وخلصوا إلى مصر. ولحق البحرية بالكرك مع عسكر المغيث ووعدهم بالنصر، وأرسل إليه من دمشق في إسلامهم إليه. وتوعده أنفسهم وإضطربوا ففر بيبرس وقلاوون إلى الصحراء وأقاموا بها. ثم لحقوا بمصر وأكرمهم الأتابك قطز وأقطعهم وأقاموا عنده. ولما فر بيبرس وقلاوون من المغيث قبض على بقية أمراء البحرية سنقر الأشقر وشكروبرانق، وبعث بهم إلى
الناصر فحبسهم بقلعة حلب إلى أن استولى التتر عليها. ونقلهم هلاكو إلى بلاده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلع المنصور علي بن أيبك واستبداد قطر بالملك: ثم كان ما ذكرناه ونذكره من زحف هلاكو إلى بغداد واستيلائه عليها، وما بعدها إلى الفرات وفتحه ميافارقين وإربل، ومسير لؤلؤ صاحب الموصل إليه ودخوله في طاعته. ووفادة ابن الناصر صاحب دمشق إليه رسولاً عن أبيه بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة والعذر عن الوصول بنفسه، خوفاً على سواحل الشام من الإفرنج فارتاب الأمراء بشأنهم، واستصغروا سلطانهم المنصور علي بن المعز أيبك عن مدافعة هذا العدو لعدم ممارسته للحروب، وقلة دربته بالوقاع. واتفقوا على البيعة لسيف الدين قطز المعزي وكان معروفاً بالصرامة والإقدام فبايعوا له وأجلسوه على الكرسي سنة ست وخمسين، ولقبوه المظفر. وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته، وحبسوه وأخويه بدمياط. ثم غربهما الظاهر بعد ذلك إلى القسطنطينية. وكان المتولون لذلك الصالحية والعزيزية ومن يرجع إلى قطز من المعزية. وكان بهادر وسنجر الغتمي غائبين فلما قدما استراب بهما قطز، وخشي من نكيرهما ومزاحمتهما فقبض عليهما وحبسهما. وأخذ في تمهيد الدولة فاستوثقت له. وكان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية، يقال أنه ابن أخت خوارزم شاه وإسمه محمود بن مودود، أسره التتر عند الحادثة عليهم وبيع واشتراه ابن الزعيم. حكاه النووي عن جماعة من المؤرخين، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. استيلاء التتر على الشام وانقراض امر بني ايوب ثم مسير قطز بالعساكر وإرتجاعه الشام من أيدي التتر وهزيمتهم وحصول الشام في ملك الترك: ثم عبر هلاكو الفرات سنة ثمان وخمسين، وفرّ الناصر وأخوه الظاهر إلى التيه ولحق بمصر المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر. وملك هلاكو بلاد الشام واحدة واحدة، وهدم أسوارها وولي عليها وأطلق المعتقلين من البحرية بحلب مثل: سنقر الأشقر وشكر وبرانق واستخدمهم. ثم قفل إلى العراق لإختلاف بين إخوته، واستخلف على
الشام كتبغا من أكبر أمرائه في إثني عشر ألفاً من العساكر، وتقدم إليه بمطالعة الأشرف إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد أن ولاه على مدينة دمشق وسائر مدن الشام. واحتمل معه الناصر وابنه العزيز بعد أن استشاره في تجهيز العساكر بالشام لمدافعة أهل مصر عنها، فهون عليه الأمر وقللهم في عينه نجهز كتبغا ومن معه. ولما فصل سار كتبغا إلى قلعة دمشق وهي ممتنعة بعد فحاصرها وافتتحها عنوة، وقتل نائبها بدر الدين بربدك، وخيم بمرج دمشق. وجاءه من ملوك الإفرنج بالساحل. ووفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فرده إلى عمله، وأوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله ورده إلى أبيه، واجتمعت عساكر مصر واحتشد المظفر العرب والتركمان وبعث إليهم بالعطايا وأزاح العلل، وبعث كتبغا إلى المظفر قطز بأن يقيم طاعة هلاكو بمصر فضرب أعناق الرسل، ونهض إلى الشام مصمماً للقاء العدو، ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل. وزحف كتبغا وعساكر التتر ومعه الأشرف صاحب حمص، والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل. وبعث اليهما قطز يستميلهما فوعده الأشرف بالإنهزام يوم اللقاء، وأساء العزيز الرد على رسوله وأوقع به، والتقى الفريقان بالغور على عين جالوت وتحيز الأشرف عندما تناشبوا فانهزم التتر، وقتل أميرهم كتبغا في المعركة. وجيء بالسعيد صاحب الضبينة أسيراً فوبخه ثم قتله وجيء بالعزيز بن المغيث وأسر يومئذ الذي ملك مصر بعد ذلك. ولقي العادل بيبرس المنهزمين في عسكر من الترك فأثخن فيهم وإنتهى إلى حمص فلقي مدداً من التتر جاء لكتبغا فاستأصلهم ورجع إليه الأشرف صاحب حمص من عسكر التتر فأقره على بلده، وبعث المنصور على بلده حماة وأقره عليها، ورد إليه المعرة وانتزع منه سلمية فأقطعها لأمير العرب مهنا بن مانع بن جديلة. وسار إلى دمشق فهرب من كان بها من التتر وقتل من وجد بها من بقاياهم. ورتب العساكر في البلاد، وولى على دمشق علم الدين سنجر الحلي الصالحي، وهو الذي كان أتابك علي بن أيبك ونجم الدين أبا الهيجاء ابن خشترين الكردى. وولى على حلب السعيد، ويقال المظفر علاء الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل. وكان وصل إلى الناصر بمصر هارباً أمام التتر وسار معه فلما دخل الناصر منها لحق هو بمصر، وأحسن إليه قطز. ثم ولاه الناصر على حلب الآن ليتوصل إلى أخبار التتر من أخيه الصالح بالموصل. وولى على نابلس وغزة والسواح شمس الدين دانشير اليرلي من أمراء العزيز محمد، وهو أبو الناصر، وكان هرب منه عند نهوضه إلى مصر في جماعة من العزيزية ولحق بأتابك. ثم إرتاب بهم وقبض على بعضهم، ورجع اليرلي في الباقين إلى الناصر فاعتقله بقلعة حلب حتى سار إلى التتر. فلما دخل إليها سار اليرلي مع العساكر إلى مصر فأكرمه المظفر، وولاه الآن على السواحل وغزة وأقام المظفر بدمشق عشرين ليلة، وأقبل إلى مصر. ولما بلغ إلى هلاكو ما وقع بقومه في الشام واستيلاء الترك عليه، إتهم صاحب دمشق بأنه خدعه في إشارته وقتله كما مرّ وانقرض ملك بني أيوب من الشام أجمع، وصار لملوك مصر من الترك. والله يرث الأرض من عليها وهو خير الوارثين.
مقتل المظفر وولاية الظاهر بيبرس: كان البحرية من حين مقتل أميرهم أقطاي الجامدار يتحينون لأخذ ثأره، وكان قطز هو الذي تولى قتله فكان مستريباً بهم. ولما سار إلى التتر ذهل كل منهم عن شأنه. وجاء البحرية من القفر هاربين من المغيث صاحب الكرك فوثقوا لأنفسهم من السلطان قطز أحوج ما كان إلى أمثالهم من المدافعة عن الإسلام وأهله فأمنه واشتمل عليهم، وشهدوا معه واقعة التتر على عين جالوت، وأبلغوا فيها والمقدمون فيهم يومئذ: بيبرس البندقداري وأنز الأصبهاني وبليان الرشيدي وبكتون الجوكنداري وبندوغار التركي. فلما إنهزم التتر من الشام واستولوا عاليه، وحسر ذلك المد، وأفرج عن الخائفين الروع عاد هؤلاء البحرية إلى ديدنهم من الترصد لثأر أقطاي. فلما قفل قطز من دمشق سنة ثمان وخمسين أجمعوا أن يبرزوا به في طريقهم. فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيد، وسارت الرواحل على الطريق فاتبعوه، وتقدم إليه أنز شفيعاً في بعض أصحابه. فشفعه فأهوى يقبل يده فأمسكها. وعلاه بيبرس بالسيف فخر صريعاً لليدين والفم. ورشقه الآخرون بالسهام فقتلوه، وتبادروا إلى المخيم. وقام دون فارس الدين أقطاي على ابن المعز أيبك، وسأل من تولى قتله منكم؟ فقالوا بيبرس فبايع له، وأتبعه أهل المعسكر ولقبوه الظاهر. وبعثوا أيدمر الحلي بالخبر إلى القلعة بمصر فأخذ له البيعة على من هناك. ووصل الظاهر منتصف ذي القعدة من السنة فجلس على كرسيه، واستخلف الناس على طبقاتهم، وكتب إلى الأقطار بذلك. ورتب الوظائف وولى الأمراء. وولى تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الوزارة مع القضاء، واقتدى بآثار أستاذه الصالح نجم الدين. ومبدأ أمر هذا الظاهر بيبرس أنه كان من موالي علاء الدين أيدكين البندقداري مولى الصالح فسخط عليه واعتقله وانتزع ماله ومواليه وكان منهم بيبرس فصيره مع الجامدارية وما زال يترقى في المراتب إلى أن تقدم في الحروب ورياسة المراكب، ثم كان خبره بعد الصالح ما قصصناه إنتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتقاض سنجر الحلي بدمشق ثم أقوش البرلي بحلب: ولما بلغ علم الدين سنجر بدمشق مقتل قطز، وولاية الظاهر بيبرس انتقض ودعا لنفسه وجلس على التخت بدمشق وتلقب المجاهد، وخطب لنفسه وضرب السكة بإسمه، وتمسك المنصور صاحب حماة بدعوة الظاهر. وجاءت عساكر التتر إلى الشام فلما شارفوا البيرة جرد إليهم السعيد بن لؤلؤ من حلب عسكرا فهزمهم التتر وقتلوهم. وإتهم الأمراء العزيزية والناصرية ابن لؤلؤ في ذلك فاعتقله وقدموا عليهم حسام الدين الجو كنداري وأقره الظاهر. وزحف التتر إلى حلب فملكوها، وهرب حسام الدين إلى حماة. ثم زحف إليها التتر فلحق صاحبها المنصور وأخوه علي الأفضل إلى حمص، وبها الأشرف بن شيركوه واجتمعت إليه العزيزية والناصرية وقصدوا التتر سنة تسع وخمسين فهزموهم بعد هزيمتهم ونازلوا حماة. وسار المنصور والأشرف صاحب حمص إلى سنجر الحلي بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه. وسار التتر من حماة إلى أفامية فحاصروها يوماً وعبروا الفرات إلى بلادهم. وبعث بيبرس الظاهر صاحب مصر أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتال سنجر الحلي بدمشق وقاتلهم فهزموه، ولجأ إلى القلعة. ثم خرج منها ليلاً إلى بعلبك، وأتبعوه فقبضوا عليه وبعثوه إلى الظاهر فاعتقله واستقر أيدكين بدمشق، ورجع صاحب حمص وحماة إلى بلديهما. وبعث الظاهر إلى أيدكين بالقبض على بهاء الدين بقري وشمس الدين أقوش اليرلي وغيرهما من العزيزية فقبض على بقري والعزيزية والناصرية مع أقوش اليرلي، وطالبوا صاحب حمص وصاحب حماة في الإنتقاض فلم يجيباهم إلى ذلك. فقال لفخر الدين: اطلب لي الظاهر المقدم معك في خدمتك. وبينما هو يسير لذلك خالفه اليرلي إلى حلب، وثار بها وجمع العرب والتركمان، ونصب للحرب فجاءت العساكر من مصر فقاتلوه وغلبوه عليها. ولحق بالبيرة فملكها واستقر بها حتى إذا جهز الظاهر عساكره سنة ستين إلى حلب مع سنقر الرومي، سار معه صاحب حماة وصاحب حمص للإغارة على أنْطاكِية. ولقيهم اليرلي وأعطاهم طاعته، وأقره الظاهر على البيرة. ثم ارتاب به بعد ذلك واعتقله، ثم علاء الدين أيدكن البندقداري مولى السلطان بدمشق، وولى عليها بيبرس الوزير ورجع، والله ينصر من يشاء من عباده إنتهى.
البيعة للخليفة بمصر ثم مقتله بالحديثة وغانة على يل التتر والبيعة للآخر الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر: لما قتل الخليفة عبد الله المستعصم ببغداد بقي رسم الخلافة الإسلامية عطلاً بأقطار الأرض، والظاهر متشوف إلى تجديده وعمارة دسته. ووصل إلى مصر سنة تسع وخمسين عم المستعصم وهو أبو العباس أحمد بن الظاهر كان بقصورهم ببغداد، وخلص يوم البيعة، وأقام بتردد في الأحياء إلى أن لحق مصر فسرّ الظاهر بقدومه وركب للقائه، ودعا الناس على طبقاتهم إلى أبواب السلطان بالقلعة وأفرد بالمجلس أدبا معه. وحضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز فحكم باتصال نسبه بالشجرة الكريمة بشهادة العرب الواصلين به والخدم الناجعين من قصورهم. ثم بايع له الظاهر والناس على طبقاتهم، وكتب إلى النواحي بأخذ البيعة والخطب على المنابر، ونقش إسمه في السكة، ولقب المستنصر وأشهد هو حينئذ الملأ بتفويض الأمر للظاهر والخروج له عن العهد، وكتب بذلك سجله. وأنشأه فخر الدين بن لقمان كاتب الترسيل. ثم ركب السلطان والناس كافة إلى خيمة بنيت خارج المدينة فقرئ التقليد على الناس، وخلع على أهل المراتب والخواص ونادى السلطان بمظاهرته وإعادته إلى دار خلافته. ثم خطب هذا الخليفة يوم الجمعة وخشع في منبره فأبكى الناس وصلى وانصرفوا إلى منازلهم ؛ ووصل على أثره الصالح إسماعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل، وأخوه إسحاق صاحب الجزيرة، وقد كان أبوهما لؤلؤ استخدم لهلاكو كما مرّ، وأقره على الموصل وما إليها وتوفي سنة سبع وخمسين. وقد ولي ابنه إسماعيل على الموصل، وابنه إسماعيل المجاهد على جزيرة ابن عمر، وابنه السعيد على سنجار. وأقرهم هلاكو على أعمالهم، ولحق السعيد بالناصر صاحب دمشق، وسار معه إلى مصر، وصار مع قطز وولاه حلب كما مر، ثم اعتقل. ثم ارتاب هلاكو بالأخوين فأجفلا ولحقا بمصر، وبالغ الظاهر في إكرامهم وسألوه في إطلاق أخيهم المعتقل فأطلقه، وكتب لهم بالولاية على أعمالهم وأعطاهم الألوية، وشرع في تجهيز الخليفة إلى كرسيه ببغداد فاستخدم له العساكر وأقام الفساطيط والخيام، ورتب له الوظائف، وأزاح علل الجميع. يقال أنفق في تلك النوبة نحوا من ألف ألف دينار. ثم سار من مصر في شوال من السنة إلى دمشق ليبعث من هناك الخليفة وابني لؤلؤ إلى ممالكهم. ووصل إلى دمشق ونزل بالقلعة، وبعث بليان الرشيدي وشمس الدين سنقر إلى الفرات. وصمم الخليفة لقصده وفارقهم. وسار الصالح إسماعيل وأخواه إلى الموصل، وبلغ الخبر إلى هلاكو فجرد العساكر إلى الخليفة وكبسوه بغانة والحديثة فصابرهم قليلاً. ثم
استشهد وبعث العساكر إلى الموصل فحاصروها تسعة أشهر حتى جهدهم الحصار واستسلموا فملكها التتر، وقتلوا الصالح إسماعيل، والظاهر خلال مقيم بدمشق.
وقد وفد عليه بنو أيوب من نواحي الشام وأعطوه طاعتهم: المنصور صاحب حماة، والأشرف صاحب حمص فأكرم وصلهما وولاهما على أعمالهما وأذن لهما في إتخاذ الآلة وبسط حكمهما على بلاد الإسماعيلية. وإلى المنصور تل باشر الذي اعتاضه عن حمص لما أخذها منه الناصر صاحب حلب. ووفد على الظاهر أيضاً بدمشق الزاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص، وصاحب بعلبك والمنصور والسعيد ابنا الصالح إسماعيل بن العادل، والأمجد بن الناصر داود الأشرف بن مسعود، والظاهر بن المعظم فأكرم وفادتهم وقابل بالإحسان والقبول طاعتهم، وفرض لهم الأرزاق وقرر الجرايات. ثم قفل إلى مصر وأفرج عن العزيز بن المغيث الذي كان اعتقله قطز وأطلقه يوم الموقعة بالكرك. وولى على أحياء العرب بالشام عيسى بن مهنا بن مانع بن جريلة من رجالاتهم، ووفر لهم الإقطاع على حفظ السابلة إلى حدود العراق، ورجع إلى مصر فقدم عليه رجل من عقب المسترشد من خلفاء بني العباس ببغداد إسمه أحمد، فأثبت نسبه ابن بنت الأعز كالأول. وجمع الظاهر الناس على مراتبهم وبايع له وفوض إليه هو الأمور وخرج إليه عن التدبير. وكانت هذه البيعة سنة ستين ونسبه عند العباسيين في أدراج نسبهم الثابت أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد ابن الإمام المسترشد. وعند نسابة مصر أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القتبي ابن الأمير حسن ابن الإمام الراشد ابن الإمام المسترشد. هكذا قال صاحب حماة في تاريخه وهو الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر لهذا العهد إنتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم. فرار التركمان من الشام إلى بلاد الروم: كان التركمان عند دخول التتر إلى بلاد الشام كلهم قد أجفلوا إلى الساحل، واجتمعت أحياؤهم بالجوكان قريباً من صفد. وكان الظاهر لما نهض إلى الشام اعترضه رسل الإفرنج من يافا وبيروت وصفد يسألونه في الصلح على ما كان لعهد صلاح الدين، فأجابهم وكتب به إلى الأنبردور ملكهم ببلاد إفرنسة وراء البحر فكانوا في ذمه من الظاهر وعهد. ووقعت بين الإفرنج بصفد وبين أحياء التركمان واقعة يقال أغار فيها أهل صفد عليهم فأوقع بهم التركمان، وأسروا عدة من رؤسائهم وفادوهم بالمال. ثم خشوا عاقبة ذلك من الظاهر فارتحلوا إلى بلاد الروم وأقفر الشام منهم. والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
انتقاض الأشرفية والعزيزية واستيلاء اليرلي على البيرة:
كان هؤلاء العزيزية والأشرفية من أعظم جموع هؤلاء الموالي وكان مقدم الأشرفية
بهاء الدين بقري، ومقدم العزيزية شمس الدين أقوش، وكان المظفر قطز قد أقطعه نابلس وغزة وسواحل الشام. ولما ولي الظاهر إنتقض عليه سنجر الحلي بدمشق وجهز أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتاله. وكان الأشرفية والعزيزية بحلب وقد انتقضوا على نائبها السعيد بن لؤلؤ كما مر فتقدم البندقدارب باستدعائهم معه إلى دمشق. ثم أضاف الظاهر بيسان لليرلي زيادة على ما بيده فسار وملك دمشق. ثم أوعز الظاهر إلى البندقداري بالقبض على العزيزية والأشرفية. فلم يتمكن إلا من بقري مقدم الأشرفية، وفارقه الباقون وانتقضوا. واستولى شرف الدين اليرلي على البيرة، وأقام بها وشن الغارات على التتر شرقي الفرات فنال منهم. ثم جهز الظاهر عساكره إليه مع جمال الدين بامو الحموي فهزمهم وأطلقهم وأقام الظاهر على استمالته بالترغيب والترهيب حتى جنح إلى الطاعة، واستأذن في القدوم، وسار بكباس الفخري للقائه فلقيه بدمشق سنة إحدى وستين، ثم وصل فأوسعه السلطان يداً وعطاءً والواصلين معه على مراتبهم وإختصه بمراكبته ومشورته، وسأله النزول عن البيرة فنزل عنها فقبلها الظاهر وأعاضه عنها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء الظاهر على الكرك من يد المغيث
وعلى حمص بعد وفاة صاحبها:
لما قفل السلطان من الشام سنة ستين كما قدمناه جرد عسكراً إلى الشويك مع بدر الدين أيدمري فملكها، وولى عليها بدر الدين بليان الخصي ورجع إلى مصر. وكان عند المغيث بالكرك جماعة من الأكراد الذين أجفلوا من شهرزور أمام التتر إلى الشام، وكان قد اتخذهم جنداً لعسكرته فسرحهم للإغارة على الشويك ونواحيه فاعتزم السلطان على الحركة إلى الكرك مخافة المغيث. وبعث بالطاعة واستأمن من الأكراد فقبلهم الظاهر وأمن الأكراد فوصلوا إليه. ثم سار سنة إحدى وستين إلى الكرك، واستخلف على مصر سنجر الحلي، واستخلف على غزة فلقي هنالك أم المغيث تستعطفه وتستأمن منه لحضور ابنها فأجابها، وسار إلى بيسان فسار المغيث للقائه. فلما وصل قبض عليه، وبعثه من حينه إلى القاهرة مع أقسنقر الفارقاني، وقتل بعد ذلك بمصر. وولى على الكرك عز الدين أيدمر وأرسل نور الدين بيسري الشمسي ليؤمن أهل الكرك
ويرتب الأمور بها. وأقام بالطور في انتظاره فأبلغ بيسري القصد من ذلك. ورجع إليه فإرتحل إلى القدس وأمر بعمارة مسجده، ورجع إلى مصر. وبلغه وفاة صاحب حمص موسى الأشرف بن إبراهيم المنصور شيركوه المجاهد بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، وكانت وراثة له من آبائه، أقطعه نور الدين العادل لجده أسد الدين، ولم تزل بأيديهم وأخذها الناصر يوسف صاحب حلب سنة ست وأربعين وعوضه عنها تل باشر وأعادها عليه هلاكو، وأقره الظاهر. ثم توفي سنة إحدى وستين، وصارت للظاهر ؛ وانقرض منها ملك بني أيوب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هزيمة التتر على البيرة وفتح قيسارية وارسوف بعدها: ثم رجعت عساكر التتر إلى البيرة مع ردمانة من أمراء المغل سنة ثلاث وستين فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق، فجهز السلطان العساكر مع لوغان من أمراء الترك فساروا في ربيع من السنة، وسار السلطان في أثرهم وانتهى إلى غزة. ولما وصلت العساكر إلى البيرة وأشرفوا عليها والعدو يحاصرها أجفلها عساكر التتر وساروا منهزمين، وخلفوا سوادهم وأثقالهم فنهبتها العساكر. وارتحل السلطان من غزة وقصد قيسارية وهي للإفرنج فنزل عليها عاشر جمادى من السنة فنصب المجانيق ودعا أهلها للحرب واقتحمها عليهم فهربوا إلى القلعة فحاصرها خمسا وملكها عنوة، وفر الإفرنج منها. ثم رحل في خف من العساكر إلى عملها فشّن عليها الغارة، وسرح عسكرا إلى حيفا فملكها عنوة. وخربوها وقلعتها في يوم أو بعض يوم. ثم ارتحل إلى ارسوف فنازلها مستهل جمادى الأخيرة فحاصرها وفتحها عنوة، وأسر الإفرنج الذين بها، وبعث بهم إلى الكرك. وقسم أسوارها على الأمراء فرموها، وعمد إلى ما ملك في هذه الغزاة من القرى والضياع والأرضين فقسمها على الأمراء الذين كانوا معه، وكانوا إثنين وخمسين، وكتب لهم بذلك وقفل إلى مصر. وبلغه الخبر بوفاة هلاكو ملك التتر في ربيع من السنة وولاية ابنه أبغا مكانه، وما وقع بينه وبين بركه صاحب الشمال من الفتنة. ولأول دخوله لمصر قبض على شمس الدين سنقر الرومي وحبسه، وكانت الفتنة قبل غزاته بين عيسى بن مهنا، ولحق زامل بعد ذلك بهلاكو. ثم استأمن إلى الظاهر فأمنه وعاد إلى احيائه، والله تعالى أعلم. غزو طرابلس وفتح صفد: كانت طرابلس للإفرنج وبها سمند بن البرنس الأشتر، وله معها أنْطاكِية. وبلغ السلطان أنه قد
تجهز للقتال فلقيه النائب بها علم الدين سنجر الباشقر وانهزم المسلمون واستشهد كثير منهم فتجهز السلطان للغزو، وسار من مصر في شعبان سنة أربع وستين وترك ابنه السعيد عليا بالقلعة في كفالة عز الدين أيدمر الحلي. وقد كان عهد لابنه السعيد بالملك سنة اثنتين وستين. ولما انتهى إلى غزة بعث العساكر صحبة سيف الدين قلاون ايدغدي العزيزي فنازل القليعات وحلب وعرقا من حصون طرابلس، فاستأمنوا إليه. وزحفت العساكر وسار السلطان إلى صفد فحاصرها عشرا، ثم اقتحمها عليهم في عشرن من رمضان السنة، وجمع الإفرنج الذين بها فاستلحمهم أجمعين، وأنزل بها الحامية وفرض أرزاقهم في ديوان العطاء، ورجع إلى دمشق، والله تعالى أعلم.
مسير العساكر لغزو الارمن: هؤلاء الأرمن من ولد أخي إبراهيم عليه السلام من بني قوميل بن ناحور، وناحور بن تارح وعبر عنه في التنزيل بآزر. وناحور أخو إبراهيم عليه السلام. ويقال أن الكرج إخوة الأرمن، وأرمينية منسوبة إليهم. وآخر مواطنهم الدروب المجاورة لحلب، وقاعدتها سيس، ويلقب ملكهم التكفور. وكان ملكهم صاحب هذه الدروب لعهد الملك الكامل وصلاح الدين من بعده اسمه قليج بن اليون. واستنجد به العادل وأقطع له، وكان يعسكر معه. وصالحه صلاح الدين على بلاده. ثم كان ملكهم لعهد هلاكو والتتر هيثوم بن قسطنطين، ولعله من أعقاب قليج أو قرابته. ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته فأقره على سلطانه ثم أمره بالإغارة على بلاد الشام وأمده صاحب بلاد الروم من التتر. وسار سنة اثنتين وستين ومعه بنو كلاب أعراب حلب. وانتهوا إلى سيس، وجهز الظاهر عساكر حماة وحمص فساروا إليهم وهزموهم ورجعوا إلى بلادهم. فلما رجع السلطان من غزاة طرابلس سنة أربع وستين سرح العساكر لغزو سيس وبلاد الأرمن وعليهم سيف الدين قلاون والمنصور صاحب حماة فساروا لذلك. وكان هيثوم ملكهم قد ترهب ونصب للملك ابنه كيقومن فجمع كيقومن الأرمن وسار للقائهم ومعه أخوه وعمه. وأوقع بهم المسلمون قتلا وأسرا وقتل أخوه وعمه في جماعة من الأرمن. واكتسحت عساكر المسلمين بلادهم واقتحموا مدينة سيس وخربوها، ورجعوا وقد امتلأت أيديهم بالغنائم والسبي، وتلقاهم الظاهر من دمشق عند قارا. فلما رآهم ازداد سرورا بما حصل لهم، وشكا إليه هنالك الرعية ما لحقهم من عدوان الأحياء الرحالة، وانهم ينهبون موجودهم ويبيعون ما يتخطفونه منهم من الإفرنج بعكا فأمر باستباحتهم
وأصبحوا نهبا في أيدي العساكر بين القتل والأسر والسبي. ثم سار إلى مصر وأطلق كيقومن ملك الأرمن وصالحه على بلده. ولم يزل مقيما إلى أن بعث أبوه في فدائه وبذل فيه الأموال والقلاع فأبى الظاهر من ذلك، وشرط عليه خلاص الأمراء الذين أخذهم هلاكو من سجن حلب وهم: سنقر الأشقر وأصحابه. فبعث فيهم تكفور إلى هلاكو فبعث بهم إليه، وبعث الظاهر بابنه منتصف شوال وتسلم القلاع التي بذلت في فدائه، وكانت من أعظم القلاع وأحصنها منها: مرزبان ورعبان. وقدم سنقر الأشقر على الظاهر بدمشق، وأصبح معه في المواكب، ولم يكن أحد علم بأمره. وأعظم إليه السلطان النعمة ورفع الرتبة ورعى له السابقة والصحبة. وتوفي هيثوم سنة ستين بعدها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مسير الظاهر لغزو حصون الإفرنج بالشام وفتح يافا والشقيف ثم أنْطاكِية: كان الظاهر عندما رجع من غزاة طرابلس إلى مصر أمر بتجديد الجامع الأزهر وإقامة الخطبة به، وكان معطلا منها منذ مائة سنة، وهو أول مسجد أسسه الشيعة بالقاهرة حين اختطوها ثم خرج إلى دمشق لخبر بلغه عن التتر ولم يثبت فسار من هنالك إلى صفد، وكان أمر عند مسيره بعمارتهما، وبلغه إغارة أهل الشقيف على الثغور فقصدها وشن الغارة على عكا، واكتسح بسائطها حتى سأل الإفرنج منه الصلح على ما يرضيه فشرط المقاسمة في صيدا، أو هدم الشقيف، وإطلاق تجار من المسلمين كانوا أسروهم ودية بعض القتلى الذين أصابوا دمه. وعقد الصلح لعشر سنين ولم يوفوا بما شرط عليهم فنهض لغزوهم، ونزل فلسطين في جمادى سنة ست وستين، وسرح العساكر لحصار الشقيف. ثم بلغه مهلك صاحب يافا من الإفرنج، وملك ابنه مكانه. وجاءت رسله إليه في طلب الموادعة فحبسهم وصبح البلد فاقتحمها ولجأ أهلها إلى القلعة فاستنزلهم بالأمان وهدمها. وكان أول من اختط مدينة يافا هذه صنكل من ملوك الإفرنج عندما ملكوا سواحل الشام سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة ثم مدنها وأتم عمارتها ريدا فرنس المأسور على دمياط عندما خلص من حبسه بدار ابن لقمان. ثم رجع إلى حصن الشقيف فحاصره وافتتحه بالأمان، وبث العساكر في نواحي طرابلس فاكتسحوها وخربوا عمرانها وكنائسها. وبادر صاحب طرطوس بطاعة السلطان وبعث إلى العساكر بالميرة وأطلق الأسرى الذين عنده ثلثمائة أو يزيدون. ثم ارتحل السلطان إلى حمص وحماة يريد أنْطاكِية،
وقدم سيف الدين قلاون في العساكر فنازل أنْطاكِية في شعبان فسارالمنصورصاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر.
وكان صاحب أنْطاكِية سمند بن تيمند، وكانت قاعدة ملك الروم قبل الإسلام اختطها انطيخس من ملوك اليونانيين وإليه تنسب ثم صارت للروم وملكها المسلمون عند الفتح. ثم ملكها الإفرنج عندما ساروا إلى ساحل الشام أعوام التسعين والأربعمائة. ثم استطردها صلاح الدين من البرنس ارناط الذي قتله في واقعة حطين كما مر. ثم ارتجعها الإفرنج بعد ذلك على يد البرنس الأشتر وأظنه صنكل. ثم صارت لابنه تيمند، ثم لابنه سمند. وكان عندما حاصرها الظاهر بطرابلس وكان بها كنداصطبل عم يغمور ملك الأرمن أفلت من الواقعة عليه بالذرابند، واستقر بأنْطاكِية عند سمند فخرج في جموعه لقتال الظاهر فانهزم أصحابه. وأسر كنداصطبل على أن يحمل أهل أنْطاكِية على الطاعة فلم يوافقوه. ثم جهدهم الحصار واقتحمها المسلمون عنوة وأثخنوا فيهم، ونجا فلهم إلى القلعة فاستنزلوا على الأمان. وكتب الظاهر إلى ملكهم سمند وهو بطرابلس وأطلق كنداصطبل وأقاربه إلى ملكهم هيثوم بسيس. ثم جمع الغنائم وقسمها وخرب قلعة أنْطاكِية وأضرمها ناراً . واستأمن صاحب بغراس فبعث إليه سنقر الفارقي أستاذ داره فملكها، وأرسل صاحب عكا إلى الظاهر في الصلح وهو ابن أخت صاحب قبرس فعقد له السلطان الصلح لعشر سنين. ثم عاد إلى مصر فله خلها ثالث أيام التشريق من السنة، والله تعالى أعلم.
الصلح مع التتر:
ثم نهض السلطان من مصر سنة سبع وستين لغزو الإفرنج بسواحل الشام، وخلف
على مصر عز الدين ايدمر الحلي مع ابنه السعيد ولي عهده،، وانتهى إلى ارسوف فبلغه أن رسلاً جاؤا من عند أبغا بن هلاكو، ومروا نقفور ملك الروم فبعث بهم إلى ، فبعث أميرا من حلب لإحضارهم. وقرأ كتاب أبغا بسعي نقفورتكفر في الصلح، ويحتال فيما أذاعه من رسالته فأعاد رسله بجوابهم، وأذن للأمراء في الإنطلاق إلى مصر، ورجع إلى دمشق. ثم سار منها في خف من العسكر إلى القلاع، وبلغه وفاة ايدمر الحلي بمصر فخيم بخربة اللصوص، وأغذ السير إلى مصر متنكرا منتصف شعبان في خف من التركمان. وقد طوى خبره عن معسكره وأوهمهم القعود في
خيمته عليلا، ووصل إلى القلعة ليلة الثلاثاء رابعة سفره فتنكر له الحراس، وطولع مقدم الطواشية فطلب منهم إمارة على صدقهم فأعطوها. ثم دخل فعرفوه، وباكر الميدان يوم الخميس فسر به الناس. ثم قضى حاجة نفسه، وخرج ليلة الإثنين عائدا إلى الشام كما جاء فوصل إلى مخيمه ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان، وفرح الأمراء بقدومه. ثم فرق البعوث في الجهات وأغاروا على صور وملكوا إحدى الضياع وساحوا في بسيط كركو فاكتسحوها، وامتلأت أيديهم بالغنائم ورجعوا والله تعالى أعلم.
استيلاء الظاهر على صهيون: كان صلاح الدين بن أيوب قد أقطعها يوم فتحها وهي سنة أربع وثمانين وخمسمائة لناصر الدين منكبرس، فلم تزل بيده إلى أن هلك وولي فيها بعده ابنه مظفر الدين عثمان، وبعده ابنه سيف الدين بن عثمان. واستبد الترك بمصر، وبعث سيف الدين أخاه عماد الدين سنة ستين بالهدايا إلى الملك الظاهر بيبرس فقبلها وأحسن إليه. ثم مات سيف الدين سنة تسع وستين، وكان أوصى أولاده بالنزول للظاهر عن صهيون فوفد ابناه سابق الدين وفخر الدين على السلطان بمصر فأكرمهما وأقطعهما، وولى سابق الدين منهما أميرا، وولى على صهيون من قبله. ولم يزل كذلك إلى أن غلب عليها سنقر الأشقر عندما انتقض بدمشق أيام المنصور، والله تعالى أعلم. نهوض الظاهر إلى الحج: ثم بلغ الظاهر أن أبا نمي بن أبي سعد بن قتادة غلب عمه ادريس بن قتادة على مكة واستبد بها، وخطب للظاهر فكتب له بالإمارة على مكة. واعتزم على النهوض إلى الحج وتجهز لذلك سنة سبع وستين، وأزاح علل أصحابه. وشيع العساكر مع اقسنقر الفارقاني استاذ داره إلى دمشق. وسار إلى الكرك موريا بالصيد، وانتهى إلى الشويك، ورحل منه لاحدى عشرة ليلة من ذي القعدة ومر بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فأحرم من ميقاتها، وقدم مكة لخمس من ذي الحجة وغسل الكعبة بيده وحمل لها الماء على كتفه، وأباح للمسلمين دخولها، وأقام على بابها يأخذ بأيديهم. ثم قضى حجه ومناسكه، وولى نائبا على مكة شمس الدين مروان، وأحسن إلى الأمير أبي نمي وإلى صاحب ينبع وخليص وسائر شرفاء الحجاز. وكتب إلى صاحب اليمن: إني بمكة، وقد وصلتها في سبع عشرة خطوة. ثم فصل من
مكة ثالث عشر ذي الحجة فوصل المدينة على سبعة أيام، ووصل إلى الكرك منسلخ السنة. ثم وصل دمشق غرة ثمان وستين وسار إلى زيارة القدس وقدم العساكر مع الأمير اقسنقر إلى مصر وعاد من الزيارة فأدركهم بتل العجول، ووصل لقلعة ثالث صفر من السنة، والله تعالى أعلم.
اغارة الإفرنج والتتر على حلب ونهوض السلطان اليهم: كان صمغان من أمراء التتر مقيما ببلاد الروم وأميرا عليها فوقعت المراسلة بينه وبين الإفرنج في الإغارة على بلاد الشام. وجاء صمغان في عسكره لموعدهم فأغار على أحياء العرب بنواحي حلب. وبلغ الخبر إلى الظاهر سنة ثمان وستين، وهو يتصيد بنواحي الإسكندرية فنهض من وقته إلى غزة، ثم إلى دمشق، ورجع التتر على أعقابهم. ثم سار إلى عكا فاكتسح نواحيها وأثخن فيها، وفعل كذلك بحصن الأكراد، ورجع إلى دمشق آخر رجب، ثم إلى مصر ومر بعسقلان فخربها وطمس آثارها. وجاءه الخبر بمصر بأن الفرنسيس لويس بن لويس، وملك انكلترة، وملك اسكوسنا وملك نودل، وملك برشلونة وهو ريدراكون، وجماعة من ملوك الإفرنج جاؤا في الأساطيل إلى صقلية، وشرعوا في الإستكثار من الشواني وآلة الحرب. ولم يعرف وجه مذهبهم فاهتم الظاهر بحفظ الثغور والسواحل، واستكثر من الشواني والمراكب. ئم جاء الخبر الصحيح بأنهم قاصدون تونس فكان من خبرهم ما نذكره في دولة السلطان بها من بني أبي حفص، والله تعالى أعلم. فتح حصن الاكراد وعكا وحصون صور: ثم سار السلطان سنة تسع وستين لغزو بلاد الإفرنج، وسرح ابنه السعيد في العساكر إلى المرقب لنظر الأمير قلاون وبعلبك الخزندار. وسار هو إلى طرابلس فاكتسحوا سائر تلك النواحي وتوافوا لحصن الأكراد عاشر شعبان من السنة فحاصره السلطان عشرا. ثم اقتحمت أرباضه، وانحجر الإفرنج في قلعته، واستأمنوا وخرجوا إلى بلادهم. وملك الظاهر الحصون وكتب إلى صاحب الأسبتار بالفتح وهو بطرطوس، وأجاب بطلب الصلح فعقد له على طرطوس
والمرقب. وارتحل السلطان عن حصن الأكراد بعد أن شحنه بالأقوات والحامية، ونازل حصن عكا واشتد في حصاره. واستأمن أهله إليه وملكه. ثم ارتحل بعد الفطر إلى طرابلس واشتد في قتالها وسأل صاحبها البرنس الصلح فعقد له على ذلك لعشر سنين، ورجع إلى دمشق. ثم خرج آخر شوال إلى العليقة، وملك قلعتها بالأمان على أن يتركوا الأموال والسلاح، واستولى عليه وهدمه، وسار إلى اللجون. وبعث إليه صاحب صور في الصلح على أن ينزل له عن خمس من قلاعه فعقد له الصلح لعشر سنين وملكها. ثم كتب إلى نائبه بمصر أن يجهز عشرة من الشواني إلى قبرس فجهزها ووصلت ليلا إلى قبرس والله أعلم.
استيلاء الظاهر على حصون الإسماعيلية بالشام: كان الإسماعيلية في حصون من الشام قد ملكوها، وهي مصياف والعليقة والكهف والمينفة والقدموس. وكان كبيرهم لعهد الظاهر نجم الدين الشعراني وكان قد جعل له الظاهر ولايتها ثم تأخر عن لقائه في بعض الأوقات فعزله، وولى عليها خادم الدين بن الرضا على أن ينزل له عن حصن مصياف. وأرسل معه العساكر فتسلموه منه. ثم قدم عليه سنة ثمان وستين وهو على حصن الأكراد، وكان نجم الدين الشعراني قد أسن وهرم فاستعتب وأعتبه الظاهر وعطف عليه، وقسم الولاية بينه وبين ابن الرضا، وفرض عليهما مائة وعشرين ألف درهم يحملانها في كل سنة. ولما رجع سنة تسع وستين، وفتح حصن الأكراد مر بحصن العليقة من حصونهم فملكه من يد ابن الرضا منتصف شوال من السنة. وأنزل به حامية. ثم سار لقتال التتر على البيرة كما يذكر، ورجع إلى مصر فوجد الإسماعيلية قد نزلوا على الحصون التي بقيت بأيديهم وسلموها لنواب الظاهر فملكوها. وانتظمت قلاع الإسماعيلية في ملكة الظاهر، وانقرضت منها دعوتهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. حصار التتر البيرة وهزيمتهم عليها: ثم بعث أبغا بن هلاكو العساكر إلى البيرة سنة إحدى وسبعين مع درباري من مقدمي أمرائه فحاصرها ونصب عليها المجانيق، وكان السلطان بدمشق فجمع العساكر من مصر والشام وزحف إلى الفرات، وقد جهز العساكر على قاصيته فتقدم الأمير قلاون وخالط التتر عليها في
مخيمهم فجالوا معه. ثم انهزموا وقتل مقدمهم وخاض السلطان بعساكره بحر الفرات إليهم فأجفلوا وتركوا خيامهم بما فيها. وخرج أهل البيرة فنهبوا سوادهم وأحرقوا آلات الحصار، ووقف السلطان بساحتها قليلا، وخلع على النائب بها... ولحق درباري بسلطانه أبغا مفلولا فسخطه ولم يعتبه والله تعالى وليّ التوفيق.
غزوة سيس وتخريبها: ثم نهض الظاهر من مصر لغزو سيس في شعبان سنة ثلاث وسبعين وانتهى إلى دمشق في رمضان، وسار منها وعلى مقدمته الأمير قلاون وبدر الدين ببليك الخازندار فوصلوا إلى المصيصة وافتتحوها عنوة. وجاء السلطان على أثرهم، وسار بجميع العساكر إلى سيس بعد أن كنف الحامية بالبيرة خوفا عليها من التتر. وبعث حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى أمير العرب بالشام للإغارة على بلاد التتر من ناحيتها. وسار إلى سيس فخربها وبث السرايا في نواحيها فانتهوا إلى بانياس وأذنة، واكتسحوا سائر الجهات، ووصل إلى دربند الروم، وعاد إلى المصيصة في التعبية فأحرقها. ثم انتهى إلى أنْطاكِية فأقام عليها حتى قسم الغنائم. ثم رحل إلى القصر وكان للإفرنج خالصا لتبركهم برومة الذي يسمونه البابا فافتتحه. ولقيه هنالك حسام الدين العنتابي ومهنا بن عيسى راجعين من إغارتهم وراء الفرات. ثم بلغه مهلك البرنس سمند بن تيمند صاحب طرابلس فبعث الظاهر بليان الدوادار ليقرر الصلح مع بنيه فقرره على عشرين ألف دينار وعشرين أسيرا كل سنة، وحضر لذلك صاحب قبرس، وكان جاء معزيا لبني البرنس ورجع الداودار إلى الظاهر فقفل إلى دمشق منتصف ذي الحجة، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. ايقاع الظاهر بالتتر في بلاد الروم ومقتل البرواناة بمد اخلته في ذلك: كان علاء الدين البرواناة متغلبا على غياث الدين كنجسرو صاحب بلاد الروم من بني قليج أرسلان، وقد غلب التتر على جميع ممالك بلاد الروم وأبقوا على كنجسرو اسم الملك في كفالة البرواناة. وأقاموا أميرا من أمرائهم ومعه عسكر التتر حامية بالبلاد ويسمونه بالشحنة، وكان أول
أمير من التتر ببلاد الروم بيكو، وهو الذي افتتحها، وبعده صمغان وبعده توقوو وتداون شريكين في أمرهما لعهد الملك الطاهر. وكان البرواناة يتأفف من التتر لاستطالتهم عليه وسوء ملكهم. ولما استفحل أمر الظاهر بمصر والشام أمل البرواناة الظهور على التتر والكرة لبني قليج أرسلان بممالأة الظاهر فداخله في ذلك وكاتبه. وزحف أبغا ملك التتر إلى البيرة سنة أربع وسبعين، وخرج الظاهر بالعساكر من دمشق، وكاتبه البرواناة يستدعيه. وأقام الظاهر على حمص، وأرسل إليه البرواناة يستحثه للقاء التتر. وعزم أبغا على البرواناة في الوصول فاعتذر، ثم رحل متثاقلا.
وكتب إليه الأمراء بعده بأن الظاهر قد نهض إلى بلاد الروم بوصيته إليه بذلك فبعث إلى أبغا واستمده فأمده بعساكر المغل، وأمره بالرجوع لمدافعة الظاهر واستحثوه للقدوم فسقط في أيديهم، وحيل بينهم وبين مرامهم، ورجع إلى مصر في رجب من السنة وأقام بها حولا. ثم لقي توقوو وتدوان أمير التتر ببلاد الروم وسار إلى الثغور بالشام، وبلغ السلطان خبرهما فسار من مصر في رمضان سنة خمس وسبعين وقصد بلاد الروم، وانتهى إلى النهر الأزرق فبعث شمس الدين سنقر الأشقر فلقي مقدمة التتر فهزمهم. ورجع إلى السلطان وساروا جميعا فلقوا التتر على البلنشين، ومعهم علاء الدين البرواناة في عساكره فهزمهم. وقتل الأمير توقوو وتدوان وفر البرواناة وسلطانه كنجسرو لما كان منفردا عنهم، وأسر كثير من المغل منهم: سلار بن طغرل ومنهم قفجاق وجاورصى. وأسر علاء الدين بن معين الدين البرواناة وقتل كثير منهم. ثم رحل السلطان إلى قيسارية فملكها وأقام عليها ينتظر البرواناة لموعد كان بينهما، وأبطأ عليه وقفل راجعاً ورجع خبر الهزيمة إلى أبغا ملك التتر وأطلع من بعض عيونه على ما كان بين البرواناة والظاهر من المداخلة فتنكر للبروانة، وجاء لوقته حتى وقف على موضع المعركة، وارتاب لكثرة القتلى من المغل. وأن عسكر الروم لم يصب منهم أحد فرجع على بلادهم بالقتل والتخريب والاكتساح، وامتنع كثير من القلاع ثم أمنهم ورجع. وسار معه البرواناه وهمّ بقتله أولاً ، ثم رجع لتخليته لحفظ البلاد فأعول نساء القتلى من المغل عند بابه فرحم بكاءهن، وبعث أميرا من المغل فقتله في بعض الطريق، والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم. وفاة الظاهر وولاية ابنه السعيد: ولما رجع السلطان من واقعته بالتتر على البلستين وقيسارية طرقه المرض في محرم سنة ست وسبعين، وهلك من آخره، وكان ببليك الخزندار مستوليا على دولته فكتم موته ودفنه، ورجع
بالعساكر إلى مصر. فلما وصل القلعة جمع الناس وبايع لبركة ابن الملك الظاهر ولقبه السعيد، وهلك ببليك أثر ذلك فقام بتدبير الدولة استاذ داره شمس الدين الفارقاني، وكان نائب مصر أيام مغيب الظاهر بالشام واستقامت أموره. ثم قبض على شمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسري من أمراء الظاهر بسعاية بطانته الذين جمعهم عليه لأول ولايته، وكانوا من أوغاد الموالي، وكان يرجع إليهم لمساعدتهم له على هواه وصارت شبيبته. ولما قبض على هذين الأميرين نكر ذلك عليه خاله محمد بن بركة خان فاعتقله معهما فاستوحشت أمه لذلك فأطلق الجميع، فارتاب الأمراء وأجمعوا على معاتبته فاستعتب واستحلفوه. ثم أغراه بطانته بشمس الدين الفارقاني مدبر دولته فقبض عليه واعتقله، وهلك لأيام من اعتقاله، وولى مكانه شمس الدين سنقر الألفي، ثم سعى أولئك البطانة به فعزله وولى مكانه سيف الدولة كونك الساقي صهر الأمير سيف الدين قلاون على أخت زوجته بنت كرمون، كان أبوها من أمراء التتر قد خرج إلى الظاهر، واستقر عنده وزوج بنته من الأمير قلاون، وبنته الأخرى من كوزبك. ثم حضر عند السعيد لاشين الربعي من حاشيته وغلب على هراة، واستمال أهل الدولة بقضاء حاجاتهم، واستمر معروفه لهم، واستمر الحال على ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلع السعيد وولاية أخيه شلامش: ولما استقر السعيد بملكه في مصر أجمع المسير إلى الشام للنظر في مصالحه فسار لذلك سنة سبع وسبعين فاستقر بدمشق، وبعث العساكر إلى الجهات. وسار قلاون الصالحي وبدر الدين بيسري إلى سيس، زين له ذلك لاشين الربعي والبطانة الذين معه، وأغروه بالقبض عليهم عند مرجعهم. ثم حدث بين هؤلاء البطانة وبين النائب سيف الدين كونك وحشة، وآسفوه بما يلقون فيه عند السلطان فغضب لذلك. وسارت العساكر فأغاروا على سيس واكتسحوا نواحيها ورجعوا فلقيهم النائب كونك، وأسر إليهم ما أضمر لهم السلطان فخيموا بالمرج وقعدوا. عن لقاء السلطان، وبعثوا إليه بالعذل في بطانته وأن ينصف نائبه منهم فأعرض عنهم ودس لموالي أبيه أن يعاودوهم إليه فأطلعوهم على كتابه فزادهم ضغنا. وصرحوا بالانتقاض فبعث إليهم سنقر الأشقر وسنقر التركيتي استاذ داره بالاستعطاف فردوهما فبعث أمه بنت بركة خان فلم يقبلوها، وارتحلوا إلى القاهرة فوصلوها في محرم سنة ثمان وسبعين، وبالقلعة عز الدين أيبك الافرم الصالحي أمير جندار، وعلاء الدين اقطوان الساقي، وسيف الدين بليان أستاذ داره فضبطوا أبواب القاهرة ومنعوهم من الدخول. وترددت المراسلة بينهم وخرج ايبك الافرم
واقطوان ولاشين التركماني للحديث فتقبضوا عليهم ودخلوا إلى بيوتهم، ثم باكروا القلعة بالحصار ومنعوا عنها الماء. وكان السعيد بعد منصرفهم من دمشق سار في بقية العساكر واستنفر الأعراب وبث العطاء، وانتهى إلى غزة فتفرقت عنه الأعراب واتبعهم الناس. ثم انتهى إلى بلبيس ورأى قلة العساكر فرد عن الشام مع عز الدين ايدمر الظاهري إلى دمشق، والنائب بها يومئذ اقوش فقبض عليه، وبعث به إلى الأمراء بمصر. ولما رحل السعيد من بلبيس إلى القلعة اعتزل عنه سنقر الأشقر. وسار الأمراء في العساكر لاعتراضه دون القلعة، وألقى الله عليه حجابا من الغيوم المتراكمة فلم يهتدوا إلى طريقه، وخلص إلى القلعة وأطلق علم الدين سنجر الحنفي من محبسه ليستعين به ثم اختلف عليه بطانته وفارقه بعضهم فرجع إلى مصانعة الأمراء بأن يترك لهم الشام أجمع فأبوا إلا حبسه فسألهم أن يعطوه الكرك فأجابوه، وحلفهم على الأمان، وحلف لهم أن لا ينتقض عليهم ولا يداخل أحدا من العساكر ولا يستميله فبعثوه من حينه إلى الكرك. وكتبوا إلى النائب بها علاء الدين أيدكز الفخري أن يمكنه منها ففعل واستمر السعيد بالكرك، وقام بدولته أيدكز الفخري، واجتمع الأمراء بمصر وعرضوا الملك على الأمير قلاون، وكان أحق به فلم يقبل وأشار إلى شلامش بن الظاهر وهو ابن ثمان سنين فنصبوه للملك في ربيع سنة ثمان وسبعين، ولقبوه بدر الدين. وولى الأمير قلاون أتابك الجيوش، وبعث مكان جمال الدين اقوش نائب دمشق بتسلمها منه. وسار اقوش إلى حلب نائبا وولى قلاون في الوزارة برهان الحصري السنحاوي. وجمع المماليك الصالحية ووفر إقطاعاتهم، وعمر بهم مراتب الدولة، وأبعد الظاهرية وأودعهم السجون ومنع الفساد. ولم يقطع عنهم رزقا إلى أن بلغ العقاب فيهم أجله فأطلقهم تباعا واستقام أمره، والله تعالى أعلم.
خلع شلامش وولاية المنصور قلاون: أصل هذا السلطان قلاون من القفجاق، ثم من قبيلة منهم يعرفون برج أعلى، وقد مر ذكرهم. وكان مولى لعلاء الدين اقسنقر الكابلي موالي الصالح نجم الدين أيوب. فلما مات علاء الدين صار من موالي الصالح وكان من نفرتهم واستقامتهم ما قدمناه. ثم قدم إلى مصر في دولة المظفر قطز مع الظاهر بيبرس. ولما ملك الظاهر قربه واختصه وأصهر إليه، ثم بايع لابنه السعيد من بعده. ولما استوحش الأمراء من السعيد وخلعوه رغبوا من الأمير قلاون في الولاية عليهم كما قدمناه، ونصب أخاه شلامش بن الظاهر فوافقه الأمراء على ذلك طواعية له. واتصلت رغبتهم في ولايته مدة شهرين حتى أجابهم إلى ذلك فبايعوه في جمادى سنة ثمان وسبعين
فقام بالأمر ورفع كثيرا من المكوس والظلامات. وقسم الوظائف بين الأمراء، وولى جماعة من ممالكيه امرة الألوف وزادهم في الأقطاعات. وأفرج لوقته عن عز الدين أيبك الأفرم الصالحي وولاه نائبا بمصر. ثم استبقاه فأعفاه وولى مملوكه حسام الدين طرنطاي مكانه، ومملوكه علم الدين سنجر السنجاعي رئاسة الدواوين. وأقر الصاحب برهان الدين السنجاري في الوزارة، ثم عزله بفخر الدين إبراهيم بن لقمان. وبعث عز الدين ايدمر الظاهري الذي كان اعتقله جمال الدين اقوش حين رجع بعساكر الشام عن السعيد بن الظاهر من بلبيس، فجيء به مقيداً واعتقله، والله تعالى ولي التوفيق.
انتقاض السعيد بن الظاهر بالكرك ووفاته وولاية أخيه خسرو مكانه: ولما ملك السلطان قلاون شرع السعيد بالكرك، وكاتب الأمراء بمصر والشام في الإنتقاض، وخاطبه السلطان بالعتاب على نقض العهد فلم يستعتب. وبعث عساكره مع حسام الدين لاشين الجامدار إلى الشويك فاستولى عليها فبعث السلطان نور الدين ببليك الأيدمري في العساكر فارتدها في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين. وقارن ذلك وفاة السعيد بالكرك، واجتمع الأمراء الذين بها ومقدمهم نائبه أيدكين الفخري. وقال أيدكين أن نائبه كان أيدغري الحراني فنصبوا أخاه خسرو ولقبوه المسعود نجم الدين، واستولى الموالي على رأيه وأفاضوا المال من غير تقدير ولا حساب، حتى أنفقوا ما كان بالكرك من الذخيرة التي ادخرها الملك الظاهر وبعض أمراء الشام في الخلاف. وبعثوا العساكر فاستولوا على الصليب وحاصروا صرخد فامتنعت، وكاتبوا سنقر الأشقر المتظاهر على الخلاف فبعث السلطان أيبك الأفرم في العساكر لحصار الكرك فحاصرها وضيق عليها. ثم سأل المسعود في الصلح على ما كان الناصر داود بن المعظم فأجابه السلطان قلاون وعقد له ذلك. ثم انتقض ثانية ونزع عنه نائبه علاء الدين ايدغري الحراني، ونزع عنه إلى السلطان فصدق ما نقل عنه من ذلك. ثم بعث السلطان سنة خمس وثمانين نائبه حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك فحاصروها، واستنزل المسعود وأخاه شلامش منها على الأمان وملكها. وجاء بهما إلى السلطان قلاون فأكرمهما وخلطهما بولده إلى أن توفي ففر بهما الأشرف إلى القسطنطينية.
انتقاض سنقر الاشقر بدمشق هزيمته ثم امتناعه بصهيون:
كان شمس الدين سنقر الأشقر لما استقر في نيابة دمشق أجمع الإنتقاض والإستبداد وتسلم القلاع من الظاهرية، وولى فيها وطالب المنصور قلاون دخول الشام بأسرها من العريش إلى الفرات في ولايته، وزعم أنه عاهده على ذلك. وولى السلطان على قلعة دمشق مولاه حسام الدين لاشين الصغير سلحدارا في ذي الحجة سنة ثمان وسبعين فنكر سنقر وانتقض ودعا لنفسه. ثم بلغه خبر قلاون وجلوسه على التخت فدعا الأمراء وأشاع أن قلاون قتل، واستحلفهم على منعته وحبس من امتنع من اليمين وتلقب الكامل، وذلك في ذي الحجة من السنة. وقبض على لاشين نائب القلعة. وجهز سيف الدين إلى الممالك الشامية والقلاع للاستحلاف، وولى في وزارة الشام مجد الدين إسماعيل بن كسيرات وسكن سنقر بالقلعة. ثم بعث السلطان أيبك الأفرم بالعساكر إلى الكرك لما توفي السعيد صاحبها وانتهى إلى غزة، واجتمع إليه ببليك الأيدمري منقلبا من الشويك بعد فتحه فحذرهم سنقر الأشقر، وخاطب الأفرم يتجنى على السلطان بأنه لم يفرده بولاية الشام. وولى في قلعة دمشق وفي حلب وبعث الأفرم بالكتاب إلى السلطان، قلاون فأجابه، وتقدم إلى الأفرم أن يكاتبه بالعزل فيما فعله وارتكبه فلم يرجع عن شأنه، وجمع العساكر من عمالات الشام واحتشد العربان وبعثهم مع قراسنقر المقري إلى غزة فلقيهم الأفرم وأصحابه وهزموهم، وأسروا جماعة من أمرائهم، وبعثوا بهم إلى السلطان قلاوون، فأطلقهم وخلع عليهم ولما وصلت العساكر مفلولة إلى دمشق عسكر سنقر الأشقر بالمرج، وكاتب الأمراء بغزة يستميلهم، وبعث السلطان العساكر بمصر مع علم الدين سنجر لاشين المنصوري وبدر الدين بكتاش الفخري السلحدار فساروا إلى دمشق فلقيهم الأشقر على الجسر بالكسرة فهزموه في صفر سنة تسع وسبعين، وتقدموا إلى دمشق فملكوها وأطلق علم الدين سنجر لاشين المنصوري من الإعتقال وولاه نيابة دمشق. وولى على القلعة سيف الدين سنجار المنصوري وكتب إلى السلطان بالفتح. وسار سنقر إلى الرحبة فامتنع عليه نائبها فسار إلى عيسى بن مهنا، ورجع عنه إلى الفل وكاتبوا أبغا ملك التتر واستحثوه لملك الشام يستميلونه فلم يجب، وبعث إليه العساكر فأجفلوا إلى صهيون وملكها سنقر، وملك معها شيزر. وبعث السلطان لحصار شيزر مع عز الدين الأفرم فحاصرها، وجاءت الأخبار بزحف أبغا ملك التتر إلى الشام في مواعدة سنقر وابن مهنا، واستدعى صغار صاحب
بلاد الروم فيمن معه من المغل، وانه بعث بيدو ابن أخيه طرخان صاحب ماردين وصاحب سيس من ناحية أذربيجان، وجاء هو على طريق الشام في مقدمته أخوه منوكتمر. فلما تواترت الأخبار بذلك أفرج الأفرم عن حصار شيزر، ودعا الأشقر إلى مدافعة عدو المسلمين فأجابه ورفع عن موالاة أبغا. وسار من صهيون للإجتماع بعساكر المسلمين. وجمع السلطان العساكر بمصر وسار إلى الشام واستخلف على مصر ابنه أبا الفتح عليا بعد أن ولاه عهده، وقرأ كتابه بذلك على الناس. وخرج لجمع العساكر في جمادى سنة تسع وسبعين، وانتهى إلى غزة، ووصل التتر إلى حلب، وقد أجفل عنها أهلها وأقفرت منازلها فأضرموا النار في بيوتها ومساجدها. وتولى كبر ذلك صاحب سيس والأرمن، وبلغهم وصول السلطان إلى غزة فأجفلوا راجعين إلى بلادهم، وعاد السلطان إلى مصر بعد أن جرد العساكر إلى حمص وبلاد السواحل بحمايتها من الإفرنج. ورجع سنقر الأشقر إلى صهيون وفارقه كثير من عسكره فلحقوا بالشام وأقام معه سنجر الدوادار وعز الدين أردين والأمراء الذين مكنوه من قلاع الشام عند انتقاضه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير السلطان لحصار المرقب ثم الصلح معهم ومع سنقر الاشقر بصهيون ومع بني الظاهر بالكرك: كان الإفرنج الذين بحصن المرقب عندما بلغهم هجوم التتر على الشام شنوا الغارات في بلاد المسلمين من سائر النواحي، فلما رجع التتر عن الشام استأذه بليان الطباخي صاحب حصن الأكراد في غزوهم، وسار إليهم في حامية الحصون بنواحيه، وجمع التركمان وبلغ حصن المرقب ووقف أسفله، واستطرد له أهل الحصن حتى تورط في أوعار الجبل. ثم هجموا عليه دفعة فانهزم ونالوا من المسلمين، وبلغ الخبر إلى السلطان فخرج من مصر لغزوهم آخر سنة تسع وسبعين. واستخلف ابنه مكانه، وانتهى إلى الروحاء فوصله هنالك رسل الإفرنج في تقرير الهدنة مع أهل المرقب على أن يطلقوا من أسروه من المسلمين في واقعة بليان، فعقد لهم في المحرم سنة ثمانين، وعقد لصاحب بيت الاسبتار وابنه ولصاحب طرابلس سمند بن تيمند، ولصاحب عكا على بلادهم، وعلى قلاع الإسماعيلية وعلى جميع البلاد المستجدة الفتح وما سيفتحه على أن يسكن عمال المسلمين باللاذقية وأن لا يستنجدوا أسير قلعة ولا غيرها، ولا يداخلوا التتر في فتنة ولا يمروا عليهم إلى بلاد المسلمين إن أطاقوا ذلك. وعقد معهم ذلك لإحدى عشرة سنة. وبعث السلطان من أمرائه من يستحلف الإفرنج على ذلك، وبلغه الخبر
بأن جماعة من أمرائه أجمعوا الفتك به، وداخلوا الإفرنج في ذلك وكان كبيرهم كوندك. فلما وصل إلى بيسان قبض عليه وعليهم، وقتلهم واستراب من داخلهم في ذلك ولحقوا بسنقر في صهيون. ودخل السلطان دمشق، وبعث العساكر لحصار شيزر. ثم ترددت الرسل بينه وبين الأشقر في الصلح على أن ينزل عن شيزر ويتعوض عنها بالشعر وبكاس، وعلى أن يقتصر في حامية الحصون التي لقطره على ستمائة من الفرسان فقط، ويطرد عنه الأمراء الذين لحقوا به فتم الصلح على ذلك، وكتب له التقليد بتلك الأعمال. ورجع من عنده سنجر الدوادار فأحسن إليه السلطان، وولى على نيابة شيزر بليان الطباخي. وكان بنو الظاهر بالكرك يسألون السلطان في الصلح بالزيادة على الكرك كما كان السلطان داود. فلما تم الصلح مع سنقر رجعوا إلى القنوع بالكرك. وبعث إليهم السلطان بأقاربهم من القاهرة وأتم لهم العقد على ذلك، وبعث الأمير سلحدار والقاضي تاج الدين بن الأثير لاستحلافهم، والله تعالى أعلم.
واقعة التتر بحمص ومهلك ابغا سلطانهم باثرها: ثم زحف التتر سنة ثمانين إلى الشام من كل ناحية متظاهرين فسار أبغا في عساكر المغل وجموع التتر، وانتهى إلى الرحبة فحاصرها ومعه صاحب ماردين، وقدم أخوه منكوتمر في العساكر إلى الشام. وجاء صاحب الشمال منكوتمر من بني دوشي خان من كرسيهم بصراي مظاهراً لأبغا بن هلاكو على الشام فمر بالقسطنطينية ثم نزل بين قيسارية وتفليس، ثم سار إلى منكوتمر بن هلاكو، وتقدم معه إلى الشام. وخرج السلطان من دمشق في عساكر المسلمين وسابقهم إلى حمص، ولقيه هناك سنقر الأشقر فيمن معه من أمراء الظاهرية. وزحف التتر ومن معهم من عساكر الروم والإفرنج والأرمن والكرج ثمانون ألفا أو يزيدون ؛ والتقى الفريقان على حمص. وجعل السلطان في ميمنته صاحب حماة محمد بن المظفر، ونائب دمشق لاشين السلحدار، وعيسى بن مهنا فيمن إليه من العرب. وفي الميسرة سنقر الأشقر في الظاهرية مع جموع التركمان ومن إليهم جماعة من أمرائه. وفي القلب نائبه حسام الدين طرنطاي، والحاجب ركن الدين أياحي وجمهور العساكر والمماليك. ووقف السلطان تحت الرايات في مواليه وحاشيته. ووقفت عساكر التتر كراديس، وذلك منتصف رجب سنة ثمانين واقتتلوا، ونزل الصبر.
ثم انفضت ميسرة المسلمين واتبعهم التتر، وانفضت ميسرة التتر ورجعوا على ملكهم منكوتمر في القلب فانهزم، ورجع التتر من اتباع ميسرة المسلمين فمروا بالسلطان وهو ثابت في مقامه لم يبرح، ورجع أهل الميرة. ونزل السلطان في خيامه ورحل من الغد في اتباع العدو، وأوعز إلى الحصون التي في ناحية الفرات باعتراضهم على المقابر فعدلوا عنها، وخاضوا الفرات في المجاهل فغرقوا ومر بعضهم ببر سلمية فهلكوا وانتهى الخبر إلى أبغا، وهو على الرحبة فأجفل إلى بغداد. وصرف السلطان العساكر إلى أماكنهم، وسار سنقر الأشقر إلى مكانه بصهيون. وتخلف عنه كثير من الظاهرية عند السلطان، وعاد السلطان إلى دمشق، ثم إلى مصر آخر شعبان من السنة فبلغه الخبر بمهلك منكوتمر بن هلاكو بهمذان ومنكوتمر صاحب الشمال بصراي فكان ذلك تماما للفتح. ثم هلك أبغا بن هلاكو سنة إحدى وثمانين ؛ وكان سبب مهلكه فيما يقال أنه إتهم شمس الدين الجريض وزيره باغتيال أخيه منكوتمر منصرفه من واقعة حمص، فقبض عليه وامتحنه واستصفاه فدس له الجويني من سمه ومات. وكان أبغا اتهم بأخيه أيضا أميراً من المغل كان شحنة بالجزيرة ففر منها وأقام مشركا. وبعث السلطان قلاون بعثا إلى ناحية الموصل للإغارة عليها وانتهوا إلى سنجر فصادفوا هذا الأمير، وجاؤا به إلى السلطان فحبسه. ثم أطلقه وأثبت اسمه في الديوان، وكان يحدث بكثير من أخبار التتر وكتب بعضها عنه. وبعث السلطان في هذه السنة بعوثا أخرى إلى نواحي سيس من بلاد الروم جزاء بما كان من الأرمن في حلب ومساجدها فاكتسحوا تلك النواحي، ولقيهم بعض أمراء التتر بمكان هنالك فهزموه ووصلوا إلى جبال بلغار ورجعوا غانمين. وبعث السلطان شمس الدين قراسنقر المنصوري إلى حلب لإصلاح ما خرب التتر من قلعتها وجامعها فأعاد ذلك إلى أحسن ما كان عليه. ثم أسلم ملوك التتر فبعث أولا بكدار بن هلاكو صاحب العراق بإسلامه، وانه تسمى أحمد وجاءت رسله بذلك إلى السلطان وهم شمس الدين أتابك ومسعود بن كيكاوس صاحب بلاد الروم، وقطب الدين محمود الشيرازي قاضي سيواس وشمس الدين محمد بن الصاحب من حاشية صاحب ماردين، وكان كتابه مؤرخا بجمادى سنة إحدى وثمانين، وحملوا على الكرامة، وأجيب سلطانهم بما يناسبه. ثم وصل رسول قزدان بن طقان المتولي بكرسي الشمال بعد أخيه منكوتمر سنة اثنين وثمانين بخبر ولايته ودخوله في دين الإسلام، ويطلب تقليد الخليفة واللقب منه والراية للجهاد فيمن يليه من الكفار فأسعف بذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء السلطان قلاون على الكرك وعلى صهيون ووفاة صاحب حماة: ثم توفي المنصور محمد بن المظفر صاحب حماة في شوال سنة اثنتين وثمانين، وولى السلطان ابنه المظفر وبعث بالخلع له ولا قاربه. وسار السلطان قلاون إلى الشام في ربيع سنة ثلاث وثمانين لمحاصرة المرقب بما فعلوه من ممالأة العدو فحاصره حتى استأمنوا إليه، وملك الحصن من أيديهم وانتظر وصول سنقر الأشقر من صهيون فلم يصل فرجع إلى مصر. وجهز النائب حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك بما وقع من شلامش وخسرو من الإنتقاض فسار سنة خمس وثمانين وحاصرهم حتى استأمنوا. وجاء بهم إلى السلطان فركب للقائهم وبالغ في إكرامهم ثم ساءت سيرتهم فاستراب بهم واعتقلهم وغربهم إلى القسطنطينية. وولى على الكرك عز الدين المنصوري، وبعده بيبرس الدويدار مؤلف أخبار الترك ثم جهز السلطان ثانيا النائب طرنطاي بالعساكر لحصار سنقر الأشقر بصهيون لانتقاضه وإغارته على بلاد السلطان فسار لذلك سنة ست وثمانين، وحاصره حتى استأمن هو ومن معه. وجاء به إلى السلطان وأنزله بالقلعة، ولم يزل عنده إلى أن هلك السلطان فقبض عليه، وتولى ابنه الأشرف من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى. وفاة ميخاييل ملك القسطنطينية: قد تقدم لنا كيف تغلب الإفرنج على القسطنطينية من يد الروم سنة ستمائة، وكان ميخاييل هذا من بطارقتهم، أقام في بعض الحصون بنواحيها فلما أمكنته الفرصة بيتها وقتل من كان بها من الإفرنج، وفر الباقون في مراكبهم. واجتمع الروم إلى ميخاييل هذا وملكوه عليهم، وقتل الملك الذي قبله. وكان بينه وبين صاحب مصر والناصر قلاون من بعده اتصال ومهاداة، ونزل بنو الظاهر عليه عندما غربوا من مصر. ثم مات ميخاييل سنة إحدى وثمانين، وولى ابنه ماندر ويلقب الراونس، وميخاييل هذا يعرف بالأشكري وبنوه من بعده بنو الأشكري، وهم ملوك القسطنطينية إلى هذا العهد، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. أخبار النوبة: كان الملك الظاهر وفد عليه أعوام سنة خمس وسبعين ملك النوبة من تشكيل مستنجدا به
على ابن أخيه داود لما كان تغلب عليه، وانتزع الملك من يده، فوعده السلطان وأقام ينتظر. واستفحل ملك داود وتجاوز حدود مملكته إلى قرب أسوان من آخر الصعيد، فجهز السلطان العساكر إليه مع اقسنقر الفارقاني وأيبك الأفرم أستاذ داره، وأطلق معهم مرتشكين ملك النوبه فساروا لذلك، واستنفروا العرب وانتهوا إلى رأس الجنادل، واستولوا على تلك البلاد وأمنوا أهلها. وساروا في البلاد فلقيهم داود الملك فهزموه وأثخنوا في عساكره، وأسروا أخاه وأخته وأمه. وسار إلى مملكة السودان بالأبواب، ورآه فقاتله ملكها وهزمه وأسره، وبعث به مقيدا إلى السلطان فاعتقل بالقلعة إلى ان مات. واستقر مرتشكين في سلطان النوبه على جراية مفروضة وهدايا معلومة في كل سنة، وعلى أن تكون الحصون المجاورة لأسوان خالصة للسلطان، وعلى أن يمكن ابن أخيه داود وجميع أصحابه من كل ما لهم في بلادهم فوفى بذلك. ثم مات الظاهر وانقرضت دولته ودولة بنيه، وانتقل الملك إلى المنصور قلاون فبعث سنة ست وثمانين العساكر إلى النوبة مع علم الدين سنجر الخياط، وعز الدين الكوراني وسار معهم نائب قوص عز الدين أيدمر السيفي بعد أن استنفر العربان: أولاد ابي بكر وأولاد عمر وأولاد شريف وأولاد شيبان وأولاد كنز الدولة، وجماعة من الغرب، وبني هلال وساروا على العدوة الغربية والشرقية في دنقلة، وملكهم بيتمامون. هكذا سماه النووي، وأظنه أخا مرتشكين وبرزوا للعساكر فهزمتهم، واتبعتهم خمسة عشر يوماً وراء دنقلة ورتب ابن أخت بيتمامون في الملك ورجعت العساكر إلى مصر فجاء بيتمامون إلى دنقلة فاستولى على البلاد ولحق ابن أخته بمصر، صريخا بالسلطان فبعث معه عز الدين أيبك الأفرم فى العساكر، ومعه ثلاثة من الأمراء، وعز الدين نائب قوص وذلك سنة ثمان وثمانين. وبعثوا المراكب في البحر بالأزودة والسلاح. ومات ملك النوبة بأسوان ودفن بها، وجاء نائبه صريخا إلى السلطان فبعث معه داود ابن اخي مرتشكين الذي كان أسيرا بالقلعة، وتقدم جريس بين يدي العساكر فهرب بيتمامون، وامتنع بجزيرة وسط النيل على خمس عشرة مرحلة وراء دنقلة. ووقف العساكر على ساحل البحر وتعذر وصول المراكب إلى الجزيرة من كثرة الحجر، وخرج بيتمامون منها فلحق بالأبواب، ورجع عنه أصحابه، ورجعت العساكر إلى دنقلة فملكوا داود ورجعوا إلى مصر سنة تسع وثمانين لتسعة أشهر من مسيرهم، بعد أن تركوا أميراً منهم مع الملك داود، ورجعوا إلى مصر، ورجع بيتمامون إلى دنقلة، وقتل داود، وبعث الأمير الذي كان معهم إلى السلطان وحمله رغبة في الصلح على أن يؤذي الضريبة المعلومة فأسعف لذلك، واستقر في ملكه انتهى والله تعالى أعلم.
فتح طرابلس: كان الإفرنج الذين بها قد نقضوا الصلح وأغاروا على الجهات فاستنفر السلطان العساكر من مصر والشام، وأزاح عللهم، وجهز آلات الحصار، وسار إليها في محرم سنة ثمان وثمانين فحاصرها ونصب عليها المجانيق، وفتحها عنوة لأربعة وثلاثين يوماً من حصارها واستباحها. وركب بعضهم الشواني للنجاة فردتهم الريح إلى السواحل فقتلوا وأسروا، وأمر السلطان بتخريبها فخربت وأحرقت. وفتح السلطان ما إليها من الحصون والمعاقل، وأنزل حاميتها وعاملها بحصن الأكراد. ثم أتخذ حصناً آخر لترك النائب والحامية في العمل، وسمي باسم المدينة، وهو الموجود لهذا العهد وكان من خبر هذه المدينة من لدن الفتح أن معاوية أيام ولايته الشام لعهد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعث إليها سفيان بن مخنف الإزدي فحاصرها وبنى عليها حصناً حتى جهد أهلها الحصار، وهربوا منها في البحر. وكتب سفيان إلى معاوية بالفتح. وكان يبعث العساكر كل سنة للمرابطة بها. ثم جاء إلى عبد الملك بن مروان بطريق من الروم وسأله في عمارتها والنزول بها مجمعا على أن يعطيه الخراج فأجابه، وأقام قليلا ثم غدر بمن عنده من المسلمين. وذهب إلى بلاد الروم فتخطفته شواني المسلمين في البحر، وقتله عبد الملك، ويقال الوليد، وملكها المسلمون. وبقي الولاة يملكونها من دمشق إلى أن جاءت دولة العبيديين فأفردوها بالولاية، ووليها رمان الخادم، ثم سرّ الدولة، ثم أبو السعادة علي بن عبد الرحمن بن جبارة، ثم نزال، ثم مختار الدولة بن نزال، وهؤلاء كلهم من أهل دولته. ثم تغلب قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار، وتوفي سنة أربع وستين وأربعمائة. وكان من فقهاء الشيعة، وهو الذي صنف الكتاب الملقب بخراب الدولة ابن منقذ بن كمود فقام بولاية أخيه أبي الحسن بن محمد بن عمار ولقبه جلال الدين. وتوفي سنة اثنتين وتسعين صنجيل من ملوكهم واسمه ميمنت، ومعناه ميمون. وصنجيل اسم مدينة عرف بها، وأقام صنجيل يحاصرها طويلاَ ، وعجز ابن عمار عن دفاعه. ثم قصد سلطان السلجوقية بالعراق محمد بن ملكشاه، يستنجدا به، واستخلف بالمناقب ابن عمه على طرابلس، ومعه سعد الدولة فتيان بن الأغر فقتله أبو المناقب ودعا للأفضل ابن أمير الجيوش المستبد على خلفاء العبيديين بمصر لذلك العهد. ثم هلك صنجيل وهو محاصر لها، وولي مكانه السرداني من زعمائهم. وبعث الأفضل قائداً إلى طرابلس فأقام بها وشغل عن مدافعة العدو بجمع الأموال. ونمي عنه إلى الأفضل أنه يروم الاستبداد فبعث آخر مكانه، ونافر أهل البلد لسوء سيرته فتبين وصول المراكب من مصر بالمدد، وقبض
على أعيانهم وعلى مخلف فخر الملك بن عمار من أهله وولده، وبعث بهم إلى مصر. وجاء فخر الملك بن عمار بعد أن قطع جبل الرجاء في يده من إنجاد السلجوقية لما كانوا فيه من الشغل بالفتنة، وربما علله بعضهم بولاية الوزارة له. ثم رجع إلى دمشق سنة اثنتين وخمسمائة ونزل على طغتكين الأتابك. ثم ملكها السرداني سنة ثلاث وخمسمائة بعد حصارها سبع سنين. وجاء ابن صنجيل من بلاد الإفرنج فملكها منه، وأقامت في مملكته نحوا من ثلاثين سنة. ثم ثار عليه بعض الزعماء وقتله بطرس الأعور واستخلف في طرابلس القوش بطرار. ثم كانت الواقعة بين صاحب القدس ملك الإفرنج، وبين زنكي الأتابك صاحب الموصل، وانهزم الإفرنج وأسر القوش في تلك الوقعة، ونجا ملك الإفرنج إلى تغريب فتحصن بها وحصره زنكي حتى اصطلحا على أن يعطي تغريب، ويطلق زنكي الأسرى في الواقعة فأنطلق القوش إلى طرابلس فأقام بها مدة، ووثب الإسماعيلية به فقتلوه وولي بعده رهند صبيا وحضر مع الإفرنج سنة سبع وخمسين وقعة حارم التي هزمهم فيها العادل. وأسر رهند يومئذ وبقي في اعتقاله إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب فأطلقه سنة سبعين وخمسمائة، ولحق بطرابلس ولم تزل في ملكه وملك ولده إلى أن فتحها المنصور سنة ثمان وثمانين كما مر والله تعالى أعلم.
إنشاء المدرسة والمارستان بمصر: كان المنصور قلاون قد اعتزم على إنشاء المارستان بالقاهرة ونظر له الأماكن، حتى وقف نظره على الدار القطبية من قصور العبيديين وما يجاورها من القصرين، واعتمد إنشاءه هنالك، وجعل الدار أصل المارستان، وبنى بإزائه مدرسة لتدريس العلم وقبة لدفنه. وجعل النظر في ذلك لعلم الدين الشجاعي فقام بإنشاء ذلك لأقرب وقت وكملت العمارة سنة اثنتين وثمانين وستمائة. ووقف عليها أملاكا وضياعاً بمصر والشام وجلس بالمارستان في يوم مشهود. وتناول قدحا من الأشربة الطبية وقال: وقفت هذا المارستان على مثلي فمن دوني من أصناف الخلق، فكان ذلك من صالح آثاره والله أعلم. وفاة المنصور قلاون وولاية ابنه خليل الأشرف: كان المنصور قلاون قد عهد لابنه علاء الدين ولقبه الصالح، وتوفي سنة سبع وثمانين فولي العهد مكانه ابنه الآخر خليل. ثم انتقض الإفرنج بعكا وأغاروا على النواحي ومرت بهم رفقة من التجار برقيق من الروم والترك جلبوهم للسلطان فنهبوهم أ وأسروهم فأجمع السلطان
غزوهم وخرج في العساكر بعد الفطر من سنة تسع وثمانين. واستخلف ابنه خليلاً على القاهرة ومعه زين الدين سيف، وعلم الدين الشجاعي الوزير وعساكر بظاهر البلد فطرقه المرض، ورجع إلى قصره فمرض. وتوفي في ذي القعدة من السنة فبويع ابنه خليل ولقب الأشرف، وكان حسام الدين طرنطاي نائب المنصور إليه فأقره وأشرك معه زين الدين سيف في نيابة العتبة، وأقر علم الدين الشجاعي على الوزارة، وبدر الدين بيدو أستاذ داره، وعز الدين أيبك خزندار. وكان حسام الدين لاشين السلحدار نائبا بدمشق، وشمس الدين قراسنقر الجوكندار نائبا بحلب فأقرهما وجمع ما كان بالشام من ولاة أبيه. ثم قبض على النائب حسام الدين طرنطاي لأيام قلائل وقتله واستولى على مخلفه، وكان لا يعبر عنه. كان الناض منها ستمائة ألف دينار، وحملت كلها لخزانته، واستقل بدر الدين بالنيابة، وبعث إلى محمد بن عثمان بن السلعوس من الحجاز فولاه الوزارة، وكان تاجرا من تجار الشام وتقرب له أيام أبيه، واستخدم له فاستعمله في بعض إقطاعه بالشام، ووفر جبايتها فولاه ديوانه بمصر فأسرف في الظلم وأنهى أمره إلى طرنطاي النائب فصادره المنصور وامتحنه، ونفاه عن الشام. وحج في هذه السنة وولي الأشرف فكان أول أعماله البحث عنه، وولاه الوزارة فبلغ المبالغ في الظهور وعلو الكلمة واستخدم الخواص له وترفع عن الناس، واستقل الرتب وقبض الأشرف على شمس الدين سنقر وحبسه، وكان قد قبض مع طرنطاي النائب على عز الدين سيف لما بلغه أنه يدبر عليه مع طرنطاي، ثم ثبتت عنده براءته فأطلقه والله تعالي أعلم.
فتح عكا وتخريبها: ثم سار الأشرف أول سنة تسعين وستمائة لحصار عكا متمما عزم أبيه فيها فجهز العساكر واستنفر أهل الشام، وخرج من القاهرة فأغذ السير إلى عكا، ووافاه بها أمراء الشام والمظفر بن المنصور صاحب حماة فحاصرها ورماها بالمجانيق فهدم كثير من أبراجها، وتلاها المقاتلة لاقتحامها فرشقوهم بالسهام فا من اللبود، وزحفوا في كنها وردموا الخندق بالتراب فحمل كل واحد منهم ما قدر عليه حتى طموه، وانتهوا إلى الأبراج المتهدمة فألصقوها بالأرض، واقتحموا البلد من ناحيتها، واستلحموا من كان فيها وأكثروا القتل والنهب، ونجا الفل من العدو إلى أبراجها الكبار التي بقيت ماثلة فحاصرها عشرا آخرا، ثم اقتحمها عليهم
فاستوعبهم السيف. وكان الفتح منتصف جمادى سنة سبعين لمائة وثلاث سنين من ارتجاع الكفار لها من يد صلاح الدين سنة سبع وثمانين وخمسمائة. وأمر الأشرف بتخريبها فخربت وبلغ الخبر إلى الإفرنج بصور وصيدا وعتلية وحيفا فأجفلوا عنها وتركوها خاوية، ومر السلطان بها وأمر بهدمها فهدمت جميعا، وانكف راجعا إلى دمشق. وتقبض في طريقه على لاشين نائب دمشق لأن بعض الشياطين أوحى إليه أن السلطان يروم الفتك به فركب للفرار، واتبعه علم الدين سنجر الشجاعي، وسار إلى بيروت ففتحها. ومر السلطان بالكرك فاستعفى نائبها ركن الدين بيبرس الدوادار وهو المؤرخ فولى مكانه جمال الدين أتسز الاشرفي، ورجع السلطان إلى القاهرة فبعث شلامش وخسرو ابني الظاهر من محبسهما بالإسكندرية إلى القسطنطينية. ومات شلامش هنالك، وأفرج عن شمس الدين سنقر الأشقر، وحسام الدين لاشين المنصوري اللذين اعتقلهما كما قدمناه. وقبض على علم الدين سنجار نائب دمشق، وسبق إلى مصر معتقلا. وأمر السلطان ببناء الرفوف بالقلعة على أوسع ما يكون وأرفعه، وبني القبة بإزائه لجلوس السلطان أيام الزينة والفرح فبنيت مشرفة على سوق الخيل والميدان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح قلعة الروم: ثم سار السلطان سنة إحدى وتسعين في عساكره إلى الشام بعد أن أفرج عن حسام الدين لاشين ورده إلى إمارته وانتهى إلى دمشق. ثم سار إلى حلب، ثم دخل منها إلى قلعه الروم فحاصرها في جمادى من السنة وملكها عنوة بعد ثلاثين يوماً من الحصار، وقاتل المقاتلة الذريعة، وخرب القلعة وأخذ فيها بطرك الأرمن أسيرا، وانكف السلطان راجعا إلى حلب فأقام بها شعبان، وولى عليها سيف الدين الطباقي نائباً مكان قراسنقر الظاهري لأنه ولاه مقدم المماليك. ورحل إلى دمشق فقضى بها عيد الفطر، واستراب لاشين النائب فهرب ليلة الفطر، وأركب السلطان في طلبه، وتقبض عليه بعض العرب في حيه. وجاء به إلى السلطان فبعثه مقيدا إلى القاهرة، وولى على نيابة دمشق عز الدين أيبك الحميدي عوضا عن علم الدين سنجر الشجاعي، ورجع إلى مصر فأفرج عن علم الدين سنجر الشجاعي، وتوفي لسنة بعد إطلاقه. ثم قبض على سنقر الأشقر وقتله، وسمع نائبه بيدو ببراءة لاشين فأطلقه. وتوفي ابن الأثير بعد شهر فولى مكانه ابنه عماد الدين أيوب، وكان أيوب قد اعتقله المنصور لأول ولايته فأطلقه الأشرف هذه السنة لثلاث عشرة سنة من اعتقاله، واستخلصه للمجالسة والشورى. وتوفي
القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر كاتب السر وصاحب
ديوان الانشاء وله التقدم عنده وعند أبيه، فولى مكانه فتح الدين أحمد بن الأثير الحلي. وترك ابن عبد الظاهر ابنه علاء الدين عليا فألقى عليه النعمة منتظما في جملة الكتاب. ثم سار السلطان إلى الصعيد يتصيد، واستخلف بيدو النائب على دار ملكه، وانتهى إلى قوص. وكان ابن السلعوس قد دس إليه بأن بيدو احتجن بالصعيد من الزرع ما لا يحصى فوقف هنالك على مخازنها واستكثرها، وارتاب بيدو لذلك. ولما رجع الأشرف إلى مصر ارتجع منه بعض إقطاعه، وبقي بيدو مرتابا من ذلك، وأتحف السلطان بالهدايا من الخيام والهجن وغيرهما، والله تعالى أعلم، مسير السلطان إلى الشام وصلح الارمن ومكثه في مصيا وهدم الشويك: ثم تجهز السلطان سنة اثنتين وتسعين إلى الشام، وقدم بيدو النائب بالعساكر، وعاج على الكرك على الهجن فوقف عليها وأصلح من أمورها ورجع. ووصل إلى الشام فوافاه رسول صاحب سيس ملك الأرمن راغباً في الصلح على أن يعطى تهسنا ومرعش وتل حمدون فعقد لهم على ذلك، وملك هذه القلاع وهي في غم الدرب من ضياع حلب، وكانت تهسنا للمسلمين. ولما ملك هلاكو حلب باعها النائب من ملك الأرمن سيس. ثم سار السلطان إلى حمص ووصل إليها في رجب من السنة، ومعه المظفر صاحب حماة ونزل سلمية، ولقيه مهنا بن عيسى أمير العرب فقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل وابنه موسى وبعثهم معتقلين مع لاشين إلى دمشق، ومن هناك إلى مصر فحبسوا بها. وولى على الغرب مكانهم محمد بن أبي بكر بن علي بن جديلة وأوعز وهو بحمص إلى نائب الكرك بهدم قلعة الشويك فهدمت، وانكف راجعا إلى مصر، وقدم العساكر مع بيدو، وجاء في الساقة على الهجن مع خواصه. ولما دخل علي مصر أفرج عن لاشين المنصوري والله تعالى أعلم. مقتل الأشرف وولاية أخيه محمد الناصر في كفالة كيبغا: كان النائب بيدو مستوليا على الأشرف، والأشرف مستريب به حتى كأنه مستبد، وكان مستوحشا من الأشرف. واعتزم الأشرف سنة ثلاث وتسعين على الصيد في البحيرة فخرج
إليها. وبعث وزيره ابن السلعوس للإسكندرية لتحصيل الأموال والأقمشة فوجد بيدو قد سبقوا إليها واستصفرا ما هنالك فكاتب السلطان بذلك فغضب. واستدعى بيدو فوبخه وتوعده ولم يزل هو يلاطفه حتى كسر من سورة غضبه. ثم خلص إلى أصحابه وداخلهم في التوثب به. وتولى كبر ذلك منهم لاشين المنصوري نائب دمشق، وقراسنقر المنصوري نائب حلب، وكان الأمراء كلهم حاقدين على الأشرف لتقديمه حاشيته عليهم. ولما كتب إليه السلعوس بقلة المال صرف مواليه إلى القلعة تخفيفا من النفقة، وبقي في القليل. وركب بعض أيامه يتصيد وهو مقيم على فرجة فاتبعوه وأدركوه في صيده فأوجس في نفسه الشر منهم فعاجلوه وعلوه بالسيوف ضربه أولا بيدو وثنى عليه لاشين وتركوه مجندلاً بمصرعه منتصف محرم من السنة، ورجعوا إلى المخيم وقد أبرموا أن يولوا بيدو فولوه ولقبوه القاهر. وتقبض على بيسري الشمسي وسيف الدين بكتمر السلحدار، واحتملوهما وساروا إلى قلعة الملك. وكان زين الدين سيف قد ركب للصيد فبلغه الخبر في صيده فسار في اتباعهم، ومعه سوس الجاشنكير وحسام الدين أستاذ دار وركن الدين سوس وطقجي في طائفة من الجاشنكيرية، وأدركوا القوم على الطرانة. ولما عاينهم بيدو وبيسري وبكتمر المعتقلين في المخيم رجعوا إلى كيبغا وأصحابه وفر عن بيدو من كان معه من العربان والجند وقاتل قليلاً ثم قتل، ورجع برأسه على القناة، وافترق أصحابه قراسنقر ولاشين بالقاهرة. ويقال أن لاشين كان مختفيا في مأذنة جامع ابن طولون، ووصل كيبغا وأصحابه إلى القلعة وبها علم الدين الشجاعي، واستدعوا محمد بن قلاون أخا الأشرف وبايعوه ولقبوه الناصر، وقام بالنيابة كيبغا وبالأتابكية حسام الدين، وبالوزارة علم الدين سنجر، وبالأستاذ دارية ركن الدين سوس الجاشنكير. واستبدوا بالدولة فلم يكن الناصر يملك معهم شيئاً من أمره، وجدوا في طلب الأمراء الذين داخلوا بيدو في قتل الأشرف فاستوعبوهم بالقتل والصلب والقطع وكان بهادر، رأس نوبة، وأقوش الموصلي فقتلا، وأحرقت أشلاؤهما. وشفع كيبغا في لاشين وقراسنقر المتوليين كبر ذلك فظهرا من الأختفاء وعادا إلى محلهما من الدولة. ثم تقبض على الوزير محمد بن السلعوس عند وصوله من الإسكندرية، وصادره الوزير الشجاعي وامتحنه فمات تحت الامتحان، وأفرج عن عز الدين ايبك الأفرم الصالحي، وكان الأشرف اعتقله سنة اثنتين وتسعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
وحشة كيبغا ومقتل الشجاعي: ثم انّ الشجاعي لطف محله من الناصر واختصه بالمداخلة، وأشار عليه بالقبض على جماعة من الأمراء فاعتقلهم: وفيهم سيف الدين كرجي وسيف الدين طونجي. وطوى ذلك عن كيبغا، وبلغه الخبر وهو في موكب بساحة القلعة. وكان الأمراء يركبون في خدمته فاستوحش، وارتاب بالشجاعي وبالناصر. ثم جاء بعض مماليك الشجاعي إلى كيبغا في الموكب، وجرد سيفه لقتله فقتله مماليكه، وتأخر هو ومن كان معه من الأمراء عن دخول القلعة، وتقبضوا على سوس الجاشنكير أستاذ دار وبعثوا به إلى الإسكندرية ونادوا في العسكر فاجتمعوا وحاصروا القلعة. وبعث إليهم السلطان أميراً فشرطوا عليه أن يمكنهم من الشجاعي فامتنع، وحاصروه سبعا واشتد القتال. وفر من كان بقي في القلعة من العسكر إلى كيبغا، وخرج الشجاعي لمدافعتهم فلم يغن شيئاً . ورجع إلى السلطان وقد خامره الرعب فطلب أن يحبس نفسه فمضى به المماليك إلى السجن وقتلوه في طريقهم. وبلغ الخبر إلى كيبغا ومن كان معه فذهبت عنهم الهواجس، واستأمنوا للسلطان فأمنهم واستحلفوه فحلف لهم ودخلوا إلى القلعة، وأفاض كيبغا العطاء في الناس، وأخرج من كان في الطباق من المماليك بمداخلة الشجاعي فأنزلهم إلى البلد بمقاصر الكسر، ودار الوزارة، والجوار وكانوا نحواً من تسعة آلاف فأقاموا بها. ولما كان المحرم فاتح سنة أربع وتسعين استعدوا ليلة وركبوا فيها جميعا، وأخروا من كان في السجون ونهبوا بيوت الأمراء وأعجلهم الصبح عن تمام قصدهم، وباكرهم الحاجب بهادر ببعض العساكر فهزمهم. وافترقوا وتقبض على كثير منهم فأخذ منهم العقاب مأخذه قتلا وضربا وعزلا، وأفرج عن عز الدين أيبك الأفرم، وأعيد إلى وظيفته أمير جندار، ثم هلك قريبا. واستحكم أمر السلطان ونائبه كيبغا وهو مستبد عليه، واستمر الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى، والله تعالى ولي التوفيق. خلع الناصر وولاية كيبغا العادل: ولما وقعت الوحشة بين كيبغا والشجاعي، وتلتها هذه الفتنة استوحش كيبغا في ظاهر أمره، وانقطع عن دار النيابة متمارضا وتردد السلطان لعيادته. ثم حمل بطانته على الاستبداد بالملك
والجلوس على التخت، وكان طموحا لذلك من أول أمره فجمع الأمراء ودعاهم إلى بيعته فبايعوه. وخلع الناصر وركب إلى دار السلطان فجلس على التخت وتلقب بالعادل، وأخرج السلطان من قصور الملك، وكان مع أمه ببعض الحجر. وولى حسام الدين لاشين نائباً والصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز الخليلي الدار وزيرا نقله إليها من النظر في الديوان لعلاء الدين ولي العهد ابن قلاون، وعز الدين أيبك الأفرم الصالحي أمير جندار، وبهادر الحلبي أمير حاجب، وسيف الدين منماص أستاذ دار، وقسم إمارة الدولة بين مماليكه. وكتب إلى نواب الشام بأخذ البيعة فأجابوا بالسمع والطاعة، وقبض على عز الدين أيبك الخازندار نائب طرابلس، وولى مكانه فخر الدين أيبك الموصلي. وكان الخازندار ينزل حصن الأكراد، ونزل الموصلي بطرابلس، وعادت دار إمارة. ثم وفد سنة خمس وتسعين على العادل كيبغا طائفة من التتر يعرفون بالأربدانية، ومقدمهم طرنطاي كان مداخلا لبدولي كنجاب ابن عمه ملك التتر. فلما سار الملك إلى غازان خافه طرنطاي، وكانت أحياؤه بين غازان والموصل. وأوعز غازان إلى التتر الذين من مارتكن فأخذ الطرق عليهم. وبعث قط قرا من أمرائه للقبض على طرنطاي ومن معه من أكابر قبيله فسار لذلك في ثمانين فارساً فقتله طرنطاي وأصحابه وعبروا الفرات إلى الشام. وأتبعهم التتر من ديار بكر فكروا عليهم فهزموهم. وأمر العادل سنجر الدوادار أن يتلقاهم بالرحب واحتفل نائب دمشق لقدومهم. ثم ساروا إلى مصر فتلقاهم شمس الدين قراسقر، وكانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلعة فأنفوا لذلك، وكان سبباً لخلع العادل كما نذكر. ووصل على أثرهم بقية قومهم بعد أن مات منهم كثير. ثم رسخوا في الدولة وخلطهم الترك بأنفسهم، وأسلموا واستخدموا أولادهم وخلطوهم بالصهر والولاء والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلع العادل كيبغا وولاية لاشين المنصور: كان أهل الدولة نقموا على السلطان كيبغا العادل تقديم مماليكه عليهم، ومساواة الأربدانية من التتر بهم فتفاوضوا على خلعه. وسار إلى الشام في شوال سنة خمسة وتسعين فعزل عز الدين أيبك الحموي نائب دمشق واستصفاه، وولى مكانه سيف الدين عزلو من مواليه. ثم سار إلى حمص متصيدا ولقيه المظفر صاحب حماة فأكرمه ورده إلى بلده. وسار إلى مصر والأمراء مجمعون خلعه والفتك بمماليكه، وانتهى إلى العوجاء من أرض فلسطين، وبلغه عن بيسري الشمسي انه كاتب التتر فنكر عليه وأغلظ له في الوعيد. وارتاب الأمراء من ذلك وتمشت
رجالاتهم واتفقوا. وركب حسام الدين لاشين وبدر الدين بيسري وشمس الدين قراسنقر وسيف الدين قفجاق وبهادر الحلبي الحاجب وبكتاش الفخري وببليك الخازندار وأقوش الموصلي وبكتمر السلحدار وسلار وطغجي وكرجي ومعطاي، ومن انضاف إليهم بعد أن بايعوا لاشين، وقصدوا مخيم بكتوت الأزرق فقتلوه. وجاءهم ميحاص فقتلوه أيضا. وركب السلطان كيبغا في لفيفه فحملوا عليه فانهزم إلى دمشق، وبايع القوم لاشين ولقبوه المنصور وشرطوا عليه أن لا ينفرد عنهم برأي فقبل، وسار إلى مصر ودخل القلعة. ولما وصل كيبغا إلى دمشق لقيه نائبه سيف الدين غزلو وأدخله القلعة واحتاط على حواصل لاشين والأمراء الذين معه، وأمن جماعة من مواليه. ووصلت العساكر التي كانت مجردة بالرحبة ومقدمهم جاغان، وكانوا قد داخلوا لاشين في شأنه ونزلوا ظاهر دمشق، واتفقوا على بيعة لاشين وأعلنوا بدعوته. وانحل أمر العادل وسأل ولاية صرخد، وألقى بيده فحبس بالقلعة لسنتين من ولايته. وبعث الأمراء بيعتهم للاشين، ودخل سيف الدين جاغان إلى القلعة. ثم وصل كتاب لاشين ببعثه إلى مصر، وبعث إلى كيبغا بولاية صرخد كما سأل، ووصل قفجق المنصوري نائبا عن دمشق. وأفرج لاشين بمصر عن ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من المماليك، وولى قراسنقر نائبا وسيف الدين سلار أستاذ دار وسيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار وبهادر الحلبي صاحب ** وأقر فخر الدين الخليلي على وزارته، ثم عزله وولى مكانه شمس الدين سنقر الأشقر، وقبض على قراسنقر النائب وسيف الدين سلار أستاذ دار آخر سنة ست وتسعين وولى مكانه سيف الدين منكوتمر الحسامي مولاه، واستعمل سيف الدين قفجق المنصوري نائبا. ثم أمر بتجديد عمارة جامع ابن طولون وندب لذلك علم الدين سنجر الدوادار، وأخرج للنفقة فيه من خالص ماله عشرين ألف دينار، ووقف عليه أملاكاً وضياعاً. ثم بعث سنة تسع وسبعين بالناصر محمد بن قلاون إلى الكرك مع سيف الدين سلار أستاذ فى دار، وقال لزين الدين بن مخلوف فقيه بيته هو ابن استاذي وأنا نائبه في الأمر، ولو علمت أنه يقوم بالأمر لأقمته. وقد خشيت عليه في الوقت فبعثته إلى الكرك فوصلها في ربيع. وقال النووي: انه بعث معه جمال الدين بن أقوش. ثم قبض السلطان في هذه السنة على بدر الدين بيسري الشمسي بسعاية منكوتمر نائبه، لأن لاشين أراد أن يعهد إليه بالأمر فرده بيسري عن ذلك وقبحه عليه، فدس منكوتمر بعض مماليك بيسري وانهوا إلى السلطان أنه يريد الثورة فقبض عليه آخر ربيع الثاني من السنة وأودعه السجن فمات في محبسه. وقبض في هذه السنة على بهادر الحلبي وعلى عز الدين أيبك الحموي. ثم أمر في هذه السنة برد الإقطاعات في النواحي، وبعث الأمراء والكتاب لذلك. وتولى ذلك عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة. وقال مؤرخ حماة المؤيد: كانت مصر منقسمة على أربعة وعشرين قيراطا: أربعة منها للسلطان والكلف والرواتب وعشرة للأمراء والإطلاقات والزيادات، وعشرة للأجناد الجلقة. فصيروها عشرة للأمراء والإطلاقات والزيادات والأجناد، وأربعة عشر للسلطان فضعف الجيش. وقال النووي: قرر للخاص في الروك الجيزة وأطفيح ودمياط ومنفلوط والكوم الأحمر، وحولت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين. وهذا في العدد، إنما هو بعد انقضاء ثلاثة وثلاثين سنة واحدة، هي تفاوت ما بين السنين الشمسية والقمرية، وهو حجة ديوان الجيش في انقضاء التفاوت الجيشي، وهو تحويل بالأقلام فقط. وليس فيه نقص شيء. ثم أقطعت البلاد بعد الروك واستثنيت المراتب الجسرية والرزق الإحباسية. انتهى كلام النووي رحمه الله، والله تعالي أعلم.
فتح حصون سيس: ولما ولي سيف الدين منكوتمر النيابة، وكان مختصا بالسلطان استولى على الدولة وطلب من السلطان أن يعهد له بالملك فنكر ذلك الأمراء، وثنوا عنه السلطان فتنكر لهم منكوتمر وأكثر السعاية فيهم، حتى قبض على بعضهم وتفرق الآخرون في النواحي. وبعث السلطان جماعة منهم سنة سبع وتسعين لغزو سيس وبلاد الأرمن: كان منهم بكتاش أمير سلاح وقراسنقر وبكتمر السلحدار وتدلار وتمراز ومعهم الألفي نائب صفد في العساكر، ونائب طرابلس ونائب حماة، ثم أردفهم بعلم الدين سنجر الدوادار. وجاءت رسل صاحب سيس وأغاروا عليها ثلاثة أيام واكتسحوها. ثم مروا ببغراس، ثم بمرج أنْطاكِية وأقاموا بها ثلاثا، ومروا بجسر الحديد ببلاد الروم. ثم قصدوا تل حمدون فوجدوها خاوية، وقد انتقل الأرمن الذين بها إلى قلعة النجيمة، وفتحوا قلعة مرعش وحاصروا قلعة النجيمة أربعين يوماً وافتتحوها صلحا، وأخذوا أحد عشر حصناً منها المصيصة وحموم وغيرهما. واضطرب أهلها من الخوف فأعطوا طاعتهم، ورجع العساكر إلى حلب. وبلغ السلطان لاشين أن التتر قاصدون الشام فجهز العساكر إلى دمشق مع جمال الدين أقوش الأفرم، وأمره أن يخرج العساكر من دمشق إلى حلب مع قفجق النائب فسار إلى حمص وأقام بها. ثم بلغهم الخبر برجوع التتر، ووصل أمر السلطان إلى سيف الدين الطباخي نائب حلب بالقبض على بكتمر السلحدار والألفي نائب صفد، وجماعة
من الأمراء بحلب بسعاية بكتمر. وحاول الطباخي ذلك فتعذر عليه وبرز تدلار إلى بسار فتوفي بها وأقام الآخرون. وشعروا بذلك فلحقوا بقفجق النائب على حمص فأمنهم، وكتب إلى السلطان يشفع فيهم فأبطأ جوابه. وعزله سيف الدين كرجي وعلاء الدين أيدغري من إجارتهم فاستراب، وولى السلطان مكانه على دمشق جاغان فكتب إلى قفجق بطلبهم فنفروا وافترق عسكره، وعبر الفرات إلى العراق ومعه أصحابه بعد أن قبضوا على نائب حمص واحتملوه. ولحقهم الخبر بقتل السلطان لاشين وقد تورطوا في بلاد العدو فلم يمكنهم الرجوع. ووفدوا على غازان بنواحي واسط، وكان قفجق من جند التتر وأبوه من جند غازان خصوصاً. ولما وقعت الفتنة بين لاشين وغازان، وكان فيروز أتابك غازان مستوحشا من سلطانه فكاتب لاشين في اللحاق به، واطلع سلطانه على كتبه فأرسل إلى شاه نائب حران فقبض على فيروز وقتله، وقتل غازان أخويه في بغداد، والله تعالى أعلم.
مقتل لاشين وعود الناصر محمد بن قلاون إلى ملكه: كان السلطان لاشين قد فوض أمر دولته إلى مولاه منكوتمر فاستطال وطمع في الإستبداد ؛ ونكره الأمراء كما قدمناه فأغرى السلطان بهم وشردهم كل مشرد بالنكبة والإبعاد. وكان سيف الدين كرجي من الجاشنكير ومقدما عليهم، كما كان قراسنقر مع الأشرف. وكان جماعة المماليك معصوصبين عليه. وسعى منكوتمر في نيابته على القلاع التي افتتحت من الأرمن ببلاد سيس فاستعفى من ذلك وأسرها في نفسه، وأخذ في السعاية على منكوتمر وظاهره على أمره قفجي من كبار الجاشنكيرية. وكان لطقجي صهر من كبار الجاشنكيرية اسمه طنطاي أغلظ له منكوتمر يوماً بالمخاطبة فامتعض وفزع إلى كرجي وطقجي فاتفقوا على اغتيال السلطان. وقصدوه ليلا، وهو يلعب بالشطرنج، وعنده حسام الدين قاضي الحنفية فأخبره كرجي بغلق الأبواب على المماليك فنكره، ولم يزل يتصرف أمامه حتى ستر سيفه بمنديل طرحه عليه. فلما قام السلطان لصلاة العتمة نحاها عنه وعلاه بالسيف. وافتقد السلطان سيفه فتعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه، وهموا بقتل القاضي ثم تركوه. وخرج كرجي إلى طقجي بمكان انتظاره وقصدوا منكوتمر وهو بدار النيابة فاستجار بطقجي فأجاره وحبسه بالجب ثم راجعوا رأيهم واتفقوا على قتله فقتلوه. وكان مقتل لاشين في ربيع سنة ثمان وتسعين، وكان من موالي علي بن المعز أيبك فلما غرب للقسطنطينية تركه بالقاهرة واشتراه المنصور قلاون من القاضي بحكم البيع على الغائب بألف درهم، وكان يعرف بلاشين الصغير لأنه كان هناك لاشين اخر أكبر منه، وكان نائبا
بحمص. ولما قتل اجتمع الأمراء، وفيهم ركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار أستاذ دار وحسام الدين لاشين الرومي، وقد وصل على البريد من بلاد سيس جمال الدين أقوش الأفرم وقد عاد من دمشق بعد أن أخرج النائب والعساكر إلى حمص وعز الدين أيبك الخزندار وبدر الدين السلحدار فضبطوا القلعة. وبعثوا إلى الناصر محمد بن قلاون بالكرك يستدعونه للملك فاعتزم طقجي على الجلوس على التخت، واتفق وصول الأمراء الذين كانوا بحلب منصرفين من غزاة سيس، وفيهم سيف الدين كرجي وشمس الدين سرقنشاه، ومقدمهم بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح فأشار الأمراء على طقجي بالركوب للقائهم فأنف أولا، ثم ركب ولقيهم وسألوه عن السلطان فقال قتل فقتلوه. وكان كرجي عند القلعة فركب هاربا وأدرك عند القرافة وقتل، ودخل بكتاش والأمراء القلعة لحول من غزاة سيس. ثم اجتمعوا بمصر وكان الأمر دائرا بين سلار وبيبرس وأيبك الجامدار وأقوش الأفرم وبكتمر أمير جندار وكرت الحاجب وهم ينتظرون وصول الناصر من الكرك، وكتبوا إلى الأمراء بدمشق بما فعلوه فوافقوا عليه، ثم قبضوا على نائبها جاغان الحسامي. وتولى ذلك بهاء الدين قرا أرسلان السيفي فاعتقل ومات لأيام قلائل فبعث الأمراء بمصر مكانه سيف الدين قطلوبك المنصوري. ثم وصل الناصر محمد بن قلاون إلى مصر في جمادى سنة ثمان وتسعين فبايعوا له وولى سلار نائبا وبيبرس أستاذ دار وبكتمر الجو كندار أمير جندار وشمس الدين الأعسر وزيرا، وعزل فخر الدين بن الخليلي بعد أن كان أقره، وبعث على دمشق جمال الدين أقوش الأفرم عوضا عن سيف الدين قطلوبك، واستدعاه إلى مصر فولاه حاجبا وبعث على طرابلس سيف الدين كرت وعلى الحصون سيف الدين كراي، وأقر بليان الطباخي على حلب، وأفرج عن قراسنقر المنصوري وبعثه على الضبينة، ثم نقله إلى حماة عندما وصله وفاة صاحبها المظفر آخر السنة، وخلع على الأمراء وبث العطايا والأرزاق. واستقر في ملكه وبيبرس وسلار مستوليان عليه، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
الفتنة مع التتر: قد كنا قدمنا ما كان من فرار قفجق نائب دمشق إلى غازان وحدوث الوحشة بين المملكتين فشرع غازان في تجهيز العساكر إلى الشام، وبعث شلامش بن امال بن بكو في خمسة وعشرين ألفا في عساكر المغل، ومعه أخوه قطقطو وأمره بالمسير من جهة سيس فسار لذلك. ثم حدثته نفسه بالملك فخاضع وطلب الملك لنفسه، وكاتب ابن قزمان أمير التركمان فسار إليه في
عشرة آلاف فارس. وسار في ستين ألف فارس وسار إلى سيواس فامتنعت عليه، وكتب إلى صاحب مصر مع مخلص الرومي يستنجده فبعث إلى نائب دمشق بإنجاده، وبلغ الخبر غازان فبعث لقتاله مولاي من أمراء التتر في خمسة وثلاثين ألف فارس، ولحقه إلى سيواس فانتقض عليه العسكر ورجع التتر إلى مولاي. ولحق التركمان بالجبال، ولحق هو بسيس في فل من العسكر، وسار إلى دمشق ثم إلى مصر، وسأل من السلطان لاشين أن يمده بعسكر ينقل به عياله إلى الشام فأمر السلطان نائب حلب أن ينجده على ذلك فبعث معه عسكرا عليهم بكتمر الحلبي، وساروا إلى سيواس فاعترضهم التتر وهزموهم وقتل الحلبي، ونجا شلامش إلى بعض القلاع، فاستنزله غازان وقتله، واستقر أخوه قطقطو ومخلص بمصر، وأقطع لهما وانتظما في عسكر مصر، والله تعالى أعلم.
واقعة التتر مع الناصر واستيلاء غازان على الشام ثم ارتجاعه منه: قد كنا قدمنا ما حدث من الوحشة بين التتر وبين الترك بمصر، وقدمنا من أسبابها ما قدمناه. فلما بويع الناصر بلغه أن غازان زاحف إلى الشام فتجهز وقدم العساكر مع قطلبك الكبير وسيف الدين غزار. وسار على أثرهم آخر سنة ثمان وسبعين وانتهى إلى غزة فنمي إليه أن بعض المماليك مجمعون للتوثب عليه، وأن الأربدانية الذين وفدوا من التتر على كيبغا داخلوهم في ذلك. وبينما هو يستكشف الخبر إذ بمملوك من أولئك قد شهر سيفه واخترق صفوف العسكر وهم مصطفون بظاهر غزة فقتل لحينه، وتتبع أمرهم من هذه البادرة حتى ظهرت جليتها فسبق الأربدانية ومقدمهم طرنطاي، وقتل بعض المماليك وحبس الباقين بالكرك. ورحل السلطان إلى عسقلان ثم إلى دمشق. ثم سار ولقي غازان ما بين سلمية وحمص بمجمع المروج ومعه الكرج والأرمن، وفي مقدمته أمراء الترك الذين هربوا من الشام وهم قفجق المنصوري وبكتمر السلحدار وفارس الدين البكي وسيف الدين غزار، فكانت الجولة منتصف ربيع فانهزمت ميمنة التتر وثبت غازان. ثم حمل على القلب فانهزم الناصر، واستشهد كثير من الأمراء، وفقد حسام الدين قاضي الحنفية وعماد الدين إسماعيل ابن الأمير، وسار غازان إلى حمص فاستولى على الذخائر السلطانية. وطار الخبر إلى دمشق فاضطربت العامة وثار الغوغاء، وخرج المشيخة إلى غازان يقدمهم بدر الدين بن جماعة وتقي الدين بن تيمية وجلال الدين القزويني. وبقي البلد فوضى وخاطب المشيخة غازان في الأمان فقال قد خالفكم إلى بلدكم
كتاب الأمان. ووصل جماعة من أمرائه فيهم إسماعيل ابن الأمير والشريف الرضي وقرأ كتاب الأمان ويسمونه بلغاتهم الفرمان. وترجل الأمراء بالبساتين خارج البلد وامتنع علم الدين سلحدار بالقلعة فبعث إليه إسماعيل يستنزله بالأمان فامتنع فبعث إليه المشيخة من أهل دمشق فزاد امتناعا ودمشق ودس إليه الناصر بالتحفظ. وأن المدد على غزة ووصل قفجق بكتمر فنزلوا الميدان، وبعثوا إلى سنجر صاحب القلعة في الطاعة فأساء جوابهم وقال لهم: إن السلطان وصل وهزم عساكر التتر التي اتبعته. ودخل قفجق إلى دمشق فقرأ عهد غازان له بولاية دمشق والشام جميعا، وجعل إليه ولاية القضاء وخطب لغازان في الجامع، وانطلقت أيدي العساكر في البلد بأنواع جميع العيث، وكذا في الصالحية والقرى التي بها والمزة وداريا. وركب ابن تيمية إلى شيخ الشيوخ نظام الدين محمود الشيباني. وكان نزل بالعادلية فأركبه معه إلى الصالحية وطردوا منها أهل العيث، وركب المشيخة إلى غازان شاكين فمنعوا من لقائه حذرا من سطوته بالتتر فيقع الخلاف ويقع وبال ذلك على أهل البلد. فرجعوا إلى الوزير سعد الدين ورشد الدين فأطلقوا لهم الأسرى والسبي.
وشاع في الناس أن غازان أذن للمغل في البلد وما فيه ففزع الناس إلى شيخ الشيوخ وفرضوا على أنفسهم أربعمائة ألف درهم مصانعة له على ذلك وأكرهوا على كرمها بالضرب والحبس حتى كملت. ونزل التتر بالمدرسة العادلية فأحرقها ارجواش نائب القلعة ونصب المنجنيق على القلعة بسطح جامع بني أمية فأحرقوه فأعيد عمله. وكان المغل يحرسونه فانتهكوا حرمة المسجد بكل محرّم من غير استثناء، وهجم أهل القلعة فقتلوا النجار الذي كان يصنع المنجنيق وهدم نائب القلعة ارجواش ما كان حولها من المساكن والمدارس والأبنية ودار السعادة، وطلبوا ما لا يقدرون عليه، وامتهن القضاة والخطباء وعطلت الجماعات والجمعة، وفحش القتل والسبي، وهدمت دار الحديث وكثير من المدارس. ثم قفل إلى بلده بعد أن ولي على دمشق والشام قفجق، وعلى حماة وحمص بكتمر السلحدار، وعلى صفد وطرابلس والساحل فارس الدين البكي، وخلف نائبه قطلوشاه في ستين ألف حامية للشام واستصحب وزيره بدر الدين بن فضل الله وشرف الدين ابن الأمير وعلاء الدين بن القلانسي. وحاصر قطلوشاه القلعة فامتنعت عليه فاعتزم على الرحيل، وجمع له قفجق الأوغاد في جمادى من السنة، وبقي قفجق منفردا بأمره فأمن الناس بعض الشيء، وأمر مماليكه ورجعت عساكر التتر من اتباع الترك بعد أن وصلوا إلى القدس وغزة والرملة واستباحوا ونهبوا، وقائدهم يومئذ مولاي من أمراء التتر فخرج إليه ابن تيمية واستوهبه بعض الأسرى فأطلقهم. وكان الملك الناصر لما وصل إلى القلعة ووصل معه كيبغا العادل، وكان حضر
معه المعركة من محلّ نيابته بصرخد. فلما وقعت الهزيمة سار مع السلطان إلى مصر وبقي في خدمة النائب سلار، وجرّد السلطان العساكر وبث النفقات وسار إلى الصالحية وبلغه رحيل غازان من الشام. ووصل إليه بليان الطباخي نائب حلب على طريق طرابلس، وجمال الدين الأفرم نائب دمشق وسيف الدين كراي نائب طرابلس. واتفق السلطان في عساكرهم، وبلغه أن قطلوشاه نائب غازان رحل من الشام على أثر غازان فتقدم بيبرس وسار في العساكر، ووقعت المراسلة بينه وبين قفجق وبكتمر والبكى فأذعنوا للطاعة، ووصلوا إلى بيبرس وسلار فبعثوا بهم إلى السلطان وهو في الصالحية في شعبان من السنة فركب للقائهم وبالغ في تكرمتهم والإتطاع لهم. وولى قفجق على الشويك، ورحل عائدا إلى مصر. ودخل بيبرس وسلار إلى مصر وقرروا في ولايتها جمال الدين أقوش الأفرم بدمشق، وفي نيابة حلب قراسنقر المنصوري الجوكندار لاستعفاء بليان الطباخي عنها وفي طرابلس سيف الدين قطلبك، وفي حماة كيبغا العادل، وفي قضاء دمشق بدر الدين بن جماعة لوفاة إمام الدين بن سعد الدين القزويني. وعاد بيبرس وسلار إلى مصر منتصف شوال، وعاقب الأفرم كل من استخدم للتتر من أهل دمشق. وأغزى عساكره جبل كسروان والدرزية لما نالوا من العسكر عند الهزيمة، وألزم أهل دمشق بالرماية وحمل السلاح. وفرضت على أهل دمشق ومصر الأموال عن بعث الخيالة والمسكن لأربعة أشهر وضمان للقرى وكثر الأرجاف سنة سبعمائة بحركة التتر فتوجه السلطان إلى الشام بعد أن فرض على الرعية أموالاً، واستخرجها لتقوية عساكره. وأقام بظاهر غزة أياما يؤلف فيها الأمصار. ثم بعث ألفي فارس إلى دمشق، وعاد إلى مصر منسلخ ربيع الآخر. وجاء غازان بعساكره وأجفلت الرعايا أمامه حتى ضاقت بهم السبل والجهات فنزل ما بين حلب ومرس ونازلها، واكتسح البلاد إلى أنْطاكِية وجبل السمر، وأصابهم هجوم البرد وكثرة الأمطار والوحل، وانقطعت الميرة عنهم، وعدمت الأقوات وصوعت المراعي من كثرة الثلج، وارتحلوا إلى بلادهم. وكان السلطان قد جهز العساكر كما قلنا إلى الشام صحبة بكتمر السلحدار نائب صفد، وولى مكانه سيف الدين فنحاص المنصوري. ثم وقعت المراسلة بين السلطان الناصر وبين غازان وجاءت كتبه، وبعث الناصر كتبه ورسله وولى السلطان على حمص فارس الدين البكي، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة الخليفة الحاكم وولاية ابنه المستكفي والغزاة إلى العرب بالصعيد: ثم توفي الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد، وهو الذي ولاه الظاهر وبايع له سنة ستين فتوفي سنة إحدى وسبعمائة لإحدى وأربعين سنة من خلافته، وقد عهد لابنه أبي الربيع سليمان فبايع له الناصر ولقبه المستكفي، وارتفعت شكوى الرعايا في الصعيد من الأعراب، وكثر عيثهم فجهز إليهم السلطان العساكر مع شمس الدين قراسنقر فاكتسحهم. وراجعوا الطاعة وقرر عليهم مالا حملوه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، وألف فرس واحدا وألفي جمل اثنين، وعشرة آلاف من الغنم. وأظهروا الإستكانة، ثم أظهروا النفاق فسار إليهم كافل المملكة سلار وبيبرس في العساكر فاستلحموهم وأبادوهم، وأصابوا أمواله ونعمهم ورجعوا. وأستأذن بيبرس في قضاء فرضه فخرج حاجا وكان أبو نمي أمير مكة قد توفي، وقام بأمره في مكة ابناه رميثة وخميصة، واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث فنقبا السجن وجاءا إلى بيبرس مستعدين على أخويهما فقبض عليهما بيبرس، وجاء بهما إلى القاهرة. وفي سنة ستين وسبعمائة بعدها خرجت الشواني مشحونة بالمقاتلة إلى جزيرة أرواد في بحر طرطوس، وبها جماعة من الإفرنج قد حصنوها وسكنوها فملكوها وأسروا أهلها وخربوها وأذهبوا آثارها والله تعالى ولي التوفيق. تقرير العهد لأهل الذمة حضر في سنة سبعمائة وزير من المغرب في غرض الرسالة فرأى حال أهل الذمة وترفهم وتصرفهم في أهل الدولة فنكره وقبح ذلك، واتصل بالسلطان نكيره فأمر بجمع الفقهاء للنظر في الحدود التي تقف عندها أهل الذمة بمقتضى عهود المسلمين لهم عند الفتح وأجمع الملأ فيهم على ما نذكر وهو أن يميز بين أهل الذمة بشعار يخصهم: فالنصارى بالعمائم السود، واليهود بالصفر، والنساء منهن بعلامات تناسبهن. وأن لا يركبوا فرسا ولا يحملوا سلاحا، وإذا ركبوا الحمير يركبونها عرضاً ويتنحون وسط الطريق، ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوت المسلمين، ولا يعلوا بناءهم على بناء المسلمين، ولا يظهروا شعائرهم ولا يضربوا بالنواقيس، ولا ينصروا مسلما ولا يهودوه، ولا يشتروا من الرقيق مسلما ولا من سباة مسلم، ولا من جرت عليه سهام المسلمين. ومن دخل منهم الحمام يجعل في عنقه جرساً يتميز به. ولا ينقشوا فص الخاتم
بالعربي، ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يخدموا في أعمالهم الشاقة مسلما. ولا يرفعوا النيران. ومن زنى منهم بمسلمة قتل. وقال البترك، بحضرة العدول حرمت على أهل ملتي وأصحابي مخالفة ذلك والعدول عنه. وقال رئيس اليهود: أوقعت الكلمة على أهل ملتي وطائفتي وكتب بذلك إلى الأعمال. ولنذكر في هذا الموضع نسخة كتاب عمر بالعهد لأهل الذمة بعد كتاب نصارى الشام ومصر ونصه: هكذا كتاب لعبد لله عمر امير المؤمنين من نصارى أهل الشام ومصر، لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا على أنفسنا أن لا تحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا علية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان في خطط. وأن نوسع أبوابنا للمارة ولبني السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوساً، ولا نكتم عيبا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحداً ولا نمنع أحدا من ذي قرابتنا الدخول في دين الإسلام إن أرادوه. وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتسمى بأسمائهم ولا نتكنى بكناهم، ولا نركب السروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية. وأن نجز مقدم رؤسنا، ونكرم نزيلنا حيث كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا، ولا نفتح كنفنا في طريق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا طواغيتنا. ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نوقد النيران في طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، ولا نطلع في منازلهم ولا نعلي منازلنا. فلما أتي عمر بالكتاب زاد فيه. ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطنا لكم علينا وضمناه على أنفسنا وأهل ملتنا فلا ذمة لنا عليكم، وقد حل بنا ما حل بغيرنا من أهل المعاندة والشقاق. فكتب عمر رضي الله عنه أمض ما سألوه، وألحق فيه حرفا اشترطه عليهم مع ما اشترطوه، من ضرب مسلما عمداً فقد خلع عهده. وعلى أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمة نصاً وقياساً. وأما كنائسهم فقال أبو هريرة أمر عمر بهدم كل كنيسة استحدثت بعد الهجرة، ولم يبق إلا ما كان قبل الإسلام. وسير عروة بن محمد فهدم الكنائس بصنعاء، وصالح القبط على كنائسهم وهدم بعضها، ولم يبق من الكنائس إلا ما كان قبل الهجرة. وفي إباحة رمها وإصلاحها لهم خلاف معروف بين الفقهاء، والله تعالى ولي التوفيق.
إيقاع الناصر بالتتر على شقحب: ثم تواترت الأخبار سنة اثنتين وسبعمائة بحركة التتر ؛ وأن قطلوشاه وصل إلى جهة الفرات، وأنه قدم كتابه إلى نائب حلب بأن بلادهم محلة، وأنهم يرتادون المراعي بنواحي الفرات فخادع بذلك عن قصده ويوهم الرعية أن يجفلوا من البسائط. ثم وصلت الأخبار بإجازتهم الفرات فأجفل الناس أمامهم كل ناحية، ونزل التتر مرعش. وبعث العساكر من مصر مدداً لأهل الشام فوصلوا إلى دمشق، وبلغهم هنالك أن السلطان قازان وصل في جيوش التتر إلى مدينة الرحبة ونازلها فقدم نائبها قرى وعلوفة واعتذر له بأنه في طاعته إلى أن يرد الشام، فإن ظفر به فالرحبة أهون شيء وأعطاه ولده رهينة على ذلك فأمسك عنه، ولم يلبث أن عبر الفرات راجعا إلى بلاده. وكتب إلى أهل الشام كتاباً مطولاً ينذرهم فيه أن يستمدوا عسكر السلطان أو يستجيشوه ويخادعهم بلين القول وملاطفته، وتقدم قطلوشاه وجوبان إلى الشام بعساكر التتر يقال في تسعين ألفا أو يزيدون. وبلغ الخبر إلى السلطان فقدم العساكر من مصر وتقدم بيبرس كافل المملكة إلى الشام، والسلطان وسلار على أثره ومعهم الخليفة أبو الربيع. وساروا في التعبية. ودخل بيبرس دمشق، وكان النائب بحلب قراسنفر المنصوري ، وقد اجتمع إليه كيبغا العادل نائب حماة وأسد الدين كرجي نائب طرابلس بمن معهم من العساكر فأغار التتر على القريتين، وبها أحياء من التركمان كانوا أجفلوا أمامهم من الفرات فاستاقوا أحياءهم بما فيها واتبعهم العساكر من حلب فأوقعوا بهم واستخلصوا أحياء التركمان من أيديهم. وزحف قطلوشاه وجوبان بجموعهما إلى دمشق يظنان أن السلطان لم يخرج من مصر، والعساكر والمسلمون مقيمون بمرج الصفر وهو المسمى بشقحب مع ركن الدين بيبرس، ونائب دمشق أقوش الأفرم ينتظرون وصول السلطان فارتابوا لزحف التتر وتأخروا عن مراكزهم قليلا، وارتاعت الرعايا من تأخرهم فأجفلوا إلى نواحي مصر. وبينما هم كذلك إذ وصل السلطان في عساكره وجموعه غرة رمضان من السنة فرتب مصافه وخرج لقصدهم فالتقى الجمعان بمرج الصفر، وحمل التتر على ميمنة السلطان فثبت الله أقدامهم وصابروهم إلى أن غشيهم الليل، واستشهد جماعة في الجولة. ثم انهزم التتر ولجؤا إلى الجبل يعتصمون به، واتبعهم السلطان فأحاط بالجبل إلى أن أظل الصباح. وشعر المسلمون باستماتتهم فأفرجوا لهم من بعض الجوانب، وتسلل معظمهم مع قطلوشاه وجوبان، وحملت العساكر الشامية على من بقي منهم
فاستلحموهم وأبادوهم. وأتبعت الخيول آثار المنهزمين، وقد اعترضتهم الأحوال بما كان السلطان قدم إلى أهل الأنهار بين أيديهم فبثقوها، ووحلت خيولهم فيها فاستوعبوهم قتلا وأسرا. وكتب السلطان إلى قازان بما يجدد عليه الحسرة ويملأ قلبه رعبا، وبعث البشائر إلى مصر. ثم دخل إلى دمشق وأقام بها عيد الفطر، وخرج لثالثه منها إلى مصر فدخلها آخر شوال في موكب حفل ومشهد عظيم، وقر الإسلام بنصره، وتيمن بنقيب نوابه، وأنشده الشعراء في ذلك. وفي هذه السنة توفي كيبغا العادل نائب حماة، وهو الذي كان ولي الملك بمصر كما تقدم ذكره فدفن بدمشق. وتوفي أيضا بليان الجو كندار نائب حمص. وتوفي أيضا القاضي تقي الدين بن دقيق العيد بمصر لولايته ست سنين بها، وولي مكانه بدر الدين بن جماعة. وهلك قازان ملك التتر، يقال أصابته حمى حادة للهزيمة التي بلغته فهلك وولي أخوه خربندا. وفيها أفرج السلطان عن رميثة وحميصة ولدي الشريف أبي نمي، وولاهما بدلا من أخويهما عطيفة وأبي الغيث، والله تعالى أعلم.
أخبار الأرمن أخبار الأرمن وغزو بلادهم وإدعاؤهم الصلح ثم مقتل ملكهم صاحب سيس علم يد التتر قد كان تقدم لنا ذكر هؤلاء الأرمن، وأنهم وإخوتهم الكرج من ولد قويل بن ناحور بن آزر، وناحور أخو إبراهيم عليه السلام. وكانوا أخذوا بدين النصرانية قبل الملة وكانت مواطنهم أرمينية، وهي منسوبة إليهم. وقاعدتها خلاط وهي كرسي ملكهم ويسمى ملكهم النكفور. ثم ملك المسلمون بلادهم وضربوا الجزية على من بقي منهم، واختلف عليهم الولاة ونزلت بهم الفتن، وخربت خلاط فانتقل ملكهم إلى سيس عند الدروب المجاورة لحلب، وانزووا إليها وكانوا يؤدون الضريبة للمسلمين. وكان ملكهم لعهد نور الدين العادل قليج بن اليون، وهو صاحب ملك الدروب، واستخدم للعادل وأقطع له، وملك المصيصة وأردن وطرسوس من يد الروم. وأبقاه صلاح الدين بعد العادل نور الدين على ما كان عليه من الخدمة. وغدر في بعض السنين بالتركمان فغزاهم صلاح الدين، وأخنى عليهم حتى أذعنوا ورجع إلى حاله من أداء الجزية والطاعة وحسن الجوار بثغور حلب. ثم ملكها لعهد الظاهر هيثوم بن قسطنطين بن يانس، ويظهر أنه من أعقاب قليج أو من أهل بيته. ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته وأقره على سلطانه، وأجلب مع التتر في غزواتهم على الشام. وغزا سنة اثنتين وستين صاحب بلاد الروم من التتر، واستنفر معه بني كلاب من أعراب حلب. وعاثوا في نواحي عنتاب. ثم ترهب هيثوم بن قسطنطين ونصب ابنه ليون للملك. وبعث الظاهر العساكر سنه أربع وستين، ومعه قلاون المنصور صاحب حماة إلى بلادهم فلقيهم ليون في جموعه قبل الدربند فانهزم وأسر وخرب العساكر مدينة سيس. وبذل هيثوم الأموال والقلاع في فداء ابنه ليون فشرط عليه الظاهر أن يستوهب سنقر الأشقر وأصحابه من أبغا بن هلاكو. وكان هلاكو أخذهم من سجن حلب فاستوهبهم وبعث بهم، وأعطى خمساً من القلاع منها: رغبان ومرزبان لما توفي هيثوم سنة تسع وستين. وملك بعده ابنه ليون وبقي الملك في عقبه. وكان بينهم وبين الترك نفرة واستقامة لقرب جوارهم من حلب. والترك يرددون العساكر إلى بلادهم حتى أجابوا بالصلح على الطاعة والجزية، وشحنة التتر مقيم عندهم بالعساكر من قبل شحنة بلاد الروم. ولما توفي ليون ملك بعده ابنه هيثوم، ووثب عليه أخوه سنباط فخلعه وحبسه بعد أن سمل عينه الواحدة، وقتل أخاهما الأصغر يروس. ونازلت عساكر الترك لعهده
قلعة حموض من قبل العادل كيبغا فاستضعف الأرمن سنباط وهموا به فلحق بالقسطنطينية وقدموا عليهم أخاه رندين فصالح المسلمين وأعطاهم مرعش، وجميع القلاع على جيحان، وجعلوها تخما، ورجعت العساكر عنهم. ثم أفرج رندين عن أخيه هيثوم الأعور سنة تسع وستين فأقام معه قليلاً. ثم وثب برندين ففر إلى القسطنطينية. وأقام هيثوم بسيس في ملك الأرمن، وقدم ابن أخيه تروس معسول أتابكا، واستقامت دولته فيهم. وسار مع قازان في وقعته مع الملك الناصر فعاث الأرمن في البلاد، واستردوا بعض قلاعهم، وخربوا تل حمدون. فلما هزم الناصر التتر سنة إثنتين وسبعمائة بعث العساكر إلى بلادهم فاسترجعوا القلاع وملكوا حمص واكتسحوا بسائط سيس وما إليها، ومنع الضريبة المقررة عليهم فأنقذ نائب حلب قراسنقر المنصوري سنة سبع وستمائة العساكر إليهم مع أربعة من الأمراء فعاثوا في بلادهم. واعترضهم شحنة التتر بسيس فهزموهم وقتل أميرهم وأسر الباقون. وجهز العساكر من مصر مع بكتاش الفخري أمير سلاح من بقية البحرية، وانتهوا إلى غزة، وخشي هيثوم مغبة هذه الحادثة فبعث إلى نائب حلب بالجزية التي عليهم لسنة خمس وقبلها. وتوسل بشفاعته إلى السلطان فشفعه وأمنه، وكان شحنة التتر ببلاد الروم لهذا العهد أرفلي، وكان قد أسلم لما أسلم أبغا، وبنى مدرسة بإذنه وشيد فيها مئذنة. ثم حدث بينه وبين هيثوم صاحب سيس وحشة فسعى فيه هيثوم عند خربندا ملك التتر بأنه مداخل لأهل الشام، وقد واطأهم على ملك سيس وما إليها وشهد له بالمدرسة والمئذنة وكتب بذلك إلى أرفلي بعض قرابته فأسرها في نفسه، واغتاله في صنيع دعاه إليه. وقبض على وافد من مماليك الترك كان عند هيثوم من قبل نائب حلب يطلب الجزية المقررة عليه، وهو أيدغدي الشهرزوري. ولم يزل في سجن التتر إلى أن فر من محبسه بتوريز سنة عشر وسبعمائة. ونصب لملك سيس أوشني بن ليون، وسار أرفلي إلى خربندا بفسابقه ألتاق أخو هيثوم بنسائه وولده مستعدين عليه فتفجع لهم خربندا وسط أرفلي وقتله وأقر أوشين أخاه في ملكه لسيس، فبادر إلى مراسلة الناصر بمصر، وتقرير الجزية عليه كما كانت وما زال يبعثها مع الأحيان، والله تعالى أعلم.
مراسلة ملك المغرب ومهاداته: كان ملك المغرب الأقصى من بني مرين المتولين أمره من بعد الموحدين، وهو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق قد بعث إلى السلطان الناصر سنة أربع وسبعمائة رسوله علاء الدين أيدغدي الشهرزوري من الشهرزورية المقربين هنالك أيام الظاهر بيبرس، ومعه هدية حافلة من الخيل
والبغال والإبل وكثير من ماعون المغرب وسائر طرفه، وجملة من الذهب العين في ركب عظيم من المغاربة ذاهبين لقضاء فرضهم. فقابلهم السلطان بأبلغ وجوه بالتكرمة، وبعث معهم أميراً لإكرامهم وقراهم في طريقهم حتى قضوا فرضهم، وعاد الرسول أيدغدي المذكور من حجه سنة خمس فبعث السلطان معه مكافأة هديتهم بما يليق بها من النفاسة وعين لذلك أميرين من بابه: أأيدغدي البابلي وأيدغدي الخوارزمي كل منهما لقبه علاء الدين فانتهوا إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان كما هو في ربيع الآخر سنة ست فقابلهم بما يجب لهم ولمرسلهم، وأوسع لهم في الكرامة والحباء، وبعثهم إلى ممالكه بفاس ومراكش ليتطوفا بها ويعاينا مسرتها. وهلك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان، وإنطلق الرسولان المذكوران من فاس راجعين من رسالتهما في رجب سنة سبع في ركب عظيم من أهل المغرب اجتمعوا عليهم لقصد الحج، ولقوا السلطان أبا ثابت الجزولي من بعد يوسف بن يعقوب في طريقهم فبالغ في التكرمة والإحسان إليهم. وبعث إلى مرسلهم الملك الناصر بهدية أخرى من الخيل والبغال والإبل. ثم مروا بتلمسان، وبها أبو زيان وأبو حمو ابنا عثمان بن يغمراسن فلم يصرفا إليهما وجهاً من القبول، وطلباً منهما خفير يخفرهما إلى تخوم بلادهما لما كانت نواحي تلمسان قد اضطربت بعد مهلك يوسف بن يعقوب، وما كان من شأنه فبعث معهما بعض العرب فلم يغن عنهم، واعترضهم في طريقهم أشرار حصن من زغبة بنواحي المرية فبالغوا في الدفاع فلم يغن عنهم. واستولى الأشرار على الركب بما فيه، ونهبوا جميع الحجاج ورسل الملك الناصر معهم. وخلصوا برؤوسهم إلى الشيخ بكربن زغلي شيخ بني يزيد بن زغبة بوطن حمزة بنواحي بجاية، فأوصلهم إلى السلطان بجاية أبي البقاء خالد من ولد الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص من ملوك أفريقية فكساهم وحملهم إلى حضرة تونس، وبها السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيي الواثق من بني عمه فبالغ في تكرمتهم. وسافر معهم إبراهيم بن عيسى من بني وسنار احد أمراء بني مرين كان أميراً على الغزاة بالأندلس، وخرج لقضاء فرضه فمر بتونس واستنهضه سلطانها على الإفرنج بجزيرة جربة، فسار إليها بقومه ومعه عبد الحق بن عمر بن رحو من أعيان بني مرين. وكان الشيخ أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني يحاصرها في عسكر تونس فأقام معهم مدة. ثم استوحش أبو يحيى اللحياني من سلطانه بتونس فلحق بطرابلس وساروا جميعاً إلى مصر، وتقدم السلطان بإكرامهم حتى قضوا فرضهم وعادوا إلى المغرب. واستمد أبو يحيى اللحياني السلطان الناصر فأمده بالأموال والمماليك، وكان سبباً لإستيلائه على الملك بتونس كما نذكره في أخباره أن شاء الله تعالى.
وحشة الناصر من كافليه بيبرس وسلار ولحاقه بالكرك وخلعه والبيعة لبيبرس: ثم عرضت وحشة بين السلطان الناصر وبين كافليه بيبرس وسلار سنة سبع فامتنع من العلامة على المراسم، وترددت بينه وبينهم السعاة بالعتاب، وركب بعض الأمراء في ساحة القلعة من جوف الليل، ودافعهم الحامية وافترقوا. وامتعض السلطان لذلك وإزداد وحشة. ثم سعى بكتمر الجوكندار في إصلاح الحال، وحمل السلطان على تغريب بعض الخواص من مماليكه إلى القدس. وكان بيبرس ينسب إليهم هذه الفتنة ونشأتها من أجلهم ففر بهم السلطان وأعتب الأميرين. ثم أعيد الموالي من القدس إلى محلهم من خدمتهم، واتهم السلطان الجوكندار في سعايته فسخطه وأبعده وبعثه نائباً عن صفد. ثم غص بما هو فيه من الجحر والإستبداد، وطلب الحج فهجره بيبرس وسلار، وسار على الكرك سنة ثمان. وودعه الأمراء واستصحب بعضاً منهم. فلما مرّ بالكرك دخل القلعة، وأخرج النائب جمال الدين أقوش الأشرف إلى مصر، وبعث عن أهله وولده كانوا مع المحمل الحجازي فعادوا إليه من العقبة وصرف الأمراء الذين توجهوا معه، وأظهر الإنقطاع بالكرك للعبادة، وأذن لهم في إقامة من يصلح لأمرهم فاجتمعوا بدار النيابة، وتشاوروا واتفقوا على أن يكون بيبرس سلطاناً عليهم، وسلار على نيابته. وبايعوا بيبرس في شوال سنة ثمان، ولقبوه المظفر. وقلده الخليفة أبو الربيع، وكتب للناصر بنيابة الكرك، وعينت له إقطاع يختص بها. وقام سيف الدين سلار بالنيابة على عادة من قبله، وأقر أهل الوظائف والرتب على مراتبهم. وبعث أهل الوظائف بطاعتهم واستقر بيبرس في سلطانه، والله تعالى أعلم. انتقاض الأمير بيبرس وعود الناصر إلى ملكه: ولما دخلت سنة تسع هرب بعض موالي الناصر فلحقوا بالكرك، وقلق الظاهر بيبرس المظفر وبعث في أثرهم فلم يدركوهم، واتهم آخرون فقبض عليهم، ونشأت الوحشة لذلك. واتصلت المكاتبة من الأمراء الذين بالشام إلى السلطان بالكرك، وخرج من مكانه يريد النهوض إليهم. ثم رجع ووصل كتاب نائب دمشق أقوش الأفرم فسكن الحال، وبعث الجاشنكير بيبرس إلى السلطان برسالة مع الأمير علاء الدين مغلطاي أيدغلي وقطلوبغا تتضمن الأرجاف فثارت لها حفائظه، وعاقب الرسولين، وكاتب أمراء الشام يتظلم من بيبرس وأصحابه بمصر ويقول:
سلمت لهم في الملك ورضيت بالضنك رجاء الراحة فلم يرجعوا عني، وبعثوا إلى بالوعيد وإنهم فعلوا ما فعلوا بأولاد المعز أيبك وبيبرس الظاهر ومثل ذلك من القول، ويستجدهم ويمت إليهم بوسائل التربية والعتق في دفاع هؤلاء عنه، وإلا لحقت ببلاد التتر. وبعث بهذه الرسالة مع بعض الجند كان مستخدماً بالكرك من عهد أقوش الأشرفي، وأقام هنالك وكان مولعاً بالصيد فاتصل بالسلطان في مصايده. وبث إليه ذات يوم شكواه فقال: أنا أكون رسولك إلى أمراء الشام فبعث إليهم بهذه الرسالة فامتعضوا وأجابوه بالطاعة كما يجب منهم. وسار السلطان إلى البلقاء، وأرسل جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق إلى مصر فأخبر الجاشنكير بيبرس بالحال، واستمده بالعساكر للدفاع فبعث إليه بأربعة آلاف من العساكر مع كبار الأمراء، وأزاح عللهم وأنفق في سائر العساكر بمصر، وكثر الأرجاف وشغبت العامة، وتعين مماليك السلطان للخروج إلى النواحي إسترابة بمكانهم. ووصل الخبر برجوع السلطان من البلقاء إلى الكرك لرأي رآه، واستراب لرجعته سائر أصحابه وحاشيته. وخاف أن يهجمهم عساكر مصر بما كان يشاع عندهم من اعتزام بيبرس على ذلك. ثم دس السلطان إلى مماليكه وشيع إليهم فأجابوه، وأعاد الكتاب إلى نواب الشام: مثل شمس الدين اقسنقر نائب حلب، وسيف الدين نائب حمص فأجابوه بالسمع والطاعة، وبعث نائب حلب ولده إليه واستنهضوه للوصول فخرج من الكرك في شعبان سنة تسع، ولحق به طائفة من أمراء دمشق. وبعث النائب أقوش أميرين لحفظ الطرقات فلحقا بالسلطان. وكتب بيبرس الجاشنكير إلى نواب الشام بالوقوف مع جمال الدين أقوش نائب دمشق والإجتماع على السلطان الناصر عن دمشق فأعرضوا ولحقوا بالسلطان وسار أقوش إلى البقاع والشقيف، واستأمن إلى السلطان فبعث إليه بالأمان مع أميرين من أكابر أمرائه. وسار إلى دمشق فدخلها وهي خالصة يومئذ لسيف الدين بكتمرأمير جامدار جاءه من صفد وهاجر إلى خدمته فتلقاه وجازاه أحسن الجزاء. ثم وصل أقوش الأفرم فتلقاه السلطان بالمبرة والتكرمة، وأقره على نيابة دمشق. واضطربت أمور الجاشنكير بمصر، وخرجت طائفة من مماليك السلطان هاربين إلى الشام فسرح في أثرهم العساكر فأدركوهم، ونال الهاربون منهم قتلاً وجراحة ورجعوا، وثاب العامة والغوغاء وأحاصوا بالقلعة وجاهروا بالخلعان. وقبض على بعضهم وعوقب فلم يزدهم إلا عتوا وتحاملا. وارتاب الجاشنكير لحاله، واجتمع الناس للحلف، وحضر الخليفة وجدد عليه وعليهم الحلف، وبعث نسخة البيعة لتقرأ بالجامع يوم الجمعة فصاح الناس بهم وهموا أن يحصبوهم على المنابر، فرجع إلى النفقة وبذل المال، واعتزم على المسير إلى الشام. وقدم أكابر الأمراء فلحقوا بالسلطان، وزاد اضطراب بيبرس وخرج السلطان من دمشق منتصف رمضان، وقدم بين يديه أميرين من أمراء غزة فوصلاها، واجتمعت إليه ا العرب والتركمان وبلغ الخبر إلى الجاشنكير فجمع إليه شمس الدين سلار وبدر الدين بكتوت الجو كندار وسيف الدين السلحدار، وفاوضهم في الأمر فرأوا أن الخرق قد إتسع، ولم يبق إلا البدار بالرغبة إلى السلطان أن يقطعه الكرك أو حماة أو صهيون، ويتسلم السلطان ملكه فأجمعوا على ذلك، وبعثوا بيبرس الدوادار وسيف الدين بهادر بعد أن أشهد الجاشنكير بالخلع، وخرج من القلعة إلى أطفيح بمماليكه فلم يستقر بها، وتقدم قاصداً أسوان واحتمل ما شاء من المال والذخيرة، وخيول الإصطبل. وقام بحفظ القلعة صاحبه سيف الدين سلار، وكاتب السلطان يطالعه بذلك، وخطب للسلطان على المنابر ودعي باسمه على المآذن، وهتف باسمه العامة في الطرقات. وجهز سلار سائر شعار السلطنة ووصلت رسل الجاشنكير إلى السلطان بما طلب فأسعفه بصهيون وردهم إليه بالأمان والولاية، ووافى السلطان عيد الفطر بالبركة ولقيه هنالك سيف الدين سلار وأعطاه الطاعة. ودخل السلطان إلى القلعة، وجلس باقي العيد بالإيوان جلوساً فخماً، واستخلف الناس عامة. وسأله سلار في الخروج إلى إقطاعه فأذن له بعد أن خلع عليه فخرج ثالث شوال، وأقام ولده بباب السلطان. ثم بعث السلطان الأمراء إلى أخميم فانتزعوا من الجاشنكير ما كان احتمله من المال والذخيرة وأوصلوها إلى الخزائن ووصل معهم جماعة من مماليكه كانوا أمراء، واختاروا الرجوع إلى السلطان. وولى السلطان سيف الدين بكتمر الجو كندار أمير جاندار نائباً بمصر، وقراسنقر المنصور نائباً بدمشق. وبعث نائبها الأفرم نائباً بصرخد، وسيف الدين بهادر نائباً بطرابلس، وخرجوا جميعاً إلى الشام. وقبض السلطان على جماعة من الأمراء ارتاب بهم، وولى على وزارته فخر الدين عمر بن الخليلي عوضاً عن ضياء الدين أبي بكر ثم إنصرف بيبرس الجاشنكيرمتوجهاً إلى صهيون وبها بهادر بها الأشجعي موكل به إلى حيث قصد، ورجع عنه الأمراء الذين كانوا عنده إلى السلطان فاستضاف بعضهم إلى مماليكه، واعتقل بعضهم. ثم بدا للسلطان في أمره، وبعث إلى قراسنقر وبهادر، وهما مقيمان بغزة، ولم ينفصلا إلى الشام أن يقبضا عليه فقبضا عليه وبعثا به إلى القلعة آخر ذي القعدة فاعتقل ومات هنالك، والله تعالى ولي التوفيق.
خبر سلار ومآل أمره: لما إنتقل السلطان الناصر إلى ملكه بمصر، وكان لسلار من السعي في أمره وتمكين سلطانه ما ذكرناه، وكانت له ذمة عند السلطان يعتني برعيها له. وكانت الشويك من إقطاعه فرغب إلى السلطان في المسير إليها والتخلي فيها فأذن له، وخلع عليه وزاده في إقطاعه وإقطاع مماليكه، واتبعه مائة من الطواشية بإقطاعهم. وسار من ما عمر إلى الشويك في شوال سنة ثمان وسبعمائة. ثم بعث له داود المقسور بالكرك مضافاً إلى الشويك وباللواء وبخلعة مذهبة ومركب ثقيل ومنطقة مجوهرة وأقام هنالك فلما كانت سنة عشر بعدها نمي إلى السلطان عن جماعة من الأمراء أنهم معتزمون على الثورة وفيهم أخو سلار فقبض عليهم جميعاً وعلى شيع سلار وحاشيته الذين بمصر وبعث علم الدين الجوالي لإستقدامه من الكرك تأنيسا له وتسكيناً فقدم في ربيع من السنة واعتقل إلى أن هلك في معتقله واستصفيت أمواله وذخائره بمصر والكرك، وكانت شيئاً لا يعبر عنه من الأموال والفصوص واللالىء والأقمصة والدروع والكراع والإبل. ويقال أنه كان يغلّ كل يوم من أقطاعه وضياعه ألف دينار. وأما أوليته فإنه لما خلص من أسر التتر صار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور قلاون، ولما مات صار لأبيه قلاون، ثم لابنه الأشرف، ثم لأخيه محمد بن الناصر. وظهر في دولهم كلها، وكان بينه وبين لاشين مودة فاستخدم له وعظم في دولته متقرباً في المراكب متحريا لمحبة السلطان إلى أن إنقرض أمره. ويقال أنه لما إحتضر في محبسه قيل له قد رضي عنك السلطان فوثب قائماً ومشى خطوات ثم مات، والله أعلم. انتقاض النواب بالشام ومسيرهم إلى التتر وولاية تنكز على الشام: كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه، ونقل إليها قراسنقر المنصوري من نيابة دمشق، وولى مكانه بدمشق سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة. ثم سخطه واعتقله، وولى مكانه بدمشق جمال الدين أقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك.
وتوفي بها محمد نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد. ثم قبض على بكتمر الجو كندار نائب مصر وحبسه بالكرك، وجعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار. ثم ارتاب قراسنقر نائب حلب فهرب إلى البرية واجتمع مع مهنا بن عيسى، ويقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان، فرجع إلى الفرات وبعث مهنا بن عيسى شافعا له عند السلطان فقبله ورده إلى نيابة حلب. ثم بلغ السلطان أن خربندا ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر وتقدم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قراسنقر، وخرج من حلب وعبر الفرات، ثم راجع نفسه واستأمن السلطان على أن يقيم- بالفرات فأقطعه السلطان الشويك يقيم بها فلم يفعل، وبقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى. ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به، وفيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس، وأمضوا عزمهم على اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحبها بالكرامة. وحمل إليهم تسعين ألف درهم ورتب لهم الأتاوات. ثم ساروا إلى خلاط إلى أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه واستحثوه للشام. وبلغ الخبر إلى السلطان فأتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قراسنقر وأصحابه فاستدعاهم وعساكرهم، وبعث على حلب سيف الدين مكان قراسنقر، وعلى طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش. وبعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا. ووصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعاً وعلى أقوش الأشرفي نائب دمشق وولى مكانه تنكز الناصري سنة إثنتي عشرة، وجعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية. وقبض على نائبه بمصر بيبرس الدوادار وحبسه بالكرك وولى مكانه أرغون الدوادار وعسكر بظاهر القلعة. وإرتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة ونازلها، وإنصرف عنها راجعاً فانكفأ السلطان إلى دمشق، وفرق العساكر بالشام. ثم سار إلى الكرك واعتزم على قضاء فرضه تلك السنة وخرج حاجا من الكرك. ورجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام، وبعث إلى مهنا بن عيسى يستميله وعاد الرسول بامتناعه. ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا وأقطعه بالعراق وأقام هنالك فلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رجوع حماة إلى بني المظفر شاهنشاه بن أيوب ثم لبني الأفضل منهم وإنقراض أمرهم : قد كان تقدم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع وسبعين وخمسمائة، فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فأقطعها ابنه ناصر الدين محمداً ولقبه المنصور. وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة بعد عمه صلاح الدين والعادل فوليها ابنه قليج أرسلان، ويلقب الناصر سنة ست وعشرين، وكان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزة بالعساكر من دمشق وملكها من يد أخيه، وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث وأربعين وولى ابنه محمد ويلقب المنصور، ولم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هارباً إلى مصر أيام التتر، فسار معه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل. ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو، واستمر المنصور إلى مصر فأقام بها. وملك هلاكو الشام وقتل الناصر وسائر بني أيوب كما مرّ. ثم سار قطز إلى الشام عندما رجع هلاكو عنه عندما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر، وولى على قواعده وأمصاره، ورد المنصور إلى حماة فلم يزل والياً عليها. وحضر واقعة قلاون على التتر بحمص سنة ثلاثين، وكان يتردد إلى مصر سائر أيامه ويخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن وغيرها. ويعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك. ثم توفي سنة ثلاث وثمانين وأقر قلاون ابنه المظفر على ما كان أبوه، وجرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان وتسعين عندما بويع الناصر محمد بن قلاون بعد لاشين، وانقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قراسنقر من أمراء الترك، نقله إليها من الضبينة وأمره باستقرار بني أيوب وسائر الناس على إقطاعهم. ثم كان استيلاء قازان على الشام، ورجوعه سنة تسع وتسعين ومسير بيبرس وسلار، وانتزاع الشام من التتر. وكان كيبغا العادل الذي ملك مصر وخلعه لاشين نائباً بصرخد فجلا في هذه الوقائع وتنصح لبيبرس وسلار، وحضر معهم بدمشق فولوه على حماة. وغزا بالعساكر بلاد الأرمن، وحضر هزيمة التتر مع الناصر سنة إثنتين وسبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها. وولى السلطان بعده سيف الدين قفجق، استدعاه إليها من أقطاعه بالشويك. وكان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور، وخلف ولداً اسمه إسماعيل ولقبه عماد الدين، ونشأ في دولتهم عاكفا على العلم والأدب حتى توفر منهما حظه، وله كتاب في التاريخ مشهور. ولما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس وسلار، راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت، واختار منهم عماد الدين إسماعيل هذا،
وولاه على حماة مكان قومه سنة ست عشرة وسبعمائة. وكان عند رجوعه إلى ملكه قد ولّى نيابة حلب سيف الدين قفجق وجعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي. وتوفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه، وولى إسماعيل على حماة كما قلنا ولقبه المؤيد، ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة إثنتين وثلاثين. وولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك. ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، وقام بعده بالأمر مولاه قوص، ونصب ابنه أبا بكر محمدا فكان أول شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة. وبعث عليها مكانه صقر دمول النائب، وسار الأفضل إلى دمشق فمات بها سنة إثنتين وأربعين، وإنقرضت إيالة بني أيوب من حماة، والبقاء لله وحده لا رب غيره ولا معبود سواه.
غزو العرب بالصعيد وفتح ملطية وآمد: ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام مورياً بالنزهة، وقد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب وفسادهم في نواحيه وأضرارهم بالسابلة، فسرح العساكر في كل ناحية منه، وأخذ الهلاك منهم مأخذه إلى أن تغلب عليهم واستباحهم من كل ناحية وشرد بهم من خلفهم. ثم سرح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية وهي للأرمن وملكها عنوة. وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام وستة من أمراء مصر ونازلوها في محرم سنة خمس عشرة، وبها جموع من نصارى الأرمن والعربان وقليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد، واقتحموها عنوة واستباحوها وجاؤا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان وأنعم عليه. ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه. ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها، وجاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها واستباحوها وغنموا منها أموالا جمة. والله تعالى ينصر من يشاء من عباده. الولايات وفي سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين نمر نائب طرابلس الذي وليها بعد أقوش إلى الأفرم وأمده به، وسيق معتقلاً إلى مصر، وولى مكانه سيف الدين كستاي. ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص، وولى نيابة حمص سيف الدين أقطاي، ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية، وصرف نائباً إلى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلاً وحبسه بالإسكندرية. وبعث على صفد سيف
الدين أقطاي، نقله إليها من حمص، وبعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني والله تعالى أعلم.
العمائر ابتدأ السلطان سنة إحدى عشرة وسبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر وأكمله، ووقف عليه الأوقاف المغلة. ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية. وفي سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن، وزيد فيه إلى الحد الذي هو عليه بهذا العهد. ثم أمر في سنة ثلاث وعشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس، وبنى بإزائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه. وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر بعمارة الإيوان الضخم بالقلعة، وجعله مجلس ملكه وبيت كرسيه ودعاه دار العدل. والله تعالى أعلم. حجات السلطان: وحج الملك الناصر محمد بن قلاون في أيام دولته ثلاث حجات أولا: سنة ثلاث عشرة عند ما إنقرض قراسنفر نائب حلب، وأقوش الأفرم نائب طرابلس، ومهنا بن عيسى أمير العرب. وجاء خربندا إلى الشام ورجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام، وبلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجا، وقضى فرضه سنة ثلاث عشرة ورجع إلى الشام. ثم حج الثانية سنة تسع عشرة، ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة، ومعه المؤيد صاحب حماة، والأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى ولما قضى حجه إنطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى اليمن، ورجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة من بني حسن، وعن المعتقلين بمحبسه، ووصله و وصلهم. ثم حج الثالثة سنة إثنتين وثلاثين، ومعه الأفضل بن المؤيد صاحب حماة على عادة أبيه في مراكبة السلطان، وقفل من حجه سنة ثلاث وثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصفحاً بالفضة، أنفق فيه خمسة وثلاثين ألف درهم. وفي منصرفه من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه وخواصه، ويقال أنه سمه، وهو من مماليك بيبرس الجاشنكير. وانتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة، وعظمت منزلته عنده ولطفت خلته حتى كانا لا يفترقان، إما في بيت السلطان وإما في بيته. وكان حسن السياسة في الغاية وخلف بعد وفاته من الأموال والجواهر والذخائر ما يفوت الحصر، والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.
أخبار النوبة وإسلامهم:
قد تقدم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاون، لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم وقررها الملوك بعد ذلك. وربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عساكر المسلمين من مصر حتى يستقيموا. وكان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاون إليها سنة ثمانين وستمائة، واسمه سمامون. ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي ، لا أدري أكان معاقباً لسمامون أو توسط بينهما متوسط. وتوفي آي سنة ست عشرة وسبعمائة، وملك بعده في دنقلة أخوه كربيس. ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلي، وأسلم فحسن إسلامه، وأجرى له رزقاً وأقام عنده. فلما كانت سنة ست عشرة أمتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر، وبعث معها عبد الله نشلي المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم، فخام كربيس عن لقائهم وفر إلى بلد الأبواب. ورجعت العساكر إلى مصر، واستقر نشلي في ملك النوبة على حاله من الإسلام. وبعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه وأقام بباب السلطان. ثم أنّ أهل النوبة اجتمعوا على نشلي وقتلوه بممالأة جماعة من العرب سنة تسع، وبعثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألفوه بمصر. وبلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها وإنقطعت الجزية بإسلامهم. ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملأوها عيثاً وفساداً. وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا. ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم، وثار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم، واستولى أعراب جهينة على بلادهم، وليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض، فصاروا شيعاً لهذا العهد. ولم يبق لبلادهم رسم للملك، وإنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الأعراب. ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحلته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والإلتحام ، والله غالب على أمره، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
بقية أخبار الأرمن إلى فتح أياس ثم فتح
سيس وإنقراض أمرهم:
قد كنا قدمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد أيدغدي شحنة التتر ببلاد
الروم
سنة سبع، واستقرار الملك بسيس لأخيه أوسير بن ليون. وكان بينه وبين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان، ولم يزل أوسير بن ليون ملكاً عليهم إلى سنة إثنتين وسبعين فهلك ونصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيراً ابن إثنتي عشرة سنة. وكان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع وجهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده وخربوها، وهلك أوسير على أثر ذلك. ثم أمر الناصر كيبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست وثلاثين، واكتسح جهاتها وحصر قلعة النقير وافتتحها. وأسر من الأرمن عدة يقال بلغوا ثلثمائة، وبلغ خبرهم إلى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين وأحرقوهم غضبا للأرمن لمشاركتهم في دين ا لنصرا نية. ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرفه بدخوله في الإسلام، ويستنفر عساكره لجهاد نصارى الأرمن فأسعفه بذلك، وجهز إليه عساكر الشام من دمشق وحلب وحماة سنة سبع وثلاثين ونازلوا مدينة أياس ففتحوها وخربوها، ونجا فلهم إلى الجبال فاتبعتهم عساكر حلب وعادوا إلى بلادهم. ثم سار سنة إحدى وستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنة وطرطوس والمصيصة، ثم قلعتي كلال والجريدة وسنباط كلا وتمرور. وولى نائبين في أذنة وطرطوس، وعاد إلى حلب، وولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست وسبعين، وحصر سيس وقلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم. وجهدهم الحصار فاستأمنوا ونزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور وأمراؤه وعساكره إلى عشقيم فبعث بهم الى مصر، واستولى المسلمون على سيس وسائر قلاعها، وانقرضت منها دولة الأرمن، والبقاء لله وحده إنتهى.
الصلح مع ملوك التتر وصهر الناصر مع ملوك الشمال منهم: كان للتتر دولتان مستفحلتان إحداهما دولة بني هلاكو آخذ بغداد والمستولي على كرسي الإسلام بالعراق، وأصارها هو وبنوه كرسياً لهم. ولهم مع ذلك عراق العجم وفارس وخراسان وما وراء النهر، ودولة بني دوشي خان بن جنكز خان بالشمال متصلة إلى خوارزم بالمشرق إلى القرم وحدود القسطنطينية بالجنوب، وإلى أرض بلغار بالمغرب. وكان بين الدولتين فتن وحروب كما تحدث بين الدول المجاورة، وكانت دولة الترك بمصر والشام مجاورة لدولة بني هلاكو، وكانوا يطمعون في ملك الشام ويرددون الغزو إليه مرة بعد أخرى، ويستميلون أولياءهم وأشياعهم من العرب والتركمان فيستظهرون بهم عليهم كما رأيت ذلك في أخبارهم. وكانت
بين ملوكهم من الجانبين وقائع متعددة، وحروبهم فيها سجال، وربما غلبوا من الفتنة بين دولة دوشي وبين بني هلاكو. ولبعدهم عن فتنة بني دوشي خان لتوسط الممالك بين مملكتهم ومملكة مصر والشام فتقع لهم الصاغية إليهم، وتتجدد بينهم المراسلة والمهاداة في كل وقت، ويستحث ملك الترك ملك صراي من بني دوشي خان لفتنة بني هلاكو والأجلاب عليهم في خراسان وما إليها من حدود مملكتهم ليشغلوهم عن الشام، ويأخذوا بحجزتهم عن النهوض اليه. وما زال دأبهم من أول دولة الترك. وكانت رغبة بني دوشي خان في ذلك أعظم، يفتخرون به على بني هلاكو. ولما ولي صراي أنبك من بني دوشي خان ثلاث عشرة، وكان نائباً ببلاد الروم قطلغمير، وفدت عليه الرسل من مصر على العادة فعرض لهم قطلغمير بالصهر مع السلطان الناصر ببعض نساء ذلك البيت، على شرطية الرغبة من السلطان في ظاهر الأمر، والتمهل منهم في إمضاء ذلك. وزعموا أن هذه عادة الملوك منهم ففعل السلطان ذلك، وردد الرسل والهدايا أعواماً ستة إلى أن استحكم ذلك بينهم، وبعثوا إليه بمخطوبته طلبناش بنت طغاجي بن هند وابن بكر بن دوشي سنة عشرين، مع كبير المغل وكان مقلداً يحمل على الأعناق، ومعهم جماعة من أمرائهم، وبرهان الدين أمام أزبك ومروا بالقسطنطينية فبالغ لشكري في كرامتهم. يقال أنه أنفق عليهم ستين ألف دينار، وركبوا البحر من هناك إلى الإسكندرية. ثم ساروا بها إلى مصر محمولة على عجلة وراء ستور من الذهب والحرير يجرها كديش يقوده إثنان من مواليها في مظهر عظيم من الوقار والتجلة. ولما قاربوا مصر ركب للقائهم النائبان أرغون وبكتمر الساقي في العساكر وكريم الدين وكيل السلطان، وأدخلت الخاتون إلى القصر، واستدعى ثالث وصولها القضاء والفقهاء وسائر الناس على طبقاتهم إلى الجامع بالقلعة، وحضر الرسل الوافدون عندهم بعد أن خلع عليهم. وإنعقد النكاح بين وكيل السلطان ووكيل أزبك، وإنفض ذلك المجمع وكان يوماً مشهوداً. ووصلت رسل أبي سعيد صاحب بغداد والعراق سنة اثنتين وعشرين وفيهم قاضي توريز يسألون الصلح، وانتظام الكلمة واجتماع اليد على إقامة معالم الإسلام من الحج وإصلاح السابلة وجهاد العدو، فأجاب السلطان إلى ذلك، وبعث سيف الدين أيتمش المحمدي لأحكام العقد معهم وامتضاء إيمانهم فوجهه لذلك بهدية سنية، وعاد سنة ثلاث وعشرين ومعه رسل أبي سعيد، ومعه جوبان لمثل ذلك فتم ذلك وانعقد بينهم. وقد كانت قبل ذلك تجددت الفتنة بين أبي سعيد وصاحب صراي نفرة من أزبك صاحب صراي من تغلب جوبان على أبي سعيد وفتكه في المغل. وكانت بين جوبان وبين سبول صاحب خوارزم وما وراء النهر فتنة ظهر فيها أزبك وأمده بالعساكر، فاستولى أزبك على أكثر بلاد خراسان، وطلب من الناصر بعد الإلتحام بالصهر المظاهرة على أبي سعيد وجوبان فأجابه إلى ذلك. ثم بعث إليه أبو سعيد في الصلح كما قلناه فآثر وعقد له. وبلغ الخبر إلى أزبك ورسل الناصر عنده فأغلظ في القول، وبعث بالعتاب. واعتذر له الناصر بأنهم إنما دعوه لإقامة شعائر الإسلام، ولا يسع التخلف عن ذلك فقبل. ثم وقعت بينه وبين أبي سعيد مراوضة في الصلح بعد أن استرد جوبان ما ملكه أزبك من خراسان، فتوادع كل هؤلاء الملوك واصطلحوا ووضعوا أوزار الحرب حيناً من الدهر، إلى أن تقلبت الأحوال وتبدلت الأمور، والله مقلب الليل والنها ر.
مقتل أولاد بني نمى أمراء مكة من بني حسن: قد تقدم لنا استيلاء قتادة على مكة والحجاز من يد الهواشم واستقرارها لبنيه إلى أن استولى منهم أبو نمي، وهو محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة. ثم توفي سنة إثنتين وسبعمائة وولي مكانه ابناه رميثة وخميصة، واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث ولما حج الأميران كافلا المملكة بيبرس وسلار هربا إليهما من مكان إعتقالهما وشكيا ما نالهما من رميثة وخميصة فأشكاهما الأميران واعتقلا رميثة وخميصة وأوصلاهما إلى مصر، ووليا عطيفة وأبا الغيث، وبعثا بهما إلى السلطان صحبة الأمير أيدمر الكوكبي الذي جاء بالعساكر معهما. ثم رضي السلطان عنهما وولاهما مكان رميثة وخميصة وبعث معهما العساكر ثانياً سنة ثلاث عشرة، وفر رميثة وخميصة عن البلاد، ورجع العسكر. وأقام أبو الغيث وعطيفة فرجع إليهما رميثة وخميصة، وتلاقوا فانهزم أبو الغيث وعطيفة فسارا إلى المدينة في جوار منصور بن حماد فأمدهما ببني عقبة وبني مهدي، ورجع إلى حرب رميثة وخميصة فاقتتلوا ثانياً ببطن مرو فانهزم أبو الغيث وقتل. واستمر رميثة وخميصة، ولحق أخوهما عطيفة وسار معهما. ثم تشاجروا سنة خمس عشرة، ولحق رميثة بالسلطان مستعدياً على أخويه فبعث معه العساكر، ففر خميصة بعد أن استصفى أهل مكة وهرب إلى السبعة مدن، ولحقته العساكر فاستلحق أهل تلك المدن ولقيهم فانهزموا ونجا خميصة بنفسه. ثم رجعت العساكر فرجع وبعث رميته يستنجد السلطان فبعث إليه العساكر ففر خميصة. ثم رجع واتفق مع أخويه رميثة وعطيفة، ثم لحق عطيفة بالسلطان سنة ثمان عشرة، وبعث معه العساكر فقبضوا على رميثة وأوصلوه معتقلا فسجن بالقلعة. واستقر عطيفة بمكة، وبقي خميصة مشرداً. ثم لحق بملك التتر ملك العراق خربندا واستنجده على ملك الحجاز فأنجده بالعساكر وشاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في
إخراج الشيخين من قبريهما، وعظم ذلك على الناس. ولقيه محمد بن عيسى أخو مهنا حسبة وامتعاضا للدين. وكان عند خربندا فأتبعه واعترضه وهزمه. ويقال أنه أخذ منه المعاول والفؤس التي أعدوها لذلك. وكان سبباً لرضا السلطان عنه. وجاء خميصة إلى مكة سنة ثماني عشرة، وبعث الناصر العساكر إليه فهرب وتركها. ثم أطلق رميثة سنة تسع عشرة فهرب إلى الحجاز ومعه وزيره علي بن هنجس فرد من طريقه واعتقل، وأفرج عنه السلطان بعد مرجعه من الحج سنة عشرين. ثم أن خميصة استأمن السلطان سنة عشرين، وكان معه جماعة من المماليك هربوا إليه فخاموا أن يحضروا معه إلى السلطان فاغتالوه وحضروا. وكان السلطان قد أطلق رميثة من الإعتقال فأمكنه منهم فثأر من المباشر قتل أخيه، وعفا عن الباقين. ثم صرف السلطان رميثة إلى مكة، وولاه مع أخيه عطيفة واستمرت حالهما. ووفد عطيفة سنة إحدى وعشرين على الأبواب، ومعه قتادة صاحب الينبع يطلب الصريخ على ابن عمه عقيل قاتل ولده فأجابه السلطان وجهز العساكر لصريخه، وقوبل كل منهما بالأكراد وانصرفوا. وفي سنة إحدى وثلاثين وقعت الفتنة بمكة وقتل العبيد جماعة من الأمراء والترك فبعث السلطان أيدغمش ومعه العساكر فهرب الشرفاء والعبيد وحضر رميثة وبذل الطاعة وحلف متبرئاً مما وقع فقبل منه السلطان وعفا له عنها، واستمرت حاله على ذلك إلى أن هلك سنة... وتداولت الإمارة بين إبنيه عجلان وبقية. ثم استبد عجلان كما نذكره في أخبارهم وورثتها بنوه لهذا العهد كما نذكره مرتباً في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
حج ملك التكرور: كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأول والثاني منقسماً بين أمم من السودان. أولهم مما يلي البحر المحيط أمة صوصو، وكانوا مستولين على غانة ودخلوا في الإسلام أيام الفتح وذكر صاحب كتاب رجاز في الجغرافيا أن بني صالح من بني عبد الله بن حسن بن الحسن كانت لهم بها دولة وملك عظيم، ولم يقع لنا في تحقيق هذا أكثر من هذا. وصالح من بني حسن مجهول، وأهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو. ثم يلي أمة صوصو أمة مالي من شرقهم وكرس ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقاً عنهم أمة كوكو. ثم التكرور بعدهم، وفيما بينهم وبين النوبة أمة كانم وغيرها. وتحولت الأحوال باستمرار العصور
فاستولى أهل مالي على ما وراءهم وبين أيديهم من بلاد صوصو وكوكو، وآخر ما استولوا عليه بلاد التكرور. واستفحل ملكهم إلى الغاية، وأصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب ودخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين. وحج جماعة من ملوكهم. وأول من حج منهم برمندار، وسمعت في ضبطه من
بعض فضلائهم برمند أنه، وسبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده. ثم حج منهم منساولي بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس. وحج بعده منهم مولاهم صاكوره، وكان تغلب على ملكهم وهو الذي افتتح مدينة كوكو. ثم حج أيام الناصر وحج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر، عند ذكر صنهاجة ودولة لمتونة من شعوبهم. ولما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج سلك على طريق الصحراء، وخرج عند الأهرام بمصر، وأهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال أن فيها خمسين ألف دينار، وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياها ولقيه السلطان بمجلسه، وحدثه ووصله وزوده وقرب إليه الخيل والهجن، وبعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين ورجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله. وذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل والركب وإنفرد بقومه عن العرب وهي كلها مجاهل لهم، فلم يهتدوا إلى عمران ولا وقفوا على مورد، وساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس وهم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها والأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا. ثم جدد السلطان له الكرامة ووسع له في الحباء، وكان أعد لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفدت كلها، وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار، وكان في صحبته منهم بنو الكويك فأقرضوه خمسين ألف دينار وابتاع منهم القصر الذي أقطعه السلطان وأمضى له ذلك. وبعث سراج الدين الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك. وأتبعه سراج الدين آخرا بابنه فمات هنالك. وجاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض، وهلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء إنتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم. أنجاد المجاهد ملك اليمن: قد تقدم لنا استبداد علي بن رسول، فملك بعد مهلك سيده يوسف أتسز بن الكامل بن العادل بن أيوب ويلقب المسعود، وكان علي بن رسول أستاذ داره ومستولياً على دولته. فلما هلك سنة ست وعشرين وستمائة نصب ابن رسول ابنه موسى الأشرف لملكه وكفله قريباً.
واستولى ابن رسول وأورث ملكه باليمن لبنيه لهذا العهد، وانتقل الأمر للمجاهر منهم علي بن داود والمؤيد بن يوسف المظفر بن عمر بن المنصور بن علي بن رسول سنة إحدى وعشرين. وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف فظهر عليه المجاهد واعتقله. ثم انتقض عليه عمه المنصور سنة ثلاث وعشرين وحبسه، وأطلق من محبسه واعتقل عمه المنصور. وكان عبد الله الظاهر بن المنصور قائماً بأمر أبيه ومنازلة المجاهد سنة أربع وعشرين فبعث بالصريخ إلى الناصر سليمان الترك بمصر، وكان هو وقومه يعطونهم الطاعة ويبعثون إليهم الأتاوة من الأموال والهدايا وطرف اليمن وما عونه، فجهزهم الناصر صحبة بييرس الحاجب ؛ وطبنال من أعظم أمرائه فساروا إلى اليمن، ولقيهم المجاهد بعدن فأصلحوا بين الفريقين على أن تكون… ويستقر المجاهد في سلطانه باليمن ومالوا على كل من كان سبباً في الفتنة فقتلوهم ودوخوا اليمن وحملوا أهله على طاعة المجاهد، ورجعوا إلى محلهم من الأبواب السلطانية، والله تعالى ولي التوفيق.
ولاية أحمد ابن الملك الناصر على الكرك: ولما استفحل ملك السلطان الناصر واستمر وكثر ولده طمحت نفسه إلى ترشيح ولده لتقر عينه بملكهم فبعث كبيرهم أحمد إلى قلعة الكرك سنة ست وعشرين، ورتب الأمراء المقيمين بوظائف السلطان فسار إلى الكرك وأقام بها أربع سنين ممتعاً بالملك والدولة، وأبوه قرير العين بإمارته في حياته. ثم استقدمه سنة ثلاثين وأقام فيه سنة الختان واحتفل في الصنيع له، وختن معه من أبناء الأمراء والخواص جماعة إنتقاهم ووقع إختياره عليهم. ثم صرفه إلى مكان إمارته بالكرك فأقام بها إلى أن توفي الملك الناصر وكان ما نذكره والله تعالى أعلم. وفاة دمرداش بن جوبان شحنة بلاد الروم ومقتله: كان جوبان نائب مملكة التتر مستولياً على سلطانه أبي سعيد بن خربندا لصغره، وكانت حاله مع أبيه خربندا قريباً من الإستيلاء فولى على مملكة بلاد الروم دمرداش. ثم وقعت الفتنة بينهم وبين ملك الشمال أزبك من بني دوشي خان على خراسان وسار جوبان من بغداد سنة تسع وعشرين لمدافعته كما يأتي في أخبارهم. وترك عند السلطان أبي سعيد ببغداد ابنه خواجا
دمشق فسعى به أعداؤه وأنهوا عنه قبائح من الأفعال لم يحتملها له فسطا به وقتله. وبلغ الخبر إلى أبيه جوبان فانتقض وعاجله أبو سعيد بالمسير إلى خراسان فتفرقت عنه أصحابه، وفر فأدرك بهراة وقتل. وأذن السلطان أبو سعيد لأهله أن ينقلوه إلى التربة التي إختطها بالمدينة النبوية لدفنه فاحتملوه، ولم يتوقفوا على إذن صاحب مصر فمنعهم صاحب المدينة ودفنوه بالبقيع. ولما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في إمارته ببلاد الروم خشي على نفيه فهرب إلى مصر، وترك مولاه أرتق مقيماً لأمر البلد وأنزله بسيواس. ولما وصل إلى دمشق وركب النائب لتلقيه وسار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان وأحله محل الكرامة، وكان معه سبعة من الأمراء ومن العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان وأجرى عليهم الأرزاق، وأقاموا عنده. وجاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد وطلبه بذفة الصلح الذي عقده مع الملك الناصر، وأوضحوا لعلم السلطان من فساد طويته وطوية أبيه جوبان، وسعيهم في الأرض بالفساد ما أوجب إعطاءه باليد، وشرط السلطان عليهم إمضاء حكم الله تعالى في قراسنقر نائب حلب الذي كان فر سنة إثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا وأغروه بملك الشام، ولم يتم ذلك. وأقاموا عند خربندا، وولى أقوش الأفرم على همذان فمات بها سنة ست عشرة فولى صاحبه قراسنقر مكانه بهمذان. فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم الله تعالى وقتلوه جزاء بما كان عليه من الفساد في الأرض، والله متولي جزاءهم. ثم وصل على أثر ذلك ابن السلطان أبي سعيد، ومعه جماعة من قومه في تأكيد الصلح والإصهار من السلطان فقوبلوا بالكرامة التي تليق بهم، واتصلت المراسلة والمهاداة بين هذين السلطانين إلى أن توفيا، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وفاة مهنا بن عيسي أمير العرب بالشام وأخبار قومه: هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل رحالة ما بين الشام والجزيرة، وتربة نجد من أرض الحجاز يتقلبون بينها في الرحلتين، وينتسبون في طيء، ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج أحلاف لهم. ويناهضهم في الغلب والعدد آل مراد يزعمون أن فضلاً ومراد أبناء ربيعة، ويزعمون أيضاً أن فضلاً ينقسم ولده بين آل مهنا وآل علي، وأن آل فضل كلهم بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراد وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها. وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الان لا يفارقونها. قالوا: ثم إتصل آل فضل بالدولة السلطانية، وولوهم على أحياء العرب، وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا
برياستهم على آل مراد وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريباً من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل. وكانت معهم أحياء من أفاريق العرب مندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد، كما كان آل فضل إلا أن أكثر من كان مع آل مراد من أولئك الأحياء وأوفرهم عدة بنو حارثة بن سنبس إحدى شعوب طيء. هكذا ذكر لي الثقة عندي من رجالاتهم. وبنو حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى العمران، ورياسة آل فضل لهذا العهد لبني مهنا، وينسبونه هكذا: مهنا بن مانع بن جديلة بن فضل بن بدربن ربيعة بن علي بن مفرج بن بدربن سالم بن جصة بن بدر بن سميع، ويقفون عند سميع. ويقول رعاؤهم أن سميعاً هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي، وحاشى لله من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي إنتساب كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك وأنسابهم، ثم إن الوجدان يحيل رياسة هؤلاء على هذا الحي إن لم يكونوا من نسبتهم وقد تقدم مثل ذلك في مقدمة الكتاب: وكان مبدأ رياستهم من أول دولة بني أيوب. قال العماد الأصبهاني في كتاب البرق السامي: نزل العادل بمرج دمشق، ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة إنتهى. وكانت الرياسة قبلهم لعهد الفاطميين لبنى جراح من طيء ، وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح، وكان من إقطاعه الرملة، وهو الذي قبض على أفتكين مولى بني بويه لما إنهزم مع مولاه بختيار بالعراق، وجاء به إلى المعز فأكرمه ورقاه في دولته. ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفي سنة أربع وأربعمائة وكان من ولده حسان ومحمود وعلي وجران، وولي حسان بعده وعظم صيته. وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين نفرة واستجاشة وهو الذي هدم الرملة وهزم قائدهم هاروق التركي وقتله وسبى نساءه وهو الذي مدحه التهامي. وقد ذكر المسبحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج فضل بن ربيعة بن حازم بن جراح وأخاه بدربن ربيعة. ولعل فضلا هذا جد آل فضل. وقال ابن الأثير وفضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدس، وكان فضل تارة مع الإفرنج وتارة مع خلفاء مصر. ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش، وطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد وحالفه ووصله حين فدم من دمشق بتسعة آلاف دينار. فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها، ووقعت بينهما الفتنة اجتمع فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل، وبعض أمراء التركمان كانوا أولياء صدقة فساروا في الطلائع بين يدي الحرب وهربوا إلى السلطان فأكرمهم وخلع عليهم: وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة ابن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة استأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له، وعبر إلى الأنبار. ولم يرجع للسلطان بعدها، إنتهى كلام ابن الأثير. ويظهر من كلامه وكلام المسبحي أن فضلا هذا وبدرا من آل جراح من غير شك، ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أن فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه فضل بن علي بن مفرج، وهو عند الآخرين فضل بن علي بن جراح، فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الذي هو كبير بني الجراح لطول العهد، وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية الغفل. وأما نسبة هذا الحي في طيء فبعضهم يقول: أن الرياسة في طيء كانت لأياس بن قبيصة من بني سنبس بن عمرو بن الغوث بن طيء، وأياس هو الذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر عندما قتل النعمإن بن المنذر، وهو الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة، ولم تزل الرياسة على طيء في بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام. فلعل آل فضل هؤلاء وآل الجراح من أعقابهم، وإن كان إنقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليه لأن الرياسة في الأحياء والشعوب، إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مر أول الكتاب. وقال ابن حزم عند ما ذكر أنساب طيء أنهم لما خرجوا من اليمن نزلوا أجا وسلمى وأوطنوهما وما بينهما. ونزل بنو أسد ما بينهما وبين العراق، وفضل كثير منهم وهم بنو خارجة بن سعد بن عبادة من طيء، ويقال لهم جديلة نسبة إلى أمهم بنت تيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم، رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب وحاضر طيء، وأوطنوا تلك البلاد، الأبني رمان بن جندب بن خارجة بن سعد فإنهم أقاموا بالمجبلين. فكان يقال لأهل الجبلين الجبليون، ولأهل حلب وحاضر طيء من بني خارجة السهليون إنتهى. فلعل هذه أحياء الذين بالشام من بني الجراح، وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكرهم ابن حزم أنهم إنتقلوا إلى حلب، وحاضر طيء لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبل أجا وسلمى اللذين هما موطن الآخرين. والله أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم. ولنرجع الان إلى سرد الخبر عن رياسة آل فضل أهل هذا البيت منذ دولة بني أيوب أقول: كان الأمير منهم لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما قلناه، ونقلناه عن العماد الأصبهاني الكاتب. ثم كان بعده حسام الدين مانع بن خدينة بن غصينة بن فضل، وتوفي سنة ثلاثين وستمائة، وولي عليهم بعده ابنه مهنا. ولما إرتجع قطز ثالث ملوك الترك بمصر، وملك الشام من يد التتر وهزم عسكرهم بعين جالوت أقطع سلمية لمهنا بن مانع، وانتزعها من عمل المنصور بن شاهنشاه صاحب حماة، ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا. ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عندما استفحل أمر الترك، وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم لبغداد، فولى على العرب عيسى بن مهنا بن مانع ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة، وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل علي لإعناته وأعراضه. ولم يزل أميراً على أحياء العرب، وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدة عليهم. وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وتسعين، وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام. وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين فولى المنصور قلاون بعده ابنه مهنا. ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام ونزل حمص، ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه وعلى ابنه موسى وأخوية محمد وفضل ابني عيسى بن مهنا، وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كيبغا عندما جلس على التخت سنة أربع وتسعين، ورجع إلى إمارته. ثم كان له في أيام الناصر نفرة واستجاشة وميل إلى ملوك التتر بالعراق، ولم يحضر شيئاً من وقائع غازان. ولما انتقض سنقر واقوش الأفرم وأصحابهما سنة إثنتي عشرة وسبعمائة لحقوا به، وساروا من عنده إلى خربندا. واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضاً عن الوفادة. ووفد أخوه فضل سنة إثنتي عشرة فرعى له حق وفادته، وولاه على العرب مكان أخيه مهنا، وبقي مهنا مشرداً. ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق. وهلك خربندا في تلك السنة فرجع إلى أحيائه، وأوفد إبنيه أحمد وموسى وأخاه محمد بن عيسى مستعتبين للناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهم، وأنزلهم بالقصر الأبلق وشملهم بالإحسان. وأعتب مهنا ورده على إمارته وإقطاعه، وذلك سنة سبع عشرة. وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل إثنا عشر ألف راحلة. ثم رجع مهنا إلى ديدنه فلي ممالأة التتر والإجلاب على الشام وإتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه، وسخطه قومه أجمع. وكتب إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم آل علي عديدة نسبهم. وولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر، وصرف إقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدة. ثم وفد سنة إحدى وثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحاً على السلطان فأقبل عليه ورد عليه إقطاعه وإمارته. وذكر لي بعض أكابر الأمراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدث عنها أنه تجافى في هذه الوفادة عن قبول شيء من السلطان، حتى أنه ساق من النياق المحلوبة واستقاها، وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سألهم شيئاً من حاجته. ثم رجع إلى أحيائة وتوفي سنة أربع وثلاثين، فولى ابنه مظفر الدين موسى. وتوفي سنة إثنين وأربعين عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان. ثم هلك سليمان سنة ثلاث وأربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى. ثم توفي سنة أربع وأربعين بالقدس ودفن عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وولي مكانه أخوه سيف بن فضل. ثم عزله السلطان بمصر الكامل بن الناصر سنة ست وأربعين، وولي مكانه مهنا بن عيسى. ثم جمع سيف بن مهنا ولقيه فياض بن مهنا فانهزم سيف. ثم ولى السلطان حسين بن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيقاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم. ثم توفي سنة تسع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض. وهلك سنة إثنتين وستين فولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسين بن الناصر في دولته الثانية. ثم انتقض سنة خمس وستين وأقام سنين بالقفر ضاحياً إلى أن شفع فيه نائب حماة فأعيد إلى إمارته، ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشراف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى، وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد، وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وإنتهى إلى مخيمهم واستاق نعمهم وتخطى إلى الخيام فاستماتوا دونها، وهزموا عساكره وقتل قشتمر وابنه في المعركة، وتولى ذلك زامل بيده، وذهب إلى القفر منتقضاً فولى مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى. ثم بعث معيقيل صاحبه سنة إحدى وسبعين يستأمن لخيار فأمنه. ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين فرضي عنه السلطان فأعاده إلى إمارته. ثم توفي سنة سبع وسبعين فولي أخوه قارة إلى أن توفي سنة إحدى وثمانين فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى، وزامل بن موسى بن مهنا شريكين في إمارتهما. ثم عزلا لسنة من ولايتهما، وولي بصير بن جبار بن مهنا واسمه محمد، وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيء، والله تعالى أعلم.
وفاة أبي سعيد ملك العراق وانقراض أمر بني هلاكو: ثم توفي أبو سعيد ملك العراق من التتر ابن خربندا بن ابغو بن ابغا بن هلاكو بن طولي خان بن جنكز خان سنة ست وثلاثين وسبعمائة لعشرين سنة من ملكه ولم يعقب، فانقرض بموته ملك بني هلاكو. وصار الأمر بالعراق لسواهم، وافترق ملك التتر في سائر ممالكهم كما نذكر في أخبارهم. ولما استبد ببغداد الشيخ حسن من أسباطهم كثر عليه المنازعون فبعث رسله إلى الناصر قبل وفاته يستنجده، على أن يسلم له بغداد ويعطي الرهن في العساكر حتى يقضي بها في أعدائه فأجابه الناصر إلى ذلك، ثم توفي قريباً فلم يتم والأمر لله وحده.
وصول هدية ملك المغرب الأقصى مع رسله وكريمته صحبة الحاج
كان ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد استحفل لهذه العصور، وصار للسلطان
أبي الحسن علي بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق جد ملوكهم، وأسف إلى ملك جيرانهم من الدول فزحف إلى المغرب الأوسط وهو في ملكة بني عبد الواد أعداء قومه من زناتة، وملكهم أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى بن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمراسن بن زيان جد ملوكهم أيضاً، وكرسيه تلمسان سبعة وعشرين شهراً. ونصب عليها المجانيق وأدار بالأسوار سياجاً لمنع وصول الميرة والأقوات إليها. وتقرى أعمالها بلداً بلداً فملك جميعها. ثم افتتحها عنوة آخر رمضان سنة سبع وثلاثين، ففض جموعها وقتل سلطانها عند باب قصره كما نذكره في أخبارهم. ثم كتب للملك الناصر صاحب مصر يخبره بفتحها وزوال العائق عن وفادة الحاج،وإنه ناظر في ذلك بما يسهل سبيلهم ويزيل عللهم. وكانت كريمة من كرائم أبيه السلطان أبي سعيد ومن أهل فراشه قد اقتضت منه الوعد بالحج عندما ملك تلمسان. فلما فتحها وأذهب عدوه منها جهز تلك المرأة للحج بما يناسب قرابتها منه، وجهز معها للملك الناصر صاحب مصر هدية فخمة مشتملة على خمسمائة من الجياد المغربيات بعدتها وعدة فرسانها من السروج واللجم والسيوف وطرف المغرب وماعونه من شتى أصنافه، ومن ثياب الحرير والصوف والكتان وصنائع الجلد حتى ليزعموا أنه كان فيها من أواني الخزف وأصناف الدر والياقوت وما يشبههما في سبيل التودد. وعرض أحوال المغرب على سلطان المشرق. ولعظم قدر هذه الوافدة عند الناصر أوفد معها من عظماء قومه ووزرائه وأهل مجلسه فوفدوا على الناصر سنة ثمان وثلاثين، وأحلهم بأشرف محل من التكرمة، وبعث من إصطبلاته ثلاثين خطلا من البغال يحملون الهدية من بحر النيل سوى ما تبعها من البخاتي والجمال. وجلس لهم في يوم مشهود ودخلوا عليه وعرضوا الهدية فعم بها أهل دولته إحسانا في ذلك المجلس. واستأثر منها على ما زعموا بالدر والياقوت فقط. ثم فّرقهم في منازله وأنزلهم دار كرامته وقد هيئت بالفرش والمعون، ووفر لهم الجرايات واستكثر لهم من الأزودة. وبعث أمراء في خدمتهم إلى الحجاز حتى قضوا فرضهم في تلك السنة وإنقلبوا إلى سلطانهم، فجهز الناصر معهم هدية إلى ملك المغرب تشتمل على ثياب الحرير المصنوعة بالإسكندرية، وعين منها الحمل المتعارف في كل سنة لخزانة السلطان، وقيمته لذلك
العهد خمسون ألف دينار. وعلى خيمة من خيم السلطان المصنوعة بالشام فيها أمثال البيوت والقباب والكفات مرساة أطرافها في الأرض بأوتاد الحديد والخشب كأنها قباب مائلة، وعلى خيمة مؤزر باطنها من ثياب الحرير العراقية وظاهرها من ثياب القطن الصرافية مستجادة الصنعة بين الحدل والأوتاد أحسن ما يراه من البيوت وعلى صوان من الحرير مربع الشكل يقام بالحدل الحافظ ظله من الشمس. وعلى عشرة من الجياد المقربات الملوكية بسروج ولجم ملوكية مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة باللآلي والفصوص. وبعث مع تلك الجياد خدم يقومون بنبائها المتعارف فيها. ووصلت الهدية إلى سلطان المغرب فوقعت منه أحسن المواقع، وأعاد الكتب والرسل بالشكر واستحكمت المودة بين هذين السلطانين، وإتصلت المهاداة إلى أن مضيا لسبيلهما، والله تعالى ولي التوفيق.
وفاة الخليفة أبي الربيع وولاية ابنه قد ذكرنا أيام الظاهر وأنه أقام خليفة بمصر من ولد الراشد، وصل يومئذ من بغداد وإسمه أحمد بن محمد، وذكرنا نسبه هنالك إلى الراشد وأنه بويع له بالخلافة سنة ستين وستمائة، ولقبه الحاكم فلم يزل في خلافته إلى أن توفي سنة إحدى وسبعمائة وقد عهد لابنه سليمان فبايع له أهل دولة الناصر الكافلون لها. ولقبوه المستكفي فبقي خليفة سائر أيام الناصر. ثم تنكر له السلطان سنة ست وثلاثين لشيء نمي له عن بنيه فأسكنه بالقلعة، ومنعه من لقاء الناس فبقي حولا كذلك. ثم ترك سبيله ونزل إلى بيته. ثم كثرت السعاية في بنيه فغر به سنة ثمان وثلاثين إلى قوص هو وبنيه وسائر أقاربه. وأقام هنالك إلى أن هلك سنة أربعين قبل مهلك الناصر، وقد عهد بالخلافة لابنه أحمد ولقبه الحاكم فلم يمض الناصر عهده في ذلك، لأن أكثر السعاية المشار إليها كانت فيه فنصب للخلافة بعد المستكفي ابن عمه إبراهيم بن محمد ولقبه الواثق وهلك لأشهر قريبة فاتفق الأمراء بعده على إمضاء عهد المستكفي في ابنه أحمد فبايعوه سنة إحدى وأربعين. وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي وولي أخوه أبو بكر ولقب المعتضد. ثم هلك سنة ثلاث وستين لعشرة أشهر من خلافته، ونصب بعده ابنه محمد ولقبه المتوكل ونورد من أخباره في أماكنها ما يحضرنا ذكره والله سبحاه وتعالى أعلم بغيبه. نكبة تنكز ومقتله كان تنكز مولى من موالي لاشين إصطفاه الناصر وقّربه، وشهد معه وقائع التتر، وسار معه إلى
الكرك وأقام في خدمته مدّة خلعه. ولما رجع إلى كرسيه ومهد أمور ملكه ورتب الولاية لمن يرضاه من أمرائه بعث تنكز إلى الشام وجعله نائباً بدمشق ومشارفاً لسائر بلاد الروم، ففتح ملطية ودوخ بلاد الأرمن. وكان يتردد بالوفادة على السلطان يشاوره وربما استدعاه للمفاوضة في المهمات، واستفحل في دفاع التتر وكيادهم. ولما توفي أبو سعيد وانقرض ملك بني هلاكو، وافترق أمر بغداد وتورين وكانا معاً يجاورانه ويستنجدانه، وسخطه بعضهم فراسل السلطان بغشه وأدهانه في طاعته، وممالأة أعدائه. وشرع السلطان في استكشاف حاله، وكان قد عقد له على بنته فبعث دواداره بإجار يستقدمه للأعراس بها، وكان عدواً له للمنافسة والغيرة فأشار على تنكز بالمقام وتخليه عن السلطان وغشه في النصيحة. وحذر السلطان منه فبعث الملك الناصر إلى طشتمر نائب صفد أن يتوجه إلى ك مشق، وبقبض عليه فقبض عليه سنة أربعين لثمان وعشرين سنة لولايته بدمشق. وبعث الملك الناصر مولاه لشمك إلى دمشق في العساكر فأحاط على موجوده، وكان شيئاً لا يعبر عنه من أصناف الممتلكات، وجاء به مقيداً فاعتقل بالإسكندرية، ثم قتل في محبسه والله تعالى أعلم. وفاة الملك الناصر وابنه أنوك قبله وولاية ابنه أبي بكر ثم كجك ثم توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاون أمجد ما كان ملكاً وأعظم استبداداً توفي على فراشه في ذي الحجة آخر إحدى وأربعين وسبعمائة بعد أن توفي قبله بقليل ابنه أنوك فاحتسبه. وكانت وفاته لثمان وأربعين سنة من ولايته الأولى في كفالة طنبغا ولاثنين وثلاثين من حين استبداده بأمره بعد بيبرس. وصفا الملك له، وولى النيابة في هذه ثلاثة من أمرائه بيبرس الدوادار المؤرخ، ثم بكتمر الجوكندار ثم أرغون الدوادار، ولم يود أحدا النيابة أ بعده. وبقيت الوظيفة عطلا آخر أيامه. واما دواداريته فأيدمر ثم سلار ثم الحلي، ثم يوسف بن الأسعد ثم بغا ثم طاجار وكتب عنه شرف الدين بن فضل الله، ثم علاء الدين بن الأمير، ثم محي الدين بن فضل الله، ثم ابنه شهاب الدين، ثم ابنه الآخر علاء الدين. وولى القضاء في دولته تقي الدين بن دقيق العيد، ثم بدر الدين بن جماعة. وإنما ذكرت هذه الوظائف وإن كان ذلك ليس من شرط الكتاب لعظم دولة الناصر وطول أمدها، واستفحال دولة. الترك عندها، وقدمت الكتاب على القضاة وإن كانوا أحق بالتقديم، لأن الكتاب أمس بالدولة فإنهم من أعوان الملك. ولما اشتدّ المرض بالسلطان، وكان قوصون أحظى عظيم من أمرائه فبادر القصر في مماليكه
متسلحين، وكان بشتك يضاهيه فارتاب وسلح أصحابه، وبدا بينهما التنافس، ودس بشتك الشكوى إلى السلطان فاستدعاهما وأصلح بينهما. وأراد أن يعهد بالملك إلى قوصون فامتنع فعهد لابنه أبي بكر ومات، فمال من عماله بشتك إلى ولاية أحمد صاحب الكرك، وأبى قوصون إلا الوفاء بعهد السلطان. ثم رجع إليه بشتك بعد مراوضة فبويع أبو بكر ولقب المنصور، وقام بأمر الدولة قرصون وردفه قطلو بغا الفخري فولوا على نيابة السلطان طقرمرد وبعثوا على حلب طشتمر، وعلى حمص أخضر عوضاً عن طغراي، وأقروا كيبغا الصالحي على دمشق. ثم استوحش بشتك من استبداد قوصون وقطلو بغا دونه فطلب نيابة دمشق، وكان يعجب بها من يوم دخلها للحوطة على. تنكز فاستعفوه. فلما جاء للوداع قبض عليه قطلوبغا الفخري، وبعث به إلى الإسكندرية فاعتقل به ثم أقبل السلطان أبو بكر على لذاته ونزع عن الملك، وصار يمشي في سكك المدينة في الليل متنكرا مخالطاً للسوقة، فنكر ذلك الأمراء وخلعه قوصون وقطلو بغا لسبعة وخمسين يوماً من بيعته، وبعثوا به إلى قوص فحبس بها وولوا أخاه كجك ولقبوه الأشرف، وعزلوا طقرمرد عن النيابة. وقام بها قوصون، وبعثوا طقرمرد نائباً على حماة وأدالوا به من الأفضل بن المؤيد فكان آخر من وليها من بني المظفر، وقبضوا على طاجا الدويدار وبعثوا به إلى الإسكندرية فغرق في البحر، وبعثوا بقتل بشتك في محبسه بالإسكندرية والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مقتل قوصون ودولة أحمد بن الملك الناصر لما بلغ الخبر إلى الأمراء بالشام باستبداد قوصون على الدولة غصوا من مكانه، واعتزموا على البيعة لأحمد بن الملك الناصر، وكان يومئذ بالكرك مقيماً منذ ولاه أبوه إمارتها كما قدمناه فكاتبه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب. واستدعاه إلى الملك وبلغ الخبر إلى مصر فخرج قطلو بغا في العساكر لحصار الكرك، وبعثوا إلى طنبغا الصالحي نائب دمشق، فسار في العساكر إلى حلب للقبض على طشتمر نائب حمص، أخضر. وكان قطلو بغا الفخري قد استوحش من صاحبه قوصون، وغص باستبداده علمه فلما فصل بالجند من مصر بعث ببيعته إلى أحمد بن الملك الناصر بالكرك، وسار إلى الشام فأقام دعوته في دمشق ودعا إليها طقرمرد نائب حماة فأجابه وقدم عليه، وانتهى الخبر إلى طنبغا نائب دمشق وهو يحاصر حلب فأفرج عنها، ودعاه قطلو بغا إلى بيعة أحمد فانتقض عليه أصحابه وسار إلى مصر، واستولى قطلو بغا الفخري على الشام أجمع بدعوة أحمد. وبعث إلى الأمراء بمصر فأجابوا إليها.
واجتمع أيدغمش وأقسنقر السلاري وغازي ومن تبعهم من الأمراء على البيعة لأحمد، واستراب بهم قوصون كافل المملكة. وهم بالقبض عليهم، وشاور طنبغا اليحياوي من عنده من أصحابه في ذلك فغضوه وخذلوه، وركب القوم ليلاً. وكان أيدغمش عنده بالإصطبل وهو أمير الماصورية، وهم قوصون بالركوب فخذله وثنى عزمه. ثم ركب معهم وإتصلت الهيعة ونادى في الغوغاء بنهب بيوت قوصون فنهبوها وخربوها، وخربوا الحمامات التي بناها بالقرافة تحت القلعة. ونهب شيخها شمس الدين الأصفهاني فسلبوه ثيابه، وإنطلقت أيدي الغوغاء في البلد، ولحقت الناس منهم مضرات في بيوتهم. واقتحموا بيت حسام الدين الغوري قاضي الحنفية فنهبوه وسبوا عياله. وقادهم إليه بعض من كان يحنق عليه من الخصوم فجرت عليه معرة من ذلك. ثم اقتحم أيدغمش وأصحابه القلعة، وتقبضوا على قوصون وبعثوا به إلى الإسكندرية فمات في محبسه، وكان قوصون قد أخرج جماعة من الأمراء للقاء طنبغا الصاحي فسار قراسنقر السلاري في أثرهم، وتقبض عليهم وعلى الصالحي، وبعث بهم جميعاً إلى الإسكندرية فيما بعد سنة خمس وأربعين. وبعث لأحمد بن الملك الناصر وطير إليه بالخبر، وتقبض على جماعة من الأمراء واعتقلهم. ثم قدم السلطان أحمد من الكرك في رمضان سنة إثنين وأربعين ومعه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلت وقطلو بغا الفخري، فولى طشتمر نائباً بمصر وقطلو بغا الفخري بعثه إلى دمشق نائباً. ثم قبضى على أخضر لشهر أو نحوه. وقبض على أيدغمش وأقسنقر السلاري. ثم ولى أيدغمش على حلب، وبلغ الخبر إلى قطلو بغا الفخري قبل وصوله إلى دمشق فعدل إلى حلب، وأتبعته العساكر فلم يدركوه. وتقبض على أيدغمش بحلب وبعث به إلى مصر فاعتقل مع طشتمر، وإرتاب الأمراء بأنفسهم. واستوحش السلطان منهم إنتهى والله أعلم.
مسير السلطان أحمد إلى الكرك وإتفاق الأمراء علي خلعه والبيعة لأخيه الصالح ولما استوحش الأمراء من السلطان وإرتاب بهم إرتحل إلى الكرك لثلاثة أشهر من بيعته واحتمل معه طشتمر وأيدغمش معتقلين، واستصحب الخليفة الحاكم واستوحش نائب صفد بيبرس الأحمدي. وسار إلى دمشق وهي يومئذ فوضى فتلقاه العسكر وأنزلوه، وبعث السلطان في القبض عليه فأبى من أعطاه يده. وقال إنما الطاعة لسلطان مصر، وأما صاحب الكرك فلا. وطالت غيبة السلطان أحمد بالكرك، وإضطرب الشام فبعث إليه الأمراء بمصر في
الرجوع إلى دار ملكه فامتنع، وقال هذه مملكتي أنزل من بلادها حيث شئت. وعمد إلى طشتمر وأيدغمش الفخري فقتلهما فاجتمع الأمراء بمصر وكبيرهم بيبرس العلاني وأرغون الكاملي وخلعوه، وبايعوا لأخيه إسماعيل في محرم سنة ثلاث وأربعين ولقبوه الصالح. فولى أقسنقر السلاري، ونقل أيدغمش الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق. وولى مكانه بحلب طقرمرد. ثم عزل أيدغمش من دمشق ونقل إليها طقرمرد، وولى بحلب طنبغا المارداني، ثم هلك المارداني فولي مكانه طنبغا اليحياوي واستقامت أموره، والله تعالى ولي التوفيق.
ثورة رمضان بن الناصر ومقتله وحصار الكرك ومقتل السلطان أحمد: ثم أن بعض المماليك داخل رمضان بن الملك الناصر في الثورة بأخيه وواعده قبة النصر فركب إليهم، وأخلفوه فوقف في مماليكه ساعة يهتفون بدعوته. ثم استمر هارباً إلى الكرك وأتبعه العسكر مجدين السير في الطريق، وجاؤا به فقتل بمصر. وإرتاب السلطان بالكثير من الأمراء وتقبض على نائبه أقسنقر السلاري وبعث به إلى الإسكندرية فقتل هنالك، وولى مكانه إنجاح الملك. ثم سرح العساكر سنة أربع وأربعين لحصار الكرك مترادفة ونزع بعض العساكر عن السلطان أحمد من الكرك فلحقوا بمصر، وكان آخر من سار من الأمراء لحصار الكرك قماري ومساري سنة خمس وأربعين فأخذوا بمخنقة. ثم اقتحموا عليه وملكوه وقتلوه فكان لبث بالملك في مصر ثلاثة أشهر وأيامأ، وانتقل إلى الكرك في محرم سنة ثلاث وأربعين إلى أن حوصر ومثل به وتوفي في أيامه طنبغا المارداني نائب حلب، فولي مكانه طنبغا اليحياوي وسف الدين طراي الجاشنكير نائب طرابلس فولي مكانه أقسنقر الناصري، والله تعالى أعلم. وفاة الصالح بن الناصر وولاية أخيه الكامل ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر حتف أنفه سنة ست وأربعين لثلاث سنين وثلاثة أشهر من ولايته، وبويع بعده أخوه زين الدين شعبان ولقب الكامل وقام بأمره أرغون العلاوي وولي نيابة مصر. وعرض إنجاح الملك إلى صفد، ثم رده من طريقه معتقلا إلى دمشق، وبعث إلى القماري الكبير فبعثه إلى حبس الإسكندرية، واستدعى طقرمرد نائب دمشق وكجك الأشرف المخلوع بن الناصر الذي ولاه قوصون، وهلك إنجاح الملك الجوكندار في محبسه بدمشق إنتهى والله أعلم
. مقتل الكامل وبيعة أخيه المظفر حاجي كان السلطان الكامل قد أرهف حده في الإستبداد على أهل دولته فراراً مما يتوهم فيهم من الحجر عليه، فتراسل الأمراء بمصر والشام، وأجمعوا الإدالة منهم. وانتقض طنبغا اليحياوي ومن معه بدمشق سنة سبع وأربعين، وبرز في العساكر يريد مصر. وبعث الكامل منجو اليوسفي يستطلع أخبارهم فحبسه اليحياوي. واتصل الخبر بالكامل فجرد العساكر إلى الشام واعتقل حاجي وأمير حسين بالقلعة، واجتمع الأمراء بمصر للثورة، وركبوا إلى قبة النصر مع أيدمر الحجازي وأقسنقر الناصري وأرغون شاه فركب إليهم الكامل في مواليه، ومعه أرغون العلاوي نائبه فكانت بينهما جولة هلك فيها أرغون العلاوي ورجع الكامل إلى القلعة منهزماً، ودخل من باب السر مختفياً، وقصد محبس أخويه ليقتلهما فحال الخدام دونهما وغلقوا الأبواب، وجمع الذخيرة ليحملها فعاجلوه عنها ودخلوا القلعة وقصدوا حاجي بن الناصر فأخرجوه من معتقله، وجاؤا به فبايعوه ولقبوه المظفر. وافتقدوا الكامل وتهددوا جواريه بالقتل فدلوا عليه، واعتقل مكان حاجي بالدهشة، وقتل في اليوم الثاني وأطلق حسين وقام بأمر المظفر حاجي أرغون شاه الحجازي، وولوا طقتمر الأحمدي نائباً بحلب والصلاحي نائباً بحمص، وحبس جميع موالي الكامل، وأخرج صندوق من بيت الكامل قيل إن فيه السحر فأحرق بمحضر الأمراء، ونزع المظفر حاجي إلى الإستبداد كما نزع أخوه فقبض على الحجازي والناصري وقتلهما لأربعين يوماً من ولايته، وعلى أرغون شاه وبعثه نائباً إلى صفد. وجعل مكان طقتمر الأحمدي في حلب تدمر البدري، وولى على نيابته الحاج أرطاي، وأرهف حده في الاستبداد. وأرتاب الأمراء بمصر والشام، وانتقض اليحياوي بدمشق سنة ثمان وأربعين وداخله نواب الشام في الخلاف. ووصل الخبر إلى مصر فاجتمع الأمراء وتواعدوا للوثوب. ونمي الخبر إلى المظفر فأركب مواليه من جوف الليل وطافوا بالقلعة، وتداعى الأمراء إلى الركوب واستدعاهم من الغد إلى القصر، وقبض على كل من اتهمه منهم بالخلاف، وهرب بعضهم فأدرك بساحة البلد واعتقلوا جميعاً وقتلوا من تلك الليلة. وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا بالطريق وولى من الغد مكانهم خمسة عشرة أميرا ووصل الخبر إلى دمشق فلاذ اليحياوي بالمغالطة يخادع بها وقبض على جماعة من الأمراء. وكان السلطان المظفر قد بعث الأمير الجبقا من خاصته إلى الشام عندما بلغه إنتقاض طنبغا اليحياوي يستطلع أخباره، فحمل الناس على طاعة المظفر وأغراهم باليحياوي حتى قتلوه، وبعثوا برأسه إلى مصر وسكنت الفتنة واستوسق الملك للمظفر والله سبحانه وتعالى أعلم.
مقتل المظفر حاجي بن الناصر وبيعة أخيه
حسن الناصر ودولته الأولى
قد كنا قدمنا أن السلطان بعث جبقا إلى الشام حتى مهده ومما أثر الخلاف منه،
ورجع إلى السلطان سنة ثمان وأربعين وقد استوسق أمره فوجد الأمراء مستوحشين من السلطان ومنكرين عليه اللعب بالحمام فتنصح له بذلك يريد إقلاعه عنه، فسخط ذلك منه وأمر بالحمام فذبحت كلها. وقبال لجبقا أنا أذبح خياركم كما ذبحت هذه فاستوحش جبقا وغدا على الأمراء والنائب بيقاروس وثاروا بالسلطان وخرجوا إلى قبة النصر وركب المظفر في مواليه والأمراء الذين معه قد داخلوا الآخرين في الثورة، ورأيهم واحد في خلعه فبعث إليهم الأمير شيخو يتلطف لهم فأبوا إلا خلعه فجاءهم بالخبر. ثم رجع إليهم وزحف معهم ولحق بهم الأمراء الذين مع المظفر عندما تورط في اللقاء وحمل عليه بيقاروس فأسلمه أصحابه وأمسكه باليد فذبحه في تربة أّمه خارج القلعة. ودفن هناك ودخلوا القلعة في رمضان من السنة وأقاموا عامة يومهم يتشاورون فيمن يولونه حتى هم أكثر الموالي بالثورة والركوب إلى قبة النصر، فحينئذ بايعوا حسن بن الملك الناصر ولقبوه الناصر بلقب أبيه فوكل بأخيه حسين ومواليه لنفسه، ونقل المال الذي بالحوش فوضعه بالخزانه.
وقام بالدولة ستة من الأمراء وهم: شيخوا وطاز والجبقا وأحمد شادي والشرنخاناه وأرغون الإسماعيلي، والمستبد عليهم جميعاً بيقاروس، ويعرف بالقاسمي فقتل الحجازي وأقسنقر القائمين بدولة المظفر بمحبسها بالقلعة. وولى بيقاروس نائباً بمصر، فكان أرقطاي وأرغون شاه نائباً بحلب مكان تدمر البدري. ثم نقله إلى دمشق منذ مقتل اليحياوي وولى مكانه بحلب أياس الناصر. ثم تقبض بيقاروس على رفيقه أحمد شادي الشرنخاناه وغربه إلى صفد وأبعد الجبقا من رفقته وبعثه نائباً على طرابلس. وبعث أرغون الإسماعيلي منهم نائباً على حلب. وفي هذه السنة وقعت الفتنة بينه وبين مهنا بن عيسى، ولقيه فهزمه ووفد أحمد أخوه على السلطان فولاه إمارة العرب وهدأت الفتنة بينهم، ثم هلك سنة تسع وأربعين بعدها وولى أخوه فياض كما مر في أخبارهم والله تعالى أعلم.
مقتل أرغون شاه نائب دمشق
كان خبر هذه الواقعة الغريبة أن الجبقا بعتوه نائباً على طرابلس، وسار صحبة أياس الحاجب نائباً على حلب سنة خمسين، وانتهوا إلى دمشق. ونما إلى الجبقا عن أرغون شاه أنه تعرض لبعض حرمه بصنيع جمع فيه نسوان أهل الدولة بدمشق فكتب إليه ليلا وطرقه في بيته. فلما خرج إليه قبض عليه وذبحه في ربيع، وصنع مرسوماً سلطانياً دافع به الناس والأمراء، واستصفى أمواله ولحق بطرابلس. وجاء الأمر من مصر باتباعه وإنكار المرسوم الذي أظهروه فزحفت العساكر من دمشق، وقبضوا على الجبقا وأياس الحاجب بطرابلس وجاؤا بهما إلى مصر فقتلا. وولي الشمس الناصري نيابة دمشق مع أرغون شاه، وصلب أرغون الكافلي، وذلك في جمادى سنة خمسين. واصل أرغون شاه من بلاد الصين جلب إلى السلطان ا بي سعيد ملك التتر ببغداد فأعطاه للأمير خواجا نائب جوبان، وأهداه خواجا للملك الناصر فحظي عنده وقدمه رأس نوبة، وزوجه بنت عبد الواحد. ثم ولاه الكامل أستاذ دار ثم عظمت مرتبته أيام المظفر وجعل نائباً في صفد، ثم في حلب. ولما حبس طنبغا اليحياوي على دمشق بسعاية الجبقا كما مر ولى أرغون شاه بدمشق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
المجلد الخامس
القسم الخامس
من تاريخ العلامة ابن خلدون
نكبة بيقاروس:
ثم إن السلطان حسن شرع في الإستبداد، وقبض على منجك اليوسفي أستاذ داره وعلى السلحدار واعتقلهما من غير مشورة بيقاروس وأصحابه. وكان لمنجك إختصاص ببيقاروس وأخوه معه فارتاب، واستأذن السلطان في الحج هو وطاز فأذن لهما، ودس إلى طاز بالقبض على بيقاروس وسارا لشأنهما، فلما نزلا بالينبع قبص طاز على بيقاروس فخرج ورغب إليه أن يتركه يحج مقيداً فتركه. فلما قضى نسكه ورجعوا حبسه طاز بالكرك بأمر السلطان، وأفرج عنه بعد ذلك، وولي نيابة حلب وانتقض بها كما نذكر بعد إن شاء الله تعالى. وبلغ خبر اعتقاله إلى أحمد شادي الشرنخاناه بصفد فانتقض وجهز السلطان إليه العساكر فقبض عليه، وجيء به إلى مصر فأعتقل بالإسكندرية، وقام بالدولة مغلطاي من أمرائها، والله تعالى أعلم.
واقعة الظاهر ملك اليمن بمكة واعتقاله ثم اطلاقه
كان ملك اليمن وهو المجاهد علي بن داود المؤيد قد جاء إلى مكة حاجا سنة إحدى وخمسين
وهي السنة التي حج فيها طاز وشاع في الناس عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر وفد المصريين لوفد اليمنيين، ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب الحاج فتحاربوا وإنهزم المجاهد وكان بيقاروس مقيداً فأطلقه وأركبه ليستعين به فجلا في تلك الهيعة، وأعيد إلى اعتقاله ونهب حاج اليمن. وقيد المجاهد إلى مصر فاعتقل بها حتى أطلق في دولة الصالح سنة إتنتين وخمسين، وتوجه معه قشتمر المنصوري ليعيده إلى بلاده. فلما إنتهى إلى الينبع أشيع عنه أنه هم بالهرب فقبض عليه قشتمر المنصوري وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه والله أعلم.
خلع حسن الناصر وولاية أخيه الصالح لما قبض السلطان حسن على بيقاروس وحبسه وتنكر لأهل دولته ورفع عليهم مغلطاي وإختصه، واستوحشوا لذلك وتفاوضوا وداخل طاز وهو كبيرهم جماعة من الأمراء في الثورة. وأجابه إلى ذلك بيقو الشمسي في آخرين واجتمعوا لخلعه. وركبوا في جمادي سنة إثنتين وخمسين فلم يمانعهم أحد، وملكوا أمرهم ودخلوا القلعة وقبض طاز على حسن الناصر واعتقله، وأخرج أخاه حسيناً من اعتقاله فبايعه ولقبه الصالح وقام بحمل الدولة. وأخرج بيقو الشمسي إلى دمشق وبيقر إلى حلب أسيرين، وإنفرد بالأمر. ثم نافسه أهل الدولة واجتمعوا على الثورة، وتولى كبر ذلك مغلطاي ومنكلي وبيبقا القمري، وركبوا فيمن اجتمع إليهم إلى قبة النصر للحرب، فركب طاز وسلطانه الصالح في جموعه وحمل عليهم ففض جمعهم وأثخن فيهم. وقبض على مغلطاي ومنكلي فحبسهما بالإسكندرية، وأفرج عن منجك وعن شيخو وجعله أتابكه على العساكر وأشركه في سلطانه، وولى سيف الدين ملاي نيابته، وإختص سرغتمش ورقاه في الدولة، وقبض على الشمسي المحمدي نائب دمشق ونقل إليها لمكانة أرغون الكاملي من حلب، وأفرج عن بيقاروس بالكرك وبعثه مكانه إلى حلب ثم تغير منجك واختفى بالقاهرة، والله تعالى أعلم. انتقاض بيقاروس واستيلاؤه علي الشام ومسير السلطان إليه ومقتله قد تقدم لنا ذكر بيقاروس وقيامه بدولة حسن الأولى ونكبته في طريقه إلى الحج بالكرك، ولما أطلقه طاز وولاه على حلب أدركته المنافسة والغيرة من طاز واستبداده بالدولة فحدثته نفسه
بالخلاف، وداخل نواب الشام. ووافقه في ذلك بلكمش نائب طرابلس وأحمد شادي الشرنخاناه نائب صفد، وخالفه أرغون الكاملي نائب دمشق وتمسك بالطاعة، وتعاقد هؤلاء على الخلاف مع شيخو وسرغتمش في رجب سنة ثلاث وخمسين. ثم دعا بيقاروس العرب والتركمان إلى الموافقة فأجابه خبار بن مهنا من العرب، وقراجا بن العادل من التركمان في جموعهما. وبرز من حلب يقصد دمشق فأجفل عنها أرغون النائب إلى غزة، واستخلف عليها الجبقا العادلي، ووصل بيقاروس فملكها وامتنعت القلعة فحاصرها وكثر العيث من عساكره في القرى. وسار السلطان الصالح وأمراء الدولة من مصر العساكر في شعبان من السنة، وأخرج معه الخليفة المعتضد أبا الفتح أبا بكر بن المستكفي، وعثر بين يدي خروجه على منجك ببعض البيوت لسنة من اختفائه، فبعث به سرغتمش إلى الإسكندرية وبلغ بيقاروس خروج السلطان من مصر فأجفل عن دمشق، وثار العوام بالتركمان فأثخنوا فيهم. ووصل السلطان إلى دمشق ونزل بالقلعة وجهز العساكر في إتباع بيقاروس فجاؤا بجماعة من الأمراء الذين كانوا معه، فقتل السلطان بعضهم ثالث الفطر وحبس الباقين. وولى على دمشق الأمير عليا المارداني، ونقل منها أرغون الكاملي إلى حلب، وسرح العساكر في طلب بيقاروس من مغلطاي الدوادار. وعاد إلى مصر فدخلها في ذي القعدة من السنة وسار مغلطاي في طلب بيقاروس وأصحابه فأوقع بهم وتقبض على بيقاروس وأحمد وقطلمش وقتلهم، وبعث برؤسهم إلى مصر أوائل سنة أربع وخمسين. وأوعز السلطان إلى أرغون الكاملي نائب حلب بأن يخرج في العساكر لطلب قراجا بن العادل مقدم التركمان، فسار إلى بلده البلسين فوجدها مقفرة، وقد أجفل عنها فهدمها أرغون وأتبعه إلى بلاد الروم. فلما أحس بهم أجفل ولحق بابن أرشا قائد المغل في سيواس، ونهب العساكرأحياءه واستاقوا مواشيه. ثم قبض عليه ابن أرشا قائد المغل وبعث به إلى مصر فقتل بها وسكنت الفتنة، وأطلق المعتقلون بالإسكندرية، وتأخر منهم مغلطاي ومنجك أياماً. ثم أطلقا وغربا إلى الشام والله تعالى أعلم.
واقعة العرب بالصعيد وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعيثهم، وإنتهبوا الزروع والأموال
وتولى كبر ذلك الأحدب، وكثرت جموعه فخرج السلطان في العسكر سنة أربع وخمسين ومعه طاز. وسار شيخو في العساكر بغنائمهم. وخلص السلطان من الظهر والسلاح ما لا يعبر عنه. وأسر جماعة منهم فقتلوا وهرب الأحدب حتى استأمن بعد رجوع السلطان، فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح ويقبلوا على الفلاحة، والله تعالى أعلم.
خلع الصالح وولاية حسن الناصر الثانية كان شيخو أتابك العساكر قد إرتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة، وتربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس وخمسين إلى البحيرة متصيداً، وركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز وقبض عليه وألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته. وبايع لحسن الناصر أخيه، وأعاده إلى كرسيه وقبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائباً. وعزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست وخمسين، وسيق إلى الإسكندرية فحبس بها وبلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس، وولى مكانه منجك. واستبد شيخو بالدولة وتصرف بالأمر والنهي. وولى على مكة عجلان بن رميثة وأفرده بإمارتها، وكانت له الولاية والعزل والحل والعقد سائر أيامه، واعتمده الملوك من النواحي شرقاً وغرباً بالمخاطبات. وكان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه. مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده واستبداد السلطان بأمره: لم يزل شيخو مستبدا بالدولة وكافلا للسلطان حتى وثب عليه يوماً بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان وخمسين، واعتمده في دخوله من باب الإيوان وضربه بالسيف ثلاثا أصاب بها وجهه ورأسه وذراعيه فخر لليدين، ودخل السلطان بيته وانفض المجلس. واتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا، واقتحم موالي شيخو القلعة إلى الإيوان يقدمهم خليل بن قوصون، وكان ربيبه، لأن شيخو تزوج بأمه فاحتمل شيخو إلى منزله. وأمر الناصر بقتل المملوك الذي ضربه فقتل ليومه، وعاده الناصر من الغد وتوجل من الوثبة أن تكون بأمره. وأقام شيخو عليلا إلى أن هلك في ذي القعدة من السنة، وهو أول من سمي الأمير الكبير بمصر. واستقل سرغتمش رديفه بحمل الدولة. وبعث على طاز فأمسكه بحلب وحبسه بالإسكندرية، وولى مكانه الأمير عليا المارداني، نقله إليها من دمشق، وولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي. ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع وخمسين، وعلى جماعة من الأمراء معه مثل: مغلطاي الدوادار، وطشتمر القامسي الحاجب، وطنبغا الماجاري، وخليل
بن قوصون، ومحا السلحدار وغيرهم، وركب مواليه وقاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار، ثم انهزموا وقتلوا واعتقل سرغتمش وجماعته المنكوبون بالإسكندرية، وقتل بمحبسه لسبعين يوماً من اعتقاله. وتخطت النكبة إلى شيعمه وأصحابه من الأمراء والقضاة والعمال. وكان الذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي. ثم استبد السلطان يملكه واستولى على أمره، وقدم مملوكه بيبقا القمري وجعله أمير ألف. وأقام في الحجابة الجاي اليوسفي. ثم بعثه إلى دمشق نائباً، واستقدم منجك نائب دمشق. فلما وصل إلى غزة استتر واختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير عليا المارداني، نقله من حلب، وولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني، ثم أدال من علي المارديني في دمشق باستدمر، ومن المؤمني في حلب بمندمر الحوراني، وأمره السلطان سنة إحدى وستين بغزو سيس وفتح أذنة وطرسوس والمصيصة في حصون أخرى، وولى عليها ورجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر، وولى على حلب أحمد بن القتمري. ثم عثر بدمشق سنة إحدى وستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس. فلما حضر عفا عنه السلطان وأمده وخيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام. وأقام السلطان بقية دولته مستبدا على رجال دولته وكان يأنس بالعلماء والقضاة ويجمعهم في بيته متبذلا، ويفاوضهم في مسائل العلم، ويصلهم ويحسن إليهم ويخالطهم أكثر ممن سواهم إلى أن انقرضت دولته، والبقاء لله وحده.
ثورة بيبقا ومقتل السلطان حسن وولاية منصور بن المعظم حاجي في كفالة بيبقا: كان بيبقا هذا من موالي السلطان حسن وأعلاهم منزلة عنده، وكان يعرف بالخاصكي نسبة إلى خواص السلطان. وكان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة وولاه الإمارة، ثم رفعه إلى الاتابكية وكان لجنوحه إلى الإستبداد كثيرا ما يبوح بشكاية مثل ذلك. فأحضره بعض الليالي بين حرمه وصرفه في جملة من الخدعة لبعض عواليه، وقادها فأسرها بيبقا في نفسه واستوحش. وخرج السلطان سنة إثنتين وستين إلى كوم برى وضرب بها خيامه، وأذن للخاصكي في مخيمه قريباً منه. ثم نمي عنه خبر الإنتقاض فأجمع القبض عليه، واستدعاه فامتنع من الوصول، وربما أشعره داعيه بالإسترابة فركب إليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه وخواص أمرائه تاسع جمادى من السنة. وبرز إليه بيبقا وقد أنذر به واعتد له فصدقه القتال في ساحة مخيمه.
وانهزم أصحاب السلطان عنه ومضى إلى القلعة وبيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من إخافة طارقة جوف الليل فتسرب في المدينة واختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية، وركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني وقشتمر المنصوري وغيرهما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق وهزمهم، واجتمع ثانية وثالثة وهزمهم. وتنكر الناصر مع أيدمر الدوادار يحاولان النجاة إلى الشام واطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به. ويقال إنه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان وذخائره، وذلك لست سنين ونصف من تملكه. ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي ولقبه المنصور، وقام بكفالته وتدبير دولته، وجعل طنبغا الطويل رديفه. وولى قشتمر المنصوري نائباً، وغشتمر أمير مجلس، وموسى الازكشي أستاذ دار. وأفرج عن القاسمي وبعثه نائباً بالكرك، وأفرج عن طاز وقد كان عمي فبعثه إلى القدس بسؤاله ثم إلى دمشق. ومات بها في السنة بعدها وأقر عجلان في ولاية مكة وولى على عرب الشام جبار بن مهنا، وأمسك جماعة من الأمراء فحبسهم، والله تعالى أعلم.
انتقاض استد مر بدمشق: ولما اتصل بالشام ما فعله بيبقا، وأنه استبد بالدولة. وكان استدمر نائباً بدمشق كما قدمناه امتعض لذلك، وأجمع الانتقاض وداخله في ذلك مندمر وألبري ومنجك اليوسفي، واستولى على قلعة دمشق. وسار في العساكر ومعه السلطان المنصور، ووصل إلى دمشق واعتصم القوم بالقلعة. وترددت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا. فلما نزلوا إليه بعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها، وولى الأمير المارداني نائباً بدمشق وقطلو بغا الأحمدي نائباً بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد، وعاد السلطان المنصور وبيبقا إلى مصر، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفاة الخليفة المعتضد بن المستكفى وولاية ابنه المتوكل: قد تقدم لنا أن الخليفة المستكفي لما توفي قبل وفاة الملك الناصر عهد لابنه أحمد ولقبه الحاكم، وأن الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عم المستكفي ولقبه الواثق. فلما توفي الناصر آخر سنة إحدى وأربعين، وأغار الأمراء القائمون بالدولة والأمير أحمد الحاكم بن المستكفي ولي عهده، فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث وخمسين لأول دولة الصالح سبط
تنكز. وولى بعده أخوه أبو بكر بن المستكفي ولقب المعتضد. ثم توفي سنة ثلاث وستين لعشرة أعوام من خلافته، وعهد إلى ابنه أحمد فولي مكانه ولقب المستكفي، والله تعالى أعلم.
خلع المنصور وولاية ا لأشرف: ثم بدا البيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع وستين لسبعة وعشرين شهرا من ولايته، ونصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر، وكان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة. وكان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين ولقبه الأشرف، وتولى كفالته. وفي سنة خمس وستين عزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب، وولى مكانه قطلو بغا الأحمدي. وتوفي قطلو بغا فولى مكانه غشقتمر المارداني. ثم عزل غشقتمر سنة ست وستين فولى مكانه سيف الدين فرجي، وأوعز إليه سنة سبع وستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلا، فسار إليه وامتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر، واستأمن خليل بعدها وجاء إلى مصر فأمنه السلطان وخلع عليه، وولاه ورجع إلى بلده وقومه، والله تعالى أعلم.
واقعة الإسكندرية
كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية وهم من بقايا الروم، وإنما ينتسبون لهذا العهد إلى الإفرنج لظهور الإفرنج على سائر أمم النصرانية. وإلا فقد نسبهم هروشيوش إلى كيتم وهم الروم عندهم، ونسب أهل رودس إلى دوداتم وجعلهم إخوة كيتم ونسبهما معاً إلى رومان. وكانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدونها لصاحب مصر، وما زالت مقررة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر. وكانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها ويعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية. وتقدم لنا آنفا في دولة الترك أن الظاهر بيبرس بعث إليها سنة تسع وستين وستمائة اسطولا من الشواني، وطرقت مرساها ليلا فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية. ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الإفرنج على جزيرة رودس، حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان وسبعمائة وأخذوا بمخنقها. وأقام أهل قبرص معهم بين فتنة وصلح، وسلم وحرب، آخر أيامهم. وجزيرة قبرص هذه على مسافة يوم وليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام
ومصر. واطلعوا بعض الأيام على غرة في الإسكندرية وأخبروا حاجبهم، وعزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله واستنفر من سائر الإفرنج، ووافى مرساها سابع عشر من المحرم سنة سبع وستين في أسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركباً مشحونة بالعدة وبالعدد، ومعه الفرسان المقاتلة بخيولهم. فلما أرسى بها قدمهم إلى السواحل وعبى صفوفه، وزحف وقد غمق الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالاً لما هو فيه، ولا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب، وحاميتهم يومئذ قليلة وأسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية. ونائبها القائم بمصالحها في الحرب والسلم، وهو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه، فما هو إلا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية ونضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة، وأغلقوا أبوابها وصعدوا إلى الأسوار ينظرون ووصل القرم إلى الباب فأحرقوه واقتحموا المدينة، واضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض. ثم أجفلوا إلى جهة البر بما أمكنهم من عيالهم وولدهم، وما اقتدروا عليه من أموالهم، وسالت بهم الطرق والأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة ودهشة. وشعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم، وتوسط الإفرنج المدينة ونهبوا ما مروا عليه من الدور وأسواق البر ودكاكين الصيارفة ومودعات التجار، وملؤا سفنهم من المتاع والبضائع والذخيرة والصامت، واحتملوا ما استولوا عليه من السبي والأسرى وأكثر ما فيهم الصبيان والنساء. ثم تسايل إليهم الصريخ من العرب وغيرهم فانكفأ الإفرنج إلى أساطيلهم وانكمشوا فيها بقية يومهم وأقلعوا من الغد. وطار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه وخرج لوقته بسلطانه وعساكره، ومعه ابن عوام نائب الإسكندرية منصرفه من الحج، وفي مقدمته خليل بن قوصون وقطلو بغا الفخري من أمرائه وعزائمهم مرهفة ونياتهم في الجهاد صادقة، حتى بلغهم الخبر في طريقهم بإقلاع العدو فلم يثنه ذلك، واستمر إلى الإسكندرية وشاهد ما وقع بها من معرة الخراب وآثار الفساد، فأمر بهدم ذلك وإصلاحه، ورجع أدراجه إلى دار الملك، وقد امتلأت جوانحه غيظا وحنقا على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائة أسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزما على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية، واحتفل في الأستعداد لذلك، واستكثر من السلاح وآلات الحصار، وكمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم يقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه، والله تعالى ولي التوفيق
. ثورة الطويل ونكبته: كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن، وكانت وظيفته في الدولة أمير سلاح وهو مع ذلك رديف بيبقا في أمره، وكان يؤمّل الإستبداد ثم حدثت له المنافسة والغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عندما استكمل أمره واستفحل سلطانه، وداخلوا الطويل في الثورة وكان دوادار السلطان أرغون الأشقري وأستاذ دار المحمدي. وبيناهم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع وستين، وفشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا واعتزم على إخراج الطويل إلى الشام، وأصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق وبعث به إليه وبالخلعة على العادة مع أرغون الأشقري الدوادار وروس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له، ومعه أرغون الأرقي وطنبغا العلائي من أصحاب بيبقا، فردهم الطويل وأساء إليهم. وواعد بيبقا قبة النصر فهزمهم وقبض على الطويل والأشقري والمحمدي وحبسوا بالإسكندرية. ثم شفع للسطان في الطويل في شهر شعبان من السنة وبعثه إلى القدس، ثم أطلق الأشقري والمحمدي وبعث بهما إلى الشام وولى مكان الطويل طيدمر الباسلي ومكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري. ثم عزله بيبقا العلائي وولى مكانه روس العادل المحمدي. وكان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل وحبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة، واستدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق إلى مصر يطلبه فقدم نائباً بحلب مكان سيف الدين برجي، وآذن له في الإستكثار من العساكر، وجعلت رتبته فوق نائب دمشق، وولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى، والله تعالى أعلم. المماليك ثورة المماليك ببيبقا ومقتله واستبداد اد ستدمر: كان طنبغا قد طال استبداده على السلطان وثقلت وطأته على الأمراء وأهل الدولة وخصوصا على مماليكه، وكان قد. استكثر من المماليك وأرهف حده لهم في التأديب وتجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الأنوف واصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم وضمائرهم لذلك وطووا على الغش: وكان كبير خواصه استدمر واقتفان الأحمدي، ووقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فستوحش له وارتاب، وداخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم. وخلصوا النجوى مع السلطان فيه واقتضوا منه الإذن. وسرح السلطان بيبقا
إلى البحيرة في عام ثمان وسبعين، وانعقد هؤلاء المماليك المتفاوضون في الثورة بمنزل الطرانة وبيتوا له فيها ونمي إليه خبرهم، ورأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مكرا في بعض خواصه وخاض النيل إلى القاهرة وتقدم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية، ويمنعوا العبور كل من يرومه العدوة الغربية. وخالفه استدمر واقتفان إلى السلطان في ليلتهم وبايعوه على مقاطعة بيبقا ونكبته. ولما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء والحجاب من مماليكه وغيرهم، وكان بها أيبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه. وكان يقتمر النظامي وأرغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا إليه فخلع الأشرف، ونصب أخاه أتوك ولقبه المنصور. وأحضر الخليفة فولاه واستعد للحرب وضرب مخيمه بالجزيرة الوسطى على عدوة البحر. ولحق به من كانت له معه صاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل: بيبقا العلائي الدوادار، ويونس الرمام وكمشيقا الحموي وخليل بن قوصون ويعقوب شاه وقرابقا البدري وابتغا الجوهري. ووصل السلطان الأشرف من الطرانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصدا دار ملكه، وانتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك، وأقام ثلاثاً وبيبقا وأصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينفحونهم بالنبل، ويرسلون عليهم الحجارة من المجانيق وصواعق الأنفاط، وعوالم النظارة في السفن إلى أن تتوسط فيركبونها ويحركونها بالمجاذيف إلى ناحية السلطان، حتى كملت منها عدة وأكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا، وأجاز فيها السلطان وأصحابه إلى جزيرة الفيل. وسار على التعبية، وقد ملأت عساكره وتابعه بسيط الأرض، وتركم القتام بالجو وغشيت سحابة موكب بيبقا وأصحابه فتقدموا للدفاع وصدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا وتركوه أوحش من وتد في قلاع فولى منهزماً ومر بالميدان فصلى ركعتين عند بابه، واستمر إلى بيته والعوام ترجمه في بطريقه. وسار السلطان في تعبيته إلى القلعة ودخل قصره، وبعث عن بيبقا فجيء به واعتقل بحبس القلعة سائر يومه. فلما غشي الليل ارتاب المماليك بحياته وجاؤا إلى السلطان يطلبونه، وقد أضمروا الفتك به وأحضره السلطان. وبينما هو مقبل على التضرع للسلطان ضربه بعضهم فأبان رأسه، وارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته ولم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بإزائه. ثم دفن وفرغ من أمره، وقام بأمر الدولة استدمر الناصري ورديفه بيبقا الأحمدي ومعهما بحماس الطازي وقرابقا السرغتمشي وتغري بردي، المتولون كبر هذه الفعلة. وتقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية. وقد مر ذكرهم وعزل خليل بن قوصون وألزم بيته وولوا أمراء مكان المحبوسين وأهل وظائف من كانت له. واستقر أمر الدولة على ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واقعة الاجلاب ثم نكبتهم ومهلك استدمر وذهاب دولته: ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة وحبسوا قرابقا السرغتمشي صاحبهم، وامتعض له تغري بدمشق، وداخل بعض الأمراء في الثورة ووافقه أيبك البدري وجماعة معه، وركب منتصف رجب سنة ثمان وستين للحرب فركب له استدمر وأصحابه فتقبضوا عليهم وحبسوهم بالإسكندرية، وعظم ظغيان هؤلاء الأجلاب وكثر عيثهم في البلد وتجاوزهم حدود الشريعة والملك. وفاوض السلطان أمراءه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم وحسم دائهم فنبذ السلطان إليهم العهد، وجلس على كرسيه بالأساطيل، وتقدم إلى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي وطغتمر النظاير وسائر أمراء السلطان، ومن استخدموه من مماليك بيبقا، وتحيز إليهم أيبقا الجلب وبحماس الظازي عن صاحبهما استدمر. وركب لقتالهم استدمر وأصحابه وسائر الأجلاب، وحاصروا القلعة إلى أن خرج عند الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء، وفارقهم المستخدمون عندهم من مماليك بيبقا فانفض جمعهم وانهزموا. وثبت الجائي اليوسفي وارغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلا، ثم انهزموا إلى قبة النصر، وقتل دروط ابن أخي الحاج الملك وقبض على أيبقا الجلب جريحا، وعلى طغتمر النظامي وعلى بحماس الطازي والجائي اليوسفي وأرغون التتر وكثير من أمراء الألوف ومن دونهم. واستولى استدمر وأصحابه الأجلاب على السلطان كما كانوا، وولى مكان المحبوسين من الأمراء وأهل الوظائف، وعاد خليل بن قوصون على إمرته. وعزل قشتمر عن طرابلس وحبس بالإسكندرية، واسبتدل بكثير من أمراء الشام واستمر الحال على ذلك بقية السنة والاجلاب على حالهم في الإستهتار بالسلطان والرعية. فلما كان محرم سنة تسع وستين عادوا إلى الاجلاب على الدولة، فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم ويعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم، كسر بهم الفتنة، وذلك يوم الأربعاء سادس صفر، فلما كان يوم السبت وعاودوا الركوب ونادوا بخلع السلطان فركب السلطان في مماليكه ونحو المائتين. والتف عليهم العوام وقد حنقوا على الاجلاب بشراشرهم فيهم. وركب استدمر في الاجلاب على التعبية وهم ألف وخمسمائة وجاؤا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا ووقفوا وأدلفتهم الحجارة من أيدي العوام بالمقاليع، وحملت عليهم العساكر فانهزموا وقبض على أبقا السرغتمشي وجماعة معه فحبسوا بالخزانة.
ثم جيء باستدمر أسيرا وشفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان وأطلقه باقيا على أتابكيته، ونزل إلى بيته بقبض الكيس. وكان خليل بن قوصون تولى آتابكا في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد، فركب خليل إلى بيته وحمله على الأنتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمه. فاجتمع منهم جماعة من الاجلاب وركبوا بالرميلة فركب إليهم السلطان والأمراء في العساكر فانهزموا وقتل كثير منهم. وبعثوا بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وقتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم، وطيف بهم على الجمال في أقطار المدينة. ثم تتبع بقية الاجلاب بالقتل والحبس بالثغور القاصية، وكان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الذي ولي الملك بعد ذلك بمصر، وبركه الجولاني، وطنبغا الجوباني، وجركس الخليلي، ونعنع، وأقاموا كلهم متلفين بين السجن والنفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره. واستبد السلطان بأمره بعض الشيء وأفرج عن الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وجماعة من المسجونين من أمرائه، وولى الجائي أمير سلاح وولى بيبقا المنصوري وبكتمر المحمدي من أمراء الاجلاب في الأتابكية شريكين. ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة وإطلاق المسجونين من الاجلاب والاستبداد على السلطان فقبض عليهما. وبعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب، وأقامه في الأتابكية. واستدعى أمير علي المارداني من دمشق وولاه النيابة، وولى في جميع الوظائف استبدالا وإنشاء بنظره واختياره. وكان منهم مولاه أرغون الأشرفي. وما زال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته وكان خالصته كما سنذكر. وولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل وعلى دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي. ثم اعتقله وصادره على مائة ألف دينار ونفاه إلى طرطوس، وولى مكانه منجك اليوسفي نقله إليها من طرابلس وأعاد إليها غشقتمر المارداني كما كان قبله. ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع وستين بعد أن كان يروم الأنتقاض، فولى مكانه استبغا الأبو بكري. ثم عزله سنة سبعين وولى مكانه قشتمر المنصوري، والله تعالى ولي التوفيق بمنه وفضله.
مقتل قشتمر المنصوري بحلب في واقعة العرب: كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض وولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى، واستمر جماز على خلافه ووطىء بلاد حلب أيام المصيف، واجتمع إليه بنو كلاب وامتدت أيديهم على السابلة فخرج إليهم نائب حلب قشتمر المنصوري في عساكره، فأغار على أحيائه واستاق نعمهم ومواشيهم وشره إلى اصطلامهم فتذامروا دون
أحيائهم، وكانت بينه وبينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري وابنه محمد قتيلين، ويقال قتلهما يعبر بن جماز، ورجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب، وذهب جماز إلى القفر ناجياً به، وولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل. ثم استأمن له جماز بن مهنا وعاود الطاعة فأعاده السلطان إلى إمارته، والله تعالى أعلم.
استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه ومقتله: لما أذهب السلطان الأشرف أثر الاجلاب من دولته، وقام بعض الشيء بأمره فاستدعى منكلي بغا من حلب، وجعله أتابكا وأمير علي المارداني من دمشق وجعله نائبا. وولى الجائي اليوسفي أمير سلاح، وولى أصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الاجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحدا بعد واحد. ثم سخطه وولى مكانه أقطمر الصباحي، وعمر سائر الخطط السلطانية بمن وقع عليه اختياره، ورقى مولاه أرغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى، إلى أن أربى به على الأتابكية كما يأتي. وولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أميرالماخورية تردد بينهما. ثم استقر آخرا في الماخورية وولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار، وولى بيبقا الناصري بالحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها. وزوج أمه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة، واستغلظ أمره وأغلظ له الدوادار يوماً في القول فنفي، وولى مكانه منكوتمر عبد الغني. ثم عزل سنة إثنتين وسبعين لسنة من ولايته، وولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الذى كان دوادار البيبقا، واستقرت الدولة على هذا النمط والجائي اليوسفي مستبد فيها ووصل وفود منجك من الشام سنة أربع وسبعين بما لا يعبر عنه. اشتمل على الخيل والبخاتي المجللة والجمال والهجن والقماش والحلاوات والحلي والطرف والمواعين، حتى كان فيها من الكلاب الصائدة والسباع والإبل ما لم ير مثله في أصنافه. ثم وصل وفود قشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك، والله تعالى أعلم. انتقاض الجائي اليوسفي ومهلكه واستبداد الاشرف بملكه من بعده: لم تزل الدولة مستقرة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا بالأتابك منتصف سنة أربع وسبعين، واستضاف الجائي اليوسفي الأتابكية إلى ما كان بيده ورتبته أشد من ذلك كله، وهو القائم المستبد بها. ثم توفيت أم السلطان وهي في عصمته فاستحق منها ميراثاً دعاه لؤم الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف وتجافى السلطان له عن ذلك إلا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور، فأظلم الجو بينه وبين السلطان، وتمكنت فيه السعاية. وذكرت بهذه انتقاضه الأول، وذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فأمر بالركوب إلى العامة وقتلهم فقتل منهم كثير ونمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته، وعذلوه عنده فاستشاط السلطان وزجره وأغلظ له فغضب، وركب إلى قبة النصر منتقضا. وذهب السلطان في مداراة أمره إلى الملاطفة واللين. وكان الأتابك منكلي بغا يوم ذاك حيا فأوعز السلطان إليه فرجع وخلع عليه وأعاده إلى أحسن ما كان. فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه، وخرج هو منتقضا وركب في مماليكه بساحة القلعة. وجلس السلطان وترددت الرسل بينهما بالملاطفة فأصر واستكبر، ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله وكان أكثرهم من الاجلاب مماليك بيبقا، وقد جمعهم السلطان واستخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولي عهده، فقاتلوه في محرم. سنة خمس وتسعين وكان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل ونضحوه بالسهام، فتنحى عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم وخرجوا من باب الأساطيل. وصدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش ورجع من وراء الجبل إلى قبة النصر، فأقام بها ثلاثا والسلطان يراوضه وهو يشتط وشيعه يتسللون عنه. ثم بعث إليه بالسلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب، واتبعوه فخاض البحر وكان آخر العهد به. ثم أخرج شلوه ودفن وأسف السلطان لمهلكه، ونقل أولاده إلى قصره ورتب لهم ولحاشيته الأرزاق في ديوانه. وقبض على من اتهمه بمداخلته وأرباب وظائفه فصودروا كلهم وعزلوا وغربوا إلى الشام. واستبد السلطان بأمره،. واستدعى القري الدوادار، وكان نائباً بطرابلس فولاه أتابكا مكان الجائي ورفع رتبته. وولى أرغون شاه وجعله أمير مجلس، وولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح، واختص بالسلطان طشتمر الدوادار وناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار، فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما، وتصاريفها تجري بسياستهما إلى أن كان ما نذكره، والله تعالى ولي التوفيق. استقدام منجك للنيابة: كان أمير علي المارداني قد توفي سنة إثنتين وسبعين، وبقيت وظيفته خلوا المكان الجائي اليوسفي وأحكامه. ولما هلك سنة خمس وسبعين ولى السلطان أقطمر عبد الغني نائبا. ثم بدا له أن يولي في النيابة منجك اليوسفي لما رآه فيه من الأهليه لذلك والقيام به، ولتقلبه في الإمارة منذ عهد
الناصر حسن، وأنه كان من مواليه أخا لبيبقا روس وطاز وسرغتمش فهو بقية المناجب. فلما وقع نظره عليه بعث في استقدامه بيبقا الناصري من أمراء دولته، وولى مكانه بندمر الخوارزمي، وأعاد عشقتمر إلى حلب مكانه. ووصل منجك إلى مصر آخر سنة خمس وسبعين ومعه مماليكه وحاشيته، وصهر إلى روس المحمدي فاحتفل السلطان في تكرمته، وأمر أهل الدولة بالركوب لتلقيه، فتلقاه الأمراء والعساكر وأرباب الوظائف من القضاء والدواوين وأذن له في الدخول من باب السرراكبا وخاصة السلطان مشاة بين يديه حتى نزل عند مقاعد الطواشية بباب القصر حيث يجلس مقدم المماليك استدعي إلى السلطان فدخل، وأقبل عليه السلطان وشافهه بالنيابة المطلقة، وفوض إليه الولاية والعزل في سائر المراتب السلطانية من الوزراء والخواص والقضاة والأوقاف وغيرها، وخلع عليه وخرج. ثم قرر تقليده بذلك في الإيوان ثاني يوم وصوله فكان يوماً عهوداً. وولى الأشرف في ذلك اليوم بيبقا الناصري الذي قدم به حاجبا. ثم سافر عشقتمر نائب حلب آخر سنة ست وسبعين بعدها بالعساكر إلى بلاد الأرمن ففتح سائر أعمالها، واستولى على ملكها النكفور بالأمان فوصل بأهله وولده إلى الأبواب السلطانية ورتب لهم الأرزاق، وولى السلطان على سيس وانقرض منها ملك الأرمن. وتوفي منجك آخر هذه السنة فولى السلطان اقتمر الصاجي المعروف بالحلي. ثم عزله ورفع مجلسه وولى مكانه اقمر الألقني. ثم توفي جبار بن، هنا أمير العرب بالشام فولى السلطان ابنه يعبرا مكانه. ثم توفي أمير مكة من بني حسن فولى الأشرف مكانه، واستقرت الأمور على ذلك، والله أعلم.
الخبر عن مماليك بيبقا وترشيحهم في الدولة: كان السلطان الأشرف بعد أن سطا بمماليك بيبقا تلك السطوة وقسمهم بين القتل والنفي وأسكنهم السجون، وأذهب أثرهم من الدولة بالجملة أرجع جملة منهم بعد ذلك. وعاتبه منكلي أبغا في شأنهم، وأن في اتلافهم قص جناح الدولة، وإنهم ناشئة من الجند يحتاج الملك لمثلهم فندم على من قتل منهم، وأطلق من بقي من المحبوسين بعد خمس من السنين، وسرحهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء، وكان فيمن أطلق الجماعة الذين بحبس الكرك وهم: برقون العثماني وبركة الجوباني وطنبقا الجوباني وجركس الخليلي ونعنغ، فأطلقوا إلى الشام. ودعا منجك صاحب الشام كبراءهم إلى تعليم المماليك ثقافة الرمح، وكانوا بصراء بها فأقاموا عنده مدة، أخبرني بذلك الطنبقا الجوباني أيام اتصالي به قال وأقمنا عند منجك إلى أن استدعاه السلطان الأشرف وكتب إليه الجائي اليوسفي بمثل ذلك فاضطرب في أيهما يجيبه فيها. ثم أراد أن يخرج من العهدة فرد الأمر إلينا فأبينا إلا امتثال أمره فتحير. ثم اهتدى إلى أن يبعث إلى
الجائي اليوسفي، ودس إلى قرطاي كافل الأمير علي ابن السلطان وكان صديقه بطلبنا من الجائي بخدمة ولي العهد، وصانع الجهتين بذلك قال: وصرنا إلى ولي العهد فعرضنا على السلطان أبيه واختصنا عنده بتعليم الثقافة لمماليكه إلى أن دعانا السلطان يوم واقعة الجائي وهو جالس بالإسطبل فندبنا لحربه وذكرنا حقوقه وأزاح عللنا بالجياد والأسلحة، فجلبنا في قتله إلى أن انهزم، وما زال السلطان بعدها يرعى لنا ذلك ويقدمنا. انتهى خبر الجوباني. وكان طشتمر الدوادار قد لطف محله عند الأشرف وخلا له وجهه وكان هواه في اجتماع مماليك بيبقا في الدولة يستكثر بهم فيما يومله من الاستبداد على السلطان. فكان يشير في كل وقت على الأشرف باستقدامهم من كل ناحية واجتماعهم عصابة للدولة يخادع بذلك عن قصده ؛ وكان محمد بن اسقلاص أستاذ دار يساميه في الدولة ويزاحمه في مخالصة بالأشرف ولطف المحل عنده، ينهى السلطان عن ذلك ويحذره مغبة اجتماعهم فغص طشتمر بذلك. وكان عند السلطان مماليك دونه من مماليكه الخاصكية شبابا قد اصطفاهم وهذبهم وخالصهم بالمحبة والصهر ورشحهم للمراتب وولى بعضهم. وكان الأكابر من أهل الدولة يفضون إليهم بحاجاتهم ويتوسلون بمساعيهم فصرف طشتمر إليهم وجه السعاية، وغشي مجالسهم وأغراهم بابن اسقلاص، وإنه يصد السلطان أكثر الأوقات عن أغراضهم منه، ويبعد أبواب الانعام والصلات منه. وصدق ذلك عندهم كثرة حاجاتهم في وظيفته، وتقرر الكثير منها عليهم عنده فوغرت صدورهم منه، وأغروا به السلطان بأطباق اغراء طشتمر طاهراً حتى تمت عليهم نكبته، وجمعت الكلمة وقبض عليه منتصف جمادي سنة سبع وثمانين، ونفاه إلى القدس فخلا لطشتمر وجه السلطان وانفرد بالتدبير، واجتمع المماليك البيبقاوية من كل ناحية حتى كثروا أهل الدولة وعمروا مراتبها ووظائفها، واحتاروها من جوانبها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
حج السلطان الاشرف وانتقاض المماليك عليه بالعقبة وما كان مع ذلك من ثورة قرطاي بالقاهرة وبيعة الامير علي ولي العهد ومقتل السلطان اثر ذلك: لما استقر السلطان في دولته على أكمل حالات الاستبداد والظهور، وأذعان الناس. لطاعته في كل ناحية، وأكمل الله له الامتاع بملكه ودنياه، سمت نفسه إلى قضاء فرضه، فأجمع الحج سنة
ثمان وسبعين، وتجهز لذلك واستكثر من الرواحل المستجادة والزودة المثقلة من سائر الأصناف. واستعد للسفر واحتفل في الأبهة بما لم يعهد مثله، واستخلف ابنه ولي العهد في ملكه، وأوصى النائب اكتمر عبد النبي بمباكرة بابه والانتهاء إلى مراسمه. وأخرج بني الملك الناصر المحجوبين بالقلعة مع سرد الشيخوني إلى الكرك يقيمون به إلى منصرفه. ولجهز الخليفة العباسي محمد المتوكل بن المعتضد والقضاة للحج معه، وجهز جماعة إلى الأمراء أهل دولته وأزاح عللهم وملأ بمعروفه حقائبهم. وخرج ثاني عشر شوال في المراكب والقطارات يروق الناظرين كثرة ومخافة وزينة، والخليفة والقضاة والأمراء حفا فيه. وبرز النظارة حتى العواتق من خدورهن، وتجللت بمركبهم البسيطة وماجت الأرض بهم موجا، وخيم بالبركة منزل الحاج وأقام بها أياماً حتى فرغ الناس من حاجاتهم. وارتحل، فما زال يتنقل في المنازل إلى القعبة. ثم أقام فيها على عادة الحاج، وكان في نفوس المماليك وخصوصا البيبقاوية وهم الأكثر شجى يتشوقون به إلى الاستبداد من الدولة، فتنكروا واشتطوا في اقتضاء أرزاقهم والمباشرون يعللونهم وانتهى أمرهم إلى الفساد. ثم طلبوا العلوفة المستقبلة إلى دار الأزلم، فاعتذر المباشرون بأن الأقوات حملت إلى الأمام فلم يقبلوا، وكشفوا القناع في الأنقاض وباتوا ليلتهم على تعبية. واستدعى الأشرف طشتمر الدوادار، وكان كبيرهم، ففاوضه في الأمر ليفل من عزمهم، فأجمل العذر عنهم، وخرج إليهم. فخرجوا، ثم ركبوا من الغد واصطفوا وأركبوا طشتمر معهم، ومنعوه من معاودة السلطان. وتولى كبر ذلك منهم مبارك الطازي وسراي تمر المحمدي وبطلقمر العلائي، وركب السلطان في خاصته يظن أنهم يرعوون أو يجنح إليه بعضهم فأبوا إلا الاحفاف على قتاله. ونضحوا موكبه بالنبل لما عاينوه فرجع إلى خيامه منهزما. ثم ركب البحر في لفيف من خواصه ومعه أرغون شاه الأتابك وبيبقا الناصري، ومحمد بن عيسى صاحب الدرك من لفائف الأعراب أهل الضاحية، وفي ركابه جماعة الشباب الذين أنشأهم في مخالصته ورشحهم للوظائف في دولته كما مر. وخام الفل إلى القاهرة، وقد كان السلطان عندما سافر عن القاهرة ترك بها جماعة من الأمراء والمماليك مقيمين في وظائفهم، كان منهم: قرطاي الطازي كافل أمير علي ولي العهد، واقتمر الخليلي، وقشتمر واستدمرالسرغتمشي وأيبك البدري. وكان شيطان من المتمردة قد أوحى إلى قرطاي بأنه يكون صاحب الدولة بمصر، فكان يتشوف لذلك ويترصد له. وربما وقع بينه وبين وزير الدولة منازعة في جراية مماليك مكفوله ولي
العهد وعلوفاتهم، وأغلظ له فيها الوزير فوجم وأخذ في أسباب الأنتقاض. وداخل في ذلك بعض أصحابه وواعدهم ثالث ذي القعدة، وتقدم إلى داية ولي العهد ليلة ذلك اليوم بأن يصلح من شأنه ويفرغ عليه ملابس السلطان، ويهيئه لجلوس التخت. وركب هو صبيحة ذلك اليوم ووقف بالرميلة عند مصلى العيد. وتناول قطعة من ثوب فنصبها لواء، وكان صبيان المدينة قد شرعوا في اتخاذ الدبادب والطبيلات للعيد فأمر بتناول بعضها منهم. وهرعت بين يديه وتسايل الناس إليه من كل أوب، ونزل من كان بطباق القصر وغرفه وبالقاهرة من المماليك، واجتمعوا إليه حتى كظ ذلك الفضاء.وجاؤا تعادي بهم الخيل فاستغلظ لفيفهم، ثم اقتحم القلعة في جمعه من باب الاصطبل إلى بيت مكفوله ولي العهد أمير علي عند باب السمتارة يطلبونه، وقضوا على زمام الذود وكانوا عدة حتى أحضروا ولي العهد وجاؤوا به على الأكتاف إلى الإيوان فأجلسوه على التخت، وأحضروا أيدمر نائب القلعة فبايع له. ثم أنزلوه إلى باب الاصطبل وأجلسوه هناك على الكرسي. واستدعى الأمراء القائمين بالقاهرة فبايعوه، وحبس بعضهم بالقلعة. وبعث أكتمر الحلي إلى الصعيد يستكشف أحواله، واختص منهم أيبك فجعله رديفاً في دولته. وباتوا كذلك وأصبحوا يسائلون الركبان ويستكشفون خبر السلطان. وكان السلطان لما انهزم من العقبة سار ليلتين وجاء إلى البركة آخر الثانية، وجاءه الخبر بواقعة القاهرة وما فعله قرطاي، وتشاوروا فأشار محمد بن عيسى بقصد الشام، وأشار آخرون بالوصول إلى القاهرة. وسار السلطان إليها واستمروا إلى قبة النصر، وتهافتوا عن رواحلهم باطلاح وقد أنهكهم التعب وأضناهم السير، فما هو إلا أن وقعوا لمناكبهم وجنوبهم وغشيهم النعاس. وجاء الناصري إلى السلطان الأشرف من بينهم فتنصح له بأن يتسلل من أصحابه، ويتسرب في بعض البيوت بالقاهرة حتى يتبين له وجه مذهبه، وانطلق بين يديه فقصد بعض النساء ممن كان ينتاب قصده، واختفى فظن النجاة في ذلك وفارقه الناصري يطلب نفقا في الأرض، وقد كانوا بعثوا من قبة النصر بعض المماليك عنهم روائد يستوضحون الخبر فأصبحوا بالرميلة أمام القلعة وتعرف الناس أنه من الحاج فرفعوه إلى صاحب الدولة، وعرض عليه العذاب حتى أخبره عن السلطان، وأنه وأصحابه بقبة النصر مصرعين من غشي النوم فطار إليهم شراد العسكر مع استدمر السرغتمشي، والجمهور في ساقتهم حتى وقفوا عليهم في مضاجعهم.وافتقدوا السلطان من بينهم وقتلوهم جميعا وجاؤا برؤسهم ووجموا لافتقاد السلطان ونادوا بطلبه، وعرضوا العذاب والقتل على محمد بن عيسى صاحب الدرك، فتبرأ وحبس رهينة من ثقاته. ثم جاءت امرأة إلى أيبك فدلته عليه في بيت جارتها فاستخرجوه من
ذلك البيت، ودفعوه إلى أيبك فامتحنه حتى دلهم على الذخيرة والأموال. ثم قتلوه خنقا وجددوا البيعة لابنه الأمير علي ولقبوه المنصور. واستقل بدولته كافله من قبل الأميرة قرطاي ورديفه أيبك البدري، واستقر الأمر على ذلك.
مجيء طشتمر من العقبة وانهزامه ثم مسيره إلى الشام وتجديد البيعة للمنصور بأذن الخليفة وتقديمه: لما انهزم السلطان من العقبة ومضى إلى القاهرة اجتمع أهل الثورة على قشتمر ، وألقوا إليه القياد ودعوا الخليفة إلى البيعة له فتفادى من ذلك. ومضى الحاج من مكة مع أمير المحمل بهادر الجمالي على العادة. ورجع القضاة والفقهاء إلى القدس، وتوجه طشتمر والأمراء إلى مصر لتلافي السلطان أو تلفه فلقيهم خبر مهلكه بعجرود ، وما كان من بيعة ابنه واستقلال قرطاي بالملك فثاب لهم رأي آخر في حرب أهل الدولة، وساروا على التعبية وبعثوا في مقدمتهم قطلقتمر. ولقي طلائع مصر فهزمهم وسار في اتباعهم إلى ساحة القلعة فلم يشعر إلا وقد تورط في جمهور العسكر فتقبضوا عليه. وكان قرطاي قد بعث عن اقتمر الصاحبي الحنبلي من الصعيد، ويرجع في العساكر لحرب قشتمر وأصحابه فبرز إليهم والتقوا في ساحة القلعة. وانهزم قشتمر إلى الكيمان بناحية مصر ؛ ثم استأمن فأمنوه واعتقلوه. ثم جمع الناس ليوم مشهود، وحضر الخليفة والأمراء والقضاة والعلماء وعقد الخليفة للمنصور بن الأشرف وفوض إليه. وقام قرطاي بالدولة وقسم الوظائف فولى قشتمر اللفاف واستأمر السرغتمشي أمير سلاح، وقطلوبغا البدري أمير مجلس، وقرطاي الطازي رأس نوبة وأياس السرغتمشي دوادار، وأيبك البدري أمير الماخورية، وسردون جركس أستاذ دار، واقتمر الحنبلي نائباً وجعل له الإقطاع للأجناد والأمراء والنواب. وأفرج عن طشتمر العلائي الدوادار وأقطعه الإسكندرية وأحضر بنيئ الملك الناصر من الكرك مع حافظهم سردون الشيخوني وولاه حاجبا، وكذلك قلوط السرغتمشي، وأصاب الناس في آخر السنة طاعون إلى أول سنة تسع وسبعين، فهلك طشتمر اللفاف الأتابك، وولي مكانه قرطاي الطازي في وظيفته. واستدعي بيبقا الناصري من الشام فاختصه الأمير الكبير قرطاي بالمخالصة والمشاورة. نكبة قرطاي واستقلال أيبك بالدولة ثم مهلكه: كان أيبك الغزي هذا قد ردف قرطاي في حمل الدولة من أول ثورتهم وقيامهم على
السلطان، فخالصه وخلطه بنفسه في الإصهار إليه. وكان أيبك يروم الإستبداد بشأن أصحابه، وكان يعرف من قرطاي عكوفه على لذاته وانقسامه مع ندمائه فعمل قرطاي في صفر سنة تسع وسبعين ضيافة في بيته، وجمع ندماءه مثل سودون جركس ومبارك الطازي وغيرهم. وأهدى له أيبك نبيذا أذيب فيه بعض المرقدات فباتوا يتعاطونه حتى غلبهم السكر على أنفسهم ولم يفيقوا. فركب أيبك من ليلته، وأركب السلطان المنصور معه واختار الأمر لنفسه، واجتمع إليه الناس وأفاق قرطاي بعد ثلاث وقد انحلت عنه العقدة، واجتمع الناس على أيبك فبعث إليه قرطاي يستأمن فأمنه، ثم قبض عليه فسيره إلى صفد، واستقل أيبك بالملك والدولة. ثم بلغه منتصف صفر من السنة انتقاض طشتمر بالشام وانتقاض الأمراء هنالك في سائر الممالك على الخلاف معه، فنادى في الناس بالمسير إلى الشام فتجهزوا وسرح المقدمة آخر صفر مع ابنه أحمد وأخيه قطلوفجا، وفيها من مماليكه ومماليك السلطان وجماعة من الأمراء كان منهم الأميران برقوق وبركة المستبدان بعد ذلك. ثم خرج أيبك ثاني ربيع في الساقة بالسلطان والأمراء والعساكر وانتهوا إلى بلبيس. وثار الأمراء الذين كانوا مع أخيه في المقدمة ورجع إليه منهزماً فأجفل راجعاً إلى القلعة بالسلطان والعساكر. وخرج عليه ساعة وصوله يوم الإثنين جماعة من الأمراء، وهم قطلتمر العلائي الطويل والطنبقا السلطاني والنعناع وواعدوه قبة النصر، فسرح إليهم العساكر مع أخيه قطلوفجا فأوقعوا به وقبضوا عليه. وبلغ الخبر إلى أيبك فسرح من حضره من الأمراء للقائهم، وهم أيدمر الشمسي واقطمر عبد الغني وبهادر الجمالي ومبارك الطازي في آخرين. ولما تواروا عنه ركب هو هارباً إلى كيمان مصر، واتبعه أيدمر القنائي فلم يقف له على خبر. ودخل الأمراء من قبه النصر إلى الاسطبل، وأمضوا الأمراء إلى قطلتمر العلائي وهم يحاذونه، وأشير عليه بخلع المنصور، والبيعة لمن يقوم على هذا الأمر من أبناء السلطان فأبى. ثم وصل صبيحة الثلاثاء الأمراء الذين ثاروا فجاء أخو أيبك في مقدمة العسكر، وفيهم بيبقا الناظري ودمرداش اليوسفي، وبلاط من أمراء الألوف وبرقوق وبركة وغيرهما من الطلخامات فنازعوهم الأمر وغلبوهم عليه، وبعثوا بهم إلى الإسكندرية معتقلين. وفوض الأمراء إلى بيبقا الناظري فقام بأمرهم وهو شعاع وآراؤهم مختلفة. ثم حضر يوم الأحد التاسع مع ربيع أيبك صاحب الدولة، وظهر من الاختفاء، وجاء إلى بلاط منهم وأحضره عند بيبقا الناظري فبعث به إلى الإسكندرية فحبسه بها وكان بيبقا الناظري يختص برقوق وبركة بالمفاوضة استرابة بالآخرين، فاتفق رأيهم على أن يستدعى طشتمر من الشام وينصبوه للإمارة فبعثوا إليه بذلك وانتظروه.
استبداد الاميرين أبي سعيد برقوق وبركة بالدولة من بعد أيبك ووصول طشتمر من الشام وقيامه بالدولة ثم نكبته: لما تغلب هؤلاء الأمراء على الدولة ونصبوا بيبقا الناظري، ولم يمضوا له الطاعة بقي أمرهم مضطرباً وآراؤهم مختلفة. وكان برقوق وبركة أبصر القوم بالسياسة وطرق التدبير، وكان الناظري يخالصهما كما مر فتفاوضوا في القبض على هؤلاء المتصدين للمنازعة، وكبح شكائمهم وهم دمرداش اليوسفي، وترباي الحسيني، وافتقلاص السلجوقي، واستدمر بن العثماني في آخرين من نظرائهم. وركبوا منتصف صفر، وقبضوا عليهم أجمعين وبعثوا بهم إلى الإسكندرية فحبسوهم بها، واصطفوا بلاطاً منهم وولوه الإمارة وخلطوه بأنفسهم، وأبقوا بيبقا الناظري على أتابكيته كما كان، وانزلوه من القلعة فسكن بيت شيخو قبالته، وولى برقوق أمير الماخورية ونزل باب الاصطبل، وولى بركة الجوباني أمير مجلس، واستقرت الدولة على ذلك. وكان طشتمر نائب الشام قد انتقض واستبد بأمره وجمع عساكر الشام وأمراءه، واستنفر العرب والتركمان وخيم بظاهر دمشق يريد السير إلى مصر. وبرز أيبك من مصر بالسلطان والعسكر يريد الشام لمحاربته فكان ما قدمناه من نكبته وخروج الأمراء عليه، ومصيرهم إلى جماعة البيبقاوية الظافرين بأيبك، ومقدمهم بيبقا الناظري. ثم تفاوض بيبقا الناظري مع برقوق وبركة في استدعاء طشتمر فوافقاه ونظراه رأيا وفيه طلب الصلح من الذين معه وحسم الداء منه بكونهم في مصر فكتبوا إليه بالوصول إلى مصر للأتابكية وتدبير الدولة، وأنه شيخ البيبقاوية وكبيرهم فسكنت نفسه لذلك، ووضع أوزار الفتنة وسار إلى مصر فلما وصلها اختلفوا في أمره وتعظيمه. وأركبوا السلطان إلى الزيدانية لتلقيه ودفعوا الأمراء إليه. واشاروا له إلى الأتابكية ووضعوا زمام الدولة في يده فصار إليه التولية والعزل والخل والعقد. وولى بيبقا الناظري أمير سلاح مكان سباطا، وبعثوا بلاطا إلى الكرك لاستقلال طشتمر بمكانه. وولى بندمر الخوارزمي نائبا بدمشق على سائر وظائف الدولة وممالك الشام كما اقتضاه نظره. ووافق عليه أستاذ دار برقوق وبركة، وولى أيبك اليوسفي فرتب برقوق رأس نوبة مكان الناظري. واستمر الحال على ذلك، وبرقوق وبركة أثناء هذه الأمور يستكثران من المماليك استغلاظا لشوكتهما، واكتنافاً لعصبيتهما أن يمتد الأمير إلى مراتبهما، فيبذلان الجاه لتابعهما، ويوفران الإقطاع لمن يستخدم لهما ويخصان بالإمرة من يجنح من أهل الدولة إليهما وإلى أبوابهما. وانصرفت الوجوه عن سواهما. وارتاب طشتمر بنفسه في ذلك وأغراه أصحابه بالتوثب بهذين الأميرين
فلما كان ذو الحجة سنة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية، وبعثوا إليه فأحجم وقعد عن الركوب. واجتمع برقوق وبركة بالاصطبل فركن إليه، وقاتل مماليك طشتمر بالرميلة ساعة من نهار وانهزموا وافترقوا واستأمن طشتمر فأمنوه واستدعوه إلى القلعة فقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه منهم : أطلمش الأرغوني ومدلان الناظري وأمير حاج بن مغلطاي ودواداره أرغون. وبعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها. وبعث معهم بيبقا الناصري كذلك. ثم أفرج عنه لأيام وبعثه نائبا عن طرابلس. ثم أفرج عن طشتمر بعد ذلك إلى دمياط، ثم إلى القدس إلى أن مات سنة سبع وثمانين. واستقامت الدولة للأميرين بعد اعتقالهما، وخلت لهما من المنازعين. وولى الأمير برقوق أتابكا وولى الماخورية الجابي الشمسي، وولى قريبه أنيال أمير سلاح مكان بيبقا الناصري، وولى اقمتر العثماني لوادار مكان أطلمش الأرغوني. وولى الطنبغا الجوباني رأس نوبة ثانيا ودمرداش أمير مجلس. وتوفي بيبقا النظامي نائب حلب فولى مكانه عشقتمر المارداني. ثم استأذن عشقتمر فأذن له وحبس بالإسكندرية وولى بحلب تمرتاش الحسيني الدمرداشي. ثم أفرج عنه وأقام بالقدس قليلا. ثم استدعاه بركة وأكرم نزله وبعثه نائبا إلى حلب.
ثورة انيال ونكبته: كان أنيال هذا أمير سلاح وكان له مقام في الدولة وهو قريب الأمير برقوق، وكان شديد الإنحراف على الأمير بركة، ويحمل قريبه على منافرته ولا يجيبه إلى ذلك فاعتزم على الثورة، وتحين لها سفر الأمير بركة إلى البحيرة يتصيد، فركب الأمير برقوق في بعض تلك الأيام متصيدا بساحة البلد، فرأى أن قد خلا له الجو فركب وعمد إلى باب الاصطبل فملكه، ومعه جماعة من مماليكه ومماليك الأمير برقوق. وتقبضوا على أمير الماخورية جركس الخليلي. واستدعوا السلطان المنصور ليظهروه للناس فمنعه المقدمون من باب الستارة. وجاء الأمير برقوق من صيده ومعه الأتابك الشمسي فوصلوا إلى منزله خارج القلعة، وافرغوا السلاح على سائر مماليكهم، وركبوا إلى ساحة الاصطبل. ثم قصدوا إلى الباب فأحرقوه وتسلق الأمير قرطاي المنصوري من جهة باب السر وفتحه لهم فدخلوا منه، ودافعوا أنيال وانتقض عليه المماليك الذين كانوا معه من مماليك الأمير برقوق. ورموه بالسهام فانهزم ونزل إلى بيته جريحا. وأحضر إلى الأمير برقوق فاعتذر له بأنه لم يقصد بفعلته إلا التغلب على بركة فبعث به إلى الإسكندرية معتقلاً ، وأعاد بيبقا الناصري أمير سلاح كما كان، واستدعي لها من نيابة طرابلس
. ووصل الخبر إلى بركة فأسرع الكر من البحيرة وانتظم الحال، ونظروا في الوظائف التي خلت في هذه الفتنة فعمروها بمن يقوم بها. واختصوا بها من حسن غناؤه في هذه الواقعة مثل قردم وقرط وذلك سنة إحدى وثمانين. وأقام أنيال معتقلا بالإسكندرية. ثم أفرج عنه في صفر سنة إثنتين وثمانين، وولى على طرابلس. ثم توفي منكلي بقا الأحمدي نائب حلب فولى أنيال مكانه. ثم تقبض عليه آخر السنة وحبس بالكرك وولى مكانه بيبقا الأحمدي فولى مكانه بندمر الخوارزمي. ثم توفي سنة إحدى وثمانين جبار بن المهنا أمير العرب بالشام فولي مكانه معيقل بن فضل ابن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى شريكين، ثم عزلا وولي بعبر بن جبار. ثورة بركة ونكبته واستقلال الأمير برقوق بالدولة: كان هذا الأمير بركة يعادل الأمير برقوق في حمل الدولة كما ذكرناه، وكان أصحابه يقوضون إليه الاستبداد في الأموال. وكان الأمير برقوق كثير التثبت في الأمور والميل إلى المصالح فيعارضهم في الغالب، ويضرب على أيديهم في الكثير من الأحوال فغضوا بمكانه، وأغروا بركة بالتوثب والاستقلال بالأمر وسعوا عنده بأشمس من كبار أصحاب الأمير برقوق، وأنه يحمل برقوق على مقاطعة بركة ويفسد ذات بينهما، وأنه يطلب الأمر لنفسه. وقد اعتزم على الوثوب عليهما فجاء بركة بذلك إلى الأمير برقوق وأراد القبض على أشمس فمنعه الأمير برقوق ودفع عنه، وعظم انحراف بركة على أشمس ثم عن الأمير برقوق. وسعى في الإصلاح بينهما الأكابر حتى كمال الدين شيخ التكية، والخلدي شيخ الصوفية من أهل خراسان. وجاؤا بأشمس إلى بركة مستعتباً فأعتبه وخلع عليه. ثم عاود انحرافه ثانية فمسح أعطافه، وسكن وهو مجمع الثورة والفتك. ثم عاود حاله تلك ثالثة. واتفق أن صنع في بيت الأمير برقوق لسرور وليمة في بعض أيام الجمعة في شهر ربيع سنة إثنتين وثمانين، وحضر عنده أصحاب بركة كلهم وأهل شوكته، وقد جاءه النصيح بأن بركة قد أجمع الثورة غداة يومه فقبض الأمير برقوق على من كان عنده من أصحاب بركة ليقص جناحه منهم. وأركب حاشيته للقبض عليه، وأصعد بدلان الناصري على مأذنة مدرسة حسن فنضحه بالنبل في اصطبله، وركب بركة إلى قبة النصر وخيم بها، ونودي في العامة بنهب بيوته فنهبوها للوقت وخربوها. وتحيز إليه بيبقا الناصري فخرج معه، وجلس الأمير برقوق بباب القلعة من ناحية الاصطبل، وسرح الفرسان للقتال. واقتتلوا عامة يومهم فزحف بركة على تعبيتين إحداهما لبيبقا الناصري. وخرج الأق الشعباني للقائه وأشمس للقاء بيبقا الناصري فانهزم أصحاب بركة، ورجع إلى قبة النصر، وقد أثخنوا بالجراح،
وتسلل أكثرهم إلى بيته وأقام الليل، ثم دخل إلى جامع البلدة وبات به. ونمي إلى الأمير برقوق خبره فأركب إليه الطنبقا الجوباني وجاء به إلى القلعة. وبعث به الأمير برقوق إلى الإسكندرية فحبس بها إلى أن قتله النائب بها صلاح الدين بن عزام، وقتل به في خبر يأتي شرحه إن شاء الله تعالى. وتقبض على بيبقا الناصري وسائر شيعته من الأمراء، وأودعهم السجون إلى أن استحالت الأحوال، وولى وظائفهم من أوقف عليه نظره من أمراء الدولة. وأفرج عن أنيال الثائر قبله، وبعثه نائبا على طرابلس، واستقل بحمل الدولة، وانتظمت به أحوالها. واستراب سندمر نائب دمشق لصحابته مع بركة فتقبض عليه وعلى أصحابه بدمشق، وولي نيابة دمشق عشتمر، ونيابة حلب أنيال. وولى أشمس الأتابكية مكان بركة والأق الشعباني أمير سلاح والطنبقا الجوباني أمير مجلس، وأبقا العثماني دوادار، وجركس الخليلي أمير الماخورية، والله تعالى ولي التوفيق.
انتقاض أهل البحيرة وواقعة العساكر : كان هؤلاء الظواعن الذين عمروا الدولة من بقايا هوارة ومزاته وزناته يعمرونها عن تحت أيديهم من هذه القبائل وغيرهم، يقومون بخراج بالسلطان كل سنة في إبانه وكانت الرياسة عليهم حتى في أداء الخراج لبدر بن سلام وآبائه من قبله، وهو من زناتة إحدى شعوب لواتة. وكان للبادية المنتبذين مثل أبي ذئب شيخ أحياء مهرانة وعسرة، ومثل بني التركية أمراء العرب بعقبة الإسكندرية اتصال بهم لاحتياجهم إلى الميرة من البحيرة. ثم استخدوا لأمراء الترك في مقاصدهم وأموالهم واعتزوا بجاههم، وأسفوا على نظائرهم من هوارة وغيرهم. ثم حدثت الزيادة في وظائف الجباية كما هي طبيعية الدولة فاستثقلوها وحدثتهم أنفسهم بالإمتناع منها لما عندهم من الاعتزاز فأرهقوا في الطلب، وحبس سلام بالقاهرة، وأجفل ابنه بدر إلى الصعيد بالقبلية، واعترضته هناك عساكر السلطان فقاتلهم وقتل الكاشف في حربه. وسارت إليه العساكر سنة ثمانين مع الأق الشعباني وأحمد بن بيبقا وأنيال قبل ثورته فهربوا وعاثت العساكر في مخلفهم ورجعوا. وعاد بدر إلى البحيرة، وشغلت الدولة عنهم بما كان من ثورة أنيال وبركة بعده، واتصل فساد بدر وامتناعه فخرجت إليه العساكر مع الأتابك أشمس والأمير سلام والجوباني أمير مجلس وغيرهم من الأمراء الغربية. ونزلت العساكر البحيرة، واعتزم بدر على قتالهم فجاءهم النذير بذلك، فانتبذوا عن الخيام وتركوها خاوية. ووقفوا على مراكزهم حتى توسط القوم المخيم وشغلوا بنهبه، فكرت عليهم العساكر فكادوا
يستلحمونهم، ولم يفلت منهم إلا الأقل. وبعث بدر بالطاعة، واعتذر بالخوف وقام بالخراج فرجعت العساكر، وولى بكتمر الشريف على البحيرة. ثم استبدل منه بقرط بن عمر. ثم عاد بدر إلى حاله فخرجت العساكر فهرب أمامها، وعاث القرط فيهم وقتل الكثير من رجالهم وحبس آخرين، ورجع عن بدر أصحابه مع ابن عمه ومات ابن شادي، وطلب الباقي الأمان فأمنوا وحبس رجال منهم، وضمن الباقون القيام بالخراج. واستأمن بدر فلم يقبل فلحق بناحية الصعيد، واتبعته العساكر ؛ فهرب واستبيح مخلفه وأحياؤه ولحق ببرقة، ونزل على أبي ذئب فأجاره، وأستقام أمر البحيرة. وتمكن قرط من جبايتها، وقتل رحاب وأولاد شادي. وكان قرطاي يستوعب رجالتهم بالقتل. وأقام بدر عند أبي ذئب يتردد ما بين أحيائه وبين الواحات، حتى لقيه بعض أهل الثأر عنده فثأروا منه سنة تسع وثمانين، وذهب مثلا في الآخرين، والله تعالى أعلم.
مقتل بركة في محبسه وقتل ابن عزام بثأره: كان الأمير بركة استعمل أيام إمارته خليل بن عزام أستاذ داره، ثم اتهمه في ماله وسخطه ونكبه، وصادره على مال امتحنه عليه. ثم أطلقه فكان يطوي له على النكث. ثم صار بركة إلى ما صار إليه من الاعتقال بالإسكندرية، وتولى ابن عزام نيابتها فحاول على حاجة نفسه في قتل بركة. ووصل إلى القاهرة متبرئا من أمره متخوفا من مغبته ورجع. وقد طوى من ذلك على الدغل. ثم حمله الحقد الكامن في نفسه على اغتياله في جنح الليل فأدخل عليه جماعة متسلحين فقتلوه، وزعم أنه أذن له في ذلك. وبلغ الخبر إلى كافل الدولة الأمير برقوق، وصرح مماليكه بالشكوى إليه فأنكر ذلك وأغلظ على أبن عزام. وبعث دواداره الأمير يونس يكشف عن سببه وإحضار ابن عزام فجاء به مقيدا، وأوقفه على شنيع مرتكبه في بركة فحلف الأمير ليقادن منه به. وأحضر إلى القلعة في منتصف رجب من سنة إثنتين وثمانين، فضرب بباب القلعة أسواطا. ثم حمل على جمل مشتهرا وأنزل إلى سوق الخيل فتلقاه مماليك بركة فتناولوه بالسيوف، إلى أن تواقعت أشلاؤه بكل ناحية وكان فيه عظة لمن يتعظ، أعادنا الله من درك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء انتهى. وفاة السلطان المنصور علي بن الاشرف وولاية الصالح امير حاج: كان هذا السلطان على بن الأشرف قد نصبه الأمير قرطاي في ثورته على أبيه الأشرف
وهو ابن إثنتي عشرة سنة، فلم يزل منصورا والأمر ينتقل من دولة إلى دولة كما ذكرناه إلى أن هلك لخمس سنين من ولايته في صفر سنة ثلاث وثمانين فحضر الأمير برقوق، واستدعى الأمراء واتفقوا على نصب أخيه أمير حاج، ولقبوه الصالح وأركبوه إلى الإيوان فأجلسوه على التخت. وقلده الخليفة على العادة، وجعل الأمير برقوق كافله في الولاية والنظر للمسلمين لصغره حينئذ عن القيام بهذه العهدة. وأفتى العلماء يومئذ بذلك، وجعلوه من مضمون البيعة، وقرىء كتاب التقليد على الأمراء القضاة والخاصة والعامة في يوم مشهود، وانفض الجمع وانعقد أمر السلطان وبيعته، وضرب فيها للأمير برقوق بسهم والله تعالى مالك الأمور.
وصول أنس الغساني والد الامير برقوق وانتظامه في الامراء أصل هذا الأمير برقوق من قبيلة جركس الموطنين ببلاد الشمال في الجبال المحيطة بوطء القفجاق والروس واللان من شرقيها المطلة على بسائطهم. ويقال إنهم من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الأيهم، عندما أجفل هرقل إلى الشام، وسار إلى القسطنطينية. وخبر مسيره من أرض الشام، وقصته مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه متناقلة معروفة بين المؤرخين. وأما هذا الرأي فليس على ظاهره، وقبيلة جركس من الترك معروفة بين النسابين، ونزولهم بتلك المواطن قبل دخول غسان. وتحقيق هذا الرأي أن غسان لما دخلوا مع جبلة إلى هرقل أقاموا عنده ويئسوا من الرجوع لبلادهم. وهلك هرقل واضطرب ملك الروم، وانتشرت الفتنة هنالك في ممالكهم.واحتاجت غسان إلى الحلف للمدافعة في الفتن، وحالفوا قبائل جركس، ونزلوا في بسيط جبلهم من جانبه الشرقي مما يلي القسطنطينية، وخالطوهم بالنسب والصهر، واندرجوا فيهم حتى تلاشت أحياؤهم. وصاروا إلى تلك الأماكن وأووا من البسائط إلى الجبال مع جركس فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم، تداخلت معهم ممن انتسب إلى غسان من جركس وهو مصدق في نسبه، ويستأنس له بما ذكرناه فهو نسبة قوية في صحته والله تعالى أعلم.وجلب هذا الأمير برقوق على عهد الأمير بيبقا عثمان قراجا من التجار المعروفين يومئذ بتلك الجهات، فملكه بيبقا وربي في اطباق بيته، وأوى من قصده وشد فى الرماية والثقافة. وتعلم آداب الملك وانسلخ من جلده الخشونة، وترشح للرياسة والإمارة والسعادة تشير إليه، والعناية الربانية تحوم عليه. ثم كان ما ذكرناه من شأن مماليك بيبقا ومهلك
كبيرهم يومئذ استدمر، وكيف تقسموا بين الجلاء والسجن. وكان الأمير برقوق أعزه الله تعالى ممن أدركه التمحيص ؛ فلبث في سجن الكرك خمس سنين بين أصحاب له منهم فكانت تهوينا لما لقي من بوائقه، وشكرا له بالرجوع إلى الله ليتم ما قدر الله فيه من حمل أمانته واسترعاء عباده.ثم خلص من ذلك المحبس مع أصحابه، وخلا سبيله فانطلقوا إلى الشام، واستخلصهم الأمير منجك نائب الشام يومئذ. وكان بصيرا مجربا فألقى محبته وعنايته على هذا الأمير لما رأى عليه من علامات القبول والسعادة. ولم يزل هناك في خالصته إلى أن هجس في نفس السلطان الأشرف استدعاه المرشحين من مماليكه. وهذا الأمير يقدمهم وأفاض فيهم الإحسان واستضافهم لولده الأمير علي. ولم يكن إلا أيام وقد انتقض الجائي القائم بالدولة، وركب على السلطان، فأحضرهم السلطان الأشرف وأطلق أيديهم في خيوله المقربة وأسلحته المستجادة فاصطفوا منها ما اختاروه وركبوا فى مدافعة الجائي، وصدقوه القتال حتى دافعوه على الرميلة.ثم اتبعوه حتى ألقى نفسه في البحر فكان آخر العهد به. واحتلوا بمكان من أثره السلطان واختصاصه، فسوغ لهم الإقطاعات وأطلق لهم الجرايات. ولهذا الأمير بين يديه من بينهم مزيد مكانة ورفيع محل، إلى أن خرج السلطان الأشرف إلى الحج، وكان ما قدمناه من انتقاض قرطاي واستبداده ؛ ثم استبداد أيبك من بعده وقد عظم محل هذا الأمير من الدولة، ونما عزه وسمت رتبته. ثم فسد أمر أيبك، وتغلب على الأمر جماعة من الأمراء مفترقي الأهواء. وخشي العقلاء انتقاض الأمر وسوء المغبة فبادر هذا الأمير، وتناول الحبل بيده، وجعل طرفه في يد بركة رديفه فأمسك معه برهة من الأيام. ثم اضطرب وانتقض وصار إلى ما صار إليه من الهلاك، واستقل الأمير برقوق بحمل الدولة والعناية الربانية تكفله والسعادة تواخيه وكان من جميل الصنع الرباني له أن كيف الله غريبة في اجتماع شمل أبيه به ؛ فقدم وفد التجار بأبيه من قاصية بلادهم بعد أن أعملوا الحيلة في استخلاصه، وتلطفوا في استخراجه، وكان اسمه أنس فاحتفل ابنه الأمير برقوق من مبرته، وأركب العساكر وسائر الناس على طبقاتهم لتلقيه، وأعد الخيام بسرياقوس لنزوله فحضروا هنالك جميعا في ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين. وجلس الأمير أنس الوافد صدر المجلس، وهم جميعا حفافيه من القضاة والأمراء، ونصب السماط فطعم الناس وانتشروا.ثم ركبوا إلى البلد وقد زينت الأسواق، وأوقدت الشموع وماجت السكك بالنظارة من عالم لا يحصيهم إلا خالقهم. وكان يوماً مشهودا. وأنزله بالاصطبل تحت المدينة الناصرية، ونظمه السلطان في أقربائه وبني عمه وبني إخوانه، واجتمع شملهم به وفرض لهم الأرزاق وقررهم في الوظائف. ثم مات هذا الأب الوافد، وهو الأمير أنس رحمه الله في أواسط ، وثمانين بعد أن أوصى بحجة إسلامه وشرفت مراتب الإمارة بمقامه. ودفنه السلطان بتربة الدوادار يونس. ثم نقله إلى المدفن بجوار المدرسة التي أنشأها بين القصرين سنة ثمان وثمانين، والله يؤتي الملك من يشاء.
خلع الصالح أمير حاج وجلوس برقوق على التخت واستبداده بالسلطان كان أهل الدولة من البيبقاوبة من ولي منهم هذا الأمير برقوق قد طمعوا في الاستبداد، وظفروا بلذة الملك والسلطان، ورتعوا في ظل الدولة والأمان. ثم سمت أحوالهم إلى أن يستقل أميرهم بالدولة، ويستبد بها دون الأصاغرين المنتصبين بالمملكة. وربما أشار بذلك بعض أهل الفتيا يوم بيعة أمير حاج، وقال لا بد أن يشرك معه في تفويض الخليفة الأمير القائم بالدولة لتشد الناس إلى عقدة محكمة فأمضى الأمر على ذلك، وقام الأمير بالدولة فأنس الرعية بحسن سياسته وجميل سيرته. واتفق أن جماعة من الأمراء المختصين بهذا الصبي المنصوب غصوا بمكان هذا الأمير وتفاوضوا في الغدر به. وكان متولي ذلك منهم أبقا العثماني دوادار السلطان.ونمي الخبر إليه بذلك فتقبض عليهم، وبعث أبقا إلى دمشق على إمارته، وغرب الآخرين إلى قوص فاعتقلوا هنالك حتى أنفذ الله فيهم حكمه، وأشفق الأمراء من تدبر مثل هؤلاء عليهم وتفاوضوا في محو الأصاغر من الدست وقيامه بأمرهم مستقلا فجمعهم لذلك في تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين. وحضر الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء وأرباب الشورى والفتيا وأطبقوا على بيعته، وعزل السلطان أمير حاج فبعث إليه أميرين من الأمراء فأدخلوه إلى بيته، وتناولوا السيف من يده فأحضروها. ثم ركب هذا السلطان من مجلسه بباب الاصطبل وقد لبس شعار السلطة وخلعة الخلافة فدخل إلى القصور السلطانية، وجلس بالقصر الأبلق على التخت، وأتاه الناس ببيعتهم أرسالا. وانعقد أمره يومئذ ولقب الملك الظاهر، وقرعت الطبول وانتشرت البشائر، وخلع على أمراء الدولة مثل أشمس الأتابك والطنبقا الجوباني أمير مجلس، وجركس الخليلي أمير الماخورية وسودون الشيخوني نائبا والطنبقا المعلم أمير سلاح، ويونس النوروي دوادار وقردم الحسيني رأس نوبة. وعلى كتابه أوحد الدين بن ياسين كاتب سره أدال به من بدر الدين بن فضل الله كاتب سر السلطان من قبل، وعلى جميع أرباب
الوظائف من وزير وكاتب وقاض ومحتسب، وعلى مشاهير العلم والفتيا والصوفية. وانتظمت الدولة أحسن انتظام، وسر الناس بدخولهم في إيالة السلطان يقدر للأمور قدرها ويحكم أو أخيها. وأستأذنه الطنبقا الجوباني أمير مجلس في الحج تلك السنة، وأذن له فانطلق لقضاء فرضه وعاد انتهى، والله تعالى أعلم.
مقتل قرط وخلع الخليفة ونصب ابن عمه الواثق للخلافة كان قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة، وكان له إقدام وصرامة رقابهما إلى محل من مرادفة الأمراء في وجوههم ومذاهبهم. ودفع إلى ولاية الصعيد ومحاربة أولاد الكنز من العرب الجائلين في نواحي أسوان فكان له في ذلك غناء وأحسن في تشريدهم عن تلك الناحية. ثم بعث إلى البحيرة واليا عند انتقاض بدربن سلام وفراره، ومرجع العساكر من تمهيدها فقام بولايتها، وتتبع آثار أولئك المنافقين وحسم عللهم. وحضر في ثورة أنيال فجلا في ذلك اليوم لشهامته وإقدامه. وكان هو المتولي تسور الحائط وإحراق الباب الظهراني الذي ولجوا عليه وأمسكوه فكان يمت بهذه الوسائل أجمع، والسلطان يرعى له إلا أنه كان ظلوما غشوما فكثرت شكايات الرعايا والمتظلمين به فتقبض عليه لأول بيعته وأودعه السجن.ثم عفا عنه وأطلقه، وبقي مباكرا باب السلطان مع الخواص والأولياء، وطوى علىالغث وتربص بالدولة. ونمي عنه أنه فاوض الخليفة المتوكل بن المعتضد في الانتقاض والاجلاب على الدولة بالعرب المخالفين بنواحي برقة من أهل البحيرة، وأصحاب بدر بن سلام، وأن يفوض الخليفة الأمر إلى سوى هذا السلطان القائم بالدولة. وبأنه داخل في ذلك بعض ضعفاء العقول من أمراء الترك ممن لا يؤبه له فأحضرهم من غداته، وعرض عليهم الحديث فوجموا وتناكروا وأقر بعضهم واعتقل الخليفة بالقلعة. وأخرج قرط هذا لوقته فطيف به على الجمل مسمرا ابلاغا في عقابه. ثم سيق إلى مصرعه خارج البلد، وقد بالسيف نصفين. وضم الباقون إلى السجون، وولى السلطان الخلافة عمر بن إبراهيم الواثق من أقاربه وهو الذي كان الملك الناصر ولى أباه إبراهيم بعد الخليفة أبي الربيع وعزل عن ابنه أحمد كما مر، وكان هذا كله في ربيع سنة خمس وثمانين، وولي مكانه أخوه زكريا ولقب المعتصم، واستقرت الأحوال إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
نكبة الناصري واعتقاله
كان هذا الناصري من مماليك بيبقا وأرباب الوظائف في أيامه، وكان له مع السلطان الظاهر ذمة وداد وخلة من لدن المربى والعشرة، فقد كانوا أترابا بها، وكانت لهم دالة عليه لعلو سنه. وقد ذكرنا كيف استبدوا بعد أيبك ونصبوا الناصري أتابكا ولم يحسن القيام عليها. وجاء طشتمر بعد ذلك فكان معه حتى في النكبة والمحبس. ثم أشخص إلى الشام وولي على طرابلس. ثم كانت ثورة أنيال ونكبته في جمادى سنة إحدى وثمانين فاستقدمهم من طرابلس، وولي أمير سلاح مكان أنيال واستخلصه الأمير بركة وخلطه بنفسه. وكانت نكبته فحبس معه، ثم أشخص إلى الشام. وكان أنيال قد أطلق من اعتقاله وولي على حلب سنة اثنتين وثمانين مكان منكلي بقري الأحمدي فأقام بها سنة أو نحوها.ثم نمي عنه خبر الانتقاض فقبض عليه، وحبس بالكرك. وولى مكانه على حلب بيبقا الناصري في شوال سنة ثلاث وثمانين، وقعد الظاهر على التخت لسنة بعدها، واستبد بملك مصر. وكان الناصري لما عنده من الدالة يتوقف في انفاذ أوامره لما يراه من المصالح بزعمه، والسلطان ينكر ذلك ويحقده عليه. وكان له مع الطنبقا الجوباني أمير مجلس أحد أركان الدولة حلف لم يغن عنه، وأمر السلطان بالقبض على سولي بن بلقادر حين وفد عليه بحلب فأبى من ذلك صونا لوفائه بزعمه، ودس بذلك إلى سولي فهرب ونجا من النكبة.
ووفد على السلطان سنة خمس وثمانين وجدد حلفه مع الجوباني ومع أشمس الأتابك، ورجع إلى حلب. ثم خرج بالعساكر إلى التركمان اخر سنة خمس وثمانين دون إذن السلطان فانهزم وفسدت العساكر، ونجا بعد ثالثة جريحا وأحقد عليه السلطان هذه كلها. ثم استقدمه سنة سبع وثمانين فلما انتهى إلى سرياقوس تلقاه بها أستاذ دار فتقبض عليه، وطير به إلى الإسكندرية فحبس بها عامين، وولى مكانه بحلب الحاجب سودون المظفر، وكان عيبة نصح للسلطان وعينا على الناصري فيما يأتيه ويذره، لأنه من وظائف الحاجب للسلطان في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو بطانة السلطان بما يحدث في عمله، ويعترض شجا في صدر من يروم الانتقاض من ولاته. وكان هذا الحاجب سودون هو الذي ينمي أخباره إلى السلطان ويطلعه على مكامن مكره، فلما حبس الناصري بالإسكندرية ولاه مكانه بحلب وارتاب الجوباني من نكبة الناصري لما كان بينهما من الوصلة والحلف فوجم واضطرب، وتبين السلطان منه النكر فنكبه كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى وأقصاه والله أعلم
. اقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك وإسمه الطنبقا، وكان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الأشرف وقد مر ذكره، ربي في قصره وجو عزه ولقن الخلال والآداب في كنفه. وكانت بينه وبين السلطان خلة ومصافاة أكسبتها تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها، وكوكبي أفقها، وتربي مرقاها. وقد كان متصلاً فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم واشتمل بعضهم على بعض، واستحكم الإتحاد حتى ة، لعشرة أيام التمحيض والاغتراب كما مر. فلقد كان معتقلا معه بالكرك أيام المحنة خمساً من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرة، والنحوسة بالسعادة والسجن بالملك. وقسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله وعنايته في خدمة السلطان بدار الغربة والمحنة وألقته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل وتكرم الأذمة والعهود
- إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم كان انطلاقهما إلى الشام ومقامهما جميعاً واستدعاؤهما إلى دار الملك ورقيهما في درج العز والتغريب كذلك، وكان للسلطان أصحاب سراة يمتون إليه بمثل هذه الوسائل وينتظمون في سلكها وكان متميز الرتبة عنهم، سابقا في مرقى درجات العز أمامهم، مجلبا في الحلبة التي فيها طلقهم، إلى أن ظفر بالملك واستولى على الدولة، وهو يستتبعهم في مقاماته ويوطئهم عقبه ويذلل لهم الصعاب فيقتحمونها، ويحوز لهم الرتب فيستهمون عليها. ثم اقتعد منبر الملك والسلطان، واستولى على كرسيه، وقسم مراتب الدولة ووظائفها بين هؤلاء الأصحاب. وآثر الجوباني منهم بالصفاء والمرباع فجعله أمير مجلسه ومعناه، صاحب الشورى في الدولة، وهو ثاني الأتابك وتلو رتبته. فكانت له القدم العالية من أمرائه وخلصائه، والحظ الوافر من رضاه وإيثاره. وأصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته بأساطينها، وأرسى ملكه بقواعدها. إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده، وحومت شباة السعاية على قرطاسه؟ وارتاب السلطان بمكانه وأعجل الحزم على إمهاله فتقبض عليه يوم الإثنين لسبع بقين من سنة سبع وثمانين، وأودعه بعض حجر القصر عامة يومه. ثم أقصاه إلى الكرك وعواطف الرحمة تنازعه، وسجايا الكرم والوفاء تقض من سخطه. ثم سمح وهو بالخير أسمح، وجنح وهو إلى الأدنى من الله أمنح، فسرح إليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم
هذا السلطان وأناقه، وحسن نيته وبصيرته، وكرم عهده وجميل وفائه. وانطلقت الألسن بالدعاء له، وامتلأت القلوب بالمحبة. وعلم الأولياء والخاصة والشيع والكافة أنهم في كفالة أمن ولطف وملكة إحسان وعدل.ثم مكث حولا يتعقب أحواله، ويتتبع سيره وأخباره طاوياً شأنه في ذلك عن سائر الأولياء، إلى أن وقف على الصحيح من أمره، وعلم خلوص مصادقته وجميل خلوصه. فأخفق سعي الداعين، وخابت ظنون الكاشحين، وأداله العتبى من العتاب، والرضا من النكرى، واعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة والاستيحاش، ويرده إلى أرفع الإمارة. وبينما هو يطوي على ذلك ضميرة، ويناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتا لبدر السعادة وعلما على فوزه بذلك الحظ كما نذكر إن شاء الله تعالى. وخبر هذه الواقعة أن بندمر الخوارزمي كان نائبا بدمشق، وقد مر ذكره غير مرة وأصله من الخوارزمية أتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر، وافترقوا عند مهلكه على يد جنكز خان في ممالك الشام، واستخدموا لبني أيوب والترك أول استبدادهم بمصر. وكان هذا الرجل من أعقاب أصلهم، وكان له نجابة جذبت بضبعه، ونصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى ترشح للولاية في الأعمال، وتداول إمارة دمشق مع منجك اليوسفي وعشقتمر الناصري، وكان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي وحاصره واستنزله بأمانه.ثم أعيد إلى ولايته. ثم تصرمت تلك الدول وتغلب هذا السلطان على الأمر، ورادفه فيه فولوه على دمشق، وكانت صاغيته مع بركة. فلما حدث انتقض بركة كتب إليه وإلى بقرى بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة. وكتب برقوق إلى نائب القلعة بحذرهم فركب جنتمر أخ طاز وابن جرجى ومحمد بيك وقاتلوه ثلاثا. ثم أمسكوه وقيدوه ومعه بقري بن برقش وجبريل مرتبه، وسيقوا إلى الإسكندرية فحبسوا. فلما قتل بركة أطلق بندمر ومن كان حبس من أصحاب بركة مثل: بيبقا الناصري ودمرداش الأحمدي. ثم استخلصه السلطان برقوق ورده إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت والشام له. وكان جماعا للأموال شديد الظلامة فيها، متحيلا على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسبابها العقاب. مصانعا للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس إيالته، وترحمت القلوب منه.وكان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم، متهمون في عقيدتهم بين مجسم ورافضي وحلولي، جمعت بينهم أنساب الضلال والحرمان، وقعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه. تلبسوا بإظهار الزهد والنكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الأحكام والجباية عن الشرع والسياسة التي تداولها الخلفاء، وأرخص فيها العلماء وأرباب الفتيا وحملة الشريعة بما تمس إليه الحاجة من الوازع السلطاني، والمعونة على الدفاع. وقديما نصبت الشرطة الصغرى والكبرى، ووظيفة المظالم ببغداد دار السلام ومقر الخلافة وإيوان الدين والعلم، وتكلم الناس فيها بما هو معروف، وفرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عند حاجة الدولة الأموية، فليس ذلك من المنكر الذي يعتد بتغييره، فليس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات، وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة. وأوهموا أن قد توثقوا من الحل والعقد في الإنتقاض فرية انتحلوها، وجمعا أنهوه نهايته. وعدوا على كافل القلعة بدمشق وحاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم وبينه فاعتقلهم وطالع السلطان بأمرهم. وتحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه. ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به وعاجله بالقبض والتوثق منه ومن حاشيته. ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا، واستأثر به على الدولة وأحضر هؤلاء الحمقى ومن بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون، وكانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب والنكال. وبعث السلطان لعشقتمر الناصري وكان مقيما بالقدس أن يخرج نائبا على دمشق فتوجه إليها، وأقام رسم الإمارة بها أياما ظهر فيها عجزه، وبين عن تلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر وطوارىء الزمانة والضعف، حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه، فعندها بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني، وقد خلص من الفتن أبريزه وأينع بنفحات الرضا والقبول عوده، وأفرح بمطالعة الأنس والقرب روعه. فجاء من الكرك على البريد وقد أعدت له أنواع الكرامة، وهيء له المنزل والركاب والفرش والثياب والآنية والخوان والخرثى والصوان، واحتفل السلطان لقدومه وتلقيه بما لم يكن في أمله.وقضى الناس العجب من حلم هذا السلطان وكرم عهده وجميل وفائه، وتحدث به الركبان. ثم ولاه نيابة دمشق وبعثه لكرسيه مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية، وعسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الأول من سنة سبع وثمانين، وارتحل من الغد وسعادة السلطان تقدمه ورضاه ينقله إلى أن قارب دمشق، والناس يتلقونه أرسالا. ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني وقد احتفل الناس لقدومه، وغصت السكك بالمتنزهين، وتطاول إلى دولته أرباب الحدود. وتحدث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل ، وتناقلوا خبره. واستقل بولاية دمشق وكأية السلطان تلاحظه، ومذاهب الطاعة والخلوص تهديه بحسن ذكره. وأفاض الناس الثناء في حسن اختياره وجمال مذهبه، وأقام السلطان بفي وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس، والله غالب على أمره
. هدية صاحب افريقية كان السلطان لهذا العهد بإفريقية من الموحدين، ومن أعقاب الأمير أبي زكريا يحمى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي، المستبد بإفريقية على بني عبد المؤمن ملوك مراكش أعوام خمس وعشرين وستمائة. وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحى ابن إبراهيم أبي زكريا سلسلة ملوك كلهم. ولم تزل ملوك المغرب على القدم ولهذا العهد يعرفون لملوك الترك بمصر حقهم، ويوجبون لهم الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين. وكانت المهاداة بينهم تتصل بعض الأحيان، ثم تنقطع بما يعرض في الدولتين من الأحوال. وكان لي اختصاص بذلك السلطان ومكان من محبسه، ولما رحلت إلى هذا القطر سنة أربع وثمانين، واتصلت بهذا السلطان بمصر الملك الظاهر سألني عنه لأول لقيه فذكرته له بأوصافه الحميدة، وما عنده من الحب والثناء، ومعرفة حقه على المسلمين أجمع، وعلى الملوك خصوصاً في تسهيل سبيل الحج، وحماية البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، أحسن الله جزاءه ومثوبته ثم بلغني أن السلطان بإفريقية صد أهلي وولدي عن اللحاق بي اغتباطا بمكان وطلبا لفيئتي إلى بابه، ورجوعي فتطارحت على هذا السلطان في وسيلة شفاعة تسهل منه الأذن فاسعفني بذلك، وخاطبت ذلك السلطان كان الله له، أغبطه بمودة هذا السلطان، والعمل على مواصلته ومهاداته كما كان بين سلفهم في الدولتين فقبل مني، وبادر إلى إتحافه بمقربات افليس عندنا في المغرب تحفة تطرف بها ملوك الشرق إلا الجياد العرب. وأما ما سوى ذلك من أنواع الطرف والتحف بالمغرب فكثير لديهم أمثاله، ويقبح أن يطرف عظماء الملوك بالتافه المطروح لديهم. واختار لتلك سفينته التي اعدها لذلك وأنزل بها أهلي وولدي بوسيلة هذا السلطان أيده الله، لسهولة سبيل البحر وقرب مسافته. فلما قاربوا مرسى الإسكندرية عاقتهم عواصف الرياح عن احتلال السفينة، وغرق معظم ما فيها من الحيوان والبضائع، وهلك أهلي وولدي فيمن هلك. ونفقت تلك الجياد وكانت رائعة الحسن صافية النسب، وسلم من ذلك المهلك رسول جاء من ذلك السلطان لمد العهد. وتقرر المودة فتلقي بالقبول والكرامة، وأوسع النزل والقرى. ثم اعتزم على العودة إلى مرسله فانتقى السلطان ثيابا من الوشي المرقوم في عمل العراق والإسكندرية يفوت القيمة واستكثر منها، واتحف بها السلطان ملك إفريقية على يد هذا الرسول على عادة عظماء الملوك في اتحافهم وهداياهم. وخاطبت ذلك السلطان معه بحسن الثناء على قصده وجميل موقع هديته من السلطان، واستحكام
مودته له. وأجابني بالعذر من الموقع وأنه مستأنف من الاتحاف للسلطان، واستحكام مودته بما يسره الحال. فلما قدم الحاج من المغرب سنة ثمان وثمانين وصل فيهم من كبار الغرب بدولته، وأبناء الأعاظم المستبدين على سلفه عبيد بن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم بهدية من المقربات، رائقة الحلي رائعة الأوصاف منتخبة الأجناس والأنساب، غريبة الألوان والأشكال. فاعترضها السلطان وقابلها بالقبول وحسن الموقع.وحضر الرسول بكتابه فقرىء وأكرم حامله، وأنعم عليه بالزاد لسفر الحج. وأوصى أمراء المحمل فقضى فرضه على أكمل الأحوال، وكانت أهم أمنياته. ثم انقلب ظافرا بقصده وأعاده السلطان إلى مرسله بهدية نحو من الأولى من أجناس تلك الثياب ومستجادها مما يجاوز الكثرة ويفوت، واستحكمت عقدة المودة بين هذين السلطانين. وشكرت الله على ما كان فيها من أثر مسعاي ولو قل. وكان وصل في جملة الحاج من المغرب كبير العرب من هلال، وهو يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح الموطنين بضواحي قسنطينة وبجاية والزاب في وفد من بنيه وأقربائه. ووصل في جملتهم أيضا عون بن يحيى طالب بن مهلهل من الكعوب أحد شعوب سليم الموطنين بضواحي تونس والقيروان والجريد وبنو أبيه، فقضوا فرضهم أجمعون، وانقلبوا إلى مواطنهم أواسط شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانين، واطردت أحوال هذه الدولة على أحسن ما يكون، والله متولي أمرها بمنه وكرمه انتهى.
حوادث مكة وامرائها قد تقدم لنا أن ملك مكة سار في هذه الأعصار لبني قتادة من بني مطاعن الهواشم بني حسن، وذلك منذ دولة الترك. وكان ملكهم بها بدويا، وهم يعطون الطاعة لملك مصر، ويقيمون مع ذلك الدولة العباسية للخليفة الذي ينصبه الترك بمصر إلى أن استقر أمرها آخر الوقت لأحمد بن عجلان من رميثة بن أبي نمي أعوام سنة ستين وسبعمائة بعد أبيه عجلان، فأظهر في سلطان عدلا، وتعففا عن أموال الناس، وقبض أيدي أهل العيث والظلم وحاشيتهم وعبيدهم وخصوصاً عن المجاورين. وأعانه على ذلك ما كان له من الشوكة بقوة أخواله، ويعرفون بني عمر من اتباع هؤلاء السادة ومواليهم، فاستقام أمره وشاع بالعدل ذكره، وحسنت سيرته. وامتلأت مكة بالمجاورين والتجار حتى غصت بيوتها بهم.وكان عنان ابن عمه مقامس بن رميثة ومحمد ابن عمه مقامس بن رميثة ينفسون عليه ما آتاه الله من الخير، ويجدون في أنفسهم إذ ليس يقسم لهم برظاهم في أموال جبايته فتنكروا له. وهموا بالإنتقاض فتقبض
عليهم، وكان لهم حلف مع أخيه محمد بن عجلان فراوده على تركهم أو حبسهم فحبسوا ولبثوا في محبسهم ذلك حولا أو فوقه. ثم نقبوا السجن ليلا وفروا فأدركوا من ليلتهم وأعيدوا إلى محبسهم وأفلت منهم عنان بن مقامس، ونجا إلى مصر سنة ثمان وثمانين صريخاً بالسلطان. وعن قليل وصل الخبر بوفاة أحمد بن عجلان على فراشه، وأن أخاه كبيش بن عجلان نصب ابنه محمدا مكانه وقام بأمره، وأنه عمد إلى هؤلاء المعتقلين فسمهم صونا للأمر عنهم لمكان ترشيحهم فنكر السلطان ذلك وسخطه من فعلاتهم وافتياتهم. ونسب إلى كبيش وإنه يفسد بالفساد بين هؤلاء الأقارب. ولما خرج الحاج سنة ثمان وثمانين، أوصى أمير حاج بعزل بالصبي المنصوب،والاستبدال عنه بالجن عنان بن مقامس، والقبض على كبيش. ولما وصل الحاج إلى مكة وخرج الصبي لتلقي المحمل الخلافي، وقد أرصد الرجال حفافيه للبطش بكبيش وأميره المنصوب فقعد كبيش عن الحضور، وجاء الصبي وترجل عن فرسه لتقبيل الخف من راحلة المحمل على العادة فوثب به أولئك المرصدون طعنا بالخناجر يظنونه كبيشا. ثم غابوا فلم يوقف لهم على خبر، وتركوه طريحاً بالبطحاء. ودخل الأمير إلى الحرم فطاف وسعى، وخلع على عنان بن مقامس الإمارة على عادة من سلف من قومه. ونجا كبيش إلى جدة من سواحل مكة.ثم لحق بأحياء العرب المنتبذين ببقاع الحجاز صريخا فقعدوا عن نصرته وفاء بطاعة السلطان، وافترق أمره وخذله عشيره، وانقلب الأمير بالحاج إلى مصر فعنفه السلطان على قتله الصبي فاعتذر بافتيات أولئك الرجال عليه فعذره. وجاء كبيش بعد منصرف الحاج، وقد انضم إليه أوباش من العرب فقعد بالمرصد يخيف السابلة والركاب والمسافرين. ثم زحف إلى مكة وحاصرها أول سنة تسع وثمانين، وخرج عنان بن مقامس بعض الأيام وبارزه فقتله، واضطرب الأمر بمكة وامتدت أيدي عنان والأشرار معه إلى أموال المجاورين فتسلطوا عليها، ونهبوا زرع الأمراء هنالك، وزرع السلطان للصدقة. وولى السلطان علي بن عجلان، واعتقله حسما لمادة طوارق الفساد عن مكة، واستقر الحال على ذلك إلى أن كانت فتنة الناصر كما نذكر إن شاء الله تعالى انتهى.
انتقاض منطاش بملطية ولحاقه بسيواس ومسير العساكر في طلبه كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الذي مر ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك
الناصر محمد بن قلاوون، وربيا في كفالة أمهما. وكان اسم تمرتاي محمدا، وهو الأكبر، واسم منطاش أحمد وهو الأصغر. واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف إلى أن ولي بحلب سنة ثمانين، وكانت واقعته مع التركمان. وذلك إنه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي، واجتمعوا فسار إليهم وأمده السلطان بعساكر الشام وحماة، وانهزموا أمامهم إلى الدربند. ثم كروا على العساكر فهزموها في المضايق وتوفي تمرتاي سنة إثتين وثمانين، وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية.ولما قعد على الكرسي واستبد بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهم به. ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان، وكان سودون باق من أمراء الألوف خالصة للسلطان، ومن أهل عصبيته. وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرماي فرعا لمنطاش حق أخيه، وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه، وأنه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم. وانطلق إلى قاعدة عمله بملطية. ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه، وربما داخل أمراء التركمان في ذلك ونمي الخبر إلى السلطان فطوى له، وشعر هو لذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم، وبها قاض مستبد على صبي من أعقاب بني أرشى ملوكها من عهد هلاكو قد اعصوصب عليه بقية من أحياء التتر الذين كانوا حامية هنالك مع الشحنة فيها كما نذكره.ولما وصلت رسل منطاش، وكتبه إلى هذا القاضي بادر بإجابته، وبعث رسلا وفداً من أصحابه في إتمام الحديث معه فخرج منطاش إلى لقائهم، واستخلف على ملطية دواداره، وكان مغفلا فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة، وتبرأ من منطاش، وأقام دعوة السلطان في البلد. وبلغ الخبر إلى منطاش فاضطرب. ثم استمر وسار مع وفد القاضي إلى سيواس ؛ فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه، وصار إلى مغالطة السلطان عما أتاه من مداخلة منطاش، وقبض عليه وحبسه. وسرح السلطان سنة تسع وثلاثين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة، والطنبقا الرماح أمير سلاح، وسودون باق من أمراء الألوف. وأوعز الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكره، وإلى أنيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعاً .وكان يومئذ ملك التتر بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جفطاي قد زحف إلى العراقين وأذربيجان، وملك توريز عنوة واستباحها، وهو يحاول ملك بغداد. فسارت هذه العساكر توري بغزوه ودفاعه، حتى إذا بلغوا حلب أتى إليهم الخبر بأن تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر، فرجعت عساكر السلطان إلى جهة سيواس، واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها. فبادر القاضي إلى إطلاق منطاش لوقته. وقد كان أيام حبسه يوسوس إليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته. ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى جنح إلى قوله فبعث لإحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة بن أريثا بن أول، فسار إليهم واستجاشهم على عسكر السلطان، وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن أريثا وبلده.ووصلت العساكر خلال ذلك إلى سيواس فحاصروها أياماً وضيقوا عليها، وكادت أن تلقي باليد. ووصل منطاش إثر ذلك بإحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم، ونالوا منهم. وجفى الناصري في هذه الوقائع، وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام، وبطء الظفر، وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة، فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفئوا على تعبيتهم. وسار بعض التتر في اتباعهم فكروا عليهم واستلحموهم وخلصوا إلى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدو، ويمحوا أثر الفتنة، والله تعالى أعلم.
نكبة الجوباني واعتقاله بالإسكندرية كان الأمراء الذين حاصروا سيواس قد لحقهم الضجر والسآمة من طول المقام، وفزع قردم والطنبقا المعلم منهم إلى الناصري مقدم العساكر بالشكوى من السلطان فيما دعاهم إليه من هذا المرتكب، وتفاوضوا في ذلك ملياً ، وتداعوا إلى الإفراج عن البلد بعد أن بعثوا إلى القاضي بها واتخذوا عنده يدا بذلك. وأوصوه بمنطاش والإبقاء عليه ليكون لهم وقوفا للفتنة. وعلم يونس الدوادار أنهم في الطاعة فلم يسعه خلافهم ففوض لهم. ولما انتهى إلى حلب غدا عليه دمرداش من أمرائها فنصح له بأن الجوباني نائب بدمشق مداخل للناصر في تمريضه في الطاعة، وأنهما مصران على الخلاف. وقفل يونس إلى مصر فقص على السلطان نصيحته، واستدعى دمرداش فشافه السلطان بذلك واطلع منه على جلي الخبر في شأنهما.وكان للجوباني مماليك أوغاد قد أبطرتهم النعمة، واستهواهم الجاه، وشرهوا إلى التوثب وهو يزجرهم فصاروا إلى إغرائه بالحاجب يومئذ طرنطاي، فقعد في بيته عن المجلس السلطاني، وطير بالخبر إلى مصر فاستراب الجوباني وسابقه بالحضور عند السلطان لينضح عنه ما علق به من الأوهام، وأذن له في ذلك فنهض من دمشق على البريد في ربيع سنة تسعين. ولما انتهى إلى سرياقوس أزعج إليه أستاذ داره بهادر المنجكي فقبض عليه، وطير به السفن إلى الإسكندرية. وأصبح السلطان من الغد فقبض على قردم والطنبقا المعلم، وألحقهما به فحبسوا هنالك جميعا
. وانحسم ما كان يتوقع من انتقاضهم. وولى السلطان مكان الجوباني بدمشق طرنطاي الحاجب، ومكان قردم بمصر ابن عمه مجماس ومكان المعلم دمرداش، واستمر الحال على ذلك. فتنة الناصري واستيلاؤه على الشام ومصر واعتقال السلطان بالكرك: لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب واضطرب، وشرع في أسباب الانتقاض، ودعا إليه من يشيع الشر وسماسرة الفتن من الأمراء وغيرهم فأطاعوه، وافتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري والانحراف عنه لما كان منه في نكبته وإغراء السلطان به ثم ولايته مكانه. ومن وظائف الحاجب في دولة الترك: خطة البريد المعروفة في الدول القديمة، فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله، ويعترض شجى في صدر من يريد الانتقاض من ولاته. فأظلم الجو بين هؤلاء الرهط وبين المظفري، وتفاقم الأمر وطير بالخبر إلى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما، وشمكن الثائرة. وحينما سمعوا بمقدمه ارتابوا وارتبكوا في أمرهم، وقدم تلكتمر فتلقاه الناصري وألقى إليه كتاب السلطان بالندب إلى الصلح مع الحاجب، والإغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان وملاطفته للأمراء حتى وقف عليه.ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم، وباكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتم الصلح بينهم وتذهب الهواجس والنفرة فدعاه الناصر إلى بعض خلواته. وبينما هو يحادثه وإذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب وفتكوا به. وتولى كبر ذلك أنبقا الجوهري، واتصلت الهيعة فوجم تلكتمر، ونهض إلى محل نزوله. واجتمع الأمراء إلى الناصري واعصوصبوا عليه. ودعاهم إلى الخلعان فأجابوا، وذلك في محرم سنة إحدى وتسعين.واتصل الخبر بطرابلس، وبها جماعة من الأمراء يرومون الانتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها، وجمع الذين تمالؤا عليها وعمدوا إلى الإيوان السلطاني المسمى بدار السعادة، وقبضوا على النائب وحبسوه، ولحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس وأمرائها. وفعل مثل ذلك أهل حلب وحمص وسائر ممالك الشام. وسرح السلطان العساكر لقتالهم. فسارا يتمش الأتابك، ويونس الدوادار، والخليلي جركس أمير الماخورية وأحمد بن بيبقا أمير مجلس، وايدكاز صاحب الحجاب فيمن إليهم من العساكر. وانتخب من أبطال مماليكهم وشجعانهم خمسمائة مقاتل، واستضافهم إلى الخليلي وعقد لهم لواءه المسمى
بالشاليش، وأزاح عللهم وعلل سائر العساكر. وساروا على التعبية منتصف ربيع السنة.وكان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش وكان مقيما بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس، فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة والخلاف فجاء وملأه مبرة وإحساناً، واستنفر طوائف التركمان والعرب، ونهض في جموعه يريد دمشق، وطرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالأخبار، ويستحث العساكر من مصر على نائبها الأمير الصفوي وبينه وبين الناصر علاقة وصحبة ؛ فاسترابوا به وتقبضوا عليه، ونهبوا بيته وبعثوا به حبيسا إلى الكرك وولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني، كان مستخدما عند بندمر هو وأبوه، وولى لهذا العهد على نابلس وما يجاورها فنقلوه إلى غزة.ثم تقدموا إنى دمشق واختاروا من القضاة وفدا أوفدوه على الناصري وأصحابه للإصلاح فلم يجيبوا ، وأمسكو الوفد عندهم وساروا للقاء. ولما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا وايدكاز الحاجب ومن معهما إلى القوم فساروا معهم، واتبعهم مماليك الأمراء، وصدق القوم الحملة على من بقى فانفضوا ولجأ ايتمش إلى قلعة دمشق فدخلها، وكان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج إليه. وذهب يونس حيران وقد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء وكان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه، وأحيط بجركس الخليلي ومماليك السلطان حوله، وقد أبلوا في ذلك الموقف، واستلحم عامتهم فخلص بعض العدو إليه وطعنه فأكبه، ثم احتز رأسه. وذهب ذلك الجمع شعاعا وافترقت العساكر في كل وجه، وجيء بهم أسرى من كل ناحية.ودخل الناصري وأصحابه دمشق لوقتهم واستولوا عليها، وعاثت عساكرهم من العرب والتركمان في نواحيها. وبعث إليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله وبعث إليهم برأسه. وأوعزوا إلى نائب القلعة بحبس أيتمس عنده، وفرقوا المحبوسين من اهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق وصفد وحلب وغيرها. وأظهر ابن باكيس دعوته بغزة وأخذ بطاعتهم، ومر به انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجيا من الوقعة إلى مصر فقبض عليه وحبسه بالكرك. واستعد السلطان للمدافعة وولى دمرداش أتابكا مكان ايتمش وقرماش الجندار دوادار مكان يونس، وعمر سائر المراتب عمن فقد منها، وأطلق
الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد، وأعاده إلى خلافته وعزل مكانه.وأقام الناصري وأصحابه بدمشق أياما ثم أجمعوا المسير إلى مصر ونهضوا إليها بجموعهم، وعميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بلبيس. ثم تقدموا إلى بركة الحاج وخيموا بها لسبع من جمادى الأخيرة من السنة. وبرز السلطان في مماليكه ووقف
أمام القلعة بقية يومه والناس يتسايلون إلى الناصري من العساكر ومن العامة حتى غصت بهم بسائط البركة واستأمن أكثر الأمراء مع السلطان إلى الناصري فأمنهم وأطلع السلطان على شأنهم، وسارت طائفة من العسكر وناوشوهم القتال وعادوا منهزمين إلى السلطان. وارتاب السلطان بأمره وعاين انحلال عقدته فدس إلى الناصري بالصلح، وبعث إليه بالملاطفة وأن يستمر على ملكه ويقوم بدولته خدمه وأعوانه. وأشار بأن يتوارى بشخصه أن يصيبه أحد من غير البيبقاوية بسوء. فلما غشيه الليل أذن لمن بقى معه من مماليكه في الأنطلاق ودخل إلى بيته. ثم خرج متنكرا وسرى في غيابات المدينة.وباكرهم الناصري وأصحابه القلعة فاستولوا عليها، ودعوا أمير حاج ابن الأشرف فأدوه إلى التخت كما كان ونصبوه للملك ولقبه المنصور، وبادروا باستدعاء الجوباني والأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير ووصلوا ثاني يومهم. وركب الناصري وأصحابه للقائهم وأنزل الجوباني عنده بالاصطبل وأشركه في أمره وأصبحوا ينادون بطلب السلطان الظاهر بقية يومهم ذلك ومن الغد حتى دل عليه بعض مماليك الجوباني وحين رآه قبل الأرض وبالغ في الأدب معه، وحلف له على الأمان، وجاء به إلى القلعة فأنزله بقاعة الغصبة، واشتوروا في أمره. وكان حرص منطاش وزلار على قتله أكثر من سواهما. وأبى الناصري والجوباني إلا الوفاء بما اعتقد معهم واستقر الجوباني أتابك، والناصري رأس النوبة الكبرى، ودمرداش الأحمدي أمير سلاح، وأحمد بن بيبقا أمير مجلس، والأبقا العثماني دوادار، وانبقا الجوهري أستاذ دار. وعمرت الوظائف والمراتب.
ثم بعثوا زلار نائبا على دمشق وأخرجوه إليها وبعثوا كتبغا البيبقاوي على حلب، وكان السلطان قد عزله عن طرابلس واعتقله بدمشق، فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه. وقبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق وسودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية، وبعثوا آخرين إلى الشام فحبسوا هنالك وتتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم، وأشخصوا بقيتهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء. وقبضوا على أستاذ دار محمود قهرمان الدولة وقارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم. ثم أودعوه السجن. وهم مع ذلك يتشاورون في مستقر السلطان بين الكرك وقوص والإسكندرية حتى أجمعوا على الكرك ووروا بالإسكندرية حذرا عليه من منطاش. فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصدا وبات عامة ليله، وركب الجوباني مع السلطان من القلعة وأركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه إلى الكرك. وسار معه برهة من الليل مشيعا. ثم رجع وشعر منطاش من أمره وطوى على الغش وأخذ ثياب الثورة كما يذكر، ونجا السلطان إلى الكرك في
فل من غلمانه ومواليه ووكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه وولاه على الكرك وأوصاه بخدمته ومنعه ممن يرومه بسوء، فتقدمه إلى الكرك وأنزله القلعة وهيأ له النزول بما يحتاج إليه، وأقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى. وجاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق، وأنهم ظفروا بهم وحبسوا جميعاً ومنهم أيبقا الصغير، والله تعالى أعلم.
ثورة منطاش واستيلاؤه علي الامر ونكبة الجوباني وحبس الناصري والامراء البيبقاوية بالاسكندر ية: كان منطاش منذ دخل مع الناصري إلى مصر متربصا بالدولة طاويا جوانحه على الغدر لأنهم لم يوفروا حظه من الاقطاع، ولم يجعلوا له اسما في الوظائف حين اقتسموها ولا راعى له الناصري حق خدمته ومقارعته الأعداء. وكان ينقم عليه مع ذلك إيثاره الجوباني واختصاصه فاستوحش وأجمع الثورة، وثان مماليك الجوباني لما حبس أميرهم وانتقض الناصري بحلب لحقوا به وجاؤوا به في جملته، واشتملوا على منطاش فكان له بهم في ذلك السفر أنس وله إليهم صفو، فداخل جماعة منهم في الثورة وحملهم على صاحبهم، وتطفل على الجوباني في المخالصة بغشيان مجلسه وملابسة ندمائه وحضور مائدته. وكان البيبقاوية جميعا ينقسمون على الناصري ويرون أنه مقصر في الرواتب والاقطاع، وطووا من ذلك على النكث ودعاهم منطاش إلى التوثب فكانوا إليه أسرع وزينوه له وقعدوا عنه عند الحاجة.ونمي الخبر إلى الناصري والجوباني فعزموا على إشخاص منطاش إلى الشام فتمارض وتخلف في بيته أياما يطاولمهم ليحكم التدبير عليهم . ثم صدا عليه الجوباني يوم الاثنين وقد أكمن في بيته رجالاً للثورة فقبضوا على الجوباني وقتلوه لحينه. وركب منطاش إلى الرميلة فنهب مراكب الأمراء بباب الاصطبل، ووقف عند مأذنة المدرسة الناصرية وقد شحنها ناشبة ومقاتلة مع أمير من أصحابه، ووقف في حمايتهم،. واجتمع إليه من داخله في الثورة من الأشركية وغيرهم واجتمع إليه من كان بقي من مماليك الظاهر، واتصلت الهيعة فركب الأمراء البيبقاوية من بيوتهم. ولما أفضوا إلى الرميلة وقفوا ينظرون مآل الحال، وبرز الناصري من الاصطبل فيمن حضر، وأمر الأمراء بالحملة عليهم فوقفوا فأحجم هو عن الحملة وتخاذل أصحابه وأصحاب منطاش .ومال إلى الناصري بمماليكك الجوباني لنكبة صاحبهم فهددهم منطاش بقتله فافترقوا، وتحاجز الفريقان آخر النهار وباكروا شأنهم من الغد. وحمل الناصري فانهزم. وأقاموا على ذلك ثلاثا
وجموع منطاش في تزايد. ثم ا انفض الناس عن الناصري عشية الأربعاء لسبعين يوماً من دخول القلعة . واقتحمها عليه منطاش ونهب بيوته.. وخزائنه، وذهب الظاهري حيران وأصحابه يرجعون عمه. وباكر البيبقاوية مجلس منطاش من الغد فقبض عليهم وسيق من تخلف منهم عن الناصري أفذاذا، وبعث بهم جميعا إلى الإسكندرية. وبعث جماعة ممن حبسهم الناصري إلى قوص ودمياط. ثم جدد البيعة لأمير حاج المنصور. ثم نادى في مماليك السلطان بالعرض، وقبض على جماعة منهم وفر الباقون. وبعث بالمحبوسين منهم إلى قوص، وصادر جماعة من أهل الأموال، وأفرج عن محمود أستاذ دار وخلع عليه- ليوليه في وظيفته.ثم بدا له في أمره وعاود مصادرته وامتحانه وامتحانه واستصفى منه أموالاً عظيمة. يقال ستبن قنطارا من الذهب. ولما استقل بتدبير الدولة عمر الوظائف والمراتب وولى فيها بنظره، وبعث عن الأشقتمري من الشام، وكان أخوه تمرتاي قد آخى بينهما فولاه النيابة الكبرى، وعن استدمر بن يعقوب شاه فجعله أمير سلاح، وعن أتبكا الصفوي فولاه صاحب الحجاب. واختص الثلاثة بالمشورة وأقامهم أركانا للدولة. وكان إبراهيم بن بطلقتمر أمير جندار قد داخله في الثورة فرعى له ذلك وقدمه في أمراء الألوف. ثم بلغه أنه تفاوض مع الأمراء في الثورة به واستبداد السلطان فقبض عليه، ثم اشخصه إلى خلب على إمارته هناك، وكان قد اختص أرغون السمندار وألقى عليه محبته وعنايته فغشيه الناس وباكروا بابه وعظم في الدولة صيته. ثم نمي عنه أنه من المداخلين لإبراهيم أمير جندار فسطا به وامتحنه أن له على هؤلاء المداخلين لإبراهيم فلاذ بالإنكار وأقام في محبسه، وأفرج عن سودون النائب فجاء إلى مصر فألزمه بيته واستمر الحال على ذلك انتهى.
ثورة بذلار بدمشق ولما بلغ الخبر إلى بذلار بدمشق باستقلال منطاش بالدولة أنف من في لك وارتاب وداخلته الغيرة، أجمع الانتقاض وكاتب نواب الممالك بالشام في حلب وغيرها يدعوهم إلى الوفاق فأعرضوا عنه وتمسكوا بطاعتهم.، كان الأمير الكبير بدمشق جنتمر أخو طاز يداخل الأمراء هناك في التوثب به وتوثق منهم للدولة وبلغ الخبر إلى بذلار فركب في مماليكه وشيعته يروم القبض عليه فلم يتمكن من ذلك، واجتمعوا وظاهرهم عامة دمشق عليه، فقاتلوه ساعة من نهار. ثم أيقن بالغلب والهلكة فألقى بيده وقبضوا عليه، وطيروا بالخبر إلى منطاش وهو صاحب الدولة فأمر باعتقاله وهلك مريضا في محبسه، وولى منطاش جنتمر نيابة دمشق، واستقرت الأحوال على ذلك. والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
خروج السلطان من الكرك وظفره بعساكر الشام وحصاره دمشق
ولما بلغ الخبر إلى السلطان الظاهر بالكرك بأن منطاش استقل بالدولة وحبس البيبقاوية جميعا وأدال منهم بأصحابه أهمته نفسه وخشي غائلته، ولم يكن عند منطاش لأول استقلاله أهم من شأنه وشأن السلطان فكتب إلى حسن الكشكي نائب الكرك بقتله، وقد كان الناصري أوصاه في وصيته حين وكله به أن لا يمكنه ممن يرومه بسوء فتجافى عن ذلك واستدعى البريدي، وفاوض أصحابه وقاضي البلد وكاتب السر فأشاروا بالتحرز من دمه جهد الطاقة. فكتب إلى منطاش معتذرا بالخطر الذي في ارتكابه دون إذن السلطان والخليفة فأعاد عليه الكتاب مع كتاب السلطان والخليفة بالإذن فيه، واستحثه في الإجهاز عليه فأنزل البريدي وعلله بالوعد وطاوله يرجو المخلص من ذلك، وكانوا يطوون الأمر عن السلطان شفقة وإجلالاً فشعر بذلك، وأخلص اللجأ إلى الله والتوسل بإبراهيم الخليل لأنه كان يراقب مدفنه من شباك في بيته.وانطلق غلمانه في المدينة حتى ظفروا برجال داخلوهم في حسن الدفاع عن السلطان، وأفاضوا فيهم فأجابوا وصدقوا ما عاهدوا عليه. واتعدوا لقتال البريدي، وكان منزله بإزاء السلطان فتوافوا ببابه ليلة العاشر من رمضان وهجموا عليه فقتلوه ودخلوا برأسه إلى السلطان وشفار سيوفهم دامية. وكان النائب حسن الكشكي يفطر على سماط السلطان تأنيسا لهم، فلما رآهم دهش وهموا بقتله فأجاره السلطان، وملك السلطان أمره بالقلعة وبايعه النائب وصعد إليه أهل المدينة من الغد فبايعوه.ووفد عليه عرب الضاحية من بني عقبة وغيرهم فأعطوه طاعتهم، وفشا الخبر في النواحي فتساقط إليه مماليكه من كل جهة، وبلغت أخباره إلى منطاش فأوعز إلى ابن باكيش نائب غزة أن يسير في العساكر إلى الكرك، وتردد السلطان بين لقائه والنهوض إلى الشام. ثم أجمع المسير إلى دمشق فبرز من الكرك منتصف شوال فعسكر بالقبة وجمع جموعه من العرب، وسار في ألف أو يزيدون من العرب والترك وطوى المراحل إلى الشام. وسرح جنتمر نائب دمشق العساكر لدفاعه فيهم أمراء الشام وأولاد بندمر فالتقوا بشقحب، وكانت بينهم واقعة عظيمة أجلت عن هزيمة أهل دمشق، وقتل الكثير منهم وظفر السلطان بهم، واتبعهم إلى دمشق ونجا الكثير منهم إلى مصر.ثم أحس السلطان بأن ابن باكيش وعساكره في اتباعه، فكر إليهم وأسرى ليلته وصبحهم على غفلة في عشر ذي القعدة فانهزموا، ونهب السلطان وقومه جميع ما معهم وامتلأت أيديهم واستفحل أمره، ورجع إلى
دمشق ونزل بالميدان. وثار العوام وأهل القبيبات ونواحيها بالسلطان، وقصدوه بالميدان فركب ناجيا وترك أثقاله فنهبها العوام وسلبوا من لقوه من مماليكه، ولحق بقبة بلبغا فأقام بها وأغلقوا الأبواب دونه، فأقام يحاصرهم إلى محرم سنة اثنتين وتسعين. وكان كمشيقا الحموي نائب حلب قد أظهر دعوته في عمله وكاتبه بذلك عندما نهض من الكرك إلى الشام كما نذكره. ولما بلغه حصاره لدمشق تجهز للقائه واحتمل معه ما يزيح علل السلطان من كل صنف وأقام له أبهة. ووصل أنيال اليوسفي وقجماش ابن عم السلطان وجماعة من الأمراء كانوا محبوسين بصفد، وكان مع نائبها جماعة من مماليك السلطان يستخدمون فغدروا به، وأطلقوا من كان من الأمراء في سجن صفد كما نذكر ولحقوا بالسلطان. وتقدمهم أنيال وهو محاصر لدمشق فأقاموا معه، والله تعالى أعلم.
ثورة المعتقلين بقوص ومسير العساكر اليهم واعتقالهم: ولما بلغ الخبر إلى الأمراء المحبوسين بقوص خلاص السلطان من الاعتقال واستيلاؤه على الكرك، واجتماع الناس إليه، فثاروا بقوص أوائل شوال من السنة وقبضوا على الوالي بها وأخذوا من موح القاضي ما كان فيه من المال. وبلغ خبرهم إلى مصر فسرح إليهم العساكر. ثم بلغه أنهم ساروا إلى أسوان وشايعوا الوالي بها حسن ابن قرط فلحن لهم بالوعد، وعرض بالوفاق فطمعوا واعتزموا أن يسيروا من وادي القصب من الجهة الشرقية إلى السويس، ويسيروا من هناك إلى الكرك. ولما وصل خبر بن قرط أخرج منطاش سندمر بن يعقرب شاه ثامن وعشرين من السنة وانكفأ جموعه وسار على العدوة الشرقية في جموعه لاعتراضهم فوصل إلى قوص. وبادر ابن قرط فخالفه إلى منطاش بطاعته فأكرمه ورده على عمله فوافى ابن يعقوب شاه بقوص، وقد استولى على النواحي واستنزل الأمراء المخالفين. ثم قبض عليهم وقتل جميع من كان معهم من مماليك السلطان الظاهر ومماليك ولاة الصعيد. وجاء بالأمراء إلى مصر فدخل بهم منتصف ذي الحجة من السنة، فأفرج عن أربعة منهم سوماي اللاى وحبس الباقين. والله تعالى أعلم.
ثورة كمشيقا بحلب وقيامه بدعوة السلطان:
قد كنا قدمنا أن الناصري ولى كمشيقا رأس نوبة نيابة حلب، ولما استقل منطاش بالدولة ارتاب ودعاه بذلار لما ثار بدمشق إلى الوفاق فامتنع. ثم بلغه الخبر بخلاص السلطان من الاعتقال بالكرك فأظهر الانتقاض، وقام بدعوة السلطان، وخالفه إبراهيم بن أمير جندا.واعصوصب عليه أهل باقوسا من أرباض حلب فقاتلهم كمشيقا جميعا وهزمهم. وقتل القاضي ابن أبي الرضا وكان معه في ذلك الخلاف، واستقل بأمر حلب وذلك في شوال من السنة. ثم بلغه أن السلطان هزم عساكر دمشق وابن باكيش، وإنه مقيم بقبة بلبغا محاصرا لدمشق بعد أن نهبوا أثقاله وأخرجوه من الميدان فتجهض من حلب إليه في العساكر والحشود، وجهز له جميع ما يحتاج إليه من المال والأقمشة والسلاح والخيل والإبل وخيام الملك بفرشها وماعونها وآلات الحصار، وتلقاه السلطان وبالغ في تكرمته وفوض إليه الأتابكية والمشورة، وقام معه محاصرا لدمشق.واشتد الحصار على أهل دمشق بعد وصوله واستكثار السلطان من المقاتلة وآلات الحصار، وخرب كثيرا من جوانبها بحجارة المجانيق وتصدعت حيطانها وأضرم كثيرا من البيوت على أربابها فاحترقت، واستولى الخراب والحريق على القبيبات أجمع، وتفاحش فيها واشتد أهل القتال والدفاع من فوق الأسوار. وتولى كبر ذلك منهم قاضي الشافعية أحمد بن القرشي بما أشار عليهم، وفاه أهل العلم والدين بالنكير فيه. وكان منطاش لما بلغه حصار دمشق بعث طنبقا الحلي دوادار الأشرف بمدد من المال يمد به العساكر هنالك وأقام معهم. ثم بعث جنتمر إلى أمير آل فضل يعبر بن جبار يستنجد به فجاء لقتالهم، وسار كمشيقا نائب حلب فلقيه وفض جموعه، وأسر خادمه وجاء به أسيرا، فمن عليه السلطان وأطلقه وكساه وحمله ورده إلى صاحبه. واستمر حصار دمشق إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثورة انيال بصفد بدعوة السلطان
كان أنيال لما انهزم يوم واقعة دمشق فر إلى مصر ومر بغزة فاعتقله ابن باكيش وحبس بالكرك، فلما استولى الناصري أشخصه إلى صفد فحبس بها مع جماعة من الأمراء وولى على صفد قلطبك النظامي فاستخدم جماعة من مماليك برقوق، واتخذ منهم بلبغا السالمي دوادار، فلما بلغه خلاص السلطان من الاعتقال ومسيره إلى الشام داخل بلبغا مماليك أستاذه قطلوبقا في
الخلاف واللحاق بالسلطان. وهرب منهم جماعة فركب قطلوبقا في اتباعهم وأبقى بلبقا السالمي دوادار وحاجب صفد؟ فأطلقوا أنيال وسائر المحبوسين من السلطان، فملك أنيال القلعة ورجع قطلوبقا من اتباع الهاربين فوجدهم قد استولوا وامتنعوا. وارتاب من مماليكه فسار عن صفد ونهب بيته ومخلفه، ولحق بالشام فلقي الأمراء المنهزمين أمام السلطان بشقحب قاصدين مصر فسار معهم، ولحق أنيال بالسلطان من صفد بعد أن ضبطها واستخلف عليها وأقام مع السلطان والله تعالى أعلم.
مسير منطاش وسلطانه أمير حاجي إلى الشام وانهزامهم ودخولى منطاش إلى دمشق وظفر السلطان الظاهر بأمير حاجي والخليفة والقضاة وعوده لملكه ولما تواترت الأخبار بهزيمة عساكر الشام وحصار السلطان الظاهر دمشق وظهور دعوته في حلب وصفد وسائر بلاد الشام. ثم وصلت العساكر المنهزمون وأولاد بندمر ونائب صفد واستحثوه، وتواترت كتب جنتمر نائب دمشق وصريخه، أجمع منطاش أمره حينئذ على المسير إلى الشام فتجهز ونادى في العساكر، وأخرج السلطان والخليفة والقضاة والعلماء سابع عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين، وخيموا بالزيدانية من ناحية القاهرة حتى أزاح العلل. واستخلف على القاهرة دواداره صراي تمر، وأطلق يده في الحل والعقد والتولية والعزل. واستخلف على القلعة بكا الأشرفي وعمد إلى خزانة من خزائن الذخيرة بالقلعة فسد بابها ونقبها من أعلاها حتى صارت كهيئة الجب، ونقل إليها من كان في سحنه من أهل دولة السلطان.ونقل سودون النائب إلى القلعة فأنزله بها وأمر بالقبض على من بقي من مماليك السلطان حيث كانوا، فتسربوا في غيابات المدينة ولاذوا بالإختفاء. وأوعز بسد كثير من أبواب الدروب بالقاهرة فسدت. ورحل في الثاني والعشرين من الشهر بالسلطان وعساكره على التعبية وطووا المراحل، ونمي إليه أثناء طريقه أن بعض مماليك السلطان المستخدمين عند الأمراء مجموعون على التوثب ومداخلون لغيرهم فأجمع السطوة بهم ففروا ولحقوا بالسلطان. ولما بلغ خبر مسيرهم السلطان وهو محاصر دمشق ارتحل في عساكره إلى لقائهم ونزل قريبا من شقحب، وأصبحوا
على التعبية وكمشيقا بعساكر حلب في ميمنة السلطان ومنطاش قد عبى جيشه. وجعل السلطان أمير حاجي والخليفة والقضاة والرماة من ورائهم، ووقف معهم تمارتمرراس نوبة، وسندمر بن يعقوب شاه أمير سلاح. ووقف هو في طائفة من مماليكه وأصحابه في حومة المعترك. فلما تراءى الجمعان حمل هو وأصحابه على ميمنة السلطان ففضوها، وانهزم كمشيقا إلى حلب ومروا في اتباعه ثم عطفوا على مخيم السلطان فنهبوه وأسروا قجماش ابن عمه كان هناك جريحا. ثم حطن السلطان على الذي فيه أمير حاجي والخليفة والقضاة فدخلوا في حكمه، ووكل بهم واختلط الفريقان وصاروا في عمى من أمرهم، والسلطان في لمة من فرسانه يخترق جوانب المعترك ويحطم الفرسان ويشردهم في كل ناحية، وشراد مماليكه وأمرائه يتساقطون إليه حتى كثف جمعه ثم حمل على بقية العسكر وهم ملتئمون على الصفدي فهزمهم ولحقوا بدمشق وضرب خيامه بشقحب. ولما وصل منطاش إلى دمشق أوهم النائب جنتمر أن الغلب له وأن السلطان أمير حاجي على الأثر، ونادى العساكر بالخروج في السلاح لتلقيه، وخرج من الغد موريا بذلك فركب إليهم السلطان في العساكر فهزمهم وأثخن فيهم واستلحم كثيرا من عامة دمشق. ورجع السلطان إلى خيامه. وبعث أمير حاجي بالتبري من الملك والعجز عنه والخروج إليه من عهدته ؛ فأحضر الخليفة والقضاة فشهدوا عليه بالخلع وعلى الخليفة بالتفويض إلى السلطان والبيعة له والعود إلى كرسيه. وأقام السلطان بشقحب تسعا واشتد كلب البرد وافتقدت الأقوات لقلة الميرة، فأجمع العود إلى مصر ورحل يقصدها. وبلغ الخبر إلى منطاش فركب لاتباعه، فلما أطل عليه أحجم ورجع واستمر السلطان لقصده، وقدم حاجب غزة للقبض على ابن باكيش فقبض عليه. ولما وافى السلطان غزة ولى عليها مكانه وحمله معتقلا، وسار وهو مستطلع لأحوال مصر حتى كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثورة بكا والمعتقلين بالقلعة واستيلاؤهم عليها بدعوة السلطان الظاهر وعوده إلى كرسيه بمصر وانتظام أمره: كان منطاش لما فصل إلى الشام بسلطانه وعساكره كما مر واستخلف كلى القاهرة دواداره سراي تمر وأنزله بالاصطبل، وعلى القلعة بكا الأشرفي ووكله بالمعتقلين هنالك فأخذوا أنفسهم بالحزم والشدة. وبعد أيام نمي إليهم أن جماعة من مماليك السلطان مجتمعون للثورة وقد داخلوا مماليكهم فبيتوهم وقبضوا عليهم بعد جولة دافع فيها المماليك عن أنفسهم. ثم تقبضوا على من داخلهم من مماليكهم وكانوا جماعة كثيرة، وحدثت لهم بذلك رتبة واشتداد في الحزم، فنادوا
بالوعيد لمن وجد عنده أحد من مماليك السلطان، ونقلوا ابن أخت السلطان من بيت أمه إلى القلعة وحبسوه وأوعزوا بقتل الأمراء المعتقلين بالفيوم، فقتلوا وعميت عليهم أنباء منطاش والعساكر، وبعثوا من يقتص لهم الطريق ويسائل الركبان واعتزموا على قتل المسجونين بالقلعة.ثم تلاوموا في ذلك ورجعوا إلى التضييق عليهم ومنع المترددين بأقواتهم ؛ فضاقت أحوالهم وضجروا وأهمتهم أنفسهم. وفي خلال ذلك عثر بعضهم على منفذ إلى سرب تحت الأرض يفضي إلى حائط الاصطبل ففرحوا بذلك وتنسموا ريح الفرج، ولما أظلتهم ليلة الأربعاء غرة صفر سنة اثنتين وتسعين مروا في ذلك السرب فوجدوا فيه آلة النقب فنقبوا الحائط، وأفضوا إلى أعلى الاسطبل وتقدم بهم خاصكي من أكابر الخاصكية، وهجموا على الحراس فثاروا إليهم فقتلوا بعضهم بالقيود من أرجلهم، وهرب الباقون ونادوا شعبان بكا نائب القلعة يوهمون أنه انتقض.ثم كسروا باب الاسطبل الأعلى والأسفل، وأفضوا إلى منزل سراي تمر فأيقظه لغطهم، وهلع من شأن بكا فأرمى نفسه من السور ناجياً ، ومر بالحاجب قطلوبقا ولحق بمدرسة حسن وقد كان منطاش أنزل بها ناشبة من التركمان لحماية الاسطبل وأجرى لهم الأرزاق، وجعلهم لنظر تنكز رأس نوبة . ثم هجم أصحاب بكا على بيت سراي تمر فنهبهوا ماله وقماشه وسلاحه، وركبوا خيله واستولوا على الاسطبل وقرعوا الطبول ليلتهم. وقاتلهم بكا من الغد. وسرب الرجال إلى الطبلخانات فملكها ثم أزعجوه عنها. وزحف سراى تمر وقطلوبقا الحاجب إلى الاسطبل لقتالهم، وبرروا إليهم فقاتلوهم واعتصموا بالمدرسة. واستولى بكا على أمره وبعث إلى باب السر من المدرسة ليحرقه فاستأمن إليه التركمان الذين به فأنزلهم على الأمان، وسرب أصحابه في البلد لنهب بيوت منطاش وأصحابه فعاثوا فيها وتسلل إليه مماليك السلطان المختفون بالقاهرة فبلغوا ألفا أو يزيدون. ثم استأمن بكا من الغد فأمنه سودون النائب وجاء به إلى الناصري أمير سلاح ودمرداش وكان عنده فحبسهما بكا. ثم وقف سودون على مدرسة حن والأرض تموج بعوالم النظارة فاستنزل منها سراي تمر وقطلو بغا الحاجب فنزلا على أمانه. وهم العوالم بهما فحال دونهما وجاء بهما بكا فحبسهما. وركب سودون يوم الجمعة في القاهرة ونادى بالأمان والخطبة للسلطان فخطب له من يومه، وأمر بكا بفتح السجون وإخراج من كان فيها في حبس منطاش وحكام تلك الدولة. وهرب الوالي حسن بن الكوراني خوفا على نفسه لما كان شيعة لمنطاش على مماليك السلطان. ثم عثر عليه بكا وحبسه مع سائر شيعة منطاش، وأطلق جميع الأمراء الذين حبسهم بمصر ودمياط والفيوم. ثم بعث الشريف عنان بن مقامس أمير بني حسن بمكة وكان محبوسا، وخرج معهم فبعثه مع أخيه أيبقا على الهجن لاستكشاف خبر السلطان. ووصل يوم الأحد بعدها كتاب السلطان مع ابن صاحب الدرك سيف بن محمد بن عيسى العائدي بإعداد الميرة والعلوفة في منازل السلطان على العادة. وقص خبر الواقعة وأن السلطان توجه إلى مصر وانتهى إلى الرملة. ثم وصل أيبقا أخو بكا يوم الأربعاء ثامن صفر بمثل ذلك، وتتابع الواصلون من عسكر السلطان، ثم نزد بالصالحية وخرج السلطان لتلقيه بالعكرشة. ثم أصبح يوم الثلاثاء رابع صفر في ساحة القلعة، وقلده الخليفة وعاد إلى سريره. ثم بعث عن الأمراء الذي كان حبسهم منطاش بالإسكندرية وفيهم الناصري والجوباني وابن بيبقا وقراد مرداش وأبغا الجوهري وسودون باق وسودون الطرنطاي وقردمر المعلم في آخرين متعددين، واستعتبوا للسلطان فأعتبهم وأعادهم إلى مراتبهم، وولى أنيال اليوسفي أتابكا والناصري أمير سلاح، والجوباني رأس نوبة وسودون نائبا، وبكا دوادار وقرقماش أستاذ دار، وكمشيقا الخاصكي أمير مجلس، وتطلميش أمير الماخورية، وعلاء الدين كاتب سر الكرك كاتب سره بمصر، وعمر سائر المراتب والوظائف. وتوفي قرقماش فولى محمود أستاذ داره الأول، ورعى له سوابق خدمته ومحنة العدو له في محبته، وانتطم أمر دولته واستوثق ملكه. وصرف نظره إلى الشام وتلافيه من مملكة العدو وفساده والله تعالى أعلم.
ولاية الجوباني علي دمشق واستيلاؤه عليها من يد منطاش ثم هزيمته ومقتله وولاية الناصري مكانه: لما استقر السلطان على كرسيه بالقاهرة، وانتظمت أمور دولته صرف نظره إلى الشام وشرع في تجهيز العساكر لإزعاج العدو منه، وعين الجوباني لنيابة دمشق ورياسة العساكر، والناصري لحلب لأن السلطان كان عاهد كمشيقا على أتابكية مصر، وعين قرا دمرداش لطرابلس ومأموناً القلحطاوي لحماة ؛ فولى في جميع ممالك الشام ووطائفه وأمرهم بالتجهيز. ونودي في العساكر بذلك وخرجوا ثامن جمادى الأولى من سنة إثنتين وتسعين. وكان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن امرائه وسائر عساكره، وما زال يفشو حتى شاع وظهر بين الناس ؛ فانصرف هواهم إلى السلطان. وبعث في أثناء ذلك الأمير يماز تمر نائبا على حلب فاجتمع أهل كانفوسا وحاصر كمشيقا بالقلعة نحوا من خمسة أشهر، وشد حصارها وأحرق باب القلعة والجسر، ونقب سورها من ثلاث مواضع . واتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع . ثم بعث العساكر إلى طرابلس مع ابن ايماز التركماني فحاصرها وملكوها من يد سندمر حاجب حجابها، وكان مستوليا عليها بدعوة الظاهر. ولما ملكها ولى عليها قشتمر الأشرفي. ثم بعث العساكر إلى بعلبك مع محمد بن سندمر في نفر من قرابته وجنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين . ثم أوعز إلى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير
إلى حصار صفد فسار إليها ، وبرز إليه جندها فقاتلوه وهزموه، فجهز إليها العساكر مع أبقا الصفدي كبير دولته فسار إليها قي سبعمائة من العساكر. وقد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح إلى الطاعة والاعتصام بالجماعة، وكاتب السلطان بمغارمه ووعده فلما وصل إلى صفد بعث إلى نائبها بطاعته، وفارق أصحاب منطاش ومن له هوى فيه وصفوا إليه وبات ليلته بظاهر صفد. وارتحل من الغد إلى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة، وأمراء الشام معسكرون مع الجرباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه وجعله من أمراء الألوف.ولما رجع أصحابه من صفد إلى دمشق اضطرب منطاش وتبين له نكر الناس وارتاب بأصحابه، وقبض جماعة من الأمراء ، وعلى جنتمر نائب دمشق وابن جرجي من أمراء الألوف وابن قفجق الحاجب، وقتله والقاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان واستوحش الناس ونفروا عنه واستأمنوا إلى السلطان، مثل محمد بن سندمر وغيره. وهرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله وناظر الجيش. وقد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أن السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش وأجمعوا الفرار مرة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم. وشرع منطاش في الفتك بالمنتمين إلى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة وغيرهم، وذبح جماعة من الجراكسة وهم بقتل أشمس فدفعه الله عنه. وارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية. إلى الشام مع الجوباني يطوون المراحل، والأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين إليهم، حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه، ودخلوا حدود الشام ثم ارتبك منطاش في أمره واستقر الخوف والهلع والاسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هاربا من دمشق في خواصه وأصحابه ، ومعه سبعون حملاً من المال والأقمشة. واحتمل معه محمد بن أينال وانتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به إلى أبيه، وكان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيما في أحيائه ومعه أحياء آل مرو وأميرهم عنقا، فلحق بهم هنالك منطاش مستجيرا فأجاروه ونزل معهم. ولما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه وملك القلعة ومعه مماليك السلطان معصوصبون عليه، وأرسل إلى الجوباني بالخبر فأغذ السير إلى دمشق وجلس بموضع نيابته، وقبض على من بقي من أصحاب منطاش وخدمه مع من كان حبس هو معهم ووصل الطنبقا الحلبي ودمرداش اليوسفي من طرابلس. وكان منطاش استقدمهم وهرب قبل وصولهم، وبلغ الخبر إلى ايماز تمر وهو يحاصر حلب وأهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل، ولحق بمنطاش وركب كمشيقا من القلعة إليهم بعد أن أصلح الجسر، وأركب معه الحجاب وقاتل أهل كانفوسا ومن معهم من أشياع منطاش ثلاثة أيام. ثم هزموهم، وقتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة وخرب كانفوسا فأصبحت خرابا وعمر القلعة وحصنها وشحنها بالأقوات.وبعث الجوباني العساكر إلى طرابلس وملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال وكذلك حماة وحمص. ثم بعث الجوباني نائب دمشق وكافل الممالك الشامية إلى يعبر بن جبار أمير العرب بإسلام منطاش وإخراجه من أحيائه فامتنع واعتذر، فبرز من دمشق بالعساكر ومعه الناصري وسائر الأمراء. ونهض إلى مصر فلما انتهوا إلى حمص أقاموا بها وبعثوا إلى يعبر يعتذرون إليه فلج واستكبر وحال دونه. وبعث إليه أشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر وجنتمر يرومون الثورة فركب الناصري إلى دمشق، وكبسهم وأثخن فيهم ورجع إلى العسكر وارتحلوا إلى سلمية.واستمر يعبر في غلوائه وترددت الرسل بينهما فلم تغن. ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة، وحملت العساكر على منطاش والعرب فهزموهم إلى الخيام، واتبع دمرداش منطاش حتى جاوز به الحي وارتحلت العرب، وحملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم. وكان معهم آل علي بجموعهم فنهبوهم من ورائهم وانهزموا. وأفرد الجوباني مماليكه فأسره العرب وسيق إلى يعبر فقتله، ولحق الناصري بدمشق وأسر جماعة من الأمراء، وقتل منهم أيبقا الجوهري ومأمون المعلم في عدد آخرين، ونهب العرب مخيمهم وأثقالهم. ودخل الناصري إلى دمشق فبات ليلته وباكر من الغد آل علي في أحيائهم فكبسهم واستلحم منهم جماعة فثار منهم بما فعلوه في الواقعة. ثم بعث إليه السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة، فقام بأمرها وأحكم التصريف في حمايتها، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
اعادة محمود إلى استاذية الد ار واستقلاله في الدولة: هذا الرجل من ناشئة الترك وولدانهم ومن أعقاب كراي المنصوري منهم، شب في ظل الدولة ومرعى نعمها ونهض بنفسه إلى الاضطلاع والكفاية، وباشر كثيرا من أعمال الأمراء والوزراء حتى أوفى على ثنية النجابة، وعرضته الشهرة على اختيار السلطان فعجم عوده ونقد جوهره. ثم ألحق به أغراض الخدمة ببابه فأصاب شاكلة الرمية ومضى قدما في مذاهب السلطان مرهف الحد قوي الشكيمة فصدق ظنه وشكر اختياره. ثم دفعه إلى معاينة الحبس وشد الدواوين من وظائف الدولة فجلا فيهما. وهلك خلال ذلك أستاذ الدار بهادر المنجكى سنة تسعين فأقامه السلطان مكانه قهرمانا لداره ودولته وانتنضارته على دواوين الجباية من قراب اختياره ونقده، جماعة للأموال فواصا على استخراج الحقوق السلطانية، قاروناً للكنوز
اكسيرا للنقود مغناطيسا للقنية، يسابق أقلام الكتاب ويستوفي تفاصيل الحساب بمدارك إلهامه، وتصور صحيح وحدس ثاقب لا يرجع إلى حذاقة الكتاب ولا إلى أيسر الأعمال، بل يتناول الصعاب فيذللها ويحوم على الأغراض البعيدة فيقربها. وربما يحاضر بذكائه في العلوم فينفذ في مسائلها، وبفحم جهابذتها موهبة من الله اختصه بها ونعمة أسبغ عليه لبوسها. فقام بما دفع إليه السلطان من ذلك وأدر خروج الجباية فضاقت أفنية الحواصل والخزائن بما تحصل وتسرب إليها وكفى السلطان مهمه في دولته ومماليكه ورجاله بما يسوغ لهم من نعمة، ويوسع من أرزاقه وعطائه، حتى أزاح عللهم بتوالي إنفاقه، وقرت عين السلطان باصطناعه، وغص به الدواوين والحاشية ففوقوا إليه سهام السعاية وسلطوا عليه ألسنة المتظلمين فخلص من ذلك خلوص الإبريز، ولم تعلق به ظنة ولا حامت عليه ريبة.
ثم طرق الدولة ما طرقها من النكبة والاعتقال وأودعته المحنة غيابات السجون، وحفت به أنواع المكاره واصطلمت نعمته واستصفيت أمواله في المصادرة والامتحان، حتى زعموا أن الناصري المتغلب يومئذ استأثر منه بخمسة قناطير من دنانير الذهب، ومنطاش بعده بخمسة وخمسين. ثم خلص ابريزه من ذلك السبك وأهل قمره بعد المحاق، واستقل السلطان من نكبته وطلع بأفق مصره وتمهد أريكة ملكه، ودفعه لما كان بسبيله فأحسن الكرة في الكفاية لمهمه، وتوسيع عطاياه وأرزاقه وتمكين أحوال دولته. وتسربت الجباية من غير حساب ولا تقرير إلى خزائنه، وأحسن النظر في الصرف والخرج بحزمه وكفايته، حتى عادت الأمور إلى أحسن معهودها بيمن تعبيته وسديد رأيه وصلابة عوده وقوة صرامته، مع بذل معروفه وجاهه لمن تحت لجده، وبشاشته وكفايته لغاشيته. وحسن الكرامة لمنتابه ومقابلة من يأتي إليه بكرم مقاصده فأصبح طرازا للدولة وتاجا للخواص. وقذفه المنافسون بخطا السعايات فزلت في. جهات حلم السلطان وجميل اغتباطه وتثبته، حتى أعيتهم المذاهب وانسدت عليهم الطرق، ورسخت قدمه في الدولة واحتل من السلطان بكرم العهد والذمة، ووثق بغنائه واضطلاعه فرمى إليه مقاليد الأمور، وأوطأ عقبه أعيان الخاصة والجمهور، وأفرده في الدولة بالنظر في الأمور حسباناً وتقديرا وجمعا وتقريرا وكنزا موفرا وصرفا لا يعرف تبذيراً وبطرا وفي الانهاء بالمعزل والإهانة مشهورا مع ما يمتاز به من الأمر والشأن، وسمو مرتبته على مر الأزمان. وهو على ذلك لهذا العهد عند سفر السلطان إلى الشام لمدافعة سلطان المغل كما مر ذكره، والله متولي الأمور لا رب غيره.
مسير منطاش ويثبر إلى نواحي حلب وحصارها
ثم مفارقة يعبر وحصاره عنتاب ثم رجوعه
ولما انهزمت العساكر بسلمية كما قلننا ارتحل يعبر في أحيائه ومعه منطاش وأصحابه إلى نواحي حلب، وسار يعبر إلى بلد سرمين من أقطاعه ليقسمها في قومه على عادتهم، وكان كمشيقا نائب حلب قد أقطعها الجند من التركمان في خدمته. فلما وافاها يعبر هربوا إلى حلب فلقوا في طريقهم أحمد بن المهدار في العساكر وقد نهض إلى يعبر فرجعوا عنه، ولقيهم علي بن يعبر فقاتلوه وهزموه وقتلوا بعض أصحابه صبرا، ورجع يعبر إلى أحيائه وارتحلوا إلى حلب فحاصروها وضيقوا عليها أيام رمضان. ثم راجع يعبر نفسه وراسل كمشيقا نائب حلب في الطاعة واعتذر عما وقع منه وطوق الذنب، بالجوباني وأصحابه أهل الواقعة، وسأل الأمان مع حاجبه عبد الرحمن فأرسله كمشيقا إلى السلطان، وأخبره بما اشترط يعبر فأجابه السلطان إلى سؤاله. وشعر بذلك منطاش بمكانه من حصار حلب فارتاب وخادع يعبر إلى الغارة على التركمان بقربهم، فأذن للعرب في المسير معه، وسار معه منهم سبعمائة. فلما جاوز الدربند أرجلهم عن الخيل وأخذها ولحق بالتركمان ونزل بمرعش بلد أميرهم سولي، ورجع العرب مشاة إلى يعبر فارتحل إلى سبيله راجعاً ، وسار منطاش إلى عنتاب من قلاع حلب، ونائبها محمد بن شهري فملكها واعتصم نائبها بالقلعة أياما. ثم نبت منطاش وأثخن في أصحابه وقتل جماعة من أمرائه، وكانت العساكر قد جاءت من حلب وحماة وصفد لقتاله فهرب إلى مرعش وسار منها إلى بلاد الروم، واضمحل أمره. وفارقه جماعة من أصحابه إلى العساكر وراجعوا طاعة السلطان آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين. وبعث سولي بن دلقادر أمير التركمان في عشر ذي الحجة يستأمن إلى السلطان فأمنه وولاه على البلستين كما كان. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قدوم كمشيقا من حلب:
قد كان تقدم لنا أن كمشيقا الحموي رأس نوبة بيبقا كان نائبا بطرابلس، وان السلطان عزله وحبسه بدمشق، فلما استولى الناصري على دمشق أطلقه من الاعتقال وجاء في جملته إلى مصر. فلما ولي على ممالك الشام وأعمالها ولاه على حلب مكانه منتصف إحدى وسبعين. ولما استقل السلطان من النكبة وقصد دمشق كما مر أرسل كمشيقا إليه بطاعته ومشايعته على أمره، وأظهر دعوته في حلب وما إليها من أعماله. ثم سار السلطان إلى دمشق وحاصرها وأمده كمشيقا بجميع
ما يحتاج إليه. ثم جاءه بنفسه في عساكر حلب صريخا، وحمل إليه جميع حاجاته وأزاح علله وأقام له رسوم ملكه، وشكر السلطان أفعاله في ذلك وعاهده على أتابكية مصر. ثم كانت الواقعة على شقحب فانهزم كمشيقا إلى حلب فامتنع بهما، وحاصره يمازتمر أتابك منطاش أشهرا كما مر. ثم هرب منطاش من دمشق إلى العرب فأفرج يمازتمر عن حلب. ثم كانت واقعة الجوباني ومقتله وزحف منطاش ويعبر إلى حلب فحاصروها مدة. ثم وقع الخلاف بينهما وهرب منطاش إلى بلاد التركمان، ورجع يعبر إلى بلدة سلمية، واستأمن إلى السلطان ورجع إلى طاعته منتصف شوال. ولما أفرجوا عن حلب نزل كمشيقا من القلعة ورم خرابها وخرب بانفوسا واستلحم أهلها، وأخذ في إصلاح أسوار حلب ورئم ما سلم منها وكانت خرابا من عهد هلاكو. وجمع له أهل حلب ألف درهم للنفقة فيه، وفرغ منه لثلاثة أشهر.ولما استوسق أمر السلطان وانتظمت دولته بعث إليه يستدعيه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، وولى مكانه في حلب قرا دمرداش نقله إليها من طرابلس وولى مكانه أنيال الصغير، فسار كمشيقا من حلب ووصل مصر تاسع صفر سنة ثلاث وتسعين، فاهتز له السلطان وأركب الأمراء للقائه مع النائب. ثم دخل إلى السلطان فحياه وبالغ في تكرمته وتلقاه بالرحب، ورفع مجلسه فوق الأتابك أنيال، وأنزله بيت منجك وقد هيأ فيه الفرش والماعون والخرثى ما فيه للمنزل. ثم بعث إليه بالأقمشة وقرب إليه الجياد بالمراكب الثقيلة، وتقدم للأمراء أن يتحفوه بهداياهم فتناغوا في ذلك وجاؤوا من وراء الغاية، وحضر في ركابه من أمراء الشام الطنبقا الأشرفي وحسن الكشكي، فأكرمهما السلطان واستقر كمشيقا بمصر في أعلى مراتب الدولة إلى أن توفي أنيال الأتابك في جمادى أربع وتسعين فولاه السلطان مكانه كما عاهده عليه بشقحب، وجعل إليه نطر المارستان على عادة الأتابكية، واستمر على ذلك لهذا العهد. والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
استقدام أيتمش كان أيتمش النجاشي أتابك الدولة قد نكبه السلطان وسار في العساكر إلى الشام منتصف ربيع إحدى وتسعين لقتال الناصري وأصحابه، لما إنتقض عليه وكانت الواقعة بينهم بالمرج من نواحي دمشق، وانهزمت العساكر ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق ومعه كتب السلطان في دخولها متى إضطر إليه، فامتنع بها وملكها الناصري من الغد بطاعة نائبها ابن الحمصي فوكل بايتمش وأقام حبيساً موسعاً عليه، ثم سار الناصري إلى مصر وملكها، وعاد السلطان إلى كرسيه
في صفر سنة إثنتين وتسعين كما فصل ذلك من قبل. وأيتمش في أثناء ذلك كله محبوس بالقلعة. ثم زحف الجوباني في جمادى الأخيرة وخلص أيتمش من اعتقاله، وفتق مماليك السلطان السجن الذي كانوا فيه بقلعة دمشق وخرجوا وأعصوصبوا على أيتمش قبل مجيء الجوباني . وبعث إليه بالخبر، وبعث الجوباني إلى السلطان بمثل ذلك فتقدم إليه السلطان بالمقام بالقلعة حتى يفرغ من أمر عدوه.
ثم كان بعد ذلك واقعة الجوباني مع منطاش والعرب ومقتله وولاية الناصري على دمشق مكانه. ثم افترق العرب وفارقهم منطاش إلى التركمان، وانتظمت ممالك الشام في ملكة السلطان، واستوسق ملكه واستفحلت دولته، فاستدعى الأمير أيتمش من قلعة دمشق، وسار لاستدعائه قنوباي من مماليك السلطان ثامن ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين، ووصل إلى مصر رابع جمادى الاولى من السنة. ووصل في ركابه حاجب الحجاب بدمشق ومعه الأمراء الذين حبسوا بالشام، منهم جنتمر نائب دمشق وابنه وابن أخته وأستاذ داره طنبقا ودمرداش اليوسفي نائب طرابلس، والطنبقا الحلي والقاضي أحمد بن القريشي ، وفتح الدين بن الرشيد، وكاتب السر في ست وثلاثين نفراً من الأمراء وغيرهم. ولما وصل أيتمش قابله السلطان بالتكرمة والرحب وعرض الحاجب المساجين الذي معه ووبخ السلطان بعضهم. ثم حبسوا بالقلعة حتى نفذ فيهم قضاء الله، وقتلوا مع غيرهم ممن أوجبت السياسة قتلهم. والله تعالى مالك الأمور لا رب سواه إنتهى. هدية أفريقية كان السلطان قد حصل بينه وبين سلطان أفريقية أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي مودة والتئام، وكانت كثيراً ما تجددها الهدايا من الجانبين، ونذكرها إن شاء الله تعالى. ولما بلغ الخبر إلى تونس بما كان من نكبة السلطان وما كان من أمره، امتعض له هذا السلطان بتونس وتفجع لشأنه، وأقام يستطلع خبره ويستكشف من الجار التي تحضر إلى مصر من أهل تونس أنباءه، حتى وقف على الجلي من أمره وما كيف الله من أسباب السعادة في خلاصه وعوده إلى كرسيه، فملأ السرور جوانحه. وأوفد عليه بالتهنئة رسوله بهدية من المقربات على سبيل الوداد مع خالصة من كبراء الموحدين محمد بن علي بن أبي هلال، فوصل في العشر الأواخر من رمضان سنة إثنتين وتسعين فتلقاه السلطان بالكرامة، وركب محمود أستاذ داره ليتلقاه عند نزوله من البحر بساحل بولاق، وأنزل ببيت طشتمر بالزميلة قبالة الاصطبل، وأجريت عليه النفقة بما لم يجر لأمثاله. ورغب من السلطان في الحج فحج وأصحب هدية
إلى مرسله من ثياب الوشي والديباج والسلاح بما لم يعهد مثلها، وإنصرف آخر ربيع سنة ثلاث وتسعين والله تعالى أعلم بغيبه.
حصار منطاش دمشق ومسير السلطان من مصر إليه وفراره ومقتل الناصري لم يزل منطاش شريداً عند التركمان منذ فارق العرب، ولما كان منتصف سنة ثلاث وتسعين اعتزم على قصد دمشق، ويقال إن ذلك كان بإغراء الناصري يخادعه بذلك ليقبض عليه فسار منطاش من مرعش على نواحي حلب وتقدم خبره إلى حماة فهرب نائبها إلى طرابلس. ودخل منطاش حماة ونادى فيها بالأمان، ثم سار منها إلى حمص كذلك ثم إلى بعلبك وهرب نائبها إلى دمشق فخرج الناصري نائب دمشق في العساكر لمدافعته، وسار على طريق الزبداني فخالفه منطاش إلى دمشق. وقدم إليها أحمد شكار ابن أبي بندمر فثار شيعة الخوارزمية والبندمرية، وفتحرا له أبواب البلد ومر باصطبلات فقاد منها نحوا من ثمانمائة فرس.وجاء منطاش من الغد على أثره فنزل بالقصر الأبلق، وأنزل الأمراء الذين معه في البيوت حوالي القصر وفي جامع شكن وجامع بيبقا، وشرع في مصادرة الناس والفريضة عليهم وأقام يومه في ذلك، وإذا بالناصري قد وصل في عساكره فاقتتلوا عشية ذلك اليوم مرات ومن الغد كذلك. وأقام كل واحد منهما في حومته والقتال متصل بينهما سائر رجب وشعبان. ولما بلغ الخبر إلى السلطان إرتاب بالناصري واتهمه بالمداهنة في أمر منطاش. وتجهز لقصد الشام ونادى في العساكر بذلك عاشر شعبان وقتل أهل الخلاف من الأمراء المحبوسين، وأشخص البطالين من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط، وخرج يوم عشرين شعبان فخيم بالريدانية حتى أزاح علل العساكر وقضوا حاجاتهم. واستخلف على القاهرة الأتابك كمشيقا الحموي وأنزله الاصطبل، وجعل له التصرف في التولية والعزل. وترك بالقاهرة من الأمراء جماعة لنظر الأتابك وتحت أمره، وأنزل النائب سودون بالقلعة وترك بها ستمائة من مماليكه الأصاغر، وأخرج معه بالقضاة الأربعة والمفتين. وارتحل غرة رمضان من السنة بقصد الشام. وجاء الخبر رابع الشهر بأن منطاش لما بلغه مسيرة السلطان من مصر هرب من دمشق منتصف شعبان مع عنقا بن أمير آل مراء الصريخ بمنطاش فكانت بينهما وقعة انهزم فيها الناصري، وقتل
جماعة من أمراء الشام نحو خمسة عشر فيهم إبراهيم بن منجك وغيره.ثم خرج الناصري من الغد في إتباع منطاش ؛ وقد ذكر له أن الفلاحين نزحوا من نواحي دمشق، واحتاطوا به فركب إليه منطاش ليقاتله ؛ ففارقه أتابكه يماز تمر إلى الناصري في أكثر العساكر، وولى هارباً. ورجع الناصري إلى دمشق وأكرم يمازتمر وأجمل له الوعد، وجاءه الخبر بأن السلطان قد دخل حدود الشام فسار ليلقاه فلقيه بقانون. وبالغ السلطان في تكرمته، وترجل حين نزوله وعانقه وأركبه بقربه ورده إلى دمشق. ثم سار في أثره إلى أن وصل دمشق، وخرج الناصري ثانية ودخل إلى القلعة ثاني عشر رمضان من السنة والأمراء مشاة بين يديه، والناصري راكب معه يحمل الخبز على رأسه. وبعث يعبر في كتاب نائب حماة بالعذر عما وقع منه، وأنه إتهم الناصري في أمر منطاش فقصد حسم الفتنة في ذلك.
واستأمن السلطان وضمن له إحضار منطاش من حيث كان فأمنه، وكتب إليه بإجابة سؤاله. ولما قضى عيد الفطر برز من دمشق سابع شوال إلى حلب في طلب منطاش، ولقيه أثناء طريقه رسول سولي بن دلقار أمير التركمان بهديته واستئمانه وعذره عن تعرضه لسيس ، وأنه يسلمها لنائب حلب فقبل السلطان منه وافنه ووعده بالجميل. ثم وفد عليه أمراء آل مهنا وآل عيسى في الطاعة ومظاهرة السلطان على منطاش ويعبر، وأنهما نازلان بالرحبة من تخوم الشام فأكرم السلطان وفادتهم وتقبل طاعتهم، وسار إلى حلب ونزل بالقلعة منها ثاني شوال. ثم وصل الخبر إلى السلطان بأن منطاش فارق يعبر أو مر ببلاد ماردين فواقعته عساكر هناك، وقبضوا على جماعة من أصحابه، وخلص هو من الواقعة إلى سالم الرودكاري من أمراء التركمان، فقبض عليه وأرسل إلى السلطان يطالعه بشأنه ويطلب بعض أمراء السلطان قرا دمرداش نائب حلب في عساكره إلى سالم الرودكاري لإحضار منطاش، وأتبعه بالناصري.وأرسل الأتابك إلى ماردين لإحضار من حصل من أصحاب منطاش وإنتهى أنيال إلى رأس العين، وأتى أصحاب سلطان ماردين وتسلم منهم أصحاب منطاش. وكتب سلطانهم بأنه معتمل في مقاصد السلطان ومرتصد لعدوه. وإنتهى قرا دمرداش إلى سالم الرودكاري وأقام عنده أربعة أيام في طلب منطالش وهو يماطله، فأغار قرا دمرداش عليه ونهب أحياءه وفتك في قومه، وهرب هو ومنطاش إلى سنجار. وجاء الناصري على أثر ذلك ونكر على دمرداش ما أتاه وإرتفعت بينهما حتى هم الناصري به ورفع الآلة بضربه، ولم يحصل أحد منهم بطائل، ورجعوا بالعساكر إلى السلطان. وكتب إليه سالم الرودكاري بالعذر عن أمر منطاش، وأن الناصري كتب إليه وأمره بالمحافظة على منطاش، وأن فيه زبونا للترك، فجلس السلطان بالقلعة جلوساً ضخما سادس ذي الحجة من السنة
، واستدعى الناصري فوبخه. ثم قبض عليه وعلى ابن أخيه كشلي ورأس نوبة شيخ حسن، وعلى أحمد بن الهمدار الذي أمكنه من قلعة حلب وأمر بقتله وقشتمر الأشرفي الذي وصل من ماردين معهم. وولى على نيابة دمشق مكانه بكا الدوادار، وأعطى إقطاعه لقرا دمرداش وأمره بالمسير إلى مصر. وولى مكانه بحلب حلبان رأس نوبة، وولى أبا يزيد دوادارا مكان بكا ورعى له وسائله في الخدمة وتردده في السفارة بينه وبين الناصري أيام ملك الناصري. وأجلب على مصر وأشار عليه الناصري بالانتفاء كما ذكرناه، فاختفى عند أصحاب أبي يزيد هذا بسعايته في ذلك. ثم إرتحل من حلب ووصل إلى دمشق منتصف ذي الحجة، وقتل بها جماعة من الأمراء أهل الفساد يبلغون خمسة وعشرين، وولى على العرب محمد بن مهنا وأعطى إقطاع يعبر لجماعة من التركمان، وقفل إلى مصر. ولقيه الأتابك كمشيقا والنائب سودون والحاجب سكيس. ثم دخل إلى القلعة على التعبية منتصف المحرم سنة أربع وتسعين في يوم مشهود، ووصل الخبر لعاشر دخوله بوفاة بكا نائب دمشق فولى مكانه سودون الطرنطاي. ثم قبض في منتصف صفر على قرا دمرداش الأحمدي وهلك في محبسه، وقبض على طنبقا المعلم وقردم الحبشي. وجاء الخبر أواخر صفر من السنة بأن جماعة من المماليك مقدمهم أيبقا دوادار وبذلار. ولما هلك بكا وإضطرب أصحابه وهرب بعضهم، عمد هؤلاء المماليك إلى قلعة دمشق وهجموا عليها وملكوها، ونقبوا السجن وأخرجوا المعتقلين به من أصحاب الناصري ومنطاش وهم نحو المائة. وركبت العساكر إليها وحاصروها ثلاثا، ثم هجموا على الباب فأحرقوه ودخلوا إلى القلعة فقبضوا عليهم أجمعين وقتلوهم وفر أيبقا دوادار وبذلا في خمسة نفر، وانحسمت عللهم. ثم وصل الخبر آخر شعبان من السنة بوفاة سودون الطرنطاي فولى السلطان مكانه كمشيقا الأشرفي أمير مجلس، وولى مكان كمشيقا أمير شيخ الخاجكي إنتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم. مقتل منطاش كان منطاش فر مع سالم الرودكاري إلى سنجار وأقام معه أياماً، ثم فارقه ولحق بيعبر فأقام في أحيائه، وأصهر إليه بعض أهل الحي بابتنه فتزوجها وأقام معهم. ثم سار أول رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب، وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه. ثم طال على يعبر أمر الخلاف، وضجر قومه من إفتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان، وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة، فكتب له الدوادار
أبو يزيد على لسانه بالإجابه إلى ذلك.ثم وفد محمد بن سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيما بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر فركبوا إليهم وهزموهم، وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من. الشظف والحفاء، فأردفه ابن يعبر ونجا به وقتل منهم جماعة: منهم ابن بردعان وابن أنيال، وجيء برأسيهما إلى دمشق. وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم. ثم زحف يعبر ومنطاش في العساكر أول جمادى الأخيرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماة، وخالفهم نائب حلب إلى أحياء يعبر فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها، وأضرم النار فيما بقي. وأكمن لهم ينتظر رجوعهم. وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم، وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك. ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعا للسلطان ومنابذاً لعمه، وذكوان بن يعبر على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم ؛ فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد، ودس معه إلى بني يعبر بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه. فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعاً ورغبوهم فيما عند السلطان ووصفوا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والإنحراف عن الطاعة. وعرضوا على يعبر بأن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان، ويفارقهم هو إلى حيث شاء من البلاد فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم، وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان فقبضوا عليه، وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم يعبر فحلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فأمكنوه منه، وبعثوا معه الفرسان والرجالة حتى أوصلوه، ودخل إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة. وبعث السلطان أميرا من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام. وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة، ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة، ثم دفعت إلى أهله فدفنوها آخر رمضان من السنة. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوراثين
. حوادث مكة قد كان تقدم لنا أن عنان بن مقابس ولأه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان وثمانين، وأن كنيش بن عجلان أقام على خلافه وحاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها. وساء أثر عنان وعجز من مغالبة الأشراف من بني عمه وسواهم. وامتدت أيديهم إلى أموال المجاورين وصادروهم عليها ونهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدة للسلطان والأمراء والتجار، ونهبوا تجار اليمن وساءت أحوال مكة بهم وبتابعهم، وطلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة ووفد على السلطان بمصر سنة تسع وثمانين صبي من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة، وبعثه مع أمير الحاج وأوصاه بالاصلاح بين الشرفاء. ولما وصل الأمير إلى مكة وكان بها يومئذ قرقماش خشي الأشراف منه، وإضطرب عنان وركب للقائه. ثم توجس الخليفة وكر راجعاً واتبع الأشراف، واجتمعوا على منابذة علي بن عجلان وشيعته من القواد والعبيد. ووفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه وحبسه، ولم يزل محبوساً إلى أن خرج مع بكا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة إثنتين وتسعين. وبعثه مع أخيه أيبقا يستكشف خبر السلطان كما مر.وانتظم أمر السلطان بسعاية بكا في العود إلى إمارته رعيا لما كان بينهما من العشرة في البحر، وأسعفه السلطان بذلك وولاه شركاً لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين، وأمرهما مضطرب والأشراف معصوصبون على عنان، وهو عاجز عن الضرب على أيديهم وعلي بن عجلان مع القواد كذلك، وأهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم. ثم استقدمهم السلطان سنة أربع وتسعين فقدموا أول شعبان من السنة فأكرمهما ورفع مجلسهما، ورفع مجلس علي على سائرهم. ولما انقضى الفطر ولى علي بن عجلان مستقلا واستبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشه والخيول والممالك والحبوب، وأذن له في الجراية والعلوفة فوق الكفاية. ثم ظهر عليه بعد شهر وقد أعد الرواحل ليلحق لمكة هارباً فقبض عليه وحبسه بالقلعة، وسار علي بن عجلان إلى مكة وقبض على الأشراف لتستقيم إمارته. ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه ولم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره وفسد رأيه، وهو مقيم على ذلك لهذا العهد. والله غالب على أمره إنه على كل شيء قدير
. وصول أحياء من التتر وسلطانهم إلى صاحب بغداد واستيلاؤه عليها ومسير السلطان بالعساكر إليه كان هؤلاء التتر من شعوب الترك وقد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر، ثم خوارزم وخراسان وجانبيها إلى سجستان وكرمان جنوبا وبلاد القفجاق وبلغار شمالا، ثم عراق العجم وبلاد فارس وأذربيجان وعراق العرب والجزيرة وبلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات، واستولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدم في أخبارهم، ويأتي إن شاء الله تعالى. وكان أول من خرج منهم ملكهم جنكز خان أعوام عشر وستمائة، واستقلوا بهذه الممالك كلها. ثم إنقسمت دولته بين بنيهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق وجانب الشمال بأسره، ولبني هلاكو بن طولي خان خراسان والعراق وفارس وأذربيجان والجزيرة والروم، ولبني جفطاي خوارزم وما إليها. وإستمرت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة وثمانين سنة اننقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد آخرهم ولم يعقب، وافترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان وأصبهان وفارس وعراق العرب وأذربيجان وتوريز وبلاد الروم: فكانت خراسان للشيخ ولي، وأصبهان وفارس وشستان للمظفر الأزدي وبنيه وخوارزم وأعمالها إلى تركستان لبني جفطاي، وبلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي مرداش بن جوبان، وبغداد وأذربيجان والجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن إيبغا بن أيكان وأيكان سبط أرغوبن أبغا بن هلاكو ولبنيه، وهو من كبار المغل في نسبه. ولم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلا بين أعقابهم إلى أن تلاشى واضمحل. واستقر ملك بغداد وأذربيجان والجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أوشى ابن الشيخ حسن سبط أرغو كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد. ولما كان في هذه العصور ظهر بتركستان وبخارى فيما وراء النهر أمير إسمه تمر في جموع من المغل والسر ينسب هو وقومه إلى جفطاي، لا أدري هو جفطاي ابن جنكز خان أو جفطاي آخر شعوب المغل، والأول أقرب لما قدمته من ولاية جفطاي بن جنكز خان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه. وإن اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الذي مع تمر، وقصر المدة. إن هذه المدة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة، لأن جفطاي كان لعهد أبيه جنكزخان يقارب الأربعين، فهذه المدة أزيد من خمسة من العصور، لأن العصر أربعون سنة. وأقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت العشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف.أن فرضنا أن المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا
في الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفاً، وإن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الإثنين وثلاثين، وإن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفا . والسبعة أتل ما يمكن من الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل. والستة عشر ألفا عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهى إلى غاية العساكر. ولما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها من يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة وثمانين بعد مراجفات وحروب. وهرب الشيخ ولي إلى توريز فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع وثمانين وملك توريز وأذربيجان وخربها، وقتل الشيخ ولي في حروبه، ومر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة. وأطل بعد توريز على نواحي بغداد فأرجفوا منه، وواقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة والموصل. وكانت الحروب بينهم سجالا. ثم تأخر إلى ناحية أصبهان وجاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر الدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكز خان، وهو صاحب كرسي صراي أمده بأمواله وعساكره فكر راجعا إلى بلده، وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين. ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده، واستولى على كرسي صراي فكر تمر راجعاً وملكها. ثم خطا إلى أصبهان وعراق العجم وفارس وكرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبددت جموعهم. وراسله صاحب بغداد أحمد بن أوشى وصانعه بالهدايا والتحف فلم يغن عنه وما زال يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزم أحمد وافترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى إنتهى إلى دجلة، وسبق النذير إلى أحمد، فأسرى من ليله ومر بجسر الحلة فقطعه. وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة يوم الحادي والعشرين من شوال سنة خمس وتسعين، وأجازوا دجلة سبحا ودخلوا واستولوا عليها.وبعث العساكر في أتباع أحمد فلحقوا بأعقابه، وخاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع وأدركوه بالمشهد فكر عليهم في جموعه، وقتل الأمير الذي كان في إتباعه ورجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله ورواحله بما فيها من الأموال والذخيرة، فرجعوا بها ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره، فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات والأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها. وطرقه مرض أبطأ به عن مصر. وجاءت الأخبار بأن تمر عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة. وأقفرت جوانب بغداد من العيث. ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه، ونادى في عساكره بالتجهز إلى الشام، وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين وعثاء الحرابة، ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوماً فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم، ثم خربها وأسرها.ثم انتشرت عساكر ه في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وأشفوا نعمتها وافترق أهلها. وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياماً أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه. واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند. واستخلف على القاهرة النائب مودود وارتحل إلى الشام على التعبية، ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمه وسرب النفقات في تابعه وجنده. ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى حلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستيعاب العرب والتركمان للإقامة هنالك رصداً للعدو. فلما وصل إلى دمشق وفد عليه حلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم، ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه. وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كمشيقا الأتابك وتلكمش أمير سلاح وأحمد ين بيبقا، وكان العدو قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا ثم ملكها وعاثت عساكره فيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم، ومر بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها. والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ست وتسعين- مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته، والله ولي الأمور. وهذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بانتهاء الأيام وما يعلم أحد ما في غد، والله مقدر الأمور وخالقها
خريطة
دولة بني رسول
الخبر عن دولة بنى رسول مولى بني أيوب الملوك
باليمن بعدهم ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم
قد كان تقدم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن واختلف عليها الولاة منهم إلى
أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن المظفر وإنتقض أيام العادل سنة إثنتي عشرة وستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن، وهو أخو الصالح ويلقب بالتركي أطس ويقال أقسنس، وقد تقدم ذكر هذا اللقب، فملكها المسعود من يد سليمان وبعث به معتقلا إلى مصر. وهلك في جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع وأربعين. وهلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة وستمائة، وولى بعده ابنه الكامل وجدد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن. وحج المسعود سنة تسع عشرة وكان من خبره تأخير أعلام الخليفة عن إعلامه ما مر في أخبار دولتهم.ثم جاء سنة عشرين إلى مكة وأميرهم حسن بن قتادة من بني مطاعن إحدى بطون حسن فجمع لقتاله وهزمه المسعود، وملك مكة وولى عليها. ورجع إلى اليمن فأقام به، ثم طرقه المرض سنة ست وعشرين فارتحل إلى مكة واستخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره. ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه، وبلغ خبر وفاته إلى أبيه وهو محاصر دمشق. ورجع ابن قتادة إلى مكة. ونصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود ولقبه الأشرف، وأقام مملكا على اليمن إلى أن خلع. وخلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف، ومات وخلفه ابنه واسمه موسى وهو الذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه. ثم خلع ابن رسول موسى الأشرف بن المسعود واستبد بملك اليمن وأخذ بدعوة الكامل بمصر، وبعث أخويه رهناً على الطاعة.ثم هلك سنة تسع وعشرين وولى ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول. ولما هلك علي بن منصور ولى بعده الكامل ابنه عمر. ثم توفي الكامل سنة خمس وثلاثين وشغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن وتلقب المنصور، ومنع الأتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر، فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم
وحبسهم. وكان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي وصار لبني سليمان بن داود كما مر في أخبارهم. ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحمى بن الحسن بن القاسم الرسي، بايع له الزيدية بحصن ملا، وكانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه. فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطىء وكان بحصن بملا، وكان الحديث شائعا بين الزيدية بأن الأمر يرجع إلى بني الرسي . وكان أحمد فقيها أديبا عالماً بمذهب الزيدية مجتهدا في العبادة. وبويع سنة خمس وأربعين وستمائة. وأهم عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه وحاصره بحصن ملا مدة، ثم أفرج عنه، وجهز العساكر لحصارة من الحصون المجاورة له. ولم يزل قائماً بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان وأربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر. ولما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف، وكان عادلا محسنا وفرض الأتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك، وما زال يصانعهم بها ويعطيهم إياها. وكان لأول ملكه إمتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره، وتمكن أحمد الموطىء الثائر بحصن ملا من الزيدية من أعقاب بني الرسي فملك عشرين حصناً من حصون الزيدية. وزحف إلى صفد فملكها من يد السليمانيين، ونزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه وأمنه. ولما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل.ولم يزل المظفر واليا على اليمن إلى أن هلك بغتة سنة أربع وتسعين لست وأربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف. ولما هلك المظفر يوسف كما قلناه وولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر، وكان أخوه داود واليا على الشحر فدعاه لنفسه ونازعه الأمر، فبعث الأشرف عساكره وقاتلوه وهزموه وقبضوا عليه وحبسه. واستمر الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست وتسعين لعشرين شهراً من ولايته اخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف. ولما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرجوا أخاه مؤيد الدين داود من معتقله، وولوه عليهم ولقبوه المؤيد. وافتتح أمره بقتل الجارية التي سمت أخاه.وما زال يواصل ملوك الترك بهداياه وصلاته وتحفه والضريبة التي قررها سلفه، وانتهت هديته سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى مائتي وقر بعير بالثياب والتحف وطرف اليمن ومائتين من الجمال والخيل. ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك، وفسد ما بينه وبين ملوك الترك بمصر. وبعث بهديته سنة ثمان عشرة فردوها عليه. ثم هلك سنة إحدى وعشرين وسبعمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه. وكان فاضلا شافعي المذهب، وجمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد، وكان يتفقد العلماء بصلاته ويبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه. ولما توفي المؤيد داود سنة إحدى وعشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة، والله وارث الأرض ومن عليها.
ثورة جلال الدين بن عمر الاشرف وحبسه ولما ملك المجاهد علي شغل بلذاته وأساء السيرة في أهل المناصب الدينية بالعزل والاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة، وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه عمر الأشرف وزحف إليه، وكانت بينهما حروب ووقائع كان النصر فيها للمجاهد، وغلب على جلال الدين وحبسه، والله تعالى أعلم. ثورة جلال الدين ثانيا وحبس المجاهد وبيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف وبعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف وحبسه لم يزل مشتغلا بلهوه عاكفا على لذاته، وضجر منه أهل الدولة وداخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه، فرحل إلى سنة إثنتين وعشرين فخرج جلال الدين من محبسه وهجم عليه في بعض البساتين، وفتك بحرمه وقبض عليه، وبايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف واعتقل المجاهد عنده في نفر واطلق جلال الدين ابن عمه. والله تعالى أعلم بغيبه.
خلع المنصور أيوب ومقتله وعود المجاهد إلى ملكه
ومنازعة الظاهر بن المنصور أيوب له
ولما جلس المجاهد بقلعة تعز واستقل المنصور بالملك إجتمع شيعة المجاهد وهجموا على المنصور في بيته بتعز وحبسوه، وأخرجوا المجاهد وأعادوه إلى ملكه، ورجع أهل اليمن لطاعته. وكان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعمى عليه وإمتنع بها. وكتب إليه المجاهد يهدده بقتل أبيه فلج واتسع الخرق بينهما، وعظمت الفتنة وافترق عليهما الحرب، وكثر عيثهم وكثر الفساد. وبعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفا على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك وأساء الرد على أبيه. ولما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه، وإجتمع أهل الدملوة وكبيرهم الشريف ابن حمزة وبايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب، وبعث عسكرا مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها وفتحوها. وجهز المجاهد عساكره إليها مع قائده علي بن الدوادار، ولما قاربوا زبيد أصابهم سيل وبيتهم أهل زبيد فنالوا منهم وأسروا أمراءهم. واتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها، وكتب إلى والي عدن بالقبض عليه، ووقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن وحاصرها وفتحها. وخطب بها للظاهر سنة ثلاث وعشرين وملك عدن بعدها. ثم استمال صاحب صنعاء وخوص فقاموا بدعوة الظاهر، وبعث المجاهد إلى مذحج والأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه، وهو بحصن المعدية، وكتب الظاهر إلى أشراف مكة وقاضيها نجم الدين الطري بأن الأمر قد استقر له باليمن، والله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه.
وصول العساكر من مصر مددا للمجاهد واستيلاؤه على أمره وصلحه مع الظاهر
ولما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن وانتزعها من المجاهد وحاصره بقلعة المعدية، بعث المجاهد سنة أربع وعشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بن قلاوون سنة خمس وعشرين، فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب وأنيال من أمراء دولته، ووصلوا إليه سنة خمس وعشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن إلى تعز فاستأمن إليه أهلها فأمنهم وراسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة، وتحالفوا على ذلك. وطلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الذي أنشأ الفتنة بين المجاهد والظاهر فامتنع من إجابتهم فركب بيبرس وهجم عليه في خيمته وقتله بسوق الخيل بتعز وأثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حتى أطاعوا، وتمهد له الملك ورجعت العساكر إلى مصر سنة ست وعشرين، والله سبحانه ولعالى أعلم.
نزول الظاهر للمجاهد عن الدملوة ومقتله ولما استقام الأمر للمجاهد باليمن واستخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه وإحكام الوصلة به حتى اطمأن، وهو يفتل له في الذروة والغارب حتى نزل له عن الدملوة، وولى عليها من قبله، وصار الظاهر في جملته. ثم قبض عليه وحبسه بقلعة تعز. ثم قتله في محبسه سنة أربع وثلاثين، والله تعالى أعلم. حج المجاهد علي بن المؤيد داود وواقعته ميم امراء مصر واعتقاله بالكرك تم إ طلاقة ورجوعه إلى ملكه ثم حج المجاهد سنة إحدى وخمسين أيام حسن الناصري الأولى وهي السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميراً، وحج بيبقاروس الكافل الآخر مقيداً لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لأداء فرضه فأجابه وحج مقيداًً. وجاء المجاهد ملك اليمن للحج وشاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر وعساكرها لأهل اليمن. ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب اليمن فتحاربوا وانهزم وذهب سواده وركب أهل اليمن كافة، وأطلق بيبقاروس للقتال، فجلا في تلك الوقعة وأعيد إلى اعتقاله. وحمل المجاهد إلى مصر معتقلا فحبس ثم أطلق سنة إثنتين وخمسين في دولة الصالح. وبعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده. فلما إنتهى إلى الينبع ظهر عليه قشتمر بأنه يروم الهرب فرده وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه وأقام على مهاداة صاحب مصر ومصانعته إلى أن توفي سنة ست وستين لاثنتين وأربعين سنة من ملكه.
ولاية الافضل عباس بن المجاهل علي
ولما توفي المجاهد سنة ست وستين ولي بعده ابثه عباس، واستقام له ملك اليمن
إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه، والله تعالى أعلم.
ولاية المنصور محمل بن الافضل عباس
ولما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان وسبعين، ولي بعده ابنه المنصور محمد واستولى على أمره. وإجتمع جماعة من مماليكه سنة إثنتين وثمانين للثورة به وقتله، وأطلع على شانهم فهربوا إلى الدملوة، وأخذهم العرب في طريقهم وجاؤا بهم وعفا عنهم واستمر في ملكه إلى أن هلك، والله تعالى أعلم.
ولاية أخيه الأشرف بن الافضل عباس
ولما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة ولي أخوه الأشرف إسماعيل واستقام أمره وهو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست وتسعين، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
خريطة
الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك وكيف تغلبوا على الممالك الإسلامية الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك وكيف تغلبوا علي الممالك الاسلامية
وانتروا على كرسي الخلافة ببغداد وما كان لهم من الدول
المفترقة وكيف اسلموا بعد ذلك ومبدأ أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا ذكر التتر وأنهم من شعوب الترك، وأن الترك كلهم ولد كومر بن يافث
على الصحيح، وهو الذي وقع في التوراة. وتقدم لنا ذكر أجناس الترك وشعوبهم وعددنا منهم الغز الذين منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم القلج، وبلاد الصغد قريبا من سمرقند ويسون بها أيضا. وعددنا منهم الخطا والطغرغر وهم التتر، وكانت مساكن هاتين الامتين بارض طمغاج، ويقال أنها بلاد تركستان وكاشغر وما إليها من وراء النهر وهي بلاد ملوكهم في الإسلام، وعددنا منهم الخزلجية والغور والخزر والخفشاخ وهم القفجاق ويمك والعلان. ويقال الآن وجركس وأركش. وعد صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسة والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلجية والخزر والخلخ وبلغار ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر، وذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقه من أرض الروم. وجمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء النهر شرقاً إلى البحر المحيط بين الجنوب والشمال من الإقليم إلى السابع، والصين في وسط بلادهم.وكان الصين أولا لبني صيني إخوانهم من بني يافث. ثم صار لهم واستولوا على معظمه إلا قليلا من أطرافه على ساحل البحر، وهم رحالة كما مر في ذكرهم أول الكتاب، وفي دولة السلجوقية وأكثرهم في المفازة التي بين الصين وبلاد تركستان. وكان لهم قبل الإسلام دولة، ولهم مع الفرس حروب مذكورة وملكهم لذلك العهد في بني فراسيان. وكان بينهم وبين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام، فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم، وغليوهم على أطراف بلادهم وأسلم ملوكهم على بلادهم، وذلك من بعد القرن الأول. وكانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان وكاشغر، ولا أدري من ا أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك. وقد قيل فيهم أنهم من ولد فراسيان ولا يعرف شعب فراسيان فيهم، وكان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء والقاف سمة لكل من يملك منهم، مثل كسرى للفرس وقيصر
للروم. وأسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم وملكهم فأقاموا بها، وكان بينهم وبين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر بدولة بني العباس حرب وسلم إصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم ودولة بني سامان جميعا. وقام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم وملكهم فيما وراء النهر وخراسان.وقد ظهر لذلك العهد بنو شلجوق وغلبوا ملوك الترك على أمرهم وأصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة، ثم قارعوا بني سبكتكين وغلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة واستولوا على ممالك الإسلام بأسرها، وملكوا ما بين الهند ونهاية المعمور في الشمال وما بين الصين وخليج القسطنطينية في الغرب، وعلى اليمن والحجاز والشام، وفتحوا كثيرا من بلاد الروم واستفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب والخلفاء في الملة. ثم تلاشت دولتهم وإنقرضت بعد مائتين من السنين شأن الى. ول وسنة الله في العباد. وكانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان وكاشغر من أمم الترك أمة الخطا، ومن ورائهم أمة التتر ما إلى تركستان وحدود الصين. ولم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان بن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه وبين الصين، ويقطعهم على ذلك ويوقع بهم على الفساد والعيث. ثم زحف من الصين ملك الترك الأعظم كوخان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولحقت به أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان وما وراء النهر من الخانية، وهو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه. وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر، فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم. وسارت إليه أمم التتر والخطا وتواقعوا في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وانهزم سنجر وأسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك، واستولى على ما وراء النهر. ثم مات كوخان سنة سبع وثلاثين وملكت بعده بنته، ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد. ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر. ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه، ويلقب هو وأبوه بخوارزم شاه. وكان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم وفسادهم، فأجاب صريخهم وعبر النهر سنة ست وستمائة، وملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه، وأسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه وحبسه بخوارزم، وملك سائر بلاد الخطا إلى أوركندا، وأنزل بها نوابه وزوج أخته من الخان صاحب سمرقند، وأنزل معه شحنة كما كانت للخطا وعاد إلى بلاده.وثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة وقتلهم، وهم بقتل زوجته أخت خوارزم شاه وحاصره بسمرقند وإقتحمها عليه عنوة وقتله في جماعة من أقاربه، ومحا أثر الخانية وملكهم مما وراء النهر، وأنزل في سائر البلد نوابه. وكانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها وبين تركستان، وكان ملكهم كشلي خان، ووقع بينهم وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الإنتقام منهم، وزحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم، فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره وتضيق عنه قدرتهم وقدرته. وبعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له وأقام منتبذا عنهما، وقد تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه. ولم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان، وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه. وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتد عليه بهزيمة الخطا، وأنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الإعتراف وشكره. ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم، وبعث خوارزم شاه بحربهم. ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء، وكشلي خان بعذله في ذلك وهو يغالطه، واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وساغون. ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاس وفرغانة واسبيجاب وقاشان وما حولها من المدق التي لم يكن في بلاد الله أنزه منها ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين، وخرب جميعها خوفا أن يملكها التتر بعد ذلك. وخرج على كشلي خان لطائفة أخرى يعرفون بالمغل، وملكهم جنكز خان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه، وعبر النهر إلى خراسان، ونزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء التتر على ممالك خوارزم شاه فيما وراء النهر وخراسان ومهلك خوارزم شاه وتوليه محمد بن تكش ولما رحل السلطان إلى خراسان استولى على الممالك ما بينه وبين بغداد من خراسان ومازندان وباميان وغزنه إلى بلاد الهند، وغلب الغورية على ما بأيديهم. ثم ملك الري واصبهان وسائر
بلاد الجبل وسار إلى العراق، وبعث إلى الخليفة في الخطبة كما كانت لملوك بني سلجوق فامتنع الخليفة من ذلك كما مر ذلك كله في أخبار دولتهم. ثم عاد من العراق سنة ست عشرة وستمائة واستقر بنيسابور فوفدت عليه رسل جنكز خان بهدية من نقرة المعدنين ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الخطائية المنسوجة من وبر الإبل البيفى، ويخبر أنه ملك الصين وما بينها من بلاد الترك، وبطلب الموادعة والإذن للتجار بالتردد لمتاجرهم من الجانبين وكان في خطابه إطراء السلطان خوارزم شاه بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك وامتعض له وأجمع عداوته، واستدعى محمودا الخوارزمي من رسل جنكز خان واصطنعه ليكون عينا له على صاحبه، واستخبره عما قاله في كتابه من أنه ملك الصين.واستولى على مدينة طوغاج فصدق له ذلك وسأله عن مقدار العساكر فقللها وغشه في ذلك. ثم نكر عليه الخطاب بالولد. ثم صرف الرسل بما طلبوه من الموادعة والإذن للتجار، ووصل على أثر ذلك بعض التجار من بلادهم إلى أطرار وبها أنيال خان ابن خال السلطان خوارزم شاه فعثره على أموالهم، ورفع إلى السلطان أنهم عيون على البلاد وليسوا بتجار فأمره بالإحتياط عليهم ففعل، وأخذ أموالهم وقتلهم خفية. وفشا الخبر إلى جنكز خان فبعث بالنكير على السلطان في ذلك وقال له: إن كان فعله أنيال خان فابعثه إلى وتهدده على ذلك في كتابه فانزعج السلطان لها وقتل الرسل.وبلغ الخبر إلى جنكز خان فسار في العساكر إلى بلاده، وجبى السلطان من سمرقند خراج سنتين حصن به أسوار سمرقند، وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان لحمايتها. ثم سار للقاء جنكزخان فكانت بينهما واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين فكبسهم وهو غائب عنهم، ورجع خوارزم شاه إلى جيحون وأقام عليه وفرق عساكره في أعمال ما وراء النهر: بخارى وسمرقند وترمذ. وأنزل آبنايخ من أكبر أمرائه وأصحاب دولته في بخارى وجعلهم لنظره. ثم جاء جنكزخان إليه فعبر النهر مجفلا وقصد جنكز خان أطرار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها أنيال خان الذي قتل التجار فأذاب الفضة في أذنيه وعينيه. ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى خربها. ثم غدر بهم فقتلهم وسباهم وفعل مثل ذلك في سمرقند سنة تسع عشرة. ثم كتب كتبا إلى أمراء خوارزم شاه قرابة أمه كأنها أجوبة عن كتبهم إليه باستدعائه والبراءة من خوارزم، وذمه بعقوق أمه، فبسط آمالهم في كتبه، ووعد تركمان خان أم السلطان. وكانت في خوارزم فوعدها بزيارة خراسان وأن تبعث من يستخلفه على ذلك. وبعث بالكتب من يعترض بها للسلطان. فلما قرأها إرتاب بأمه وبقرابتها فاستوحشوا، ووقع التقاطع والنفرة. ولما استولى جنكز خان على ما وراء النهر، ونجا نائب بخارى في الفل أجفل السلطان وعبر جيحون، ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وتخاذل الناس، وسرح جنكز خان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا كانوا يسمونهم التتر المغربة لتوغلهم في البلاد غربي خراسان إلى بلاد القفجاق، ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يلبث بها، وارتحل إلى مازندران والتتر في أثره.ثم إنتهى إلى همذان فكبسوه هنالك وفرقوا جموعه، ونجا إلى جبال طبرستان فأقام بقرية بساحل البحر في فل من قومه. ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر إلى جزيرة في بحيرة طبرستان وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا، وأقام خوارزم شاه بالجزيرة ومرض بها ومات سنة سبع عشرة وستمائة، وعهد لابنه جلال الدين سكري. ولما بلغ خبر إجفاله إلى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت سارية واعتصمت بقلعة ايلاز من مازندران، ورجع التتر عن اتباع خوارزم شاه فافتتحوا قلاع مازندران وملكوها وملكوا قلعة أيلاز صلحا، وأسروا أم السلطان ووراته وتزوجهن التتر، وتزوج دوشي خان بن جنكز خان واحدة، وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهم في ذل وخمول. والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير التتر المغربة بعد خوارزم شاه إلى العراق وأذربيجان واستيلاؤهم عليها إلى بلاد قفجاق والروس وبلاد الخزر: ولما رجع التتر المغربة من اتباع خوارزم شاه سنة سبع عشرة عادوا إلى همذان وانتسفوا ما مروا عليه، وصانعهم أهل همذان بما طلبوه. ثم ساروا إلى سنجار كذلك، ثم إلى قومس فامتنعوا منهم وحاصروها وملكوها غلابا وقتلوا أكثر من أربعين ألفا. ثم ساروا إلى اذربيجان وصانعهم صاحب تبريز وانصرفوا إلى موقان ومروا ببلاد الكرج فاكتسحوها، وجمعوا لهم فهزموهم وأثخنوا فيهم وذلك آخر سنة سبع عشرة ثم عادوا إلى مراغة فملكوها عنوة في صفر سنة ثمان عشرة واستباحوا ورحلوا عنها إلى أربل، وبها مظفر الدين كوكبري. واستمد صاحب الموصل فأمده بالعساكر. ثم استدعاهم الخليفة الناصر إلى دقوقا للمدافعة عن العراق مع عساكره وولى عليهم مظفر الدين صاحب أربل فخام عن لقائهم وخاموا عن لقائه. وساروا إلى همذان وبها شحنتهم فامتنعوا من مصانعتهم، وقاتلوهم فملكوها عنوة واستباحوها واستلحموا أهلها ورجعوا إلى أذربيجان فملكوا أردبيل واستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز، وقد فارقها أزبك بن البهلوان إلى نقجوان فصانعوهم بالأمان وساروا إلى
بيلقان وملكوها عنوة وأفحشوا في القتل والمثلة واكتسحوا جميع الضاحية. ثم ساروا إلى كنجة قاعدة أران فصانعهم أهلها فساروا إلى بلاد الكرج فهزموهم وحاصروهم بقاعدتهم تفليس، وردهم كثرة الأوعار عن التوغل فيها. ثم قصدوا دربند شروان وحاصروا مدينة سماجي ودخلوه عنوة وملكوه واستباحوه، وأعجزهم الدربند عن المسير فراسلوا شروان في الصلح، فبعث إليهم رجالاً من أصحابه فقتلوا بعضهم وقتلوا الباقين أذلاء. وأفضوا من الدربند إلى أرض أسحمة، وبها من القفجاق واللاز والغز وطوائف من الترك مسلمون وكفار أمم لا تحصى. ولم يطيقوا مغالبتهم لكثرتهم فرجعوا إلى التضريب بينهم حتى استولوا على بلادهم. ثم اكتسحوها وأوسعوهم قتلا وسبياً ، وفر أكثرهم إلى بلاد الروس وراءهم واعتصم الباقون بالجبال والغياض. وإنتهى التتر إلى مدينتهم الكبرى سرداق على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية، وهي مادتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال. وركب أهلها البحر إلى بلاد الروم في إيالة بني قليج أرسلان. ثم سار التتر سنة عشرين وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروس المجاورة لها، وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلادهم، ومعهم جموع من القفجاق أياماً. ثم إنهزموا وأثخن فيهم التتر قتلا وسبياً ونهباً، وركبوا السفن هاربين إلى بلاد الإسلام وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر. ثم عادوا عنها وقصدوا بلغار آخر السنة. وإجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم، ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلا القليل. وارتحلوا عائدين إلى جنكز خان بأرض الطالقان، ورجع القفجاق إلى بلادهم واستقروا فيها. والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.
مسير جنكز خان إلى خراسان وتغلبه على أعمالها وعلى خوارزم شاه: كان جنكزخان بعد أن أجفل خوارزم شاه من جيحون، ومسير التتر المغربة في طلبه ملك سمرقند فبعث عسكراً إلى ترمذ، وعسكراً إلى خوارزم وعسكراً إلى خراسان. وكان عسكر خوارزم أعظمها لأنها كرسي الملك ومأوى العساكر، وبعث مع العساكر ابنه جفطاي وأركطاي فحاصروها خمسة أشهر، وامتنعت فأمدهم جنكز خان بالعساكر متلاحقة، وملكوها ناحية ناحية إلى أن استوعبوا. ثم نقبوا السد الذي يمنع ماء جيجون عنها فسال إليها
جيحون فغرقها، وتقسم أهلها بين السند والعراق، هكذا قال ابن الأثير. وقال النسابي كاتب جلال الدين: إن دوشي خان عرض عليهم الأمان وخرجوا إليه فقتلهم أجمعين، وذلك في محرم سنة سبع عشرة وعاد دوشي خان والعساكر إلى جنكز خان فوجدوه بالطالقان. وأما عسكر ترمذ فساروا إليها وملكوها وتقدموا إلى كلابة من قلاع جيجون فملكوها وخربوها، وعسكر فرغانة كذلك. وأما عسكر خوارزم فعبروا إلى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع عشرة وأنزلوا بها شحنة. ثم ساروا إلى الزوزان وأيدحور ومازندران فملكوها وولوا عليها. ثم ساروا إلى الطالقان وحاصروا قلعة صاركوه وكانت منيعة، وجاءهم جنكزخان بنفسه بعد امتناعها ستة أشهر فحاصروها أربعة أشهر أخرى. ثم أمر بنقل الخشب والتراب ليجتمع به تل يتعالى به البلد. فلما استيقنوا الهلكة فتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرقوا في البلاد والشعاب، وقتل الرجالة ودخل التتر فاستباحوها. وبعث جنكز خان عسكرا إلى سبا مع صهره قفجاق نون فقتل في حصارها ثم ملكوها فاستباحوها وخربوها .
ويقال قتل فيها أكثر من سبعين ألفاً . ثم بعث جنكزخان في العساكر إلى مدينة مرو، وقد كان الناجون من هذه الوقائع انزووا إليها فاجتمعوا بظاهرها أكثر من مائتي ألف لا يشكون في الظفر، فلما زحف إليهم التتر ولوا منهزمين وأثخنوا فيهم. ثم حاصروا البلد خمسة أشهر واستنزلوا أميرها على الأمان. ثم قتلوهم جميعاً وحضر جنكز خان قتلهم. يقال قتل فيها سبعمائة ألف. ثم ساروا إلى نيسابور فاقتحموها عنوة وقتلوا وعاثوا، ثم إلى طرابلس كذلك. ثم ساروا إلى هراة فملكوها على الأمان وأنزلوا عندهم الشحنة وعادوا إلى جنكز خان بالطالقان، وهو يرسل العساكر والسرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريباً، وذلك كله سنة سبع عشرة، والله تعالى أعلم. إجفال جلال الدين ومسير التتر في إتباعه وفراره إلى الهند: ثم بعث العساكر في طلب جلال الدين، وقد كان بعد مهلك أبيه وخروج تركمان خاتون من خوارزم سار إليها وملكها، وإجتمع إليه الناس. ثم نمي إليه أن قرابة تركمان خاتون وهم البياروتية مالوا إلى أخيه يولغ شاه وابن أختهم، وأنهم يريدون الوثوب بجلال الدين ففر ولحق بنيسابور. وجاءت عساكر التتر إلى خوارزم فأجفل يولغ شاه وأخواه ليلحقوا به بنيسابور فأدركهم التتر، وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحمهم. ثم سار إلى غزنة فلملكها من يد الثوار الذين استولوا عليها هذه الفتنة، وذلك سنة ثمان عشرة. ولحق به أمراء أبيه الذين تغلبوا على نواحي
خراسان في هذه الفتنة، وأزعجهم التتر عنها فحضروا مع جلال الدين كبسه التتر بقلعة قندهار. ولحق فلهم بجنكزخان. وبعث ابنه طولي خان لقتال جلال الدين فهزمه جلال الدين وقتله. ولحق الفل من عساكره بجنكزخان فسار في أمم التتر ولقي جلال الدين فإنهزم ولم يفلت من التتر إلا الأقل ورجع جلال الدين فنزل على نهر السند، وقد كان جماعة من أمرائه إنعزلوا عنه يوم الواقعة الأولى بسبب الغنائم فبعث إليهم يستألفهم فعاجله جنكز خان، وقاتله ثلاثاً ثم هزمه واعترضه نهر السند، فاقتحمه وخلص إلى السند بعد أن قتل حرمه أجمعين، وذلك سنة ثمان عشرة. والله تعالى أعلم.
أخبار غياث الدين بن خوارزم شاه مع التتر: كان خوارزم شاه قد قسم الملك بين ولده: فجعل العراق لغورنشاه ، وكرمان لغياث الدين تمرشاه فلم ينفذ إليها أيام أبيه. فلما فر خوارزم شاه إلى ناحية الري لقيه ابنه غورنشاه صاحب العراق. ثم كانت واقعة التترية على حدوى، ولحق خوارزم شاه بجزيرة طبرستان، ولحق غورنشاه بكرمان. ثم رجع واستولى على أصبهان وعلى الري. ثم زحف التتر إليه وحاصروه بقلعة أوند وقتلوه، وكان أخوه غياث الدين بكرمان، وملكه بينه وبين بقا طرابلسي أتابكه، وفر إلى ناحية أذربيجان. واستولى غياث الدين على العراق ومازندران وخوزستان فأقطع بقا طرابلسي همذان. ثم سار غياث الدين إلى أذربيجان فصانعه صاحبها أزبك بن البهلوان، ولحق به من كان متغلباً من أمراء أبيه بخراسان. وكان أبنايخ خان نائب بخارى قد تغلب بعد الواقعة على نسا ونوأحييا وجر جان، وعلى شيروان وعامة خراسان. وكان تكين بهلوان متغلباً على مرو فعبر جيحون سنة سبع عشرة وكبس شحنة التتر، واتبعوه إلى شيروان ولقوا أبنايخ خان على جرجان فهزموه. ونجا فلهم إلى غياث الدين على العراق والري وما وراءها في الجنوب من موكان وأذربيجان، وبقيت خوارزم طوائف، وفي كل ناحية منها متغلب، وعساكر التتر في كل وقت تدوخ بلاد العراق وغياث الدين منهمك في لذاته. والله تعالى أعلم. رجوع جلال الدين من الهند واستيلاؤه على العراق وكرمان وأذربيجان ثم زحف التتر إليه: ثم رجع جلال الدين من الهند سنة إحدى وعشرين، واستولى على ملك أخيه غياث الدين
بالعراق وكرمان، وبعث إلى الخليفة يطلب الخطبة فلم يسعف فاستعد لمحاربته. وقد كانت بلاد الري من بعد تخريب التتر المغربة لها عاد إليها بعض أهلها وعمروها فبعث إليها جنكز خان عسكراً من التتر فخربوها ثانية، وخربوا سلوة وقم وقاشان ؛ وأجفل أمامهم عسكر خوارزم شاه من همذان فخربوها واتبعوهم فكبسوهم في حدود أذربيجان. ولحق بعضهم بتبريز والتتر في اتباعهم فصانعهم صاحبها أزبك بن البهلوان، وبعث بهم إلى التتر الذين في اتباعهم بعد أن قتل جماعة منهم. وبعث برؤسهم وبالأموال على سبيل المصانعة فرجعوا عن بلاده. وسار جلال الدين إلى أذربيجان سنة إثنتين وعشرين فملكها وكانت له فيها أخبار ذكرناها في دولته. ثم بلغ السلطان جلال الدين أن التتر زحفوا من بلادهم وراء النهر إلى العراق فنهض من تبريز للقائهم في رمضان سنة خمس وعشرين، ولقيهم على أصبهان، وإنفض عنه أخوه غياث الدين في طائفة من العساكر. وإنهزمت ميسرة التتر وسار السلطان في اتباعهم وقد أكمنوا له وأحاطوا به واستشهد جماعة ؛ ثم صدق عليهم الحملة فأفرجوا له ومضى لوجهه، وانهزمت العساكر إلى فارس وكرمان وأذربيجان ورجع المتبعون للتتر من قاشان فوجدوه قد إنهزم فافترقوا أشتاتاً ولحق السلطان بأصبهان بعد ثمانية أيام، فوجد التتر يحاصرون أصبهان فبرز إليهم في عساكرها وهزمهم وأتبعهم إلى الري، وبعث العساكر في اتباعهم إلى خراسان،. ورجع إلى أذربيجان وأقام بها وكانت له فيها أخبار مذكورة في دولته. والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير التتر إلى اذربيجان واستيلاؤهم على تبريز ثم واقعتهم مع جلال الدين بآمد ومقتله: كان التتر لما استقروا فيما وراء النهر عمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض عنها، وبقيت خراسان خاوية. واستبد بالمدن فيها طوائف من الأمراء أشباه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين منذ جاء من الهند. وإنفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وأذزبيجان وأران وما إلى ذلك. وبقيت خراسان مجالا لغزاة التتر وعساكرهم وسارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين إلى أصبهان، وكانت بينهم وبين جلال الدين الواقعة كما مرّ. ثم زحف جلال الدين إلى خلاط وملكها. وزحف إليه صاحبها الأشرف بن العادل من الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم، وأوقعوا به كما مر في أخباره سنة سبع
وعشرين، الواقعة التي أوهنت منه وحلت عرى ملكه. وكان علاء الدين مقدم الإسماعيلية بقلعة الموت عدوا لجلال الدين بما أثخن في بلاده، وقرر عليه وظائف الأموال فبعث إلى التتر يخبرهم أن الهزيمة أوهنته ويحثهم على قصد،، فسار إلى أذربيجان أول سنة ثلاث وعشرين. وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فرحل من تبريز إلى موقان وأقام بها في انتظار شحنة خراسان ومازندران، وشغل بالصيد فكبسه التتر ونهبوا معسكره، وخلص إلى نهر رأس من أزان. ثم رجع إلى أذربيجان وشتى بماهان. ثم جاءه النذير بمسير التتر إليه فرحل إلى أران وتحصن بها، وثار أهل تبريز لما بلغهم خبر الوقعة الأولى بمن عندهم من عساكر الخوارزمية وقتلوهم، ومنعهم رئيسهم الطغرياني من طاعة التتر. ووصل، للسلطان جلال الدين ثم هلك قريباً فسلموا بلدهم للتتر، وكذا فعل أهل كنجة وأهل سلعار. ثم سار السلطان إلى كنجة وإرتجعها وقتل المعترضين للثورة فيها ؛ وسار إلى خلاط واستمد الأشرف بن العادل صاحب الشام فعلله بالمواعيد. وسار إلى مصر ويئس من إنجاده فبعث إلى جيرانه من الملوك يستنجدهم مثل صاحب حلب وآمد وماردين. وجرد عسكراً إلى بلاد الروم في خرت برت وملطية وأذربيجان فاقتحموها لما بين صاحبها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميع الملوك من ذلك وقعدوا عن نصرته. وجاءه الخبر وهو بخلاط أن التتر زحفوا إليه فاضطرب في رحله، وبعث أتابكه أوترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبره أن التتر رجعوا من حدود ملاذ كرد، وأشار عليه قومه بالمسير إلى أصبهان. وزين له صاحب آمد قصد بلاد الروم وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر، ووعده الإمداد بنفسه يروم الانتقام من صاحب الروم لما ملك من قلاعه فخيم إلى رأيه وعدل عن أصبهان ونزل بآمد. وبعث إليه التركمان بالنذير وأنهم رأوا نيران التتر فاتهم خبرهم. وصحبه التتر على آمد منتصف شوال سنة ثمان وعشرين وأحاطوا بخيمته، وحمل عليهم أتابكه أوترخان وكشفهم عن الخيمة. وركب السلطان وأسلم أهله وسواده، ورد أوترخان العساكر وانتبذ ليتوارى عن عين العدو. وسار أوترخان إلى أصبهان واستولى عليها إلى أن ملكها التتر من يده سنة تسع وثلاثين. وذهب السلطان منجفلاً وقد امتلأت الدربندات والمضايق بالمفسدين من غير صنوفهم بالقتل والنهب، فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع إلى قرية من قرى ميافارقين، ونزل في بيدرها وفارقه أوترخان إلى حلب. وهجم التتر على السلطان بالبيدر وقتلوا من كان معه، وهرب فصعد جبل الأكراد وهم مترصدون الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله. وشعر بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي، ودخل البيت في مغيبه بعض سفلتهم وهو يريد الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله، ولم يغن عنه أهل البيت. ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها، وملكوا مدينة أسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام، ومروا بميافارقين فامتنعت، ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها، ثم إلى سنجار وجبالها والخابور. ثم ساروا إلى أيدس فأحرقوها، ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا هاكرى وأرجيش. وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال أربل ومروا في طريقهم بالتركمان الأيوبية والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا، وخرج إليهم والي أربل مستمدا أهلها وعساكر الموصل فلم يدركوهم فعادوا وبقيت البلاد قاعاً صفصفاً. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
التعريف بجنكز خان وقسمة الأعمال بين ولده وإنفراده بالكرسي في قراقوم وبلاد الصين: هذا السلطان جنكز خان هو سلطان التتر لعهده ثم من المغل أحد شعوبهم، وفي كتاب لشهاب الدين بن فضل الله: أنه من قبيله أشهر قبائل المغل وأكبرهم،. وزايه التي بين الكاف والخاء ليست صريحة وإنما هي مشتملة بالصاد فينطق بها بين الصاد والزاي. وكان إسمه تمرجين ثم أصاروه جنكز، وخان تمام الإسم وهو بمعنى الملك عندهم. وأما نسبته فهي هكذا: بخز بن بيسوكي بن بهادرإبن تومان برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن مودنجه ؛ إحد عشر إسماً أعجمياً صعبة الضبط وهذا منحاها. وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصبهاني أمام المعقولات بالمشرق أخذها عن أصحاب نظير الدين الطوسي قال: إن مود نجه إسم امرأة وهي جدتهم من غير أب. قالوا: وكانت متزوجة وولدت ولدين اسم أحدهما بكتوت والأخر بلكتوت، ويقال لولدها بنو الدلوكية. ثم مات زوجها وتأيمت وحملت وهي أيم فنكر عليها أقرباؤها فذكرت أنها رأت بعض الأيام نوراً دخل في فرجها ثلاث مرات، وطرأ عليها الحمل
بعده. وقالت لهم: إن في حملها ثلاثة ذكور، فإن صدق ذلك عند الوضع وإلا فافعلوا ما بدا لكم. فوضعت ثلاثة توائم من ذلك الحمل فظهرت براءتها بزعمهم، إسم أحدهم: برقد والآخر قوناً والثالث نجعو، وهو جد جنكز خان الذي في عمود نسبه كما مر، وكانوا يسمونهم النوانيين نسبة إلى النور الذي إدعته. ولذلك يقولون جنكز خان ابن الشمس.
وأما أوليته فقال يحيى بن أحمد بن علي النسابي كاتب جلال الدين خوارزم شاه في تاريخ دولته: إن مملكة الصين متسعة ودورها مسيرة تسعة أشهر، وهي منقسمة من قديم الزمان على تسعة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر. ويتولى ملك كل جزء منها ملك يسمى بلغتهم خان، ويكون نائباً على الخان الأعظم. قال: وكان الأعظم الذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له طرخان توارثها عن آبائه، وكان مقيماً بطوغاج، وهي وسط الصين. وكان جنكز خان من أولئك الخانات الستة، وكان من سكان البدو ومن أهل النجدة والشرف، وكان مشتاه فارعون من بلاد الصين. وكان من خاناتهم أيضاً ملك آخر اسمه دوشي خان كان متزوجاً بزوجة جنكز خان، واتفقت وفاته فحضر جنكزخان يوم وفاة زوجها دوشي خان فولته مكانه وحملت قومها على طاعته. وبلغ الخبر إلى الخان الأعظم طرخان فنكر ذلك وزحف إليهم فقاتلوه وهزموه وغلبوه على أثر بلاده. ثم صالحهم عليها وأقام متغلباً. ثم مات بقية الخانات الستة وإنفرد جنكز خان بأمرهم جميعاً، وأصبح ملكهم، وكان بينه وبين خوارزم شاه من الحروب ما قدمناه. وفي كتاب ابن فضل الله محكياً عن الصاحب علاء الدين عطاء وحدثه به قال: كان ملك عظيم من التتر في قبيلة عظيمة من قبائلهم يدعى أزبك خان، وكان مطاعاً في قومه فإتصل به جنكز خان فقربه واستخلصه ونافسه قرابة السلطان، وسعوا به عنده حتى استفسدوه عليه وطوى له وتربص به. وسخط أزبك خان على مملوكين عنده فاستجارا بجنكز خان فأجارهما وضمن لهما أمانه، وأطلعاه على رأي السلطان فيه فاستوحش وحذر وثبة السلطان فأجفل أمامه وأتبعه السلطان في عساكره. فلما أدركه كرّ عليه جنكز خان فهزمه وغنم سواده وما معه. ثم استمرت العداوة وانتبذ عن السلطان واستألف العساكر والأتباع، وأفاض فيهم الإحسان فاشتدت شوكته، ودخل في طاعته قبيلتان عظيمتان من المغل وهما أورات ومنفورات فعظمت جموعه، وأحسن إلى المملوكين اللذين حذراه من أزبك خان، ورفع رتبتهما وكتب لهما العهود بما اختاراه، وكتب فيها أن يستمر ذلك لهما إلى تسعة بطون من أعقابهما. ثم جهز العساكر لحرب أزبك خان فهزمه، وقتله، واستولى على مملكة التتر بأسرها. ولما
توطأ أمره تسمى جنكزخان، وكان اسمه تمرجين كما مرّ. وكتب لهم كتاباً في السياسة في الملك والحروب والأحكام العامة شبه أحكام الشرائع. وأمر أن يوضع في خزانته وأن تختص بقرابته، ولم يكن يؤتى بمثله وإنما كان دينه ودين آبائه وقومه المجوسية حتى ملكوا الأرض، واستفحلت دولتهم بالعراق والشمال وما وراء النهر، وأسلم من ملوكهم من هداه الله للإسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى، فدخلوا في عداد ملوك الإسلام إلى أن انقرضت دولتهم وإنقضت أيامهم. والبقاء لله وحده.
وأما ولده فكثير وهو الذي يقتضيه حال بداوته وعصبيته، إلا أن المشهور منهم أربعة أولهم: دوشي خان ويقال جرجي، وثانيهم جفطاي ويقال كداي، وثالثهم أوكداي ويقال أوكتاي، ورابعهم طولي بين التاء والطاء. والثلاثة الأول لأم واحدة وهي أوبولي بنت تيكي من كبار المغل. وعد شمس الدين الأصبهاني الأربعة فقال: جرجى وكداي وطولي وأوكداي. وقال نظام الدين يحيى بن الحليم نور الدين عبد الرحمن الصيادي كاتب السلطان أبي سعيد، فيما نقله عنه شهاب الدين بن فضل الله: أن كداي هو جفطاي وجرجي هو طوشي. فلما ملك جنكز خان البلاد قسم الممالك فكان لولده طوشي بلاد فيلاق إلى بلغار وهي دست القفجاق، وأضاف إليه أران وهمذان وتبريز ومراغه وعيرلان وكتاي حدود آمد وقوباق، وما أدري تفسير هذه، وجعله ولي عهده. وعين لجفطاي من الأيقور إلى سمرقند وبخارى وما وراء النهر، ولم يعين لطولي شيئاً. وعين لأخيه أوتكين نوى بلاد أبخت، ولا أدري معنى هذا الإسم. ولما استفحل ملكه واستولى على هذه الممالك جلس على التخت، وإنتقل إلى وطنه القديم بين الخطا والأيقور، وهي تركستان وكاشغر. وفي ذلك الوطن مدينة قراقوم وبها كان كرسيه ومكانه بين أعمال ولده مكان المركز من الدائرة. وكان كبير ولده طوشي ويقال دوشي ومات في حياته، وخلف من الولد ناخوا وبركة وداوردة وطوفل، هكذا قال ابن الحكيم. وقال شمس الدين: ناظو وبركة فقط. ومات طولي أيضاً في حياته في حربه مع جلال الدين خوارزم شاه بنواحي غزنة وخلف من الولد منكو قبلاي وأزبيك وهلاكو. والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم.
خريطة
المجلد الخامس من صفحة 343- 412 وقائع مع الإفرنج وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الإفرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال دمشق، واكتسحها وأثخن فيها قتلا وسبيا. وأرسل صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه في العسكر لمدافعته فسار يطلبهم، ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال. ونصر الله المسلمين، وقتل جماعة من زعماء الإفرنج منهم هنغري، وكان يضرب به المثل. ثم أغار البرنس صاحب أنْطاكِية واللاذقية على صرح المسلمين بشيزر، وكان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الإفرنج بمخاضة الأضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه، وناصر الدين محمد إلى حمص لحماية البلد من العدو، كما نذكره إن شاء الله تعالى. تخريب حصن الإفرنج: كان الإفرنج قد اتخذوا حصناً منيعاً بقرب بانياس، عند بيت يعقوب عليه السلام، ويسمى مكانه مخاضة الأضرار فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس سنة خمس وسبعين، وأقام بها، وبث فيها الغارات على بلادهم. ثم سار إلى الحصن فحاصره ليختبره، وعاد عنه إلى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد الإفرنج للغارة. وجاء ملك الإفرنج للغارة على سريته، ومعه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون، فهزم الإفرنج وأثخن فيهم. ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم، وكان رديف ملكهم. وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية، ومقدم الفداوية، ومقدم الاساتارية وغيرهم من طواغيتهم. وفادى صاحب الرملة نفسه وهو أرتيرزان بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير من المسلمين. وأبلى في هذا اليوم عز الدين فرخشان ابن أخي صلاح الدين بلاء حسنا. ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس وبث السرايا في بلاد الإفرنج، وسار لحصار الحصن فقاتله قتالا شديدا. وتسنم المسلمون سوره حتى ملكوا برجا منه. وكان مدد الإفرنج بطبرية، والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور، وأضرموا فيه النار فسقط. وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين، وأسروا كل من فيه. وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فألحق بالأرض، وبلغ الخبر إلى الإفرنج، وهم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا وانهزم الإفرنج، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفتنة بين صلاح الدين وقليج أرسلان صاحب الروم:
كان حصن رعبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وهو بيد شمس الدين ابن المقدم. فلما انقطع حصن رعبان عن إيالة صلاح الدين وراء حلب، طمع قليج أرسلان في استرجاعه فبعث إليه عسكرا يحاصرونه. وبعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عساكر لمدافعتهم فلقيهم وهزمهم، وعاد إلى عمه صلاح الدين. ولم يحضر معه تخريب حصن الأضرار. وكان نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود، صاحب حصن كيفا وآمد وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بسبب اضراره ببنته وزواجه عليها. واعتزم قليج أرسلان على حربه وأخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين، وبعث إلى قليج أرسلان يشفع في شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة. ولج في ذلك صلاح الدين على قليج، وسار إلى رعبان ومرّ بحلب فتركها ذات الشمال، وسلك على تل باشر. ولما انتهى إلى رعبان جاءه نور الدين محمود وأقام عنده. وأرسل إليه قليج أرسلان يصف فعل نور الدين وإضراره ببنته. فلما أدّى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين، وتوعدهم بالمسير إلى بلده فتركه الرسول حتى سكن. وعدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو ونفقة الأموال في هذا الغرض الحقير، وأن بنت قليج أرسلان يجب على مثلك من الملوك الامتعاض لها، ولا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله. وقال للرسول إنّ نور الدين استند إلى فعلك فاصلح الأمر بينهما، وأنا معين على ما تحبونه جميعا ففعل الرسول ذلك وأصلح بينهما. وعاد صلاح الدين إلى العام، ونور الدين محمود إلى ديار بكر، وطلق ضرة بنت قليج أرسلان بالأجل الذي أجله للرسول، والله تعالى أعلم.
مسير صلاح الدين إلى بلاد ابن اليون:
كان قليج بن اليون من ملوك الأرض صاحب الدروب المجاورة لحلب، وكان نور الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشام. وكان يعسكره معه، وكان جريئاً على صاحب القسطنطينية. وملك وادقة والمصيصة وطرطوس من يد الروم، وكانت بينهما من أجل ذلك حروب. ولما توفي نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده، وكان التركمان يحتاجون إلى رعي مواشيهم بأرضه على حصانتها وصعوبة مضايقها. وكان يأذن لهم فيدخلونها. وغدر بهم في بعض السنين
واستباحهم واستاق مواشيهم. وبلغ الخبرإلى صلاح الدين منصرفه من رعبان فقصد بلده، ونزل النهر الأسود. وبث الغارات في بلادهم واكتسحها، وكان لابن إليون حصن، وفيه ذخيرته فخشي عليه فقصد تخريبه. وسابقه إليه صلاح الدين فغنم ما فيه، وبعث إليه ابن اليون برد ما أخذ من التركمان وإطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه. فأجابه إلى ذلك وعاد عنه في منتصف سنة خمس وسبعين، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. غزوة صلاح الدين إلى الكرك: كان البرنس أرناط صاحب الكرك من مردة الإفرنج وشياطينهم، وهو الذي اختط مدينة الكرك وقلعتها، ولم لكن هنالك. واعتزم على غزو المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وسمع عز الدين فرخشاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار إلى الكرك سنة سبع وسبعين، واكتسح نواحيه، وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله، وعاد إلى الكرك. فعاد فرخشاه إلى دمشق ؛ والله تعالى أعلم بغيبه. مسير سيف الإسلام طغركين في أيوب إلى اليمن والياً عليها: قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن، واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين. وأنه ولي على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر، وعنى عدن عز الدولة عثمان الزنجبيلي، واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها كرسيا لملكه. ثم عاد إلى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفاً من حصار حلب فولاه على دمشق، وسار إلى مصر. ثم ولأه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الاسكندرية، وأقطعه إياها مضافة إلى أعمال اليمن. وكانت الاموال تحمل إليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن. ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية، وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه صلاح الدين. ولما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر، واستخلف على دمشق عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه. وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبه بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع إلى وطنه، واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء.واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى اذا مات بقي في خدمة صلاح الدين. وكان محشدا فسعى فيه عنده أنه احتجز
أموال اليمن، ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه. وكان ينزل بالعدوية قرب مصر، فصنع في بعض الأيام صنيعاً دعي إليه أعيان الدولة، واختلف مواليه وخدامه إلى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين أنه هارب إلى اليمن. فتمت حيلتهم فقبض عليه. ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعطى لأهل الدولة فأطلقه، وأعاده إلى منزلته فلما بلغ شمس الدين إلى اليمن اختلف نوابه بها: حطان بن منقذ، وعثمان بن الزنجبيلي. وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من أمرائه إلى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه. فساروا لذلك سنة سبع وسبعين، واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ. ثم مات قريبا فعاد حطان إلى زبيد وأطاعه الناس، وقوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان إلى صلاح الدين أن يبعث قرابته فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين، فسار إلى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد، وبعث إلى حطان بالأمان فنزل إليه وأولاه الإحسان. ثم طلق اللحاق بالشام فمنعه. ثم ألح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله، وجاء ليودّعه قبض عليه واستولى على ما معه. ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به. ويقال كان فيما أخذه سبعون حملا من الذهب. ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه، وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام. وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها. ولم يخلص إلا بما كان معه في طريقه، وصفا اليمن لسيف الإسلام، والله تعالى أعلم.
دخول قلعة البيرة في ايالة صلاح الدين وغزوة الإفرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيق و ا لغرر و بيروت: كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن أرتق، وهو ابن عم قطب الدين أبي الغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام. ثم مات وملك البيرة بعده إبنه. ومات نور الدين فصار إلى طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وتع، وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له، فسار قطب الدين في عسكره إلى قلعة شميشاط وأقام بها وبعث العسكر إلى البيرة وحاصرها. وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه،
وشغل عنه بأمر الإفرنج.ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين وأعطاه طاعته،وعاد في ايالته. ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرمّ سنة ثمان وسبعين قاصدا الشام ومرّ بايله وجمع الإفرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق، ومال عن بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشويك، وعاد إلى دمشق منتصف صفر. وكان الإفرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها، واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلاً وسبيا وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسرّ بذلك ثم أراح صلاح بدمشق أياماً وسار في ربيع الأول من السنة، وقصد طبرية وخيم بالأردن. واجتمعت الإفرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة واستباحها. وأغار على الغور فأثخن فيها قتلا وسبياً. وسار الإفرنج من طبرية إلى جبل كوكب، وتقدّم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصنوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الإفرنج قتالاً شديداً. ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين إلى دمشق. ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها، وكان قد استدعى الاسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أياماً. ثم بلغه أن البحر قد قذف بدمياط مركبا للافرنج فيه جماعة منهم جاؤا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط، وأسر منهم ألف وستمائة أسير، ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره إن شاء الله تعالى.
مسير صلاح الدين إلى الجزيرة واستيلاؤه على حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار ا لموصل: كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستوليا في دولة مودود وبنيه، وانتقل آخراً إلى إربل ومات بها. وأقطعه عز الدين صاحب الموصل إبنه مظفر الدين، وكان هواه مع صلاح الدين يؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت، وأطمعه في البلاد، واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت موريا بحلب، وقصد الفرات، ولقيه مظفر الدين وساروا إلى البيرة، وقد دخل طاعة عز الدين. وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته. فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل، وبعثوا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين
ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها بالوعد والمغاربة ووعد نور الدين محمودا صاحب كيفا أنه يملكه آمد. ووصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها، وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفراني. واشتدّ عليه القتال فأستأمن إلى صلاح الدين وملكه المدينة، وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذي بها على مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران وساروا إلى الرقة، وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها إلى الموصل، وملكها صلاح الدين. ثم سار إلى قرقيسيا وماسكين وعربان، وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها. وسار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها، وحاصر القلعة أياما ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين. ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزما على قصد الموصل. وجاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على نواحي دمشق، واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب جامع داريا فتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل، وقد جمع صاحبها العساكر و استعدّ للحصار ، وخلى نائبه في الاستعداد.وبعث إلى سنجار وإربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالامداد من الرجال والسلاح والأموال، وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها، وتقدّم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد صاحب البلد، وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فانهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل. ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره، ونزل عليه أوّل رجب على باب كندة ، وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي، وقاتلهم فلم يظفر. وخرج بعض الرجال فنالوا منه. ونصب منجنيقاً فنصبوا عليه من البلد تسعة. ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير. وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لأنه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون.وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم وقد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح. وتردّدت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين ردّ ما أخذه من بلادهم أجاب على أن يمكنوه من حلب فامتنع، فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضاً. ثم وصلت أيضا رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين. صاحب خلاط في الصلح فلم يتم، وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل، وسار إليها، وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عساكر. وبعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر أخر مدداً وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها، واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته.وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج
عسكره معه إلى الموصل. وملك صلاح الدين سنجار، وولىّ عليها سعد الدين بن معين الدين الذي كان أبوه عند كامل بن طغركين بدمشق. وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة. وسار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم، واستصحبه معه، وسار إلى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين. وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه، والله أعلم. مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل: كان عز الدين قد أرسل إلى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث إليه عدة رسل شافعا في أمره فلم يشفعه، وغالطه فبعث إليه مولاه آخراً سيف الدين بكتمر، وهو على سنجار يسأله في الافراج عنها فلم يجبه إلى ذلك. وسوّفه رجاء أن يفوتها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه، وفارقه مغاضبا ولم يقبل صلته، وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط إلى ماردين، وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته، وهو قطب الدين نجم الدين. وسار إليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل. وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار. وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقيّ الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة، ورحل إلى رأس عين فافترق القوم، وعاد كل إلى بلده. وقصد صلاح الدين ماردين فأقام عليها عدة أيام ورجع، والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه. واقعة الإفرنج في بحر السويس: كان البرنس أرناط صاحب الكرك قد أنشأ أسطولا مفصلأ، وحمل أجزاءه إلى صاحب ايلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة، وقذفه في السويس، وشحنه بالمقاتلة،وأقلعوا في البحر. ففرقة أقاموا على حصن أيلة يحاصرونه، وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز، وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار. وطرق الناس منهم بلية لم يعرفونها لأنه لم يعهد ببحر السويس افرنجيّ محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائبا عن أخيه صلاح الدين فعمر أسطولا وشحنه بالمقاتلة، وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الأساطيل بديار مصر، فبدأ بأسطول الإفرنج الذي يحاصر ايلة فمزقهم كل ممزّق.وبعد الظفر بهم اقلع في طلب الآخرين وانتهى إلى عيذاب فلم يجدهم فرجم إلى رابغ وأدركهم بساحل
الحوراء، وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والاغارة على الحاج. فلما أطلّ عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسنموا إليها، واعتصموا بشعابها. ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم، وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم إلى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين إلى مصر، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء.
وفاة فرخشاه: ثم توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق، وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه. وخرج من دمشق غازيا الإفرنج وطرقه المرض. وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين. وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الجزيرة والموصل، فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق وجعله نائبا فيها واستمرّ لشأنه، والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده. استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب كيفا: قد تقدّم لنا مسير صلاح الدين إلى ماردين وإقامته عليها أيام من نواحيها، ثم ارتحل عنها إلى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة، وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها، وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء، وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكاسبهم. وكتب إليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه، ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان، وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل إليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرحلة، فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين.وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل إليها ذخيرته فلم يلتفت الناس إليه، وتعذر عليه أمره فبعث إلى صلاح الدين يسأله الإعانة فأمر له بالدواب والرجال، فنقل في الأيام الثلاثة كثيراً من موجوده . ومنع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي. ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها لنفسه فأبى. وقال: ما
كنت لأعطي الأصل وأبخل بالفرع، ودخل نور الدين البلد، ودعا صلاح الدين وأمراءه إلى صنيع صنعه لهم، وقدّم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم، وعاد صلاح الدين، والله تعالى أعلم.
استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب: ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار إلى أعمال حلب فحاصر تل خالد، ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرم سنة تسع وسبعين. ثم سار إلى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسمعيل الذي كان خازن نور الدين العادل وصاحبه. وهو الذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرّها بيده، ويكون في طاعته فأجابه إلى ذلك وحلف له. وسار في خدمته، وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم: فمنها في البحر سار أسطول مصر، فلقي في البحر مركبا فيه نحو ستمائة من الإفرنج بالسلاح والأموال قاصدون الإفرنج بالشام فظفروا بهم، وغنموا ما معهم، وعادوا إلى مصر سالمين. ومنها في البرّ أغار الدارون جماعة من الإفرنج، ولحقهم المسلمون بأيلة واتبعوهم إلى العسيلة، وعطش المسلمون فأنزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا. وقاتلوا الإفرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم، واستقاموا معهم وعادوا سالمين إلى مصر، والله أعلم. استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم: كان الملك الصالح إسمعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب، لم يبق له من الشام غيرها، وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين، وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبه مجاهد الدين قايمان إليها فملكها. طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار فأجابه إلى ذلك، وأخذ عز الدين سنجار، وعاد إلى الموصل. وسار عماد الدين إلى حلب فملكها، وعظم ذلك على صلاح الدين، وخشي أن يسير منها إلى دمشق. وكان بمصر فسار إلى الشام، وسار منها إلى الجزيرة، وملك ما ملك منها وحاصر الموصل، ثم حاصر آمد وملكها. ثم سار إلى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب. ثم سار إلى حلب وحاصرها في محرّم سنة تسع وسبعين، ونزل الميدان الأخضر أياما. ثم انتقل إلى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال
ويراوحها، وطلب عماد الدين جنده في العطاء، وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين. وأرسل إليه في ذلك الأمر طومان الباروقي، وكان يميل إلى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور، وينزل له عن حلب. وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة إلى هذه البلاد. ودخل صلاح الدين حلب بعد أن شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد. ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف، وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر، أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح، وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد. ولما ملك صلاح الدين حلب سار إلى قلعة حارم، وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل، وكان عليها إبنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده، وتردّدت الرسل بينهم وهو يمتنع، وقد أرسل إلى الإفرنج يدعوهم للانجاد، وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه. واستأمنوا إلى صلاح الدين فملك الحصن، وولىّ عليه بعض خواصه. وقطع تل خالد الباروقي صاحب تل باشر. وأمّا قلعة إعزاز فأنّ عماد الدين اسمعيل كان خربها فأ قطعها صلاح الدين سليمان بن جسار وأقام بحلب إلى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها، وسار إلى دمشق والله تعالى أعلم.
غزوة بيسان: ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولىّ عليها إبنه الظاهر غازي، ومعه الأميرسيف الدين تاوكج كافلا له لصغره، وهو أكبر الأمراء الأسدية. وسار إلى دمشق فتجهز للغزو، وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر، وقصد بلاد الإفرنج فعبر الأردن منتصف،سبع سبعين وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وأحرقها، وأغار على نواحيها واجتمع الإفرنج له. فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا إلى جبل وخندقوا عليهم، وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم، وأغاروا على تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا إلى بلادهم، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
غزو الكرك وولاية العادل على حلب: ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر، واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك، وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يجيء بأهله وماله فوافاه على الكرك، وحاصروه أياما وملكوا أرباضه، ونصبوا عليها المجانيق، ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أنّ الإفرنج يدافعون عنه، فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقيّ الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل معه إلى دمشق فولاه مدينة حلب ومدينة منبج وما إليها، وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة. واستدعى ولده الظاهر غازي من حلب إلى دمشق.ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد أن جمع العساكر، واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعد لحصاره، ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون، وبقي الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعاً. وراموا طمه فنضحوهم بالسهام، ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها إلى الخندق. وأرسل أهل الحصن إلى ملكهم يستمدّونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الإفرنج وأوعبوا وساروا إليهم فرحل صلاح الدين للقائهم، حتى انتهى إلى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم إلى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ، ومرّوا إلى الكرك. وعلم صلاح الدين أنّ الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه وسار إلى نابلس فخربها وحرقها وسار إلى سنطية وبها مشهد زكرياء عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين، ورحل إلى جينين فنهبها وخربها. وسار إلى دمشق بعد أن بث السرايا في كل ناحية، ونهب كل ما مرّ به، وامتلأت الأيدي من الغنائم وعاد إلى دمشق مظفراً والله تعالى أعلم. حصار صلاح الدين الموصل: ثم سار صلاح الدين من دمشق إلى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان، وعبر الفرات. وكان مظفر الدين كوكبري علي كجك يستحثه للمسير إلى الموصل في كل وقت، وربما وعده
بخمسين ألف دينار إذا وصل. فلما وصل إلى حران لم يف له فقبض عليه.، ثم خشي معيرة أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها. وسار في ربيع الأول، ولقيه نور الدين صاحب كيفا، ومعز الدين سنجار شاه صاحب جزيرة ابن عمر، وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبه. وساروا كلهم مع صلاح الدين إلى الموصل، وانتهوا إلى مدينة بلد فلقيه هنالك أمّ عز الدين، وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظنا بأنه لا يردهنّ، وسيما بنت نور الدين.واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردّهنّ وساروا إلى الموصل وقاتلوها، واستمات أهلها وامتعضوا لردّ النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في إشارتهم. وجاء زين الدين يوسف صاحب إربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فأنزلهما بالجانب الشرقي. وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية إلى أن عاد صلاح الدين عن الموصل، وبلغ عز الدين أنّ نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها، وانحرف عنه إلى الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه.ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها، وأنه يستعين بها على أموره. ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل إليها، وكان أهل خلاط إنما كاتبوه مكرا لأنّ شمس الدين البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم، بعد أن كان زوّج ابنته من شاهرين على كبره، وجعل ذلك ذريعة إلى ملك خلاط. فلما سار إليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالاخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه، ومظفر الدين صاحب إربل وغيرهما. وتقدّموا إلى خلاط وتقدّم صاحب أذربيجان فنزل قريباً من خلاط. وترددّت على أهل خلاط بينه وبين البهلوان، ثم خطبوا للبهلوان، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
استيلاء صلاح الدين على ميافارقين: ولما خطب أهل خلاط للبهلوان، وصلاح الدين على ميافارقين، وكانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي، وملك إبنه طفلا صغيرا بعده، ورّد أمرها إلى شاهرين صاحب خلاط. وأنزل بها عساكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين، وحاصرها من أوّل جمادي سنة إحدى
وثمانين، وعلى أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع، وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه، وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأنّ برنيقش قد مال إليها في تسليم البلد، ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوّج بناتك من أبنائي، وتكون البلد لنا. ووضع على برنيقش من أخبره بأن الخاتون مالت إلى صلاح الدين، وأنّ أهل خلاط كاتبوه.وكان خبر أهل خلاط صحيحا فسقط في يده، وبعث في التسليم على شروط اشترطها من إقطاع ومال. وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون. وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد إلى الموصل، ومرّ بنصيبين، وانتهى إلى كفر أرمان، وأعتزم على أن يشتوا به، ويقطع جميع ضياع الموصل ويحيي أعمالها، ويكتسح غلاتها. وجنح مجاهد الدين إلى مصالحته وتردّدت الرسل في ذلك على أنّ يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي، وما وراء الزاب من الأعمال.ثم طرقه المرض فعاد إلى حران وأدركه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فانعقد هنالك، وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران، وكان عنده أخوه العادل، وبيده حلب، وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين. واشتدّ به المرض فقسم البلاد بين أولاده، وأوصى أخاه العادل على الجميع. وعاد إلى دمشق في محرّم سنة إثنتين وثمانين، وكان عنده بحران ناصر الدين محمد بن عمه شيركوه، ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله إلى حمص، ومرّ بحلب، وصانع جماعة من أمرائها على أنّ يقوموا بدعوته أن حدث بصلاح الدين أمر. وبلغ إلى حمص فبعث إلى أهل دمشق بمثل ذلك، وأفاق صلاح الدين من مرضه، ومات ناصر الدين ليلة الأضحى، ويقال دسّ عليه من سمه وورث أعماله إبنه شيركوه، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، والله تعالى أعلم.
قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه: كان إبنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل، وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقيّ الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه، بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مرّ. فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحدا من ولده استقلالا، وسعى إليه بذلك بعض بطانته. فبعث إبنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب. ثم اقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة، وترك عثمان إبنه بمصر. ثم بعث عن إبنه الأفضل وتقيّ الدين ابن أخيه فامتنع تقيّ الدين من الحضور، واعتزم على المسير إلى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس، والجريد من افريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه. ولما وصل
اقطعه حماة ومنبج والمعرة وكفرطاب وجبل جوز وسائر أعمالها. وقيل إن تقيّ الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرّك في طلب الأمر لنفسه، وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري، وكان مطاعا فيهم وأمره بإخراج تقيّ الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة. وأمر تقيّ الدين بالخروج فأقام خارج البلد، وتجهز للمغرب فراسله صلاح الدين إلى آخر الخبر، والله تعالى أعلم.
اتفاق القمص صاب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره إياه والاغارة على عكا: كان القمص صاحب طرابلس، وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوّج بالقومصة صاحبة طبرية، وانتقل إليها فأقام عندها، ومات ملك الإفرنج بالشام وكان مجذوما كما مرّ، وأوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله هذا القمص، وقام بتدبير ملكه لعظمه فبهم، وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك. ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه، ويئس القمص عندها مما كان يحدّث به نفسه. ثم أن الملكة تزوجت ابن غتم من الإفرنج القادمين من المغرب، وتوّجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاستبارية والداوية واليارونية، وأشهدتهم خروجها له عن الملك. ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبيّ فأنف وغضب، وجاهر بالشقاق لهم. وراسل صلاح الدين وسار إلى ولايته وخلف له على مصره من أهل ملته. وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته. وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم. وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الإفرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين، وذلك كله سنة إثنتين وثمانين.وكان البرنس أرناط صاحب الكرك من أعظم الإفرنج مكرا وأشدّهم ضررا. وكان صلا الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الآمّين.ثم مرّت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم، وبعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله إن ظفر به، واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة وإربل ومصر والشام. وخرج من دمشق في محرّم سنة ثلاث وثمانين وانتهى إلى رأس الماء. وبلغه أنّ البرنس أرناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام، وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع إبنه الأفضل علي، وسار إلى بصرى.
وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج، ووصل الحاج سالمين.وسار صلاح الدين إلى الكرك، وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشويك فاكتسحوهما. والبرنس محصور بالكرك، وقد عجز الإفرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين. ثم بعث صلاح الدين إلى إبنه الأفضل فأمره بإرسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها، فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الياروقي، وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاستبارية فبرزوا إليهم. وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين، وانهزم الإفرنج، وقتل مقدمهم، وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين. ومرّا بطبرية، وبها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه وبين صلاح الدين من الولاية، وعظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد، والله تعالى أعلم.
هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا: ولما إنهزم الفداوية والإستبارية بصفورية، ومرّ المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية، ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذي مع إبنه، ومرّ بالكرك، واعتزم على غزو بلاد الإفرنج فاعترض عساكره وبلغه أن القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه. وأنّ البطرك والقسيس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته للمسلمين، ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم. ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوية والاستبارية أعيان الملة، وتهددوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه، واعتذر إليهم فقبلوا عذره، وخلص لكفره وطواغيته فجددوا الحلف والاجتماع. وساروا بن عكا إلى صفورية، بلغ الخبر إلى صلاح الدين. وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا. ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الذين واستعجل لقاءهم.ثم رحل من الأقحوانه أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية، وتقدم إلى معسكر الإفرنج فلم يفارقوا خيامهم. فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر فسار إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها. وإمتنع أهلها بالقلعة، ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص، وعمد إلى الصلح. وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين، فنكر عليه البرنس صاحب الكرك وإتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين. واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر، وعاد صلاح الدين إلى معسكره، وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم. واشتدت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين.ثم حمل القمص على
ناحية تقيّ الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف، وخلص من تلك الناحية إلى منجاته، واختلّ مصاف الإفرنج، وتابعوا الحملات. وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم ناراً فجهدهم لفحها، ومات جلهم من العطش فوهنوا، وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط، والسيف يجول فيهم مجاله حتى فني أكثرهم، ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم. والمسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل، وابن هنفري، ومقدم الفداوية، وجماعة من الفداوية والإستبارية. ولم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة.ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرّع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك، وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصاً على الوفاء بنذره بعد أن عرّفه بغدرته، وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين، وحبس الباقين. وأما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده، ثم مات لأيام قلائل أسفاً. ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها، وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها. وجمع أسرى الفداوية والإستبارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين ديناراً مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين.قال ابن الأثير: ولقد إجتزت بمكان الواقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أجحفتها السيول ومزقتها السباع. ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها، واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار، وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل، فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث وثمانين. وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخلوهم، فكانت أوّل جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه. وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل، وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع. ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيراً مما عجز الإفرنج عن حمله، وقسم الباقي على أصحابه. ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين. ثم أقام صلاح الدين أياماً حتى أصلح أحوالها ورحل عنها، والله تعالى أعلم.
فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا: لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسيرإلى جهات
الإفرنج من جهات مصر، فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه، ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيساريه وحيفا وسطورية وبعلبك وشقيف وغيرها في نواحي عكا، فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سبطية مدينة الأسباط، وبها قبر زكريا عليه السلام. ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم.وبعث تقيّ الدين عمر ابن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها وحاصرها وضيق عليها، حتى استأمنوا فأمنهم وملكها. ومرّ إلى صيدا ومرّ في طريقة بصرخد فملكها بعد قتال. وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادي الأولى من السنة. ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أنّ المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك، فلم يستقرّوا ولا قدروا على تسكين الهيعة لكثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه. وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها. وكان صاحب جبيل أسيراً بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أنّ يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت، وسلم الحصن وأطلقه، وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم، والله تعالى أعلم.
وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها: كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين. فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك، ولحق ببلده طرابلس. وبقيت صيدا وصور بدون حامية، وجاء المركيش من نجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوّة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها. وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها، وأن صور وعسقلان باقية للإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسى. ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور.
وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه فلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطاً كثيرة من فل الحصون المفتتحة، فجاؤا إليه وضمن لهم حفظ المدينة، وبذل أمواله في الانفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره واستحلفهم على ذلك. ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورم الأسوار واستبدّ بها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتح عسقلان وما جاورها: ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف همته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس، ولأن عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان، ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر. ونازلها أوائل جمادى الأخيرة. استدعى ملك الإفرنج ومقدّم الراية، وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما أمرهما بالإذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك، أساؤا الردّ عليهما فاشتدّ في قتالهم ونصب المجانيق عليهم، وملكهم يردّد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق ويأخذ بالثأر من المسلمين فلم يجيبوه ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها، كان أهمها عندهم أن يمنعهم من الهراسة لما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه. وملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوماً من حصارها، وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم والبطرون، وكل ما كان للفداوية. وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب، وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس، ويغنم جميع ما يقصده من النواحي، والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره. فتح القدس ولما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس، وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران صاحب الرملة ؛ وربيسة قريبة الملك، ومن نجا من زعمائهم من حطين، وأهل البلد المفتتحة عليهم، وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين. وبعد الصريخ وأكثروا الإستعداد ونصبوا المجانيق من داخله، وتقدّم إليه أمير من المسلمين فخرج إليها الإفرنج فأوقعوا
به وقتلوه في جماعة ممن معه، وفجع المسلمون بقتله. وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب، وهالهم كثرة حاميته، وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوّأ عليه للقتال، حتى إختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون يتحوّل إليه. ونصب المجانيق عليها، واشتدّ القتال، وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق.وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران، وأبوه صاحب قلعة جعبر فأسف المسلمون لقتله، وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم بالبلد، وملكوا عليهم الخند ق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين فأبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أوّل الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فأستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة، وخرج إليه وشافهه بالاستئمان. واستعطفه فأصرّ على الامتناع فتهددّه بالإستماتة، وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة، واستلحام أسرى المسلمين، وكانوا خمسة آلاف أسير، واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر وغيره.فحينئذ استشار صلاح الدين أصحابه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، ودينارين للولد صبي أو صبية، وعلى أجل أربعين يوماً فمن تأخر أداؤه عنها فهو أسير، وبذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل ملته ثلاثين ألف دينار. وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره، وكان يوماً مشهوداً. ورتب على أبواب القدس الأمناء لقبض هذا المال، ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى، وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإنّ الإفرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أنّ بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينارعلى ثمانية عشر ألفاً، وعجز منهم ستة عشر ألفاً، وأخرج جميع الأمراء خلقاً لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة. واستوهب آخرون جموعاً منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم. وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم. وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها، وكان محبوساً بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها، ولم يحصل من القطيعة على خراج. وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع، ولم يتعرض له. وجاءته امرأة البرنس صاحب الكرك الذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها، وكان أسيراً فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب. وتسلق جماعة من المسلمين إليه واقتلعوه، وإرتجت الأرض بالتكبير والعويل. ولما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين بردّ مشاعره إلى أوضاعها القديمة، وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأوّل. وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الاقذار فطهرا. ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة، وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين، وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظمة الإسلام أقشعرت لها الجلود، وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالاً .ثم أقام صلاح الدين بالمسجد الصلوات الخمس إماماً وخطيباً، وأمر بعمل المنبر له فتحدّثّوا عنده بأنّ نور الدين محمود إتخذ له منبراً منذ عشرين سنة، وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى. ثم أمره بعمارة المسجد وإقتلاع الرخام الذي فوق الصخرة، لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتاً ويبعونها بالذهب وزناً بوزن. فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه. ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القرّاء، ووفر لهم الجرايات. وتقدّم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى. وإرتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن، واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا، والله تعالى أعلم.
حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك : لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله، ثم رحل إلى مدينة صور، وقد إجتمع فيها من الإفرنج عوالم وقد نزل بها المركيش وضبطها. ولما إنتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياماً فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق وإصلاح الأسوار، وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها ؛ فوصل جانب اليمين بالشمال وصارت كالجزيرة. وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال، وجعل القتال على أقيال عسكره نوباً بين إبنه الأفضل وإبنه الظاهر وأخيه
العادل وابن أخيه تقي الدين، ونصب عليها المجانيق والعرادات وكان الإفرنج يركبون في الشواني و الحراقات ويأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر، ويقاتلونهم ويمنعونهم من الدنّو إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا، فجاء ودافع الإفرنج. وتمكن المسلمون من قتال الأسوار وحاصروها براً وبحراً. ثم كبس أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم ورّد صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج، فلما أرهقوهم في الطلب القوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها، وجد في حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها، واستدعوها الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر، وأقاموا في انتظارهم.ولما رأى صلاح الدين إمتناعها شاور أصحابه في الرحيل فترددّوا، وتخاذلوا في القتال فرحل آخر شوال إلى عكا وأذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى فصل الربيع. وعادت عساكر الشرق والشام ومصر، وأقام بقلعة عكا في خواصه، وردّ أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين. وكان صلاح الدين عندما اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكراً لحصار صور فشددوا حصارها وقطعوا عنها الميرة، وبعثوا إلى صلاح الدين وهو بحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها فملكها وكان أيضاً صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكراً لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها، وهي مطلة على الأردن، وهي للإستبارية. وجهز عسكراً لحصار صفد، وهي للفداوية مطلة على طبرية. ولجأ إلى هذبن الحصنين من سلم من وقعة حطين، وامتنعوا بهما. فلما جهز العساكر إليهما صلحت الطريق وإرتفع منها الفساد. فلما كان آخر ليلة من شوّال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب، وكانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الإفرنج، ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم. وبلغ ذلك صلاح الدين، وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته. ثم جهز عسكراً على صور مع الأمير قايماز النجمي، وإرتحل إلى عكا فلما إنصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب . فحاصرها، وامتنعت عليه ولم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها وكير صفد والكرك. فلما إمتنعت عليه جهز العساكر لحصارها مع قايماز النجمي، ورحل عنها في ربيع الأول إلى دمشق ووافته رسل أرسلان وفرح الناس بقدومه، والله تعالى وليّ التوفيق.
غزو صلاح الدين إلى سواحل الشام وما فتحه من حصونها وصلحه آخرا مع صاب أنْطاكِية: لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق، ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشام وأعمال أنْطاكِية، وسار عن دمشق في ربيع سنة أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الأطراف فاجتمعوا إليه. وسار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك، ودخل متجرداً إلى القلاع بنواحي أنْطاكِية فنقض طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفى نفسه من إرتيادها. وعاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند حصن الأكراد، ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة وكان من يوم استيلاء الإفرنج على جبلة عند صاحب أنْطاكِية حاكماً على جميع المسلمين فيها، ومتولياً أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين وظهوره نزل إليه ليكشف الغماء ، ودله على عورة جبلة واللاذقية، واستحثه لهما فسار أوّل جمادى ونزل بطرطوس، وقد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين وأخلوا المدينة فخربوها واستباحوها. وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدمتهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف، وأطلقه عند فتح القدس. واستأمن إليه أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين، وألقى حجارته في البحر، وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للإستبارية ولا يرم لعلوه وإرتفاعه وإمتناعه، والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمر به الواحد فالواحد. فتح جبلة وكان وصل أسطول من صاحب صقلية مددا الإفرنج في تلك السواحل في ستين قطعة فأرسوا بطرابلس، فلما سمعوا بصلاح الدين أقلعوا إلى المغرب ووقفوا قبالتها ينضحون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك الطريق سورا من جهة البحر من المتارس، ووقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر المضيق إلى جبلة. ووصلها آخر جمادى وسبق إليها القاضي، وملكها صلاح الدين لحينه، ورفع أعلام الإسلام على سورها ونفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم القاضي على الأمان. واستمر منهم جماعة في رهن القاضي والمسلمين عند صاحب إنْطاكِية حتى أطلقهم. وجاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين، وهو بجبل ما
بين جبلة وحماة. وكان الطريق عليه بينهم صعباً ففتحه صلاح الدين من ذلك الوقت، واستناب بجبلة سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيزر، وسار عنها للاذقية، والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم..
فتح اللاذقية ولما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقية فوصلها آخر جمادي الأولىوامتنع حاميتها بحصنين لها في أعلى الجبل، وملك المسلمون المدينة وحصروا الإفرنج في القلعتين وحفروا تحت الأسوار. وأيقن الإفرنج بالهلكة، ودخل إليهم قاضي جبلة ثالث نزولها فأستأمنوا معه. وأمنهم صلاح الدين ورفعوا أعلام الإسلام في الحصنين، وخرب المسلمون المدينة. وكانت مبانيها في غاية الوثاقة والضخامة، واقطعها لتقي الدين ابن أخيه فأعادها إلى أحسن ما كانت من العمارة والتحصين وكان عظيم الهمة في ذلك. وكان أسطول صقلية في مرسى اللاذقية وسخطوا ما فعله أهلها ومنعوهم من الخروج منها. وجاء مقدمهم إلى صلاح الدين فرغب منه إقامتهم على الجزية. وعرض في كلامه بالتهديد بإمداد الإفرنج من وراء البحر فأجابه صلاح الدين باستهانة أمر الإفرنج، وهدّده فانصرف إلى أصحابه، ورحل صلاح الدين إلى صهيون، والله تعالى. أعلم. فتح صهيون: ولما فرغ صلاح الدين من فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون وهي على جبل صعبة المرتقى بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق، ويتصل بالجبل من جهة الشمال، وعليها خمسة أسوار وخندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل لضيقها، وقدم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي. ونصب المنجنيقات هنالك فرمى بها على الحصن، ونضحهم بالسهام من سائر أصناف القسي وصابروا قليلاًً ثم زحف المسلمون ثاني جمادى الأخرى، وسلكوا بين الصخور حتى ملكوا أحد أسوارها وقاتلوهم منه فملكوا عليهم سورين آخرين، وغنموا جميع ما كان في البلد من الدواب والبقر والذخائر. ولجأ الحامية إلى القلعة، وقاتلهم المسلمون عليها فنادوا بالأمان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس، وملك المسلمون الحصن. وولي عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه، وافترق المسلمون في تلك النواحي
فوجدوا الإفرنج قد فروا من حصونها فملكوها جميعاً. وهيؤا إليها طريقاً على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالإفرنج والإسماعيلية، والله تعالى أعلم.
فتح بكاس والشغر: ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس، وقد فارقها الإفرنج وتحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس، وحاصر قلعة الشغر والطريق منها مسلوك إلى اللاذقية وجبلة وصهيون فقاتلهم ونصب المنجنيقات عليها فقصرت حجارتها عن الوصول. وكانوا تمنعوا وبعثوا خلال ذلك إلى صاحب إنْطاكِية، وكان الحصن من إيالته فاستمدّوه وإلا أعطوا الحصن بما قذف الله في قلوبهم من الرعب. فلما قعد عن نصرهم استأمنوا إلى صلاح الدين وسألوه إنظار ثلاث للفتح فأنظرهم وأخذ رهنهم. ثم سلموه بعد الثلاث في منتصف جمادي من السنة، والله تعالى أعلم. فتح سرمينية: كان صلاح الدين عند إشتغاله بفتح هذه الحصون بعث إبنه الظاهر غازياً صاحب حلب إلى سرمينية وحاصرها، واستنزل الإفرنج الذين بها على قطيعة أعطوها وهدم الحصن، وكان فتحه آخر جمادى الأخيرة فانطلق جماعة من الأسارى كانوا بهذا الحصن، وكانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر، وجميعها من أعمال أنْطاكِية، والله تعالى أعلم. فتح برزية: ولما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر إلى قلعة برزية قبالة أفامية وتقاسمها في أعمالها. وبينهما بحيرة من ماء العاصي والعيون التي تجري، وكانوا أشدّ شيء في الأذى للمسلمين فنازلها في الرابع والعشرين من جمادى الأخيرة، وهي متعذرة المصعد من الشمال والجنوب، وصعبته من الشرق وبجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين، ونصب المجانيق فلم تصل حجارتها لبعد القلعة وعلّوها فرجع إلى المزاحفة، وقسم عساكره على أمرائها، وجعل القتال بينهم نوباً فقاتلهم أوّلا عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار، وأصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين، وبلغوا مواقع سهامهم وحجارتهم من الحصن وكانوا
يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها شيء. فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا وصعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالاً شديداً، وصلاح الدين وتقي الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا وهموا بالرجوع، فصاح فيهم صلاح الدين وفي أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم، وجاء أهل نوبة عماد الدين على أثرهم وحمي الوطيس وردّوا الإفرنج على أعقابهم إلى حصنهم فدخلوه ودخل المسلمون معه.وكان بقية المسلمين في الخيام شرقي الحصن، وقد أهمله الإفرنج فعمد أهل الخيام من تلك الناحية، واجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الإفرنج عند الحصن فملكوه عنوة وجاء الإفرنج إلى قبة الحصن ومعهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود. فلما سمعوا تكبير إخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الإفرنج، وظنوا أن المسلمين خالطوهم فألقوا باليد، وأسرهم المسلمون واستباحوهم وأحرقوا البلد، وأسروا صاحبها وأهله وولده، وافترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب أنْطاكِية بعثهم إليها، لأن زوجة صاحب أنْطاكِية كانت تراسل صلاح الدين بالأخبار وتهاديه فرعى لها ذلك، والله تعالى ولي التوفيق.
فتح دربساك: ولما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على نهر العاصي قرب أنْطاكِية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر، ثم سار إلى قلعة دربساك ونزل عليها في رجب من السنة وهي معاقل الفداوية التي يلجؤن إلى الإعتصام بها ونصب عليها المجانيق حتى هدم من سورها. ثم هجمها بالمزاحفة وكشف المقاتلة عن سورها ونقبوا منها برجاً من أسفله فسقط. ثم باركوا الزحف من الغد، وصابرهم الإفرنج ينتظرون المدد من صاحبهم سمند صاحب أنْطاكِية. فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في أنفسهم فقط وخرجوا إلى أنْطاكِية. وملك الحصن في عشرين من رجب من السنة والله تعالى أعلم. فتح بغراس: ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعددها وقربها من أنْطاكِية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه وبين أنْطاكِية فحاصرها ونصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلّوها، وشق عليهم حمل الماء إلى أعلى الجبل. وبينما هم في ذلك إذا جاء رسولهم يستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط كما أمن أهل دربساك. وتسلم القلعة بما فيها وخربها. فجددها ابن اليون صاحب الأرمن وحصنها وصارت في أيالته، والله أعلم.
صلح أنْطاكِية: ولما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب أنْطاكِية، وأرسل إلى صلاح الدين في الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده. وتحامل عليه أصحابه في ذلك ليريح الناس ويستعدوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم عقد الهدنة. وبعث إليه من استحلفه وأطلق الأسرى. وكان سمند في هذا الوقت عظيم الإفرنج متسع المملكة، وطرابلس وأعمالها قد صارت إليه بعد القمص، واستخلف فيها إبنه الأكبر. وعاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان من السنة، وانطلق ملوك الأطراف بالجزيرة وغيرها إلى بلادهم. ثم رحل إلى دمشق وكان معه أبو فليتة قاسم بن مهنا أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم قد عسكر معه، وشهد فتوجه. وكان يتيمن بصحبته ويتبرك برؤيته، ويجتهد في تأنيسه وتكرمته ويرجع إلى مشورته. ودخل دمشق أول رمضان من السنة، وأشير عليه بتفريق العساكر فأبى وقال: هذه الحصون كوكب وصفد والكرك في وسط بلاد الإسلام فلا بدّ من البدار إلى فتحها، والله سبحانه وتعالى أعلم. فتح الكرك: كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى دربساك وبغراس وأبعد في تلك الناحية فشد العادل حصارها حتى جهدوا وفنيت أقواتهم فراسلوه في الأمان فأجابهم. وسلموا القلعة فملكها، وملك الحصون التي حواليها وأعظمها الشويك، وأمنت تلك الناحية، وإتصلت إيالة المسلمين من مصر إلى القدس والله تعالى أعلم. فتح صفد: لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان، ثم تجهز لحصار فنزل عليها ونصب المجانيق وكانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الأول فخافوا من نفاذها فاستأمنوا فأمنهم وملكها، ولحقوا بمدينة صور والله تعالى أعلم.
فتح كوكب: لما كان صلاح الدين على صفد خافه الإفرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه نجدة وكان قايماز النجمي يحاصره فشعر بتلك النجدة وركب إليهم وهم مختفون ببعض الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد. وكان فيهم مقدّمان من الإستبارية فحملها إلى صلاح الدين على صفد فأحضرهما للقتل على عادته في الفداوية والإستبارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما وحبسهما. ولما فتح صفد سار إلى كوكب وحاصره وأرسل إليهم بالأمان فأصّروا على الإمتناع عليه فنصب عليهم المجانيق وتابع المزاحفة. ثم عاقه المطر عن القتال وطال مقامه فلما إنقضى المطر عاود المزاحفة وضايقهم بالسور ونقب منه برجاً فسقط فارتاعوا واستأمنوا. وملك الحصن منتصف ذي القعدة من السنة ولحق الإفرنج بصور وإجتمع الزعماء وتابعوا الرسل إلى إخوانهم وراء البحر في حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد وإتصل المسلمون في الساحل من أيلة إلى بيروت لا يفصل بينهم إلا مدينة صور ولما فرغ صلاح الدين من صفد وكوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الأضحى. ثم سار إلى عكا قام بها إلى إنسلاخ الشتاء، والله تعالى أعلم. فتح الشقيف: ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس وثمانين إلى محاصرة الشقيف، وكان لأرناط صاحب صيدا، وهو من أعظم الناس مكراً ودهاءً . فما نزل صلاح الدين بمرج العيون جاء إليه وأظهر له المحبة والميل، وطلب المهلة إلى جمادى الأخيرة ليتخلص أهله وولده من المركيش بصور، ويسلم له حصن الشقيف فأقام صلاح الدين هنالك لوعده. وإنقضت مّدة الهدنة بينه وبين سمند صاحب إنْطاكِية فبعث تقي الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التي قرب إنْطاكِية. ثم بلغه إجتماع الإفرنج بصور عند المركيش، وأن الإمداد وافتهم من أهل ملتهم وراء البحر. وأن ملك الإفرنج بالشام الذي أطلقه صلاح الدين بعد فتح القدس قد إتفق مع المركيش وصل يده به. واجتمعوا في أمم لا تحصى وخشي أن يتقدم إليهم ويترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة، فأقام بمكانه فلما إنقضى الأجل تقدم إلى الشقيف واستدعى أرناط فجاء واعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله وولده وطلب الإمهال مّرة أخرى فتبين صلاح الدين مكره فحبسه، وأمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس
بها. وتقّدم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام مسلحة قبالة الإفرنج الذين بظاهر صور، فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة وقاتلوهم فغلبوهم وأسروا سبعة من فرسانهم، وقتلوا آخرين وقتل مولى لصلاح الدين من أشجع الناس وردوهم على أعقابهم إلى معسكرهم بظاهر صور. وجاء صلاح الدين بعد إنقضاء الوقعة فأقام في المسلحة رجاء أن يصادف أحداً من الإفرنج فينتقم منهم. وركب في بعض الأيام ليشارف معسكر الإفرنج فظن عساكره أنه يريد القتال فنجعوا وأوغلوا إلى العدّو. وبعث صلاح الدين الأمراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا، ورآهم الإفرنج فظنوا أن وراءهم كميناً فأرسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين فحملوا عليهم وأناموهم جميعاً، وذلك تاسع جمادي الأولى من السنة. ثم إنحدر إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر وغرق منهم في البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل وعزم السلطان على حصارهم، واجتمع إليه الناس. ثم عاد الإفرنج إلى صور، وعاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا ويرجع إلى مخيمه. ولما وصل إلى المعسكر جاء الخبر بأن الإفرنج يتعدّون عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا، ووعدهم ثامن جمادى الأخيرة يوافونه من ناحيتهم للإغارة عليهم. وأكمن لهم في الأودية والشعاب من سائر النواحي واختار جماعة من فرسان عسكره، وتقدّم إليهم بأن يتعرضوا للإفرنج، ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا وناشبوا الإفرنج وانفوا من الاستطراد وطال على الكمناء الإنتظار فخرجوا خشية على أصحابهم فوافوهم في شدّة الحرب فانهزم المسلمون، ووقع التمحيص. وكان أربعة في الكمين من أمراء طيء فعدلوا عن طريق أصحابهم وسلكوا الوادي وتبعهم بعض العسكر من موالي صلاح الدين ورآهم الإفرنج في الوادي فعلموا أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم وقتلوهم، والله تعالى أعلم. محاصرة الإفرنج أهل صور لعكا والحروب عليها: كانت صور كما قدّمنا ضبطها المركيش من الإفرنج الواصل من وراء البحر وقام بها وكان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصناً على الأمان لحق أهلها بصور فاجتمع بها عدد عظيم من الإفرنج وأموال جمة. ولما فتح القدس لبس كثير من رهبانهم وقسيسيهم وزعمائهم السواد حزناً على البيت المقدس. وإرتحل بطرك من القدس، وهم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء البحر للأخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد، حتى النساء اللواتي يجدن القوة على الحرب. ومن لم يستطع الخروج استأجر مكانه، وبذلوا الأموال لهم. وجاء الإفرنج من كل
مكان ونزلوا بصور ومدد الرجال والأقوات والأسلحة متداركة لهم في كل وقت واتفقوا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس وثمانين وسلكوا على طريق الساحل وأساطيلهم تحاذيهم في البحر. ومسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى عكا منتصف رجب. وكان رأي صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم فخالفه أصحابه واعتذروا بضيق الطريق ووعره فسلك طريقاً آخر ووافاهم على عكا وقد نزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين إليها طريق.ونزل صلاح الدين قبالتهم، وبعث إلى الأطراف يستنفر الناس فجاءت عساكر الموصل وديار بكر وسنجار وسائر بلاد الجزيرة. وجاء تقي الدين ابن أخيه من حماة ومظفر الدين كوكبري عن حران والرها، وكانت إمداد المسلمين تصل في البرّ وإمداد الإفرنج في البحر وهم محصورون في صور. وكانت بينهم أيام مذكورة ووقائع مشهورة وأقام السلطان بقية رجب لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوماً بكامله وبات الناس على تعبية. ثم صبحهم بالقتال ونزل بالصبر وحمل عليهم تقي الدين ابن أخيه منتصف النهار من الميمنة حملة أزالتهم عن مواقفهم وملك مكانهم وإتصل بالبلد فدخلها المسلمون، وشحنها صلاح الدين بالمدد من كل شيء. وبعث إليهم الأمير حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر امرائه من الأكراد الخطية من إربل. ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الإفرنج قد أداروا عليهم خندقاً يمتنعون به، ومنعوهم القتال يومهم وأقاموا كذلك ومع السلطان أحياء من العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الإفرنج على الساحل للخطف منهم وكبسوهم منتصف شعبان وقتلوهم وجاؤا برؤسهم إلى صلاح الدين فأحسن إليهم، والله تعالى أعلم. الوقعة على عكا: كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر، وبلغ الخبر الإفرنج فأرادوا معاجلته قبل وصولهم. وكانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل أنْطاكِية وملكها سمند في البلاد التي من أعمال حلب ومسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس ومسلحة تقابل صور ومسلحة بدمياط والإسكندرية. واعتزم الإفرنج على مهاجمتهم بالقتال، ولم يشعروا بهم وصبحوهم لعشرين من شعبان وركب صلاح الدين وعبى عساكره وقصدوا الميمنة وعليها تقي الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشيء وأمده صلاح الدين بالرجال من عنده فحطوا على صلاح الدين في القلب فتضعضع واستشهد جماعة منهم الأمير علي بن مردان والظهير أخو الفقيه عيسى والي
القدس والحاجب خليل الهكاري وغيرهم.وقصدوا خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه ونهبوا واستشهد جمال الدين بن رواحة من العلماء ووضعوا السيف في المسلمين وإنهزم الذين كانوا حوالي الخيمة، ولم تسقط، وإنقطع الذين ولوها من الإفرنج عن أصحابهم وراءهم، وحملت ميسرة المسلمين عليهم فأحجمتهم إلى وراء الخنادق، وعادوا إلى خيمة صلاح الدين فقتلوا كل من وجدوا عندها من الإفرنج وصلاح الدين قد عاد من إتباع أصحابه يردهم للقتال وقد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد وأسروا مقدّم الفداوية فأمر بقتله وكان أطلقه مرة أخرى وبلغت عدة القتلى عشرة آلاف فألقوا في النهر وأما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية ومنهم من جاوز الأردنّ ورجع ومنهم من بلغ دمشق وإتصل قتال المسلمين للإفرنج وكادوا يلجون عليهم معسكرهم. ثم جاءهم الصريخ بنهب أموالهم، وكان المنهزمون قد حملوا أثقالهم فامتدت إليها أيدي الأوباش ونهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الإفرنج، وأقاموا في ذلك يوماً وليلة يستردون النهب من أيدي المسلمين، ونفس بذلك عن الإفرنج بعض الشيء والله تعالى أعلم.
رحيل صلاح الدين عن الإفرنج بعكا: ولما إنقضت هذه الوقعة وامتلأت الأرض من جيف الإفرنج تغير الهواء وأنتن، وحدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالإنتقال عسى الإفرنج ينتقلون وان أقاموا عدنا إليهم وحمله الأطباء على ذلك فرحل رابع رمضان من السنة وتقدم إلى عكا بحياطتها، وأعلمهم سبب رحيله. فلما إرتحل اشتدّ الإفرنج في حصار عكا وأحاطوا بها دائرة مع اسطولهم في البحر، وحفروا خندقاً على معسكرهم وأداروا عليهم سوراً من ترابه حصناً من صلاح الدين أن يعود إليهم ومسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا يقاتلونهم وبلغ ذلك صلاح الدين وأشار أصحابه بإرسال العساكر ليمنع من التحصين فامتنع من ذلك لمرضه فتم للإفرنج ما أرادوه وأهل عكا يخرجون إليهم في كل يوم ويقاتلونهم والله تعالى أعلم. معاودة صلاح الدين حصار الإفرنج على عكا: ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شّوال في عساكر مصر، ومعه الجم الغفير من
المقاتلة والأصناف الكثيرة من آلات الحصار. ووصل على أثره أسطول مصر مع الأمير لؤلؤ وكبس مركباً فغنم ما فيه ودخل به إلى عكا وبرىء صلاح الدين من مرضه وأقام بمكانه بالجزيرة إلىإ نسلاخ الشتاء وسمع الإفرنج أن صلاح الدين سار إليهم واستقلوا مسلحة المسلمين عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست وثمانين واستمات المسلمون، وقتل بين الفريقين خلق. وبلغ الخبر بذلك صلاح الدين وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحماه فتقدم من الجزيرة إلى تل كيسان وتابع القتال على الإفرنج يشغلهم عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين وكان الإفرنج مدة مقامهم على عكا قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب إرتفاع كل برج ستون ذراعأ، وفيه خمس طبقات، وغشوها بالجلود وطلوها بالأدوية التي لا تعلق النار بها. وشحنوها بالمقاتلة وأدنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الأول سنة ست وثمانين. وأشرفوا بها على السور فكشف من عليه من المقاتلة وشرع الإفرنج في طم الخندق وبعث أهل عكا سابحاً في البحر يصف لهم حالهم فركب في عساكره، واشتد في قتال الإفرنج فخف على أهل البلد ما كانوا فيه وأقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين وعجزوا عن دفع الأبراج ورموها بالنفط فلم يؤثر فيها وكان عندهم رجل من أهل دمشق يعاني أحوال النفط فأخذ عقاقير وصنعها وحضر عند قراقوش حاكم البلد وأعطاه دواء وقال: أرم بهذا في المنجنيق المقابل لإحدى الأبراج فيحترق فحرد عليه، ثم وافق ورمى به في قدر ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوأة ناراً فاضطرمت النار واحترق البرج بمن فيه، ثم فعل بالثاني والثالث كذلك وفرح أهل البلد وتخلصوا من تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالإحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل، وقال: إنما فعلته لله ولا أريد الجزاء إلا منه. ثم بعث صلاح الدين إلى ملوك الأطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء الدين بن طالب صاحب الموصل، ثم عز الدين مسعود بن مودود وبعثه أبوه بالعساكر ثم زين الدين صاحب إربل وكان كل واحد منهم إذا وصل يتقدم بعسكره فيقاتلون الإفرنج، ثم يضربون أبنيتهم وجاء الخبر بوصول الأسطول من مصر فجهز الإفرنج أسطولا لقتاله، وشغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن الأسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه وقاتلوا الفريقين براً وبحرأ، ودخل الأسطول إلى مرسى عكا سالماً والله تعالى أعلم بغيبه. وصول ملك الألمان إلى الشام ومهلكه: هؤلاء الألمان شعب من شعوب الإفرنج كثير العدد موصوف بالبأس والشدة وهم موطنون
بجزيرة إنكلطيرة في الجهة الشمالية الغربية من البحر المحيط، وهم حدعهد بالنصرانية. ولما سار القسس والرهبان بخبر بيت المقدس واستنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه وفسح النصارى له الطريق وقصد القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد أن كان يعد بذلك نفسه وكتب بها إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضاقت عليهم الأقوات وعبروا خليج القسطنطينية ومروا بمملكة قليج أرسلان وتبعهم التركمان يحفون بهم ويتخطفون منهم وكان الفصل شتاء والبلاد باردة فهلك أكثرهم م والجوع ومروا بقونية وبها قطب الدين ملك شاه بن قليج أرسلان قد غلب عليه أولاده وافترقوا في النواحي فخرج ليصدهم فلم يطق ذلك ورجع فساروا في أثره إلى قونية وبعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فأذن لهم واسترهنوا عشرين من أمرائه وتكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك الأمراء وحبسوهم وساروا إلى بلاد الأرمن وصاحبها كاقولي بن خطفاي بن اليون فأمدهم بالأزواد والعلوفات وأظهر طاعتهم وسار إلى أنْطاكِية. ودخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق، وملك بعده إبنه. ولما بلغوا أنْطاكِية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه، وبعضهم مال إلى العود فعادوا كلهم.وسار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفاً وأصابهم الموتان وحسن إليهم صاحب أنْطاكِية المسير إلى الإفرنج على عكا فساروا على جبلة واللاذقية ومروا بحلب وتخطف أهلها منهم خلقاً وبلغوا طرابلس وقد أفناهم الموتان ولم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا البحر إلى عكا ثم رأوا ما هم فيه من الوهن والخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم وغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد وكان الملك قليج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز عنهم، وافتراق أولاده واستبدادهم عليه. وأما صلاح الدين فإنه استشار أصحابه عند وصول خبرهم فأشار بعضهم إلى لقائهم في طريقهم ومحاربتهم وأشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الإفرنج عكا ومال صلاح الدين إلى هذا الرأي وبعث العساكر من جبلة واللاذقية وشيزر إلى حلب ليحفظوها من عاديتهم والله تعالى ولي التوفيق.
واقعة المسلمين مع الإفرنج على عكا: ثم زحف الإفرنج على عكا في عشر من جمادى الأخيرة من سنة ست وثمانين وخرجوا من
خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين وقصد العادل أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كشفهم الإفرنج عن الخيام وملكوها. ثم كر عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم وخالفهم بعض عساكر مصر إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف وقتل منهم ما يزيد على عشرين ألفاً. وكانت عساكر الموصل قريباً من عسكر مصر ومقدمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فعدمت ميرتهم وأمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال وبلغه الخبر بموت ملك الألمان وما أصاب قومه من الشتات فسر المسلمون بذلك، وظنوا وهن الإفرنج به ثم بعد يومين لحقت بالإفرنج إمداد في البحر مع كند من الكنود يقال له الكندهري ابن أخي الاقرسيس لأبيه، وابن أخي ملك إنكلطيرة لأمّه ففرق في الإفرنج أموالاً وجند لهم أجناداً، ووعدهم بوصول الأمداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الأخيرة لضيق المجال، ونتن المكان من جيف القتلى. ثم نصب الكندهري على عكا مجانيق وذبابات فأخذها أهل عكا وقتلوا عندها جموعاً من الإفرنج فلم يتمكن من متابعة ذلك ولا من إقامة الستائر عليها لأنّ أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلا عاليا من التراب ونصب المجانيق من ورائه وضاقت الأحوال وقلت الميرة وأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية ببعث الأقوات في المراكب إلى عكا وبعث إ لى بيروت بمثل ذلك فبعثوا مركباً ونصبوا فيها الصلبان يوهمون أنه للإفرنج حتى دخلوا إلى المرسى. وجاءت بعد الميرة من الإسكندرية. ثم جاءت ملكة من الإفرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمهما فأخذت ببحر الإسكندرية هي وجميع ما معها . ثم كتب البابا كبير الملّة النصرانية من كنيسة برومة يأمرهم بالصبر والجهاد، ويخبرهم بوصول الامداد وأنه راسل ملوك الإفرنج يحثهم على إمدادهم فازدادوا بذلك قوة واعتزموا على مناجزة المسلمين وجمروا عسكراً لحصار عكا وإرتحلوا حادي عشر شوال من السنة فنقل صلاح الدين أثقال العسكر إلى على ثلاثة فراسخ من عكا ولقي الإفرنج على التعبية .وكان أولاده الأفضل علي والظافر غازي والظاهر خفر في القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة عساكر مصر ومن إنضم إليهم، وعماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر في الميسرة، وصلاح الدين في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه. فلما وصل الإفرنج وعاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم، وباتوا ليلتهم وعادوا من الغد إلى معسكر فأتبعوهم أهل المقدمة وتخطفوهم من كل ناحية وأحجروهم وراء خنادقهم.ثم ناوشوهم القتال في الثالث والعشرين من شوال بعد أن أكمنوا لهم عسكراً فخرج لهم الإفرنج في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى إن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. واشتد الغلاء على الإفرنج وبلغت الغرارة مائة دينار صوري، مع ما كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاج أسامة ومن صيدا على يد نائبها سيف الدين علي بن أحمد المشطوب ومن عسقلان وغيرها. ثم اشتدّ عليهم الحال عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء.ثم هجم الشتاء وأرسى الإفرنج مراكبهم بصور خوفاً عليها على عادتهم في صورفي فصل الشتاء. ووجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون ما نزل بهم وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين فشكى من ضجره بطول المقام والحرب فأمر صلاح الدين بإنفاذ نائب وعسكر إليها بدلاً منهم وأمر أخاه العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل حيفا، وجمع المراكب والشواني وبعث العساكر إليها شيئاً فشيئاً، كلما دخلت طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميراً بدلا من ستين كانوا وأهملوا أهل الرجل وتعينت دواوين صاحب صلاح الدين وكانوا نصارى على الجند في إثباتهم وإطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا وضعفت وعادت مراكب الإفرنج بعد إنحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا وعنها وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسلان مقدم الأسدية وابن جاولي وغيرهم. وكان دخولهم عكا أوّل سنة سبع وثمانين والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة زين الدين صاحب إر بل وولاية أخيه كوكبري كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين وكانت له إربل كما مرّ لأيام أبيه وحران والرها لأخيه مظفر الدين كوكبري وكان يعسكر مع صلاح الدين في غزواته وحضر عنده على عكا فأصابه المرض وتوفي في ثامن عشر رمضان سنة أربع وثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبري على بلد أمير من أمرائه وبعث إلى صلاح الدين يطلب إربل وينزل عن حران والرها فأجابه وأقطعه إياهما وأضاف إليهما شهرزور وأعمالها ودار بند العرابلي
وهي قفجاق وكاتب أهل إربل مجاهد الدين صاحب الموصل خوفاً من صلاح الدين مع أنّ مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه كما مرّ ثم أطلقه وولاه نائبه وجعل بعض غلمانه عينا فكان يناقضه في كثير من الأحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في إربل فامتنع منها وولاها مظفر الدين واستفحل أمره فيها ولما نزل مظفر الدين عن حران والرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مضافة إلى ميافارقين بديار بكر، وحماة وأعمالها بالشام. وتقدم له أن يقطع أعمالها للجند فيتقوى بهم على الإفرنج فسار تقي الدين إليها وقرر أمورها. ثم إنتهى إلى ميافارقين، وتجدد له طمع فيما يجاورها من البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر. وسار إليه سيف الدين بِكتمر صاحب خلاط في عساكره وقاتله فهزمه تقي الدين ووطىء بلاده. وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين وحبسه في قلعة هنالك. فلما إنهزم كتب إلى والي القلعة بقتله فوافاه الكتاب وتقي الدين محاصر له. فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق وسار إلى خلاط وحاصرها فامتنعت عليه، فعاد عنها إلى ملاذكرد فضيق عليها حتى استأمنوا له، وضرب لهم أجلاً في تسليم البلد. ثم مرض ومات قبل ذلك الأجل بيومين، وحمله ابنه إلى ميافارقين فدفنه بها، واستفحلت دولة بكتمر في خلاط، والله تعالى أعلم. وصول إمداد الإفرنج من الغرب إلى عكا: ثم تتابعت إمداد الإفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا، وأول من وصل منهم الملك ملك إفرنسة وهوذ، ونصب فيهم، وملكه ليس بالقوي. هكذا قال ابن الأثير، وعنى أنه كان مستفحلاً في ذلك العصر لأنه في الحقيقة ملك الإفرنج. وهو في ذلك العصر أشد من كانوا قوة واستفحالاً فوصل ثاني عشر ربيع الأول سنة أربع وثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة والسلاح فقوي الإفرنج على عكا بمكانه، وولي حرب المسلمين فيها، وكان صلاح الدين على معمر عمر قريبا من معسكر الإفرنج فكان يصابحهم كل يوم عن مزاحفة البلد وتقدم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب والشواني إلى مرسى عكا ليشغل الإفرنج أيضا فبعثها ولقيت خمسة مراكب في البحر وكان ملك الانكلطيرة أقدمها، وأقام على جزيرة قبرص طامعاً في ملكها فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها، ونفذت كلمة صلاح الدين إلى سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشواني وملؤا بها مرسى عكا. وواصل الإفرنج قتال البلد ونصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادى، وتحوّل صلاح
الدين لمعسكره قريباً منهم ليشغلهم عن البلد فخف قتالهم عن أهل البلد. ثم فرغ ملك إنكلطيرة من جزيرة قبرص وملكها وعزل صاحبها. وبلغ إلى عكا في خمس وعشرين مركباً مشحونة بالرجال والأموال. ووصل منتصف رجب ولقي في طريقه مركباً جهز من بيروت إلى عكا وفيه سبعمائة مقاتل فقاتله. فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدمهم وهو يعقوب الحلي غلام ابن شفنين فحرق المركب خوفاً من أن يظفر الإفرنج برجاله وذخائره فغرق. ثم عمل الإفرنج ذبابات وكباشاً وزحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها فرجع الإفرنج إلى نصب التلال من التراب يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة فيها وضاق حال أهل عكا. استيلاء الإفرنج على عكا: ولما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك إفرنسة يستأمنه لأهل عكا فلم يجبه، وضعفت نفوس أهل البلد لذلك ووهنوا. ثم هرب من الأمراء عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي وسنقر الأرجاني في جماعة منهم. ولحقوا بالعسكر فازداد أهل عكا وهنا. وبعث الإفرنج إلى صلاح الدين في تسليمها فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد ويطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد، ويعطيهم الصليب الذي أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل فبعث إلى المسلمين بعكا أن يخرجوا بجمعهم ويتركوا البلد وشميروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة مستميتين ويجيء المسلمون من وراء العدو فعساهم يخلصون بذلك فلما أصبحوا زحف الإفرنج إلى البلد ورفع المسلمون أعلامهم وأرسل المشطوب من البلد إلى الإفرنج فصالحهم على الأمان على أن يعطيهم مائتي ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب. ويعطي للمركيش صاحب صور أربعة عشر ألف دينار فأجابوا إلى ذلك وضربوا المدة للمال والأسرى شهرين. وسلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم وحبسوهم رهنا بزعمهم في المال والأسرى والصليب. ولم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة إنفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى إجتمع مائة ألف دينار، وبعث نائباً يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف والضمان خوفاً من غدر أصحابه. وقال ملوكهم: إذا سلمتم المال والأسرى والصليب تعطونا رهناً في بقية المال، ونطلق أصحابكم. وطلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن ويحلفوا فامتنعوا أيضا، وقالوا:
ترسلون المائة ألف دينار والأسرى والصليب فنطلق من نراه ونبقي الباقي إلى مجيء بقية المال فتبين المسلمون غدرهم، وأنهم يطلقون من لا يعبأ به ويمسكون الأمراء والأعيان حتى يفادوهم فلم يجبهم صلاح الدين إلى شيء. ولما كان آخر رجب ركب الإفرنج إلى ظاهر البلد في احتفال وركب المسلمون فشدّوا عليهم وكشفوهم عن مواقفهم فإذا المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم وتمسكوا بالأعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين، وتمسك بالمال الذي جمعه لغيرها من المصالح، والله تعالى أعلم. تخريب صلاح الدين عسقلان ولما استولى الإفرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك إنكلطيرة، وأحس منه بالغدر فلحق ببلده صور. ثم سار الإفرنج مستهل شعبان لقصد عسقلان وساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه. ونادى صلاح الدين باتباعهم مع إبنه الأفضل وسيف الدين أبي زكوش وعز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل ناحية ففتكوا فيه بالقتل والأسر، وبعث الأفضل إلى أبيه يستمده فلم يجد العساكر مستعدة. وسار ملك إنكلطيرة في ساقة الإفرنج فحملهم وإنتهوا إلى يافا فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم مقيمون. ولحق بهم من عكا من احتاجوا إليه. ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يتبعونهم، ويقتلون من ظفروا به منهم. وزاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم وباتوا بها مثاورين. واختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا وأسروا وساروا من الغد إلى أرسوف، وسبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم عندها حتى اضطروهم إلى البحر. فحينئذ استمات الإفرنج وحملوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا في تابعهم وألحقوهم بالقلب وفيه صلاح الدين. وتستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الإفرنج عنهم وإنفرج ما كانوا فيه من الضيق المذكور، وساروا إلى يافا فوجدوها خالية وملكوها وكان صلاح الدين قد سار من مكان الهزيمة إلى الرملة وجمع مخلفه وأثقاله، واعتزم على مسابقة الإفرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه وقالوا: نخشى أن يزاحمنا الإفرنج عليها، ويغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا. ويملكوها آخراً ويقووا بما فيها من الذخائر والأسلحة فندبهم إلى المسير إليها وحمايتها من الإفرنج، فلجوا في الإمتناع من ذلك فسار وترك العساكر مع أخيه العادل قبالة الإفرنج، ووصل إلى عسقلان وخربها تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وبقي أثرها، وهلك فيها من الأموال والذخائر ما لا يحصى. فلما بلغ الإفرنج ذلك أقاموا بيافاً. وبعث المركيش إلى ملك إنكلطيرة يعذله حيث لم يناجز
صلاح الدين على عسقلان ويمنعه من تخريبها فما خربها حتى عجز عن حمايتها ثم رحل صلاح الدين من عسقلان ثاني رمضان إلى الرملة فخرب حصنها. ثم سار إلى القدس من شدة البرد والمطر لينظر في مصالح القدس وترتبهم في الإستعداد للحصار. وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم للإراحة. وعاد إلى مخيمه ثامن رمضان. وأقام الإفرنج بيافا وشرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون، وخيم به منتصف رمضان. وتردّد الرسل بين ملك إنكلطيرة وبين العادل على أن يزوجه ملك إنكلطيرة أخته، ويكون القدس وبلاد المسلمين بالساحل للعادل، وعكا وبلاد الإفرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية.
وأجاب صلاح الدين إلى ذلك، ومنع الأقسة والرهبان أخت ملك إنكلطيرة من ذلك ونكروا عليها فلم يتم، وإنما كان ملك إنكلطيرة يخادع بذلك. ثم إعتزم الإفرنج على القدس ورحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، وسار صلاح الدين إلى القدس وقدّم عليه عساكر مصر مع أبي الهيجاء فقويت به نفوس المسلمين. وسار الإفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة والمسلمون يحاذونهم. وكانت بينهم وقعات أسروا في واحدة منها نيفاً وخمسين من مقاتلة الإفرنج، واهتم صلاح الدين بعمارة أسوار القدس، ورمّ ما ثلم وضبط المكان الذي ملك القدس منه وسدّ فروجه. وأمر بحفر الخندق خارج الفصيل.وقسم ولاية هذه الأعمال بين ولده وأصحابه وقلت الحجارة للبنيان. وكان صلاح الدين يركب إلى الأماكن البعيدة وينقلها على مركوبه فيقتدي به العسكر. ثم إن الإفرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون وقطع المسلمون عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عهده بالرملة، وسأل ملك إنكلطيرة عن صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له. ورأى الوادي محيطاً بها إلا قليلاً من جهة الشمال مع عمقه ووعرة مسالكه فقال: هذه لا يمكن حصارها لأنا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الأخرى، وإن افترقنا على جانب الوادي والجانب الآخر كبس المسلمون إحدى الطائفتين. ولم تصل الأخرى لإنجادهم خوفاً من المسلمين على معسكرهم، وإن تركوه من أصحابه حامية المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للإنجاد إلا بعد الوفاة، هذا إلى ما يلحقنا من تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقه، وارتحلوا عائدين إلى الرملة. ثم إرتحلوا في محرّم سنة ثمان وثمانين إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها، وسار ملك إنكلطيرة إلى مسلح المسلمين فواقعوهم، وجرت بينهم حروب شديدة وصلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الإفرنج للإغارة وقطع الميرة فيغنمون ويعودون والله تعالى أعلم.
مقتل المركيش وملك الكندهري مكانه ثم إرتحل صلاح الدين إلى سنان مقدم الإسماعيلية بالشام في قتل ملك إنكلطيرة والمركيش وجعل له على ذلك عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك إنكلطيرة لما رأوه من المصلحة لئلا يتفرغ لهم صلاح الدين. وبعث رجلين لقتل المركيش في زي الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا وإبن بازران صاحب وأقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما، حتى أنس بهما المركيش. ثم دعاه الأسقف بصور دعوى فوثبا عليه فجرحاه ولجأ أحدهما إلى كنيسة وإختفى فيها، وحمل إليها المركيش لشدة جراحه فأجهز عليه ذلك الباطني وقتله. ونسب ذلك إلى ملك إنكلطيرة رجاء أن ينفرد بملك الإفرنج بالشام. ولما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الإفرنج الواردين من وراء البحر يعرف بالكندهري ابن أخت ملك إفرنسة، وابن أخي ملك إنكلطيرة من أبيه وتزوج بالملكة في ليلته وبنى بها. وملك عكا وسائر البلاد بعد عود ملك إنكلطيرة وعاش إلى سنة أربع وتسعين وسقط من سطح. ولما رحل ملك إنكلطيرة إلى بلاده أرسل هذا الكندهري إلى صلاح الدين واستماله للصلح، والتمس منه الخلعة فبعث إليه بها ولبسها بعكا والله تعالى أعلم. مسير الإفرنج إلى القدس: ولما قدم صلاح الدين إلى القدس، وكان قد بلغه مهلك تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه، وأن إبنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة وهي: حران والرها وسميساط وميافارقين وجان وبعث إلى صلاح الدين يسأل إبقاءها في يده مضافة إلى ما كان لأبيه من الأعمال بالشام فاستقصره صلاح الدين لصغره. وطلب منه إبنه الأفضل أن يعطيها له وينزل عن دمشق فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يسير إليها. وكاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل وسنجار والجزيرة واربل وسار لإنجاده بالعساكر. وعلم ناصر الدين أنه لا قبل له بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده له ما كان لأبيه بالشام فقط، وينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه الملك العادل وبعثه يتسلمها ويرد إبنه الأفضل فلحق
بالأفضل بحلب وأعاده وعبر الفرات وتسلم البلاد من ناصرالدين بن تقي الدين وأنزل بها عماله. واستصحبه وساير العساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس.ولما بلغ الإفرنج أنّ صلاح الدين بعث إبنه الأفضل وأخاه العادل وفرّق العساكر عليهما، ولم يبق معه بالقدس إلا بعض الخاصة فطمعوا فيه وأغاروا على عسكر مصر وهو قاصد إليه ومقدمهم سليمان أخو العادل لأمه فأخذوه بنواحي الخليل وقتلوا وغنموا ونجا ففهم إلى جبل الخليل. وساروا إلى الداروم فخربوه ثم ساروا إلى القدس وانتهوا إلى بيت قوجة على فرسخين من القدس تاسع جمادي الأولى من سنة ثمان وثمانين. واستعدّ صلاح الدين للحصار، وفرّق أبراج السور على أمرائه، وسلط السرايا والبعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به فتأخروا عن منازلتهم بيافا. وأصبحت بقولهم وميرتهم غنائم للمسلمين وبلغهم أن العساكر الشرقية التي مع العادل والأفضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا وعزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين إبنه الأفضل أن يسير في العساكر الشرقية إليها فسار وانتهى إلى مرج العيون، فلم يبرح الإفرنج من عكا.وإجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب وغيرها فسار إلى يافا فحاصرها، وملكها عنوة في العاشر من رجب من السنة. ثم حاصر القلعة بقية يومه، وأشرفوا على فتحها. وكانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين بطلب الأمان إلى الغد فأجابوهم إليه وجاءهم ملك إنكلطيرة ليلا وتبعه مدد عكا. وبرز من الغد فلم يتقدّم إليه أحد من المسلمين. ثم نزل بين السماطين وجلس للأكل، وأمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدم أخ المشطوب، وكان يلقب بالجناح، وقال لصلاح الدين: نحن نتقدّم للقتال ومماليكك للغنيمة فغضب صلاح الدين وعاد عن الإفرنج إلى خيامه حتى جاء إبنه الأفضل وأخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر مآل أمره مع الإفرنج وأقاموا بيافا والله تعالى أعلم.
الصلح بين صلاح الدين والإفرنج ومسير ملك إنكلطيرة إلى بلاده كان ملك إنكلطيرة إلى هذه المدّة قد طال مغيبه عن بلاده، ويئس من بلاد الساحل لأنّ المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في الصلح. وظن صلاح الدين أنّ ذلك مكر فلم يجبه. وطلب الحرب فألح ملك إنكلطيرة في السؤال وظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان وغزة والداروم والرملة وبعث إلى الملك العادل بأن يتوسط في
ذلك فأشار على صلاح الدين بالإجابة هو وسائر الأمراء لما حدث عند العسكر من الضجر ونفاد النفقات، وهلاك الدواب والأسلحة، وما بلغهم أن ملك إنكلطيرة عائد إلى بلاده. وإنّ لم تقع الإجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل فلما وعى ذلك صلاح الدين وعلم صحته أجاب إلى الصلح وعقد الهدنة مع رسل الإفرنج في عشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين لمدّة أربعة وأربعين شهراّ، فتحالفوا على ذلك وأذن صلاح الدين للافرنج في زيارة القدس وإرتحل ملك إنكلطيرة في البحر عائداً إلى بلده وأقام الكندهري صاحب صور بعد المركيش ملكاً على الإفرنج بسواحل الشام، وتزّوج الملكة التي كانت تملكهم قبله، وقبل صلاح الدين كما مرّ وسار صلاح الدين إلى القدس فأصلح أسواره، وأدخل كنيسة صهيون في البلد وكانت خارج السور. واختط المدارس والربط والمارستان ووقف عليها الأوقاف واعتزم على الإحرام منه للحج فاعترضته القواطع دون ذلك فسار إلى دمشق خامس شوال واستخلف عليها الأمير جرديك من موالي نور الدين. ومرّ بكفور المسلمين نابلس وطبرية وصفد وبيروت. ولما إنتهى إلى بيروت أتاه بها سمند صاحب أنْطاكِية وطرابلس وأعمالها فالتزم طاعة صلاح الدين، وعاد ودخل صلاح الدين دمشق في الخامس والعشرين من شوّال وسرّ الناس بقدومه ووهن العدو والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة صلاح الدين وحال ولده وأخيه من بعده: ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق، وقد خف من شواغل الإفرنج بوهنهم، وماعقد من الهدنة فأراح قليلاً. ثم اعتزم على احداث الغزو فاستشار إبنه الأفضل وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لأنه كان وعده أن يقطعه إياها إذا ملكها. وأشار الأفضل ببلاد الروم إيالة بني قليج أرسلان لسهولة أمرها واعتراض الإفرنج فيها إذا قصدوا الشام لأنها طريقهم. فقال لأخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدي وبعض العساكر. وأذهب أنا إلى بلاد الروم. فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى أذربيجان، ثم إلى بلاد العجم. وأمره بالمسير إلى الكرك وهي من أقطاعه ليتجهز منها ويعود لشأنه. فسار إلى الكرك ومرض صلاح الدين بعده ومات في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه مصر رحمه الله تعالى.وكان معه بدمشق إبنه الأفضل نور الدين، والعساكر عنده فملك دمشق والساحل وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وشوش وجميع الأعمال. إلى الداروم. وكان بمصر إبنه العزيز عثمان فاستولى عليها. وكان بحلب إبنه الظاهر غازي فاستولى عليها وعلى أعمالها مثل: حارم وتل باشر وإعزاز
وبرزية ودربساك وغيرها وأطاعه صاحب حماة ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شيركوه وله مع حماة سلمية والمعرة ومنبج. وابن محمد بن شيركوه، وله مع الرحبة حمص وتدمر. وببعلبك بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه، ولقبه الأمجد. وببصرى الظافر بن صلاح الدين، ولقبه الأمجد مع أخيه الأفضل. وفي شيزر سابق الدين عثمان بات الداية، وبالكرك والشويك الملك العادل. وبلغ الخبر إلى العادل فأقام بالكرك. واستدعاه الأفضل من دمشق فلم يجبه فخوّفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين صاحب الموصل. وقد كان سار من الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة فوعده بالنصر منه. وأوهمه الرسول إن لم يسر إلى الأفضل بدمشق أنه متوجه إلى العزيز بمصر ليحالفه عليه. فحينئذ إرتاب العادل وسار إلى الأفضل بدمشق فتلقاه بالميرة وجهز العساكر لمدافعة عز الدين صاحب الموصل عن بلاد الجزيرة. وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة يحضهم على إنفاذ العساكر معه وعبر بها الفرات. وأقام بنواحي الرها. وكان عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها وسائرها ليرتجعها من يده، ومجاهد الدين قايماز أتابك دولته يثنيه عن ذلك، ويعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه. وبينما هو في ذلك إذ جاءت الأخبار بأن العادل بحران. ثم وافاهم كتابه بأن الأفضل ملك بعد أبيه صلاح الدين، وأطاعه الناس فكاتب عز الدين جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار وصاحب ماردين يستنجدهم. وجاء إليه أخوه على نصيبين وسار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه ورجع إلى الموصل فمات أوّل رجب من السنة، واستقرّت إيالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم يهجه منها أحد، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مسير العزيز من مصر إلى حصار الأفضل بدمشق وما استقرّ بينهم في الولايات كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقر بمصر كما ذكرناه، وكان موالي أبيه منحرفين عن الأفضل ورؤساؤهم يومئذ جهاركس وقراجا، وقد استقر بهم عدو الأفضل والأكراد وموالي شيركوه شيعة له، فكان العدو يعدون العزيز بهؤلاء الشيع ويخوّفونه من أخيه الأفضل ويغرونه بانتزاع دمشق من يده فسار لذلك سنة تسعين وخمسمائة ونزل على دمشق واستنزل الأفضل، وهو بأعماله بالجزيرة، وسار لعمه العادل بنفسه، وسار معه الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب، وناصر الدين محمد بن تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة وشيركوه
ابن محمد بن شيركوه صاحب حمص، وعساكر الموصل من قبل عز الدين مسعود بن مودود. وساروا كلهم إلى الأفضل بدمشق لإنجاده فامتنع على العزيز مرامه، وتراسلوا في الصلح على أن يكون القدس وأعمال فلسطين للعزيز، وجبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب، وتبقى دمشق وطبرية والغور للأفضل، وأن يستقر العادل بمصر مدبراً دولة العزيز على إقطاعه الأول، وإنعقد الصلح على ذلك، ورجع العزيز إلى مصر، وعاد كل إلى بلده، والله تعالى أعلم. حصار العزيز ثانياً دمشق وهزيمته ولما عاد العزيز إلى مصر عاد موالي صلاح الدين إلى أغرائه بأخيه الأفضل، فتجهز لحصاره بدمشق سنة إحدى وتسعين. وسار الأفضل من دمشق إلى عمه العادل بقلعة جعبر، ثم إلى أخيه الظاهر غازي بحلب مستنجداً لهما. وعاد إلى دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها، وإتفقا على أن تكون مصر للأفضل، ودمشق للعادل. ووصل العزيز إلى قرب دمشق. وكان الأكراد وموالي شيركوه منحرفين عنه كما قدمناه وشيعة للأفضل، ومقدمهم سيف الدين أبو ركوش من الموالي ، وأبو الهيجاء السمين من الأكراد فدلسا للأفضل بالخروج إلى العزيز، وواعداه الهزيمة عنه فخرجا في العساكر، وإنحاز إليهما الموالي والأكراد، وانهزم العزيز إلى مصر.وبعث الأفضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب العزيز، وساروا في إتباعه إلى مصر والعساكر ملتفة على الأفضل، فارتاب العادل وخشي أن لا يفي له الأفضل بما إتفقا عليه، ولا يمكنه من دمشق فراسل العزيز بالثبات وأن ينزل حامية، ووعد من نفسه المظاهرة على أخيه وتكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في عسكر من موالي أبيه. وأراد الأفضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل إلى مصر فمنعه أيضاً. وقال له: إن أخذت مصر عنوة إنخرقت الهيبة وطمع فيها الأعداء والمطاولة أولى ودس إلى العزيز بإرسال القاضي الفاضل. وكان مطاعاً فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء إليهما، وعقد الصلح بينهم على أن يكون للأفضل القدس وفلسطين وطبرية والأردن مضافة إلى دمشق، ويكون للعادل كما كان القديم. ويقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره، وتحالفوا على ذلك، وعاد الأفضل إلى دمشق، وأقام العادل عند العزيز بمصر إنتهى، والله أعلم. استيلاء العادل على دمشق ثم أنّ العزيز استمال العادل وأطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه ويسلمها إليه، وكان الظاهر
صاحب حلب يعذل الأفضل في موالاة عمه العادل، ويحرضه على إبعاده فيلج في ذلك. ثم أن العادل والعزيز ساروا من مصر وحاصرا دمشق. واستمالا من أمراء الأفضل أبا غالب الحمصي على وثوق الأفضل به وإحسانه إليه، ففتح لهما الباب الشرقي عشي السابع والعشرين من رجب سنة إثنتين وتسعين فدخل العادل منه إلى دمشق، ووقف العزيز بالميدان الأخضر، وخرج إليه أخوه الأفضل. ثم دخل الأفضل دار شيركوه، وأظهروا مصالحة الأفضل خشية من جموعه. وأعادوه إلى القلعة، وأقاموا بظاهر البلد. والأفضل يغاديهم كل يوم ويراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق، وتسليم أعمالهم وأعطوه قلعة صرخد. وملك العزيز القلعة. ونقل للعادل أنّ العزيز يريد أن يتردّد إلى دمشق فجاء إليه، وحمله على تسليم القلعة فسلمها، وخرج الأفضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به، وسار منه إلى صرخد. وعاد العزيز إلى مصر، وأقام العادل بدمشق، والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم.
فتح العادل يافا من الإفرنج واستيلاء الإفرنج على بيروت وحصارهم تبنبن ولما توفي صلاح الدين، وملك أولاده بعده، جدد العزيز الهدنة مع الكندهري ملك الإفرنج، كما عقد أبوه معه. وكان الأمير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث الشواني للإغارة على الإفرنج. وشكوا ذلك إلى العادل بدمشق، والعزيز بمصر فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأمدوهم بالعساكر، وأكثرهم من الألمان. ونزلوا بعكا، واستنجد العادل بالعزيز فبعث إليه بالعساكر، وجاءته عساكر الجزيرة والموصل، واجتمعوا بعين جالوت وأقاموا رمضان وبعض شوال من سنة إثنتين وتسعين ثم ساروا إلى يافا فملكوا المدينة أوّلاً وخربوها. وإمتنع الحامية بالقلعة فحاصرها وفتحوها عنوة واستباحوها. وجاء الإفرنج من عكا لصريخ إخوانهم، وإنتهوا إلى قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم، وخبر وفادة الكندهري ملكهم بعكا فرجعوا ثم اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذراً عليها من الإفرنج فتكفل له أسامة عاملها بحمايتها. وعاد ووصل إليها الإفرنج يوم عرفة من السنة، وهرب منها أسامة وملكوها. وفرق العادل العساكر فخربوا ما كان بقي من صيدا بعد تخريب صلاح الدين، وعاثوا في نواحي صور فعاد الإفرنج إلى صور، ونزل المسلمون على قلعة هونين. ثم نازل الإفرنج حصن تبنبن في صفر سنة أربع وتسعين، وبعث العادل عسكراً لحمايته فلم يغنوا عنه. ونقب الإفرنج أسواره
فبعث العادل بالصريخ إلى العزيز صاحب مصر فأغذ السير بعساكره، وانتهى إلى عسقلان في ربيع من السنة.وكان المسلمون في تبنبن قد بعثوا إلى الإفرنج من يستأمن لهم، ويسلمون لهم فأنذرهم بعض الإفرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم، وأصرّوا على الإمتناع حتى وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الإفرنج لوصوله، ولم يكن لهم ملك، وإنما كان معهم الجنصكير القسيس من أصحاب ملك الألمان، والمرأة زوجة الكندهري فاستدعوا ملك قبرص وإسمه هنري وهو أخ الملك الذي أسر بحطين فجاءهم وزوّجوه بملكتهم. فلما جاء العزيز وسار من عسقلان إلى جبل الخليل وأطلّ على الإفرنج وناوشهم القتال، رجع الإفرنج إلى صور ثم إلى عكا. ونزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز، واجتمع جماعة منهم وهم: ميمون القصري وقراسنقر والحجاب وابن المشطوب على الغدر بالعزيز ومدبر دولته فخر الدين جهاركس، فأغذ السير إلى مصر. وتراسل العادل والإفرنج في الصلح. وإنعقد بينهم في شعبان من السنة، ورجع العادل إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين كما يأتي خبره، والله تعالى أعلم. وفاة طغتكين بن أيوب باليمن وملك إبنه إسماعيل ثم سليمان بن تقيّ الدين شاهنشاه قد كان تقدّم لنا أنّ سيف الإسلام طغتكين بن أيوب سار إلى المدينة سنة ثمان وسبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه، واختلاف نوابه باليمن. واستولى عليها ونزل زبيد وأقام بها إلى أن توفي في شوّال سنة ثلاث وتسعين، وكان سيء السيرة كثير الظلم للرعية جماعاً للأموال. ولما استفحل بها أراد الاستيلاء على مكة فبعث، الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين يمنعه من ذلك فمنعه ولما توفي ملك مكانه إبنه إسماعيل وبلغ المعز وكان أهوج فانتسب في بني أمية، وادّعى الخلافة وتلقب بالهادي ولبس الخضرة وبعث إليه عمه العادل بالملامة والتوبيخ فلم يقبل، وأساء السيرة في رعيته وأهل دولته فوثبوا به وقتلوه.وتولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه، ونصب أخاه الناصر سنة ثمان وتسعين فأقام بأمره. ثم هلك سنقر لأربع سنين من دولته، وقام مكانه غازي بن جبريل من أمرائهم، وتزّوج أمّ الناصر . ثم قتل الناصر مسموماً وثأر العرب منه بغازي المذكور. وبقي أهل اليمن فوضى، واستولى على طغان وبلاد حضرموت محمد بن محمد الحميري، واستبدّت أمّ الناصر ، وملكت زبيد، وبعثت في طلب أحد من بني أيوب تملكه على
اليمن. وكان للمظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه، وقيل لإبنه سعد الدين شاهنشاه ابن إسمه سليمان ترهب ولبس المسموح، ولقيه بالموسم بعض غلمانها وجاءته فتزوجته وملكته اليمن، والله سبحانه وتعالى أعلم. مسير العادل إلى الجزيرة وحصاره ماردين كان نور الدين أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه وبين قطب الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكي، صاحب نصيبين والخابور والرقة، وبين أبيه عماد الدين قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم. فسار نور الدين إليه في عساكره، وملك منه نصيبين. ولحق قطب الدين بحران والرها إيالة العادل بن أيوب. وبعث إليه بالصريخ وهو بدمشق، وبذل له الأموال في إنجاده فسار العادل إلى حران، وإرتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل. وسار قطب الدين إليها فملكها، وسار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها. وكان صاحبها حسام الدين بولو أرسلان بن أبي الغازي بن ألبابن تمرتاش أبي الغازي بن أرتق، وهو صبي، وكافله مولى النظام برتقش مولى أبيه والحكم له. ودام حصاره عليها، وملك الربض وقطع الميرة عنها. ثم رحل عنها في العام القابل كما تقدم في أخبار دولة زنكي، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
وفاة العزيز صاحب مصر وولاية أخيه الأفضل ثم توفي العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرم سنة خمس وتسعين، وكان فخر الدين أياس جهاركس مولى أبيه مستبداً عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار ماردين يستدعيه للملك. وكان جهاركس هذا مقدم موالي صلاح الدين، وكانوا منحرفين عن الأفضل. وكان موالي صلاح الدين شيركوه والأكراد شيعة له. وجمعهم جهاركس لينظر في الولاية، وأشار بتوليه ابن العزيز فقال له سيف الدين أيازكوش مقدم موالي شيركوه: لا يصلح لذلك لصغره إلا أن يكفله أحد من ولد صلاح الدين. لأن رياسة العساكر صنعة. واتفقوا على الأفضل. ثم مضوا إلى القاضي الفاضل فأشار بذلك أيضاً وأرسل أيازكوش يستدعيه من صرخد فسار آخر صفر من السنة ولقيه الخبر في طريقه بطاعة القدس له، وخرج أمراء مصر فلقوه ببلبيس وأضافه أخوه المؤيد مسعود، وفخر الدين جهاركس ودولة العزيز فقدم أخاه وإرتاب جهاركس، واستأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى
القدس وتملكه. ولحقه جماعة من موالي صلاح الدين منهم: قراجاً الدكرمس وقراسنفر. وجاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم به، واتفقوا على عصيان الأفضل. وأرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم يعجل لإجابتهم لطمعه في أخذ ماردين، وإرتاب الأفضل بموالي صلاح الدين، وهم: شقيرة وأنبك مطيش وألبكي. ولحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس، وأرسل الأفضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا، وأقام هو بالقاهرة، وقرر دولته وقدم فيها سيف الدين أيازكوش والملك لابن أخيه العزيز عثمان، وهو كافل له لصغره. وانتظمت أمورهم على ذلك إنتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حصار الأفضل دمشق وعوده عنها ولما انتظمت الأمور للأفضل بعث إليه الظاهر غازي صاحب حلب، وابن عمه شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل عنها في حصار ماردين، ويعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة، ووصل إلى دمشق منتصف شعبان. وسبقه العادل إليها، وترك العساكر مع إبنه الكامل على ماردين ولما نزل الأفضل على دمشق وكان معه الأمير مجد الدين أخو عيسى الهكاري فداخل قوماً من الأجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة. ودخل منه هو والأفضل سراً وانتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل لقلتهم، وإنقطاع مددهم فتراجعوا وأخرجوهم. ونزل الأفضل بميدان الحصار. وضعف أمره واعصوصب الأكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون، وإنحازوا عنهم في المعسكر. ووصل شيركوه صاحب حمص، ثم الظاهر صاحب حلب آخر شعبان وأول رمضان لمظاهرة الأفضل. وأرسل العادل إلى موالي صلاح الدين بالقدس فساروا إليه وقوي بهم، ويئس الأفضل وأصحابه، وخرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم حذرين فرجعوا. وجاء الخبر إلى العادل بوصول إبنه محمد الكامل إلى حران فاستدعاه، ووصل منتصف صفر سنة ست وتسعين، فعند ذلك رحلت العساكر عن دمشق، وعاد كل منهم إلى بلاده إنتهى، والله أعلم. إفراح الكامل عن ماردين قد كان تقدم لنا مسير العادل إلى ماردين، وسار معه صاحب الموصل وغيره من ملوك الجزيرة وديار بكر، وفي نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين وغلبهم. فلما عاد العادل إلى
دمشق لمدافعة الأفضل وترك إبنه الكامل على حصار ماردين، واجتمع ملوك الجزيرة وديار بكر على مدافعته عنها. وسار نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل، وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر، واجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر، وارتحلوا سادس شوّال وقاربوا جبل ماردين. وكان أهل ماردين قد اشتدّ عليهم الحصار، وبعث النظام برتقش صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط إشترطها إلى أجل ضربه. وأذن لهم الكامل في إدخال الأقوات في تلك المدة. ثم جاءه الخبر بوصول صاحب الموصل ومن معه فنزل القائم للقائهم، وترك عسكراً بالربض. وبعث قطب الدين صاحب سنجار إلى الكامل، ووعده بالإنهزام فلم يغن. ولما التقى الفريقان حمل صاحب الموصل عليهم مستميتاً فانهزم الكامل، وصعد إلى الربض فوجد أهل ماردين قد غلبوا عسكره الذين هنالك ونهبوا مخلفهم. فارتحل الكامل منتصف شوال مجفلاً، ولحق بميافارقين. وإنتهب أهل ماردين مخلفه. ونزل صاحبها فلقي صاحب الموصل. وعاد إلى قلعته. وإرتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان والرها وبلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب يطلبه في السكة والخطبة، فارتاب لذلك، وكان عازماً على نصرتهم فقعد عنهم، وعاد إلى الموصل. وأرسل إلى الأفضل والظاهر يعتذر بمرض طرقه وهما يومئذ على دمشق، ووصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق وسار إليه في العساكر فأفرج عنه الأفضل والظاهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء العادل على مصر ولما رحل الأفضل والظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر، وأغراه موالي صلاح الدين بذلك، واستحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكاً وهو كافله. وبلغت الأخبار بذلك إلى الأفضل وهو في بلبيس فسار منها، ولقيهم فإنهزم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست وتسعين. ودخل القاهرة ليلاً، وحضر الصلاة على القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، توفي تلك الليلة. وسار العادل لحصار القاهرة، وتخاذل أصحاب الأفضل منه فأرسل إلى عمه في الصلح وتسليم الديار المصرية له على أن يعوضه دمشق أو بلاد الجزيرة وهي: حران والرها وسروج فلم يجبه، وعوضه ميافارقين وجبال نور، وتحالفوا على ذلك. وخرج الأفضل من القاهرة ثامن عشر ربيع واجتمع بالعادل، وسار إلى بلده صرخد ودخل العادل القاهرة من يومه، ولما
وصل الأفضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التي عوضه العادل، وكان بها إبنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين، وسلم ما عداها. وردّد الأفضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أن إبنه عصاه فعلم الأفضل أنه أمره، واستفحل العادل في مصر، وقطع خطبة المنصور بن العزيز، وخطب لنفسه واعترض الجند ومحصهم بالمحو والإثبات فاستوحشوا لذلك. وبعث العادل فخر الدين جهاركس مقدم موالي صلاح الدين في عسكر إلى بانياس ليحاصرها، ويملكها لنفسه ففصل من مصر للشام في جماعة الموالي الصلاحية وكان بها الأمير بشارة من أمراء الترك، إرتاب العادل بطاعته فبعث العساكر إليه مع جهاركس، والله تعالى أعلم. مسير الظاهر والأفضل إلى حصار دمشق ولما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الأمراء لذلك ولما كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب والأفضل بصرخد أن يحاصرا دمشق فيسير إليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر، ويقومون بدعوتهما. ونمي الخبر إلى العادل، وكتب به إليه الأمير عز الدين أسامة جاء من الحج، ومرّ بصرخد فلقيه الأفضل، ودعاه إلى أمرهم وأطلعه على ما عنده فكتب به إلى العادل، وأرسل العادل إلى إبنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار الأفضل بصرخد وكتاب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس، وإلى ميمون القصري صاحب بانياس بالمسير معه إلى صرخد ففر منها الأفضل إلى أخيه الظاهر بحلب، فوجده يتجهز لأنه بعث أميراً من أمرائه إلى العادل فرده من طريقه. فسار إلى منبج فملكها، ثم قلعة نجم كذلك، وذلك سلخ رجب من سنة سبع وتسعين وسار المعظم بقصد صرخد، وانتهى إلى بصرى، وبعث عن جهاركس والذين معه على بانياس فغالطوه ولم يجيبوه فعاد إلى دمشق. وبعث إليهم الأمير أسامة يستحثهم فأغلظوا له في القول، وتناوله البكاء منهم، وثاروا به جميعاً فتذمم لميمون القصري منهم فأمنه، وعاد إلى دمشق. ثم ساروا إلى الظاهر حضر به صلاح الدين وأنزله من صرخد، واستحثوا الظاهر والأفضل للوصول فتباطأ الظاهر عنهم، وسار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية. فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص ومعه أخوه الأفضل، ومنها إلى بعلبك وإلى دمشق. ووافاه هنالك الموالي الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم. وكان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن تكون بيد الأفضل فإذا ملكوا مصر سار إليها، وبقيت للظاهر. وأقطع الأفضل صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا، وأخرج أهله منها إلى حمص عند شيركوه بن محمد بن شيركوه وكان العادل قد
سار من مصر إلى الشام فانتهى إلى نابلس، وبعث عسكرا إلى دمشق، ووصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها يوماً وثانية منتصف ذي القعدة، وأشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الأفضل بأن دمشق تكون له فاعتذر بأن أهله في غير مستقرّ، ولعلهم يأوون إلى دمشق في خلال ما يملك مصر، فلجّ الظاهر فى ذلك. وكان الموالي الصلاحية مشتملين على الأفضل وشيعة له فخيرهم بين المقام والإنصراف، ولحق فخر الدين جهاركس وقراجا بدمشق فامتنعت عليهم، وعادوا إلى تجديد الصلح مع العادل على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفرطاب وبعض قرى المعرّة، والأفضل له سميساط وسروج ورأس عين وحملين فتم ذلك بينهم ورحلوا عن دمشق في محرّم سنة ثمان وتسعين وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى حمص فأقام بها عند أهله، ووصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء، وجاء الأفضل فلقيه بظاهر دمشق، وعاد إلى بلاده فتسلمها. وكان الظاهر والأفضل لما فعلا من منبج إلى دمشق بعثا إلى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاد العادل بالجزيرة، وكانت بينه وبينهما وبين صاحب ماردين يمين وإتفاق على العادل، منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم، فسار نور الدين عن الموصل في شعبان ومعه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وعسكر ماردين، ونزلوا رأس عين. وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور الدين في الصلح، ووصل الخبر بصلح العادل مع الظاهر والأفضل فأجابهم نور الدين إلى الصلح واستحلفوا، وبعث أرسلان من عنده إلى العادل فاستحلفوه أيضاً وصحت الحال، والله تعالى ولي التوفيق. حصار ماردين ثم الصلح بين العادل والأشرف: ثم بعث الملك العادل إبنه الأشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار إليها ومعه عساكر الموصل وسنجار، ونزلوا بالحريم تحت ماردين. وسار عسكر من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الأشرف، فلقيهم جماعة من عسكر الأشرف وهزموهم. وأفسد التركمان السابلة في تلك النواحي، وامتنع على الأشرف قصده فتوسط الظاهر غازي في الإصلاح بينهم، على أن يحمل صاحب ماردين للعادل مائة وخمسين ألف دينار، والدينار أحد عشر قيراطاً من الأميري، ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه، وتعسكر طائفة من جنده متى دعاهم لذلك، فأجاب العادل وتم الصلح بينهما، ورحل الأشرف عن ماردين، والله أعلم.
أخذ البلاد من يد الافضل:
قد كان تقدّم أن الظاهر والأفضل لما صالحا العادل سنة سبع وتسعين أخذ الأفضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين، وكانت بيده معها قلعة نجم التي ملكها الظاهر بين يدي الحصار قبل الصلح ثم استردّ العادل البلاد من يد الأفضل سنة تسع وتسعين، وأبقى له سميساط وقلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم على أن يشفع له عند العادل في ردّ ما أخذ منه فلم يجب فتهدده. ولم تزل الرسل تتردد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة، وبعث الأفضل أمه إلى العادل في رد سروج ورأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الأفضل إلى ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بطاعته وأن يخطب له فبعث إليه بالخلعة، وخطب له الأفضل في سميساط سنة ستمائة. وسار من جملة نوابه في أعماله. وفي سنة تسع وتسعين هذه خاف على مصر محمود بن العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها، لأنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين خاف على مصر من شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق. ثم نقله في هذه السنة إلى الرها، ومعه أخواته وأمه وأهله فأقاموا بها، والله أعلم.
واقعةالأشرف مع صاحب الموصل:
كانت الفتنة متصلة بين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل، وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واستمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له بأعماله. وسار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة ستمائة. وبعث قطب الدين يستمد الأشرف موسى بن العادل وهو بحران فسار إلى رأس عين لإمداده، ومدافعة نور الدين عنه بعد أن إتفق على ذلك مع مظّفر الدين صاحب أربل، وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب كيفا وآمد. ففارق نور الدين نصيبين، وسار إليها الأشرف، وجاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين وصاحب كيفا وصاحب الجزيرة، وساروا جميعاً إلى بلد البقعا ونور الدين صاحب الموصل قد إنصرف من تل أعفر، وقد ملكها إلى كفرزمان معتزماً على مطاولتهم إلى أن يفترقوا. ثم أغراه بعض مواليه كان بعثه عيناً عليهم فقللهم في عينه، وحرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا ونزل قريباً منهم. ثم ركب لقتالهم واقتتلوا فانهزم نور الدين ولحق بالموصل ونزل الأشرف وأصحابه كفر رمان وعاثوا في البلاد واكتسحوها. وترددت الرسل بينهم في الصلح على أن
يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل أعفر التي أخذها له فتم ذلك سنة إحدى وستمائة وعاد إلى بلده، والله تعالى أعلم.
وصول الإفرنج إلى الشام والصلح معهم: ولما ملك الإفرنج القسطنطينية من يد الروم سنة إحدى وستمائة تكالبوا على البلاد، ووصل جمع منهم إلى الشام وأرسلوا بعكا عازمين على إرتجاع القدس من المسلمين. ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها، وكان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشام ومصر، وسار فنزل بالطور قريباً من عكا لمدافعتهم وهم قبالته بمرج عكا. وساروا إلى كفركنا فاستباحوه. ثم إنقضت إحدى وستمائة وتراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة وغيرها، ويعطيهم وغيرها. وتم ذلك بينهم وسار العادل إلى مصر فقصد الإفرنج حماة، وقاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه وأقاموا أياماً عليها ثم رجعوا، والله تعالى أعلم. غارة ابن ليون على أعمال حلب: قد تقدم لنا ذكر ابن ليون ملك الأرمن وصاحب الدروب فأغار سنة إثنتين وستمائة على أعمال حلب واكتسحها، واتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازي صاحب حلب، ونزل على خمسة فراسخ من حلب وفي مقدمته ميمون القصري من موالي أبيه منسوباً إلى قصر الخلفاء بمصر ومنه كان أبوه. وكان الطريق إلى بلاد الأرمن متعذراً من حلب لتوعر الجبال وصعوبة المضايق، وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده لما يلي حلب، ومن ثغورها قلعة دربساك فخشي الظاهر عليها منه، وبعث إليها مدداً، وأمر ميمون القصري أن يشيعه بطائفة من عسكره ففعل، وبقي في خف من الجند. ووصل خبره إلى ابن ليون فكبس القصري ونال منه ومن المسلمين، وانهزموا أمامه فظفر بمخلفهم، ورجع فلقي في طريقه المدد الذي بعث إلى دربساك فهزمهم وظفر بما كان معهم، وعاد الأرمن إلى بلادهم فاعتصموا بحصونهم، والله تعالى أعلم.
استيلاء نجم الدين بن العادل على خلاط:
كان العادل قد استولى على ميافارقين، وأنزل بها إبنه الأوحد نجم الدين. ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط، وزحف اليها سنة ثلاث وستمائة، وقد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقاتلة وهزمه، وعاد إلى ميافارقين فهزمهم. ثم دخلت سنة أربع وستمائة. وملك مدينة سوس وغيرها، وأمده أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط وسار إليه بليان فهزمه نجم الدين وحاصره بخلاط. وبعث بليان إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم يستنجده فجاء في عساكره، واجتمع مع بليان، وإنهزم نجم الدين ونزلا على مدينة تلبوس فحاصرها. ثم غدر طغرل شاه ببليان وقتله وسار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها، فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه، فعاد إلى بلاده. وأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط وأعمالها، وخافه الملوك المجاورون له وملك الكرك، وتابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج إليهم خشية على خلاط. واعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن وإن من أعظم الحصون وأمنعها فعصوا على نجم الدين، وإجتمع إليهم جمع كثير، وملكوا مدينة أرجيش واستمدّ نجم الدين على خلاط وأعمالها، وعاد أخوه الأشرف إلى أعماله بحران والرها. ثم سار الأوحد نجم الدين إلى ملازكرد ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم وحصروا أصحابه بالقلعة، ونادوا بشعار بني شاهرين. وعاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم وحاصر خلاط، واختلف أهلها فملكها واستلحم أهلها، وحبس كثيراً من أعيانها كانوا فارين وذل أهل خلاط لبني أيوب بعد هذه الوقعة إلى آخر الدولة، والله تعالى أعلم.
غارات الإفرنج بالشام:
كان الإفرنج بالشام قد أكثروا الغارات سنة أربع وستمائة بحشد ثان ثم ملكوا القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس، وحصن الأكراد منهم على حمص وأعمالها. وعجز صاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه عن دفاعهم، واستنجد عليهم فانجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده للمدافعة عنه. وأغار أهل قبرص في البحر على أسطول مصر فظفروا
منه بعدة قطع، وأسروا من وجدوا فيها وبعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأن أهل قبرص في طاعة الإفرنج الذين بالقسطنطينية، وأنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين. ثم سار إلى حمص، ونازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه وأطلق صاحبه وغنم ما فيه وخربه، وتقدم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها إثني عشر يوماً، وعاد إلى بحيرة قدس. وراسله الإفرنج في الصلح فلم يجبهم وأظله الشتاء فأذن لعساكر الجزيرة في العود إلى بلادهم وترك عند صاحب حمص عسكراً أنجده بهم، وعاد إلى دمشق فشتى بها، والله أعلم.
غارات الكرج على خلاط و أعمالها وملكهم أرجيش: ولما ملك الأوحد نجم الدين خلاط كما مرّ ردد الكرج الغارات على أعمالها وعاثوا فيها، ثم ساروا سنة خمس وستمائة إلى مدينة أرجيش فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها وخرّبوها. وخام نجم الدين عن لقائهم ومدافعتهم إلى أن إنتقض عليه أهل خلاط لما فارقها ؛ ووقع بينه وبينهم ما مّر. ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط وحاصروها، وحاربهم الأوحد وهزمهم وأسر ملكهم، ثم فاداه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير، وعلى الهدنة مع المسلمين وأن يزوج بنته من الأوحد فانعقد ذلك، والله تعالى أعلم بغيبه. استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من عمل سنجار وحصارها: قد تقدّم لنا أن قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود صاحب سنجار والخابور ونصيبين وما إليها، كانت بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وفتنة متصلة، وزوج نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس وستمائة. وإتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه وأهل دولته أن يستنجد بالعادل على جزيرة ابن عمر وأعمالها، التي لابن عمه سنجار شاه ابن غازي ابن مودود فتكون الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل. وملك العادل سنجار وما إليها، وهي ولاية قطب الدين فتكون له، فأجاب العادل إلى ذلك، ورآه ذريعة إلى ملك الموصل. وأطمع نور الدين في أيالة
قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الذي هو صهره على إبنته، وتكون عنده بالموصل وسار العادل بعساكره سنة ست وستمائة وقصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ أنه لا مانع منه، وندم على ما فرط في رأيه من وفادته، ورجع إلى الإستعداد للحصار. وخوفه الوزراء والحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به. وسارالعادل من الخابور إلى نصيبين فملكها، وقام بمدافعته عن قطب الدين، وحماية البلد من الأمير أحمد بن برتقش مولى أبيه. وشرع نور الدين صاحب سنجار إبنه مظفر الدين يستشفع به إلى العادل لمكانه منه، وأثره في موالاته فشفع، ولم يشفعه العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الإتفاق على العادل فأجابه.وسار بعساكره من الموصل وإجتمع مع نور الدين بظاهرها واستنجد بصاحب حلب الظاهر، وصاحب بلاد الروم كخسرو وتداعوا على الحركة إلى بلاد العادل إن امتنع من الصلح، والإبقاء على صاحب سنجار، وبعثوا إلى الخليفة الناصر أن يأمر العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك، والأمير اقباش من خواص مواليه فأجاب إلى ذلك. ثم غالطهم وذهب إلى المطاولة، ثم صالحهم على سنجار فقط وله ما أخذ وتحالفوا على ذلك، وعاد كل إلى بلده. ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر وستمائة على الأمير أسامة بأمر أبيه العادل، وأخذ منه حصن كوكب وعجلون وكانا من أعماله فخربهما، وحصن أردن بالكوكب وبنى مكانه حصناً قرب عكا على جبل الطور، وشحنه بالرجال والأقوات، والله تعالى أعلم.
وفاة الظاهر صاحب حلب وولاية إبنه العزيز: لما توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام في جمادى الأخيرة سنة ثلاث عشرة، وكان مرهف الحدّ ضابطاً جماعة للأموال شديد الإنتقام محسناً للقضاة، وعهد بالملك لإبنه الصغير محمد بن الظاهر وهو ابن ثلاث سنين، وعدل عن الكبير لأن أمه بنت عمه العادل ولقبه العزيز غياث الدين، وجعل أتابكه وكافله وخادمه، طغرلبك، ولقبه شهاب الدين. وكان خيراً صاحب إحسان ومعروف فأحسن كفالة الولد، وعدل في سيرته، وضبط الإيالة بجميل نظره، والله أعلم. ولاية مسعود بن الكامل على اليمن: ولما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع وتسعين وخمسمائة أساء إلى زوجته أمّ الناصر
التي ملكته، وضارّها وأعرض عنها واستبدّ بملكه، وملأ الدنيا ظلماً. وأقام على ذلك ثلاث عشرة سنة. ثم إنتقض على العادل وأساء معاملته، وكتب إليه بعض الأحيان: "أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم " فكتب العادل إلى إبنه الكامل أن يبعث العساكر إلى اليمن مع وال من قبله، فبعث إبنه المسعود يوسف، وإسمه بالتركي أقسنس، في العساكر سنة إثنتي عشرة وستمائة فملك اليمن، وقبض على سليمان شاه وبعث به معتقلاً إلى مصر. فلم يزل بها إلى أن استشهد في حروب دمياط مع الإفرنج أعوام تسع وأربعين وطالت أيام مسعود باليمن وحج سنة تسع عشرة، وقدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب إليه أبوه الكامل: برئت من العادل يا أخس إن لم أقطع يمينك، فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فاستعتب إلى أبيه وأعتبه. ثم غلب سنة ست وعشرين على مكة من يد الحسن بن قتادة سيد بني أدريس بن مطاعن من بني حسن وولّى عليها وعاد إلى اليمن فهلك بقية السنة ؛ وغلب على أمر اليمن بعده علي بن رسول أستاذ داره، ونصب للملك إبنه الأشرف موسى وكفله ثم هلك موسى واستبدّ ابن رسول باليمن، وأورثه بنيه فكانت لهم دولة إتصلت لهذا العهد، كما نذكره في أخبارها إن شاء الله تعالى.
وصول الإفرنج من وراء البحر إلى سواحل الشام ومسيرهم إلى دمياط وحصارها واستيلاؤهم عليها: كان صاحب رومة أعظم ملوك الإفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي، وكانوا كلهم يدينون بطاعته، وبلغة اختلاف أموال الإفرنج بساحل الشام وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من إيالته. وتقدّم إلى ملوك الإفرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا العساكر فامتثلوا أمره، وتوافت الأمداد إلى عكا من سواحل الشام سنة أربع عشرة. وسار العادل من مصر إلى الرملة وبرز الإفرنج من عكا ليصدوه فسار إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد، ويدافعهم عنها فسبقوه. ونزل هو على بيسان من الأردن، وزحف الإفرنج لحربه في شعبان من السنة، وكان في خف من العساكر فخام عن لقائهم. ورجع إلى دمشق ونزل مرج الصفر. وإستدعى العساكر ليجمعها، وإنتهب الفرنج مخلفه في بيسان، واكتسحوا ما بينها وبين بانياس. ونزلوا بانياس ثلاثا، ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الأعمال، وامتلأت أيديهم من نهبها وسباياها. ثم ساروا إلى صور ونهبوا صيدا والشقيف على فرسخين من بانياس، وعادوا إلى عكا بعد عيد الفطر. ثم حاصروا حصن الطور على جبل
قريب من عكا، كان العادل أختطها فحاصروها سبعة عشر يوماً، وقتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها. وبعث العادل إبنه المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الإفرنج. ثم سار الإفرنج من عكا في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها في صفر، والنيل بينهم وبينها. وكان على النيل برج حصين تمرّ منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمة تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر. فلما نزل الإفرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سورا بينهم وبين الخندق، وشرعوا في حصار دمياط واستكثروا من آلات الحصار وبعث العادل إلى إبنه الكامل بمصر أن يخرج في العساكر ويقف قبالتهم ففعل، وخرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل قريباً من دمياط بالعادلية. وألحّ الإفرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر، حتى ملكوه ووجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط، فبنى الكامل عوض السلاسل جسراً عظيماً يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا عليه قتالاً شديداً حتى قطعوه. فأمر الكامل بمراكب مملوءة بالحجارة وحرقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل، فعدل الإفرنج إلى خليج الأزرق. وكان النيل يجري فيه قديماً فحفروه فوق الجسر، وأجروا فيه الماء إلى البحر، وأصعدوا مراكبهم إلى قبالة معسكر المسلمين ليتمكنوا من قتالهم، لأنّ دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا معهم وهم في مراكبهم فلم يظفروا. والميرة والإمداد متصلة إلى دمياط، والنيل حاجز بينهم وبين الإفرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق. ثم بلغ الخبر بموت العادل فاختلف العسكر، وسعى مقدم الأمراء عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري في خلع الكامل وولاية أخيه الأصغر الفائز. ونمي الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى أشمون طناح، وتفقده المسلمون من الغد فأجفلوا ولحقوا بالكامل، وخلفوا سوادهم بما فيه فاستولى عليه الإفرنج، وعبروا النيل إلى البرّ المتصل بدمياط، وجالوا بينها وبين أرض مصر. وفسدت السابلة بالأعراب، وإنقطعت الميرة عن دمياط، واشتدّ الإفرنج في قتالها وهي في قلة من الحاميةلإجفال المسلمين عنها بغتة. ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الإفرنج فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة، وبنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروا ورجعوا إلى عمارة دمياط وتحصينها، وأقام الكامل قريباً منهم لحماية البلاد. وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط، والله تعالى أعلم.
وفاة العادل واقتسام الملك بين بنيه:
قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاؤا من وراء البحر إلى سواحل الشام سنة أربع عشرة، وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان، وأنه عاد إلى مرج الصفر قريباً من دمشق فأقام به، فلما سار الإفرنج إلى دمياط إنتقل هو إلى خانقين فأقام بها. ثم مرض وتوفي سابع جمادي الأخيرة سنة خمس عشرة وستمائة لثلاث وعشرين سنة من ملكه دمشق، وخمس وسبعين من عمره. وكان إبنه المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق. وقام بملكها واستأثر بمخلفه من المال والسلاح، وكان لا يعبر عنه. يقال: كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار. وكان ملكاً حليماً صبوراً مسدداً صاحب إفادة وخديعة منجمة في أحواله. وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه: فمصر للكامل، ودمشق والقدس وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى، وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة غير الرها ونصيبين وميافارقين للأشرف موسى، والرها وميافارقين لشهاب الدين غازي، وقلعة جعبر للخضر أرسلان شاه.فلما توفي إستقل كل منهم بعمله. وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب عساكره، وسعى المشطوب كما تقدم في ولاية أخيه الفائز، ووصل الخبر بذلك إلى المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر. وأخرج المشطوب إلى الشام فلحق بأخيهما الأشرف، وصار في جملته. واستقام للكامل ملكه بمصر، ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة، وخرب أسواره حذراً عليه من الإفرنج. وملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه. وأقام الكامل قبالتهم، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
وفاة المنصور صاب حماة وولاية إبنه الناصر :
قد تقدم لنا أنّ صلاح الدين كان قد أقطع تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها، ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة، فأقطعه إياها صلاح الدين. ثم سار إلى بلاد أرمينية وقصد بكتمر صاحب خلاط وحاصرها. ثم إنتقل إلى حصار ملازكرد. وهلك عليها تلك السنة وتولى إبنه ناصر الدين محمد، ويلقب المنصور على أعماله. ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة وأقطعها أخاه العادل، وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عمّ أبيه صلاح الدين والعادل.
وكان إبنه ولي عهده المظفر عند العادل بمصر، وإبنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره لملازكرد فاستدعاه أهل دولته بحماة، واشترط المعظم عليه مال يحمله وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر وجاءه أخوه ولي العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم، وكاتبهم واستمالهم فلم يجيبوه، ورجع إلى مصر، والله تعالى أعلم.
مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وإنهزامه ودخولها في طاعة الأشرف: قد كنا قدمناه وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث عشرة وولاية إبنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر، وأنّ شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل، وعف عن أموال الرعية. ورد السعاية فيهم بعضهم على بعض. وكان بحلب رجلان من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس، ولقي الناس منهما شدّة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشر، ورد عليهما السعاية فكسدت سوقهما، وتناولهما الناس بالألسنة والوعيد فلحقا ببلاد الروم، وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها. ثم رأى أن ذلك لا يتم إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه.وكان الأفضل بن صلاح الدين بسميساط، وقد دخل في طاعة كيكاوس غضباً من أخيه الظاهر وعمه العادل بما إنتزعاً من أعماله فاستدعاه كيكاوس، وطلبه في المسير على أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل والخطبة والسكة لكيكاوس. ثم يقصدون بلاد الأشراف بالجزيرة: حران والرها وما إليهما على هذا الحكم، وتحالفواعلى ذلك، وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل. ثم قلعة تل باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم الباروقي بعد أن كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الأفضل وأهل البلد أن بفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيماً بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة باسمه، ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر، وسار إليهم سنة خمس عشرة ومعه وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب. ونزل بظاهر حلب
وتوجه كيكاوس والأفضل من تل باشر إلى منبج. وسار الأشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها. فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده. وسار الأشرف فملك رعبان وتل باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس، وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا. وسلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب، واعتزم على إتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه الخبر بوفاة أبيه العادل فرجع. إنتهى، والله تعالى أعلم.
دخول الموصل في طاعة الأشراف وملكه سنجار:
قد ذكرنا في دوله بني زنكي أن القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة، وولى إبنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته. وكان أخوه عماد الدين زنكي في قلعة الصغد والسوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك، وأنه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه وملك العمادية. وظاهره مظفر الدين كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن العادل، والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته. فأرسل إليه بالطاعة، وكان على حلب مدافعاً لكياكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد، فأجابه الأشرف بالقبول ووعده النصر على أعدائه. وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه، ما وقع من نكث العهد في اليمن التي كانت بينهم جميعاً ، ويأمره بإعادة عماد الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل، وإلا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والأشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج. فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد، يجهز إلى الأشرف عساكرا إلى نصيبين لؤلؤ صاحب الموصل. ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه ولحق بإربل عند المظفر، وجاءت الرسل من الخليفة الناصر والملك الأشرف فأصلحوا بينهما وتحالفا. ثم وثب عماد الدين زنكي إلى قلعة كواشي فملكها وبعث لؤلؤ إلى الأشرف، وهو
على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران، واستمال مظفر الدين ملوك الأطراف، وحملهم على طاعة كيكاوس والخطبة له، وكان عدو الأشرف ومنازعاً له في منبج كما نذكره. وبعث أيضاً إلى الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي المشطوب صاحب القلعة مع الكامل على دمياط، وعز الدين محمد بن نور الدين الحميدي. وفارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف من العبور إلى الموصل. ثم استمال الأشرف
صاحب كيفا وآمد، وأعطاه مدينة جانين وجبل الجودي، ووعده بدارا إذا ملكها. ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع، وسار كل ملك إلى عمله. وسار ابن المشطوب إلى إربل، ومرّ بنصيبين فقاتله عساكرها وهزموه، وافترق جمعه، ومضى منهزماً. واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكراً فجاؤا به أسيراً وكان في طاعة الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار. ثم سار ثانيا للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكراً بتل أعفر من أعمال سنجار. فلما مر بهم قاتلوه، وصعد إلى تل أعفر منهزماً. وجاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهراً أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة. وحبس ابن المشطوب بالموصل. ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر من سنة سبع عشرة. ولما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران محاصراً لماردين. ثم صالحه على أن يرد عليه رأس عين، وكان الأشرف أقطعه له. وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار، وعلى أن يعطي صاحب كيفا وآمد قلعة المور من بلده. رجع الأشراف دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه، وساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد للأشراف، وتسليم سنجار له، والإعتياض عنها بالرقه وبعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك، وسلم إليه الرقة، وسلم سنجار في مستهل جمادى الأولى سنة سبعة عشر. وفارقها عمر فروخ شاه وإخوته بأهليهم وأموالهم. وسار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الأولى من السنة. وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح، ورد ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العمادية. وطال الحديث في ذلك ورحل الأشرف يريد إربل. ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره من بطانته، وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح، وفسح لهم في تسليم القلاع إلى مدة ضربوها. وسار عماد الدين مع الأشرف حتى يتم تسليم الباقي ورحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان، وبعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم، وانقضى الأجل. واستمال عماد الدين زنكي شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه، ورد عليه قلعة العقروسوس، وسلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار، والله تعالى أعلم.
ارتجاع دمياط من يد الإفرنج: ولما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصينها، ورجع الكامل إلى مصر وعسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم. وبنى المنصورة بعد المنزلة، وأقام كذلك سنين. وبلغ الإفرنج وراء البحر فتحها، واستيلاء إخوانهم عليها فلهجوا بذلك. وتوالت امدادهم في كل وقت إليها، والكامل مقيم بمكانه. وتواترت الأخبار بظهور التتر، ووصولهم إلى أذربيجان وأران، وأصبح المسلمون بمصر والشام على تخوف من سائر جهاتهم. واستنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق، وأخيه الأشرف صاحب الجزيرة وأرمينية. وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة.ثم تقدم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر، وأعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما. وسار المعظم إلى الأشرف يستحثه، فجاء معه إلى دمشق، وسار منها إلى مصر، ومعه عساكر حلب، والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والأمجد صاحب بعلبك فوجدوا على بحر أشمون وقد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم، ونزلوا قبالته بعدوة النيل، وهم يرمون على معسكره بالمجانيق، والناس قد أشفقوا من الإفرنج على الديار المصرية، فسار الكامل وبقي أخوه الأشرف بمصر. وجاء المعظم بعد الأشرف وقصد دمياط يسابق الإفرنج ونزل الكامل والأشرف وظفرت شواني المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها. ثم ترددت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية، وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا إعادة الكرك والشويك، وزيادة ثلثمائة ألف دينار لرمّ أسوار القدس التي خربها المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم. وافتقد الإفرنج الأقوات لأنهم لم يحملوها من دمياط ظناَ بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا.ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها فركبها الماء، ولم يبق لهم إلا مسلك ضيق. ونصب الكامل الجسور عند أشمون فعبرت العساكر عليها، وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الإفرنج وبين دمياط. ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات، فخرجت عليها شواني المسلمين وهي في تلك الحال فغنموها بما فيها. واشتد الحال عليهم في معسكرهم، وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل جانب، فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا الإستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل والأشرف
على تسليم دمياط من غير عوض. وبينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مر فازدادوا وهناً وخذلاناً، وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة، وأعطوا عشرين ملكاً منهم رهناً عليها. وأرسلوا الأقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين، وكان يوماً مشهوداً. ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم، ودخلها المسلمون وقد حصنها الإفرنج فأصبحت من أمنع حصون الإسلام، والله تعالى أعلم.
وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط وولاية أخيه الظاهر غازي عليها: قد تقدم لنا أن الأوحد نجم الدين بن عادل ملك ميافارقين، وبعدها خلاط وأرمينية سنة ثلاث وستمائة. ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الأعمال لأخيه الأشرف. ثم أقطع العادل إبنه الظاهر غازي سنة ست عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفي العادل، واستقل ولده الأشرف بالبلاد الشرقية عقد لأخيه غازي على خلاط وميافارقين مضافاً إلى ولايته من أبيه العادل، وهو سروج والرها. وجعله ولي عهده لأنه كان عاقراً لا يولد له. وأقام على ذلك أن انتقض على الأشرف عندما حدثت الفتنة بين بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه، كما نذكره إن شاء الله تعالى. فتنة المعظم مع أخوية الكامل والأشرف ومال دعت إليه من الأحوال: كان بنو العادل الكامل والأشرف والمعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه، وكان الأشرف والمعظم يرجعان إلى الكامل وفي طاعته. ثم تغلب عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر، وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى سلمية والمعرّة من أعمالها فملكها. وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير والإفراج عن البلد فامتثل، وأضغن ذلك عليه. وأقطع الكامل سلمية لنزيله المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة، وكشف المعظم قناعه في فتنة أخويه الكامل والأشرف. وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما. وكان جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة
وعراق العجم وأجاز إلى الهند. ثم رجع سنة إحدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم وأذربيجان ونزل توريز، وجاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه واستنجده على أخويه فأجابه. ودعا المعظم الظاهر أخا الأشرف وعامله على خلاط والمظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم، وانتقض الظاهر غازي على أخيه الأشرف في خلاط وأرمينية، وأظهر عصيانه في ولايته التي بيده إليه الأشرف سنة إحدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها، وولى عليها حسام الدين أبا على الموصلي، كان أصله من الموصل. واستخدم للأشرف وترقى في خدمته إلى أن ولاه خلاط، وعفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي وأقره على ميافارقين. وسار المظفر صاحب إربل و لؤلؤ صاحبها في طاعة الأشرف فحاصرها، وامتنعت عليه ورجع عنها. وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص، وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت عليه، ورجع إلى دمشق. ثم سار الأشرف إلى المعظم طالباً للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل. وإنطلق إلى بلده فاستمر على شأنه. ثم زحف جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحاصرها مرة بعد مرة، وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين. وملك حصونها واضطرب الحال بينهم، وخشي الكامل مغبة الأمر مع المعظم بمالأته لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج، وكاتب الإمبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه، على أن ينزل له عن القدس. وبلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه، والله تعالى أعلم.
وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية إبنه الناصر ثم استيلاء الأشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك: ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين، وولي مكانه إبنه داود ولقب بالناصر. وقام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه، وجرى على سنن المعظم أولا في طاعة الكامل والخطبة. ثم انتقض سنة خمس وعشرين عندما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشويك فامتنع وانتقض، وسار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة، وانتزع القدس ونابلس من أيديهم، وولى عليها من قبله. واستنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق، وخرج منها إلى نابلس. ثم تقدم منها إلى الكامل ليصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى إنتزاع دمشق من الناصر له، وأقطعه إياها فلم يجب الناصر إلى ذلك. وعاد إلى دمشق فحاصره
الأشرف.ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ لأمر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك وزحف الكامل إلى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الأشرف. وخاف الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقل بالكرك والشوبك والبلقاء ؛ فسلموا له في ذلك وسار إليها. واستولى الأشرف على دمشق ونزل الكامل عن أعماله، وهي حران والرها وما إليهما وبمكانهما من حصار دمشق، ووصل الخبر إلى الكامل بوفاة إبنه المسعود صاحب اليمن وقد مرّ خبره، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر : ولما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود فى بن المنصور صاحب حماة وبها أخوه الناصر ، وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر، وسار إليها فحاصرها. ودس لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه ليلا فطرقها وتسّورها وملكها. وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه إياها، وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، واستقل المظفر محمود بملك حماة، وفوض أمور دولته إلى حسام الدين علي بن أبي عليّ الهدباني فقام بها. ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب، ولم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنه ثلاثين فهم الناصر بأن يملكها للإفرنج، وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه. ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين، إنتهى، والله أعلم. استيلاء الأشرف على بعلبك من يد الأمجد وإقطاعها لأخيه إسماعيل بن العادل: كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخنشاه أخي تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبك، وكانت بصرى لخضر. ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الأشرف وعليها أخوه إسماعيل بن العادل فجهزه سنة ست وعشرين إلى بعلبك وحاصر بها
الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه إياه. وسار إسماعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتله مواليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف واستيلاؤه على خلاط: قد كنا قدمنا أن جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان، وجاور أعمال بني أيوب. وكان الأشرف قد ولى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة إثنتين وعشرين حسام الدين أبا على الموصلي. ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرتين، ورجع عنها فسار حسام الدين إلى بلده وملك بعض حصونه، وداخل زوجته التي كانت زوجة أزبك بن البهلوان، وكانت مقيمة بخوي وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من التحكم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط ؛ واستدعته هي وأهل خوي ليملكوه البلاد فسار وملك خوي وما فيها عن الحصون ومدينة قرند.وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه زوجة جلال الدين وهي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك. ثم إرتاب الأشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين أيبك فقبض على حسام الدين، وكان عدوا له وقتله غيلة، وهرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها المجانيق، وقطع عنها الميرة مدة ثمانية أشهر. ثم ألح عليها بالقتال وملكها عنوة آخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين وامتنع أيبك وحاميتها بالقلعة واستماتوا، واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم يسمع بمثله. ثم تغلب على القلعة وأسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده، والله تعالى أعلم. مسير الكامل في إنجاد الأشرف وهزيمة جلال الدين أمام الأشرف: ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه ؛ وولى على مصر إبنه العادل ولقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن
المعظم ، وصاحب حماة المظفر بن المنصور، وسائر بني أيوب. وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته. ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد ابن الصالح بن محمد بن أرسلان بن سقمان بن أرتق، وكان صلاح الدين أقطعه إياها عندما ملكها من ابن نعشان، فلما نزل إليه إعتقله وملك آمد. ثم إنطلق بعد وفاة الكامل من الإعتقال ولحق بالتتر. ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنها الأشرف عوضاً عن دمشق وهي حران والرها وما إليهما.ولما تسلمها ولى عليها إبنه الصالح نجم الدين أيوب، وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم فاغتم لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم، لما بينه وبين صاحب أرزن من العداوة والقرابة، وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والأشرف بحران يستنجدهما، ويستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشام. وسار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط. وسار جلال الدين للقائهما والتقوا بأعمال أرزنكان وتقدم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين بن على الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين. وإنهزم إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق بأذربيجان. ووقف الأشرف على خلاط وهي خاوية. وكان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيراً إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن وسلمها له وما يتبعها من القلاع. ثم ترددت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده وتحالفوا، وعاد الأشرف إلى سنجار. وسار أخوه غازي صاحب ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر، وكان حاضراً مع الأشرف في هذه الحروب، وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازي وحاصره وملك منه أرزن صلحاً ، وأعطاه عنها مدينة جاني من ديار بكر، وكان إسمه حسام الدين، وكان من بيت عريق في الملك يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه، والله تعالى أعلم. استيلاء العزيز صاحب حلب على شيرز ثم وفاته وولاية إبنه الناصر بعده: كان سابق الدين عثمان بن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، واعتقله إبنه الصالح إسماعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك، وسار ببنيه إلى دمشق فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه إلى أن استقرت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين
وستمائة وملكها من يده. ثم هلك سنة أربع وثلاثين وملك في حلب مكانه إبنه الناصر يوسف في كفالة جدته لأبيه صفية خاتون بنت العادل. واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني وعز الدين المجلي وإقبال الخاتوني ، وكلهم في تصريفها، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على خلاط: كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومد يده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين شاه كما قدمناه، ونازعه الأشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة إحدى وثلاثين. وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم. وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب. ثم استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه وملك خرت برت، وكان لبني أرتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة إثنتين وثلاثين وكيقباد في أتباعهم. ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولى عليها من قبله، وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم. وفاة الأشرف بن العادل واستيلاء الكامل على ممالكه: كان الأشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل، ونقض طاعته ومالأه على ذلك أهل حلب وكنخسرو ، صاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشام من قرابتهما غيرالناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل، وسار إليه بمصر فتلقاه بالميرة والتكرمة ، ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة خمس وثلاثين وعهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسماعيل صاحب بصرى فسار إليها وملكها. وبقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل، وسار الكامل إلى دمشق فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحاً من الصالح، وعوضه عنها بعلبك، واستولى على سائر أعمال الأشرف، ودخل سائر بني أبوب في طاعته والله أعلم.
وفاة الكامل وولاية إبنه العادل بمصر واستيلاء إبنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق: ثم توفي الكامل بن العادل صاحب دمشق ومصر والجزيرة سنة خمس وثلاثين بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الأشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده ؛ المظفر إلى حماة، والناصر إلى الكرك، وبويع بمصر إبنه العادل أبو بكر فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائباً عنه وسار الناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس وهزمه. وتمكن في ملك دمشق وخلع طاعة العادل بن الكامل، وراسل الصالح أيوب في أن يملكه دمشق وينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التي ولاه أبوه عليها فسار الصالح لذلك سنة ست وثلاثين وملك دمشق. وسار يونس إلى البلاد الشرقية فاستولى عليها، ولم تزل بيده إلى أن زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل وغلبه عليها واستقرت دمشق في يد الصالح. ولما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل الإفرنج بعكا، وباعوه من الصالح إسماعيل صاحب دمشق فاعتقله وقتله إنتهى، والله أعلم. أخبار الخوارزمية: ثم زحف التتر إلى أذربيجان واستولوا على جلال الدين وقتلوه سنة ثمان وعشرين، وإنفض أصحابه وذهبوا في كل ناحية وسار جمهورهم إلى بلاد الروم فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها، حتى إذا مات وملك إبنه كنجسرو إرتاب بهم وقبض على أمرائهم وإنفض الباقون عنه وعاثوا في الجهات، فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار وما إليها أباه الكامل صاحب مصر في استخدامهم ليحسم عن البلاد ضررهم فاجتمعوا عنده وأفاض فيهم الأرزاق. ولما توفي الكامل سنة خمس وثلاثين انتقضوا عن الصلح وخرجوا فاكتسحوا النواحي. وسار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية فاستمالهم وأقطعهم حران والرها ولقي بهم لؤلؤاً فهزمه وغنم معسكره، والله تعالى أعلم. مسير الصالح إلى مصر وإعتقال الناصر له بالكرك: لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة وبلغهم استيلاء أخيه الصالح على
دمشق فاستدعوه ليملكوه، فبعث عن عمه الصالح إسماعيل من بعلبك ليسير معه فاعتذر عن الوصول. وسار الصالح أيوب وولى على دمشق إبنه المغيث فتح الدين عمر. ولما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه الصالح إسماعيل فملكها ومعه شيركوه صاحب حمص ، وقبض على المغيث فتح الدين بن الصالح أيوب. وبلغ الخبر إليه وهو بنابلس فانفضت عنه العساكر ودخل نابلس. وجاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه واعتقله، وبعث فيه أخوه العادل فامتنع من تسليمه إليه. ثم قصد داود القدس فملكها من يد الإفرنج وخرّب القلعة، والله تعالى ولي التوفيق. وفاة شيركوه صاب مصر وولاية إبنه إبراهيم المنصور: ثم توفي المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست وثلاثين، وكانت ولايته أول المائة السابعة، وولي من بعده إبنه إبراهيم ويلقب بالمنصور والله أعلم. خلع العادل واعتقاله واستيلاء أخيه الصالح أيوب على مصر: ولما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من الإعتقال فاجتمعت إليه مواليه، واتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه العادل فكاتبوا الصالح واستدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود، وانتهى إلى عزة وبرز العادل إلى بلبيس وكتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على أخيه أيوب فسار من دمشق وانتهى إلى الغور. ثم وثب بالعادل في معسكره مواليه ومقدمهم أيبك الأسمر وقبضوا عليه. وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء ومعه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين، واستقر في ملكه. وارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك. واستوحش من الأمراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم، وفيهم أيبك الأسمر، وذلك سنة ثمان وثلاثين، وحبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين. ثم اختط قلعة بين سعي النيل إزاء المقياس واتخذها مسكناً، وأنزل بها حامية من مواليه فكانوا يعرفون بالبحرية آخر أيامهم إنتهى والله أعلم. فتنة الخوارزمية:
ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية، وعبروا الفرات وقصدوا حلب فبرزت إليهم المجلد الخامس صفحة 597- ملوك التخت بقراقوم من بعد جنكزخان: قال ابن فضل لله : ولما هلك جنكز خان استقل أوكداي بالتخت وبدست القفجاق وما معه، وكان أصغر ولده. وانتقل إلى قراقوم بمكانهم الأصلي فاعطى وقراياق التي كانت بيده لابنه كفود، ولم يتمكن كداي وهو جفطاي من مملكة ما وراء النهر ونازع ناظو بن دوشي خان في أران وهمذان وتبريز ومراغة، وبعث أميرا من أمرائها لحمل أموالها والقبض على عماله بها. وقد كان ناظو كتب إليهم بالقبض على ذلك الأمير فقبضوا عليه وحملوه إلى ناظو فطحنه. وبلغ ذلك إلى كفود فسار إلى ناظو في ستمائة ألف من العساكر. وهلك قبل أن يصل إليه بعشر مراحل فبعث القوم إلى ناظو أن يكون صاحب التخت فأبى، وجعله لأخيه منكوفان بن طولي وبعثه إليه وأخويه معه قبلاي وهلاكو ، وبعث معهم أخاه بركة بن طولي في مائة ألف من العساكر ليجلسه على التخت. فلما عاد من بخارى لقي الشيخ شمي الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين كبير الصوفية فأسلم على يده وتأكدت صحبته معه، وحرضه على التمسك بطاعة الخليفة ومكاتبته المعتصم ومبايعته ومهاداته وتردّدت الرسل بينه وبين المعتصم وتأكدت الموالاة، واستقل منكوفان بالتخت وولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها. ووفد عليه جماعة من أهل قزوين وبلاد الجبل يشكون ما نزل بهم من ضرر الإسماعيلية وفسادهم فجهز أخاه هلاكو لقتالهم واستئصال قلاعهم فمضى لذلك وحسن لأخيه منكوفان الاستيلاء على أعمال الخليفة فأذن له فيه، وبلغ ذلك بركة فنكره على أخيه ناظو الذي ولى منكوفان لما كان بين بركة والمعتصم من الولاية والوصلة بوصية الشيخ الباخوري فبعث ناظو إلى أخيه هلاكو بالنهي عن ذلك، وأن لا يتعدّى مكانه. وبلغته رسل ناظو بذلك وهو فيما وراء النهر قبل أن يفصل بالعساكر، فأقام سنين امتثالا لأمره حتى مات ناظو، وتولى بركة مكانه فاستأذن أخاه منكوفان ثانية، وسار لقصد الملاحدة وأعمال الخليفة فأوقع بالملاحدة وفتح قلاعهم واستلحمهم، وأوقع بأهل همذان واستباحهم لميلهم إلى بركة وأخيه ناظو ثم سار إلى بركة بدست القفجاق فزحف إليه بركة في جموع لا تحصى، والتقيا واستمرّ القتل في أصحاب هلاكو، وهمّ بالهزيمة. ثم حال نهر الكّربين الفريقين وعاد هلاكو في البلاد واستحكمت العداوة بينهما. وسار هلاكو إلى بغداد فكانت له الواقعة المشهورة كما مرو يأتي في أخبار دولته إن شاء الله تعالى. وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني: أن هلاكو لم يكن مستقلا بالملك، وإنما كان نائبا عن أخيه منكوفان. ولا ضربت السكة باسمه ولا ابنه أبغا، وإنما ضربها منهم ارغو حين استقل ؛ فجعل اسمه في السكة مع اسم صاحب التخت. قال: وكان شحنة صاحب التخت لا يزال ببغداد إلى أن ملك قازان فطرد الشحنة وأفرد اسمه في السكة. وقال: ما ملكتب البلاد إلا بسيفي وبيت جنكز خان يرون أن بني هلاكو إنما كانوا ثوارا، وجنكز خان لم يملك طولي شيئا، وإن أخاه منكوفان الذي ولاه عليها إنما بعثه نائبا، مع أنّ منكوفان إنما ولاه ناظو ابن دوشي خان كما مرّ قال: ونقل عن ثقاة أنه لم يبق هلاكو من يحقق نسبه لكثرة ما وقع فيهم من القتل غيرة على الملك، ومن نجا طلب الاختفاء بشخصه فخفي نسبه، إلا ما قيل في محمل المنسوب إلى بحرحى. قال شمس الدين الأصبهاني، ونقله عن أمير كبير منهم أنّ أول من استقل بالتخت جنكز خان، ثم ابنه أوكداي، ثم انه كفود بن أوكداي ثم منكوفان بن طولي، ثم أخوه أربيكان، ثم أخوهما قبلاي، ثم دمرفاي ويقال تمرفاي. ثم تربى كيزي ثم كيزقان، ثم سندمردقان بن طرمالا بن جنكمر بن قبلاي بن طولي، انتهى كلام ابن فضل الله وعن غيره أنّ منكوفان جهز عساكر التتر أيام ملكه على التخت إلى بلاد الروم سنة [*] مع أمير من أمراء المغل اسمه بيكو فملكها من يد بني قليج أرسلان كما هو مذكور في أخبارهم فأقامت في طاعة القان إلى أن انقرض أمر المغل منها. ثم بعث منكوفان العساكر لغزو بلاد الخطا، مع أخيه قبلاي بعد أن عهد له بالخانية. ثم سار على أثره بنفسه واستخلف أخاه الآخر أزبك على كرسي قراقوم، وهلك منكوفان في طريقه ذلك على نهر الطاي من بلاد الغور سنة ثمان وخمسين فجلس ازبك على التخت، وعاد قبلاي من بلاد الخطا، فزحف إليه أزبك فهزمه إلى بعض النواحي، واستأثر بالغنائم عن إخوته وقومه فمالوا إلى قبلاي، واستدعوه فجاء وقاتل أخاه أزبك فغلبه وتقبض عليه وحبسه، واستقر في الغانية وبلغ الخبر إلى هلاكو وهو في الشام عندما استولى عليه فرجع لما كان يؤمّله من الغانية. ولما انتهى إلى جيحون بلغه استقلال أخيه قبلاي في الغانية وتبين له عجزه عنه فسالمه وقنع بما في يده ورجع إلى العراق. ثم نازع قبلاي في الغانية لآخر دولته سنة سبع وثمانين بعض بني أوكداي صاحب التخت الأول، وهو قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي. ونزع إليه بعض أمراء قبلاي، وزينوا له ذلك فسار له وبعث قبلاي العساكر للقائه مع ابنه تمقان فهزمه قيدو ورجع منهزماً إلى أبيه فسخطه وطرده إلى بلاد الخطا ومات هنالك. وسلط قبلاي على قيدو، وكان غلب على ما وراء النهر براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي من بني جفطاي ملوك ما وراء النهر بوصية أبيهم جنكز خان
فغلبه براق واستولى على ما وراء النهر ثم هلك قبلاي صاحب التخت سنة ثمان وثمانين وملك ابنه سرتموق. هذا ما انتهى إلينا من أخبار ملوك التخت بقراقوم من بني جنكزخان، ولم نقف على غيرها والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.
(ملوك بني جفطاي بن جنكزخان بتركستان وكاشغر وما وراء النهر) هذا الإقليم هو مملكة الترك الأولى قبل الإسلام، وأسلم ملوكهم على تركستان وكاشغر فأقاموا بها. وملك بنو سامان نواحى بخارى وسمرقند واستبدّوا، ومنها كان ظهور السلجوقية والتتر من بعدهم. ولما استولى جنكز خان على البلاد أوصى بهذه المملكة لابنه جفطاي، ولم يتمّ ذلك في حياته. ومات جفطاي دونه فلما ولي منكوفان بن طولي على التخت ولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصيه جنكزخان لأبيهم التي مات دونها، وولى منكوفان. فلما هلك ولى أخوه هلاكو ابنه مبارك شاه. ثم غلب عليهم قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكز خان وانتزع ما وراء النهر من أيديهم، وكان جدّه كفوك صاحب التخت وبعده ولى منكوفان. فلما ولي قيدو نازع صاحب التخت يومئذ وهو قبلاي، وكانت بينهما حروب، وأعان قبلاي في خلالها بني جفطاي على استرجاع ملكهم. وولي منهم براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي، وأمدّه بالعساكر والأموال فغلب قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكز خان، وانتزع من صاحب التخت يومئذ واستبد بملك آبائه ثم هلك فولي من بعده دوا، ثم من بعد دوا بنون له أربعة واحدا بعد واحد وهم: كجك ثم اسعا ثم كبك ثم انجكداي. ثم ولي بعد الأربعة دواتمر، ثم ترماشين ثم توزون بن أوما كان ابن منكوفان بن جفطاي وتخلل هؤلاء من توثب على الملك ولم ينتظم له، مثل: سيساور بن أركتم بن بغاتمر بن براق، ولم يزل ملكهم بعد ترماشين مضطرباً إلى أن ملك منهم جنقصو بن دواتمر بن حلو بن براق بن سنتف، كانوا كلهم على دين المجوسية، وخصوصا دين جنكز خان وعبادته الشمس وكان فيما يقال على دين النجشية فكان بنو جفطاي يعضون عليها بالنواجذ ويتبعون سياسته مثل أصحاب التخت. فلما صار الملك إلى ترماشين منهم أسلم رحمه الله سنة خمس وعشرين وسبعمائة وجاهد وأكرم التجار المتردّدين. وكانت تجار مصر ممنوعين من بلاده، فلما بلغهم ذلك قصدوها فحمدوها. ولما انقرضت دول بني جنكز خان وتلاشت في جميع النواحي ظهر في أعقاب دولة بني جفطاي هؤلاء بسمرقند وما وراء النهر ملك اسمه تمر، ولا أدري كيف كان يتصل نسبه فيهم، ويقال أنه من غير نسبهم، وإنما هو متغلب على صبيّ من أعقاب ملوكهم اسمه طغطمش أو محمود درج اسمه بعد مهلك أبيه، واستبدّ عليه وانه من أمرائهم وأخبرني من لقيته من أهل الصين أنّ أباه أيضا كان في مثل مكانه من الإمارة والاستبداد، وما أدري أهو
طينة في نسب جفطاي أو من أحلافهم واتباعهم. وأخبرني الفقيه برهان الدين الخوارزمي، وهو من علماء خوارزم وأعيانها قال: كان لعصره وأوّل ظهوره ببخارى رجل يعرف بحسن من أمراء المغل، وآخر بخوارزم من ملوك صراي أهل التخت يعرف بالحاج حسن الصوفي تهيأ وزحف إلى بخارى فملكها من يد حسن، ثم إلى خوارزم وطالت حروبه مع الحاج حسن الصوفي وحاصرها مرارا. وهلك حسن خلاله ذلك وولي أخوه يوسف فملكها تمر من يده وخربها في حصار طويل. ثم كلف بعمارتها بناء ما خرب منها، وانتظم له الملك بما وراء النهر ونزل قجارى. ثم زحف إلى خراسان فملك هراة من يد صاحبها وأظنه من بقايا ملوك الغورية ثم زحف إلى مازندان وطال تمرّسه وحروبه مع صاحبها الشيخ ولي إلى أن ملكها عليه سنة أربع وثمانين. ولحق الشيخ ولي بتوريز إلى أن ملكها تمر سنة ثمان وثمانين فهلك في حروبه معها. ثم زحف إلى أصفهان فاتوه طاعة ممّرضة وخالفه في قومه كبير من أهل نسبه يعرف بمعمر الدين، وأمدّه طغطمش صاحب التخت بصراي فكّر راجعا وشغل بحربه إلى أن غلبه ومحا أثره. وغلب طغطمش على ما بيده من البلاد ثم زحف إلى بغداد سنة خمس وتسعين فأجفل عنها ملكها أحمد بن أوبس ابن الشيخ حسن المتغلب عليه بعد بني هلاكو، فلحق أحمد ببر الشام سنة ست وتسعين، واستولى تمر على بغداد والجزيرة وديار بكر إلى الفرات. واستعدّ ملك مصر للقائه ونزل الفرات فأحجم عنه وتأخر عنه إلى قلاع الأكراد وأطراف بلاد الروم، وأناخ على قراباغ ما بين أذربيجان والأبواب ورجع خلال ذلك طغطمش صاحب التخت إلى صراي وملكه؟ فسار إليه تمر أول سنة سبع وتسعين وغلبه على ملكه وأخرجه عن سائر ممالكه ثم وصل الخبر آخر السنة بظفره بطغطمش وقتله إياه واستيلائه على جميع أعماله، والحال على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها. وفي خبر العجم أنّ ظهوره سنة عذب يعنون سنة إثنين وسبعين وسبعمائة بحساب الجمل في حروف هذه اللفظة. والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
خريطة
(الخبر عن ملوك بني دوشي خان من التتر ملوك خوارزم ودست القفجاق ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم) قد تقدم لنا أنّ جنكزخان عين هذه البلاد لابنه دوشي خان وملكه عليها، وهي مملكة متسعة في الشمال آخذة من خوارزم إلى ناركند وصفد وصراي إلى مدينة ماجري وأزان وسرادق وبلغار وباشقرد وجدلمان، وفي حدود هذه المملكة مدينة باكو من مدن شروان وعندها باب الحديد وشممونه دمرقفو وتمر حدود هذه المملكة في الجنوب إلى حدود القطسطينية، وهي قليلة المدن كثيرة العمارة، والله تعالى أعلم.
(دوشي خان بن جنكز خان) وأوّل من وليها من التتر دوشي خان، فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك كما مرّ سنة . (ناظو خان بن دوشي خان) ولما هلك دوشي خان ولي مكانه ابنه ناظوخان، ويقال صامرخان ومعناه الملك المغير فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك سنة خمسين وستمائة. (طرطو بن دوشي خان) ولما هلك ناظو ولي أخوه طرطو فأقام ملكا سنتين، وهلك سنة إثنتين وخمسين. ولما هلك ولي مكانه أخوه بركة. هكذا نقل ابن فضل الله عن ابن الحكيم. وقال المؤيد صاحب حماة في تاريخه: انه لما هلك طرطو هلك من غير عقب، وكان لاخيه ناظو خان ولدان وهما تدان وبركة، وكان مرشحا للملك فعدل عنه أهل الدولة وملكوا أخاه بركة. وسارت أمّ تدان إلى هلاكو عندما ملك العراق تستحثه لملك قومها فردوها من الطريق وقتلوها واستمرّ بركة في سلطانه انتهى. فنسب المؤيد بركة إلى ناظو خان بن دوشي خان وابن الحكيم على ما نقل ابن فضل الله، جعله ابن دوشي خان نفسه وذكر المؤيد قصة إسلامه على يد شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين، وانّ الباخوري كان مقيما ببخارى وبعث إلى بركة يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وبعث إليه كتابه باطلاق يده في سائر أعماله بما شاء فردّه عليه، وأعمل بركة الرحلة إلى لقائه فلم يأذنّ له في الدخول حتى تطارح عليه أصحابه، وسهلوا الإذن لبركة فدخل وجدّد الإسلام وعاهده الشيخ على إظهاره الإسلام وأن يحمل عليه سائر قومه فحملهم، واتخذ في جميع بلاده المساجد والمدارس، وقرب العلماء والفقهاء ووصلهم. وسياق القصة على ما ذكره المؤيد يدل على أنّ إسلامه كان أيام ملكه. وعلى ما ذكر بن الحكيم أنّ إسلامه كان أيام أخيه ناظو، ولم يذكر ابن الحكيم طرطو وإنما ذكر بعد ناظو أخاه بركه. ولم نقف على تاريخ لدولتهم حتى يرجع إليه، وهذا ما أدّى إليه الاجتهاد وما بعدها مأخوذ من تاريخ المؤيد صاحب حماة من بني المظفر ابن شاهنشاه بن أيوب قال: ثم بعث بركة أيام سلطانه أخاه ناظو إلى ناحية الغرب للجهاد، وقاتل ملك اللمان من الإفرنج فانهزم ورجع ومات أسفا
ثم حدثت الفتنة بين بركة وبين قبلاي صاحب التخت، وانتزع بركة الخاقانية من أعمال قبلاي وولى عليها سرخاد ابن أخيه ناظو، وكان على دين النصرانية. وداخله هلاكو في الانتقاض على عمه بركة إلى أخيه قبلاي صاحب التخت ويقطعه الخاقانية وما يشاء معها. وشعر بركة بشأنه وأن سرخاد يحاول قتله بالسمّ فقتله.وولى الخاقانية أخاه مكانه، وأقام هلاكو طالبا بثأر سرخاد، ووقعت الحرب بينه وبين بركة على نهر آمد سنة ستين. ثم هلك هلاكو سنة ثلاث وستين. وولى ابنه أبغا فسار إلى حربه وسرح بركة للقائه سنتاي بن بانيضان بن جفطاي ونوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان - فلما التقى الجمعان أحجم سنتاي ورجع منهزما، وانهزم أبغا أمام نوغيثة وأثخن في عساكره. وعظمت منزلة نوغيثة عند بركة وسخط بركة سنتاي وساءت منزلته عنده إلى أن هلك بركة سنة خمس وستين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(منكوتمر بن طغان بن ناظو خان) ولما هلك بركة ملك الدست بالشمال ملك مكانه منكوتمر بن طغان بن ناظو خان ابن دوشي خان، وطالت أيامه، وزحف سنة سبعين إلى القسطنطينية لجدة وجدها على الأشكر ملكها فتلقاه بالخضوع والرغبة، ورجع عنه. ثم زحف سنة ثمانين إلى الشام في مظاهرة أبغا بن هلاكو، ونزل بين قيسارية وابلستين من بلاد الروم. ثم أجاز الدربند ومرّ بابغا وهو منازل الرحبة وتقدّم مع أخيه منكوتمر بن هلاكو إلى حماة فنازلوها، وزحف إليهم المنصور قلاوون ملك مصر والشام من دمشق، ولقيهم بظاهر حمص. وكانت الدائرة على ملوك التتر. وهلك خلق من عساكرهم وأسر آخرون وأجفل أبغا من منازلة الرحبة ورجعوا إلى بلادهم منهزمين وهلك على أثر ذلك منكوتمر ملك الشمال، ومنكوتمر بن هلاكو سنة إحدى وثمانين. ولما هلك منكوتمر ملك مكانه ابنه تدان وجلس على كرسي ملكهم بصراي فأقام خمس سنين ثم ترهب وخرج عن الملك سنة ست وثمانين، وانقطع إلى صحبة المشايخ الفقراء ولما ترهب تدان بن منكوتمر وخرج عن الملك ملك مكانه أخوه قلابغا، وأجمع على غزو بلاد الكرك. واستنفر نوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان، وكان حاكما على طائفة من بلاد الشمال، وله استبداد على ملوك بني دوشي خان ؛ فنفر معه في عساكره وكانت عظيمة. ودخلوا جميعا بلاد الكرك وأغاروا عليها وعاثوا في نواحيها وفصلوا منها. وقد تمكن فصل الشتاء، وملك السلطان مسافة اعتسف فيها البيداء، وهلك أكثر عساكره من البرد والجوع وأكلوا دوابهم وسار نوغيثه من أقرب المسالك فنجا إلى بلاده سالما من تلك الشدة فاتهمه السلطان قلابغا بالادهان في أمره
وكان ينقم عليه استبداده حتى أنه قتل امرأة كنجك، وكانت متحكمة في أيام أبيه وأخيه، وشكت إلى نوغيثة فأمر بقتلها خنقاً وقتل أميراً كان في خدمتها اسمه بيطرا فتنكر له قلابغا وأجمع الفتك به، وأرسل يستدعيه لما طوى له عليه. ونمي الخبر بذلك إلى نوغيثة فبالغ في إظهار النصيحة والإشفاق على السلطان، وخاطب أمّه بأنّ عنده نصائح يودّ لو ألقاها إلى السلطان في خلوة فثنت ابنها عن رأيه فيه، وأشارت عليه باستدعائه والاطلاع على ما عنده. وجاء نوغيثة وقد بعث عن جماعة من إخوة السلطان قلابغا كانوا يميلون إليه، ومنهم طغطاي وبولك وصراي وتدان بنو منكوتمر بن طغان فجاؤوا معه وقد توقفوا لمّا هجم السلطان قربغا، وركب للقاء نوغيثة في لمة من عسكره، وجاء نوغيثة وقد أكمن له طائفة من العسكر فلما التقيا تحادثا مليا، وخرج الكمناء وأحاطوا بالسلطان وقتلوه سنة تسعين وستمائة وأقبل طغطاي بن منكوتمر. ولما قتل قلابغا ولوا مكانه طغطاي لوقته، ورجع نوغيثة إلى بلاده. وبعث إلى طغطاي في قتل الأمراء الذين داخلوا قلابغا في قتله فقتلهم طغطاي أجمعين. ثم تنكر طغطاي لنوغيثه لما كان عليه من الاستبداد، وأنف طغطاي منه، وأظلم الجّو بينهما واجتمع أعيان الدولة إلى نوغيثة فكان يوغر صدرهم على طغطاي، وأصهر إلى طاز بن منجك منهم بابنته ؛ فسار إليه ولقيه نوغيثة فهزمه واعترضه نهر مل فغرق كثير من عساكره، ورجع نوغيثة عن اتباعه. واستولى على بلاد الشمال، وأقطع سبطه قراجا بن طشتمر سنة ثمان وسبعين مدينة القرم وسار إليها لقبض أموالها فأضافوه وبيتوه وقتلوه من ليلته وبعث نوغيثة العساكر إلى القرم فاستباحوها وما يجاورها من القرى والضياع وخرب سائرها. وكان نوغيثة كثير الإيثار لأصحابه، فلما استبدّ بأمره آثر ولده على الأمراء الذين معه وأحسوا عليهم. وكان رديفه من ملك المغل أياجي بن قرمش وأخوه قراجا. فلما آثر ولده عليهما نزعا إلى طغطاي في قومهما، وسار ولد نوغيثة في اتباعهما فرجع بعضهم واستمرّ الباقون، وقتل ولد نوغيثة من رجع معه بن أصحاب أياجي وقراجا وولدهم، فامتعض لذلك أمراء المغل الذين معه، ولحقوا بطغطاي واستحثوه لحرب نوغيثة فجمع. وسار إليه سنة تسع وتسعين بكو كان لك، فانهزمت عساكر نوغيثة وولده. وقتل في المعركة وحمل رأسه إلى طغطاي فقتل قاتله وقال: السوقة لا تقتل الملوك واستبيح معسكر نوغيثة وبيع سباياهم وأسراهم في الأقطار، وكان بمصر منهم جماعة استرقوا بها وانتظموا في ديوان جندها. ولما هلك نوغيثة خلفه في أعماله ابنه جكك، وانتقض عليه أخوه فقتله فاستوحش لذلك أصحابه وأجمعوا الفتك به. وتولى ذلك نائبه طغرلجاي وصهره على أخته طاز بن منجك. ونمي الخبر بذلك إليه وهو في بلاد اللاز والروس غازيا فهرب ولحق ببلاده ثم لحق به عسكره فعاد إلى حربهم وغلبهم على البلاد. ثم أمدّهما طغطاي على جكا بن نوغيثة فانهزم ولحق ببلاد أولاق، وحاول الأمتناع ببعض القلاع من بلاد أولاق وفيها صهره، فقبض عليه صاحب القلعة، واستخدم بها لطغطاي فأمره بقتله سنة احدى وسبعمائة. ونجا أخوه طراي وابنه قراكسك شريدين. وخلا الجو لطغطاي من المنازعين والمخالفين، واستقرت في الدولة قدمه، وقسم أعماله بين أخيه صراي بغا وبين ابنيه وأنزل منكلي بغا من ابنيه في عمل نهر طنا مما يلي باب الحديد. ثم رجع صراي بن نوغيثة من مقرة واستذم بصراي بغا أخي طغطاي فأذمّه وأقام عنده. فلما أنس به كشف له القناع عما في صدره واستهواه للانتقاض على أخيه طغطاي، وكان أخوهما أزبك أكبر منه، وكان مقيما عند طغطاي فركب إليه صراي بغا ليفاوضه في الشأن فاستعظمه، وأطلع عليه أخاهما طغطاي فأمره لوقته بإحضار أخيه صراي بغا وصراي بن نوغيثة، وقتلهما واستضاف عمل أخيه صراي بغا لابنه إيل بهادر. ثم بعث في طلب قراكسك بن نوغيثة فأبعد في ناحية الشمال، واستذم ببعض الملوك هنالك. ثم هلك سنة تسع وسبعمائة أخوه بذالك وابنه إيل بهادر، وهلك طغطاي بعدهما سنة أثنتي عشرة، والله تعالى أعلم.
(ازبك بن طغرلجاي بن منكوتمر) ولما هلك طغطاي بايع نائبه قطلتمر لأزبك ابن أخيه طغرلجاي بإشارة الخاتون تنوفالون زوج أبيه طغرلجاي، وعاهده على الإسلام فأسلم واتخذ مسجداً للصلاة. وأنكر عليه بعض أمرائه فقتله وتزوّج الخاتون بثالون، وكانت المواصلة بين طغطاي وبين ملوك مصر. ومات طغطاي ورسله عند الملك الناصر محمد بن قلاوون فرجعوا إلى أزبك مكرمين وجدّد أزبك الولاية معه وحببه قطلتمر في بعض كرائمهم يرغبه، وعين له بنت بَذَالِك أخي طغطاي وتكرّرت الرسالة في ذلك إلى أن تم الأمر، وبعثوا بكريمتهم المخطوبة إلى مصر فعقد عليها الناصر وبنى بها كما مرّ في أخباره. ثم حدثت الفتنة بين أزبك وبين أبي سعيد ملك التتر بالعراق من بني هلاكو، وبعث أزبك عساكره إلى أذربيجان وكان بنو دوشي يدعون أنّ توريز ومراغة لهم، وأنّ القان لما بعث هلاكو لغزو بلاد الإسماعيلية وفتح بغداد استكثر من العساكر، وسار معه عسكر أهل الشمال هؤلاء وقررت لهم العلوفة بتوريز. ولما مات هلاكو طلب بركة من ابنه أبغا أن يأذن له في بناء جامع تبريز ودار لنسج الثياب والطرز فأذن له فبناهما وقام بذلك. ثم اصطلحوا وأعيدت فادعى بنو دوشي خان أن توريز ومراغة من أعمالهم
ولم يزالوا مطالبين بهذه الدعوة. فلما وقعت هذه الفتنة بين أزبك وأبي سعيد افتتح أمره بغزو موقان فبعث العساكر إليها سنة تسع عشرة فاكتسحوا نواحيها ورجعوا وجمع جوبان على دولته وتحكمه في بني جنكز خان، وإنه يأنف أن يكون براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي ملكا على خوارزم فأغزاه أزبك فملك خراسان وأمدّه بالعساكر مع نائبه قطلتمر وسار سيول لذلك. وبعث أبو سعيد نائبه جوبان لمدافعتهما فلم يطق، وغلب سيول على كثير من خراسان وصالحه جوبان عليها. وهلك سيول سنة عشرين. ثم عزل أزبك نائبه قطلتمر سنة إحدى وعشرين وولى مكانه عيسى كوكز، ثم رده سنة أربع وعشرين إلى نيابته ولم تزل الحرب متصلة بين أزبك وأبي سعيد إلى أن هلك أبو سعيد سنة ست وثلاثين، ثم هلك القان في هذه السنة. ولما هلك أزبك بن طغرلجاي ولي مكانه ابنه جاني بك، وكان أبو سعيد قد هلك قبله كما قلناه ولم يعقب. وولي مكانه على العراق الشيخ حسن من أسباط أبغا بن هلاكو. وافترق الملك في عمالاتهم طوائف، وردد جاني بك العساكر إلى خراسان إلى أن ملكها سنة ثمان وخمسين. ثم زحف إلى أذربيجان وتوريز وكان قد غلب عليها الشيخ الصغير ابن دمرداش بن جوبان وأخوه الأشرف من بعده كما يذكر في أخبارهم إن شاء الله تعالى. فزحف جاني بك في العساكر إلى أذربيجان بتلك المطالبة التي كان سلفه يدعون بها فقتل الأشرف واستولى على توريز وأذربيجان وانكفأ راجعا إلى خوزستان بعد أن ولي على توريز ابنه بردبيك، واعتل جاني بك في طريقه ومات.
(بردبيك بن جاني) ولما اعتل جاني في ذهابه من توريز إلى خراسان طير أهل الدولة الخبر إلى ابنه بردبيك، وقد استخلفه في توريز فولى عليها أميراً من قبله، وأغذ السير إلى قومه ووصل إلى صراي وقد هلك أبوه جاني فولوه مكانه، واستقل بالدولة. وهلك لثلاث سنين من مهلكه. (ماماي المتغلب علي مملكة صراي) ولما هلك بردبيك خلف ابنه طغطمش غلاما صغيرا، وكانت أخته بنت بردبيك تحت كبير من أمراء المغل اسمه ماماي وكان متحكماً في دولته. وكانت مدينة المقرم من ولايته وكان يومئذ غائباً بها، وكان جماعة من أمراء المغل متفرقين في ولايات الأعمال بنواحي صراي ففرقوا الكلمة واستبدوا بأعمالهم، فتغلب حاجي شركس على ناحية منج طرخان، وتغلب أهل خان
على عمله وأيبك خان كذلك، وكانوا كلهم يسمون أمراء المسيرة. فلما هلك بردبيك وانقرضت الدولة واستبدّ هؤلاء في النواحي خرج ماماي إلى القرم ونصب صبيا من ولد أزبك القان اسمه عبد الله، وزحف به إلى صراي فهرب منها طغطمش ولحق بمملكة أرض خان في ناحية جبال خوارزم إلى مملكة بني جفطاي بن جنكزخان في سمرقند وما وراء النهر، والمتغلب عليها يومئذ السلطان تمر من أمراء المغل وقد نصب صبياً منهم اسمه محمود وطغطمش وتزوّج أمه واستبدّ عليه، فأقام طغطمش هناك ثم تنافس الأمراء المتغلبون على أعمال صراي، وزحف حاجي شركس صاحب عمل منج طرخان إلى ماماي فغلبه على صراي فملكها من يده. وسار ماماي إلى القرم فاستبدّ بها. ولما زحف حاجي شركس من عمله بعث أرض خان عساكره من نواحي خوارزم فحاصروا منج طرخان، وبعث حاجي العساكر إليهم مع بعض أمرائه فأعمل الحملة حتى هزمهم عن منج طرخان، وفتك بهم وبالأمير الذي يقودهم. وشغل حاجي شركس بتلك الفتنة، فزحف إليه أيبك خان وملك صراي من يده واستبد بها أياما. ثم هلك وولى بعده بصراي ابنه قاريخان. ثم زحف إليه أرض خان من جبال خوارزم فغلبه عن صراي وهرب قاريخان بن أيبك خان وعادوا إلى عملهم الأوّل، واستقرّ أرض خان بصراي وماماي بالقرم ما بينه وبين صراي في مملكته، وكان هذا في حدود أعوام سنة ست وسبعين، وطغطمش في خلال ذلك مقيم عند السلطان تمر فيما وراء النهر ثم طمحت نفس طغطمش إلى ملك آبائه بصراي فجهز معه السلطان ثمر العساكر ، فلما بلغ جبال خوارزم اعترضه هناك عساكر أرض خان فقاتلوه، وانهزم ورجع إلى تمر. ثم هلك أرض خان قريبا من منتصف تلك السنة فخرج السلطان تمر بالعساكر مع طغطمش مددا له إلى حدود عمله، ورجع واستمرّ طغطمش فاستولى على أعمال أرض خان بجبال خوارزم. ثم سار إلى صراي وبها عمال أرض خان، فملكها من أيديهم واسترجع ما تغلب عليه ماماي من ضواحيها، وملك أعمال حاجي شركس في منج طرخان واستنزع جميع ما كان بأيدي المتغلبين ومحا أثرهم، وسار إلى ماماي بالقرم فهرب أمامه ولم يوقف على خبره ثم صح الخبر بمهلكه من بعد ذلك واستوسق الملك لصراي وأعمالها لطغطمش بن بردبيك كما كان لقومه
(حروب السلطان تمر مع طغطمش صاب صراي) قد ذكرنا فيما مرّ ظهور هذا السلطان تمر في دولة بني جفطاي، وكيف أجاز من بخارى وسمرقند إلى خراسان أعوام أربعة وثمانين وسبعمائة فنزل على هراة وبها ملك من بقايا الغورية
فحاصرها وملكها من يده. ثم زحف إلى مازندران وبها الشيخ ولي تغلب عليها بعد بني هلاكو فطالت حروبه معه إلى أن غلبه عليها، ولحق الشيخ ولي بتوريز في فل من أهل دولته. ثم طوى تمر الممالك طيا وزحف إلى أصفهان فآتاه ابن المظفر بها طاعته، ثم إلى توريز سنة سبع وثمانين فملكها وخربها، وكان قد زحف قبلها إلى دست القفجاق بصراي فملكها من يد طغطمش وأخرجه عنها فأقام بأطراف الأعمال حتى أجاز تمر إلى أصبهان فرجع إلى كرسيه. وكان للسلطان تمر قريع في قومه يعرف بقمر الدين فراسله طغطمش صاحب صراي وأغراه بالانتقاض على تمر وأمدّه بالأموال والعساكر فعاث في تلك البلاد، وبلغ خبره إلى تمر منصرفه من فتحه فكر راجعا، وعظمت حروبه مع قمر الدين إلى أن غلبه وحسم علته، وصرف وجهه إلى شأنه الأوّل وقرر الزحف إلى طغطمش وسار طغطمش للقائه ومعه اغلان بلاط من أهل بيته، فداخله تمر وجماعة الأمراء معه، واستراب بهم طغطمش وقد حان اللقاء وتصافوا للحرب فصدم ناحية من عسكر تمر، وصدم من لقي فيها وتبدد عياله، وافترق الأمراء الذين داخلوا تمر وساروا إلى الثغور فاستولوا عليها وجاء طغطمش إلى صراي فاسترجعها وهرب أغلان بلاط إلى القرم فملكها وزحف إليه طغطمش في العساكر فحاصرها، وخالفه أرض خان إلى صراي فملكها طغطمش وانتزعها من يده. ولم تزل عساكره تختلف إلى القرم وتعاهدها بالحصار إلى أن ملكها وظفر باغلان بلاط فقتله. وكان السلطان تمر بعد فراغه من حروبه مع طغطمش سار إلى أصفهان فملكها أيضا واستوعب ملوك بني المظفر وعاملهم بالقتل وانتظم له أعمالهم جميعا في مملكته. ثم زحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أوشى سنة خمس وتسعين كما مرّ ذكره ولحق أحمد بالسلطان الظاهر صاحب مصر مستصرخا به فخرج معه في العساكر وانتهى إلى الفرات، وقد سار تمر عن بغداد إلى ماردين فحاصرها وملكها وامتنعت عليه قلعتها فعاج من هنالك إلى حصون الأكراد، ثم إلى بلاد الأرمن ثم إلى بلاد الروم وبعث السلطان الظاهر صاحب مصر العساكر مدداً لابن أويس فسار إلى بغداد وبها شرذمة من عسكر تمر فملكها من أيديهم. ورجع الملك الظاهر إلى مصر وقد أظلّ الشتاء، ورجع تمر إلى نواحي أعماله فأقام في عمل قراباد ما بين أذربيجان وهمذان والأبواب. ثم بلغ الخبر إلى تمر فسار من مكانه ذلك إلى محاربة طغطمش، وعميت أنباؤه مدّة. ثم بلغ الخبر آخر سنة سبع وتسعين إلى السلطان بأن تمر ظفر بطغطمش وقتله واستولى على سائر أعماله. والله غالب على أمره انتهى.
ملوك غزنة وباميانا من بني دوشي خان: كانت أعمال غزنة وباميان هذه قد صارت لدوشى خان وهى من أمال ما وراء النهر من جانب الجنوب، وتتاخم شجستان وبلاد الهند، وكانت في مملكة بني خوارزم شاه فملكها إلى لأول خروجهم من أيديهم. وملكها جنكز خان لابنه دوشى خان وصارت لابنه أردنو ثم لابنه انبجي بن أردنو. وهلك على رأس المائة السابعة وخلف من الولد بيان وكبك ومنغطاي، وانقسمت الأعمال بينهم، وكان كبيرهم بيان في غزنة، وقام بالملك بعد أنبجي ابنه كبك، وانتقص عليه أخوه بيان واستمد بطغطاي صاحب صراي فأمدّه بأخيه بذالك، واستنجد كبك بقندو فأمده ولم يغن عنه وانهزم ومات سنة تسع وسبعمائة. واستولى بيان على الأعمال وأقام بغزنة، وزحف إليه قوشناي ابن أخيه كبك واستمد بقندو، وغلب عمه على غزنة. ولحق بيان بطغطاي، واستقر قوشناي بغزنة، ويقال أنّ الذي غلب عليها إنما هو أخوه طغطاي، ولم نقف بعد على شيء من أخبارهم. والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم.
ملوك التحت بصراي
خريطة
دولة بني هولاكو
دولة بني هولاكو ملوك التتر بالعراقيين وخراسان
ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم:
قد تقدّم لنا أنّ جنكز خان عهد بالتخت وهو كرسي الملك بقراقوم لابنه أوكداي، ثم ورثه من بعده كفود بن أوكداي وأنّ الفتنة وقعت بينه وبين صاحب الشمال من بني جنكز خان وهو ناظو بن دوشي خان صاحب التخت بصراي، وسار إليه في جموع المغل والتتر وهلك في طريقه. وسلم المغل الذين معه التخت لناظو فامتنع من مباشرته بنفسه وبعث إليه أخاه منكوفان، وبعث معه بالعساكر أخويه الآخرين قبلاي وهلاكو ومعهما أخوهما بركة ليجلسه على التخت، فأجلسه سنة خمسين. وذكرنا سبب إسلام بركة عند مرجعه، وإن منكوفان استقل بالتخت وولى بني جفطاي بن جنكز خان على بلاد ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكز خان. وبعث أخاه هلاكو لتدويخ عراق العجم وقلاع الإسماعيلية ويسمون الملاحدة، والاستيلاء على ممالك الخليفة.
(هولاكو بن طولي)
ولما بعث منكوفان أخاه إلى العراق فسار لذلك سنة إثنتين وخمسين وستمائة، وفتح الكثير من قلاعهم وضيق بالحصار مخنقهم وولى خلال ذلك في كرسي صراي بالشمال بركة بن ناظو بن دوشي خان فحدثت الفتنة بينه وبين هلاكو، ونشأت من الفتنة الحرب وسار بركة ومعه نوغان بن ططر بن مغل بن دوشي خان والتقوا على نهر نول وقد جمد ماؤه لشدّة البرد، وانخسف من تحته فانهزم هلاكو وهلك عامّة عسكره. وقد ذكرنا أسباب الفتنة بينهما. ثم رجع هلاكو إلى بلادا الإسماعيلية وقصد قلعة الموت، وبها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب إربل يستحثه للمسير إلى بغداد، ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقمي رافضيا هو وأهل محلته بالكرخ. وتعصب عليهم أهل السنة وتمسكوا بأنّ الخليفة والدوادار يظاهرونهم، وأوقعوا بأهل الكرخ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بإريل وكان صديقاًً له بأن يستحث التتر لملك بغداد، واسقط عامة الجند يموه بأنه يصانع التتر بعطائهم وسار هلاكو والتتر إلى بغداد. واستنفر
بنحو مقدّم التتر ببلاد الروم فيمن كان معه من العساكر فامتنع أوّلا ثم أجاب وسار إليه. ولما أطل هلاكو على بغداد في عساكره برز للقائه أيبك الدوادار في عساكر المسلمين فهزموا عساكر التتر، ثم تراجع التتر فهزموهم واعترضهم دون بغداد بثوق انبثقت في ليلتهم تلك من دجلة فحالت دونها فقتلوا أجمعين. وهلك أيبك الدوادار وأسر الأمراء الذين معه، ورجعوا إلى البلد فحاصروها مدّة. ثم استأمن ابن العلقمي للمستعصم ولنفسه آملاً بأنّ هلاكو يستبقيه فخرج إليه في موكب من الأعيان وذلك في محرّم سنة ست وخمسين وقبض على المستعصم فشدخ بالمعاول في عدل تجافيا عن سفك دمه بزعمهم. ويقال إنّ الذي أحصى فيها من القتلى ألف ألف وثلثمائة ألف واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يحصره العدد والضبط، وألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن، واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها ناراً فلم يوافقه أهل مملكته. واستبقى ابن العلقمي على الوزارة ولرتبة ساقطة عندهم، فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل والخرج متصرفاً من تحت آخر، أقرب إلى هلاكو منه، فبقي على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله هلاكو ثم بعث هلاكو بعد فتح بغداد بالعساكر إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن غازي بن العادل فحاصروها سنين حتى جهد الحصار أهلها. ثم اقتحموها عنوة واستلحموا حاميتها. ثم بعث إليه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ابنه ركن الدين إسماعيل بالطاعة والهدية فتقبله، وبعثه إلى القان الأعظم منكوفان بقراقوم، وأبطأ على لؤلؤ خبره فبعث بالوالدين الآخرين شمس الدين اسحق وعلاء الدين بهدية أخرى ورجعوا إليه بخبر ابنه وقرب إيابه، فتوجه لؤلؤ بنفسه إلى هلاكو ولقيه بأذربيجان، وحضر حصار ميافارقين. وجاءه ابنه ركن الدين من عند منكوفان بولاية الموصل وأعمالها ثم هلك سنة سبع وخمسين وولي ابنه ركن الدين إسماعيل ويلقب الصالح. وبعث هلاكو عسكراً إلى إربل فحاصرها ستة أشهر وامتنعت، فأفرجت عنها العساكر فاغتنم ابن الصلايا الفرصة، ونزل عنها لشرف الدين الكردي، ولحق بهلاكو فقتله. وكان صاحب الشام يومئذ الناصر بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين. فلما بلغه استيلاء هلاكو على بغداد بعث إليه ابنه بالهدايا والمصانعة والعذر عن الوصول بنفسه لمكان الإفرنج من سواحل الشام فقبل هديته وعذره، ورجع ابنه بالمواعيد. ولم يتم لهلاكو الاستيلاء على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة، وانتهى ملكه إلى الفرات وتاخم الشام. وعبر الفرات سنة ثمان وخمسين فملك البيرة ووجد بها السعيد أخا الناصر بن العزيز معتقلا فأطلقه ورده إلى عمله بالضبينة وبانياس ثم سار إلى حلب فحاصرها
مدّة ثم ملكها ومنّ عليه وأطلقه، ووجد بها المعتقلين من البحرية مماليك الصالح أيوب الذين حبسهم الناصر وهم: سنقر الأشقر وتنكز وغيرهما ؛ فأطلقهم وكان معهم أمير من أكابر القفجاق لحق به واستخدم له فجعلهم معه، وولى على البلاد التي ملكها من الشام. ثم جهز العساكر إلى دمشق، وارتحل الناصر إلى مصر ورجع عنه الصالح بن الأشرف صاحب حمص إلى هلاكو فولاه دمشق وجعل نوابه بها لنظره وبلغ الناصر إلى هلاكو. ثم استوحش الخليفة من قطز سلطان مصر لما كان بينهما من الفتنة فخرج إلى هلاكو فأقبل عليه، واستشاره في إنزال الكتائب بالشام؟ فسهل له الأمر في عساكر مصر ورجع إلى رأيه في ذلك، وترك نائبه كيبغا من أمراء التتر في خف من الجنود فبعث كيبغا إلى سلطان مصر. وأساء رسله بمجلس السلطان في الخطاب بطلب الطاعة فقتلهم، وسار إلى الشام فلقي كيبغا بعين جالوت فانهزمت عساكر التتر، وقتل كيبغا أميرهم، والسعيد صاحب الضبينة أخو الناصر كان حاضراً مع التتر فقبض عليه وقتل صبراً ثم بعث هلاكو العساكر إلى البيرة والسعيد بن لؤلؤ على حلب ومعه طائفة من العساكر ؛ فبعث بعضهم لمدافعة التتر فانهزموا وحنق الأمراء على السعيد بسبب ذلك وحبسوه وولوا عليهم حسام الدين الجو كندار. وزحف التتر إلى حلب فأجفل عنها واجتمع مع صاحبها المنصور على حمص، وزحفوا إلى التتر فهزموهم. وسار التتر إلى أفامية فحاصروها وهابوا ما وراءها، وارتحلوا إلى بلادهم. وبلغ الخبر إلى هلاكو فقتل الناصر صاحب دمشق لاتهامه إياه فيما أشار به من الاستهانة بأهل مصر. وكان هلاكو لما فتح الشام سنة ثمان وخمسين بلغه مهلك أخيه القان الأعظم منكوفان في مسيره إلى غزو بلاد الخطا فطمع في القانية، وبادر لذلك فوجد أخاه قبلاي قد استقل فيها بعد حروب بدت بينه وبين أخيه أزبك تقدّم ذكرها في أخبار القان الأعظم، فشغل بذلك عن أمر الشام ثم لما يئس من القانية قنع بما حصل عنده من الأقاليم والأعمال ورجع إلى بلاده. والأقاليم التي حصلت بيده إقليم خراسان كرسيه نيسابور، ومن مدنه طوس وهراة وترمذ وبلخ وهمذان ونهاوند وكنجة وعراق العجم كرسيه أصفهان، ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وشهرزور وسجستان وطبرستان وطلان وبلاد الإسماعيلية وعراق العرب كرسيه بغداد، ومن مدنه الدينور والكوفة والبصرة اذربيجان وكرسيه توريز، ومن مدنه حران وسلماس وقفجاق خوزستان كرسيها ششتر ومن مدنها الأهواز وغيرها فارس كرسيها شيراز، ومن مدنها كش ونعمان ومحمل رزون والبحرين ديار بكر كرسيها الموصل، ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار واسعرد ودبيس وحران والرها وجزيرة ابن عمر بلاد الروم كرسيها قونية، ومن مدنها ملطية وأقصرا وأورنكار وسيواس
وأنْطاكِية والعلايا ثم أجلاه أحمد الحاكم خليفة مصر فزحف إلى بغداد، وهذا الحاكم هو عمّ المستعصم لحق بمصر بعد الواقعة، ومعه الصالح بن لؤلؤ بعد أن أزاله التتر من الموصل فنصب الظاهر بيبرس أحمد هذا في الخلافة سنة تسع وخمسين، وبعثه لاسترجاع بغداد، ومعه الصالح بن لؤلؤ على الموصل. فلما أجازوا الفرات وقاربوا بغداد كبسهم التتر ما بين هيث وغانة فكبسوا الخليفة، وفر ابن لؤلؤ وأخوه إلى الموصل فنازلهم التتر سبعة أشهر، ثم اقتحموها عليهم عنوة وقتلوا الصالح. وخشي الظاهر بيبرس غائلة هلاكو. ثم ان بركة صاحب الشمال قد بعث إلى الظاهر سنة ستمائة وسبعين بإسلامه فجعلها الظاهر وسيلة للوصلة معه والإنجاد، وأغراه بهلاكو لما بينهما من الفتنة ؛ فسار بركة لحربه وأخذ بحجزته عن الشام. ثم بعث هلاكو عساك التتر لحصار البيرة ومعه درباي من أكابر أمراء المغل، وأردفه بابنه أبغا. وبعث الظاهر عساكره لانجاد أهلها فلما أطلوا على عساكر درباي وعاينهم أجفل وترك المخيم والآلة ولحق بأبغا منهزما فاعتقله وسخطه. ثم هلك هلاكو سنة إثنتين وستين لعشر سنين من ولايته العراق والله أعلم. (أبغا بن هلاكو) ولما هلك هلاكو ولي مكانه ابنه أبغا، وسار لأوّل ولايته لحرب بركة صاحب الشمال فسرّح إليه بركة العساكرمع قريبه نوغاي بن ططر بن مغل بن دوشي خان، ومع سنتف بن منكوفان بن جفطاي بن جنكز خان، وخام سنتف عن اللقاء ورجع منهزماّ وأقام نوغاي فهزم أبغا وأثخن في عساكره وعظمت منزلته بذلك عند بركة ثم بعث سنة إحدى وسبعين عساكره مع درباي لحصار البيرة وعبر الظاهر إليهم الفرات وهزمهم وقتل أميرين مع درباي ولحق درباي بأبغا منهزما فسخطه وأدال منه بابطاي. وفي سنة إثنتين وسبعين زحف أبغا إلى تكدار بن موجي بن جفطاي بن جنكز خان وكان صاحبه فاستنجد بابن عمه براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي فأمدّه بنفسه وعساكره واستنفر أبغا عساكر الروم وأميرهم طمقان والبرواناة والتقى الجمعان ببلاد الكرج فانهزم تكدار ولجأ إلى جبل هنالك حتى استأمن أبغا فأمنه، وعهد أن لا يركب فرسا فارها ولا يمس قوساً و نمي إلى أبغا أنّ الظاهر صاحب مصر سار إلى بلاد الروم فبعث العساكر إليها مع قائدين من قواد المغل، وهما تدوران وتغوا فسارا، وملك الظاهر قيسارية من تخوم بلادهم. وبلغ الخبر إلى أبغا فجاء بنفسه إلى موضع الهزيمة وعاين مصارع قومه، ولم يسمع ذكرا لأحد من عسكر البرواناة أنه صرع فاتهمه، وبعث عنه بعد مرجعه فقتله ثم سار
أبغا سنة ثمانين وعبر الفرات ونازل الرحبة وبعث إلى صاحب ماردين فنزل معه هناك. وكان منكوتمر ابن أخي بركة ملك صراي فسار بعساكره من المغل وحشود الكرج والأرمن والروم، ومرّ بقيسارية وابلسين، وأجاز الدربند إلى الرحبة فنازلها. وبعث أبغا إليه بالعساكر مع أخيه منكوتمر بن هلاكو، وأقام هو على الرحبة. وزحف الظاهر من مصر في عساكر المسلمين فلقيهم التتر على حمص. وانهزم التتر هزيمة شنعاء هلك فيها عامة عساكرهم، وأجفل أبغا من حصار الرحبة، وهلك أخوه منكوتمر بن هلاكو مرجعه من تلك الواقعة يقال مسموماً وانه مرّ ببعض أمرائه بجزيرة تسمى مومواغا كان يضطغن له بعض الفعلات فسقاه سما عند مروره به، وهرب إلى مصر فلم يدركوه وأنهم قتلوا ابناءه ونساءه. ثم هلك أبغا سنة إحدى وثمانين بعدها ويقال مسموما أيضا على يد وزيره الصاحب شمس الدين الجوني مشير دولته وكبيرها، حمله الخوف على ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. (تكدار بن هلاكو ويسمى أحمد) ولما توفي أبغا كما ذكرناه، وكان ابنه أرغو غائباً بخراسان فبايع المغل لأخيه تكدار فأسلم وتسمى أحمد. وخاطب بذلك الملوك لعصره، وأرسل إلى مصر يخبرهم ويطلب المساعدة، وجاء بذلك قاضي سيواس قطب الدين الشيرازي وأتابك بلاد الروم وابن الصاحب من وراء ماردين. وكان أخوه قنقرطاي مع صمغان الشحنة فبعث تكدار عن أخيه فامتنع من الإجابة. وأجاره غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم فتوعده تكدار فخاف منه، وسار هو وقنقرطاي إلى تكدار فقتل أخاه وحبس غياث الدين وولى مكانه أخاه عز الدين، وأدال من صمغان الشحنة بأولاطو من أمراء المغل. ثم جهز العساكر إلى خراسان لقتال أخيه أرغو فسار إليهم أرغو وكبسهم، وهزمهم وفتك فيهم فسار تكدار بنفسه فهزم أرغو وأسره وأثخن في عساكره، وقتل إثني عشر أميرا من المغل فاستوحش أهل معسكره وكانوا ينقمون عليه إسلامه فثاروا عليه وقتلوا نائبه. ثم قتلوه سنة إثنتين وثمانين وبعثوا إلى أرغو بن أبغا بطاعتهم والله تعالى أعلم. (أرغو بن أبغا) ولما ثار المغل على تكدار وقتلوه وبعثوا بطاعتهم إلى أرغو فجاء وولوه أمرهم فقام بسلطانه، وقتل غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم في محبسه، اتهمه بمداهنته في قتل عمه
قنقرطاي وتقبض لأوّل ولايته على الوزير شمس الدين الجوني، وكان متهماً بأبيه وعمه فقتله، وولى على وزارته سعد اليهودي الموصلي ولقبه سعد الدولة، وكان عالماً بالحكمة. وولى ابنيه قازان وخربندا على خراسان لنظر نيروز أتابكه. ولما فرغ من أمور ملكه وكان قد عدل عن دين الإسلام، وأحب دين البراهمة من عبادة الأصنام وانتحال السحر والرياضة له. ووفد عليه بعض سحرة الهند فركب له دواء لحفظ الصحة واستدامتها فأصابه منه صرع فمات سنة سبعين، والله سبحانه وتعالى أعلم. (كتخاتو بن أبغا) ولما هلك أرغو بن أبغا، وابناه قازان وخربندا غائبان بخراسان اجتمع المغل على أخيه كتخاتو فبايعوه وقدّموه للملك. ثم ساءت سيرته وأفحش في المناكر وإباحة الحرمات والتعرض للغلمان من أبنائهم. وكان في عسكره بيدو بن عمر طرغاي بن هلاكو فاجتمع إليه أمراء المغل وبايعوه سراً، وشعر بهم كتخاتو ففرّ من معسكره إلى جهة كرمان، وساروا في أثره فأدركوه بأعمال غانة، وقتلوه سنة ثلاث وتسعين لثلاث سنين وأشهر من ولايته. والله تعالى أعلم. (بيدو بن طرغاي بن هلاكو) ولما قتل امراء المغل كتخاتو بن أبغا بايعوا مكانه لابن عمه بيدو بن طرغاي بن هلاكو، وكان قازان بن أرغو بخراسان فسار لحرب بيدو ومعه الأتابك نيروز فلما تقاربا للقاء تردّد الناس بينهما في الصلح، على أن يقيم نيروز الأتابك عند بيدو، واصطلحا وعاد قازان. ثم أرسل نيروز الأتابك إلى قازان يستحثه فسار من خراسان. ولما بلغ الخبر إلى بيدو فاوض فيه نيروز الأتابك فقال: أنا أكفيكه فصبر حتى أتى إليه فسرّحه. ولما وصل إلى قازان أطلعه على شأن أمراء بيدو وأنهم راغبون عنه، وحرضه على المسير فامتعض لذلك بيدو وسار للقائهم فلما التقى الجمعان انتقض عليه أمراؤه بمداخلة نيروز فانهزم، ولحق بنواحي همذان فأدرك هناك، وقتل سنة خمس وتسعين لثمانية أشهر من ملكه. والله سبحانه وتعالى أعلم. (قازان في أرغو) ولما انهزم بيدو وقتل، ملك على المغل مكانه قازان بن أرغو فجعل أخاه خربندا والياً على
خراسان، وجعل نيروز الأتابك مدبراً لمملكته. وسعى لأوّل أمره في التدبير على طرغاي من أمرائه ومواليه من المغل الذي داخل بيدو في قتل كتخاتو الذي تولى كبر ذلك فخافه طرغاي على نفسه، وكان نازلا بين بغداد والموصل فبعث إلى كتبغا العادل صاحب مصر والشام يستأذنه في اللحاق به. ثم ولى قازان على ديار بكر أميراً من أشياعه اسمه مولان فهزمه وقتل الكثير من أصحابه، ونجا إلى الشام وبعث كيبغا من تلقاه وجاء به إلى مصر ودخل مجلس الملك. ورفع مجلسه فيها قبل أن يسلم واستقرّ هو وقومه الأوبراتية بمصر وأقطع لهم. وكان ذلك داعياً إلى الفتنة بين الدولتين ثم قتل قازان الأتابك نيروز، وذلك أنه استوحش من قازان وكاتب لاشين سلطان مصر والشام المتولي بعد كيبغا. وأحس نيروز بذلك فلحق بهراة مستجيراً بصاحبها، وهو فخر الدين بن شمس الدين كرت صاحب سجستان فقبض عليه فخر الدين وأسلمه إلى قطلو شاه فقتله. وقتل قازان بعد ذلك أخويه ببغداد وهما حاجي ولكري، وقفل السفير إليه بالكتاب من مصر. ثم كان بعد ذلك مفر شلامس بن ايال بن منجو إلى مصر وكان أميراً في بلاد الروم على الطومار المحجر فيها والطومار عندهم عبارة عن مائة ألف من العساكر عن قازان فارتاب به، وأرسل إلى لاشين يستأذنه في اللحاق به وبعث قازان العساكر إليه فقاتلوه وانفض عنه أكثر أصحابه ففرّ إلى مصر، وترك أهله وولده وبعث معه صاحب مصر العساكر لتلقي أهله، ومرّوا بسيس فاعترضه عساكر التتر هناك فهزموه، وقتلوا أمير مصر الذي معه، واعتصم هو ببعض القلاع فاستنزلوه منها وبعثوا به إلى قازان فقتله. وأقام أخوه قطقطو بمصر في جملة عسكرها ونشأت بهذه كلها الفتن بين قازان وأهل مصر، ونزع إليه أمراء الشام فلحق نائب دمشق وبكتمر نائب حلب وألبكي الظاهري وعزاز الصالحي واسترابوا بسلطانهم الناصر محمد بن قلاوون فلحقوا به واستحثوه إلى الشام. وسار سنة تسع وسبعين في عساكر المغل والأرمن ومعه نائبه قطلو شاه ومولي وجاء الملك الناصر من مصرفي عساكر المسلمين ولما انتهى إلى غزة اطلع على تدبير بعض المماليك عليه من أصحاب كيبغا ومداخلة الأمراء الذين هاجروا من المغل إلى مملكة مصر لهم في ذلك، فسبق جميعهم وارتحل إلى حمص للقاء التتر. ثم سار فصبحهم بمرج المروج والتقى الجمعان، وكانت الدبرة على المسلمين، واستشهد منهم عدد. ونجا السلطان إلى مصر، وسار قازان على التعبية فملك حمص، واستوعب مخلف السلطان فيها. ثم تقدم إلى دمشق فملك المدينة وتقدم إلى قفجاق لجباية أموالها ولحصار القلعة وبها علاء الدين سنجر المنصور فامتنع وهدم ما حولها من العمران، وفيها دار السعادة التي بها إيوان الملك وسار قازان إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة وعاثت عساكره في البلاد وإنتهت غاراتهم إلى غزة. ولما امتنعت عليه القلاع ارتحل عائداً إلى بلده، وخلف قطلو شاه في عساكره لحماية البلد وحصار القلعة، ويحمى بن جلال الدين لجباية الأموال. وترك قفجاق على نيابة دمشق وبكتمر على نيابة حلب وحمص وحماة وكر الملك الناصر راجعاً إلى الشأم بعد أن جمع العساكر وبث العطاء وأزاح العلل وعلى مقدّمته سرمز الجاشنكير وسلار كافلا مملكته فتقدموا إلى حدود الشام وأقام هو بالصالحية. واستأمن لهما قفجاق وبكتمر النائبان بدمشق وحلب، وراجعا طاعة السلطان واستولى سرمز وسلار على الشام ورجع قطلوشاه إلى العراق. ثم عاود قازان المسير إلى الشام سنة إثنتين وسبعين وعبر الفرات، ونزل على الرحبة، وكاتب أهل الشام يخادعهم. وقدم قطلوشاه فأغار على القدس، وبها أحياء التركمان فقاتلوه ونالوا منه وتوقفوا هنالك. وسار الناصر من مصر في العساكر ثالث شعبان ولقي قطلوشاه بمرج الصفر فهزمه بعد حرب شديدة، وسار في اتباعهم إلى الليل فاعتصموا بجبل في طريقهم، وبات المسلمون يحرسونهم ثم تسللوا وأخذ القتل منهم كل مأخذ، واعترضهم الوحل من أمامهم من بثوق بثقت لهم من نهر دمشق، فلم ينج منهم أحد وقدم الفل على قازان بنواحي كيلان ومرض هنالك، ومات في ذي الحجة من السنة، ويقال انه مات أسفاً والله تعالى أعلم بالصواب.
(خربندا بن أرغو) ولما هلك قازان ولي بعده أخوه خربندا وابتدأ أمره بالدخول في دين الإسلام وتسمى بمحمد، وتلقب غياث الدين، وأقر قطلوشاه على نيابته. ثم جهزه لقتال الكرد في جبال كيلان، وقاتلهم فهزموه وقتلوه، وولى مكانه جوبان بن تدوان، وأقام في سلطانه حسن الدين معظماً للخلفاء وكتب أسماءهم على سكته ثم صحب الروافض فساء اعتقاده وحذف ذكر الشيخين من الخطبة، ونقش اسماء الأئمة الإثني عشر على سكته. ثم أنشأ مدينة بين قزوين وهمذان وسماها السلطانية ونزلها واتخذ بها بيتاً لطيفاً بلبن الذهب والفضة وأنشأ بأزائها بستانا جعل فيه أشجار الذهب بثمر اللؤلؤ والفصوص، وأجرى اللبن والعسل أنهاراً وأسكن به الغلمان والجواري تشبيهاً له بالجنة، وأفحش في التعرض لحرمات قومه. ثم سار إلى الشام سنة ثلاث عشرة، وعبر الفرات ونزل الرحبة ورجع. ثم هلك ويقال مات مسموما على يد بعض أمرائه سنة ست عشرة، والله تعالى أعلم.
(أبو سعيد بن خربندا) ولما هلك خربندا خلف ابنه أبا سعيد طفلا صغيراً ابن ثلاث عشرة سنة فاستصغرة جوبان، وأرسل إلى أزبك ملك الشمال بصراي يستدعيه لملك العراقين فحذره نائبه قطلقمر من ذلك، وبايع جوبان لأبي سعيد بن خربندا على صغره وبدأ أمره بقتل أبي الطيب رشيد الدولة فضل الله بن يحمى الهمذاني المتهم بقتل أبيه فقتله. وكان مقدّماً في العلوم وسريا في الغاية، وله تاريخ جمع فيه أخبار التتر وأنسابهم وقبائلهم وكتبه مشجرا كما في كتابنا هذا. وكان جوبان يومئذ بخراسان يقاتل عليها سيول بن براق بن سنتف بن ماسان بن جفطاي صاحب خوارزم، أغراه أزبك صاحب الشمال بخراسان وأمدّه بعساكره. وكان جوبان موافقاً له فلما هلك خربندا طمع سيول في الاستيلاء على خراسان وكاتب أمراء المغل بدولة أبي سعيد يرغبهم فأطمعوه فسار جوبان إلى الأردن ومعناه بلغتهم العسكر والمخيم وانتهى إلى أبي سعيد خبر أمرائه فقتل منهم أربعين، ورجع جوبان إلى خراسان سنة ثمان عشرة، وقد استولى سيول عليها وعلى طائفة من عراق العجم. وبعث إليه أزبك صاحب الشمال نائبه قطلقتمر مددا في العساكر فلقيهم جوبان، وكانت بينهم حروب. وانتزع جوبان ما ملكه سيول من بلاد خراسان وصالحه على ما بقي ورجع. ثم سار أزبك ملك الشمال إلى مراغة فأغار عليها وغنم ورجع، وأتبعه جوبان في العساكر فلم يدركه وهلك سيول سنة عشرين، وارتجع أبو سعيد ما كان بيده من خراسان. وكان أزبك صاحب الشمال ينقم على أبي سعيد استبداد جوبان عليه وتحكمه في بني جنكز خان، ويحرض أهل النواحي على جوبان وبتوقع له المهالك. وأوصل الملوك في النواحي للمظاهرة على جوبان وسلطانه أبي سعيد، حتى لقد صاهر صاحب مصر على مثل ذلك، ولم يتم الصلح لأبي سعيد معه كما مرّ في أخبارهم وجهز أزبك العساكر سنة عشرين لحرب جوبان فحاصرهم المدني بنهر كوزل الذي في حدود ملكهم فرجعوا. ثم جهز جيشاً آخر مع قطلقتمر نائبه، وكان جوبان نائب أبي سعيد قد ولى على بلاد الروم ابنه دمرداش فزحف سنة إحدى وعشرين إلى بلاد سيس وافتتح منها قلاعاً ثلاثاً وخربها. وبعث إلى الملك الناصر يطلب المظاهرة في جهاد الأرمن بسيس فبعث السلطان عساكره سنة اثنتين وعشرين ومعهم من المتطوعة عدد، وحاصروا سيس. ثم انعقد الصلح سنة ثلاث وعشرين بعدها بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واستقامت الأحوال، وحج أكابر المغل من قرابة أبي سعيد ملك التتر بالعراقين، واتصلت المهاداة بينهما وسار نائبه جوبان سنة خمس وعشرين إلى خراسان في
العساكر، وقد زحف إليه كبك بن سيول فجرت بينهما حروب، وانهزم جوبان، واستولى كبك على خرا سان ثم كبسه جوبان فهزمه وأثخن في عساكره، وغلبه على خراسان فعادت إلى ملكة أبي سعيد. وبينما جوبان مشتغل بتلك الفتنة والحروب في نواحي خراسان إذ بلغه الخبر بأن السلطان أبا سعيد تقبض على ابنه خوافي دمشق، فلما بلغه الخبر بذلك انتقض وزحف إليه أبو سعيد فافترق عنه أصحابه، ولحق بهراة فقتل بها سنة ست وعشرين وإذن أبو سعيد لولده أن ينقلوا شلوه إلى تربته التي بناها بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ونقلوه فلم يقدر دفنه بها. وتوقف أمير المدينة على إذن السلطان بمصر في ذلك فدفن بالبقيع. ولما بلغ خبر جويان لابنه دمرداش وهو أمير ببلاد الروم انزعج لذلك، ولحى بمصر فيمن معه من الأمراء والعساكر وأقبل السلطان الملك الناصر عليه وأحله محل التكرمة، وجاءت على أثره رسل أبي سعيد يطلب حكم الله فيه لسعيه في الفساد والفتنة. وأجابه السلطان إلى ذلك على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام، فأمضى ذلك فيهما جزاء بما قدمت أيديهما. ثم تأكدت أسباب المواصلة والالتحام بين هذين السلطانين بالإصهار والمهاداة واتصل ذلك، وانقطع زبون العرب وفسادهم بين المملكتين. وهلك السلطان أبو سعيد سنة ست وثلاثين ولم يعقب، ودفن بالسلطانية، واختلف أهل دولته. وانقرض الملك من بني هلاكو وافترقت الأعمال التي كانت في ملكهم وأصبحت طوائف في خراسان وفي عراق العجم وفارس، وفي أذربيجان كله في عراق العرب وفي بلاد الروم كما نذكر ذلك. والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
خريطة
(اضطراب دولة بني هلاكو وانقسام الملك طوائف في أعمالهم وانفراد الشيخ حسن ببغداد واستيلاء بنيه معها على تور يز وما كان لهم فيها من الملك والدولة وابتدائها ومصايرها)
ولما هلك أبو سعيد بن خربندا ملك التتر بكرسي بغداد سنة ست وثلاثين ولم يعقب، نصب أمراء المغل الوزير غياث الدين، وخلع أورخان. ونصب للملك موسى خان من اسباطهم، وقام بدولته الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا بن أملكان، وهو ابن عمه السلطان أبي سعيد سبط أرغو بن أبغا. أنزله أبو سعيد بقلعة كانج من بلاد الروم ووكل به. فلما هلك أبو سعيدإنحل
عقاله وذهب أبو نور بن ماس عفى عليها، وبلغه شأن أهل الدولة ببغداد فلم يرضه ونهض إليها فقتل علي ماسا القائم بالدولة، وعزل موسى خان الملك، ونصب مكانه محمد بن عنبرجي، وهو الذي تقدّم في ملوك التخت صحة نسبه إلى هلاكو. واستولى الشيخ حسن على بغداد وتوريز. ثم سار إليه حسن بن دمرداش من مكان إمارته وإمارة أبيه ببلاد الروم، وغلبه على توريز وقتل سلطانه محمد بن عنبرجي،
ولحق الشيخ حسن ببغداد واستقرّ حسن بن دمرداش في توريز، ونصب للملك أخت السلطان أبي سعيد إسمها صالبيك وزوجها لسليمان خان من أسباط هلاكو، واستقل بملك توريز وكان يعرف بالشيخ حسن الصغير لأنّ صاحب بغداد كان يشاركه في إسمه وهو أسن، وأدخل في نسب الخان فميز بالكبير وميز هذا بالصغير. ولما استقل حسن الصغير بالملك والخان عنده عجز عنه الشيخ حسن الكبير، وغلبته أمم التركمان بضواحي الموصل إلى سائر بلاد الجزيرة. فيقال أنه أرسل إلى الملك الناصر صاحب مصر بأن يملكه بغداد ويلحق به فيقيم عنده، وطلب منه أن يبعث عساكر ه لذلك على أن يرهن فيهم إبنه فلم يتم ذلك لما إعترضه من الأحوال. وافترقت مملكة بني هلاكو فكان هو ببغداد والصغير بتوريز ابن المظفر بعراق العجم وفارس والملك حسين بخراسان. واستولى على أكثرها ملك الشمال أزبك صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان بن جنكز خان. ثم استوحش الشيخ حسن من سلطانه سليمان خان فقتله واستبد. ثم هلك الشيخ حسن الصغير بن دمرداش بتوريز سنة أربع وأربعين، وملك مكانه أخوه الأشرف. ثم هلك الشيخ حسن الكبير سنة سبع وخمسين، والله تعالى أعلم. (أويس بن الشيخ حسن) ولما هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد ولي مكانه إبنه أويس، وكان بتوريز الأشرف بن دمرداش فزحف إليه ملك الشمال جاني بك بن أزبك سنة ثمان وخمسين، وملكها من يده. ورجع إلى خراسان بعد أن استخلف عليها إبنه واعتقل في طريقه فكتب أهل الدولة إلى إبنه بردبيك يستحثونه للملك، فأغذ السير إليهم وترك بتوريز عاملها أخبجوخ فسار إليه أويس صاحب بغداد وغله عليها وملكها. ثم إرتجعها منه أخبجوخ وأقام بها فزحف إليه ابن المظفر صاحب أصبهان وملكها. من يده وقتله. وإنتظم في ملكه عراق العجم وتوريز وتستر وخوزستان. ثم سار أويس فانتزعها من يد ابن المظفر واستقرّت في ملكه، ورجع إلى بغداد وجلس على التخت واستفحل أمره. ثم هلك سنة ست وسبعين حسين بن أويس، وقد خلف
بنين خمسة، وهم: الشيخ حسن وحسين والشيخ علي وأبو يزيد وأحمد. وكان وزيره زكريا، وكبير دولته الأمير عادل، كان كافلاً لحسين ومن إقطاعه السلطاني فاجتمع أهل الدولة وبايعوا لإبنه حسين بتوريز وقتلوا الشيخ حسن، وزعموا أنّ أباهم أويسا أوصاهم بقتله. وكان الشيخ علي بن أويس ببغداد فدخل في طاعة أخيه حسين وكان قنبر علي بادك من أمرائهم نائباً بتستر وخوزستان فبايع لحسين وبعث إليه بطاعته، واستولى على دولته بتوريز زكريا وزير أبيه. وكان إسماعيل ابن الوزير زكريا بالشام هارباً أمام أويس فقدم على أبيه زكريا، وبعث به إلى بغداد ليقوم بخدمة الشيخ علي فاستخلصه واستبد عليه، فغلب شجاع بن المظفر على توريز وإرتجعها منه. ولما استقل حسين بتوريز كان بنو المظفر طامعين في ولايتها وقد ملكوها من قبل كما مر، وانتزعها أويس منهم. فلما توفي أويس سار شجاع إلى توريز في عساكره فأجفل عنها حسين بن أويس إلى بغداد، واستولى عليها شجاع، ولحق حسين بأخيه الشيخ علي ووزيره إسماعيل ببغداد مستجيشا بهما فسّرحوا معه العساكر، ورجع ادراجه إليها فهرب عنها شجاع إلى خوزستان وحصن ملكه بها واستقرّ فيها.
(مقتل إسماعيل واستيلاء حسين على بغل اد ثم إرتجاعها منه) كان إسماعيل مستبداً على الشيخ علي ببغداد كما قدمناه فتوثب به جماعة من أهل الدولة منهم: مبارك شاه وقنبر وقرا محمد، فقتلوه وعمه أمير أحمد منتصف إحدى وثمانين واستدعوا قنبر علي بادك من تستر فولوه مكان إسماعيل، واستبدّ على الشيخ علي ببغداد ونكر حسين عليهم ما آتوه، وسار في عساكره من توريز إلى بغداد فارقها الشيخ علي وقنبر على بادك إلى تستر. واستولى حسين على بغداد واستمده فاتهمه بممالأة أخيه الشيخ على ولم يمده، ونهض الشيخ علي من تستر إلى واسط، وجمع العرب من عبادان والجزيرة فأجفل أحمد من واسط إلى بغداد، وسار الشيخ علي في أثره فأجفل حسين إلى توريز واستوسق ملك بغداد للشيخ علي واستقر كل ببلده، والله تعالى أعلم. (انتقاض أحمد واستيلاؤه على توريز ومقتل حسين) ولما رجع حسين من بغداد إلى توريز عكف على لذاته وشغل بلهوه واستوحش منه أخوه أحمد فلحق بأردبيل، وبها الشيخ صدر الدين. وأجتمع إليه من العساكر ثلاثة آلاف أو
يزيدون، فسار إلى توريز وطرقها على حين غفلة فملكها. وإختفى حسين أياماً ثم قبض عليه أحمد وقتله، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
(انتقاض عادل ومسيره لقتال أحمد) كان الأمير عادل والياً على السلطانية وكانت من أقطاعه، فلما بلغه مقتل حسين إمتعض له، وكان عنده أبو يزيد بن أويس فسار إلى شجاع بن المظفر اليزدي صاحب فارس يستصرخانه على الأمير أحمد بن أويس، فبعث العساكر لصريخهما وبرز الأمير أحمد للقائهم. ثم تقاربوا واتفقوا أن يستقرّ أبو يزيد في السلطانية أميراً، ويخرج الأمير عادل عن مملكتهم ويقيم عند شجاع بفارس، واصطلحوا على ذلك. وعاد أبو يزيد إلى السلطانية فأقام بها وأضرّ أمراؤه وخاصته بالرعايا فدسوا بالصريخ إلى أحمد بتوريز فسار في العساكر إليه، وقبض عليه وكحله وتوفي بعد ذلك ببغداد. (مقتل الشيخ علي واستيلاء أحمد على بغداد) ولما قتل أحمد أخاه حسيناً جمع الشيخ علي العساكر واستنفر قرا محمد أمير التركمان بالجزيرة، وسار من بغداد يريد توريز فبرز أحمد للقائه واستطرد له لما كان منه، فبالغ في إتباعه إلى أن خفت عساكره فكّر مستميتاً. وكانت جولة أصيب فيها الشيخ علي بسهم فمات، وأسر قرا محمد فقتل. ورجع أحمد إلى توريز واستوسق له ملكها. ونهض إليه عادل بن السلطان أبي سعيد يروم فرصة فيه فهزمه. ثم سار أحمد إلى بغداد وقد كان استبدّ بها بعد مهلك الشيخ علي خواجا عبد الملك من صنائعهم بدعوة أحمد. ثم قام الأمير عادل في السلطانية بدعوة أبي يزيد وبعث إلى بغداد قائداً إسمه برسق ليقيم بها دعوته فأطاعه عبد الملك وأدخله إلى بغداد. ثم قتله برسق ثاني يوم دخوله واضطرب البلد شهرا. ثم وصل أحمد من توريز وخرج برسق القائد لمدافعته فانهزم، وجيء به إلى أحمد أسيراً فحبسه ثم قتله، وقتل عادل بعد ذلك وكفى أحمد شره. وانتظمت في ملكه توريز وبغداد وتستر والسلطانية وما إليها، واستوسق أمره فيها. ثم انتقض عليه أهل دولته سنة ست وثمانين، وسار بعضهم إلى تمر سلطان بني جفطاي بعد أن خرج من وراء النهر بملكه يومئذ، واستولى على خراسان فاستصرخه على أحمد فأجاب صريخه، وبعث معه العساكر إلى توريز فأجفل عنها أحمد إلى بغداد واستبد بها ذلك الثائر
ورجع تمر إلى مملكته الأولى. وطمع طغطمش ملك الشمال من بني دوشي خان في انتزاع توريز من يد ذلك الثائر فسار إليها وملكها، وزحف تمر في عساكره سنة سبع وثمانين إلى أصبهان، وبعث العساكر إلى توريز فاستباحها وخربها واستولى على تستر والسلطانية، وانتطمهما في أعماله وانفرد أحمد ببغداد وأقام بها.
(استيلاء تمرو على بغداد ولحاق أحمد بالشام) كان تمر سلطان المغل بعد أن استولى على توريز خرج عليه خارج من قومه في بلاده يعرف بقمر الدين، فجاءه الخبر عنه، وأن طغطمش صاحب كرسي صراي في الشمال أمده بأمواله وعساكره فكّر راجعاً من أصبهان إلى بلاده، وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وسبعين. ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده. ثم استولى على كرسّي صراي وأعمالها. ثم خطا إلى أصبهان وعراق العجم والريّ وفارس وكرمان فملك جميعها من بني المظفر اليزدي، بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبادت جموعهم. وشد أحمد ببغداد عزائمه وجمع عساكره وأخذ في الاستعداد؛ ثم عدل إلى مصانعته ومهاداته فلم يغن ذلك عنه، وما زال تمر يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزمه وافترقت عساكره فنهض إليه يغذ السير في غفلة منه حتى إنتهى إلى دجلة، وسبق النذير إلى أحمد فأسرى بغلس ليله، وحمل ما أقلته الرواحل من أمواله وذخائره وخرق سفن دجلة، ومرّ بنهر الحلّة فقطعه، وصبح مشهد علي. ووافى تمر وعساكره دجلة في حادي عشر شوّال سنة خمس وتسعين، ولم يجد السفن فاقتحم بعساكره النهر ودخل بغداد واستولى عليها وبعث العساكر في اتباع أحمد ؛ فساروا إلى الحلة وقد قطع جسرها فخاضوا النهر عندها، وأدركوا أحمد بمشهد علي واستولوا على أثقاله ورواحله فكر عليهم في جموعه واستماتوا. وقتل الأمير الذي كان في اتباعه ورجع بقية التتر عنهم، ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها، وطالع نائبها السلطان بأمره فسرح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات والأزواد، وليستقدمه فقدم به إلى حلب وأراح بها. وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الأخبار بأن تمر عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد المصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة، وأقفرت جوانب بغداد من العيث، ثم قدم أحمد بن أوشى على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخاً به على طلب ملكه والانتقام من عدّوه فأجاب السلطان صريخه، ونادى في عسكره بالتجهز إلى الشام . وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين
وعش الحرابة ورصد السابلة، وأناخ عليها بجموعه اربعين يوماً فحاصرها حتى نزلوا على حكمه، وقتل من قتل منهم. ثم خربها وأقفرها وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها، وقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها، وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالزيدانية أياماً أزاح فيها علل عساكره وافاض العطاء في مماليكه، واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب سودون . وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أوشى بعد أن كفاه مهمه، وسرب النفقات في تابعه وجنده، ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان صاحب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصدا للعدو. فلما إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم، ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه. وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له كمشيقا الأتابك وتكلتمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا . وكان العدو تمر قد شغل بحصار ماردين. فأقام عليها أشهرا وملكها. وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها، وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها وأكتسحت، نواحيها ، والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ستمائة وتسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته . والله سبحاه وتعالى ولي التوفيق. بمنه وكرمه.
الشيخ علي أحمد بن أويس بن الشيخ حسن بن اقبغا بن ايلكان سبط ارغربن ابغا
الشيخ حسن أبو زيد.
(الخبر عن بني المظفر اليزدي المتغلبين علي اصفهان وفالس بعد انقراض دولة بني هلاكو وابتداء أمولهم ومصايرها) كان أحمك الفرس أهل ويزد وكان شجاعاً واتصل بالدولة أيام أبي سعيد فولوه حفظ السابلة بفارس، وكان منها مبدأ أمرهم. وذلك أنه لما توفي أبو سعيد سنة ست وثلاثين وسبعمائة ولم يعقب اضطربت الدولة ومرج أمر النماس، وافترق الملك طوائف وكلب أزبك صاحب الشمال على طائفة من خراسان فملكها. واستبد بهراة الملك حسين واللان محمود فرشحه من أهل دولة السلطان أبي سعيد عاملا على أصفهان وفارس فاستبدّ بأمره واتخذ الكرسي بشيراز إلى أن هلك، وولي بعده ابنه أبو اسحق امير شيخ سالكاً سبيله في الاستبداد. وكانت له آثار جميلة وله صنف الشيخ عضد الدين كتاب الموافف، والشيخ عماد الدين الكاشي شرح كتاب المفتاح وسموهما باسمه. وتغلب أيضاً محمد بن المظفر على كرمان ونواحيها فصارت بيده. وطمع في الاستيلاء على فارس. وكان أبو اسحق أمير شيخ قد قتل شريفا من أعيان شيراز فنادى بالنكير عليه ليتوصل إلى غرض انتزاع الملك من يده. وسار في جموعه إلى شيراز، ومال إليه أهل البلد لنفرتهم عن أمير شيخ لفعلته فيهم فأمكنوه من البلد وملكها، واستولى على كرسيها. وهرب أبو اسحق أمير شيخ إلى أصفهان وأتبعه ففرّ منه أيضاً وملك اصفهان، وبث الطلب في الجها حتى قبض عليه وقتله قصاصاً بالشريف الذي فتله بشيراز، وكان له من الولد أربعة: شاه ولي ومحمود وشجاع وأحمد. وتوفي شاه ولي أبيه وترك ابنيه منصورا ويحمى، وملك ابنه محمود اصفهان وابنه شجاع شيراز وكرمان واستبد عليه محمود وشجاع وخلفاه في ملكه سنة ستين وكحلاه وتولى ذلك شجاع، وسار إليه محمود من أصفهان بعد أن استجاش بأويس بن حسن الكبير فأمده بالعساكر سنة خمس وستين، وملك شيراز. ولحق شجاع بكرمان من أعماله وأقام بها واختلف عليه عماله، ثم استقاموا على طاعته. ثم جمع بعد ثلاث سنين ورجع إلى شيراز، ففارقها أخوه محمد إلى اصفهان، وأقام بها إلى أن هلك سنة ست وسبعين فاستضافها شجاع إلى أعماله، وأقطعها لابنه زين العابدين وزوجه بابنه أويس التي كانت تحت محمود. وولى على مردى ابن أخيه شاه ولي. ثم هلك شجاع سنة سبع وثمانين واستقل ابنه زين العابدين بأصفهان وخلفه في شيراز وفارس منصور ابن أخيه شاه ولي. وكان عادل كبير دولة بني أوشى بالسلطانية كما مر، ولحق به منصور بن شاه ولي هارباً من شيراز أمام عمه زين العابدين فحبس، ثم فر من محبسه ولحق بأحمد بن أوشى مستصرخا به فصارخه وأنزله بتستر من أعماله. ثم سار منها إلى شيراز ففارقها عمه زين
العابدين بى أصفهان، وأخوه يحيى بيزد وعمهما أحمد بن محمد المظفر بكرمان. ثم زحف تمر سلطان التتر من بني جفطاي بن جنكزخان سنة ثمان وثمانين، وملك توريز وخربها كما مر في أخباره فأطاعه يحمى صاحب يزد، وأحمد صاحب كرمان وهرب زين العابدين من أصفهان وملكها عليه تمر فلحق بشيراز، ورجع تمر إلى بلاده فيما وراء النهر وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين، فزحف إلى بلاد فارس. وجمع منصور بن شاه ولي العساكر لحربه فخادعه تمر بولايته وانكفأ راجعا إلى هراة فافترقت عساكر منصور بن شاه ولي، وجاءت عيون تمر بخبر افتراقها إليه فأغذ السير، وكبس منصور بن شاه ولي بظاهر شيراز وهو في قل من العساكر لا يجاوزون ألفين، فهرب الكثير من أصحابه إلى تمر واستمات هو والباقون وقاتلوا أشد قتال. وفقد هو في المعركة فلم يوقف له على خبر، وملك تمر شيراز واستضافها إلى أصفهان، وولى عليها من قبله. وقتل أحمد بن محمد صاحب كرمان وابنيه وولى على كرمان من قبله، وقتل يحيى بن شاه ولي صاحب يزد وابنيه، وولى على يزد من قبله واستلحم بني المظفر واستصفى زين العابدين بن شجاع بن محمود وهرب ابنه فلحق بخاله أحمد بن أوشى وهو لهذا العهد مقيم معه بمصر. والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
(الخبر عن بني ارتنا ملوك بلاد الروم من المغل بعد بني هلاكو والالمام بمبادئ أمورهم ومصايرهم) قد سبق لنا أنّ هذه المملكة كانت لبني قليج أرسلان من ملوك السلجوقية، وهم الذين أقاموا فيها دعوة الإسلام وانتزعوها من يد ملوك الروم أهل قسطنطينية واستضافوا إليها كثيراً من أعمال الأرض ومن ديار بكر فانفسحت أعمالهم وعظمت ممالكهم وكان كرسيهم بقونية ومن أعمالهم أقصر وأنْطاكِية والعلايا وطغرل ودمرلو وقراحصار. ومن ممالكهم اذربيجان ومن أعمالها اقشهر وكامخ، وقلعة كعونية ومن ممالكهم قيسارية، ومن أعمالها نكرة وعدا قلية ومنال. ومن ممالكهم أيضا سيواس وأعمالها ملكوها من يد الوانشمند كما مر في أخبارهم، ومن أعمالها: نكسار وأقاسية وتوقات وقمنات وكنكرة كورية وسامسون وصغوى وكسحونية وطرخلوا وبرلوا ومما استضافوه من بلاد الأرمن خلاط وأرمينية الكبرى واني وسلطان وأرجيس وأعمالها. ومن ديار بكر: خرت برت وملطية وسميساط ومسارة فكانت لهم هذه الأعمال وما يتصل بها من الشمال إلى مدينة بورصة، ثم إلى خليج القسطنطينية. واستفحل ملكهم فيها وعظمت دولتهم. ثم طرقها الهرم والفشل كما يطرق الدول. ولما استولى التتر على ممالك الإسلام، وورثوا الدول في سائر النواحي، واستقرّ التخت الأعظم لمنكوفان أخي هلاكو وجهز عساكر المغل سنة أربع وخمسين وستمائة إلى هذه البلاد، وعليهم بيكو من أكابر أمرائهم. وعلى بلاد الروم يومئذ غياث الدين كنخسرو بن علاء الدين كيقباد وهو الثاني عشر من ملوكهم، من ولد قطلمش فنزلوا على أرزن الروم ، كربها سنان الدين ياقوت مولى علاء الدين فملكوها بعد حصار شهرين واستباحوها. وتقدّموا أمامهم، ولقيهم غياث الدين بالصحراء على اقشهر وزنجان، وانهزم غياث الله-ش واحتمل ذخيرته وعياله، ولحق بقونية، واستولى بيكو على مخلفه. ثم سار إلى قيسارية. فملكوها. وهلك غياث الدين أثر ذلك، وملك بعده ابنه علاء الدين كيقباد، وأشرك معه أخويه في أمره وهما: عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعاثت عساكر التتر في البلاد فسار علاء الدين كيقباد إلى منكوفان صاحب التخت، واختلف اخواه من بعده وغلب عز الدين كيكاوس واعتقل أخاه ركن الدين بقونية، وبعث في أثر أخيه علاء الدين جمن يستفسد له منكوفان فلم يحصل من ذلك على طائل وهلك علاء الدين
في طريقه، وكتب منكوفان بتشريك الملك بين عز الدين وركن الدين والبلاد بينهما مقسومة فلعز الدين من سيواس إلى تخوم القسطنطينية ولركن الدين من سيواس إلى أرزن الروم متصلا من جهة الشرق ببلاد التتر. وأفرج عز الدين عن ركن الدين، واستقر في طاعة التتر. وسار بيكوفي بلاد الروم قبل أن يرجع عز الدين فلقيه أرسلان دغمش من أمراء عزالدين فهزمه بيكو إلى قونية، فأجفل عنها عز الدين إلى العلايا، وحاصرها بيكو فملكها على يد خطيبها وخرج إلى بيكو فأسلمت زوجته على يده ومنع التتر من دخولها إلاّ وحدانا، وأن لا يتعرّضوا لأحد واستقر عز الدين وركن الدين في طاعة التتر ولهما اسم الملك، والحكم للشحنة بيكو ولما زحف هلاكو إلى بغداد سنة ست وخمسين استنفر بيكو وعساكره فامتنع واعتذر بمن في طريقه من طوائف الأكراد الفراسيلية، والباروقية فبعث إليه هلاكو العساكر، ومرّوا بأذربيجان وقد أجفل أهلها وهم قوم من الأكراد فملكوها. وساروا مع بيكو إلى هلاكو وحضروا معه فتح بغداد وما بعدها. ولما نزل هلاكو حلب استدعى عز الدين وركن الدين فحضرا معه فتحها، وحضر معهما وزيرهما معين الدين سليمان البرواناة واستحسنه هلاكو، وتقم إلى ركن الدين بأن يكون السفير إليه عنه فلم يزل على ذلك. ثم هلك بيكو مقدم التتر ببلاد الروم، وولى مكانه صمقار من أمراء المغل ثم اختلف الأميران عز الدين وغياث الدين سنة تسع وخمسين، واستولى عز الدين على أعمال ركن الدين فسار ومعه البرواناة إلى هلاكو صريخاً فأمده بالعساكر وسار إلى عز الدين فهزمهم واستمدّه ثانياً فأمدّه هلاكو وانهزم عز الدين فلحق بالقسطنطينية وأقام عند صاحبها لشكري، واستولى ركن الدين قليج أرسلان على بلاد الروم، وامتنع التركمان الذين بتلك الأعمال بأطراف الأعمال والثغور والسواحل. وطلبوا الولاية من هلاكو فولاهم وأعطاهم الله الملك فهم الملوك بها من يومئذ كما يأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى وأقام عز الدين بالقسطنطينية وأراد التوثب بصاحبها لشكري ووشى به أخواله من الروم فاعتقله لشكري في بعض قلاعه، ثم هلك. ويقال ان ملك الشمال منكوتمر صاحب التخت بصراي حدثت بينه وبين صاحب القسطنطينية فتنة فغزاه واكتسح بلاده ومرّ بالقلعة التي بها عز الدين معتقلاً فاحتمله معه إلى صراي، وهلك عنده ولحق ابنه مسعود بعد ذلك بابغا بن هلاكو فأكرمه وولاه على بعض القلاع ببلاد الروم ثم إن معين الدين سليمان البرواناة ارتاب بركن الدين فقتله غيلة سنة ست وستين، ونصب ابنه كنخسرو للملك، ولقبه غياث الدين، وكان متغلباً عليه مقيماً مع ذلك على طاعة التتر وربما كان يستوحش منهم فيكاتب سلطان مصر بالدخول في طاعته، واطلع أبغا على كتابه بذلك إلى الظاهر بيبرس فنكره وهلك صمغار الشحنة فبعث
أبغا مكانه أميرين من أمراء المغل وهما تدوان وتوقر فتقدما سنة خمس وسبعين إلى بلاد الشام ونزلا بأبلستين ومعهما غياث الدين كنخسرو، وكافله البرواناة في العساكر. وسار الظاهر من دمشق فلقيهم بأبلستين وقد قعد البرواناة لما كان تواعد مع الظاهر عليه. وهزمهما الظاهر جميعا وقتل الأميرين تداون وتوقر في جماعة من التتر. ونجا البرواناة وسلطانه فلم يصب منهم أحد، واستراب السلطان بالبرواناة لذلك. وملك الظاهر قيسارية كرسي بلاد الروم وعاد إلى مصر. وجاء أبغا ووقف على مكان الملحمة، ورأى مصارع قومه فصدّق الريبة بممالأة الظاهر والبرواناة وأصحابه فاكتسح البلاد وخربها، ورجع ثم استدعى البرواناة إلى معسكره فقتله وأقام مكانه في كفالة كنخسرو أخاه عز الدين محمدا. ولم يزل غياث الدين والياً على بلاد الروم، والشحنة من المغل حاكم في البلاد إلى أن ولي تكدار بن هلاكو وكان أخوه قنقرطاي مقيماً ببلاد الروم مع صمغار فبعث عنه، وامتنع من الوصول فأوعز إلى غياث الدين واعتقله بارزنكان وولى على بلاد الروم على الشحنة أولاكو من أمراء المغل، وذلك سنة إحدى وثمانين. ويقال أنّ أرغو بن أبغا هو الذي ولىّ أولاكو شحنة ببلاد الروم بعد صمغار، وأنّ تدوان وتوقر إنما بعث بهما أبغا لقتال الظاهر ولم يرسلهما شحنة ثم أقام مسعود بن عز الدين كيكاوس في سلطانه ببلاد الروم والحكم لشحنة التتر وليس له من الملك إلا اسمه إلى أن افترق واضمحلّ أمره. وبقي أمراء المغل يتعاقبون في الشحنة ببلاد الروم، وكان منهم أوّل المائة الثامنة الأمير علي وهو الذي قتل ملك الأرمن هيشوش بن ليعون صاحب سيس واستعدى أخوه عليه بخربندا فأعداه وقتله كما مرّ في أخبار الأرمن في دولة الترك. وكان منهم سنة عشرين وسبعمائة الأمير ألبغا. ثم ولى السلطان أبو سعيد على بلاد الروم دمرداش بن جوبان سنة ثلاث وعشرين واستفحل بها ملكه، وجاهد الأرمن بسيس. واستمدّ الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر عليهم فأمدّه بالعساكر وافتتحوا إياس عنوة ورجعوا ثم نكب السلطان أبو سعيد نائبه جوبان بن بروان وقتله كما مرّ في أخبارهم. وبلغ الخبر إلى دمرداش ابنه ببلاد الروم فاضطرب لذلك، ولحق بمصر في عساكره وأمرائه فأقبل السلطان عليه وتلقاه بالتكرمة والإيثار وجاءت رسل أبي سعيد في اتباعه تطلب حكم الله تعالى فيه بسعيه في الفساد وإثارة الفتنة، على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فقتلوه، وقتل دمرداش بمصر وذهبا بما كسبا كان دمرداش لما هرب من بلاد الروم إلى مصر ترك من امرائه أرتنا، وكان يسمى النوير اسم أبناء الملوك فبعث إلى أبي سعيد بطاعته فولاه على البلاد فملكها. ونزل سيواس واتخذها كرسي ملكه. ثم استبدّ حسن بن دمرداش بتوريز فبايع له ارتنا. ثم انتقض وكاتب الملك الناصر
صاحب مصر ودخل في طاعته، وبعث إليه بالولاية والخلع فجمع له حسن بن دمرداش وسار إليه بسيواس. وسار أرتنا للقائه بصحراء كسينوك وهزمه، وأسر جماعة من أمرائه، وذلك سنة أربع وأربعين واستفحل ملك أرتنا من يومئذ، وعجز جوبان وحسن بن دمرداش عن طلبه إلى أن توفي سنة ثلاث وخمسين. وأما بنوه من بعده فلا أدري من ملك منهم ولا ترتيب ولايتهم، إلا أنه وقع في أخبار الترك ان السلطان أوعز سنة ست وستين إلى نائب حلب أن يسير في العساكر لانجاد محمد بك بن أرتنا فمضوا وظفروا. وما زال أرتنا وبنوه مستبدين ببلاد الروم وأعمالها. واقتطع لهم التركمان منها بلاد الأرمن، سيس وما إليها، فاستولى عليها بنو دلقادر على خلافة، وزحفوا إليه، وهي في أيديهم لهذا العهد. ولما خالف سعاروس من أمراء الترك سنة إثنتين وخمسين ظاهره قراجا بن دلقادر على خلافه، وزحف إليه السلطان من مصر فافترقت جموعه واتبعته العساكر فقتل وبعث السلطان سنة أربع وخمسين عسكرا في طلب قراجا فساروا إلى البلستين وأجفل عنها نائبها فنهبوا أحياءه، ولحق هو بابن أرتنا بسيواس فقبض عليه وبعث به إلى السلطان بمصر فقتله. واقتطع التركمان ناحية الشمال من أعمالهم إلى القسطنطينية وأثخنوا في أمم النصرانية وراءهم، واستولوا على كثير من تلك الممالك وراء القسطنطينية، وأميرهم لهذا العهد في عداد الملوك الأعاظم ودولتهم ناشئة متجددة وكان صبيا بسيواس منذ أعوام الثمانين، وهو من أعقاب بني أرتنا فاستبدّ عليه قاضي البلد لما كان كافلا له بوصية أبيه. ثم قتل القاضي ذلك الصبي أعوام اثنتين وتسعين واستبد بذلك الملك. وكانت هناك أحياء التتر يناهزون ثلاثين ألفا أو نحوها مقيمين بتلك النواحى. ملكهم دمرداش بن جوبان ومن قبله من أمراء المغل، فكانوا شيعة لبني أرتنا وعصابة لهم، وهم الذين استنجد بهم القاضي حين وجهت إليه عساكر مصر في طلب منطاش الثائر الذي فر، ثم لحق به، وسارت عساكر مصر في طلبه سنة تسع وثمانين ؛ فاستنجد القاضي بأحياء التتر هؤلاء، وجاؤوا لإنجاده. ورجعت عساكر مصر عنهم كما تقدم ذلك كله في أخبار الترك، والحال على ذلك لهذا العهد، والله مصير الأمور بحكمته وهو على كل شيء قدير.
ج ب ا
إبراهيم بن محمد بك بن أرتنا النوير عامل أبي سعيد على بلاد الروم.
(الخبر عن الدولة المستجدة للتركمان في شمال بلاد الروم إلى خليج القسطنطينية وما وراءه لبني عثمان وإخوته) قد تقدم لنا في أنساب العالم ذكر هؤلاء التركمان وإنهم من ولد يافث بن نوح، أي من توغرما بن،سمر بن يافث، كذا وقع في التوراة، وذكر الفيومى من علماء بني إسرائيل ونسابتهم أن توغرما هم التركمان إخوة الترك، ومواطنهم فيما وجدناه من بحر طبرستان، ويسمى بحر الخزر إلى جوفي القسطنطينية، وشرقها إلى ديار بكر. وبعد إنقراض العرب والأرمن ملكوا نواحي الفرات من أوله إلى مصبه في دجلة، وهم شعوب متفرقون وأحياء مختلفون لا يحصرهم الضبط ولا يحويهم العد. وكان منهم ببلاد الروم جموع مستكثرة، كان ملوكها يستكثرون بهم في حروبهم مع أعدائهم. وكان كبيرهم فيها لعهد المائة الرابعة جق، وكانت أحياؤهم متوافرة وأعدادهم متكاثرة. ولما ملك سليمان بن قطلمش قونية بعد أبيه وفتح أنْطاكِية سنة سبع وسبعين من يد الروم، طالبه مسلم بن قريش بما كان له على الروم فيها من الجزية، فأنف من ذلك، وحدثت بينهما الفتنة. وجمع قريش العرب والتركمان مع أميرهم جق، وسار إلى حرب سليمان بأنْطاكِية فلما التقيا مال التركمان إلى سليمان لعصبية الترك، وإنهزم مسلم بن قريش وقتل.وأقام أولئك التركمان ببلاد الروم أيام بني قطلمش موطنين بالجبال والسواحل. ولما ملك التتر ببلاد الروم وأبقوا على بني قطلمش ملكهم، وولوا ركن الدولة قليج أرسلان بعد أن غلب أخوه عز الدين كيكاوس وهرب إلى القسطنطينية. وكان أمراء هؤلاء التركمان يومئذ محمد بك وأخاه إلياس بك وصهره علي بك وقريبه سونج، والظاهر أنهم من بني جق فانتقضوا على ركن الدولة، وبعثوا إلى هلاكو بطاعتهم وتقرير الأثر عليهم، وأن يبعث إليهم باللواء على العادة، وأن يبعث شحنة من التتر يختص بهم فاسعفهم بذلك وقلدهم وهم من يومئذ ملوك بها.ثم أرسل هلاكو إلى محمد بك الأمير يستدعيه فامتنع من المسير إليه، وإعتذر فأوعز هلاكو إلى الشحنة الذي ببلاد الروم، وإلى السلطان قليج أرسلان بمجاربته فساروا إليه وحاربوه، ونزع عنه صهره علي بك. ووفد على هلاكو هدمه مكان محمد صهره. ولقي محمد العساكر فانهزم وأبعد في المفر. ثم جاء إلى قليج أرسلان مستأمنا فأمنه، وسار معه إلى قونية فقتله واستقر صهره علي بك أميراً على التركمان، وفتحت عساكر التتر نواحي بلاد الروم إلى اسطنبول. والظاهر أن بني عثمان ملوكهم لهذا العهد من أعقاب علي بك أو أقاربه، يشهد بذلك إتصال هذه الإمارة
فيهم مدة هذه المائة سنة.ولما اضمحل أمر التتر من بلاد الروم، واستقر بنو أرتنا بسيواس وأعمالها غلب هؤلاء التركمان على ما وراء الدروب إلى خليج القسطنطينية، ونزل ملكهم مدينة بورصة من تلك الناحية، وكان يسمى أورخان بن عثمان جق فاتخذها داراً لملكهم، ولم يفارق الخيام إلى القصور، وإنما ينزل بخيامه في بسيطها وضواحيها وولي بعده ابنه مراد بك،وتوغل في بلاد النصرانية وراء الخليج، وافتتح بلادهم إلى قريب من خليج البنادقة وجبال جنوة، وصار أكثرهم ذمة ورعايا. وعاث في بلاد الصقالبة بما لم يعهد لمن قبله، وأحاط بالقسطنطينية من جميع نواحيها حتى اعتقل ملكها من أعقاب لشكري. وطلب منه الذمة وأعطاه الجزية، ولم يزل على جهاد أمم النصرانية وراءه إلى أن قتله الصقالبة في حروبه معهم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وولى ابنه أبو يزيد وهو ملكهم لهذا العهد.
وقد استفحل ملكهم واستجدت بالعز دولتهم، وكان قد غلب على قطعة من بلاد الروم ما بين سيواس وبلادهم من أنْطاكِية والعلايا بحيال البحر إلى قونية بنو قرمان من أمراء التركمان، وهم الذين كانوا في حدود أرمينية، وجدهم هو الذي هزم أوشين بن ليعون ملك سيس من الأرمن سنة عشرين وسبعمائة. ثم كان بين بني عثمان جق وبين بني قرمان أتصال ومصاهرة، وكان ابن قرمان لهذا العهد صهر السلطان مراد بك على أخته فغلبه السلطان مراد بك على ما بيده، ودخل ابن قرمون صاحب العلايا في طاعته، بل والتركمان كلهم. وفتح سائر البلاد، ولم يبق له إلا سيواس بلد بني أرتنا في استبداد القاضي الذي عليها وما أدري ما الله صانع بعد ظهور هذا الملك تمر المتغلب على ملك المغل من بني جفطاي بن جنكزخان.وملك ابن عثمان لهذا العهد مستفحل بتلك الناحية الشمالية ومتسع في أقطارها، ومرهوب عند أمم النصرانية هنالك، ودولته مستجدة عزيزة على تلك الأمم والأحياء والله غالب على أمره.وإلى هنا إنتهت أخبار الطبقة الثالثة من العرب ودولهم، وهم الأمم التابعة للعرب بما تضمنه من الدول الإسلامية شرقاً وغرباً لهم ولمن تبعهم من العجم، فلنرجع الآن إلى ذكر الطبقة الرابعة من العرب وهم المستعجمة أهل الجيل الناشىء بعد إنقراض اللسان المضري ودروسه. ونذكر أخبارهم ثم نخرج إلى الكتاب الثالث في أخبار البربر ودولهم فنفرغ بفراغها من الكتاب إن شاء الله تعالى، والله ولي العون والتوفيق بمنه وكرمه. تم بحمد الله