تاريخ ابن خلدون - الجزء الثاني
تاريخ ابن خلدون، الجزء الثاني.
تاريخ ابن خلدون المجلد الثانى المقدمة الأولى من صفحة 3 - 147
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام علي الجملة في أنسابهم
اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى اعتمر هذا العالم بخلقه، وكّرم بني آدم باستخلافهم في أرضه، وبثهم في نواحيها لتمام حكمته، وخالف بين أممهم وأجيالهم إظهارا لآياته، فيتعارفون بالأنساب، ويختلفون باللغات والألوان، ويتمايزون بالسير والمذاهب والأخلاق، ويفترقون بالنِحَلِ والأديان والأقاليم والجهات. فمنهم العرب والفرس والروم وبنو إسرائيل والبربر، ومنهم الصقالبة والحبش والزنج، ومنهم أهل الهند وأهل بابل وأهل الصين وأهل اليمن وأهل مصر وأهل المغرب. ومنهم المسلمون والنصارى واليهود والصابئة والمجوس، ومنهم أهل الوبِرَ وهم أصحاب الخيام والحلل وأهل المَدَرِ وهم أصحاب المجاشر والقرى والأطم، ومنهم البدو الظواهر والحضر الأهلون. ومنهم العرب أهل البيان والفصاحة والعجم أهل الرطانة بالعبرانية والفارسية والإغريقية والطينية والبربرية. خالف أجناسهم وأحوالهم وألسنتهم وألوانهم ليتم أمر الله في اعتمار خصوصياتهم ونحلهم فتظهر آثار القدرة وعجائب الصنعة وآيات الوحدانية أنّ في ذلك لآيات للعالمين. واعلم أنّ الامتياز بالنسب أضعف المميزات لهذه الأجيال والأمم لخفائه واندراسه بدروس الزمان وذَهابه. ولهذا كان الاختلاف كثيراً ما يقع في نَسَبِ الجيل الواحِد أوّ الأمَّة الواحدة، إذا اتصلت مع الأيام وتشعَّبت بطونُها على الأحقاب كما وقع في نسب كثير من أهل العالم مثل اليونانيين والفرس والبربر وقحطان من العرب. فإذا اختلفت الأنساب واختلفت فيها المذاهب وتباينت الدعاوى استظهر كل ناسب على صحَّة ما ادَّعاه بشواهد الأحوال والمتعارف من المقارنات في الزمان والمكان وما يرجع إلى ذلك من خصائص القبائل وسمِات الشعوب والفِرَق التي تكون فيهم منتقلة، متعاقبة في بنيهم.
وسُئلَ مالك رحمه الله تعالى عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك وقال من أين يعلم ذلك؟ فقيل له فإلى إسماعيل فأنكر ذلك، وكره أيضاً أنّ يُرْفَعَ في أنساب الأنبياء، مثل أنّ يقال: إبراهيم بن فلان بن فلان، وقال من يخبره به. وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى: {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله }[سورة:..] قال: كَذَبَ النسابون. واحتجوا أيضاً بحديث ابن عباس أَنَّه صلى الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال من ههنا كذب النسابون. واحتجوا أيضاً بما ثبت في أَنه علم لا ينفع، وجهالة لا تضرّ، إلى غير ذلك من الاستدلالات.
وذهب كثير من أئمة المحدَثين والفقهاء مِثْلُ ابن إسحق والطبري والبخاري إلى جواز الرفع في الأنساب، ولم يكرهوه ،محتجين بعمل السلف، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه أنسبَ قرش لقريش ومضر، بل ولسائر العرب، وكذا ابن عباس، وجُبَير بن مطعم وعَقيل بن أبي طالب، وكان من بعدهم ابن شهاب والزهري وابن سيرين، وكثير من
التابعين. قالوا وتدعو الحاجة إليه في كثير من المسائل الشرعية، مثل تعصيب الوراثة وولاية النكاح، والعاقلة في الديات، والعلم بنسب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه القُرَشيّ الهاشمي الذي كان بمكة، وهاجر إلى المدينة، فإنّ هذا من فروض الإيمان ولا يعذر الجاهل به. وكذا الخلافة عند من يشترط النَسَبَ فيها. فهذا كله يدعو إلى معرفة الأنساب ويؤكد فضل هذا العلم وشرفه، فلا ينبغي أنّ يكون ممنوعا. وأما حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم- لما بلغ نسبه إلى عدنان قال من ههنا كذب النسَّابون، يعني من عدنان. فقد أنكر السُهيليّ روايته من طريق ابن عبّاس مرفوعاً، وقال الأَصح أنه موقوف على ابن مسعود. وخرّج السُهَيلىّ عن أُمِّ سلمة أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم- قال: مُعَدُّ بن عَدنان بن أدَدٍ بن زَيدٍ البِّري بن أَعْراق الثرى. قال وفسرت أم سلمة زيداً بأنه الهُمَيسَع والبرِّي بأنه نَبْتٌ أَوْ نابتٌ واعراق الثري بأَنه إسماعيل، وإسماعيل هو ابن إبراهيم، وإبراهيم لم تأْكله النار كما لا تأْكل الثرى. وردّ السُهَيلِي تفسير أمّ سَلَمَةَ وهو الصحيح، وقال إِنما معناه معنى قولi-صلى الله عليه وسلم- كلكم بنو آدم وآدم من تراب. لا يريد أنّ الهُمَيسَع ومن دونه ابن لإسماعيل لِصُلبِهِ، وعضد ذلك باتفاق الأخبار على بعد المدّة بين عدنان وإسماعيل، التي تستحيل في العادة أنّ يكون فيها بينهما أَربعة آباء، أو سبعة أو عشرة أو عشرون، لأن المدَّة أطولُ من هذا كله كما نذكره في نَسَبِ عدنان فلم يبق في الحديث مُتَمَسَّكٌ لأحدٍ من الفريقين. وأما ما رووه من أنّ النَسب عِلْمٌ لا ينفع، وجَهالة لا تَضُرُّ فقد ضَعَّفَ الأئمةُ رَفعَهُ إلى النبِيّ - صلى الله عليه وسلم- مثل الجِرجاني وأبي محمد بن حَزْم وأبي عُمَرَ بنِ عَبْدِ البر. وأَلحقَ في الباب أنّ كل واحد من المذهبين ليس على اطلاقه، فإنّ الأنسابَ القَريبةَ التي يمكن التوصُّلُ إلى معرفتها لا يَضُرُّ الاشتغال بها لدعوى الحاجة إليها في الأُمور الشرعية من التعصيب والولاية والعاقلة وفرض الإيمان بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم-، ونسب الخلافة والتفرقة بين العرب والعجم في الحرية والاسترقاق، عند من يشترط ذلك كما مرَّ كله، وفي الأمور العادية أيضاً تثبت به اللُّحْمة الطبيعية التي تكون بها المدافعة والمطالبة. ومنفعةُ ذلك في إقامة المُلْكِ والدين ظاهرةً. وقد كان –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ينسبون إلى مضر ويتساءلون عن ذلك. وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم. وهذا كله ظاهر في النسب القريب، وأمَّا الأنساب البعيدة العَسَرةُ المَدْرِكِ التي لا يوقف عليها إلا بالشواهد والمقارنات، لبعد الزمان وطول الأحقاب، أو لا يوقف عليها رأسا لدروس الأجيال، فهذا قد ينبغي أنّ يكون له وجه في الكراهة، كما ذهب إليه من ذهب من أهل العلم، مثل مالك وغيره، لأنه شغل الإنسان بما لا يعنيه. وهذا وجهٌ قوله-صلى الله عليه وسلم-فيما بعد عدنان من ههنا كذَبَ النسابون. لأنها أحْقاب متطاولة ومَعالم دارِسَة لا تُثْلِجُ الصُدُورَ باليقين في شيء منها، مع أنّ علمها لا ينفع وجهلها لا يضركما نقل والله الهادي إلى الصواب.
ولنأخذ الآن في الكلام في أنساب العالم على الجملة، ونترك تفصيل كل واحد منها إلى مكانه فنقول: أنّ النسابين كلَّهم اتفقوا على أنّ الأب الأوَّل للخليقة هو آدم عليه السلام، كما وقع في التنزيل إلا ما يذكره ضُعفاء الإِخْبَاريين من أنّ الجِنَّ والطَمَّ أُمَّتان كانتا فيما زعموا من قبل آدم، وهو ضعيف متروك وليس لدينا من أخبار آدم وذريته إلاَّ ما وقع في المصحف الكريم، وهو معروفٌ بين الأئمَّة. واتفقوا على أنّ الأرض عَمُرَتْ بنسله أحقاباً وأجيالاً بعد أجيالٍ إلى عصر نوح عليه السلام، وأنه كان فيهم أنبياءٌ مثل شيثَ وإدريَس، وملوك في تلك الأجيال معدودون، وطوائف مشهورون بالنِحَلِ مثل الكلدانيين، ومعناه الموحَدون، ومِثْلُ السريانيين وهم المشركون. وزعموا أنّ أُمَمَ الصابئِة منهم، وأنهم من وُلْدِ صابئ بن لَمك بن أَخْنُوخ. وكان نِحْلَتُهُم في الكواكب والقيام لها كلها، واستنزال روحانيتّها، وأَنَّ من حزبهم الكلدانيين أي المُوَحَدِينَ. وقد ألف أبو إسحق الصابي الكاتب مقالة في أنسابهم ونحلتهم. وذكر أخبارَهم أيضاً دَاهِرُ مؤرَّخُ السريانيين، والبابا الصابي الحرَّاني، وذكروا استيلاءَهم على العالم، وجُمَلاً من نواميسهم. وقد اندرسوا وانقطع أثرهم. وقد يقال أنّ السريانيين من أهل تلك الأجيال، وكذلك النُمْروُذُ والازدِهاق وهو المسمى بالضَحَّاك من ملوك الفُرس، وليس ذلك بصحيح عند المحقَقين. واتفقوا على أنّ الطَوَفَاَنَ الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعُمْرَانِ الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور ومَهْلَكِ الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبو افصار
أهل الأرض كلُّهم من نسله، وعاد أَباً ثانياً للخليقة وهو نوحُ بْنِ لامِكْ، ويُقَالُ لَمَكَ بن مَتوشَلَخ بفتح اللام وسكونها ابن خنوخ، ويقال أخنوخ ويقال أَشْنَخ ويقال أَخْنَخ، وهو إدريس النبيُّ فيما قاله ابن إسحق بن بيرد، ويقال بيرد بن مَهْلائيل، ويقال ماهلايلَ بن قاين، ويقال قينن بن أنوش، ويقال يا نش بن شيث بن آدم، ومعنى شيث عطَّية الله هكذا نَسَبَهُ ابنُ إسحق وغيُرُه من الأئمة، وكذا وقع في التوارة نسبه، وليس فيه اختلاف بين الأئمة. ونقل ابن إسحق أنّ خنوخ الواقعُ إسمَهُ في هذا النسب هو إدريس النبيُّ صلوات الله عليه، وهو خلاف ما عليه الأكثر من النسَّابين، فإن إدريس عندهم ليس بجدًّ لنوح، ولا في عمود نسبه وقد زعم الحكماء الأقدمون أيضاً أنّ إدريس هو هرمس المشهور بالإمامة في الحكمة عندهم. وكذلك يقال: أنّ الصابئة من ولد صابىء بن لامك وهو أخو نوح عليه السلام. وقيل أنّ صابىء متوشلخ جدّه.
واعلم أنّ الخلاف الذي في ضبط هذه الأسماء إِنَّما عرض في مخارج الحروف، فإن هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب، فإذا وقع الحرف متواسطاً بين حرفين من لغة العرب، فتردّه العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا. وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلامَ العجم، فمن ههنا اختلف الضبط في هذه الأسماء.
واعلم أنّ الفرس والهند لا يعرفون الطوفان، وبعضُ الفرس يقولون كان ببابلَ فقط. واعلم أنّ آدم هو كيومرث وهو نهاية نسبهم فيما يزعمون، وأنَّ أفريدون الملك في آبائهم هو نوح، وأنه بعث لازدهاق وهو الضحَّاك فلبسه الملك وقبله كما يذكر بعد في أخبارهم. وقد تترجَّحُ صحة هذه الأنساب من التوراة، وكذلك قصص الأنبياء الأقدمين إذ أخذت عن مسلمي يهودا، ومن نسخ صحيحة من التوراة، يغلب على الظن صحتها. وقد وقعت العناية في التوراة بنسب موسى عليه السلام وإسرائيل وشعوب الأسباط، ونسب ما بينهم وبين آدم صلوات الله عليه. والنسب والقصص أمرٌ لا يدخله النَسْخُ، فلم يبق إلا تحرّي النُسخ الصحيحة والنقل المعتبر. وأمَّا ما يقال من أنّ علماءَهم بدَّلوا مواضع من التوراة، بحسب أغْراضهم في ديانتهم. فقد قال ابن عباس، على ما نقل عنه البخاري في صحيحه: أنّ ذلك بعيد، وقال معاذ الله أنّ تَعْمد أُمَّة من الأمَم إلى كتابها المُنْزَل على نبَيها فتبدله أو ما في معناه، قال وإنما بدَّلوه وحرفوه بالتأويل. ويشهد لذلك قوله تعالى: {وعندهم التوراة فيها حكم الله}[سورة...] ولو بدّلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراةُ التي فيها حكم الله.وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم، فإنما المعني به التأويل، اللهم إلا أنّ يطرقها التبديل في الكلمات على طريق الغفلة وعدم الضبط. وتحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها فذلك يمكن في العادة، لا سيما وملكهم قد ذهب، وجماعتهم انتشرت في الآفاق، واستوى الضابط منهم وغيرُ الضابط، والعالمُ والجاهل، ولم يكن وازع يحفظ لهم ذلك لذهاب القدرة بذَهاب الملك، فتطرَّق من أجل ذلك إلى صحف التوراة في الغالب تبديل وتحريف، غير متعمد من علمائهم وأحبارهم. ويمكن مع ذلك الوقوف على الصحيح منها إذا تحرى القاصد لذلك بالبحث عنه.
ثم اتفق النسابون ونَقَلَتَ المفسرين على أنّ ولد نوح الذين تفرّعت الأُممُ منهم ثلاثة: سام وحام ويافث، وقد وقع ذكرهم في التوراة، وأنّ يافث أكبرهم، وحام الأصغر، وسام الأوسط. وخرَّج الطبري في الباب أحاديث مرفوعة بمثل ذلك، وأنَّ سامَ أبو العرب، ويافثُ أبو الروم، وحام أبو الحبش والزنج، وفي بعضها السودان. وفي بعضها: سام أبو العرب وفارس الروم، ويافث أبو الترك الصقالبة ويأجوج ومأجوج، وحام أبو القبط والسودان والبربر، ومثله عن ابن المسَيَّب وَوَهْبِ بْن مُنَبَّه. وهذه الأحاديث وإن صحَّت فإِنَّما الأنساب فيها مجملة، ولابدّ من نقل ما ذكره المحققون في تفريعِ أنساب أمم من هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً. وكذلك نقل الطبريُّ أنه كان لنوح ولد إسمه كنعان، وهو الذي هلك في الطوفان. قال: وتسميه العرب يام، وآخر مات قبل الطوفان إِسمه عابر. وقال هشام: كان له ولدٌ إِسمه بوناطر، والعقب إنَّما هو من الثلاثة، على ما أجمع عليه الناس وصحت به الأخبار، فأمّا سام فمن ولده العرب على اختلافهم، وإبراهيم وبنوه صلوات الله عليهمّ باتفاق النسابين. والخلاف بينهم إنَّما هو في تفا ريع ذلك أوْ في نَسَب غير العرب إلى سام.
فالذي نقله ابن إسحق: أنّ سام بن نوح كان له من الولد خمسة، وهم أَرفخشَذ، ولاوَذ، وإِرم، وأَشوذ، وغليم. وكذا وقع ذكر هذه الخمسة في التوراة وأَنَّ بني أشوذ هُمْ أهْلُ الموصل، وبني غليم أهل خوزستان، ومنها الأهواز. ولم يذكر في التوراة وُلد لاوذ. وقال ابن إسحق: وكان للاوذ أربعة من الولد: وهم طسم وعمليق وجرجان وفارس. قال: ومن العماليق أُمَّة جاسِم. فمنهم بنولَفَّ، وبنو هَزَّان، وبنو مَطَر وبنو الأزْرَق. ومنهم بُدَيْل وراحِلِ وظَفَّار. ومنهم الكنعانُّيون وبرابَرةُ الشام، وفراعِنَة مِصْرَ. وعن غير ابن إسحق أنّ عبد بن ضخم وأميم من وُلد لاوَذ. قال ابن إسحق: وكان طسم والعماليق وأمَيْم وجاسم يتكلمون بالعربية، وفارس يجاورونهم إلى المشرق، ويتكلمون بالفارسية. قال ووُلْدُ إرم: عُوصُ وكاثر وعُبَيْل، ومن وُلْد عِوُص عَادٌ، ومنزلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت. ومن ولد كاثر ثمود وجديس، ومنزل ثمود بالحجر بين الشام والحجاز. وقال هشام بن الكلبي: عبيل بن عوص أخو عاد. وقال ابن حَزْمَ عن قدماء النَسَّابين: أنّ لاوذ هوابن إِرَمَ بن سام أخو عوص وكاثَر. قال: فعلى هذا يكون جديس وثمود أخوين، وطسم وعِملاق أخوين أبناءَ عمًّ لحام، وكلهم بنو عم عاد. قال: ويذكرون أنّ عبد بن ضَخَم بن إِرَم، وأنَّ أُمَيْم بن لاوَذ بن إِرَم. قال الطبري: وفهَّم الله لسان العربية عاداً وثمودَ وعبيل وطَسْم وجديس وأميم وعمليق، وهم العرب العاربة. وربما يقال: أنّ من العرب العاربة يَقْطِنَ أيْضاً، ويسمون أيضاً العرب البائدة، ولم يبقَ على وجه الأرض منهم أحد. قال: وكان يقال عاد إرم، فلما هلكوا قيل ثمود إرم، ثم هلكوا فقيل لسائر ولد إرم أرمان، وهم النبط، وقال هشام بن محمد الكلبي: أنّ النبط بنو نبيط بن ماش بن إرم، والسريان بنو سريان بن نبط. وذكر أيضاً أنّ فارس من ولد أشوذ بن سام، وقال فيه فارس بن طبراش بن أشو، وقيل أنهم من أميم بن لاوذ وقيل ابن غليم. وفي التوراة: ذكر ملك الأهواز واسمه كردلا عمرو من بني غليم والأهواز متصلة ببلاد فارس. فلعل هذا القائل ظنَّ أنّ أهل أهواز هم فارس، والصحيح أنهم من وُلد يافث كما يُذكر. وقال أيضاً أنّ البربر من ولد عِمليق بن لاوَذ وأنهم بنو تميلة من مأرب بن قاران بن عمر بن عمليق، والصحيح أنهم من كنعان بن حام كما يذكر. وذكر في التوراة ولد إرَم أربعة: عوص وكاثر وماش ويقال مَشَحْ والرابع حول. ولم يقع عند بني إسرائيل في تفسير هذا شيءٌ إلاَّ أنّ الجرامقة من ولد كاثر. وقد قيل أنّ الكرد والدَّيلم من العرب. وهو قول مرغوبٌ عنه.
وقال ابن سعيد كان لأشوذ أربعة من الولد: إيران ونَبيط وجرموق وباسل. فمن إيران الفرس والكرد والخزر، ومن نبيط النبط والسريان، ومن جرموق الجرامقة وأهل الموصل، ومن باسل الديلم وأهل الجبل. قال الطبري: ومن وُلْدِ أرفخشذ العبرانيون
خريطة
وبنو عابر بن شالخ بن أرفخشذ، وهكذا نسبه في التوراة. وفي غيره أنّ شالخ بن قينن بن أرفخشذ، وإنما لم يذكر قينن في التوراة لأنه كان ساحراً وادّعى الألوهية.
وعند بعضهم أنّ النمروذ من ولد أرفخشذ وهو ضعيف. وفي التوراة أنّ عابر ولد إثنين من الولد هما فالغ ويقطن، وعند المحققين من النسَّابة أنّ يقطن هو قحطان عربته العرب هكذا. ومن فالغ إبراهيم عليه السلام وشعوبه، ويأتي ذكرهم. ومن يقطن شعوبٌ كثيرةٌ. ففي التوراة ذكر ثلاثة من الولد له، وهم: المِرذاذ ومعربه ومضاض وهم جرهم وإرم وهم حضور، وسالف وهم أهل السلفات، وسبا وهم أهل اليمن من حِمْيَر، والتبابعة وكهلان وهدرماوت وهم حضرموت. هؤلاء خمسة، وثمانية أخرى ننقل أسماءَهم وهي عبرانية، ولم نقف على تفسير شيءٍ منها، ولا يُعلم من أي البطون هم، وهم: بباراح وأو زال ودفلا وعوثال وأفيمايَل وأيوفير وحويلا ويوفاف، وعند النسابين أنّ جرهم من ولد يقطن فلا أدري من أيهم. وقال هشام ابن الكلبي أنّ الهند والسند من نوفير بن يقطن والله أعلم.
وأما يافث فمن ولده الترك والصين الصقالبة ويأجوج ومأجوج باتفاق من النسابين. وفي آخرين خلاف كما يذكر. وكان له من الولد على ما وقع في التوراة سبعة: وهم كومَر وياوان وماذاي وماغوغ وقَطوبال وماشَخ وطيراش، وعدّهم ابن إسحق هكذا، وحذف ماذاي ولم يذكر كومر وتوغرما وأشبان وريغاث، هكذا في نص التوراة. ووقع في الإسرائيليات أنّ توغرما هم الخزر، وأن أشبان هم الصقالبة، وأن ريغاث هم الإفرنج ويقال لهم برنسوس، والخزرهم التركمان وشعوب الترك كلهم من بني كومر، ولم يذكروا من أي الثلاثة هم. والظاهر أنهم من توغرما. ونسبهم ابن سعيد إلى الترك ابن عامور بن سويل بن يافث. والظاهر أنه غلط، وأن عامور هو كومر، صحف عليه. وهم أجناس كثيرة منهم الطغرغر وهم التتر والخطا وكانوا بأرض طغماج، والخزلقية والغز الذين كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين كان منهم الخلج، ويقال للهياطلة الصغد أيضاً. ومن أجناس الترك الغور والخزر والقفجاق، ويقال الخفشاخ ومنهم يمك والعلأن، ويقال الأز،و منهم الشركس وأزكش. ومن ماغوغ عند الإسرائيليين يأجوج ومأجوج، وقال ابن إسحاق: إنهم من كومر ومن مازاي الديلم ويسمون في اللسان العبراني ماهان. ومنهم أيضاً همذان، وجعلهم بعض الإسرائيليين من بني همذان بن يافث وعد همذان ثامناً للسبعة المذكورين من ولده.
وأمَّا ياوان واسمه يونان فعند الإسرائيليين أنَّه كان له من الولد أربعةٌ وهم داود بن واليشا وكيتم وترشيش، وأن كيتم من هؤلاء الأربعة هو أبو الروم، والباقي يونان، وأن تر شيش أهل طر سوس. وأما قطوبال فهم أهل الصين من المشرق، والليمان من المغرب. ويقال أنّ أهل إفريقية قبل البربر منهم وأن الإفرنج أيضاً منهم. ويقال أيضاً أنّ أهل الأندلس قديماً منهم .وأما ماشخ فكان ولده عند الإسرائيليين بخراسان، وقد انقرضوا لهذا العهد فيما يظهر، وعند بعض النسابين أنّ الأشبان منهم. وأما طيراش فهم الفرس عند الإسرائيليين، وربما قال غيرهم إنهم من كومر وأن الخزر والترك من طيراش، وأن الصقالبة وبرجان والأشبان من ياوان وأن يأجوج ومأجوج من كومر، وهي كلها مزاعم بعيدة عن الصواب. وقال أهروشيوش مؤرَّخ الروم أنّ القوط واللطين من ماغوغ. وهذا آخر الكلام في أنساب يافث. وأما حام فمن ولده :السودان والهند والسند والقبط وكنعان باتفاق. وفي آخرين خلاف نذكره، وكان له على ما وقع في التوراة أربعة من الولد وهم: مصر ويقول بعضهم مصرايم، وكنعان وكوش وقوط. فمن وُلد مصر عند الإسرائيليين فتروسيم وكسلوحيم. ووقع في التوراة فلشنين منهما معاً. ولم يتعيَّن من أحدهما، وبنو فلشنين الذين كان منهم جالوت. ومن ولد مصر عندهم كفتورع، ويقولون هم أهل دمياط. ووقع الأنقلوس ابن أخت قيطش الذي خرب القدس في الجلوة الكبرى على اليهود. قال أنّ كفتورع هو قبطقاي. ويظهر من هذه الصيغة أنهم القبط لما بين الإسمين من الشبه. ومن ولد مصر عناميم وكان لهم نواحي إسكندرية، وهم أيضاً بفتوحيم ولوديم ولها بيم. ولم يقع إلينا تفسير هذه الأسماء. وأما كنعان بن حام فذكر من ولده في التوراة أحد عشر منهم صيدون، ولهم ناحية صيدا، وإيموري وكرساش، وكانوا بالشام، وانتقلوا عندما غلبهم عليه يوشع إلى أفريقية فأقاموا بها. ومن كنعان أيضاً يبوسا وكانوا ببيت المقدس وهربوا أمام داود عليه السلام حين غلبهم عليه إلى أفريقية والمغرب، وأقاموا بها. والظاهر أنّ البربر من هؤلاء المنتقلين أوّلاً وآخراً. إلا أنّ المحققين من نسابتهم على أنهم من ولد مازيغ بن كنعان، فلعل مازيغ ينتسب إلى هؤلاء. ومن كنعان أيضاً حيث الذين كان ملكهم عوج بن عناق. ومنهم عرفان وأروادي وخوي، ولهم نابلس وسبا، ولهم طرابلس وضمارى، ولهم حمص وحما، ولهم أنْطاكِية. وكانت تسمى حما باسمهم. وأما كوش بن حام
خريطة
فذكر له في التوراة خمسة من الولد وهم سفنا وسبا وجويلا ورعما وسفخا، ومن ولد رعماشاو وهم السند، ودادان وهم الهند. وفيها أنّ النمروذ من ولد كوش ولم يعينه. وفي تفاسيرها أنّ جويلا زويلة وهم أهل برقة. وأما أهل اليمن فمن ولد سبا .وأما قوط فعند أكثر الإسرائيليين أنّ القبط منهم. ونقل الطبري عن ابن إسحق أنّ الهند والسند والحبشة من بني السودان من ولد كوش. وأن النوبة وفزان وزغاوة والزنج منهم من كنعان. وقال ابن سعيد: أجناس السودان كلهم من ولد حام ونسب ثلاثة منهم إلى ثلاثة سماهم من ولده غير هؤلاء: الحبشة إلى حبش، والنوبة إلى نوابة أو نوى،والزنج إلى زنج، ولم يسم أحداً من آباء الأجناس الباقية، وهؤلاء الثلاثة الذين ذكروا لم يعرفوا من ولد حام فلعلَّهم من أعقابهم، أو لعلها أسماء أجناس. وقال هشام بن محمد الكلبي: أنّ النمروذ هو ابن كوش بن كنعان. وقال أهروشيوش مؤرخ الروم: أنّ سبا وأهل أفريقية يعني البربر من جويلا بن كوش ويسمى يضول. وهذا والله أعلم غلط لأنه مرّ أنّ يضول في التوراة من ولد يافث، ولذلك ذكر أنّ حبشة المغرب من دادان ابن رعما من ولد مصر بن حام بنو قبط بن لاب بن مصر. انتهى الكلام في بني حام. وهذا آخر الكلام في أنساب أمم العالم على الجملة، والخلاف الذي في تفاصيلها يذكر في أماكنه والله ولى العون والتوفيق.
صورة
المقدّمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم . أعلم أنّ الأنساب تتشعب دائماً، وذلك أنّ الرجل قد يكون له من الولد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويكون لكل واحد منهم كذلك، وكل واحد منهم فرعٌ ناشئ عن أصلٍ، أو فرع، أو عن فرع فرع، فصارت بمثابة الأغصان للشجرة تكون قائمة على ساق واحدة هي أصلها والفروع عن جانبها، ولكل واحدٍ من الفروع فروعٌ أخري إلى أنّ تنتهي إلى الغاية. فلذلك اخترنا بعد الكلام على الأنساب للأمّة وشعوبها أنّ نضع ذلك على شكل شجرة نجعل أصلها وعمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب ومن له التقدم عليهم، فيجعل عمود نسبه أصلا لها وتفرع الشعوب الأخرى عن جانبه من كل جهة، كأنها فروع لتلك الشجرة، حتى تتصل تلك الأنساب عموداً وفروعاً بأصلها الجامع لها ظاهرة للعيان في صفحة واحدة، فترسم في الخيال دفعة، ويكون ذلك أعون على تصور الأنساب وتشعبها. فإن الصور الحسيّة أقرب إلى الإرتسام في الخيال من المعاني المتعلقة. ثم لما كانت هذه الأمم كلها لها دول وسلطان، اعتمدنا بالقصد الأوّل ذكر الملوك منهم في تلك الشجرات، متصلة أنسابهم إلى الجد الذي يجمعهم ،بعد أنّ نرسم على كل واحد منهم رتبته في تعاقبهم واحداً بعد واحدٍ، بحروف أب ج د هـ . فالألف للأول، والباء للثاني، والجيم للثالث، والدال للرابع، والهاء للخامس، وهلم جرّا. ونهاية الأجداد لأهل تلك الدولة في الآخر منهم ،ويكون للأول غصون وفروع في كل جهة عنه، فإذا نظرت في الشجرة علمت أنساب الملوك في كل دولةٍ وترتبهم بتلك الحروف واحداً بعد واحد، والله أعلم بالصواب. أجيال العرب القول في أجيال العرب و أوّليتها واختلاف طبقاتهم وتعاقبها وأنساب كل طبقة منها اعلم أنّ العرب منهم الأمة الراحلة الناجعة، أهل الخيام لسكناهم، والخيل لركوبهم، والأنعام لكسبهم، يقومون عليها، ويقتاتون من ألبانها، ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها، ويحملون أثقالهم على ظهورها. يتنازلون حِلَلاً متفرقة،
ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص، ويختطف الناس من السبل، ويتقلبون دائماً في المجالات فراراً من حمارّة القيظ تارة، وصبارة البرد أخرى، وانتجاعاً لمراعي غنمهم، وارتياداً لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم، وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم، فاختصوا لذلك بسكنى الإقليم الثالث، ما بين البحر المحيط من المغرب إلى أقصى اليمن وحدود الهند من المشرق. فعمروا اليمن والحجاز ونجداً وتهامة وما وراء ذلك مما دخلوا إليه في المائة الخامسة، كما ذكروه من مصر وصحاري برقة وتلولها وقسنطينة وأفريقية وزاغا والمغرب الأقصى والسوس، لاختصاص هذه البلاد بالرمال والقفار المحيطة بالأرياف والتلول، والأرياف الآهلة بمن سواهم من الأمم في فصل الربيع وزخرف الأرض، لرعي الكلأ والعشب في منابتها، والتنقل في نواحيها إلى فصل الصيف لمدّة الأقوات في سنتهم من حبوبها. وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من أضرارهم، بإفساد السابلة ،ورعي الزرع مخضرًّا، وانتهابه قائماً وحصيداً إلا ما حاطته الدولة، وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها. ثم ينحدرون في فصل الخريف إلى القفار لرعي شجرها ،ونتاج إبلهم في رمالها، وما أحاط به عملهم من مصالحها، وفراراً بأنفسهم وظعائنهم من أذى البرد إلى دفء مشاتيها. فلا يزالون في كل عام مترددين بين الريف والصحراء ما بين الإقليم الثالث والرابع، صاعدين ومنحدرين على ممر الأيام، شعارهم لبس المخيط في الغالب، ولبس العمائم تيجاناً على رؤسهم، يرسلون من أطرافها عذبات يتلثم قوم منهم بفضلها وهم عرب المشرق، وقومٌ يلفون منها الليث والأخدع قبل لبسها، ثم يتلثمون بما تحت أذقانهم من فضلها وهم عرب المغرب، حاكوا بها عمائم زناته من أمم البربرقبلهم. وكذلك لقنوا منهم في حمل السلاح اعتقال الرماح الخطية، وهجروا تنكب القسي. وكان المعروف لأولهم ومن بالمشرق لهذا العهد منهم استعمال الأمرين.
ثم أنّ العرب لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام والفصاحة في المنطق والذلاقة في اللسان، ولذلك سموا بهذا الاسم فإنه مشتق من الإبانة لقولهم: أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :<<الثيب تعرب عن نفسها>>. والبيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا. وانظر قصة كسرى لما طلب من خليفته على العرب النعمان بن المنذر أنّ يوفد عليه من كبرائهم وخطبائهم من رضي لذلك، فاختار منهم وفدا أوفده عليه، وكان من خبره واستغراب ما جاؤا به من البيان ما هو معروف.
فهذه كلها شعائرهم وسماتهم وأغلبها عليهم اتخاذ الإبل والقيام على نتاجها وطلب الانتجاع بها الارتياد مراعيها، ومفاحص توليدها بما كان معاشهم منها. فالعرب أهل هذه الشعار من أجيال الآدميين. كما أنّ الشاوية أهل القيام على الشاة والبقر لما كان معاشهم فيها، فلهذا لا يختصون بنسب واحد بعينه إلا بالعرض. ولذلك كان النسب في بعضهم مجهولاً عند الأكثر، وفي بعضهم خفيا على الجمهور. وربما تكون هذه السمات والشعائر في أهل نسب آخر فيدعون باسم العرب إلا أنهم في الغالب يكونون أقرب إلى الأولين من غيرهم. وهذا الانتقال لا يكون إلاّ في أزمنة متطاولة وأحقاب متداولة. ولذلك يعرض في الأنساب ما يعرض من الجهل والخفاء.
واعلم أنّ جيل العرب بعد الطوفان وعصر نوح عليه السلام كان في عادٍ الأولى وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت، ومن ينتمي إليهم من العرب العاربة من أبناء سام بن نوح. لما انقرضت تلك العصور، وذهب أولئك الأمم وأبادهم الله بما شاء من قدرته، وصار هذا الجيل في آخرين ممن قرب من نسبهم من حِمْيَر وكهلان وأعقابهم من التبابعة ومن إليهم من العرب المستعربة من أبناء عابر بن شالخ بن أزفخشذ بن سام. ثم لما تطاولت تلك العصور وتعاقبت وكان بنو فالغ بن عابر أعالم من بين ولده واختص الله بالنبوة منهم إبراهيم بن تارخ وهو آزر بن ناحور بن ساروخ بن أرغو بن فالغ، وكان من شأنه مع نمروذ ما قصّه القرآن. ثم كان من هجرته إلى الحجاز ما هو مذكور، وتخلف ابنه إسماعيل مع أمه هاجر بالحجر قرباناً لله، ومرَّت بها رفقة من جرهم في تلك المفازة فخالطوها، ونشأ إسماعيل بينهم ،وربّي في أحيائهم، وتعلم لغتهم العربية بعد أنّ كان أبوه أعجميا. ثم كان بناء البيت كما قصه القرآن، ثم بعثه الله إلى جرهم والعمالقة الذين كانوا بالحجاز، فآمن كثير منهم واتبعوه. ثم عظم نسله وكثر، وصار بالجيل آخر من ربيعة ومضر ومن إليهم من إياد وعك وشعوب نزار وعدنان وسائر ولد إسماعيل، وهم العرب التابعة للعرب. ثم انقرض أولئك الشعوب في أحقاب طويلة وانقرض ما كان لهم من الدولة في الإسلام. وخالطوا العجم بما كان لهم من التغلب عليهم، ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة، وبقي خلفهم أحياء بادين في القفار والرمال والخلاء من الأرض تارة والعمران تارة. وقبائل بالمشرق والمغرب والحجاز واليمن وبلاد الصعيد والنوبة والحبشة، وبلاد الشام والعراق
والبحرين وبلاد فارس والسند وكرمان وخراسان، أمم لا يأخذها الحصر والضبط، قد كاثروا أمم الأرض لهذا العهد شرقاً وغرباً، واعتزوا عليهم، فهم اليوم أكثر أهل العالم، وأملك لأمرهم من جميع الأمم. ولما كانت لغتهم مستعجمة على اللسان المضري الذي نزل به القرآن، وهو لسان سلفهم ،سميناهم لذلك العرب المستعجمة. فهذه أجيال العرب منذ مبدإ الخليقة ولهذا العهد في أربع طبقات متعاقبة، كان لكل طبقة منها عصور وأجيال ودول وأحياء وقعت العناية بها دون من سواهم من الأمم، لكثرة أجيالهم واتساع النطاق من ملكهم. فلنذكر لكل طبقة أحوال جيلها وبعض أيامهم ودولهم، ومن كان على عهدهم من ملوك الأمم ودولهم ليتبين لك بذلك مراتب الأجيال في الخليقة كيف تعاقبت، والله سبحانه وتعالى وليُّ العون.
برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع
برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع علي ترتيبها والدول المعاصرين من العجم في كل طبقة منها فنبدأ أوّلاً بذكر الطبقة الأولي، وهم العرب العاربة، ونذكر أنسابهم ومواطنهم وما كان لهم من الملك والدولة. ثم الطبقة الثانية وهم العرب المستعربة من بني حِمْيَر بن سبا، ونذكر أنسابهم وما كان لهم من الملك باليمن في التبابعة وأعقابهم. ثم نرجع إلى ذكر معاصرهم من العجم وهم ملوك بابل من السريانيّين، ثم ملوك الموصل ونينوى من الجرامقة، ثم القبط وملوكهم بمصر، ثم بني إسرائيل ودولهم ببيت المقدس قبل تخريب بختنصر وبعده، وبالصابئة، ثم الفرس ودولهم الأولى والثانية، ثم يونان ودولهم الإسْكندر وقومه، ثم الروم ودولهم في القياصرة وغيرهم. ثم نرجع إلى ذكر الطبقة الثالثة وهم العرب التابعة للعرب من قضاعة وقحطان وعدنان وشعبيها العظيمين ربيعة ومضر. فنبدأ بقضاعة وأنسابهم، وما كان لهم من الملك البدوي في آل النعمان بالحيرة والعراق ومن زاحمهم فيها من ملوك كندة بني حجر آكل المرار. ثم ما كان لهم أيضاً من الملك البدوي بالشام في بني جفنة بالبلقاء والأوس والخزرج بالمدينة النبوية. ثم عدنان وأنسابهم وما كان لهم من الملك بمكة في قريش، ثم ما شرفهم الله به وجيل الآدميين أجمع من النبوة، وذكر الهجرة والسير النبوية، ثم نذكر ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك، فنترجم للخلفاء الأربعة وما كان على عصرهم من الردَّة والفتوحات والفتن. ثم نذكر خلفاء الإسلام من بني أمية وما كان لعهدهم من أمر الخوارج. ثم نذكر خلفاء الشيعة وما كان لهم من الدول في الإسلام. والأولى الدولة العظيمة لبني العبَّاس التي انتشرت في أكثر ممالك الإسلام، ثم دولة العلوية المزاحمين لها بعد صدر منها وهي دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى، ثم دولة العبيدية من الإسماعيلية بالقيروان ومصر، ثم القرامطة بالبحرين، ثم دعاة طبرستان والديلم، ثم ما كان من هؤلاء العلوية بالحجاز. ثم نذكر بني أمية المنازعين لبني العباس بالأندلس، وما كان لهم من الدولة هنالك، والطوائف من بعدهم، ثم نرجع إلى ذكر المستبدين بالدعوة العباسية بالمغرب والنواحي، وهم بنو الأغلب بأفريقية وبنو حمدان بالشام وبنو المقلد بالموصل، وبنو صالح بن كلاب بحلب، وبنو مروان بديار بكر، وبنو أسد بالحلة، وبنو زياد باليمن، وبنو هود بالأندلس.
ثم نرجع إلى القائمين بالدعوة العبيدية بالنواحي وهم الصليحيون باليمن، وبنو أبي الحسن الكلبي بصقلية وصنهاجة بالمغرب. ثم نرجع إلى المستبدين بالدعوة العباسية من العجم في النواحي، وهم بنو طولون بمصر، ومن بعدهم بنو طغج، وبنو الصفار بفارس وسجستان، وبنو سامان فيما وراء النهر، وبنو سبكتكين في غزنة وخراسان، وغورية في غزنة والهند، وبنو حسنويه من الكرد في خراسان. ثم نرجع إلى ذكر المستبدين على الخلفاء ببغداد من العجم، وهم أهل الدولتين العظيمتين القائمتين بملك الإسلام من بعد العرب، وهم بنو بويه من الديلم والسلجوقية من الترك. ثم نرجع إلى ملوك السلجوقية المستبدين بالنواحي، وهم بنو طغتكين بالشام ،وبنو قطلمش ببلاد الروم، وبنو خوارزم شاه ببلاد العجم وما وراء النهر، وبنو سقمان بخلاط وأرمينية، وبنو أرتق بماردين، وبنو زنكي بالشام، وبنو أيوب بمصر والشام. ثم الترك الذين ورثوا ملكهم هنالك، وبنو رسول باليمن. ثم نرجع إلى ذكر التتر من الترك القائمين على دولة الإسلام والماحين للخلافة العبَّاسية، ثم ما كان من دخولهم في دين الإسلام وقيامهم بالملك بالنواحي، وهم بنو هولاكو بالعراق، وبنو ذو شيخان بالشمال، وبنو أرتنا ببلاد الروم، ومن بعد بني هولاكو بنو الشيخ حسن ببغداد، وتوريز،و بنو المظفر بأصبهان وشيراز وكرمان،وبعد بني أرتنا ملوك بني عثمان من التركمان ببلاد الروم وما وراءها. ثم نرجع إلى الطبقة الرابعة من المغرب وهم المستعجمة ومن له ملك بدوي منهم بالمغرب والمشرق. ثم نخرج بعد ذكر ذلك إلى ذكر البربر ودولهم بالمغرب والمشرق. ثم نخرج بعد ذلك إلى ذكر البربر ودولهم بالمغرب لأنهم كانوا من شرط كتابنا. وهنالك نذكر برنامج دولهم والله سبحانه أعلم.
الطبقة الأولى من العرب
وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإلمام بملكهم ودولهم علي الجملة هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح ،وأعظمم قدرة ،وأشدّهم قوة وآثاراً في الأرض، وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه. لأن أخبار القرون الماضية من قبلهم يمتنع اطلاعنا عليها التطاول الأحقاب ودروسها، إلا ما يقصه علينا الكتاب ويؤثر عن الأنبياء بوحي الله إليهم، وما سوى ذلك من الأخبار الأزلية فمنقطع الإسناد. ولذلك كان المعتمد عند الإثبات في أخبارهم، ما تنطق به آية القرآن في قصص الأنبياء الأقدمين، أو ما ينقله زعماء المفسرين في تفسيرها من أخبارهم وذكر دولهم وحروبهم، ينقلون ذلك عن السلف من التابعين الذين أخذوا عن الصحابة، أو سمعوه ممن هاجر إلى الإسلام من أحبار اليهود وعلمائهم أهل التوراة أقدم الصحف المنزلة فيما علمنا، وما سوى ذلك من حطام المفسرين وأساطير القصص وكتب بدء الخليقة فلا نعوّل على شي منه. وإن وجد لمشاهير العلماء تأليف مثل كتاب الياقوتية للطبريّ ،والبدء للكسائي ، فإنما نحوا فيها منحى القصاص ، وجروا على أساليبهم، ولم يلتزموا فيها الصحة، ولا ضمنوا لنا الوثوق بها، فلا ينبغي التعويل عليها، وتترك وشأنها. وأخبار هذا الجيل من العرب وإن لم يقع لها ذكر في التوراة إلا أنّ بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصراً ، وأوعى لأخبارهم، فلذلك يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل، ثم أنّ هذه الأمم على ما نقل كان لهم ملوك ودول. فملوك جزيرة العرب، وهي الأرض التي أحاط بها بحر الهند من جنوبها، وخليج الحبشة من غربها ،وخليج فارس من شرقها، وفيها اليمن والحجاز والشحر وحضرموت، وامتد ملكهم فيها إلى الشام ومصر في شعوب منهم على ما يذكر. ويقال: إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام، فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور حسبما نذكره، إلى أنّ غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان. وهؤلاء العرب العاربة شعوب كثيرة وهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وعبد ضخم وجرهم وحضرموت وحضورا والسلفات. وسمي أهل هذا الجيل العرب العاربة، إما بمعنى الرساخة في العروبية كما يقال: ليل أليل وصوم صائم. أو بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها بما كانت أول أجيالها. وقد تسمى البائدة أيضاً بمعنى الهالكة لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم. فأما عاد وهم بنو عاد بن عوص بن إرم بن سام، فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر. وكان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب ،وطال عمره وكثر ولده، وفي التواريخ أنه ولد له أربعة آلاف ولد ذكر لصلبه، وتزوج ألف امرأة، وعاش ألف سنة ومائتى سنة. وقال البيهقي: أنه عاش ثلثمائة سنة، وملك بعده بنوه الثلاثة شديدٌ وبعده شداد وبعده إرم. وذكر المسعودى: أنّ الذي ملك من بعد عاد وشداد منهم، هو الذي سار في الممالك، واستولى على كثير من بلاد الشام والهند والعراق. وقال الزمخشري: أنّ شدّاد هو الذي بنى مدينة إرم في صحارى عدن، وشيدها بصخور الذهب وأساطين الياقوت والزبرجد، يحاكي بها الجنة، لما سمع وصفها طغياناً منه وعتّواً .ويقال: أنّ باني إرم هذه هو إرم بن عاد. وذكر ابن سعيد عن البيهقيّ: أنّ باني ارم هو ارم بن شداد بن عاد الأكبر، والصحيح أنه ليس هناك مدينة إسمها إرم، وإنما هذا من خرافات القصاص. وإنما ينقله ضعفاء المفسرين. وإرم المذكورة في قوله تعالى:{ إرم ذات العماد}[سورة.....] القبيلة لا البلد.
وذكر المسعودى: أنّ ملك عوص كان ثلثمائة وأن الذي ملك من بعده ابنه عاد بن عوص، وان جيرون بن سعد بن عاد كان من ملوكهم ،وأنه الذي اختط مدينة دمشق ومصرها، وجمع عُمُدَ الرخام والمرمر إليها وسماها إرم. ومن أبواب مدينة دمشق إلى هذا العهد باب جيرون، وذكره الشعراء في معاهدها. قال الشاعر:
- النخل فالقصر فالحماء بينهما أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
وهذا البيت في الصوت الأوّل من كتاب الأغاني. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: جيرون ويزيد أخوان هما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وبهما عرف باب جيرون ونهر يزيد. والصحيح أنّ باب جيرون إنما سمي باسم مولى من موالي سليمان عليه السلام في دولة بني إسرائيل، جيرون كان ظاهراً في دولتهم. وذكر ابن سعيد في أخبار القبط: أنّ شدّاد بن بداد بن هداد بن شدّاد بن عاد حارب بعضاً من القبط، وغلب على أسافل مصر، ونزل الإسكندرية وبنى فيها حينئذ مدينة مذكورة في التوراة يقال لها أون، ثم هلك في حروبهم ،وجمع القبط إخوتهم من البربر والسودان، وأخرجوا العرب من ملك مصر. ثم لما اتصل ملك عاد وعظم طغيانهم وعتوّهم انتحلوا عبادة الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب، ويقال: أنّ ذلك لانتحالهم دين الصابئة، فبعث الله إليهم أخاهم هوداً، وهو فيما ذكر المسعودى والطبريّ هود بن عبد الله بن رَبَاح بن الخَلود بن عاد، وفي كتاب البدء لابن حبيب: رباح بن حرب بن عاد، وبعضهم يقول هود بن عابر بن شالِخ بن أرْفخشذ. فوعظهم وكان ملوكهم لعهده :الخلجان ،ولقمان بن عاد بن عاديا بن صدا بن عادفا،آمن به لُقمان وقومه، وكفر الخلْجان، وامتنع هود بعشيرته من عاد. وحبس الله عنهم المطر ثلاث سنين، وبعثوا الوفود من قومهم إلى مكة يستسقون لهم، وكان في الوفد على ما قاله الطبري نعيم بن هزال بن هزيل بن عبيل بن صدا بن عاد. وقيل ابن عنز منهم، وحلقمة بن الخسري، ومرثد بن سعد بن عنز. وكان ممن آمن بهود واتبعه، وكان بمكة من عاد هؤلاء :معاوية بن بكر وقومه، وكانت هزيلة أخت معاوية عند نعيم بن هزال، وولدت له عبيداً وعمراً وعامراً، فلما وصل الوفد إلى مكة مرَّوا بمعاوية بن بكر وابنه بكر، ونزل الوفد عليه. ثم تبعهم لقمان بن عاد، وأقاموا عند معاوية وقومه شهراً لما بينهم من الخؤلة، ومكثوا يشربون وتغنيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية بن بكر وابنه بكر. ثم غنتاهم شعراً تذكرهم بأمرهم، فانبعثوا ومضوا إلى الإستسقاء، وتخلف عنهم لقمان بن عاد ومرثد بن سعد، فدعوا في استسقائهم وتضرعوا، وأنشأ الله السحب، ونودي بهم أنّ اختاروا فاختاروا سوداءَ من السحب، وأنذروا بعذابها فمضت إلى قومهم وهلكوا كما قصَّه القرآن. وفي خبر الطبري أنّ الوفد لما رجعوا إلى معاوية بن بكر، لقيهم خبر مهلك قومهم هنالك، وأن هوداً بساحل البحر، وأن الخلجان ملكهم قد هلك بالريح فيمن هلك، وأن الريح كانت تدخل تحت الرجل فتحمله، حتى تقطعوا في الجبال، وتقلع الشجر وترفع البيوت ،حتى هلكوا أجمعون. انتهى كلام الطبري. ثم ملك لقمان ورهطه من قوم عاد، واتصل لهم الملك فيما يقال ألف سنة أو يزيد، وانتقل ملكه إلى ولده لقمان، وذكر البخاري في تاريخه: أنّ الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً هو هدد بن بدَد بن الخلجان بن عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر، وأن المدينة
بساحل برقة ا هـ . ولم يزل ملكهم متصلاً إلى أنّ غلبهم عليه يعرب بن قحطان، واعتصموا بحبال حضرموت إلى أنّ انقرضوا. وقال صاحب زجار أنّ ملكهم عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر هو الذي حارب يعرب بن قحطان، وكان كافراً يعبد القمر، وأنه كان على عهد نوح، وهذا بعيد، لأن بعثة هود كانت عند استفحال دولتهم، أو عند مبتدئها، وغلب يعرب كان عند انقراضها. وكذلك هدد الذي ذكر البخاري أنه ملك برقة إنما هو حافد الخلجان الذي اعتصم آخرهم بجبل حضرموت. وخبر البخاري مقدم.
وقال علي بن عبد العزيز الجر جاني: وكان من ملوك عاد يعمر بن شداد، وعبد أبهر بن معد يكرب بن شمد بن شداد بن عاد، وحناد بن مياد بن شمد بن شداد، وملوك آخرون أبادهم الله والبقاء لله وحده. فأما عبيل وهم إخوان عاد بن عوص فيما قاله الكلبي، وإخوان عوص بن إرم فيما قاله الطبريّ، وكانت ديارهم بالحجفة بين مكة والمدينة، وأهلكهم السيل. وكان الذي اختط يثرب منهم، هكذا قال المسعودى، وقال هو يثرب بن بائلة بن مهلهل بن عبيل. وقال السهيلي: أنّ الذي اختط يثرب من العماليق، وهو يثرب بن مهلايل بن عوص بن عمليق. وأما عبد ضخم بن إرم فقال الطبري: كانوا يسكنون الطائف وهلكوا فيمن هلك من ذلك الجيل. وقال غيره: إنهم أوّل من كتب بالخط العربى.
وأمَّا ثمود وهم بنو ثَمود بن كاثر بن إرم فكانت ديارهم بالحِجرْ ووادي القُرى، فيما بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال، ويُقال: لأنّ أعمارهم كانت تطول، فيأتي البلاءُ والخرابُ على بيوتهم، فنحتوها لذلك في الصخر، وهي لهذا العهد، وقد مرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ونهى عن دخولها كما في الصحيح، وفيه إشارة إلى أنَّها بيوتَ ثمود أهلُ ذلك الجيل. ويشهد ذلك ببطلان ما يذهب إليه القُصَّاصُ، ووقع مثله للمسعودي من أنّ أهل تلك الأجيال كانت أجسامهم مفرطةً في الطول والعِظَم، وهذه البيوت المشاهدة المنسوبة إليهم بكلام الصادق صلوات الله عليه، يشهد بأنَّهم في طولهم وعظم حُجُرَاِتِهم مثلنا سواء، فلا أقدم من عاد وأهل أجيالهم فيما بلغنا. ويقال: أنّ أَوَّل ملوكهم كان عابر بن إرم بن ثمود، ملك عليهم مائتي سنة. ثم كان من بعده جُنْدُعُ بن عمرو بن الدُبَيْل بن إرَم بن ثمود. ويقال: مَلَكَ نحواً من ثلثمائة سنة.
خريطة
وفي أيامه كانت بَعْثَةُ صالح عليه السلام، وهو صالح بن عَبِيل بن أسف بن شالِخ بن عبيل بن كاثَر بن ثمود، وكانوا أَهل كُفْرٍ وبَغْيٍ وعبادة أوثان، فدعاهم صالح إلى الدين والتوحيد. قال الطبريُّ: فلما جاءهم بذلك كفروا وطلبوا الآيات، فخرج بهم إلى هَضَبةٍ من الأرض ، فتمخَّضت عن الناقة، ونهاهم أنّ يتعرضوا لها بعقْرٍ أوْ هلكة، وأخبرهم مع ذلك أنهم عاقروها ولا بدَّ، ورأس عليهم قَدَار بن سالف، وكان صالح وصف لهم عاقِرَ الناقة بصفة قَدَار هذا، ولما طال النذير عليهم من صالح سئموه وهمَّوا بقتله، وكان يأوي إلى مسجدٍ خارج ملائهم، فكمن له رهْطٌ منهم تحت صخرة في طريقه ليقتلوه، فانطبقت عليهم وهلكوا وحِنقوا ومضوا إلى الناقة، ورماها قَدَارٌ بسهم في ضرعها وقتلها، ولجأ فصيلها إلى الجبل فلم يدركوه. وأقبل صالح وقد تخوف عليهم العذاب، فلمَّا رآه الفصيل أقبل إليه ورغا ثلاث رغاآت، فأنذرهم صالح ثلاثاً. وفي صبح الرابعة صُعقوا بصيحة من السماء تقطَّعت بها قلوبهم فأصبحوا جاثمين، وهلك جميعهم حيث كانوا من الأرض، إلاَّ رجلاً كان في الحرم منعه الله من العذاب. قيل من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال. ويقال: أنّ صالحاً أقام عشرين سنة ينذرهم، وتوفي ابن ثمان وخمسين سنة. وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ في غزوة تبوك بقُرى ثَمُود، فنهى عن استعمال مياههم وقال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون أنّ يصيبكم ما أصابهم،آه، كلام الطبري.
وقال الجرجاني: كان من ملوكهم دوبان بن يَمْنَع ملك الإسكندرية، ومَوْهب بن
مُرَّة بن رحيب، وكان عظيم المُلك. وأخوه هُوبيل بن مرَّة كذلك. وفيما ذكره المفسرون أَنَّهم أوَّل من نحت الجبال والصخور، وأَنَّهم بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة، وفي هذا ما فيه. ثم ذهبوا بما كسبوا،ودرجوا في الغابرين وهلكوا. ويقال: أنّ من بقاياهم أهلُ الرس الذين كان نبيهُّم حَنْظَلَةُ بن صَفْوان، وليس ذلك بصحيح. وأَهلُ الرَسّ هم حضور ويأْتي ذكرهم في بني فالغَ بن عَابر، وكذلك يزعم بعض النسَّابة أنّ ثقيفاً من بقايا ثَمود هؤُلاء وهو مردود. وكان الحجَّاج بن يوسف إذا سَمِع ذلك يقول: كذبوا. وقال والله جلَّ من قائل يقول: وثمود فما أبقى، أي أهلكهم فما أبقى أحداً منهم. وأهلُ التوراة لا يعرفون شيأ من أخبار عاد ولا ثًمود، لأنهم لم يقع لهم ذِكْر في التوراة، ولا لهود ولا لصالح عليهما السلام، بل ولا لأحد من العرب العاربة لأن
سياق الأخبار في التوراة عن أولئك الأمم إنما هو لمن كان في عمود النسب ما بين موسى وآدم صلوات الله عليهم، وليس لأحد من آباء هؤلاء الأجيال ذكر في عمود ذلك النسب فلم يُذْكَرُوا فيها.
وأما جديس وطسم فعند ابن الكلبي أنّ جديساً لإرم بن سام، وديارهم اليمامة وهم أخوان لثمود بن كاثر، ولذلك ذكرهم بعدهم، وأن طسماً للاوذ بن سام وديارهم بالبحرين. وعند الطبريّ أنهما معاً للاوذ وديارهم باليمامة. ولهذين الإثنين خبرٌ مشهورً ينبغي سياقُهُ عند ذكرهم، قال الطبريُّ عن هشام بن محمد الكلبي بسنده إلى ابن إسحق وغيره من علماء العرب: أنّ طسماً وجديسا كانوا من ساكني اليمامة ،وهي إذْ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيراً وثمارا وحدائق وقصورا. وكان ملك طسم غشوماً لا ينهاه شىءٌ عن هواه، ويقال له: عملوق وكان مُضِرّاً لجديس مُسْتَذِلاً لَهُم ، حتى كانت البكر من جديس لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها. وكان السبب في ذلك أنّ امرأة منهم كان اسمها هُزَيْلةَ طلقها زوجها وأخذ ولده منها، فأمر عَمْلوق ببيعها، وأخذ زوجها الخُمس من ثمنها فقالت شعراً تتظلَّم منه، فأمر أنّ لا تزوَّج منهم امرأَة حتى يفترعها. فقاموا كذلك حتى تزوجت الشموس، وهي عفيرة ابنة غفار ابن جديس أخت الأسود ،فافتضها عملوق ، فقال الأسود بن غفار لرؤساء جديس: قد ترون ما نحن فيه من الذل والعار الذي ينبغي للكلاب أنّ تعافه، فأطيعوني أدعكم إلى عز الدهر، فقالوا: وما ذاك؟ قال: أصنع للملك وقومه دعوةً فإذا جاؤوا، يعني طَسْماً، نهضنا إليهم بأسيافنا فنقتلهم. فأجمعوا على ذلك ودفنوا سيوفهم في الرمل ودعوا عَمْلوقاً وقومَه. فلما حضروا قتلوهم ، فأَفنوهم ،وقتل الأسْود عملوقاً وأفلت رَباح بن مُرَّة بن طَسْم، فأتى حسان بن تُبّع مستغيثاً، فنهض حسّان في حِمْيَر لإغاثته، حتى كان من اليمامة على ثلاث مراحل. قال لهم رباح: أنّ لي أُختاً مُزوّجة في جديس إسمُها اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها، وأنها لتبصر الراكب على ثلاث مراحل، وأخاف أنّ تنظر القوم. فأمر كل رجل أنّ يقلع شجرة فيجعلها في يده، ويسير كأنه خلفها ففعلوا، وبصرت بهم اليمامة فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حِمْيَر، وإني أرى رجلاً من وراء شجرة بيده كتف يتعرقها، أو نعل يخصفها، فاستبعدوا ذلك ولم يحفلوا به. وصبحهم حَسَّانُ وجنوده من حِمْيَر فأبادهم وخَرَّب حصونهم وبلادهم
وهرب الأَسودُ بن غفَّار إلى جَبَليْ طيء ، فأقام بهما، ودعا تُبَّع باليمامة أخت رباح التي أبصرتهم فقلع عينها. ويقال: إنه وجد بها عروقا سوداً زعمت أنّ ذلك من اكتحالها بالإثْمِد، وكانت تلك البلد تسمى جُو فسُمِيَّت باليمامة اسم تلك المرأة.
قال أبو الفرج الأصبهاني: وكانت طيء تسكن الجُرُف من أرض اليمن، وهي اليوم محلةٍ مراد وهمدان ، وسيدهم يومئذ سامة بن لؤي بن الغوث بن طيء، وكان الوادي مسبعةً، وهم قليل عددهم، وكان يجتاز بهم بعير في زمن الخريف ويذهب ثم يجيء من قابل ولا يعرفون ،مقرَّهُ وكانت الأزْد قد خرجت أيام سَيْل العرِم واستوحشت طيء فظعنوا على أثرهم، وقالوا لسامَةَ: هذا البعيرُ إنما يأتي من الريف والخِصْب، لأن في بعره النوى، فلما جاءهم زمن الخريف أتَّبعُوه يسيرون لسيره حتى هبط عن الجبلين، وهجموا على النخل في الشعاب وعلى المواشي، وإذا هم بالأسود بن غفار، في تلك الشعاب، فهالهم خلقه وتخوفوه، ونزلوا ناحية ونفضوا الطريق فلم يروا أحداً، فأمر سامة ابنه الغوث بقتل الأسود ، فجاء إليه فعجب من صغر خلقه، وقال: من أين أقبلتم؟ قال: من اليمن، وأخبره خبر البعير ثم رماه فقتله، وأقامت طيء بالجبلين بعده. وذكر الطبري عن غير ابن إسحق أنّ تُبَّع الذي أوقع بجديس هو والد حَسَّان هذا، وهو ثبان أسعد أبو كرب بن ملكي كرب، ويأتي ذكره في ملوك اليمن أنّ شاء الله تعالى، انتهى كلام الطبري. وقال غيره أنّ حسان بن تُبَّع لما سار بحمير إلى طسم بعث على مقدمته إليهم عبد كلال بن منوب بن حجر بن ذي رعين من أقيال حِمْيَر، فسلك بهم رباح بن مرة الرمل، وكانت الزرقاء أخت رباح ناكحاً في طسم، وتُسمَّى عنزة واليمامة، وكانت تبصر على البعد فأنذرتهم فلم يقبلوا. وصبح عبد بن كلال جديساً إلى آخر القِصَّة، وبقيت اليمامة بعد طسم يباباً لأ يا كل ثمرها إلا عوافي الطير والسباع، حتى نزلها بنو حنيفة، وكانوا بعثوا رائدهم عبيد بن ثعلبة الحنفي يرتاد لهم في البلاد، فلما أكل من ذلك الثمر، قال: أنّ هذا الطعام! وحجر بعصاه على موضع قصبة اليمامة، فسميت حجرا، واستوطنها بنو حنيفة وبها صبحهم الإسلام كما يأتي في أخبارهم أنّ شاء الله تعالى. وأما العمالقة فهم بنو عمليق بن لاوذ، وبهم يضرب المثل في الطول والجثمان. قال
الطبريُّ: عمليق أبو العمالقة كلهم أمم تفرَّقت في البلاد، فكان أهل المشرق وأهل عمان والبحرين وأهل الحجاز منهم، وكانت الفراعنة بمصر منهم، وكانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون منهم. وكان الذين بالبحرين وعمان والمدينة يسمون جاسم، وكان بالمدينة من جاسم هؤلاء بنو لفٍ وبنو سعدٍ بن هزال وبنو مطر وبنو الأزرق، وكان بنجد منهم بديل وراحل وغفار، وبالحجاز منهم إلى تيما بنو الأرقم ويسكنون مع ذلك نجداً. وكان ملكهم يُسمَّى الأرقم، قال: وكان بالطائف بنو عبد ضخم بن عاد الأول. انتهى .
وقال ابن سعيد فيما نقله عن كتب التواريخ التي اطلع عليها في خزانة الكتب، بدار الخلافة من بغداد قال: كانت مواطن العمالقة تهامة من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النماردة من بني حام، ولم يزالوا كذلك إلى أنّ جاء إسماعيل صلوات الله عليه، وآمن به من آمن منهم. وتَطَرَّد لهم المُلك إلى أنّ كان منهم السميدع بن لاوذ بن عمليق، وفي أيامه خرجت العمالقة من الحرم، أخرجتهم جرهم من قبائل قحطان، فتفرقوا ونزل بمكان المدينة منهم بنو عبيل بن مهلايل بن عوص بن عمليق فعرفت به، ونزل أرض أيلة ابن هومر بن عمليق، واتصل ملكها في ولده. وكان السميد سمةً لمن ملك منهم إلى أنّ كان آخرهم السميدع بن هومر، الذي قتله يوشع لما زحف بنو إسرائيل إلى الشام بعد موسى صلوات الله عليه، فكان معظم حروبهم مع هؤلاء العمالقة هنالك، فغلبه يوشع وأسره وملك أريحا قاعدة الشام، وهي قرب بيت المقدس، ومكانها معروف لهذا العهد. ثم بعث من بني إسرائيل بعثا إلى الحجاز فملكوه وانتزعوه من أيدي العمالقة ملوكه ونزعوا يثرب وبلادها وخيبر. ومن بقاياهم يهود قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع وسائر يهود الحجاز على ما نذكره. ثم كان لهم ملك بعد ذلك في دولة الروم، وملكوا أذينة بن السميدع على مشارف الشام والجزيرة من ثغورهم، وأنزلوهم في التخوم ما بينهم وبين فارس. وهذا الملك أذينة بن السميدع هو الذي ذكره الشاعر في قوله:
- أزال أذينة عن ملكه وأخرج عن أهله ذا يزن
وكان من بعده حسان بن أذينة، ومن بعده طرف بن حسان بن يدياه نسبة إلى أمه، وبعده عمرو بن طرف، وكان بينه وبين جذيمة الأبرش حروب، وقتله جذيمة واستولى على ملكهم. وكان آخراً من العمالقة كما نذكر ذلك في موضعه. ومن هؤلاء العمالقة فيما يزعمون عمالقة مصر. وأن بعض ملوك القبط استنصر بملك العمالقة بالشام لعهده، واسمه الوليد بن دومغ، ويقال ثوران بن أراشة بن فادان بن عمرو بن عملاق، فجاء معه ملك مصر واستعبد القبط. قال الجرجاني: ومن ثم ملك العماليق مصر ويقال: أنّ منهم فرعون إبراهيم وهو سنان بن الأشل بن عبيد بن عولج بن عمليق، وفرعون يوسف أيضاً منهم هو الريّان بن الوليد بن فوران، وفرعون موسى كذلك وهو الوليد بن مصعب بن أبي أهون بن الهلوان، ويقال إنه قابوس بن مُصْعَب بن مُعَاوية بن نمير بن السلواس بن فاران، وكان الذي ملك مصر بعد الريان بن الوليد طاشم بن معدان ا هـ .كلام الجرجاني. وقال غيره: الريان فرعون يوسف، وهو الذي تسميه القبطـ نقراوش، وأنّ وزيره كان أطفير وهو العزيز، وأنه آمن بيوسف، وأنَّ أَرضَ الفَيُّوم، كانت مغايض للماء فدبَّرها يوسف بالوحي والحكمة حتى صارت أعزّ الديار المصرية، وملك بعده ابنه دارم بن الريان، وبعده ابنه معدانوس فاستعبد بني إسرائيل. قال الكلبي: ويذكر القبط أنَّه فرعون موسى، وذكر أهل الأثر أنَّه الوليد بن مُصْعَب وأنه كان نجاراً من غير بيت الملك، فاستولى إلى أنّ وَليَ حرسُ السلطان، ثم غلب عليه، ثم استبدّ بعده، وعليه انقرض أمر العمالقة. ولما غرق في اتباع موسى صلوات الله عليه، رجع الملك إلى القبط فولوا من بيت ملكهم دلوكة العجوز كما نذكره في أخبارهم أنّ شاء الله تعالى. وأما بنو إسرائيل فليس عندهم ذكر لعمالقة الحجاز، وعندهم أنّ عمالقة الشام من ولد عملاق بن اليفاذ--- بتفخيم الفاء--- ابن عيصو أو عيصاب أو العيص بن إسحق بن إبراهيم عليه السلام. وفراعنة مصر منهم على الرأيين.
وأما الكنعانيون الذين ذكر الطبري أنهم من العمالقة، فهم عند الإسرائيليين من كنعان بن حام، وكانوا قد انتشروا ببلاد الشام وملكوها، وكان معهم فيها بنو عيصو المذكورون، ويقال لهم بنو يدوم، ومن أيديهم جميعا ابتزها بنو إسرائيل عند المجيء أيام يوشع بن نون، ولذلك تزعم زناتة المغرب أنهم من هؤلاء العمالقة وليس بصحيح. وأما أميم فهم إخوان عملاق بن لاوذ. قال السهيلي: يقال بفتح الهمزة وكسر الميم وبضم الهمزة وفتح الميم وهو أكثر. ووجدت بخط بعض المشاهير أميم بتشديد الميم. ويذكر أنهم أول من بنى البنيان، واتخذ البيوت والآطام من الحجارة، وسقفوا بالخشب. وكانت ديارهم فيما يقال: أرض فارس، ولذلك زعم بعض نسابة الفرس أنهم من أميم، وأن كيومرث الذين ينسبون إليه هو ابن أميم بن
لاوذ وليس بصحيح. وكان من شعوبهم وبار بن أميم، نزلوا رمل عالج بين اليمامة والشحر وسالت عليهم الريح فهلكوا.
وأما العرب البايدة من بني أرفخشذ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ، فهم جرهم وحضورا وحضرموت والسلف. فأما حضورا فكانت ديارهم بالرس، وكانوا أهل كفر وعبادة أوثان، وبعث إليهم نبي منهم اسمه شعيب بن ذي مهرع فكذبوه وهلكوا كما هلك غيرهم من الأمم. وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن، وكانوا يتكلمون بالعبرانية، وقال البيهقي: أنّ يعرب بن قحطان لما غلب عاداً على اليمن، وملكه من أيديهم ولى إخوته على الأقاليم، وولي جرهم على الحجاز، وولي بلاد عادٍ الأولى، وهي الشحر، عاد بن قحطان فعرفت به، وولي عمان يقطن بن قحطان. انتهى كلام البيهقي، وقيل إنما نزلت جرهم الحجاز، ثم بني قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن، فلم يزالوا بمكة إلى أنّ كان شان إسماعيل عليه السلام ونبوته، فآمنوا به وقاموا بأمره، وورثوا ولاية البيت عنه، حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة فخرجت جرهم من مكة، ورجعوا إلى ديارهم باليمن إلى أنّ هلكوا. وأما حضرموت فمعدودون في العرب العاربة لقرب أزمانهم وليسوا من العرب البايدة لأنهم باقون في الأجيال المتأخرة، إلا أنّ يقال: أنّ جمهورهم قد ذهب من بعد عصورهم الأولى واندرجوا في كندة ،وصاروا من عدادهم، فهم بهذا الاعتبار قد هلكوا وبادوا والله أعلم. وقال علي بن عبد العزيز: أنه كانه فيهم ملوك التبابعة في علو الصيت ونهاية الذكر. قال وذكر جماعة من العلماء أنّ أول من انبسط ملكه منهم، وارتفع ذكره عمرو الأشنب بن ربيعة بن يرام بن حضرموت. ثم خلفه ابنه نمر الأزج، فملك مائة سنة وقاتل العمالقة، ثم ملك كريب ذو كراب، ثم نمر الأزج مائة وثلاثا وثلاثين سنة، وهلك إخوته في ملكه. ثم ملك مرثد ذو مروان بن كريب مائة وأربعين سنة، وكان يسكن مأرب ثم تحول إلى حضرموت، ثم ملك علقمة ذو قيعان بن مرثد ذي مروان بحضرموت ثلاثين سنة، ثم ملك ذوعيل بن ذي قيعان عشر سنين، وسكن صنعاء وغزا الصين، فقتل ملكها وأخذ سيفه ذا النور، ثم ملك ذوعيل بن ذي عيل بحضرموت عشر سنين، ولما شخص سنان ذو ألم لغزو الصين تحول ذوعيل إلى صنعاء واشتدت وطأته، وكان أول من غزا الروم من ملوك اليمن، وأول من أدخل الحرير والديباج إلى اليمن. ثم ملك بدعات بن ذي عيل بحضرموت أربع
خريطة
سنين. ثم ملك بدعيل بن بدعات وبنى حصونا وخلف آثارا، ثم ملك بديع ذو عيل، ثم ملك حماد بن بدعيل بحضرموت، فأنشأ حصنه المعقرب، وغزا فارس في عهد سابور ذي الأكتاف، وخرب وسبى، ودام ملكه ثمانين سنة. وكان أول من اتخذ الحجاب من ملوكهم. ثم ملك يشرح ذو الملك بن ودب بن ذي حماد بن عاد من بلاد حضرموت مائة سنة، وكان أول من رتب الرواتب، وأقام الحرس والروابط. ثم ملك منعم بن ذي الملك دثار بن خذيمة بن منعم، ثم يشرح بن جذيمة بن منعم، ثم نمر بن بشرح ،ثم ساجن المسمى ابن نمر وفي أيامه تغلبت الحبشة على اليمن.
هذه قبائل هذا الجيل من العرب العاربة وما كانوا عليه من الكثرة والملك، إلى أنّ انقرضوا وأزال الله من أمرهم بالقحطانية كما نحن ذاكروه. ولم نغفل منهم إلا من لم يصلنا ذكره من خيره، والله وارث الأرض ومن عليها. وأما جرهم فقال ابن سعيد: إنهم أمتان أمة على عهد عاد وأمة من ولد جرهم بن قحطان، ولما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز. ثم ملك من بعده ابنه عبد يا ليل، ثم بعده ابنه عبد المدان بن جرهم، ثم ابنه نفيلة بن عبد المدان، ثم ابنه عبد المسيح بن نفيلة، ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح، ثم ابنه الحرس. ثم ملك من بعده جرهم بن عبد ياليل، ثم بعده ابنه عمرو بن الحرث، ثم أخوه بشير بن الحرث، ثم مضاض بن عمرو بن مضاض. قال وهذه الأمة الثانية هم الذين بعث إليهم إسماعيل عليه السلام وتزوج فيهم، انتهى.
خريطة
وأما بنو سبا بن يقطن فلم يبيدوا، وكان لهم بعد تلك الأجيال البائدة أجيال باليمن منهم حِمْيَر وكهلان وملوك التابعة وهم أهل الطبقة الثانية. وفي مسند الإمام أحمد: أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل هو فروة بن مسيك المرادي عن سبا أرجل هو أو امرأة أم أرض؟ فقال بل رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة، والشام أربعة. فأمّا اليمانيون فمذ حج وكندة والأزد والأشعر وأنمار وحمير. وأما الشاميون فلخم وجذام وعاملة وغسان. وثبت أنّ أباهم قحطان كان يتكلم بالعربية، ولقنها عن الأجيال قبله، فكانت لغة بنيه. ولذلك سموا العرب المستعربة، ولم يكن في آباء قحطان من لدن نوح عليه السلام إليه من يتكلم بالعربية، وكذلك كان أخوه فالغ ،وبنوه إنما يتكلمون بالعجمية، إلى أنّ جاء إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، فتعلم العربية من جرهم فكانت لغة بنيه، وهم أهل الطبقة الثالثة المسمون بالعرب التابعة للعرب. فلنذكر هذا النسب لينتظم أجياله مع الأجيال السابقة واللاحقة، ونستوفي أنساب الأمم منها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخبر عن إبراهيم
أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه إلي فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات ا لله عليهم وأحوالهم
ولنذكر الآن أهل هذا النسب ما بين إسماعيل ونوح عليهما السلام، ومن كان منهم، أو من إخوانهم أو أبنائهم من الأنبياء والشعوب والملوك، وما كان لإسماعيل صلوات الله عليه من الولد. ونختم هذه الطبقة الأولى بذكرهم ،وإن كانوا عجما في لغاتهم، إلا أنهم أصون الخليقة في أنسابهم، وكل البشر على بعض الآراء من أعقابهم، وهم مع ذلك معاصرون لهذه الطبقة، فيتسق الكلام فيهم على شرط كتابنا، ويتميز بذكر أخبارأحوال الطبقات التي بعدهم على الوفاء والكمال. فنبدأ أولا بذكر عمود هذا النسب على التوالي، ثم نرجع إلى أخبارهم. وإسماعيل صلوات الله عليه هو ابن إبراهيم بن آزر، وهو تارح وآزر اسم لصنمه لقب به ابن ناحور بن ساروخ بالخاء أو بالغين ابن عابر أو عنبر بن شالح أو شليخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وهذه الأسماء الأعجمية كلها منقولة من التوراة ولغتها عبرانية، ومخارج حروفها في الغالب مغايرة لمخارج الحروف العربية. وقد يجيء الحرف منها بين حرفين من العربية فترده العرب إلى أحد ذينك الحرفين، وفي مخرجه فيتغير عن أصله، ولذلك تكون فيها إمالة متسوطة أو محضة فيصير إلى حرف العلة التي بعده من ياء أو واو، فلذلك تنقل الكلمة منها على اختلاف. وإلا فشأن الأعلام أنّ لا تختلف. وقال الطبري: أنّ بين شالخ وأرفخشد أبا آخر اسمه قينن، وسقط ذكره من التوراة لأنه كان ساحرا وادعى الألوهية.وقال ابن حزم: في كتب النصارى أنّ بين فالغ وعابر أبا آخر اسمه ملكيصدق وهو أبو فالغ.
واعلم أنّ نوحا صلوات الله عليه بلغ عمره يوم الطوفان ستمائة سنة، عاش بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة، فكانت جملة ذلك تسعمائة وخمسين سنة. ألف سنة إلا خمسين. وهذا نص المصحف الكريم، وكذا وقع في التوراة بعينه. ومن الغريب الواقع في التوراة أنّ عمر إبراهيم كان يوم وفاة نوح ثلاثا وخمسون سنة، لأنه قال أنّ أرفخشد ولد لسام بعد سنتين من الطوفان، ولما بلغ خمسا وثلاثين سنة ولد له ابنه شالخ، وبعد ثلاثين سنة ولد ابنه عابر؛ وبلغ عابر أربعا وثلاثين سنة، فولد ابنه فالغ، وبلغ فالغ ثلاثين سنة، فولد له أرغو، وبلغ أرغو اثنتين وثلاثين سنة فولد شاروغ، وبلغ شاروغ ثلاثين سنة فولد ناحور، وبلغ ناحور تسعا وعشرين سنة فولد تارح، وبلغ تارح خمسا وسبعين سنة فولد إبراهيم. وجملة هذه السنين من الطوفان إلى ولادة إبراهيم مائتان وسبع وتسعون سنة. وعمر نوح بعد الطوفان ثلثمائة وخمسون سنة، فيكون إبراهيم بعد وفاة نوح ابن ثلاث وخمسين سنة، فيكون لقي نوحا صلوات الله عليهما، وخالطه وأخذ عنه، وهو على رأي بعضهم أب لجميع الشعوب من بعده، فلذلك كان الأب الثالث للخليقة من بعد آدم ونوح صلوات الله عليهم أجمعين أ هـ .
وفي كتاب البدء ونقله ابن سعيد: أنّ أول من ملك الأرض من ولد نوح كنعان بن كوش بن حام، فسار من أرض كنعان بالشام إلى أرض بابل، فبنى مدينة بابل إثني عشر فرسخا في مثلها، وورث ملكه ابنه النمرود بن كنعان، وعظم سلطانه في الأرض، وطال عمره وغلب على أكثر المعمور، وأخذ بدين الصابئة وخالفه الكلدانيون منهم في التوحيد وأسمائه، ومال معهم بنو سام، وكان سام قد نزل بشرقي الدجلة، وكان وصيُّ أبيه في الدين والتوحيد، وورث ذلك ابنه أرفخشذ، ومعنى أرفخشذ مصباح مضيء ، فاشتغل بالعبادة ودعاه الكلدانيون إلى القيام بالتوحيد فامتنع. ثم قام من بعده ابنه شالخ وعاش طويلا، وقام من بعده بأمره ابنه عابر كذلك، وخرج مع الكلدانيين على النمرود منكراً لعبادة الهياكل، فغلبه نمروذ وأخرجه من كوثا، فلحق هو ومن معه من الحلفاء بالجزيرة، وهي مدينة المجدل بين الفرات ودجلة. وعابر هذا هو أبو العبرانيين الذين تكلموا بالعبرانية، واستفحل ملكه بالمجدل. قال ابن سعيد وورث من بعده ابنه فالغ، وهو الذي قسم الأرض بين ولد نوح. وفي زمانه بنى النمروذ الصرح ببابل، وكان من أمره ما نصه القرآن، وقام بأمر فالغ من بعد ابنه ملكان فيما زعموا وغلبه الجرامقة والنبط على ملكه، وقام بالمجدل في ملكهم إلى أنّ هلك وخلف ابنه أتيا ويقال له الخضر وأما ارغو بن فالغ فعبر إلى كلواذا، ودخل في دين النبط، وهي بدعة الصابئة. وولد له منهم ابنه شاروخ. ثم بعده ناحور بن شاروخ، ثم بعده تارح بن ناحور الذي سمي آزر، واستخلص النمروذ آزر وقدمه على بيت الأصنام، والنمروذ من ملوك الجرامقة واسمه هاصد بن كوش. انتهى كلام ابن سعيد.
وولد لتارح وهو آزر على ما وقع في التوراة ثلاثة من الولد إبراهيم وناحور وهاران، ومات هاران في حياة أبيه تارح وترك ابنه لوطا فهو ابن أخي إبراهيم. قال الطبري: ولد إبراهيم الخليل قيل بناحية كوثا من السواد وهو قول ابن إسحق، وقيل بحران وقيل ببابل، وعامة السلف أنه ولد على عهد نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام. وكان الكهان يتحدثون بولادة رجل يخالف الدين ويكسر الأصنام والأوثان، فأمر بذبح الولدان فولدته أمه وتركته بمغارة في فلاة من الأرض حتى كبر وشب، ورأى في الكواكب ما رآه وكملت نبوته، فأحضرته إلى أبيه ودعاه إلى التوحيد، فامتنع وكسر إبراهيم الأصنام واحضر عند نمروذ وقذفه في النار فصارت بردا وسلاما، وخرج منها ولم تعد عليه كما نص ذلك القرآن.ثم تدبر النمروذ في أمره وطلب من إبراهيم أنّ يقرب قربانا يفتدي مما دعاه إليه، فقال له إبراهيم: لن يقبل منك إلا الإيمان، فقال: لا استطيع. وترك إبراهيم وشانه. ثم أمر الله إبراهيم بالخروج من أرض الكلدانيين ببابل، فخرج به أبوه تارح ومعهما على ما في التوراة ابنه ناحور بن تارح وزوجته ملكا بنت أخيه هاران، وحافده لوط بن
هاران، قال في التوراة وكنته سارة يعني زوج إبراهيم، فقيل إنها أخت ملكا بنت هاران بن تارح، وقيل بنت ملك حران، طعنت على قومها في الدين فتزوجها إبراهيم على أنّ لا يضرها، ويرد هذا ما في التوراة أنها خرجت معهم من أرض الكلدانيين إلى حران فتزوجها. وقيل: إنها بنت هاران بن ناحور. وهاران عم إبراهيم قاله السهيلي، فأقاموا بحران ومات بها أبوه تارح وعمره مائتا سنة وخمس سنين. ثم أمر بالخروج إلى أرض الكنعانيين ووعده الله بأن تكون أثرا لبنيه، وأنهم يكثرون مثل حصى الأرض.فنزل بمكان بيت المقدس وهو ابن خمس وسبعين سنة، ثم أصاب بلد الكنعانيين مجاعة، فخرج إبراهيم في أهل بيته وقدم مصر، ووصف لفرعون ملك القبط جمال امرأته سارة فأحضرها عنده، ولما هم بها يبست يده على صدره، فطلب منها الإقالة فدعت له الله فانطلقت يده. ويقال عاود ذلك ثلاثا يصاب في كلها وتدعو له فردها إلى إبراهيم واستخدمها هاجر.قال الطبري والملك الذي أراد سارة هو سنان بن علوان، وهو أخو الضحاك. والظاهر أنه من ملوك القبط.
ثم ساروا إلى أرض كنعان بالشام. ويقال: أنّ هاجر أهدها ملك الأردن لسارة وكان إسمه فيما قال الضبي صلاوق، وأنه انتزع سارة من إبراهيم، ولما هم بها صُرع مكانه، وسألها في الدعاء فدعت له، فأفاق فردها إلى إبراهيم وأخدمها هاجر أمة كانت لبعض ملوك القبط. ولما عاد إبراهيم إلى أرض كنعان نزل جيرون وهو مدفنه المسمى بالخليل؛ وكانت معظمة تعظمها الصابئة وتسكب عليها الزيت للقربان، وتزعم أنها هيكل المشتري والزهرة، فسماها العبرانيون إيليا ومعناه بيت الله.
ثم أنّ لوطا فارق إبراهيم عليه السلام لكثرة مواشيهما وتابعهما وضيق المرعى. فنزل المؤتفكة بناحية فلسطين وهي بلاد العدور المعروف بعدور صقر؛ وكانت هناك على ما نقله المحققون خمس قرى سدوم. ووجدهم على ارتكاب الفواحش فدعاهم إلى الدين، ونهاهم عن المخالفة، فكذبوه وعتوا وأقام فيهم داعيا إلى الله إلى أنّ هلكوا كما قصه القرآن.وخرج لوط مع عساكر كنعان وفلسطين للقاء ملوك الشرق حين زحفوا إلى أرض الشام، وكانوا أربعة ملوك ملك الأهواز من بني غليم بن سام واسمه كرزلا عامر، وملك بابل واسمه في التوراة شنعا واسمه أمراقيل، ويقال هو نمروذ، وملك الأستار وما أدري معنى هذه اللفظة واسمه أريوح ، وملك كوتم ومعناه ملك أمم أو جماعة واسمه تزعال. وكان ملوك كنعان الذين خرجوا إليهم خمسة على عدد القرى الخمسة. وذلك أنّ ملك الأهواز كان استعبدهم اثنتي عشرة سنة ثم عصوا، فزحف إليهم واستجاش بالملوك المذكورين معه، فأصابوا من أهل جبال يسعين إلى فاران التي في البرية، وكان بها يومئذ الجويون من شعوب كنعان أيضا.وخرج ملك سدوم وأصحابه لمدافعتهم، فانهزم هو والملوك الذين معه من أهل سدوم، وسباهم ملك الأهواز ومن معه من الملوك، وأسروا لوطا وسبوا أهله، وغنموا ماشيته. وبلغ الخبر إبراهيم عليه السلام فاّتبعهم في ولده ومواليه نحواً من ثلثمائة وثمانية عشر، ولحقهم بظاهر دمشق فدهمهم فانفضوا وخلص لوطا في تلك الوقعة، وجاء بأهله ومواشيه، وتلقاهم ملك سدوم، واستعظم فعلتهم.
ثم أوحى الله إلى إبراهيم أنّ هذه الأرض: أرض الكنعانيين التي أنت بها، ملكتها لك ولذريتك وأكثرهم مثل حصى الأرض وأن ذريتك يسكنون في أرض ليست لهم أربعمائة سنة، ويرجع الحقب الرابع إلى هنا. ثم أنّ سارة وهبت مملوكتها هاجر القبطية لإبراهيم عليه السلام لعشر سنين من مجيئهم من مصر. وقالت لعل الله يرزقك منها ولداً، وكان إبراهيم قد سأل الله أنّ يهب له ولدا، فوعده به. وكانت سارة قد كبرت وعقمت عن الولد، فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل عليهما السلام لست وثمانين من عمره. وأوحى الله إليه أني قد باركت عليه وكثرته، ويولد له اثنا عشر ولدا ويكون رئيساً لشعب عظيم. وأدركت سارة الغيرة من هاجر وطلبت منه إخراجها، وأمره الله أنّ يطيع سارة في أمرها، فهاجر بها إلى مكة ووضعها وابنها بمكان زمزم عند دوحة هنالك وانطلق. فقالت له هاجر: اّلله أمرك؟ قال: نعم، فقالت: إذا لا يضيعنا. وانطلق إبراهيم، وعطش إسماعيل بعد ذلك عطشا شديداً وأقامت هاجر تتردّد بين الصفا والمروة إلى أنّ صعدت عليها
سبع مرات لعلها تجد شيئاً ؛ ثم أتته وهو يفحص برجليه فنبعت زمزم.
وعن السدي: أنه تركه في مكان الحجر، واتخذ فيه عريشاً وأن جبريل هو الذي همز له الماء بعقبه، وأخبر هاجر أنها عين يشرب بها ضيفان الله، وأن أبا هذا الغلام سيجيء ويبنيان بيتا لله هذا مكانه. ثم مرت رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم أقبلوا من كداء، ونزلوا أسفل مكة، فرأوا الطير حائمة فقالوا: لا نعلم بهذا الوادي ماء، ثم أشرفوا فرأوا المرأة ونزلوا معها هنالك.
وعن ابن عباس: كانت احياؤها قريبا من ذلك المكان، فلما رأوا الطير تحوم عليه، أقبلوا إليه فوجدوهما فنزلوا معهما، حتى كان بها أهل أبيات منهم، وشب إسماعيل بينهم وتعلم اللغة العربية منهم، وأعجبهم وزوجوه امرأة منهم. وماتت أمه هاجر فدفنها في الحجر. ولما رجع إبراهيم وأقام في أهله بالشام، وبالغ أهل المؤتفكة في العصيان والفاحشة، ودعاهم لوط فكذبوه، وأقام على ذلك. قال الطبري: فأرسل الله رسولا من الملائكة لإهلاكهم، ومروا بإبراهيم فأضافهم وخدمهم، وكان من ضحك سارة وبشارة الملائكة لها باسحق وابنه يعقوب ما قضه القرآن. وكانت البشارة بإسحق وإبراهيم ابن مائة سنة، وسارة بنت تسعين. وفي التوراة أنه أمر أنّ يحرر ولده إسماعيل لثلاث عشرة سنة من عمره. ولكل من في بيته من الأحرار، فكان ذلك لتسع وتسعين من عمر إبراهيم. وقال له ذلك عهد بيني وبينك وذريتك .ثم أهلك الله المؤتفكة ونجى لوطاً إلى أرض الشام، فكان بها مع عمه إبراهيم صلوات الله عليهما. وولدت سارة إسحق وأمر الله إبراهيم بعد ولادة إسماعيل وإسحق ببناء بيت يعبد فيه ويذكر، ولم يعرف مكانه، فجعل له علامة تسير معه حتى وقفت به على الوضع، يقال إنها ريح لينة لها رأسان تسير معه حتى تكون بالموضع، ويقال بل بعث معه جبريل لذلك حتى أراه الموضع. وكان إبراهيم يعتاد إسماعيل لزيارته، ويقال أنه كان يستأذن سارة في ذلك وأنها شرطت عليه أنّ لا يقيم عندهم، وأنّ إبراهيم وجد امرأة لإسماعيل في غيبة منه. وكانت من العماليق، وهى عمارة بنت سعيد بن أسامة بن أكيل. فرآها فظة غليظة، فأوصاها لإسماعيل بأن يحوّل عتبة بابه، فلما قصت عليه الخبر والوصيّة، قال: ذاك أبي يأمرني أنّ اطلقك، فطلقها وتزوّج بعدها السيدة بنت مضّاض بن عمرو الجُرهمي، وخالفه إبراهيم إلى بيته، فتسهلت له بالإذن وأحسنت التحية، وقرّبت الوضوء والطعام. فأوصاها لإسماعيل نجاني قد رضيت
عتبة بابك. ولما قصت عليه الوصية، قال: ذلك أبي يأمرني بإمساكك، فأمسكها. ثم جاء إبراهيم مرة ثالثة وقد أمره الله ببناء البيت، وأمر إسماعيل باعانته، فرفعوها من القواعد، وتمّ بناؤها وأذن في الناس بالحج.
ثم زوج لوط ابنته من مدين بن إبراهيم عليهما السلام، وجعل الله في نسلها البركة. فكان منهم أهل مدين الأمة المعروفة.
ثم ابتلى الله إبراهيم بذبح ابنه في رؤيا رآها وهي وَحْي، وكانت الفدية ونجّى الله ذلك الولد، كما قُصَّ في القرآن. واختلف في ذلك الذبيح من ولديه فقيل إسماعيل وقيل إسحق. وذهب إلى كلا القولين جماعة من الصحابة والتابعين. فالقول بإسماعيل لابن عباس وابن عمر والشعبي ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب القرظي . وقد يحتجون له بقوله صلى الله عليه وسلم : "أنا ابن الذبيحين"، ولا تقوى الحجة به لأنّ عمّ الرجل قد يُجعل أباه بضرب من التجوز، لا سيما في مثل هذا الفخر. ويحتجون أيضاً بقوله تعالى: { فبشرناها بإسحق، ومن وراء إسحق يعقوب}[سورة……] ، ولو كان ذبيحا في زمن الصبا لم تصح البشارة بابن يكون له، لأنّ الذبح في الصبا ينافي وجود الولد، ولا تقوم من ذلك حجة، لأن البشارة انما وقعت على وفق العلم بأنه لا يذبح ؛ وإنما كان ابتلاءلا براهيم. والقول بإسحق للعباس وعمرو وعلي وابن مسعود وكعب الأحبار وزيد بن أسلم ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطا والزهري ومكحول والسدي وقتادة. وقال الطبري: والراجح أنه إسحق، لأن نص القرآن يقتضي أنّ الذبيح هو المبشر به، ولم يبشر إبراهيم بولد إلا من زوجته سارة، مع أنّ البشارة وقعت إجابة لدعائه عند مهاجره من أرض بابل. وقوله: إني ذاهب إلى ربي سيهدين. ثم قال عقبة: رب هب لي من الصالحين. ثم قال عقبة: فبشرناه بغلام حليم. وذلك كله كان قبل هاجر، لأن هاجر إنما ملكتها سارة بمصر، وملكتها لإبراهيم بعد ذلك بعشر سنين. فالمبشر به قبل ذلك كله إنما هو ابن سارة، فهو الذبيح بهذه الدلالة القاطعة. وبشارة الملائكة لسارة بعد ذلك، حين كانوا ضيوفا عند إبراهيم في مسيرهم لإهلاك سدوم ،إنما كان تجديداً للبشارة المتقدمة ا هـ .
ثم توفيت لمائة وسبع وعشرين من عمرها، وذلك في قرية جيرون من بلاد بني حبيب الكنعانيين. فطلب إبراهيم منهم مقبرة لها، فوهبه عفرون بن صخر مغارة كانت في مزرعته، فامتنع من قبولها إلا بالثمن، فأجاب إلى ذلك، وأعطاه إبراهيم أربعمائة مثقال فضة، ودفن فيها سارة. وتزوج إبراهيم من بعدها قطورا بنت يقطان من الكنعانيين. وقال السهيلي قنطورا بزيادة نون بين القاف والطاء، وهذا الاسم أعجمي وطاوة قريبة من التاء. فولدت له كما هو مذكور في التوراة ستة من الولد وهم: زمران، يقشان، مدان، مدين، أشبق، شوخ.ثم وقع في التوراة ذكر أولادهم. فولد يقشان سبا ودذان، وولد دذّان أشور ثم ولطوسيح ولاميم. وولد مدين عيفا وعيفين وحنوخ وأفيداع وألزاعا. هذا آخر ولده من قنطورا في التوراة. وقال السهيلي: كان لإبراهيم عليه السلام أولاد آخرون: خمسة من امرأة اسمها حجين أو حجون بنت أهيب وهم كبسان وفروخ وأميم ولوطان ونافس. ولما ذكر الطبري بني قنطورا الستة، وسمّى منهم يقشان، قال بعده: وسائرهم من الأ خرى وهي رعوة. ثم قال: ومن يقشان جيل البربر ا هـ .فوُلدُ إبراهيم على هذا ثلاثة عشر: فإسماعيل من هاجر، وإسحق من سارة، وستة من قنطورا كما ذكر في التوراة، والخمسة بنو حجين عند السهيلي أو رعوة عند الطبري.
وكان إبراهيم عليه السلام قد عهد لإبنه إسحق أنّ لا يتزوّج في الكنعانيين، وأكد العهد والوصية بذلك لمولاه القائم على أموره، ثم بعثه إلى حران مهاجرهم الأول، فخطب من ابن أخيه بتويل بن ناحور بن آزر بنته رفقا فزوجها أبوها واحتملها ومن معها من الجواري، وجاء بها إلى إسحق في حياة أبيه، وعمره يومئذ أربعون سنة. فتزوجها وولدت له يعقوب وعيصو توأمين، وسنذكر خبرهما. ثم قبض الله نبئه إبراهيم صلوات الله عليه بمكان هجرته من أرض كنعان، وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، ودفن مع سارة في مغارة عفرون الحبيبي وعرف بالخليل لهذا العهد. ثم جعل الله في ذريته النبوة والكتاب آخر الدهر.
فإسماعيل سكن مع جرهم بمكة وتزوج فيهم، وتعلم لغتهم وتكلم بها، وصار أبا لمن بعده من أجيال العرب، وبعثه الله إلى جرهم والعمالقة الذين كانوا بمكة وإلى أهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض. ثم قبضه الله إليه وخلّف ولده بين جرهم، وكانوا على ما ذكر في التوراة اثنتي عشر أكبرهم بنايوت، وهو الذي تقوله العرب نابت ونبت، ثم قيذار وأدبيل وبسام ومشمع وذوما ومسا وحرّاه وقيما وبطور ونافس وقدما. قال ابن إسحق: وعاش فيما ذكر مائة وثلاثين سنة، ودفن في الحجر مع أمه هاجر، ويقال آجر. وفي التوراة أنه قبض ابن مائة وسبع وثلاثين سنة، وأن شيعته سكنوا من حويلا إلى شور قبالة مصر من مدخل أثور، وسكنوا على حذر شيع اخوته. وحويلا عند أهل التوراة هي جنوب برقة، والواو منها قريبة من الياء. وشور هي أرض الحجاز وأثور بلاد الموصل والجزيرة. ثم ولي البيت من بعد إسماعيل ابنه نابت، وأقام ولده بمكة مع أخوالهم جرهم حتى تشعبوا وكثر نسلهم، وتعددت بطونهم من عدنان في عداد معدّ، ثم بطون معدّ في ربيعة ومضر وإياد وأنمار بني نزار بن معد. فضاقت بهم مكة على ما نذكره عند ذكر قريش وأخبار ملكهم بمكة. فكانت بطون عدنان هذه كلها من ولد إسماعيل لإبنه نابت وقيل لقيذار. ولم يذكر النسابون نسلا من ولده الآخرين. وتشعبت من إسماعيل أيضاً عند جماعة من أهل العلم بالنسب بطون قحطان كلها فيكون على هذا أبا لجميع العرب بعده. وأمّا إسحق فأقام بمكانه من فلسطين، وعمر وعمي بعد الكثير من عمره، وبارك على ولده يعقوب، فغضب بذلك أخوه عيصو وهمَّ بقتله، فأشارت عليه رفقا بنت بَتْويل بالسير إلى حرَّان عند خاله لابان بن بتوبل، فأقام عنده وزوّجه بنتيه. فزوجه أولا الكبرى واسمها ليَّا، وأخدمها جاريتها زُلْفة، ثم من بعدها أختها الصغرى واسمها راحيل، وأخدمها جاريتها بلها. وأوّل من ولد منهنّ ليَّا ولدت له رُوبيل ثم شمعون ثم لاوي، ثم يهوذا. وكانت راحيل لا تحبل فوهبت جاريتها بَلْها ليعقوب لتلد منه، فولدت له دان ثم نفتالي، ولما فعلت ذلك راحيل وهبت أختها ليا ليعقوب عليه السلام جاريتها زلفة، فولدت له كاد وآشر، ثم ولدت ليَّا من بعد ذلك يساخر ثم زبولون، فكمل له بذلك عشرة من الولد. ثم دعت راحيل الله عزّ وجل أنّ يهب لها ولدا من يعقوب فولدت يوسف، وقد كملت له بحرَّان عشرون سنة، ثم أمر بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها. فارتحل وخرج لابان في اتباعه وعزم له في المقام
عنده فأبى، فودَّعه وانصرف إلى حران. وسار يعقوب لوجهه، حتى إذا قرب من بلد عيصو وهو جبل يسعين بأرض الكرك والشوبك لهذا العهد، اعترضه عيصو لتلقّيه وكرامته، فأهدى إليه يعقوب من ماشيته هديّة احتفل فيها، وتودّد إليه بالخضوع والتضرُّع، فذهب ما كان عند عيصو. وأوحى الله إليه بأن يكون إسمه إسرائيل، ومر على أرشاليم وهي بيت المقدس، فاشترى هنالك مزرعة ضرب فيها فسطاطه وأمر ببناء مرجح، سماه إيل في مكان الصخرة. ثم حملت راحيل هنالك فولدت له بنيامين وماتت من نفاسه، ودفنها في بيت لحم. ثم جاء إلى أبيه إسحق بقرية جيرون من أرض كنعان، فأقام عنده.
ومات إسحق عليه السلام لمائة وثمانين سنة من عمره، ودفن مع أبيه في المغارة، وأقام يعقوب بمكانه، وولده عنده. وشب يوسف عليه السلام على غير حالهم من كرامة الله به، وقصَّ عليهم رؤياه التي بَشَّر فيها بأمره، فغصوا به وخرجوا معه إلى الصيد، فالقوه في الجبَّ. واستخرجه السيَّارة الذين مرُّوا به بعد ذلك، وباعوه للعرب بعشرين مثقالاً. ويقال: أنّ الذي تولّى بيعه هو مالك بن دَعَر بن واين بن عيفا بن مدين. واشتراه من العرب عزيز مصر، وهو وزيرها أو صاحب شرطتها. قال ابن إسحق واسمه أطفير بن رجيب، وقيل قوطفير. وكان ملكها يومئذ من العماليق الريَّان بن الوليد بن دُومغ. وربي يوسف عليه السلام في بيت العزيز، فكان من شأنه مع أمراته زليخا، ومكثه في السجن، وتعبيره الرؤيا للمحبوسين من أصحاب الملك، ما هو مذكور في الكتاب الكريم. ثم استعمله ملك مصر عندما خشي السُّنة والغلاء على خزائن الزرع في سائر مملكته، يقدر جمعها وتصريف الأرزاق منها، وأطلق يده بذلك في جميع أعماله، وألبسه خاتمه وحمله على مركبه. ويوسف لذلك العهد ابن ثلاثين سنة، فقيل عزل أطفير العزيز وولاه. وقيل بل مات أطفير فتزوّج زليخا وتولّى عمله ، وكان ذلك سبباً لانتظام شمله بأبيه وإخوته لما أصابتهم السنة بأرض كنعان، وجاء بعضهم للميرة، وكال لهم يوسف عليه السلام، وردّ عليهم بضاعتهم وطالبهم بحضور أخيهم، فكان ذلك كله سببا لاجتماعه بأبيه يعقوب بعد أنّ كبر وعمي.
قال ابن إسحق: كان ذلك لعشرين سنة من مغيبه، ولما وصل يعقوب إلى بلبيس قريباً من مصر خرج يوسف ليلقاه. ويقال خرج فرعون معه، وأطلق لهم أرض
بلبيس يسكنون بها وينتفعون. وكان وصول يعقوب صلوات الله عليه في سبعين راكباً من بنيه، ومعه أيوب النبي من بنيّ عيصو وهو أيوب بن برحما بن زبرح بن رعويل بن عيصو، واستقّروا جميعا بمصر، ثم قُبض يعقوب صلوات الله عليه لسبع عشرة من مقدمه ولمائة وأربعين من عمره، وحمله يوسف صلوات الله عليه إلى أرض فلسطين، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها بإذن من فرعون. واعترضهم بعض الكنعانّيين في طريقهم فأوقعوا بهم، وانتهوا إلى مدفن إبراهيم وإسحق عليهما السلام، فدفنوه في المغارة عندهما، وانتقلوا إلى مصر. وأقام يوسف صلوات الله عليه بعد موت أبيه، ومعه إخوته إلى أنّ أدركته الوفاة، فقُبِضَ لمائة وعشرين سنة من عمره، وادرج في تابوت وختم عليه، ودفن في بعض مجاري النيل. وكان يوسف أوصى أنّ يحمل عند خروج بني إسرائيل إلى أرض اليفاع فيدفن هنالك، ولم تزل وصيته محفوظة عندهم، إلى أنّ حمله موسى صلوات الله عليه عند خروجه ببني إسرائيل من مصر. ولما قُبَضَ يوسف صلوات الله عليه وبقي من بقي من الأسْباط، إخوته وبنيه تحت سلطان الفراعنة بمصر، تشعَّب نسلهم وتعدَّدوا إلى أنّ كاثروا أهل الدولة وارتابوا بهم فاستعبدوهم. قال المسعودي: دخل يعقوب إلى مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف في سبعين راكبا، وكان مُقَامُهُم بمصر إلى أنّ خرجوا مع موسى صلوات الله عليه نحواً من مائتين وعشر سنين، فتداولهم ملوك القِبْط والعمالقة يمصر، ثم أحصاهم موسى في التَيْه، وعدّ من يطيق حمل السلاح من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف ويزيدون. وقد ذكرنا ما في هذا العدد من الوَهْم والغلوَّ في مقدّمة الكتاب، فلا نطوَّلَ به. ووقوعه، في نص التوراة لا يقضي بتحقيق هذا العدد، لأن المقام للمبالغة فلا تكون إعداده نصوصاً. وكان ليوسف صلوات عليه من الولد كثير إلا أنّ المعروف منهم اثنان: أفراثيم ومنشى، وهما معدودان في الأسباط، لأن يعقوب صلوات الله عليه أدركهما وبارك عليهما، وجعلهما من جملة ولده. وقد يزعم بعض من لا تحقيق عنده أنّ يوسف صلوات الله عليه إستقل آخرا بملك مصر، وينسب لبعض ضعفة المفسرَين، ومعتمدهم في ذلك قول يوسف عليه السلام في دعائه: رب قد آتيتني من الملك، ولا دليل لهم في ذلك، لأن كل من ملك شيئاً ولوفي خاصة نفسه فاستيلاؤه يسمى مُلْكاً حتى البيت والفَرَس والخادم، فكيف من مَلَكَ التصرُّف، ولو كان في شعب واحد منها فهو ملك. وقد كان العرب يسمون أهل القرى والمدائن ملوكا، مثل هجر ومعان ودومة الجندل، فما ظنك بوزير مصر لذلك العهد، وفي تلك الدولة. وقد كان في الخلافة العباسيّة تسمى ولاة الأطراف وعمالها ملوكا، فلا استدلال لهم في هذه الصيغة، وأخرى أيضاً فيما يستدلون به من قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض }[سورة…] ، أنّ لا يكون لهم فيه مستند، لأنَّ التمكين يكون بغير الملك. ونص القرآن إنَّما هو بولايته على أمور الزرع في جمعه وتفريقه، كما قال تعالى: { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم }[سورة….]. ومساق القصة كلها أنه مرؤس في تلك الدولة بقرائن الحال كلها، لا ما يتوهم من تلك اللفظة الواقعة في دعائه، فلا نعدل من النص المحفوف بالقرائن إلى هذا المتوهم الضعيف. وأيضا فالقصّة في التوراة قد وقعت صريحة في أنه لم يكن ملكا، ولا صار إليه مُلْك. وأيضا فالأمر الطبيعي من الشوكة والقطامة له يدفع أنّ يكون حصل له ملك، لأنه إنما كان في تلك الدولة قبل أنّ يا تي إليه إخوته منفرداً لا يملك إلا نفسه، ولا يا تي الملك في هذا الحال، وقد تقدَّم ذلك في مقدمة الكتاب والله أعلم. عيصو: وأما عيصو بن إسحق فسكن جبال بني يسعين من بني جوى إحدى شعوب كنعان، وهي جبال الشراة بين تبوك وفلسطين، وتعرف اليوم ببلاد كرك والشوبك. وكان من شعوبهم هنالك على ما في التوراة بنو لوطان وبنو شوبال وبنو صمقون وبنو عنا وبنو ديشوق وبنو يصد وبنو ديسان سبعة شعوب. ومن بني ديشون الأشبان، فسكن عيصو بينهم بتلك البلاد، وتزوّج منهم من بنات عنا بن يسعين من جوى ، وهي أهليقاما، وتزوّج أيضاً من بنات حي من الكنعانيين عاذا بنت أيلول وباسمت بنت إسماعيل عليه السلام. وكان له من الولد خمسة مذكورون في التوراة أكبرهم أليفاز، بالفاء المفخّمة وإشباع حركتها وزاي معجمة من بعدها من عاذا بنت أيلول. ثم رعويل من باسمت بنت إسماعيل، ثم يعوش ويعلام وقورح من أهليقاما بنت عنا. وولد أليفاز ستة من الولد: ثيمال وأومار وصفو وكعتام وقتال وعمالق السادس، لسرّيّة اسمها تمتاع وهي شقيقة لوطان بن يسعين. وولد رعويل بن عيصو أربعة من الولد: ناحة وزيدم وشتما ومرّا. هكذا وقع ذكر وُلْد العيص وولدهم في التوراة.وفيها أنّ
العيص إسمه أدوم، فلذلك قيل لهم بنو أدوم، ولبعض الإسرائيليين أنّ أدوم اسم لذلك الجبل، ومعناه بالعبرانية الجبل الأحمر الذّي لا نبات به. وقد يقع لبعض المؤرّخين أنّ القياصرة ملوك الروم من ولد عيصو، وقال الطبرىُّ: أنّ الروم وفارس من ولد رعويل بن باسمت وليس ذلك كله بصحيح. ورأيته في كتاب يوسف بن كرمون: مؤرخ العمارة الثانية ببيت المقدس قبيل الجلوة الكبرى وكان من كهنوتينا اليهود، وهو قريب من الغلط. قال ابن حزم في كتاب الجمهرة: وكان لإسحق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب اسمه عيصاب أو عيصو، كان بنوه يسكنون جبال الشراة بين الشام والحجاز، وقد بادوا جملة، إلا أنّ قوما يذكرون أنّ الروم من وُلْده وهذا خطأ. وإنّما وقع لهم هذا الغلط لأن موضعهم كان يقال له أدوم فظنوا أنّ الروم من ذلك الموضع وليس كذلك، لأن الروم إنما نسبوا إلى رمس باني رومة، فإن ظنّ ظان أنّ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للحُرّ بن قيس: هل لك في بلاد بني الأصفر العام، وذلك في غزوة تبوك، يدل على أنّ الروم من بني الأصفر وهو عيصاب المذكور وليس كما ظُنّ وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حق ؛ وإنما عنى عليه السلام بني عيصاب على الحقيقة لا الروم، لأن مغزاه عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة كان إلى ناحية الشراة مسكن القوم المذكورين ا هـ . كلام ابن حزم.
وزعم أهروشيوش مؤرّخ الروم أنّ أم الفينان وهاؤا وعالوم وقدوح الأربعة من بنات كاتيم بن ياوان ابن يافث، والأوّل أصح لأنه نص التوراة. ثم كثر نسل بني عيصو بأرض يسعين وغلبوا الجويّين على تلك البلاد، وغلبوا بني مدين أيضاً على بلادهم إلى أيلة. وتداول فيهم ملوك وعظماء، كان منهم فالغ بن ساعور، وبعده يودب بن زيدح. ثم كان منهم هداد بن مدّاد الذي أخرج بني مدين عن مواطنهم. ثم كان فيهم بعده ملوك إلى أنّ زحف يوشع إلى الشام، وفتح أريحاء وما بعدها، وانتزع الملك من جميع الأمم الذين كانوا هنالك، ثم استلحمهم بختنصر عندما ملك أرض القدس، ولحق بعضهم بأرض يونان وبعضهم بأفريقية. وأما عمالق بن أليفاز فمن عقبه عند الإسرائيليين عمالقة الشام. وفي قول فراعنة مصر من القِبْط. ونُسّاب العرب يأبون
من ذلك، ونسبوهم إلى عملاق بن لاوذ كما مرّ. ثم بنو يروم وكنعان، ولم يبق منهم عين تطرف والله الباقي بعد فناء خلقه.
مدين: وأمّا مدين بن إبراهيم فتزوّج بابنة لوط، وجعل الله في نسلها البركة، وكان له من الولد خمسة: عيفا وعيفين وحنوخ وأنيداغ وألزاعا. وقد تقدم ذكرهم في ولد إبراهيم من قنطورا، فكان منهم مدين أمّة كبيرة ذات بطون وشعوب، وكانوا من أكبر قبائل الشام وأكثرهم عددا. وكانت مواطنهم تجاور أرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط. وكان لهم تغلبٌ بتلك الأرض فعتوا وبغوا وعبدوا الآلهة، وكانوا يقطعون السُبُل ويبخسون في المكيال. وبعث الله فيهم شعيبا نبيا منهم وهو ابن نويل بن رعويل بن عيا بن مدين. قال المسعوديّ: مدين هؤلاء من ولد المحضر بن جندل بن يعصب بن مدين، وأن شُعيبا أخوهم في النسب، وكانوا ملوكا عدة يسمون بكلمات أبجد إلى آخرها وفيه نظر. وقال ابن حبيب في كتاب البدء: هو شُعَيْب بن نويب بن أحزم بن مَدْيَن وقال السهيلي: شعيب بن عيفا ويقال ابن صيفون. وشعيب هذا هو شعيب موسى الذي هاجر إليه من مصر أيام القبط، واستأجره على إنكاح ابنته إياه على أنّ يخدمه ثماني سنين، وأخذ عنه آداب الكتاب والنبوّة حسبما يا تي عند ذكر موسى صلوات الله عليهما، وأخبار بني إسرائيل. وقال الصيمري: الذي استأجر موسى وزوّجه: هو بَثْر بن رعويل. ووقع في التوراة أنّ اسمه يَبْثُر وأن رعويل أباه أو عمّه هو الذي تولى عقد النكاح. وكان لمدين هؤلاء مع بني إسرائيل حروب بالشام، ثم تغلب عليهم بنو إسرائيل وانقرضوا جميعا.
لوط: وأما لوط بن هاران أخي إبراهيم عليهما السلام فقد تقدّم من خبره مع قومه ما ذكرناه هنالك. ولما نجا بعد هلاكهم لحق بأرض فلسطين، فكان بها مع إبراهيم إلى أنّ قبضه الله، وكان له من الولد على ما ذكر في التوراة عمُّون، بتشديد الميم وإشباع حركتها بالضمّ ونون بعدها، وموآيي بإشباع ضمة الميم وإشباع فتحة الهمزة بعدها وياء تحتية وبعدها ياء ساكنة هوائية، وجعل الله في نسلهما البركة حتى كانوا من أكثر قبائل الشام، وكانت مساكنهم بأرض البلقاء ومدائنها في بلد موآيي ومعان وما والاهما. وكانت لهم مع بني إسرائيل حروب نذكرها في أخبارهم، وكان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي، وقصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى صلوات الله عليه، وأنّ دعاءه صرف إلى الكنعانيين مذكورة في التوراة ونوردها في موضعها. وأمّا ناحور أخو إبراهيم عليه السلام فقد تقدّم ذكره أنه هاجر مع إبراهيم عليه السلام من بابل إلى حرّان، ثم إلى الأرض المقدّسة، فكان معه هنالك، وكانت زوجته مَلْكا بنت أخيه هاران، ومَلْكا هذه هي أخت سارة زوج إبراهيم عليه السلام، وأم إسحق. وكان لناحور من مَلْكا على ما وقع في نص التوراة ثمانية من الوُلْد: عوص وبوص، وقمويل وهو أبو الأرمن، وكاس ومنه الكلدانيّون الذين كان منهم بختنصّر وملوك بابل، وحذو وبلداس وبلداف ويثويل. وكان له من سرية إسمها أدوما أربعة من الوُلْد وهم: طالج وكاحم وتاخش وماعخا. هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم كلهم مذكورون في التوراة وهم إثنا عشر ولدا، وهؤلاء كلهم بادوا وانقرضوا، ولم يبق منهم إلاّ الأرمن من قمويل بن ناحور أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر، وهم لهذا العهد على دين النصرانية ومواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطينية. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من العرب ومن عاصرهم من الأمم، ولنرجع إلى أهل الطبقة الثانية وهم العرب المستعربة، والله سبحانه وتعالى الكفيل بالإعانة.
شجرة نسب إبراهيم صورة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الطبقة الثانية من العرب
وهم العرب المستعربة وذكر أنسابهم وأيامهم وملوكهم والإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم
وإنّما سمّي أهل هذه الطبقة بهذا الاسم، لأنّ السمات والشعائر العربية لما انتقلت إليهم ممن قبلهم إعتبرت فيها الصيرورة بمعنى أنهم صاروا إلى حال لم يكن عليها أهل نسبهم، وهي اللغة العربية التي تكلموا بها. فهو من استفعل بمعنى الصيرورة من قولهم: استنوق الجمل واستحجر الطين. وأهل الطبقة الأولى لما كانوا أقدم الأمم- فيما يعلم- جيلا كانت اللغة العربية لهم بالأصالة ،وقيل العاربة. واعلم أنّ أهل هذا الجيل من العرب يعرفون باليمنيَّة والسبائيّة، وقد تقدم أنّ نسَّابة بني إسرائيل يزعمون أنّ أباهم سَبَا من وُلْدِ كوش بن كنعان، ونسَّابة العرب يأبون ذلك ويدفعونه، والصحيح الذي عليه كافتهم أنهم من قحطان، وأنّ سبا هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقال ابن إسحق: يعرب بن يشْجُب فقدم وأخر. وقال ابن ماكولا على ما نقل عنه السهيليّ: اسم قحطان مَهْزَم. وبين النسَّابة خلاف في نسب قحطان: فقيل هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام أخو فالغ ويقطُن، ولم يقع له ذكر في التوراة، وإنّما ذكر فالغ ويقطن. وقيل هو معرَّب يَقْطُن لأنّه إسمٌ أعجمي، والعرب تتصرّف في الأسماء الأعجمية بتبديل حروفها وتغييرها، وتقديم بعضها على بعض. وقيل: أنّ قحطان بن يمن بن قيدار، وقيل: أنّ قحطان من ولد إسماعيل. وأصح ما قيل في هذا أنّه قحطان بن يمن بن قيدر ويقال الهُمَيْسع بن يَمَن بن قيدار، وأنّ يمن هذا سميت به اليمن. وقال ابن هشام: أنّ يعرب بن قحطان كان يسمى يمنا وبه سميت اليمن. فعلى القول بأن قحطان من ولد إسماعيل تكون العرب كلهم من ولده، لأن عدنان وقحطان يستوعبان شعوب العرب كلها.
وقد احتج لذلك من ذهب إليه بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرماة الأنصار:" ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا". والأنصار من ولد سبا وهو ابن قحطان، وقيل: إنّما قال ذلك لقوم من أسلم من أقصى إخوة خزاعة بن حارثة بناء على أنّ نسبهم في سَبَا. وقال السهيلي: ولا حجة في شيء منهما، لأنه إذا كانت العرب كلها من ولد إسماعيل فهذا من السهيليّ جنوح إلى القول بمفهوم اللقب وهو ضعيف. ثم قال: والصحيح أنّ هذا القول إنما كان منه صلى الله عليه وسلم لأسلم كما قدّمناه، وإنما أراد أنّ خزاعة من معد بن إلياس بن مضر، وليسوا من سبا ولا من قحطان، كما هو الصحيح في نسبهم على ما يأتى. واحتجوا أيضاً لذلك بأنّ قحطان لم يقع له ذكر في التوراة كما تقدم، فدل على إنه ليس من ولد عابر فترجح القول بأنّه من إسماعيل، وهذا مردود بما تقدم أنّ قحطان معرب يقطن وهو الصحيح. وليس بين الناس خلاف في أنّ قحطان أبو اليمن كلهم.ويقال: إنه أوّل من تكلم بالعربية، ومعناه من أهل هذا الجيل.الذين هم العرب المستعربة من اليمنية، وإلاّ فقد كان للعرب جيل آخر وهم العرب العاربة، ومنهم تعلم قحطان تلك اللغة العربية ضرورة، ولا يمكن أنّ يتكلم بها من ذات نفسه. وكان بنو قحطان هؤلاء معاصرين لإخوانهم من العرب العاربة، ومظاهرين لهم على أمورهم، ولم يزالوا مجتمعين في مجالات البادية، مبعدين عن رتبة الملك وترفه الذي كان أولئك، فأصبحوا بمنجاة من الهرم الذي يسوق إليه الترف والنضارة، فتشعبت في أرض الفضاء فصائلهم، وتعدّد في جوّ القفر أفخاذهم وعشائرهم، ونما عددهم وكثرت إخوانهم من العمالقة في آخر ذلك الجيل، وزاحموهم بمناكبهم واستجدوا خلق الدولة بما استأنفوه من عزهم.
وكانت الدولة لبني قحطان متصلة فيهم، وكان يعرب بن قحطان من أعاظم ملوك العرب. يقال: انه أول من حيّاه قومه بتحية الملك. قال ابن سعيد: وهو الذي ملك بلاد اليمن وغلب عليها قوم عاد، وغلب العمالقة على الحجاز وولى إخوته على جميع أعمالهم فولّى جرهما على الحجاز، وعاد بن قحطان على الشحر، وحضرموت بن قحطان على جبال الشحر وعمان بن قحطان على بلاد عمان. هكذا ذكر البيهقي.وقال ابن حزم: وعدّ لقحطان عشرة من الولد، وأنه لم يعقب منهم أحد. ثم ذكر ابنين منهم دخلوا في حِمْيَر، ثم ذكر الحرث بن قحطان وقال: فولد فيما يقال له لاسور، وهم رهط حنظلة بن صفوان نبي الرس، والرس ما بين نجران إلى اليمن، ومن حضرموت إلى اليمامة. ثم ذكر يعرب بن قحطان وقال فيهم الحميريّة والعدّاد انتهى. قال ابن سعيد وملك بعد يعرب إبنه يشجب، وقيل إسمه يمن، واستبدّ أعمامه بما في أيديهم من الممالك. وملك بعده إبنه عبد شمس، وقيل عابر ويسمى سبا، لأنه قيل إنه أوّل من سنّ السبي، وبنى مدينة سبا وسد مأرب. وقال صاحب التيجان إنه غزا
الأقطار، وبنى مدينة عين شمس بإقليم مصر، وولّى عليها إبنه بابليون، وكان لسبا من الولد كثير، وأشهرهم حِمْيَر وكهلان اللذان منهما الأمتان العظيمتان من اليمنية أهل الكثرة والملك والعزّ وملك حِمْيَر منهم أعظمه. وكان منهم التبابعة كما يذكر في أخبارهم. وعدّ ابن حزم في ولده زيدان وابنه نجران بن زيدان، وبه سميت البلد.
ولما هلك سبا قام بالملك بعده ابنه حِمْيَر ويعرف بالعرنجج، وقيل هو أول من تتوج بالذهب. ويقال انه ملك خمسين سنة. وكان له من الولد ستة فيما قال السهيلي: واثل ومالك وزيد وعامر وعوف وسعد. وقال أبو محمد بن حزم: الهميسع ومالك وزيد وواثل ومشروح ومعديكرب وأوس ومرّة. وعاش فيما قال السهيلى ثلثمائة سنة، وملك بعده ابنه واثل وتغلب أخوه مالك بن حِمْيَر على عمان، فكانت بينهما حروب. وقال ابن سعيد: أنّ الذي ملك بعد حِمْيَر أخوه كهلان، ومن بعد واثل بن حِمْيَر، ثم من بعد واثل السكسك بن واثل. وكان مالك بن حِمْيَر قد هلك وغلب على عمان بعده ابنه قضاعة، فحاربه السكسك وأخرجه عنها، وملك بعده ابنه يعفر بن السكسك، وخرجت عليه الخوارج، وحاربه مالك بن الحاف بن قضاعة، وطالت الفتنة بينهما وهلك يعفر وخلف ابنه النعمان حملا ويعرف بالمعافر، واستبد عليه من بني حِمْيَر ماران بن عوف بن حِمْيَر ويعرف بذي رياش، وكان صاحب البحرين، فنزل نجران واشتغل بحرب مالك بن الحاف بن قضاعة.ولما كبر النعمان حبس ذا رياش واستبدّ بأمره، وطال عمره وملك بعده ابنه أسجم بن المعافر، فاضطربت أحوال حِمْيَر وصار ملكهم طوائف، إلى أنّ استقر في الرايش وبنيه التبابعة كما نذكره. ويقال انّ بني كهلان تداولوا الملك مع حِمْيَر هؤلاء وملك منهم جبّار بن غالب بن كهلان، وملك أيضا من شعوب قحطان نجران بن زيد بن يعرب بن قحطان، وملك من حِمْيَر هؤلاء، ثم من بني الهميسع بن حِمْيَر أبين بن زهير بن الغوث بن أبين بن الهميسع، وإليه نسب عرب أبين من بلاد اليمن. وملك منهم أيضاً عبد شمس بن واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حِمْيَر. ثم ملك من أعقابه شداد بن المطاط بن عمرو بن ذي هرم بن الصوّان بن عبد شمس، وبعده أخوه لقمان ثم أخوهما ذو شدد، وهدّاد ومداثر، وبعده ابنه الصعب، ويقال انه ذو القرنين. وبعده أخوه الحرث بن ذي شدد، وهو الرائش جدّ الملوك التبابعة. وملك في حِمْيَر أيضا من بني الهميسع من بني عبد شمس هؤلاء، حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. قال أبو المنذر هشام بن الكلبي في كتاب الأنساب، ونقلته من أصل عتيق بخط القاضي المحدّث أبي القاسم بن عبد الرحمن بن حبيش قال: ذكر الكلبى عن رجل من حِمْيَر من ذي الكلاع قال: أقبل قيس يحرق موضعا باليمن، فأبدى عن أزج فدخل فيه، فوجد سريرا عليه رجل ميت وعليه جباب وشي مذهّبة في رأسه تاج، وبين يديه مجحن من ذهب، وفي رأسه ياقوتة حمراء، وإذا لوح مكتوب فيه: بسم الله رب حِمْيَر، أنا حسان بن عمرو والقيل، مات في زمان هيد وماهيد، هلك فيها اثنا عشر ألف قبيل، فكنت آخرهم قبيلا، فابتنيت ذا شعبين ليجيرني من الموت فاخفرني ا هـ . كلامه. وقال الطبريّ: وقيل أنّ أوّل من ملك اليمن من حِمْيَر شمر بن الأملوك، كان لعهد موسى عليه السلام وبني طفّار، وأخرج منها العمالقة، ويقال كان من عمال الفرس على اليمن. انتهى الكلام في أخبار حِمْيَر الأولى والله سبحانه تعالى ولي العون.
خريطة
الخبر عن ملوك التبابعة من حِمْيَر
و أوليتهم باليمن ومصاير أمورهم هؤلاء الملوك من ولد عبد شمس بن واثل بن الغوث باتفاق من النسّابين، وقد مرّ نسبه إلى حِمْيَر، وكانت مدائن ملكهم صنعاء ومأرب على ثلاث مراحل منها. وكان بها السدّ، ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم سدّا ما بين جبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم، وهو الذي يسمى العرم والسكر وهو جمع لا واحد له من لفظه قال الجعدي:
- من سبأ الحاضرين مأرب اذ يبنون من دون سيله العرما
أي السدّ ويقال أنّ الذي بنى السدّ هو حِمْيَر أبو القبائل اليمنية كلها قال الأعشى:
# ففي ذلك للمؤتسي أسوة مأرب غطى عليه العرم
- رخـام بناه لهم حِمـــــــْيَر إذا جاءه من رامه لم يرم
وقيل بناه لقمان الأكبر ابن عاد كما قاله المسعودي، وقال: جعله فرسخاً في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعباً، وقيل وهو الأليق والأصوب أنه من بناء سبا بن يشجب، وأنه ساق إليه سبعين وادياً، ومات قبل إتمامه، فأتمّه حِمْيَر من بعده، وإنّما رجحّناه لأن المباني العظيمة والهياكل الشامخة لا يستقل بها الواحد كما قدّمنا في الكتاب الأوّل. فأقاموا في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن. ودولتهم يومئذ في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن. ودولتهم يومئذ أوفر ما كانت، وأترف وأبذخ وأعلى يداً وأظهر، فلما طغوا وأعرضوا سلط الله عليهم الخلد وهو الجرذ، فنقبه من أسفله فأحجفهم السيل، وأغرق جناتهم، وخربت أرضهم، وتمزق فلكهم وصاروا أحاديث.
وكان هؤلاء التبابعة ملوكاً عدّة في عصور متعاقبة وأحقاب متطاولة، ولم يضبطهم الحصر ولا تقيدت منهم الشوارد. وربما كانوا يتجاوزون ملك اليمن إلى ما بعد عنهم من العراق والهند والمغرب تارة، ويقتصرون على يمنهم أخرى، فاختلفت أحوالهم واتفقت أسماء كثيرة من ملوكهم،ووقع اللبس في نقل أيامهم ودولهم، فلنأت بما صحّ منها متحرّياً جهد الإستطاعة عن طموس من الفكر واقتفاء التقاييد المرجوع إليها، والأصول المعتمد على نقلها وعدم الوقوف على أخبارهم مدونة في كتاب واحد والله المستعان.
قال السهيليّ: معنى تبّع الملك المتبع، وقال صاحب المحكم: التبابعة ملوك اليمن، وأحدهم تبّع لأنهم يتبع بعضهم بعضاً، كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته، وزادوا الباء في التبابعة لارادة النسب. قال الزمخشري: قيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل الأقيال، لأنهم يتقيلون. قال المسعودى: ولم يكونوا يسمون الملك منهم تبعاً حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت ، وقيل حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس، ومن لم يكن له شيء من الأمرين فيسمى ملكاً ولا يقال له تبّع. وأول ملوك التبابعة باتفاق من المؤرخين الحرث الرائش، وإنما سميّ للرائش لأنه راش الناس بالعطاء، واختلف الناس في نسبه بعد اتفاقهم على أنه من ولد واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن غريب بن زهير بن ابين بن الهميسع بن حِمْيَر. فقال ابن إسحق: وأبو المنذر بن الكلبي انّ قيسا بن معاوية بن جشم. فابن اسحق يقول في نسبه إلى سبا الحرث بن عديّ بن صيفي: وابن الكلبيّ يقول الحرث بن قيس بن صيفي. وقال السهيلي هو الحرث بن همال بن ذي سدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن واثل. وجشم جدّ سبا هو ابن عبد شمس. هذا عند المسعودي، وعند بعضهم أنه أخوه، وأنهما معا إبنا واثل. وذكر المسعودي عن عبيد بن شرية الجرهميّ، وقد سأله معاوية عن ملوك اليمن في خبر طويل، ونسب الحرث منهم فقال: هوالحرث بن شدد بن الملطاط بن عمرو. وأمّا عند الطبري فاختلف نسبه في نسب الحرث، فمرّة قال: وبيت ملك التبابعة في سبا الأصغر، ونسبه كما مرّ. وقال في موضع آخر: والحرث بن ذي شدد هو الرائش جدّ الملوك التبابعة، فجعله إلى شدد ولم ينسبه إلى قيس ولا عدىّ من ولد سبا. وكذلك اضطرب أبو محمد بن حزم في نسبه في الجمهرة مرّة إلى الملطاط ومرّة إلى سبا الأصغر، والظاهر أنه تبع في ذلك الطبري والله أعلم. وملك الحرث الرائش فيما قالوا مائة وخمسا وعشرين سنة، وكان يسمّى تبعاً وكان مؤمنا فيما قال السهيليّ. ثم ملك بعده ابنه أبرهة ذو المنار مائة وثمانين سنة. قال المسعوديّ، وقال ابن هشام: أبرهة ذو المنار هو ابن الصعب بن ذي مدا ثر بن الملطاط، وسميّ ذا المنار لأنه رفع المنار ليهتدي به. ثم ملك من بعده أفريقش بن أبرهة مائة وستين سنة. وقال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحرث الرائش، وهو الذي ذهب بقبائل العرب إلى أفريقية وبه سميت، وساق البربر إليها من أرض كنعان مرّ بها عندما غلبهم يوشع وقتلهم، فاحتمل الفل منهم، وساقهم إلى أفريقية فأنزلهم بها، وقتل ملكها جرجير، ويقال إنه الذي سمي البرابرة بهذا الإسم، لأنه لما افتتح المغرب، وسمع رطانتهم قال: ما أكثر بربرتهم فسموا البرابرة، والبربرة في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة، ومنه بربرة الأسد.ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حِمْيَر صنهاجة وكتامة فهم إلى الآن بها، وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعودىّ وابن الكلبى والسهيلي وجميع النسابين.
ثم ملك من بعد أفريقش أخوه العبد بن أبرهة وهو ذو الأذعار عند المسعودي قال: سميّ بذلك لكثرة ذعر الناس من جوره، وملك خمسا وعشرين سنة، وكان على عهد سليمان بن داود وقبله بقليل، وغزا ديار المغرب وسار إليه كيقاوس بن كنعان ملك فارس، فبارزه وانهزم كيقاوس وأسره ذو الأذعار، حتى استنقذه بعد حين من يديه وزيره رستم، زحف إليه بجموع فارس إلى اليمن، وحارب ذا الأذعار فغلبه واستخلص كيقاوس من أسره، كما نذكره في أخبار ملوك فارس. وقال الطبري إنّ ذا الأذعار اسمه عمرو بن ابرهة ذي المنار بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر انتهى. وكان مهلك ذي الأذعار فيما ذكر ابن هشام مسموماً على يد الملكة بلقيس. وملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الأذعار، وهو ذو الصرح، وملك ستا أو عشرا فيما قال المسعودي. وملكت بعده ابنته بلقيس سبع سنين. وقال الطبري: إنّ إسم بلقيس يلقمة بنت اليشرح بن الحرث بن قيس انتهى.ثم غلبهم سليمان عليه السلام على اليمن كما وقع في القرآن، فيقال تزوجها ويقال بل عزلها في التأيم، فتزوجت سدد بن زرعة بن سبا، وأقاموا في ملك سليمان وابنه أربعا وعشرين سنة. ثم قام بملكهم ناشر بن عمرو ذي الأذعار، ويعرف بناشر النعم، لفظين مركبين جعلا اسما واحدا، كذا ضبطه الجر جانى. وقال السهيلي ناشر بن عمرو، ثم قال ويقال ناشر النعم. وفي كتاب السعودى نافس بن عمرو، ولعله تصحيف، ونسبه إلى عمرو ذي الأذعار وليس يتحقق في هذه الأنساب كلها أنها للصلب فإنّ
الآماد، طويلة والأحقاق بعيدة، وقد يكون بين إثنين منهما عدد من الآباء، وقد يكون ملصقاً به. وقال هشام بن الكلبي انّ ملك اليمن صار بعد بلقيس إلى ناشر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له ياسرأنعم، لانعامه عليهم بما جمع من أمرهم وقوي من ملكهم. وزعم أهل اليمن أنه سار غازياً إلى المغرب، فبلغ وادي الرمل ولم يبلغه أحد، ولم يجد فيه مجازاً لكثرة الرمل، وعبر بعض أصحابه فلم يرجعوا، فأمر بصنم من نحاس نصب على شفيرالوادي، وكتب في صدره بالخط المسند هذا الصنم لياسر أنعم الحمير في ليس وراءه مذهب* فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب انتهى. ثم ملك بعد ياسر هذا ابنه شمر مرعش، سمي بذلك لارتعاش كان به، ويقال انه وطىء أرض العراق وفارس وخراسان، وافتتح مدائنها، وخرب مدينة الصغد وراء جيحون ، فقالت العجم: "شمر كنداي " شمر خرّب. وبنى مدينة هنالك فسميت باسمه هذا. وعربته العرب فصار سمرقند. ويقال انه الذي قاتل قباذ ملك الفرس وأسره، وأنه الذي حير الحيرة، وكان ملكه مائة وستين سنة. وذكر بعض الإخبارييّن أنه ملك بلاد الروم، وأنه الذي استعمل عليهم ماهان قيصر فهلك، وملك بعده ابنه دقيوس. وقال السهيلي في شمر مرعش الذي سميت به سمرقند انه شمر بن مالك، ومالك هو الأملوك الذي قيل فيه:
- فنقب عن الأملوك واهتف بذكره وعش دار عزٍ لا يغالبه الدهر
وهذا غلط من السهيلي فإنهم مجمعون على أنّ الأملوك كان لعهد موسى صلوات الله عليه، وشمر، من أعقاب ذي الأذعار الذي كان على عهد سليمان، فلا يصح ذلك إلا أنّ يكون شمر أبرهة، ويكون أول دولة التبابعة.
ثم ملك على التبابعة بعد شمر مرعش تبّع الأقرن واسمه زيد.(قال السهيلي) وهو ابن شمر مرعش، وقال الطبريّ انه ابن عمرو ذي الأذعار. وقال السهيلي إنما الأقرن لشامة كانت في قرنه، وملك ثلاثاً وخمسين سنة. وقال المسعودي ثلاثا وستين. ثم ملك من بعده ابنه ملكيكرب، وكان مضعّفاً ولم يغز قط إلى أنّ مات، وملك بعده ابنه تبان أسعد أبو كرب، ويقال هو تبّع الآخر، وهو المشهور من ملوك التبابعة. وعند الطبرى أنّ الذي بعد ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار تبع الأقرن أخوه. ثم بعد تبع الأقرن شمر مرعش بن ياسر ينعم، ثم من بعده تبع الأصغر، وهو تبان أسعد أبو كرب، هذا هو تبع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وقال الطبريّ: ويقال له الرائد، وكان على عهد يستاسب وحافده أردشير يمن ابن ابنه أسفنديار من ملوك الفرس.
وأنه شخص من اليمن غازيا ومرّ بالحيرة فتحّير عسكره هنالك فسميت الحيرة،وخلف قوماً من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فأقاموا هنالك وبنوا الإطام. واجتمع إليهم ناس من طيرة وكلب والسكون وأياد والحرث بن كعب. ثم توجه الانبار ثم الموصل ثم أذربيجان، ولقي الترك فهزمهم وقتل وسبى، ثم رجع إلى اليمن وهابته الملوك، وهادنه ملوك الهند، ثم رجع لغزو الترك، وبعث إبنه حسّان إلى الصغد وإبنه يعفر إلى الروم، وابن أخيه شمر ذي الجناح إلى الفرس، وان شمر لقي كيقباذ ملك الفرس فهزمه، وملك سمرقند وقتله، وجاز إلى الصين فوجد أخاه حسّان قد سبقه إليها، فأثخنا في القتل والسبي، وانصرفا بما معهما من الغنائم إلى أبيهما.وبعث ابنه يعفر إلى القسطنطينيّة فتلقوه بالجزية والأتاوة، فسار إلى رومة، وحصرها، ووقع الطاعون في عسكره فاستضعفهم الروم ووثبوا عليهم فقتلوهم، ولم يفلت منهم أحد. ثم رجع إلى اليمن، ويقال أنه ترك ببلاد الصين قوما من حِمْيَر وأنهم بها لهذا العهد، وأنه ترك ضعفاء الناس بظاهر الكوفة، فتحيروا هنالك وأقاموا معهم من كل قبائل العرب.وقال ابن إسحق: إنّ الذي سار إلى المشرق من التبابعة تّبع الآخر، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد الأقرن بن عمرو ذي الأذعار، وتبان أسعد هو حسان تبع، وهو- فيما يقال- أول من كسا الكعبة. وذكر ابن إسحق الملاء والوصائل، وأوصى ولاته من جرهم بتطهيرها، وجعل لها باباً ومفتاحاً. وذكر ابن إسحق أنه أخذ بدين اليهودية. وذكر في سبب تهوده أنه لما غزا إلى المشرق مرّ بالمدينة يثرب، فملكها وخلف ابنه فيهم فعدوا عليه وقتلوه غيلة. ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة من بني النجار. فلما أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة مجمعا على خرابها، فجمع هذا الحي من أبناء قيلة لقتاله، فقاتلهم. وبينما هم على ذلك جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة وقالا له: لا تفعل ! فإنك لن تقدر، وأنّها مهاجر نبي قرشي يخرج آخر الزمان، فتكون قراراً له. وانه أعجب بهما واتبعهما على دينهما ثم مضى لوجهه. ولقبه دون مكة نفر من هُذيل وأغروه بمال الكعبة وما فيها من الجواهر والكنوز، فنهاه الحبران عن ذلك وقالا له: إنما أراد هؤلاء هلاكك، فقتل النفر من الهذليين وقدم مكة، فأمره الحبران بالطواف بهما والخضوع، ثم كساها كما تقدّم. وأمر ولاتها من
جرهم بتطهيرها من الدماء والحيض وسائر النجاسات، وجعل لها باباً ومفتاحاً. ثم سارإلى اليمن، وقد ذكر قومه ما أخذ به من دين اليهودية، وكانوا يعبدون الأوثان، فتعرضوا لمنعه ثم حاكموه إلى النار التي كانوا يحاكمون إليها فتأكل الظالم وتدع المظلوم. وجاؤا بأوثانهم، وخرج الحبران متقلدين المصاحف، ودخل الحميريون فأكلتهم وأوثانهم. وخرجا منها ترشح وجوههم وجباههم عرقاً. فآمنت حِمْيَر عند ذلك وأجمعوا على اتباع اليهودية.ونقل السهيليّ عن ابن قتيبة في هذه الحكاية: أنّ غزاة تبع هذه إنما هي استصراخة أبناء قيلة على اليهود، فإنهم كانوا نزلوا مع اليهود حين أخرجوهم من اليمن على شروط، فنقضت عليهم اليهود، فاستغاثوا بتبّع، فعند ذلك قدمها. وقد قيل: انّ الذي استصرخه أبناء قيلة على اليهود إنما هو أبو جبلة من ملوك غسان بالشام، جاء به مالك بن عجلان فقتل اليهود بالمدينة. وكان من الخزرج كما نذكر بعد. ويعضد هذا أنّ مالك بن عجلان بعيد عن عهد تبع بكثير. يقال أنه كان قبل الإسلام بسبعمائة سنة ذكره ابن قتيبة. وحكى المسعودي في أخبار تبع هذا أنّ أسعد أبا كرب سار في الأرض ووطأ الممالك وذلّلها، ووطىء أرض العراق في ملك الطوائف، وعميد الطوائف، يومئذ خرداد بن سابور، فلقي ملكاً من ملوك الطوائف اسمه قبّاذ، وليس قباذ بن فيروز، فانهزم قباذ وملك أبو كرب العراق والشام والحجاز وفي ذلك يقول تبع أبو كرب:
- إذا حسينا جيادنا من دماء ثم سرنا بها مسيرا بعيدا
- واستبحنا بالخيل خيل قبَّاذ وابن إقليد جاءنا مصفودا
# وكسونا البيت الذي حرم الله مــــلا منضداً وبــرودا # وأقمنا به من الشهر عشرا وجعلنا لبـــــــــابـــه إقليــدا
(وقال أيضاً)
- لست بالتبع اليماني أنّ لم تركض الخيل في سواد العراق
# أو تؤدي ربيعة الخرج قسراً لم يعقها عوائـــــق العّواق
وقد كانت لكندة معه وقائع وحروب حتى غلبهم حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة من ملوك كهلان، فدانوا له ورجع أبو كرب إلى اليمن فقتله حِمْيَر، وكان ملكه ثلثمائة وعشرين سنة.
ثم ملك من بعد أبي كرب هذا فيما قال ابن إسحق، ربيعة بن نصر بن الحرث بن نمارة بن لخم، ولخم أخو جذام. وقال ابن هشام: ويقال ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر. كان أبو حارثة تخلف باليمن بعد خروج أبيه، وأقام ربيعة بن نصر ملكا على اليمن بعد هؤلاء التبابعة الذين تقدم ذكرهم، ووقع له شان الرؤيا المشهورة. قال الطبريُّ عن ابن إسحق، عن بعض أهل العلم، أنّ ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته، وفظع بها وبعث في أهل مملكته في الكهنة والسحرة والمنجمين وأهل العيافة، فأشاروا عليه باستحضار الكاهنين المشهورين لذلك العهد في إياد وغسان وهما شق وسطيح.
قال الطبري: شق هو أبو صعب شكر بن وهب بن أمول بن يزيد بن قيس عبقر بن أنمار. وسطيح هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذيب بن عدي بن مازن بن غسان ولوقوع اسم ذيب في نسبه كان يعرف بالذيبيّ. فأحضرهما وقص عليهما رؤياه، وأخبراه بتأويلها أنّ الحبشة يملكون بلاد اليمن من بعد ربيعة وقحطان بسبعين سنة، ثم يخرج عليهما ابن ذي يزن من عدن، فيخرجهم ويملك عليهم اليمن ثم تكون النبوة في قريش في بني غالب بن فهر. ووقع في نفس ربيعة أنّ الذي حدثه الكاهنان من أ مر الحبشة كائن، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلح، وكتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرّداذ، فأسكنهم الحيرة. ومن بيت ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. قال ابن إسحق: ولما هلك ربيعة بن نصر اجتمع ملك اليمن لحسان بن تبان أسعد أبي كرب. قال السهيلي: وهو الذي استباح طسماً كما ذكرناه، وبعث على المقدمة عبد كهلان بن يثرب بن ذي حرب بن حارث بن ملك بن عبدان بن حجر بن ذي رعين. واسم ذي رعين يريم، وهو ابن زيد الجمهور، وقد مر نسبه إلى سبا الأصغر. وقال السهيلي: في أيام حسان تبع كان خروج عمرو بن مزيقيا من اليمن بالأزد، وهو غلط من السهيلي لأن أبا كرب أباه إنما غزا المدينة فيما هو صريخاً لأْوس على اليهود، وهو من غسان ونسبه إلى مزيقيا. فعلي هذا يكون الذي استصرخه الأوس والخزرج على اليهود إنما هو من ملوك غسان كما يأتى في أخبارهم. قال ابن إسحق: ولما ملك حسّان بن تبع بن تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أنّ يطأ بهم أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة تفعل، فكرهت حِمْيَر
وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجوع إلى بلادهم، فكلموا أخاً له كان معهم في العسكر يقال له عمرو، وقالوا له اقتلْ أخاك نملكك وترجع إلينا إلى بلادنا، فتابعهم على ذلك وخالفه ذورُعْين في ذلك، ونهى عمراً عن ذلك فلم يقبل، وكتب في صفيحة وأودعها عنده:
- ألا من يشتري سهرا بنوم سعيد من يبيت قرير عين
# فإما حميرغدرت وخـــانت فمعذرة الإله لذي رعين
ثم قتل عمرو أخاه بعرصة لخم وهي رحبة مالك بن طوق، ورجع حِمْيَر إلى اليمن فمنع النوم عليه السهر، وأجهده ذلك فشكى إلى الأطباء عدم نومه والكهان والعرّافين، فقالوا ما قتل رجل أخاه إلا سُلّط عليه السهر، فجعل يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه، ولم يغنه ذلك شيئاً وهمّ بذي رعين فذكره شعره فكانت فيه معذرته ونجاته. وكان عمرو هذا يسمَّى موثبان. قال الطبريُّ: لوثوبه على أخيه. وقال ابن قتيبة: لقلَّة غزوه ولزومه الوثب على الفراش. وهلك عمرو هذا لثلاث وستين سنة من ملكه.
قال الجرجاني والطبريّ: ثم مَرجَ أمر حِمْيَر من بعده وتفرقوا. وكان ولد حسّان تبع صغاراً لا يصلحون للملك، وكان أكبرهم قد استهوته الجنُّ، فوثب على ملك التبابعة عند كلال موثبا فملك عليهم أربعاً وتسعين سنة، وكان يدين بالنصرانية، ثم رجع ابن حسَّان تبَّع من استهواء الجن، فملك على التبابعة. قال الجرجاني: ملك ثلاثا وسبعين سنة، وهو تبع الأصغر ذو المغازي والآثار البعيدة.
قال الطبريُّ: وكان أبوه حسان تبع قد زوج بنته من عمرو بن حجر آكل المرارا ابن عمرو بن معاوية من ملوك كندة، فولدت له ابنه الحرث بن عمرو، فكان ابن تبع بن حسَّان هذا فبعثه على بلاد معدّ، وملك على العرب بالحيرة مكان آل نصر بن ربيعة. قال وانعقد الصلح بينه وبين كيقباد ملك فارس، على أنّ يكون الفرات حدّا بينهم. ثم أغارت العرب بشرقي الفرات، فعاتبه على ذلك، فقال لا أقدر على ضبط العرب إلا بالمال والجند، فأقطعه بلاداً من السواد، وكتب الحرث إلى تبع يغريه بملك الفرس، وتضعيف أمر كيقباد، فغزاهم. وقيل أنَّ الذي فعل ذلك هو عمرو بن حجر أبوه الذي ولاه تبع أبو كرب، وأنه أغراه بالفرس واستقدمه إلى الحيرة، فبعث عساكره مع ولده الثلاثة إلى الصغد والصين والروم، وقد تقدّم ذكر ذلك. قال الجرجاني: ثم ملك بعد تبع بن حسَّان تبَّع أخوه لأمه وهو مُدَّثر بن عبد كلال، فملك إحدى وأربعين سنة، ثم ملك من بعده ابنه وليعة بن مُدَّثر سبعاً وثلاثين سنة، ثم ملك من بعده أبرهة بن الصبّاح بن لهيعة بن شيبة بن مدّثر قيلف بن يعلق بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح الحرث بن مالك، أخوذي رعين، وكعب أبو سبا الأصغر. قال الجرجاني: وبعض الناس يزعم أنّ أبرهة بن الصباح إنما ملك تهامة فقط. قال: ثم ملك من بعده حسان بن عمرو بن تبع بن ملكيكرب سبعاً وخمسين سنة. ثم ملك لخْيَتَعة ولم يكن من أهل بيت المملكة. قال ابن إسحق: ولما ملك لخيتعة غلب عليهم، وقتل خيارهم، وعبث برجالات بيوت المملكة منهم، قيل انه كان ينكح ولدان حِمْيَر، يريد بذلك أنّ لا يملكوا عليهم، وكانوا لا يملكون عليهم من نكح، نقله ابن إسحق. وقال أقام عليهم مملكا سبعا وعشرين سنة، ثم وثب عليه ذو نواس زرعة تبع بن تبان أسعد أبي كرب، وهو حسّان أبي ذي معاهر فيما قال ابن إسحق، وكان صبياً حين قتل حسان. ثم شب غلاما جميلا ذا هيئة وفضل ووضاءة، ففتك بلخيتعة في خلوة أراده فيها على مثل فعلاته القبيحة، وعلمت به حِمْيَر وقبائل اليمن فملكوه واجتمعوا عليه، وجدّد ملك التبابعة. وتسمىّ يوسف وتعصب لدين اليهودية، فكانت مدّته- فيما قال ابن إسحق- ثمانية وستين سنة. إلى هنا ا هـ . ترتيب أبي الحسن الجرجاني. ثم قال: وقال آخرون ملك بعد أفريقش بن أبرهة قيس بن صيفي، وبعده الحرث بن قيس بن مياس، ثم ماء السمّاء بن ممروه، ثم شرحبيل وهو يصحب بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف، بن علي بن الهمّال بن المنثلم بن جهيم، ثم الصعب بن قرين بن الهمال بن المنثلم ثم زيد بن الهمّال، ثم ياسر بن الحرث بن عمرو بن يعفر، ثم زهير بن عبد شمس أحد بني صيفي بن سبا الأصغر، وكان فاسقا مجرما يفتض أبكار حِمْيَر، حتى نشأت بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي، فقتلته غيلة، ثم ملكت. ولما أخذها سليمان ملك لمك بن شرحبيل، ثم ملك ذو وداع فقتله ملكيكرب بن تبع بن الأقرن وهو أبو ملك، ثم هلك. فملك أسعد بن قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبا وهو أبو كرب، ثم ملك حسّان ابنه فقتله عمرو أخوه، ووقع الاختلاف في حِمْيَر. ووثب على عمر لخيتعة دليل دراسة الحالة ذو الشناتر وملك، ثم قتله ذو نواس بن تبع وملك . ا . هـ كلام الجرجاني.
وزعم ابن سعيد ونقله من كتب مؤرخي المشرق: أنّ الحرث الرايش هو ابن ذي شدد ويعرف بذي مداثر، وأنّ الذي ملك بعده ابنه الصعب وهو ذو القرنين، ثم ابنه أبرهة بن الصعب وهو ذو المنار، ثم العبد ذو الأشفارا بن أبرهة بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة، ثم قتلته بلقيس. قال في التيجان: أنّ حِمْيَر خلعوه وملكوا شرحبيل ابن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل وكان بمأرب، فجاز به ذو الأذعار وحارب ابنه الهدْهاد بن شرحبيل من بعده، وابنته بلقيس بنت الهدْهاد الملكة من بعده، فصالحته على التزويج وقتلته، وغلبها سليمان عليه السلام على اليمن إلى أنّ هلك وابنه رَحَبْعَم من بعده. واجتمعت حِمْيَر من بعده على مالك بن عمرو ابن يعفر بن عمرو بن حِمْيَر بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حِمْيَر. وملك بعده على مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن حِمْيَر بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حِمْيَر. وملك بعده ابنه شَمِر يَرْعَش، وهو الذي خرّب سَمَرْقَنْد، وملك بعده ابنه صيفي بن شمر على اليمن، وسار أخوه أفريقش بن شمر إلى أفريقية بالبربر وكنعان فملكها. ثم انتقل الملك إلى كَهْلان وقام به عمران بن عامر ماء السماء بن حارثة أمرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وكان كاهنا. ولما احتضر عهد إلى أخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا وأعلمه بخراب سدْ مأرب وهلاك اليمن بالسيل، فخرج من اليمن بقومه. وأصاب اليمن سيل العرم فلم ينتظم لبني قحطان بيعته، واستولى على قصر مأرب من بعده ربيعة بن نصر. ثم رأى رويا ونذر بملك الحبشة، وبعث ولده إلى العراق، وكتب إلى سابور الأشعاني فأسكنهم الحيرة، وكثرت الخوارج باليمن. فاجتمعت حِمْيَر على أنّ تكون لأبي كرب أسعد بن عدي بن صيفي، فخرج من ظفار، وغلب ملوك الطوائف باليمن ودوخ جزيرة العرب، وحاصر الأوس والخزرج بالمدينة، وحمل حِمْيَر على اليهودية، وطالت مدته وقتلته حِمْيَر. وملك بعده ابنه حسَّان الذي أباد طسماً ثم قتله أخوه عمرو بمداخلة حِمْيَر، وهلك عمرو فملك بعده أخوه لأبيه عبد كلال بن منوب، وفي أيامه خلع سابور أكتاف العرب، وملك بعده تبع بن حسان، وهو الذي بعث ابن أخيه الحرث بن عمرو الكندي إلى أرض بني مَعَدّ بن عدنان بالحجاز فملك عليهم. وملك بعده مرثد بن عبد كلال ثم ابنه وليعة، وكثرت الخوارج عليه، وغلب أبرهة الصبَّاح على تهامة اليمن. وكان في ظفَّار ذو شناتر، وقتله ذو نواس كما مر. هذا ترتيب ابن سعيد في ملوكهم.
وعند المسعودي أنه لما هلك كليكرب بن تبع المعروف بالأقرن، وقال هو الذي سار قومه نحو خراسان والصغد والصين. وولي بعده حسان بن تبَّع فاستقام له الأمر خمسا وعشرين سنة، ثم قتله أخوه عمرو بن تبع وملك أربعا وستين سنة، ثم تبع أبو كرب وهو الذي غزا يثرب وكسا الكعبة بعد أنّ أراد هدمها، ومنعه الحبران من اليهود وتهوّد وملك مائة سنة. ثم بعده عمرو بن تبعّ أبي كرب وخلع، وملكوا مرثد بن عبد كلال. واتصلت الفتن باليمن أربعين سنة، ومن بعده وليعة بن مَرْثِد تسعا وثلاثين سنة. ومن بعده أبرهة بن الصبَّاح بن وليعة بن مرثد، ويدعى شيبة الحمد ثلاثا وتسعين سنة. وكانت له سير وقصص، ومن بعده عمرو بن قيفان تسع عشرة سنة، ومن بعده لخيتعة ذو شناتر ومن بعده ذو نواس.
وأمّا ابن الكَلْبيّ والطبريّ وابن حَزْم، فعندهم أنّ تبَّع أسْعَد أبي كَرب هو ابن كليكرب ابن زَيْد الأَقْرَن ابن عمرو بن ذي الأذْعَار بن أبْرهَة ذي الَمنَار الرَايش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر. وقال السُهَيْلي: انه أسقط أسماء كثيرة وملوكا. وقال ابن الكلبيّ وابن حزم: ومن ملوك التبابعة أفريقش بن صيفي، ومنهم شمر يرعش ابن ياسر يَنْعُم بن عمرو ذي الأذعار، ومنهم بَلْقِيس ابنة اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث الرايش بن قيس بن صيفي. ثم قال ابن حزم بعد ذكر هؤلاء من التبابعة: وفي أنسابهم اختلاف وتخليط وتقديم وتأخير ونقصان وزيادة. ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم إلاَّ طرف يسير لاختلاف رواتهم وبعد العهد ا.هـ. وقال الطبريُّ: لم يكن لملوك اليمن نظام، وإنما كان الرئيس منهم يكون ملكا على مخلافه لا يتجاوزه، وإن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير أنّ يرث ذلك الملك عن آبائه ولا يرثه أبناؤه عنه، إنما هو شأن شداد المتلصّصة، يغيرون على النواحي باستغفال أهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات، وكذلك كان أمر ملوك اليمن، يخرج أحدهم من مخلافه بعض الأحيان ويبعد في الغزو والإغارة فيصيب ما يمر به، ثم يتشمّر عند خوف الطلب زاحفا إلى مكانه من غير أنّ يدين له أحد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي إليه خراجا ا.هـ. وأما الخبر عن ذي نواس وما بعده فاتفق أهل الأخبار كلهم أنّ ذا نواس هو ابن تبان أسعد واسمه زرعة، وأنه لما تغلب على ملك آبائه التبابعة تسمى يوسف وتعصب لدين اليهودية، وحمل عليه قبائل اليمن، وأراد أهل نَجرْان عليها وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية، ولهم فضل في الدين واستقامة. وكان رئيسهم في ذلك يسمَّى عبد الله بن الثَامِر، وكان هذا الدين وقع إليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين من رجل سقط لهم من ملك التبعيّة يقال له ميمون، نزل فيهم وكان مجتهداً في العبادة مجاب الدعوة، وظهرت على يده الكرامات في شفاء المرضى، وكان يطلب الخفاء عن الناس جهده. وتبعه على دينه رجل من أهل الشام إسمه صالح، وخرجا فارَّين بأنفسهما، فلما وطئا بلاد العرب اختطفتهما سيارة فباعوهما بنجران، وهم يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم، ويعلقون عليها في الأعياد من حليهم وثيابهم، ويعكفون عليها أياماً. وافترقا في الدير على رجلين من أهل نجران، وأعجب سيد ميمون صلاته ودينه، وسأله عن شانه، فدعاه إلى الدين وعبادة الله، وأنّ عبادة النخلة باطل، وأنه لو دعا معبوده عليها هلكت. فقال له سيده أنّ فعلت دخلنا في دينك: فدعا ميمون فأرسل الله ريحاً فجعفت النخلة من أصلها، وأطبق أهل نجران على أتباع دين عيسى صلوات الله عليه. ومن رواية ابن إسحق أنّ ميمون نزل بقرية من قرى نجران، وكان يمرّ به غلمان أهل نجران، يتعلمون من ساحر كان بتلك القرية، وفي أولئك الغلمان عبد الله بن الثامر، فكان يجلس إلى ميمون ويسمع منه فآمَنَ به واتبعه وحصل على معرفة اسم الله الأعظم، فكان مجاب الدعوة لذلك، واتبعه الناس على دينه، وأنكر عليه ملك نجران وهمّ بقتله. فقال له: لن تطيق حمى تؤمن وتوحد فآمَنَ، ثم قتله فهلك ذلك الملك مكانه. واجتمع أهل نجران
على دين عبد الله بن الثامر، وأقام أهل نجران على دين عيسى صلوات الله عليه حتى دخلت عليهم في دينهم الأحداث. ودعاهم ذو نواس إلى دين اليهودية فأبوا. فسار إليهم في أهل اليمن وعرض عليهم القتل، فلم يزدهم إلاّ جماحاً، فحدّد لهم الأخاديد، وقتل وحرق، حتى أهلك منهم- فيما قال ابن إسحق- عشرين ألفا أو يزيدون. وأفلت منهم رجل من سبا يقال له دَوْس ذو ثُعْلَبَان، فسلك الرمل على فرسه وأعجزهم.
مَلَكُ الحبشةُ الَيمَنَ
قال هشام بن محمد الكلبيّ، في سبب غزو ذي نواس أهل نجْران: أنّ يهودياً كان بنجران، فعدا أهلها على إبنين له، فقتلوهما ظلماً فرفع أمره إلى ذي نواس. وتوسل له باليهودية واستنصره على أهل نجران وهم نصارى، فحمى له ولدينه وغزاهم. ولما أفلت دَوْس ذو ثُعْلَبَان، فقدم على قيصر صاحب الروم يستنصره على ذي نُواس، وأعلمه بما ركب منهم وأراه الإنجيل قد احترق بعضه بالنار، فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره ويطلب بثاره، وبعث معه النجاشي سبعين ألفاً من الحبشة. وقيل: أنّ صريخ دوس كان أولا للنجاشي، وأنه اعتذر إليه بقلة السفن لركوب البحر. وكتب إلى قيصر وبعث إليه بالإنجيل المحرق، فجاءته السفن وأجاز فيها العساكر من الحبشة، وأمر عليهم أرباطاً رجلاً منهم وعهد إليه بقتلهم وسبيهم وخراب بلادهم، فخرج أرباط لذلك ومعه أبرهة الأشرم، فركبوا البحر ونزلوا ساحل اليمن. وجمع ذو نواس حِمْيَر ومن أطاعه من أهل اليمن على افتراق واختلاف في الأهواء. فلم يكن كبير حرب، وانهزموا. فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه بفرسه إلى البحر ثم ضربه، فدخل فيه وخاض ضحضاح البحر، ثم أفضى به إلى غمرة فأقحمه فيه فكان آخر العهد به. ووطىء أرباط اليمن بالحبشة وبعث إلى النجاشي بثلث السبي كما عهد له، ثم أقام بها فضبطها وأذل رجالات حِمْيَر، وهدم حصون الملك بها مثل سلجيق وسون وغمدان. وقال ذو يزن يرثي حِمْيَر وقصور الملك باليمن:
- هونك ليس يرد الدمع ما فاتا لا تهلكن أسفاً إثر من ماتا # أبعد سون فلا عين ولا أثر وبعد سلجيق يبني الناس أبياتا وفي رواية هشام بن محمد الكلبي أنّ السفن قدمت على النجاشي من قيصر، فحمل فيها الحبش ونزلوا بساحل اليمن، واستجاش ذو نواس بأقيال حِمْيَر فامتنعوا من صريخه وقالوا: كل أحد يقاتل عن ناحيته. فالقى ذو نواس باليد ولم يكن قتال. وأنه سار بهم إلى صنعاء وبعث عماله في النواحي لقبض الأموال، وعهد بقتلهم في كل ناحية فقتلوا، وبلغ ذلك النجاشي فجهز إلى اليمن سبعين ألفاً وعليهم أبرهة فغلبوا صنعاء، وهرب ذو نواس واعترض البحر، فكان آخر العهد به. وملك أبرهة اليمن ولم يبعث إلى النجاشي بشيء، وذكر له أنه خلع طاعته. فوجه جيشاً من أصحابه عليهم أرباط. ولما حل بساحته دعاه إلى النصفة والنزال، فتبارزا وخدعه أبرهة وأكمن عبداً له في موضع المبارزة، فلما التقيا ضربه أرباط فشرم أنفه وسمي الأشرم. وخالفه العبد من الكمين فضرب أرباطاً فأنفذه، وبلغ النجاشي خبر أرباط فحلف ليريقن دمه. ثم كتب إليه أبرهة واسترضاه فرضي عليه وأقره على عمله.
وقال ابن إسحق إنّ أرباط هو الذي قدم اليمن أولاً وملكه، وانتقض عليه أبرهة من بعد ذلك فكان ما ذكرنا من الحرب بينهما، وقتل أرباط. وغضب النجاشي لذلك، ثم أرضاه واستبد أبرهة بملك اليمن. ويقال أنّ الحبشة لما ملكوا اليمن أمر أبرهة بن الصباح وأقاموا في خدمته قاله ابن سلام. وقيل: أنّ ملك حِمْيَر، لما انقرض أمرا التبابعة، صار متفرقا في الأذواء من ولد زيد الجمهور، وقام بملك اليمن منهم ذو يزن من ولد مالك بن زيد. قال ابن حزم: واسمه علس بن زيد بن الحرث بن زيد الجمهور. وقال ابن الكلبي وأبو الفرح الأصبهاني: هو علس بن الحرث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور. قالوا كلهم: ولما ملك ذو يزن بعد مهلك ذي نواس واستبد أمر الحبشة على أهل اليمن، طالبوهم بدم النصارى الذين في أهل نجران، فساروا إليه وعليهم أرباط، ولقيهم فيمن معه فانهزم واعترض البحر، فأقحم فرسه وغرق فهلك بعد ذي نواس، وولى ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه، وهو الذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد، وكان من عقب ذي يزن أيضاً من هؤلاء الأذواء علقمة ذو قيفال بن شراحيل بن ذي يزن، وملك مدينة الهون فقتله أهلها من همدان ا.هـ . ولما استقر أبرهة في ملك اليمن أساء السير في حِمْيَر وروسائهم، وبعث في ريحانة بنت علقمة بن
مالك بن زيد بن كهلان، فانتزعها من زوجها أبي مرة بن ذي يزن، وقد كانت ولدت منه ابنه معديكرب. وهرب أبو مرة ولحق بأطراف اليمن، واصطفى أبرهة ريحانة فولدت له مسروق بن أبرهة وأخته بسباسة. وكان لأبرهة غلام يسمى عمددة وكان قد ولاه الكثير من أمره، فكان يفعل الأفاعيل حتى عدا عليه رجل لمن حِمْيَر أو خثعم فقتله وكان حليماً فأهدر دمه.
غزو الحبشة الكعبة ثم إنّ أبرهة بنى كنيسة بصنعاء تسمى القليس لم يرمثلها، وكتب إلى النجاشي بذلك وإلى قيصر في الصناع والرخام والفسيفساء، وقال: لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. وتحدث العرب بذلك، فغضب رجل من السادة أحد بني فقيم ثم أحد بني مالك، وخرج حتى أتى القليس، فقعد فيها ولحق بأرضه. وبلغ أبرهة، وقيل له: الرجل من البيت الذي يحج إليه العرب، فحلف ليسيرن إليه يهدمه. ثم بعث في الناس يدعوهم إلى حج القليس فضرب الداعي في بلاد كنانة بسهم فقتل. وأجمع أبرهة على غزو البيت وهدمه، فخرج سائرا بالحبشة ومعه الفيل، فلقيه ذو نفر الحميري وقاتله، فهزمه وأسره واستبقاه دليلا في أرض العرب. قال ابن إسحق: ولما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فأتوه بالطاعة وبعثوا معه أبا رغال دليلا فأنزله المغمس بين الطائف ومكة، فهلك هنالك ورجمت العرب قبره من بعد ذلك قال جرير:
- إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترمون قبر أبي رغال
ثم بعث أبرهة خيلا من الحبشة فانتهوا إلى مكة واستاقوا أموال أهلها، وفيها مائتا بعير لعبد المطلب، وهو يومئذ سيد قريش، فهموا بقتاله ثم علموا أنّ لا طاقة لهم به فاقصروا. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة يعلمهم بمقصده من هدم البيت، ويؤذنهم بالحرب أنّ اعترضوا دون ذلك. وأخبر عبد المطلب بذلك عن أبرهة فقال له: والله ما نريد حربه. وهذا بيت الله، فإن يمنعه فهوبيته، وأن يخلي عنه فما لنا نحن من دافع. ثم انطلق به إلي أبرهة ومر بذي نفر وهو أسير فبعث معه إلى سائس الفيل، وكان صديقا لذي نفر فاستأذن له على أبرهة، فلما رآه أجله ونزل عن سريره فجلس معه على بساطه، وسأله عبد المطلب في الإبل. فقال له أبرهة: هلا
سألت في البيت الذي هو دينك ودين آبائك وتركت البعير؟ فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب سيمنعه، فرد عليه إبله. قال الطبري: وكان فيما زعموا قد ذهب مع عبد المطلب عمرو بن لعابة بن عدي بن الرمل سيد كنانة، وخويلد بن واثلة سيد هذيل، وعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة، ويرجع عن هدم البيت، فأبى عليهم فانصرفوا. وجاء عبد المطلب وأمر قريشا بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب للتحرز فيها. ثم قام عند الكعبة ممسكاً بحلقة الباب ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه، وعبد المطلب ينشد ويقول:
- لا هُمَّ أنّ العبــــــد يمنع رحلة فامنع رحالك
- لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبـــــــــداً محالك
- وانصر على آل الصليب وعــــــابديـــــــه اليوم آلك
في أبيات معروفة.
ثم أرسل الله عليهم الطير الأبابيل من البحر، ترميهم بالحجارة فلا تصيب أحداً منهم إلا هلك مكانه، وأصابه في موضع الحجر من جسده كالجدري والحصبة فهلك. وأصيب أبرهة في جسده بمثل ذلك، وسقطت أعضاؤه عضواً عضواً وبعثوا بالفيل ليقدم على مكة فربض ولم يتحرك فنجا، وأقدم فيل آخر فحصب وبعث الله سيلا مجحفا فذهب بهم وألقاهم في البحر. ورجع أبرهة إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فانصدع صدره عن قلبه ومات. ولما هلك أبرهة ملك مكانه ابنه يكسوم وبه كان يكنى، واستفحل ملكه وأذل حِمْيَر وقبائل اليمن، ووطئتهم الحبشة فقتلوا رجالهم، ونكحوا نساءهم، واستخدموا أبناءهم. ثم هلك يكسوم بن أبرهة فملك مكانه أخوه مسروق وساءت سيرته، وكثر عسف الحبشة باليمن، فخرج ابن ذي يزن واستجاش عليهم بكسرى، وقدم اليمن بعساكر الفرس، وقتل مسروقا وذهب أمر الحبشة، بعد أنّ توارث ملك اليمن منهم أربعة في اثنتين وسبعين سنة، أولهم أرباط، ثم أبرهة، ثم ابنه يكسوم ثم أخوه مسروق بن أبرهة.
قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس علي اليمن
ولما طال البلاء من الحبشة على أهل اليمن، خرج سيف بن ذي يزن الحميري من الأذواء بقية ذلك السلف، وعقب أولئك الملوك وديال الدولة المفوض للخمود. وقد ثان أبرهة انتزع منه زوجته ريحانة وبعد أنّ ولدت منه ابنه معد يكرب كما مر. نسبه فيما قال الكلبي: سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور. هكذا نسبه ابن الكلبي، ومالك بن زيد هو أبو الأذواء. فخرج سيف وقدم على قيصر ملك الروم وشكى إليه أمر الحبشة، وطلب أنّ يخرجهم ويبعث على اليمن من شاء من الروم، فلم يسعفه عن الحبشة وقال: الحبشة على دين النصارى. فرجع إلى كسرى وقدم الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة وما يليها من أرض العرب، فشكى إليه واستمهله النعمان إلى حين وفادته على كسرى، وأوفد معه وسأله النصر على الحبشة، وأن يكون ملك اليمن له. فقال: بعدت أرضك عن أرضنا أو هي قليلة الخير، إنما هي شاء وبعير، ولا حاجة لنا بذلك، ثم كساه وأجازه، فنثر دنانير الإجازة ونهبها الناس يوهم الغنى. عنها بما في أرضه فأنكر عليه كسرى ذلك، فقال: جبال أرضي ذهب وفضة، وإنما جئت لتمنعني من الظلم، فرغب كسرى في ذلك وأمهله للنظر في أمره، وشاور أهل دولته. فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه، فإن هلكوا كان الذي أردت بهم، وإن ملكوا كان ملكاً ازددته إلى ملكك، وأحصوا ثمانمائة، وقدم عليهم أفضلهم وأعظمهم بيتا وأكبرهم نسباً وكان وهزر الديلمي. وعند المسعودي وهشام بن محمد السهيلي: أنّ كسرى وعده بالنصر ولم ينصره، وشغل بحرب الروم، وهلك سيف بن ذي يزن عنده وكبر ابنه ابن ريحانة وهو معديكرب وعرفته أمه بأبيه، فخرج ووفد على كسرى يستنجزه في النصرة التي وعد بها أباه. وقال له: أنا ابن الشيخ اليمني الذي وعدته، فوهبه الدنانير ونثرها إلى آخر القصة. وقيل أنّ الذي وفد على كسرى وأباد الحبشة هو النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن ذي يزن. قالوا: ولما كتبت الفرس مع وهزر وكانوا ثمانمائة، وقال ابن قتيبة كانوا سبعة آلاف وخمسمائة.وقال ابن حزم: كان وهزر من عقب جاماسب عم أنو شروانّ فأمّره على أصحابه، وركبوا البحر ثمان سفائن، فغرقت منها سفينتان، وخلصت ست إلى
ساحل عدن. فلما نزلوا بأرض اليمن قال وهزر لسيف: ما عندك؟ قال: ما شئت من قوس عربي، ورجلي مع رجلك حتى نظفر أو نموت. قال أنصفت: وجمع ابن ذي يزن من استطاع من قومه، وسار إليه مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة وأوباش اليمن، فتوافقوا للحرب وأمر وهزر ابنه أنّ يناوشهم للقتال، فقتلوه وأحفظه ذلك. وقال أروني ملكهم فأروه إياه على الفيل عليه تاج، وبين عينيه ياقوتة حمراء. ثم نزل عن الفيل إلى الفرس ثم إلى البغلة. فقال وهزر ركب بنت الحمار ذل وذل ملكه. ثم رماه بسهم فصك الياقوتة بين عينيه وتغلغل في دماغه، وتنكس عن دابته وداروا به، فحمل القوم عليهم وانهزم الحبشة في كل وجه،وأقبل وهزر إلى صنعاء، ولما أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكوسة، فهدم الباب ودخل ناصبا رايته، فملك اليمن ونفى عنها الحبشة. وكتب بذلك إلى كسرى، وبعث إليه بالأموال. فكتب إليه أنّ يملك سيف بن ذي يزن على اليمن، على فريضة يؤديها كل عام ففعل. وانصرف وهزر إلى كسرى.
وملك سيف اليمن، وكان أبوه من ملوكها. وخلف وهزر نائباً على اليمن في جماعة من الفرس ضمهم إليه، وجعله لنظر ابن ذي يزن وأنزله بصنعاء. وانفرد ابن ذي يزن بسلطانه، ونزل قصر الملك وهو رأس غمدان، يقال أنّ الضحاك بناه على اسم الزهرة، وهو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب وروحانيتها خرب في خلافة عثمان. قاله المسعودي. وقال السهيلي: كانت صنعاء تسمى أوال، وصنعاء اسم بانيها، صنعاء بن أوال بن عمير بن عابر بن شالخ. ولما استقل ابن ذي يزن بملك اليمن، وفدت العرب عليه يهنوه بالملك، لما رجع من سلطان قومه وأباد من عدوهم، وكان فيمن وفد عليه مشيخة قريش، وعظماء العرب لعهدهم من أبناء إسماعيل وأهل بيتهم المنصوب لحجهم، فوفدوا في عشرة من رؤسائهم، فيهم عبد المطلب، فأعظمهم سيف وأجلهم وأوجب لهم حقهم، ووفر من ذلك قسم عبد المطلب من بينهم. وسأله عن بنيه حتى ذكر له شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وكفالته إياه بعد موت عبد الله أبيه، عاشر ولد عبد المطلب، فأوصاه به وحضه على الإبلاغ في القيام عليه، والتحفظ به
من اليهود وغيرهم. وأسر إليه البشرى بنبوته وظهور قريش، قومهم على جميع العرب. وأسنى جوائز هذا الوفد بما يدل على شرف الدولة وعظمها لبعد غايتها في الهمة، وعلو نظرها في كرامة الوفد وبقاء آثار الترف في الصبابة شاهد لشرافة الحال في الأول. ذكر صاحب الأعلام وغيره أنه أجاز سائر الوفد بمائة من الإبل وعشرة أعبد وعشرة وصائف وعشرة أرطال من الورق والذهب وكرش ملىء من العنبر، وأضعاف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب.
قال ابن إسحق: ولما انصرف وهزر إلى كسرى غزا سيف على الحبشة، وجعل بقتل ويبقر بطون النساء، حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولا، واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالحراب، وعظم خوفهم منه. فخرج يوما وهم يسعون بين يديه، فلما توسطهم وقد انفردوا به عن الناس رموه بالحراب فقتلوه، ووثب رجل منهم على الملك. وقيل ركب خليفة وهزر فيمن معه من المسلحة، واستلحم الحبشة وبلغ ذلك كسرى، فبعث وهزر في أربعة آلاف من الفرس، وأمره بقتل كل أسود أو منتسب إلى أسود ولو جعداً قططاً ففعل. وقتل الحبشة حيث كانوا. وكتب بذلك إلى كسرى فأمّره على اليمن، فكان يجبيه له حتى هلك. واستضافت حشابة ملك الحميريين بعد مهلك ابن ذي يزن وأهل بيته إلى الفرس، وورثوا ملك العرب وسلطان حِمْيَر باليمن، بعد أنّ كانوا يزاحمونهم بالمناكب في عراقهم، ويجوسونهم بالغزو خلال ديارهم. ولم يبق للعرب في الملك رسم ولا طلل إلا أقيالا من حِمْيَر وقحطان رؤساء في أحيائهم بالبدو، لا تعرف لهم طاعة، ولا ينفذ لهم في غير ذاتهم أمر، إلا ما كان لكهلان إخوتهم بأرض العرب من ملك آل المنذر من لخم على الحيرة والعراق بتولية فارس، وملك آل جفنة من غسان على الشام بتولية آل قيصر كما يأتي في أخبارهم. وقال الطبري: لما كانت اليمن لكسرى بعث إلى سرنديب من الهند قائداً من قواده ركب إليهاالبحر في جند كثيف، فقتل ملكها واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة، وجواهر. وكان وهزر يبعث العير إلى كسرى بالأموال والطيوب، فتمر على طريق البحرين تارة وعلى أرض الحجاز أخرى. وعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين، فكتب إلى عامله بالإنتقام منهم، فقتل منهم خلقا كما يأتي في أخبار كسرى. وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم، وكانت في جوار رجل من أشراف العرب من قيس، فكانت حرب الفجار بين قيس وكنانة
بسبب ذلك. وشهدها النبي- صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل فيها على أعمامه أي يجمع لهم النبل.
قال الطبري: ولما هلك وهزر أمر كسرى من بعده على اليمن ابنه المرزبان، ثم هلك فأمر حافده خرخسرو بن التيجان بن المرزبان. ثم سخط عليه وحمل إليه مقيدا، ثم أجاره ابن كسرى وخلى سبيله، فعزله كسرى وولى باذان، فلم يزل إلى أنّ كانت البعثة وأسلم باذان وفشا الإسلام باليمن، كما نذكره عند ذكر الهجرة وأخبار الإسلام باليمن. هذا آخر الخبر عن ملوك التبابعة من اليمن، ومن ملك بعدهم من الفرس. وكان عدد ملوكهم فيما قال المسعودي سبعة وثلاثين ملكا، في مدة ثلاث آلاف ومائتي سنة إلا عشراً. وقيل أقل من ذلك. فكانوا ينزلون مدينة ظفار قال السهيلي: زمار وظفار اسمان لمدينة واحدة، يقال بناها مالك بن أبرهة وهو الأ ملوك، ويسمى مالك وهو ابن ذي المنار وكان على بابها مكتوب بالقلم الأول في حجر أسود:
- يوم شيدت ظفار فقيل لمن أنت فقالت لخير الأخيــار
- ثم سيلت من بعد ذلك قالت أنّ ملكي احابش الأشرار
# ثم سيلت من بعد ذلك قالت أنّ ملكي لفارس الأحرار # ثم سيلت من بعد ذلك قالت أنّ ملكى لقريش التجار
- ثم سيلت من بعد ذلك قالت أنّ ملكي لخير سنجار
- وقليلا ما يلبث القوم فيها غير تشييدها لحامي البوار
- من أسود يلقيهم البحر فيها تشعل النار في أعالي الجدار
ولم تزل مدينة ظفار هذه منزلا للملوك، وكذلك في الإسلام صدر الدولتين، وكانت اليمن من أرفع الولايات عندهم بما كانت منازل العرب العاربة، ودار الملوك العظماء من التبابعة والاقيال والعباهلة. ولما انقضى الكلام في أخبار حِمْيَر وملوكهم باليمن من العرب، استدعى الكلام ذكر معاصريهم من العجم على شرط كتابنا لنستوعب أخبار الخليقة، ونميز حال هذا الجيل العربي من جميع جهاته، والأمم المشاهير من العجم الذين كانت لهم الدول العظيمة لعهد الطبقة الأولى والثانية من العرب، وهم النبط والسريانيون أهل بابل، ثم الجرامقة أهل الموصل ثم القبط، ثم بنو إسرائيل والفرس ويونان والروم، فلنأت الآن بما كان لهم من الملك والدولة، وبعض أخبارهم على اختصار. والله ولى العون والتوفيق، لا رب غيره، ولا مأمول إلا خيره.
خريطة
ملوك بابل
الخبر عن ملوك بابل من القبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة قد تقدم لنا أنّ ملك الأرض بعد نوح عليه السلام كان لكنعان بن كوش بن حام. ثم لابنه النمروذ من بعده. وأنه كان على بدعة الصابئة، وان بني سام كانوا حنفاء ينتحلون التوحيد الذي عليه الكلدانيون من قبلهم. قال ابن سعيد: ومعنى الكلدانيين الموحدين. ووقع ذكر النمروذ في التوراة منسوبا إلى كوش بن حام، ولم يقع فيها ذكر لكنعان بن كوش، فالله اعلم بذلك. وقال ابن سعيد أيضاً: وخرج عابر بن شالخ ابن أرفخشذ، فغلبه وسار من كوثا إلى ارض الجزيرة والموصل، فبنى مدينة مجدل هناك، وأقام بها إلى أنّ هلك. وورث أمره ابنه فالغ من بعده، وأصاب النمروذ وقومه على عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ما أصابهم في الصرح، وكانت البلبلة وهي المشهورة، وقد وقع ذكرها في التوراة ولا أدري معناها. والقول بأن الناس أجمعين كانوا على لغة واحدة، فباتوا عليها ثم أصبحوا وقد افترقت لغاتهم قول بعيد في العادة، إلا أنّ يكون من خوارق الأنبياء فهو معجزة حينئذ، ولم ينقلوه كذلك. والذي يظهر أنه إشارة إلى التقدير الإلهي في خرق العادة وافتراقها، وكونها من آياته كما وقع في القرآن الكريم. ولا يعقل في أمر البلبلة غير ذلك. وقال ابن سعيد: سوريان بن نبيط ولأه فالغ على بابل، فانتقض عليه وحاربه، ولما هلك فالغ قام بأمره بعده ابنه ملكان، فغلبه سوريان على الجزيرة، وملكها هؤلاء الجرامقة إخوانه في النسب بنو جرموق بن أشوذ بن سام، وكانت مواطنهم بالجزيرة. وكان ابن أخت سوريان منهم الموصل بن جرموق، فولاه سوريان على الجزيرة واخرج بني عابر منها. ولحق ملكان منها بالجبال فأقام هنالك. ويقال: أنّ الخضر من عقبه. واستبد الموصل على خاله سوريان بن نبيط، ملك بابل، وامتازت مملكة الجرامقة من مملكة النبط. وملك بعد الموصل ابنه راتق، وكانت له حروب مع النبط، وملك من بعده ابنه أثور وبقي ملكها في عقبه، وهو مذكور في التوراة. وملك بعده ابنه نينوى، وبنى المدينة المقابلة للموصل من عدوة دجلة المعروفة باسمه. ثم كان من عقبه سنجاريف بن أثور بن نينوى بن أثور، وهو الذي بنى مدينة سنجار وغزا بني إسرائيل فصلبوه على بيت المقدس.
وقال البيهقي: أنّ الجزيرة ملكها بعد مقتل سنجاريف أخوه ساطرون وهو الذي بنى مدينة الخضر في برية سنجار على نهر الترتار لتولعه بصيد الأسود في غيضاتها. وملك من بعده ابنه زان وكان يدين بالصابئة، ويمال: أنّ يونس بن متى بعث إليه، ويونس من الجرامقة من سبط بنيامين بن إسرائيل من ابنه، فآمن به زان بن ساطرون بعد الذي قصه القرآن من شأنه معهم. ثم أنّ بختنصر لما غلب على بابل، زحف إليه ودعاه إلى دين الصابئة، وشرط له أنّ يبقيه في ملكه، فأجاب. ولم يزل على الجزيرة حتى زحف إليه جيوش من الفرس مع ارتاق، فضمن القيام بالمجوسية على أنّ يبقوه في ملكه، وكتب بذلك أرتاق إلى بهمن ليضمن له، فأجابه بأن هذا رجل متلاعب بالأديان فاقتله، فقتله أرتاق وانقرض ملكه بعد ألف وثلاثمائة سنة فيما قال البيهقي. وفي أربعين ملكا منهم، وصارت الجزيرة لملوك الفرس، والذي عند الإسرائيليين سنجاريف من ملوك نينوى وهم أولاد موصل بن أشوذ بن سام. وأنه كان قبله بالموصل ملوك منهم، وهم فول وتلفات وبلناص، وأنهم ملكوا بلد الأسباط العشرة، وهي شمورون المعروفة بالسامرة، وأنه غرب الأسباط الذين كانوا فيها إلى نواحي أصبهان وخراسان، وأسكن أهل كومة وهي الكوفة في شمورون هذه، فسلط الله عليهم السباع يفترسونهم في كل ناحية. فشكوا ذلك إلى سنجاريف وسألوه أنّ يخبرهم عن بلد شمورون في قسمة أي كوكب هي، كي يتوجهوا إليه، ويستنزلوا روحانيته على طريق الصابئة، فأعرض عن ذلك. وبعث كاهنان إليهم من اليهود فعلموهم دين اليهودية وأخذوا به، وهؤلاء عند اليهود هم الشمرة نسبة إلى شمر وهي شمورون. وليس الشمرة عندهم من بني إسرائيل، ولا دينهم صحيح في اليهودية. وزحف سنجاريف عندهم إلى بيت المقدس بعد استيلائه على شمورون، فحاصرها وداخله العجب بكثرة عساكره. فقال لبني إسرائيل: من الذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم إلهكم، وفزع ملك بني إسرائيل إلى نبيهم مدليلا، وسأله الدعاء فدعا له، وأمنه من شرّ سنجاريف، ونزلت بعسكره في بعض لياليهم آفة سماوية، فأصبحوا كلهم قتلى. يقال أحصى قتلاهم فكانوا مائة وخمسة وثمانين ألفاً، ورجع سنجاريف إلى نينوى ثم قتله أولاده في سجوده لمعبوده من الكواكب، وولى ابنه أُيْسَرْحَدُّون، ثم استولى عليهم بعد ذلك بَخْتَنَصَّر كما سنذكره في خبره.
وأما ملوك بابل فهم النبط بنو نبيط بن اشوذ بن سام. وقال المسعودي: نبيط بن ماش بن إرم وكانوا موطنين بأرض بابل وملك منهم سوريان بن نبيط. وقال المسعودي: هو أحد نبيط بن ماش، ملك أرض بابل بولاية من فالغ، فلما مات فالغ أظهر بدعة الصابئة، وانتحلها بعده ابنه كنعان ويلقب بالنمروذ. وملك بعده ابنه كوش وهو نمروذ إبراهيم عليه السلام، وهو الذي قدم أباه آزر، فاصطفاه هاجر على بيت الأصنام لأن أرعو بن فالغ، لما هلك أبوه فالغ وكان على دين التوحيد الذي دعاه إليه أبوه عابر، رجع حينئذ أرغو إلى كوثا، ودخل مع النمارذة في دين الصابئة، وتوارثها بنوه إلى آزر بن ناحور، فاصطفاه هاجر بن كوش وقدمة على بيت الأصنام، وولد له إبراهيم عليه السلام. وكان من أمره ما ذكرناه فيما نصه التنزيل ونقله الثقات. ثم توالت ملوك النمارذة ببابل، وكان منهم بختنصر على ما ذهب إليه بعضهم. ويقال أنّ الجرامقة وهم أهل نينوى غلبوا على بابل، وملكها سنجاريف منهم. واستعمل فيها بختنصر من ملوكها. ثم انتقض عليه بالجزا والطاعة، وغزا بني إسرائيل ببيت المقدس، فاقتحمها عليهم بعد الحصار وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وقتل ملكهم وخرب مسجدهم وتجاوزهم إلى مصر، فملكها. ولما هلك بختنصر ملك من بعده فيما ذكروه ابنه نشبت نصّر. ثم من بعده بنيصر وغزاه أرتاق مرزبان كسرى من ملوك الكينية فقتله،وملك بابل وأعماله، وصار النبط والجرامقة رعية للفرس، وانقرضت دوله النمارذة ببابل. هكذا ذكر ابن سعيد، ونقله عن داهر مؤرخ دولة الفرس، وجعل السريانيين والنبط أمة واحدة، وهما دولة واحدة، وأما المسعودي فجعلهما دولتين. وأما السريانيون فقال هم أول ملوك بعد الأرض الطوفان، وسمى من ملوكهم تسعة متعاقبين في مائة سنة أو فوقها، بأسماء أعجمية لا فائدة في نقلها لقلة الوثوق بالأصول التي بأيدينا من كتبه، وكثرة التغيير في الأسماء الأعجمية. نعم ذكر أنّ شوشان بشينين معجمتين، وأنه أول من وضع التاج على رأسه. والرابع منهم أنه الذي كور الكور، ومدن المدن، وان ملك الهند لعهده كان اسمه رتبيل، وأنه استولى على ملكه واستولى على السريانيين. وأن بعض ملوك المغرب ظاهرهم عليه، وانتزع لهم ملكهم من ورده عليهم. وسمى الثامن منهم ماروت. وأشار في آخر كلامه إلى أنهم كانوا مستولين على بابل وعلى الموصل، وأن ملوك اليمن ربما غلبوهم على أمرهم بعض الأحيان. وذكر في التاسع أنه كان غير مستقل بأمره، وأن أخاه كان مقاسمة في سلطانه، وأن أول من
اتخذ الخمر فلان، وأول من ملك فلان، وأول من لعب بالصقور والشطرنج فلان: مزاعم كلها بعيدة من الصحة. إنما وجهه أنّ السريانيين لما كانوا أقدم في الخليقة نسب إليهم كل قديم من الأشياء أو طبيعي كالخط واللغة والسحر والله أعلم.
وأما النبط فعند المسعودي أنهم من أهل بابل، لقوله في ترجمتهم ذكر ملوك بابل والنبط وغيرهم المعروفين بالكلدانيين. وذكر أنّ أولهم نمروذ الجبار ونسبه إلى ماش بن إرم بن سام. وذكر أنه الذي بنى الصرح ببابل، واحتفر نهر الكوفة، ونسب النمروذ في موضع آخر إلى كوش بن حام، لا أدري هو أو غيره. ثم عد ملوكهم بعد النمروذ ستاً وأربعين أو نحوها في ألف وأربعمائة من السنين، بأسماء أعجمية متعذر ضبطها فتركت نقلها. إلا أنه ذكر في الموفى منهم عدد العشرين وبعد التسعمائة من سنيهم، أنه الذي غزت فارس لعهده مدينة بابل. وذكر في الموفى عدد ثلاثة وثلاثين منهم، عند الألف والأربعمائة من سنيهم أنه سنجاريف الذي حارب بني إسرائيل وحاصرهم ببيت المقدس حتى أخذ الجزية منهم. وأن آخر ملوكهم دارينوش، وهو دارا الذي قتله الإسكندر لما ملك بابل. هذا ما ذكره المسعودي. ولم يذكر منهم نمروذ الخليل عليه السلام. وذكر أنّ مدينتهم بابل وأن الذي اختطها اسمه نير، واسم إمرأته شمر أم ملوك السريانيين اسمان أعجميان لا وثوق لنا بضبطها. وقال الطبري: نمروذ بن كوش بن كنعان بن حام صاحب إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان يقال عاد إرم، فلما هلكوا قيل ثمود إرم، فلما هلكوا قيل نمروذ إرم، فلما هلك قيل لسائر ولد إرم إرمان، فهم النبط. وكانوا على الإسلام ببابل حتى ملكهم نمروذ، فدعاهم إلى عبادة الأوثان فعبدوها. انتهى كلام الطبري. وقال هروشيوش مؤرخ الروم: انه نمروذ الجسيم، وإنّ بابل كانت مربعة الشكل، وكان سورها في دور ثمانين ميلا، وارتفاعه مائتا ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، وهو كله مبني بالآجرّ والرصاص، وفيه مائة باب من النحاس، وفي أعلاه مساكن الحراس والمقاتلة تبيت على الجانبين في سائر دورة الطريق بينهما. وحول هذا السور خندق بعيد المهوى أجري فيه الماء، وأن الفرس هدموه، ولما تغلبوا علي ملك بابل تولى ذلك منهم كلام جيرش وهو كسرى الأول. انتهى كلام هروشيوش. ويظهر من كلام هؤلاء أنّ اسم النمروذ سمة من ملك بابل، لوقوعه في أهل أنساب مختلفة، مرة إلى سام ومرة إلى حام. وزعم بعض المؤرخين أنّ نمروذ الخليل
عليه السلام هو النمروذ بن كنعان بن سنجاريف بن النمروذ الأكبر. وان بختنصر من عقبه وهو ابن برزاد بن سنجاريف بن النمروذ وأن الفرس الكينية غلبوا بختنصر على بابل ثم أبقوه واستعملوه عليها، وأن كسرى الأول من بني ساسان خرب مدينة بابل. وعند الإسرائيليين وينقلونه عن كتاب دانيال وأرميا من أنبيائهم، وضبط هذا الاسم يرميا: أنّ بختنصر من عقب كاسد بن حاور وهو أخو إبراهيم الخليل. وبنو كاسد هؤلاء من ملوك بابل ويعرفون بالكسدانيين نسبة إليه. وأن بختنصر منهم ملك أكثر المعمور وغلب على بني إسرائيل وأزال دولتهم، وخرب بيت المقدس، وانتهى ملكه إلى مصر وما وراءها، وكان ملكه خمسا وأربعين.
وملك بعده ابنه أويل مرود ثلاثا وعشرين سنة و بعده بلينصر ثلاث سنين. ثم زحف إليه دارا من ملوك الفرس وصهره كورش فحاصروه بمدينة بابل. وقال بعض الإسرائيليين: أنّ بختنصر وملوك بابل من كسديم، وكسديم من عيلام بن سام وهو أخو أشوذ، ومن أشوذ ملوك الموصل، انتهى الكلام في ملوك الموصل وملوك بابل. وهذا غاية ما أدى إليه البحث من أخبارهم وأنسابهم. وكان من هؤلاء والكلدانيين دين الصابئة وهو عبادة الكواكب واستجلاب روحانيتها. يذكر أنهم كانوا لذلك أهل عناية بأرصاد الكواكب ومعرفة طبائعها، وخلاص المولدات وما يشابه ذلك من علوم النجوم والطلسمات والسحر. وأنهم نهجوا ذلك لأهل الربع الغربي من الأرض. وقد يشهد لذلك قراءة من قرأ: وما انزل على الملكين، بكسر اللام، مشيراً إلى أنّ هاروت وماروت من ملوك السريانيين وهم أول ملوك بابل، وعلى القراءة المشهورة وأنهما من الملائكة، فيكون اختصاص هذه الفتنة والابتلاء ببابل من بين أقطار الأرض دليلا على وفور قسطهما من صناعة السحر الذي وقع الابتلاء به، ومما يشهد لانتحالهم السحر وفنونه من النجوم وغيرها، أنّ هذه العلوم وجدناها من منتحل أهل مصر المجاورين لهم، وكان لملوكها عناية شديدة بذلك، حتى كان من مباهاتهم موسى بذلك وحشر السحرة له ما كان. وبقايا الآثار السحرية في برابي أخميم من صعيد مصر ما يشهد لذلك أيضاً والله أعلم.
خريطة
القبط
الخبر عن القبط وأوّلية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم هذه الأمة أقدم أمم العالم وأطولهم أمداً في الملك، واختصوا بملك مصر وما إليها، ملوكها من لدن الخليقة إلى أنّ صبحهم الإسلام بها، فانتزعها المسلمون من أيديهم. ولعدههم كان الفتح، وربما غلب عليهم جميع ما عاصرهم من ا لأمم حين يستفحل أمرهم، مثل العمالقة والفرس والروم واليونان، فيستولون على مصر من أيديهم. ثم يتقلص ظلهم فراجع القبط ملكهم هكذا إلى أنّ انقرضوا في مملكة الإسلام. وكانوا يسمون الفراعنة سمة لملوك مصر في اللغة القديمة. ثم تغيرت اللغة وبقي هذا الإسم مجهول المعنى، كما تغيرت الحميرية إلى المضرية والسريانية إلى الرومية. ونسبهم في المشهور إلى حام بن نوح. وعند المسعودي إلى بنصر بن حام. وليس في التوراة ذكر لبنصر بن حام، وإنما ذكر مصرايم وكوش وكنعان وقوط. وقال السهيلي: إنهم من ولد كنعان بن حام لأنه لما نسب مصر قال فيه: مصر بن النبيط أو ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان. وقال أهروشيوش: إنّ القبط من ولد قبط بن لايق بن مصر. وعند الإسرائيليين أنهم من قوط ابن حام، وعند بعضهم أنهم من كفتوريم قبطقايين ومعناه القبط. وقال المسعودي: اختص بنصر بن حام أيام النمروذ، ابن أخيه كنعان بولاية أرض مصر واستبد بها، وأوصى بالملك لابنه مصر، فاستفحل ملكه ما بين اسوان واليمن والعريش وأيلية وفرسية فسميت كلها أرض مصر نسبة إليه، وفي قبليها النوبة وفي شرقيها الشام، وفي شمالها بحر الزقاق، وفي غربها برقة، والنيل من دونها. وطال عمر مصر وكبر ولده، وأوصى بالملك لأكبرهم وهو قبط بن مصر أبو الأقباط، فطال أمد ملكه، وكان له بنون أربع: قبط بن مصر، وأن مصر هو الذي قسم الأرض، وعهد إلى أكبرهم بالملك وهو قبط، فغلب عليهم فأضيفوا إليه لمكان الملك والسن. وملك بعد قبط بن مصر أشمون بن مصر، ثم من بعده صاثم أخوهما أتريب. ثم عد ملوكا بأسماء
أعجمية بعيدة عن الضبط لعجمتها، وفساد ألاصول التي بين أيدينا من كتبته. ثم لما ذكر ستة منهم بعد أتريب قال: فكثر ولد بنصر بن حام، وتشاغبوا وملك عليهم النساء، فسار إليهم ملك الشام من العمالقة الوليد بن دومع فملكهم وانقادوا إليه، وأما ابن سعيد فيما نقل من كتب المشارقة فقال: ملك مصر ابنه قبط، ثم من بعده أخوه أتريب. قال: وفي أيام قبط زحف شداد بن مداد بن شداد بن عاد إلى مصر، وغلب على أسافلها، ومات قبط في حروبه. ثم جمع أتريب قومه واستظهر بالبربر والسودان على العرب حتى أخرجهم إلى الشام، واستبد أتريب بملك مصر وبنى المدينة المنسوبة إليه، ومدينة عين شمس، وملك بعده ابن أخيه البودشير بن قبط، وهو الذي بعث هرمساً المصري إلى جبل القمر حتى ركب جرية النيل من هنالك. وعدل البطيحة الكبرى التي تنصب إليها عيون النيل. وعمر بلاد الواحات، وحول إليها جمعا من أهل بيته. ثم ملك من بعده عديم بن البودشير ثم ابنه شدات بن عديم، ثم ابنه منذوش بن شدات، وجدد مدينة عين شمس، وكان لهم في السحر آثار عجيبة. ثم ملك بعده ابنه مقلاوش بن مقناوش، وعبد البقر وصورها من الذهب. ثم هلك وخلف ابنه مرقيش فغلب عليه عمه أشمون بن قبط وبنى مدينة الأشمون. وملك بعد ابنه أشاد بن أشمون، ثم من بعده عمه صا بن قبط وبنى مدينة باسمه. وملك بعده ابنه ندراس وكان حكيماً، وهو الذي بنى هيكل الزهرة الذي هدمه بختنصر. وملك بعده ابنه ماليق بن ندراس فرفض الصابئة ودان بالتوحيد، ودوخ بلاد البربر والأندلس، وحارب الإفرنج، وملك بعده ابنه حربيا بن ماليق فرجع عن التوحيد إلى الصابئة، وغزا بلاد الهند والسودان والشام. وملك بعده ابنه كلكي بن حربيا وهو الذي تسميه القبط حكيم الملوك ، واتخذ هيكل زحل وعهد إلى أخيه ماليا بن حربيا، واشتغل باللهو فقتله ابنه خرطيش، وكان سفاكا للدماء. والقبط تزعم أنه فرعون الخليل عليه السلام، وأنه أول الفراعنة. ولما تعدى بالقتل إلى أقاربه سمته ابنته حوريا وملكت القبط من بعده، فنازعها أبراحس من ولد عمها أتريب، وحاربته فكان لها الغلب. وانهزم أبراحس إلى الشام، فاستظهر بالكنعانيين وبعث ملكهم قائده جيرون، فلما قرب مصر استقبلته حوريا وأطمعته في زواجها على أنّ يقتل أبراحس ويبني مدينة الإسكندرية ففعل، ثم قتلته آخراً مسموماً. واستقام لها الأمر وبنت منارة الإسكندرية وعهده بأمرها لدليقية ابنة عمها باقوم، فخرج عليها أيمين من نسل أتريب طالباً بثأر قريبه أبراحس، ولحق بملك العمالقة يومئذ، وهو الوليد بن دومع الذي ذكرناه عند ذكر العمالقة فاستنصر به وجا ء معه وملك ديار مصر. واستبد بالقبط نقراوس، فاشتغل باللذات واستكفى من بنيه أطفير وهو العزيز فكفاه وقام بأمره، ودبر له يوسف الفيوم با لوحي والهندسة، وكانت أرضها مغايض للماء فأخرجه، وعمر القرى مكانه على عدد أيام السنة.. فجعله على خزائنه. وملك بعده دارم بن الريان، وسمته القبط ويموص. وكان يوسف مدبر أمره بوصية أبيه. ومات لعهده فأساء السيرة وهلك غريقاً في النيل. وملك بعده ابنه معدانوس بن دارم فترهب واستخلف ابنه كاشم فاستعبد بني إسرائيل للقبط، وقتله حاجبه ونصب بعده ابنه لاطش، فاشتغل باللهو فخلعه ونصب آخر من نسل ندراس اسمه لهوب، فتجبر وتذكر القبط أنه فرعون موسى عليه السلام. وأهل الأثر يقولون: إنه الوليد بن مصعب وأنه كان نجاراً تقلب حاله إلى عرافة الحرس، ثم تطور إلى الوزارة ثم إلى الاستبداد. وهذا بعيد لما قدمناه في الكتاب الأول. وقال المسعودي: بل كان فرعون موسى من الأقباط. ثم هلك فرعون موسى، وخشي القبط من ملوك الشام، فملكوا عليهم دلوكة من بيت الملك وهي التي بنت الحائط على أرض مصر، ويعرف بحائط العجوز، لأنها طال عمرها حتى كبرت واتخذت البرابي ومقاييس النيل. ثم سمى المسعودي من بعد دلوكة ثمانية من ملوكهم على ذلك النحو من عجمة الأسماء. وقال في الثامن إنه فرعون الأعرج الذي اعتصم به بنو إسرائيل من بختنصر، فدخل عليه مصر وقتله، وهدم هياكل الصابئة، ووضع بيوت النيران له ولولده. وذكر في تواريخهم قال: قال ابن عبد الحكيم: وهذه العجوز دلوكة هي التي جددت البرابي بمصر، أرسلت إلى امرأة ساحرة كانت لعهدها اسمها ترورة، وكانت السحرة تعظمها، فعملت بربى من حجارة وسط مدينة منف، وصورت فيها صور الحيوانات من ناطق وأعجم، فلا يقع شيء بتلك الصورة إلا وقع بمثالها في الخارج. وكان لهم بذلك امتناع ممن يقصدهم من الأمم، لأنهم كانوا أعلم الناس بالسحر، وأقامت عليهم عشرين سنة حتى بلغ صبي من أبنائهم إسمه دركون بطلوس فملكوه، وأقامت معه على ذلك أربعمائة سنة ثم مات، فولوا ابنه يرديس بن دركون، ومن بعده أخاه نقاس بن نقراس، ومن بعده مرينا بن مرينوس، ثم ابنه استمارس بن مرينا، فطغى عليهم وخلعوه وقتلوه. وولوا عليهم صن أشرافهم بلوطيس بن مناكيل أربعين سنة، ثم استخلف مالوس بن بلوطيس ومات، فاستخلف أخاه مناكيل بن بلوطيس، ثم توفي فاستخلف ابنه بركة بن مناكيل فملكهم مائة وعشرين سنة. وهو فرعون الأعرج الذي سبى أهل بيت المقدس. ويقال أنه خُلع.
وقال ابن عبد الحكم: وولي من بعده ابنه مرينوس بن بركة، فاستخلف ابنه فرقون بن مرينوس، فملكهم ستين سنة، ثم هلك، واستخلف أخاه نقاس بن مرينوس. وكانت البرابي كلها إذا فسد منها شيء لا يصلحه إلاّ رجل من ذرية تلك العجوز الساحرة التي وضعتها. ثم انقطعت ذريتها ففسدت البرابي أيام نقاس هذا، وتجاسر الناس على طلب الملك الذي في أيديهم، وهلك نقاس، واستخلف ابنه قومس بن نقاس، فملكهم دهراً، ثم ملك بختنضر بيت المقدس، واستلحم بني إسرائيل وفرقهم وقتل وخرّب ولحقوا بمصر، فأجارهم قومس ملكها، وبعث فيهم بختنصر فمنعهم وزحف إليه وغلب عليه فقتله، وخرب مدينة منف. وبقيت مصر أربعين سنة خرابا. وسكنها أرمياء مدة، ثم بعث إليه بختنصر فلحق به، ثم ردّ أهل مصر إلى موضعهم، وأقاموا كذلك ما شاء الله إلى أنّ غلب الفرس والروم على سائر الأمم،وقاتل الروم أهل مصر إلى أنّ وضعوا عليهم الجزى، ثم تقاسمها فارس والروم، ثم تداولوا ملكها فتوالت عليها نواب الفرس، ثم ملكها الإسكندر اليوناني وجدّد الإسكندرية والآثار التي خارجها، مثل عمود السواري ورواق الحكمة. ثم غلب الروم على مصر والشام ، وأبقوا القبط في ملكها وصرفوهم في الولاية بمصر، إلى أنّ جاء الله بالإسلام، وصاحب القبط بمصر والإسكندرين المقوقس، واسمه جريج بن مينا فيما نقله السهيلي، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب ابن أبي بلتعة وجبرا مولى أبي رهم الغفاريّ، فقارب الإسلام وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته المعروفة، ذكرها أهل السير، كان فيها البغلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبها وتسمى دلدل، والحمار الذي يسمّى يعفور، ومارية القبطية أم ولده إبراهيم، وأمّها وأختها سيرين، وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن، وقدح من قوارير كان رسو ل الله صلى الله عليه وسلم يشرب فيه، وعسل استظرفه له من بنها إحدى قرى مصر معروفة بالعسل الطيب.
ويقال: أنّ هرقل لما بلغه شأن هذه الهدية اتهمه بالميل إلى الإسلام فعزله عن رياسة القبط.
وخرج مسلم في صحيحه من رواية أبي ذر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: <<إذا افتتحتم مصر أو إنكم مستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً أو صهراً>>. ورواه ابن إسحق عن الزهريّ وقال: قلت للزهري ما الرحم التي ذكر؟ قال كانت هاجر ام إسماعيل منهم. ولبعض رواة الحديث في تفسير الصهر أنّ مارية أم إبراهيم منهم، أهداها له المقوقس، وكانت من كورة حفن من عمل أنصناء. وقال الطبري: أنّ عمرو بن العاص لما ملك مصر أخبرهم بوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم، فقال: هذا نسب لا يحفظ حقه إلاّ نبي، لأنه نسب بعيد. وذكروا له أنّ هاجر كانت امرأة لملك من ملوكنا، ووقعت بيننا وبين أهل عين شمس حروب كانت لهم في بعضها دولة، فقتلوا الملك وسبوها. ومن هنالك تسيرت إلى أبيكم إبراهيم.
ولما كمل فتح مصر والإسكندرية، وارتحل الروم إلى القسطنطينية، أقام المقوقس والقبط على الصلح الذي عقده لهم عمرو بن العاص وعلى الجزى، وأبقوه على رياسة قومه، وكانوا يشاورونه فيما ينزل من المهمات إلى أنّ هلك، وكان ينزل الإسكندرية، وفي بعض الأوقات ينزل منف من أعمال مصر. واختط عمرو بن العاص الفسطاط بموضع خيامة التي كان يحاصر منها مصر. فنزل بها المسلمون وهجروا المدينة التي كان بها المقوقس، إلى أنّ خَرَبت. وكان في خرابها ومهلك المقوقس انقراض أمرهم. وبقي أعقابهم إلى هذا الزمان يستعملهم أهل الدول الإسلامية في حسابات الخراج، وجبايات الأموال لقيامهم عليها، وغنائهم فيها، وكفايتهم في ضبطها وتنميتها. وقد يهاجر بعضهم إلى الإسلام فترتفع رتبتهم عند السلطان في الوظائف المالية التي أعلاها في الديار المصرية رتبة الوزارة، فيقلدونهم إياها ليحصل لهم بذلك قرب من السلطان، وحظ عظيم في الدولة وبسطة يد في الجاه، تعدّدت منهم في ذلك رجال، وتعينت لهم بيوت ، قصر السلطان نظره على الاختيار منها لهذا العهد. وعامتهم يقيم على دين النصرانية الذين كانوا عليها لهذا العهد، وأكثرهم بنواحي الصعيد وسائر الأعمال، متحرفون بالفلح والله غالب على أمره.
وأمَّا إقليم مصر فكان في أيام القبط والفراعنة جسوراً كله بتقدير وتدبير، يحبسونه
ويرسلونه كيف شاؤا، والجنات حفاف النيل من أعلاه إلى أسفله، ما بين أسوان ورشيد. وكانت مدينة منف وعين شمس، يجري الماء تحت منازلها وأفنيتها بتقدير معلوم، ذكر ذلك كله عبد الرحمن بن شَمَاسَة، وهو من خيار التابعين، يرويه عن أشياخ مصر. قالوا: ومدينة عين شمس كانت هيكل الشمس، وكان فيها من الأبنية والأعمدة والملاعب ما ليس في بلد. قلت: وفي مكانها لهذا العهد ضيعة متصلة بالقاهرة يسكنها نصارى من القبط وتسمى الَمَطريّة. قالوا: ومدينة مَنَفَ مدينة الملوك قبل الفراعنة وبعدهم إلى أنّ خرّبها بختنصر كما تقدّم في دولة قومس بن نقاس. وكان فرعون ينزل مدينة منف، وكان لها سبعون باباً، وبنى حيطانها بالحديد والصفر. وكانت أربعة أنهار تجري تحت سريره. ذكره أبو القاسم بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك. قال: وكان طولها إثني عشر ميلاً، وكانت جباية مصر تسعين ألف ألف دينار مكّرره مرتين، بالدينار الفرعوني وهو ثلاثة مثاقيل. وإنما سميت مصر بمصر بن بيصر بن حام، وبقال انه كان مع نوح في السفينة، فدعا له فأسكنه الله هذه الأرض الطيبة، وجعل البركة في ولده. وحدّها طولاً من برقة إلى أيلة، وعرضاً من أسوان إلى رشيد وكان أهلها صابئة، ثم حملهم الروم لما ملكوها بعد قسطنطين على النصرانية، عندما حملوا على الأمم المجاورة لهم من الجلالقة والصقالبة وبرجان والروس والقبط والحبشة والنوبة. فدانوا كلهم بذلك ورجعوا عن دين الصابئة في تعظيم الهياكل وعبادة الأوثان، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
خريطة
خريطة
بنو إسرائيل
الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم علي الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال
قد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله وسلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط، وفي التوراة أنّ الله سماه إسرائيل. وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد، وما قبلها من أسماء الله عز وجل وصفاته، والمضاف أبدا متأخر في لسان العجم، فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة وهو المضاف. ثم قبض الله نبيه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين سنة من عمره وأوصى أنّ يدفن عند أبيه، فطلب يوسف من فرعون أنّ يطلقه لذلك فأذن له، وأمر أهل دولته بالانطلاق معه فانطلقوا وحملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه، وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين. ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أنّ توفي لمائة وعشرين سنة من عمره، ودفن بمصر وأوصى أنّ يحملوا شِلْوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد وهي الأرض المقدّسة.
وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا، حتى ارتاب القِبط بكثرتهم واستعبدوهم، وفي التوراة أنّ ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه، فاسترقّ بني إسرائيل واستعبدهم. ثم تحدّث الكُهّان من أهل دولتهم بأنّ نبوة تظهر في بني إسرائيل، وأنّ ملكك كائن لهم مع ما كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك، فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم. فلم يزالوا على ذلك مدّة من الزمان، حتى ولد موسى. وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب. وأمّه يوحانذ بنت لاوى عمة عمران. وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر، وولد هارون لثلاث وسبعين من عمره وموسى لثمانين، فجعلته أمّه في تابوت وألقته في ضحضاح اليم، وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه. فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته
واستخرجته من التابوت فرحمته. وقالت: هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر ترضعه. فقالت لها أخته أنا آتيكم بها . وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون، إلى أنّ فصل، فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى، وأسلمته لها. ونشأ عندها ثم شب، وخرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع، فهم لذلك أخواله. فرأى عبرانياً يضربه مصريّ، فقتل المصري الذي ضربه ودفنه. وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره، فقال له: ومن جعل لك هذا؟ أتريد أنّ تقتلنى كما قتلت الآخر بالأمس. ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه، وهرب موسى إلى أرض مدين عند عقبة أيلة، وبنو مدين أمة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك. وكان ذلك لأربعين سنة من عمره، فلقي عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم، فسقى لهما وجاءتا به إلى أبيهما فزوّجه باحداهما، كما وقع القرآن الكريم. وأكثر المفسّرين على أنه شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ: الذي استأجر موسى وزوّجه بنته رَعْويل وهو بيتر حبر مَدْيَن، أي عالمهم، وأن رعويل هو الذي زوّجه البنت، وأنّ اسمه يبتر. وعن الحسن البصريّ أنه شعيب رئيس بني مدين. وقيل إنه ابن أخي شعيب، وقيل ابن عمه. فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربّه، إلى أنّ جاءه الوحي وهو ابن ثمانين سنة. وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل، فيستنقذانهم من مملكة القبط، وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فخرجا إليه وبلَّغا بني إسرائيل الرسالة، فآمنوا به واتبعوه، ثم حضرا إلى فرعون وبلّغاه أمر الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل، وأراه موسى عليه السلام معجزة العصا، فكان من تكذيبه وامتناعه وإحضار السَحَرَة لما رأى من موسى في معجزته، ثم إسلامهم ما نصّه القرآن العظيم.
ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته، واشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم
واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشرة، واحدة بعد اخرى، يسالمهم عند وقوعها ويتضرع إلى موسى في الدعاء بانجلائها، إلى أنّ أوحى الله إلى موسى بخروج بني إسرائيل من مصر. ففي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أنّ يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم أنّ كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم أنّ كان أكثر، وأن ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة، وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه، ومعناه لا يكسرون له عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا، وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه بالنار. وشرع هذا عيداً لهم ولأعقابهم، ويسمى عيد الفصح. وفي التوراة أيضاً أنه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل. وأنّهم أمروا أنّ يستعير منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وشغل القِبْط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم. وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الذي كان به بإلهام من الله تعالى، وساروا لوجههم حتى انتهوا إلى ساحل البحر بجانب الطور. وأدركهم فرعون وجنوده، وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، فضربه فانفلق طرقا. وسار فيه بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه، ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور وسبّحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم وهو: نسّبح الرب البهي، الذي قهر الجود، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود إلى آخره. وقالوا: وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي تُرتّل لهنّ التسبيح، سبحان الرب القهّار، الذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو المعنى الأول. ثم كانت المناجاة على جبل الطور، وكلام الله لموسى والمعجزات المتتالية، ونزول الألواح. ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشرة وهي: كلمة التوحيد، والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه، وبرّ الوالدين ليطول العمر، والنهي
عن القتل، والزنا، والسرقة، وشهادة الزور، ولا تمتدّ عين إلى بيت صاحبه، أو امرأته أو لشيء من متاعه. هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح.
وكان سبب نزول الألواح أنّ بني إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سيناء، صعد موسى إلى الجبل، فكلمه ربه، وأمره أنّ يُذكّر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون، وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام، ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد، ففعلوا وظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق ورعود، ففزعوا وقاموا في سفح الجبل دهشين. ثم غشى الجبل دخان في وسطه عمود نور، وتزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة، واشتدّ صوت الرعد الذي كانوا يسمعونه، وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقّرب بني إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف، قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون وتكون العلماء غير بعيدة ففعل، وجاءهم بالألواح. ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة. فكلمه ربه وسأله الرؤية فمنعها، فكان الصعق، وساخ الجبل ، وتلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ والتحليل والتحريم. وكان حين سار إلى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، واستبطؤا موسى، وكان هارون قد أخبرهم بأنّ الحلي الذي أخذوه للقبط محرّم عليهم، فأرادوا حرقه، وأوقدوا عليه النار. وجاء السامريّ في شيعة له من بني إسرائيل، وألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول فصار عجلاً وقيل عجلا حيوانا. وعبده بنو إسرائيل، وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم. وجاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته. فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح، ويقال كسرها، وأبدل غيرها من الحجارة، وعند بني إسرائيل انهما اثنان. وظاهر القرآن أنها أكثر، مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين. ثم أخذ برأس أخيه ووبّخه واعتذر له بما اعتذر، ثم حرق العجل، وقيل برده بالمبرد وألقاه في البحر. وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل إلى الطور بلغ خبره إلى بيثر صهره من بني مَدْيَن، فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوجها بها أبوها رعويل كما تقدّم. ومعها ابناها من موسى وهما جَرْشُون وعَازَر، فتلقاها موسى صلوات الله عليه بالبرّ والكرامة، وعظمه بنو إسرائيل، ورأى كثرة الخصومات
على موسى، فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كلّ مائة أو خمسين أو عشرة، فيفصلوا بين الناس، وتفصل أنت فيما أهم وأشكل ففعل ذلك. ثم أمر الله موسى ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشَمْشَاد، ويقال هو السنْط، وجلود الأنعام وشعر الأغنام. وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ والذهب والفضّة على أركانها. صوّر منها صور الملائكة الكروبيّين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله، ولها عشر سرادقات مقدّرة الطول والعرض، وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ، وفيها دفوف وصفائح من ذهب وفضة، وفي كلّ زاوية بابان، وأبواب وستور من حرير، وغير ذلك مما هو مشروح في التوراة. وبعمل تابوت من خشب الشَمْشَاد طول ذراعين ونصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف، مصفّحاً بالذهب الخالص من داخل وخارج، وله أربع حلق في أربع زوايا، وعلى حافته كروبيّان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة، ويكونان متقابلين، وأن يصنع ذلك كله فلان شخص معروف في بني إسرائيل. وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف بطناب ذهب واكليل ذهب، بحافة مرتفعة باكليل ذهب، وأربع حلق ذهب في أربع نواحيها، مغروزة في مثل الرمانة من خشب ملّبس ذهباً، وصحافاً ومصافي وقصاعاً على المائدة كلها من ذهب. وأن يعمل منارة من ذهب، بست قصبات من كلّ جانب ثلاث. وعلى كل قصبة ثلاث سُرُج، وليكن في المنارة أربعة قناديل، ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب. وأن يعمل مذبحاً للقربان، ووصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف. ونصبت هذه القبّة أول يوم من فصل الربيع ونصب فيها تابوت الشهادة وتضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع قي القربان والنحور وأحوال هذه القبّة كثيرا. وفيها أنّ قبة القربان كانت موجود ة قبل عبادة أهل العجل، وأنها كانت كالكعبة يصلّون إليها وفيها، ويتقرّبون عندها، وأنّ أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك، وأنّ موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها، وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سُجّداً لله عز وجل، ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكَرُوبَيَّيْن. فإذا فصل
الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء يجيء إلى قُبّة القربان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الخصومة.
ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر، وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أنّ تكون مُلْكا لهم على لسان إبراهيم وإسحق ويعقوب صلوات الله عليهم بمسيرهم إليها، وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وضرب عليهم الغزو ورتب المصاف والميمنة والميسرة، وعين مكان كل سبط في التعبية، وجعل فيه التابوت والمذبح في القلب، وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم، وأسقط عنهم القتال لخدمة القُبّة، وسار على التعبية سالكا على برية فاران، وبعثوا منهم إثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين. كان منهم كَالِب بن يوفنَّا بن حصرون بن بَارص بن يهوذا بن يعقوب، ويوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، فاستطابوا البلاد واستعظموا العدوّ من الكنعانيين والعمالقة، ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر، وخذلوهم إلا يُوشَع وكالب، فقالا لهم ما قالا: وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. وخامر بنو إسرائيل عن اللقا، وأبوا من السير إلى عدوّهم والأرض التي ملكهم الله، إلى أنّ يهلك الله عدوهم على غير أيديهم.
فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدّسة أحد من ذلك الجيل إلا كالبا ويوشع. وإنما يدخلها أبناؤهم والجيل الذي بعدهم، فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران، يتردّدون حوالي جبال السراة، وأرض ساعير،وأرض بلاد الكرك والشوبك، وموسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته، ويدفع عنهم مهالك سخطه، وشكوا الجوع.، فبعث الله لهم المنّ حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة، فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز لأكلهم. ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيراً يخرج من البحر، وهو طير السماني، فيأكلون منه، ويدّخرون ثم طلبوا الماء، فأمر أنّ يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه إثنتا عشرة عيناً. وأقاموا على ذلك، ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن
إيصهر بن قاهث، وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث. فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى، واعتمدوا مناصبته فأصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض، وأصبحوا عبرة للمعتبرين. واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدو، ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا، وصعدوا جبل العمالقة، فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقاتلوهم في كل وجه. فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم، فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وحال دون ذلك. ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره، ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر، وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم، وقام بأمره الذي كان يقوم به ابنه العيزار. ثم زحف بنو إسرائيل إلى بعض ملوك كنعان فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا معهم، وبعثوا إلى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية، فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده إلى حد بني عمّون، ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب. وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان، وهو المشهور بعوج بن عوق، وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه. وورثوا أرضهم إلى الأردن بناحية أريحا وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل، واستجاش بمن يجاوره من بني مدين، وجمعهم ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا، وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمون وبني مؤاب. وكان مجاب الدعوة معبراً للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه، وأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء، وألح عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة، وأراه معسكر بني إسرائيل منها، فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وأنهم يملكون إلى الموصل. ثم تخرج أمة من أرض الروم فيغلبون عليهم، فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلاده. وفشا في بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين، فأصابهم الموتان، فهلك منهم أربعة وعشرون ألفا. ودخل فنحاص بن لعزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته، ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل، فطعنها برمحه وانتظمها، وارتفع الموتان عن بني إسرائيل. ثم أمر الله موسى وألعازر بن هارون باحصاء بني
إسرائيل، بعد فناء الجيل الذي أحصاهم موسى وهارون ببرية سينا، وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض. وأن يبعث بعثا من بني إسرائيل إلى مدين الذي أعانوا بنهي مؤاب. فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل، وعليهم فنحاص بن العيزر بن العزر بن هارون. فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم وملكوا أموالهم، وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أنّ أخذ منه لله، وكان فيمن قتل بلعام بن باعورا. ثم قسم الأرض التي ملك من بني مدين والعموريين وبني عمون وبني مؤاب. ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطىء الأردن. وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت أباءكم، ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمّون وعن أرضهم. وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره، بعد أنّ عهد إلى فتاه يوشع أنّ يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ليسكنوها ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها، ودفن بالوادي في أرض مؤاب، ولم يعرف قبره لهذا العهد.
وقال الطبري: مدّة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة، منها في أيام أفريدون عشرون، ومنها في أيام منوجهر مائة. قال: ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم. وقال السدّي: أنّ يوشع تنبأ بعد موسى وسار إلى أريحا، فهزم الجبارين ودخلها عليهم، وأن بلعام بن باعورا كان مع الجبارين يدعو على يوشع، فلم يستجب له. وصرف دعاؤه على الجبارين. وكان بلعام من قرى البلقاء، وكان عنده الاسم الأعظم. فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل، فامتنع وألحوا عليه فأجاب ودعا فصرف دعاؤه، وكان قيامه للدعاء على جبل حسان مطلا على عسكر بني إسرائيل. هذا خبر السدي في أنّ دعاء بلعام كان لعهد يوشع، والذي في التوراة أنه كان لعهد موسى، وأن بلعام قتل لعهد موسى كما مر في خبر الطبري. وقال السدي: أنّ يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أنّ يعبر، فسار ومعه التابوت، تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن وقاتل الكنعانيين فهزمهم، وأن الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم، ودعا الله يوشع فوقفت الشمس حتى تمت عليهم
الهزيمة. ثم نازل أريحا ستة أشهر وفي السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فاستباحوها وأحرقوها، وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله. هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه، وبني إسرائيل أيام حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا.
وفي كتب الإخباريين: أنّ العمالقة الذين كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم، وقتل آخر ملوكهم، وهو السميدع بن هوبر بن مالك، وكان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم، وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهمي:
- ألم تر أنّ العلقمي بن هوبر بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا
- ترامت عليه من يهود جحافل ثمانون ألفا حاسرين ودرعا
ذكره المسعودي وقد تقدم لنا خلاف النسابة في هؤلاء العمالقة، وأنهم لعمليق بن لاوذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني، لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب. وأما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد فأكثرهم لبني كنعان، وقد تقدمت شعوبهم وبنو أدوم أبناء عمون، وبنو مؤاب أبناء لوط، وثلاثتهم أهل يستعير وجبال الشراة وهي بلاد الكرك والشوبك والبلقا، ثم بنو فلسطين من بني حام. ويسمى ملكهم جالوت وهو من الكنعانيين منهم. ثم بنو مدين، ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين، فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثا. وأما غيرهم فلم يكن لهم فيها إلا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها. وفي كتب الإخباريين أنّ بني إسرائيل بعد ملكهم الشام بعثوا بعوثهم إلى الحجاز، وهنالك يومئذ أمة من العمالقة يسمون جاسم، وكان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم، وكان أوصاهم أنّ لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم. فلما ظهروا على العمالقة وقتلوا
الأرقم استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل لوضاءته. ولما رجعوا من بعد الفتح وبخهم إخوانهم ومنعوهم دخول الشام وأرجعوهم إلى الحجاز وما تملكوا من أرض يثرب، فنزلوها واستتم لهم فتح في نواحيها. ومن بقاياهم يهود خيبر وقريظة والنضير. قال ابن إسحق: قريظة والنضير والتحام وعمرو هو هزل من الخزرج. وقال ابن الصريح بن التومان بن السبط بن إليسع بن سعد بن لاوى بن النمام بن يتحوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام. واليهود لا يعرفون هذه القصة، وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت والله أعلم.
الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع إلي أنّ صار أمرهم إلي الملك وملك عليهم طالوت ولما قبض يوشع صلوات الله عليه بعد استكمال الفتح وتمهيد الأمر ضيع بنو إسرائيل الشريعة وما أوصاهم به وحذرهم من خلافه، فاستطالت عليهم الأمم الذين كانوا بالشام وطمعوا فيهم من كل ناحية. وكان أمرهم شورى فيختارون للحكم في عامتهم من شاؤا، ويدفعون للحرب من يقوم بها من أسباطهم، ولهم الخيار مع ذلك على من يلي شيئا من أمرهم. وتارة يكون نبيا يدبرهم بالوحي. وأقاموا على ذلك نحوا من ثلثمائة سنة لم يكن لهم فيها ملك مستفحل، والملوك تناوشهم من كل جهة إلى أنّ طلبوا من نبيهم شمويل أنّ يبعث عليهم ملكا، فكان طالوت، ومن بعده داود، فاستفحل ملكهم يومئذ وقهروا أعداءهم على ما يأتي ذكره بعد. وتسمى هذه المدة بين يوشع وطالوت مدة الحكام ومدة الشيوخ. وأنا الآن أذكر من كان فيها من الحكام على التتابع معتمدا على الصحيح منه، على ما وقع في كتاب الطبري والمسعودي ومقابلا به ما نقله صاحب حماة من بني أيوب في تاريخه عن سفر الحكام والملوك من الإسرائيليات، وما نقله أيضاً هروشيوش مؤرخ الروم في كتابه الذي ترجمه للحكم المستنصر من بني أمية قاضي النصارى وترجمانهم بقرطبة، وقاسم بن اصبغ. قالوا كلهم: لما فتح يوشع مدينة أريحاء سار إلى نابلس فملكها ودفن هنالك شلو يوسف عليه السلام، وكانوا حملوه معهم
عند خروجهم من مصر. وقد ذكرنا أنه كان أوصى بذلك عند موته.
وقال الطبري: أنه بعد فتح أريحا نهض إلى بلد عاي من ملوك كنعان، فقتل الملك وأحرق المدينة، وتلقاه خيقون ملك عمان وبارق ملك أورشليم بالجزى، واستذموا بأمانه فأمنهم وزحف إلى خيقون ملك الأرمانيين من نواحي دمشق، فاستنجد بيوشع، فهزم يوشع ملك الأرمن إلى حوران واستلحمهم وصلب ملوكهم، وتتبع سائر الملوك بالشام، فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا، وملك قيسارية، وقسم الأرض التي ملكها بين بني إسرائيل. وأعطى جبل المقدس لكالب بن يوفنا فسكن مدينة أورشليم وأقام مع بني يهودا ووضع القبة التي فيها تابوت العهد والمذبح والمائدة والمنارة على الصخرة التي في بيت المقدس. وأما بنو أفرايم فكانوا يأخذون الجزية من الكنعانيين. ثم قبض يوشع، في سفر الحكام أنه قبض لثمان وعشرين سنة من ملكه وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقال الطبري: ابن مائة وستة وعشرين سنة والأول أصح. قال: وكان تدبير يوشع لبني إسرائيل في زمن منوشهر عشرين سنة وفي زمن أفراسياب سبع سنين. وقال أيضاً أنّ ملك اليمن شمر بن الأملوك من حِمْيَر كان لعهد موسى، وبني ظفار، وأخرج منها العمالقة. ويقال أيضاً كان من عمال الفرس على اليمن. وزعم هشام بن محمد الكلبي أنّ الفل من الكنعانيين بعد يوشع احتملهم أفريقش بن قيس بن صيفي من سواحل الشام في غزاته إلى المغرب التي قتل فيها جرجيس الملك، وأنه أنزلهم بأفريقية، فمنهم البربر، وترك معهم صهاجة وكتامة من قبائل حِمْيَر انتهى.
وقام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهودا، وقد مر نسبة وكان فنحاص بن العيزر بن هارون كوهنا يتولى أمر صلاتهم وقربانهم. ثم تنبأ وتنبأ أبوه ألعيزر، وكان كالب مضعفا فأقاما كذلك سبع عشرة سنة. وقال الطبري كان مع كالب في تدبيرهم حزقيل بن يودي ويقال له ولد العجوز لأنه ولد بعد أنّ كبرت أمه وعقمت. وحدث عن وهب بن منبه: أنّ حزقيل هذا دبرهم بعد كالب، ولم يقع لهذا ذكر في سفر الحكام، ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا وبنو شمعون لحرب الكنعانيين فغلبوهم وقتلوهم، وفتحوا أورشليم وقتلوا ملكها، ثم فتحوا غزة وعسقلان، وملكوا الجبل كله ولم يقتلوا الغور. وأما سبط بنيامين فكان في قسمهم بلد اليونانيين في أرضهم، وأخذوا منهم الخراج واختلطوا بهم، وعبدوا آلهتهم. فسلط الله عليهم ملك الجزيرة واسمه كوشان شقنائم، ومعناه أظلم الظالمين. ويقال إنه ملك الأرمن في الجزيرة ودمشق، وملك حوران وصيدا وحران، ويقال والبحرين ويقال أنه من أدوم.
وقال الطبري: من نسل لوط، فاستعبد بني إسرائيل ثمان سنين بعد وفاة كالب بن يوفنا، ثم ولي الحكم فيهم عثينئال ابن أخيه قناز بن يوفنا، فحاربهم كوشان هذا وأزال ملكته عن بني إسرائيل، ثم حاربه فقتله. وكان له بعد ذلك حروب سائر أيامه مع بني مؤاب، وبني عفون أسباط لوط، ومع العماليق، إلى أنّ هلك لأربعين سنة من دولته. ثم عبد بنو إسرائيل الأوثان من بعده، فسلط الله عليهم ملك بني مؤاب، واسمه عفلون، بعين مهملة ومعجمة ساكنة ولام مضمومة تجلب واوا ساكنة ونون بعدها، فاستعبدهم ثماني عشرة سنة. ثم قام بتدبيرهم أيهوذ بن كارا من سبط أفرايم. وقال ابن حزم: من بنيامين. وضبطه بهمزة ممالة تجلب ياء، ثم هاء مضمومة تجلب واوا، ثم ذال معجمة، فأنقذهم من يد بني مؤاب، وقتل ملكهم عفلون بحيلة تمت لهم في ذلك. وهو أنه جاء رسولا عن بني إسرائيل متنكرا بهدايا وتحف منهم، حتى إذا خلا به طعنه فأنفذه، ولحق بمكانه من جبل أفرايم. ثم اجتمعوا ونزلوا، فقتلوا من الحرس نحوا من عشرة اَلاف، وغلب ببني إسرائيل بني مؤاب، واستلحمهم وهلك لثمانين سنة من دولته. وقام بتدبيرهم بعده شمكار بن عناث من سبط كاد، وضبطه بفتح الشين المثلثة بعدها ميم ساكنة وكاف تقرب من مخرج الجيم ويجلب فتحها الفا وبعدها راء مهملة. ومات لسنة من ولايته. وبنو إسرائيل على حيالهم من المخالفة، فسلّط الله عليهم ملك كنعان واسمه يافين، بفاء شفوية تقرب من الباء، فسرح إليهم قائده سميرا، فملك عليهم أمرهم واستعبدهم عشرين سنة. وكانت فيهم كوهنة امرأة متنبئة اسمها دافورا، بفاء هوائية تقرب من الباء، وهي من سبط نفطالي، وقيل من سبط أفرايم، وقيل كان زوجها بارق ابن أبي نوعم من سبط نفطالي واسمه البيدوق. فدعته إلى حرب سميرا فأبى إلاّ أنّ تكون معه، فخرجت ببني إسرائيل، وهزموا الكنعانيين، وقتل قائدهم سميرا، وقامت بتدبيرهم أربعين سنة يرادفها زوجها بارق ابن أبي نوعم. قال هروشيوش: وعلى عهدها كان أول ملوك الروم اللطينيين بأنْطاكِية بنقش بن شطونش،
وهو أبو القياصرة ثم توفيت دافورا وبقي بنو إسرائيل فوضى، وعادوا إلى كفرهم، فسلط الله عليهم أهل مدين والعمالقة. قال الطبري: وبنو لوط الذين بتخوم الحجاز قهروهم سبع سنين، ثم تنبأ فيهم من
سبط منشى بن يوسف كدعون بن يواش، وضبطه بفتح الكاف القريبة من الجيم وسكون الدال المهملة بعدها وعين مهملة مضمومة تجلب واوا وبعدها نون، فقام بتدبيرهم. وقد كان لمدين ملكان أحدهما اسمه رابح، والآخر صلمناع. فبعس إلى بني إسرائيل عساكره مع قائدين عوديب وزديف وأهم بني إسرائيل شأنهم، فخرج بهم كدعون فهزموا بني مدين، وغنموا منهم أموالا جمة، ومكثوا أيام كدعون هذا على استقامة في دينهم، وغلب لأعدائهم أربعين سنة. وكان له من الولد سبعون ولدا، وعلى عهده بنيت مدينة طرسوس. وقال جرجيس بن العميد: وملطية أيضاً. ولما هلك قام بتدبيرهم ولده أبو مليخ وكانت أمه من بني شخام بن منشى بن يوسف من أهل نابلس، فأنجدوه بالمال، وقتل بني أبيب كلهم، ثم نازعوه بنو شخام أخواله الأمر، وطالت حروبه معهم، وهلك محاصرا لبعض حصونهم بحجر طرحته عليه امرأة من السور فشدخه. فقال لصاحب سلاحه أجهز علي لئلا يقال قتلته امرأة. وذلك لثلاث سنين من ولايته.
ثم دبر أمرهم بعده طولاع بن فوا بن داود، من سبط يساخر، وضبطه بطاء قريبة من التاء تجلب ضمتها واوا ثم لام ألف ثم عين. وقال الطبري: هو ابن خال أبي مليخ وابن عمه.(قلت): والظاهر أنه ابن خاله لأن سبط هذا غير سبط ذاك. وقال ابن العميد هو من سبط يساخر إلا أنه كان نازلا في سائر من جبل أفراييم، فمن هنا والله أعلم وقع اللبس في نسبه ودبرهم ثلاثا وعشرين سنة. قال هروشيوش: وعلى عهده كان بمدينة طرونية من ملوك الروم اللطينيين برمامش بن بنقش. وملك ثلاثين سنة، وقد مضى ذكره. ولما هلك طولاع قام بتدبيرهم بعده يائير بن كلعاد من سبط منشى بن يوسف، وضبطه بياء مثناة تحتية مفتوحة، وألف ثم همزة مكسورة بعدها ياء أخرى، ثم راء مهملة، وقام في تدبيرهم اثنتين وعشرين سنة. ونصب أولاده كلهم حكاما في بني إسرائيل. وكانوا نحوا من ثلاثين. فلما هلك طغوا وعبدوا الأصنام، فسلط الله عليهم بني فلسطين وبني عمون فقهرهم ثماني عشرة سنة. وقام بتدبيرهم يفتاح من سبط منشى، وضبطه بياء مثناة تحتانية وفاء ساكنة وتاء مثناة من فوق بفتحة تجلب الفاء ثم حاء مهملة. فلما قام بأمرهم طلب ضريبة النحل من بني عمون فامتنعوا من إعطائها، وكانوا ملوكا منذ ثلثمائة سنة، فقاتلهم وغلبهم عليها وعلى اثنتين وعشرين قرية معها. ثم حارب سبط أفراييم، وكانوا مستبدين وحدهم عن بني إسرائيل. فأرادهم على اتفاق الكلمة والدخول في الجماعة، حتى استقاموا على ذلك، وأقام في تدبيرهم ست سنين. وعلى عهده أصابت بلاد اليونان المجاعة العظيمة التي هلك فيها أكثرهم. ولما هلك قام بتدبيرهم أبصان من سبط يهودا من بيت لحم، وضبطه بهمزة مفتوحة وباء موحدة ساكنة وصاد مهملة بفتحة تجلب ألفا بعدها نون. ويقال أنه جد داود عليه السلام، بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينا ذاب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهودا. وحصرون هذا هو جد كالب بن يوفنا الذي دبرهم بعد يوشع. ونحشون كان سيد بني يهودا لعهد خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام، وهلك في التيه. ودخل ابنه سلمون أريحا مع يوشع، ونزل بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس. قال هروشيوش في أيام أبصان هذا كان انقراض ملك السريانيين، وخروج القوط وحروبهم مع النبط.
وأقام أبصان في تدبير بني إسرائيل سبع سنين، ثم هلك فقام بتدبيرهم إيلون من سبط زبولون، وضبطه بهمزة مكسورة تجلب ياء ثم لام مضمومة تجلب واوا ثم نون. فدبرهم عشر سنين ثم هلك، فدبرهم عبدون بن هلال من سبط أفراييم ثمان سنين. وقال ابن العميد اسمه عكرون بن هليان وكان له أربعون ابنا وثلاثون حافدا. قال هروشيوش: وفي أيامه خربت مدينة طرونة قاعدة الروم اللطينيين، خربها الروم الغريقيون في فتنة بينهم. ولما هلك عبدون دفن بأرض أفراييم في جبال العمالقة. واختلف بنو إسرائيل بعده وعبدوا الأصنام وسلط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة. ثم تخلصهم من أيديهم شمشون بن مانوح من سبط دان ويعرف بشمشون القوي، لفضل قوة كانت في يده، ويعرف أيضاً بالجبار
وكان عظيم سبطه. ودبّر بني إسرائيل عشر سنين بل عشرين سنة، وكثرت حروبه مع بني فلسطين واثخن فيهم، واتيح لهم عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه وحبسوه، واستدعاه ملكهم في بعض الأيام إلى بيت آلهتهم ليكلمه، فأمسك عمود البيت وهزه بيده فسقط البيت على من فيه وماتوا جميعا. ولما هلك اضطربت بنو إسرائيل وافترقت كلمتهم، وانفرد كل سبط بحاكم يولونه منهم، والكهنونية فيهم جميعا في عقب العيزار بن هارون من لدن وفاة هارون عليه السلام، بتوليته موسى صلوات الله عليه بالوحي ومعنى الكهنونية اقامة القرابين من الذبح والبخور على شروطها وأحكامها ايشرعئة عندهم. وقال ابن العميد: إنه ولي تدبيرهم بعد شمشون حاكم آخر اسمه ميخائيل بن راعيل، دبرهم ثمان سنين ولم تكن طاعته فيهم مستحكمة، وأن الفتنة وقعت بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم. ثم سكنت الفتنة، وكان الكوهن فيهم لذلك العهد عالي بن بيطات بن حاصاب بن إليان بن فنحاص بن العيزار بن هارون. وقيل من ولد إيتامار بن هارون، وضبطه بعين مهملة مفتوحة تجلب ألفا ثم لام مكسورة تجلب ياء تحتانية. فلما سكنت الفتنة كانوا يرجعون إليه في أحكامهم وحروبهم. وكان له ابنان عاصيان فدفعهما إلى ذلك، وكثر لعهده قتال بني فلسطين، وفشا المنكر من ولديه وأمر بدفعهم عن ذلك، فلم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا، وأنذر الأنبياء بذهاب الأمر عنه وعن ولده، ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم، وأصابوا منهم فتذامر بنو إسرائيل واحتشدوا وحملوا معهم تابوت العهد، ولقيهم بنو فلسطين. فانهزم بنو إسرائيل أمامهم وقتلوا أبنا عالي كوهن كما أنذر به أبوهما وشمويل. وبلغ أباهما الكوهن خبر مقتلهما فمات أسفا لأربعين سنة من دولته. وغنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه، واحتملوه إلى بلادهم بعسقلان وغزة، وضربوا الجزية على بني إسرائيل. ولما مضى القوم بالتابوت فيما حكى الطبري، وضعوه عند آلهتهم فقلاها مرارا فأخرجوه إلى ناحية من القرية، فاصيبوا فتبادروا بإخراجه وحملوه على بقرتين لهما تبيعان، ووضعتاه عند أرض بني إسرائيل ورجعتا إلى ولديهما. وأقبل إليه بنو إسرائيل، فكان لا يدنو منه أحد إلا مات، حتى أذن شمويل لرجلين منهم حملاه إلى بيت أمهما وهي أرملة، فكان هنالك حتى ملك طالوت ا هـ . وكان ردهم التابوت لسبعة أشهر من يوم حملوه، وكان عالي الكوهن قد كفل ابن عمه شمويل بن الكنا بن يوام بن إلياهد بن ياو بن سوف، وسوف هو أخو حاصاب بن البلى بن يحاص. وقيل أنّ شمويل من عقب فورح وهو قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوي. ونسبه إليه شمويل بن الفنا بن يروحام بن اليهوذ بن يوحا بن صوب بن إلقانا بن يويل بن عزير بن صنعينا بن ثاحت بن أسر بن ألقانا بن النشاسات بن قارون. وكانت أمه نذرت أنّ تجعله خادما في المسجد، وألقته هنالك فكفله عالي وأوصى له بالكهنونية. ثم أكرمه الله بالنبوة وولاه بنو إسرائيل أحكامهم، فدبرهم عشر سنين. وقال جرجيس بن العميد عشرين سنة، ونهاهم عن عبادة الأوثان فانتهوا، وحاربوا أهل فلسطين واستردوا ما كانوا أخذوا لهم من القرى والبلاد، واستقام أمرهم ثم دفع الأمر إلى ابنيه يؤال وأبيا. وكانت سيرتهما سيئة. فاجتمع بنو إسرائيل إلى شمويل وطلبوه أنّ يسأل الله في ولاية ملك عليهم، فجاء الوحي بولاية طالوت، فولاه وصار أمر بني إسرائيل ملكا بعد أنّ كان مشيخة والله معقب الأمر بحكمته لا رب غيره.
خريطة
الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افتراق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود علي السبطين يهوغا وبنيامين بالقدس إلى انقراضها لما نقم بنو إسرائيل على يؤال وأبيا ابني شمويل مما نقموا من أمورهم، واجتمعوا إلى شمويل وسألوه من الله أنّ يبعث لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم، ويجمع نشرهم ويدفع الذل عنهم، فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت ويدهنه بدهن القدس، فأبوا بعد أنّ أمر شمويل بأن يستهموا عليه فاستهموا على بني آبائهم، فخرج السهم على طالوت وكان أعظمهم جسما فولوه. واسمه عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل، بالفاء الهوائية القريبة من الباء، ابن صار وابن نحورت بن أفياح. فقام بملكهم واستوزر افنين ابن عمه نير بن أفيل. وكان لطالوت من الولد يهوناتان وملكيشوع وتشبهات وأنبياداف. وقام طالوت بملك بني إسرائيل، وحارب أعداءهم من بني فلسطين وعمون ومؤاب والعمالقة ومدين، فغلب جميعهم. ونصر بنو إسرائيل نصراً لا كفاء له. وأول من زحف إليهم ملك بني عفون، ونازل قرية بلقاء، فهجم عليهم طالوت وهو في ثلثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم. ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل إلى فلسطين فنال منهم واجتمعوا لحرب بني إسرائيل، فزحف إليهم طالوت وشمويل فانهزموا، واستلحمهم بنو إسرائيل، وأمر شمويل أنّ يسير إلى العمالقة، وأن يقتلهم ودوابهم ففعل، واستبقى ملكهم أعاع مع بعض الأنام، فجاء الوحي إلى شمويل بأن الله قد سخطه وسلبه الملك، فخبره بذلك، وهجره شمويل فلم يره بعد. وأمر شمويل أنّ يقدس داود وبعث له بعلامته، فسار إلى بني يهوذا في بيت لحم وجاء به أبوه إيشا، فمسحه شمويل وسلب طالوت روح الجسد وحزن لذلك ثم قبض شمويل وزحف جالوت وبنو فلسطين إلى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت في العساكر وفيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا وكان صغيرا يرعى الغنم لأبيه. وكان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطىء. قال الطبري: وكان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت وأعطاه علامة قاتله فاعترض بني إسرائيل حتى رأى
العلامة فيه فسلحه وأقام في المصاف، وقد احتمل الحجارة في مخلاته، فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكه في رأسه ومات. وانهزم بنو فلسطين، وحصل النصر، فاستخلص طالوت حينئذ داود وزوجه ابنته وجعله صاحب سلاحه. ثم ولاه على الحروب فاستكفى به، وكان عمره حينئذ فيما قال الطبري ثلاثين سنة. وأحبه بنو إسرائيل واشتملوا عليه. وابتلي طالوت وبنوه بالغيرة منه، وهم بقتله ونفذ لذلك مراراً، ثم حمل ابنه يهونتان على قتله فلم يفعل لخلة ومصافاة كانت بينهما، ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه. فلحق بفلسطين وأقام فيها أياما، ثم إلى بني مؤاب كذلك، ثم رجع إلى سبطه يهوذا بنواحي بيت المقدس، فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم، حتى إذا شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه إليه، فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه عنهم، ولحق ببني فلسطين وقاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه واتبعوه وأولاده يقاتلون دونه، حتى قتل يهونتان ومشوى وملكيشوع، وبنو فلسطين في اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه. وذلك فيما قال الطبري لأربعين سنة من ملكه. ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم وهو داود بن إيشا بن عَوْفَذ. بالفاء الهوائية، بن بوغر واسمه افصان بالفاء الهوائية والصاد المشمة. وقد قدمنا ذكره في حكام بني إسرائيل بن سَلَمُون، الذي نزل بيت لحم لأول الفتح، ابن نَحْشُون، سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر، ابن عمِّيناذاب بن إرم بن حصرون بن بارص بن يهوذا. هكذا نسبه في كتاب اليهود والنصارى، وأنكره ابن حزم قال: لأن نحشون مات بالتيه، وإنما دخل القدس ابنه سلمون. وبين خروج بني إسرائيل من مصر وملك داود ستمائه سنة باتفاق منهم. والذي بين داود ونحشون أربعة آباء، فإذا قسمت الستمائة عليهم يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة والثلاثين سنة وهو بعيد. ولما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية، وهي قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد، واجتمع الأسباق كلهم إلى يشوشات بن طالوت فملكه في أورشليم، وقام بأمره وزير أبيه أفيند وقد مر نسبه. وفي كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات: أنّ رجلا جاء لداود بعد وفاة طالوت، فأخبره بمهلكه ومهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين، وأمر هذا الرجل أنّ يقتله لما أدركوه، فقتله وجاء بتاجه ودملجه إلى داود، وانتسب إلى العمالقة فقتله
داود بقتله. وبكى على طالوت وذهب إلى سبط يهوذا بأرض حفرون، بالفاء القريبة من الباء، وهي قرية الخليل لهذا العهد. وأقام شيوشيات بن طالوت في أورشليم الأسباط كلهم مجتمعون عليه، وأقامت الحرب بينهم وبين داود أكثر من سنتين. ثم وقع الصلح بينهم والمهادنة، وأذعن الأسباط إلى داود وتركوه. ثم اغتاله بعض قواده وجاء براسه إلى داود فقتله به، وأظهر عليه الحزن والأسف، وكفل اخواته وبنيه أحسن كفالة. واستبد داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره وقاتل بني كنعان فغلبهم ثم طالت حروبه مع بني فلسطين واستولى على كثير من بلادهم، ورتب عليهم الخراج.ثم حارب أهل مؤاب وعمون، وأهل أدوم وظفر بهم، وضرب عليهم الجزية. ثم خرب بلادهم بعد ذلك، وضرب الجزية على الأرمن بدمشق وحلب، وبعث العمال لقبضها. وصانعه ملك أنْطاكِية بالهدايا والتحف، واختط مدينة صهيون وسكنها واعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليها. فأوحى الله إلى دانيال، نبي على عهده، أنّ داود لا يبني وإنما يبنيه ابنه، ويدوم ملكه، فسر داود بذلك.
ثم انتقض عليه ابنه أبشلوم وقتل أخاه أمون غيرة منه على شقيقه بامان وهرب. ثم استماله داود ورده وأهدر دم أخيه وصير له الحكم بين الناس. ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط ولحق داود بأطراف الشام، وقيل لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز، ثم تراجع للحرب فهزمه داود وأدركه يؤاب وزير داود، وقد تعلق بشجرة فقتله. وقتل في الهزيمة عشرون ألفا من بني إسرائيل. وسيق راس قشلوط لولي أبيه داود فبكى عليه، وحزن طويلا واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه. ثم أحصى بني إسرائيل فكانوا ألف ألف ومائة ألف، وسبط يهوذا أزيد من أربعمائة ألف. وعوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير إذن، وأخبره بذلك بعض الأنبياء لعهده. وأقام داود صلوات الله عليه في ملكه، والوحي يتتابع عليه، وسور الزبور تنزل. وكان يسبح بالأوتار والمزامير. وأكثر المزامير المنسوبة إليه في ذكر التسبيح وشأنه. وفرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبح بالمزامير قدّام تابوت العهد اثني عشر كوهناً لكلّ
ساعة. ثم عهد تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان صلوات الله عليهما، ومسحه مابان النبي، وصادوق الخبر، مسحة التقديس، وأوصى ببناء بيت المقدس. ثم قبض صلوات الله عليه ودفن في بيت لحم وكان لعهده من الأنبياء نامان وكاد وآصاف. وكان الكهنون الأعظم افيثار بن أحيلج من عقب عالي الكوهن الذي ذكرناه في الحكام. وكان من بعده صادوق.
ثم قام بالملك من بعده من بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. فاستفحل ملكه، وغالب الأمم وضرب الجزية على جميع ملوك الشام. مثل فلسطين وعمون وكنعان ومواب وأدوم والأرمن. وأصهر إليه الملوك من كل ناحية ببناتهم، وكان ممن تزوج بنت فرعون مصر، وكان وزيره يؤاب بن نيثرا وهو ابن أخت داود اسمها صوريا. وكان وزيراً لداود. فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته، ثم قتله بعد ذلك واستوزر يشوع بن شيداح. ولأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك، فلم يزل إلى آخر دولته، بعد أنّ هدم مدينة أنْطاكِية، وبنى مدينة تدمر في البرية، وبعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان. وأجرى على الفعلة فيه كل عام عشرين ألف كرّ من الطعام، ومثلها من الزيت، ومثلها من الخمر. وكان الفعلة في لبنان سبعين ألفاً، ولنحت الحجارة ثمانين ألفاً، وخدمة المناولة سبعون ألفاً. وكان الوكلاء والعرفاء على ذلك العمل ثلاثة آلاف وثلثمائة رجل.
ثم بنى الهيكل وجعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين وعرض عشرين. وجعل بدائره كله أروقة وفوقها مناظر، وجعل بدائر البيت ابريداً من خارج، ونمقه وجعل الظهر مقوراً ليودع فيه تابوت العهد. وصفّح البيت من داخله وسقفه بالذهب، وصنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب، وهما تمثالان للملائكة الكروبيين. وجعل للبيت أبواباً من خشب الصنوبر، ونقش عليها تماثيل من الكروبيين والنرجس والنخل والسوسن، وغشاها كلها بالذهب. وأتم بناء الهيكل في سبع سنين، وجعل لها باباً من ذهب، ثم بنى بيتاً لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر، في كل صف خمسة عشر عموداً، ووضع فيه مائتي ترس من الذهب، في كل ترس ستمائة من حجر الجوهر والزمرد، وثلثمائة درقة من الذهب، في كل درقة ثلثمائة من حجر الياقوت. وسمى هذا البيت غيضة لبنان. وصنع منبراً لجلوسه تحت رواق وكراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من الذهب. ثم بنى من فوق هذا البناء بيتاً لابنة فرعون التي تزوج بها، وصنع بها أوعية النحاس لسائر ما يحتاج إليه في البيت، واسترضى الصناع لذلك من مدينة صور. وعمل مذبح القربان بالبيت من الذهب، ومائدة الخبز الوجوه من الذهب، وخمس منابر عن يمين الهيكل وخمسا عن يساره بجميع آلاتها من الذهب، ومجامر من الذهب. وأحضر موروث أبيه من الذهب والفضة والأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت، وبعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الذي بناه له، فحمله رؤساء الأسباط والكهنونية على كواهلهم حتى وضعوه تحت أجنحة التمثالين للكروبيين بالمسجد وكان في التابوت اللوحان من الحجارة اللذان صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة، وحملوا مع تابوت العهد قبة القربان وأوعيتها إلى المسجد. وأقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود، اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح فيها اثنين وعشرين ألفا من البقر، ثم كان يقرّب ثلاث مرات في قرابين وذبائح كاملة، ويبخر البخور، وجميع الأوعية لذلك كلها ذهب. وكانت جبايته في كل سنة ستمائة قنطار وستة وستين قنطارا من الذهب، غير الهدايا والقربان إلى بيت المقدس. وكانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب والفضة والبضائع والفيلة والقرود والطواويس، وكانت له خيل كثيرة مرتبة تجلب من مصر وغيرها، تبلغ ألفاً وستمائة فرس، معدة كلها للحرب. وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة وسرية، منها ثلثمائة سرية. وفي الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج، فوافى الحرم وأقام فيه ما شاء الله. وكان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة، وخمسة آلاف بقرة، وعشرين ألف شاة. ثم سما إلى ملك اليمن وسار إليه، فوافى صنعاء من يومه. وطلب الهدهد لالتماس الوضوء، وكان قناقه أي ملتمس الوضوء له في الأرض، فافتقده ورجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن. ودافعته بالهدية فلم يقبلها، فلاذت بطاعته ودخلت في دينه وطاعته. وملكته أمرها ووافته بملك اليمن. وأمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك، فقال لا بدّ في الدين من ذلك. فقالت زوجني ذا تّبع ملك همدان فزّوجها إياه، وملكه على اليمن واستعملها فيه ورجع إلى الشام. وقيل تزوجها وأمر الجنّ فبنوا لها سليمين وغمدان. وكان يزورها في الشهر مرة يقيم عندها ثلاثاً. وعلماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز واليمن. وإنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبأ، وانها وفدت عليه في اورشليم، وأهدت إليه مائة وعشرين قنطارا من الذهب ولؤلؤاً وجوهراً وأصنافاً من الطيب والمسك والعنبر، فأجازها وأحسن إليها، وانصرفت. هكذا في كتاب الأنساب من كتبهم. ثم انتقض على سليمان آخر أيامه هدرور ملك الأرمن بدمشق وهداد ملك أدوم، وكان قد ولى على ضواحي بيت المقدس، وجميع أعماله يربعان بن نباط من سبط أفرايم واستكفى به في ذلك، وكان جباراً، فعوتب بالوحي على لسان أخيا النبي في توليته، فأراد قتله، وشعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر فأنكحه فرعون ابنته، وولدت له ابنه ناباط، وأقام بمصر. وقبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه، وقيل لاثنتين وخمسين، ودفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما. وافترق ملك بني إسرائيل من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى.
خريطة
الخبر عن افتراق بني إسرائيل منهم ببيت المقدس علي سبط يهوذا وبنيامين إلي انقراضه لما قبض سليمان صلوات الله عليه وسلامه ولي ابنه رحبعم، وضبطه براء مهملة وحاء مهملة مضمومتين وباء موحدة ساكنة وعين مهملة مضمومة وميم، فقام بأمره وزاد في عمارة بيت لحم وغزة وصور وأيلة واشتدّ علي بني إسرائيل، وطلبوا منه تخفيف الضرائب فامتنع، وطالبهم بالوظائف وأخذ فيهم برأى الغواة من بطانته، فنقموا عليه ذلك وانتقضوا. وجاءهم يربعم بن نباط من مصر فبايعوه، وولّوه عليهم، واجتمع عليه سائر الأسباط العشرة من بني إسرائيل ما عدا سبط يهوذا وبنيامين، وتزاحفوا للحرب. ثم دعاهم بعض أنبيائهم للصلح فتواضعوا واصطلحوا.
وفي السنة الخامسة من ملك رحبعم زحف شيشاق ملك مصر إلى بيت المقدس، فهرب رحبعم واستباحها شيشاق، ورجع وضرب عليهم الجزية، ثم دفعوه ومنعوه.
فأقام بنو داود في سلطانهم على بني يهوذا وبنيامين ببيت المقدس وعسقلان وغزة ودمشق وحلب وحمص وحماة وما إلى ذلك من أرض الحجاز، وملك الأسباط العشرة بنواحي نابلس وفلسطين. ثم نزلوا مدينة شومرون وهي شمرة وسامرة في الناحية الشرقية الشمالية من الشام مما يلي الفرات والجزيرة، واتخذوها كرسيا لملكهم ذلك. وأقاموا على هذا الافتراق إلى حين انقراض أمرهم، ووقعوا في الجلاء الذي كتب الله عليهم كما نذكره. ثم هلك رحبعم لسبع عشرة سنة من دولته وولي بعده على سبط يهوذا وبنيامين بأرض القدس ابنه أفيا، وضبطه بهمزة مفتوحة ومتوسطة بين الفاء والذال من لغتهم وياء مثناة من تحت مشددة وألف، وكان على مثل سيرة أبيه. وكان عابداً صواماً، وكانت أيامه كلها حربا مع يربعم بن نباط، وبني إسرائيل. وهلك لثلاث سنين، وولي بعده ابنه أسا، بضم الهمزة وفتح السين المهملة وألف
بعدها، ابن أفيا. وطال أمد ملكه، وكان رجلا صالحا، وكان على مثل سيرة جده داود صلوات الله عليه، وتعدت الأنبياء في بني إسرائيل على عهده، ومات يربعم بن نباط لسنتين من ملكه. وملك بعده ابنه ناداب، وقتله يعشا بن أحيا كما نذكر في أخبارهم.
ثم وقعت بينه وبين أسا حروب، واستبد أسا بملك دمشق فزحف معه، وكان يعشا ملك السامرة في ناحية يثرب لبنائها، فهرب وترك آلات البناء، فنقلها أسا ملك القدس، وبنى بها الحصون.. ثم خرج عليهم زادح ملك الكوش في ألف ألف مقاتل، ولقيهم أسا فهزمهم وأثخن فيهم. ولم تزل الحرب قائمة بين أسا وبين الأسباط بالسامرة سائر أيامه. وعلى عهده اختطت السامرة كما نذكره بعد. ثم هلك أسا بن أفيا لإحدى وأربعين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه يهوشافاط، بياء مفتوحة مثناة تحتانية وهاء مضمومة وواو ساكنة وشين معجمة بعدها ألف ثم فاء بعدها ألف وطاء، فكان على مثل سيرة أبيه. وكانت أيامه مع أهل السامرة وملوكهم سلماً. واجتمع ملوك العمالقة، ويقال أدوم، وخرج لحربهم فهزمهم وغنم أموالهم. وكان لعهده من الأنبياء إلياس بن شوياق وإليسع بن شوبوات. وقال ابن العميد: إيليا ومنحيا وعبوديا، وكانت له سفن في البحر يجلب له فيها بضائع الهند، فأصابها قاصف الريح فتكسرت وغرقت. ثم هلك لخمسة وعشرين سنة من ملكه، وولي ابنه يهورام، بفتح المثناة التحتانية ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم راء مفتوحة تجلب ألفا وبعدها ميم، وانتقض عليه أدوم، وولوا عليهم ملكا : ألنهم. فزحف فيهم ووقع بهم في سفيرا أوسط بلادهم، وأثخن فيهم بالسبي والقتل. ثم رجع عنهم وأقاموا في عصيانهم، وعلى عهده زحف ملك الموصل إلى الأسباط بالسامرة، فكانت بينه وبينهم حروب كما نذكر. وقال ابن العميد: كانت على بني مؤاب جزية مضروبة لبني يهوذا: مائتان من الغنم كل سنة، فمنعوها واجتمع ملوك القدس والسامرة لحربهم، وحاصروهم سبعة أيام، وفقدوا الماء فاستسقى لهم إليسع، وجرى الوادي. فخرج أهل مؤاب فظنوه ماء،
فقتلهم بنو إسرائيل وأثخنوا فيهم. وفي أيام يهورام رفع إيليا النبي وانتقل سره إلى إليسع، وكان على عهده من الأنبياء أيضاً عبوديا، ثم هلك يورام لثمان سنين من ملكه، ودفن عند جذه داود وولي بعده ابنه أحزياهو بهمزة مفتوحة وحاء مهملة مضمومة وزاي معجمة ساكنة ثم ياء مثناة تحتية تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا، وأمة عثليا بنت عمري أخت أخاب، وسار سيرة خاله، وملك سنة واحدة وقيل سنتين، وخرج لقتال ملك الجزيرة والموصل، واستنفر معه صاحب السامرة يورام ابن خاله أخاب، فاقتتلوا معه ثم انصرفوا، وابن خاله جريح. وجاءه أحزياهو في بعض الأيام يعوده. وكان ابن يهوشافاض ابن منشي من سبط منشا بن يوسف يترصد قتل يورام بن أخاب ملك السامرة، فأصاب فرصة في ذلك الوقت فقتلهما جميعا.
وقال ابن العميد: أنّ يورام بن أخاب ملك السامرة خرج لحرب أدوم في رواية كلعاد، وخرج معه أحزياهو فقتلا في تلك الحرب. قال: وقيل أنّ ياهوعشا رمى بسهم فأصاب يورام بن أخاب وكان لعصره من الأنبياء إليسع وعامور وفنحاء. ثم ملك بعد أحزيا أمه عثليا بنت عمري، كذا وقع اسمها في كتاب الطبري. وفي كتاب الإسرائيليات اسمها أضالية. ويقال كانت من جواري سليمان، ثم استفحل ملكها بالقدح وقتلت بني داود كلهم وأغفلت ابنا رضيعا من ولد أبيها أحزياهو اسمه يؤاش، بضم الياء المثناة التحتية ثم همزة مفتوحة تجلب ألفا ثم شين معجمة، أخفته عمته يهوشيع بنت يهورام في بعض زوايا القدس، وعلم بمكانه زوجها يهودياع وهو يومئذ الكوهن الأعظم. حتى إذا كملت له سبع سنين ونقم بنو يهوذا سيرة عثليا اجتمعوا إلى يهوديادع الكوهن فأخرج لهم يؤاش بن أحزياهو من مكانه، واستحلفهم فبايعوا له وقتلوا جدّته عثليا ومن معها لسبع سنين من ملكها.
وقام يؤاش بملكه في تدبير يهوديادع الكوهن، ثم أراد عبادة الأصنام فمنعه زكريا النبي فقتله. وكان لعهده من الأنبياء إليسع وعوفريا وزكريا بن يهوديادع. وهلك يهوديادع لثلاث وعشرين سنة من ملك يؤاش بعد أنّ جدد يؤاش بيت المقدس، ولثمان وثلاثين من ملكه قبض إليسع النبي صلوات الله عليه. وعلى عهده زحف شريال ملك الكسدانيين ببابل إلى بيت المقدس ويقال ملك نينوى والموصل وقال ابن العميد: ملك الشام فأعطاهم جميع ما في خزائن الملك وبيت المقدس من الأموال، ودخل في طاعتهم إلى أنّ قتله وزراؤه وأهل دولته لأربعين سنة من ملكه، وولوا مكانه ابنه أمصياهو، بفتح الهمزة والميم وسكون الصاد المشمة بالزاي بعدها ياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا، واستبدوا عليه، ثم ثار عليهم بأمه وقتلهم أجمعين. وسار إلى أدوم فظفر بهم وقتل منهم نحوا من عشرين ألفا. ثم زحف إليه ملك الأسباط بالسامرة ولقيه فهزمه وحصل في أسره.
وسار إلى بيت المقدس، فحاصرها وهدم من سورها نحوا من أربعمائة ذراع، واقتحمها فغنم ما في خزائن بيت السلطان وبيت الهيكل من الأموال والأواني والذخائر، ورجع إلى السامرة فأطلق أمصياهو ملك القدس، فرجع إلى قومه ورم ما تثلم من سورها. ولم يزل مملكا حتى نقموا عليه أفعاله فقتلوه لسبع وعشرين سنة من ملكه. وكان لعهده من الأنبياء يونان وناحوم وتنبأ لعصره عاموص. ولما قتلوا أمصياهو ولوا ابنه عزياهو، بعين مهملة مضمومة وزاي معجمة مكسورة مشددة وياء مثناة تحتانية تجلب ألفا وهاء تجلب واوا، وطالت مدته ثلاثا وعشرين سنة واختلفت فيها أحواله.
قال ابن العميد: ولخمس من ملكه كان ابتداء وضع سني الكبس، التي هي سنة بعد أربع تزيد يوما على الماضية، بحساب ربع يوم في كل سنة الذي اقتضاه حساب مسير الشمس عندهم. قال: ولست من ملكه انقرض ملك الأرمانيين من الموصل، وصارت إلى بابل. ولاثنتين وعشرين من ملكه غزا ملك بابل واسمه فول مدينة السامرة، فاقتحمها وأعطاه ملكها بدرة من المال فرجع عنه. قال: ولعهده ملك علم بابل رينوس وبلقب قطب الملك ولعهده ملك على
اليونانيين ملكهم الأول من مدينة أنقياس لثلاث وعشرين سنة من تملك عزياهو. قال: ولإحدى وخمسين من ملكه ملك ببابل بختنصر الأول. قال: ولعهده أيضاً كان الملك الأول من الروم المقدويس ويسمى فروس. ولعهده كان من الأنبياء يوشع وغوزيا وأمُّوص وأشعيا ويونس بن متى.
قال ابن العميد: وانتهت عساكر عزياهو إلى ثلثمائة ألف، وأصابه البرص بدعاء الكوهن، لما أراد أنّ يخالف التوراة في استعمال البخور وهو محرم على سبط لاوي، فبرص ولزم بيته سنة. وصار ابنه يُؤام ينظر في أمر الملك إلى أنّ تغلب على أبيه. قال هروشيوش: وعلى عهده أيضاً قُتِلَ شرديال آخر ملوك بابل من الكلدانيين على يد قائده أرباط بن ألمادس. واستبد بملك بابل وأصارَهُ إلى قومه بعد حروب طويلة. ثم زحف إلى القوط والعرب من قضاعة فحاربهم طويلا وانصرف عنهم. ثم هلك عزياهو لثلاث وخمسين سنة ملأ ملكه، وملك بعده ابنه يُؤاب، وكان صالحا تقيا. وكان لعهده من الأنبياء هُوَسيع وأشعيا ويوئيل وعوفد. وفي أيامه استبد أغلب ملوك الجزيرة على اليهود، وكانوا يعرفون بالسوريانيين. ثم هلك يوآب لست عشرة سنة من ملكه وملك ابنه أحاز، بهمزة مفتوحة ممالة وحاء مهملة تجلب ألفا وزاي معجمة، فخالف سنة آبائه. وعبد بنو إسرائيل الأوثان في أيامه، وحارب الأرمن واستجاش عليهم بملك الموصل، فزحف معه وحاصر دمشق وملكها منهم واستباحها، ورجع إلى بلاده. ثم خرج أحآز لحربهم فهزموه وقتلوا من اليهود مائة وعشرين ألفاً ونحوها وأرجعوا أحآز إلى دمشق أسيرا. قال هروشيوش: وعلى عهد أحآز كان انقراض ملك ألماريس على يد كيرش ملك الفرس ورجعت أعمالهم إليه، ويقال: أنّ آخر ملوكهم هو أشتانيش وكان جد كيرش لأمه، وكفله صغيرا فلما شب وملك حارب جذه فقتله وانتزع ملكه. وقال ابن العميد عن المسبحي: ولذلك العهد ملك على الروم الفرنجة غير اليونان الأخوان روملس ورومانس واختط مدينة رومة. وقال هروشيوش: ولعهده ملك على الروم اللطينيين بأرض أنْطاكِيةرُومَلُمس ثم مَرْكَةَ وبنى مدينة رومة.
ثم هلك أحآز لست عشرة من ملكه وولى ابنه حزقياً هو بحاء مهملة مكسورة وزاي معجمة ساكنة وقاف مكسورة وياء مثناة تحتانية مشددة تجلب ألفاً وهاء مضمومة تجلب واوا، فقطع عبادة الأوثان وسار سيرة جده داود، ولم يكن في ملوك بني يهوذا مثله. وعصى على ملك الموصل وبابل وتوريش، وهزم فلسطين وخرَّب قراهم. وفي أيامه وأيام أبيه سار شليشار ملك الجزيرة والموصل إلى الأسباط بالسامرة فضرب عليهم الجزية، ثم سار في أيامه فأزال ملكهم. ولأربع من ملكه زحف إليه رضين ملك دمشق ورجع عنه من غير قتال. ولأربع عشرة من ملكه زحف إليه سنجاريف ملك الموصل بعد فتح السامرة، فافتتح أكثر مدائن يهوذا وحاصرهم ببيت المقدس. وصانعه حزقياهُو بثلثمائة قنطار من الفضة وثلاثين من الذهب، أخرج فيها ما كان في الهيكل وبيت الملك من المال، ونثر الذهب من أبواب المسجد، دفع ذلك له، ورجع عنه. ثم فسد ما بينهما وزحف إليه سنجاريف ثانيا وحاصره وامتنع من قبول مصانعته. وقال من ذا الذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم أنتم إلهكم؟ فخافوا منه وفزعوا إلى النبي شعياء في الدعاء، فأمنهم منه ودعا عليه، فوقع الطاعون في عسكره. ثم تواقعوا في بعض الليالي فبلغ قتلاهم مائة وعشرين ألفاً، ورجع سنجاريف إلى نينوى والموصل فقتله أبناؤه وهربوا إلى بيت المقدس وملك ابنه السرمعون.
وقال الطبري: أنّ ملك بني إسرائيل اشر سنجاريف وأوحى الله إلى شعياء أنّ يطلقه فأطلقه قال: وقيل أنّ الذي سار إليه سنجاريف من ملوك بني إسرائيل كان أعرج، وأن سنجاريف لعهد ملك اذربيجان، وكان يدعى سليمان الأعسر. فلما نزل بيت المقدس صار بينهما أحقاد كامنة فتواقعوا وهلك عامة عسكرهما وصار ما معهما غنيمة لبني إسرائيل. وبعث ملك بابل إلى حزقيا ملك الفرس بالهدايا والتحف، فأعظم موصلها وبالغ في كرامة الوفد، وفخر عليهم بخزانته وطوفهم عليها، فنكر ذلك عليه شعياء النبي وأنذره بأن ملوك بابل يغنمون جميع هذه الخزائن، ويكون من أبنائك خصيان في قصرهم. ثم هلك حزقياهو لتسع وعشرين سنة من ملكه وولى ابنه منشا بميم مكسورة ونون
مفتوحة وشين معجمة مشددة وألف، وكان عاصيا قبيح السيمة وكانت آثاره في الدين شنيعة. وأنكر عليه شعيا النبي أفعاله فقتله نشرا بالمناشير من رأسه إلى مفرق ساقيه، وقتل جماعة من الصالحين معه. وفي تاسعة وثلاثين من ملكه ملك سنجاريف الصغير مملكته الموصل. قاله ابن العميد: وفي الثانية والخمسين بنيت بوزنطية بناها ئورس الملك وهي التي جددها قسطنطين وسماها باسمه. وفي أيامه ملك برومة قنوقرسوس الملك. وفي الحادية والخمسين من ملكه زحف سنجاريف ملك الموصل إلى القدس فحاصرها ثلاث سنين وافتتحها في الرابعة والخمسين من ملكه، وولى بعده ابنه أمون، بهمزة قريبة من العين والميم مضمومة تجلب واوا ثم نون، وكانت حاله مثل حال أبيه، فملك سنتين وقيل اثنتي عشرة، ثم اغتاله عبيده فقتلوه.
واجتمع بنو يهوذا فقتلوا أولئك العبيد وأقاموا ابنه يوشيا مكانه، وضبطه بياء مثناة تحتية مضمومة تجلب واوا بعدها شين معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا. فلما ملك أحسن السيرة وهدم الأوثان، وكان صالح الطريقة مستقيم الدين. وقتل كهنة الأصنام، وهدم البيوت والمذابح التي بناها يربعام بن نباط بالبرابرة. وكان في أيامه من الأنبياء صفونا وكلدي امرأة شالوم وناحوم. وتنبأ لعهده إرميا بن الحيا من نسل هارون وأخبرهم بالجلاء إلى بابل سبعين سنة. فأخذ يوشيا قبة القربان وتابوت العهد، وأطبق عليهما في مغارة فلم يعرف مكانهما من بعد ذلك. وفي أيامه ملك المجوس بابل، ولإحدى وثلاثين من دولته ملك فرعون الأعرج مصر، وزحف لقتال مسبح بالفرات، فخرج يوشيا لحربه، وانهزم يوشيا فهلك بسهم أصابه لاثنتين وثلاثين من دولته، وولي بعده ابنه يوآش وبقال اسمه يهوياحاز، فعطل أحكام التوراة وأساء السيرة فزحف إليه فرعون الأعرج، وأخذه ورجع به إلى مصر، فمات هنالك. وضرب على أرضهم الخراج مائة قنطار فضة وعشرة ذهبا. وكانت ولايته ثلاثة أشهر، وولوا مكانه أخاه ألياقيم بن يوشيا، بهمزة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتانية يجلب فتحها ألفا وقاف مكسورة تجلب ياء ثم ميم، وكان عاصيا كافرا وكان يأخذ الخراج لفرعون من بني يهوذا على قدر أحوالهم. ثم زحف إليه بختنصر ملك بابل لسبع من ولاية ألياقيم،
فملك الجزيرة وسار إلى بيت المقدس، فضرب عليهم الجزية أولا، ودخل ألياقيم في طاعته ثلاث سنين. وسلط الله عليه أدوم- وعمون- وموآب والكلدانيين. ثم انتقض عليه فسرح الجيوش إليه فقبضوا عليه واحتملوه إلى بابل، فهلك في طريقه لاحدى عشرة سنة من ملكه. وولى بختنصر مكانه ابنه يخنيو، بفتح الياء المثناء التحتانية بعدها خاء معجمة مضمومة ثم نون ساكنة وبعدها ياء تحتانية تجلب ضمتها واواً، فأقام ثلاثة أشهر، ثم زحف إليه وحاصره وأخرج إليه أمه وأشراف مملكته فأشخصهم إلى بلده، وجمع أهله ورجال دولته وسائر بني إسرائيل نحوا من عشرة آلاف واحتملهم أسارى إلى بابل. وغنم جميع ما كان في الهيكل والخزائن من الأموال، وجميع الأواني التي صنعها سليمان للمسجد. ولم يترك بمدينة القدس إلا الفقراء والضعفاء، وبقي يخنيو ملك بني إسرائيل محبوسا سبعا وثلاثين سنة. وقال ابن العميد: أنّ بختنصر سار إلى القدس في الثالثة من مملكة ألياقيم، وسبى طائفة منها وانتهب جميع ما في بيت الهيكل. وكان في سنة دانيا وخانيا وعزاريا وميصائل. وإن في السنة الخامسة من ملكه قاتل بختنصر فرعون الأعرج ملك مصر. وفي الثانية من ملك ألياقيم غزا بختنصر القدس ووضع عليهم الخراج، وأبقى ألياقيم في ملكه، وهلك لثلاث سنين بعد ذلك. وملك ابنه يخنيو. وكان لعهده من الأنبياء إرميا وأوريا بن شعيا ومُوري والد حزقيا. وفي أيامه تنبأ دانيال. ثم سار بختنصر ليخنيو فأشخصه إلى بابل كما مر.
وقال الطبري ووافقه نقل هروشيوش: أنّ بختنصر ولّى مكان يخنيو بن ألياقيم عمه متنيا، بميم مفتوحة وتاء مثناة فوقانية مفتوحة مشددة ونون ساكنة وياء مثناة تحتانية تجلب ألفاً ويسمى صدقياهو، وكان عاصياً قبيح السيرة. ولتسع سنين من ولايته انتقض على بختنضر فزحف إليه في العساكر، وحاصر بيت المقدس وبنى عليها المدر للحصار، وأقام ثلاث سنين واشتدّ الحصار بهم، فخرجوا هاربين منها إلى الصحراء. واتبعتهم العساكر من الكلدانيين وأدركوهم في أريحا، فقبض على ملكهم صدقياهو وأتى به أسيراً فسمل عينيه. وقال الطبري: وذبح ولده بمرأى منه، ثم اعتقله ببابل إلى أنّ مات، ولحق بعض من بني إسرائيل بالحجاز، فأقاموا مع العرب. وكان لعهده من الأنبياء إرميا وحبقون وباروح. وبعث بختنصر قائده نبوزراذون، بنون مفتوحة وباء موحدة مضمومة تجلب واوا بعدها زاي وراء مفتوحة تجلب ألفاً
وذال مضمومة تجلب واواً بعدها نون، بعثه إلى مدينة القدس، وكانوا يدعونها مدينة أورشليم، فخربها وخرب الهيكل، وكسر عمد الصفر التي نصبها سليمان في المسجد طول كل عمود منها ثمانية عشر ذراعا، وطول رؤوسها ثلاثة أذرع. وكسر صرح الزجاج وسائر ما كان بها من آثار الدين والفلك، واحتمل بقية الأواني وما كان وجده من المتاع، وسبى الكوهن سارية والجبر منشا وخدمة الهيكل إلى بابل.
قال هروشيوش: وأبقى صدقياهو محبوساً ببابل إلى أنّ أطلقه بزداق قائد بهمن ملك الفرس حين غلبوا على بابل فأطلقه ووصله وأقطعه. وقال مؤرخ حماة ووافقه المسعودي: أنّ بختنصر بعد تخريب القدس هرب منه بعض ملوك بني إسرائيل إلى مصر، وبها فرعون الأعرج، وطلبه بختنصر فأجاره فرعون، وسار إليه بختنصر فقتله وملك مصر. وافتتح من المغرب مدائن، وبث فيها دعاته، وكان إرميا نبي بني إسرائيل من سبط لاوي، ويقال اسمه إرمياء بن خلقيا. وكان على عهده صدقياهو. ووجده بختنصر في محبسهم فأطلقه، واحتمله معه في السبي إلى بابل. وقيل: إنه مات في محبسه ولم يدركه بختنصر. وكذلك احتمل معهم دانيال بن حزقيل من أنبيائهم. وقال ابن العميد: وولي جدليا بن أحان على من بقي من ضعفاء اليهود بالقدس، ولسبعة أشهر من ولايته قام إسماعيل بن متنيا بن إسماعيل من بيت الملك فقتل جدليا واليهود والكلدانيين الذي معهم. ثم هرب إلى مصر وهرب معه إرميا وهرب حبقون إلى الحجاز فمات، وكان قيما ولحقهم بمصر. وتنئأ إرميا في مصر وبابل وأورشليم وصور وصيدا وعمون ثمانية وثلاثين سنة، ورجمه أهل الحجاز فمات. وكان فيما أخبرهم به مسير بختنضر إلى مصر وتخريبه هياكلها وقتله أهلها. ولما دخل بختنصر مصر نقل جسده إلى اسكندرية ودفنه بها، وقيل دفن بالقدس لوصيته. وأما حزقياهو فقتله اليهود في السبي. قال الطبري: وافترقت جالية بني إسرائيل في نواحي العراق إلى أنّ ردهم ملوك الفرس إلى القدس، فعمروه وبنو مسجده. وكان لهم فيه ملك في دولتين متصلتين، إلى أنّ وقع بهم الخراب الثاني والجلوة الكبرى على يد طيطش من ملوك القياصرة كما نذكر بعد.
ولنذكر هنا ما وقع من الخلاف في نسب بختنصر هذا وإلى من يرجع من ا أمم، فقد ذهب قوم إلى أنه من عقب سنجاريف ملك الموصل الذي كان يقاتل بني إسرائيل والسامرة بالقدس.
قال هشام بن محمد الكلبي فيما نقل الطبري: هو بختنصر بن نبوزراذون بن سنجاريف. ثم نسب سنجاريف إلى نمروذ بن كوش بن حام الذي وقع ذكره في التوراة في ولد كوش وعذ بين سنجاريف والنمروذ ستة عشر أبا أو نحوها، أولهم داريوش بن فالغ وعصا بن نمروذ، أسماء غير مضبوطة يغلب علي الظن تصحيفها لعدم دراية ا أصول وقلة الوثوق بضبطها. وقيل أنّ بختنضر من نسل أشوذ بن سام، ولم يقع إلينا رفع هذا النسب، ولعله أصخ من الأول، لأنه قد تقدم نسب سنجاريف في الجرامقة ثم في الموصل منهم، وهم من ولد أشوذ باتفاق من أهل فارس. نقله أيضاً الطبري عن ابن الكلبي، وأن اسمه بختمرسه فسمي بختنصر، وكان يملك ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة أيام هراسب ويستاسب وبهمن من ملوك الفرس. وأنه افتتح ما يليه من بلاد بابل الشام، ثم سار إلى القدس فافتتحها كما تقدم. وقيل أنّ بهمن بعث رسله إلى القدس في من طلب الطاعة منهم فقتلوه، فبعث بهمن أصبهبذا للناحية القريبة في مملكته، وبعث معه داريوس من ملوك مارى بن نابت وكيرش بن كيكوس من ملوك بني غليم بن سام، وأحشوارش بن كيرش بن جاماهن من قرابته. وسار معهم بختنصر بن نبوزراذون بن سنجاريف صاحب الموصل الذي لقومه البراآت في أهل المقدس، فكان ما وقع من الفتح. وقيل كان بختنصر صاحب الموصل في مقدمتهم، وكان الفتح على يده. وأما بنو إسرائيل فيزعمون أنّ بختنصر من الكلدانيين وهم ولد ناحور بن آزر أبي إبراهيم عليه السلام. وكان لهم الملك ببابل، وكان بختنضر هذا من أعقابهم، وكان مدة دولته خمسا وأربعين سنة. وكان فتحه المقدس لثمانية عشر من دولته. وملك بعده أويل مروماخ ثلاثا وعشرين سنة. ثم بعده ابنه فيلسنصر بن أويل ثلاث سنين. ثم غلب عليهم كوروش وأزال ملكهم. وهو الذي رد بني إسرائيل إلى بيت المقدس فعمروه وجدّدوا به ملكاً كما نذكره.
وقد اختلف في كيرش الذي رد بني إسرائيل إلى المقدس من هو بعد اتفاقهم على أنه من الفرس: فقيل هو يستاسب ولم يكن ملكا وإنما كان مملكا على خوزستان وأعمالها من قبل كيقوس وبنجسون بن سياوش ولهراسب من بعدهما، وكان عظيم الشأن ولم يكن ملكا. وقيل: أنّ كيرش هو ابن احشوارش بن جاماسب بن لهراسب، وأبوه احشوارش هذا الذي بعثه بهمن. ولما رجع من ذلك الفتح بعثه إلى ناحية الهند والسند، وانصرف إلى حصن الأبر، فولاه بابل وتزوج من سبي بني إسرائيل ابنة أبي حاويل الرحا وأخت مردخاي من الرضاع وهو من أنبياء بني إسرائيل. فتزعم النصارى أنها ولدت عند حيراحوارس إلى بابل ابنه كيرش هذا. فحضنه مردخاي ولقنه دين اليهودية، ولزم سائر أنبيائهم مثل متنيا وعازريا وميثائل وعزيز. وولى دانيال أحكام دولته. وجعل إليه أمره، وأذن له أنّ يخرج ما في الخزائن من السبي والذخائر والآنية ويرده إلى مكانه، ويقوم في بناء القدس، فعمره. وراجعه بنو إسرائيل، وسأله هؤلاء الأنبياء أنّ يرجعوا إلى بيت المقدس فمنعهم اغتباطا بمكانهم. وقيل: أنّ كيرش هو كيرش بن كيكو بن غليم بن سام، وهو الذي كنا قدمنا أنّ بهمن بعثه مع قائده بختنصر إلى فتح بيت المقدس، وأن بختمرس ملكه بهمن على بابل وكان يسمى بختمرسى كما ذكرنا، فملكها وملك ابنه من بعده ثلاثا وعشرين سنة، ثم ابنه بلتنصر سنة واحدة، ثم بلغ بهمن من سوء سيرته فعزله وولى على بابل داريوش ألماذة بن ماداي، ثم عزله وولى كيرش بن كيكو، وكتب إليه بهمن بأن يرفق ببني إسرائيل ويحسن ملكتهم، وأن يردهم إلى أرضهم ويولي عليهم من يختارونه ففعل. فاختاروا دانيال من أنبيائهم فولاه، وقيل: وهو لعلماء بني إسرائيل أنّ بلتنصر حافد بختنضر وهو ملك بابل والكلدانيين، وأن دارا ويسمى داريوش ملك مازي، وكوزش وهو كيرش ملك فارس كان في طاعته، فانتقضا عليه وخرج إليهم في العساكر، فانهزم أولا ثم بعث عساكره وقواده إليهم فهزمهم. ثم قتله خادمه على فراشه ولحق بداريوش وكورش وزحفا إلى بابل فغلبا الكلدانيين عليها، واختص دارا وقومه مادي، وأظنهم الديلم، ببابل ونواحيها. واختص كورش وقومه فارس بسائر الأعمال والكور. وكان كورش نذر ببناء بيت المقدس واطلاق الجالية ورد الآنية. ثم هلك دارا وانفرد كورش بالملك على فارس ومادي، ووفى بنذره. هذا محصل الخلاف في بختنصر وكيرش والله أعلم.
خريطة
الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم إلى حين انقراض أمرهم قد تقدم لنا في دولة سليمان عليه السلام أنّ يربعام بن نباط من سبط أفرايم كان والياً لسليمان على جميع نواحي يورشليم وهي بيت المقدس، وقيل إنما كان والياً على عمل بني يوسف بنابلس وما إليها وكان جباراً، وأن سليمان عوتب على ولايته من الله، وانتقض ولحق بمصر. فلما قبض سليمان وولي ابنه رحبعم واختلف عليه بنو إسرائيل، بما بلوا من سوء ملكته. والزيادة في الضرائب عليهم، واجتمع الأسباط العشرة ما عدا يهوذا وبنيامين، فاستقدموا يربعام بن نباط من مصر فبايعوا له وولوه الملك عليهم، وحاربوا رحبعم ومن في طاعته، وهم سبط يهوذا وبنيامين، فامتنعوا عليهم بمدينة يروشليم، ثم انحازوا إلى جهة فلسطين في عمل بني يوسف. ونزل يربعم مدينة نابلس بملك الأسباط العشرة ومنعهم من الدخول إلى بيت المقدس والقربان فيه، وكان عاصيا مسخوط السيرة. ولم يزل بينه وبين رحبعم بن سليمان وابنه أبيا من بعده واثنين من فلك أسا بن أبيا، وكان أبيا ظاهرا عليه في حروبه. ثم هلك يربعام برت نباط لسنتين من ملك أبياً ولثلاث وعشرين من ملكه، فولي مكانه على الأسباط يوناداب وكان على مثل سيرة أبيه من الجور وعبدة الأصنام، فسلط الله عليه بعشا بن احيا فقتله وجميع أهل بيته لسنتين من ملكه. وقام بملك الأسباط، فلم يزل يحارب أسا بن ابئا وأهل القدس سائر أيامه. وكان أسا يستمد عليه بملك دمشق من الارمن. وسار معه إليه مرة وكان اعشا بن احيا نبي يثرب، فأجفل أمامهم وترك الآلات فأخذها أسا وبنى بها الحصون. وهلك اعشا بن احيا لأربع وعشرين سنة من ملكه، ودفن في برصا مدينة ملكهم، بعد أنّ أنذره بالهلاك نبيهم فاهو. ولما هلك ولي بعده ابنه إيليا ويقال إيلهوا في السادسة والعشرين من ملك اشا، فأقام سنين ثم بعث عساكر بني إسرائيل إلى محاصرة بعض المدن بفلسطين، فوثب عليه سبط من الأسباط من عقب كان يعرف زمري صاحب المراكب، ويقال ابن إليافا فقتله وجميع أهل بيته وقام
بالملك. ومكث أياما يسيرة خلال ما بلغ الخبر لبني إسرائيل بمكانهم من حصار فلسطين، فلم يرضوه وملكوا عليهم صي بن كسات من سبطه، ورجعوا إلى زمري المتوثب على الملك فحاصروه، فلما أحيط به دخل مجلس الملك وأوقد نارا لتحرقه، فاحترق فيه لسبعة أيام من فورتهم.
وكان عمري بن ناداب من سبط أفرايم ويلقب صاحب الحربة يرادف صي في الملك فقتله واستبد. وذلك في الحادية والثلاثين من ملك أسا. ثم اختلف عليه بنو إسرائيل ونصب بعضهم بنيامين فنال من سبط يساخر وحاربهم عمري فغلبهم. وكان ينزل مدينة برصا ولست سنين من ملكه اختط مدينة السامرية، ابتاع لها جبل شمران من رجك اسمه سامر بقنطار قضة، وبنى فيه قصوره وسميت سبسطية. ثم غلبت عليها النسبة إلى البائع. ويقال أنّ الاسم كان شومرون فعرب سامرة وأهملت شينها المثلثة. وكانت هذه المدينة مدينة ملكهم إلى انقراض أمرهم. ثم هلك عمري لاثنتي عشرة سنة من ولايته، ودفن في نابلس وقام بملك الأسباط من بعده ابنه أحاب وكان على مذهبه ومذهب سلفه منهم من الكفر والعصيان، وتزوج بنت ملك صيدا، وبنى هيكلا بسامرة وجعل فيه صنما يسجد له، وأفحش في قتل الأنبياء، وبنى قرية أريحاء، ودعا عليه إيليا النبي، فقحطوا ثلاث سنين، خرج فيها إيليا إلى البرية فسكنها. ثم رجع فدعا وأنزل الله المطر، وذبح الذين حملوا أحاب على عبادة الأصنام، هكذا قال ابن العميد. والذي قاله الطبري: أنّ هذا النبي الذي دعا عليهم هو الياس بن سين وقيل ابن ياسين من نسل فنحاص بن العازار. وكان بعث إلى أهل بعلبك وإلى أحاب وقومه. وقال الطبري: فكذبوه فأصابهم القحط ثلاثا، ففزعوا إليه في الدعاء، وباهلهم في أصنامهم فلم تغن شيئا، فدعا لهم فمطروا. ثم أنهم أقاموا على ما كانوا عليه من الكفر والعصيان. وكان أحاب شديدا عليه، ودعا عليه إلياس ثم طلب من الله أنّ يتوفاه بعد أنّ أنذر الناس بهلاكه وهلاك قومه بل عقبه. وتنبأ بعده إليسع بن أخطوب من سبط أفرايم، وقيل ابن عم الياس. ابن عساكر: اسمه أسباط بن عدي بن شوليم
بن افرائيم. قال الطبري: كان مستخفياً مع الياس بجبل قاسيون من ملك بعلبك. ثم خلفه في قريته، انتهى كلام الطبري. وقال ابن العميد: في أيام أحاب أوحى الله إلى إيليا أنّ يبارك على الياس بن بعسا ففعل ذلك، وأن يبارك على أدوم بدمشق وعلى ياهو ملكا على بني إسرائيل ففعل ذلك، وهو أيضاً على عهد أحاب. فجاء سنداب ملك سورية فحاصر أحاب بن عمري والأسباط العشرة في السامرة وخرجوا إليه فهزموه، واستلحموا عامة عسكره. ثم رجع إليهم من العام القابل فخرجوا إليه وهزموه ثانيا، وقتلوا من عسكره نحوا من مائة ألف، ومروا في أتباعهم، وامتنع سنداب في بعض حصونه واحاطوا به، فخرج إليهم ملقيا بنفسه على ملكهم أحاب فعفا عنه ورده إلى ملكه، وسخط ذلك النبي من فعله وأنذره بعذاب يصيب ولده عقوبة من الله تعالى على إبقائه عليهم.
ثم خرج أحاب من ملك الأسباط مع يهوشافاط ملك يهوذا المقدس لمحاربة ملك سورية فأصابه سهم هلك فيه، ودفن بسامرة لاثنتين وعشرين سنة من ملكه. قال ابن العميد: وقيل لثمان عشرة، وقال إنما خرج لحرب كلعاد ملك أدوم، فانهزم وقتل. ولما هلك ملك من بعده ابنه أحزيا ويقال أمشيا وكان عاصيا سيء السيرة، قتل عاموص النبي وعبد بعلا الصنم وهلك لسنتين، فملك أخوه يوآم. وقيل أنه لتسع عشرة من ملك يهوشافاط ملك الفرس فملك يوآم على الأسباط اثنتي عشرة سنة، زحف فيها أولاً إلى موآب لما منعوه الجزية التي كانت عليهم للأسباط مائتين من الغنم في كل سنة. واستنجد ملك يهوذا لحربهم فحاصرهم سبعة أيام وفقدوا الماء، فاستسقى لهم اليسع، وجرى الوادي، وخرج أهل مؤاب يظنونه دمأ فقتلهم بنو إسرائيل. وجمع هداد ملك أدوم لحصار سامرة، ونازلها ثلاث سنين، ثم دعا عليهم إليسع فأجفلوا ورجعوا إلى بلادهم. وفي الثانية عشرة من ملك يؤام ملك الأسباط، ثار عليه ياهوشافاط بن يشا من سبط منشا بن يوسف، وذلك عند منصرفه من محاربة ملوك الجزيرة وأدوم مع احزنا بن يهورام ملك القدس وكان جريحا فعاده أحزيا. وكان هذا الفتى ياهو يترصد قتل يوآم، فأمكنه الفرصة فيه تلك الساعة فقتله، وقتل معه أحزيا ملك القدس وبني يهوذا، وملك على الأسباط.
وقال ابن العميد: خرج يؤام بن أحآب ملك الأسباط لحرب أدوم ومعه أحزيا ملك القدس فقتلا جميعاً في تلك الحرب.
وقيل: أنّ ياهو بن منشا رمى بسهم فأصاب يؤام بن أحاب فمات. ولما ملك ياهو على الأسباط قتل بني أحآب كلهم كما أمره إليسع، وهلك لخمس وثلاثين من ملكه. وولى ابنه يوآص وقيل يهوذا، ولثمان وعشرين من دولة يوآص بن أحزيا ملك يهوذا القدس، وكان قبيح السيرة عبادا للأصنام، وعمل مذبحا بسامرة، وهلك لسبع عشرة من ملكه، وولي بعده ابنه يوآش لسبع وثلاثين من دولة يوآص بالقدس. وزحف إلى القدس فملكها من يد أمصيا ملك يهوذا وهدم من سورها أربعمائة ذراع، وسبى أهل المقدس، وسبى أهل عزريا الكوهن وأخذ جميع ما في المسجد ورجع إلى سامرة. ومرض إليسع فعاده يوآش، فوعده بأنه يهلك أدوم ويظفر بهم ثلاث مرات فكان كذلك. وهلك لثلاث عشرة سنة من ملكه، وولي من بعده ابنه يربعام وكان سىء السيرة، وزحف إلى أمصيا ملك يهوذا. وقيل: أنّ الذي زحف إلى أمصيا إنما هو يؤاش أبوه فهزمه، وأخذه أسيرا وسار به إلى القدس فاقتحمها عنوة وغنم جميع ما في خزانتها، وسبى بني عزريا الكوهن ورجع إلى السامرة فأطلق أمصيا. ثم لإحدى وأربعين سنة من ملكه، ولسبع وعشرين من ملك عزياهو بن أمصيا ملك القدس. قال ابن العميد: وبقي بنو إسرائيل بالسامرة فوضى إحدى عشرة سنة ، ثم ملكوا ابنه زكريا في الثامنة والثلاثين من ملك عزياهو فملك ستة أشهر. وقال ابن العميك: شهرا ثم وثب به مناخيم بن كاد من سبط زبفون من أهل برصا فقتله، وملك مكانه اثنتي عشرة سنة، وقال ابن العميد عشر سنين. قال: وفي التاسعة والثلاثين من ملك عزياهو خرج إلى مدينة برصا ففتحها عنوة واستباحها، وزحف إليه فول ملك الموصل فصانعه بألف قنطار من الفضة ورجع عنه وكانت سيرته رديئة، ولما هلك مناخيم ملك ابنه بقحيا لأربعين من دولة عزيا ملك القدس، فأقام فيهم اثنتي عشرة سنة، وقال ابن العميد سنتين. ثم ثار عليه من عماله باقح بن رسليا وكان على طريقة من تقدمه في الضلال، فأقام ملكا على الأسباط بالسامرة عشر سنين، وهلك لدولته عزيا بن أمصيا ملك يهوذا بالقدس، وأقام باقح بن رصلياً على سوء السيرة
وعبادة الأصنام، إلى أنّ قتله هويشيع بن إيليا من سبط جاد في الثالثة من ملك يؤاب ملك القدس. وبقي الأسباط بعده فوضى عشر سنين، ثم ملكوا قاتله هويشيع بن إيليا المذكور، فأقام مملكا عليهم سبع سنين. وفي أيامه زحف إليه ملك أثور والموصل فصير الأسباط في دولته وأدوا إليه الخراج. ثم أنّ هويشيع راسل ملك مصر في الاستعانة به والرجوع إلى طاعته، فلما بلغ ذلك إلى ملك الموصل زحف إليه وحاصره في مدينة السامرة ثلاث سنين واقتحمها في الرابعة.
وتقبض على هو يشيع لتسع سنين من ملكه ونقله مع الأسباط كلهم إلى الموصل. ثم بعثهم إلى قرى أصبهان وأنزلهم بها. وقطع ملك بني إسرائيل من السامرة، وبقي ملك يهوذا وبنيامين بالقدس، وكان ذلك لعهد أحزيا بن احآز من ملوكهم لسنة من دولته. وتعاقبت ملوكهم بعد ذلك بالقدس إلى أنّ انقرضوا، وجمع ملك الموصل من كوره غارا وحماة وصفرارام، ويقال ومركتا وأسكنهم بالسامرة. قال ابن العميد: وتفسيرها حفيظة ويوآطر. قالوا وسلط الله عليهم السباع يفترسونهم فبعثوا إلى ملك الموصل أنّ يعرفهم بصاحب قسمة السامرية من الكواكب ليتوجهوا إليه بما يناسبه على طريقة الصابئة، فقيل أنّ العشرية التي رسخت فيها وهي دين اليهودية تمنع من ذلك ومن ظهور أثره، فبعث إليهم كوهنين من عامة اليهود يعلمانهم اليهودية فتلقوها عنهما. فهذا أصل السامرة في فرق اليهود وليسوا منهم عند أهل ملتهم لا في نسبهم ولا في دينهم، والله مالك أمور لا رب غيره ولا معبود سواه سبحانه وتعالى.
خريطة
الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول
وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيرودوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى
هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس والملك الذي لهم في العمارة بعد جلاء بختنصر، وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة لم يكتب فيها أحد من الأئمة، ولا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها واتساعها على ما يلم بشيء من ذلك. ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر، في أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بختنصر الأول وخراب طيطس الثاني الذي كانت عنده الجلوة الكبرى، استوفى فيه أخبار تلك المدة بزعمه. ومؤلف الكتاب يسمى يوسف بن كريون، وزعم أنه كان من عظماء اليهود وقوادهم عند زحف الروم إليهم، وأنه على صولة فحاصره اسبيانوس أبو طيطش واقتحمها عليه عنوة، وفريوسف إلى بعض الشعاب، وكمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك، واستبقاه ومن عليه وبقي في جملته. وكانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عندما أجلى بني إسرائيل على البيت، فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره. هذا هو التعريف بالمؤلف.
وأما الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدة، وأخبار الدولتين اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود، وما حدث في ذلك من الأحداث، فلخصتها هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه. والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدم عليها. وكما قال : لا تصدقوا أهل الكتاب. فمد قال ولا تكذبوهم، مع أنّ ذلك إنما هو راجع إلى أخبار اليهود وقصص الأنبياء التي كان فيها التنزيل من عند الله. لقوله بعد ذلك: {وقولوا آمنا بالذي انزل إلينا وانزل إليكم} وأمّاد الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحسن فخبر الواحد كاف في إذا غلب على الظن صحته، فينبغي أنّ نلحق هذه الأخبار بما تقدّم
من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أول أمرهم إلى آخره. والله أعلم. ولم التزم صدقه من كذبه والله المستعان. قال الطبري وغيره من الأئمة: كان يرميا ويقال إرميا بن خلقياً من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوي، وكان لعهد صدقّيا هو أخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس. ولما توغلوا في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بختنصر وسأله عنه وأطلقه واحتمله معه في السبي، وكان فيما يقوله إرميا أنهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة. يملك فيها بختنصر وابنه وابن ابنه ويهلكون، وإذا فرغت مملكة الكلدانيين بعد السبعين يفتقدكم. يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص أخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس. وكان شعيا بن أمصيا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت المقدس على يد كورش من ملوك الفرس، ولم يكن وجد لذلك العهد. فلما استولى كورش على بابل وأزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في الرجوع إلى بيت المقدس وعمارة مسجدها. ونادى في الناس أنّ الله أوصاني أنّ ابني بيتا فمن كان لله وسعيه لته فليمض إلى بنائه. فمضى بنو إسرائيل في اثنين وأربعين ألفاً وعليهم زيريافيل، بالفاء الهوائية، بن شالتهيل بن يوخنيا أخر ملوكهم بالقدس الذي حبسه بختنصر، وقد مر ذكره. وقد مضى مهم عزير النبي من عقب اشيوع بن فنحاص بن العازر بن هارون، وبينه وبين اشيوع ستة آباء. لم أثق بنقلها لغلبة الظن بأنها مصحفة. ورد عليهم كورش الأواني وكانت لا يعبر عنها من الكثرة. قال ابن العميد: كانت خمسة آلاف وأربعمائة قصعة ذهبا وفضة فمضوا إلى بيت المقدس وشرعوا في العمارة، وشرع كورش وسعى عليهم في أبطال ذلك بعض أعدائهم من السامرة، ولم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى، لأن الخراب كان لثمان عشرة من ملك بختنصر، وكانت دولته خمسة وأربعين، ومدة ابنه وابن ابنه خمس وعشرون، فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفذت من ملك بختنصر قبل الخراب، فمنعوا من العمارة بسعاية السامرية إلى أنّ انقضت الثمان عشرة. وجاءت دولة دارا من ملوك الفرس، فأذن لهم في العمارة، وعاد السامرة لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا، فأخبره أهل دولته أنّ كورش أذن لهم في ذلك فخلى سبيلهم وعمروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأول، وهو أرفخشد، والكوهن يومئذ عزير. وجدد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم إلى البيت. ثم هلك زيريافيل
وخلفه فيهم بهشمياس. وقبض العزير وخلفه شمعون الصفا من بني هارون أيضاً. وقال يوسف بن كريون أنّ بختنصر لما رجع إلى بابل أقام ملكا سبعا وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بلتنصر ثلاث سنين وانتقض عليه داريوش ملك ماذي، وأظنهم الديلم، وكيرش ملك فارس. وهزمتهم عساكره كما مر، فعمل في بعض أيامه صنيعا لقواده سرورا بالواقع، وسقاهم في أواني بيت المقدس التي احتملها جذه من الهيكل. فسخط الله لذلك ورأى تلك الساعة كأن يدا خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني، والكلمات عبرانية. وهي أحصى، وزن، نفذ. فارتع لذلك هو والحاضرون وفزع إلى دانيال النبي في تفسيرها. قال وهب بن منبه: هو من أعقاب حزقيل الأصغر، وكان خلفا من دانيال الأكبر. فقال له دانيال: هذه الكلمات تنذر بزوال ملكك، ومعناها أنّ الله أحصى مدة ملكك، ووزن أعمالك، ونفذ قضاؤه بزوال ملكك، عنك وعن قومك. وقتل تلك الليلة بلتنصر. وكان ما قدمناه من استقلال كورش وقومه فارس بالملك، ورد الجالية إلى بيت المقدس، وأطلق لهم المال لعمارتها شكرا على الظفر بالكلدانيين. ومضى بنو إسرائيل ومعهم عزرا الكاهن ونجميا ومردخاي وجميع رؤساء الجالية يبنون البيت والمذبح على حدودها، وقربوا القرابين. وكان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة والزيت والبقر والغنم والخمر ما يحتاجون إليه في خدمة البيت، ويطلق لهم جراية واسعة. وجرى ملوك الفرس بعده على سنته في ذلك إلا قليلا في أيام أخشويروش منهم، كان وزيره هامان وكان من العمالقه. وكان طالوت قد استخلفهم بأمر الله. فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم، وحمله على قتلهم. وكان مردخاي من رؤسائهم قد زوج أخته من الرضاع لاخشويروش، فدس إليها مردخاي أنّ تشفع إلى الملك في قومها فقبلها وعطف عليهم وأعادهم، إلى أنّ انقرضت دولة الفرس. بمهلك دارا، واستولى بنو يونان بمهلك دارا على فلك فارس، وملك الإسكندر بن فيفلوس، ودوخ الأرض، وفتح سواحل الشام، وسار إلى بيت المقدس لأنها من طاعة دارا، وخاف الكهنة من وصوله إليهم. ورأى في بعض
تمثال رجلا فقال: أنا رجل أرسلت لمعونتك ونهاه عن أذية المقدس، وأوصاه بامتثال إشارتهم. فلما وصل إلى البيت لقيه الكوهن فبالغ في تعظيمه، ودخل معه إلى الهيكل وبارك عليه، ورغب إليه الاسكندر أنّ يضع هنالك تمثاله من الذهب ليذكر به، فقال هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين، ويجعل لك من الذكر دعاؤهم له، وأن يسمى كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالاسكندر. فرضي الاسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكوهن، وسأله أنّ يستخير الله في حرب دارا، فقال له: امض والله مظفرك. وحض دانيال، وقص عليه الاسكندر رؤيا رآها، فأولها له بأنه يظفر بدارا.
ثم انصرف الاسكندر وسار في نواحي بيت المقدس، ومرّ بنابلس ولقيه سْنَبِلاط السامري، وكان أهل المقدس أخرجوه عنهم فأضافه، وأهدى له أموالا وأمتعة، واستأذنه في بناء هيكل في طول بريد، فأذن له فبناه وألام صهره منشا كوهنا فيه، وزعم أنه المراد بقوله في التوراة: اجعل البركة على جبل كريدم، فقصده اليهود في الأعياد، وحملوا إليه القرابين وعظم أمره، وغص بشأنه أهل بيت إلى، قدس، إلى أنّ خربه هرمايوس بن شمعون أول ملوك بني حشمناي كما يأتي ذكره. ثم هلك الاسكندر ببابل بعد استيفاء مدته لاثنتين وثلاثين من ملكه، وكان قد قسم ملكه بين عظماء دولته فكان سلياقوس بعد الإسكندر، وكان عظيم أصحابه. فأكرم اليهود وحمل المال إلى فقراء البيت ؛ ثم سعى عنده بأن في الهيكل أموالا وذخائر نفيسة، ورغبوه في ذلك، فبعث عظيما من قواده اسمه أردوس ليقبض ذلك المال، فحضر بالبيت وأنكر الكاهن حنينان أنّ يكون بالبيت إلا بقية الصدقات من فارس ويونان، وما أعطاهم سلياقوس آنفا فلم يقبل، ووكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء، وجاء أردوس ليقبض المال فصدع في طريقه وجاء أصحابه إلى الكوهن حنينا وجماعة الكهنة يسألون الإقالة والدعاء لأردوس، فدعوا له وعوفي وارتحل، وازداد الملك سلياقوس إعظاماً للبيت، وحمل ما كان يحمل إليهم مضاعفاً.
قال ابن كريّون: ثم ترجمت التوراة لليونانيين، وكان من خبرها أنّ تلماي ملك مصر من اليونانيين بعد الإسكندر وكان من أهل مقدونية، وكان محبا للعلوم ومشغوفا بالحكمة والكتب الإلهية. وذكرت له كتب اليهود الأربعة والعشرون سفراً، فتاقت نفسه للوقوف عليها. وكتب إلى كهنون القدس في ذلك، وأهدى له، فاختار سبعين من أحبار اليهود وعلمائهم، وفيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر وبعثهم إليهم ومعهم الأسفار، فتلقاهم بالكرامة وأوسع لهم النزول، ورتب مع كل واحد كاتبا يملى عليه ما يترجم له، حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية وصححها، وأجاز الأحبار وأطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحوا من مائة ألف، وصنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض مصر والنيل، ورضها بالجواهر والفصوص، وبعث بها إلى القدس فأودعت في الهيكل.
ثم هلك تلماي صاحب مصر، واستولى بعده أنطيوخوس صاحب مقدونية على أنطاكية ثم على مصر، وأطاعه ملوك الطوائف بأرض العراق، واستفحل ملكه وعظم طغيانه، وأمر ا أمم بعبادة الأصنام. وعمل أصناما على صورته، فامتنع اليهود من قبولها، وسعى بهم عند بعض شرارهم وكانوا أهل نجدة وشوكة، فسار أنطيخوس إليهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي، وفروا إلى الجبال والبراري، فرجع واستخلف على بيت المقدس قائده فليلقوس، وأمره أنْ يحملهم على بيت المقدس قائده فليلقوس، وأمره أنّ يحملهم على السجود لأصنامه، وعلى أكل الخنزير، وترك السبت والختان. ويقتل من يخالفه، ففعل ذلك أشد ما يكون، وبسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار الساعين. وقتل ألعازر والكوهن الذي ترجم لهم التوراة لما امتنع من السجود لصنمه وأكل قربانه. وكان فيمن هرب إلى الجبال والبراري متيتيا بن يوحنا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي بن حونيا من بني نوذاب من نسل هارون عليه السلام، وكان رجلا صالحاً خيّرا شجاعاً. وأقام بالبرية وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد أنطيخوس الرحلة عن القدس بعث متيتّيا إلى اليهود يعرفهم بمكانه، وينمعض لهم ويحرضهم على الثورة على اليونانيين فأجابوه وتراسلوا في ذلك. وبلغ الخبر فليلقوس قائد أنطيخوس، فسار في عسكره إلى البرية طالبا متيتيا وأصحابه. فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره
وقوي اليهود على الخلاف، وهلك متيتّيا خلال ذلك، وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليلقوس ثانية، وشغل أنطيخوس بحروب الفرس، فزحف إليهم من مقدونية واستخلف عليهم ابنه افظر، وضم إليه عظيما من قومه اسمه لشاوش، وأمرهم أنّ يبعثوا العساكر إلى اليهود، فبعثوا ثلاثة من قوادهم وهم نيقانور وتلمياس وصردوس، وعهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا. فسارت عساكر واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق وحلب، وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متيتيا مقدم اليهود للقائهم بعد أنّ تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به، ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه، وأثخنوا فيه بالقتل، وغنموا ما معهم. ثم لقيهم عسكر القائد ابن تلميهاس وهيرودوس ثانيا فهزموهما كذلك وقبضوا على فليلقوس القائد الأول لأنطيخوس فأحرقوه بالنار، ورجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها، وخبر ليشاوش وافظر ابن الملك بالهزيمة، فجزعوا لها. ثم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس، ثم وصل إلى مقدونية واشتد غيظه على اليهود، وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده، ودفن في طريقه. وملك افظر وسموه أنطيخوس باسم أبيه. ورجع يهوذا بن متيتيا إلى القدس، فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من المذابح، وأزال ما نصبه من الأصنام، وطهر المسجد وبنى مذبحا جديدا للقربان، فوضع فيه الحطب ودعا الله أنّ يريهم آية في اشتعاله من غير نار، فاشتغل كذلك ولم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة، واتخذوا ذلك اليوم عيدا سفوه عيد العساكر. ونازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتيا في عسكر اليهود، وثبت عسكر ليشاوش فانهزموا ولجأ إلى بعض الحصون، وطلب النزول على الأمان على أنّ لا يعود إلى حربهم. فأجابه يهوذا على أنّ يدخل افظر معه في العقد وكان ذلك. وتم الصلح، وعاهد افظر اليهود على أنّ لا يسير إليهم، وشغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه.
قال ابن كريون ة وكان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم وهم الروم، وكانوا برومية وكان أمرهم شورى بين ثلثمائة وعشرين رئيسا، ورئيس واحد عليهم يسمونه الشيخ يدبر أمرهم، ويدفعون للحروب من يثقون بغنائه وكفايته منهم أو من سواهم. هكذا كان شانهم لذلك العهد، وكانوا قد غلبوا اليونانيين واستولوا على ملكهم وجازوا البحر إلى إفريقية فملكوها كما يأتي في أخبارهم. فأجمعوا السير إلى أنطيخوس، أفظر وابن
عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بأنطاكية، وكاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنطيخوس واليونانيين، فأجابوهم إلى ذلك. وبلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم وسار إلى حربهم فهزموه ونالوا منه. ثم راسلهم في الصلح وأن يقيموا على عهدهم معه، ويحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال، وأن يقتل من عنده من شرا اليهود الساعين عليهم، فتم العهد بينهم على ذلك. وقتل شملاوش من الساعين على اليهود، ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس بن سلياقوس إلى أنطاكية ولقيه أنطيخوس افظر، فانهزم أنطيخوس وقتل هو وابن عمه ليشاوش، وملك الروم أنطاكية ونزلها قائدهم دمترياس. وكان ألقيموس الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس. فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى عنده في اليهود ورغبه في ملك القدس والاستيلاء على أمواله، فبعث قائده نيقانور لذلك، وخرج يهوذا ملك القدس لتلقيه وطاعته، وقدم بين يديه الهدايا والتحف، فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود، وحسن رأيه وأكد بينه وبينهم العهد ورجع. وبادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس وأخبره بميل قائده نيقانور إلى اليهود، وزاد في اغرائه. فبعث إلى قائده ينكر عليه ويستحثه لانفاذ أمره، أنّ يحمل يهوذا مقيدا. وبلغ ذلك يهوذا فلحق بمدينة السامرة صبصطية، واتبعه نيقانور في العساكر، فكر عليه يهوذا وهزمه، وقتل أكثر عساكر الروم الذي معه، ثم ظفر به فصلبه على الهيكل ببيت المقدس. واتخذ اليهود ذلك اليوم عيدا وهو ثالث عشر آذار. ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل الآخر يعتروس في ثلاثين ألفاً من الروم لمحاربة اليهود، وخرجت عساكرهم من المقدس، وفروا عن ملكهم يهوذا وافترقوا في الشعاب، وأقام معه منهم فل قليل واتبعهم يعتروس فلقيه يهوذا وأكمن له، فانهزم اليهود. وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولايته ودفن إلى جانب أبيه متيتيا. ولحق أخوه يوناثال فيمن بقي من اليهود بنواحي ا أردن، وتحصنوا ببئر سبع فحاصرهم يعتروس هنالك أياما، ثم بيتوه فهزموه.
وخرج يوناثال واليهود في اتباعه، فقبضوا عليه، ثم أطلقوه على مسالمة اليهود، وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثال إثر ذلك، وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية وعظمت عساكره وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم، وزحف
إليه دمترياس قائد الروم بانطاكية فهزمه شمعون وقتل غالب عسكره، ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أنّ هلك شمعون. وثب عليه صهره تلماي زوج اخته فقتله، وتقبض على بنيه وامرأته، وهرب ابنه الأكبر قانوس بن شمعون إلى غزة فامتنع بها. وكان اسمه يوحان وكان شجاعا، قتل في بعض الحروب شجاعا اسمه هرقانوس فسماه أبوه باسمه. ثم اجتمع عليه اليهود وملكوه وسار إلى بيت المقدس، وفر تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن داخون فامتنع به، وسار هرقانوس إلى محاربته وضيق عليه. وأشرف تلماي في بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس وأخته يتهددهما بقتلهما، فكف عن الحرب وانصرف لحضور عبد المظال ببيت المقدس، فقتل تلماي اخته وأمه وفر من الحصن. قال ابن كريون: ثم زحف دمترياس ابن سلياقوس قائد الروم إلى القدس، وحاصر اليهود فامتنعوا وثلم السور، وراسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء عيدهم ففعل، على أنّ يكون له نصيب في القربان ووقعت في نفسه صاغية لهم، وأهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم، وراسلوه في الصلح على المسالمة والمظاهرة لبعض، فأجاب وخرج إليه هرقانوس ملك اليهود وأعطاه ثلثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور داود.
ورحل عنهم الروم، وشغل هرقانوس في رم ما ثلم من السور، وحدثت خلال ذلك فتنة بين الفرس والروم، فسار إليهما دمترياس في جموع الروم، وبينما أبطأ هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأن الفرس هزموا دمترياس، فنهز الفرصة وزحف إلى أعدائه من أهل الشام، وفتح نابلس وحصون أدوم التي بجبل الشراة، وقتل منهم خلقا، ووضع عليهم الجزية وأخذهم بالختان والتزام أحكام التوراة، وخرب الهيكل الذي بناه سنبلاط السامري في طول بريد بإذن الاسكندر، وقهر جميع الأمم المجاورين لهم. ثم بعث وجوه اليهود وأعيانهم إلى الأشياخ والمدبرين برومة يسأل تجديد العهد، وأن يردوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس ويونان من بلادهم التي صارت في مملكة الروم، فأجابوا وكتبوا له العهد بذلك، وخاطبوه بملك اليهود. وإنما كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن، فسمى نفسه من يومئذ بالملك، وجميع بين منزلة الكهنونة ومنزلة الملك. وكان أول ملوك بني حشمناي. ثم سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها وخربها وقتل أهلها
قال ابن كريون: وكان اليهود في دينهم ثلاث فرق: فرقة الفقهاء وأهل القياس ويسمونهم الفروشيم، وهم الربانيون، وفرقة الظاهرية المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم ويسمونهم الصدوقية وهم القراؤن، وفرقة العباد المنقطعين إلى العبادة والتسبيح، والزهاد فيما سوى ذلك ويسمونهم الحيسيد. وكان هرقانوس وآباؤه من اليونانيين ففارق مذهبهم إلى القرائين لأنه جمع اليهود يوما عندما تمهد أمره وأخذ بمذاهب الملك، ولقي به في صنيع احتفل به، وألان لهم جانبه وخضع في قوله، وقال أريد منكم النصيحة. فطمع بعض الربانيين فيه وقال: أنّ النصيحة أنّ تنزل عن الكهنونة وتقتصر على الفلك، وقد فاتك شرطها لأن أمك كانت سبية من أيا أ أنطيخوس، فغضب لذلك وقال للربانيين: قد حكمتكم في صاحبكم، فأخذوا في تأديبه بالضرب، فتنمر لهم من أجل ذلك وفارق مذهبهم إلى مذهب القرائين، وقتل من الربانيين خلقاً كثيراً، ونشأت الفتنه بين هاتين الطائفتين من اليهود، واتصلت بينهم الحرب إلى هذا العهد.
وهلك هرقانوس لاحدى وثلاثين سنة من دولته، وملك بعهده ابنه أرستبلوس وكاد كبيرهم، وكان له ولدان آخران وهما انطيوخس ويحب الملك له، ويبغض الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل، فلما ملك أرستبلوس أخذ من إخوته بمذهب أبيهم وقبض على الاسكندر وأمه، واستخلص انطيوخس وقدمه على العساكر، واكتفى به في الحروب، وترفع عن تاج الكهنونة ولبس تاج الملك. وخرج انطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم، فرذهم إلى الطاعة، وكثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة وأغروه به، فلما قدم انطقنوس من مغيبه وافق عيد المظال، وكان أخوه ملتزما بيته لمرض طرقه، فعدل انطقنوس عن بيته إلى الهيكل للتبرك، فأوهموا الملك أنه إنما فعل ذلك لاستمالة الكهنونية والعامة، وأنه يروم قتل أخيه، وعلامة ذلك أنه جاء بسلاحه. فعهد أرستبلوس إلى حشمانه وغلمان قصره أنّ جاء متسلحا أنّ يقتلوه وكان ذلك، وتمت حيلة البطانة وسعايتهم عليه. وعلم أرستبلوس أنّ قد خدع في أخيه، فندم واغتم ولطم صدره، حتى قذف الدم من فيه، وأقام عليلا بعده حولا كاملا ثم هلك. فأفرجوا عن أخيه الإسكندر من محبسه وبايعوا له بالملك، واستقام له الأمر. ثم انتقض عليه أهل عكا وأهل صيدا وأهل غزة بعثوا إلى قبرص. وسار
الإسكندر إلي عكّا فحاصرها، وكانت كلوبطرة ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها واسمه ألظيرو، وأجاز البحر إلى جزيرة قبرص فملكها، فبعث أهل عكا أنهم يملكونه، وجاز إليهم في ثلاثين ألف مقاتل، حتى إذا افرج الاسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم، ومنعوا الظيرو من الدخول إليهم، فسار في بلاد الاسكندر ونزل على جبل الخليل، فقتل منه خلقا ونزل على الاردن.
وفي خلال ذلك زحف الاسكندر إلى صيدا ففتحها عنوة واستباحها، وعاد إلى القدس وأطاعته البلاد وحسم داء المنتقضين عليه. ثم تجددت الفتنة بين اليهود بالقدس، وذلك أنهم اجتمعوا في عيد المظال بالمسجد، وحضر الاسكندر معهم، فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من مشموم وماكول، وأصاب الاسكندر رمية من الربانيين فغضب لها، وشاتمهم القراؤون بما كانوا من شيعته، فشتموا الاسكندر وقتلوا الشاتم وأصحابه فلم يغن عنهم، وعظم فيهم الفتك وانفض الجمع.وعهد الاسكندر أنّ يستد المذبح والكهنة بحائط عن الناس، ونفذ أمره بذلك. واتصلت الفتنة بين اليهود ست سنين، قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفاً، والاسكندر يعين القرائين عليهم. وبعثوا إلى دمتريوس المسمى أنطيخوس وبذلوا له المال، فسار معهم إلى نابلس ولقي الاسكندر فهزمه وقتل عامة أصحابه ورجع. فخرج الاسكندر إلى الربانيين وأثخن فيهم، وظفر منهم بجماعة تزيد على ثلثمائة فقتلهم صبرا، وقهر سائر اليهود. وسار إلى دمتريوس ففتح الكثير من بلاده وخرج، فظفر به الاسكندر وقتله وعاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة الربانيين ودمتريوسرس. فاستقام أمره وعظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلا ثلاثا آخرين، وخرج بعدها لحصار بعض الحصون، وانتقضوا عليه فمات هنالك، وأوصى امرأته الاسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن وتسير بشلوه إلى القدس فتدفنه فيه، وتصانع الربانيين على ولدها فتملكه، لأن العامة إليهم أميل. ففعلت ذلك واستدعت من كان نافرا الربانيين، وجمعتهم وقدمتهم للشورى واستبدت بالملك. وكان لها ابنان من الاسكندر بن هرقانوس اسم الأكبر منهما هرقانوس والآخر أرستبلوس وكانا صغيرين عند موت أبيهما، فلما كبرا عينت هرقانوس للكهنونة وقدّمت أرستبلوس على
العساكر والحروب، وضمّت إليه الربّانيين، وأخذت الرهن من جميع الأمم، وسألها الربانيون في الأخذ بثأرهم من القرائين خلقاً كثيراً، وجاء القراؤون إلى ابنها الكهنون ينكرون ذلك، وأنّه إذا فعل بهم ذلك، وقد كانوا شيعا لأبيه الاسكندر، فقد تحدث النفرة من الناس، وسألوه أنّ يلتمس لهم اذنها في الخروج عن القدس والبعد عن الربانيين، فأذنت لهم رغبة في انقطاع الفتنة. وخرج معهم وجوه العسكر، ثم ماتت خلال ذلك لتسمع سنين من دولتها. ويقال أنّ ظهور عيسى صلوات الله عليه كان في أيامها. وكان ابنها أرستبلوس قائد العسكر، لما شعر بموتها خرج إلى القرائين يستدعيهم إلى نصرته فأجازوه، وتقبضت هي على ابنيه وامرأته، واجتمعت عليه العساكر من النواحي، وضرب البوق وزحف لحرب أخيه هرقانوس والربانيين، وحاصرهم أرستبلوس ببيت المقدس، وعزم على هدم الحصن، فخرج إليه أعيان اليهود والكهنونية ساعين في الصلح بينهما، وأجاب على أنّ يكون ملكا ويبقى هرقانوس على الكهنونية، فتم ذلك واستقر عليه أمره.
القسم الثاني المجلد الثاني من تاريخ العلامة ابن خلدون ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس ثم سعى في الفتنة بينهما انظفترأبوهيردوس، وكان من عظماء بني إسرائيل من الذين جمعوا مع العزير من بابل، وكان ذا شجاعة وبأس، وله يسار وقنية من الضياع والمواشي. وكان الاسكندر قد ولأه على بلاد اذوم، وهي جبال الشراة. فاقام في ولايتها سنين وكثر ماله، وأنكحوه منهم فكان له منها أربعة من الأبناء وهم: فسيلو وهيردوس وفرودا ويوسف، وبنت اسمها سلومث. وقيل أنّ أنظفتر لم يكن من بني إسرائيل وإنما كان من أدوم وربي في جملة بني حشمناي وبيوتهم. فلما مات الإسكندر وملكت زوجته الإسكندرة عزلته عن جبال الشراة، فأقام بالقدس. حتى إذا استبد بالأمر أرستبلوس، وكان بين هرقانوس وانظفتر مودة وصحبة. فغص أرستبلوس بمكانه من أخيه لما يعلم من مكر انظفتر، وهم بقتله فانفض عنه، وأخذ في التدبير على أرستبلوس. وفشا في الناس تبغضه إليهم، وينكر تغلبه، ويذكر لهم أنّ هرقانوس أحق بالملك منه، ثم حذر هرقانوس من أخيه، وخيل إليه أنه يريد قتله
وبعث لشيعة هرقانوس المال على تخويفه من ذلك، حتى تمكن منه الخوف. ثم أشار عليه بالخروج إلى ملك العرب هرثمة، وكان يحب هرقانوس فعقد معه عهدا على ذلك. ولحق هرقانوس بهرثمة ومعه انظفتر، ثم دعوا هرثمة إلى حرب أرستبلوس فأجابهم بعد مراوغة. وتزاحفوا ونزع الكثير من عسكر أرستبلوس إلى هرقانوس، فرجع هاربا إلى القدس. ونازلهم هرقانوس وهرثمة، واتصلت الحرب وطال الحصار. وحضر عيد الفطير، وافتقد اليهود القرابين، فبعثوا إلى أصحاب هرقانوس فيها فاشتطوا في الثمن، ثم أخذوه ولم يعطوهم شيئا. وقتلوا بعض النساك طلبوه في الدعاء على أرستبلوس وأصحابه، وامتنع فقتلوه، ووقع فيهم الوباء فمات منهم أمم.
قال ابن كريون: وكان الأرمن ببلاد دمشق وحمص وحلب، وكانوا في طاعة الروم فانتقضوا عليهم في هذه المدة، وحدثت عندهم صاغية إلى الفرس. فبعث الروم قائدهم فمقيوس، فخرج لذلك من رومية. وقدم بين يديه قائده سكانوس فطوع الأرمن ولحق دمشق ثم لحقه فمقيوس ونزل بها. وتوجهت إليه وجوه اليهود في أثرهم، وبعث إليه أرستبلوس من القدس، وهرقانوس من مكان حصاره كل واحد منهما يستنجده على أخيه. وبعثوا إليه بالأموال والهدايا فأعرض عنها، وبعث إلى هرثمة ينهاه عن الدخول بينهما، فرحل عن القدس ورحل معه هوقانوس وانظفتر وأعاد أرستبلوس رسله وهداياه من بيت المقدس، وألح في الطلب وجاء انظفتر إلى فمقيوس بغيرمال ولا هدية، فنكث عنه فمقيوس فرجع إلى رغبته ومسح أعطافه، وضمن له طاعة هرقانوس الذي هو الكهنوت الأعظم. ويحصل بعد ذلك إضعاف أرستبلوس فأجابه فمقيوس على أنّ يتحيل له في الباطن ويكون ظاهره مع أرستبلوس حتى يتم الأمر. وعلي أنّ يحملوا الخراج عند حصول أمرهم، فضمن انظفتر ذلك، وحضر هرقانوس وأرستبلوس عند فمقيوس القائد يتظلم كل واحد من صاحبه، فوعدهم بالنظر بينهم إذا حل بالقدس. وبعث أنظفتر في جميع الرعايا فجاؤوا شاكين من أرستبلوس، فأمره فمقيوس من إنصافهم، فغضب لذلك واستوحش وهرب من معسكر فمقيوس وتحصن في القدس. وسار فمقيوس في أثره، فنزل أريحا ثم القدس وخرج أرستبلوس واستقال فأقاله، وبذل له الأموال على أنّ يعينه على أخيه، ويحمل له ما في الهيكل من الأموال والجواهر،
وبعث معه قائده لذاك، فمنعهم الكهنونية، وثارت بهم العامّة، وقتلوا بعض أصحاب القائد وأخرجوه، فغضب فمقيوس، وتقبض لحيته على أرستبلوس. وركب ليقتحم البلد، فامتنعت عليه وقتل جماعة من أصحابه، فرجع وأقام عليهم، ووقعت الحرب بالمدينة بين شيع أرستبلوس وهرقانوس . وفتح بعض اليهود الباب لفمقيوس فدخل البلد وملك القصر، وامتنع الهيكل عليه، فأقام يحاصره أياما وصنع آلة الحصار، فهدم بعض أبراجه واقتحمه عنوة. ووجد الكهنونية على عبادتهم وقرباتهم مع تلك الحرب، ووقف على الهيكل فاستعظمه، ولم يمد يده إلى شيء من ذخائره. وملك عليهم هرقانوس وضرب عليهم الخراج يحمله كل سنة، ورفع يد اليهود عن جميع ا أمم الذين كانوا في طاعتهم، ورد عليهم البلدان التي ملكها بنو حشمناي ورجع إلى رومة. واستخلف هرقانوس وانظفتر على المقدس، وأنزل معهما قائده سكانوس الذي قدمه لفتح دمشق وبلاد الأرمن عندما خرج من رومية، وحمل أرستبلوس وابنيه مقيدين معه، وهرب الثالث من بنيه وكان يسمى الاسكندر ولحقه فلم يظفر به.
ولما بعد فمقيوس عن الشام ذاهباً إلى مكانه، خرج هرقانوس وانظفتر إلى العرب ليحملوهم على طاعة الروم، فخالفهم الاسكندر بن أرستبلوس إلى المقدس، وكان متغيبا بتلك النواحي منذ مغيب أبيه لم يبرح، فدخل إلى المقدس وملكه اليهود عليهم وبنى ما هدمة فمقيوس من سور الهيكل، واجتمع إليه خلق كثير ورجع هرقابوس وانظفتر. فسار إليهم الاسكندر وهزمهم، وأثخن في عساكرهم. وكان قائد الروم كينانوس قد جاء إلى بلاد الأرمن من بعد فمقيوس، فلحق به واستنصره على الاسكندر، فسار معه إلى القدس، وخرج إليهم الاسكندر فهزموه، ومضى إلى حصن له يسمى الإسكندرونة واعتصم به. وسار هرقانوس إلى القدس فاستولى على ملكه وسار كينانوس قائد الروم إلى الاسكندر فحاصره بحصنه، واستأمن إليه وعفا عنه وأحسن إليه. وفي أثناء ذلك هرب أرستبلوس أخو هرقانوس من محبسه برومية وابنه انطقنوس، واجتمع إليه فحاربه كينانوس وهزمه، وحصل في أسره فرده إلى محبسه برومية، ولم يزل هنالك إلى أنّ تغلب قيصر على رومية واستحدث الملك في الروم وخرج فمقيوس من رومية إلى نواحي عمله، وجمع العساكر لمحاربة قيصر، فأطلق
أرستبلوس من محبسه، وأطلق معه قائدين في إثني عشر ألف مقاتل، وسرّحهم إلى الأرمن واليهود ليردوهم عن طاعة فمقيوس. وكتب فمقيوس إلى انظفتر ببيت المقدس أنّ يكفيه أمر أرستبلوس، فبعث قوما من اليهود لقوه في بلاد الأرمن ودسوا له سما في بعض شرابه، كان فيه حتفه. وقد كان كينانوس كاتب الشيخ صاحب رومية في إطلاق من بقي من ولد أرستبلوس فأطلقهم. قال ابن كريون: وكان أهل مصر لذلك العهد انتقضوا على ملكهم تلماي وطردوه، وامتنعوا من حمل الخراج إلى الروم، فسار إليهم واستنفر معه انظفتر فغلبهم وقتلهم. ورد تلماي إلي ملكه واستقام أمر مصر ورجع كينانوس إلى بيت المقدس فجدد الملك لهرقانوس وقدم انظفتر مدبر المملكة وسار إلى رومية.
قال ابن كريون: ثم غضبت الفرس على الروم فندبوا إلى ذلك قائدا منهم يسمى عرنبوس وبعثوه لحربهم، فمر بالقدس ودخل إلى الهيكل، وطالب الكهنون بما فيه من المال، وكان يسمى ألعازر من صلحاء اليهود وفضلائهم. فقال له أنّ كينانوس وفمقيوس لم يفعلوا ذلك بتلك، فاشتد عليه فقال: أعطيك ثلثمائة من الذهب وتتجافى عن الهيكل. ودفع إليه سبيكة ذهب على صورة خشبة كانت تلقى عليها الصور التي تنزل من الهيكل الذي تجدد. وكان وزنها ثلثمائة، فأخذها ونقض القول وتعدى على الهيكاس. وأخذ جميع ما فيه منذ عمارتها من الهدايا والغنائم وقربانات الملوك والأمم، وجميع آلات القدس. وسار إلى لقاء الفرس فحاربوه وهزموه، وأخذوا جميع ما كان معه، وقتل واستولت الفرس على بلاد الأرمن: دمشق وحمص وحلب وما إليها. وبلغ الخبر إلى الروم فجهزوا قائدا عظيما في عساكر جمة اسمه كسناو، فدخل بلاد الأرمن الذين كانوا غلبوا عليها، وساروا إلى القدس. فوجد اليهود يحاربون هرقانوس وانظفتر فأعانهما حتى استقام ملك هرقانوس. ثم سار إلى الفرس في عساكره فغلبهم وحملهم على طاعة الروم، ورد الملوك الذين كانوا عصوا عليهم إلى الطاعة، وكانوا اثنين وعشرين ملكا من الفرس كان فمقيوس قائد الروم هزمهم، فلما سار عنهم انتقضوا. قال ابن كريون: ثم ابتدأ أمر القياصرة، وملك على الروم يولياس ولقبه قيصر لأّن أمّه ماتت حاملا به عند مخاضها فشق بطنها عنه، فلذلك سُميّ قيصر ومعناه بلغتهم القاطع. ويسمّى أيضاً يولياس باسم الشهر الذي ولد فيه وهو يوليه خامس
تاريخ ابن خلدون
المجلد الثانى – من صفحة 148-258
شهورهم، ومعنى هذه اللفظة عندهم الخامس. وكان الثلثمائة والعشرون المدبرون أمر الروم والشيخ الذي عليهم قد أحكموا أمرهم مع جماعة الروم، على أنّ لا يقدموا عليهم ملكا، وأنهم يعينون للحروب في الجهات قائدا بعد أخر. هذا ما اتفقوا عليه النقلة في الحكاية عن أمر الروم، وابتداء ملك القياصرة.
قالوا: ولما رأى قيصر هذا الشيخ الذي كان لذلك العهد كبر وشب على غاية من الشجاعة والإقدام، فكانوا يبعثونه قائداً على العساكر إلى النواحي، فأخرجوه مرة إلى المغرب فدوخ البلاد ،ورجع، فسمت نفسه إلى الملك فامتنعوا له وأخبروه أنّ هذا سنة آبائهم منذ أحقاب، وحدثوه بالسبب الذي فعلوا ذلك لأجله، وهو أمر كيوس، وأنه عهد لأولهم لا ينقض، وقد دوخ فمقيوس الشرق وطوع اليهود ولم يطمع في هذا. فوثب عليهم قيصر وقتلهم، واستولى على ملك الروم منفرداً به وسمي قيصر، وسار إلى فمقيوس بمصر فظفر به وقتله، ورجع فوجد بتلك الجهات قواد فمقيوس، فسار إليهم يولياس قيصر ومر ببلاد الأرمن فأطاعوه، وكان عليهم ملك اسمه مترداث، فبعثه قيصر إلى حربهم.
فسار في الأرمن ولقيه هرقانوس ملك اليهود بعسقلان، ونفر معه إلى مصر هو وانظفتر ليمحوا بعض ما عرف منهم من موالاة فمقيوس، وساروا جميعاً إلي مصر ولقيتهم عساكرها، واشتدّ الحرب فحصر بلادهم، وكادت الأرمن أنّ ينهزموا، فثبت أنظفتر وعساكر اليهود وكاد لهم الظفر واستولوا على مصر، وبلغ الخبر إلى قيصر فشكر أنظفتر حسن بلائه، واستدعاه فسار إليه مع ملك الأرمن مترداث فقبله وأحسن وعده. وكان أنطقنوس بن إلي أرستبلوس قد اتصل بقيصر، وشكى بأن هرقانوس قتل أباه حين بعثه أهل رومة لحرب فمقيوس، فتحيل عليه هرقانوس وأنظفتر وقتلاه مسموماً، فأحسن أنظفتر العذر لقيصر بأنه إنما فعل ذلك في خدمة من ملك علينا من الروم، وإنما كنت ناصحاً لقائدهم فمقيوس بالأمس، وأنا اليوم أيها الملك لك أنصح وأحب، فحسن موقع كلامه من قيصر، ورفع منزلته وقدمه على عساكره لحرب الفرس، فسار إليه أنظفتر وأبلى في تلك الحروب ومناصحة قيصر، فلما انقلبوا من بلاد الفرس أعادهم قيصر إلى ملك بيت المقدس على ما كانوا عليه. واستقام الملك لهرقانوس، وكان خيراً إلا أنه كان ضعيفاً عن لقاء الحروب، فتغلّب
عليه أنظفتر، واستبد على الدولة، وقدّم ابنه فسيلو ناظراً في بيت المقدس، وابنه هيردوس عاملاً على جبل الخليل. وكان كما بلغ الحلم واحتازوا الملك من أطرافه، وامتلأ أهل الدولة منهم حسدآ، وكثرت السعاية فيهم، وكان في أطراف عملهم ثائر من اليهود يسمى حزقيا، وكان شجاعاً صعلوكاً واجتمع إليه أمثاله، فكانوا يغيرون على الأرمن وينالون منهم. وعظمت نكايتهم فيهم، فشكا عامل بلاد الأرمن وهو سفيوس ابن عم قيصر إلى هيردوس وهو بجبل الخليل ما لعله حزقيا وأصحابه في بلادهم، فبعث هيردوس إليهم سرية فكبسوهم ، وقتل حزقيا وغيره منهم، وكتب بدلك إلى سفيوس فشكره وأهدى إليه.
ونكر اليهود ذلك من فعل هيردوس وتظلموا عند هرقانوس وطلبوه في القصاص منه، فأحضروه في مجلس الأحكام، وأحضر السبعين شيخاً من اليهود، وجاء هيردوس متسلحاً ودافع عن نفسه، وعلم هرقانوس بغرض الأشياخ، ففصلوا المجلس، فنكروا ذلك على هرقانوس ، ولحق هيردوس ببلاد الأرمن، فقدمه سفيوس على عمله. ثم أرسل هرقانوس إلى قيصر يسأل تجديد عهود الروم لهم، فكتب له بذلك، وأمر بأن يحمل أهل الساحل خراجهم إلى بيت المقدس ما بين صيدا وغرة، ويحمل أهل صيدا إليها في كل سنة عشرين ألف وسق من القمح، وأن يرد على اليهود سائر ما كان بأيديهم إلى الفرات واللآذقية وأعمالها، وما كان بنو حشمناي فتحوه عنوة من عدوات الفرات ، لأن فمقيوس كان يتعدى عليهم في ذلك، وكتب العهد بذلك في ألواح من نحاس بلسان الروم ويونان، وغلقت في أسوار صور وصيد ا، واستقام أمر هرقانوس. قال ابن كربون: ثم قتل قيصر ملك الروم. وانظفتر وزير هرقانوس المستبد عليه. أما قيصر فوثب عليه كيساوس من قواد فمقيوس فقتله ، وملك وجمع العساكر وعبر البحر إلى بلاد أشيت ففتحها، ثم سار إلى القدس وطالبهم بسبعين بدرة من الذهب، فجمع له أنظفتر وبنوه من اليهود، ثم رجع كيساوس إلى مقدونية فأقام بها. وأما أنظفتر فإن اليهود داخلوا القائد ملكيا الذي كان بين أظهرهم من قبل كيساوس في قتل أنظفتر وزير هرقانوس، فأجابهم إلى ذلك، فدسوا إلى ساقيه سما فقتله، وجاء ابنه هيردوس إلى القدس مجمعاً قتل هرقانوس، فكفه فسيلوا عن ذلك، وجاء كيساوس من مقدونية إلى صور، ولقي هرقانوس وهيردوس وشكوا إليه ما فعله قائده ملكيا من
مداخلة اليهود في قتل أنظفتر، فأذن لهم في قتله فقتلوه. تم زحف كينانوس ابن أخي قيصر وقائده انطونيوس في العساكر لحرب كيساوس المتوثب على عمه قيصر، فلقيهم قريباً من مقدونية، فظفرا به وقتلاه، وملك كينانوس مكان عمه وسمى أغسطس قيصر باسم عمه. فأرسل إليه هرقانوس ملك اليهود بهدية، وفيها تاج من الذهب مرصع بالجواهر، وسأل تجديد العهد لهم، وأن يطلق السبي الذي سبي منهم أيام كيساوس ، وأن يرد اليهود إلى بلاد يونان وأثينة وأن يجري لهم ما كان رسم به عمه قيصر، فأجابه إلى ذلك كله. وسارانطيانوس
واغسطس قيصر إلى بلاد الارمن بدمشق وحمص، فلقته هنالك كلبطرة ملكة مصر، وكانت ساحرة ، فاستأمنته وتزوجها، وحضر عند هرقانوس ملك اليهود. وجاء جماعة من اليهود فشكوا من هيردوس وأخيه فسيلو وتظلموا منهما، وأكذبهم ملكهم هرقانوس وأبى عليها، وأمر أنطيانوس بالقبض على أولئك الشاكين، وقتل منهم، ورجع هيردوس وأخوه فسارا إلى مكانهما ومكان أبيهما من تدبير مملكة هرقانوس، وسار انطيانوس إلى بلاد الفرس فدوخها وعاث في نواحيها، وقهر ملوكها وقفل إلى رومة. قال ابن كريون: وفي خلال ذلك لحق انطقنوس وجماعة من اليهود بالفرس، وضمنوا لملكهم أنّ يحملوا إليه بدرة من الذهب، وثمانمائة جارية من بنات اليهود ورؤسائهم، يسبيهن له، على أنّ يملكه مكان عمه هرقانوس ويسلمه إليه، ويقتل هيردوس وأخاه فسيلو ، فأجابهم ملك الفرس إلى ذلك، وسار في العساكر وفتح بلاد الارمن وقتل من وجد بها من قواد الروم ومقاتلتهم، وبعث قائده بعسكر من القدس مع أنطقنوس فولي مورياً بالصلاة في بيت المقدس، والتبرك بالهيكل، حتى إذا توسط المدينة ثار بها وأفحش في القتل، وبادر هيردوس إلى قصر هرقانوس ليحفظه، ومضى فسيلو إلى الحصن يضبطه. وتورط من كان بالمدينة من الفرس قتلهم اليهود عن آخرهم، وامتنعوا على القائد، وفسد ما كان دبره في أمر انطقنوس. فرجع إلى استمالة هرقانوس وهيردوس، وطلب الطاعة منهم للفرس، وأنه يتلطف لهم عند الملك
في إصلاح حالهم، فصغى هرقانوس، وفسيلو إلى قوله، وخرجوا إليه. وارتاب هيردوس وامتنع، فارتحل بهما قائد الفرس حتى إذا بلغ الملك ببلاد الأرمن تقبض عليهما، فمات فسيلو من ليلته، وقيد هرقانوس واحتمله إلى بلاده، وأشار أنطقنوس بقطع أذنه ليمنعه من الكهونة. ولما وصل ملك الفرس إلى بلاده أطلق هرقانوس من الاعتقال وأحسن إليه، إلى أنّ استدعاه هيردوس كما يأتي بعد، وبعث ملك الفرس قائده إلى اليهود مع انطقنوس ليملك، فخرج هيردوس عن القدس إلى جبل الشراة، فترك عياله بالحصن عند أخيه يوسف، وسار إلى مصر يريد قيصر. فأكرمته كلبطرة ملكة مصر، وأركبته السفن إلى رومية، فدخل بها انطيانوس إلى أوغسطس قيصر، وخبره الخبر عن الفرس والقدس، فملكه اوغسطس وألبسه التاج، وأركبه في رومية في زى الملك، والهاتف بين يديه بأن اوغسطس ملكه. واحتفل أنطيانوس في صنيع له حضره الملك أوغسطس قيصر وشيوخ رومية، وكتبوا له العهد في ألواح من نحاس، ووضعوا ذلك اليوم التاريخ، وهو أول ملك هيردوس. وسار أنطيانوس بالعسكر إلى الفرس ومعه هيردوس، وفارقه من أنطاكية، وركب البحر إلى القدس لحرب أنطقنوس، فخرج انطقنوس إلى جبال الشراة للاستيلاء على عيال هيردوس، وأقام على حصار الحصن، وجاء هيردوس فحاربه، وخرج يوسف من الحصن من ورائه، فانهزم أنطقنوس إلى القدس، وهلك أكثر عسكره. وحاصره هيردوس، وبعث أنطقنوس بالأموال إلى قواد العسكر من الروم فلم يجيبوه، وأقام هيردوس على حصاره حتى جاءه الخبر عن انطيانوس قائد قيصر أنه ظفر بملك الفرس وقتله، ودوخ بلادهم، وإنه عاد ونزل الفرات. فترك هيردوس أخاه يوسف على حصار القدس مع قائد الروم سيساو، ومن تبعهم من الأرمن، وسار للقاء انطيانوس وبلغه وهو بدمشق أنّ أخاه يوسف قتل في حصار القدس على يد قائده أنطقنوس، وأن العساكر انفضت ورجعوا إلي دمشق، وجاء سيساو منهزماً قائد انطيانوس بالعساكر. وتقدم هيردوس وقد خرج أنطقنوس للقائه، فهزمه وقتل عامة عسكره، واتبعه إلى القدس. ووافاه سيساو قائد الروم فحاصروا القدس أياماً، ثم اقتحموا البلد وتسللوا صاعدين إلى السور، وقتلوا الحرس وملكوا المدينة، وأفحش سياسو في قتل اليهود، فرغب إليه هيردوس في الإبقاء. وقال له: إذا قتلت قومي فعلى من تملكني؟ فرفع القتل عنهم ورد ما نهب، وقرب إلى البيت تاجاً من الذهب وضعت فيه، وحمل إليه هيردوس أموالا. ثم عثروا على أنطقنوس، وقد كان سار من الشام إلى مصر، فجاءه بانطقنوس هنالك، ولحق بهم هيردوس وسأل من انطيانوس قتل أنطقنوس فقتله، واستبد هيردوس بملك اليهود وانقرض ملك بني حشمناى والبقاء لله وحده.
انقراض ملك بني حشمناي وابتداء ملك هيردوس وبنيه وكان أوّل ما افتتح به ملكه أنّ بعث إلى هرقانوس الذي احتمله الفرس، وقطعوا أذنه يستقدمه ليأمن على ملكه من ناحيته، ورغّبه في الكهنونية التي كان عليها، فرغب وحذره ملك الفرس من هيردوس، وعزله اليهود الذين معه، وأراه أنها خديعة وأنه العيب الذي به يمنع الكهنونية فلم يقبل شيئاً من ذلك. وصغى إلى هيردوس وحسن ظنه به، وسار إليه وتلقاه بالكرامة والاعطاء، وكان يخاطبه بأبي في الجمع والخلوة. وكانت الإسكندرة بنت هرقانوس تحت الإسكندر، وابن أخيه أرستبلوس. وكانت بنتها منه مريم تحت هيردوس فاطلعتا ،على ضمير هيردوس من محاولة قتله فخبرتاه بذلك، وأشارتا عليه باللحاق بملك العرب ليكون في جواره، فخاطبه هرقانوس في ذلك، وأن يبعث إليه من رجالاتهم من يخرج به إلى أحيائهم، وكان حامل الكتاب من اليهود مضطغناً على هرقانوس لأنه قتل أخاه وسلب ماله، فوضع الكتاب في يد هيردوس، فلما قرأه رده إليه، وقال: أبلغه إلى ملك العرب وأرجع الجواب إلي. فجاءه بالجواب من ملك العرب إلى هرقانوس، وأنه أسعف وبعث الرجال، فألقاهم بوصلك إلي. فبعث هيردوس من يقبض على الرجال بالمكان الذي عينه، وأحضرهم وأحضر حكام البلاد اليهود والسبعين شيخاً. وأحضر هرقانوس وقرأ عليه الكتاب بخطه فلم يخير جواباً، وقامت عليه الحجة، وقتله هيردوس لوقته لثمانين سنة من عمره، وأربعين من ملكه، وهو آخر ملوك بني حشمناي. وكان للاسكندر بن أرستبلوس، ابن يسمى أرستبلوس، وكان من أجمل الناس صورة، وكان في كفالة أمه الاسكندرة، وأخته يومئذ تحت هيردوس كما قلناه. وكان هيردوس يغص به، وكانت اخته وأمهما يؤملاه أنّ يكون كوهناً بالبيت مكان جده هرقانوس، وهيردوس يريد نقل الكهنونة عن بني حشمناى، وقدّم لها رجلاً من
عوام الكهنونية، وجعله كبير الكهنونية. فشق ذلك على الإسكندرة بنت هرقانوس وبنتها مريم زوج هيردوس. وكان بين الإسكندرة وكلوبطرة ملكة مصر مواصلة ومهاداة، وطلبت منها أنّ تشفع زوجها أنطيانوس في ذلك إلى هيردوس، فاعتذر له هيردوس بان الكواهن لا تعزل، ولو أردنا ذلك فلا يملكنا أهل الدين من عزله، فبعثت بذلك الاسكندرة ودست الاسكندرة إلى الرسول الذي جاء من عند انطيانوس، وأتحفته بمال، فضمن لهم أنّ انطيانوس يعزم على هيردوس في بعث أرستبلوس إليه، ورجع إلى انطيانوس فرغبة في ذلك. ووصف له من جماله وأغراه باستقدامه، فبعث فيه انطيانوس إلى هيردوس وهدده بالوحشة أنّ منعه، فعلم أنه يريد منه القبيح فقدمه كهنوناً وعزل الأول، واعتذر لانطيانوس بأن الكوهن لا يمكن سفره، واليهود تنكر ذلك. فأغفل انطيانوس الأمر ولم يعاود فيه.
ووكل هيردوس بالإسكندرة بنت هرقانوس عهدته من يراعي أفعالها، فاطلع على كتبها إلى كلوبطرة أنّ تبعث إليها السفن والرجال يوصلنها إليها، وأن السفن وصلت إلى ساحل يافا، وأن الاسكندرة صنعت تابوتين لتخرج فيهما هي وابنتها على هيئة الموتى. فأرصد هيردوس من جاء بهما من المقابر في تابوتيهما، فوبخهما ثم عفا عنهما. ثم بلغه أنّ ارستبلوس حضر في عيد المظال، فصعد على المذبح وقد لبس ثياب القدس، وازدحم الناس عليه، وظهر من ميلهم إليه ومحبتهم ما لا يعبر عنه، فغص بذلك وأعمل التدبير في قتله. فخرج في متنزه له باريحاء في نيسان، استدعى أصحابه وأحضر أرستبلوس، فطعموا ولعبوا وانغمسوا في البرك يسبحون. وعمد غلمان هيردوس إلى أرستبلوس فغمسوه في الماء حتى شرق وفاض، فاغتم الناس لموته وبكى عليه هيردوس ودفنه. وكان موته لسبع عشرة سنة من عمره. وتأكدت البغضاء بين الإسكندرة وابنتها مريم زوج هيردوس أخت هذا الغريق، وبين أم هيردوس واخته، وكثرت شكواهما إليه، فلم يشكهما لمكان زوجته مريم وأمها منه. قال ابن كريون: ثم انتقض انطيانوس على اوغسطس قيصر وذلك أنه تزوج كلوبطرة وملك مصر، وكانت ساحرة فسحرته واستمالته، وحملته على قتل ملوك كانوا في طاعة الروم، وأخذ بلادهم وأموالهم ،وسبي نسائهم وأموالهم وأولادهم. وكان من جملتهم هيردوس وتوقف فيه خشية من اوغسطس قيصر، لأنه كان يكرمه بسبب ما صنع الاخرين ، فحمله على الانتقاض والعصيان ففعل وجمع
العسكر، واستدعى هيردوس فجاءه وبعثه إلى قتال العرب، وكانوا خالفوا عليه، فمضى هيردوس لذلك ومعه انيثاون قائد كلوبطرة ،وقد دست له أنّ يجر الهزيمة على هيردوس ليقتل ففعل. وثبت هيردوس وتخلص من المعترك بعد حروب صعبة هلك فيها بين الفريقين خلق كثير.
ورجع هيردوس إلى بيت المقدس، فصالح جميع الملوك والأمم المجاورين له، وامتنع العرب من ذلك، فسار إليهم وحاربهم، ثم استباحهم بعد أيام ومواقف بذلوا وجمعوا له الأموال، وفرض عليهم الخراج في كل سنة ورجع. وكان انطيانوس لما بعثه إلى العرب سار هو إلى رومة، وكالت بينه وبين اوغسطس قيصر حروب هزمه قيصر في آخرها وقتله وسار إلى مصر، فخافه هيردوس على نفسه لما كان منه في طاعة أنطيانوس وموالاته، ولم يمكنه التخلف عن لقائه. فأخرج خدمه من القدس، فبعث بأمه واخته إلى قلعة الشراة لنظر أخيه فرودا، وبعث بزوجه مريم وأمه الاسكندرة إلى حصن الإسكندرونة لنظر زوج اخته يوسف، ورجل آخر من خالصته من أهل صور اسمه سوما، وعهد إليها بقتل زوجته وامها أنّ قتله قيصر. ثم حمل معه الهدايا وسار إلى قيصر اوغسطس وكانت تحقد له صحبة انطيانوس،فلما حضر بين يديه عنّفه وأزاح التاج عن رأسه وهمّ بعقابه، فتلطف هيردوس في الاعتذار، وأنّ موالاته لأنطيانوس إنما كان لما أولى من الجميل في السعاية عند الملك وهي أعظم أياديه عندي، ولم تكن موالاتي له في عداوتك ولا في حربك. ولو كان ذلك وأهلكت نفسي دونه كنت غير ملوم، فإن الوفاء شأن الكرام. فإن أزلت عني التاج فما أزلت عقلى ولا نظري، وإن أبقيتنى فأنا محل الصنيعة والشكر، لانبسط أوغسطس لكلامه وتوجه كما كان، وبعثه على مقدمته إلى مصر، فلما ملك مصر وقتل كلوبطرة وهب لهيردوس جميع ما كان أنطيانوس أعطاها إياه ونقل. فأعاد هيردوس إلى ملكه ببيت المقدس وسار إلى رومية. قال ابن كريّون: ولما عاد هيردوس إلى بيت المقدس أعاد حرمه من أماكنهنّ فعادت زوجته مريم وأمها من حصن الاسكندرونة وفي خدمتها يوسف زوج أخته وسوما الصوري، وقد كانا حدّثا المرأة وأمها بما أسر إليهما هيرودس، وقد كان سلف منه قتل هرقانوس وأرستبلوس فشكرتا له. وبينما هو آخذ في استمالة زوجته إذ رمتها أخته بالفاحشة مع سَوْمَا الصورى في ملاحاة جرت بينهما ولم يصدّق ذلك هيردوس
للعداوة والثقة بعفة الزوجة. ثم جرى منها في بعض الأيام وهو في سبيل استمالتها عتاب فيما أسرّ إلى سَوْما وزوج أخته، فقويت عنده الظّنّة بهم جميعا وأن مثل هذا السر لم يكن إلا لأمر مريب، وأخذ في إخفائها وإقصائها، ودست عليه اخته بعض النساء تحدثه بأن زوجته داخلته في أنّ تستحضر السم، وأحضره فجرب وصح، وقتل للحين صهره يوسف وصاحبه سوما، واعتقل زوجته ثم قتلها وندم على ذلك، ثم بلغه عن أمها الإسكندرة مثل ذلك، فقتلها. وولى على اروم مكان صهره رجلا منهم اسمه كرسوس وزوجه اخته، فسار إلى عمله وانحرف عن دين التوراة والإحسان الذي حملهم عليه هرقانوس، وأباح لهم عبادة صنمهم، وأجمع الخلاف، وطلق أخت هيردوس، فسعت به إلى أخيها وخبرته بأحواله، وأنه آوى جماعة من بني حشمناي المرشحين للملك منذ اثني عشرة سنة.
فقام هيردوس في ركائبه، وبحث عنه، فحضر وطالبه ببني حشمناي الذي عنده، فأحضرهم فقتله وقتلهم، وأرهف حده وقتل جماعة من كبار اليهود ومقدميهم، اتهمهم بالإنكار عليه. فأذعن له الناس واستفحل ملكه، وأهمل المراعاة لوصاية التوراة، وعمل في بيت المقدس سورا، واتخذ متنزه لعب، وأطلق فيه السباع. ويحمل بعض الجهلة على مقابلتها لتفترسهم. فنكر الناس ذلك، وأعمل أهل الدولة الحيلة في قتله فلم لتم لهم. وكان يمشي متنكرا للتجسس على أحوال الناس، فعظمت هيبهته في النفوس. وكان أعظم طوائف اليهود عنده الربانيون بما تقدم لهم في ولايته، وكان لطائفة العباد من اليهود المسمى بالحيسيد مكانة عنده أيضاً، كان شيخهم مناحيم لذلك العهد محدثا، وكان حدثه وهو غلام بمصير الملك له، وأخبره وهو ملك بطول مدته في الملك، فدعا له ولقومه. وكان كلفا ببناء المدن والحصون، ومدينة قيسارية من بنائه. ولما حدثت في أيامه المجاعة شمر لها، وأخرج الزرع للناس وبثه فيهم بيعا وهبة وصدقة. وأرسل في الميرة من سائر النواحي، وأمر قيصر في سائر تخومه وفي مصر ورومة أنّ يحملوا الميرة إلى بيت المقدس، فوصلت السفن بالزرع إلى ساحلها من كل جهة، وأجرى على الشيوخ والأيتام والأرامل والمنقطعين كفايتهم من الخبز، وعلى الفقراء والمساكين كفايتهم من الحنطة، وفرق على خمسين ألفا قصدوه من غير ملته، فرفعت المجاعة وارتفع له الذكر والثناء الجميل. قال ابن كريون: ولما استفحل مسسسلكة وعظم سلطانه أراد بناء البيت على ما بناه سليمان
بن داود، لأنهم لما رجعوا إلى القدس بإذن كورش عين لهم مقدار البيت لا يتجاوزونه، فلم يتم على حدود سليمان. ولما اعتزم على ذلك ابتدأ أولاً باحضار الآلات مستوفيات، خشية أنّ يحصل الهدم وتطول المدة وتعرض القواطع والموانع، فاعد الآلات وأكمل جمعها في ست سنين، ثم جمع الصناع للبناء وما يتعلق به، فكانوا عشرة آلاف. وعين ألفا من الكهنة يتولون القدس الأقدس الذي لا يدخله غيرهم. ولما تم له ذلك شرع في الهدم، فحصل لأقرب وقت، ثم بنى البيت على حدوده وهيئته أيام سليمان، وزاد في بعض المواضع على ما اختاره، ووقف عليه نظره فكمل في ثمان سنين، ثم شرع في الشكر لله تعالى على ما قيأ له من ذلك فقرب القربان، واحتفل في الولائم وإطعام الطعام. وتبعه الناس في ذلك أياما، فكانت من محاسن دولته.
قال ابن كريون: ثم ابتلاه الله بقتل أولاده، وكان له ولدان من مريم بنت الاسكندرة قتيلة السم، أحدهما الاسكندر والآخر ارستبلوس، وكانا عند قتل أمهما غائبين برومة يتعلمان خط الروم، للما وصلا وقد قتل افهما حصلت بينه وبينهما الوحشة، وكان له ولد آخر اسمه أنظفتر على اسم جده، وكان قد أبعد أمه راسيس لمكان مريم، فلما هلكت واستوحش من ولدها لطلب محل راسيس منه، قدم ابنها انظفتر وجعله ولي عهده، وأخذ ني السعاية على إخوته، خشية منهما بأنهما يرومان قتل أبيهما فالحرف عنهما. واتفق أنّ سار إلى اوغسطس قيصر، ومعه ابنه إسكندر فشكاه عنده وتبرأ الإسكندر وحلف على براءته، فأصلح بينهما قيصر ورجع إلى القدس، وقسم القدس بين ولده الثلاثة، ووصاهم ووصى الناس بهم. وعهد أنّ لا يخالطوهم خشية مما يحدث عن ذلك. وانظفتر مع ذلك متماد على سعايته بهما، وقد داخل في ذلك عمه قدودا وعمته سلومنت، فأغروا أباه بأخويه المذكورين حتى اعتقلهما. وبلغ الخبر أرسلاوش ملك كفتور، وكانت بنته تحت الإسكندر منهما، فجاء إلى هيردوس مظهرا السخط على الإسكندر والانحراف عنه. وتحيل في إظهار جراءتهما، وأطلعه على جلية الحال، وسعاية أخيه واخته، فانكشف له الأمر وصدقه وغضب على أخيه قدودا فجاء إلى ارسلاوش وأحضره عند هيردوس، حتى أخبره بمصدوقية الحال، ثم شفعه فيه. وأطلق ولديه ورضي عنهما، وشكر لارسلاوش من تلطلفه في تلافي هذا الأمر، وانصرف إلى بلده. ولم ينف ذلك انظفتر عن تدبيره عليهما. وما زال يغري أباه ويدس له من يغريه حتى
أسخطه عليهما ثانية، واعتقلهما، وأمضى بهما في بعض أسفاره مقيدين. ونكر ذلك بعض أهل الدولة، فدس انظفتر إلى أبيه: المنكر علي من المدبرين عليك، وقد ضمن لحجامك الإسكندر مالاً على قتلك، فأنزل هيرودس بهما العقاب ليتكشف الخبر، ونما بأن ذلك الرجل معه ولذغه العقاب، وأقر على نفسه، وقتل هو وأبوه والحجام. ثم قتل هيردوس ولديه وصلبهما على مصطبة. وكان لابنه الإسكندر ولدان من بنت أرسلاوش ملك كفتور وهما كوبان والإسكندر، ولابنه ارستبلوس ثلاثة من الولد: اعراباس وهيردوس واشتروبلوس.
ثم ندم هيردوس على قتل ولديه وعطف على أولادهما فزوج كوبان بن الإسكندر بابنة أخيه قدودا وزوج ابنة ابنه ارستبلوس من ابن ابنه أنظفتر، وأمر أخاه قدودا وابنه انظفتر بكفالتهما والإحسان إليهما، فكرها ذلك واتفقا على فسخه وقتل هيردوس متى أمكن. وبعث هيردوس ابنه أنظفتر إلى اوغسطس قيصر، ونما الخبر إليه بأن أخاه قدودا يريد قتله، فسخطه وأبعده وألزمه بيته. ثم مرض قدودا واستعد أخاه هيردوس ليعوده فعاد ثم مات. فحزن عليه ثم حزن باستكشاف ما نما إليه، فعاقب جواريه. فأقرت إحداهما بأن انظفتر وقدودا كانا يجتمعان عند رسيس أم أنظفتر يدبران على قتل هيردوس على يد خازن أنظفتر، فأقر بمثل ذلك. وإنه بعث على السم من مصر وهو عند امرأة لدودا، فأحضرت فأقرت بأن قدودا أمرها عند موته باراقته، وأنها أبقت منه قليلا يشهد لها أنّ سئلت. فكتب هيردوس إلى ابنه أنظفتر بالقدوم فقدم مستريباً بعد أنّ أجمع على الهروب فمنعه خدم أبيه. ولما حضر جمع له الناس في مشهد وحضر رسول اوغسطس وقدم كاتبه نيقالوس. وكان يحب أولاد هيردوس المقتولين ويميل إليهما عن أنظفتر، فدفع يخاصمه حتى قامت عليه الحجة، وأحضر بقية السم وجرب في بعض الحيوانات فصدق فعله. فحبس هيردوس ابنه أنظفتر حتى مرض وأشرف على الموت، وأسف على ما كان منه لأولاده، فهم بقتل نفسه فمنعه جلساوه وأهله، وسمع من القصر البكاء والصراخ لذلك، فهم أنظفتر بالخروج من محبسه ومنع، وأخبر هيردوس بذلك وأمر بقتله في الوقت فقتل. ثم هلك بعده لخمسة أيام ولسبعين سنة من عمره وخمس وثلاثين من ملكه. وعهد بالملك لابن اركلاوش، وخرج كاتبه نيقالوس، فجمع الناس وقرأ عليهم العهد وأراهم خاتم هيردوس عليه فبايعوا له، وحمل أباه إلى قبره على سرير من الذهب
مرصع بالجواهر والياقوت، وعليه ستور الديباج منسوجة بالذهب، وأجلس مسندا ظهره إلى الأرائك والناس أمامه من الأشراف والرؤساء، ومن خلفه الخدم والغلمان، وحواليه الجواري بأنواع الطيب، إلى أنّ اندرج في قبره.
وقام اركلاوش بملكه وتقرب إلى الناس باطلاق المسجونين، فاستقام أمره وانطلقت الألسنة بذم هيردوس والطعن عليه. ثم انتقضوا على أركلاوش بملكه بما وقع منه من القتل فيهم، فساروا إلى قيصر شاكين بذلك، وعابوه عنده بأنه ولى من غير أمره. وحضر اركلاوش وكاتبه نيقالوس بخصمهم ودفع دعاويهم، وأشار عظماء الروم بابقائه، فملكه قيصر وأعاده إلى القدس. وأساء السيرة في اليهود، وتزوج امرأة أخيه الإسكندر وكان له أولاد منها فماتت لوقتها. ووصلت شكاية اليهود بذلك كله إلى قيصر، فبعث قائدا من الروم إلى المقدس فقيد اركلاوش وحمله إلى رومة لسبع سنين من دولته، وولى على اليهود بالقدس أخاه أنطيفوس وكان شرا منه، واغتصب امرأة أخيه فيلقوس وله منها ولدان، ونكر ذلك عليه علماء اليهود والكهنونية. وكان لذلك العهد يوحنا بن زكريا فقتله في جماعة منهم. وهذا هو المعروف عند النصارى بالمعمدان الذي عمد عيسى أي طهره بماء المعمودية بزعمهم. وفي دولة أنطيفوس هذا مات قيصر اوغسطس فملك بعده طبريانوس، وكان قبيح السيرة. وبعث قائده بعيلاس بصنم من ذهب على صورته ليسجد له اليهود فامتنعوا، فقتل منهم جماعة فأذنوا بحربه وقاتلوه وهزموه. وبعث طبريانوس العساكر مع قائده إلى المدس، فقبض على انطيفس وحمله مقيدا. ثم عزله طبريانوس إلى الأندلس فمات بها وملك بعده على اليهود اغرباس ابن أخيه ارستبلوس المقتول. وهلك في أيامه طبريانوس قيصر وملك نيرون، وكان أشر من جميع من تقدمه. وأمر أنّ يسمى إلا هو، وبنى المذبح للقربان وقرب، وأطاعته الناس إلا اليهود، وبعثوا إليه في ذلك افيلو الحكيم في جماعة فشتمهم وحبسهم وسخط اليهود. ثم قبحت أحواله وساءت أفعاله وثارت عليه دولته، فقتلوه ورموا شلوه في الطريق فأكلته الكلاب. ثم ملك بعده قلديوش قيصر وأطلق أفيلو والذين معه إلى بيت المقدس، وهدم المذابح التي كان نيروش بناها.
وكان أغرباس حسن السيرة معظماً عند القياصرة، وهلك لثلاث وعشرين سنة من دولته. وملك بعده ابنه اغرباس بأمر اليهود، وملك عشرين سنة، وكثرت الحروب والفتن في أيامه في بلاد اليهود والأرمن، وظهرت الخوارج والمتغلبون وانقطعت السبل، وكثر الهرج داخل المدينة في القدس، وكان الناس يقتل بعضهم بعضا في الطرقات، يحملون سكاكين صغارا محدين لها، فإذا ازدحم مع صاحبه في الطريق طعنه فأهواه، حتى صاروا يلبسون الدروع لذلك وخرج كثير من الناس عن المدينة فراراً من القتل. وهلك ولد طبريوس قيصر ونيرون من بعده، وملك على الروم فيلقوس قيصر، فسعى بعض الشرار عنده بأن هؤلاء الذين خرجوا من القدس يذمون على الروم. فبعث إليهم من قتلهم وأسرهم.
واشتد البلاء على اليهود، وطالت الفتن فيهم. وكان الكهنون الكبير فيهم لذلك العهد عناني- وكان له ابن اسمه ألعازار، وكان ممن خرج من القدس، وكان فاتكا مصعلكاً. وانضم إليه جماعة من الأشرار وأقاموا يغيرون على بلاد اليهود والارمن وينهبون ويقتلون، وشكتهم الارمن إلى فيلقوس قيصر، فبعث من قيده وحمله وأصحابه إلى رومة. فلم يرجع إلى القدس إلا بعد حين.
واشتد قائد الروم ببيت المقدس على اليهود، وكثر ظلمه فيهم فأخرجوه عنهم بعد أنّ قتلوا جماعة من أصحابه، ولحق بمصر فلقي هنالك أغرباس ملك اليهود راجعا من رومية ومعه قائدان من الروم فشكى إليه فيلقوس بما وقع من اليهود، ومضى إلى بيت المقدس، فشكى إليه اليهود بما فعل فيلقوس، وأنهم عازمون على الخلاف. وتلطف لهم- في الإمساك عن ذلك حتى تبلغ شكيتهم إلى قيصر ويعتذر منه، فامتنع ألعازار بن عناني وأبى إلا المخالفة، وأخرج القربان الذي كان بعثه معه نيرون قيصر من البيت. ثم عمد إلى الروم الذين جاووا مع اغرباس فقتلهم حيث وجدوا، وقتل القائدين، ونكر ذلك أشياخ اليهود واجتمعوا لحرب العازار، وبعثوا إلى اغرباس. وكان خارج القدس. فبعث إليهم بثلاثة آلاف مقاتل، فكانت الحرب بينهم وبين العازار سجالا، ثم هزمهم وأخرجهم من المدينة، وعاث في البلد وخرب قصور الملك ونهبها وأموالها وذخائرها. وبقي اغرباس والكهنونة والعلماء والشيوخ خارج المقدس، وبلغهم أنّ الارمن قتلوا من وجدوه من اليهود بدمشق ونواحيها وبقيسارية، لساروا إلى بلادهم وقتلوا من وجدوه بنواحي دمشق من الأرمن. ثم
سار أغرباس إلى قيرش قيصر وخّبره الخبر، فامتعض لذلك وبعث إلى كسنينا وقائده على الأرمن، وقد كان مضى إلى حرب الفرس فدوخها، وقهرهم وعاد إلى بلاد الارمن، فنزل دمشق، فجاءه عهد قيصر بالمسير مع اغرباس ملك اليهود إلى القدس، فجمع العساكر وسار وخرب كل ما مر عليه. ولقيه ألعازار الثائر بالقدس، فانهزم ورجع ونزل كسنيناو قائد الروم فأثخن فيهم. وارتحل كسنيناو إلى قيسارية، وخرج اليهود في أتباعهم فهزموهم، ولحق كسنيناو أغرباس بقيصر قيرش فوافقوا وصول قائده الأعظم أسبسيانوس عن بلاد المغرب.
وقد فتح الأندلس ودوخ أقطارها، فعهد إليه قيرش قيصر بالمسير إلى بلاد اليهود، وأمره أنّ يستأصلهم ويهدم حصونهم، فسار ومعه ابنه طيطوش واغرباس ملك اليهود. وانتهوا إلى أنطاكية، وتأهب اليهود لحربهم وانقسموا ثلاث فرق في ثلاث نواحي، مع كل فرقة كهنون، فكان عناني الكهنون الأعظم في دمشق ونواحيها، وكان ابنه ألعازر كهنون في بلاد أدوم وما يليها إلى أيلة. وكان يوسف بن كريون كهنون طبرية وجبل الخليل وما يتصل به. وجعلوا فيما بقي من البلاد من الأغوار إلى حدود مصر من يحفظها من بقية الكهنونية. وعمر كل منهم أسوار حصونه، ورتب مقاتلته وسار اسبسيانوس بالعساكر من أنطاكية، فتوسط في بلاد الأرمن وأقام. وخرج يوسف بن كريون من طبرية فحاصر بعض الحصون بناحية الأغرباس ففتحه واستولى عليه. وبعث أهل طبرية من ورائه إلى الروم فاستأمنوا إليهم، لزحف يوسف مبادراً وقتل من وجد فيها من الروم، وقبل معذرة أهل طبرية، وبلغه مثل ذلك عن جبل الخليل، فسار إليهم وفعل فيهم فعله في طبرية فزحف إلية اسبسيانوس مر عكا في أربعين ألف مقاتل من الروم، ومعه اغرباس ملك اليهود. وسارت معهم ا أمم من الأرمن وغيرهم إلا أدوم فإنهم كانوا حلفاء لليهود منذ أيام هرقانوس. ونزل اسبسيانوس بعساكره على يوسف بن كريون ومن معه بطبرية فدعاهم إلى الصلح، فسألوا الإمهال إلى مشاورة الجماعة بالقدس. ثم امتنعوا وقاتلهم أسبنانوس بظاهر الحصن فاستلحمهم حتى قل عددهم، وأغلقوا الحصن. فقطع عنهم الماء خمسين ليلة، ثم بيتهم الروم فاقتحموا عليهم الحصن فاستلحموهم، وأفلت يوسف بن كريون ومر معه من الغل فامتنعوا ببطن الأعراب، وأعطاهم اسبسيانوس الأمان، فمال إليه يوسف وأبى القوم إلا أن
يقتلوا أنفسهم وهموا بقتله. فوافقهم على رأيهم إلى أنّ قتل بعضهم بعضا، ولم يبق من يخشاه، فخرج إلى اسبسيانوس مطارحا عليه. وحرضه اليهود على قتله فأبى واعتقله، وخرب أعمال طبرية وقتل أهلها ورجع إلى قيسارية.
قال ابن كريون: وفي خلال ذلك حدثت الفتنة في القدس بين اليهود داخل المدينة. وذلك أنه كان في جبل الخليل بمدينة كوشالة يهودي اسمه يوحنان وكان مرتكبا للعظائم، واجتمع إليه أشرار منهم فقوي بهم على قطع السابلة والنهب والقتل. فلما استولى الروم على كوشالة لحق بالقدس، وتألف عليه أشرار اليهود من فل البلاد التي أخذها الروم. فتحكم على أهل المقدس وأخذ الأموال وزاحم عناني الكهنون الأعظم، ثم عزله واستبدل به رجلا من غواتهم، وحمل الشيوخ على طاعته، فامتنعوا فتغلب عليهم فقتلهم. فاجتمع اليهود إلى عناني الكهنون و-ط ربهم يوحنان وتحصنوا في المقدس، وراسله عناني في الصلح فأبى، وبعث إلى ادوم يستجيشهم، فبعثوا إليه بعشرين ألفا منهم، فأغلق عناني أبواب المدينة دونهم وحاط بهم من الأسوار، ثم اسسغفلوه وكبسوا المدينة واجتمع معهم يوحنان فقتلوا من وجوه اليهود نحوا من خمسة آلاف، وصادروا أهل النعم على أموالهم، وبعثوا يوحنان إلى المدن الذين استأمنوا إلى الروم، فغنم أموالهم وقتل من وجد منهم. وبعث أهل القدس في استدعاء اسبسيانوس وعساكره فزحف من قيسارية حتى إذا توسط الطريق خرج يوحنان من القدس وامتنع ببعض الشعاب، فمال إليه اسبسيانوس بالعسكر وظفر بالكثير منهم فضلوهم. ثم سار إلى بلاد ادوم ففتحها وسبسطية بلاد السامرة ففتحها أيضاً وعمر جميع ما فتح من البلاد، ورجع إلى قيسارية ليزيح علله ويسير إلى القدس. ورجع يوحنان أثناء ذلك من الشعاب فغلب على المدينة وعاث فيهم بالقتل، وتحكم في أموالهم وأفسد حريمهم. قال ابن كريون: وقد كان ثار بالمدينة في مغيب يوحنان ثائر آخر اسمه شمعون، واجتمع إليه اللصوص والشرار حتى كثر جمعه وبلغوا نحوا من عشرين ألفا، وبعث إليه أهل ادوم عسكراً فهزمهم واستولى على الضياع ونهب الغلال، وبعث إلى امرأته من المدينة فردها يوحنان من طريقها وقطع من وجد معها. ثم أسعفوه بامرأته وسار إلى ادوم فحاربهم وهزمهم، وعاد إلى القدس فحاصرها وعظم الضرر على أهلها من شمعون خارج المدينة ويوحنان داخلها ولجأوا إلى الهيكل، وحاربوا يوحنّان فغلبهم
وقتل منهم خلقا فاستدعوا شمعون لينصرهم من يوحنان، فدخل ونقض العهد وفعل أشر من يوحنان. قال ابن كريون: ثم ورد الخبر إلى اسبسيانوس وهو بمكانه من قيسارية بموت قيروش قيصر، وأن الروم ملكوا عليهم مضعفا اسمه نطاوس، فغضب البطارقة الذي مع اسبسيانوس وملكوه، وسار إلى رومة وخلف نصف العسكر مع ابنه طيطش، وقدم بين يديه قائدين إلى رومة لمحاربة نطاوس الذي ملكه الروم فهزم وقتل. وسار أسبسيانوس إلى اسكندرية وركب البحر منها.
ورجع طيطش إلى قيسارية إلى أنّ ينسلخ فصل الشتاء ويزيح العلل، وعظمت الفتن والحروب بين اليهود داخل القدس، وكثر القتل حتى سالت الدماء في الطرقات، ولتل الكهنونية على المذبح، وهم لا يقربون الصلاة في المسجد لكثرة الدماء، وتعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي ومواقد النيران بالليل. وكان يوحنان أخبث القوم وأشرهم. ولما انسلخ الشتاء زحف طيطش في عساكر الروم إلى أنّ نزل على القدس، وركب إلى باب البلد يتخير المكان لمعسكره ويدعوهم إلى السلم، فصموا عنه وأكمنوا له لعض الخوارج في الطريق فقاتلوه وخلص منهم بشدته، فعبى عسكره من الغد ونزل بجبل الزيتون شرقي المدينة، ورتب العساكر والآلات للحصار. واتفق اليهود داخل المدينة ورفعوا الحرب بينهم، وبرزوا إلى الروم فانهزموا ثم عاودوا فظهروا ثم انتقضوا بينهم وتحاربوا داخل يوحنان إلى القدس يوم افطر فقتل جماعة من الكهنونة وقتل جماعة أخرى خارج المسجد. وزحف طيطش وبرزوا إليه فردوه إلى قرب معسكره، وبعث إليهم قائده نيقانور في الصلح فأصابه سهم فقتله، فغضب طيطش وصنع كبشا وأبراجا من الحديد توازى السور، وشحنها بالمقاتلة، فأحرق اليهود تلك الآلات ودفنوها وعادوا إلى الحرب بينهم. وكان يوحنان قد ملك القدس ومعه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة، ومع شمعون عشرة آلاف من اليهود وخمسة آلاف من ادوم وبقية اليهود بالمدينة مع العازر، وأعاد طيطش الزحف بالآلات، وثلم السور الأول وملكه إلى الثاني فاصطلم اليهود بينهم وتذامروا، واشتد الحرب وباشرها طيطش بنفسه. ثم زحف بالآلات إلى
السور الثاني فثلمه، وتذامر اليهود فمنعوهم عنه، ومكثوا كذلك أربعة أيام.
وجاء المدد من الجهات إلى طيطش، ولاذ اليهود بالأسوار وأغلقوا الأبواب، ورفع طيطش الحرب ودعاهم إلى المسالمة فامتنعوا، فجاء بنفسه في اليوم الخامس وخاطبهم ودعاهم، وجاء معه يوسف بن كريون فوعظهم ورغبهم في أمنة الروم ووعدهم، وأطلق طيطش أسراهم، فجنح الكثير من اليهود إلى المسالمة، ومنعهم هؤلاء الرؤساء الخوارج وقتلوا من يروم الخروج إلى الروم، ولم يبق من المدينة ما يعصمهم إلا السور الثالث. وطال الحصار واشتد الجوع عليهم والقتل، ومن وجد خارج المدينة لرعي العشب قتله الروم وصلبوه، حتى رحمهم طيطش ورفع القتل عمن يخرج في ابتغاء العشب. ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربعة جهاته، ونصب الآلات، وصبر اليهود على الحرب وتذامر اليهود، وصعب الحرب وبلغ الجوع في الشدة غايته، واستأمن متاي الكوهن إنى الروم، وهو الذي خرج في استدعاء شمعون، فقتله شمعون وقتل بنيه وقتل جماعة من الكهنونية والعلماء والائمة ممن حذر منه أنّ يستأمن، ونكر ذلك العازر بن عناني؛ ولم يقدر على أكثر من الخروج صت بيت المقدس، وعظمت المجاعة فمات أكثر اليهود وأكلوا الجلود والحشاش والميتة ثم أكل بعضهم بعضاً. وعثر على امرأة تأكل ابنها، فأصابت رؤساءهم لذلك رحمة وأذنوا في الناس بالخروج، فخرجت منهم امم وهلك أكثرهم حين أكلوا الطعام. وابتلع بعضهم في خروجه ما كان له من ذهب أو جوهر ضنة به، وشعر بهم الروم فكانوا يقتلونهم ويشقون عنهم بطونهم وشاع ذلك في توابع العسكر من العرب والأرمن، فطردهم طيطش وطمع الروم في فتح المدينة، وزحفوا إلى سورها الثالث بالآلات ولم يكن لليهود طاقة بدفعها وإحراقها فثلموا السور. وبنى اليهود خلف الثلمة فأصبحت منسدة، وصدمها الروم بالكبش فسقطت من الحدة، واستماتوا في تلك الحال إلى الليل. ثم بجما الروم المدينة، وملكوا الأسوار عليهم وقاتلوهم من الغد فانهزموا إلى المسجد، وقاتلوا في الحصن، وهدم طيطش البناء ما بين الأسوار إلوار مسى المسجد ليتسع المجال. ووقف ابن كريون يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا، وخرج جماعة من الكنونية فأمنهم ومنع
الرؤساء بقيتهم، ثم طيطش بالقتال من الغد فانهزموا الأقداس، وملك الروم المسجد وصحنه، واتصلت الحرب أياما، وهدمت الأسوار كلها وثلم سور الهيكل، وأحاط العساكر بالمدينة حتى مات أكثرهم، وفر كثير. ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه ونصب الأصنام في الهيكل، ومنع من تخريبه. ونكر رؤساء الروم ذلك ودسوا من أضرم النار في أبوابه وسقفه. وألقى الكهنونة أنفسهم جزعا على دينهم، وحزنوا واختفى شمعون ويوحنان في جبل صهيون وبعث إليهم طيطش بالأمان فامتنعوا، وطرقوا القدس في بعض الليالي فقتلوا قائدا من قواد العسكر، ورجعوا إلى مكان اختفائهم.
ثم هرب عنهم أتباعهم وجاء يوحنان ملقيا بيده إلى طيطش فقيده وخرج إليه يوشع الكوهن بآلات من الذهب الخالص مى آلات المسجد فيها منارتان ومائدتان. ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير ودرهم وطيباً فامتلأت يده منها، ورحل عن بيت المقدس بالغنائم والأموال والأسرى. وأحصى الموتى في هذه الوقعة. قال ابن كريون فكان عدد الموتى الذين خرجوا على الباب للدفن بأخبار مناحيم الموكل به مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا وثمانمائة، وقال غير مناحيم كانت عدتهم ستمائة ألف دون من ألقي في الآبار أو طرح إلى خارج الحصن، وقتل في الطرقات ولم يدفن. وقال غيره كان الذي أحصي من الموتى والقتلى ألف ألف، ومائة ألف، والسبي والأسارى مائة ألف. كان طيطش في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع، إلى أنّ فرغوا. وكان فيمن هلك شمعون أحد الخوارج الثلاثة. وأما الفرار بن عفان فقد كان خرج من القدس عندما قتل شمعون أمتاي الكوهن كما ذكرنا. فلما رحل طيطش عن القدس نزل في بعض القرى وحصنها، واجتمع إليه فل اليهود واتصل الخبر بطيطش وهو في أنطاكية فبعث إليه عسكرا من الروم مع قائده سلياس فحاصرهم أياماً. ثم نهض الكهنونية وأولادهم وخرجوا إلى الروم مستميتين، فقاتلوا إلى أنّ قتلوا عن آخرهم. وأما يوسف بن كريون فافتقد أهله وولده في هذه الوقائع ولم يقف لهم بعدها على خبر، وأراده طيطش على السكنى عنده برومة فتضرع إليه في البقاء بأرض القدس، فأجابه إلى ذلك وتركه، وانقرضت دولة اليهود أجمع. والبقاء لله وحده سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه.
خريطة
خريطة
عيسى ابن مريم
الخبر عن شأن عيسي ابن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثه ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الأقسة علي تدوين شريعته
كان بنو ماثان من ولد داود صلوات الله عليه كهنونية بيت المقدس. وهو ماثان بن
ألعازر بن أليهود بن أخس بن رادوق بن عازور بن ألياقيم بن ايود بن زروقابل بن شالات بن يوحنانيا بن يوشيا، السادس عشر من ملوك بني إسرائيل بن امون بن عمون بن منشا بن حزقيا بن أحآز بن يوآش بن احزيا بن يورام بن يفوشافاط بن اسا بن رحبعم بن سليمان بن داود صلوات الله عليهما. ويوحنانيا بن يوشيا، السادس عشر من ملوك بني سليمان، ولد في جلاب بابل. وهذا النسب نقلته من انجيل متى.
وكانت الكهنونية العظمى من بعد بني حشمناي لهم، وكان كبيرهم قبل عصر هيردوس عمران أبو مريم ونسبه ابن إسحاق إلى أمون بن منشا، الخامس عشر من ملوك بيت المقدس من لدن سليمان أبيهم. وقال فيه عمران بن ياشم بن أمون، وهذا بعيد لأن الزمان بين عفون وعمران أبعد من أنّ يكون بينهما أب واحد، فإن أمون كان قبيل الخراب الأول، وعمران كان في دولة هيردوس قبيل الخراب الثاني وبينهما قريب من أربعمائة سنة.
ونقل ابن عساكر، والظن أنه ينقل عن مسند، أنه من ولد زريافيل الذي ولي على
بني إسرائيل عند رجوعهم إلى بيت المقدس، وهو ابن يخنيا آخر ملوكهم الذي حبسه بختنضر وولى عمه صدقيا هو بعده كما مر. وقال فيه عمران بن ماثان بن فلان بن فلان إلى زريافيل. وعد نحواً من ثمانية آباء بأسماء
عبرانية لا وثوق بضبطها، وهو أقرب من الأول، وفيه ذكر ماثان الذي هو شهرتهم ولم يذكره ابن إسحاق. وكان عمران أبو مريم كهنونا في عصره. وكانت تحته حنة بنت فاقود بن فيل، وكانت من العابدات، وكانت أختها إيشاع، ويقال خالتها تحت زكريا بن يوحنا. ونسبه ابن عساكر إلى يهوشافاط، خامس ملوك المقدس من عهد سليمان أبيهم وعد ما بينه وبين يهوشافاط اثني عشر أبا أولهم يوحنا بأسماء عبرانية كما فعل في نسب عمران. ثم قال وهو أبو يحيى صلوات الله عليهما. ويقال بالمد والقصر من غير ألف، وكان نبيا من بني إسرائيل صلوات الله عليه اهـ. ونملت من كتاب يعقوب بن يوسف النجار مثان يعني ماثان من سبط داود، وكان له ولدان يعقوب ويواقيم، ومات فتزوج أمهما بعده مطنان، ومطنان بن لاوي من سبط سليمان بن داود وسمي ماثان، فولدت هالي من مطنان. ثم تزوج ومات ولم يعقب فتزوج امرأته أخوه أمه يعقوب بن ماثان، فولدت منه يوسف خطيب مريم، ونسب إلى هالي. لان من أحكام التوراة أنّ مات من كير عقب فامرأته لأخيه وأول ولد منهما ينسب إلى الأول. فلهذا قيل فيه يوسف بن هالي بن مطنان. وإنما هو يوسف بر يعقوب بن ماثان، وهو ابن عم مريم لحا. وكان ليوسف من البنين خمسة بنين وبنت وهم: يعقوب ويوشا وبيلوت وشمعون ويهوذا وأختهم مريم، كانوا يسكنون بيت لحم. فارتحل بأهله ونزل ناصرة وسكن بها، وتعلم النجارة حتى صار يلقب بالنجار.
وتزوج يؤاقيم حنة أخت إيشاع العاقر امرأة زكريا بن يوحنا المعمدان، وأقامت ثلاثين سنة لا يولد لها، فدعوا الله وولد لها مريم. فهي بنت يؤاقيم موثان وهو مثان. وولدت إيشاع العاقر من زكريا ابنه يحيى. قلت: في التنزيل مريم ابنة عمران. فليعلم أنّ معنى عمران بالعبرانية يؤاقيم، وكان له اسمان ا هـ . وعن الطبري: وكانت حنة أم مريم لا تحبل، فذرت لله أنّ حملت لتجعلن ولدها حبسياً ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في نذر مثله، فلما حملت ووضعتها لفتها في خرقتها، وجاءت بها إلى المسجد فدفعتها إلى عباده وهي ابنة إمامهم وكهنونهم، فتنازعوا في كفالتها وأراد زكريا أنّ يد بها لأن زوجة إيشاع خالتها. ونازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامهم، فاقترعوا فخرجت قرعة زكريا عليها فكفلها ووضعها في
مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها، وهو المحراب فيما قيل. والظاهر أنها دفعتها إليهم بعد مدة إرضاعها. فأقامت في المسجد تعبد الله وتقوم بسدانة البيت في نوبتها، حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها. وظهرت عليها الأحوال الشريفة والكرامات كما قصه القرآن. وكانت خالتها إيشاع زوج زكريا أيضاً عاقرا، وطلب زكريا من الله ولدا فبشره بيحيى نبئا كما طلب، لأنه قال يرثني ويرث ن أل يعقوب، وهم أنبياء فكان كذلك. وكان حاله في نشوئه وصباه عجبا، وولد في دولة هيردوس ملك بني إسرائيل، وكان يسكن القفار ويقتات الجراد، ويلبس الصوف من وبر الإبل، وولاه اليهود الكهنونية ببيت المقدس. ثم أكرمه لله بالنبوة كما قصه القرآن.
وكان لعهده على اليهود بالقدس انطيقس بن هيردوس وكان يسمى هيردوس باسم أبيه، وكان شريراً فاسقاً، واغتصب امرأة أخيه وتزوجها ولها ولدان منه، ولم يكن ذلك في شرعهم مباحاً، فنكر ذلك عليه العلماء والكهنونية وفيهم يحمى بن زكريا المعروف بيوحنا، ويعرفه النصارى بالمعمدان، فقتل جميع من نكر عليه ذلئا، وقتل فيهم يحيى صلوات الله عليه. وقد ذكر في قتله أسباب كثيرة وهذا أقربها إلى الصحة. وقد اختلف الناس هل كان أبوه حنا عند قتله فقيل: إنه لما قتل يحمى طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه، ففر أمامهم ودخل في بطن شجرة كرامة له، فدلهم علبه طرف ردائه خارجا منها، فشقوها بالمنشار وشق زكريا فيها نصفبن، وقيل بل مات زكريا قبل هذا والمشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي وقد مر ذكره. وكذلك اختلف في دفنه، فقيل دفن ببيت المقدس وهو الصحيح. وقال أبو عبيد بسنده إلى سعيد بن المسيب أنّ بختنصر لما قدم دمشق وجد دم يحمى بن زكريا يغلي، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن دمه. ويشكل أنّ يحى كان مع المسيح في عصر واحد باتفاق، وان ذلك كان بعد بختنصر بأحقاب متطاولة وفي هذا ما فيه. وفي الإسرائيليات من تأليف يعقوب بن يوسف النجار: أنّ هيردوس قتل زكريا عندما جاء المجوس للبحث عن إيشوع والانذار به، وأنه طلب ابنه يوحنا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم، فهربت به أمه إلى الشقراء واختفت. فطالب به أباه زكريا وهو كهنون في الهيكل، فقال لا
علم لي، هو مع أمّه، فتهدّده وقتله. ثم قال: بعد قتل زكريا بسنة تولى كهنونية الهيكل يعقوب بن يوسف إلى أنّ مات هيردوس.
وأما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أنّ أكرمها الله بالولاية، وبين الناس في نبوتها خلاف من أجل خطاب الملائكة لها. وعند أهل السنة أنّ النبوة مختصة بالرجل، قاله أبو الحسن الأشعري وغيره، وأدلة الفريقين في أماكنها. وبشرت الملائكة مريم باصطفاء الله لها، وأنها تلد ولداً من غير أب يكون نبيا، فعجبت من ذلك، فأخبرتها الملائكة أنّ الله قادر على ما يشاء، فاستكانت وعلمت أنها محنة بما تلقاه من كلام الناس فاحتسبت. وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجار: أنّ أمها حنة توفيت لثمان سنين من عمر مريم، وكان من سنتهم أنها أنّ لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل،. فأوحى الله إليه أنّ يجمع أولاد هارون ويردها إليهم؟ فمن ظهرت في عصاه آية تدفعها إليه تكون له شبه زوجة ولا يقربها. وحضر الجمع يوسف النجار؟ فخرج من عصاه حمامة بيضاء ووقفت على رأسه، لقال له زكريا؟ هذه عذراء الرب تكون لك شبه زوجة ولا تردها، فاحتملها متكرها بنت اثنتي عشرة سنة إلى ناصرة، فأقامت معه إلى أنّ خرجت يوما تستسقي من العين، فعرض لها الملاك أولا وكلمها. ثم عاودها وبشرها بولادة عيسى كما نص القرآن، فحملت وذهبت إلى زكريا ببيت المقدس، فوجدته على الموت وهو يجود بنفسه، فرجعت إلى ناصرة. ورأى يوسف الحمل فلطم وجهه وخشي الفضيحه مع الكهنونية فيما شرطوا عليه، فأخبرته بقول الملاك فلم يصدق. وعرض له الملاك في نومه وأخبره أنّ الذي بها من روح القدس، فاستيقظ وجاء إلى مريم فسجد لها وردها إلى بيتها. ويقال: أنّ زكريا حضر لذلك، وأقام فيهما سنة اللعان الذي أوصى به موسى، فلم يصبهما شيء وبرأهما الله. ووقع في انجيل متى أنّ يوسف خطب مريم ووجدها حاملا قبل أنّ يجتمعا، فعزم على فراقها خوفا من الفضيحة، فأمر في نومه أنّ يقبلها. وأخبره الملاك بأن المولود منها من روح القدس. وكان يوسف صديقا وولد على فراشه إيشوع انتهى. وقال الطبري: كانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها، وفي رواية عنه أنه ابن خالها، وكانوا سدنة في بيت المقدس لا يخرجان منه إلا لحاجه الإنسان، وإذا نفد
مأوهما فيملآن من أقرب المياه. فمضت مريم يوما وتخلف عنها يوسف، ودخلت المغارة التي كانت تعهد أنها للورد، فتمثل لها جبريل بشرا. فذهبت لتجزع فقال لها: {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا}[الأية] فاستسقاها. وعن وهب بن منبه أنه نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت على عيسى، فكان معها ذو قرابة يسمى يوسف النجار، وكان في مسجد بجبل صهيون، وكان لخدمته عندهم فضل، وكانا يجمرانه ويقمانه وكانا صالحين مجتهدين في العبادة. ولما رأى ما بها من الحمل استعظمه وعجب منه، لما يعلم من صلاحها وأنها لم تغب قط عنه. ثم سألها فردت الأمر إلى قدرة الله، فسكت وقام بما ينوبها من الخدمة. فلما بان حملها أفضت بذلك إلى خالتها إيشاع، وكانت أيضاً حبلى بيحيى فقالت لها: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.
ثم أمرت بالخروج من بلدها خشية أنّ يعيرها قومها ويقتلوا ما في بطنها. فاحتملها يوسف إلى مصر، وأخذها المخاض في طريقها فوضعته كما قصه القرآن، واحتملته على الحمار، وأقامت تكتم أمرها من الناس وتتحفظ به، حتى بلغ اثنتي عشرة سنة. وظهرت عليه الكرامات وشاع خبره، فأمرت أنّ ترجع له إلى إيلياء فرجعت، وتتابعت عنه المعجزات، وانثال الناس عليه يستشفون ويسألون عن الغيوب. قال الطبري: وفي خبر السدي أنها إنما خرجت من المسجد لحيض أصابها، فكان نفخ الملاك، وأن إيشاع خالتها التي سألتها عن الحمل وناظرتها فيه فحجتها بالقدرة، وأن الوضع كان في شرقي بيت لحم قريبا من بيت المقدس وهو الذي بنى عليه بعض ملوك الروم البناء الهائل لهذا العهد. قال ابن العميد مؤرخ النصارى. ولد لثلاثة أشهر من ولادة يحمى لن زكريا، ولإحدى وثلاثين من دولة هيردوس الأكبر ولاثنتين وأربعين من ملك اوغسطس قيصر. وفي الإنجيل أنّ يوسف تزوجها ومضى بها ليكتم أمرها في بيت لحم، فوضعته هنالك ووضعته في مذود لأنها لم يكن لها موضع نزل. وأن جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم.؟ وجاووا إلى هيردوس يسألونه، وقالوا جئنا لنسجد له. وحدثوه بما أخبر الكهان وعلماء النجوم من شان ظهوره، وأنه يولد ببيت لحم. وسمع اوغسطس قيصر بخبر المجوس، فكتب إلى هيردوس يسأله،
فكتب له بمصدوقية خبره، وأنه قتل فيمن قتل من الصبيان من ابن سنتين فما دونها وكان يوسف النجار قد أمر أنّ يخرج به إلى مصر، فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة، وظهر عليه الكرامات. وهلك هيردوس الذي كان يطلبه، وامر بالرجوع إلى إيليا فرجعوا، وظهر صدق شعيا النبي في قوله عنه: من مصر دعوتك.
وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجار حذرا من أنّ يكتب كما أمر اوغسطس في بعض أيامه فأجاءها المخاض وهي في طريقها على حمار، فصابرته إلى قرية بيت لحم، وولدت في غار وسماه إيشوع. وأنه لما بلغ سنتين، وكان من أمر المجوس ما قدمناه، حذر هيردوس من شانه، وأمر أنّ يقتل الصبيان ببيت لحم. فخرج يوسف به وبأمه إلى مصر أمر بذلك في نومه، وأقام بمصر سنتين حتى مات هيردوس، ثم أمر بالرجوع فرجع إلى ناصرة، وظهرت عليه الخوارق من إحياء الموتى وإبراء المعتوهين وخلق الطير، وغير ذلك من خوارقه. حتى إذا بلغ ثماني سنين كف عن ذلك. ثم جاء يوحنان المعمدان من البريه، وهو يحيى بن زكريا ونادى بالتوبة والدعاء إلى الدين، وقد كان شعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح. وجاء المسيح من الناصرة ولقيه بالأردن فعمده يوحنان وهو ابن ثلاثين سنة. ثم خرج إلى البرية واجتهد في العبادة والصلاة والرهبانية. واختار تلامذته الاثني عشر: سمعان بطرس وأخوه اندراوس ويعقوب بن زبدي وأخوه يوحنا وفيلبس وبرتولوماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفا وتداوس وسمعان القناني ويهوذا الإسخريوطي. وشرع في إظهار المعجزات، ثم قبض هيردوس الصغير على يوحنان وهو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه، فقتله ودفن بنابلس. ثم شرع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات وحلل وحرم، وانزل عليه الإنجيل وظهرت على يديه الخوارق والعجائب. وشاع ذكره في النواحي، واتبعه الكثير من بمي إسرائيل، وخافه روساء اليهود على دينهم وتآمروا في قتله، وجمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليتين، نطعمهم ويبالغ في خدمتهم بما استعظموه. قال: وإنما فعلته لتتأسوا به. وقال يعظهم: ليكفرن بي بعضكم قبل أنّ يصيح الديك ثلاثا، ويبيعني أحدكم بثمن بخس وتأكلوا ثمني. ثم افترقوا. وكان اليهود قد بعثوا العيون
عليهم فأخذوا شمعون من الحواريين فتبرأ منهم وتركوه، وجاء يهوذا الإسخريوطي وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهماً. وأراهم مكانه الذي كان يبيت فيه، وأصبحوا به إلى فلاطش النبطي قائد قيصر على اليهود، وحضر جماعة الكهنونية وقالوا: هذا يفسد ديننا ويحل نواميسنا ويدعي الملك، فاقتله! وتوقف فصاحوا له وتوعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر، فأمر لقتله. وكان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه، فقتل ذلك الشبه وصُلب وأقام سبعا، وجاءت أمه تبكي عند الخشبة. فجاءها عيسى وقال: ما لك تبكي؟ قالت عليك! قال أنّ الله رفعني ولم يصبني إلا خير، وهذا شيء شبه لهم، وقولي للحواريين يلقوني بمكان كذا. فانطلقوا إليه، وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي، كما عين لهم من قبل. وعند علماء النصارى أنّ الذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس ومعه بولس من الأتباع ولم يكن حواريا، وإلى أرض السودان والحبشة- ويعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس- متى العشار واندراوس، إلى أرض بابل والمشرق توماس، وإلى أرض افريقية فيلبس، وإلى افسوس قرية أصحاب الكهف يوحنا، وإلى اورشليم وهي بيت المقدس يوحنا، وإلى أرض العرب والحجاز برتلوماوس، وإلى أرض برقة والبربر شمعون القناني.
قال ابن إسحاق: ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم ويفتنونهم. وسمع القيصر بذلك وكتب إليه فلاطش النبطي قائده بأخباره ومعجزاته، وبغي اليهود عليه وعلى يوحنان قبله، فأمرهم بالكف عن ذلك. ويقال قتل بعضهم. وانطلق الحواريون إلى الجهات التي بعثهم إليها عيسى، فآمن به بعض وكذب بعض. ودخل يعقوب أخو يوحنان إلى رومة، فقتله غاليوس قيصر وحبس شمعون، ثم خلص وسار إلى أنطاكية، ثم رجع إلى رومة أيام قلوديش قيصر بعد غاليوس واتبعه كثير من الناس، وآمن به بعض نساء القياصرة، وأخبرها بخبر الصليب، فدخلت إلى القدس وأخرجته من تحت الزبل والقمامات بمكان الصلب، وغشته بالحرير والذهب وجاءت به إلى رومة. وأما بطرس كبير الحواريين وبولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة، فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية، ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه، وكتب متّى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس، ونقله من بعد ذلك
يوحنان بن زبدي إلى رومة. وكتب لوقا إنجيله بالرومية وبعثه إلى بعض أكابر الروم، وكتب يوحنا بن زبدي إنجيله برومة، ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم، وصيروها بيد إقليمنطس تلميذ بطرس، وكتبوا فيها عد الكتب التي يجب قبولها. فمن القديمة التوراة خمسة أسفار، وكتاب يوشع بن نون، وكتاب القضاة، وكتاب راعوث، وكتاب يهوذا، وأسفار الملوك أربعة كتب، وسفر بنيامين وسفر المقباسين ثلاثة كتب، وكتاب عزرا الإمام، وكتاب أشير، وكتاب قصة هامان، وكتاب أيوب الصديق، ومزامير داود النبي، وكتب ولده سليمان خمسة، ونبوات الأنبياء الصغار والكبار ستة عشر كتاباً، وكتاب يشوع بن شارخ. ومن الحديثة كتب الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل، وكتاب بولس أربع عشرة رسالة، والإيركسيس وهو قصص الرسل ويسمى افليمد ثمانية كتب، تشتمل على كلام الرسل وما أمروا به ونهوا عنه. وكتاب النصارى الكبار إلى أساقفمهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة، يعلمون بها دين النصرانية فكان برومة بطرس الرسول الذي بعثه عيسى صلوات الله عليه، وكان ببيت المقدس يعقوب النجار، وكان بالإسكندرية مرقص تلميذ بطرس وكان ببيزنطية وهي قسطنطينية اندرواس الشيخ، وكان بانطاكية.
وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك. وهو رئيس الملة وخليفة المسيح فيهم، ويبعث نوابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من امم النصرانية ويسمونه الاسقف أي نائب البطرك، ويسمون القرا بالقسيس، وصاحب الصلاة بالجاثليق، وقومة المسجد بالشمامسة، والمنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب، والقاضي بالمطران ولم يكن بمصر لذلك العهد اسقف إلى أنّ جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة إسكندرية وكان بطرك أساقفة بمصر، وكان الأساقفة يسمون البطرك أبا، والقسوس يسمون الأساقفة أبا، فوقع الاشتراك في اسم الاب، فاخترع اسم
البابا لبطرك الإسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس، ومعناه أبو الاباء، ق شتهر هذا الاسم، ثم انتقل إلى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح، وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا.
ثم جاء بعد قلوديش قيصر نيرون قيصر، فقتل بطرس كبير الحواريين، وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة، وجعل مكان بطرس أرنوس برومة، وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس، وكان بالإسكندرية يدعو إلى الدين سبع سنين، وببعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب. وقتله نيرون وولى بعده حنينيا وهو أول البطاركة عليها بعد الحواريين، وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس، وهو يعقوب النجار، وهدموا البيعة ودفنوا الصليب، إلى أنّ أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد. وجعل نيرون مكان يعقوب النجار ابق عمه شمعون بن كيافا. ثم اختلفت حمال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين وتركه كما يأتي في أخبارهم، إلى أنّ جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة، وكانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية.
وكانت أم هيلانة صالحة فأخذت بدين المسيح لاثنتين وعرين سنة من ملك قسطنطين ابنها. وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمث، وسألت عن الخشبة التي صلب عليها بزعمهم، فأخبرت بما فعل اليهود فيها وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحا للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات. فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم. وقيل من علامتها أنّ يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته، فطهرتها وطيبتها وغشتها بالذهب والحرير، ورفعتها عندها للتبرك بها، وأمرت ببناء كنمسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره، وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة. وخربت مسجد بني إسرائيل، وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود، إلى أنّ أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عند فتح بيت المقدس كما نذكره هنالك.
وكان من ميلاد المسيح إلى وجود الصليب ثلثمائة وثمان وعشرون سنة. وأقام هؤلاء النصرانية بطاركتهم وأساقفتهم على إقامة دين المسيح على ما وضعه الحواريون من القوانين والعقائد والأحكام. ثم حدث بينهم اختلاف في العقائد وسائر ما ذهبوا إليه
من الإيمان بالله وصفاته، وحاش لله وللمسيح وللحواريين أنّ يذهبوا إليه، وهو معتقدهم التثليث. وإنما حملهم عليه ظواهر من كلام المسيح في الإنجيل لم يهتدوا إلى تأويلها، ولا وقفوا على فهم معانيها، مثل قول المسيح حين صلب بزعمهم أذهب إلى أبي وأبيكم. وقال افعلوا كذا وكذا من البر لتكونوا أبناء أبيكم في السماء وتكونوا تامين. كما أنّ أباكم الذي في السماء تام. وقال له في الإنجيل: إنك أنت الابن الوحيد. وقال شمعون الصفا أنك ابن الله حقا، فلما أثبتوا هذه ا أبوة من ظاهر هذا اللفظ، زعموا أن عيسى ابن مريم من أب قديم. وكان اتصاله بمريم تجسد كلمة منه مازجت جسد المسيح، وتدرعت به، فكان مجموع الكلمة والجسد ابنا وهو ناسوق كلي قديم أزلي. وولدت مريم إلها ازليا، والقتل والصلب وقع على الجسد، والكلمة ويعبرون عنهما بالناسوت واللاهوت.
وأقاموا على هذه العقيدة، ووقع بينهم فيها اختلاف، وظهرت مبتدعة من النصرانية اختلفت أقوالهم الكفرية، كان من أشدهم ابن دنصان ودافعهم هؤلاء الأساقفة والبطاركة عن معتقدهم الذين كانوا يزعمونه حقا، وظهر يونس الشميصاتي بطرك أنطاكية بعد حين أيام افلوديس قيصر، فقال بالواحدانية ونفى الكلمة والروح، وتبعه جماعة على ذلك. ثم مات فرد الأساقفة مقالته وهجروها، ولم يزالوا علم ذلك إلى أيام قسطنطين بن قسطنطين، فتنصر ودخل في دينهم، وكان باسكندرية اسكندروس البطرك وكان لعهده اريوس من الأساقفة، وكان يذهب إلى حدوث الابن، وأنه إنما خلق الخلق بتفويض الأب إليه في ذلك، فمنعه إسكندروس الدخول إلى الكنيسة، وأعلم أنّ إيمانه فاسد، وكتب بذلك إلى سائر الأساقفة والبطاركة في النواحي. وفعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي اريوس، فدفعوا أمرهم إلى قسطنطين، وأحضرهم جميعا لتسع عشرة من دولته، وتناظروا. ولما قال أريوس أنّ الابن حادث، وأن الأب فوض إليه بالخلق. وقال الإسكندروس بالخلق استحق ا ألوهئة، فاستحسن قسطنطين قوله وأذن له أنّ يشيد بكفر اريوس. وطلب الاسكندروس باجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني، فجمعهم قسطنطين وكانوا ألفين وثلثمائة وأربعين اسقفا، وذلك في مدينة نيقية فسمي المجتمع مجتمع نيقية، وكان رئيسهم الاسكندروس بطرك إسكندرية وأسطانس بطرك أنطاكية
ومقاريوس أسقف بيت المقدس. وبعت سلطوس بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه، فتفاوضوا وتناظروا واتفقوا عنهم بعد الاختلاف الكثير على ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفاً على رأي واحد، فصار قسطنطين إلي قولهم، وأعطى سيفه وخاتمه، وباركوا عليه، ووضعوا له قوانين الدين والملك ونفي اريوس وأشيد بكفره وكتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع، ونصها عندهم على ما نقله ابن العميد من مؤرخيهم، والشهرستاني في كتاب الملل والنحل وهو: نؤمن بالله الواحد الأحد، الأب مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الوحيد إيشوع المسيح ابن الله، ذكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وكل شيء، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بعث العوالم وكل شيء، الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيام فيلاطوس، ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى بالقضاء بين الاحياء والاموات، ونؤمن بروح الواحد روح الحق الذي يخرج من ابيه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا بالحياة الدائمة ابد الآبدين انتهى. هذا هو اتفاق المجمع الأول الذي هو مجمع نيقية وفيه إشارة إلى حشر الأبدان، ولا يتفق النصارى عليه، وإنما يتفقون على حشر الأرواح، ويسمون هذه العقيدة الأمانة.
ووضعوا معها قوانين الشرائع، ويسمونها الهيمايون. وتوفي الاسكندروس البطرك بعد هذا المجمع بخمسة أشهر، ولما عمرت هلانة أم قسطنطين الكنائس، وأحب الملك أنّ تقدسها ويجمع الأساقفة لذلك، وبعث أوسانيوس بطرك الفسطنطينية، وحضر معهم اثناس بطرك الإسكندرية واجتمعوا في صور، وكان أوسانيوس الذي أخرجه إسكندروس مع اريوس من كنيسة إسكندرية. وكان بسبب ذلك مجمع نيقية وكتاب الأمانة. ونفي أريوس حينئذ واوسانيوس وصاحبهما ولعنوا.
جاء أوسانيوس من بعد ذلك وأظهر البراءة من اريوس ومن مقالته، فقبله قسطنطين وجعله بطركا بالقسطنطينية، فلما اجتمعوا في صور وكان فيهم اومانيوس على رأي أريوس، فأشار اوسانيوس بطرك القسطنطينية بأن يظاهر اثناس بطرك الإسكندرية عن مقالة اريوس فقال ارمانيوس: أنّ اريوس لم يقل أنّ المسيح
خلق العالم: وإنما قال هو كلمة الله التي بها خلق كما وقع في الإنجيل. فقال أثناس بطرك الإسكندرية: وهذا الكلام أيضاً يقتضي أنّ الابن مخلوق، وأنه خلق المخلوقات دون الأب. لأنه إذا كان يخلق به فالأب لم يخلق شيئا لأنه مستعين بغيره، والفاعل بغيره محتاج إلى ذلك المتمم فهو في ذاته خالق، والله سبحانه منزه عن ذلك.
وإن زعم اريوس أنّ الأب يريد الشيء والابن يكونه فقد جعل فعل الابن أتم لأن الأب إنما له الإرادة فقط، وللابن الاختراع فهو أتم. فلما ظهر بطلان مقالة اريوس، وثبوا على أرمانيوس المناظر عن مقالة أريوس، وضربوه ضربا وجيعاً وخلصه ابن أخت الملك، ثم قدسوا الكنائس وانفض الجمع وبلغ الخبر إلى قسطنطين فندم على بطركية أرمانيوس بالقسطنطينية وغضب عليه، ومات لسنتين من رياسته. واجتمع بعد ذلك أصحاب أريوس إلى قسطنطين فحسنوا له تلك المقالة، وأن جماعة نيقية ظلموا أريوس وبغوا عليه، وصدوا عن الحق في قولهم أنّ الأب مساو للابن في الجوهرية، وكاد الملك أنّ يقبل منهم. فكتب إليه كيراش اسقف بيت المقدس يحذره من مقالة أريوس، فقبل ورجع. واختلف حال ملوك القياصرة بعد قسطنطين في الأخذ بالأمانة أو بمقالة اريوس، وظهور إحدى الطائفتين متى كان الملك على دينهم. وأفحش بعض ملوك القياصرة في الحق على مخالفه، فقال له بعض العلماء والحكماء: لا تنكر المخالفة فالحنفاء يختلفون أيضاً، وإنما هم الخلق يحمدون الله ويصفونه بالصفات الكثيرة، والله يحب ذلك، فسكن بعض الشيء وكان بعضهم يعرض على الطائفتين ويخلي كل أحد ودينه. ثم كان المجمع الثاني بقسطنطينية بعد مجمع نيقية بمائتين وخمسين سنة. اجتمعوا للنظر في مقالة مقدونيوس وسليوس بان جسد المسيح بغير ناسوت وان اللاهوت أغناه عنها، مستدلين بما وقع في الإنجيل، أنّ الكلمة صار لحما ولم يقل صار إنسانا، وجعلا من الإله عظيما وأعظم منه، والأب أفضل عظما. وقال: أنّ الأب غير محدود في القوة وفي الجوهر، فأبطلوا هذه المقالة، ولعنوهما وأشادوا بكفرهما، وزادوا في الأمانة التي قررها جماعة نيقية ما نصه: ونؤمن بروح القدس المنتقى من الأب. ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلمة الأمانة أو ينقص منها. ثم كان لهم بعد ذلك بأربعين سنة المجمع الثالث على نسطوريوس البطرك بالقسطنطينية لأنه كان يقول: أنّ مريم لم تلد إلها وإنما ولدت إنسانا، وإنما اتحد به في المشيئة لا في الذات، وليس هو إنها حقيقة بل بالموهبة والكرامة. ويقول بجوهرين
وأقنومين: وهذا الرأي الذي أظهره نسطوريوس كان رأي تاودوس وديودس ، سقفين، وكان من مقالتهما أنّ المولود من مريم هو المسيح، والمولود من الآب هو الابن الازلي، والابن الأزلي حل في المسيح المحدث، فسمي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة. وإنما الاتحاد بالمشيئة والارادة، فأثبتوا لله ولدين أحدهما بالجوهر والثاني بالنعمة. وبلغت مقالة نسطوريوس إلى كرلس بطرك إسكندرية، فكتب إلى بطرك رومة وهو اكليمس، وإلى يوحنا وهو بطرك أنطاكية، وإلى يونالوس اسقف بيت المقدس، فكتبوا إلى نسطوريوس ليدفعوه عن ذلك بالحجة فلم يرجع، ولا التفت إلى قولهم.
فاجتمعوا في مدينة افسيس في مائتين أسقفا للنظر في مقالته فقرروا إبطالها ولعنوه وأشادوا بكفره. ووجد عليهم يوحنا بطرك أنطاكية حيث لم ينتظروا حضوره، فخالفهم ووافق نسطوريوس ثم أصلح بينهم باوداشوس من بعد مدة، واتفقوا على نسطوريوس. وكتب أساقفة المشارقة أمانتهم وبعثوا بها إلى كرلس فقبلها. ونفى نسطوريوس إلى صعيد مصر، فنزل أخميم ومات بها لسبع سنين من نزولها، وظهرت مقالته في نصارى المشرق، وبفارس والعراق والجزيرة والموصل إلى الفرات. وكان بعد ذلك بإحدى وعشرين سنة المجمع الرابع بمدينة خلقدويية اجتمع فيه ستمائة وأربعة وثلاثون اسقفا من فتيان قيصر للنظر في مقالة ديسقورس بطرك الإسكندرية لأنه كان يقول: المسيح جوهر من تجوهرين وأقنوم من اقنومين وطبيعة من طبيعتين ومشيئة ملأ مشيئتين. وكانت الأساقفة والبطاركة لذلك العهد يقولون بجوهرين وطبيعتين ومشيئتين واقنوم واحد، فخالفهم ديسقورس في بعض الأساقفة، وكتب خطه بذلك ولعن من يخالفه. فأراد مرقيان قيصر قتله، فأشارت البطارقة بإحضاره، وجمع الأساقفة لمناظرته، فحضر بمجلس مرقيان قيصر وافتضح في مخاطبتهم ومناظرتهم. وخاطبته زوج الملك فأساء الرد، فلطمسه بيدها وتناوله الحاضرون بالضرب. وكتب مرقيان قيصر إلى أهل مملكته في جميع النواحي بأن مجمع خلقدونية هو الحق، ومن لا يقبله يقتل. ومر ديسقوروس بالقدس وأرض فلسطين وهو مضروب منفي فاتبعوا رايه، وكذلك اتبعه أهل مصر والإسكندرية وولى وهو في النفي أساقفة كثيرة كلهم يعقوبية. قال ابن العميد: وإنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأنّ إسمه كان في الغلمانية
يعقوب، وكان يكتب إلى المؤمنين من المسكين المنفي يعقوب. وقيل بل كان له تلميذ ا اسمه يعقوب، فنسبوا إليه. وفيل بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقورس، وكان له تلميذ اسمه يعقوب، فكان شاويرش يبعث يعقوب إلى المؤمنين ليثبتوا على أمانة ديسقورس، فنسبوا إليه. قال: ومن جمع خلقدونية اقرقت الكنائس والأساقفة إلى يعقوبية وملكية ونسطورية. فاليعقوبية أهل مذهب ديسقورس الذي قررناه آنفا.
والملكية أهل الأمانة التي قررها جماعة نيقية وجماعة خلقدويية بعدهم، وعليها جمهور النصرانية. والنسطورية أهل المجمع الثالث وأكثرهم بالمشرق. وبقي الملكية واليعقوبية يتعاقبون في الرياسة على الكراسي بحسب من يريدهم من القياصرة، وما يختارونه من المذهبين. ثم كان بعد ذلك بمائة وثلاثين سنة أو ثلاث وستين سنة المجمع الخامس بقسطنطينية في أيام يوسطانوس قيصر للنظر في مقالة أقفسح لأنه نقل عنه أنه يقول بالتناسخ وينكر البعث. ونقل عن أساقفة أنقرا والمصيصة والرها أنهم يقولون: أنّ جسد المسيح فنطايسا: فأحضر قيصر جمعهم بالقسطنطينية ليناظرهم البطرك بها. فقال البطرك: أنّ كان جسد المسيح فني فقوله وفعله كذلك. وقال الاسقف اقفسح: إنما قام المسيح من بين الأموات ليحقق البعث والقيامة، فكيف تنكر ذلك أنت؟ وجمع لهم مائة وعشرين اسقفا فأشادوا بكفره، وأوجبوا لعنتهم ولعنة من يقول بقولهم. واستقرت فرق النصارى على هذه الثلاثة. الفرس الخبر عن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم إلي تمامه وانقراضه هذه الأمة من أقدم امم العالم، وأشدهم قوة وآثاراً في الأرض، وكانت لهم في العالم دولتان عظيمتان طويلتان الاولى منهما الكينية، ويظهر أنّ مبتدأها ومبتدأ دولة التبابعة وبني إسرائيل واحد، وان الثلاثة متعاصرة. ودولة الكينية هذه هي التي غلب عليها الإسكندر والساسانية الكسروية، ولظهر أنها معاصرة لدولة الروم بالشام، وهي التي غلب عليها المسلمون. وأما ما قبل هاتين الدولتين فبعيد، وأخباره متعارضة.
ونحن ذاكرون ما اشتهر من ذلك. وأما أنسابهم فلا خلاف بين المحققين أنهم من ولد سام بن نوح، وان جدهم الأعلى الذي ينتمون إليه هو فرس. والمشهور أنهم من ولد إيران بن اشوذ بن سام بن نوح، وأرض إيران هي بلاد الفرس. ولما عربت قيل لها إعراق. هذا عند المحققين. وقيل: إنهم منسوبون إلى إيران بن إيران بن أشوذ. وقيل إلى غليم بن سام. ووقع
في التوراة ذكر ملك الاهواز كردامر من بني غليم. فهذا أصل هذا القول والله أعلم. لان الأهواز من ممالك بلاد فارس. وقيل: إلى لاوذ بن إرم بن سام، وقيل إلى اميم بن لاوذ، وقيل إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق. ويقال أنّ الساسانية فقط من ولد إسحاق، وأنه يسمى عندهم وترك، وأن جدهم منوشهر بن منشحر بن فرهس بن وترك. هكذا نمل المسعودي هذه الأسماء، وهي كما تراه غير مضبوطة. وفيما قيل: أنّ الفرس كلهم من ولد إيران بن افريدون الآتي ذكره، وأن من قبله لا يسمون بالفرس والله أعلم. وكان أول ما ملك إيران أرض فارس. فتوارث أعقابه الملك، ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة. ثم اتسعت مملكتهم إلى الإسكندرية غرباً، وباب الأبواب شمالا. وفي الكتب أنّ أرض إيران هي أرض الترك، وعند الإسرائيليين أنهم من ولد طيراس بن يافث وإخوتهم بنو مادي بن يافث، وكانوا مملكة واحدة. فأما علماء الفرس ونسابتهم فيأبون من هذا كله، وينسبون الفرس إلى كيومرث، ولا يرفعون نسبه إلى ما فوقه. ومعنى هذا الاسم عندهم ابن الطين وهو عندهم اول ابن الطين وهو عندهم اول النسب. هذا رأيهم وأما مواطن الفرس فكانت اول أمرهم بأرض فارس، وبهم سميت. ويجاورهم إخوانهم في نسب أشوذ بن سام، وهم فيما قال البيهقي الكرد والديلم والخزر والنبط والجرامقة. ثم صارت لهم خراسان ومملكة النبط والجرامقة وسائر هؤلاء الأمم.
ثم اتسعت ممالكهم إلى الإسكندرية. وفي هذا الجيل على ما اتفق عليه المؤرخون أربع طبقات: الطبقة ا أولى تسمى البيشدانية، والطبقة الثانية تسمى الكينية، والطبقة الثالثة تسمى الاشكانية، والطبقة الرابعة تسمى الساسانية، ومدة ملكهم في العالم على ما نقل ابن سعيد عن كتاب تاريخ ا أمم لعلي بن حمزة الاصبهاني، وذلك من زمن كيومرث أبيهم إلى مهلك يزدجرد أيام عثمان أربعة آلاف سنة ومائتا سنة ونحو احدى وثمانين سنة. وكيومرث عندهم هو اول ملك نصب في الأرض ويزعمون فيما قال المسعودي: أنه عاش ألف سنة، وضبطه بكاف أوّل الإسم قبل الياء المثناة من أسفل، والسهيلي ضبطه بجيم مكان الكاف، والظاهر أنّ الحرف بين الجيم والكاف كما قدّمناه.
الطبقة الأولى من الفرس وذكر ملوكهم وما صار إليه في الخليقة أحوالهم
الفرس كلهم متفقون على أنّ كيومرث هو آدم الذي هو اول الخليقة، وكان له ابن اسمه منشا، ولمنشا سيامك ولسيامك أفروال ومعه أربعة بنين وأربع بنات، ومن أفروال كان نسل كيومرث، والباقون انقرضوا فلا يعرف لهم عقب. قالوا وولد لافروال اوشهنك بيشداد. فاللفظة الأولى حرفها الأخير بين الكاف والقاف والجيم، واللفظة الأخرى معناها بلغتهم النور. قاله السهيلى وقال الطبرى. أول حاكم بالعدل. وكان افروال وارث ملك كيومرث وملك الأقاليم السبعة. قال الطبري عن ابن الكلبي إنه أوشهنك ابن عابر بن شالخ. قال والفرس تدعيه وتزعم أنه بعد آدم بمائتي سنة. قال وإنما كان نوح بعد آدم بمائتي سنة فصيره بعد آدم. وأنكره الطبري لان شهرة اوشهنك تمنع من مثل هذا الغلط فيه. ويزعم بعض الفرس أنّ أوشهنك بيشداد هو مهلايل وأن أباه افروال هو قينن وان سيامك هو انوش، وان منشا هو شيت، وأن كيومرث هو آدم. قال وزعمت الفرس أنّ ملك اوشهنك كان أربعين سنة، فلا يبعد أنّ يكون بعد آدم بمائتي سنة. وقال بعض علماء الفرس: أنّ كيومرث هو كومر بن يافث بن نوح، وأنه كان معمرا، ونزل جبل دنباوند من جبال طبرستان وملكها، ثم ملك فارس وعظم أمره، وأمر بنيه حتى ملكوا بابل. وأن كيومرث هو الذي بنى المدن والحصون، واتخذ الخيل، وتسمى بآدم، وحمل الناس على دعائه بذلك. وأن الفرس من عقب ولده ماداي، ولم يزل الملك في عقبهم في الكينية والكسروية إلى آخر أيامهم. وتقول الفرس أنّ أوشهنك وهو مهلايل ملك الهند. قالوا وملك بعد اوشهنك طهمورث بن انوجهان بن انكهد بن أسكهد بن اوشهنك، وقيل مكان اشكهد فيشداد. وكلها أسماء أعجمية لا عهدة علينا في نقلها لعجمتها وانقطاع الرواية في الاصول التي نقلت منها:
قال ابن الكلبي أنّ طهمورث أول ملوك بابل، وأنه ملك الأقاليم كلها وكان محمودا في ملكه، وفي أول سنة من ملكه ظهر بيوراسب ودعا إلى ملة الصابئة. وقال علماء الفرس: ملك بعد طهمورث جمشيد، ومعناه الشجاع لجماعة، وهوجم بن نونجفان، أخو طهمورث، وملك الأرض واستقام أمره. ثم بطر النعمة وساءت أحواله، فخرج عليه قبل موته بسنة بيوراسب وظفر به فنشره بمنشار وأكله، وشرط أمعاءه. وقيل إنه ادعى الربوبية فخرج عليه أولا أخوه استوير فاختفى. ثم خرج بيوراسب فانتزع الأمر من
يده، وملك سبعماية سنة. وقال ابن الكلبي مثل ذلك قالى الطبري بيوراسب هو الأزدهاك، والعرب تسميه الضحاك، وهو بصاد بين السين والزاي، وحاء قريب من الهاء، وكاف قريبة من القاف. وهو الذي عنى أبو نواس بقوله: وكان منا الضحاك تعبده الجامل والجن في محاربها لان اليمن تدعيه. قال: وتقول العجم: أنّ جمشيد زوج أخته من بعض أهل بيته، وملك على اليمن، فولدت الضحاك. وتقول أهل اليمن في نسبه: الضحاك بن علوان بن عبيدة بن عويج وأنه بعث على مصر أخاه سنان بن علوان ملكا، وهو فرعون إبراهيم. قاله ابن الكلبي. وأما الفرس فينسبونه هكذا: بيوراسب بن رتيكان بن ويدوشتك بن فارس بن أفروال، ومنهم من خالف في هذا. ويزعمون أنه ملك الأقاليم كلها، وكان ساحرا كافرا، وقتل أباه، وكان أكثر إقامته ببابل. وقال هشام: ملك الضحاك وهو نمرود الخليل بعد جمشيد، وأنه التاسع منهم، وكان مولده بدنباوند، وأن الضحاك سار إلى الهند فخالفه افريدون إلى بلاده فملكها. ورجع الضحاك فظفر به افريدون، وحبسه بجبال دنباوند واتخذ يوم ظفر به عيداً. وعند الفرس أنّ الملك إنما كان للبيت الذي وطنه اوشهنك وجمشيد، وأن الضحاك هو بيوراسب خرج عليهم وبنى بابل، وجعل النبط جنده، وغلب أهل الأرض بسحره، وخرج عليه رجل من عامة أصبهان اسمه عالي، وبيده عصا علق شيها جرابا واتخذها راية ودعا الناس إلى حربه فأجابوا، وغلبه فلم يدع الملك، وأشار بتولية بني جمشيد لأنه من عقب أوشهنك ملكهم الأول بن أفروال، فاستخرجوا أفريدون من مكان اختفائه فملكوه، واتبع الضحاك فقتله. وقيل أسره بدنباوند. ويقال كان على
عهد نوح، وإليه بعث. ولهذا يقال: أنّ أفريدون هو نوح. والتحقيق عند نسابة الفرس على ما نقل هشام بن الكلبي أنّ أفريدون من ولد جمشيد بينهما تسعة آباء. وملك مائتي سنة. ورد غصوب الضحاك ومظالمه. وكان له ثلاثة بنين الأكبر لسرم والثاني طوج والثالث إيرج. وإنه قسم الأرض بينهم: فكانت الروم وناحية المغرب لسرم، والترك والصين والعراق لايرج، وآثره بالتاج والسرير، ولما مات قتله أخواه واقتسما الأرض بينهما ثلثمائة سنة. ويزعمون أنّ أفريدون وآباءه العشرة يلقبون كلهم أشكيان، وقيل في قسمته الأرض بين ولده غير هذا. وإن بابل كانت لإيرج
الاصغر، وكان يسمى خيارث، ويقال كان لإيرج ابنان: وندان واسطوبة وبنت اسمها خورك. وقتل الابنان مع أبيهما بعد مهلك افريدون، وأن أفريدون ملك خمسمائة سنة، وأنه هو الذي محا آثار ثمود من النبط بالسواد، وأنه اول من تسمى بكي فقيل كي افريدون ومعناه التنزيه أي مخلص متصل بالروحانيات. وقيل معناه البهاء لأنه يغشاه نور من يوم قتل الضحاك، وقيل معناه مدرك الثار. وكان منوشهر الملك ابن منشحر بن إيرج من نسل افريدون، وكانت أمه من ولد اسحاق عليه السلام، فكفلته حتى كبر فملك وثأر بأبيه إيرج من عمه بعد حروب كانت له معهما. ثم استبد ونزل بابل، وحمل الفرس على دين إبراهيم عليه السلام وثار عليه أفراسياب ملك الترك فغلبه على بابا وملكها، ثم اتبعه إلى غياض طبرستان فجهز العساكر لحصاره، وسار إلى العراق فملكه. ويقال أفراسياب هذا من عقب طوج بن أفريدون ولحق ببلاد الترك عندما قتل منوشهر جد طوج، فنشأ عندهم وظهر من بلادهم فلهذا نسب إليهم. وقال الطبري: لما هلك منوشهر بن منشحور، غلب افراسياب بن اشك بن رستم بن ترك على خيارات وهي بابل، وأفسد مملكة فارس وحيرها. فثار عليه زومر بن طهمارست ويقال راسب بن طهمارست. وينسب إلى منوشهر في تسعة آباء، وأن منوشهر غضب على طهمارست، وكانوا يحاربون افراسيات فهم بقتله، وشفع فيه أهل الدولة فنفاه إلى بلاد الترك، وتزوج منهم، ثم عاد إلى أبيه وأعمل الحيلة في إخراج امرأته من بلاد الترك، وكانت ابنة وامن ملك الترك، فولدت له زومر ابنه، وقام بالملك بعد منوشهر وطرد افراسيات عن مملكة فارس، وقتل جدّه وامن في حروبه
مع الترك. ولحق أفراسيات بتركستان واتخذ يوم ذلك الغلب عيدا ومهرجانا، وكان ثالث أعيادهم. وكان غلبه على بلاد فارس لاثنتي عشرة سنة من وفاة منوشهر جده، وكان زومر بن طهمارست هذا محموداً في سيرته، وأصلح ما أفسد افراسيات بن خيارت من مملكة بابل، وهو الذي حفر نهر الزاب بالسواد، وبنى على حافته المدينة العتيقة، وسماها الزواهي، وعمل فيها البساتين، وحمل إليها بزور الأشجار والرياحين. وكان معه الملك كرشاسب من ولد طوج بن افريدون، وقيل من ولد منوشهر. ويقال إنما كان رديفا له وكان عظيم الشأن في أهل فارس ولم يملك، وإنما كان الملك لزومر بن طهمارلست، وهلك لثلاث سنين من دولته. وفي أيامه خرج بنو إسرائيل من التيه، وفتح يوشع مدينة أريحاء، ودال الملك من بعده للكينية حسبما يذكر، وأولهم كيقباذ. ويقال أنّ مدة الملك لهذه الطبقة كانت ألفين وأربعمائة وسبعين سنة فيما قال البيهقي والاصبهاني ولم يذكر من ملوكهم إلا هؤلاء التسعة الذين ذكرهم الطبري والله وارث الأرض ومن عليها.
خريطة
الطبقة الثانية من الفرس وهم الكينية وذكر ملوكهم وأيامهم إلي حين إنقراضهم
هذه الطبقة الثانية من الفرس وملوكهم يعرفون بالكينية، لان اسم كل واحد مضاف
إلى كي، وقد تقدم معناه. والمضاف عند العجم متأخر عن المضاف إليه، وأولهم فيما قالوا كيقباذ بن عقب منوشهر بينهما أربعة آباء، وكان متزوجا بامرأة من رووس الترك ولدت له خمسة من البنين: كي وافيا وكيكاوس وكي ارش وكي نية فاسمن، وهؤلاء هم؟ الجبابرة وآباء الجبابرة.
قال الطبري: وقيل أنّ الملوك الكينية وأولادهم من نسله، جرت بينه وبين الترك حروب، وكان مقيما بنهر بلخ يمانع الترك من طروق بلاده، وملك مائة سنة انتهى. وملك بعده ابنه كيكاوس ابن كينية وطالت حروبه مع افراسيات ملك الترك. وهلك فيها ابنه سياوخس، ويقال كان على عهد داود، عمرا ذا الاذعار من ملوك التبابعة غزاه في بلاده، فظفر به وحبسه عنده باليمن، وسار وزيره رستم بن دستان بجنود فارس إلى غزو ذي الأذعار فقتله، وتخلص كيكاوس إلى ملكه.
وقال الطبري: كان كيكاوس عظيم السلطان والحماية، وولد له ابنه سياوخش، فدفعه إلى رستم الشديد بن دستان. وكان اصهر بسجستان، حتى إذا كملت تربيته وفصاله رده إلى أبيه فرضيه، وكفلت به امرأة أبيه فسخطه وبعثه لحرب افراسيات، وأمره بالمناهضة، فراوده أفراسيات في الصلح، وامتنع أبوه كيكاوس، فخشي منه على نفسه، ولحق بأفراسيات فزوجه ابنته أم كي خسرو، ثم خشيه أفراسيات على نفسه، وأشار على ابنته بقتله فقتلته. وترك ابنة أفراسيات حاملا بخسرو وولدته هنالك.
وأعمل كيكاوس الحيلة في إخراجه فلحق به. ويقال: إنه لما بلغه قتل ابنه بعث عساكره مع قواده فوطئوا بلاد الترك وأثخنوا فيها، وقتلوا بني أفراسيات فيمن قتلوه. قال
الطبري: وإنه غزا بلاد اليمن ولقيه ذو الأذعار في حمير وقحطان فظفر به وأسره وحبسه في بئر وأطبق عليها. وإن رستم سار من سجستان فحارب ذا الأذعار ثم اصطلحا على أنّ يسلم إليه كيكاوس، فأخذه ورجع إلى
بابل، وكافأه كيكاوس على ذلك بالعتق من عبودية الملك، ونصب لجلوسه سريرا من فضة بقوائم من ذهب، وتوجه بالذهب وأقطعه سجستان واباستان، وهلك لمائة وخمسين من دولته. وملك بعده فيما قال الطبري والمسعودي والبيهقي وجماعة من المؤرخين حافده كي خسرو ابن ابنه سياوخش.
وقال السهيلي: إنه ملك كي خسرو بعد ثلاثة آخرين بينه وبين كيكاوس. فأولهم بعده كي كينة، ثم من بعده ابنه أخو ابن كي كينة ثم عمه سباوخش بن كيكاوس. ثم بعد الثلاثة كي خسرو بن سباوخش اهـ. وهو غريب، فإنهم متفقون على أنّ سباوخش مات في حياة أبيه في حروب الترك. قال الطبري: وقد كان كيكاوس بن كي كينية بن كيقباذ ملك كي خسرو حين جاءه من بلاد الترك مع أمه، واسفاقدين بنت افراسيات. قالوا ولما ملك بعث العساكر مع اجو إلى اصبهان لحرب افراسيات ملك الترك للطلب بثار أبيه سباوخش، فزحفوا إلى الترك وكانت بينهم حروب شديدة انهزمت فيها عساكر الفرس، فنهض كي خسرو بنفسه إلى نجلخ وقدم عساكره وقواده فقصدوا بلاد الترك من سائر النواحي، وهزموا عساكرهم وقتلوا قوادهم. وكان قاتل سباوخش بن كي خسرو فيمن قتل منهم. وبعث أفراسيات ابنه وكان ساحرا إلى كيخسرو يستميله، فعمد إلى القواد بمنعه، وقتاله، وقاتل فقتل. وزحف أفراسيات فلقيه كي خسرو، وكانت بينهما حروب شديدة انجلت عن هزيمة أفراسيات والترك، واتبعه كي خسرو فظفر به في اذربيجان فذبحه وانصرف ظافرا. وكان فيمن حضر معه لهذا الفتح ملك فارس وهو كى أوجن بن حينوش بن كيكاوس ابن كينية بن كيقباذ. وهو عند الطبري أبو كيهراسف الذي ملك بعد كيخسرو على ما نذكر. وملك على الترك بعد أفراسيات جوراسف ابن أخيه شراشف. ثم أنّ كي خسرو ترهب وتزهد في الملك واستخلف مكانه كيهراسف بن كي اوجن الذي تدمناه أنه أبوه عند الطبري ولد كيخسرو، فقيل غاب في البرية، وقيل مات، وذلك لستين سنة من ملكه. ولما ملك كيهراسف اشتدت شوكة الترك، فسكن لقتالهم مدينة بلخ على نهر جيحون، وأقام في حروبهم عامة أيامه. وكان اصبهبذ ما بين الأهواز والروم من غربي دجلة في أيامه بختنرسي المشتهر ببختنصر، وأضاف إليه كهراسف ملكا عندما سار إليه، وأذن له
في فتح ما يليه. وسار إلى الشام معه ملوك الفرس وبختنصر ملك الموصل وله سنجاريف، ففتح بيت المقدس وكان له الظهور على اليهود واستأصلهم كما مر في أخبارهم. وبختنصر هذا الذي غزا العرب وقاتلهم واستباحهم، ويقال أنّ ذلك كان في أيام كي بهمن حافد كيستاسب ابن كيهراسف.
قال هشام بن محمد: أوحى الله إلى أرميا النبي عليه السلام وكان حافد زريافيل الذي رجع بني إسرائيل إلى بيت المقدس بأمر بختنصر أنّ يفرق العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم، ويستبيحهم بالقتل، ويعلمهم بكفرهم، بالرسل واتخاذهم الآلهة. وفي كتاب الإسرائيليين: والوحي بذلك كان إلى يرميا بن خلقيا وقد مر ذكره. وإنه أمر أنّ يستخرج معد بن عدنان من بينهم ويكفله إلى انقضاء أمر الله فيهم، انتهى. قال فوثب بختنضر على من وجده ببلاده من العرب للميرة فحبسهم ونادى بالغزو، وجاءت منهم طوائف مستسلمين فقبلهم وأنزلهم بالأنبار والحيرة. وقال غير هشام: أنّ بختنصر غزا العرب بالجزيرة وما بين ايلة والأبلة، وملأها عليهم خيلا ورجالا، ولقيه بنو عدنان فهزمهم إلى حضورا واستلحمهم أجمعين. وإن الله أوحى إلى ارميا ويوحنا أنّ يستخرجا معد بن عدنان الذي من ولده محمد أختم به النبيين آخر الزمان، وهو ابن اثنتي عشرة سنة. وردفه يوحنا على البراق وجاء به إلى حران وربي بين أنبياء بني إسرائيل. ورجع بختنصر إلى بابل وأنزل السبي بالانبار فقيل انبار العرب وسميت بهم. وخالطهم النبط بعد ذلك. ولما هلك بختنصر خرج معد بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل إلى الحج فحخوا، وبقي هنالك مع قومه، وتزوج بعانة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي فولدت له نزار بن معد. وأما كيهراسف فكان يحارب الترك عامة أيامه، وهلك في حروبهم لمائة وعشرين سنة من ملكه، وكان محمي السيرة، وكانت الملوك شرقا وغرباً يحملون إليه الأتاوة ويعظمونه. وقيل: إنه ولى ابنه كيستاسب على الملك وانقطع للعبادة. ولمحا ملك ابنه كيستاسب شغل بقتال الترك عامة أيامه، ودفع لحروبهم ابنه اسفنديار فعظم عناوه فيهم. وظهر في أيامه زرادشت الذي يزعم المجوس نبوته، وكان فيما زعم أهل الكتاب من. أهل فلسطين خادماً لبعض تلامذة إرميا النبي خالصة عنده، فخانه في
بعض أموره فدعا الله عليه فبرص ولحق باذربيجان، وشرع بها دين المجوسية. وتوجه إلى كيستاسف فعرض عليه دينه فأعجبه، وحمل الناس على الدخول فيه، وقتل من امتنع. وعند علماء الفرس أنّ زرادشت من نسل منوشهر الملك، وأن نبيا من بني إسرائيل بعث إلى كيستاسف وهو يبلخ، فكان زرادشت وجاماسب العالم، وهو من نسل منوشهر أيضاً يكتبان بالفارسية ما يقول ذلك النبي بالعبرانية، وكان جاماسب يعرف اللسان العربي ويترجمه لزرادشت، وأن ذلك كان لثلاثين سنة من دولة كيهراسف.
وقال علماء الفرس: أنّ زرادشت جاء بكتاب ادعاه وحيا كتب في اثني عشر ألف بعده نقشاً بالذهب، وأن كيستاسف وضع ذلك في هيكل باصطخر ووكل به الهرابذة ومنع من تعليمه العامة. قال المسعودي: وسمى ذلك الكتاب نسناه، وهو كتاب الزمزمة، ويدور على ستين حرفا من حروف المعجم. وفسره زرادشت وسمى تفسيره زند، ثم فسر التفسير ثانيا وسماه زنديهء. وهذه اللفظة هي التي عربتها العرب زنديق. وأقسام هذا الكتاب عندهم ثلاثة: قسم في أخبار الأمم الماضية، وقسم في حدثان المستقبل، وقسم في نواميسهم وشرائعهم. مثل أنّ المشرق قبلة، وأن الصلوات في الطلوع والزوال والغروب، وأنها ذات سجدات ودعوات. وجدد لهم زرادشت بيوت النيران التي كان منوشهر أخمدها، ورتب لهم عيدين: النيروز في الاعتدال الربيعي، والمهرجان في الاعتدال الخريفي، وأمثال ذلك من نواميسهم. ولما انقرض ملك الفرس الأول أحرق الاسكندر هذه الكتب. ولما جاء أردشير جمع الفرس على قراءة سورة منها تسمى أسبا. قال المسعودي؟ وأخذ كيستاسف بدين المجوسية من زرادشت لخمس وثلاثين سنة من نبؤته فيما زعموا، ونصب كيستاسف مكانه جاماسب العالم من أهل اذربيجان، وهو اول موبذان كان في الفرس انتهى. قال الطبري: وكان كيستاسب مهادنا ارجاماسب ملك الترك، وقد اشترط عليه أنّ تكون دابة كيستاسف موقفة على بابه بمنزلة دواب الرؤساء عند أبواب الملوك، فمنعه من ذلك زرادشت وأشار عليه بفتنة الترك، فبعث إلى الدابة والموكل بها وصرفهما إليه. وبلغ الشبر إلى ملك الترك فبعث إليه بالعتاب والتهديد، وأن يبعث بزرادشت إليه، وإلا فيعزره وأغلظ كيستاسف في الجواب وآذنه بالحرب، وسار بعضهما إلى بعض
واقتتلوا، وقتل رزين بن كيستاسف وانهزم الترك، وأثخن فيهم الفرس. وقتل ساحر الترك قيدوشق، ورجح كيستاسف إلى بلخ. ثم سعى عنده بابنه أسفنديار فحبسه وقيده، وسار إلى جبل بناحية كرمان وسجستان، فانقطع به للعبادة ودراسة الدين.
وخلف أباه كهراسف في بلخ شيخا قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله فيها مع امرأته، فغزاهم بها خدراسف وقدم أخاه جورا في جموع الترك، وكان مرشحاَ للملك، فأثخن واستباح واستولى على بلخ، وقتل كهراسف أباهم وغنموا الأموال وهدموا بيوت النيران وسبوا حمايي بنت كستاسف وأختها. وكان فيما غنموه العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه زركش كاويان، وهي راية الحداد الذي خرج على الضحاك وقتله. وولى افريدون فسفوا بخلك الراية ورضعوها بالجواهر، ووضعوها في ذخائرهم يبسطوها في الحروب العظام. وكان لها ذكر في دولتهم، وغنمها المسلمون يوم القادسية. ثم مضى خدراسف ملك الترك في جموعه إلى كستاسف وهو بجبال سجستان متعبدا فتحضن منه، وبعث إلى ابنه أسفنديار مع جاماسب العالم، وهو في الجبل فقلده الملك ومحاربة الترك، فسار إليهم وأبلى في حروبهم فانهزموا وغنم ما معهم، واسترد ما كانوا غنموه والراية زركش كاويان في جملته. ثم دخل اسفنديار إلى بلادهم في اتباعهم، وفتح مدينتهم عنوة، وقتل مهلكهم خدراسف وإخوته واستلحم مقاتلته واستباح أمواله ونساءه، ودخل مدينة افراسيات ودوخ البلاد، وانتهى إلى بلاد صول والتبت، وولى على كل ناحية من الترك، وفرض الخراج وانصرف إلى بلخ ولد غص به أبوه. قال هشام بن محمد: فبعثه إلى رستم ملك سجستان الذي كان يستنفره كيقباذ جدهم من ملوك اليمن، وأقطعه تلك الممالك جزاء لفعله. فسار إليه اسفنديار وقاتله رستم وهلك كستاسف لمائة وعشرين سنة. ويقال أنه الذي رد بني إسرائيل إلى بلادهم، وأن أمه كانت من بني طالوت. ويقال أنّ ذلك هو حافد بهمن. وقيل أنّ الذي ردهم هو كورش من ملوك بابل أيام بهمن بأمره. ثم ملك بعد كستاسف حافده كي بهمن ويقال اردشير بهمن. قال الطبري: ويعرف بالطويل الباع لاستيلائه على الممالك والأقاليم. قال هشام بن محمد: ولما ملك سار إلى سجستان طالبا بثار أبيه فكانت بينهما حروب، فقتل فيها رستم بن دستان وأبوه
وإخوته وأبنأوه. ثم غزا الروم وفرض عليهم الأتاوة، وكان من أعظم ملوك الفرس، وبنى مدنا بالسواد، وكانت أمه من نسل طالوت لأربعة آباء من لدنه، وكانت له أم ولد من سبي بني إسرائيل اسمها راسف وهي أخت زريافيل الذي ملكه على اليهود ببيت المقدس وجعل له رياسة الجالوت، وملك الشام وملك ثمانين سنة. فملكت حماي ملكها الفرس لجمالها ولحسن أدبها وكمال معرفتها وفروسيتها وكانت بلغت شهرأزاد. وقيل إنما ملكوها لأنها لما حملت من أبيها بدار الأكبر سألته أنّ يحقد له التاج في بطنها، ففعل ذلك. وكان ابنه ساسان مرشحا للملك فغضب ولحق بجبال إصطخر زاهداً يتولى ماشيته بنفسه، فلما مات أبوه فقدوا ذكرا من أولاده فولوا حماي هذه، وكانت مظفرة على الأعداء. ولما بلغ ابنها دارا الاشد سلمت إليه الملك وسارت إلى فارس، واختطت مدينة دارا بجرد. وردت الغزو إلى بلاد الروم، وأعطيت الظفر فكثر سبيهم عندها، وملكت ثلاثين سنة. ولما ملك ابنها دارا نزل بابل، وضبط ملكه وغزا الملوك وأذوا الخراج إليه. ولقال: إنه الذي رتب دواب البرد.
وكان معجبا بابنه دارا حتى سماه باسمه، وولاه عهده، وهلك لاثنتي عشرة سنة وملك بعده ابنه دارا بهمن. وكان له مرب اسمه بيدلي قتله أبوه دارا بسعاية وزيره أرشيس محمي، وندم على قتله. فلمما ولي دارا جعل على كتابته أخا بيدلي ثم استوزره رعب لمرباه مع أخيه. فاستفسده على ارشيش وزيره ووزير أبيه، وعلى سائر أهل الدولة استوحشوا منه. وقال هشام بن محمد: وملك دارا بن دارا أربع عشرة سنة، فأساء السيرة وقتل الرؤساء، وأهلك الرعية. وغزاه الاسكندر بن فيلبس ملك بني يونان. وقد كانوا يسمونه.... فوثب عليه بعضهم وقتله، ولحق بالإسكندر وتقرب بذلك إليه، فقتله الاسكندر، وقال: هذا جزاء من اجراً على سلطانه، وتزوج بنته روشنك كما نذكره في أخبار الاسكندر. وقال الطبري: قال بعض أهل العلم بأخبار الماضين، كان لدارا من الولد يوم قتل أربع بنين: أسسك وبنودار وارداشير وبنت اسمها روشنك. وهي التي تزوجها الاسكندر.قال وملك أربع عشرة سنة. هذه هي الأخبار المشهورة للفرس الأولى إلى ملكهم الأخير دارا.
قال هروشيوش مؤرخ الروم في مبدأ دولة الفرس هؤلاء إنما كانت بعد دخول بني إسرائيل إلى الشام، وعلى عهد عثنيئال بن قناز بن يوفنا، وهو ابن أخي كالب بن يوفنا
الذي دبر أمر بني إسرائيل بعد يوشع. قال: وفي ذلك الزمان خرج أبو الفرس من أرض الروم الغريقيين من بلاد آسيا، واسمه بالعربية فارس، وباليونانية يرشور وبالفارسية يرشيرش. فنزل بأهل بيته في ناحية وتغلب على أهل ذلك الموضع، فنسبت إليه تلك الأمة واشتق اسمها من اسمه، وما زال أمرهم ينمو إلى دولة كيرش الذي يقال فيه إنه كسرى الأول، فغلب على القضاعيين ثم زحف إلى مدينة بابل، وعرض له دونها النهر الثاني بعد الفرات، وهو نهر دجلة، فاحتفر له الجداول وقسمه فيها ثم زحف إلى المدينة وتغلب عليها وهدمها. ثم حارب السريانيين فهلك في حروبهم يبلادشيت وولي ابنه قنبيشاش بن كيرش، فثأر منهم بأبيه وتخطاهم إلى أرض مصر، فهدم أوثانهم ونقض شرائعهم، فقتله السحرة وذلك لألف سنة من ابتداء دولتهم، فولي أمر الفرس دارا وقتل السحرة بمصر ورد عمالة السريانيين إليهم، ورجع بني إسرائيل إلى الشام في الثانية من أيامه، وزحف إلى بلاد الروم الغريقيين طالبا ثار كيرش، ولم يزل في حروبهم إلى أنّ هلك لثلاث وعشرين من دولته، ثار عليه أحد قواده فقتله، وولى بعده ابنه أرتشخار أربعين سنة، وولي بعده ابنه دارا انوطو سبع عشرة سنة. ثم ولي بعده ابنه ارتشخار بعد أنّ نازعه كيرش بن نوطو، فقتله أرتشخار واستولى على الأمر، وسالم الروم الغريقيين. ثم انتقضوا عليه واستعانوا بأهل مصر فطالت الحرب ثم اصطلحوا ووقعت الهدنة. وهلك ارتشخار وذلك على عهد الاسكندر ملك اليونانيين، وهو خال الاسكندر الأعظم وهلك لعهده فولي أبو الاسكندر الأعظم ببلد مقدونية وهو ملك فيلبس. وهلك ارتشخار أوقش لست وعشرين من دولته، وولي من بعده ابنه شخشار أربع سنين. وفي أيامه ولي على مقدونية واليونانيين وسائر الروم الغريقيين الاسكندر بن فيلمس. ثم ولي بعده شخاردارا، وعلى عهده تغلب الاسكندر على يهود بيت المقدس، وعلى جميع الروم الغريقيين. ثم حدثت الفتنة بينه وبين دارا وتزاحفوا مرات انهزم في كلها. وكان للاسكندر الظهور عليه، ومضى إلى الشام ومصر فملكهما وبنى
الإسكندرية وانصرف، فلقيه دارا أنطوس فهزمه، وغلب على ممالك الفرس واستولى على مديتهم، وخرج في اتباع دارا فوجده في بعض طريقه جريحا، ولم يلبث أنّ هلك من تلك الجراحة، فأظهر الاسكندر الحزن عليه وأمر بدفنه في مقابر الملوك، وذلك لألف سنة ونحو من ثمانين سنة منذ ابتداء دولتهم كما قلناه، انتهى كلام هروشيوش. وقال السهيلي: وجده مثخناً في المعركة فوضع رأسه على فخذه وقال: يا سيد الناس لم أرد قتلك ولا رضيته، فهل من حاجة؟ فقال تتزوج ابنتي وتقتل قاتلي، ففعل الاسكندر ذلك، وانقرض أمر هذه الطبقة الثانية، والبقاء لله وحده سبحانه وتعالى.
خريطة
قال ابن العميد: في ترتيب هؤلاء الملوك الفرس من بعد كيرش إلى دارا آخرهم يقال: إنه ملك من بعد كورش ابنه قمبوسيوس ثمانيا وقيل تسعا وقيل اثنتين وعشرين سنة. وقيل أنه غزا مصر واستولى عليها، وتسمى بختنصر الثاني، وملك بعده اريوش بن كستاسب خمسا وعشرين سنة، وهو اول الملوك الأربعة الذين عناهم دانيال بقوله ثلاث ملوك يقومون بفارس، والرابع يكثر ماله ويعظم على من قبله. فأولهم دارا بن كستاسف وهو مذكور في المجسطي، والثاني دارا ابن الامة، والثالث الذي قتله الاسكندر، وميل بل هو الرابع الذي عناه دانيال. لأنه جعل أول الأربعة داريوش واخشورش العادي. وسركورش ورديفه في الملك، ثم عد الثلاثة بعده. وفي الثانية من ملكه داريوش بن كيستاسف لبابل تمت سبعون سنه لخراب القدس، ولي الثالثة كمل بناء البيت. ثم ملك بعد داريوش بن كيستاسف هذا أسمرديوس المجوسي سنة واحدة، وقيل ثلاث عشرة سنة وسمي مجوسياً لظهور زرادشت بدين المجوسية في أيامه.
ثم ملك أخشويرش بن داريوش عشرين سنة، وكان وزيره هامان العمليقي، وقد مرت قصته مع الجارية من بني إسرائيلى. ثم ملك من بعده ابنه ارطحشاشت بن أخشويرش ويلقب بطويل اليدين، وكانت أمه من اليهود بنت أخت فردخاي، وكانت حظية عند أبيه وعلى يدها تخلص اليهود من سعاية وزيره فيهم عنده، وكان العزير في خدمته. ولعشرين من دولته أمر بهدم أسوار القدس، ثم رغب إليه العزير في تجديدها فبناها في اثنتي عشرة سنة.
قال ابن العميد عن المجسطي: أنّ العزير هذا وشممى عزرا هو الرابع عشر من الكهنونية من لدن هارون عليه السلام، وأنه كتب لبني إسرائيل التوراة، وكتب الأنبياء من حفظه بعد عودهم من الجلاء الأول، لأن بختنصر كان أحرقها. وقيل أنّ الذي كتب لهم ذلك هو يشوع بن أبو صادوق. ثم ملك من بعده ارطحشاشت الثاني خمس سنين، وقيل إحدى وثلاثين وقيل ست عشرة وقيل شهرين. ورجح ابن العميد الخمس لموافقتها سياقة
التواريخ. وكان لعهده ابقراط وسقراط، في مدينة أشياش، ولعهده كتب النواميس الاثني عشر. ثم ملك بعده صغريتوس ثلاث سنين، وقيل سنة واحدة وقيل سبعة أشهر، ولم يزل محنقاً لمرض كان به إلى أنّ هلك.
ثم ملك من بعده دارا بن الأمة ويلقب الناكيش وقيل داريوس الياريوس ملك سبع عشرة سنة، وكان على عهده من حكماء يونان سقراط وفيثاغورس واقليوس. وفي الخامسة من دولته انتقض أهل مصر على يونان واستبدوا
بملكهم بعد مائة وأربع وعشرين سنة. كانوا فيها في ملكتهم. ثم ملك من بعده أرطحشاشت ابن أخي كورش داريوش إحدى عشرة سنة، وقيل اثنتين وعشرين سنة وقيل أربعين وقيل إحدى وعشرين. وكان لعهده ألياقيم الكوهن الذي داهن الكهنونية ستا وأربعين سنة. ثم ملك من بعده ارطحشاشت وتسمى أخوش، ويقال أوغش، عشرين سنة، وقيل خمسا وعشرين، وقيل تسعا وعشرين. وزحف إلى مصر فملكها وهرب منها فرعون ساناق إلى مقدونية واسمه قصطرا.
وبنى أرطحشاشت قصر الشمع وجعل فيه هيكلا، وهو الذي حاصره عمرو بن العاص وملكه. ثم ملك من بعده ابنه ارشيش بن ارطحشاشت، وقيل اسمه فارس، أربع سنين، وقيل إحدى عشرة. وكان لعهده ص حكماء يونان بقراط وأفلاطون ودمقراطس، ولعهده قتل بقراط على القول بالتناسخ، وقيل لم يكن مذهبه، وإنما ألزمه به بعض تلامذته ثم شهدوا عليه. وقتل مسموما قتله القضاة بمدينة أثينا. ثم ملك من بعده ابنه دارا بن أرشيش عشرين سنة، وقيل ست عشرة. وقال ابن العميد عن أبي الراهب: إنه دارا الرابع الذي أشار إليه دانيال كما مر. وكان هذا الملك عظيما فحهم، وتغلب على يونان وألزمهم الوظائف التي كانت عليهم لأبائه، وملكهم يومئذ الاسكندر بن فيلبس وكان عمره ست عشرة سنة، فطمع فيه دارا وطلب الضريبة فمنع وأجاب بالاغلاظ، وزحف إليه فقاتله وقتله، واستولى الإسكندر على ملك فارس وما وراءه. انتهى كلام ابن العميد.
الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية ملوك الطوائف وذكر دولهم ومصاير أمولهم إلى نهايتها
هذه الطبقة من ملوك الفرس يعرفون بالاشكانية، وكافها أقرب إلى الغين، من ولد أشكان بن دارا الأكبر وقد مر ذكره، وكانوا من أعظم ملوك الطوائف عند افتراق أمر الفرس. وذلك أنّ الإسكندر لما قتل دارا الأصغر استشار معلمه ارسطو في أمر الفرس، فأشار عليه أنّ يفرق رياستهم في أهل البيوت منهم، فتفترق كلمتهم ويخلص لك أمرهم. فولّى الاسكندر عظماء النواحي هن الفرس والعرب والنبط والجرامقة كلا على عمله، واستبد كل بناحية. واستقام له ملك فارس والمشرق. ولما مات الاسكندر قسم ملكه بين أربعة من أمرائه: فكان ملك مقدونية وأنطاكيه وما إليها من ممالك الروم لفيلبس من قواده. وكانت الاسكندرية ومصر والمغرب لفيلادفس، ولقبه بطليموس. وكان الشام وبيت المقدس وما إلى ذلك لدمطوس. وكان السواد إلى الجبال والأهواز وفارس ليلاقش سيلقس، ولقبه انطيخس، وأقام السواد في ملكته أربعا وخمسين سنة.
قال الطبري: وكان أشك بن دارا الأكبر خلفه أبوه بالري، فنشأ بها، فلما كبر وهلك الاسكندر، جمع العساكر وسار يريد أنطيخس، والتقيا بالموصل، فانهزم أنطيخس وقتل. وغلب أشك على السواد من الموصل إلى الري وأصبهان. وعظمه سائر ملوك الطوائف لشرفه ونسبه، وأهدوا إليه من غير أنّ يكون له عليهم إيالة في عزل ولا تولية، بل إنما كانوا يعظمونه ويبدأون باسمه في المخاطبات، وهم مع ذلك متعادون تختلف حالاتهم بعضهم مع بعض في الحرب والمهادنة. وقال بعضهم: كان رجل من نسل الملوك من فارس مملكا على الجبال وأصبهان والسواد لفوات الاسكندر. ثم غلب بعد ذلك ولده على السواد، وجمعه إلى الجبال وأصبهان، وصار كالرئيس على سائر ملوك الطوائف. ولذلك قصر ذكر هؤلاء الملوك دون غيرهم من الطوائف. فمنهم من قال أنه أشك بن دارا كما قدمناه، وهو قول الفرس، وقيل هو أشك عقب اسفنديار بن كستالسب، بينهما ستة آباء، وقيل هو أشك بن أشكان الأكبر من ولد كينية بن كيقباذ. ويقال: إنه كان أعظم الاشكانية، وقهر ملوك الطوائف واستولى على إصطخر لاتصالها بأصبهان وتخطاها إلى ما يتاخمها من بلاد فارس، فغلب عليه واتصل ملكه عشرين سنة. وملك بعده جورا بن أشك وغزا بني إسرائيل بسبب قتلهم يحيى بن زكريا. وقال المسعودي: ملك أشك بن أشك بن دارا بن اشكان الأول منهم عشر سنين، ثم سابور ابنه ستين سنة، وغزا بني إسرائيل بالشام، ونهب أموالهم ولإحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى صلوات الله عليه بأرض فلسطين. ثم ملك عمه جور عشر سنين، ثم نيرو بن سابور إحدى وعشرين سنة. وفي أيامه غلب طيطش قيصر على بيت المقدس وخربها وأجلى منها اليهود كما مر، ثم جور بن نيرو تسع عشرة سنة، ثم جرسي أخوه أربعين سنة، ثم هرمز أخوهما أربعين سنة، ثم ابنه أردوان بن هرمز خمس عشرة سنة، ثم ابنه كسرى بن أردوان أربعين سنة، ثم ابنه يلاش ابن كسرى أربعا وعشرين سنة.
وفي أيامه غزت الروم السواد مع قيصر، يطلبون بثأر أنطيخش ملك أنطاكية من اليونان الذي قتله اشك جد يلاوش هذا. فجمع يلاوش العساكر، واستنفر ملوك الطوائف بفارس والعراق، فوجهوا له بالمدد، واجتمع له أربعمائة ألف من المقاتلة، وولى عليهم صاحب الحصر وكان من ملوك الطوائف، على السواد فزحف إلى قيصر فقتله، واستباح عسكر الروم، وقتل وفتح أنطاكية، وانتهى إلى الخليج. وولي من بعد يلاوش ابنه اردران بن يلاوش ثلاث عشرة سنة. ثم خرج عليه أردشير بن بابك بن ساسان، وجمع ملك فارس من أيدي ملوك الطوائف، وجدد الدولة الساسانية كما نذكر في أخبارهم. قال الطبري: وفي أيام الطوائف كانت ولادة عيسى صلوات الله عليه لخمس وستين من غلب الاسكندر على بابل، ولإحدى وخمسين من ملك الاشكانية، والنصارى يزعمون أنّ ذلك كان لمضي ثلثمائة وثلاث وستين من غلب الإسكندر على بابل. قال الطبري: وجميع سني الطوائف من لدن الإسكندر إلى ظهور أردشير بن بابك واستوائه على الأمر مائتان وستون سنة، وبعضهم يقول خمسمائة وثلاث وعشرون سنة. وقال بعضهم: ملك في هذه المدة منهم تسعون ملكاً على تسعين طائفة كلهم يعظم ملوك المدائن منهم وهم الأشكانيون. الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي هذه الدولة كانت من أعظم الدول في الخليقة وأشدها قوة، وهي إحدى الدولتين اللتين صبحهما الإسلام في العالم وهما دولة فارس والروم. وكان مبدأ أمرها من توثب اردشير بن بابك شاه ملك مرو وهو ساسان الأصغر ابن بابك بن سامان بن بابك بن هرمز بن ساسان الأكبر ابن كي بهمن، وقد تقدم لنا ذكر كي بهمن، وأن ابنه ساسان غضب لما لوج للملك أخوه دارا وهو لي بطن أمه، ولحق بجبال إصطخر، فأقام هنالك وتناسل ولده بها إلى أنّ كان ساسان الأصغر منهم، فكان قيما على بيت النار
لا صطخر وكان شجاعا. وكانت امرأته من بيت ملك فولدت له ابنه بابك، وولد لبابك اردشير، وضبطه الدارقطني: بالراء المهملة.
وكان على إصطخر يومئذ فلك من ملوك الطوائف، وله عامل على دارا بجرد خصي اسمه سري، فلما أتت لأردشير سبع سنين، جاء به جده ساسان إلى ملك إصطخر وشاله أنّ يضمه إلى عامل دارا بجرد الخصي يكفله، إلى أنّ تتم تربيته. ولما هلك عامل دارا بجرد فأقام بأمره فيها أردشير هذا وملكها. وكان له علم من المنجمين بأن الملك سيصير إليه فوثب على كثير من ملوك الطوائف بأرض فارس فاستولى عليهم، وكتب إلى أبيه بذلك، ثم وثب على عامل إصطخر فغلبه على ما بيده، وملك إصطخر وكثيرا من أعمال فارس. وكان زعيم الطوائف يومئذ اردران ملك الأشكانيين، فكتب إليه يسأله أنّ يتوجه، فعنفه وكتب إليه بالشخوص، فامتنع وخرج بالعساكر من اصطخر، وقدم موبذان روريرت، فتوجه ثم فتح كرمان، وبها ملك من ملوك الطوائف، وولى عليها ابنه. وكتب إليه اردوان يتهدده، وأمر ملك الأهواز من الطوائف أنّ يسير إليه، فرجع مغلوباً. ثم سار اردشير إلى أصبهان فقتل ملكها واستولى عليها، ثم إلى الأهواز فقتل ملكها كذلك، ثم زحف إليه اردوان عميد الطوائف فهزمه أردشير وقتله. وملك همذان والجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ثم السواد. وبنى مدينة على شاطىء دجلة شرقي المدائن.
ثم رجع إلى اصطخر ففتح سجستان ثم جرجان ثم مرو وبلخ وخوارزم إلى تخوم خراسان وبعث بكثير من الرووس إلى بيت النيران. ثم رجع إلى فارس ونزل صول وأطاعه ملك كوشان ومكران، ثم ملك البحرين، بعد أنّ حاصرها مدة، وألقى ملكها بنفسه في البحر. ثم رجع فنزل المدائن، وتوجه ابنه سابور ولم يزل مظفرا، وقهر الملوك حوله، وأثخن في الأرضي، ومدن المدن، واستكثر العمارة، وهلك لأربع عشرة سنة من ملكه بأصطخر بعد مقتل اردوان.
وقال هشام بن الكلبي: قام أردشير في أهل فارس يريد الملك الذي كان لآبائه قبل الطوائف، وأن يجمعه لملك واحد. وكان أردوان ملكا على الأردوانيين وهم أنباط السواد، وكان بابا ملكا على الأرمانيين وهم أنباط الشام، وبينهما حرب وفتنة، فاجتمعا على قتال أردشير فحارباه مناوبة. ثم بعث اردشير إلى بابا في الصلح على أنّ يدعه في الفلك ويخلي بابا بينه وبين اردوان، فلم يلبث أنّ قتل اردوان واستولى على السواد. لأعطاه بابا الطاعة بالشام، ودانت له سائر الملوك وقهرهم. ثم رجع إلى أمر العرب، وكانت بيوتهم على ريف العراق ينزلون الحيرة، وكانوا ثلاث فرق: الاولى تنوخ، ومنهم قضاعة الذين كنا قدمنا أنهم كانوا اقتتلوا مع منك من التبابعة وأتى بهم. وكانوا يسكنون بيوت الشعر والوبر، ويضعونها غربي الفرات بين الانبار والحيرة وما فوقها. فأنفوا من الاقامة في مملكة اردشير، وخرجوا إلى البرية. والثانية العباد الذين كانوا يسكنون الحيرة أو وطنوها. والثالثة الأحلاف الذين نزلوا بهم من غير نسبهم، ولم يكونوا من تنوخ الناكثين عن طاعة الفرس ولا من العباد الذين دانوا بهم فملك هؤلاء الأحلاف الحيرة والأنبار وكان منهم عمرو بن عدي وقومه فعمروا الحيرة والأنبار ونزلوا وخربوها، وكانتا من بناء العرب أيام بختنصر ثم عمرها بنو عمرو بن عدي لما أصاروها خزلا لملكهم إلى أنّ صبحهم الإسلام. واختط العرب الإسلاميون مدينة الكوفة فدثرت الحيرة وكان اردشير لما ملك أسرف في قمل الأشكانية حتى أفناهم لوصية جده، ووجد بقصر اردوان جارية استملحها، ودفعت عن نفسها القتل بانكار نسبها فيهم، فقالت: أنا مولاة وبكر، فواقعها وحملت، وظنت الأمن على نفسها فأخبرته بنسبها، فتنكر ودفعها إلى بعض مرازبته ليقتلها، فاسبقاها ذلك المرزبان، إلى أنّ شكا إليه أردشير قلة الولد والخوف على ملكه من الانقطاع، وندم على ما سلف منه من قتل الجارية وإتلاف الحمل. فأخبره بحياتها وأنها ولدت ولداً ذكراً وأنه سماه سابور، وأنه قد كملت خصاله وآدابه، فاستحضره أردشير واختبره فرضيه وعقد له التاج. ثم هلك أردشير فملك سابور من بعده، فأفاض العطاء في أهل الدولة، وتخير العمال، ثم شخص إلى خراسان فمهد أمورها، ثم رجع فشخص إلى نصيبين فملكها عنوة، فقتل وسبى وافتتح من الشام مدنا، وحاصر أنطاكية، وبها من الملوك اريانوس، فاقتحمها عليه وأسره وحمله إلى جنديسابور فحبسه بها إلى أنّ فاداه على أموال عظيمة، ويقال على بناء شاذروان تستر، ويقال جدع أنفه وأطلقه، ويقال: بل قتله. وكان بحبال تكريت لين دجلة والفرات، مدينة يقال لها الحضر، وبها ملك ص الجرامقة يقال له الساطرون من ملوك الطوائف وهو الذي يقول فيه الشاعر
# وأرى الموت قد تدلى من الحضر على رب أهله الساطرون
- ولقد كان آمنا للدواهي ذا ثراءٍ وجوهر مكنون
وقال المسعودي وهو الساطرون بن إستطرون من ملوك السريانيين. قال الطبري: وتسميه العرب الضيزن وقال هشام بن محمد الكلبي: من قضاعة وهو الضيزن بن معاوية بن العميد بن الأجذم بن عمرو بن النخع بن سليم، وسنذكر نسب سليم في قضاعة. وكاد بأرض الجزيرة وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى وكان ملكه قد بلغ الشام فخلف سابور في غزاته إلى خراسان، وعاث في أرض السواد، فشخص إليه سابور عند انقضاء غزاته حتى أناخ على حصنه وحاصره أربع سنين قال الأحمشى:
- ألم تر للحضر إذ أهله بنعمة وهل خالد من نعم
- أقام به سابور الجنود حولين يضرب فيه القمم
ثم أنّ ابنة ساطرون واسمها النضيرة خرجت إلى ربض المدينة، وكانت من أجملى النساء، وسابور كان جميلا، فأشرفت عليه، فشغفت به وشغف بها وداخلته في أمر الحصن ودلته على عورته فدخله عنوة، وقتل الضيزن وأباد قضاعة الذين كانوا معه، وأكثرهم بنو حلوان، فانقرضوا وخرب حصن الحضر. وتال عدي ابن زيد في رثائه:
# وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور # شاده مرمرا وجلله كلساً فللطير في ذراه وكور # لم يهبه ريح الفنون فبا د الملك عنه فبابه مهجور
ثم أعرس بالنضيرة بعين النمر وباتت ليلها تتضور في فراشها، وكان من الحرير محشوا بالقز والقسي، فإذا ورقة آس بينها وبين الفراش تؤذيها. فقال: ويحك! ما كان أبوك يغذيك؟ قالت الزبد والمح والشهد وصفو الخمر. فقال: وأبيك لأنا أحدث عهدا ويبعد ودا من أبيك الذي غذاك بمثل هدا. وأمر رجلاً ركب فرسا جموحاً وعصب غدائرها بذنبه، ولم يزل يركضه حتى تقطعت أوصالها. وعند ابن إسحق: أنّ الذي فتح حصن الحضر وخربه وقتل الساطرون هو سابور ذو الأكتاف. وقال السهيلي لا يمح: لأن الساطرون من ملوك الطوائف، والذي أزال ملكهم هو أردشير وابنه سابور، وسابور ذو الأكتاف بعدهم بكثير، وهو التاسع من ملوك اردشير. قال السهيلي. وأول من ملك الجرة من ملوك الساسانية سابور بن
أردشير. والحيرة وسط بلاد السواد وحاضرة العرب، ولم يكن لأحد قبله من آل ساسان حتى استقام العرب على طاعته. وولى عليهم عمرو بن عدي جد آل المنذر بعده، وأنزله الحيرة فجبى خراجهم وإتاوتهم واستبعدهم لسلطانه، وقبض أيديهم عن الفساد بأقطار ملكه، وما كانوا يرومونه بسواد العراق من نواحي مملكته، وولى بعده ابنه امرأ القيس بن عمرو بن عدي، وصار ذلك ملكا لآل المنذر بالحيرة توارثوه حسبما نذكر بعد.
وهلك سابور لثلاثين سنة من ملكه وولي بعده ابنه هرمز ويعرف بالبطل، فملك سنة واحدة، وولي بعده ابنه بهرام بن هرمز، وكان عامله على مذحج من ربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز امرو القيس بن عمرو بن عدي، وهو أول من تنضر من ملوك الحيرة وطال أمد ملكه. قال هشام بن الكلبي: ملك مائة وأربع عشرة سنة من لدن أيام سابور اهـ. وكان بهرام بن هرمز حليما وقورا، وأحسن السيرة واقتدى بآبائه. وكان ماني الثنوي الزنديق صاحب القول بالنور والظلمة قد ظهر في أيام جذه سابور، فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه. ولما ولي بهرام بن هرمز جمع الناس لامتحانه، فأشادوا بكفره وقتله وقالوا زنديق. قال المسعودي: ومعناه أنّ من عدل عن ظاهر إلى تأويله ينسبونه إلى تفسير كتاب زرادشت الذي قدمنا أنّ اسمه زنده فيقولون زنديهء، فعربته العرب فقالوا زنديق، ودخل فيه كل من خالف الظاهر إلى الباطن المنكر ثم اختص في عرف الشرع بمن يظهر الإسلام ويبطن الكفر. ثم هلك بهرام بن هرمز لثلاث سنين وثلاثة أشهر من دولته، وولي ابنه بهرام ثماني عشرة سنة، عكف أولها على اللذات، وامتدت أيدي بطانته إلى الرعايا بالجور والظلم فخربت الضياع والقرى، حتى نبهه الموبذان لذلك بمثل ضربه له، وذلك أنه سامره في ليلة فمر راجعا من الصيد، فسمعا بومين يتحدثان في خراب. فقال بهرام: ليت شعري هل أحد فهم لغات الطير؟ فقال له الموبذان: نعم إنا نعرف ذلك أيها الملك! وإنهما يتحاوران في عقد نكاح، وإن الانثى اشترطت عليه إقطاع عشرين ضيعة من الخراب، فقبل الذكر وقال: إذا دامت أيام بهرام أقطعتك ألفا. فتفطن بهرام لذلك وأفاق من غفلته، وأشرف على أحوال ملكه مباشرا بنفسه وقابضا أيدي البطانة عن الرعية وحسنت أيامه إلى أنّ هلك. وولي بعده بهرام بن بهرام بن بهرام، ثلاثة أسماء
متشابهة، وتقلب شاه وكان مملكا على سجستان، وهلك لأربع سنين من دولته، وملك بعده أخوه قرسين بن بهرام تسع سنين أخرى. وكان عادلا حسن السيرة، وملك بعده ابنه هرمز بن قرسين فوجل منه الناس لفظاظته. ثم أبدل من خلقه الشر بالخير، وسار فيهم بالعدل والرفق والعمارة، وهلك لسبع سنين من ولايته. وكان هؤلاء كلهم ينزلون جنديسابور من خراسان. ولما هلك ولم يترك ولدا شق ذلك على أهل مملكته لميلهم إليه، ووجدوا ببعض نسائه حملا فتوجوه وانتظروا إتمامه. وقيل بل كان هرمز أبوه أوصى بالملك لذلك الحمل فقام أهل الدولة بتدبير الملك ينتظرون تمام الولد.
وشاع في أطراف المملكة أنهم يتلومون صبيا في المهد، فطمع فيهم الترك والروم. وكانت بلاد العرب أدنى إلى بلادهم، وهم أحوج إلى تناول الحبوب من البلاد لحاجاتهم إليها، بما هم فيه من الشظف وسوء العيش. فسار منهم جمع من ناحية البحرين وبلاد القيس ووحاظة فأناخوا على بلاد فارس من ناحيتهم، وغلبوا أهلها على الماشية والحرث والمعايش، وأكثروا الفساد، ومكثوا في ذلك حينا ولم يغزهم أحد من فارس ولا دافعوهم لصغر الملك. حتى إذا كبر وعرضوا عليه ا أمور فأحسن فيها الفصل، وبلخ ستة عشر سنة من عمره، ثم أطاق حمل السلاح، نهض حينئذ للاستبداد بملكه.
وكان أول شيء ابتدأ به شان العرب، فجهز إليهم العساكر وعهد إليهم أنّ لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم. ثم شخص بنفسه إليهم وغزاهم وهم غازون ببلاد فارس فقتلهم أبرح القتل، وهربوا أيامه وأجاز البحر في طلبهم إلى الخط، وتعدى إلى بلاد البحرين قتلا وتخريبا. ثم غزا بعدها رووس العرب من تميم وبكر وعبد القيس فأثخن فيهم، وأباد عبد القيس ولحق ففهم بالرمال. ثم أتى اليمامة فقتل وأسر وخرب، ثم عطف إلى بلاد بكر ولغلب ما بين مملكه فارس ومناظر الروم بالشام، فقتل من وجد هنالك من العرب وطم مياههم، وأسكن من رجع إليه من بني تغلب دارين من البحرين والخط، ومن بني تميم هجروا من بكر بن وائل كرمان ويدعون بكر إياد، ومن بني حنظلة الاهواز. وبنى مدينة الانبار والكرخ والسوس.
وفيما قاله غيره أنّ إيادا كانت تشتو بالجزيرة وتصيف بالعراق وتشن الغارة. وكانت
تسمى طمّا لانطباقها على البلاد وسابور يومئذ صغير، حتى إذا بلغ القيام على ملكه شرع في غزوهم، ورئيسهم يومئذ الحرث بن الاغر الأيادي، وكتب إليهم بالنذر بذلك رجل من إياد كان بين ظهراني الفرس فلم يقبلوا، حتى واقعتهم العساكر فاستلحمهم، وخرجوا إلى أرض الجزيرة والموصل إجلاء ولم يعاودوا العراق. ولما كان الفتح طلبهم المسلمون بالجزية مع تغلب وغيرهم، فأنفوا ولحقوا بأرض الروم.
وقال السهيلي عند ذكر سابور بن هرمز: إنه كان يخلع أكتاف العرب، ولذلك لقبه العرب ذو الأكتاف، وإنه أخذ عمرو بن تميم بأرضهم بالبحرين وله يومئذ ثلثمائة سنة، وإنه قال إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أنّ لكم دولة. فقال له عمرو بن تميم: ليس هذا من الحزم أيها الملك! فإن يكن حقا فليس قتلك إياهم بدافعه وقد تكون قد اتخذت يدا عندهم ينتفع بها ولدك وأعقاب قومك، فيقال إنه استبقاه ورحم كبره. ثم غزا سابور بلاد الروم وتوغل فيها ونازل حصونهم. وكان ملوك الروم على عصره: قسطنطين وهو أول من تنصر من ملوكهم، وهلك قسطنطين وملك بعده إليانوس من أهل بيته وانحرف عن دين النصرانية وقتل الأساقفة وهدم البيع، وجمع الروم وانحدر لقتال سابور. واجتمعت العرب معهم لثأرهم عند سابور بمن قتل منهم، وسار قائد إليانوس واسمه يوسانوس في مائة وسبعين ألفا من المقاتلة حتى دخل أرض فارس، وبلغ خبره وكثرة جموعه إلى سابور فأحجم عن اللقاء، وأجفل وصبحه العرب ففضوا جموعه وهرب في فل من عسكره، واحتوى إليانوس على خزائنه وأمواله، واستولى على مدينة طبسون من مدائن ملكه. ثم استنفر أهل النواحي، واجتمعت إليه فارس وارتجع مدينة طبسون وأقاما متظاهرين. وهلك إليانوس بسهم أصابه، فبقي الروم فوضى وفزعوا إلى يوسانوس القائد أنّ تملكوه، فشرط عليهم الرجوع إلى دين النصرانية كما كان قسطنطين فقبلوا. وبعث إليه سابور في القدوم عليه، فسار إليه في ثمانين من أشراف الروم، وتلقاه سابور وعانقه وبالغ في إكرامه، وعقد معه الصلح على
أنّ يعطي الروم قيمة ما أفسدوه من بلاد فارس، وأعطوا بدلا عن ذلك نصيبين. فرضي بها أهل فارس. وكانت مما أخذه الروم من أيديهم فملكها سابور وشرد عنها أهلها خوفا من سطوته. فنقل إليها من أهل إصطخر وأصبهان وغيرهما.
وانصرف يوسانوس بالروم وهلك عن قريب، ورجع سابور إلى بلاده. وفيما نقله بعض الإخباريين أنّ سابور دخل بلاد الروم مكرا وعثر عليه. فاخذ وحبس في جلد ثور. وزحف ملك الروم بعساكره إلى جنديسابور، فحاصرها، وإن سابور هرب من حبسه ودخل جنديسابور المدينة، ثم خرج إلى الروم فهزمهم وأسر ملكهم قيصر، وأخذه بعمارة ما خرب من بلاده، ونقل التراب والغروس إليها، ثم قطع أنفه وبعث به على حمار إلى قومه. وهي قصة واهيه تشهد العادة بكذبها. ثم هلك سابور لاثنتين وسبعين سنة من ملكه وهو الذي بنى مدينة نيسابور وسجستان، وبنى الإيوان المشهور لمقعد ملوكهم. وملك لعهده امرو القيس بن غدي، وأوصى بالملك لأخيه أردشير بن هرمز، وفتك في أشراف فارس وعظمائهم، فخلعوه لأر بعين سنة من دولته وملكوا سابور بن ذي الأكتاف، فاستبشر الناس برجوع ملك أبيه إليه. وأحسن السيرة ورفق بالرعية، وحمل على ذلك العمال والوزراء والحاشية، ولم يزل عادلا، وخضع له عمه اردشير المخلوع، وكانت له حروب مع إياد وفي ذلك يقول شاعرهم:
- على رغم سابور بن سابور أصبحت قباب إياد حولها الخيل والنعم
وقيل أنّ هذا الشعر إنما قيل في طبور ذي الأكتاف. ثم هلك سابور لخمس سنين من دولته، وملك أخوه بهرام ويلقب كرمان شاه، وكان حسن السياسة، وهلك لإحدى عشرة سنة من دولته، رماه بعض الرماة بسهم في القتال فقتله، وملك بعده ابنه يزدجرد الأثيم. وبعض نسابة الفرس يقول إنه أخوه وليس ابنه، وإنما هو ابن ذي الأكتاف. وقال هشام بن محمد: كان فظا غليظا كثير المكر والخديعة، يفرغ في ذلك عقله وقوة معرفته، وكان معجبا برأيه سيء الخلق كثير الحدة يستعظم الزلة الصغيرة، ويرد الشفاعة من أهل بطانته متهما للناس قليل المكافأة. وبالجملة فهو سيئ الأحوال مذمومها. واستوزر لأول ولايته برسي الحكيم ويسمى فهربرشي ومهرمرسة، وكان ممقدما في الحكمة والفضائل. وأمل أهل المملكة ألط تهرب من يزدجرد الأثيم فلم يكن ذلك. واشتد أمره على الأشراف بالاهانة، وعلى من دونهم بالقتل. وبينما هو جالس في مجلسه يوما إذا بفرس عابو لم يطق أحذ إمساكه قد وقف ببابه، فقام إليه ليتولى إمساكه بنفسه، فرمحه فمات لوقته لإحدى وعشرين سنة من ملكه. وملك بعده ابنه بهرام بن يزدجرد ويلقب ببهرام جور، وكان نشووه ببلاد الجيرة مع العرب، أسلمه أبوه إليهم فربي بينهم وتكلم بلغمهم ولما
مات أبوه قدم أهل فارس رجلا من نسل أردشير، ثم زحف بهرام جوز بالعرب فاستولى على ملكه كما نذكر في أخبار آل المنذر. وفي أيام بهرام جور سار خاقان ملك الترك إلى بلاد الصغد من ممالكه فهزمه بهرام وقتله، ثم غزا الهند وتزوج ابنة ملكهم، فهابته ملوك الأرض، وحمل إليه الروم الأموال على سبيل المهادنة. وهلك لتسع وعشرين من دولته، وملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور واستوزر مهربرسي الحكيم الذي كان أبوه اسوزره، وجرى في ملكه بأحسن سيرة من العدل والإحسان. وهو الذي شرع في بناء الحائط بناحيه الباب الأبواب، وجعل جبل الفتح سدا بين بلاده وما وراءها من امم الأعاجم، وهلك لعشرين سنة من دولته. وملك من بعده ابنه هرمز، وكان ملكا على سجستان، فغلب على الدولة ولحق أخوه فيروز بملك الصغد بمرو الروذ. وهذه ا أمم هم المعروفون قديما بالهياطلة وكانوا بين خوارزم وفرغانة، فأمر فيروز بالعساكر وقاتل أخاه هرمز فغلبه وحبسه. وكانت الروم قد امتنعت عن حمل الخراج، فحمل إليهم العساكر مع وزيره مهربرسي، فأثخن في بلادهم حتى حملوا ما كانوا يحملونه، واستقام أمره وأظهر العدل. وأصابهم القحط في دولته سبع سنين، فأحسن تدبير الناس فيها، وكف عن الجباية وقسم الأموال، ولم يهلك في تلك السنين أحد اتلافاً. وقيل إنه استسقى لرعيته من ذلك القحط قسقوا، وعادت البلاد الى أحسن ما كانت عليه. وكان لأول ما ملك أحسن إلى الهياطلة جزاء بما أعانوه على أمره. فقوى ملكهم أمره. وزحفوا إلى أطراف ملكه وملكوا طخارستان وكثيراً من بلاد خراسان، وزحف هو إلى قتالهم فهزموه وقتلوه وأربعة بنين له وأربعة إخوة، واستولوا على خراسان بأسرها. وسار إليهم رجل من عظماء الفرس من أهل شيراز، فغلب على خراسان وأخرجهم منها حتى ألقوا بجميع ما أخذوه من عسكر فيروز من الأسرى والسبي. وكان مهلكه لسبع وعشرين من دولته. وبنى المدن بالري
وجرجان وأذربيجان.
وقال بعضهم: أنّ ملك الهياطلة الذي سار إلى فيروز اسمه خشتوا والرجل الذي استرجع خراسان من يده هو خرسوس من شمل منوشهر، وأن فيروز استخلفه لما سار إلى خشتوا والهياطلة على مدينتي الملك، وهما طبسون ونهرشير، فكان من أمره مع الهياطلة بعد فيروز ما تقدم. وملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه يلاوش ابن فيروز، ونازعه أخوه قباذ الملك، فغلبه يلاوش ولحق قباذ بخاقان ملك الترك يستنجده، وأحسن يلاوش الولاية والعدل، وحمل أهل المدن على عمارة ما خرب من مدنهم، وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن. وهلك لأربع سنين من دولته، وملك من بعده أخوه قباذ بن فيروز وكان قله سار بعساكر الترك أمده بها خاقان، فبلغه الخبر بمهلك أخيه وهو بنيسابور من طريقه، وقد لقي بها ابنا كان له هنالك حملت به أمه منه عند مروره ذلك إلى خاقان. فلما أحل بنيسابور ومعه العساكر، وسأل عن المرأة فأحضرت ومعها الخبر، وجاء الخبر هالك بمهلك أخيه يلأوش، فتيفن بالمولود وسار إلى سرحد الذي كان أبوه فيروز استخلفه على المدائن، ومال الناس إليه دون قباذ، واستبد عليه. فلما كبر وبلغ سن الاستبداد بأمره انف من استبداد سرحد عليه، فبعث إلى اصبهبذ البلاد وهو سابور مهران، فقدم عليه وقبض على سرحد وحبسه ثم قتله. ولعشرين من دولته حر وخلع، ثم عاد إلى الملك. وصورة الخبر عن ذلك أنّ مزدك الزنديق كان إباحيا، وكان يقول باستباحة أموال الناس وأنها فيء، وأنه ليس لأحد ملك شيء ولا حجره، والأشياء كلها ملك لله مشاع بين الناس، لا يختص به أحد دون أحد وهو لمن اختاره. فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد، واجتمع أهل الدولة فخلعوه وحبسوه، وملكوا جاماسات أخاه. وخرج رزمهر شاكيا داعيا لقباذ، ويقرب إلى الناس بقتل المزدكية وأعاد قباذ إلى ملكه، ثم سعت المزدكية عنده في رزمهر بانكار ما أتى قبلهم، فقبله واتهمه الناس برأي مزدك فانتقضت الأطراف وفسد الملك، وخلعوه وحبسوه وأعادوا جاماسات. وفر قباذ من محبسه، ولحق قباذ بالهياطله وهم الصغد مستجيشا لهم، ومر في طريقه بأبوشهر فتزوج بنت ملكها وولدت له انوشروان. ثم أمده ملك الهياطلة، فزحف إلى المدائن لست ممنين من مغيبه، وغلب أخاه جاماسات واستولى على الملك. ثم غزا بلاد الروم وفتح آمد وسبى أهلها وطالت مدته، وابتنى المدن العظيمة، منها مدينة اراجان بين الأهواز وفارس. ثم هلك لثلاث وأربعين سنة من ملكه في الكرة ا أولى. وملك ابنه انوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد، وكان يلي الاصبهبذ، وهي الرياسة على الجنود. ولما ملك فى ق اصبهبذ البلاد على أربعة: فجعل أصبهبذ المشرق بخراسان والمغرب بأذربيجان وبلاد الخزر، واسترد البلاد التي تغلب عليها جيران الأطراف من الملوك، مثل السند وبست الرخج وزابلستان وطخارستان ودهستان. وأثخن في امة البازر وأجلى بقيتهم. ثم أدهنوا واستعان بهم في حروبه. وأثخن في امة صول واستلحمهم، وكذلك الجرامقة وبلنجر واللان. وكانوا يجاورون ارمينية ويتما أون على كزوها، فبعث إليهم العساكر واستلحموهم، وأنزل بقيتهم أذربيجان.
وأحكم بناء الحصون التي كان بناها قباذ وفيروز بناحية صول واللان لتحصين البلاد، وأكمل بناء الأبواب والسور الذي بناه جذه بجبل الفتح، بنوه على الأزماق المنفوخة تغوص في الماء كلما ارتفع البناء، إلى أنّ استقرت بقعر البحر وشقت بالخناجر، فتمكن الحائط من الأرض ثم وصل السور في البر ما بين جبل الفتح والبحر. وفتحت فيه الأبواب، ثم وصلوه في شعاب الجبل، وبقي فيه إلى أنّ كمل. قال المسعودي: إنه كان باقيا لعصره، والظن أنّ التتر خربوه بعد، لما استولوا على ممالك الإسلام في المائة السابعة، ومكانه اليوم في مملكة بني ذو شيخان ملوك الشمال منهم. وكان لكسرى انوشروان في بنائه خبر مع ملوك الخزر. ثم استفحل ملك الترك وزحف خاقان سيحور وقتل ملك الهياطلة واستولى على بلادهم، وأطاعه أهل بلنجر وزحف إلى بلاد صول في عشرة آلاف مقاتل. وبعث إلى أنو شروان يطلب منه ما أعطاه أهل بلنجر فى الفداء، وضبط انو شروان أرمينية بالعساكر، وامتنعت صول بملكها أنو شروان، والناحية الأخرى بسور الأبواب، فرجع خاقان خائبا. وأخذ انو شروان في اصلاح السابلة والأخذ بالعدل، وتفقد أهل المملكة، وتخير الولاة والعمال، مقتدياً بسيره اردشير بن بابك جده. ثم سار إلى بلاد الروم، وافتتح حلب وقبرص وحمص وأنطاكية ومدينة هرقل ثم الإسكندرية، وضرب الجزية على ملوك القبط، وحمل إليه ملك الروم الفدية، وملك الصين والتبت الهدايا. ثم غزا بلاد الخزر وأدرك فسهم بثأره وما فعلوه ببلاده. ثم وفد عليه ابن ذي يزن من نسل الملوك التبابعة يستجيشه على الحبشة، فبعث معه قائداً من قواده في جند من الديلم، فقتلوا مسروقا املك الحبشة باليمن وملكوها. وملك عليهم سيف بن ذي يزن وأمره أنّ يبعث عساكره إلى الهند فبعث إلى سرنديب قائدا من قواده، فقتل ملكها واستولى عليها، وحمل إلى كسرى أموالا جمة. وملك على العرب في مدينة الحيرة، ثم سار نحو الهياطلة مطالبا بثار جذه فيروز، فقتل ملكهم واستأصل أهل بيته. وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل عساكره فرغانة وأثخن في بلاد الروم، وضرب عليهم الجزى وكان مكرما للعلماء محبا للعلم، وفي أيامه ترجم كتاب كليلة، وترجمه من لسان اليهود وحله بضرب الأمثال، ويحتاج إلى فهم دقيق. وعلى عهده ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتين وأربعين سنة من ملكه، وذلك عام الفيل. وكذلك ولد أبوه عبد الله ابن عبد المطلب لأربع وعشرين سنة من ملكه. قال الطبري: وفي أيامه رأى الموبذان الإبل الصعاب تقود الخيل العراب، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فأفزعه ذلك وقص الرؤيا على من يعبرها، فقال: حادث يكون من العرب. فكتب كسرى إلى النعمان أنّ يبعث إليه بمن يسأله عما يريده، فبعث إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حسان بن نفيلة الغساني وقص عليه الرؤيا، فدله على سطيح وقال له ائته أنت. فسار إليه وقص عليه الرؤيا، فأخبره بتأويلها، وأن ملك العرب سيظهر والقصة معروفة. وكان فيما قاله سطيح إنه يملك من آل كسرى أربعة عشر ملكا. فاستطال كسرى المدة، وملكوا كلهم في عشرين سنة أو نحوها. وبعث عامل اليمن وهرز بهدية وأموال وطرت من اليمن إلى كسرى، فأغار عليها بنو يربوع من تميم وأخذوها. وجاء أصحاب العير إلى هوذة بن علي ملك اليمامة من بني حنيفة، فسار معهم إلى كسرى فأكرمه، وتوجه بعقد من لؤلؤ، ومن ثم قيل له ذو التاج. وكتب إلى عامله بالبحرين في شانهم، وكان كثيرا ما يوقع ببني تميم ويقطعهم حتى سموه المكفر، فتحيل عليهم بالميرة ونادى مناديه في أحيائهم: أنّ الأمير يقسم فيكم بحصن المشعر ميرة، فتسايلوا إليه ودخلوا الحصن. فقتل الرجال وخصى
الصبيان. وجاءت هدية أخرى من اليمن على أرض الحجاز أجازها رجل من بني كنانة، فعدت عليه قيس وقتلوه وأخذوا الهدية، فنشأت الفتنة بين كنانة وقيس لأجل ذلك، وكانت بينهم حرب الفجار عشرين سنة، وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرا، كان ينبل على أعمامه. ثم هلك أنو شروان لثمان وأربعين من دولته وملك ابنه هرمز.
قال هشام: وكان عادلا حتى لقد أنصف من نفسه خصيا كان له وكانت له خؤولة في الترك، وكان مع ذلك يقتل الأشراف والعلماء. وزحف إليه ملك الترك شبابة في ثلثمائة ألف مقاتل، فسار هرمز إلى هراة وباذغيس لحربهم، وخالفه ملك الروم إلى ضواحي العراق، وملك الخزر إلى الباب الأبواب، وجموع العرب إلى شاطىء الفرات. فعاثوا في البلاد ونهبوا، واكتنفه الأعداء من كل جانب. وبعث قائده بهرام صاحب الري إلى لقاء الترك، وأقام هو بمكانه من خراسان بيت هراة وباذغيس. وقاتل بهرام الترك وقتل ملكهم شبابة بسهم أصابه، واستباح معسكره وأقام بمكانه. فزحف إليفه برمومة بن شبابة بالترك، فهزمه بهرام وحاصره في بعض الحصون حتى استسلم. وبعث به إلى هرمز أسيراً ، وبعث معه بالأموال والجواهر والأنية والسلاح وسائر الأمتعة. يقال في مائتين وخمسين ألفاً من الأحمال. فوقع ذلك من هرمز أحسن المواقف. وغص أهل الدولة ببهرام وفعله، فأكثروا فيه السعاية. وبلغ الخبو إلى بهرام فخشيه على نفسه. فداخل من كان معه من المرازبة وخلعوا هرمز ودعوا لابنه ابرويز، وداخلهم في ذلك أهل الدولة، فلحق أبرويز باذربيجان خائفا على نفسه، واجتمع إليه المرازبة والاصبهبذيون فملكوه. ووثب بالمدائن الأشراف والعظماء وتفدويه وبسطام خال ابرويز فخلعوا هرمز وحبسوه وتحرزوا من قتله. وأقبل أبرويز بمن معه إلى المدائن فاستولى على الملك، ثم نظر في أمر بهرام وتحرز منه وسار إليه، وتوافقا بشط النهروان ودعا أبرويز إلى الدخول فى أمره، ويشترط ما أحب فلم يقبل ذلك، وناجزه الحرب فهزمه. ثم عاود الحرب مرارا وأحس ابرويز بالقتل من أصحابه، فرجع إلى المدائن منهزما، وعرض على النعمان أنّ يركبه فرسه فنجا عليها. وكان أبوه محبوساً بطبسون فاخبر الشبر وشاوره، فأشار عليه بقصد مريق ملك الروم يستجيشه، فمضى لذلك ونزل المدائن لاثنتي عشرة سنة من ملكه.
وفي بعض طرق هذا الخبر أنّ أبرويز لما استوحش من أبيه هرمز لحق باذربيجان واجتمع عليه مع من اجتمع ولم يحدث شيئا. وبعث هرمز لمحاربة بهرام قائدا من مرازبته فانهزم وقتل، ورجع فلهم إلى المدائن وبهرام في اتباعهم. واضطرب هرمز وكتبت إليه أخت المرزبان المهزوم من بهرام تستحثه للفلك. فسار إلى المدائن وملك، وأتاه أبوه فتواضع له أبرويز وتبرأ له من فعل الناس، وأنه إنما حمله على ذلك الخوف. وسأله أنّ ينتقم له ممن فعل به ذلك، وأن يؤنسه بثلاثة من أهل النسب والحكمة يحادثهم في كل يوم، فأجابه واستأذنه في قتل بهرام جوبين، فأشار به. وأقبل بهرام حثيثا وبعث خاليه نفدويه وبسطام يستدعيانه للطاعة، فرد أسوأ رد وقاتل أبرويز واشتدت الحرب
لما رأى ابرويز فشل أصحابه شاور أباه ولحق بملك الروم، وقال له خالاه عند فصولهم من المدائن: نخشى أنّ يدخل بهرام المدائن ويملك أباك ويبعث فينا إلى ملك الروم. وانطلقوا إلى المدائن فقتلوا فرمز، ثم ساروا مع ابرويز وقطعوا الفرات، واتبعتهم عساكر بهرام وقد وصلوا إلى تخوم الروم وقاتلوهم، وأسروا نفدويه خال أبرويز ورجعوا عنهم. ولحق ابرويز ومن معه بانطاكية وبعث إلى قيصر موريق يستنجده، فأجابه وأكرمه وزوجه ابنته مريم، وبعث إليه أخاه بناطوس بستين ألف مقاتل وقائدهم، واشترط عليه الأتاوة إلي كان الروم يحملونها. فقبل وسار بالعساكر إلى اذربيجان ووافاه هنالك خاله نفدويه هاربا من الأسر الذي كانوا أسروه،
ثم بعث العساكر من أذربيجان مع أصبهبذ الناحية، فانهزم بهرام جوبين ولحق بالترك، وسار أبرويز إلى المدائن فدخلها وفرق في الروم عشرين ألف ألف دينار، وأطلقهم إلى قيصر. وأقام بهرام عند ملك الترك وصانع ابرويز عليه ملك الترك وزوجته، حتى دست عليه من قتله. واغتم لذلك ملك الترك وطلقها من أجله. وبعث إلى أخت بهرام أنّ يتزوجها فامتنعت، ثم أخذ أبرويز في مهاداة قيصر موريق والطافه، وخلعه الروم وقتلوه وملكوا عليهم ملكا اسمه قوفا قيصر، ولحق ابنه بأبرويز فبعث العساكر على ثلاثة من القواد، وسار أحدهم ودوخوا الشام إلى فلسطين. ووصلوا إلى بيت المقدس فأخذوا اساقفتها ومن كان بها من الاقسة وطالبوهم بخشبة الصليمب، فاستخرجوها من الدفن وبعثوا بها إلى كسرى.
وسار منهم قائد اخر إلى مصر وإسكندرية وبلاد النوبة فملكوا ذلك كله. وقصد الثالث قسطنطينية وخيم على الخليج، وعاث في ممالك الروم،
ولم يجب أحد إلى طاعة ابن موريق. وقتل الروم قوفا الذي كانوا ملكوه لما ظهر من فجوره، وملكوا عليهم هرقل. فافتتح أمره بغزو بلاد كسرى، وبلغ نصيبين، فبعث كسرى قائدا من أساورته فبلغ صل وأقام عليها يمنع الروم المجاوزه. وجاز هرقل من مكان آخر إلى جند فارس، فأمر كسرى قائده بقتاله، فانهزم وقتل وظفر هرقل بحصن كسرى وبالمدائن. ووصل هرقل قريبا منها، ثم رجع. وأولع كسرى العقوبة بالجند المنهزمين، وكتب إلى سخراب بالقدوم من خراسان وبعثه بالعساكر، وبعث هرقل عساكره والتقيا بأذرعات وبصرى فغلبتهم عساكر فارس. وسار سخراب في أرض الروم يخرب ويقتل ويسبي حتى بلغ القسطنطينية ورجع، وعزله ابرويز عن خراسان وولى أخاه. وفي مناوبة هذا الغلب بين وارس والروم نزلت الآيات من أول سورة الروم.
قال الطبري: وأدنى الأرض التي أشارت إليها الآية هي أذرعات وبصرى التي كانت بها هذه الحروب. ثم غلبت الروم لسبع سنين من ذلك العهد، واخبر المسلمون بذلك الوعد الكريم لما أهمهم من غلب فارس الروم لأن قريشا كانوا يتشيعون لفارس لأنهم غير دائنين بكتاب، والمسلمون يودون غلب الروم لأنهم أهل كتاب. وفي كتب التفسير بسط ما وقع في ذلك بينهم وابرويز هذا هو الذي قتل النعمان بن المنذر ملك العرب، وعامله على الحيرة سخطه بسعاية عدي بن زيد العبادي وزير النعمان، وكان قد قتل أباه وبعثه إلى كسرى ليكون عنده ترجمانا للعرب، كما كان أبوه قد فعل بسعايته في النعمان وحمله على أنّ يخطب إليه ابنته. وبعث إليه رسوله بذلك عدي بن زيد فترجم له عنه في ذلك مقابلة قبيحة أحفظت كسرى ابرويز مع ما كان تقدم له في منعه الفرس يوم بهرام كما تقدم. فاستدعاه ابرويز وحسبه بساباط، ثم أمر به فطرح للفيلة وولى على العرب بعده أياس بن قبيصة الطائي جزاء بولاء ابن عمه حسان يوم بهرام كما تقدّم.
ثم كان على عهده وقعة ذي قار لبكر بن وائل ومن معهم من عبس وتميم على الباهوت مسلحة كسرى بالحيرة ومن معه من طيء. وكان سببها أنّ النعمان بن المنذر أودع سلاحه عند هانىء بن مسعود الشيبانى، وكانت شكة ألف فارس، وطلبها كسرى منه فأبى إلا أنّ يردها إلى بيته، فآذنه كسرى بالحرب وآذنوه بها. وبعث كسرى إلى أياس أنّ يزحف إليه بالمسالح التي كانت ببلاد العرب بأن يوافوا أياسا واقتتلوا بذي قار، وانهزمت الفرس ومن معهم. وفيها قال النبيصلى الله عليه وسلم: اليوم انتصف العرب من العجم وبي نصروا، أوحى إليه بذلك أو نفث في روعه. قيل أنّ ذلك كان بمكة وقيل بالمدينة بعد وقعة بدر بأشهر. وفي أيام أبرويز كانت البعثة لعشرين من ملكه وقل لاثنتين وثلاثين حكاه الطبري. وبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوه إلى الإسلام كما تقدم في أخبار اليمن، وكما يأتي في أخبار الهجرة. ولما طال ملك ابرويز بطر واشر وخسر الناس في أموالهم، وولى عليهم الظلمة وضيق عليهم المعاش وبغض عليهم فلكه.
وقال هشام: جمع أبرويز من المال ما لم يجمعه أحد، وبلغت عساكره القسطنطينية وافريقية وكان يشتو بالمدائن ويصيف بهمدان، وكان له اثنتا عشرة ألف امرأة، وألف فيل، وخمسون ألف دابة. وبنى بيوت النيران، وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ، وأحصى جبايته لثمان عشر سنة من ملكه، فكان أربعمائة ألف ألف مكررة مرتين وعشرون ألف ألف مثلها، فحمل إلى بيت المال بمدينة طبسون، وكانت هنالك أموال أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد، منها اثنا عشر ألف بدرة، في كل بدرة من الورق مصارفة أربعة آلاف مثقال، فتكون جملتها ثمانية وأربعين ألف ألف مثقال مكررة مرتين، في صنوف من الجواهر والطيوب والأمتعة والآنية لا يحصيها إلا الله تعالى. ثم بلغ من عتوه واستخفافه بالناس أنه أمر بقتل المقيدين في سجونه، وكانوا ستة وثلاثين ألفا فنقم ذلك عليه أهل الدولة، وأطلقوا ابنه شيرويه واسمه قئاذ، وكان محبوسا مع أولاده كلهم، لإنذار بعض المنجمين له بأن بعض ولده يغتاله، فحبسهم. وأطلق أهل الدولة شيرويه وجمعوا إليه المقيدين الذين أمر بقتلهم، ونهض إلى قصور الملك بمدينة نهشير فملكها، وحبس أبرويز وبعث إلى ابنه شيرويه يعنفه. فمل يرض ذلك أهل الدولة وحملوه على قتله. وقتل لثمان وثلاثين سنة من ملكه وجاءته أختاه بوران وازرميدخت فأسمعتاه وأغلظتا له فيما فعل، فبكى
ورمى التاج عن رأسه، وهلك لثمانية أشهر من مقتل أبيه في طاعون هلك فيه نصف الناس أو ثلثهم. وكان مهلكه لسبع من الهجرة فيما قال السهيلي. ثم ولي ملك الفرس من بعده ابنه اردشير طفلا ابن سبع سنين لم يجدوا من بيت الملك سواه، لأن أبرويز كان قتل المرشحين كلهم من بنيه وبني أبيه، فملك عظماء فارس هذا الطفل أردشير، وكفله بهادرخشنش صاحب المائدة في الدولة، فأحسن سياسة ملكه وكان شهريران بتخوم الروم في جند ضمهم إليه ابرويز وحموهم هنالك، وصاحب الشورى في دولتهم، ولما لم يشاوروه في ذلك غضب وبسط يده في القتل، وطمع في الملك وأطاعه من كان معه من العساكر وأقبل إلى المدائن.
وتحضن بهادرخشنش بمدينة طبسون دار الملك، ونقل إليها الأموال والذخائر وأبناء الملوك، وحاصرها شهريران فامتنعت، ثم داخل بعض العسس ففتحوا له الباب، فاقتحمها وقتل العظماء، واستصفى الأموال وفضح النساء. وبعث إلى اردشير الطفل الملك من قتله لسنة ونصف مر ملكه. وملك شهريران على التخت، ولم يكن من بيت الملك، وامتعض لقحل اردشير جماعة من عظماء الدولة وفيهم زادان فروخ وشهريران ووهب مؤدب الاساورة، وأجمعوا على قتل شهريران. وداخلوا في ذلك بعض حرس الملك، فتعاقدوا على قتله. وكانوا يعملون قدام الملك في الأيام والمشاهد سماطيين، ومر بهم شهريران بعض أيام بين السماطين وهم مسلحون، فلما حاذاهم طعنوه فقتلوه. وقتلوا العظماء بعد قتل اردشير الطفل، ثم ملكوا بوران بنت ابرويز، ودفعت أمر الدولة إلى قبائل شهريران من حرس الملك وهو فروخ بن ماخدرشيراز من أهل إصطخر، ورفعت رتبتة، وأسقطت الخراج عن الناس، وأمرت برم القناطر والجسور وضرب الورق، وردت خشبة الصليب على الجاثيليق ملك الروم، وهلكت لسنة وأربعة أشهر. وملكوا بعدها خشنشده من عمومة ابرويز عشرين يوما، فملك أقل من شهر. ثم مك. ازرميدخت بنت ابرويز، وكانت من اجل نسائهم. وكان عظيم فارس يومئذ فروخ هرمز اصبهبذ خراسان، فأرسل إليها في التزويج، فقالت هو حرام على الملكة، ودعته ليلة كذا فجاء، وقد عهدت إلى صاحب حرسها أنّ يقتله ففعل، فأصبح بدار الملك قتيلا واخفي أثره. وكان لما سار إلى ازرميدخت استخلف خراسان ابنه رستم. فلما سمع بخبر أبيه
أقبل في جند عظيم حتى نزل المدائن وملكها، وسمل أزرميدخت وقتلها، وقيل سمها فماتت، وذلك لستة أشهر من ملكها. وملكوا بعدها رجلا من نسل أردشير بن بابك، وقتل لأيام قلائل. وقيل بل هو من ولد ابرويز اسمه فروخ زاذ بن خسرو، وجدوه بحصن الحجارة قريب نصيبين فجاووا به إلى المدائن وملكوه، ثم عصوا عليه فقتلوه.
وقيل لما قتل كسرى ابن مهرخشنش طلب عظماء فارس من يولونه الملك ولو من قبل النساء، فأتي برجل وجد بميسان اسمه فيروز بن مهرخشنش وتسمى أيضا خشنشدة، أمه صهار بخت بنت يرادقرار بن انو شروان فملكوه كرها، ثم قتلوه بعد أيام قلائل. ثم شخص رجل من عظماء الموالي وهو رئيس الخول إلى ناحية الغرب، فاستخرج من حصن الحجارة قرب نصيين ابنا لكرى كان لجأ إلى طبسون فملكوه، ثم خلعوه وقتلوه لستة أشهر من ملكه. وقال بعضهم: كان أهل إصطخر قد ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز، فلما بلغهم أنّ أهل المدائن عصوا على خسرو فروخ زاذ، أتوا بيزدجرد من بيت النار الذي عندهم ويدعى اردشير فملكوه باصطخر وأقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا فروخ زاذ خسرو لسنة من ملكه. واستقل يزدجرد بالملك. وكان أعظم وزرائه رئيس الموالي الذي جاء بفرخزاد خسرو من حصن الحجارة، وضعفت مملكة فارس وتغلب الأعداء على الأطراف من كل جانب. فزحف إليهم العرب المسلمون بعد سنتين من ملكه، وقيل بعد أربع. فكانت أخبار دولته كلها هي أخبار الفتح نذكرها هنالك، إلى أنّ قتل بمرو بعد نيف وعشرين سنة من ملكه. هذه هي سياقة الخبر عن دولة هؤلاء الأكاسرة الساسانية عند الطبري. ثم قال اخرها: فجميع سني العالم من آدم إلى الهجرة على ما يزعمه اليهود أربعة آلاف سنة وستمائة واثنان وأربعون سنة، وعلى ما يدعيه النصارى في توراة اليونانيين ستة آلاف سنة غير ثمان سنين، وعلى ما يقوله الفرس إلى مقتل يزدجرد أربعة آلاف ومائة وثمانون سنة، ومقتل يزدجرد عندهم لثلاثين من الهجرة. وأما عند أهل الإسلام فبين آدم ونوح عشرة ترون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم كذلك، وبين إبراهيم وموسى كذلك. ونقله الطبري عن ابن عباس وعن محمد بن عمرو بن واقد الإسلامي عن جماعة من أهل العلم. وقال أنّ الفترة بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة، ورواه عن سلمان الفارسي وكعب الأحبار والله أعلم بالحق في ذلك والبقاء لله الواحد القهار.
خريطة
دولة اليونان والروم
الخبر عن دولة يونان والروم و أنسابهم ومصايرهم كان هؤلاء الأمم من أعظم امم العالم وأوسعهم فلكا وسلطانا، وكانت لهم الدولتان العظيمتان للإسكندر والقياصرة من بعده، الذين صبحهم الإسلام وهم ملوك بالشام. ونسبهم جميعا إلى يافث باتفاق من المحققين، إلا ما ينقل عن الكندي في نسب يونان إلى عابر بن فالغ، وأنه خرج من اليمن بأهله وولده مغاضباً لأخيه قحطان، فنزل ما بين الأفرنجة والروم، فاختلط نسبه بهم، وقد رد عليه أبو العباس الناشىء في ذلك بقول:
- تخلط يونان بقحطان ضلة لعمري لقد باعدت بينهما جداً
ولذلك يقال أنّ الإسكندر من تبعٍ وليس شيء من ذلك بصحيح، وإنما الصحيح نسبهم إلى يافث. ثم أنّ المحققين ينسبون الروم جميعا إلى يونان، الاغريقيون منهم واللطينيون. ويونان معدود في التوراة من ولد يافث لصلبه، واسمه فيها يافان، بفاء تقرب من الواو فعربته العرب إلى يونان. وأما هروشيوش فجعل الغريقيين خمس طوائف منتسبين إلى خمسة من أبناء يونان ، وهم: كيتم وحجيلة وترشوش وددانم وإيشاي. وجعل من شعوب إيشاي سجينية وأثناش وشمالا وطشال ولجدمون. ونسب الروم اللطينيين فيهم ولم يعين نسبهم في أحد من الخمسة، ونسب الافرنج إلى غطرما بن عومر بن يافث. وقال: أنّ الصقالية إخوانهم في نسبه. وقال: أنّ الملك كان في هذه الطوائف لبني أشكال بن غومر والملوك منهم، هؤلاء الغريقيون قبل يونان وغيرهم.
ونسب القوط إلى ماداي بن يافث وجعل من إخوانهم الأرمن. ثم نسب القوط مرة أخرى إلى ماغوغ بن يافث وجعل اللطينيين من إخوانهم في ذلك النسب. ونسب القاللين منهم إلى رفنا بن غومار. ونسب إلى طوبال بن يافث الاندلس والإيطاليين والاركاديين. ونسب إلى طبراش بن يافث أجناس الترك واسم الغريقيين عنده يشمل أبناء يونان كلهم كما ذكره. وينوع الروم إلى الغريقيين واللطينيين. وقال ابن سعيد فيما نقله من تواريخ المشرق عن البيهقي وغيره: أنّ يونان هو ابن علجان بن يافث قال: ولذلك يقال لهم العلوج، ويشركهم في هذا النسب سائر أهل الشمال من غير الترك. وإن الشعوب الثلاثة من ولد يونان: فالاغريقيون من ولد أغريقش بن يونان، والروم من ولد رومي بن يومان، واللطينيون من ولد لطين بن يونان وإن الإسكندر من الروم منهم، والله أعلم. ونحن الآن نذكر أخبار الدولتين الشهيرتين منهم مبلغ علمنا، والله الموفق للصواب سبحانه وتعالى.
خريطة
الخبر عن دولة يونان والاسكندر منهم وما كان لهم
من الملك والسلطان إلي انقراض أمرهم هؤلاء اليونانيون المتشعبون إلى الغريقيين واللطينيين كما قلناه، اختصوا بسكنى الناحية الشمالية من المعمور مع إخوانهم من سائر بني يافث كلهم كالصقالبة والترك والافرنجة من ورائهم، وغيرهم من شعوب يافث. ولهم منها الوسط ما بين جزيرة الأندلس إلى بلاد الترك بالمشرق طولا، وما بين البحر المحيط والبحر الرومي عرضا فمواطن اللطينيين منهم في الجانب الغربي، ومواطن الغريقيين منهم في الجانب الشرقي والبحر بينهما خليج القسطنطينية. وكان لكل واحد من شعبي الغريقيين واللطينيين منهم دولة عظيمة مشهورة في العالم، واختص الغريقيون باسم اليونانيين، وكان منهم الاسكندر المشهور الذكر أحد ملوك العالم، وكانت ديارهم كما قلناه بالناحية الشرقية من خليج القسطنطينية بين بلاد الترك ودروب الشام. ثم استولى على ما وراء ذلك من بلاد الترك والعراق والهند، ثم جال أرمينية وما وراءها من بلاد الشام وبلاد مقدونية ومصر والإسكندرية، وكان ملوكهم يعرفون بملوك مقدونية. وذكر هروشيوش مؤرخ الروم من شعوب هؤلاء الغريقيين نحو لجدمون. وبنو أنتناش. قال: وإليهم ينسب الحكماء الانتاشيون وهم ينسبون لمدينتهم اجدة انتاش. قال: ومن شعوبهم أيضا بنو طمان ولجدمون كلهم بنو شمالا بن إيشاي وقال في موضع آخر: لجدمون أخو شمالا. وكانت شعوب هذه الأمة قبل الفرس والقبط وبني إسرائيل متفرقة بافتراق شعوبها، وكان بينهم وبين إخوانهم اللطينيين فتن وحروب. ولما استفحل ملك فارس لعهد الكينية أرادوهم على الطاعة لهم، فامتنعوا وغزتهم فارس، فاستصرخوا عليهم بالقبط فسالموهم إلى محاربة الغريقيين، حتى أذلوهم وأخذوا الجزى منهم، وولوا عليهم، ويقال أنّ أفريدون ولى عليهم ابنه. وأن جذه الاسكندر لأبيه من أعقابه. ويقال: أنّ بختنصر لما ملك مصر والمغرب أنفوه بالطاعة، وكانوا يحملون خراجهم إلى ملك فارس عددا من كرات الذهب أمثال البيض ضريبة معلومة عليهم في كل سنة. ولما فرغوا
من شان أهل فارس وأنفوا ملكهم بالجزى والطاعة صرفوا وجوههم إلى حرب اللطينيين، ثم استفحل أمر الإيشائيين من الغريقيين ولم يكن قوامهم إلا الجرمونيون فغلبوهم وغلبوا بعدهم اللطينيين والفرناسيين والأركاديين. واجتمع إليهم سائر شعوب
الغريقيين واعتز سلطانهم وصار لهم الملك والدولة. وقال ابن سعيد: أنّ الملك استقر بعد يونان في ابنه أغريقش في الجانب الشرقي من خليج قسطنطينية وتوالى الملك في ولده وقهروا اللطينيين والروم ودال ملكهم في ارمينية، وكان من أعظمهم هرقل الجبار بن ملكان بن سلقوس بن اغريقش. يقال: إنه ضرب الأتاوة على الأقاليم السبعة، وملك بعده ابنه يلاق، وإليه تنسب ا أمة اليلاقية، وهي الان باقية على بحر سودان. واتصل الملك في عقب يلاق إلى أنّ ظهر إخوانهم الروم واستبدوا بالملك. وكان أولهم هردوس بن منطرون بن رومي ابن يونان. فملك ا أمم الثلاثة، وصار اسمه لقبا لكل من ملك بعده. وسمت به يهود الشام كل من قام بأمرها منهم. ثم ملك بعده ابنه هرمس. فكانت له حروب مع الفرس إلى أنّ قهروه وضربوا عليه الأتاوة، فاضطرب حينئذ أمر اليونانيين وصاروا دولا وممالك. وانفرد الاغريقيون برئيس لهم، وصنع مثل ذلك اللطينيون، إلا أنّ اللقب بملك الملوك كان لملك الروم. ثم ملك بعده ابنه مطريوش فحمل الأتاوة لملك الفرس، لاشتغاله بحرب اللطينيين والاغريقيين. وملك بعده ابنه فيلفوش، وكانت أمه من ولد افريدون الذي ملكه أبوه على اليونان فظهر، وهدم مدينة اغريقية، وبنى مدينة مقدونية في وسط الممالك بالجانب الغربي من الخليج. وكان محبا للحكمة، فلذلك كثر الحكماء في دولته. ثم ملك من بعده ابنه الإسكندر وكان معلمه من الحكماء ارسطو. وقال هروشيوش: أنّ أباه فيلفوش إنما ملك بعد الاسكندر ابن تراوش، أحد ملوكهم العظماء. وكان فيلفوش صهرا له على اخته لينبادة بنت تراوش، وكان له منها الاسكندر الأعظم. قال وكان ملك الاسكندر بن تراوش لعهد أربعة آلاف وثمانمائة من عهد الخليقة، ولعهد أربعمائة أو نحوها من بحاء رومة- وهلك وهو محاصر لرومة، قتله اللطينيون عليها لسجع شين من دولته. فولي أمر الغريقيين والروم من بعده صهره على اخته لينبادة فيلفوش بن آمنتة بن هركلش. واختلفوا عليه فافترق أمرهم وحاربهم إلى أنّ انقادوا وغلبهم على سائر أوطانهم، وأراد بناء القسطنطينية فمنعه الجرمانيون بما كانت لهم فقاتلهم حتى استلحمهم، واجتمع إليه سائر الروم والغريقيين من بني يونان. وملك ما بين المانية وجبال أرمينية. وكان الفرس لذلك العهد قد استولوا على الشام ومصر، فاعتزم فيلفوش على غزو الشام، فاغتاله في طريقه بعض اللطينيين وقتله بثار كان له عنده. وولي من بعده ابنه الاسكندر، فاستمر على مطالبة بلاد الشام، وبعث إليه ملوك فارس في الخراج على الرسم الذي كان لعهد أبيه فيلفوش فبعث إليه الاسكندر إني قد. ذبحت تلك الدجاجة التي. كانت تبيض الذهب وأكلتها. ثم زحف إلى بلاد الشام واستولى عليها، وفتح بيت المقدس وقرب فيه القربان، وذلك لعهد مائتين وخمسين من فتح بختنصر إياها. وامتعض أهل فارس لانتزاعه إياها من ملكتهم، فزحف إليه دارا في ستين ألفا من الفرس، ولقيه الاسكندر في ستمائة ألف من قومه، فغلبهم وفتح كثيرا من مدن الشام، ورجع إلى طرسوس فزحف إليه دارا ولقيه عليها، فهزمه الاسكندر وافتتح طرسوس ومضى، وبنى الإسكندرية. ثم تزاحف مع دارا وهزمه وقتله، وتخطى إلى فارس فملك بلادها، وهدم مدينة الملك بها وسبى أهلها، وأشار عليه معلمه ارسطو بأن يجعل الملك في أسافلهم لتتفرق كلمتهم، ويخلص إليه أمرهم. فكاتب الاسكندر ملوك كل ناحية من الفرس والنبط والعرب، ومفك على كل ناحية وتوجه، فصاروا طوائف في ملكهم. واستبد كل واحد منهم بجهة كان ملكها لعقبه. ومعلمه أرسطو هذا من اليونانيين، وكان مسكنه أثينا، وكان كبير حكماء الخليقة غير منازع. أخذ الحكمة عن أفلاطون اليوناني. كان يعلم الحكمة وهو ماش تحت الرواق المظلل له من حر الشمس، فسمى تلاميذه بالمشائين، وأخذ أفلاطون عن سقراط، ويعرف بسقراط الدن بسكناه في دن من الخزف اتخذه لرهبانيته وقتله قومه أهل يونان مسموماً لما نهاهم عن عبادة الأوثان. وكان هو أخذ الحكمة عن فيثاغورس منهم. ويقال: أنّ فيثاغورس أخذ عن تاليس حكيم ملطية، وأخذ تاليس عن لقمان. ومن حكماء اليونانيين دميقراطيس وانكسيثاغورس، كان مع حكمته مبرزا في علم الطب، وبعث فيه بهمن ملك الفرس إلى ملك يونان، فامتنع من إيفاده عليه ضنانة به.وكان من تلامذته جالينوس لعهد عيسى عليه السلام، ومات بصقلية ودفن بها.
ولما استولى الإسكندر على بلاد فارس تخطاها إلى بلاد السند فملكها وبنى بها مدينة سماها الاسكندرية. ثم زحف إلى بلاد الهند فغلب على أكثرها وحاربه فور ملك الهند فانهزم، وأخذه الاسكندر أسيرا بعد حروب طويلة، وغلب على جميع طوائف الهنود،
وملك بلاد الصين والسند، وذللت إليه الملوك، وحملت إليه الهدايا والخراج من كل ناحية، وراسله ملوك الأرض من افريقية والمغرب، والإفرنجة والصقالبة والسودان. ثم ملك بلاد خراسان والترك، واختط مدينة الإسكندرية عند مصب النيل في البحر الرومي، واستولى على الملوك. يقال على خمسة وثلاثين ملكا، وعاد إلى بابل فمات بها. يقال مسموما سمه عامله على مقدونية لأن أمه شكته إلى الاسكندر، فتوعده فأهدى له سما وتناوله، فمات لاثنتين وأربعين سنة من عمره، بعد أنّ ملك اثنتي عشرة سنة: سبعا منها قبل مقتل دارا وخمسا بعده. قال الطبري: ولما مات عرض الملك على ابنه اسكندروس فاختار الرهبانية، فملك يونان عليهم لوغوس من بيت الملك ولقبه بطليموس.
قال المسعودي: ثم صارت هذه التسمية لكل من يملك منهم، ومدينتهم مقدونية وينزلون الإسكندرية. وهلك منهم أربعة عشر ملكا في ثلثمائة سنة. وقال ابن العميد: كان قسم الملك في حياته بين أربعة من أمرائه: بطليموس فلدلفوس كان على الاسكندرية ومصر والمغرب، وفيلفوس بمقدونية وما إليها من ممالك الروم، وهو الذي سم الاسكندر، ودمطرس بالشام، وسلقوس بفارس والمشرق. فلما مات استبد كل واحد بناحيته. وكتب ارسطو شرح كتاب هرمس وترجمه من اللسان المصري إلى اليوناني، وشرح ما فيه من العلوم والحكمة والطلسمات. وكتاب الاسطفاخيس يحتوي على عبادة الأول، وذكر فيه أنّ أهل الأقاليم السبعة كانوا يعبدون الكواكب السيارة، كل إقليم لكوكب، ويسجدون له ويبخرون ويقربون ويذبحون. وروحانية ذلك الكوكب تدبرهم بزعمهم. وكتاب الإستماطيس يحتوي على فتح المدن والحصون بالطلسمات والحكم، ومنها طلسمات لإنزال المطر وجلب المياه وكتب الأشطرطاش في الاختبارات على سرى القمر في المنازل والاتصالات. وكتب أخرى في منافع
وخواص الأعضاء الحيوانيات والأحجار والأشجار والحشائش. وقال هروشيوش: أنّ الذي ملك بعد الإسكندر صاحب عسكره بطليموس بن لاوي فقام بأمرهم ونزل الاسكندرية واتخذها دارا لملكهم. ونهض كلمنس بن الاسكندر، وأمه بنت دارا، ولينبادة أم الاسكندر، وساروا إلى صاحب أنطاكية واسمه فمشاندر فقتلهم. واختلف الغريقيون على بطليموس، وافترق أمره وحارب كل واحد منهم ناحيته إلى أنّ غلبهم جميعا واستقام أمره. ثم زحف إلى فلسطين وتغلب على اليهود وأثخن فيهم بالقتل والسبي والأسر. ونقل رؤساءهم إلى مصر. ثم هلك لأربعين سنة من ملكه وولي بعده ابنه فلديغيش، وأطلق أسرى اليهود من مصر، ورد الأواني إلى البيت وحباهم بآنية من الذهب، وأمرهم بتعليقها في مسجد القدس، وجمع سبعين من أحبار اليهود ترجموا له التوراة من اللسان العبراني إلى اللسان الرومي واللطيني. ثم هلك فلديغيش لثمان وثلاثين سنة من ملكه، وولي بعده ابنه انطريس، ويلقب أيضا بطليموس لقبهم المخصوص بهم إلى آخر دولتهم. فانعقدت السلم بينه وبين أهل أفريقية على مدعيون ملك قرطاجنة ووفد عليه وعقد معه الصلح عن قومه. وزحف قواد رومة إلى الغريقيين ونالوا منهم.
ثم هلك أنطريس لست وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده أخوه فلوباذي، فزحف إليه قواد رومة فهزمهم وجال في ممالكهم. ثم كانت حروبه معهم بعدها سجالا. وزحف إلى اليهود فملك الشام عليهم، وولى الولاة من قبله فيهم، وأثخن بالقتل والسبي فيهم. يقال إنه قتل منهم نحوا من ستين ألفا. وهلك لسبع عشرة سنة من ملكه وولي بعده ابنه إيفانش، وعلى عهده كانت فتنة أهل رومة وأهل أفريقية التي اتصلت نحوا من عشرين سنة. وافتتح أهل رومة صقلية وأجاز قوادهم إلى أفريقية وافتتحوا قرطاجنة كما نذكر في أخبارهم. وهلك إيفانش لأربع وعشرين سنة من دولته. وولي بعده بالاسكندرية ابنه فلوماطر فزحف الغريقيون إلى رومة، وكان فيهم صاحب مقدونية وأهل أرمينية والعراق، وظاهرهم مهلك النوبة واجتمعوا لذلك، فغلبهم الرومانيون وأسروا صاحب مقدونية وهلك فلوماطر لخمس وثلاثين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه إيرياطس، وعلى عهده استفحل ملك أهل رومة، واستولوا على الأندلس وجازوا البحر إلى قرطاجية بافريقية، فملكوها وقتلوا ملكها اشدريال وخربوا مدينتها بعد أنّ عمرت تسعمائة سنة من بنائها كما نذكره في أخبارها. وزحف أيضا أهل
رومة إلى الغريقيين فغلبوهم وملكوا عليهم مدينتهم قرنطة من أعظم مدنهم. يقال إنها كانت ثانية قرطاجنة. ثم هلك إيرياطس لسبع وعشرين سنة من ملكه وولي بعده ابنه شوطار سبع عشرة سنة. وعلى عهده استفحل ملك أهل رومة، ومهدوا الأندلس. وملك بعده أخوه الاسكندر عشر سنين، ثم ابنه ديونشيس مائة وثلاثين سنة. وعلى عهده استولى الرومانيون على بيت المقدس، ووضعوا الجزية على اليهود، وزحف قيصر يوليوس من قوادهم إلى الا فرنجة ولمياش أيضا من قوادهم إلى الفرس فغلبوهم جميعا وما حولهم إلى أنطاكية، واستولوا على ما كان لهم من ذلك، وخرج الترك من بلادهم فأغاروا على مقدونية فردهم هامس قائد الرومانيين بالمشرق على أعقابهم.
وهلك ديونشيس فوليت بعده ابنته كلابطرة، سنتين فيما قال هروشيوش لخمسة آلاف ونيف من مبدأ الخليقة، ولسبعمائة سنة من بناء رومة. وعلى عهدها استبد قيصر يوليوس بملك رومة، وغلب عليها القواد أجمع، ومحا دولتهم منها، وذلك بعد مرجعه من حرب الافرنج. ثم سار إلى المشرق فملك إلى أرمينية ونازعه مبانش هنالك، فهزمه قيصر وفر مبانش إلى مصر مستنجدا بملكتها- وهي يومئذ كلابطرة- فبعثت برأسه إلى قيصر خوفا منه، فلم يغنهما ذلك، وزحف قيصر إليها فملك مصر والاسكندرية من كلابطرة هذه، وانقرض ملك اليونانيين وولي قيصر على مصر والاسكندرية وبيت المقدس من قبله وذلك لسبعمائة أو نحوها من بناء رومة ولخمسة آلاف من مبدأ الخليقة. وذكر البيهقي أنّ كلابطرة زحفت إلى أرض اللطينيين وقهرتهم، وأرادت العبور الى الأندلس فحال دونها الجبل الحاجز بين الأندلس والإفرنج، فاستعملت في فتحه الحيل والنار حتى نفذت إلى الأندلس وإن مهلكها كان على يد اوغسطوس يوليوس ثاني القياصرة. وكذا ذكر المسعودي وأنها ملكت اثنتين وعشرين سنة، وكان زوجها انطونيوس مشاركا لها في ملك مقدونية ومصر، وأن قيصر اوغسطس زحف إليهم، فهلك زوجها أنطونيوس في حروبه. ثم أراد التحكم في كلابطرة ليستولي
على حكمتها إذ كانت بقية الحكماء من آل يونان، فخطبها وتحيلت في إهلاكه وإهلاك نفسها، بعد أنّ اتخذت بعض الحظ ت القاتلة التي بين الشام والحجاز، وأطلقتها بمجلسها بين رياحين نصبتها هنالك، ولمست الحيات فهلكت لحينها، وأقامت بمكانها كأنها جالسة ودخل اوغسطس
لا يشعر بذلك حتى تناول من تلك الرياحين ليشمها، فأصابته الحية وهلك لحيق، وتمت حيلتها عليه. وانقرض ملك اليونانيين بهلاكها وذهبت علومهم إلا ما بقي بأيدي حكمائهم في كتب خزائنهم، حتى بعث عنها المأمون وأمر باستخراجها، فترجمت له من هروشيوش. وأما ابن العميد فعد ملوك مصر والاسكندرية بعد الاسكندر أربعة عشر آخرهم كلابطرة، كلهم يسفون بطليموس كما قال المسعودي. ولم يذكر ملوك المشرق منهم بعد الاسكندر، ولا ملوك الشام، ولا ملوك مقدونية الذين قسم الملك فيهم كما ذكرناه إلا بذكر ملك أنطاكية من اليونانيين ويسميه انطيوخس كما ذكرناه الآن. وذكر في أسماء ملوك مصر هؤلاء وفي عددهم خلافا كثيرا، إلا أنه سمى كل واحد منهم بطليموس. فقال في بطليموس الأول إنه أخو الاسكندر أو مولاه اسمه: فلافاذافسد أو ارنداوس أو لوغس أو فيلبس، ملك سبعا وقيل أربعين. قال وفي عصره بنى سلقيوس، وأظنه ملك المشرق منهم، قمامة وحلب وقنسرين وسلوقية واللاذقية. قال ومنها كان الكوهن الأعظم بالقدس سمعان بن خوننا، وبعده أخوه ألعازر، قال وفي التاسعة من لوغش جاء أنطيوخس المعظم إلى بلاد اليهود واستعبدهم. وفي الحادية عشر حارب الروم فغلبوه وأسروه وأخذوا منه ابنه اقفاقس رهينة. وفي الثالثة عشر تزوج أنطيوخس كلابطرة بنت لوغس زوجها له أبوها وأخذ سورية بلاد المقدس في مهرها. وفي التاسعة عشر وثب أهل فارس والمشرق على ملكهم فخلعوه وولوا ابنه، ثم هلك لوغس. قال ابن العميد: بعد مائة وإحدى وثلاثين سنة لليونان ملك بطليموس بن الاسكندروس ويلقب غالب أثور، وملك مصر والاسكندرية والبلاد الغربية إحدى وعشرين سنة، وقيل ثمانيا وثلاثين سنة، وشممى أيضا فيلادلفوس أي ة محب أخيه، وهو الذي استدعى أحبار اليهود وعلماءهم الاثنين وسبعين يترجموا له التوراة وكتب الأنبياء من العبرانية إلى اليونانية وقابلوها بنسخهم فصحت. وكان من هؤلاء الأحبار سمعان المذكور أولا وعاش إلى أنّ حمل على ذراعيه في الهيكل ومات ابن ثلثمائة وخمسين. وكان منهم ألعازار الذي قتله أنطيوخس على امتناعه من السجود لصنمه، وقتله ابن سبعين سنة. ويظهر من هذا أنّ بطليموس هو تلماي وإنه من ملوك مقدونية وملك مصر، لان ابن كريون قال: وفي ذلك الزمان كان تلماي من أهل مقدونية ملك مصر، وكان يحب العلوم. فاستدعى من اليهود سعبين من أحبارهم وترجموا له التوراة وكتب الأنبياء. وكان في عصره صادوق الكوهن انتهى. وملك خمسا وأربعين سنة، وملك بعده بطليموس الارنبا وقيل اسمه رغادي وقيل راكب الانبر، ملك أربعا وعشرين وقيل سبعا وعشرين، وهو الذي بنى ملعب الخيل باسكندرية الذي احرق في عصر زينون قيصر. وملك بعده بطليموس محب أخيه، ويقال اوغسطس ويقال فيلادلفس، ملك ست عشرة سنة، وكان في عصره أخميم الكوهن. وملك بعده بطليموس الصائغ، ويقال أخيه ملك خمس سنين وقيل خمسا وعشرين. وعلى عهده كان أليهود الكوهن، وكان ضالا غشوما، وقتله بعض خدمه خنقا. وملك بعده بطليموس محب أبيه وقيل اسمه فيلوباطر ملك سبع عشرة سنة، وأخذ الجزية من اليهود. وملك بعده بطليموس المظفر وقيل الغالب وقيل محب أمه، ملك عشرين وقيل أربعا وعشرين. وفي التاسع عشر من ملكه خرج متيتيا بن يوحنا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي من بني يوناداب من نسل هارون. وبعث انطيوخس ملك أنطاكية، ابنه ألغايش بالعساكر إلى القدس، فأعمل الحيلة في ملكها وقتل العازر الكوهن وحمل بني إسرائيل على السجود لآلهته. فهرب متيتيا في جماعة من اليهود إلى الجبال. حتى إذا خرجت عساكر يونان رجع إلى القدس، ومر بالمذبح فوجد يهوديا يذبح خنزيرا عليه. وثار باليونانيين فقتل قائدهم وأخرجهم، واستبد بملك القدس كما ذكرناه في أخباره.
ثم ملك بطليموس فيلوباطر أي: محب أبيه خمسا وعشرين سنة وقيل عشرين. وكان في أيامه بالقدس يهوذا بن متيتيا، وبعده أخوه يوناداب، وبعده أخوه شمعون، وبعده
أخوه هرقانوس واسمه يوحنان وهو أول من تسمى بالملك من بني حشمناي. وبعث ابنه يوحنا بالعساكر لقتال قيدونوس قائد أنطيوخس فغلبه. وارتفع عن اليهود الخراج الذى كانوا يعطونه لملوك سورية من أيام فيلبوس ملك المشرق. وملك بعده بطليموس ارغادي أي الفاضل، وقيل بطليموس الصايغ، وقيل سانيطر ملك عشرين وقيل ثلاثا وعشرين وقيل ثلاثة عشر.
ولعهده جدد انطيوخس بناء أنطاكية وسماها باسمه. ولعهده كان ملك هرقانوس على القدس وبنيه الثلاثة، وخرب مدينة السامرة سبسطية، ولعهده أيضا زحف أنطيوخس إلى القدس وحاصرها، فصانعه هرقانوس بثلثمائة كرة من الذهب استخرجها من قبر داود عليه السلام. ثم ملك على مصر والاسكندرية بطليموس المخلص وقيل مقروطون وقيل شعري، ملك ثماني عشرة وقيل عشرين وقيل سبعا وعشرين ولعهده كان الإسكندروس تلماي بن هرقانوس سابع بني حشمناي بالقدس. وكانت فرق اليهود عندهم ثلاثة: الربانيون ثم القراوون وهم في الانجيل زنادقة، وهم في الإنجيل الكتبة. ثم على مصر بطليموس محب أمه، وقيل الاسكندروس وقيل قيقتس وقيل الاسكندر وقيل ابن المخلص، ملك عشر سنين لا غير. ولعهده كانت الإسكندرة ملكة على بيت المقدس. ولعهده بطلت مملكة سورية لمائتين وسبع عشرة سنة من ملك يونان. وقتل بطليموس هذا، قتله أهل إهراقية وأحرقوه. ثم ملك على مصر بطليموس فيناس وقيل إيزيس وقيل المنفي لأن كلابطرة الملكة نفته عى الفلك، وملك ثمان سنين وقيل ثلاثا وعشرين يوما وقيل ثمانية عشر يوما. وبعضهم أسقطه من البطالسة ولم يذكره. ثم ملك على مصر بطليموس يوناشيش إحدى وعشرين سنة، وقيل إحدى وثلاثين وقيل ثلاثين. ولعهده كان ارستبلوس وأخوه هرقانوس على القدس. ثم ملك على مصر كلابطرة بنت ديوناشيش؛ ومعنى هذا الاسم الساكنة على الصخرة. وملكت ثلاثين وقيل اثنتين وعشرين، وكانت حاذقة. وفي الثالثة من ملكها حمرت خليج الإسكندرية وجرى فيه الماء. وبنت باسكندرية هيكل زحل، والعاروص، وبنت مقياساً بأحميم وآخر بمدينة أنصناء. وفي الرابعة من ملكها ملك برومة اغانيوس أول القياصرة، ملك أربعا، ثم يوليوس بعده ثلاثا، ثم اغسطس بن مونوحس، فاستولى على الممالك والنواحي وبلغ خبره إليها فحصنت بلادها وبنت حائطا من الفرماء إلى النوبة شرقي النيل وحائطاً آخر من إسكندرية إلى النوبة غربي النيل، وهو حائط العجوز لهذا العهد. وبعث اوغسطس العساكر إلى مصر مع قائده أنطرلوس ومعه متردات ملك الارمنن، فخادعت كلابطرة انطريوس وأوعدته بتزويجها، فقتل رفيقه متردات وتزوجها، وعصى اوغسطس. فسار اوغسطس إليها وملك لمجصر، وقتل كلابطرة وولديها وقائده بطريوس الذي تزوجها. ويقال إنها وضعت له سما في مجلسها، وإن اوغسطس تناوله ومات، والله أعلم. وانقرضت مملكة يونان من مصر والاسكندرية والمغرب بملكها، وصارت هذه الممالك للروم إلى حين الفتح الإسلامي. انتهى كلام ابن العميد. والخلاف الذي ينقله عن جماعة مؤرخيهم يذكر منهم سعيد بن بطريق ويوحنا فم الذهب والمنجي وابن الراهب وابيفانيوس. والظاهر أنهم من مؤرخي النصارى، والبقاء لله الواحد القهار، سبحانه لا إله غيره ولا معبود سواه.
خريطة
خريطة
الخبر عن اللطينيين
وهو الكيتم المعروفون بالروم من أمم يونان وأشياعهم وشعوبهم وما كان لهم من الملك والغلب وذكر الدولة التي فيهم للقياصرة وأولية ذلك ومصايره
هذه الأمة من أشهر امم العالم، وهي ثانية الغريقيين عد هروشيوش ويجتمعان في نسب يونان. وثالثتهم عند البيهقي ويجتمعون في نسب يونان بن علجان بن يافث. واسم الروم يشملهم ثلاثثهم، لما كان الروم أهل المملكة العظمى منهم. ومواطن هؤلاء الليطينيين بالناحية الغربية من خليج القسطنطينية إلى بلاد الافرنجة، فيما بين البحر المحيط والبحر الرومي من شماليه. وملك هذه الأمة قديما. كانت لهم مدينة اسمها طروبة، وذكر هروشيوش أنّ أول من ملك من الليطينيين ألفنس بن شطرنش بن أيوب، وذلك لعهد دائرة بني إسرائيل، وقد مر ذكرها. وفي آخر الألف الرابع من مبدأ الخليقة. وملك من بعده ابنه بريامش، واتصل الملك في عقب ألفنس هذا وإخوته، وكان منهم كرمنس بن مرسية بن شيبن بن مزكة الذي ألف حروف اللسان اللطيني وأثبتها ولم تكن قبله. وذلك على عهد يؤاثير بن كلعاد من حكام بني إسرائيل بعد أربعة آلاف وخمسين من مبدأ الخليقة.
وكان بين هؤلاء اللطينيين وبين الغريقيين إخوانهم، فتن طويلة، وعلى يدهم خربت طروبة مدينة اللطينيين لعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين من مبدأ الخليقة أيام عبدون ملك بني إسرائيل وقد مر ذكره. وكان ملكهم يومئذ أناش من عقب بريامش بن ألفنس بن شطرنش. وولي بعده ابنه اشكانيش بن أناس وهو الذي بنى مدينة ألبا. ثم اتصل الملك فيهم إلى أنّ افترق أمرهم.
ثم كان من أعقابهم برقاش أيام انقراض ملك الكلدانيين. وصار للمازنيين والقضاعيين على عهد عزيا بن أمصيا من ملوك بني إسرائيل، ولعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين سنة من مبدأ الخليقة، فصار الأمر في اللطينيين لبرقاش هذا بتولية ملك المازنيين ما كان لهم وللسريانيين قبلهم من الصيت في العالم، والتفوق على الملوك بنسبهم وعصبتهم. ثم اتصل الملك لابنه ولحافديه روملوس وداموس، وهما اللذان اختطا مدينة رومة، وذلك لعهد أربعة آلاف وخمسمائة سنة من مبدأ الخليقة، وعلى عهد حزقيّا بن آحآز ملك بني إسرائيل، ولأربعمائة ونيف من خراب مدينة طروبة. وكان طول مدينة رومة من الشمال إلى الجنوب عشرين ميلا في عرض إثني عشر ميلا، وارتفاع سورها ثمانية وأربعون ذراعا في عرض عشرة أذرع، وكانت من أحفل مدن الحالم. ولم تزلى دارا مملكة اللطينيين، والقياصرة منهم حتى صبحهم الإسلام وهي في ملكهم.
وكان اللطينيون بعد رملس وداموس وانقراض عقبهم قد سئموا ولاية الملوك عليهم فعزلوهم، وصار أمرهم شورى بين الوزراء، وكانوا يسمونهم القنشلش ومعناه الوزراء بلغتهم. وكان عددهم سبعين على ما ذكر هروشيوش. ولم يزل أمرهم على ذلك مدة سبعمائة سنة، إلى أنّ استبد عليهم قيصر يوليوس بن غايش أول ملوك القياصرة كما نذكره بعد. وكانت لهم حروب مع الأمم المجاورة لهم من كل جهة، فحاربوا اليونانيين ثم حاربوا الفرس من بعدهم واستولوا على الشام ومصر. ثم ملكوا جزيرة الأندلس ثم جزيرة صقلية، ثم أجازوا إلى افريقية فملكوها وخربوا قرطاجنة. وأجاز أهل أفريقية إليهم وحاصروا رومة، واتصلت الفتن بينهم عشرين سنة أو نحوها على ما نذكر. وذهب جماعة من الإخباريين إلى أنّ الروم من ولد عيصو بن إسحاق عليه السلام.
قال ابن كريون: كان لليفاز ابن عيصو ولد اسمه صفوا، ولما خرج يوسف من مصر ليدفن أباه يعقوب في مدينة الخليل عليه السلام، اعترضه بنو عيصو وقاتلوه، فهزمهم وأسر منهم صفوا بن أليفاز وبعثه إلى افريقية، فصار عند ملكها واشتهر بالشجاعة، وحدثت الفتنة بين أغنياس وبين الكيتم وراء البحر، فأجاز إليهم أغنياس في أهل أفريقية وأثخن فيهم، وظهرت شجاعة صفوا بن اليفاز. ثم هرب صفوا إلى الكيتم وعظم بينهم، وحسن أثره في أهل أفريقية وفي الأمم المجاورة لكيتم من أموال وغيرها، فزوجوه وملكوه عليهم. قال: وهو أول من ملك في بلاد أسبانيا وأقام ملكا خمسا وخمسين سنة. ثم عد ابن كريون بعده ستة عشر ملكا من أعقابه آخرهم روملس باني رومة، وكان لعهد داود عليه السلام، وخاف منه فوضع مدينة رومة، وبنى على جميعها هياكله، ونسبت المدينة إليه وسميت باسمه، وسمى أهلها الروم نسبة إليها.
ثم عد بعد روملس خمسة من الملوك اغتصب خامسهم رجلا في زوجه فقتلت نفسها وقتله زوجها في
الهيكل. وأجمع أهل رومة أنّ لا يولوا عليهم ملكا. وقدموا شيوخاً ثلثمائة وعشرين يدبرون ملكهم، فاستقام أمرهم كما يجب إلى أنّ تغلب قيصر رسمى نفسه ملكا، فصاروا من بعده يسمون ملوكا. انتهى كلام ابن كريون وهو مناقض لما قاله هروشيوش. فإنه زعم أنّ بناء رومه كان لعهد داود عليه السلام، وهروشيوش قال إنه كان لعهد حزقيا رابع عشر ملوك بني يهوذا من لدن داود عليه السلام، وبين المدتين تفاوت. وخبر هروشيوش مقدم لأن واضعيه مسلمان كانا يترجمان لخلفاء الإسلام بقرطبة وهما معروفان ووضعا الكتاب. فالله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك. الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل أفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها علي الكيتم وهم اللطينيون كان بناء قرطاجنة هذه قبل بناء رومة باثنتين وسبعين سنة. قال هروشيوش على يدي ديدن بن أليثا من نسل عيصو بن إسحاق، وكان بها أمير يسمى ملكون، وهو الذي بعث إلى الإسكندر بطاعته عند استيلائه على طرسوس. ثم صار ملك افريقية إلى املقا من ملوكهم، فافتتح صقلية وهاجت الحرب بينه وبين الرومانيين وأهل الإسكندرية بسبب أهل سردانية وذلك لخمسين سنة في بناء رومة. ثم وقعت السلم بينهم وهي السلم التي وفد فيها عتون من ملوك افريقية على انطريطش ملك مقدونية وإسكندرية، وهو ملك الروم الأعظم. ثم ولى بقرطاجنة املقا ابنه انبيل فأجاز إلى بلاد الإفرنج وغلبهم على بلادهم، وزحف إليه قواد رومة فوالى عليهم الهزائم، وبعث أخاه أشدريال إلى الأندلس فملكها، وخالفه قواد الرومانيين إلى افريقية بعد أنّ ملكوا من حصون صقلية أربعين أو نحوها. ثم أجازوا إلى أفريقية فملكوها، وقتلوا غشول خليفة انبيل فيها، وافتتحوا مدينة جردا. وخرج آخرون من قواد رومة إلى الأندلس فهزموا اشدريال واتبعوه إلى أنّ قتلوه، وفر أخوه انهبيل عن بلادهم بعد ثلاث عشرة
سنة من إجازته إليهم. وبعد أنّ حاصر رومة وأثخن في نواحيها فلحق بافريقية، ولقيه قواد أهل رومة الذين أجازوا إلى أفريقية، فهزموه وحاصروه بقرطاجنة حتى سأل الصلح على أنّ يغرم لهم ثلاثة آلاف قنطار من الفضة فأجابوه إليه، وسكت الحرب بينهم ثم ظاهر بعد ذلك انبيل صاحب افريقية ملوك
السريانيين على حرب أهل رومة، فهلك في حربهم مسموما. وبعد أنّ تخلص أهل رومة من تلك الحروب رجعوا إلى الأندلس فملكوها، ثم أجازوا البحر إلى قرطاجنة ففتحوها وقتلوا ملكها يومئذ انبيل وخربوها لتسعمائة سنة من بنائها، وسبعمائة لبناء رومة. ثم دارت الحرب بين أهل رومة وملك النوبة، واستظهر ملك النوبة بالبربر بعد أنّ هزموا أهل رومة واتبعوه إلى قفصة، فملكوها واستولوا على ذخيرتها وهي من بناء أركلش الجبار ملك الروم، وهزمهم أهل رومة فخافهم ملك البربر من ملوك النوبة إلى أنّ هلك في أسرهم، وكانت هذه الحروب لعهد بطليموس الاسكندر بعد أنّ كان قواد رومة اجتمعوا على بناء قرطاجنة وتجديدها لاثنتين وعشرين سنة من خرابها، فعمرت واتصل بها لأهل رومة ملك على ما نذكره بعد أنّ شاء الله تعالى. ملوك القياصرة الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبد أ أمورهم ومصاير أحوالهم لم يزل أمر هؤلاء الكيتم وهم اللطينيون راجعا إلى الوزراء منذ سبعمائة سنة كما قلناه، من عهد بناء رومة أو قبلها بقليل كما قال هروشيوش. تقترع الوزراء في كل سنة فيخرج قائد منهم إلى كل ناحية كما توجبه القرعة، فيحاربون امم الطوائف ويفتحون الممالك. وكانوا أولا يعطون إخوانهم من الروم اليونانيين طاعة معروفة بعد الفتن والمحاربة، حتى إذا هلك الإسكندر وافترق أمر اليونانيين والروم وفشلت ريحهم، وقعت فتنة هؤلاء اللطينيين وهم الكيتم مع أهل افريقية، واستولوا عليها مرارا وخربوا قرطاجنة ثم بنوها كما ذكرناه. وملكوا الاندلس وملكوا الشام وارض الحجاز، وقهروا العرب بالحجاز وافتتحوا بيت المقدس وأسروا ملكها يومئذ من اليهود، وهو ارستبلوس بن الإسكندر ثامن ملوك بني حشمناي، وغربوه إلى رومة وولوا قائدهم على الشام. ثم
حاربوا ألغماس فكانت حروبهم معهم سجالاً، إلى أنّ خرج يوليوس بن غايش ومعه ابن عمه لوجيار بن مدكه إلى جهة الأندلس، وحارب من كان بها من الإفرنج والجلالقة إلى أنّ ملك بريطنية واشبونة ورجع إلى رومة، واستخلف على الأندلس اكتبيان ابن أخيه يونان. فلما وصل إلى رومة وشعر الوزراء أنه يروم الاستبداد عليهم قتلوه، فزحف اكتبيان ابن أخيه من الأندلس فأخذ بثاره، وملك رومة واستولى على أرض قسطنطينية وفارس وافريقية والأندلس. وعمه بولس هو الذي تسمى قيصر فصار سمة لملوكهم من بعده. وأصل هذا الاسم جاشر فعربته العرب إلى قيصر. ولفظ جاشر مشترك عندهم، فيقال جاشر للشعر. وزعموا أنّ بولس ولد شعره نام يبلغ عينيه. ويقال أيضا للمشقوق جاشر. وزعموا أنّ قيصر ماتت أمه وهي مقرب، فبقر بطنها واستخرج بولس، والأول أصح وأقرب إلى الصواب. وكانت مدة بولس قيصر خمس سنين. ولما ولى قيصر اكتبيان ابن اخته بملك الناحية الشمالية من الأرض، ووفد عليه رسل الملوك بالمشرق يرغبون في ولايته ويضرعون إليه في السلم، فأسعفهم ودانت له أقطار الأرض. وضرب الأتاوة على أهل الآفاق من الصغر، وكان العامل على اليهود بالشام من قبله هيرودس بن انظفتر وعلى مصر ابنة غايش. وولد المسيح لاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه. وهلك قيصر اكتبيان لست وخمسين من ملكه، بعد سبعمائة وخمسين سنة لبناء رومة، وخمسة آلاف ومائتين لمبدأ الخليفة. انتهى كلام هروشيوش.
وأما ابن العميد مورخ النصارى فذكر عن مبدأ هؤلاء القياصرة، أنّ أمر رومة كان راجعا إلى الشيوخ الذين يدبرون أمرهم وكانوا ثلثمائة وعشرين رجلا، لأنهم كانوا حلفوا أنّ لا يولوا عليهم ملكا فكان تدبيرهم يرجع إلى هؤلاء، وكانوا يقدمون واحدا منهم ويسمونه الشيخ، وانتهي تدبيرهم في ذلك الزمان إلى أغانيوس فدبرهم أربع سنين وهو الذي سمي قيصر لأن أمه ماتت وهو جنين في بطنها، فبقروا بطنها وأخرجوه. ولما كبر انتهت إليه رياسة هؤلاء الشيوخ برومة أربع سنين. ثم ولي من بعده يوليوس قيصر ثلاث سنين، ثم ولي من بعده اغسطس قيصر بن مرنوخس. قال: ويقال أنّ اوغسطس قيصر كان أحد قواد الشيخ مدبر رومة، وتوجه بالعساكر لفتح المغرب والأندلس ففتحهما وعاد إلى رومة، فملك عليهم وطرد الشيخ من رياسته بها وتدبيره، ووافقته الناس على ذلك. وكان للشيخ نائب بناحية المشرق يقال له فمقيوس، فلما بلغه ذلك زحف بعساكره إلى رومة، فخرج إليه اوغسطس فهزمه وقتله واستولى على ناحية المشرق، وسير عساكره إلى فتح مصر مع قائدين من قواده، وهما انطونيوس ومتردات ملك الارمن بدمشق، فتوخها إلى مصر وبها يومئذ كلابطرة الملكة من بقية البطالسة ملوك يونان بالإسكندرية ومضر، فحضنت بلادها وبنت بعدوتي النيل حائطين مبدوهما من النوبة إلى الإسكندرية غربا، وإلى الفرما شرقا وهو حائط العجوز لهذا العهد. ثم داخلت القائد أنطونيوس وخادعته بالتزويج فتزوجها وقتل رفيقه متردات وعصى على اوغسطس، فزحف إليه وقتله، وملك مصر وقتل كلابطرة وولديها، وكانا يسميان الشمس والقمر. وملك مصر والإسكندرية وذلك لاثنتي عشرة سنة من ملكه. قال ولاثنتين وأربعين سنة من ملك اوغسطس ولد المسيح بعد مولد يحمى بثلاثة أشهر. وذلك لتمام خمسة آلاف وخمسمائة سنة من سني العالم، ولاثنتين وثلاثين من ملك هيردوس بالقدس، وقيل لخمس وثلاثين من مملكته. والكل متفقون على أنها لاثنتين وأربعين من ملك اوغسطس. قال: وسياقة التاريخ تقتضي أنها خمسة آلاف وخمسمائة شمسية من مبدأ العالم، لان من آدم إلى نوح ألفا وستمائة، ومن نوح إلى الطوفان ستمائة، ومن الطوفان إلى إبراهيم ألفا واثنتين وسبعين سنة، ومن إبراهيم إلى موسى أربعمائة وخمسا وعشرين، رمن موسى إلى داود محليهما السلام سبعمائة وستين، ومن داود إلى الإسكندر سبعمائة وستين سنة، ومن الإسكندر إلى مولد المسيح ثلثمائة وتسع عشرة سنة: هكذا ذكر ابن العميد وأنها تواريخ النصارى وفيها نظر، ويظهر من كلامه أنّ قيصر الذي سماه اوغسطس. وذكر أنّ المسيح ولد لاثنتين وأربعين من ملكه هو الذي سماه هيردوس قيصر أكتبيان، وجعل مهلكه لخمسة آلاف ومائتين من مبدأ الخليقة. وعند ابن العميد أنّ ملكه لخمسة آلاف وخمسمائة وخمس عشرة، والله أعلم بالحق من ذلك.
ثم ولي من بعده طباريش قيصر، وكان وادعا واستولى على النواحي، وعلى عهده كان شان المسيح، وبغى اليهود عليه، ورفعه الله من الأرض. وأقام الحواريون من بعده واليهود يضطهدرنهم ويحبسونهم على إظهار أمرهم. وكان بلاطس النبطي الذي كان قائدا على اليهود يسعى إلى طباريش بأخبار المسيح وبغي اليهود عليه وعلى يوحنا المعمدان، وتبعتهم الحواريون من بعده بالاذية، وأراه أنهم على حق فأمر بتخلية سبيلهم، وهم بالأخذ بدينهم، فمنعه من ذلك قومه.
ثم قبض على هيردوس وأحضره إلى رومة، ثم نفاه إلى الاندلس فمات بها. ثم ولى مكانه اغرياس ابن أخيه. وافترق الحواريون في الآفاق لإقامة الدين، وحمل أمم على عبادة الله. ثم قتل طباريش قيصر أغرياس ملك اليهود إلى أشر من حالهم، وقتلوا أتباع الحواريين من الروم، ومات طباريش لثلاث وعشرين من ملكه بعد أنّ جدد مدينة طبرية فيما قال ابن العميد، واشتق اسمها من اسمه. وملك من بعده غاينس قيصر. وقال هروشيوش هو أخو طباريش وسماه غاينس فليفة بن أكتيبان. وقال: هو رابع القياصرة وأشدهم، وأراد اليهود على نصب وثنه ببيت المقدس فمنعوه. وقال ابن العميد: ووقعت في أيامه شدة على النصارى، وقتل يعقوب أخا يوحنا من الحواريين، وحبس بطرس رئيسهم ثم هرب إلى أنطاكية فأقام بها. وقدم هراديوس بطركا عليها. وهو أول البطاركة فيها. ثم توجه إلى رومة لسنتين من ملك غانيس فدبرها خمساً وعشرين سنة، ونصب فيها الأساقفة، وتنصرت امرأة من بيت الملك، فعضدت النصارى، ولقي النصارى الذين بالقدس شدائد من اليهود، وكان الاسقف عليهم يومئذ يعقوب بن يوسف الخطب. وقال ابن العميد عن المسبحي: أنّ فيلبس ملك مصر غزا اليهود لأول سنة من ملك غانيس، واستعبدهم سبع سنين. قال وفي الرابعة من ملكه أمر عامله على اليهود بسورية وهي اورشماليم وير بيت المقدس، أنّ ينصب الأصنام في محاريب اليهود. ووثب عليه بعفى قواده فقتله. وملك من بعده قلوديش قيصر. قال هروشيوش: هو ابن طباريش، وعلى عهده
كتب متّى الحواريّ إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية. قال ابن العميد، ونقله يوحنا بن زبدي إلى الرومية، قال: وفي أيامه كتب بطرس راس الحواريين إنجيله بالرومية وبعث به إلى مرقص تلميذه. وكتب لوقا من الحواريين إنجيله بالرومية وبعث به إلى بعض الأكابر من الروم، وكان لوقا طبيبا. ثم عظم الفساد بين اليهود ولحق ملكهم اغرباش برومة، فبعث معه اقلوديش عساكر الروم، فقتلوا من اليهود خلقاً، وحملوا إلى أنطاكية ورومة منهم سبيا عظيما وخربت القدس وانجلى أهلها. فلم يول عليهم القياصرة أحدا لخرابها. وافترقت اليهود على فرق كثيرة أعظمها سبعة.
قال ولسبع من ملك اقلوديش دخلت بطريقة من الروم في دين النصارى على يد شمعون الصفا، وسمعت منه بالصليب، فجاءت إلى القدس لإظهاره، ورجعت إلى رومة. وهلك اقلوديش قيصر لأربع عشرة سنة من ملكه، وملك من بعده ابنه نيرون. قال هروشيوش: هو سادس القياصرة، وكان غشوما فاسقا، وبلغه أنّ كثيرا من أهل رومة أخذوا بدين المسيح، فنكر ذلك وقتلهم حيث وجدوا. وقتل بطرس راس الحواريين وأقام اريوس بطركا برومة مكان بطرس، من بعد خمس وعشرين سنة مضت لبطرس في كرسيها، وهو راس الحواريين ورسول المسيح إلى رومة. وقتل مرقص الإنجيلي بالإسكندرية اثنتي عشرة من ملكه، وكان هنالك من منذ سبع سنين بها مساعدا إلى النصرانية والإسكندرية ومصر وبرقة والمغرب، وولى مكانه حنانيا ويسمى بالقبطية جنبار وهو أول البطارقة بها واتخذ معه الأقسة الاثني عشر. قال ابن العميد عن المسبحي: وفي الثانية من ملك نيرون عزل بلخس القاضي، كان على اليهود من جهة الروم، وولى مكانه قسطس القاضي، وقتل بوثار رئيس الكهنونية بالمقدس، ومات القاضي قسطس، فصار اليهود على من كان بالمقدس من النصارى وقتلوا اسقفهم هنالك، وهو يعقوب بن يوسف النجار وهدموا الجعة وأخذوا الصليب والخشبتين ودفنوها، إلى أنّ استخرجتها هلانة أم قسطنطين كما نذكر بعد. وولي مكان يعقوب النجار ابن عمه شمعون بن كنابا، ثم ثار بهم المهود وأخرجوهم من المقدس لعشر من ملك نيرون، فأجازوا الاردن وأقاموا هنالك. وبعث نيرون قائده اسباشيانس، وأمر بقتل اليهود وخراب القدس وتحضن اليهود منه وبنوا عليهم ثلاثة حصون، وحاصرهم أسباشيانس وخرب جميع حصونهم وأحرقها، وأقام عليهم سنة
كاملة. وقال هروشيوش: أنّ يخرون يصر انتقض عليه أهل مملكته، فخرج عن طاعة أهل برطاية من أرض الجوف ورجع أهل ارمينية والشام إلى طاعة الفرس. فبعث صهره على اخته وهو يشبشيان ابن لوجيه، فسار إليهم في العساكر وغلبهم على أمرهم.
ثم زحف إلى اليهود بالشام وكانوا قد انتقضوا فحاصرهم بالقدس، وبينما هو في حصاره إذ بلغه موت نيرون لأربع عشرة سنة من ملكه، ثار به جماعة من قواده فقتلوه. وكان قد بعث قائدا إلى جهة الجوف والأندلس فافتتح برطانية ورجع إلى رومة بعد مهلك نيرون قيصر، فملكه الروم عليهم وأنه قتل أخاه يشبشيان، فأشار عليه أصحابه بالانصراف إلى رومة. وبشره رئيس اليهود وكان أسيرا عنده بالملك. ويظهر أنه يوسف بن كريون الذي مر ذكره، فانطلق إلى رومة وخلف ابنه طيطش على حصار القدس، فافتتحها وخرب مسجدها وعمرانها كما مر ذكره. قال: وقتل منهم نحوا من ستمائة ألف ألف مرتين، وهلك في حصارها جوعا نحو هذا العدد، وبيع من سراريهم في الافاق نحوا من تسعين ألفط، وحمل منهم إلى رومة نحواً من مائة ألف استبقاهم لفتيان الروم يتعلمون المقاتلة فيهم ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح. وهي الجلوة الكبرى كانت لليهود بعد ألف ومائة وستين سنة من بناء بيت المقدس، ولخمسة آلاف ومائتين وثلاثين من مبدأ الخليقة، ولثمانمائة وعشرين من بناء رومة. فكان معه إلى أنّ افتتحها وكان المستبد بها بعد مهلك نيرون قيصر، وانقطع ملك آل بولس قيصر لمائة وست عشرة سنة من مبدأ دولتهم. واستقام ملك يشبشيان في جميع ممالك الروم، وتسمى قيصر كما كان من قبل، اهـ. كلام هروشيوش. وقال ابن العميد: أنّ اشباشيانس لما بلغه وهو محاصر للقدس أنّ نيرون هلك، ذهب بالعساكر الذين معه وبشره يوسف بن كريون كهنون طبرية من اليهود بأن مصير ملك القياصرة إليه. ثم بلغه أنّ الروم بعد مهلك نيرون ملكوا غلبان بن قيصر فأقام عليهم تسعة أشهر، وكان رديء السيرة وقتله بعض خدمه غيلة وقدموا عوضه انون ثلاثة أشهر، ثم خلعوه وملكوا ابطالس ثمانية أشهر فبعث أسباشيانس وهو
الذي سماه هروشيوش يشبشيان قائدين إلى رومة فحاربوا ابطانشى وقتلوه، وسار اسباشيانس إلى رومة، وبعث إليه طيطش المحاصر للقدس بالأموال والغنائم والسبي. قال: وكانت عدة القتلى ألف ألف، والسبي تسعمائة ألف، واحتمل الخوارج الذين كانوا في نواحي القدس مع الأسرى. وكان يلقى منهم كل يوم للسباع فرائس إلى أنّ فنوا.
قال ولما ملك طيطش بيت المقدس رجع النصارى الذين كانوا عبروا إلى ا أردن، فبنوا كنيسة بالمقدس وسكنوا. وكان الأسقف فيهم سمعان بن كلوبا ابن عم يوسف النجار، وهو الثاني من أساقفة المقدس. ثم هلك أسباشيانس وهو يشبشيان لتسع سنين من ملكه، وملك بعده ابنه طيطش قيصر سنتين وقيل ثلاثا. قال ابن العميد: لاربعمائة من ملك الاسكندر، وقال هيروشيوش: كان متفننا في العلوم ملتزماً للخير عارفا باللسان الغم يقيئ واللطيني، وولي بعده أخوه دومريان خمس عشرة سنة، قال هيروشيوش: وهو ابن أخت نيرون قيصر. قال: وكان غشوما كافرا، وأمر بقل النصارى فعل خاله نيرون، وحبس يوحنا الحواري، وأمر بقتل اليهود من نسل داود حذرا أنّ يملكوا، وهلك في حروب الافرنج، وسماه ابن العميد دانسطيانوس. وقال: ملك ست عشرة سنة وقيل تسعا، وكان شديدا، على اليهود. وقتل أبناء ملوكهم. وقيل له أنّ النصارى يزعمون أنّ المسيح يأتي ويملك، فأمر بقتلهم وبعث عن أولاد يهوذا بن يوسف من الحواريين، وحملهم إلى رومة مقمدين، وسألهم عن شان المسيح فقالوا: إنما يأتي عند انقضاء العالم فخفى سبيلهم. وفي الثالثة من دولته طرد بطرك اسكندرية لسبع وثمانين سنة للمسيح، وقدم مكانه ملموا فأقام ثلاث عشرة سنة ومات، فولى مكانه كرماهو. قال ابن العميد عن المسبحي: ولعهده كان أمر ليونيوس صاحب الطلسمات برومة، فنفى ذوسطيالوس جميع الفلاسفة والمنجمين من رومة، وأمر أنّ لا يغرس بها كرم. ثم هلك ذوسطيالوس وهو الذي سماه هروشيوش دومريان وقال: هلك في حروب الافرنج، وملك بعده برما ابن أخيه طيطش نحوا من سنتين، وسماه ابن العميد تاوداس وقال أنّ المسبحي سماه قارون. قال: وشممى أيضاً برسطوس، وقال ملك على الروم سنة أو سنة ونصفا، وأحسن السيرة وأمر برد من كان منفيا من النصارى وخلاهم ودينهم، ورجع يوحنّا الإنجيلي إلى أفسس بعد ست سنين. وقال هروشيوش: أطلقه من السجن. قال: ولم يكن له ولد فعهد بالملك إلى طريانس من عظماء قواده، وكان من أهل مالقة فولي بعده وتسمى قيصر. قال ابن العميد: واسمه أنديانوس، وسماه المسبحي طرينوس، وملك على الروم باتفاق المؤرخين سبع عشرة سنة، وقتل سمعان بن كلاويا أسقف بيت المقدس، وأغناطيوس بطرك أنطاكية. ولقي النصارى في أيامه شدة، وتتبع أئمتهم بالقتل واستعبد عامتهم. وهو ثالث القياصرة بعد نيرون في هذه الدولة. ولعهده كتب يوحنا إنجيله برومة في بعض الجزائر لسادسة من ملكه، وكان قد رجع اليهود الى بيت المقدس فكثروا بها وعزموا على الانتقاض، فبعث عساكره وقتل منهم خلقاً كثيراً. وقال هروشيوش: أنّ الحرب طالت بينه وبين اليهود، فخربوا كثيراً من المدن إلى عسقلان ثم إلى مصر والإسكندرية فانهزموا هنالك وقتلوا، وزحفوا بعدها إلى الكوفة فأثخن فيهم بالقتل وخضد من شوكتهم. قال ابن العميد: وفي تاسعة من ملكة مات كوثبانو بطرك الإسكندرية لإحدى عشرة سنة من ولاية، وولي مكانه أمرغو عشر سنوات أخرى. وقال بطليموس صاحب كتاب المجسطي: أنّ شيلوش الحكيم رصد برومة في السنة الأولى من ملك طرينوس وهو أندريانوس، لأربعمائة وإحدى وعشرين للاسكندر ولثمانمائة وخمس وأربعين لبختنصر. وقال ابن العميد: خرج عليه خارجي ببابل فهلك في حروبه لتسع عشرة سنة من ولايته كما قلناه، فولي من بعده أندريانوس إحدى وعشرين سنة. وقال ابن العميد عن ابن بطريق عشرين سنة. وقال هروشيوش: إنه أثخن في اليهود ثم بنى مدينة المقدس وسماها إيلياء. وقال ابن العميد: كان شديداً على النصارى وقتل منهم خلقا وأخذ الناس بعبادة الأوثان، وفي ثامنة ملكه خرب بيت المقدس وقتل عامة أهلها، وبنى على باب المدينة عمودا وعليه لوح نقش فيه مدينة ايلياء. ثم زحف إلى الخارجي الذي خرج على طرنيوس قبله فهزمه إلى مصر، وألزم أهل مصر حفر خليج من جرى النيل إلى بحر القلزم، وأجرى فيه الحلو، ثم ارتدم بعد ذلك. وجاء الفتح والدولة الإسلامية، فألزمهم عمرو بن العاص حفره حتى جرى فيه الماء، ثم انسد لهذا العهد.
وكان أندريانوس هذا قد بنى مدينة القدس ورجع إليها اليهود، وبلغه أنهم يرومون الانتقاض، وأنهم ملكوا عليهم زكريا من أبناء الملوك. فبعث إليهم العساكر وتتبعهم بالقتل، وخرب المدينة حتى عادت صحراء، وأمر أنّ لا يسكنها يهودي، وأسكن اليونان بيت المقدس. وكان هذا الخراب لثلاث وخمسين سنة من خراب طيطش الذي هو الجلوة الكبرى. وامتلأ القدس من اليونان، وكانت النصارى يتردوون إلى موضع القبر والصليب يصلون فيه. وكانت اليهود يرمون عليه الزبل والكناسات، فمنعهم اليونان من الصلاة فيه، وبنوا هنالك هيكلا على اسم الزهرة.
وقال ابن العميد عن المسبحي: وفي الرابعة في ملك اندريانوس بطل الملك من الرها وتداولتها القضاة من قبل الروم، وبنى أندريانوس بمدينة أثنوس بيتاً ورتب فيه جماعة من الحكماء لمدارسة العلوم. قال: وفي خامسة ملكه قدم نسطس بطركا على اسكندرية وكان حكيما فاضلأ، فلبث إحدى عشرة سنة ثم مات، وقدم مكانه أمانيق في سادسة عشر من ملك أندريانوس فلبث إحدى عشرة سنة وهو سابع البطارقة. ثم مات أندريانوس لإحدى وعشرين من ملكه كما مر وولي ابنه أنطونيش. قال هروشيوش: ويسمى قيصر الرحيم. وقال ابن العميد. ملك اثنتين وعشرين. وقال الصعيديون إحدى وعشرين. قال: وفي خامسة ملكه قدم مرتيانو بطركا باسكندرية، وهو الثامن منهم، فلبث تسع سنين ومات، وكان فاضل السيرة. وقدم بعده كلوتيانو فلبث أربع عشرة سنة ومات في سابعة ملكه أوراليانوس بعده وكان محبوبا. وقال بطليموس صاحب المجسطي: إنه رصد الاعتدال الخريفي في ثالثة ملك أنطونيوس. فكان لاربعمائة وثلاث وستين بعد الاسكندر. ثم هلك انطونيوس لاثنتين وعشرين كما مر. فملك من بعده اوراليانوس. قال هروشيوش: وهو أخو انطونيوس وسماه اورالش وانطونيوس الأصغر. وقال كانت له حروب مع أهل فارس. وبعد أنّ غلبوا على أرمينية وسورية من ممالكه فدفعهم عنهما وغلبهم في حروب طويلة.. وأصاب الأرض على عهده وباء عظيم وقحط الناس سنتين، واستسقى لهم النصارى فأمطروا وارتفع الوباء والقحط بعد أنّ كان اشتد على النصارى وقتل منهم خلقا، وهي الشدة الرابعة من بعد نيرون. قال ابن العمد: وفي السابعة من ملكه قدم على الإسكندرية البطرك اغريبوس،
فلبث اثني عشر سنة ومات في تاسعة عشر من ملك انطونيوس الأصغر. قال: وفي أيامه ظهرت مبتدعة من النصارى واختلفت أقوالهم، وكان منهم ابن ديصان وغيره، فجاهدهم أهل الحق من الأساقفة وأبطلوا بدعتهبم. وهلك انطونيوس هذا لتسع عشرة من ملكه، وفي عاشرة ملكه ظهر أردشير بن بابك اول ملوك الساسانية، واستولى علي ملك الفرس، وكان صاحب الحضر متملكاً على السواد، فغلبه وملك السواد وقتله، وقصته معروفة. وكان لعهده جالينوس المشهور بالطب وكان ربي معه، فلما بلغه أنه ملك على الروم، قدم عليه من بلاد اليونان وأقام عنده، وكان لعهده أيضاً ديمقراطس الحكيم، ولأول سنة من ملكه قدم بليالوس بطركا على إسكندرية وهو الحادي عشر من بطاركتها، فلبث فيهم عشر سنين ومات. وولي مكانه ديمتريوس فلبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة. ومات كمودة قيصر لثلاثة عشر كما قلناه، فولي من بعده ورمتيلوش ثلاثة أشهر. قال ابن العميد: وسماه ابن بطريق فرطنوش، وقال. وملك ثلاثة أشهر. وسماه غيره فرطيخوس، وسماه الصعيديون برطانوس، ومدة ملكه باتفاقهم شهران. وقال هروشيوش: اسمه اللبيس بن طيجليس وهو عم كمودة قيصر. قال. وولي سنة واحدة وقتله بعضى قواده وأقام في الملك ستة أشهر وقتل.
قال ابن العميد: وملك بعده يوليانس قيصر شهرين ومات. ثم ولي سوريانوس
قيصر، وسماه بعضهم سويرس، وسماه هروشيوش: طباريش بن أرنت بن أنطونيش. واختلفوا في مدته، فقال ابن العميد عن ابن بطريق: سبع عشرة سنة وقال المسبحي ثمان عشرة. وعن أبي فانيوس ست عشرة، وعن ابن الراهب ثلاث عشرة، وعن الصعيديين سنتين. قال وملك في رابعة من ملك أردشير، واشتد على النصارى وفتك فيهم، وسار إلى مصر والإسكندرية فقتلهم وهدم كنائسهم وشردهم كل مشرب، وبنى بالإسكندرية هيكلا سماه هيكل الإله قال هروشيوش: هي الشدة الخامسة من بعد شدة نيرون. قال: ثم انتفض عليه اللطينيون ولم يزل محصوراً إلى أنّ هلك.
وملك من بعده أقطونيش. قال ابن العميد عن ابن بطريق: ست سيئ. وعن المسبحي: سبع سنين. وسماه انطونيش قسطس. قال: وكان ابتداء ملكه عندهم لخمس وعشرين وخمسمائة من ملك
الإسكندر، ولعهده سار اردشير ملك الفرس إلى نصيبين فحاصرها وبنى عليها حصناً. ثم بغله أنّ خارجا خرج عليه بخراسان فأجفل عنهم بعد المصالحة، على أنّ لا يتعرضوا لحصنه. فلما رحل بنوا من وراء الحصن وأدخلوه في مدينتهم. ورجع أردشير فنازلهم وامتنعوا عليه، فأشار بعضى الحكماء بأن يجمع أهل العلم فيدعون الله دعوة رجل واحد ففعلوا، فملك الحصن لوقته.
وقال هروشيوش لما ولي انطونيش ضعف عن مقاومة الفرس فغلبوا على أكثر مدن الشام ونواحي ارمينية، وهلك في حروبهم. وولي بعده مفريق بن مركة وقتله قواد رومة لسنة من ملكه، وكذا قال ابن العميد. وسماه ابن بطريق بقرونشوش والمسبحي هرقليانوس. قالوا جميعا: وملك من بعده أنطونيش. قال ابن العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: ثلاث سنين، وعن المسبحي والصعيديين؟ أربع سنيي. قال: وفي أول سنة من ملكه بنيت مدينة عمان بأرض فلسطين. وملك سابور بن بن اردشير مدناً كثيرة من الشام. ومات انطونيش فملك من بعده إسكندروس لثلاث وعشرين من ملك سابور بن أردشير، فملك على الروم ثلاث عشرة سنة. وكانت أمه محبة في النصارى. وقال هروشيوش: ملك عشرين سنة وكانت أمه نصرانية وكانت النصارى معه في سعة من أمرهم. قال ابن العميد: وفي سابعة ملكه قدم تاوكلاً بطركا بالإسكندرية وهو الثالث عشر من البطاركة، فلبث فيهم ست عشرة سنة ومات. قال هروشيوش: ولعشر من ملكه غزا فارس، فقتل سابور بن أردشير وانصرف ظافراً، فثار عليه أهل رومة وقتلوه. وملك من بعده مخشميان بن لوجية ثلاث سنين. ولم يكن من بيت الملك وإنما ولوه لأجل حرب الافرنج، واشتد على النصارى الشدة السادسة من بعد نيرون. وأما ابن العميد فسماه فقيموس ووافق على الثلاث سنين في مدته، وعلى ما لقي النصارى منه، وأنه قتل منهم سرحبوس في سلمية وواجوس في بالس على الفرات. وقتل بطرك أنطاكية، فسمع اسقف بيت المقدس بقتله، فهرب وترك الكرسي. قال وفي ثالثة ملكه ملك سابور بن أردشير، خلاف ما زعم هروشيوش من أنه قتله، ثم هلك فقيموس ارمشميان، وولي من بعده يونيوس ثلاثة أشهر وقمل فيما قال ابن العميد. وقال: سماه أبو فانيوس لوكس قيصر، وابن بطريق بلينايوس، ولم يذكره
هروشيوش. ثم ملك عرديانوس قيصر. قال ابن العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: أربع سنين، وعن المسبحي والصعيديين: سنين، وسماه أبو فانيوس فودينوس والصعيديون قرطانوس. قال: وكان ملكه لإحدى وخمسين وخمسمائة من ملك الاسكندر. وقال هروشيوش ة غرديار بن بليسان. قال. وملك سبع سنين وطالت حروبه مع الفرس وكان ظافراً عليهم، وقتله أصحابه على نهر الفرات. قال وولي بعده فيلبس بن اولياق بن انطونيش سبع سنين، وهو ابن عم الاسكندر الملك قبله، وأول من تنصر من ملوك الروم. وقال ابن العميد عن الصعيديين: ملك ست سنين وقيل تسع سنين، وكان ملكه لخمس وخمسين وخمسمائة من ملك الاسكندر وآمن بالمسيح.
وفي أول من ملكه قدم دنوشيوش بطركا بالإسكندرية وهو رابع عشر البطاركة بها، فلبث تسع عشرة سنة. ولعهد فيلبس هذا قدم غرديانوس أسقفا على بيت المقدس بعد هروب مركيوس، ثم عاد من هروبه فأقام شريكاً معه سنة واحدة. ومات غرديانوس فانفرد مركيوش أسقفا ببيت المقدس عشر سنين. قال: وقتل فيلبس قيصر قائد من قواده يقال له دافيس، وملك مكانه خمس سنين. وقال عن المسبحي وابن الراهب سنة، وعن ابن بطريق سنتين. قال: وكان يعبد الأصنام ولقي النصارى منه شدة، وكان من أولاد الملوك، وقتل بطرك رومة، وأجاز من مدينة قرطاجنة إلى مدينة افسس، وبنى بها هيكلا وحمل النصارى على السجود له. قال: وفي أيامه كانت قصة فتية أهل الكهف، وظهروا بعده في أيام تاودسيوس. وأما هروشيوش فسماه داجية بن مخشيميان وقال: ملك سنة واحدة، وكانت على النصارى في أيامه الشدة السابعة، وقتل بطرك رومة منهم. وولي من بعده غالش قيصر سنتين، واستباح في قتل النصارى وباء عظيم أقفلت له المدن. وقال هروشيوش: هو غالش بن يولياش. وقال ابن بطريق: أنّ يولياش كان شريكاً له في ملكه ومات قبله. قال ابن العميد: إحدى عشرة سنة لسبعين وخمسمائة من ملك الاسكندر. وقال هروشيوش وابن بطريق ملك خمس عشرة سنة واسمه غاليوش. وقال المسبحي خمس عشرة سنة وسماه داقيوس وغاليوش ابنه. وقال آخرون اسمه اورليوش وملك خمس سنين. وقال أبو فانيوس اسمه غليوس وملك أربع عشرة سنة. وقال الصعيديون ملك كذلك وإسمه أوراليونوس.
قال ابن العميد: وكان يعبد الأصنام، ولقي النصارى منه شدة. وفي أول سنة من ملكه قدم مكسيموس بطركا بالإسكندرية، وهو الخامس عشر من بطاركتها، فلبث اثنتي عشرة سنة ومات. وهو خامسة ملكه قدم اسكندروس اسقفا ببيت المقدس، ثم قتله بعد سبع سنين، وبعث إبنه في عساكر الروم لغزو الفرس فانهزم وحمل أسيرا إلى كسرى بهرام فقتله. وقال هروشيوش: ولي غلينوس خمس عثرة سنة فاشتد على النصارى الأمر وقتلهم، وقتل معهم بطرك بيت المقدس، وكانت له حروب مع الفرس أسره في بعضها ملكهم سابور، ثم من عليه وأطلقه. ووقع في أيامه برومة وباث عظيم، فرفع طلبه عن النصارى بسببه. وفي أيامه خرج القوط من بلادهم وتغلبوا على بلاد الغريقيين ومقدونية وبلاد النبط.
وكان هؤلاء القوط يعرفون بالسنسبين، وكانت مواطنهم في ناحية بلاد السريانيين، فخرجوا لعهد غلينوس هذا، وغلبوا كما قلناه على بلاد الغريقيين ومقدونية وعلى مرية، وهلك غلينوس قتيلاً على يد قواد رومة. ثم ملك اقاويدوش قيصر سنة واحدة. وقال ابن العميد عن المسبحي سنة وتسعة أشهر لثمانين وخمسمائة للاسكندر، وفي أول سنة من ملكه قدم يونس السميصاني بطركا بانطاكية فلبث ثمان سنين، وكان يقول بالوحدانية ويجحد الكلمة بالروح. ولما مات اجتمع الأساقفة بانطاكية وردوا مقالته. وقال هروشيوش: ولي بعد غلينوش فلوديش ابن يلاريان بن موكله، فنسبه هكذا. وقال فيه من عظماء القواد ولم يكن من بيت الملك، ودفع القوط المتغلبين عن مقدونية من منذ خمس عشرة سنة عليها، ومات لسنتين من ملكه وهذا كما قال المسبحي. وقال هروشيوش: ولي بعده أخوه نطيل سبع عشرة يوما وقتله بعض القواد ولم يذكر ذلك ابن العميد.
ثم ملك بعده اوريليانس ست سنين،، سماه ابن بطريق اوراليوس، والمسبحي أرينوس، وأبو فانيوس اوليوش، وهروشيوش اوراليان بن بلنسيان، وقال: ملك خمس سنين. قال ابن العميد: وفي الرابعة من ملكه قدم تاونا بطركاً بالإسكندرية سادس عشر البطاركة، فلبث عشر سنين. وكان النصارى يقيمون الدين خفية. فلما صار بطركا قابل الروم ولاطفهم بالهدايا فأذنوا له في بناء كنيسة مريم، وأعلنوا فيها بالصلاة. قال: وفي سادسة ملكه ولد قسطنطين وقال هروشيوش ة إنّ
أورليان بن بلنسيان هذا حارب القوط فظفر بهم، وجدد بناء رومة، واشتد على النصارى تاسعة بعد نيرون، ثم قتل. فولي بعده طانيش بن إلياس وملك قريبا من سنة. وقال ابن العميد اسمه طافسوس وملك ستة أشهر.
وقال ابن بطريق اسمه طافساس وملك تسعة أشهر. ثم ملك فروفش قيصر خمس سنين. وقال أبو فانيوس: اسمه فروش، وقال ابن بطريق وابن الراهب والصعيديون ست سنين. وقال المسبحي سبع سنين وسماه ألاكيوس وارفيون. وسماه ابن بطريق بروش، وسماه هروشيوش فاروش بن أنطويش. قال: وتغلب على كثير من بلاد الفرس. وقال ابن العميد كان ملكه لسابعة من ملك سابور ذي الأكتاف، ولخمسمائة واثنتين وتسعين من ملك الاسكندر، وكان شديدا على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا، وهلك هو وابناه في الحرب. وقال هروشيوش: ولما هلك فاررش ولي من بعده ابنه منايى بان وقتل لحينه، ولم يذكره ابن العميد. ثم ملك بقلاديانوش إحدى وعشرين سنة. وقال المسبحي عشرين سنة. وقال غيره ثماني عشرة سنة. وملك لخمسمائة وخمس وتسعين للاسكندر. وقال غيرهم: كان اسمه عربيطا، وارتقى في أطوار الخدمة عند القياصرة إلى أنّ استخلصه فاريوش وجعله على خيله، وكان حسن اليزمار. ويقال أنّ الخيل كانت ترقمى طرباً لمزاميره، وعشقته بنت فاريوش الملك. ولما مات أبوها وإخوتها ملكها الروم عيهم فتزوجته وست له في الملك، فاستولى على جميع ممالك الروم وما والاها، وقسطنطش ابن عمه على بلاد أشيا وبيزنطية، وأقام هو بأنطاكية، وله الشام ومصر إلى أقصى المغرب، وفي تاسعة عشر من ملكه انتقض أهل مصر الإسكندرية، فقتل منهم خلقا ورجع إلى عبادة الأصنام، وأمر بغلق الكنائس ولقي النصارى منه شدة وقتل القسيس مار جرس، وكان من أكابر أبناء البطارقة، وقتل ملقوس منهم أيضاً. وفي عاشرة ملكه قدم مار بطرس بطركا بالإسكندرية، فلبث عشر سنين وقتله، وجعل مكانه تلميذه، إسكندروس وكان كبير تلامذته أريوش كثيرا لمخالفة له فسخطه وطرده، ولما مات ممار بطرس رجح أريوش عن المخالفة فادخله إسكندروس إلى الكنيسة وصيره قسَّاً.
قال ابن العميد: وفي أيام ديقلاديانوس خرج قسطنطش ابن عمه ونائبه على بيزنطيا وأشيا، ورأى هلانة وكانت تنصرت على يد اسقف الرها فأعجبتة وتزوجها، وولدت له قسطنطين، وحضر المنجمون لولادته، فأخبروا بملكه فأجمع ديقلاديانوس على قتله فهرب إلى الرها. ثم جاء بعد موت ديقلاديانوس فوجد أباه قسطنطس قد ملك على الروم، فتسلم الملك من يده على ما نذكر. وهلك ديقلاديانوس لعشرين سنة من ملكه ولستمائة وست عشرة سنة من ملك الاسكندر، وملك من بعده ابنه مقسيمانوس.
قال ابن بطريق: سبع سنين، وقال المسبحي وابن الراهب: سنة واحدة. قالوا
وكان شريكه في الملك مقطوس وكان أشذ كفرا من ديقلاديانوس ولقي النصارى منهما شدة وقتلا منهم خلقاً كثيرا. وفي أول سنة من ملكه قدم الاسكندروس تلميذ مار بطرس الشهير بطركا بالإسكندرية، فلبث فيهم ثلاثاً وعشرين سنة. وعلى عهد مقسيمانوس تذكر تلك الخرافة بين المؤرخين من أنّ سابور ملك الفرس دخل أرض الروم متنكراً، وحضر مكان مقسيمانوس وسجنه في جلد بقرة، وسار إلى مملكة فارس وسابور في ذلك الجلد، وهرب منه ولحق بفارس، وهزم الروم في حكاية مستحيلة وكلها أحاديث خرافة. والصحيح منه أنّ سابور سار إلى مملكة الروم، فخرج إليه مقسيمانوس واستولى على ملكه كما نذكر بعد.
وأما هروشيوش فلما ذكر مناربان قيصر بن قاريوس وأنه ملك بعد أبيه وقتل لحينه.
ثم قال: وقام بملكهم ديوقاريان وثأر من قاتله. ثم خرج عليه اقرير بن قاريوس فقتله ديوقاريان بعد حروب طويلة. ثم انتقض عليه أهل ممالكه، وثار الثوار ببلاد الافرنجة والأندلس وأفريقية ومصر، وسار إليه سابور ذو الأكتاف، فدفع ديوقاريان إلى هذه الحروب كلها مخشميان هركوريش، وصيره قيصرا فبدأ أولا ببلاد الافرنجة، فغلب الثوار بها،أصلحها. وكان الثائر الذي بالأندلس قد ملك بيرطانية سبع سنين، فقتله بعض أصحابه ورجعت برطانية إلى ملك ديوقاريان. ثم استعمل خشميان خليفة ديوقاريان صهره قسطنطش وأخاه مخشمس ابني وليتنوس، فمضى إلى أفريقية وقهر الثوار بها، وردها إلى طاعة الرومانيين. وزحف ديوقاريان قيصر الأعظم إلى مصر والإسكندرية، فحصر الثائر بها إلى أنّ ظفر به وقتله. ومضى قسطنطش إلى اللمانيين في ناحية بلاد الافرنج فظفر بهم بعد حروب طويلة، وزحف مخشميان خليفة ديوقاريان إلى سابور ملك الفرس،
فكانت حروبه معه سجالا حتى غلبه وأصاب منه، واستاصل مدينة غورة والكوفة من بلاده سبيا وقتلا ورجع إلى رومة. ثم سرحه ديولاريان قيصر إلى حروب أهل غالش من الافرنجة، فأثخن فيهم قتلا وسبيا. ثم اشتد ديوقاريان على النصارى الشدة العاشرة بعد نيرون، وأثخن فيهم بالقتل، ودام ذلك عليهم عشر سنين. ثم اعتزل ديوقاريان وخليفته مخشميان الملك ورفضاه ودفعاه إلى قسنطش ابن وليتنوش وأخيه مخشمس ويسمى غلاريس، فاقتسما ملك الرومانيين. فكان لمخشمس غلاريش ناحية الشرق، وكان لقسنطش ناحية المغرب. وكانت افريقية وبلاد الأندلس وبلاد الافرنج في ملكته. وهلك ديوقاريان ومخشميان معتزلين عن الملك بناحية الشام، وأقام قسنطش في الملك. ثم هلك ببرطانية، وأقام بملك اللطينيين من بعده ابنه قسطنطين. انتهى كلام هروشيوش. ويظهر أنّ هذا الملك الذي سماه ابن. العميد ديتلاديانوس هو الذي سماه هروشيوش ديوقاريان، والخبر من بعد ذلك متشابه، والاسماء مختلفة ولا يخفى عليك وضع كل اسم في مكانه من الآخر، والله سبحانه وتعالى أعلم. الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفحال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلي حين الفتح الإسلامي ثم بعده إلي انقراض أمرهم هؤلاء الملوك القياصرة المتنصرة من أعظم ملوك العالم وأشهرهم، وكان لهم الاستيلاء على جانب البحر الرومى من الأندلس إلى رومة إلى القسطنطينية إلى الشام إلى مصر والإسكندرية، إلى أفريقية والمغرب. وحاربوا الترك والفرس بالمشرق والسودان المغرب من النوبة فمن وراءهم. وكانوا اولا على دين المجوسية، ثم بعد ظهور الحواريين ونشر دين النصرانية لأرضهم وتسلطهم عليهم بأرضهم مرة بعد أخرى، أخذوا بدينهم. وكان أول من أخذ به قسطنطين بن قسنطش بن وليتنوه وأمه هلانة بنت مخشميان قيصر خليفة ديوقاريان قيصر الثالث والثلاثون من القياصرة، وقد
مر ذكره آنفا. وإنما سمي هذا الدين دين النصرانية نسبة إلى ناصرة: القرية التي كان فيها مسكن عيسى عليه السلام عندما رجع من مصر مع أمه. وأما نسبه إلى نصران فهو من أبنية المبالغة، ومعناه أنّ هذا الدين في غير أهل عصابة، فهو دين من ينصره من أتباعه. ويعرف هؤلاء القياصرة ببني الأصفر، ولعض الناس ينسبهم إلى عيصو بن إسحاق وقد أنكر ذلك المحققون وأبوه.
وقال أبو محمد بن حزم عند ذكر إسرائيل عليه السلام: كان لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب واسمه عيصاب، وكان بنوه يسكنون جبال السراة من الشام إلى الحجاز وقد بادوا جملة. إلا أنّ قوما يذكرون أنّ الروم من ولده وهو خطأ، وإنما وقع لهم هذا الغلط لأن موضوعهم كان يقال له أروم، فظنوا أنّ الروم من ذلك الموضوع وليس كذلك، لأن الروم إنما نسبوا إلى رومتس باني رومة. وربما يحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك للحرث بن قيس: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ ولا حجة فيه لاحتمال أنّ يريد بني عيصاب على الحقيقة، لأن قصده كان إلى ناحية السراة وهو مسكن بني عيصو. قلت: مسكن عيصو هؤلاء كما يقال له ايذوم بالذال المعجمة إلى الظاء أقرب، فعربتها العرب راء ومن هنا جاء الغلط والله تعالى أعلم. وهذا الموضع يقال له يسعون أيضاً والاسمان له في التوراة. قال ابن العميد؟ خرج قسطنطين المؤمن على مقسيمانوس فهزمه ورجع إلى رومة، وازدحم العسكر على الجسر فوقع بهم في البحر، وغرق مقسيمانوس مع من غرق، ودخل قسطنطين رومة وملكها بعد أنّ أقام ملكاً على بيزنطية من بعد أبيه ستاً وعشرين سنة؛ فبسط الدل ورفع الجور، وخرج قائده يسكن ناحية قسطنطينية، وولاه على رومة وأعمالها وألزمه باكرام النصارى. ثم انتقض عليه وقتل النصارى وعبد الأصنام. وكان فيمن قتل ماريادس بطرك بطارقة، فبعث قسطنطين العساكر إلى رومة لحربه فساقوه أسيرا وقتله. ثم تنصر قسطنطين في مدينة نيقية لاثنتي عشر مر ملكه، وهدم بيوت الأصنام وبنى الكنائس، وللتاسعة عشرة من ملكه كان مجمع الأساقفة بمدينة نيقية، ونفى أريوس كما ذكرنا ذلك كله عن قبل. وأن رئيس هذا المجمع كان اسكندروس بطرك الإسكندرية. وفي الخامسة عشرة من رياسته توفي بعد المجمع بخمسة أشهر. وقال ابن بطريق: كانت ولاية اسكندروس في الخامسة من ملك قسطنطين، وبقي ست عشرة
سنة، وقتل في السادسة والعشرين من ملك ديقلاديانوس، وأنه كان على عهده أرسيانوس اسقف قيسارية. تال المسبحي: مكث بطركا ثلاثا وعشرين، وكسر صنم النحاس الذي هو هيكل زحل باسكندرية. وجعل مكانه كنيسة فهدمها العبيديون عند ملكهم اسكندرية.
وقال ابن الراهب: أنّ اسكندروسى البطرك ولي أول سنة من ملك قسطنطين، فمكث اثنتين وعشرين سنة، وعلى عهده جاءت هلانة أم قسطنطين لزيارة بيت المقدس، وبنت الكنائس وسألت عن موضع الصليب، فأخبرها مقاريوس الأسقف أنّ اليهود أهالوا عليه الحراب والزبل. فأحضرت الكهنونية وسألتهم عن موضع الصليب، وسألتهم رفع ما هنالك من الزبل. ثم استخرجت ثلاثة من الخشب، وسألت أيتها خشبة المسيح؛ فقال لها الأسقف: علامتها أنّ الميت لحيا بمسيسها، فصدقت ذلك بتجربتها، واتخذوا ذلك اليوم عيداً لوجود الصليب. وبنت على الموضع كنيسة القمامة وأمرت مقاريوس ا أسقف ببناء الكنائس، وكان ذلك لثلثمائة وثمان وعشرين من مولد المسيح عليه السلام. وفي حادية وعشرين من ملك قسطنطين كان مهلك اسكندروس البطرك، وولي مكانه تلميذه اثناييوس، كانت أمه تنصرت على يده فربي ابنها عنده وعلمه، وولى بطركا مكانه، وسعى به أصحاب أريوش إلى الملك بعده مرتين بقي فيهما على كرسيه ثم رجع. وحمل قسطنطين اليهود بالقدس على النصرانية فأظهروها، وافتتحوا في الامتناع من أكل الخنزير، فقتل منهم خلقا. وتنصر بعضهم فزعموا أنّ أحبار اليهود نقصوا من سني موايد الآباء نحواً من ألف وخمسمائة سنة، ليبطلوا مجيء المسيح في السوابيع التي ذكر دانيال أنّ المسيح يظهر عندها، وأنها لم يحن وقتها، وأن التوراة الصحيحة هي التي فسرها السبعون من أحبار اليهود ملك مصر. وزعم ابن العميد أنّ قسطنطين أحضرها واطلع منها على النقص الذي قاله. قال وهي التوراة التى بيد النصارى الآن. قال: ثم أمر قسطنطين بتجديد مدينة بيزنطية وسماها قسطنطينية باسمه، وقسم ممالكه بين أولاده فجعل لقسطنطين قسطنطينية وما والاها، ولقسطنطين الآخر بلاد الشام إلى أقصى المشرق، ولقسطوس الثالث رومة وما والاها. قال وملك خمسين سنة منها
ست وعشرون ببزنطية قبل غلبة هقسميانوس، ومنها أربع وعشرون بعد استيلائه على الروم. وتنصر في اثنتي عشرة من آخر ملكه، وهلك لستمائة وخمسين للاسكندر.
قال هروشيوش: كان قسطنطين بن قسنطش على دين المجوسية، وكان شديدا على النصارى، ونفى بطرك رومة فدعا عليه وابتلي بالجذام، ووصف له في مداواته أنّ ينغمس في دماء الأطفال، فجمع منهم لذلك عددا ثم أدركته الرقة عليهم فأطلقهم، فرأى في منامه من يحضه على الاقتداء بالبطرك، فرده إلى رومة وبرىء من الجذام. وجنح من حينئذ إلى دين النصرانية، ثم خشي خلاف قومه في ذلك، فارتحل إلى القسطنطينية ونزلها وشيد بناءها وأظهر ديانة المسيح، وحالف أهل رومة، فرجع إليهم وغلبهم على أمرهم وأظهر دين النصرانية. ثم جاهد الفرس حتى غلبهم على كثير من ممالكهم. ولعشرين سنة من ملكه خرجت طائفة من القوط إلى بلاده، فأغاروا وسبوا فزحف إليهم وأخرجهم من بلاده. ثم رأكما فى منامه عربا وبنودا على تمثال الصلب ن، وقائلا يقول: هذا علامة الظفر لك. فخرجت أمه هلانة إلى بيت المقدس لطلب آثار المسيح، وبنت الكنائس في البلدان ورجعت ثم هلك قسطنطين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه اهـ. كلام هروشيوش. ثم ولي قسطنطين الصغير بن قسطنطين وسماه هروشيوش قسنطش. قال ابن العميد: ملك أربعا وعشرين سنة وكان أخوه قسطوس برومة بولاية أبيهما، ففي خامسة من ملك قسطنطين بعث العساكر، فقتل مقنيطوس وأتباعه وولى على رومة من جهته، فكانت له صاغية إلى اريوس فأخذ بمذهبه، وغلبت تلك المقالة على أهل قسطنطينية وانطاكية ومصر والإسكندرية، وغلب أتباع أريوس على الكنائس، ووثبوا على بطرك اسكندرية ليقتلوه فهرب كما مر. ثم هلك لأربع وعشرين سنة من ملكه. وولي ابن عمه يولياش وقال هروشيوش بن منخشمطش، قال: وملك سنة واحدة. وقال ابن العميد ملك سنتين باتفاق لثلاثة من ملك سابور، وكان كافرا وقتلى النصارى وعزلهم عن الكنائس واطرحهم من الديوان، وسار لقتل الفرس، فمات من سهم أصابه. وقال هروشيوش: تورط في طريقه في مفازة ضل فيها عن سبيله، فتقبض عليه أعداوة وقتلوه. قال هروشيوش: وولي بعده بليان ابن قسطنطي سنة أخرى وزحف إلى الفرس، وملكهم يومئذ سابور فحجم عن لقائهم فصالحهم ورجع وهلك في طريقه. ولم
يذكر ابن العميد بليان هذا وإنما ما قال: ملك من بعد يوليانوس الملك يوشانوش سنة واحدة باتفاق في السادسة عشرة من ملك سابور، وكان مقدم عساكر يوليانوس، فلما قتل اجتمعوا إليه وبايعوه، واشترط عليهم الدخول في النصرانية فغلبوه. وأشار سابور بتوليته ونصب له صليبا في العسكر. ولما ولي نزل على نصيبين للفرس، ونقل الروم الذي بها إلى آمد ورجع إلى كرسي مملكتهم، فرد الأساقفة إلى الكنائس، ورجع فيمن رجع أثناسيوس بطرك اسكندرية، وطلب منه أنّ يكتب له أمانة أهل مجمع نيقية فجمع الأسالفة وكتبوها، وأشار عليه بلزومها ولم يذكر هروشيوش يوشانوش هذا، وذكر مكانه آخر قال وسماه بلنسيان بن قسنالس. قال: وقاتل امما من القوط والافرنجة وغيرهم. قال: وافترق القوط في أيامه فرقتين على مذهبي أريوس وأمانه نيقية. قال: وفي أيامه ولى داماش بطركاً برومة ثم هلك بالفالج، وملك بعده أخوه واليس أربع سنين، وعمل على مذهب أريوس، واشتد على أهل الأمانة وقتلهم، وثار عليه بأهل أفريقية بعض النصارى مع البربر، فأجاز إليهم البحر وحاربهم فظفر بالثائر وقتله بقرطاجنة، ورجع إلى قسطنطينية فحارب القوط وا أمم من ورائهم وهلك في حروبهم. وقال ابن العميد في قيصر الذي قتل واليس وسماه واليطنوس أنه ملك اثنتي عشرة سنة فيما حكاه ابن بطريق وابن الراهب. وحكى عن المسبحي خمسة عشرة شنه، وأن أخاه والياس كان شريكه في الملك، وأنه كان مباينا وأنه ملك لستمائة وست وسبعين للاسكندر وسبع عشرة لسابور كسرى. قال وفي أيامه وثب أهل إسكندرية على اثناسيوس البطرك ليقتلوه، فهرب وقدموا مكانه لوقيوس، وكان على راي أريوس. ثم اجتمع أهل الأمانة بعد خمسة أشهر ورجعوه إلى كوسه، وطردوا لوقيوس وأقام أثناسيوس بطركا إلى أنّ مات، فولوا بعده تلميذه بطرس سنتين، ووثب به أصحاب لوقيوس فهرب، ورجع لوقيوس الى الكرسي فأقام ثلاث سنين. ثم وثب به أهل الأمانة ورجعوا بطرس ومات لسنة من رجعته. ولقي من داريانوس قيصر ومن أصحاب أريوس شدائد ومحنا. قال المسبحي: كان واييطينوس يدين بالأمانة، وأخوه واليس يدين بمذهب أريوس أخذه عن ثاودكسيس اسقف القسطنطينية وعاهده على إظهاره، فلما ملك نفى جميع أساقفة الأمانة وسار أريوس اسقف أنطاكية بإذنه إلى الإسكندرية، فحبس بطرس البطرك وأقام مكانه أريوس من أهل سميساط
وهرب بطرس من السجن وأقام برومة. وكانت بين واليطينوس قيصر وبين سابور كسرى فتنة وحروب ، وهلك في بعض حروبه معهم وولى بعده أخوه واليس. قال ابن العميد: عن ابن الراهب سنتين وعن أبي فانيوس ثلاث سنين، وسماه والاس. وقال هو أبو الملكين اللذين تركا الملك وترهبا وسمي مكسينموس ودوقاديوس.
قال: وفي الثانية من ملكه بعث طيماناوس أخا بطرس بطركاً على إسكندرية، فلبث فيهم سبع سنين ومات، وفي سادسة ملكه كان المجمع الثاني بقسطنطينية وقد مر ذكره. وفي أيام واليس قيصر هذا مات بطرك قسطنطينية، فبعث اغريوس اسقف يزناروا وولاه مكانه، فوليه أبع سنين ومات. ثم خرج على واليس خارج من العرب، فخرج إليه فقتل في حروبه. ثم ولى أغراديانوس قيصر. قال ابن العميد: وهو أخو واليس وكان والنطوس بن واليس شريكا له في الملك وملك سنة واحدة. وقال عن أبي فانيوس سنتين، وعن ابن بطريق ثلاث سنين. وذكر عن ابن المسبحي وابن الراهب أنّ تاوداسيوس الكبير كان شريكا لهما، وأن ابتداء ملكهم لستمائة وتسعين من ملك الاسكندر، وأنه رد جميع ما نفاه واليس قبله من الأساقفة إلى كرسيه وخلى كل واحد مكانه. ومات اغراديانوس وابن أخيه في سنة واحدة. قال ابن العميد: وملك بعدهما ثاوداسيوس سبع عشرة سنة باتفاق لستمائة وتسعين من ملك الاسكندر، ولإحدى وثلاثين من ملك سابور كسرى. وفي سادسة ملكه مات اثناسيوس بطرك اسكندرية، فولي مكانه كاتبه تاوفيلا، وكان بطرك القسطنطينية يوحنا فم الذهب واسقف قبرس أبو فانيوس، كان يهوديا وتنصر. قال: وكان لتاوداسيوس ولدان ارقاديوس وبرباريوس. قال: وفي خامسة عشر من ملكه ظهر الفتية السبعة أهل الكهف، الذين قاموا أيام دقيانوس ولبثوا في نومهم ثلثمائة سنة وتسع سنين كما قصه القرآن، ووجد معهم صندوق النحاس والصحيفة التي أودع البطريق فيها خبرهم. وبلغ الأمر إلى قيصر تاوداسيوس، فبعث في طلبهم فوجدهم قد ماتوا، فأمر أنّ يبنى عليهم كنيسة ويتخذ يوم ظهورهم عيدا. قال المسبحي: وكان أصحاب اريوس قد استولوا على الكنائس منذ أربعين سنة، فأزالهم عنها ونفاهم، وأسقط من عساكره كل من يدين بتلك المقالة. وعقد المجمع الثاني بقسطنطينية لمائتين وخمسين سنة من مجمع نيقية، وقرر فيه الأمانة الأولى بنيقية، وعهدوا أنّ لا يزاد فيها ولا ينقص. وفي خامسة
عشرة من ملكه مات سابور بن سابور، وملك بعده بهرام. ثم هلك تاوداسيوس لسبع عشرة سنة من ملكه.
وأما هروشيوش فقال بعد ذكر واليس: وملك بعده وليطانش ابن أخيه فلنسسان ست سنين وهو الموفى أربعين عددا من ملوك القياصرة قال. واستعمل طودوشيش بن انطيونش بن لوخيان على ناحية المشرق. فملك الكثير منها. ثم هجم أهل رومة على قائدهم فقتلوه، وخلعوا وليطيانش الملك فلحق بطودوشيش بالمشرق فسلم إليه في الملك فأقبل طودوشيش إلى رومة وقتل الثائر بها، واستقل بملك القياصرة. وهلك لأربع عشرة سنة من ولايته. فولي ابنه كاديكش ويظهر من كلام هروشيوش أنّ طودوشيش هو تاوداسيوس الذي ذكره ابن العميد، لأنهما متفقان في أنّ ابنه اركاديس، ومتقاربان في المدة. فلعل وليطانش الذي ذكره هروشيوش هو اغراديانوس الذي ذكره ابن العميد اهـ.
قال ابن العميد: وملك اركاديش ولد تاوداسيوس الأكبر ثلاث عشرة سنة باتفاق في
ثالثة ملك بهرام بن ابور، وكان مقيما بالقسطنطينية، وولى أخاه انوريش على رومة. قال وولد أركاديش ابن سماه طودوشيش باسم أبيه. ولما كبر طلب معلمه أريانوس ليعلم ولده، فهرب إلى مصر وترهب ورغبه بالمال فأبى، وأقام في مغارة بالجبل المقطم على قرية طرا ثلاث سنين. ومات فبنى الملك على قبره كنيسة وديرا يسمى دير القصير ويقال: دير البغل. وفي أيامه غرق أبو فانيوس بمرجعه إلى ترصى. ومات يوحنا فم الذهب بطرك القسطنطينية، وكان نفاه أركاديش بموافقة أبي فانيوس، ودعا كل منهما على صاحبه فهلكا. وفي التاسعة من ملك أركاديش مات بهرام بن سابور، وملك ابنه يزدجرد. ثم هلك أركاديش وملك من بعده طودوشيش الأصغر ابن أركاديش ثلاث عشرة سنة، وولى أخاه انوريش على رومة فاقتسما ملك اللطينيين، وانتقض لعهديهما قومس أفريقية وخالفه إلى طاعة القياصرة، فحدثت بأفريقية فتنة لذلك. ثم غلب القومس أخاه نلحق بقبرص وترهب بها. تزحف القوط إلى رومة، وفر عنها أنوريش فحاربوها ودخلوها عنوة، واستباحوها ثلاثا وتجافوا عن أموال الكنائس. قال: ولما هلك اركاديش قيصر استبد أخوه انوريش بالملك خمس عشرة سنة، وأحسن في دفاع القوط عن رومة، وهلك فولي من بعده طودشيش ابن أخيه اركاديش، ولم يذكر ابن العميد أنوريش، وإنما ذكر بعد أركاديش ابنه طودشيش وسماه الأصغر. قال وملك اثنتين وأربعين سنة باتفاق في خامسة ملك يزدجرد، وكانت بينه وبين الفرس حروب كثيرة. قالى: وفي أول سنة من ملكه مات تاوفيلا بطرك إسكندرية فولي مكانه كيرلوس ابن اخته. في السابعة عثرة من ملكه قدم نسطوريش بطركا بالقسطنطينية، فأقام أربع سنين وظهرت عنه العقيدة التي دان بها، وقد تقدمت وبلغت مقالته إلى كيرلس بطرك الإسكندرية. فخاطب في ذلك بطرك رومة. وانطاكية وبيت المقدس. ثم اجتمعوا بمدينة أفسيس في مائتي اسقف وأجمعوا على كفر نسطوريس ونفوه، فنزل اخميم من صعيد مصر أقام بها سبع سنين، وأخذ بمقالته نصارى الجزيرة والموصل إلى الفرات، ثم العراق وفارس إلى المشرق. وولى طودوشيش بالقسطنطينية مقسيموس عوضا عن نسطورس، فأقام بها ثلاث سنين. وفي ثامنة وثلاثين من ملك طودوشيش الأصغر مات كيرلس بطرك الإسكندرية، وولي مكانه ديسقرس ولقي شدائد من مرقيان الملك بعده. وفي السادسة عشرة من ملك طودوشيش الأصغر مات يزدجرد كسرى وولي ابنه بهرام جور، وكانت بينه وبيني خاقان فلك الترك وقائع. ثم عدل عن حروبهم ودخل إلى أرض الروم فهزمه طودوشيش وملك ابنه يزدجرد. قال هروشيوش: وفي أيام طودوشيش الأصغر تغلب القوط على رومة وملكوها، وهلك ملكهم أبطريك كما نذكر في أخبارهم. ثم صالحوا الروم على أنّ يكون لهم الأندلس، فانقلبوا إليها وتركوا رومة انتهى. قال ابن العميد: ثم ملك مرقيان بعده ست سنين باتفاق وتزوج أخت طودوشيش وسفاه هروشيوش مركيان بن مليكة. قالوا وكان في أيامه المجمع الرابع بمقدونية وقد تقدم ذكره، وإنه كان بسبب ديسقوس بطرك اسكندريه، وما أحدث من الدغة في الأمانه فأجمعوا على نفيه، وجعلوا مكانه برطارس. وافترقت النصارى إلى ملكية، وهم أهل الأمانة، فنسبوا إلى مركيان قيصر الملك الذي جمعهم، وعهد بأن لا يقبل ما اتفق عليه أهل المجمع الخلقدوني. وإلى يعقوبية وهم أهل مذهب ديسقوس وتقدم الكلام في تسميتهم يعقوبية. وإلى نسطورية وهم نصارى المشرق. وفي أيام مركيان سكن شمعون الحبيس الصومعة بأنطاكية وترفب، وهو أول من فعل ذلك من النصارى. وعلى عهده مات يزدجرد كسرى. ومات مركيان قيصر لست سنيين من ملكه، وملك بعده لاون الكبير. قال ابن العميد:
لسبعمائة وسبعين من ملك الاسكندر، ولثانية من ملك نيرون ملك ست عشرة سنة. ووافقه هروشيوش على مدته، وقال فيه ليون بن شمخلية. قال ابن العميد: وكان على مذهب الملكية ولما سمع أهل إسكندرية بموت مركيان وثبوا على برطارس البطرك فقتلوه بعد ست سنين من ولايته، وأقاموا مكانه طيمناوس. وكان يعقوبيا ، فجاء قائد من قسطنطينية بعد ثلاث سنين من ولايته فنفاه، وأبدل عنه سورس من الملكية وأقام تسع سنين. ثم عاد طيماناوس بالأمر لاون قيصر ويقال أنه بقي بطركا اثنتين وعشرين سنة، ولثانية عشر من ملك لاون زحف الفرس إلى مدينة آمد وحاصروها وامتنعت عليهم. وفي أيامه مات شمعون الحبيس صاحب العمود. ثم هلك لاون قيصر لست عشرة سنة من ملكه. قال ابن العميد: وولي من بعده لاون الصغير وهو أبو زينون الملك بعده. وقال ابن بطريق هو ابن سينون، وكان يعقوبيا وملك سنة واحدة.
ولم يذكره هروشيوش، وإنما ذكر زينون الملك بعده، وسماه سينون بالسين المهملة، وقال: ملك سبع عشرة سنة، وقال ابن العميد مثله. ولثمانية عشر من ملك نيرون ولسبعمائة وسبع وثمانين للاسكندر قال وكان يعقوبيا وخرج عليه ولده ورجل من قرابته، وحاربهما عشرين شهراً. ثم قتلهما وأتباعهما، ودخل قسطنطينية ووجد بطركها وكان رديء العقيدة قد غير كتب الكنيسة وزاد ونقَّص. فكتب زينون قيصر إلى بطرك رومة وجمع الأساقفة فناظروه ونفوه. وفي سابعة ملك زينون مات طيماناوس بطرك إسكندرية فولي مكانه بطرس، وهلك بعد ثمان سنين فولي مكانه أثناسيوس، وهلك لسبع سنين وكان قيما ببعض البيع في بطركيته. قال المسبحي: وفي أيام زينون احترق ملعب الخيل الذي بناه بطليموس الأرنبا بالإسكندرية. وقال ابن بطريق: وفي أيام زينون هاجت الحرب بين نيرون والهياطلة وهزموه في بعض حروبهم، ورد الكرة عليه بعض قواده كما في أخبارهم، ومات نيرون، وتنازع الملك ابناه قياد ويلاش وفي عاشرة من ملك زينون غلب يلاش أخاه واستقل بالملك. ولحق أخره قياد بخاقان ملك الترك. ثم هلك يلاش لأربع سنين، ورجع قياد واستولى على مملكة فارس، وذلك في أربعة عشر من ملك زينون، فأقام ثلاثاً وأربعين سنة. وهلك زينون لسبع عشر من ولايته، فملك بعده نسطاس سبعاً وعشرين سنة في أربعة من ملك قياد، ولثمانمائة وثلاث للاسكندر، وكان يعقوبيا وسكن حماة، ولذلك أمر أن تشيد وتحضن فبنيت في شتين. وعهد لأول ملكه أن يقتل كل امرأة كاتبة. وفي ثالثة ملكه أمر ببناء مدينة في المكان الذي قتل فيه دارا فوق نصيبين. ثم وقعت الحرب بينه وبين الأكاسرة وخرب قياد مدينة آمد، ونازلت عساكر الفرس إسكندرية وأحرقوا ما حولها من البساتين والحصون. وقتل بين الامتين خلق كثير. وفي سادسة ملكه مات اثناسيوس بطرك الإسكندرية فصير مكانه يوحنا وكان يعقوبيا، ومات لتسع سنين، فصير بعده يوحنا الحسن، ومات بعد إحدى عشرة. وفي أيام نسطاس قدم ساريوس بطركاً بانطاكية، وكان كلاهما على امة ديسقوس. وفي سابعة وعشرين من ملك نسطاس قدم ساريوس بطركاً بانطاكية. ومات يوحنا بطرك إسكندرية فولى مكانه ديسقوس الجديد ومات لسنتين ونصف.
وقال سعيد بن بطريق: إن إيليا بطرك المقدس كتب إلى نسطاس قيصر يسأله الرجوع إلى الملكية ويوضح له الحق في مذهبهم، وصبا إليه في ذلك جماعة من الرهبان، فأحضرهم وسمع كلامهم، وبعث إليهم بالأموال للصدقات وعمارة الكنائس، وكان بقسطنطينية رجل على رأي ديسقوس فمضى إلى نشطانش قيصر ومضى وأشار عليه باتباع مذهب ديسقوس وأن يرفض المجمع الخلقدوني فقبل ذلك منه، وبعث إلى جميع أهل مملكته. وبلغ ذلك بطرك أنطاكية فكتب إلى نشطانش قيصر بالملامة على ذلك، فغضب ونفاه. وجعل مكانه بإنطاكية سويوس وبلغ ذلك إلى إيليا بطرك القدس. فجمع الرهبان ورؤساء الديور في نحو عشرة آلاف، ولعنوا سويوس، وأجرموه والملك نشطانش معه. فنفاه نشطانش إلى ايليا، وذلك في ثالثة وعشرين من ملكه. فاجتمع جميع البطاركة والأساقفة من الملكية وأجرموا نشطانش الملك وسويوس وديسقوس إمام اليعقوبية ونسطورس.
قال ابن بطريق: وكان لسيوس تلميذ اسمه يعقوب البرادعي يطوف البلاد داعيا إلى مقالة سويروس ودسفوس فنسب اليعاقبة إليه. وقال ابن العميد: وليس كذلك لأن اليعاقبة سموا بذلك من عهد ديسقوس كما مر. ثم هلك نشطانش لسبع وعشرين من ملكه، وملك بعده يشطيانش قيصر لثمانية وثلاثين من ملك قياد بن نيرون، ولثمانية وثلاثين للاسكندر. وملك تسع سنين باتفاق. وقال هروشيوش سبعا. وقال المسبحي كان معه شريك في ملكه إسمه يشطيان. وفي ثالثة ملكة غزت الفرس بلاد الروم، فوقعت بين الفرس والروم حروب كثيرة.
وزحف كسرى في آخرها لثمانية من ملك يشطيانش ومعه المنذر ملك العرب، فبلغ الرها وغلب الروم، وغرق من الفريقين في الفرات خلق كثير وحمل الفرس أسارى الروم وسباياهم. ثم وقع الصلح بينهما بعد موت قيصر. وفي تاسعة ملكه أجاز البربر من المغرب إلى رومة وغلبوا عليها. قال ابن بطريق وكان يشطيانش على دين الملكية فرد كل من نفاه نشطانش قبله منهم. وصير طيماناوس بطركاً بالإسكندرية وكان يعقوبيا فلبث فيهم ثلاث سنين وقيل سبع عشرة سنة. " وقال ابن الراهب: كان يشطيانش خلقدونيا، ونفى طيماناوس البطرك عن إسكندرية وجعل مكانه أيوليناريوس وكان ملكيا وعقد مجمعا بالقسطنطينية يريد جمع الناس على رأي الخلقدونية مذهبه. وأحضر شاويرش بطرك إنطاكية وأساقفة المشرق فلم يوافقوه، فاعتقل بطرك أنطاكية سنين ثم أطلقه، فسار إلى مصر وبقي مختفياً في الديور. ثم وصل أيوليناريوس بطرك إسكندرية ومعه كتاب الأمانة الخلقدونية، فقبل الناس منه وتبعوا مذهبه فيها وصاروا إليه. وهلك يشطيانش لتسع سنين من ملكه. ثم ملك يشطيانش قيصر لإحدى وأربعين من ملك قياد، ولثمانمائة وأربعين للاسكندر، وكان ملكيا، وهو ابن عم يشطيانش الملك قبله. وقال المسبحي: بل كان شريكه كما مر، وملك أربعين سنة باتفاق. وقال أبو فانيوس: ثلاثاً وثلاثين، وفي سابعة ملكه غزا كسرى بلاد الروم وأحرق ايليا وأخذ الصليب الذي كان فيها، وفي حادية عشر من ملكه عصت السامرية عليه فغزاهم وخرب بلادهم، وفي سادسة عشر من ملكه غزا الحارث بن جبلة أمير غسان والعرب ببرية الشام، وغزا بلاد الأكاسرة وهزم عساكرهم وخرب بلادهم. ولقيه بعض مرازبه كسرى فهزمهم ورد السبي منهم. ثم وقع الصلح بين فارس والروم وتوادعوا. وفي خمس وثلاثين من ملك يشطيانش عهد لان يتخذ عيد الميلاد في رابع وعشرين من كانوا الأول، وعيد الغطاس في ست منه، وكانا من قبل ذلك جميعاً في سادس كانون. وقال المسبحي: أراد يشطيانش حمل الناس على رأي الملكية طيماناوس بطرك إسكندرية وكان يعقوبيا وأراده على ذلك، فامتنع فهم بقتله ثم أطلقه، فرجع إلى مصر مختفيا، ثم نفاه بعد ذلك وجعل مكانه بولس وكان ملكيًّا فلم يقبله اليعاقبة وأقام على ذلك سنين. قال سعيد بن بطريق ة ثم بعث قيصر قائدا من قواده اسمه يوليناريوس وجعله بطرك إسكندرية فدخل الكنيسة بزي الجند، ثم لبس زفي البطاركة وقدس، فهموا به فصار إلى سياستها فأقصدوا، ثم حملهم على رأي اليعقوبية وقتل من امتنع وكانوا مائتين. وفي أيام يشطيانش هذا ثار السامرة بأرض فلسطين، وقتلوا النصارى وهدموا كنائسهم، فبعث العساكر وأثخنوا فبهم، وأمر ببناء الكنائس كما كانت. وكانت كنيسة بيت لحم صغيرة فأمر بأن يوسع فيها فبنيت كما هي لهذا العهد. وفي عهده كان المجمع الخامس بقسطنطينية بعد مائة وثلاث وستين من المجمع الخلقدوني، ولتاسعة وعشرين من ملك يشطيانش، وقد مر ذكر ذلك. وفي عهد قيصر هذا مات أيوليناريوس القائد الذي جعل بطركاً بإسكندرية لسبع عشرة سنة مر ولايته، وهو كان رئيس هذا المجمع وجعل مكانه يوحنا وكان امانيا، وهلك لثلاث سنين وانفرد اليعاقبة بالإسكندرية، وكان أكثرهم القبط وقدموا عليهم طودوشيوش بطركاً لبث فيهم اثنتين وثلاثين سنة. وجعل الملكية بطركهم داقيانوس وطردوا طودوشيوش من كرسيه ستة أشهر. ثم أمر يشطيانش قيصر بأن يعاد فأعيد وطلب منه المغامسة أن يقدم دقيانوس بطرك الملكية على الشمامسة فأجابهم. ثم كتب يشطيانش إلى طودوشيوش البطرك باجتماع المجمع الخلقدوني أو يترك البطركية فتركها ونفاه، وجعل مكانه بولس التنسي، فلم يقبله أهل إسكندرية ولا ما جاء به. ثم مات وغلقت كنائس القبط اليعقوبية ولقوا شدائد من الملكية ومات طودوشيوش البطرك في سابعة وثلاثين من ملكة يشطيانش وجعل مكانه باسكندرية بطرس ومات لعد سنتين. قال ابن العميد: وسار كسرى أنو شروان في مملكة يشطيانش قيصر إلى بلاد الروم، وحاصر أنطاكية وفتحها، وبنى قبالتها مدينة سماها رومة، ونقل إليها انطاكية. ثم هلك يشطيانش وملك بعده يوشطونش قيصر لت وثلاثين من ملك أنو شروان؛ ولثمانمائة وثمانين للاسكندر، فملك ثلاث عشرة سنة. وقال هروشيوش: إحدى عشرة سنة ولثانية من ملكه مات بطرس ملك إسكندرية فجعل مكانه داميانو، فمكث ستاً وثلاثين سنة- وخربت الديور على عهده، وفي الثانية عشرة من ملكه مات كسرى أنو شروان بعد أن كان بعث العساكر من الديلم مع سيف بن ذي يزن من التبابعة، ففتحوا اليمن وصارت للاكاسرة. ثم هلك يوشطونش قيصر لإحدى عشرة أو ثلاث
عشرة من ملكه. وملك بعده طيباريوس قيصر لثالثة من ملك هرمز ابن أنو شروان. ولثمانمائة واثنتين وتسعين للاسكندر. فملك ثلاث سنين عند ابن بطريق وابن الراهب، وأربعا عند المسبحي، ولعهده انتقض الصلح بين الروم وفارس، واتصلت الحرب وانتهت عساكر الفرس إلى راس عين الخابور، فثار إليهم موريق من بطاركة الروم فهزمهم. ثم جاء طباريش قيصر على أثره فعظمت الهزيمة، واستمر القتل في الفرس، وأسر الروم منهم نحوا من أربعة آلاف غربهم إلى جزيرة قبرص.
ثم انتقض بهرام مرزبان هرمز كسرى وطرده عن الملك بمنجع من تخوم بلاد الروم، وبعث بالصريخ إلى طباريش قيصر فبعث إليه المدد من الفرسان والأموال. يقال كان عسكر المدد أربعين ألفا فسار هرمز ولقيه بهرام بين المدائين. وواسط فانهزم واستييح، وعاد هرمز إلى ملكه وبعث إلى طباريش بالأموال والهدايا أضعاف ما أعطاه، ورد إليه ما كانت الفرس أخذله من بلادهم وسألهم.... وغيرها، وقل من كان فيها من الفرس إلى بلاده. وسأله طباريش بأن يبني هيكلين للنصارى بالمدائن وواسط، فأجابه إلى ذلك.
ثم هلك طباريش قيصر وملك من بعده موريكش قيصر في السادسة لهرمز، ولثمانمائة وخمس وتسعين للاسكندر، وملك عشرين سنة باتفاق المؤرخين، فأحسن السيرة. وفي حادية عشر من ملكه بلغه عن بعض اليهود بانطاكية أنهم بالوا على صورة المسيح ، فأمر بقتلهم ونفيهم. ولعهده انتقض على هرمز كسرى قريبه بهرام وخلعه واستولى على ملكه وقتله، وسار ابنه ابرويز إلى موريكش قيصر صريخاً فبعث معه العساكر، ورد أبرويز إلى ملكه. وقتل بهرام الخارج عليه وبعث إليه بالهدايا والتحف كما فعل أبوه من قبله مع القياصرة، وخطب أبرويز من موريكش قيصر ابنته مريم، فزوجه إياها
وبعث معها من الجهاز والأمتعة والأقمشة ما يضيق عنه الحصر، ثم وثب على موريكش بعض مماليكه بمداخلة قريبه البطريق قوقا، فدسه عليه فقتله، وملك على الروم وتسمى قيصر، وذلك لتسعمائة وأربع عشرة للاسكندر، وخمس عشرة لأبرويز. فملك ثماني سنين وقتل أولاد موريكش، وأفلت صغير منهم فلحق بطورسينا وترهب ومات هنالك، وبلغ أبروبز كسرى ما جرى على موريكش وأولاده، فجمع عساكره وقصد بلاد الروم يأخذ ثأر صهره، وبعت عساكره مع مرزبانه خزرويه إلى القدس وعهد إليه بقتل اليهود وخراب البلد. وبعث بمرزبان آخر إلى مصر والإسكندرية. وجاء بنفسه في عساكر الفرس إلى القسطنطينية وحاصرها وضيق عليها. وأما خزرويه المرزبان فسار إلى الشام وخرب البلاد. واجتمع يهود طبرية والخليل وناصرة وصور وأعانوا الفرس على قتل النصارى وخراب الكنائس؛ فنهبوا الأموال وأخذوا قطعة من الصليب وعادوا إلى كسرى بالسبي وليهم زخريا بطرك القدس، فاستوهبته مريم بنت موريكش من زوجها ابرويز فوهبه إياها مع قطعة الصليب. ولما خلت الشام من الروم واجتمع الفرس على القسطنطينية تراسل اليهود من القدس والخليل وطبرية ودمشق وقبرص واجتمعوا في عشرين ألفا، وجاءوا إلى صور ليملكوها، وكان فيها من اليهود نحو من أربعة آلاف، فتقبض بطركها عليهم وقيدهم. وحاصرهم عساكر اليهود وهدموا الكنائس خارج صور. والبطرك يقتل المقيدين ويرمي برووسهم إلى أن فنوا. وارتحل كسرى عن القسطنطينية جاثياً فأجمل اليهود عن صور وانهزموا.
وقال ابن العميد: وفي رابعة من قوقاص قيصر قدم يوحنا الرحوم بطركاً على الملكية بإسكندرية ومصر. وإنما سمي الرحوم لكثرة رحمته وصدقته. وهو الذى عمل البيمارستان للمرضى بإسكندرية. ولما سمع بمسير الفرس هرب مع البطريق الوالي بإسكندرية إلى قبرص، فمات بها لعشر سنين من ولايته. وخلا يرسي الملكية بإسكندرية سبع سنين. وكان اليعاقبة بإسكندرية قدموا عليهم فى أيام قوقاص قيصر بطركاً اسمه أنسطانيوش مكث فيهم اثنتي عشرة سنة، واسترد ما كانت الملكية استولت عليه من الكنائس اليعقوبية. وجاءه اثناسيوس بطرك انطاكية بالهدايا سرورا بولايته، فتلقاه هو بالأساقفة والرهبان. واتحذت الكنيسة بمصر والشام، وأقام عنده أربعين يوما ورجع إلى مكانه. ومات انسطانيوش بعد اثنتي عشرة من ولايته لثلثمائة وثلاثين من ملك ديقلاديانوس. ولما انتهى أبرويز في حصار القسطنطينية نهايته وضيق عليها وعدموا الأقوات واجتمع البطاركة بعلوقيا وبعثوا السمن مشحونة بالأقوات مع هرقل أحد بطاركة الروم. ففرحوا به ومالوا إله، وداخلهم في الملك، وأن قوقاص سبب هذه الفتنة، فثاروا عليه وقتلوه وملكوا هرقل. ودلك لتسعمائة واثنتين وعشرين للاسكندر، فارتحل أبرويز عن القسطنطينية راجعاً إلى بلاده. وملك هرقل بعد ذلك إحدى وثلاثين سنة ونصف عند المسبحي وابن الراهب، واثنتين وثلاثين عند ابن بطريق. وكانت ملكته اول سنة من الهجرة. وقال هروشيوش لتسع وسماه هرقل بن هرقل بن أنطونيش. ولما تملك هرقل بعث أبرويز بالصلح بوسيلة هم موريكش، فأجابهم على تقرير الضريبة عليهم فامتنعوا، فحاصرهم ست سنين أخرى إلى الثمان التي تقذمت، وجهدهم الجوع، فخادعهم هرقل بتقرير الضريبة على أن يفرج عنهم حتى يجمعوا له الأموال. وضربوا الموعد معه ستة أشهر ونقض هرقل، فخالف كسرى إلى بلاده واستخلف أخاه قسطنطين على قسطنطينية وسار في خمسة آلاف من عساكر الروم إلى بلاد فارس فخرب وقتل وسبى، وأخذ بني أبرويز كسرى من مريم بنت موريكش وهما قباذ وشيرويه. ومر بحلوان وشهرازور إلى المدائن ودجلة ورجع إلى أرمينية، ولما قرب من القسطنطينية وارتحل أبرويز كسرى إلى بلاده فوجدها خراباً، وكان ذلك مما أضعف من مملكة الفرس وأوهنها. وخرج هرقل لتاسعة من ملكه لجمع الأموال، وطلب عامل دمشق منصور بن سرحون فاعتذر بأنه كان يحمل الأموال إلى كسرى، فعاقبه واستخلص منه مائة ألف دينار وأبقاه على عمله. ثم سار إلى بيت المقدس، وأهدى إليه فأمنهم أولا، ثم عرفه الأساقفة والرهبان بما فعلوه في الكنائس، ورآها خراباً وأخبروه بمن قتلوه من النصارى، فأمر هرقل بقتلهم فلم ينج منهم إلا من اختفى أو أبعد المفر إلى الجبال والبرارى، وأمر بالكنائس فبنيت. وفي العاشرة من ملكه قدم أندرسكون بطركاً لليعاقبة بإسكندرية، فأقام ست سنين
خربت فيها الديور. ثم مات فجعل مكانه بنيامين. فمكث سبعاً وثلاثين سنة وممات. والفرس يومئذ قد ملكوا مصر والإسكندرية.
وأمّا هرقل فسار من بيت المقدس إلى مصر وملكهما وقتل الفرس وولى على الإسكندرية فوس وكان أمانيا وجمع له بين البطركة والولاية. ورأى بنيامين البطرك في نومه شخصاً يقول قم فاختف إلى أن يجوز غضب الرب. فاختفى وتقبض هرقل على أخيه مينا وأراده على الأخذ بالأمانة الخلقدونية فامتنع فأحرقه بالنار، ورمى بجثته في البحر. ثم عاد هرقل إلى قسطنطينية بعد أن جمع الأموال من دمشق وحمص وحماة وحلب، وعمر البلاد إلى أن ملك مصر عمرو بن العاص، وفتحها لثلثمائة وسبع وخمسين لديقلاديانوس، وكتب لبنيامين البطرك بالأمان، فرجع إلى إسكندرية بعد أن غاب عن كرسيه ثلاث عشرة سنة. قال ابن العميد: وانتقل التاريخ إلى الهجرة لإحدى عشرة من ملك هرقل، وذلك لتسعمائة وثلاث وثلاثين للاسكندر، وستمائة وأربع عشرة للمسيح. قال المسعودى: وقيل إن مولده عليه السلام كان لعهد نيشطيانش الثاني الذي ذكر أنه نوسطيونس الذي بنى كنيسة الرها، وأن ملكه كان عشرين سنة. ثم هرقل بن نوسطيونس حمس عشرة سنة، وهو الذي ضرب الحكة الهرقلية، وبعده مورق بن هرقل. قال: والمشهور بين الناس أن الهجرة وأيام الشيخين كان مفك الروم لهرقل. قال: وفي كتب السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق، ثم كان بعده ابنه قيصر بن قيصر أيام أبى بكر، ثم هرقل بن قيصر أيام عمر، وعليه كان الفتح وهو المخرج من الشام. قال: ومدة ملكهم إلى الهجرة مائة وخمى وسبعون سنة. قال الطبري: مدة. ما بين عمارة المقدس بعد تخريب بختنصر إلى الهجرة على قول النصارى ألف سنة وتزيد، ومن ملك الاسكندر إليها تسعمائة ونيف وعشرين سنة، ومنه إلى مولد عيسى ثلثمائة وثلاث سنين، وعمره إلى رفعه اثنان وثلاثون سنة، ومن رفعه إلى الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة. وقال هروشيرش أن ملك هرقل كانت الهجرة في تاسعته، وسماه هرقل بن هرقل ابن انطونيوس لستمائة وإحدى عشرة من تاريخ الصسيح، ولألف ومائة من بناء رومة. والله تعالى أعلم.
الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية
إلى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم قال ابن العميد: وفي الثانية من الهجرة بعث أبرويز عساكره إلى الشام والجزيرة فملكها، وأثخن في بلاد الروم وهدم كنائس النصارى، واحتمل ما فيها من الذهب والعضة والآنية، حتى نقل الرخام الذي كان بالمباني. وحمل أهل الرها على رأي اليعقوبية باغراء طبيب منهم كان عنده، فعرجوا إليه وكانوا فلكية. وفي سابعة الهجرة بعث عساكر الفرس ومقدمهم مرزبانه شهريار، فدوخ بلاد الروم وحاصر القسطنطينية، ثم تغير له فكتب إلى المرازبة معه بالقبض عليه. واتفق وقوع الكتاب بيد هرقل فبعث به إلى شهريار، فانتقض ومن معه وطلبوا هرقل في المدد، فخرج معهم بنفسه في ثلثمائة ألف من الروم، وأربعين ألفا من الخزر الذين هم التركمان. وسار إلى بلاد الشام والجزيرة وافتتح مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل، وفيما افتتح أرمينية. ثم سار إلى الموصل فلقيه جموع الفرس، وقائدهم المرزبان، فانهزموا وقتل. وأجفل أبرويز عن المدائن واستولى هرقل على ذخائر ملكهم. وكان شيرويه بن كسرى محبوسا فأخرجه شهريار وأصحابه وملكوه، وعقدوا مع هرقل الصلح، ورجع هرقل إلى آمد بعد أن ولى أخاه تداوس على الجزيرة والشام. ثم سار إلى الرها ورد النصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الذي اكرهوا على تركه، وأقام بها سنة كاملة. وعن يخر ابن العميد: وفي آخر سنة ست من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتابه من المدينة مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام. ونصه على ما وقع في صحيح البخاري. بسم اله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدي، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يوتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. فلما بلغه الكتاب جمع من كان بأرضه من قريش وسألهم عن أقربهم نسبا منه، فأشاروا
إلى ابن سفيان بن حرب. فقال لهم: إني سائله عن شان هذا الرجل، فاستمعوا ما يقوله. ثم سأل أبا سفيان عن أحوال تجب أن تكون للنبيصلى الله عليه وسلم أو ينزه عنها. وكان هرقل عارفا بذلك، فأجابه أبو سفيان عن جميع ما سأله عن ذلك. فرأى هرقل أنه نبي لا محالة، مع أنه كان حزاء ينظر في علم النجوم، وكان عنده علم من القرآن الكائن قبل الملة، بظهور الملة والعرب، فاستيقن بنبوته وصحة ما يدعو إليه، حسبما ذكر البخاري في صحيحه.
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرث بن أبي شمر الغسانى ملك غسان بالبلقاء من أرض الشام، وعامل قيصر على العرب، مع شجاع بن وهب الاسدي يدعوه إلى الإسلام. قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق يهيئ النزل لقيصر حين جاء من حمص إلى إيليا. فشغل عني إلى أن دعاني ذات يوم وقرأ كتابي وقال: من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه ولو كان باليمن. ثم أمر بالخيول تنعل، وكتب بالخبر إلى قيصر، فنهاه عن المسير. ثم أمرني بالانصراف وزودني بمائة دبنار. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من الهجرة جيشه إلى الشام وهي غزوة مؤتة، كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف، وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب فجعفر، فعبد الله بن رواحة، فانتهرا إلى معان من أرض الشام، ونزل هرقل صاب من أرض البلقا في مائة ألف من الروم. وانضمت إليهم جموع جذام والغيد وبهرام وبلى، وعلى بلى ممالك بن زافلة. ثم زحف المسلمون إلى البلقا، ولقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب على مؤتة فكان التمحيص والشهادة. واستشهد زيد، ثم جعفر ثم عبد الله. وانصرف خالد بن الوليد بالناس فقدموا المدينة، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل من المسلمين، ولا كوجده على جعفر بن أي طالب، لأنه كان تلاده. ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيأوا لغزو الروم، فكانت غزوة تبوك. فبلغ تبوك وأتاه صاحب ايلة وجرباء وأذرح وأعطوا الجزية، وصاحب ايلة يومئذ يوحنا بن روبه بن نفاثة أحد بطون جذام وأهدى له بغلة بيضاء. وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل وكان بها اكيدر بن عبد الملك، فأصابوه بضواحيها في ليلة مقمرة فأسروه، وقتلوا أخاه وجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه وصالحه على الجزية ورده إلى قريته. وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وقفل إلى المدينة. وبلغ خبر يوحنا إلى هرقل، فأمر بقتله وصلبه عند قريته اهـ. عن غير ابن العميد.
ورجعنا إلى كلامه قال: وفي الثالثة عشر من الهجرة جهز أبو بكر العساكر من المسلمين من العرب لفتح الشام: عمرو بن العاص لفلسطين، ويزيد بن أبي سفيان لحمص، وشرحبيل بن حسنة للبلقاء، وقائدهم أبو عبيدة بن الجراح. وبعث خالد بن سعيد بن العاص إلى سماوة فلقيه ماهاب البطريق في جموع الروم، فهزمهم خالد إلى دمشق ونزك موضع الصفراء. ثم أخذوا عليه الطريق ونازلوه ثانية، فتجهز إلى جهة المسلمين. وقتل ابنه،. وبعث أبو بكر خالد بن الوليد بالعراق يسير إلى الشام أميرا على المسلمين. فسار ونزل معهم دمشق وفتحوها كما نذكر في الفتوحات. وزحف عمرو بن العاصي إلى غيره ولقيته الروم هنالك، فهزمهم وتحصنوا ببيت المقدس وقيسارية. ثم زحف عساكر الروم من كل جانب في مائتين وأربعين ألفا، والمسلمون في بضع وثلاثين ألفاً والتقوا باليرموك، فانهزم الروم وقتل منهم من لا يحصى، وذلك في الخامسة عشر من الهجرة، ثم تتابعت عليهم الهزائم، ونازل أبو عبيدة وخالد بن الوليد حمص، فصالحوهم على الجزية. ثم سار خالد إلى قنسرين فلقيه منباس البطريق في جموع الروم، فهزمهم وقتل منهم خلق كثير. وفتح قنسيرين ودوخ البلاد. ثم سار عمرو بن العاصي وشرحبيل بن حسنة فحاصروا مدينة الرملة، وجاء عمر بن الخطاب إلى الشام، فعقد لأهل الرملة الصلح على الجزية، وبعث عمراً وشرحبيل لحصار بيت المقدس فحاصروها، ولما أجهدهم البلاء طلبوا الصلح على أن يكون أمانهم من عمر نفسه، فحضر عندهم وكتب أمانهم ونصه:
بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب لأهل إيلياء، أنهم آمنون على دمائهم وأولادهم ونسائهم، جميع كنائسهم لا تسكن ولا تهدم اهـ. ودخل عمر بن الخطاب بيت المقدس، وجاء كنيسة القمامة فجلس فبم صحنها، وحان وقت الصلاة فقال للبترك أريد الصلاة، فقال له صل موضعك، فامتنع وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا. فلما قضى صلاته قال للبترك: لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلى عمر. وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها. ثم قال للبترك أرني موضعا أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها ردماً كثيراً فشرع في ازالته، وتناوله بيده يرفعه في ثوبه، واقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه. وأمر ببناء المسجد. ثم بعث عمرو بن العاصي إلى مصر فحاصرها، وأمده بالزبير بن العوام في أربعة آلاف من المسلمين فصالحهم المقوقس على الجزية، ثم سار إلى الإسكندرية فحاصرها وافتتحها.
وفى السابعة عشر من الهجرة جاء ملك الروم إلى حمص في جموع النصرانية وبها ابو عبيدة فهزمهم واستلحمهم. ورجع هرقل إلى انطاكية وقد استكمل المسلمون فتح فلسطين وطبرية والساحل كله. واستنفر العرب المتنمرة من غسان ولخم وجذام وقدم عليهم ما هاب البطريق، وبعثه للقاء العرب. وكتب إلى عامله على دمشق منصور بن سرحون أن يمده بالأموال. وكان يحقد عليه نكبته من قبل، واستصفى ماله حين أفرج الفرج عن حصاره بالقسطنطينية لأول ولايته. فاعتذر العامل للبطريق عن المال، وهون عليه أمر العرب. فسار من دمشق للقائهم ونازلهم بجابية الخولان ثم أتبعه العامل ببعض مال جهزه العساكر. وجاء العسكر ليلا وأوقد المشاعل وضرب الطبول، ونفخ البوقات فظنهم الروم عسكر العرب جاءوا من خلفهم، وأنهم احيط بهم، فأجفلوا وتساقطوا في الوادي وذهبوا طوائف إلى دمشق وغيرها من ممالك الروم. ولحق ماهاب بطور سيناء، وترهب إلى أن هلك وأتبع المسلمون الفل مع منصور إلى دمشق، وحاصروها ستة أشهر فرقوا على أبوابها. ثم طلب منصور العامل الأمان للروم من خالد فأمنة ودخل المدينة من الباب الشرقي، وتسامع الروم الذين بسائر الأبواب فهربوا وتركوها. ودخل منها الامراء الاخرون عنوة ومنصور ينادي بأمان خالد، فاختلف المسلمون قليلاً ثم اتفقوا على أمان الروم الذين كانوا بالإسكندرية بعد أن افتتحها عمرو بن العاصي ركبوا إليه البحر ووافوه بها. ثم هلك هرقل لإحدى وعشرين من الهجرة، ولإحدى وثلاثين من ملكه. فملك على الروم بقسطينطنية قسطنطين، وقتله بعض نساء أبيه لستة أشهر من ملكه. وملك أخوه هرقل بن هرقل. ثم تشاءم به الروم فخلعوه وقتلوه، وملكوا عليهم قسنطينوس بن قسطنطين، لملك لست عشرة سنة، ومات لسابعة وثلاثين من الهجرة. وفي أيامه غزا معاوية بلاد الروم سنة أربع وعشرين، وهو يومئذ أمير على الشام في خلافة عمر بن الخطاب؛ فدوخ البلاد، وفتح منها مدناً كثيرة وقفل، ثم أغزى عساكر المسلمين إلى قبرص في البحر، ففتح منها حصوناً وضرب الجزية على أهلها، وذلك سنة سبع وعشرين.
وكان عمرو بن العاصي لما فتح الإسكندرية كتب لبنيامين بطرك اليعاقبة بالأمان، فرجع بعد ثلاث عشرة من مغيبه، وكان ولاه هرقل في أول الهجرة كما قدمنا. وملك الفرس مصر والإسكندرية عشر سنين عند حصار قسطنطينية أيام هرقل، ثم غاب عن الكرسي عندما ملك الفرس وقدموا الملكية وبقي غائبا ثلاث عشرة سنة أيام الفرس عشرة وثلاث من ملكة المسلمين. ثم أقه عمرو بن العاصي فعاد ثم مات في تاسعة وثلاثين من الهجرة، وخلفه في مكانه أغاثوا فملك سبع عشرة سنة. ولما هلك قسنطينوس بن قسطنطين فى سابعة وثلاثين من الهجرة كما قلناه، ملك على الروم في القسطنطينية ابنه يوطيانوس، فمكث اثنتي عشرة سنة وتوفى سنة خمسين، فملك بعده طيباريوس ومكث سبع سنين. وفي أيامه غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في عساكر المسلمين، وحاصرها مدة ثم أفرج عنها، واستشهد أبو أيوب الانصاري في حصارها ودفن في ساحتها. ولما قفل عنها توعدهم بتعطيل كنائسهم بالشام إن تعرضوا لقبره. ثم قتل طيباريوس قيصر سنة ثمان وخمسين، وملك اوغسطس قيصر. وفي أيام ولايته مات أغاثوا بطرك اليعاقبة القبط بإسكندرية، وقدم مكانه يوحنا. ثم قتل اوغسطس قيصر، ذبحه بعض عبيده سنة(....) وملك ابنه اصطفانيوس، وكان لعهد عبد الملك بن مروان، وفي سنة خمس وسين من الهجرة زاد عبد الملك في المسجد الأقصى، وأدخل الصخرة في الحرم. ثم خلع اصطفانيوس، ثم ملك بعده لاون ومات سنة ثمان وسبعين، وملك طيباريوس سبع سنين وممات سنة ست وثمانين، فملك سطيانوس وذلك في أيام الوليد بى عبد الملك، وهو الذي بش مسجد بني امة بدمشق. ولقال إنه أنفق فيه أربعمائة صندوق، فى كل صندوق أربعمائة عشر ألف دينار. وكان فيه من جملة الفعلة اثنا عشر ألف مرخم. ويقال كانت في ستمائة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل. فكانت تغشى عيون الناظرين وتفتن الملمين، فأزالها عمر بن عبد العزيز وردها إلى بيت المال. وكان الوليد لما اعتزم على الزيادة في المسجد أمر بهدم كنيسة النصارى، وكانت ملاصقة للمسجد فأدخلها فيه وهي معروفة عندهم بكنيسة مار يوحنا. ويقال إن عبد الملك طلبهم في ذلك فامتنعوا، وأن الوليد بذل لهم فيها أربعين ألف دينار فلم يقبلوا فهدمها ولم يعطهم شيئا. وشكوا أمرها إلى عمر بن عبد العزيز وجاءوا بكتاب خالد بن الوليد وعهده أن لا تخرس كنائسهم ولا تسكن، فراودهم على أخد الأربعين ألفا التي بذل لهم الوليد فأبوا فأمر أن ترد علهم، فعظم ذلك على الناس. وكان قاضيه أبو ادريس الخولانى فقال لهم: تتركون هذه الكنيسة في الكنائس التي في العنوة في المدينة وإلا هدمناها فأذعنوا، وكتب لهم عمر الأمان على ما بقي من كنائسهم.
وفي سنة ست وسبعين بعث كاتب الخراج إلى سليمان بن عبد الملك بأن مقياس حلوان بطل، فأمر ببناء مقياس في الجزيرة بين الفسطاط والجزيرة فهو لهذا العهد. وفي سنة إحدى ومائة من الهجرة ملك تداوس على الروم سنة ونصفا، ثم ملك بعده لاون أربعا وعشرين سنة، وبعده ابنه قسطنطين وفي سنة ثلاث عشرة ومائة غزا هشام بن عبد الملك الصائفة اليسرى، وأخوه سليمان الصائفة اليمنى، ولقيهم قسطنطين في جموع الروم، فانهزموا وأخذ أسيرا ثم أطلقوه بعد. وفي أيام مروان بن محمد وولاية موسى بن نصير لقي النصارى بالإسكندرية ومصر شدة، واخذوا بغرامة المال، واعتقل بطرك الإسكندرية أبي ميخايل. وطلب بجملة من المال، فبذلوا موجودهم وانطلقوا يستسعون ما يحصل لهم من الصدقة. وبيم ملك النوبة ما حل بهم، فزحف في مائة ألف من العساكر إلى مصر، فخرج إليه عامل مصر فرجع من غير قتال. وفي أيام هشام ردت كنائس الملكية من أيدي اليعاقبة، وولي عليهم بطرك قريباً من مائة سنة كانت رياسة البطرك فيها لليعاقبة، وكانوا يبعثون الأساقفة للنواحي، ثم صارت النوبة من ورائهم للحبشة يعاقبة. ثم ملك بالقسطنطينية رجل من غير بيت الملك اسمه جرجس، فبقي أيام السفاح والمنصور وأمره مضطرب. ثم مات وملك بعده قسطنطين بن لاولط، وبنى المدن وأسكنها أهل أرمينية وغيرها. ثم مات قسطنطين بن لاون وملك ابنه لاون. ثم هلك لاون وملك بعده نقفور. وفي سنة سبع وثمانين ومائة غزا الرشيد هرقلة ودوخ جهاتها، وصالحه نقفور ملك الروم على الجزية، فرجع إلى الرقة وأقام شاتيا وقد كلب البرد. وأمن نقفور من رجوعهم فانتقض، فعاد إليه الرشيد وأناخ عليه حتى قرر الموادعة والجزية عليه ورجع.
ودخلت عساكر الصائفة بعدها من درب الصفصاق، فدوخواأرض الروم. وجمع نقفور ولقيهمفكانتعليههزيمةشنعاءقتلىفيهاأربعونألفا،ونجانقفورجريحاً. وفيسنةتسعينومائةدخلالرشيدبالصائفةإلىبلادالرومفيمائةوخمسةوثلاثينألفاسوىالمطوعة،وبثالسرايافيالجهات،وأناخعلىهرقلةففتحهاوبلغسبيهاستةعشرألفاً.وبعثنقفوربالجزيةفقبلوشرطعليهمأنلايعمرهرقلة.وهلكنقفورفيخلافةالأمين،وولىابنهأستبرانقيصر.وغزاالمأمونسنةخمسعشرةومائتينإلىبلادالروم، ففتح حصونا عدة ورجع إلى دمشق. ثم بلغه أن ملك الروم غزا طرسوس والمصيصة، وقتل منها نحو امن ألف وستمائةرجل فرجع وأناخعلىانطواغوا حق فتحها صلحأ، وبعث المعتصم ففتح ثلاثين من حصون الروم،وبعثيحيىبنأكثمبالعساكرفدوخأرضهم.ورجعالمأمونإلىدمشق. ثم دخل بلاد الروم وأناخ على مدينة لؤلؤة مائة يوم، وجهز إليها العساكر مع عجيفمولاه.ورجعملكالررمفنازلعجيفاًفأمدهالمأمونبالعسكر،فرحلعهملكالروموافتتحلؤلؤةصلحا. ثم سار المأمون إلى بلاد الروم ففتح سلعوسوالبروة،وبعثابنهالعباسبالعساكرفدوخأرضهم،وبنىمدينةالطوليةميلافيميل،وجعللهاأربعةأبواب.ثمدخلغازياًبلادالروم،وماتفيغزاتهسنةثمانعشرةومائتين.وفيأيامهغلب قسطنطين على مملكة الروم، وطرد ابن نقفور عنها. وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين فتح المعتصم عمورية وقصتها معروفة فى أخباره. اهـ كلام ابن العميد. وأغفلنا من كلامه أخبار البطاركة من لدن فتح الاسكندر، لانا رأينا همستغنىعنه،وقدصارتبطركيتهمالكبرىالتيكانتبالإسكندريةبمدينةرومة،وهيهنالكللملكية،ويسمونالباباومعناهأبوالأباء.وبقيببلادمصربطركاليعاقبةعلىالمعاهدينمنالنصارىبتلكالجهات،وعلىملوكالنوبةوالحبشة. وأماالمسعوديفذكرترتيبهؤلاءالقياصرةمنبعدالهجرةوالفتحكماذكرهابنالعميد.قال:والمشهوربينالناسأنالهجرةوأيامالشيخينكانملكالرومفيهالهرقل،قال:وفيكتبأهلالسيرأدالهجرةكانتعلىعهدقيصربنمورق،ثمكانبعدهابنهقيصربنقيصرأيامأبيبكر،ثمهرقلبنقيصرأيامعمروعليهكانالفتح،وهوالمخرجمنالشامأيامأبيعبيدةوخالدبنالوليدويزيدبنأبيسفيان،فاستقر
بالقسطنطينية.وبعدهمورقبنهرقلأيامعثمان،وبعدهمورقبنمورقأيامعليومعاوية،وبعدهقلفطبنمورقآخرأياممعاويةوأياميزيدومروانبنالحكموكانمعاويةيراسلهولراسلأباهمورق،وكانتتختلفإليهعلامةنياق،وبشرهمورقبالملكوأخبرهأنعثمانيقتل،وأنالأمريرجعإلىمعاوية،وهادىابنهقلفطحينسارإلىحربعلىرضياللهعنه.ثمنزلتجيوشمعاويةمعابنهاليزيدقسطنطينيةوهلكعليهافيحصارهأبوأيوبالأنصاري. ثمملكبعدقلفطبنمورقلاونبنقلفطأيامعبدالملكبنمروان،وبعدهجيرونبنلاونأيامالوليدوسليمانوعمربنعبدالعزيز.ثمغشيهمالمسلمونفيديارهموغزوهمفيالبروالبحر،ونازلمسلمةالقسطنطينية،واضطربملكالروموملكعليهمجرجيسبنمرعشوملكتسععشرةسنة،ولميكنملأبيتالملك.ولميزلأمرهممضطرباإلىأنملكعليهمقسطنطينبنالبون،وكانتأمهمستبدةعليهلمكانصغره،ومنبعدهنقفوربناستيراقأيامالرشيد،وكانتلهمعهحروب،وغزاهالرشيدفأعطاهالانقيادودفعإليهالجزية.ثمنقضالعهدفتجهزالرشيدالىغزوهونزلهرقلةوافتتحهاسنةتسعينومائة،وكانتمنأعظممدائنالروم.وانقادنقفوربعدذلكوحملالروم. وملكبعدهاستيراقبننقفورأيامالأمين،وغلبعليهقسطنطينبنقلفطوملكأيامالمأمون،ولعدهنوفيلأيامالمعتصمواستردزبطرةونازلعموريةوافتتحها،وقتلمنكانبهامناممالنصرانية.ثمملكميخائيلبننوفيلأيامالواثقوالمتوكلوالمنتصروالمستعين.ثمتنازعالروموملكواعليهمنوفيلبنميخاييل،ثمغلبعلىالملكبسيلالصقلبيولميكنمنبيتالملك.وكانملكهأيامالمعتزوالمهتديوبعضاًمنأيامالمعتمد،ومربعدهإليونبنبسيلبقيةأيامالمعتمدوصدرامنأيامالمعتضد.ومنبعدهالاسكندروس،ونقمواسيرتهفخلعوه،وملكواأخاهلاويبنإليونبقيةأيامالمعتضدوالمكتفيوصدرامنأيامالمقتدر. ثمهلكوملكابنهقسطنطينصغيرا،وقامبأمرهارمنوسبطريقالبحر،وزوجهابنته؛ويسمىالدمستق،وهوالذيكانيحاربسيفالدولةملكالشاممنبنيحمدان.واتصلذلكأيامالمصدروالقاهروالراضيوالمتقى-وافترقأمرالروموأقام
بعضبطارقتهمويعرفاستفانوسفيبعضالنواحي،وخوطببالملكارمنوسبطركاًبكرسيالقسطنطينية.إلىهناانتهىكلامالمسعودي.وقالعقبهفجميعسنيالروماالمتنصرةمنأيامقسطظينبنهلانةإلىعصرناوهوحدودالثلثمائةوالثلاثينللهجرةخمسمائةسنةوسبعسنين،وعددملوكهمإحدىوأربعونملكاً،قال:فيكونملكهمإلىالهجرةمائهوخمساوسبعينسنة.اهـكلامالمسعودي. وفيتاريخابنالأثير:إنأرمانوسلماماتتركولدينصغيرين،وكانالدمستق علىعهدهقوقاش،وملكملطيةمنيدالمسلمينبالأمانسنةاثنتينوعشرينوثلثمائة،وكانأمرالثغورلسيفالدولةبنحمدان.وملكقوقاشمرعشوعرزربةوحصونهما،وأوقعبجابيةطرسوسمرارا،وسارسيفالدولةفيبلادهمفبلغخرشنةوصارخةودوخالبلادوفتححصوناًعدة.ثمرجعثمولىارمانوسنقفوردمستقا.واسمالدمستقعندهمعلىمنيليشرقيالخليج،حيثملكابنعثمانلهذاالعهد.فأقامنقفوردمستقا. وهلكارمانوسوتركولدينصغيرين،وكاننقفورغائباًفيبلادالمسلمين،فلما رجعاجتمعإليهزعماءالروموقدموهلتدبيرأمرالولدين،وألبسوهالتاج.وسارإلىبلادالمسلمينسمةإحدىوخمسينوثلثمائةإلىحلب،فهزمسيفالدولةوملكالبلدوحاصرالقلعة،فامتنعتعليه.وقتلابنأختالملكفيحصارها،فقتلجميعالأسرىالذينعنده.ثمبنىسنةستوخمسينمدينةبقيساريةليجلبمنهاعلىبلادالإسلام،فخافهأهلطرسوسواستأمنواإليه،فسارإليهموملكهابالأمان.وملكالمصيصةعنوة. ثمبعثأخاهفيالعساكرسنةتسعوخمسينإلىحلب،فملكهاوهربأبوالمعاليبرسيفالدولةإلىالبرية،وصالحهمرعويهبعدأنامتنعبالقلعةورجع. ثمإنأمالملكينابنيارمانوساللذينكانامكفولينلهاستوحشتمنه،وداخلت فيقتلهابنالشميشقفقتلهسنةستين،وقامابنأرمانوسالأكبروهوبسيلبتدبيرملكه،وجعلابنالشميشقدمستقا،وقامعلىالأورقأخينمفور،وعلىابنهورديسابنلاون،واعتقلهماوسارإلىالرهاوميافارقين.وعاثفينواحيهماوصانعهأبوتغلببنحمدانصاحبالموصلبالمال،فرجعثمخرجسنةاثنتينوستين.فبعثأبوتغلبابنعمهأباعبداللهبنحمدان،فهزمهوأسرهوأطلقه.وكانأمبسيلأخقامبوزارتها،فتحيلفيقتلابنالشميشقبالسم.ثمولىبسيلبنأرمانوسسقلاروسدمستقا،
فعصىعليهسنةخمسوستينوطلبالملكلشفسه،وغلبهبسيل. نمخرجعلىبسيلوردبنمنيرمنعظماءالبطاركة،واستجاشبأبيتغلببن حمدانوملكواالأطراف،وهزمعساكربسيلمرةبعدمرة.فأطلىورديسلاونوهوابنأخىنقفورمنمعقلهوبعثهفيالعساكرلقتاله،فهزمهورديس.ولحقوردبنمنيربميافارقينصريخابعضدالدولة،وأرسلهبسيلفىشانه،فجنحعضدالدولةإلىبسيل،وقبضعلىورديسواعتقلهببغداد،ثمأطلقهابنةصمصامالدولةلخمسسنينمناعتقاله،وشرطعليهاطلاقأسرىالمسلمين،والنزولعنحصونعدةمنمعاقلالروم،وأنلايغيرعلىبلادالإسلام.وسارفاستولىعلىملطية،ومضىإلىالقسطنطينيةفحاصرها،وقتلورديسبنلاون.واستنجدبسيلبملكالروموزوجهاخته،ثمصالحورداعلىمابيده. ثمهلكوردبعدذلكبقليلواستولىبسيلعلىأمرهوسارإلىقتالالبلغار فهزمهموملكبلادهم،وعاثفمهاأربعينسنة.واستمدصاحبحلبأبوالفضائلبنسيفالدولة.فلممازحفإليهمنجوتكينصاحبدمشقمنقبلالخليفةبمصرسنةإحدىوثمانين،فجاءبسيللمدده،وهزمهمنجوتكينورجعمهزوما.ورجعمنجوتكينإلىدمشقثمعاودواالحصار،فجاءبسيلصريخالأبيالفضل،فأجفلمنجوتكينمنمكانهعلىحلب،وسارإلىحمصوشيزرفملكها،وحاصرطبرابلس،ومالحهابنمروانعلىدياربكر،ثمبعثالدوقسالدمستقإلىأمامه،فبعثإليهصاحبمصرأباعبداللهبنناصرالدولةبنحمدانفيالعساكرفهزمهوقتله. ثمهلكبسيلسنةعشروأربعمائةلنيفوسبعينمنملكه،وملكبعدهأخوه قسطنطين،وأقامتسعاًثمهلكعنثلاثبنات.فملكالرومعليهمالكبرىمنهن،وأقامبأمرهاابنخالهاارمانوسوتزوجتبه؛فاستولىعلىمملكةالروم.وكانخالهميخاييلمتحكمافيدولتهومداخلالأهله،فمالتإليهالملكةوحملتهعلىقتلأرمانوس،فقتلهواستولىعلىالأمر.ثمأصابهالصرعواذاه،فعمدلابناختهواسمهميخاييلأيضا،وكانأرمانوسقدحرجسنةإحدىوعشرينإلىحلبفيثلاثةآلافمقاتل،ثمخارعناللقاءفاضطربورجع،واتبعهالعربفنهبواعساكره.وكانمعهابنالدوقسمنعظماءالبطارقة،فارتابوقبضعليه.وخرجسنةاثنتينوعشرينوأربعمائةفيجموعالروم،
فملكالرهاوسروجوهزمعساكرابنمروان. ولماملكميخاييلسارإلىبلادالإسلامفلقيهالدربريصاحبالشاممنقبل العلويةفهزمه،واقتصرالرومبعدهاعنالخروجإلىبلادالإسلام.وملكميخاييلابناختهكماقلناه،وقبضعلىأخوالهوقرابتهم،وأحسنالسيرةفيالمملكة.ثمطلبزوجتهفيالخلعفأبت،فنفاهاإلىبعضالجزائرواستولىعلىالمملكةسنةثلاثوثلاثينوأربعمائة.ونكرعليهالبتركماوقعفيهفهمبقتله،ودخلبعضحاشيتهفيذلك.ونمىالخبرإلىالبتركفنادىفيالنصرانيةبخلعهوحاصرهفيقصره،واستدعىالملكةالتيخلعهاميخاييلمنمكانهاوأعادوهاإلىالملكفنفتميخاييلكمانفاهاأولا. ثماتفقالبتركوالرومعلىخلعالملكةبنتقسطنطينوملكواأختهاالأخرى تودورةوسلمواميخاييللها.ثموقعتالفتنةبينشيعةتودورةوشيعةميخاييلواتصلت.وطلبالرومأنيملكواعليهممنيمحوهذهالفتنة،وأقرعواعلىالمرشحينفخرجتالقرعةعلىقسطنطينمنهمفملكوهأمرهم،وتزوجبالملكةالصغيرةتودورة،وجعلتأختهاالكبرىعلىمابذلهلهاوذلكسنةأربعوثلاثينوأربعمائة. ثمتوفيقسطنطينسنةستوأربعين،وملكعلىالرومأرمانوسوقارنذلك بظهورالدولةالسلجوقيةواستيلاءطغرلبكعلىبغداد،فرددالغزوإليهممنناحيةأذربيجان.ثمسارابنهالملكألبأرسلانوملكمدنامنبلادالكرجمنهامدينةآي،وأثخنفيبلادهم.ثمسارملكالرومإلىمنبجوهزمابنمرداسوابنحسانوجموعاالعرب،فسارألبأرسلانإليهسنةثلاثوستين،وخرجأرمانوسفيمائتيألفمنالروموالعربوالدوسوالكرجونزلعلىنواحيأرمينية؛فزحفإليهألبأرسلانمنأذربيجانفهزمهوحصلفيأسره،ثمفاداهعلىمالىيعطيه،وأجروهعليهوعقدمعهصلحا.وكانأرمانوسلماانهزموثبميخاييلبعدهعلىمملكةالروم،فلماانطلقمنالأسرورجعدفعهميخاييلعنالملك،والتزمأحكامالصلحالذيعقدهمعهألبأرسلان،وترهبأرمانوس.إلىهناانتهىكلامابنالأثير.
القسمالثالث المجلدالثاني منتاريخالعلامةابنخلدون ثماستفحلملكالافرنجبعدذلك،واستبدوابملكرومةوماوراءها،وكانالروم لماأخذوابدينالنصرانيةحملواعليهالأممالمجاورينلهمطوعاركرها،فدخلفيهطوائفمنالأمممنهمالأرمن،وقدتقدمنسبهمإلىناحورأخيإبراهيمعلمهالسلاموبلدهمأرمينيةوقاعدتهاخلاط،ومنهمالكرجوهممنشعوبالروم،وبلادهمالخزرماابينأرمينيةوالقسطنطينيةشمالافيجبالممتنعة،ومنهمالجركسفيجبالبالعدوةالشرقيةمنبحرنيطشوهممنشعوبالترك،ومنهمالروسفيجزائرببحرنيطشوفيعدوتهالشمالية،ومنهمالبلغارنسبةإلىمدينةلهمفيالعدوةالشماليةأيضامنبحرنيطش،ومنهمالبرجانأمةكبيرةمتوغلونفيالشماللاتعرفأخبارهملبعدها. وهؤلاءكلهممحنشعوبالترك،وأعظممنأخذبهمنالأممالأفرنج،وقاعدة بلادهمفرنجة،ويقولونفرنسةبالسينوملكهمالفرنسيس،وهمفيبسائطعلىعدوةالجرالروميمنشماليه،وجزيرةالأندلسمنورائهمفيالمغربتفصلبينهموبينهاجبالمتوعرةذاتمسالكضيقةيسمونهاألبون،وساكنهاالجلالقةمنشعوبالافرنج.وهؤلاءفرنسةأعظمملوكالافرنجةبالعدوةالشماليةمنهذاالبحر،واستولوامنالجزيرةالبحريةمنهعلىصقليةوقبرصوأقريطشوجنوةواستولواأيضاًعلىقطعةمنبلادالأندلسإلىبرشلونة،واستفحلملكهمبعدالقياصرةالاول.ومنأممالافرنجةالبنادقةوبلادهمحفافيخليجيخرجمنبحرالروممتضايقاًإلىناحيةالشمال،ومغربابعضالشيءعلىسبعمائةميلمنالبحر.هذاالخليجمقابللخليجالقسطنطينية.
وفيالقربمنهوعلىثمانمراحلمنبلادجنوةومنوراءهامدينةرومةحاضرةالافرنجةومدينةملكهم،وبهاكرسيالبطركالأكبرالذييسمونهالبابا-ومناممالافرنجةالجلالقةوبلادهمالأندلس،وهؤلاءكلهمدخلوافيدينالنصرانيةتبعاللرومإلىمندخلفيهممنهم،منأممالسودانوالحبشةوالنوبة،ومنكانعلىملكةالروممنبرابرةالعدوةبالمغربمثلنغزاوةوهوارةبأفريقية،والمصامدةبالمغربالأقصى.واستفحلملكالرومودينالنصرانية. ولماجاءاللهبالإسلاموغلبدينهعلىالأديان،وكانتمملكةالرومقدانتشرتفيحفافيالبحرالروميمنعدوتيه،فانتزعوامنهملأولأمرهمعدوتهالجنوبيةكلهامنالشامومصروأفريقيةوالمغرب،وأجازوامنخليجطنجةفملكواالأندلسكلهامنيدالقوطوالجلالقة،وضعفأمرالروموملكهمبعدالانتهاءإلىغايتهشأنكلامة.ثمشغلالافرنجةبمادهمهممنالعربفيالأندلسوالجزائر،بماكانوايتخيمونهمويرددونالصوائفإلىبسائطهمأيامعبدالرحمنالداخلوبنيهبالأندلس،وعبداللهالشيعيوبنيهبالأفريقية.وملكواعليهمجزائرالبحرالروميالتيكانتلهمصقليةوميورقةودانيةوإخواتهاإلىأنفشلريحالدولتين،وضعفملكالعربفاستفحلالافرنجةورجعتلهم،واسترجعواماملكهالمسلمونإلاقليلاًبسيفالبحرالروميمضائقالعرضفيطولأربعغرةمرحلة،واستولواعلىجزائرالبحركلها. ثمسمواإلىملكالشاموبيتالمقدسمسجدأنبيائهمومطلعدينهم،فسربواإليه آخرالمائةالخامسة،وتواثبواعلىالأمصاروالحصونوسواحله.ويقال:إنالمستنصرالعبيديهوالذيدعاهملذلكوحرضهمعليه،لمارجافيهمناشتغالملوكالسلجوقيةبأمرهمواقامتهمسدابينهوبينهمعندماسمواإلىملكالشامومصر.وكانملكالافرنجةيومئذاسمهبردويلوصهرهروجيهملكصقليةمنأهلطاعتهفتظاهرواعلىذلكوسارواإلىالقسطنطينيةسنةإحدىوتسعينليجعلوهاطريقاإلىالشام،فمنعهمملكالروميومئذثمأجازهمعلىأنيعطوهملطيةإذاملكوهالقبلواشمطهثمسارواإلىبلادابنقلطمش،وقداستولىيومئذعلىمريةوأعمالهاوأرزنالرومواقصروسيواس. افتتحتلكالأعمالكلهاعندهبوبريحقومهعلىالسلجوقية.ثمحدثتالفتنة بينهموبينالرومبالقسطنطينية،واستنجدكلمنهمبملوكالمسلمينفيثغورالشام
والجزيرة،وعظمتالفتنفيتلكالآفاقودامتالحالعلىذلكنحواًمنمائةسنة،وملكالرومبالقسطنطينيةفيتناقصواضمحلال.وكانروجيهصاحبصقليةيغزوالقسطنطينيةمنالبحرويأخذمايجدفيمرساهامنسفنالتجاروشوانيالمدينة.ولقددخلجرجيبنميخاييلصاحبأسطولهإلىميناءالقسطنطينيةسنةأربعوأربعينوخمسمائة،ورمىقصرالملكبالسهام.فكانتتلكأنكىعلىالروممنكلناحية. ثمكاناستيلاءالافرنجعلىالقسطنطينيةآخرالمائةالسادسة،وكانمنخبرهاأن ملكالرومبالقسطنطينيةأصهرإلىالفرنسيسعظيمملوكالافرنجفيأخته،فزوجهالهالفرنسيسوكانلهمنهاابنذكر.ثموثببملكالرومأخوهفسملهوملكالقسطنطينيةمكانه،ولحقالابنبخالهالفرنسيسصريخابهعلىعمه،فوجدهقدجهزالأساطيللارتجاعبيتالمقدس،واجتمعفيهاثلاثةمنملوكالافرنجةبعساكرهم:دوقسالبنادقةصاحبالمراكبالبحرية،وفيمراكبهكانركوبهم،وكانشيخاً.أعمىنقاداذاركب،والمركسمقدمالفرنسيس،وكيدفليدوهوأكبرهم،فأمرالفرنسيسبالجوازعلىالقسطنطينية،ليصلحوابينابنأختهوبينعمهملكالروم.فلماوصلواإلىمرسىالقسطنطينيةخرجعمهوحاربهمفهزموهودخلواالبلد،وهربإلىأطرافالبلدوقتلحاصروهوأضرمواالنارفيالبلد،فاشتعلالناسبهاوأدخلالصبيبشيعتهفدخلالافرنجمعهوملكواالبلد،وأجلسواالصبيفيملكه،وساءأثرهمفيالبلد،وصادرواأهلالنعموأخذواأموالالكنائس،وثقلتوطأتهمعلىالروم،فعقلواالصبيوأخرجوهمواستدعواملكهمعمالصبيمنمكانمقرهوملكوهعليهم. وحاصرهمالافرنجفاستنجدبسليمانبنقليجأرسلانصاحبقونيةوبلادالروم شرقيالخليج،وكانفيالبلدخلقمنالافرنج،فقبلأنيصلسليمانثاروافيهاوأضرمواالنيرانحتىشغلبهاالناس،وفتحواالأبوابفدخلالافرنجواستباحوهاثمانيةأيامحتىأقفرت.واعتصمالرومبالكنيسةالعظمىمنهاوهيصوفيا.ثمخرجتجماعةالقسيسينوالأساقفةوالرهبانفيأيديهمالإنجيلوالصلبانفقتلوهمأجمعين،ولميراعوالهمذمةولاعهداً.ثمخلعواالصبيواقترعواثلاثتهمعلىالملك،فخرجتالقرعةعلىكيدفليدكبيرهمفملكوهعلىالقسطنطينيةومايجاورها،وجعلوالدرقسالبنادقةالجزائرالبحريةمثلاقريطشورودسوغيرهما،وللمركيسمقدمالفرنسيسالبلادالتيفي
شرفيالخليج.ثمتغلبعليهمبطريقمنبطارقةالروماسمهلسكريودفععمهاالافرنجوبقيتبيده،واستولىبعدهاعلىالقسطنطينية،وكاناسمهميخاييل. وفيكتابالمؤيدصاحبحماةأنهأقامببعضالحصونثمبنيتالقسطنطينيةوملكها،وفرالافرنجفيمراكبهموملكهالروم،وقتلالذيكانملكاقبله.وتوفيسنةإحدىوثمانينوستمائة،وعقدمعهالصلحالمنصورقلاونصاحبمصروالشاملذلكالعهد.قال:وملكبعدهابنهماندويلقبالدوقسوشهرتهمجميعاًاللسكري.ثمانقرضتدولىبنيقليجارسلانوملكأعمالهمالتتركمانذكرفيأخبارهم،وبقيبنياللسكريملوكاًعلىالقسطنطينيةإلىهذاالعهد.وملكشرقيالخليجبعدانقضاءدولةالتترمنبلادالرومابنعثمانجقأميرالتركمانوهوالانمتحكمعلىصاحبالقسطنطينية،ومتغلبعلىنواحيهمنسائرجهاته.هذامابلغنامنأخبارالروممنأولدولتهممنذيونانوالقياصرةلهذاالعهد.واللهوارثالأرضومنعليهاوهوخيرالوارثين. القوط الخبرعنالقوطوماكمانلهممنالملكبالأندلس إليحينالفتحالإسلاميوأوليةذلكومصايره مدهالأمةمنأممأهلالدولةالعظيمةالمعاصرةلدولالطبقةالثانيةمنالعرب، وقدذكرناهمعقباللطينينلأنالملكصارإليهممنبينهمكماذكرناه.وسياقةالخبرعنهمأنهمكانوايعرفونفيالزمنالقديمبالسيسييننسبةإلىالأرضالتيكانوايعمرونهابالمشرقفيمابينالفرسواليونان،وهمفينسبهمإخوةالصينولدماغوغبنيافثوكانتلهممعالملوكالسريانيينحروبموصوفةزحفإليهمفيهامومنماليملكسريان،فدافعوهلعهدإبراهيمالخليلعلمهالسلام.ثمكانتلهمحروبمعالفرسعندتخريببيتالمقدسوبناءرومة. ثمغلبهمالاسكندروصاروافيملكتهواندرجوافيقبائلالرومويونان.ثملماضعفأمرالرومبعدالاسكندروتغلبواعلىبلادالغريقيينومقدونيةونبطةأيامغلينوشبنبارايانمنملوكالقياصرة،وكانتبينهوبينهحروبسجال.ثمغلبهمالقياصرةمنبعدهوظفروابهم،حتىإذاانتقلالقياصرةإلىالقسطنطينيةوفشلأمرهم
برومة،زحفإليهاهؤلاءالقوطواقتحموهاعنوفاستباحوها،ثمخرجواعنهاأيامطودوسيوسابنأركاديوسبعدحروبكثيرة.وكانأميرهملذلكالعهدأنطرككماذكرناه.وماتلعهدهطودوسيوس،وأرادأنيجعلاسمهسمةالملوكبرومةمنهممكانسمةقيصر،فاختلفعليهأصحابهفيذلكفرجععنه. فمصالحالرومانيينعلىأنيكونلهمايفتحمنبلادالأندلس،لماكانأمرالرومانيينمدضعفعنالأندلس،ولحقبهاثلاثطوائفمنالغريقيينفاقتسمواملكها،وهمالأبيونوالشوانيونوالفندلس،وباسمفندلسسميتالأندلس.وكانبالأندلسمنقبلهمالأرباريونمنولدطوالبنيافثوهمأخوةالأنطاليسسكنوهامنبعدالطوفانوصارواإلىطاعةأهلرومة،حتىدخلإليهمهؤلاءالطوالعمنالغريقيينعندمااقتحمالقوطمدينةرومة،وغلبواالأممالذينكانوابهامنولدطوال. رقديقال:إنهؤلاءالطوالعكلهممنولدطوالبنيافثوليسوامنالغريقيين. واقتسمهؤلاءالطوالعملكها،وكانتجلقيةلفندلسولشبونةوماردةوطليطلةومرسيةلشوانشوكانواأشرافهم.وكانتإشبيليةوقرطبةوجيانوطالعةللأنبيقوأميرهمعندريقشأخولشيقشأربعينسنةحينزحفإليهمالقوطمنرومة.وكانقدولىعليهمبعداطفانشملكآخرمنهماسمهطشريك،وتلهالرومانيونووليمكانهمنهمماستةثلاثسنين،وزوجأختهمنطودوسيوسملكالرومانيين،وصالحهعلىأنيكونلهمايفتحهمنالأندلس. ثمماتووليمكانهلزريقثلاثعشرةسنةوهوالذيزحفإلىالأندلسوقتلملوكها،وطردالطوائفالذينكانوابها،فأجازواإلىطنجةوتغلبواعلىبلادالبربر،وصرفواالبربرالذينكانوابالعدوةعنطاعةالقسطنطينإلىطاعتهم،فلميزالواعلىذلكإلىدولةيستنيانوسنحوامنثمانينسنة.ثمهلكطوريقملكالقوطبالأندلسووليمكانه(......)سبععشرةسنةوانتقضعليهالبسكتسإحدىطوائفالقوط،فزحفإليهموردهمإلىطاعته.ثمهلكووليبعدهالديكثلاثاوعشرينسنة.وكانتالافرنجلعهدهقدطمعوافيملكالأندلسوأنيغلبواعليهاالقوط،لجمعوالهموملكواعلىأنفسهممنهم،فزحفإليهمالديكفيأممالقوطإلىأنتوغلفيبلادالافرنج،فغلبوهوقتلوهوعامةأصحابه. وكانتالقوطقبلدخولهمإلىالأندلسفرقتينكماذكرنافيدولةبلنسيانبن
قسطنطينمنالقياصرةالمتنصرة،وكانتإحدىالفرقتينقدأقامتبمكانهامننواحيرومة،فلمابلغهمخبرالديكصاحبالأندلسمنهمامتعضوالذلكوكانأميرهمطودريكمنهم،فزحفإلىالافرنجوغلبهمعلىماكانوامحونهمنالأندلس.ودخلالقوطالذينكانوابالأندلسفيطاعته،فوليعليهمابنهأشتريكورجعإلىمكانهمننواحيرومة،فزحفالافرنجإلىمحاربةاشتريكحتىغلبوهعلىطلوسةمنناحيتهم. وهلكاشتريكبعدخمسسنينمنملكهووليعليهمبعدهبشليقشأربعسنين، ثمبعدهطودريقإحدىوستينسنة،وقتلهبعضأصحابهباشبيلية،ووليبعدهابرليقخمسسنين،وبعدهطودسثلاثعثرةسنة،وبعدهطودشكلسنتين،وبعدهايلةخمسسنين.وانتقضعليهأهلقرطبةفحاربهموتغلبعليهم.وبعدهطنجادخمسعشرةسنة،وبعدهليولةسنةواحدة،وبعدهلوبليدةثمانيعشرةسنة.وانتقضتعليهالأطراففحاربهموسكنهم،ونكرعليهالنصارىتثليثأريش،وراودوهعلىالأخذبتوحيدهمالذينيزعمونهفأبىوحاربهم،فقتلووليابنهزدريقستعشرةسنة،ورجعإلىتوحيدالنصارىبزعمهم،وهوالذيبنىالبلادالمنسوبةإليهبقرطبة. ولماهلكوليبعدهعلىالقوطليوبةسنتين،وبعدهتبديقاعندمارسنتين،وبعده شيشوطثمانيسنين،وعلىعهدهكانهرقلملكقسطنطينيةوالشام.ولعهدهكانتالهجرة.وهلكشيشوطملكالقوطووليبعدهزدريقآخرمنهمثلاثةأشهر،وبعدهشتلهثلاثسنين.وبعدهسنشادشخمسسنين،وبعدهخنشوندسبعسنين،وبعدهوجنشوندثلاثاًوعرينسنة.ولهذهالعصورابتدأضعفالأحكامللقوط.وبعدهمانيهثمانسنين،وبعدهلوريثمانسنين،وبعدهايقهستعشرةسنة،وبعدهغطسةأربععشرةسنة،وهوالذيوقحمنقصتهمعابنهيليانعاملطنجةماوقع.ثمبعدهزدريقسنتينوهوالذيدخلعليهالمسلمونوغلبوهعلىملكالقوط،وملكواالأندلس.ولذلكالعهدكانالوليدبنعبدالملكحسبمانذكرهعندفتحالأندلسإنشاءاللهتعالى.هذهلسياقةالخبرعنهؤلاءالقوطنقلتهمنكلامهروشيوش،وهوأصحمارأيناهفيذلكواللهسبحانهوتعالىالموفقالمعينبفضلهوكرمهلاربعيرهولامأمولإلاخيره.
الطبقةالثالثةمنالعرب وهمالعربالتابعةللعربوذكرأفاريقهموأنسابهموممالكهم وماكانلهممنالدولعلياختلافهاوالباديةوالرحالةمنهموملكها هذهالأمةمنالعربالباديةأهلالخيامالذينلااغلاقلهملميزالوامنأعظمأمم العالموأكرأجيالالخليقة؛يكرونالأممتارةوينتهيإليهمالعزوالغلبةبالكثرةفيظفرونبالملكويغلبونعلىالأقاليموالمدنوالأمصار.ثميهلكهمالترفهوالتنعمويغلبونعليهمويقلونويرجعونإلىباديتهم،وقدهلكالمتصدرونمنهمللرياسةبماباشروهمنالترفونضارةالعيش،وتصييرالأمرلغيرهممنأولئكالمبعدينعنهمبعدعصورأخرى.هكذاسنةاللهفيخلقه.وللباديةمنهممعمنيجاورهممنالأممحروبووقائعفيكلعصروجيل،بماتركوامنطلبالمعاشوجعلواطلبالمعاشرزقهمفيمعاشهمبترصدالسبيلوانتهابمتاعالناس.ولمااستفحلالملكللعربفيالطبقةالأولىللعمالقة،وفيالثانيةللتبابعةوكانذلكعنكثرتهم.فكانوامنتشرينلذلكالعهدباليمنوالحجازثمبالعراقوالشام.فلماتقلصملكهموكانوابالعراقمنهمبقيةأقامواضاحينمنظلالملك. يقالفيمبداكونهمهنالكأنبختنصرلماسلطهاللهعلىالعربوعلىبنيإسرائيلبماكانوامنبغيهموقتلهمالأنبياء،قتلأهلالوبربناحيةعدلناليمننبيهمشعيببنذيمهدمعلىمارقعفيتفسيرقولهتعالى:(فلماأحسواباسناإذاهممنهايركضون).فأوحىاللهإلىإرمياءبنحزقياوبزخياأنيسيرابختنصرإلىالعربالذينلااغلاقلبيوتهمأنيفتلولايستحي،ويستلحمهمأجمعينولايبقىمنهمأثرا.وقالبختنصر:وأنارأيتمثلذلك.وسارإلىالعربوقدنظممابينأيلةوالأبلةخيلاورجلا.وتسامعالعربباقطارجزيرتهمواجتمعواللقائه،فهزمعدنانأولاًثماستلحمالباقين،ورجعإلىبابلوجمعالسبايافأنزلهمبالانبارثمخالطهمبعدذلكالنبطة. وقالابنالكلبي:إنبختنصرلمانادىبغزوالعربافتتحأمرهبالقبضعلىمنكانفيبلادهمنتجارتهمللميرةوأنزلهمالحيرة،ثمخرجإليهمفيالعساكر،فرجعتقبائلمنهمإليهآثرواالإذعانوالمسالمة،وأنزلتهمبالسوادعلىشاطىءالفرات،وابتنوا
موضععسكرهموسموهالأنبار.ثمأنزلتهمالحيرةفسكنوهاسائرأيامه،ورجعواإلىالأنبار:جدمهلكه. وقالالطبري.إنتبعاأباكربلماغزاالعراقأياماردشيربهمنكانتطريقهعلىجبلطيءومنهإلىالأنبار،وانتهىإلىموضعالحيرةليلافتحيروأقام،فسميالمكانالحيرة.ثمسارلوجههوخلفهنالكقومامنالأزدولخموجذاموعاملةوقضاعةوطنواوبنوا،ولحقبهمناسمنطيءوكلبوالسكونوإيادوالحرثبنكعبفكانوامعهم.وقيلوهوقريبمنالأول:خرجتبعليالعربحتىتحمروابظاهرالكوفة،فنزلبهاضعفاءالناسفسميتالحيره.ولمارجعووجدهمقداستوطنواتركهمهخالك،وفيهممنكلقبائلالعربمنهذيلولخموجعفىوطيءوكلبوبنيلحيانمنجرهم. قالهشامبنمحمد:ماتبختنصرانتقلالذيناسكنهمبالحيثرةإلىالانبار ومعهممنانضمإليهممنبنيإسماعيلوبنيمعد،وانقطعتطوالعالعربمناليمنعنهم.ثمكثرأولادمعدوفرقتهمالعرب،وخرجوايطلبونالمنسعوالريففيمايلمهممنبلاداليمنومشارفالشام.ونزلتقبائلمنهمالبحرينوبهايومئذقوممنالأزدنزلوهاأيامخروجمزيقياءمناليمن.وكانالذيناقبلوامنتهامةمنالعربمالكوعمروابنافهمبنتيماللهبناسدبنوبرةبنقضاعةوابنأخيهمامالكبنزهيروابنعمروبنفهمفيجماعةمنقومهم،والختفاربنالحيقبنعمروبنمعدبنعدنانفيقفصكلها.ولحقبهمغطفانبنعمروبنلطمانبنعبدمنافبنبعدمبندعمىبنايادبنارقصبنصغبنالحارثبنأفصىبندعمى،وزهيربنالحرثكلنأليلبنزهيربنأياد. واجتمعوابالبحرينوتحالفواعلىالمقاموالتناصر،وأنهميدواحدة.وكانهذاالاجتماعوالحلفأزمانالطوائفوكانملكهمقليلاًومفترقا،وكانكلواحدمنهميغيرعلىصاحبهويرجععلىأكثرمنذلك.تطلعتنفوسالعرببالبحرينإلىريفالعراق،وطمعوافيلخبالأعاجمعليه،أومشاركتهمفيه،واهتبلواالخلافالذيكانبينالطوائف،وأجمعرؤساؤهمالمسيرإلىالعراق-فسارمنهمالأولالحنفاربنالحبقفياشلاءقفصبنمعدومنمعهممنأخلاطالناس،فوجدوابأرضبابلإلىالموصلبنيإرمبنسامالذينكانواملوكاًبدمشقوقيللهامنأجلهمدمشقإرم،وهممنبقايا
العربالأولى.فوجدوهميقاتلونملوكالطوائففدفعوهمعنسوادالعراق،فارتفعواعنهإلىأشلاءقفص،هؤلاءينسبونإلىعمروبنعديبنربيعةجذبنيالمنذرعندنسابةمضر.وفيقولحمادالراويةكمايأتيذكره. ثمطلعمالكوعمروابنافهم،وابنمالكبنزهيرمنقضاعة،وغطفانبن عمرو،وصبحبنصبيحوزهيربنالحرثمنإيادفيمنمعهممنغسانوحلفائهمبالأنبار،وكلهمتنوخكماقدمنا،فغلبوابنيإرمودفعوهمعنجهاتالسواد.وجاءعلىأثرهمنمارةبنقيس،ونمارةبنلخمنجدةمنقبائلكندةفنزلواالحيرةوأوطنوها،وأقامتطالعةالأنباروطالعهالحيرةلايدينونللأعاجمولاتدينلهم،حتىمربهمتبعوتركفيهمضعفةعساكرهكماتقدم،وأوطنوافيهممنكلالقبائلكماذكرناجعفوطيءوتميموبنيلحيانمنجرهم. ولزلكثيرمنتنوخمابينالحيرةوالانباربادينفيالخياملايأوونإلىالمدن، ولايخالطونأهلها.وكانوايسمونعربالضاحية،وأولعنملكمنهمأزمانالطوائفمالكبنفهم،وبعدهأخوهعمرو،وبعدهابنأخيهجذيمةالأبرشكمايأتيذكرذلككله.وكانأيضاولدعمرومزيقياءبعدخروجهمناليمنبالازدقومهعندخروجهأنذرهمبسيلالعرمفيالقصةالمشهورة.وقدانتشروابالشاموالعراق،وخطفمنتخلفمنهمبالحجازوهمخزاعة،فنزلوامرالظهرانوقاتلواجرهماًبمكةفغلبوهمعليها،ونزلنصربنالأزدعمان،ونزلتغسانجبالالشراة.وكانتلهمحروبمعبنيمعدإلىأناستقرواهنالكفيالتخومبينالحجازوالشام. هذاشأنمنأوطنالعراقوالشاممنقائلسبا.تشاءممنهمأربعةوبقيباليمن ستةوهممذحجوكندةوالاشعريونوحميروانماروهوأبوخثعموبجيلةفكانالملكلهؤلاءباليمنفيحمير،ثمالتبابعةمنهمويظهرمنهذاأنخروجمزيقياءوالأزدكانلأولملكالتبابعةأوقبلهبيسير.وأمابنمومعدبنعدنانفكانإرمياوبرخيالماأوحيإليهمابغزوبختنصرالعرب،أمرهمااللهأنيستخرجامعدبنعدنانلانمنولدهمحمداصلىاللهعليهوسلمأخرجهآخرالزمانأختمبهالنبيين،وأرفعبهمنالضعة،فأخرجاهعلىالبراقوهوابناثنتيعشرةسنة،وذهبابهإلىحران،فربيعندهما.وغزابختنصرالعربواستلحمهم،وهلكعدنانوبقتبلادالعربخرابا.ثمهلكبختنصرفخرجمعدبن
عدنانمعأنبياءبنيإسرائيلفحجواجميعاً،وطفقيسألعمنبقيمنولدالحرثبنمضاضالجرهمي.وكانتقبائلدوس(0000)أكثرجرهمعلىيده،فقيللهبقيجرهمبنجلهة.فتزوجابنتهمعانةوولدتلهنزاربنفغذ. قالالسهيلي:وكانرجوعمعدإلىالحجازبعدمارفعاللهبأسهعنالعرب،ورجعتبقاياهمالتيكانتبالشواهقإلىمجالاتهمبعدأندوخبختنصربلادهموخربمعمورهمواستأصلحضوراوأهلالرسالتيكانتسطوةاللهبالعربمنأجلهماهـكلامالسهيلي.ثمكثرنسلمعدفيربيعةومضروإياد،وتدافعواإلىالعراقوالشام،ونقدممنهمأشلاءقفصكماذكرنا،وجاءواعلىأثرهمفنزلوامعأحياءاليمنيةالذينذكرناهمقبل،وكانتلهممعتبعحروبوهوالذييقول: لستبالتبعاليمانيإنلمتركضالخبلفيسوادالعراق أوتوديربيعةالخرجقسرالمتعقهاموانعالعواق
ثمكانبالعراقوالشاموالحجازأيامالطوائفومنبعدهمفيأعقابملكالتبابعةاليمنيةوالعدنانيةملكودول،وبعدأندرستالأجيالقبلهم،وتبدلتالأحوالالسابقةلعصرهم،فاستحقبذلكأنيكونجيلامنفرداعنالأول،وطبقةمايةللطباقالسالفة.ولمالميكنلهمأثرفيانشاءالعروبيةكماللعربالعاربةولافيلغتهاعنهمكمافيالمستعربة،وكانواتبعالمنتبعهمفيسائرأحوالهماستحقواالتسميةبالعربالتابعةللعرب.واستمرتالرياسةوالملكفيهذهالطبقةاليمانيةأزمنةوآمادابماكانتصبغتهالهممنقبل،وإحياءمضروربيعةتبعالهم. فكانالملكبالحيرةللخمفيبنيالمنذروبالشاملغسانفيبنيجفنةوبيثربكذلكفيالاوسوالخزرجابنيقيلة،وماسوىهؤلاءمنالعرب،فكانواظواعنباديةواحياءناجحة،وكانتفيبعضهمرياسةبدويةوراجعةفيالغالبإلىأحدهؤلاء.ثمنبضتعروقالملكفيمضروظهرتقريشعلىمكةونواحيالحجازأزمةعرففيهامنهم،ودانتالدولبتعظيمهم.ثمصبحالإسلامأهلهذاالجيلوأمرهمعلىماذكرناه،فاستحالتصبغةالملكإليهم،وعادتالدوللمضرمنبينهم،واختصتكرامةاللهبالنبوةبهم،فكانتفيهمالدولالإسلاميةكلهاإلابعضامندولهاقامبهاالعجم
اقتداءبالملة،وتمهيداللدعوةحسبمانذكرذلككله. فلنأتالآنبذكرقبائلهذهالطبقةمنقحطانوعدنانوقضاعةوماكانلكلواحدة منهامنالملكقبلالإسلاموبعده:ومنكتابالأغانيلأبيالفرجالأصبهانيفيأخبارخزيمةبننهدبنليثبنسودبناسلمبنالحافبنقضاعةقال:كانبدءتفرقبنيإسماعيلمنتهامةونزوعهمعنهاإلىالآفاق،وخروجمنخرجمنهمعننسبهأنقضاعةكانوامجاورينلنزار،وكانخزيمةبننهدفاسقامتعرضاللنساء،فشبببفاطمةبنتيذكر،وهوعامربنعنزةوذكرهافيشعرهحيثيقول: إذاالجوزاءاردفتالثرياظننتبآلىفاطمةالظنونا وحالتدونذلكمنهمومهمومتخرجالشجرالربينا أرىابنةيذكرظعنتفحلتجنوبالحزنياشحطامبينا
وسخطذلكيذكرخشيةحزيمةعلىنفسه،فاغتالهوقتلهوانطفتناريذكر،ولم يصحعلىحزيمةشيءحتىتتوجهبهالمطالبةعلىقضاعةحتىقالفيشعره: فاهكانعندرضابالعصيرففيهايعلبهالزنجبيل قتلتأباهاعلىحبهافتبخلإنبخلتأوتقيل فلماسمعتنزارشعرحزيمةبننهدوقتلهيذكربنعنزةثاروامعقضاعة،وتساندوامعاحياءالعربالذينكانوامعهم،وكانتهذهمعنزارولبهايومئذكندةبنجنادةبنمعد،وجيرانهميومئذأجاًينعمروبنأدبنأددابنأخيعدنانبنأدد.وكانتقضاعةتنتسبإلىمعد.ومعدإلىعدنان،والأشعريونإلىالأشعربنأددأخيعدنان،وكانوايظنونمنتهامةإلىالشام،ومنازلهمبالصفاع.وكانتعسقلانمنولدربيعة،وكانتقضاعةمابينمكةوالطائفوكندةمنملعمدإلىذاتعرق،ومنازلأجاًوالأشعرومعدمابينجدةوالبحر.فلمااقتتلواهزمتنزار.قضاعة،وقتلحزيمةوخرجوامتفرقين،فسارتتيماللاتمنقضاعةوبعضبنيرفيدةمنهم،وفرقةمنالأشعرييننحوالبحرين،ونزلواهجروأجلوامنكانبهامنالنبطوملكوها.وكانتالزرقاءبنتزهيركاهنةمنهمفتكهنتلهمبنزولذلكالمكانوالخروجعنتهامةوقالتفيشعرها: وذعتهامةلاوداعمخالفبذمامهلكنقلىوملام
لاتنكريهجرامقامغريبةلنتعدميمنظاعنينتهام
ثمتكهنتلهمفيسجعبأنهميقيمونبهجر،حتىينعقغرابأبقععليهخلخال ذهباً،ويقععلىنخلةوصفتها،فيسيرونإلىالحيرة،وكانفيسجعهامقاموتنوخ،فسميتتلكالقبائلتنوخمنأجلهذهاللفظة.ولحقبهمقوممنالأزد،فدخلوافيتنوخ،وأصاببقيةقضاعةالموتان،وسارتفرقةمنبنىحلوانفنزلواعبقرةمنأرضالجزيرة،ونسجنساؤهمالبرودالعبقريةمنالصوفوالبرودالتزيديةإليهملأنهمبنوتزيد،وأغارتعليهمالشركفأصابوامنهم.وأقبلالحرثبنقرادالبهرانيليستجيشبنيحلوانلهأبانبنسليحصاحبالعينفقتلهالحرث،ولحقتبهرابالتركفاستنقذواماأخذوهمنبنيتزيذوهزموهموقالالحرث: كأنالدهرجمعفيليالثلاثبينهنبشهرزور صففناللأعاجممنمعدصفوفابالجزيرةكالسعير
وسارتسليحبنعمروبنالحافوعليهمالهدرجانبنمسلمة،حتىنزلوافلسطينعلىبنيأدينةبنالسميدعبنعاملة.وسارتاسلمبنالحافوهيعذرةونهدوحويكةوجهينةحتىنزلوابينالحجروواديالقرى،وأقامتتنوخبالبحرينسنين.ثمأقبلالغراببحلقتيالذهب،ووقععلىالنخلةونعقكماقالتالزرقاء،فذكروافولهاوارتحلواإلىالحيرةفنزلوها،وهمأولعناختطها.وكانرئيسهممالكبنزهير،واجتمعإليهناسكثيرةمنبسائطالقرىوبنوابهاالمنازلوأقاموازمانا،ثمأغارعليهمسابورالأكبروقاتلوه،وكانشعارهميالعبادالله،فسمواالعباد.وهزمهمسابورفافترقوا،وسارأهلالمهبطمنهممعالضيزنبنمعاويةالتوخيفنزلبالحضرالذيبناهالساطرونالجرمقاني،فأقامواعليهوأغارتحميرعلىقضاعةفأجلوهم،وهمكلب.وخرجبنوزبانبنتغلببنحلوانفلحقوابالشام.ثمأغارتعليهمكنانةبعدذلكبحينواستباحوهم،فلحقوابالسماوةوهيإلىاليوممنازلهم.اهـكلامصاحبالأغانيقلت:وأحياءجدهملهذاالعهدمابينعنزةوقلتةوفلسطينإلىمعانمنأرضالحجاز.
أنسابالعرب الخبرعنأنسابالعربمنهذهالطبقةالثالثةواحدة وذكرمواطنهمومراكانلهالملكمنهم أعلمأنجميعالعربيرجعونإلىثلاثةأنساب:وهيعدنانوقحطانوقضاعة. فأماعدنانفهومنولدإسماعيلبالاتفاق،إلاذكرالآباءالذيبينهولينإسماعيلفليسفيشئيرجعإلىيقينه،وغيرعدنانمنولدإسماعيلفدانقرضوافليسعلىوجهالأرضمنهمأحد.وأماقحطانفقيلمنولدإسماعيلوهوطاهركلامالبخاريفيقوله:بابنسبةاليمنإلىإسماعيل،وساقفيالبابقولهصلىاللهعليهوسلملقوممنأسلميناضلون:ارموايابنيإسماعيلفإنأباكمكانراميا.ثمقال:واسلمبنأفصىبنحارثةبنعمروبنعامرمىخزاعة،يعنيوخزاعةمنسبأ،والأوسوالخزرجمنهم،وأصحابهذاالمذهبعلىأنقحطانابنالهميسعبنأبينبنقيذاربننبتلنإسماعيل.والجمهورعلىأنقحطانهويقطنالمذكورفيالتوراةفيولدعابر،وأنحضرموتمنشعوبقحطان.وأماقضاعةفقيلأنهاحميرقالهابنإسحقوالكلبيوطائفة،وقديحتجلذلكبمارواهابنلهيعةعنعقبةبنعامرالجهنيقال:يارسولاللهممننحن؟قالأنتممنقضاعةبنمالك.وقالعمروبنمرةوهومنالصحابة. نحنبنوالشيخالعجازالازهريقضاعةبنمالكبنحمير النسبالمعروفغيرالمنكر وقالزهير:قضاعيةوأختهامضرية.فجعلهماأخوين،وقالأنهمامنحميربن فغذبنعدنانوفالبنعبدالبروعليهالأكثرون:ويرويعنابنعباسوابنعمرووخيربنمطعموهواختيارالزبيربنبكاروابنمصعبالزبيروابنهشام. قالالسهيلي:والصحيحأنأمقضاعةوهيعبكرةماتعنهامالكبنحميروهي حاملبقضاعةفتزوجهامعدوولدتقضاعة،فتكنىبهونسبإليه،وهوقولالزبيراهـكلامالسهيلي. وفيكتبالحكماءالأقدمينمنيونانمثلبطليموسوهروشيوشذكرالقضاعيين والخبرعنحروبهم،فلايعلمأهمأوائلقضاعةهؤلاءوأسلافهمأوغيرهم.وربمايشهد
للقولبأنهممنعدنان،وأنبلادهملاتتصلببلاداليمن،وإنماهيببلادالشاموبلادبنيعدنان،والنسبالبعيديحيلالظنونولايرجحفيهإلىيقين. ولنبدأبقحطانوبطونها:لماأنالملكالأقدمللعربكانفينسبسبأبنيشجببنيعرببنقحطان،ومنهتشعببطونحميربنسبأوكهلانبنسبأ.وينفردبنوحميربالملك،وكانمنهمالتبابعةأهلالدولةالمشهورةوغيرهمكمانذكر.فلنبدأبذكرحميرأولاًمنالقحطانية،ونذكربعدهمقضاعةلانتسابهمفيالمشهورإلىحمير،ثمنتبعهمبذكركهلانإخوانحميرمنالقضاعية،ثمنرجعإلىذكرعدنان. الخبرعنحميرمنالقحطانيةوبطونهاوتفرعشعوبها قدتقدملناذكرالشعوبمنحميرالذينكانلهمالملكقبلالتبابعة،فلاحاجة لناإلىإعادةذكرهم.وتقدملاأنحميربنسبأكانلهمنالولدتسعةوهم:الهميسعومالكوزيدوعريبووائلومشروحومعديكربوأوسومرة.فبنومرةدخلواإلىحضرموت.وكانمنحميرأبينبنزفيربنالغوثبنأبينبنالهميسعبنحمير.وإليهمتنسبعدنأنينومنهمبنوالأملوكوبنوعبدشمس،وهماابناوائلبنالغوثبنفطنبنعريببنزهير،وعريبوأبينأخوانومنبنيعبدشمسبنوشرعببنقيسبنمعاويةبنجشمبنعبدشمس،وقدتقدمقولمنذهبإلىأنجشموعبدشمسأخوانوهماابناوائلوالصحيحماذكرناههنافلترجع. وبنوخيرانوشعبانوهماابناعمروأخيشرعببنقيس،وزيدالجمهوربنسهلأخيخيرانوشعبان.ورابعهمحسانالقيلبنعمرووقدمرذكره.ومنزيدالجمهورذورعينواسمهيريمبنزيدبنسهل،وإليهينسبعبدكلالالذيتقدمذكرهفيملوكالتبابعة.والحارثوعريبابناعبدكلالبنعريببنيشرحبنمدانبنذيرعين،وهمااللذانكتبلهماالنبي صلىاللهعليهوسلم.ومنهمكعببنزيدالجمهورويلقبكعبالظلموأبناءسباالأصغربنكعب،وإليهينتهينسبملوكالتبابعة.ومنزيدالجمهوربنوحضوربىغديبنمالكبنزيد،وقدمرذكرهم. وتقولاليمنأنمنهمكانشعيببنذيمهدمالنبيالذيقتلهقومه،فغزاهمبختنصرفقتلهم.وقيلبلهومنحضوربنقحطانالذياسمهفيالتوراةيقطن،ومنهم
أيضابنوميثموبنوحالةابنيسعدبنعوفبنعديبنمالكأخيذيرعين.وعوفهذاأخوحضوروأخوهأحاظةوميثمبنوحرازبنسعد،فمنميثمكصبالأحباروقدمرذكره.وهوكببنماتعبنهلسوعبرذيفجيريبنميثم.ومنأحاظةرهطذيالكلاع،وهوالسميقعبنناكوربنعمروبنيعفربنيزيدوهوذوالكلاعالأكبربنالنعمانبنأحاظة. ومنعمروبنسعدالخبائروالسحولبنوسوادةبنعمروبنالغوثبنسعديحصب،وذوأصبحأبرهةبنالصباح،وكانمنملوكاليمنلعهدالإسلام،وقدمرذكرهونسبه.ومنهممالكبنأنسقإمامدارالهجرةوكبيرفقهاءالسلفوهومالكبنانسقبنمالكبنأبيعامر،وهونافعبنعمروبنالحرثبنعثمانبنخثيلبنعمروبنالحارثوهوذوأصبح،وأبناءيحمىومحمدوأعمامهأويسوأبوسهلوالربيع،وكانواحلفاءلبنيتيممنقريش،ومنزيدالجمهورمرثدبنعلسبنذيجدنبنالحرثبنزيد،وهوالذياستجاشهامرؤالقيسعلىبنيأسدقاتليأبيه. ومنبنيسباالأصغرالأوزاع،وهمبنومرثدبنزيدبنشددبنزرعةبنسبأالأصغر.ومنإخوانهؤلاءالأوزاعبنويعفرالذيناشدوابملكاليمن،كمايأتيعندذكرملوكاليمنفيالدولةالعباسية.وهويعفربنعدالرحمنبنكريببنعثمانبنالوضاحبنإبراهيمبنمانعبنعونبنتدرصبنعامربنذيمغارالبطينبنذيمرايشلنمالكبنزيدبنغوثبنسعدبنعوفبنعديبنمالكبنشددبنزرغه. وكانآخرملوكبنييعفرهؤلاءباليمنأبوحسانأسعدبنأبىيعفرإبراهيمبنمحمدبنيعفرملكأبوإبراهيمصنعاءوبنىقلعةكحلانباليمن.وورثملكهبنوهمنبعدهإلىأنغلبعليهمالصليحيونمنهمدانبدعوةالعبيديينمنالشيعةكمانذكرفيأخبارهم،ومنزيدالجمهورملوكالتبابعةوملوكحميرمنولدصيفيبنسباالأصغربنكعببنزيد. قالابنحزم:فمنوللهضيفىهذاتبعوهوتبان،وهوأيضاأسعدأبوكرببنكليكرب،وهوتبعبنزيدوهوتبعبنعمرو،وهوتبعذوالأذعاربنأبرهةوهوتبعذوالمناربنالرايشبنقيسبنصيفي.قال:فولدتبعأسعدأبوكربحسانذومعاهر
وتبعزرعة،وهوذونواسالذيتهودوهودأهلاليمن،ويسمىيوسف،وقتلأهلنجرانمنالنصارى.وعمروبنسعدوهوموثبان. قال:ومنهؤلاءالتبابعةشمريرعشبنياسرينعمبنعمروذيالأذعار،وافريقشبنقيسبنصيفي،وبلقيسبنتإيليأشرحبنذيجدنبنإيلياشرحبنالحرثبنقيسبنصيفي.قال:وفيأنسابالتبابعةتخليطواختلاف،ولايصحمنهاومنأخبارهمإلاالقليلاهـ. ومنزيدالجمهورذويزنبنعامربناسلمبنزيد.وقالابنحزم:إنعامرهوذويزنقالومنولدهسيفبنالنعمانبنعفيربنزرعةبنعفيربنالحرثبنالنعمانبنقيسبنعبيدبنسيفبنذييزنالذياستجاشكسرىعلىالحبشةوأدخلالفرسإلىاليمن.هذهبطونحميروأنسابهاوديارهمباليمنمنصنعاءإلىظفارإلىعذن.وأخباردولهمقدتقدمت.واللهوارثالأرضومنعليهاوهوخيرالوارثين. ونلحقبالكلامفيأنسابحميربنسبأأنسابحضرموتوجرهموماذكرهالنسابونمنشعوبهما:فإنهميذكرونهمامعحميرلأنحضرموتوجرهمإخوةسبأكماوقعفيالتوراة،وقدذكرناهولميبقمنولدقحطانبعدسبأمعروفالعقبغيرهذين. فأماحضرموتفقدتقدمذكرهمفيالعربالبائدةومنكانمنهممنالملوكيومئذ،ونبهناهنالكأنمنهمبقيةفيالأجيالالمتأخرةاندرجوافيغيرهم،فلذلكذكرناهمفيهذهالطبقةالثالثة.قالابنحرمةويقالإنحضرموتهوابنيقطنأخيقحطانواللهأعلم.وكانفيهمرياسةإلىالإسلام.منهموائلبنحجرلهصحبة،وهووائلبنحجربنسعيدبنمسروقبنوائلبنالنعمانبنربيعةبنالحارثبنعوفبنسعدبنعوفبنعديبنشرحبيلبنالحرثبنمالكبنمرةبنحميربنزيدبنلابيبنمالكلنقدامةبناعجببنمالكابنلابيبنقحطان.وابنهعلقمةبنوائل.وسقطعندهبينحجرأبيوائلوسعيدبنمسروقأباسمهسعدوهوابنسعيد. ثمقالابنحزم:ويذكربنوخلدونالأشبيليونفيقال:إنهممنولدالجباربنعلقمةبنوائل،منهمعليالمنذربنمحمد،وابنهبقرمونةوأشبيليهاللذينقتلهماإبراهيمبنحجاجاللخميغيلة،وهماابناعثمانأبيبكربنخالدبنعثمانأبيبكربن
خريطة
مخلوفالمعروفبخلدونالداخلالمشرق.وقالغيرهفيخلدونالأول:إنهابنعمروبنخلدون.وقالابنحزمفيخلدونأنهابنعثمانبنهانئبنالخطاببنكرببنمعديكرببنالحرثبنوائلبنحجر.وقالغيرهخلدونبنمسلمبنعفربنالخطاببنهانيءبنكريببنمعديكرببنالحرثبىوائل.قالابنحزم:والصدفمنبنيحضرموتوهوالصدفبناسلمبنزيدبنمالكبنزيدبنحضرموتالأكبر.قالومنحضرموتالعلاءبنالحضرميالذيولاهرسولالله صلىاللهعليهوسلمالبحرين،وأبوبكروعهرمنبعدهإلىأنتوفيسنةإحدىوعشرين،وهوالعلاءبنعبداللهبنعبدةبنحمادبنمالكحلفبنىأميةبنعبدشمس،وأخوهميمونبنالحضرميبنالصدف.فيقالعبداللهبنحمادبنأكبربنربيعةبنمالكبنأكبربنعريببرمالكبنالخزرجبنالصدف.قالوأختالعلاءالصعبةبنتالحضرميأمطلحةبنعبداللهاهـ.
وأماجرهمفقالابنسعيد.إنهمأمتانأمةعلىعهدعاد،وأمةمنولدجرهمبنقحطان.ولماملكيعرببنقحطاناليمنملكأخوهجرهمالحجاز،ثمملكمنبعدهابنهعبدياليلبنجرهم،ثمابنهجرشمبنعبدياليل.ثمملكمنبعدهابنهعبدالمدانبنجرشم،ثمابنهنفيلةبنعبدالمدان.ثمابنهعبدالمسيحبننفيلةثمابنهمضاضبنعبدالمسيح،ثمابنهعمروبنمضاض،ثمأخوهالحرثبنمضاض،ثمابنهعمروبنالحرث،ثمأخوهبشربنالحرثثممضاضبنعمروبنمضاض.قالوهذهالأمةالثانيةهمالذينبعثإليهمإسماعيلوتزوجفيهماهـ.
الخبرعنقضاعةوبطونهاوالإلمامببعضالملكالذيكانفيها
فدتقدمآنفاذكرالخلافالذيفيقضاعةهلهملحميرأولعدنان،ونقلناالحجاجلكلاالمذهبينوأتينابذكرأنسابهمتاليةحميرترجيحاللقولبأنهممنهم،وعلىهذافقيلهوقضاعةبنمالكبنحمير.وقالابنالكلبي:قضاعةبنمالكبنعمروبنمرةبنزيدبنمالكبنحمير.وكادقضاعةفيماقالابنسعيدملكاعلىبلادالشحر،وصارتبعدهلاشهالحافيثملابنهمالك.ولميذكرابنحزمفيولدالحافمالكا.قالابنسعيد.وكانتبينقضاعةويبنوائلبنحميرحروب.ثماستقلببلادالشحر
مهرةبنحيدانبنالحافبنقضاعةوعرفتبه.قالوملكبنوقضاعةأيضاًنجران،ثمغلبهمعليهابنوالحرثبنكعببنالازد،وسارواإلىالحجازفدخلوافيقبائلمعد،ومنهناغلطمننسبهمإلىمعداهـ. ولنذكرالآنتشعبالبطونمنقضاعة:اتفقالنسابونعلىأنقضاعةلميكنله منالولدإلاالحافومنهسائربطونهم،وللحافثلاثةمنالولدعمروعمرانوأسلمبضماللامقالهابنحزم.فمنعمروبنالحافحيدانوبلىوبهرا.فمنحيدانمهرة،ومنبلىجماعةمنمشاهيرالصحابة:منهمكعببنعجرةوخديجبىسلامةوسهلبنرافعوأبوبردةابننيار.ومنبهراجماعةمنالصحابةأيضاً،منهمالمقدادبنعمرو،وينسبإلىالأسودابرعبديغوثبنوهبخالرسولالله صلىاللهعليهوسلمأخىأمه،وتبناهفنسبإليه.ويقالإنخالدبنبرمكمولىبنيبهرا. ومناسلمسعدهذيموجهينةونهدبنوزيدبنليثبنسودبنأسلم.فجهينةما بينالينبعويثربإلىالآنفيمتسعمنبريةالحجاز،وفيشماليهمإلىعقبةايلةمواطنبلى،وكلاهماعلىالعدوةالشرقيةمنبحرالقلزموأجازمنهمأممإلىالعدوةالغربية،وانتشروامابينصعيدمصروبلادالحبشة،وكثرواهنالكسائرالأمموغلبواعلىبلادالنوبة،وفرقواكلمتهموأزالواملكهم.وحاربواالحبشةفارهقوهمإلىهذاالعهد.ومنسعدهذيمبنوعذرةالمشهورونبينالعربفيالمحبة.كانمنهمجميلبنعبداللهبنمعمروصاحبتهبثينةبنتحبابا.قالابنحزم:كانلأبيهاصحبة.ومنهمعروةبنحزاموصاحبتهعفرا.ومنبنيعذرةكانرزاحبنربيعةأخولمحصيبنكلابلأمه،وهوالذياستظهرقصيبهوبقومهعلىبنيسعدبنزيدبنمناةابنعمتميم،فغلبهمعلىالاجازةبالناسمنعرفة،وكانتمفتاحرياستهفيقريش. ومنعمرانبنالحافبنوسليح،وهوعمروبنحلوانلنعمران.ومنبنيسليحالضجاعمبنوضجعمبنسعدبنسليح،كانواملوكابالشامللرومقبلغسان.ومنبنيعمرانبنالحافبنوجرمبنزبانبنحلوانبنعمرانبطنكبير،وفيهمكثيرمنالصحابة،ومواطنهممابينغزةوجبالالشراةمنالشام.وجبالالشراةمرجبالالكرك.ومنتغلببنحلوانبنوأسدوبنوالنمروبنوكلب،قبائلضخمةكلهمبنووبرةبنتغلب.فمنالنمرخشينبنالخمر،ومنبنياسدبنوبرةتنوخوهمفهمبنتيم
اللاتبنأسد،منهممالكبنزهيربنعمروبنعمروبنفهموعليهتنختتنوخ.وعلىعهدأبيهمالكبنفهمكمامر،وكانواحلفاءلبنىحزمفتنوخعلىثلاثةأبطن:بطناسمهفهموهمهؤلاء،وبطناسمهبزاروهمليسنزارلهمبوالد،ليهنهممنبطونقضاعةكلها.ومنبنيتيماللاتومنغيرهمبطونثلاثيقاللهمالأحلافمنجميعقبائلالعربمنكندهولخموجذاموعبدالقيساهـكلامابنحزم. ومنبنيأسدبنوبرةبنوالقينواسمهالنعمانبنجسربنشيعاللاتبنأسد. ومنبنيكلببنوبرةبنتغلببنحلوانبنوكنانةبنبكربنعوفبنعذرةبنزيداللاتبنرفيدةبنثوربنكلب.قبيلةضخمةفيهاثلاثةبطون:بنوعديوبنوزهيروبنوعليم.وبنوجناببنفبلبنعبداللهبنكنانةبطونضخمة،ومنهمعبيدةبنهبيلشاعرقديم،ويقولليهبعضالناسابنحرام.وهوالذيعىامرؤالقيسبقوله: نبكىالدياركمابكىابنحرام. وقدقيل:إنهمنبكربنوائل.وقالهشامبنالسائبالكلبي:إذاسئلوابمبكى ابنحرامالديار.انشدواخمسةأبياتمنكلماتامرؤالقيسالمشهورة: ققانبكمنذكرىحبيبومنزل. ويقولونإنبقيتهالامرىءالقيسبنحجر.وهذاامرؤالقيسبنحرامشاعرقديم دثرشعرهلأنهلميكنللعربكتابلبدأتها،وإنمابقيمنأشعارهمماذكرهرواهالإسلاموقيدوهمنروايةالكتابمنمحفوظالرجال.ومنبنيعديبنوحصينبنضمضمبنعدي،كانتمنهمنائلةبنتالفرافصةبنالأحوصبنعمروبنثعلبةبنالحرثبنحضنامرأةعثمانبنعفانومنهمأبوالخطارالحسامبنضراربنسلامانبنجشمبنربيعةبنحصنأميرالأندلس،ومنسبةبنشحيمبنمنجاشبنمزغوربنمنجاشبنهذيمبنعديبنزهير،وابنحسانبنمالكبنبحدلالذيقامبمروانيوممرجراهط.وكانترياسةالإسلامفيكلبلبنيبحدلهؤلاء،ومنعقبهمبنومنقذملوكشيزر.ومنبنيزهيربنجنابخنظلةبنصفوانبنتوبلبنبشرلنخنظلةبنعلقمةبنشراحيلبنهريربنأبيجابربنزهيرولىأفريقيةلهشام. ومنعليمبنجناببنومعقل،وربمايقالإنعربالمعقلالذينبالمغرب
الأقصىلهذاالعهدوفيزمانهينتسبونفيهم.ومنبطونكلببنعوفبنبكربنعوفبنكعببنعوتبنعامربنعوفدحيةبنخليفةبنفروةبنفضالةبنزيدبنامرىءالقيسبنالخزرجبنعامربنبكربنعامربنعوفصاحبرسولالله صلىاللهعليهوسلمالذيأتاهجبريلعليهالسلامفيصورته.ومنصوربنجهوربنحفربنعمروبنخالدبنحارثةبنالعبيدبنعامربنعوفالقائممعيزيدبنالوليدوولاهالكوفة.وحبرسولالله صلىاللهعليهوسلماسامةبنزيدبنحارثةبنشراحيلبنعبدالعزىبنعامربنالنعمانبنعامربنعبدودبنعوف،سبيأبوهزيدفيالجاهليةوصارإلىخديجةفوهبتهإلىالنبي صلىاللهعليهوسلموجاءهأبوهوخيرهالنبي صلىاللهعليهوسلمفاختارهعلىأبيهوأهله،وأقامفيكفالةالنبي صلى الله عليه وسلم،ثمأعتقه.وربيابنهاسامةفيبيتهومعمواله،وأخبارهمشهورة. ومنبنيكلبثممنبنيكنانةبنبكربنعوفيالنسابةبنالكلبي،وهوأبوالمنذرهشامبنفحمدبنالسائببنبشربنعمروبنالحرثبنعبدالعزىبنامرىءالقبس.قالابنحزم:هكذاذكرهابنالكلبيفينسبه.وأرىامرأالقيسهذاهوعامربنالنعمانبنعامرابنعبدودبنعوفبنكنانةبنعزرة،وقدمنبقيةنسبه.وكانلقضاعةهؤلاءملكمابينالشاموالحجازإلىالعراقفيأيلةوجبالالكركإلىمشارفالشام،واستعملهمالرومعلىباديةالعربهنالك، وكانأولالملكفيهمفيتنوخ،وتتابعتفيهمفيماذكرالمسعوديثلاثةملوك النعمانبنعمروثمابنهعمروبنالنعمان،ثمابنهالحواريبنعمرو.ثمغلبهمعلىأمرهمسليحمنبطونقضاعة،وكانترياستهمفيضجعمبنمعدمنهم.وقارنذلكاستيلاءطيطشمنالقياصرةعلىالشام،فولاهمملوكاعلىالعربمنقبلهيجيبونلهمنساحتهم،إلىأنوليمنهمزيادةبنهبولةبرعمروبنعرفبنضجعم.وخرجتغسانمناليمنفغلبوهمعلىأمرهم،وصارملكالعرببالشاملبنيجفنةوانقرضملكالضجاعمحسبمانذكر. وقالابنسعيدد:سارزيادةبنهبولةبنأبقىالسيفمنهمبعدغسانإلىالحجازفقتلهحجرآكلالمرارالكندي،كانعلىالحجازمنقبلالتبابعةوأفنىبقيتهمفلمينجمنهمإلاالقليلقال:وفنالناسمنيطلقتنوخعلىالضجاعمةودوسالذينتنخوابالبحرينأيأقامواقال:وكانلبنىالعبيدبنالابرصبنعمربناشجعبنسليحملك
خريطة
يتوارثونهبالحضرآثارهباقيةفيبريةسنجار،وكانآخرهمالضيزنبنمعاويةبنالعبيدالمعروفعندالجرامقةبالساطرون.وقصتهمعسابورذيالجنودمنالأكاسرةمعروفة. قال:وكانلقضاعةملكأخرفيكلببنوبرةيتداولونهمعالسكونمنكندة،فكانتلكلبدومةالجندلوتبوك،ودخلوافيدينالنصرانية،وجاءالإسلاموالدولةفيدومةالجندللاكيدربنعبدالملكبنالسكونويقالأنهكنديمنذريةالملوكالذينولاهمالتبابعةعلىكلب،فأسرهخالدبنالوليدوجاءبهإلىالنبي صلىاللهعليهوسلم،فصالحعلىدومةوكانفيأولمنملكهادجانةبنقنافةبنعديبنزهيربنجناب.قال:وبقيتبنوكلبالآنفيخلقعظيمعلىخليجالقسطنطينيةمنهممسلمونومنهممتنصرون.اهـالكلامفيأنسابقضاعة. قالابنحزم:وجميعقبائلالعربراجعةإلىأبواحدحاشثلاثقبائل:وهي تنوخوالعتقيوغسان.فأماتنوخفقدذكرناهم،وأماالعتقيفهممنحجرحميرومنحجرمنذيرعينومنسعدالعشيرةومنكنانةبنخزيمةومنهمزبيدبنالحرثالعتقيمنحجرحميروهومولىعبدالرحمنبنالقاسم،وخالدبنجنادةالمصرفيصاحبمالكبنأنس،وهومولىزبيدلاحظالشكلالمذكورمنأسفل.وأماغسانفإنهممنبنيأبلايدخلبعضهمفيهذاالنسب،ويدخلفيهممنغيرهم،وسمواالعتقالأنهماجتمعواليفتكوابرسولالله صلىاللهعليهوسلم،فظفربهمفأعتقهم،وكانواجماعةمنبطونشتىوسمواتنوخ،لأنالتنوخالاقامة،فتحالفواعلىالاقامةبموضعهمبالشام،وهممنبطونشتى.وأماغسانفإنهمأيضاًطوائفنزلوابماءيقاللهغسانفنسبواإليهاهـكلامابنحزم. الخبرعنبطونكهلانمنالقحطانيةوشعوبهمواتصالبعضهامعبعضوانقضائها هؤلاءبنوكهلانبنسبابنيشجببنيعرببنقحطانإخوةبنيحميربنسبا.وتداولوامعهمالملكأولأمرهم،ثمانفردبنوحميربه،وبقيتبطونبنيكهلانتحتملكتهمباليمن.ثملماتقلصملكحميربقيتالرياسةعلىالعربالباديةلبنيكهلان،لماكانوابادينلميأخذترفالحضارةمنهم،ولاأدركهمالهرمالذيأودىبحمير.إنماكانواأحياءناجعةفيالبادية،والرؤساءوالأمراءفيالعربإنماكانوامنهم.وكانلكندةمنبطونهمملكباليمنوالحجاز.ثمخرجتالأزدمنشعوبهمأيضامناليمنمع
مزيقياوافترقوابالشام.وكانلهمملكبالشامفيبنيجفنة،وملكبشربفيالاوسوالخزرج،وملكبالعراقفيبنيفهم.ثمخرجتلخموطيءمنشعوبهمأيضامناليمن.وكانلهمملكبالحيرةفيآلالمنذرحسبمانذكرذلككله.
وأماشعوبهمفهيكلهاتسعةمرزيدبنكهلانفيممالكبنزيدوعريببنزيد.
فمنمالكبطونهمدانوديارهملمتزلباليمنفيشرقيه،وهمبنوأوسلةوهوهمدانبنمالكبنزيدبنأوسلةبنربيعةهبنالجباربنمالكبنزيدبننوفبنهمدان.ومنشعوبحاشدبنويامبنأصغىبنمانعبنمالكبنجشمبنحاشد،ومنهمطلحةبنمصرف.ولماجاءاللهبالإسلامافترقكثيرمنهمدانفيممالكه،وبقيمنهممنبقيباليمن،وكانواشيعةلعليكرماللهوجههورضيعنهعندماشجربينالصحابةوهوالمنشدفيهممتمثلا.
فلوكنتبواباعلىبابجنةلقلتلهمدانادخلوبسلام
ولميزلالتشيعدينهمألامالإسلامكلها،ومنهمكانعليبنمحمدالصليحيمن بنييامالقائمبدعوةالعبيديينباليمنفيحصنحرابىمنبنييام،وهومنبطونهم،وهومنبنيياممنبطونحاشد.فاستولىعليهوورثملكهلبنيهحسبمانذكرهفيأخبارهم،وكانتلعدذلكوقبلهدولةبنيالرسىأيامالزيديةبصعدة،فكانتعلىيدهموبمظاهرتهم،ولميزلالتشيعدينهملهذاالعهد. وقالالبيهقي:وتفرقوافيالإسلامفلمتبقلهمقبيلة،وبريةإلاباليمنوهمأعظمقبائله،وهمعصبةالمعطيمنالزيديةالقائمينبدعوتهباليمن،وملكواجملةمنحصوناليمنباليمن،ولهمبهااقليمبكيلواقليمحاشدمنبطونهم.أ،محالابنسعيد:ومنهمدانبنوالزريعوهمأصحابالدعوة،والملكفيعدنوالحيرة،وهمزيديةوإخوةهمدانالهانبنمالكبنزيدبنأوسلة،ومنمالكبنزيدأيضاًالازدوهوأزدبنالغوثبننبتبنمالك،وخثعموبجيلةابناأنماربنأراشأخيالأزدبنالغوث. وفديقالأنمارهوابنيزاربنمعدوليسبصحيح.فأماالأزدفبطنعظيممتسخوشعوبكثيرة.فمنهمبنودوسمنبنينصربنالأزد،وهودوسلنعدنان،"بالثاءالمثلثة"ابنعبداللهبنزهرانبنكعببنالحرثبنكعببنمالكبننصربنالأزد،
بطنكبير.ومنهمكانجذيمةبنمالكبنفهمبنغنمبندوسوديارهمبنواحيعمان.وكانبعددوسوجديمةملكبعمانفيإخوانهمبنينصربنزهرانبنكعب.كانمنهمقبيلالإسلامالمستكبربنمسعودبنالجراربنعبداللهبنمعولةبنشمسبنعمروبنعمملنغالببنعثمانبرنصربنزهران.والديأدركالإسلاممنهمجيفربنالجلنديبنكركربنالمستكبر،وأخوهعبداللهملكعمان.كتبإليهماالنبي صلىاللهعليهوسلمفأسلموا.واستعملعلىنواحيهماعمروبنالعاص. ومنالأزدثممنبنيمازنلنالأزدبنوعمرومزيقيابنعامرويلقبماءالسماءبنحارثةالغطريفبنامرىءالقيسالبهلولبنثعلبةبنمازنبنالأزد.وعمروهذاوآباؤهكانواملوكاعلىباديةكهلانباليمنمعحمير،واستفحللهمالملكمنبعدهم،وكانتأرضسبأباليمنلذلكالعهدمنأرفهالبلادوأخصبها،وكانتمدافعللسيولالمنحدرةبينجبلينهنالك،فضرببينهماسدبالصخروالقاريحبسسيولالعيونوالأمطار،حتىيصرفوهمنخروقفيذلكالسدعلىمقدارمايحتاجونإليهفيسقيهم،ومكثكذلكماشماءاللهأيامحمير.فلماتقلصملكهموانحلنظامدولتهم،وتغلبباديةكهلانعلىأرضسبا،وانطلقتعليهاالأيديبالعيثوالفساد،وذهبالحفظةالقائمونبأمرالسدنذروابخرابه.وكانالذينذربهعمرومزيقياملكهملمارأىمناختلالأحواله.ويقالأنأخاهعمرانالكاهنأخبرهويقالطريفةالكاهنة.وقالالسهيلي:طريفةالكاهنةامرأةعمروبنعامر،وهيطريفةبنتالخيرالحميريةلعهده. وقالابنهشام:عنأبيزيدالأنصاريأنهرأىجرذاًتحفرالسد،فعلمأنهلابقاء للسدمعذلك،فأجمعالنقلةمناليمن.وكادقومهبأنأمرأصغربنيهأنيلطمهإذاأغلظلهففعل.فقاللاأقيمفيبلديلطمنيفيهاأصغرولديوعرضأموالهفقالأشرافاليمناغتنمواغضبةعمرو،فاشترواأموالهوانتقلفيولدهوولدولده.فقالالأزدلانتخلفعنعمرو،فتجشمواللرحلةوباعواأموالهموخرجوامعه.وكانرؤساؤهمفيرحلتهمبنوعمرومزيقياوعنإليهممنبنيمازن،ففصلالأزدمنبلادهمباليمنإلىالحجاز. قالالسهيلي:كانفصولهمعلىعهدحسانبنتبانأسعدمنملوكالتبابعة، ولعهدهكانخرابالسد.ولمافصلالأزدمناليمنكانأولنزولهمببلادعكمابينزبيدوزمع.وقتلواملكعكمنالأزد،ثمافترقواإلىالبلاد،ونزلبنونصربنالأزد
بالشراةوعمان.ونزلبنوثعلبةبنعمرومزيقيابيثرب.وأقامبنوحارثةبنعمروبمرالظهرانبمكة.وهمفيمايقالخزاعة.ومرواعلىماءيقاللهغسانبينزبيدوزمع.فكلمنشربمنهمن،بنيمزيقيالسميبه.والذينشربوامنهبنومالكوبنوالحرثوبنوجفنةوبنوكعب،فكلهميسمونغسان.وبنوثعلبةالعتقاءلميشربوامنهفلميسموابه.فمنولدجفنةملوكالشامالذينيأتيذكرهم،ودولتهمبالشام.ومنولدثعلبةالعتقاءالاوسوالخزرجملوكيثربفيالجاهليةوسنذكرهم.ومنبطنعمرومزيقيابنوأفصىبنحارثةبنعمرو.ويقالأنهأفصىبنعامربنقمعة"بلاشك"بنالياسابنمضر.قالابنحزم:فإنكانأسلمبنأفصىمنهمفمنبنيأسلمبلاشك،وبنوأبانوهوسعدبنعديبنحارثةبنعمرو.وبنوالعتيكمنالأزدعمرانبنعمرو. وأمابجيلةفبلادهمفيسرواتالبحرينوالحجازإلىتبالةوقدافترقواعلىالافاق أيامالفتح،فلميبقمنهمبمواطنهمإلاالقليل.ويقدمالحاجمنهمعلىمكةفيكلعامعليهمأثرالشظف،ويعرفونمنأهلالموسمبالسرووأماحالهملأولالفتحالإسلاميفمعروف،ورجالاتهممذكورة.فمنبطونبجيلةقسر،وهومالكبنعبقربنأنمار،وهوأحمسبنالغوثلنأنمار. وأمابوعريببنزيدبنكهلانفمنهمطيءوالأشعريونومذحجوبنومرةوأربعتهمبنوأددبنزيدبنيشجببنعريب.فأماالأشعريونفهمبنوأشعروهونبتبنأدد،وبلادهمفيناحيةالشمالمنزبيد.وكانلهمظهورأولالإسلام،ثمافترقوافيالفتوحات،وكانلمنبقيمنهمباليمنحروبمعابنزيادلأولإمارتهعليهاأيامالمأمون،ثمضعفواعنذلكوصاروافيعددالرعايا. وأمانبوطيءبنأددفكانواباليمنوخرجوامنهعلىأثرالأزدإلىالحجاز،ونزلواسميراوفيدفيجواربميأسد،ثمكلموهمعلىأجاوسلمىوهماجبلانمنبلادهم،فاستقروابهماوافترقوالأولالإسلامفيالفتوحات.قالابنسعيد:ومنهمفيبلادهمالآنأممكثيرةملأواالسهلوالجبلحجازاوشاماًوعراقاً،يعنيقبائلطيءهؤلاءوهمأصحابالدولةفيالعربلهذاالعهدفيالعراقوالشاموبمصرمنهمسنبسوالثعالببطنانمشهوران.فسنبسبنفغاويةبنشبلبنعمروبنالغوثبنطيءومعهمبحتربنثعل.
قالابنسعيد:ومنهمزبيدبنمعنبنعمروبنعسبنسلامانبنثغل.وهم فيبرثةسنجار.والثعالببوثعلبةبنرومانبنجندببنخارجةبنسعدبنقطرةبنطيء،وثعلبةبنجذعابنذهلبنرومان.فالابنسعيد:ومنهمبنولامبنثعلبةمنازلهممنالمدينةإلىالجبلين،وينزلونفيأكثرأوقاتهممدينةيثرب.والثعالبالذينبصعيدمصرمنثعلببنعمروبنالغوثبنطيء. قالابنحزم،لامبنطريفبنعمروبنثمامةبنمالكبنجدعا،ومنالثعالب بنوثعلبةبنذهلبنرومان.ولجهةبنيامينوالشامبنوصخر،ومنبطونهمغزيةالمرهوبمولتهمبالشاموالعراق.وهمبنوغزيةبنأفلثبنمعبدبنعمروبنعسبنسلامانبنثعل.وبنوغزيةكثيرونوهمفيطريقالحاجينالعراقونجد.وكانتالرياسةعلىطيءفيالجاهليةلبنيهنيبنعمروبنالغوثابنطيءوهمرمليون،وإخوتهمجبليون.ومنولدهإياسبنقبيصةالذيأدالبهكسرىابرويزالنعمانالمنذرحمنقتلهوأنزلطيابالحيرةمكانلخمقومالنعمان،وولىعلىالعربمنهمإياساًهذا.وهوإياسبنقبيصةبنأبيلمجربنالنعمانبنحبيببنالحرثبنالحويرثبنربيعةبنمالكبنسعدبنفني،فكانتلهمالرياسةإلىحينانقراضملكالفرس. ومنعقبإياسهذابوربيعةبنعليبنمفرخبنبدربنسالمبنقصةبن بدربنسميع.ومنربيعةشعبآلمرادوشعبآلفضل.والفضلشعبانآلعليوآلمهنا.فعليومهناابنافضل،وفضلومرادابناربيعةوسميعالذينينسبونإليهمنعقباقبيصةبنأبييعفر.ويزعمكثيرمنجهلةالباديةأنهالذيجاءتبهالعباسةأختالرشيدمنجعفربنيحمىزعماكاذبالاأصلله.وكانتالرياسةعلىطيءأيامالعبيديينلبنيالمفرخ،ثمصارتلبنيمرادبنربيعة،وكلهمورثواأرضغسانبالشاموملكهمعلىالعرب.ثمصارتالرياسةلبنيعليوبنيمهناابنيفضلبنربيعة،اقتسموهامدة،ثمانفردبهالهذاالعهدبنومهنا،الملوكعلىالعربإلىهذاالعهدبمشارفالشاموالعرافوبريةنجد.وكانظهورهملأمرالدولةالأيوبيةومنبعدهممنملوكالتركبمصروالشام،ويأتيذكرهم،واللهوارثالأرضومنعليها. وأمامذحجواسمهمالكبنزيدبنأددبنزيدبنكهلان،ومنهممرادواسمه يخابربنمذحج،ومنهمسعدالعشيرةبنمذحجبطنعظيم،لهمشعوبكحيرة.منهم
جعفربنسعدالعشيرةوزبيدبنصعببنسعدالعشيرة.ومنبطونمذحجالنخع،ورهاوفسيلةوبنوالحرثبنكعب.فأماالنخعفهوجسربنعمروبنعلةبنجلدبنمذحج،ومسيلةبنعامربنعمروبنعلة،وأمارهافهوابنمنبهبنحرببنعلة.وبقيمنمذحجوبريةينجعونمعأحياءطيءفيجملةأيامبنيمهنامعالعرببالشامزمنأحلافهم،وأكثرهممنزبيد. وأمابنوالحرثفالحرثأبوهمابنكعببنعلة،وديارهمبنواحينجرانيجاورونبهاذهلبنمزيقيامنالأزدوبنيحارثبنكعببنعبداللهبنمالكبننصربنالأزد،وكاننجرانقبلهملجرهم،ومنهمكانملكهاالأفعىالكاهنالذيحكمبينولدنزاربنمعدلماتنافرواإليهبعدموتنزار،واسمهالغلسبنغمرماءبنهمدانبنمالكبنمنتاببنزيدبنواثلبنحمير.وكانداعيةلسليمانعليهالسلامبعدأنكانواليالبلقيسعلىنجران،وبعثتهإلىسليمانفصدقوامن،وأقامعلىدينهبعدموته.ثمنزلنجرانبنوالحرثبنكعبعلةبنجلدبنمذحجفغلبواعليهابنيالأفعى.ثمخرجتالأزدمنالمنفمروابهموكانتبينهمحروب.وأقاممنأقامفيجوارهمصبنينصربنالأزد،وبنيذهلبنمزيقيا،واقتسمواالرياسة،فنجرانمعهم.وكانمنبنيالحرثبنكعبهؤلاءالمذحجيينبنوالزيادواسمهيزيدبنقطنبنزيادبنالحرثبنمالكبنكعببنالحرث،وهمبيتمذحجوملوكنجران.وكانترياستهمفيعبدالمدانبنالديان.وانتهتقبيلالبعثةإلىيزيدبنعبدالمدان.ووفدأخوهعبدالحجربنعبدالمدانعلىالنبي صلىاللهعليهوسلمعلىيدخالدبنالوليد،وكانبنأخيهمزيادبنعبداللهبنعبدالمدانخالالسفاحوولاهنجرانواليمامة. وقالابنسعيد:ولميزلالملكبنجرانفيبنيعبدالمدان،ثمفيبنيأبي الجوادمنهم،وكانمنهمفيالمائةالسادسةعبدالقيسبنأبيالجوادثمصارالأمرلهذاالعهدإلىالأعاجم،شأنالنواحيكلهابالمشرق.ثممنبطونالحرثبنكعببنومعقل،وهوربيعةبنالحرثبنكعب.وقديقالإنالمعقلالذينهمبالمغربالأقصىلهذاالعهدإنماهممنهذاالبطن،وليسوامنمعقلبنكعبالقضاعيين،ويؤيدهذاأنهؤلاءالمعقلجميعاًينتسبونإلىربيعة،وربيعةاسممعقلهذاكمارأيتواللهتعالىأعلم.
وأمابنومرةبنأددإخوةطيءومذحجوالأشعريينفهمأبطنكثيرة،وتنتهيكلها إليالحرثبنمرة،مثلخولانومعافرولخموجذاموعاملةوكندة.فأمامعافرفهمبنويعفربنمالكبنالحرثبنمرة،وافترقوافيالفتوحات،وكانمنهمالمنصوربنأبيعامرصاحبهشامبالأندلس.وأماخولانواسمهأفكلبنعمروبنمالك،وعمروأخويعفر،وبلادهمفيجبالاليمنمنشرقيهوافترقوافيالفتوحات،وليسمعهماليوموبريةإلاباليمن،وهملهذاالعهد.وهمدانأعظمقبائلالعربباليمنولهمالغلبعلىأهلهوالكثيرمنحصونه.وأمالخمواسمهمالكبنعديبنالحرثبنمرةفبطنكبيرمتسعذوشعوبوقبائل،منهمالداربنهانىءبنحبببننمارةبنلخم،ومنأكبرهمبنونصربنربيعةبنعمروبنالحرثبنمسعودبنمالكبنعممبنانمارةبنلخم،ويقالنمارةوهمرهطآلالمنذر،وحافدهعمروبنعديبننصرهوابنأختجذيمةالوضاحالذيأخذبثأرهمنالزباقاتلته.ووليالملكعلىالعربللأكاسرةبعدخالهجذيمةوأنزلوهبالحيرةحسبمايأتيالخبرعنملكهوملكبنيه. ومنشعوببنيلخمهؤلاءثانبنوعبادملوكأشبيليةويأتيذكرهم.وأماجذامواسمهعمروبنعديأخولخمبنعديفبطنمتسعلهشعوبكثيرة،مثلغطفانوأمصىوبنوحرامبنجذاموبنوضبيبوبنومخرمةوبنوبعجةوبنونفاثةوديارهمحواليايلةمنأولأعمالالحجازإلىالينبعمنأطرافيثرب.وكانتلهمرياسةفيمعانوماحولهامنأرضالشاملبنيالنافرةمننفاثة،ثملفروةبنعمروبنالنافرةمنهم،وكانعاملاللرومعلىقومهوعلىمنكانحواليمعانمنالعرب،وهوالذيبعثإلىرسولصلىاللهعليهوسلمبإسلامه،وأهدىلهبغلةبيضاء،وسمعلذلكقيصرفأغرىبهالحارثبنأبيشمرالغسانيملكغسانفأخذهوصلبهبفلسطين.وبقيتهماليومفيمواطنهمالأولىفيشعبينمنشعوبهم،يعرفأحدهمابنوعائد،وهممابينبلبيسمنأعمالمصرإلىعقبةأيلةإلىالكركمنناحيةفلسطين،وتعرفالثانيةبنوعقبةوهممنالكركإلىالأزلممنبريةالحجاز.وضمانالسابلةمابينمصروالمدينةالنبويةإلىحدودغزةمنالشامعليهم.وغزةمنمواطنجرمإحدىبطونقضاعةكمامر.ولأفريقيةلهذاالعهدمنهموبريةكبيرةينتجعونمعذياببنسليمبنواحيطرابلس. وأمماعاملةواسمهالحرثبنعدي،وهمإخوةلخموجذام،وإنماسميالحرث
عاملةبأمهالقضاعية،وهمبطنمتسعومواطنهمببريةالشام. وأماكندةواسمهثوربنعفيربنعدي،وعفيرأخولخموجذام.وتعرفبكندة الملوكلأنالملككانلهمعلىباديةالحجازمنبنيعدنانكمانذكر.وبلادهمبجبالاليمنمعايليحضرموتومنهادمونالتيذكرهاامرؤالقيسفيشعره.وبطونهمالعظيمةثلاثة:معاويةبنكندة،ومنهالملوكبنوالحرثبنمعاويةالأصغربنثوربنمرتعبنمعاويةوالسكونوسكسكوابنهماأشرشبنكندة.ومنالسكونبطنتجيب،وهمبنوعديوبنوسعدبنأشرشبنشبيبابنالسكون،وتجيباسمأمهما. وكانللسكونملكبدومةالجندلوكانعليهاعبدالمغيثبناكيدرلنعبد الملكبنعبدالحىبنأعمىبنمعاويةبةحلاوةبنأمامةبنشكامةبنشبيببنالسكون،بعثإليهرسولالله صلىاللهعليهوسلمفيغزوةتبوكخالدبنالوليدفجاءبهأسيرا.وحقنصلىاللهعليهوسلمدمهوصالحهعلىالجزيةوردهإلىموضعه.ومنمعاويةبنكندةبنحجربنالحرثالأصغربنمعاويةبنكندة،منهمحجرآكلالمراربنعمروبنمعاوية،وهوحجرأبوالملوكابنكندةالذينيأتيذكرهم.والحرثالولادةأخوحجر،وكانمنعقبهالخارجينباليمنالمسلمينطالبالحق،وكانأباضياوسيأتيذكره.ومنهمالأشعثبنقيسبنمعديكرببنماوية،وجبلةبنعديبنربيعةبنمعاويةبنالحرثالأكبرجاهليإسلامي،وابنهمحمدبنالأشعثوابنهعبدالرحمنلنالأشعثالقائمعلىعبدالملكوالحجاجوهومشهور.وابنعمهمأيضاابنعديوهوالأذمربنعديبنجبلةلهصحبةفيمايقال،وهوالذيقتلهمعاويةعلىالثورةبأخيهزيادوخبرهمعروف. هذهقبائلاليمنمنقحطاناستوفيناذكربطونهموأنسابهم،ونرجعالآنإلىذكرمنكانالملكمنهمبالشاموالحجازوالعراقحسبمانقصه.واللهتعالىالمعينبكرمهومنلاربغيرهولاخيرإلاخيره.
خريطة
الخبرعنملوكالحيرةمنآلالمنذرمنهذهالطبقةوك؊فانساقالملكإليهمممنقبلهمويفصارإليطيءمنبعدهم أماأخبارالعرببالعراقفيالجيلالأولوهمالعربالعاربةفلميصلإليناتفاصيلهاوشرححالها،إلاأنقومعادوالعمالقةملكواالعراق،والمسندفيبعضالأقوالأنالضحاكبنسنانمنهمكمامر.وأمافيالجيلالثانيوهمالعربالمستعربةفلميكنلهمبهمستبد،وإنماكانملكهمبهبدوياورياستهمفيأهلالظواعن.وكانملكالعربكمامرفيالتبابعةمنأهلاليمن،وكانتبينهموبينفارسحروب،وربماغلبوهمعلىالعراقوملكواأوبعضهكمامر.لكناليمنلميغلبواثانياعلىماملكوامنه،وقدمرايقاعبختنصرواثخانهفيهمماتقدم. وكانفيسوادالعراقوأطرافالشاموالجزيرةالأرمانيونمنبنيإرمبنسام،ومنكانمنبقيةعساكرابنتبع،منجعفرطيءوكلبوتميموغيرهم،منجر؇مومننزلمٹهمبعدذلكمنتنوخونمارةبنلخموقنصبنمعدومنإليهم،`كما`قدمناذكرذلك.وكانمابينالحيرةوالفراتإلىناحيةالأنبارموطنله،وكانوايسمونعرب٧لضاحيةوكاناولمنملكمنهمفيزمنالطوائفالكبنفهمبنتيمالهبنأسدب؆وبرةلنثعلبةبنحلوانبنقضاعة.وكانمنزلهممايليالأنباٱ. ولكمنبعدهأخوهعمر؈بنفهم،ثمملكمنبعدهماجذيمةالأ٨رشاثنتي عشرةسنة.وقدتقدمأنهصهر؇ما،وأنمالكبنزهيربنعمر؈بنفهمزوجهأخته،وصارواحفاءمعالأزدمنقومجذيمة.ونسبجذيمةفيالأزدإلىبنيزهران،ثمإلىدوسبنعدثانبنعبداللهبنزهران،وهوجذيمةبنملكبنفهمبرغنمبندوس،هكذاقالابنالكلبي.ويقال.إنهمنوباربناميمبنلاوذبنسام.وكانبنوزهرانمنالأزدخرجواقبلخروجمزيقيامناليمنونزلوابالعراق،وقيلساروامناليمنمعأولادجفنةبنمزيقيا. فلماتفرقالأزدعلىالمواطننزلبنوزهرانهؤلاءبالشراةوعمان،وصارلهممعالطوائفملك.وكانمالكبنفهمهذامنملوكهم،وكانبشاطىءالفراتمنالجانب
الشرقيعمروبنالظرببنحسانبنأدينةمنولدالسميدعبنهوثرمنبقاياالعمالقة.فكانعمروبنالظربعلىمشارفالشاموالجزيرةوكانمنزلهبالمضيقبينالخابوروقرقيسافكانتبينهوبينمالكبنفهمحروبهلكعمروفيبعضها،وقامتبملكهمنبعدهابنتهالزباءبنتعمروواسمهمانائلةعندالطبريوميسونعندابندريد. قالالسهيلى:ويقالإنالزباءالملكةكانتمنذريةالسميدعبنهوثرمنبني قطورابنأهلمكة،وهوالسميدعبنمرثدبالثاءالمثلثة،ابنلايبنقطوربنكركيبنعملاقوهيبنتعمروبنأدينةبنالظرببنحسان.وبينحسانهذاوالسميدعآباءكثيرةليستبصحيحة،لبعدزمنالزباءمنزمنالسميدع،انتهىكلامالسهيليولمتزلالحرببينمالكبنفهموبينالزباءبنتعمروإلىأنألجأهاإلىأطرافمملكتها.وكانيغيرعلىملوكالطوائفحتىغلبهمعلىكثيرممافيأيديهم. قالأبوعبيدة:وهوأولملككانبالعراقمنالعرب،وأولمننصبالمجانيق وأوقدالشموع،وملكستينسنة.ولماهلكقامبأمرهمنبعدهجذيمةالوضاحويقاللهالأبرش،وكانيكنىبأبيمالكوهومنادمالفرقدين. قالأبوعبيدة:كانجذيمةبعدعيسىبثلاثينسنة،فملكأزمانالطوائفخمسا وسبعينسنة،وأيامأردشيركلهاخمسعشرةسنة،وثمانيسنينمنأيامسابور.وكانبينهوبينالزباءسلموحرب.ولمتزلتحاولالثأرمنهبأبيهاحتىتخيلتعليهوأطمعتهفينفحمها،فخطبهاوأجابته.وأجمعالمسيرإليها،وأبىعليهوزيرهقصيربنسعدفعصاهودخلإليها،ولقيتهبالجنود،وأحسبالشر،فنجاقصيرودخلجذيمةإلىقصرهافقطعترواهشهوأجرتدمهإلىأنهلكفيحكايةمقولةفيكبالإخباريين. قالالطبري:وكانجذيمةمنأفضلملوكالعربرأياوأبعدهممغاراوأشدهمحزما،وأولمناستجمعلهالملكبأرضالعراق،وسرىبالجيوش.وكانبهبرصفكنواعنهبالوضاحإجلالاله.وكانتمنازلهبينالحيرةوالأنباروهيتونواحيهاوعينالتمروأطرافالبرإلىالعمقوالقطقطانيةوجفنة.وكانتتجبىإليهالأموالوتفدإليهالوفود،وغزافيلعضالأيامطسماوجديسافيمنازلهمباليمامة.ووجدحسانبنتبعقدأغارعليهمفانكفأهوراجعابمنمعه،وأتتخيولحسانعلىسرايافأجاحوها،وكان
أكثرغزوجذيمةللعربالعاربة،وكانقدتكهنوادعىالنبوة. وكانتمنازلإيادبعينأباغ،سميتباسمرجلمنالعمالقةنزلبها.وكان جذيمةكثيرامايغزوهمحتىطلبوامسالمته.وكانبينهمغلاممنلخممنبنيأختهموكانواأخوالاًلهوهوعديبننصربنربيعةبنعمروبنالحرثبنمسعودبنمالكبنعمروبننمارةبنلخم.وكانلهجمالوضرب،وطلبهمنهمجذيمةفامتنعوامنتسليمهإليه،فألحعليهمالغزو،وبعثتإيادمنسرقلهمصنمينكاناعندجذيمةيدعوبهماويستسقيبهما،وعرفوهأنالصنمينعندهم،وأنهميردونهمابشريطةرفعالغزوعنهم،فأجابهمإلىذلكبشريطةأنيبعثوامعالصنمينعديبننصرفكانذلك. ولماجاءعديبننصراستخلصهلنفسهوولاهشرابه،وهويتهرقاشأخته فىاسلته،فدافعهابالخشيةمنجذيمة،فقالتلهاخطبنيمنهإذاأخذتالخمرمنهواشهدعليهالقومففعل،وأعرسبهامنليلته.وأصبحمضرجأبالخلوق،ورابجذيمةشأنه،ثمأعلمبماكانمنه،فعفىعلىيديهآسفا.وهربعديفلميظهرلهأثر،ثمسألهافيأبياتشعرمعروفة،فأخوتهبماكانمنه،فعرفعذرهاوكف.وأقامعديفيأخوالهإيادإلىأنهلك.وولدترقاشمنهغلاماًوسمتهعمرا،وربيعندخالهجذيمةوكانيستظرفه.ثماستهوتهالجنفغاب،وضربلهجذيمةفيالآفاقإلىأنردهعليهوافدانمنالعتقاثممنقضاعةوهمامالكوعقيلابنافارجبنمالكبنالعنس،أهديالهطرفاومتاعاً،ولقياعمرابطريقهماوقدساءتحاله،وسألاهفأخبرهماباسمهونسبه،فأصلحامنشأنهوجاآبهإلىجذيمةبالحيرة،فربهوسرتأمه.وحكمالرجلينفطلبامنادمتهفأسعفهما،وكاناينادمانهحتىضربالمثلبهماوقيلندمانيجذيمة.والقصةمبسوطةفيكتبالإخباريينبأكثرمنهذا. قالالطبري:وكانملكالعرببأرضالجرةومشارفالشامعمروبنظرببن حسانبنأدينةبنالسميدعبنهوثرالعملاقي،فكانتبينهوبينجذيمةحربقتلفيهاعمروبنالظربوفضت.جموعه.وملكتبعدهبنتهالزباواسمهانائلة،وجنودهابقاياالعمالقةمنعادالأولى،ومننهدوسليحابنيحلوانومنكانمعهممنقبائلقضاعة،وكانتتسكنعلىشاطىءالفراتوقدبنتهنالكقصرا،وتربععندبطنالمجازوتصيفبتدمر.
ولمااستحكملهاالملكأجمعتأخذالثأرمنجذيمةبأبيها،لبعثتإليهتوهمه الخطبةوأنهاامرأةلايطيقبهاالملك،فيجمعملكها،إلىملكهفطمعفيذلكووافقهقومه،وأبىعليهمنهمقصيربنسعدبنعمروبنجذيمةبنقيسبنأربىبننمارةبنلخم،وكانحازماًناصحاً،وحذرهعاقبةذلك،فعصاهواستشارابنأختهعمروبنعديفوافقه،فاستخلفهعلىقومهوجعلعلىخيولهعمروبنعبدالجن.وسارهوعلىغربيالفراتإلىأننزلرحبةمالكابنطوق.وأتتهالرسلمنهابالألطافوالهدايا،ثماستقبلتهالخيول.فقاللهقصيرإنأحاطتبكالخيولفهوالغدر،فاركبفرسكالعصاوكانتلاتجارى.فأحاطتبهالخيول.ودخلجذيمةعلىالزبا،فقطعترواهشهفسالدمهحتىنزلومات. وقدمقصيرعلىعمروبنعديوقداختلفعليهقومه،ومالجماعةمنهمإلى عمروبنعبدالجنفأصلحأمرهم،حتىانقادواجميعاًلعمروبنعدي.وأشارعليهبطلبالثأرمنالزبابخالهجذيمة،وكانتالكاهنةقدعرفتهابملكهاوأعطتهاعلاماتعمروفحذرته،وبعثترجلاًمصوراًلصورلهاعمرافيجميعحالاته،فسارإليهمتنكراًواختلطجشمه،وجاءإليهابصورته،فاستثبتتهوتيقنتأنمهلكهامنه.واتخذتنفقافيالأرضمنجلهاإلىحصنداخلمدينتها.وعمدعمروإلىقصيرفجدعأنفهبمواطأةمنهعلىذلك،فلحقبالزبايشكوماأصابهمنعمرووأنهاتهمهبمداخلةالزبافيأمرخالهجذيمة،ومارأيتبعدمافعلبيأنكىلهمنأنأكونمعك،فأكرمتهوقربتهحتىإذارضيمنهامنالوثوقبهأشارعليهابالتجارةفيطرقالعراق،وأمتعتهفأعطتهمالاوعيراً.وذهبإلىالعراقولفيعمروبنعديبالحيرة،فجهزهبالطرفوالأمتعةكيمايرضيها.وأتاهابذلكفازدادتبهوثوقاًوجهزتهبأكثرمنالأولى. ثمعادالثالثةوحملبغاةالجندمنأصحابعمروفيالغرائرعلىالجمالوعمرو فيهم،وتقدمفبشرهابالعيروبكثرةماحملإليهامنالطرف،فخرجتتنظرفانكرتمارأتهفيالجمالمنالتكارد.ثمدخلتالعيرالمدينة،فلماتوسطتانيختوخرجالرجال،وبادرعمروإلىالنفقفوقفعنده،ووضعالرجالسيوفهمفيأهلالبلد،وبادرتالزباإلىالنفقفوجدتعمراقائماًعنده،فلحمهابالسيفوماتت،وأصابماأصابمنالمدينةوانكفأراجعأ.
قالالطبري:وعمروبنعديأولمناتخذالحيرةمنزلامنملوكالعرب،وأول منتجدهأهلالحيرةفيكبهممنملوكالعرببالعراقوإليهينسبون،وهمملوكآلنصر.ولميزلعمروبنعديملكاحتىماتوهوابنمائةوعشرينسنة،مستبدامنفرداًيغزوهمويغنم.وتفدعليهالوفود،ولايدينلملوكالطوائفولايدينونله،حتىقدمأردشيربنبابكفيأهلفارس. قالالطبري:وإنماذكرنافيهذاالموضعأمرجذيمةوابنأختهعمروبنعدي لماقدمناهعندذكرملوكاليمن،وأنهملميكنلهمملكمستفحل،وإنماكانواطوائفعلىالمخاليفيغيركلواحدعلىصاحبهإذااستغفله،ويرجعخوفالطلب.حتىكانعمروبنعدي،فاتصللهولعقبهالملكعلىمنكانبنواحيالعراقوباديةالحجازبالعرب،فاستعملهملوكفارسعلىذلكإلىآخرأمرهم.وكانأمرآلنصرهؤلاءومنكانمنولاةالفرسوعمالهمعلىالعربمعروفاماعندهمفيكنائسهموأشعارهم. وقالهشامبنالكلبي:كنتاستخرجأخبارالعربوأنسابهموأنسابآلنصربن ربيعة،ومبالغأعمارمنوليمنهملألكسرى،وتاريخنسبهممنكتبهمبالحيرة.وأماابنإسحقفذكرفيآلنصرومصيرهمإلىالعراق،أنذلككانبسببالرؤياالتيرآهاربيعهبننصروعبرهاالكاهنانشقوسطيح.وفيهاأنالحبشةيغلبونعلىملكهمباليمن.قالفجهزبنيهوأهلبيتهإلىالعراقبمايصلحهم،وكتبلهمإلىملكمنملوكفارس؛يقاللهسابوربنخرازاذ،فأسكنهمالحيرة.ومنبقيةربيعةبننصركانالنعمانبنالمنذربنعمروبنعديبنربيعةبننصر.رقديقالأنالمنذرمنأعقابساطرونملكالحضرمنتنوخقضاعة.رواهابنإسحقمنعلماءالكوفة،ورواهعنجبيربنمطعم.قال:لماأتىعمررضياللهعنهبسيفالنعماندعابجبيربنمطعم،وكانأنبقريشلقريشوالعرب،تعلمهمىأبيبكررضياللهعنه،لخمهإياه.ثمقال:ممنكانالنعمانياجبير؟قال:كانمنأسلافقنصبنمعد. قالالسهيلي:كانولدقنصبنمعدانتشروابالحجاز،فوقعتبينهموبينبني أبيهمحرب،وتضايقبالبلاد،وأجدبتالأرضفساروانحوسوادالعراق،وذلكفيأيامملوكالطوائف؛فقاتلهمالأردوانيونوبعضملوكالطوائف،وأجلوهمعنالسوادوقتلوهم،إلاأشلاءلحقتبقبائلالعربودخلوافيهمفانتسبواإليهم.
قالالطبري:حينسألهعمرعنالنعمانقال:كانتالعربتقولأنأشلاء قنصبنمعد،وهممنولدعجمبنقنص،إلاأنالناسصحفواعجموجعلوامكانهلخم.قالابنإسحق:وأماسائرالعربفيقولونالنعمانبنالمنذررجلمنلخم،ربيبينولدربيعةبننصراهـ.ولماهلكعمروبنعديوليبعدهعلىالعربوسائرمنبباديةالعراقوالحجازوالجزيرةامرؤالقيسبنعمروبنعديويقاللهالبدء،وهوأولمنتنصرمنملوكآللصروعمالالفرس،وعاشفيماذكرهشامبنالكلبيمائةوأربحعشرةسنة-منهاأيامسابورثلاثاوعشرينسنة،وأيامهرمزبنسابورسنةواحدة،وأيامبهرامبنهرمزثلاثسنين،وأيامبهرامبنبهرامثمانيعشرةسنة.ومنأيامسابورسبعونسنة. وهلكلعهدهفوليمكانهابنهعمروبنامرىءالقيسالبدء،فأقامفيملكهثلاثين سنةبقيةأيامسابوربنسابور.ثموليمكانهأوسبنقلامالعمليقيفيماقالهشامبنمحمد،وهومنبنيعمروبنعملاق.فأقامفيولايتهخمسسنمن،ثمساربهجحجبابنعتيكبنلخمفقتلهووليمكانه.ثمهلكفيعهدبهرامبنسابور،ووليمنبعدهامرؤالقيسبنعمروخمساوعشرينسنة،وهلكأياميزدجردالأثيم.فوليمكانهابنهالنعمانبنامرىءالقيس،وأمهشقيقةبنتربيعةبنذهلبنشيبان،وهوصاحبالخورنق. ويقالإنسبببنائهإياهأنيزدجردالأثيمدفعإليهابنهبهرامجورليربيه،وأمره ببناءهذاالخورنقمسكنالهوأسكنهإياه.ويقال:إنالصانعالذيبناهكاناسمهسنمار،وأنهلمافرغمنبنائهألقاهمنأعلاهفماتمنأجلمحاورةوقعتاختلفالناسفينقلها،واللهأعلمبصحتها.وذهبذلكمثلابينالعربفيقبحالجزاء،ووقعفيأشعارهممنهكثيروكانالنعمانهدامنأفحلملوكآلنصر،وكانتلهسنانانإحداهماللعربوالأخرىللفرس.وكانيغزوبهمابلادالعرببالشامويدوخها.وأقامفيملكهثلاثينسنة،ثمزهدوتركالملكولبىالمسوح،وذهبفلميوجدلهأثر. قالالطبري:وأماالعلماءبأخبارالفرسسيقولون:إنالذيتولىتربيةبهرامهوالمنذربنالنعمانبنامرىءالقيس،دفعهإليهيزدجردالأثيملاشارةكانتعندهفيهمنالمنجمين،فأحسنتربيتهوتأديبهوجاءهبمنيلقنهالخلالمنالعلوموالآدابوالفروسية
والنقابةحتىاشتملعلىذلككلهبمارضيه.ثمردهإلىأبيهفأقامعندهقليلاولميرضبحاله.ووفدعلىأبيهوافدقيصروهوأخوهقياودسفقصدهبهرامأنيسأللهمنأبيهالرجوعإلىبلادالعرب،فرجعونزلعلىالمنذر،ثمهلكيزدجردفاجتمعأهلفارسوولواعليهمشخصامنولدأردشير،وعدلواعنبهراملمرباهبينالعربوخلوهعنآدابالعجم.وجهزالمنذرالعساكرلبهراملطلبملكه،وقدمابنهالنعمانفحاصرمدينةالملك،ثمجاءعلىأثرهبعساكرالعربوبهراممعه،فأذعنلهفارسوأطاعوه،واستوهبالمنذرذنوبهممنبهرامفعفاعنهمواجتمعأمره. ورجعالمنذرإلىبلادهوشغلباللهووطمعفيهالملوكحوله،وغزاهخاقانملك التركفيخمسينألفامنالعساكر.وسارإليهبهرامفانتهىإلىاذربيجانثمإلىأرمينية،ثمذهبيتصيدوخلفأخوهنرسيعلىالعساكر،فرماهأهلفارسبالجبنوأنهخارعنلقاءالترك،فراسلواخاقانفيالصلحعلىمايرضاهفرجععنهم.وانتهىالخبربذلكإلىبهرامفسارفياتباعهوليتهفانفضبعسكرهوقتلهبيده.واستولىبهرامعلىمافيالعساكرمنالأثقالوالذراري،وظفربتاجخاقانوأكليلهوسيفهبماكانفيهمنالجواهرواليواقيت،وأسرزوجتهوغلبعلىناحيةمنبلاده،فولىعليهابعضمرازبتهوأذنلهفيالجلوسعلىسريرالفضة،وأغزىماوراءالنهرفدانوابالجزية،والصرفإلىأذربيجانفجعلصيفخاقانوأكليلهمعلقاببيتالنار،وأخدمهخاتونامرأةخاقان.ورفعالخراجعنالناسثلاثسنينشكراللهتعالىعلىالنصر،وتصدقبعشرينألفألفدرهممكررةمرتين.وكببالخبرإلىالنواحي.وولىأخاهنرسيعلىخراسان،واستوزرلهبهرنرسيبنبدارةبنفرخزادووصلالطبرينسبهمنهنابعدأربعة،فكانرابعهمأشكبندارا،وأغرىبهرامأرضالرومفيأربعينألفافانتهىإلىالقسطنطينيةورجع. قالهشامبنالكلبي:ثمجاءالحرثابنعمروبنحجرالكنديفيجيشعظيم إلىبلادمعدوالحيرة،وقدولاهتبعبنحسانبنتبع،فسارإليهالنعمانبنامرىءالقيسبنالشقيقةوقاتله،فقتلالنعمانوعدةمنأهلبيته،وانهزمأصحابه،وأفلتالمنذربنالنعمانالأكبروأمهماءالسماءامرأةمناليمن.وتشتتملكآلالنعمان،وملكالحرثبنعمروماكانوايملكونه.وقالغيرهشامبنالكلبيإنالنعمان الذي
قتله الحرث هو ابن المنذر بن النعمان، وأمه هند بنت زيد مناة بن زيد الله بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو الذي أسرته فارس.
ملك عشرين سنة منها في أيام فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وأيام يلاوش بن يزدجرد أربع سنين، وفي أيام قباذ بن فيروز ست سنين. قال هشام بن حمد الكلبي: ولما ملك الحرث بن عمرو ملك آل النعمان بعث إليه قباذ يطلب لقاءه، وكان ضعفا، فجاءه الحرث وصالحه على أن لا يتجاوز بالعرب الفرات. ثم استضعفه فأطلق العرب للغارة في نواحي السواد وراء الفرات، فسأله اللقاء بابنه، واعتذر إليه أشظاظ العرب وأنه لا يضبطهم إلا المال، فاقطعه جانبا من السواد. فبعث الحرث إلى ملك اليمن تبع يستنهضه بغزو فارس في بلادهم، ويخبره بضعف ملكهم فجمع وسار حتى نزل الحيرة، وبعث ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ فقاتله واتبعه إلى الري فقتله. ثم سار شمر إلى خراسان، وبعث تبع ابنه حسان إلى الصغد وأمرهما معا أن يدوخا أرض الصين. وبعث ابن أخيه يعفر إلى الروم فحاصر القسطنطينية حتى أعطوا الطاعة والأتاوة. وتقدم إلى رومه فحاصرها. ثم أصابهم الطاعون ووهنوا له، فوثب عليهم الروم فقتلوهم جميعا. وتقدم شمر إلى سمرقند فحاصرها واستعمل الحيلة فيها فملكها، ثم سار إلى الصين وهزم الترك، ووجد أخاه غسان قد سبقه إلى الصين منذ ثلاث سنين، فأقاما هنالك إحدى وضرين سنه إلى أن هلك. قال: والصحيح المتفق عليه أنهما رجعا إلى بلادهما بما غنماه من الأموال والذخائر، وصنوف الجواهر والطيوب. وسار تبع حتى قدم مكة ونزل شعب حجاز، وكانت وفاته باليمن بعد أن ملك مائة وعشرين سنة. ولم يخرج أحد بعده من ملوك المن غازيا. ويقال: إنه دخل في دين اليهود للأحبار الذين خرجوا معه من يثرب. وأما ابن إسحق فعنده أن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الأخير وهو تباد أسعد أبو كرب. قال هشام بن محمد: وولي أنوشروان بعد الحرث بن عمرو المط ر بن النعمان الذي أفلتت يوم قتل أبوه ونزل الحيرة. وأبوه هو النعمان الأكبر. فلما قوي سلطان أنوشروان واشتد أمره، بعث إلى المنذر فملكه الحيرة وما كان يليه الحرث بن عمرو آكل المرار، فلم يزل كذلك حتى هلك. قال: وملك الرب من قبل الفرس لمجد الأسود بن
المنذر أخوه المنذر بن المنذر، وأمه ماوية بنت النعمان سبع سنين. ثم ملك بعده النعمان بن الأسود بن المنذر وأمه أم الملك أخت الحرث بن عمرو أربع سنين. ثم استخلف أبو يعفر بر علقمة بر مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسد بن أربى بن نماره بن لخم ثلاث سنين. ثم ملك المنذر بن امرىء القيس وهو ذو القرنين، لضفيرتين كانتا له من شعره، وأمه ماء السماء بنت عوف بن جشم بن هلال بن ت بيعة بن زيد مناة بن عامر بن الضبيب بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بى قاسط. فملك تسعا وأربعين سنة. ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر وأمه ضد بنت الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار ست عشرة سنة، ولثمان سنين من ملكه كان عام الفيل الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ولى عمرو بن هند شقيقه قابوس أربع سنين سنة منها أيام أنوشروان وثلاثة أيام ابنه هرمز. ثم ولى بعده أخوهما المنذر أربع سنين. ثم ولى بعده النعمان بن المنذر وهو أبو قابوس اثنين وعشرين سنة، منها ثمان سنين أيام هرمز وأربع عشرة أيام أبرويز. ولي أيام النعمان هذا اضمحل ملك آل نصر بالجزيرة. ولجلى انقرض. وهو الذي قتله كسرى أبوويز وابدل منه في الولاية على الحيرة والعرب باياس بن قبيصة الطائي. ثم رد رياسة الحيرة لمرازبة فارس، إلى أن جاء الإسلام وذهب ملك فارس. وكان الذي دعا أبرويز إلى قتله سعاية زيد بن عدي العبادي فيه عند أبرويز، بسبب أن النعمان قتل أباه عدي بن زيد. وسياقة الخبر عن ذلك أن عدي لن زيد كان من تراجمة أبرويز وكان سبب قتل النعمان أن أباه وهو زيد بن حماد بن أيوب ابن محروب بن عامر بن قبيصة بن امرىء القيس بن ريد مناة والد عدي هذا كان جميلا شاعراً خطيباً، وقارئا كتاب العرب والفرس، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة ويقطعونهم القطائع على أن يترجموا عندهم عن العرب. وكان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي فأرضعه أهل بيته، ورباه قوم من أشراف الحيرة ينسبون إلى لخم ويقال لهم بنو مرسي، وكان للمنذر بن المنذر عشرة سوى النعمان يقال لهم الأشاهب لجمالهم، وكان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيرا، أمه سلمى بنت وائل بن عطية من أهل فدك، كانت أمة للحرث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن كلب. وكان قابوس بن المنذر
الأكبر عم النعمان بعث إلى أنوشروان بعدي بن زيد وإخوته فكانوا في كتابه يترجمون له. فلما مات المنذر أوصى على ولده إياس بن قبيصة الطائي وجعل أمره كله بيده، فأقام على ذلك شهراً. ونظر أنوشروان فيمن يملكه على العرب، وشاور عدي بن زيد واستنصحه في بني المنذر، فقال بقيتهم في بني المنذر بن المنذر، فاستقدمهم كسرى وأنزلهم على عدي. وكان هواه مع النعمان، فجعل يرعى إخوته تفضيلهم عليه، ويقول لهم: إن أشار عليكم كسرى بالملك وبمن يكفوه أمر العرب تكفلوا بشأن ابن أخيكم النعمان، وير للنعمان إن سأله كسرى عن شأن إخوته أن يتكفله ويقول: إن عجزت عنهم فأنا عن سواهم أعجز. وكان مع أخيه الأسود بن المنذر رجل من بني مرسي الذين رثوهم اسمه عدي بن أوس بن مرسي، فنصحه في عدي واعلمه أنه يغشه فلم يقبل. ووقف كسرى على مقالاتهم فمال إلى النعمان وملكه وتوجه بقيمة ستين ألف دينار، ورجع إلى الحيرة ملكاً على العرب وعدي بن أوس في خدمته. وقد أضمر السعاية بعدي بن زيد، فكان يظهر الثناء عليه ويتواصى به مع أصحابه وأن يقولوا مثل قوله، إلا أنه يستصغر النعمان ويزعم أنه ملكه وأنه عامله حتى آسفوه بذلك، وبعث إليه في الزيارة فأتاه وحبسه. ثم فدم وخشي عاقبة إطلاقه، فجعلى يمنيه. ثم خرج النعمان إلى البحرين وخالفه جفنة ملك غسان إلى الحيرة، وغار عليها ونال منها. وكان عدي بى زيد كتب إلى أخيه عند كسرى يشعره بطلب الشفاعة من كسرى إلى النعمان، وجاء الشفيع إلى الحيرة وبها خليفة النعمان، وجاء إلى عدي فقال له أعطني الكتاب ابعثه أنا ولازمني أنث ضما لئلا اقتل. وبعث اعداؤه من بني بقيلة إلى النعمان بأن رسول كسرى دخل عنده، فبعث من قتله، فلما وفد وافد كسرى في الشفاعة أظهر له الإجابة وأحسن له بأربعة آلاف دينار وجارية، وأذن له أن يخرجه من محبسه، فوجده قد مات منذ ليال. فجاء إلى النعمان مثرباً. فقال: والله لقد تركته حياً. فقال؛ وكيف تدخل إليه وأنت رسول إلي فطرده فرجع إلى كسرى وأخبره بموته، وطوى عنه ما كان من دخوله إليه. ثم ندم النعمان على قتله ولقي يوما وهو يتصيد ابنه زيدا فاعتذر إليه من أمر أبيه، وجهزه إلى كسرى ليكون خليفة أبيه على ترجمة العرب، فاعجب به كسرى وقربه، وكان أسيراً عنده. ثم أن كسرى أراد خطبة بنات العرب، فأشار عليه عدي بالخطبة في بني
منذر فقال له كسرى: اذهب إليهم في ذلك، فقال: إنهم لا ينكحون العجم، ويستريبون في ذلك، فابعث معي من يفقه العربية فلعلي آتيك بغرضك. فلما جاء إلى النعمان قال لزيد: إما في عير السواد وفارس ما يغنيكم عن بناتنا؟ وسأل الرسول عن العير فقال له زيد: هي البقر. ثم رجعا إلى كسرى بالخيبة. وأغراه زيد فغضب كسرى وحقدها على النعمان. ثم استقدمه بعد حين لبعض حاجاته، وقال له: لا بد من المشافهة لأن الكتاب لا يسعها، ففطن فذهب إلى طيء وغيرهم من قبائل الحرب ليمنعوه، فأبوا وفرقوا من معاداة كسرى إلا بني رواحة بن سعد من بني عبس، فإنهم أجابوه لو كانوا يغنون عنه، فعذرهم وانصرف عنهم إلى بني شيبان بذي قار، والرياسة فيهم لهانىء بن مسعود بن عامر بن الخطيب بن عمرو المزدلف ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، ولقيس بن خالد بن ذي الخدين وعلم أن هانئا يمنعه وكان كسرى قد أقطعه. لرجع إليه النعمان ماله وتعمه وحلقته وهي سلاح ألف فارس شاكه.
وسار إلى كسرى فلقيه زيد بن عدي بساباط، وتبين الغدر فلما بلغ إلى كسرى قيده وأودعه السجن إلى أن هلك فيه بالطاعون، ودعا ذلك إلى واقعة ذي قار بين العرب وفارس. وذلك أن كسرى لما قتل النعمان استعمل اياس بن قبيصة الطائي على الحيرة مكان النعمان، ليده التي أسلفها طيء عند كسرى يوم واقعة بهرام على ابرويز، وطلب من النعمان فرسه ينجو عليها فأبى. واعترضه حسان بن حنظلة بن جنة الطائي وهو ابن عم اياس بن قبيصة، فأركبه فرسه ونجا عليه. ومر في طريقه بإياس فأهدى له فرساً وجزوراً. فرعى له أبرويز هذه الوسائل وقدم إياساً مكان النعمان، وهو إياس بن قبيصة بن أبي عفر بن النعمان بن جنة.
فلما هلك النعمان بعث إياس إلى هانىء بن مسعود في حلقة النعمان، ويقال كانت أربعمائة درع، وقيل ثمانمائة، فمنعها هانىء وغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل، وأشار عليه النعمان بن زرعة من بني تغلب أن يمهل إلى فصل القيظ، عند ورودهم هم مياه ذي قار. فلما قاظوا ونزلوا تلك المياه، جاءهم النعمان بن زرعه يخيريهم في الحرب أو إعطاء اليد، فاختاروا الحرب. اختاره حنظلة بن سنان العجلي، وكانوا قد ولوه أمرهم، وقال لهم إنما هو الموت قتلاً إن أعطيتم باليد، أو عطشاً إن هربتم. وربما لقيكم بنو تميم فقتلوكم.
ثم بعث كسرى إلى إياس بن قبيصة أن يسير إلى حربهم ويأخذ معه مسالح فارس، وهم الجند الذين كانوا معه بالقطقطانية وبارق وتغلب، وبعث إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الخدين، وكان على طف شقران أن يوافي اياساً، فجاءت الفرس معها الجنود والأفيال عليها الأساورة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة، فقال اليوم انتصف العرب من العجم ونصروا. وحفظ ذلك اليوم فإذا هو يوم الوقعة. ولما تواقف الفريقان جاء قيس بن مسعود إلى هانىء وأشار عليه أن يفرق سلاح النعمان على أصحابه ففعل. واختلف هانىء بن مسعود وحنظلة بن ثعلبة بن سنان، فأشارهانىء بركوب الفلاة، وقطع حنظلة حزم الرجال وضرب على نفسه وآلى أن لا يفر، ثم استقوا الماء لنصف شهر واقتتلوا، وهرب العجم من العطش واتبعهم بكر بن وعجل، فاصطف العجم وقاتلوا وصبروا، وراسلت إياد بكر بن وائل: إنا نفر عند اللقاء، فصحبوهم واشتد القتال وقطعوا الامال حتى سقطت الرجال إلى الأرض، ثم حملوا عليهم. واعترضهم يزيد بن حماد السكوني في قومه كان كمينا أمامهم، فشدوا على إياس بن قبيصة ومن معه من العرب، فوك إياد منهزمة. وانهزمت الفرس وجاوزوا الماء في حر الظهيرة في يوم قائظ، فهلكوا أجمعين قتلا وعطشا. وأقام إياس في ولاية الحيرة مكان النعمان ومعه الهمرجان من مرازبة فارس تسع سنين- وفي الثامنة منها كانت البعثة. وولي بعده على الحيرة أخر من المرازبة اسمه زاذويه بن ماهان الهمداني سبع عشرة سنة إلى أيام بوران بنت كسرى. ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر، وتسميه العرب الغرور، الذي قتل بالبحرين يوم أجداث. ولما زحف المسلمون إلى العراق ونزل خالد بن الوليد الحيرة، حاصرهم بقصورها، فلما أشرفوا على الهلكة خرج إليهم إياس بن قبيصة في أشراف أهل الحيرة، واتقى من خالد والمسلمين بالجزية فقبلوا منه، وصالحهم على مائة وستبن ألف درهم. وكتب لهم خالد بالعهد والأمان، وكانت أول جزية بالعراق. وكان فيهم هانىء بن قبيصة أخوإياس بن قبيصة بالقصر الأبيض، وعدي بن عدي العبادي بن عبد القيس، وزيد بن عدي بقصر العدسيين وأهل نصر بني عدس من تصور الحيرة، وهو بنو عوان بن عبد المسيح بن كلب بن وبرة، وأهل قصر بني بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا: يا حارث ما أنت إلا بقيلة خضراء، وعبد
المسيح هذا هو المعمر وهو الذي بعثه كسرى أبرويز إلى سطيح في شأن رؤيا المرزبان. ولما صالح إياس بن قبيصة المسلمين وعقد لهم الحزية سخطت عليه الأكاسرة وعزلوه. فكان ملكه تسع سنين ولسنة منها وثمانية أشهر كانت البعوث، وولي حينئذ الخلافة عمر بن الخطاب. وعقد لسعد بن أبي وقاص على حرب فارس. فكان أول عمل يزدجرد أن أمص مرزبان الحيرة أن يبعث قابوس بن قابوس بن المنذر، وأغراه بالعرب ووعده بملك آبائه. وقال له ادع العرب وأنت على من أجابك كما كان آباؤك. فنهض قابوس إلى القادسية ونزلها، وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان للنعمان، فكاتبهم مقاربة ووعدا. وانتهى الخبر إلى المثنى بر حارثة الشيباني عقب مهلك أخيه المثنى وقبل وصول سعد، فأسرى من ذي قار، وبيت قابوس بالقادسية، ففض جمعه وقتله. وكان اخر من بقي من ملوك آل نصر بن ربيعة وانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس اهـ كلام الطبري وما نقله عن هشام بن الكلبي. وقد كان المغيرة بن شعبة تزوج هندا بنت النعمان، وسعد بن أبي وقاص تزوج صدقة بنت النعمان، ونجرهما معروف ذكره المسعودي وغيره. وعدة ملوك آل نصر عند هشام بن الكلبي عشرون ملكاً، ومدتهم خمسمائة وعشرون سنة. وعند المسعودي ثلاث وعشرون ملكا ومدتهم ستمائة وعشرون سنة. قال: وقد قيل أن مدة عمران الحيرة إلى أن خربت عد بناء الكوفة خمسمائة سنة. قال: ولم يزل عمرانها يتناقص إلى أيام المعتضد، ثم أقفرت. وفيما نقله بعض الإخباريين أن خالداً بن الوليد قال لعبد المسيح: أخبرني بما رأيت من الأيام؟ قال نعم ! قال: رأيت المرأة من الحيرة تضع محتلها على رأسها، ثم تخرج حتى تأتي الشام قي قرى متصلة وبساتين ملتفة، وقد أصبحت اليوم خرابا والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. هذا ترتيب الملك من ولد نصر بن ربيعة بن كعب بن عمرو بن عدي الأول منهم، وهو الترتيب الذي ذكره الطبري عن ابن الكلبي وغيره، وبين الناس فيه خلاف في ترتيب ملوكهم، بعد اتفاقهم على أن الذي ملك بعد عمرو بن عدي ابنه امرؤ القيس، ثم ابنه عمرو بن امرىء القيس وهو الثالث منهم. قال علي بن عبد العزيز الجرجاني في أنسابه بعد ذكر عمرو هذا: ثم ثار أوس بن قلام العملقي وملك، فثار به جحجب بن عتيك اللخمي فقتله وملك. ثم ملك من بعده امرؤ القيس البدء بن عمرو الثالث، ثم ملك من
بعده ابنه النعمان الأكبر ابن امرىء القيس بن الشقيقة، وهو الذي ترك الملك وساح، ثم ملك من بعده ابنه المنذر، ثم ابنه الأسود بى المنذر، ثم أخوه المنذر بن المنذر، ثم النعمان بن الأسود بن المنذر، ثم أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسنش بن زبى بن نمارة بن لخم. ثم ملك من بعده امرؤ القيس بن النعمان الأكبر، ثم ابنه امرؤ القيس. ثم كان أمر الحرث بن عدي الكندي حتى تصالحا وتزوج المنذر بنته هندا، فولدت له عمرا. ثم ملك بعد المنذر عمرو بن هند، ثم قابوس بن المنذر أخوه، ثم المنذر بن المنذر أخوه الآخر، ثم ابنه النعمان بن المنذر. وهكذا نسبه الجرجاني وهو موافق لترتيب الطبري إلا في الحرث بن عمرو الكندي، فإن الطبري جعله بعد النعمان الأكبر بن امرىء القيس وابنه المنذر، والجرجاني جعله بعد المنذر بن امرىء القيس بن النعمان. وبين هذا المنذر والمنذر بن النعمان الأكبر خمسة من ملوكهم فيهم أبو يعفر بن الذميل. فالله أعلم بالصحيح من ذلك. وأما المسعودي فخالف ترتيبهم فقال: بعد النعمان الأكبر بن امرىء القيس، وسماه قائد الفرس ملك خمسا وستين سنة. ثم ملك ابنه المنذر خمسا وعشرين سنة، وهذا مثل ترتيب الطبري والجرجاني. ثم خالفهما وقال: وملك النعمان بن المنذر الحيرة وهو الذي بنى الخورنق خمسا وثلاثين سنة، وملك الأسود بن النعمان عشرين سنة، وملك ابنه المنذر أربعين سنة، وأمه ماء السماء من النمر بن قاسط من ربيعة وبها عرف، وملك ابنه عمرو بن المنذر أربعا وعشرين سنة. ثم ملك بعده أخوه النعمان، وأمه مامة، وقتله كسرى وهو آخرهم. هكذا ساق المسعودي لق ملوكهم ونسبهم، وهو مخالف لما ذكره الطبري والجرجاني. وقال السهيلي: كان للمنذر بن ما السماء من الولد المملكين عمرو والنعمان، وكان عمرو لهند بنت الحرث آكل المرار. قال: وكان عمرو هذا من أعاظم ملوك الحيرة، ويعرف بمحرق لأنه حرق مدينة الملهم عند اليمامة. وكان يملك من قبل كسرى أنوشران. ومن بعده ملك أخوه النعمان بن المنذر، وأمه مامة، وقتله كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، لموجدة وجدها بسعاية زيد بن عدي بن زيد العبادي. وساق قصه مقتله وولاية اياس بن قبيصة الطائي من بعده، وما وقع بعد ذلك من حرب
ذي قار، وغلب العرب فيها على العجم إلى آخرها. فالله أعلم بالصحيح في ترتيب ملوكهم. وقال ابن سعيد: أول حديثهم في الملك أن بني نمارة كانوا جنداً للعمالقة بأطراف الشام والجزيرة، وكانوا مع الزباء. ولما قتلت جذيمة قام عمرو بن عدي منهم بثأره، وكان ابن أخته حتى أدركه وقتلها وبنى الحيره على فرع من الفرات في أرض العراق. وقال صاحب تواريخ الأمم: ملك مائة وثمانية وعشرين سنة أيام ملوك الطوائف، وبعده امرؤ القيس بن عمرو، ولما مات ولى أردشير بن سابور على الحيرة أوس بن قلام من العمالقة ثم كان ملك الحيرة فوليها امرؤ القيس بن عمرو بن امرىء القيس المعروف بمحرفي. قال: وهو المذكور في قصيدة الأسود بن يعفر التي على روي الدال. وبعده ابنه النعمان بن شقيقة وهي من بني شيببان، وجعل معه كسرى واليا للفرس وهو باني الخورنق والسدير على مياه الفرات. وملك إلى أن ساح، ونزهد ثلاثين سنة. وذكره عدي بن زيد في شعره. وملك بعده ابنه المنذر، وهو الذي سعى لبهرام جور في الملك حتى لم له. وملك أربعاً وأربعين سنة، وملك بعده ابنه الأسود، ثم أخوه المنذر بن المنذر، ثم النعمان بن الأسود. وكضب عليه كسرى وولى مكانه الذميل بن لخم من غير بيت الملك. ثم عاد الملك إليهم فولي امرؤ القيس بن النعمان الأكبر وهو ابن الشقيقة، وهو الذي غزا بكر بن وائل. وملك بعده ابنه المنذر بن ماء السماء، وهي أمه أخت كليب سيد وائل. وطالبه قباذ باتباع مزدك على الزندقة فأبى، وولى مكانه الحرث بن عمرو بن حجر الكندي، ثم رده أنوشروان إلى ملك الحيرة. وقتله الحرث الأعرج الغساني يوم حليمة كما يأتي . وملك بعده ابنه عمرو بن هند، وهي مامة عمة امرىء القيس بن حجر المعروف بمضرط الحجارة لشدة بأسه. وهو محرق الثاني. حرق بني دارم من تميم لأنهم قتلوا أخاه، وحلف ليحرقن منهم مائة، فحرقهم وملك ستة عشر سنة أيام أنوشروان. فتك به في رواق بين الحيرة والفرات عمرو بن كلثوم سيد تغلب ونهبوا حياءه. وملك بعده أخوه قابوس بن هند وكان أعرج، وقتله بعض بني يشكر، فولى أنوشروان على الحيرة بعض مرازبة الفرس، فلم تستقم له طاعة العرب. فولى عليهم المنذر بن المنذر بن ماء
خريطة
السماء، فخرج إلى جهة الشام طالبا ثار أبيه من الحرث الأعرج الغساني، فقتله الحرث أيضا يوم أباغ.
وملك بعده ابنه النعمان بن المنذر، وكان ذميما أشقر أبرش، وهو أشهر ملوك الحيرة، وعليه كثرت وفود العرب، وطلبه بثأر أبيه. وحرد من بني جفنة حتى أسر خلقا كثيرا من أشرافهم، وحمله عدي بن زيد على أن تنصر وترك دين آبائه. وحبس عديا فشفع كسرى فيه بسعاية اخ له كان عنده، فقتله العمان في محبسه. ثم نشأ ابنه زيد بن عدي وصار ترجماناً لكسرى، فأغراه بالنعمان وحضر مع كسرى أبرويز في وقعة بين الفرس والروم، وانهزمت الفرس ونجا النعمان على فرسه التخوم بعد أن طلبه منه كرى ينجو عليه فاعرض عنه. ونزل له إياس بن قبيصة الطائي عن فرسه فنجا عليه، ووفد عليه النعمان بعد ذلك فقتله، وولى على الحيرة إياس بن قبيصة، فلم تستقم له طاعة العرب وغضبوا لقتل النعمان، وكان لهم على الفرس يوم ذي قار سنة ثلاث من البعثة. ومات إياس وصارت الفرس يولون على الحجرة منهم إلى أن ملكها المسلمون.
وذكر البيهقي أن دين بني نصر كان عبادة الأوثان، وأول من تنصر منهم النعمان بن الشقيقة وقيل بل النعمان الأخير. وملكت العرب بتلك الجهات ابنه المنذر، فقتله جيش أبى بكر رضي الله عنه، وفي تواريخ الأمم أن جميع ملوك الحيرة من بني نصر وغيرهم خمسة وعشرون ملكاً في نحو ستمائة سنة والله أعلم. وهذا الترتيب مساو لترتيب الطبري والجرجاني، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ملوك كندة
الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبد أ أمرهم وتصاريف أحوالهم
قال الطبري عن هشام بن محمد الكلبي: كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من
حمير وغيرهم. وكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر سيد كندة لوقته. وأبو حجر هو الذي تسميه العرب آكل المرار، وهو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحرث الأصغر ابن معاوية بن الحرث الأكبر ابن معاوية بن كندة. وكان أخا حسان بن تبع أمه. فلما دوخ حسان بلاد العرب، وسار في الحجاز وهم بالانصراف، ولى على معد بن عدنان كلها أخاه حجر بن عمرو هذا، وهو آكل المرار. فدانوا له وسار فيهم أحسن
سيرة. ثم هلك وملك من بحده ابنه عمرو المقصور. قال الطبري عن هام: ولما سار حسان إلى جديس خلفه على بعض أمور ملكه في حمير، فلما قتل حسان وولي بعده أخوه عمرو بن تجع، وكان ذا رأي ونبل، فأراد أن بكرم عمرو بن حجر بما نقصه من ابن أخيه حسان، فزوجه بنت أخيه حسان لن تبع. وتكلمت حمير في ذلك، وكان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها أن لا يتزوج في ذلك البيت أحد من العرب سواهم. فولدت بنت حان لعمرو بن حجر، الحرث بن عمرو. وملك بعد عمرو بن تبع عبد بن متون أصغر أولاد حسان. واستهوت الجن منهم تبع بن حسان، فولوا عبد كلال مخافة أن يطمع في ملكهم أحد من بيت الملك. فولي عبد كلال لسرو رحمه، وكان على دين النصرانية الأولى، وكان ذلك يسوء قومه. ودعا إليه رجل من كسان قدم عليه من الشام. ووثب حمير بالغساني فقتلوه. ثم رجع تبع بن حان من استهواء الجن، وهو أعلم الناس بنجم، وأعقل من يعلم في زمانه، وأكثرهم حديثا عما كان ويكون. فملك على حمير، وهابته حمير والعرب، وبعث بابن اخته الحرث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم، إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرىء القيس بن الشقيقة فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته وهزم أصحابه. وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء امرأة من النمر بن قاسط، وذهب ملك آل النعمان، وملك الحرث بن عمرو وما كانوا يملكون.
وفي كتاب الأغاني قال: لما ملك قباذ وكان ضعيف الملك توثبت العرب على
المنذر الأكبر ابن ماء السماء، وهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة فأخرجوه. وإنما سمي ذا القرنين لذؤابتين كانتا له، فخرج هاربا منهم حتى مات في إياد. وترك ابنه المنذر الأصغر فيهم، وكان أنكى ولده وجاءوا بالحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار فملكوه على بكر، وحشدوا له وقاتلوا معه، وظهر على من قاتله من العرب. وأبى قباذ أن لمد المنذر بجيش. فلما رأى ذلك كتب إلى الحرث بن عمرو: إلي في غير قومى وأنت أحق من ضمني وأنا متحول إليك فحوله وزوجه ابنته هندا. وقال غير هشام بن محمد: إن الحرث بن عمرو لما ولي على العرب بعد أبيه اشتدت وطأته وعظم باسه، ونازع ملوك الحيرة، وعليهم يومئذ المنذر بن امرىء القيس، وببن لهم إذ ولي كسرى قباذ بعد أبيه فيروز بن يزدجرد، وكان زنديقا على رأي مانى.
فدعا المنذر إلى رأيه فأبى عليه، وأجابه الحرث بن عمرو فملكه على العرب وأنزله بالحيرة. ثم هلك قباذ وولي ابنه أنوشروان، فرد ملك الحيرة إلى المنذر، وصالحه الحرث على أن له ما وراء نهر السواد، فاقتسما ملك العرب. وفرق الحرث ولده في معا فملك حجرا على بني أسد، وشرحبيل على بني سعد، والرباب وسلمة على بكر وتغلب، ومعديكرب على قيس وكنانة. ويقال بل كان سلمة على حنظلة ولغلب، وشرحبيل على سعد والرباب وبكر. وكان قيس بن الحرث سيارة، أي قوم نزل بهم فهو ملكهم. وفي كتاب الأغاني ة إنه ملك ابنه شرحبيل على بكر وائل، وحنظلة على بني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم، والرباب وغلفا وهو معديكرب على قيس، وسلمة بن الحرث على بني تغلب، والنمر بن قاسط والنمر بن زيد مناة اهـ كلام الأغاني. فأما شرحبيل فإنه فسد ما بينه وبين أخيه سلمة، واقتتلوا بالكلاب ما بين البصرة والكوفة على سبح من اليمامة، وعلى تغلب السفاح وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير ابن تميم بن اسامة بن مالك بن بكر بن حبب. وسبق إلى الكلاب سفيان بن مجاشع بن دارم من أصحاب سلمة فى تغلب مع إخوته لأمه. ثم ورد سلمة وأصحابه فاقتتلوا عامة يومهم، وخذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد واتباعها عن تغلب، وصبر بنو بكر وتغلب ليس معهم غيرهم إلى الليل. ونادى منادي سلمة في ذلك اليوم من يقتل شرحبيل ولقاتله مائة من الإبل، فقتلى شرحبيل في ذلك اليوم قتله عصيم بن النعمان بن مالك بن غياث بن سعد بن زهير بن بكر بن حبيب التغلبي. وبلغ الخبر إلى أخيه معديكرب، فاشتد جزعه وحزنه على أخيه، وزاد ذلك حتى اعتراه منه وسواس هلك به. وكان معتزلاً عن الحرث، ومنع بنو سعد بن زيد مناة عيال شرحبيل وبعثوا بهم إلى قومهم، فعل ذلك عوف بن شحنة بن الحرث بن عطارد بن عوف بن سعد بن كعب. وأما سلمه فإنه فلج فمات. وأما حجر بن الحرب فلم يزل أميرا على بني أسد إلى أن بعث رسله في بعض الأيام لطلب الأتاوة من بني أسد فمنعوها وضربوا الرسل. وكان حجر بتهامة فبلغه الخبر، فسار إليهم في ربيعة وقيس وكنانة فاستباحهم وقتل أشرافهم وسرواتهم، وحبس عبيدا بن الأبرص في جمع منهم، فاستعطفه بشعر بعث به إليه
فسرحه وأصحابه وأوفدهم، فلا بلغوا إليه هجموا عليه ببيته فقتلوه. وتولى قتله علباء بن الحرث الكاهلي، كان حجر قتل أباه. وبلع الخبر امرأ القيس، فحلف أن لا يقرب لذة حتى يدرك بثأره من بني أسد. وسار صريخا إلى بني بكر وتغلب فنصروه، وأقبل بهم فأجفل بنو أسد. وسار إلى المنذر لن امرىء القيس ملك الحيرة، وأوقع امرؤ القيس في كنانة فاثخن ليهم. ثم سار في اتباع بني أسد إلى أن أعيا ولم يظفر منهم بشيء، ورجعت عنه بكر وتغلب. فثار إلى مؤثر الخير بن ذي جدن من ملوك حمير صريخاً بنصره بخمسمائة رجل من حمير بجمع من العرب سواهم. وجمع المنذرلامرىء القيس ومن معه، وأمده كسرى أنوشروان بجيش من الأساورة والتقوا، فانهزم امرؤ القيس، وفرت حمير ومن كان معه ونجا بدمه. وما زال يتنقل في القبائل والمنذر في طلبه. وسار إلى قيصر صريخاً فأمده، ثم سعى به الطماح عند قيصر أنه يشبب ببنته، فبعث إليه بحلة مسمومة كان فيها هلاكه ودفن بأنقرة. قال الجرجاني: ولا يعلم لكندة بعد هؤلاء ملوك اجتمع لهم أمرها وأطيع فيها، سوى أنهم قد كان لهم رياسة ونباهة، وفمهم سؤدد، حتى كانت العرب تعميهم كندة الملوك. وكانت الرياسة يوم جبلة على العساكر لهم. فكان حسان بن عمرو بن الجور على تميم، ومعاوية بن شرحبيل بن حصن على بني عامر. والجور هو معاوية بن حجر آكل المرار أخو الملك المقصور عمرو بن حجر. والله وارث الأرض ومن عليها. وفي كتاب الأغاني: أن امرأ القيس لما سار إلى الشام نزل على السموأل بن عاديا بالابلق بعد ايقاعه ببني كنانة على أنهم بنو أسد، وتفرق عنه أصحابه كراهة لفعله، واحتاج إلى الهرب، فطلبه المنذر بن ماء السماء وبعث في طلبه جموعا من إياد وبهرا وتنوخ، وجيوشا من الأساورة أمده بهم أنوشروان، وخذلته حمير وتفرقوا عنه. فالتجأ إلى السموأل ومعه أدراع خمسة مسماة كانت لشي آكل المرار يتوارثونها، ومعه بنته هند وابن عمه يزيد بن الحرث بن معاوية بن الحرث ومال وسلاح كان بقي معه، والربيع بن ضبع بن نزارة. وأشار عليه الربيع بمدح السموأل فمدحه ونزل به، فضرب لابنته قبة وأنزل القوم في مجلس له براح فمكثوا ما شاء الله. ولسأله امرؤ القيس أن يكتب له إلى الحرث بن أبي شمر يوصله إلى قيصر، ففعل واستصحب رجلاً يدله على الطريق، وأودع ابنته وماله وادراعه السموأل. وخلف ابن عمه يزيد بن الحرث مع ابنته هند، ونزل
الحرث بن ظالم غازيا على الأبلق. ويقال الحرث بن أبي شمبر، ويقال ابن المنذر. وبعث الحرث بن ظالم ابنه يتصيد ويهدده بقتله، فأبى من اخفار ذمته وقتل ابنه فضرب به المثل في الوفاء بذلك. وأما نسب السموأل فقال ابن خليفة عن محمد بن سالم البيكندي عن الطوسي عن ابن حبيب: إنه السموأل بن عريض بن عاديا بن حيا، ويقال إن الناس يدرجون عريضاً في النسب، ونسبه عمرو بن شبة ولم يذكر عريضاً. وقال عبد الله بن سعد عن دارم بن عقال: من ولد السموأل بن عاديا بن رفاعة بن ثعلبة بن كعب بن عمرو بن عامر مزيقيا، وهذا عند محال. لأن الأعشى أدرك سريح بن السموأل وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة. وقد قيل إن أمه من غسان، وكلهم قالوا هو صاحب الحصن المعروف بالأبلق يتيما المشهور بالزباء، وقيل من ولد الكوهن بن هارون. وكان هذا الحصن لجده عاديا، واحتفر فيه ارويه عذبة، وتنزل به العرب فتصيبها وتمتار من حصنه وتقيم هنالك سوقا اهـ كلام الأغاني. وقال ابن سعيد: كندة لقب لثور بن عفير بن الحرث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عبيد الله بن زيد بن كهلان، وبلادهم في شرقي اليمن. ومدينة ملكهم دمون. وتوالى الملك منهم في بني معاوية بن عنزة. وكان التبابعة يصاهرونهم ويولونهم على بني معد بن عدنان بالحجاز. فأولا من ولي منهم حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية الأكبر، ولاه تبع بن كرب الذي كسا الكعبة. وولى بعده ابنه عمرو بن حجر، ثم ابنه الحرث المقصور، وهو الذي أبى أن يتزندق مع قباذ ملك الفرس، فقتل في بني كلب ونهب ماله، وكان قد ولى أولاده على بني معد فقتل أكثرهم، وكان على بني أسد منهم حجر بن الحرث، فجار عليهم فقتلوه، وتجرد للطلب بثأره ابنه امرؤ القيس. وسار إلي قيصر فأغراه به الطماح الاسدي. وقال: إنه يتغزل ببنات الملوك، فألبسه حلة مسمومة تقطع بها. وقال صاحب التواريخ: إن الملك انتقل بعدهم إلى بني جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين، واشتهر منهم قيس بن معديكرب بن جبلة، ومنهم الأعشى وابنته العمردة من مردة الإنس، ولها في قتال الملمين أخبار في الردة. وأسلم أخوها الاشعث ثم ارتد بعد الوفاة، واعتصم بالحبر ففتحه جيش أبي بكر رضي الله عنه وجيء به
خريطة
إليه أسيرا، فمن عليه وزوجه أخته، وخرج من نسله بنو الأشعث المذكورون في الدولة الأموية. ومن بطون كندة السكون والسكاسك. وللسكاسك مجالات شرقي اليمن متميزة وهم معروفون بالسحر والكهانة. ومنهم تجب بطن كبير كان منهم بالأندلس بنو صمادح، وبنو ذي النون وبنو الأفطس من ملوك الطوائف. والله تعالى وارث الأرض، ومن عليها وهو خير الوارثين لا رب غيره.
ملوك غسان الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة وأوليتهم ودولهم وكيف انساق الملك إليه ممن قبلهم أول ملك كان للعرب بالشام فيما علمناه للعمالقة ثم لبني إرم بن سام، ويعرفون بالأرمانيين. وقد ذكرنا خلاف الناس في العمالقة الذين كانوا بالشام، هل هم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام، أو من ولد عماليق بن أليفاز بن عيصو. وأن المشهور المتعارف أنهم من عمليق بن لاوذ. كان بنو إرم يومئذ بادية في نواحي الشام والعراق، وقد ذكروا في التوراة، وكان لهم مع ملوك الطوائف حروب كما تقدمت الاشارة إلى ذلك كله من قبل. وكان آخر هؤلاء العمالقة ملك السميدع بن هوثر وهو الذي قتله يوشع بن نون، حين تغلب بنو إسرائيل على الشام وبقي في عقبه ملك في بني الظرب بن حسان من بني عاملة العماليق. وكان آخرهم ملكا الزبا بنت عمرو بن السميدع. وكانت قضاعة مجاورين لهم في ديارهم بالجزيرة، وغلبوا العمالقة لما فشل ريحهم. فلما هلكت الزبا وانقرض أمر بني الظرب بن حسان، ملك أمر العرب تنوخ من بطون قضاعة. وهم تنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسود بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقد تقدم ذكر نزولهم بالحيرة والأنبار، ومجاورتهم للارمانيين. فملك من تنوخ ثلاثة ملوك فيما ذكر المسعودي : النعمان بن عمرو، ثم ابنه عمرو بن النعمان، ثم أخوه الحوار بن عمرو. وكانوا مملكين من قبل الروم. ثم تلاشى أمر تنوخ واضمحل، وغلبت سليح من بطون قضاعة، ثم الضجاعم منهم من ولد ضجعم بن سعد بن سليح، واسمه عمرو بن حلوان بن عمران بن الحاف،
فتنصروا وملكتهم الروم على العرب وأقاموا على ذلك مدة. وكان نزولهم ببلاد مؤاب من أرض البلقاء. ويقال: إن الذي ولى سليح على نواحي الشام هو قيصر طيطش ابن قيصر ماهان. قال ابن سعيد: كان لبني سليح دولتان في بني ضجعم وبني العبيد، فأما بنو ضجعم فملكوا إلى أن جاءهم كسان فسلبوهم ملكهم، وكان آخرهم زياد بن الهبولة سار بمن أبقى السيف منهم إلى الحجاز، فقتله والي الحجاز للتبابعة حجر آكل المرار. قال ومن النسابين من يطلق تنوخ على بني ضجعم ودوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا. ثم سار الضجاعم إلى برثة الشام، ودوس إلى برية العراق. قال وأما بنو العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح فتوارثوا الملك بالحضر الذي آثاره باقية في برية شجار. والمشهور منهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون وقصته مع سابور معروفة اهـ. كلام ابن سعيد. ثم استحالت صبغة الرياسة عن العرب لحمير، وصارت إلى كهلان إلى بلاد الحجاز. ولما فصلت الأزد من اليمن كان نزولهم لبلاد عك ما بين زبيد وزمع فحاربوهم وقلوا ملك عك. قتله ثعلبة بن عمرو مزيقيا. قال بعض أهل اليمن: عك بن عدنان بن عبد الله بن أدد. قال الدارقطني: عك بن عبد الله بن عدثان، بالثاء المثلثة وضم العين، ولا خلاف أنه بنونين كما لم يختلف في دوس بن عدثان قبيلة من الأزد أنه بالثاء المثلثة. ثم نزلوا بالظهران، وقاتلوا جرهم بمكة، ثم افترقوا في البلاد. فنزل بنو نصر بن الأزد الشراة وعمان، ونزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقيا بيثرب، وأقام بنو حارثة بن عمرو بمر الظهران بمكة، وهم يقال لهم خزاعة. وقال المسعودى: سار عمرو مزيقيا حتى إذا كان بالشراة بمكة أقام هنالك بنو نصر بن الأزد، وعمران الكاهن، وعدي بن حارثة بن عمرو بالأزد، حتى نزلوا بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان، بين واديين يقال لهما زبيد وزمح، فشربوا من ذلك الماء فسموا غسان. وكانت بينهم وبين معد حروب إلى أن ظفرت بهم معد، فأخرجوهم الى الشراة وهو جبل الأزد الذين هم به، وهم على تخوم الشام ما بينه وبين الجبال مما يلي أعمال دمشق والأردن. قال ابن الكلبي: ولد عمرو بن عامر مزيقيا جفنة ومنه الملوك، والحرث وهو محرق
أول من عاقب بالنار، وثعلبة وهو العنقا وحارثة وأبا حارثة ومالكا وكعباً ووداعة، وهو في همدان. وعوفا وذهل وائل ودفع ذهل إلى نجران ومنه أسقف وعبيدة وذهلاً وقيسا. درج هؤلاء الثلاثة وعمران بن عمرو، فلم يشرب أبو حارثة ولا عمران ولا وائل ماء غسان، فليس يقال لهم غسان. وبقي من أولاد مزيقيا ستة شربوا منه، فهم غسان، وهم: جفنة وحارثة وثعلبة ومالك وكعب وعوف. ويقال: إن ثعلبة وعوفا لم يشربا منه. ولما نزلت غسان الشام جاوروا الضجاعم وقومهم من سليح، ورئيس غسان يومئذ ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد. ورئيس الضجاعم يومئذ داود اللثق بن هبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم. وكانت الضجاعة هؤلاء ملوكا على العرب عمالاً للروم كما قلناه، يجمعون ممن نزل بساحتهم لقيصر. فغلبتهم غسان على ما بأيديهم من رياسة العرب لما كانت صبغة رياستهم الحميرية قد استحالت، وعادت إلى كهلان وبطونها، وعرفت الرياسة منها باليمن قبل فصولهم. وربما كانوا أولى عدة وقوة وإنما العزة للكاثر. وكانت غسان لأول نزولها بالشام طالبها ملوك الضجاعة بالأتاوة، فمانعتهم غسان فاقتتلوا، فكانت الدائرة على غسان وأقرت بالصغار وأدت الأتاوة، حتى نشأ جذع بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد. ورجال سليح من ولد رئيسهم داود اللثق، وهو سبطة بن المنذر بن داود، ويقال بل قتلة. فالتقوا فغلبهم غسان وأقاد بهم، وتفردوا بملك الشام، وذلك عند فساد كان بين الروم وفارس، فخاف ملك الروم أن يعينوا عليه فارساً. فكتب إليهم واستدناهم. ورئيسهم يومئذ ثعلبة بن عمرو أخو جذع بن عمرو، وكتبوا بينهم الكتاب على أنه إن دهمهم أمر من العرب أمدهم بأربعين ألفا من الروم، وإن دهمه أمر أمدته غسان بعشرين ألفاً. وثبت ملكهم على ذلك وتوارثوه. أول من ملك منهم ثعلبة بن عمرو، فلم يزل ملكها إلى أن هلك، وولي مكانه منهم ثعلبة بن عمرو مزيقيا. قال الجرجاني: وبعد ثعلبة بن عمرو، ابنه الحرث بن ثعلبة، يقال أنه ابن مارية. ثم لعده ابنه المنذر بن الحرث، ثم ابنه النعمان بن المنذر بن الحرث، ثم أبو بشر بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة. هكذا نسبه بعض النساب والصحيح أنه ابن عوف بن الحرث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن، ثم
الحرث الأعرج بن أبي شمر، ثم عمرو بن الحرث الأعرج، ثم المنذر بن الحرث الأعرج، ثم الأيهم بن جبلة بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة ثم ابنه جبلة. وقال المسعودي،: أول من ملك منهم الحرث بن عمرو مزيقيا، ثم بعده الحرث بن ثعلبة بن جفنة وهو ابن مارية ذات القرطين، وبعده النعمان بن الحرث بن جفنة بن الحرث، ثم أبو شمر بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن الحارث. ثم ملك بعده أخوه المنذر بن الحارث، ثم أخوه جبلة بن الحارث، ثم بعده عوف بن أبي شمر، ثم بعده الحارث بن أبي شمر. وعلى عهده كانت البعثة وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كتب إليه من ملوك تهامة والحجاز واليمن. وبعث إليه شجاع بن وهب الاسدي يدعوه الى الإسلام ويرغبه في الدين، كذا عند ابن إسحق. وكان النعمان بن المنذر على عهد الحارث بن أبي شمر هذا وكانا يتنازعان في الرياسة ومذاهب المدح، وكانت شعراء العرب تفد عليهما مثل الأعشى وحسان بن ثابت وغيرهما. ومن شعر حسان رضي الله تعالى عنه في مدح أبناء جفنة: لله در عصابة نادمتهم يوماً بجلق في الزمان الأول أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
ثم ملك بعد الحارث بن أبي شمر ابنه النعمان، ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة. وجبلة جده هو الذي ملك بعد أخويه شمر والمنذر. وقال ابن سعيد: أول من ملك من غسان بالشام وأذهب ملك الضجاعم جفنة بن مزيقيا. ونقل عن صاحب تواريخ الأمم: لما ملك جفنة بنى جلق وهي دمشق، وملك خمسا وأربعين سنة. واتصل الملك في بنيه إلى أن كان منهم الحارث الأعرج ابن أبي شمر، وأمه مارية ذات القرطين من بني جفنة بنت الهانىء، المذكورة في شعر حسان بأرض البلقاء ومعان. قال ابن قتيبة: وهو الذي سار إليه المنذر بن ماء السماء من ملوك الحيرة في مائة ألف، فبعث إليه الحارث مائة من قبائل العرب، فيهم لبيد الشاعر، وهو غلام. فأظهروا أنهم رسل في الصلح حتى إذا أحاطوا برواق المنذر فتكوا به وقتلوا جميع
من كان معه في الرواق، وركبوا خيولهم. فمنهم من نجا ومنهم من قتل. وحملت غسان على عسكر المنذر، وقد اختبطوا فهزموهم. وكانت حليمة بخت الحارث تحرض الناس وهم منهزمون على القتال، فسمي يوم حليمة. ويقال إن النجوم ظهرت فيه بالنهار من كثرة العجاج. ثم توالى الملك في ولد الحارث الأعرج إلى أن ملك منهم جفنة بن المنذر بن الحارث الأعرج، وهو محرق، لأنه حرق الحيرة دار ملك آل النعمان، وكان جوالا في الآفاق، وملك ثلاثين سنة. ثم كان ثالثه في الملك النعمان بن عمرو بن المنذر الذي بنى قصر السويدا، وقصر حارث عند صيدا، وهو مذكور في شعر النابغة. ولم يكن أبوه ملكا، وإنما كان يغزو بالجيش. ثم ملك جبلة بن النعمان وكان منزله بصفين وهو صاحب عين أباغ، يوم كانت له الهزيمة فيه على المنذر بن المنذر ابن ماء السماء، وقتل المنذر في ذلك اليوم. ثم اتصل الملك في تسعة منهم بعده، وكان العاشر أبو كرب النعمان بن الحارث الذي رثاه النابغة. وكان منزله بالجولان من جهة دمشق. ثم ملك الأيهم بن جبلة بن الحارث، وكان له رأي في الإفساد بين القبائل، حتى أفنى بعضهم بعضاً. فعل ذلك ببني جسر وعاملة وغيرهم. وكان منزله بتدمر. وملك بعده منهم خمسة فكان السادس منهم ابنه جبلة بن الأيهم وهو آخر ملوكهم اهـ. كلام ابن سعيد. واستفحل ملك جبلة هذا، وجاء الله بالإسلام وهو على ملكه. ولما افتتح المسلمون الشام أسلم جبلة وهاجر إلى المدينة. واستشرف أهل المدينة لمقدمه، حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته لكرم وفادته. وأحسن عمر رضي الله نزوله وأكرم وفادته، وأجفه بأرفع رتب المهاجرين. ثم غلب عليه الشقاء، ولطم رجلا من المسلمين من فزارة، وطيء فضل أزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر رضي الله عنه في القصاص، فأخذته العزة بالإثم، فقال له عمر رضي الله عنه لا بد أن أقيده منك. فقال له: إذن أرجع عن دينكم هذا الذي يقاد فيه للسوقة من الملوك. ففال له عمر رضي الله عنه إذن أضرب عنقك! فقال أمهلني الليلة حتى أرى رأيي واحتمل رواحله وأسرى. فتجاوز الدروب إلى قيصر، ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة. وفيما تذكره الثقات أنه ندم ولم يزل باكياً على فعلته تلك. وكان يما يقال يبعث بالجوائز إلى حسان بن ثابت لما كان منه في مدح قومه ومدحه في الجاهلية.
خريطة
خريطة
خريطة
وعند ابن هشام: أن شجاع بن وهب إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبلة. قال المسعودي: جميع ملوك غسان بالشام أحد عشر ملكا. وقال أن النعمان والمنذر أخوة جبلة وأبي شمر، وكلهم بنو الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ملكوا كلهم. قال: وقد ملك الروم على الشام من غير آل جفنة مثل الحارث الأعرج، وهو أبو شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف، وعوف هذا جذ ثعلبه بن عامر قاتل داود اللثق. وملكوا عليهم أيضاً أبا جبيلة بن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الحزرج بن ثعلبة بن مزيقيا، وهو أبو جبيلة الذي استصرخه مالك بن العجلان على يهود يثرب حسبما نذكر بعد. وقال ابن سعيد: عن صاحب تواريخ الأمم. إن جميع ملوك بني جفنة اثنان وثلاثون، ومدتهم ستمائه سنة، ولم يبق لغسان بالشام قائمة. وورث أرضهم بها قبيلة طيء. قال ابن سعيد: وأمراؤهم بنو مرا. وأما الآن فأمراؤهم بنو مهنا وهما معا لربيعة بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن علي بن سالم بن قصة بن بدر بن سميع. وقامت غسان بعد منصرفها من الشام بأرض القسطنطينية حتى انقرض ملك القياصرة، فتجهزوا إلى جبل شركس، وهو ما بين بحر طبرستان وبحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية. وفي هذا الجبل باب الأبواب، وفيه من شعوب الترك المتنصرة الشركس واركس، واللاص وكسا، ومعهم اخلاط من الفرس ويونان. والشركس كالبون على جميعهم. فانحازت قبائل غسان إلى هذا الجبل عند انقراض القياصرة والروم، وتحالفوا معهم واختلطوا بهم، ودخلت أنساب بعضهم في بعض، حتى ليزعم كثير من الشركس أنهم من نسب غسان. ولله حكمة بالغة في خلقه. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، لا انقضاء لملكه ولا رب غيره.
الأوس والخزرج الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة وذكر أوليتهم والإلمام بشان نصرتهم وكيف انقرض أمرهم قد ذكرنا فيما تقدم شأن يثرب وأنها من بناء يثرب بن فانية بن مهلهل بن إرم بن عبيل بن عوض، وعبيل أخو عاد. وفيما ذكر السهيلي أن يثرب ابن قائد بن عبيد بن
مهلاييل بن عوص بن عمليق بن لاوذ بن إرم، وهذا أصح وأوجه. وقد ذكرنا كيف صار أمر هؤلاء لإخوانهم جاسم من الأمم العمالقة، وأن ملكهم كان يسمى الأرقم، وكيف ضلت بنو إسرائيل عليه وقتلوه وملكوا الحجاز دونه كله من أيدي العمالقة. ويظهر من ذلك أن الحجاز لعهدهم كان آهلا بالعمران، وجميع مياهه. يشهد بذلك أن داود عليه السلام لما خلع بنو إسرائيل طاعته، وخرجوا عليه بابنه أشبوشت، فر مع سبط يهوذا إلى خيبر، وملك ابنه الشام وأقام هو وسبط يهوذا بخيبر سبع سنين في ملكه، حتى قتل ابنه وعاد إلى الشام. فيظهر من هذا أن عمرانه كان متصلاًَ بيثرب، ويجاوزها إلى خيبر. وقد ذكرنا هنالك كيف أقام من بني إسرائيل من أقام بالحجاز، وكيف تبعتهم يهود خيبر وبنو قريظة. قال المسعودي: وكانت الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأكثرها ماء، فنزلوا بلاد يثرب واتخذوا بها الأموال، وبنوا الآطام والمنازل في كل موطن، وملكوا أمر أنفسهم. وانضافت إليهم قبائل من العرب نزلوا معهم واتخذوا الأطم والبيوت، وأمرهم راجع إلى ملوك المقدس من عقب سليمان عليه السلام. قال شاعر بني نعيف: ولو نطقت يوما قباء لخبرت بانا نزلنا قبل عاد وتبع وآطامنا عادية مشمخرة تلوح فتنعى من يغادي ويمنع فلما خرج مزيقيا من اليمن، وملك شان بالشام، ثم هلك وملك ابنه ثعلبة العنقاء، ثم هلك ثعلبة العنقاء. وولي أمرهم بعد ثعلبة عمرو ابن أخيه جفنة، سخط مكانه ابنه حارثة فأجمع الرحلة إلى يثرب، وأقام بنو جفنة بن عمرو ومن انضاف إليهم بالشام. ونزل حارثة يثرب على يهود خيبر، وسألهم الجلف والجوار على الأمان والمنعة فأعطوه من ذلك ما سأل. قال ابن سعيد: وملك اليمن يومئذ شريب بن كعب فكانوا بادية لهم إلى أن انعكس الأمر بالكثرة والغلبة. ومن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني قال: بنو قريظة وبنو النضير الكاهنان من ولد الكوهن بن هارون عليه السلام، كانوا بنواحي يثرب بعد موسى عليه السلام، وقبل تفرق الأود من اليمن بسيل العرم، ونزول الأوس والخزرج يثرب، وذلك بعد الفخار. ونقل ذلك عن علي بن سليمان الأخفش إلى العماري قال: ساكنو المدينة العماليق، وكانوا أهل عدوان وبغي، وتفرقوا في البلاد. وكان بالمدينة منهم بنو نعيف وبنو
سعيد وبنو الازرق وبنو نظرون. وملك الحجاز منهم الأرقم ما بين تيما إلى فدك، وكان ملوك المدينة ولهم بها نخل وزرع. وكان موسى عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة يغزونهم، وبعث إلى العماليقة جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن لا يستبقوا أحداً فأبقوا ابناً للأرقم ضنوا به على القتل. فلما رجعوا بعد وفاة موسى عليه السلام وأخبروا بني إسرائيل بشأنه، فقالوا هذه معصية لا تدخلوا علينا الشام، فرجعوا إلى بلاد العمالقة ونزلوا المدينة، وكان هذا أولية سكنى اليهود بيثرب. وانتشروا في نواحيها واتخذوا بها الآطام والأموال والمزارع، ولبثوا زمانا. وظهر الروم على بني إسرائيل بالشام وقتلوهم وسبوا. فخرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل هاربين إلى الحجاز، وتبعهم الروم فهلكوا عطشاً في المفازة بين الشام والحجاز. وشفى الموضح ثمر الروم. ولما قدم هؤلاء الثلاثة المدينة نزلوا العالية فوجدوها وابية وارتادوا. ونزل بنو النضير مما يلي البهجان وبنو قريظة وبنو يهدل على نهر وز. وكان ممن سكن المدينة من اليهود حين نزلها الاوس والخزرج بنو الشقمة وبنو ثعلبة وبنو زرعة وبنو قينقاع وبنو يزيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل وبنو عوف وبنو عصص. وكان بنو يزيد من بلي وبنو نعيف من بلى وبنو الشقمة من غسان. وكان يقال لبني قريظة وبني النضير الكاهنان كما مر. فلما كان سيل العرم وخرجت الأزد، نزلت أزد شنوءة الشام بالسراة، وخزاعة بطوى. ونزلت غسان بصرى وأرض الشام، ونزلت أزد عمان الطائف، ونزلت الأوس والخزرج يثرب. نزلوا في ضرار. بعضهم بالضاحية وبعضهم بالقرى مع أهلها، ولم يكونوا أهل نعم وشاء، لأن المدينة كانت ليست بلاد مرعى، ولا نخل لهم ولا زرع إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من الموات، والأموال لليهود، فلبثوا حينا. ثم وفد مالك بن عجلان إلى أبي جبيلة الغسانى وهو يومئذ ملك غسان، فسأله فأخبره عن ضيق معاشهم فقال: ما بالكم لم تغلبوهم حين غلباً أهل بلدنا؟ ووعده أنه يسير إليهم فينصرهم. فرجع مالك وأخبرهم أن الملك آبا جبيلة يزورهم، فأعدوا له نزلاً، فأقبل ونزل بذي حرض، وبعث إلى الاوس والخزرج بقدومه، وخشي أن يتحصن منه اليهود في الآطام، فاتخذ حائراً وبعث إليهم فجاءوه في خواصهم وحشمهم، وأذن لهم في دخول الحائر، وأمر جنوده فقتلوهم رجلاً رجلاً إلى أن أتوا عليهم. وقال
للأوس والخزرج إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنكم ورجع إلى الشام، فأقاموا في عداوة مع اليهود. ثم أجمع مالك بن العجلان وصنع لهم طعاما ودعاهم، فامتعوا لغدرة أبي جبيلة، فاعتذر لهم مالك عنها وأنه لا يقصد نحو ذلك، فأجابوه وجاءوا إليه فغدرهم وقتل منهم سبعة وثمانين من رؤسائهم. وفطن الباقون فرجعوا وصورت اليهود بالحجاز مالك بن العجلان في كنائسهم وبيعهم، وكانوا يلعنونه كلما دخلوا. ولما قتلهم مالك ذلوا وخافوا، وتركوا مشى بعضهم إلى بعض في الفتنة كما كانوا يفعلون من قبل. وكان كل قوم من اليهود قد لجأوا إلى بطن من الاوس والخزرج يستنصرون بهم ويكونون لهم أحلافا اهـ كلام الأغاني. وكان لحارثة بن ثعلبة ولدان أحدهما أوس والآخر خزرج، وأنهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة، وقيل لنت كاهن بن عذرة من قضاعة. فأقاموا كذلك زمانا حق أثروا وامتنعوا في جانبهم، وكثر نسلهم وشعوبهم. فكان بنو الاوس كلهم لمالك بن الأوس، منهم خطمة بن جشم بن مالك. وثعلبة ولوذان وعوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك. ومن بني عوف بن عمرو حنش ومالك وكلفة كلهم بنو عوف. ومن مالك بن عوف معاوية وزيد. فمن زيد عبيد وضبيعة وأمية. ومن كلفة بن عوف جحجبا بن كلفة. ومن مالك بن الأوس أيضاً الحارث وكعب ابنا الخزرج بن عمرو بن مالك. فمن كعب بنو ظفر، ومن الحارث بن الخزرج حارثة وجشم. ومن جشم بنو عبد الاشهل. ومن مالك بن الأوس أيضا بنو سعد وبنو عامر ابنا مرة بن مالك، فبنو سعد الجعادرة. ومن بني عامر عطية وأمية ووائل كلهم بنو زيد بن قيس بن عامر. ومن مالك بن الأوس أيضاً أسلم وواقف بنو امرىء القيس بن مالك. فهذه بطون الأوس. وأما الخزرج فخمسة بطون من كعب وعمرو وعوف وجشم والحارث. فمن كعب بن الخزرج بنو ساعدة بن كعب ومن عمرو بن الخزرج بنو النجار وهم تيم الله بن ثعلبة بن عمرو، وهم شعوب كثيرة: بنو مالك وبنو عدي وبنو مازن وبنو دينار كلهم بنو النجار. ومن مالك بن النجار مبدول واسمه عامر وغانم وعمرو. ومن عمرو عدي ومعاوية، ومن عوف بن الخزرج بنو سالم والقواقل وهما عوف بن عمرو بن عوف، والقواقل ثعلبة ومرضخة بنو قوقل بن عوف. ومن سالم بن عوف بنو العجلان بن زيد بن
عصم بن سالم، وبنو سالم بن عوف. ومن جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم وتزيد بن جشم. فمن غضب بن جشم بنو بياضة وبنو زريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب. ومن تزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن تزيد. ومن الحارث بن الخزرج بنو خدرة وبنو حرام ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. فهذه بطون الخزرج فلما انتشر بيثرب هذان الحيان من الأوس والخزرج وكثروا يهود، خافوهم على أنفسهم فنقضوا الحلف الذي عقدوه لهم، وكانت العزة يومئذ بيثرب لليهود. قال قيس بن الحطيم: كنا إذا رابنا قوم بمظلمة شدت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا بنوا الرهون وواسونا بأنفسهم بنوا الصريخ فقد عفوا وقد كرموا
ثم نتج فيهم بعد حين مالك بن العجلان، وقد ذكر نسب العجلان. فعظم شأن مالك وسودة الحيان. فلما نقض يهود الحلف واقعهم وأصاب منهم ولحق بأبي جبيلة ملك غسان بالشام، وقيل بعث إليه الرنق بن زيد بن امرىء القيس فقدم عليه فأنشده: أقسمت أطعم من رزق قطرة حتى تكثر للنجاة رحيل حتى ألاقي معشراً أنى لهم خل ومالهم لنا مبذول أرض لنا تدعى قبائل سالم ويجيب فيها مالك وسلول قوم أولو عز، وعزة غيرهم إن الغريب ولو يعز ذليل
فأعجبه وخرج في نصرتهم. وأبو جبيلة هو ابن لمجد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج. كان حبيب بن عبد حارثة وأخوه غانم ابنا الجشمي ساروا مع غسان إلى الشام وفارقوا الخزرج. ولما خرج أبو جبيلة إلى يثرب لنصرة الأوس والخزرج لقيه أبناء قيلة وأخبروه أن يهود علموا بقصده، فتحصنوا في آطامهم فوري عن قصده باليمن وخرجوا إليه. فدعاهم إلى صنيع أعده لرؤساثهم، ثم استلحمهم. فعزت الأوس والخزرج من يومئذ وتفرقوا في عالية يثرب وسافلتها، يتبوأون منها حيث شاءوا وملكت أمرها على يهود فذلت اليهود وقل عددهم، وعلت قدم أبناء قيلة عليهم. فلم يكن لهم امتناع إلا بحصونهم، وتفرقهم أحزابا على الحيين إذا اشتجرا.
وفي كتاب ابن إسحق: إن تبعاً أبا كرب غزا المشرق فمر بالمدينة، وخلف بين
أظهرهم ابناً له، فقتل غيلة. فلما رجع أجمع على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار رئيسهم عمرو بن ظلة، وظلة أمه، وأبوه معاوية بن عمرو. قال ابن إسحق: وقد كان رجل من بني عدى بن النجار يقال له أحمر نزل بهم تبع. وقال إنما التمر لمن ابره، فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم فاقتتلوا. وقال ابن قتيبة في هذه الحكاية إن الذي عدا على التبعي هو مالك بن العجلان. وأنكره السهيلي وفرق بين القصتين، بأن عمرو بن ظلة كان لعهد تبع، ومالك بن العجلان لعهد أبي جبيلة، واستبعد ما بين الزمانين، ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا اليهود على يثرب. وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك. ويدخل في حلفهم من جاورهم من قبائل مضر، وكانت بينهم في الحيين فتن وحروب، ويستصرخ كل بمن دخل في حلفه من العرب ولهود. قال ابن سعيد: ورحل عمرو بن الإطنابة من الخزرج إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة، فملكه على الحيرة واتصلت الرياسة في الخزرج والحرب بينهم وبين الأوس. ومن أشهر الوقائع التي كانت بينهم يوم بعاث قبل المبعث. كان على الخزرج فيه عمرو بن النعمان بن صلاة بن عمرو بن امية بن عامر بن بياضة. وكان على الأوس يومئذ خضير الكتائب ابن سماك بن عتيك بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل. وكان حلفاء الخزرج يومئذ أشج من غطفان وجهينة من قضاعة. وحلفاء الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس وقريظة والنضير من يهود، وكان الغلب صدر النهار للخزرج. ثم نزل خضير وحلف لا أركب أو أقتل. فتراجعت الأوس وحلفاؤها، وانهزم الخزرج. وقتل عمرو بن النعمان رئيسهم. وكان آخر الأيام بينهم وصبحهم الإسلام، وقد سئموا الحرب وكرهوا الفتنة؛ فأجمعوا على أن يتوجوا عبد الله بن أبي بن سلول. ثم اجتمع أهل العقبة منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ودعاهم إلى نصرة الإسلام، فجاءوا إلى لومهم بالخبر كما نذكر، وأجابوا واجتمعوا على نصرته. ورئيس الخزرج سعد بن عبادة والأوس سعد بن معاذ. فالت عائشة: كان يوم بعاث يوما قدمه 'لله Dالله لرسوله، ولما بلغهمبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وما جاء به من الدين، وكيف أعرض لومه عنه وكذبوه وآذوه، وكان بينهم وببن قريش إخاء قديم وصهر، فبعث أبو قيس بن الأسلت من نجي مرة بن مالك بن
الأوس، ثم من بني وائل منهم واسمه صيفي بن عامر بن شحم بن وائل، وكان يحبهم لمكان صهره فيهم. فكتب إليهم قصيدة يعظم لهم فيها الحرمة، ويذكر فضلهم وحلمهم وينهاهم عن الحرب، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكرهم بما رفع الله عنهم من أمر الفيل وأولها: أيا راكباً إما عرضت فبلغن مقالة أوسي لوي بن غالب
تناهز خمساً وثلاثين بيتاً ذكرها ابن إسحق في كخاب السير فكان ذلك أول ما ألقح
بينهم من الخير والإيمان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يئس من إسلام قومه، يعرض نفسه على وفود العرب وحجاجهم أيام الموسم أن يقوموا بدين الإسلام وبنصره، حتى يبلغ ما جاء به من عند الله، وقريش يصدونهم عنه ويرمونه بالجنون والشعر والسحر كما نطق به القرآن. وبينما هو في بعض المواسم عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ست نفر، اثنان من بني غانم بن مالك، وهما أسعد بن زرارة بن عدي بن عبيد الله بن ثعلبة بن غانم، وعوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غانم, وهو ابن عفراء. ومن بني زريق بن سواد بن مالك بن غانم، وهو ابن عفراء. ومن بني زريق بن عامر رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق. ومن بنى غانم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عبد الله بن عمرو بن الحرث بر ثعلبة بن الحرث بن حرام بن كعب بن غانم، كعب بن رئاب بن غانم، وقطه بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غانم بن سواد بن غانم، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غانم. فلما لقيهم قال لهم: من أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج ! قال: أمن موالي يهود؟ قالوا نعم! فقال ألا تجلسون أكلمكم؟ فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: عوا والله أنه النبي الذي تعدكم يهود به فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم وصدقوه وآمنوا به، وأرجأوا الأمر في نصرته إلى لقاء قومهم. وقدموا المدينة فذكروا لقومهم شأن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام. ففشا فيهم. فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم وافى الموسم في العام المقبل اثنا عشر منهم فوافوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى. وهم أسعد بن زرارة وعوف بن الحرث وأخوه معاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان وعقبة بن عامر من الستة الأولى، وستة آخرون منهم من بني غانم بن
عوف بن القواقل. منهم عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهربن ثعلبة بن غانم. ومن بني زريق ذكوان بن عبد القيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان. هؤلاء التسعة من الخزرج. وأبو عبد الرحمن بن زيد بن ثعلبة بن خزيمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة من بني عصية من بلى إحدى بطون قضاعة حليف لهم. ومن الأوس رجلان الهيثم بن التيهان واسمه مالك بن التيهان بن مالك بن عتيك بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف. فبايعوه على الإسلام بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب. ومعناه أنه حينئذ لم يؤمر بالجهاد، وكانت البيعة على الإسلام فقط، كما وقع في بيعة النساء على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن: الآية. وقال لهم فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له. وإن سترتم عليه في الدنيا إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر. وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي يقريهم المرآن، ويعلمهم الإسلام ولفقههم في الدين. فكان يصلي بهم وكان منزله على أسعد بن زرارة وغلب الإسلام فى الخزرج وفشا فيهم، وبلغ المسلمون من أهل يثرب أربعين رجلا فجمعوا. ثم أسلم من الاوس سعد بن معاذ بن النعمان بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وابن عمه أسيد بن حضير الكتائب، وهما سيدا بني عبد الأشهل. وأوعب الإسلام بني عبد الأشهل، وأخذ من كل بطن من الأوس ما عدا بني امية بن زيد، وخطمة ووائل وواقف وهي أوس، أمه من الأوس من بني حارثة. ووقف بهم عن الإسلام أبو قيس بن الأسلت يرى رأيه، حتى مضى صدر من الإسلام، ولم يبق دار من دور أبناء قيلة إلا وفيها رجال ونساء مسلمون. ثم رجع مصعب إلى مكة. وقدم المسلمون من أهل المدينة معه، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فبايعوه وكانوا ثلثمائة وسبعين رجلاً وامرأتين، بايعوه على الإسلام وأن يمنعوه ممن أراده لسوء ولو كان دون ذلك القتل . وأخذ عليهم النقباء اثني عشر، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وأسلم ليلتئذ عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله، وكان أول من بايع البراء بن معرور من
بني تزيد بن جشم من الخزرج، وصرخ الشيطان بمكانهم مح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتنطست قريش الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم، وأدركوا سعد بن عبادة وأخذوه وربطوه، حتى أطلقه جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل، والحرث بن حرب بن أمية بن عبد شمس لجوار كان له عليهما ببلده. فلما قدم المسلمون المدينة أظهروا الإسلام، ثم كانت بيعة الحرب، حتى أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال، فبايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأثرته عليهم وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقوموا بالحق أينما كانوا، ولا يخافوا في الله لومة لائم. ولما تمت بيعة العقبة وأذن الله لنبيه في الحرب، أمر المهاجرين الذين كانوا يؤذون بمكة أن يلحقوا بإخوانهم من الأنصار بالمدينة، فخرجوا أرسالاً وأقام هو بمكة ينتظر الإذن في الهجرة. فهاجر من المسلمين كثير سماهم ابن إسحق وغيره. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في من هاجر هو وأخوه زيد، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة وأنيسة وأبو كبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعثمان بن عفان رضي الله عنهم. ثم أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة فهاجر، وصحبه أبو بكر رضي الله عنه، فقدم المدينة ونزل في الاوس على كلثوم بن مطعم بن امرىء القيس بن الحرث بن زيد بن عبيد بن مالك بن عوف. وسيد الخزرج يومئذ عبد الله بن أبي بن سلول. وأبي هو ابن مالك بن الحرث بن عبيد، واسم أم عبيد سلول. وعبيد هو ابن مالك بن سالم بن غانم بن عوف بن غانم بن مالك بن النجار. وقد نظموا له الخرز ليملكوه على الحيين فغلب على أمره، واجتمعت أبناء قيلة كلهم على الإسلام فضغن لذلك، لكنه أظهر أن يكون له اسم منه. فأعطى الصفقة وطوى على النفاق كما يذكر بعد. وسيد الاوس يومئذ أبو عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النغقمان، أحد بني ضبيعة بن زيد. فخرج إلى مكة هاربا من الإسلام حين رأى اجتماع قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغضاً في الدين. ولما فتخت مكة فر إلى الطائف، ولما فتح الطائف فر إلى الشام فمات هنالك. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري حتى ابتنى مساكنه ومسجده، ثم انتقل إلى بيته. وتلاحق به المهاجرون، واستوعب الإسلام سائر الأوس والخزرج،
وسموا الأنصار يومئذ بما نصروا من دينه. وخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم وكتب بين المهاجرين والأنصار كتاباً وادع فيه يهود، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم كما يفيده كتاب ابن إسحق فلينظر هنالك. ثم كانت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه، فغزاهم وغزوه وكانت حروبهم سجالا، ثم كان الظهور والظفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم آخرا كما نذكر في سيرتهصلى الله عليه وسلم، وصبر الأنصار في المواطن كلها، واستشهد من أشرافهم ورجالاتهم كثير هلكوا في سبيل الله وجهاد عدوه. ونقض أثناء ذلك اليهود الذين بيثرب على المهاجرين والأنصار ما كتب رسولصلى الله عليه وسلم ، وظاهروا عليه. فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيهم وحاصرهم طائفة بعد أخرى. وأما بنو قينقاع فإنهم تثاوروا مع المسلمين بسيوفهم وقتلوا مسلما. وأما بنو النضير وقريظة فمنهم من قتله الله وأجلاه. فأما بنو النضير فكان من شأنهم بعد أحد وبعد بئر معونة، جاءهم رسولى الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن امية من القرى- ولم يكن علم بعقدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما نذكره، فهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءهم لذلك خديعة منهم ومكرا، فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء، وأن يحملوا ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة. وافترقوا في خيبر وبني قريظة. وأما بنو قريظة فظاهروا قريشاً في غزوة الخندق، فلما فرج الله كما نذكره حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة، حتى نزلوا على حكمه وكلمته، وشفع الأوس فيهم وقالوا تهبهم لا كما وهبت بني قينقاع للخزرج، فرد حكمهم إلى سعد بن معاذ وكان جريحا في المسجد، وأثبت في غزوة الخندق. فجاء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بم تحكم في هؤلاء بعد أن استحلف الأوس أنهم راضون بحكمه؟ فقال يا رسول الله تضرب الأعناق ونسبي الأموال والذرية. فقال: حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فقتلوا عن آخرهم وهم ما بين الستمائة والتسعمائة. ثم خرج إلى خيبر بعد الحديبية سنة ست فحاصرهم وافتتحها عنوة، وضرب رقاب اليهود وسبى نساءهم وكان في السبي صفية بنت حيي بن أخطب، وكان أبوها قتل مع بني قريظة، وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وقتله محمد بن مسلمة، غزاه من المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستة نفر فبيته. فلما افتتحت خيبر اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وقسم الغنائم في الناس من القمح والتمر، وكان عدد السهام التي قسمت
عليها أموال خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم، الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتان. وكانت أرضهم الشق ونطاة والكتيبة. فحصلت الكتيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخمس ففرقها على قرابته ونسائه ومن وصلهم من المسلمين. وأعمل أهل خيبر على المساقاة، ولم يوالوا كذلك حى أجلاهم عمر رضي الله عنه. ولما كان فتح مكة سنة ثمان، وغزوة حشن على أثوها، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم فيمن كان يستألفه على الإسلام من فريش وسواهم، وجد الأنصار في أنفسهم وقالوا: سيوفنا تقطر من دمائهم وغنائمنا تقسم فيهم؟ مع أنهم كانوا ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح بلاده وجمع على الدين قومه أنه سيقيم بأرضه وله غنية عنهم. وسمعوا ذلك من بعض المنافقين، وبلغ ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجمعهم وقال يا معشر الأنصار: ما الذي بلغكم عني؟ فصدقوه الحديث. فقال ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله، ومتفرقين فجمعكم الله؟ فقالوا الله ورسوله أمن. فقال! لو شئتم لقلتم جئتنا طريداً فآويناك، ومكذباً فصدقناك. ولكن والله إني لأعطي رجالاً استألفهم على الدين، وغيرهم أحب الي. ألا ترضون أن ينقلب الناس بالشاء والبعير، وتنقلبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ أما والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار. الناس دثار وأنتم شعار. ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار! فمرحوا بذلك ورجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، فلم يزل بين أظهرهم إلى أن قبضه الله إليه. ولما كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة بن كعب، ودعت الخزرج إلى بيعة سعد بن عبادة، وقالوا لقريش: منا أمير ومنكم أمير ضنا بالأمر أو بعضه فيهم، لما كان من قيامهم بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وامتنع المهاجرون واحتجوا عليهم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالأنصار في الخطبة ولم يخطب بعدها. قال: أوصيكم بالأنصار أنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فأوصيكم بأن تحسنوا إلى محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم. فلو كانت الإمارة لكم لكانت ولم تكن الوصية بكم. فحجوهم فقام بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك بن الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحرث بن الخزرج فبايع لأبي بكر واتبعه الناس. فقال خباب بن المنذر بن الجموح بن حرام بن كعب بن غانم بن سلمة بن سعد: يا بشير
أنفست بها ابن عمك؟ يفي الإمارة. قال لا والله ولكني كرهت أن أنازع الحق قوماً جعله الله لهم. فلما رأى الأوس ما صنع بشير بن سعد وكانوا لا يريدون الأمر للخزرج قاموا فبايعوا أبا بكر. ووجد سعد فتخلف عن البيعة ولحق بالشام إلى أن هلك، وقتله الجن فيما يزعمون وينشدون من شعر الجن: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ضربناه بسهم فلم تخط فؤاده وكان لابنه قيس من بعده غناء في الأيام، وأثر في فتوحات الإسلام. وكان له انحياش إلى علي في حروبه مع معاوية، وهو القائل لمعاوية بعد مهلك علي رضي الله عنه وقد عرض به معاوية في تشيعه فقال. والآن ماذا يا معاوية؟ والله إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وأن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا. وكان أجود العرب وأعظمهم جثمانا. يقال: إنه كان إذا ركب تخط رجلاه الأرض. ولما ولي يزيد بن معاوية، وظهر من عسفه وجوره، وادالته الباطل من الحق ما هو معروف، امتعضوا للدين، وبايعوا لعبد الله بن الزبير حين حرجوا بمكة. واجتمعوا على حنظلة بن عد الله الغسيل ابن أبي عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك بن صيفي بن امية بن ضيعة بن زيد. وعمد ابن الزبير لعبد الله بن مطيع بن إياس على المهاجرين معهم. وسرح يزيد إليهم مسلم بن عقبة المري، وهو عقبة بن رباح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مرة بن عوف بن سعد بن ديار بن بغيض بن ريث بن غطفان، فيمن فرض عليه من بعوث الشام والمهاجرين، فالتقوا بالحرة، حرة بني زهرة وكانت الدبرة على الأنصار، واستلحمهم جنود يزيد. ويقال: إنه قتل في ذلك اليوم من المهاجرين والأنصار سبعون بدر يا. وهلك عبد الله بن حنظلة يومئذ فيمن هلك. وكانت إحدى الكبر التي أتاها يزيد. واستفحل ملك الإسلام من بعد ذلك، واتسعت دولة العرب، وافترقت قبائل المهاجرين والأنصار في قاصية الثغور بالعراق والشام والأندلس وأفريقية والمغرب حامية ومرابطين. فافترق الحي أجمع من أبناء قيلة، وافترقت وأقفرت منهم يثرب، ودرسوا فيمن درس من الأمم. وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. والله وارث الأرض ومن عليها وهر خير الوارثين لا خالق سواه، ولا معبود إلا إياه، ولا خير إلا خيره، ولا رب غيره، وهو
خريطة
نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالته العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
بنو عدنان
الخبر عن بني عدنان وانسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول
والملك في الإسلام واولية ذلك ومصايره قد تقدم لنا أن نسب عدنان إلى إسماعيل عليه السلام باتفاق من النسابين، وأن الآباء بينه وبين إسماعيل غير معروفة. وتنقلب في غالب الأمر مخلطة مختلفة بالقلة والكثرة في العدد حسبما ذكرناه. فأما نسبته إليه فصحيحة في الغالب، ونسب النبي صلى الله عليه وسلم منها إلى عدنان صحيح باتفاق من النسابين. وأما بين عدنان وإسماعيل فبين الناس فيه اختلاف كثير. فقيل من ولد نابت بن إسماعيل وهو عدنان بن أدد المقدم ابن ناحور بن تنوخ بن يعرب بن يشجب بن نابت قاله البيهقي. وقيل من ولد قيذار بن إسماعيل وهو عدنان بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار. قاله الجرجاني علي بن عبد العزيز النسابة. وقيل عدنان بن يشجب بن أيوب بن قيذار. ويقال ان قصي بن كلاب كان يومي شعره بالإنتساب إلى قيذار. ونقل القرطبي عن هشام بن محمد: فيما بين عدنان وقيذار نحوا من أربعين أباً. وفال سمعت رجلاً من أهل تدمر من مسلحة يهود، وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معد بن عدنان إلى إسماعيل من كتاب إرمياء النبي عليه السلام، وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلا قليلاً. ولعل الخلاف أنما جاء من قبل اللغة، لأن الأسماء ترجمت من العبرانية- ونقل القرطي عن الزبير بن بكار بسنده إلى ابن شهاب: فيما بين عدنان وقيذار قريباً من ذلك العدد. ونقل عن بعض النسابين أنه حفظ لمعد بن عدنان أربعين أباً إلى إسماعيل. وأنه قابل ذلك بما عند أهل الكتاب في نفسه، فوجده موافقاً. وأنما خالف في بعض الأسماء. قال: واستمليته فأملاه علي ونقله الطبري إلى آخره. ومن النسابين من بعد بين عدنان وإسماعيل عشرين أو خمسة عشر ونحو ذلك. وفي الصحيح عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثرا. قالت أم سلمة: وزيد هو الهميسع، وبرا هو نبت أو نابت، وأعراق
الثرى هو إسماعيل، وقد تقدم هذا أول الكتاب. وأن السهيلي رد تفسير أم سلمة وقال: ليس المراد بالحديث عد الآباء بين معد وإسماعيل، وإنما معناه معنى قوله في الحديث الآخر: أنتم بنو آدم، وآدم من التراب. وعضد ذلك باتفاق النسابين على بعد المدة بين عدنان وإسماعيل، بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو خمسة أو عشرة، إذ المدة أطول من هذا كله بكثير. وكان لعدنان من الولد على ما قال الطبري ستة: الربب وهو عك وعرق، ويه سميت عرق اليمن وأد، وأبي الضحاك، وعبق وأمهم مهدد. قال هشام بن محمد: هي من جلإيس، وقيل من طسم وقيل من الطواسيم من نسل لفشان بن إبراهيم. قال الطبرى: ولما قتل أهل حضورا شعيب بن مهدم نبيهم أوحى الله إلى إرميا وأبرخيا من أنبياء شى إسرائيل، بأن يأمرا بختنصر يغزو العرب، ويعلماه أن الله سلطه عليهم، وأن يحتملا معد بن عدنان إلى أرضهم ويستنقذاه من الهلكه لما أراده من شأن النبوة المحمدية في عقبه كما مر ذلك من قبل. فحملاه على البراق ابن اثنتي عشرة سنة وخلصا به إلى حران. فأقام عندما وعلماه علم كتابهما. وسار بختنصر إلى العرب فلقيه عدنان فيمن اجتمع إليه من حضور أو غيرهم بذات عرق، فهزمهم بختنصر وقتلهم أجمعين، ورجع إلى بابل بالغنائم والسبى وألقاها بالأنبار. ومات عدنان عقب ذلك، وبقيت بلاد العرب خرابا حقبا من الدهر. حتى إذا هلك بختنصر خرج معد في أنبياء بني إسرائيل الى مكة، فحجوا وحج معهم، ووجد أخويه وعمومته من بني عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن وتزوجوا فيهم، وتعطف عليهم أهل اليمن بولادة جرهم فرجعهم إلى بلادهم. وسأل عمن بقي من أولاد الحرث بن مضاض الجرهمي، فقيل له جرهم بن جلهة فتزوج ابنته فعانة وولدت له نزار بن معد. وأما مواطن بني عدنان هؤلاء فهي مختصة بنجد، وكلها بادية رحالة إلا قريشا بمكة ولجد، هو مرتع من جانبي الحجاز، وطوله مسيرة شهر من أول السروات التي تلي اليمن إلى آخرها المطلة على أرض الشام، مع طول تهامة. وأوله في أرض الحجاز من جهة العراق العذيب مما يلي الكوفة، وهو ماء لبني تميم. وإذا دخلت في أرض الحجاز فقد أنجدت. وأوله من جهة تهامة الحجاز حضن، ولذلك يقال انجد من رأى حضنا. قال السهيلي: وهو جبل متصل بجبل الطائف الذي أعلى نجد، تبيض فيه النسور.
قال: وسكانه بنو جشم بن بكر، وهو أول حدود نجد. وأرض تهامة من الحجاز في قرب نجد مما يلي بحر القلزم في سمت مكة والمدينة وتيما وأيلة، وفي شرقها بينها وبين جبل نجد غير بعيد. منها العوالي وهي ما ارتفع عن هذه الأرض، ثم تعلو عن السروات ثم ترتفع إلى نجد وهى أعلاها. والعوالي والسروات بلاد تفصل بين تهامة ونجد، متصلة من اليمن إلى الشام كسروات الخيل تخرج من نجد منفصلة من تهامة داخلة في بلاد أهل الوبر. وفي شرقي هذا الجبل برية نجد ما بينة وبين العراق، متصلة باليمامة وعمان والبحرين إلى البصرة. وفي هذه البرية مشاتي للعرب تشتو بها، منهم خلق احياء لا يحصيهم إلا خالقهم. قال السهيلي: واختص نجد من العرب بنو عدنان لم تزاحمهم فيه قحطان إلا طيء من كهلان فيما بين الجبلين سلمى وأجاً، وافترق أيضا من عدنان في تهامة والحجاز، ثم في العراق والجزيرة، ثم افترقوا بعد الإسلام على الأوطان. وأما شعوبهم فمن عدنان عك ومعد، فمواطن عك في نواحي زبيد، ويقال عك بن الديث، بالدال غير منقوطة والثاء مثلثة، ابن عدنان. يقال إن عكا هذا هو ابن عدثان، بالثاء المثلثة، ابن عبد الله، من بطون الأزد، ومن عك بن عدنان بنو عايق بن الشاهد بن علقمة بن عك، بطن متسع كان منهم في الإسلام رؤساء وأمراء. وأما معد فهو البطن العظيم، ومنه تناسل عقب عدنان كلهم، وهو الذي تقدم الخبر عنه بأن إرمياء النبي من بني إسرائيل أوحى الله إليه أن يأمر بختنصر بالإنتقام من العرب، وأن يحمل معدا على البراق أن تصيبه النقمة، لأنه مستخرج من صلبه نبيا كريماً خاتماً للرسل فكان كذلك. ومن ولده إياد ويزار، ويقال وقنص وانمار. فأما قنص فكانت له الإمارة بعد أبيه على العرب، وأراد إخراج أخيه نزار من الخرم فأخرجوه أهل مكة، وقدموا عليه نزاراً. ولما احتضر قسم ماله بين ولديه فجعل لربيعة الفرس، ولضر القبة الحمراء، ولأنمار الحمار، ولإياد عند من جعله من ولده الحلمة والعصا. ثم تحاكموا في هذا الميراث إلى أفعى نجران في قصة معروفة ليست من غرض الكتاب. وأما إياد فتشعبوا بطونا كثيرة، وتكاثر بنو إسماعيل، وانفرد بنو مضر بن يزار برياسة الحرم، وخرج بنو إياد إلى العراق، ومضى أنمار إلى السروات بعد بنيه في اليمانية وهم خثعم وبجيلة. ونزلوا آبار يافه وكان لهم في بلاد الأكاسره آثار مشهورة، إلى أن تابع لهم الأكاسرة الغزو وأبادوهم. وأعظم ما باد منهم سابور ذو الأكتاف هو الذي استلحمهم وافنا هم. وأما نزار فمنه البطنان العظيمان ربيعة ومضر، وبقال: إي إياداً يرجعون إلى نزار، وكذلك أنمار، فأما ربيعة فديارهم ما بين الجزيرة والعراق، وهم ضبيعة وأسد ابنا ربيعة. ومن أسد عنزة وجديلة ابنا أسد، فعنزة بلادهم في عين التمر في برية العراق على ثلاثة مراحل من الأنبار. ثم انتقلوا عنها إلى جهات خيبر فهم هنالك. وورثتت بلادهم غزية من طيء الذين لهم الكثرة والامارة بالعراق لهذا العهد. ومن عنزة هؤلاء بأفريقية حي قليل مع رياح من بني هلال بن عامر. ومنهم أحياء مع طيء ينتجعون ويشتون في بوية نجد. وأما جديلة فمنهم عبد القيس وهنب ابنا أفصى بن دعمي بن جديلة. فأما عبد القيس وكانت مواطنهم بتهامة، ثم خرجوا إلى البحرين وهي بلاد واسعة على بحر فارس من غربيه، وتحصل باليمامة من شرقيها، والبصرة من شماليها، وبعمان من جنوبها، وتعرف ببلاد هجر. ومنها القطيف وهجر والعسير وجزيرة أوال والاحسا. وهجر هي باب اليمن من العراق. وكانت أيام الأكاسرة من أعمال الفرس وممالكهم. وكان بها بشر كثير من بكر بن وائل، وتميم في باديتها. فلما نزل معهم بنو عبد القيس زاحموهم في ديارهم تلك، وقاسموهم في الموطن، ووفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسلموا. ووفد منهم المنذر بن عائد بن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر بن عمرو بن عوف بن جذيمة بن عوف بن انمار بن عمرو بن وديعة بن بكر. وذكروا أنه سيدهم وقائدهم إلى الإسلام، فكانت له صحبة ومكانة من النبي صلى الله عليه وسلم. ووفد أيضاً الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلى بن زيد بن حارثة بن معاوية بن نعلبه بن جذيمة. وثعلبة أخو عوف بن جذيمة، وفد في عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوى من بني تميم، وسيأتي ذكره. وكان نصرانياً فأسلم، وكانت له أيضا صحبة ومكانة. وكان عبد القيس هؤلاء من أهل الردة بعد الوفاة. وأمروا عليهم المنذر بن النعمان الذي قتل كسرى أباه، فبعث إليهم أبو بكر بن العلا بن الحضرمي في فتح البحرين وقتل المنذر. ولم تزل رياسة عبد القيس في بني الجارود أولا ثم في ابنه المنذر، وولاه عمر على البحرين، ثم ولاه على إصطخر، ثم عبد الله بن زياد ولاه على الهند. ثم ابنه حكيم بن المنذر. ولردد على ولاية البحرين قبل ولاية العراق. وأما هنب بن أفصى فمنهم النمر ووائل ابنا قاسط بن هنب. فأما بنو النمر بن قاسط
فبلادهم رأس العين، ومنهم صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن جذيمة بن كعب بن سعد بن اسلم بن أوس مناة بن النمر بن قاسط، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور، وبنسب إلى الروم. وكان سنان أبوه استعمله كسرى على الأبلة، وكان لبني النمر بن قاسط شأن في الردة مذكور. ومنهم ابن القرية المشهور بالفصاحة أيام الحجاج، ومنصور بن النمر الشاعر مادح الرشيد. وأما بنو وائل فبطن عظيم متسع، أشهرهم بنو تغلب وبنو بكر بن وائل، وهما اللذان كانت بينهما الحروب المشهورة التي طالت فيما يقال أربعين سنة. فلبني تغلب شهرة وكثرة، وكانت بلادهم بالجزيرة الفراتية بجهات سنجار ونصيبين وتعرف بديار ربيعة. وكانت النصرانية غالبة عليهم لمجاورة الروم. ومن بني تغيب عمرو بن كلثوم الشاعر. وهو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غانم بن تغلب، وأمه هند بنت مهلهل. ومن ولده مالك بن طوق بن مالك بن عتاب بن زافر بن شريح لن عبد الله بن عمرو بن كلثوم، وإليه تنسب رحبة مالك بن طوق على الفرات. وعاصم بن النعمان عم عمرو بن كلثوم هو الذي قتل شرحبيل بن الحرث الملك آكل المرار يوم الكلاب. ومن بني تغلب كليب ومهلهل ابنا ربيعة بن الحرث بن زهير بن جشم. وكان كليب سيد بني تغلب، وهو الذي قتله جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، وكان متزوجاً بأخته، فرعت ناقة البسوس في حمى كليب، فرماها بسهم فأثبتها. وقتله جساس لأن البسوس كانت جارته، فقام أخو كليب وهو مهلهل بن الحرث كمن برياسة تغلب، وطلب بكر بن وائل ثأر كليب، فاتصلت الحرب بينهم أربعين سنة، وأخبارها معروفة. وطال عمر مهلهل، وتغرب إلى اليمن، فقتله عبدان له في طريقه. وبنو شعبة الذين بالطائف لهذا العهد من ولد شبة بن مهلهل. ومن نغلب الوليد بن طريف بن عامر الخارجي، وهو من بني صيفي بن حي بن عمرو بن بكر بن حبيب، وهو الذي رثته أخته ليلى بقولها: أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يريد العز إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف خفيف على ظهر الجواد إلى الوغى وليس على أعدائه بخفيف فلو كان هذا الموت يقبل فدية فديناه من ساداتنا بألوف
ومنهم بنو حمدان ملوك الموصل والجزيرة أيام المتقي ومن لعده من خلفاء العباسيين، وسيأتي ذكرهم في أخبار بني العباس، وهم بنو حمدان من بنى عدي بن اسامة بن غانم بن تغلب، كان منهم سيف الدولة الملك المشهور. وأما بكر بن وائل ففيهم الشهرة والعدد، فمنهم يشكر بن بكر بن وائل. وبنو عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ومنهم بنو حنيفة وبنو عجل ابني لجيم بن صعب. ففي بني حنيفة بطون متعددة أكثرهم بنو الدول بن حنيفة، فيهم البيت والعدد، ومواطنهم باليمامة وهي من أوطان الحجاز، كما هي نجران من اليمن. والشرقي منها يوالي البحري وبني تميم، والغرب يوالي أطراف اليمن والحجاز والجنوب نجران، والشمالي أرض نجد وطول اليمامة عشرون مرحلة، وهي على أربعة أيام من مكة، بلاد نخل وزرع وقاعدتها حجر بالفتح، وبها بلد اسمه اليمامة وتسمى أيضا جو باسم الزرقا. وكانت مقرأ للملوك قبل بني حنيفة. واتخذ بنو حنيفة بعدها بلد حجر، وبقي كذلك في الإسلام. وكانت مواطن اليمامة لبني همدان بن يعفر بن السكسك بى وائل بن حمير، غلبوا على من كان بها من طسم وجديس. وكان آخر ملوكهم بها فيما ذكره الطبري قرط بن يعفر. ثم هلك فغلب عليها بعده طسم وجديس. وكانت منهم الزرقا أخت رياح بن مرة بن طسم كما تقدم في أخبارهم. ثم استولى على اليمامة آخراً بنو حنيفة، وغلبوا عليها طسماً وجديسا. وكان ملكها منهم هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم بن مرة ابن الدولى بن حنيفة وتوجه كسرى، وابن عمه عمرو بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى، قاتل المنذر ابن ماء السماء يوم عين أباغ. وكان منهم ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة ملك اليمامة عند المبعث، وثبت عند الردة. ومنهم الخارجي نافع بن الازرق بن قيس بن صبرة بن ذهل بن الدول بن حنيفة، وإليه تنسب الأزارقة، ومنهم محلم بن سبيع بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة، صاحب مسيلمة الكذاب، وهو من بني عدي بن حنيفة. وهو مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحرث بن عبد الحرث بن عدي. وأخبار مسيلمة في الردة معروفة وسيأتي الخبر عنها. وأما بنو عجل بن لجيم بن صعب، وهم الذين هزموا الفرس بمؤتة يوم ذي قار كما
خريطة
مر، فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة، وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر، وكان منهم بنو أبي دلف العجلي. كانت لهم دولة بعراق العجم يأتي ذكرها.
وأما عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فمنهم تيم الله وقيس ابنا ثعلبة بن عكابة وشيبان بن ذهل بن ثعلبة، بطون ثلاثة عظيمة، وأوسعها وأكثرها شعوبا بنو شيبان. وكانت لهم كثرة في صدر الإسلام شرقي دجلة في جهات الموصل. وأكثر أئمة الخوارج في ربيعة منهم، وسيدهم في الجاهلية مرة بن ذهل بن شيبان، كان له أولاد عشرة نسلوا عشرة قبائل أشهرهم همام وجساس وسادهما بعد أبيه. وقال ابن حزم: تفرع من همام ثمانية وعشرون بطنا. وأما جساس فقتل كليبا زوج أخته، وهو سيد تغلب، حين قتل ناقة البسوس جارته. وأقام ابن كليب عند بني شيبان إلى أن كبر وعقل أن جاساً خاله هو الذي قتل أباه قتله، ورجع إلى تغلب. فمن ولد جساس بنو الشيخ، كانت لهم رياسة بآمد، وانتقطعت على يد المعتضد. ومن بني شيبان هانىء بن مسعود الذي منع حلقة النعمان من أبرويز لما كانت وديعة عنده. وكان سبب ذلك يوم ذي قار. وهو هانىء بن مسعود بن عامر بن أبى ربيعة بن ذهل بن شيبان. ومنهم الضحاك بن قيس الخارجي الذي بويع أيام مروان بن محمد على مذهب الصفرية، وملك الكوفة وغيرها، وبايعه بالخلافة جماعة من بني أمية. منهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز. وقتله آخرا مروان بن محمد، وهو الضحاك بن قيس بن الحصين بن عبد الله بن ثعلبة بن زيد مناة بن أبي عمرو بن عوف بن ربيعة بن محلم بن ذهل بن شيبان، وسيأتي الإلمام بخبره. ومنهم المثنى بن حارثة الذي فتح سواد العراق أيام أبي بكر، وعمر وأخوه المعنى بن حارثة. منهم عمران بن حظان من أعلام الخوارج وهذا انقضاء الكلام في ربيعة بن نزار والله المعين.
مضر بن نزار
وأما مضر بن نزار وكانوا أهل الكثرة والغلب بالحجاز من سائر بني عدنان، وكانت لهم رياسة بمكة فيجمعهم فخذان عظيمان وهما خندق وقيس، لأنه كان له من الولد اثنان الياس وقيس، عيلان عبد حضنة قيس فنسب إليه، وقيل هو فرس. وقد قيل أن
عيلان هو ابن مضر واسمه الياس، وأن له ابنين قيس ودهم وليس ذلك بصحيح. وكان لالياس ثلاثة من الولد مدركة وطابخة وقمعة لأمرأة من قضاعة تسمى خندف فانتسب بنو الياس كلهم إليها. وانقسمت مضر إلى خندف وقيس عيلان. فأما قيس فتشعبت إلى ثلاث بطون من كعب وعمرو وسعد بنيه الثلاثة. فمن عمرو بنو فهم وبنو عدوان ابني عمرو بن قيس، وعدوان بطن متسع وكانت منازلهم الطائف من أرض نجد، نزلها بعد إياد العمالقة، ثم غلبتهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة. وكان منهم عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان، حكم العرب في الجاهلية. وكان منهم أيضا أبو سيارة الذي يدفع بالناس في الموسم، وعميلة بن الاعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن رايش بن زيد بن عدوان. وبأفريفية لهذا العهد منهم أحياء بادية بالقفر يظعنون مع نجي سليم تارة ومع رياح بن هلال بن عامر أخرى. ومن بني فهم بن عمرو فجما ذكر البيهقي بنو طرود بن فهم، بطن متسع كانوا بأرض نجد، وكان منهم الأعشى، وليس منهم الآن بها أحد. وبأفريقية لهذا العهد حي يظعنون مع سليم ورياح. وانقضى الكلام في بني عمرو بن قيس. وأما سعد بن قيس فمنهم كنيئ وباهلة وغطفان ومرة. فأما كني فهم بنو عمرو بن أعصر بن سعد، وأما باهلة فمنهم بنو مالك اعصر بن سعد صاحب خراسان المشهور. ومنهم أيضا الأصمعي راوية العرب المشهور، وهو عبد الملك بن علي بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد غانم بن قتيبة بن معن بن مالك. وأما بنو غطفان بن سعد: فبطن عظيم متسع كثير الشعوب والبطون، ومنازلهم بنجد مما يلي وادي القرى وجبلي طيء. ثم افترقوا في الفتوحات الإسلامية واستولت عليها قبائل طيء، وليس منهم اليوم عمودة رجالة في قطر من الأقطار، إلا ما كان لفزارة ورواحة في جوار هيب ببلاد برقة وبنو غطفان بطون ثلاثة. منهم أشجع بن ريث بن غطفان، وعبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، وذبيان. فأما اشجع فكانوا عرب المدينة - يثرب-، وكان سيدهم معقل بن سنان من الصحابة، وكان منهم نعيم بن مسعود بن أنيف بن ثعلبة بن قند بن خلاوة بن سبيع بن أشجع الذي شتت جموع الأحزاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى آخرين مذكورين منهم وليس لهذا العهد منهم بنجد أحد إلا بقايا حوالي
المدينة البوية وبالمغرب الأقصى. مهم حى عظيم الآن يظعنون مع عرب المعقل جهات سجلماسة ووادي ملوية ولهم عدد وذكر. وأما بنو عبس فبيتهم في بني عدة بن لطيعة كان منهم الربيع بن زياد وزير النعمان، ثم إخوتهم بو الحرث بن لطيعة، كان منهم زهير بن جذيمة بى رواحة بن ربيعة بن آزر بن الحرث سيدهم، وكانت له ا على غطفان أجمع. وله بله ( . ثن أربعة منهم قيس ساد بعده على عبس، وابنه زهير هو صاحب حرب داحس والغبرا: فرسين كانت إحداها وهى داحس لقيس، والأخرى وهي الغبرا لحذيفة بن بدر سيد فزارة، فأجرياهما وتشاخا في الحكم بالسبق، فتشاجرا وتحاربا، وقتل قيس حذيفة، ودامت الحرب بين عبس وفزارة واخوة قيس بن زهر الحرث وشاس ومالك، وقتل مالك في تلك الحرب. وكان منهم الصحابي المشهور حذيفة بن اليماني بن خل بن جابر بن ربيعة بن جروة بن الحرث. بن قطيعة. ومن عبس بن جابر بنو غالب بن قطيعة. ثم عنترة بن معاوية بن شداد بن مراد بن مخزوم بن مالك بن غالب الفارس المشهور، وأحد الشعراء الستة في الجاهلية. وكان بعده هن أهل نسبه وقرابته الحطيئة الشاعر المشهور، واسمه جرول بن أوس بن جؤية بن مخزوم. وليس بنجد لهذا العهد أحد من بني عبس. وفي احياء زكبة من بني هلال لهذا العهد احياء ينتسبون إلى عبس، فما أدري من. عبس هؤلاء أم هو عبس آخر من زغبة نسبوا إليه. وأما ذبيان بن بغيض: فلهم بطون ثلاثة: مرة وثعلبة وفزارة. فأما فزارة فهم خمسة شعوب: عدى وسعد وشمخ ومازن وظالم. وفي بدر بن عدي كانت رياسستهم في الجاهلية، وكانوا يرأسون جميع غطفان. ومن قيس وإخوتهم بنو ثعلبة بن عدي، كان منهم حذيفة بن بدر بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة الذي راهن قيس بن زهير العبسي على جري داحس والغبرا، وكانت بسبب ذلك الحرب المعروفة. ومن ولده عيينة بن حصن بن حذيفة الذي قاد الأحزاب إلى المدينة، وأغار على المدينة لأول بيعة أبي بكر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه الأحمق المطاع. ومهم أيضاً الصحابي المشهور سمرة بن جندب بن هلال بن خديج بن مرة بن خرق بن عمرو بن جابر بن خشين ذي الرأسين بن لاي بن عصيم بن شمخ بن فزارة. ومن بنى سعد بن فزارة يزيد بن عمرو بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن بغيض بن
مالك بن سعد بن عدي بن فزارة، ولي العراقين هو وأبوه أيام يزيد بن عبد الملك ومروان بن محمد، وهو الذي قتله المنصور بعد أن عاهده. ومن بني مازن بن فزارة هرم بن قطبة ، أدرك الإسلام وأسلم، إلى آخرين يطول ذكرهم ولم يبق بنجد منهم أحد. وقال ابن سعيد: إن ابرق الحنان وأبانا من وادي القرى من معالم بلادهم، وأن جيرانهم من طيء مولدها لهذا العهد، وأن بأرض برقة منهم إلى طرابلس قبائل رواحة وهيب وفزان. قلت: وبأفريقية والمغرب، لهذا العهد أحياء كثيرة اختلطوا مع أهله، فمنهم مع المعقل بالمغرب الأقصى أحياء كثيرة لهم عدد وذكر بالمعقل إلى الإستظهار بهم حاجة. ومنهم مع بني سليم بن منصور لأفريقية طائفة أخرى أحلاف لأولاد أبي الليل، من شعوب بني سليم يستظهرون. بهم في مواقف حروبهم، ويولونهم، على ما يتولونه للسلطان من أمور باديتهم نيابة عنهم، شأن الوزراء في الدول. وكان من أشهرهم معن بن معاطن وزير حمزة بن عمر بن أبي الليل أمير الكعوب بعده حسبما نذكره في أخبارهم، وربط يزعم بنو مرين أمراء الزاب لهذا العهد أنهم منهم، وينتسبون إلى مازن بن فزارة، ولشى ذلك بصحيح. وهو نسب مصون يتقرب به إليهم بعض البدو من فزارة هؤلاء طمعاً فيما بأيديهم، لمكانهم من ولاية الزاب والإنفراد بجبايته، ومصانعة الناس بوفرها، فيلهجونهم بذلك ترفعاً على أهل نسبهم بالحقيقة من الأثابج كما يذكر لكونه تحت أيديهم ومن رعاياهم، وأما بنو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان فمنهم هرم بن سنان بن غيظ بن مرة وهو سيدهم في الجاهلية، الذي مدحه زهير بن أبي سلمى. ومنهم أيضاً الفاتك، وهو الحرث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ. فتك بخالد بن جعفر بن كلاب، وشرحبيل بن الأسود بن المنذر، وحصل ابن الحرث في يد النعمان بن المنذر فقتله. وشاعره في الجاهلية النابغة زياد بن عمرو الذبياني أحذ الشعراء الستة. ومنهم أيضا مسلم بن عقبة بن رياح بن سعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع، قائد يزيد بن معاوية، صاحب يوم الحرة على أهل المدينة، إلى آخرين يطول ذكرهم. وهذا آخر الكلام في بني غطفان، وبلادهم بنجد مما يلي وادي القرى. وبها من المعالم ابنى والحاجر والهباءة وأبرق الحنان. وتفرقوا على بلاد الإسلام في الفتوحات، ولم يبق لهم في تلك البلاد ذكر، ونزلت بها قبائل طيء. وبانقضاء ذكرهم انقض بنو سعد بن قيس.
وأما خصفة بن قيس: فتفرع منهم بطنان ظيمان، وهما بنو سليم بن منصور وهوازن بن منصور. ولهوازن بطون كثيرة يأتي ذكرها. ويلحق بهذين البطنين بنو مازن بن منصور، وعددهم قليل، وكان منهم عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نشيب بن وهب بن زيد بن مالك بن عبد عوف بن الحرث بن مازن الصحابي المشهور الذي بنى البصرة لعمر بن الخطاب، وإليه ينسب العتبيون الذين سادوا بخراسان. ويلحق أيضا بنو محارب بن خصفة. فأما بنو سليم فشعوبهم كثيرة، منهم بنو ذكوان بن رفاعة بن الحرث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم، وإخوتهم بنو عبس بن رفاعة الذين منهم عباس بن مرداس بن أبى عامر بن حارثة بن عبد عبس الصحابي المشهور الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم. ثم زاده حين غضب استقلالا لعطائه، وأنشد الأبيات المعروفة في السير. وكان أبوه مرداس تزوج الخنساء وولدت منه. ومن بني سليم أيضا بنو ثعلبة بن بهثة بن سليم. كان منهم عبيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي الأعور والي أفريقية، وجده أبو الأعور من قواد ماوية واسمه عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد بن قائف بن الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة، والرود بن خالد بن حذيفة بن عمرو بن خلف بن مازن بن مالك بن ثعلبة، وكان على بني سليم يوم الفتح. وعمرو بن عتبة بن منقذ بن عامر بن خالد، كان صديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية. وأسلم ثلاث أبو بكر وبلال فكان يقول كنت يومئذ ربع الإسلام. ومن بنى سليم أيضاً بنو علي بن مالك بن امرىء القيس بن بهثة، وبنو عصية بن خفاف بن امرىء القيس، وهما اللذان لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بئر معونة وقتلهم إياهم. ومن شعوب عصية الشريد واسمه عمرو بن يقظة بن عصية. وقال ابن سعيد. الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عصية الذين كانت منهم الخنساء، وأخواها صخر ومعاوية ابنا عمرو بن الحرث بن الشريد، والشريد بيت سليم في الجاهلية. قال ابن سعيد: كان عمرو بن الشريد يمسك بيده ابنيه صخراً ومعاوية في الموسم فيقول أنا أبو خيري مضر، ومن أنكر فليعتبر، فلا ينكر أحد. وابنته الخنساء الشاعرة، وقد تقدم ذكرها، وحضرت بأولادها حروب القادسية. وبنو الشريد لهذا العصر في جملة بني سليم في أفريقية ولهم شوكة وصولة، ومنهم إخوة عصية بن خفاف، الذين كانا منهم الخفاف كبير أهل الردة الذي أحرقه أبو بكر بالنار، واسمه إياس بن عبد الله بن
أليل بن سلمة بن عميرة.
ومن بني سليم أيضا. بنو بهز بن امرىء القيس بن بهثة، كان منهم الحجاج بن علاط بن خالد بى نديرة بن حبتر بن هلال بن عبد ظفر بن سعد بن عمرو بن تميم بن بهز الصحابي المشهور، وابنه نصر بن حجاج الذي نفاه عمر عن المدينة إلى آخرين من سليم يطول ذكرهم. قال ابن سعيد: ومن بني سليم بنو زغبة بن مالك بن بهثة كانوا بين الحرمين ثم انتقلوا إلى المغرب، فسكنوا بأفريقية في جوار إخوتهم بني ذياب بن مالك ثم صاروا في جوار بني كعب. ومن بني سليم بنو ذياب بن مالك، ومنازلهم ما بين قابس وبرقة، يجاورون مواطن يعهب. وبجهة المدينة خلق منهم يؤذون الحاج ويقطعون الطريق. وبنو سليمان بن ذياب في جهة فزان وودان، ورؤساء ذياب لهذا العهد الجواري ما بين طرابلس وقابس، وبيتهم بنو صابر والمحامد بنواحي فاس، وبيتهم في بني رصاب بن محمود وسيأتي ذكرهم. ومن بني سليم بنو عوف بن بهثة: ما بين قابس وبلد العناب من أفريقية وجرما، هم مرداس وعلاق فأما مرداس فرياستهم في بني جامع لهذا العهد، وأما علاق فكان رئيسهم الأول في دخولهم أفريقية رافع بن حماد، ومن أعقابه بنو كعب رؤساء سليم لهذا العهد بأفريقية. ومن بني سليم بنو يعهب بن بهثة إخوة بني عوف بن بهثة، وهم ما بين السدرة من برقة إلى العدوة الكبيرة. ثم الصغيرة من حدود الإسكندرية. فأول ما يلي الغرب منهم بنو أحمد، لهم أجدابية وجهاتها، وهم عدد يرهبهم الحاج ويرجعون إلى شماخ. وقبائل شماخ لها عدد وأسماء متمايزة، ولها العز في بيت لكونها جازت المحصب من بلاد برقة، مثل المرج وطلميثا ودرنا. وفي المشرق عن بنى أحمد إلى العقبة الكبيرة، وأما الصغيرة فسال ومحارب والرياسة في هذين القبيلتين لبني عزاز وهبيب بخلاف سائر سليم، لأنها استولت على إقليم طويل خربت مدنه، ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخها، وتحت أيديهم خلق من البرابرة واليهود زراعاً وتجارا. وأما رواحة وفزارة اللذين في بلاد هبيب فهم من غطفان، وهذا آخر الكلام في بني سليم بن منصور وكانت بلادهم في عالية نجد بالغرب وخيبر، ومنها حرة بني سليم، وحرة النار بين وادي القرى وتيما، وليس لهم الآن عدد ولا بقية في بلادهم، وبأفريقية منهم خلق عظيم كما يأتي ذكره في أخبارهم عند ذكر الطبقة الرابعة من العرب.
وأما هوازن بن منصور: ففيهم بطون كثيرة جمعهم ثلاثة أجرام كلهم لبكر بن هوازن، وهم بنو سعد بن بكر، وبنو معاوية بن بكر، وبنو منبه بن بكر. فأما بنو سعد بن بكر وهم أظآر النبي صلى الله عليه وسلم، أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب بن عبد الله بن الحرث بن سحنة بن ناصرة بن عصية بن نصر بن أسعد، وبنوها عبد الله وأنيسة والشيما بنو الحرث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملاذ بن ناصرة. وحصلت الشيما في سبي هوزإن فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، وكان فيها أثر عضة عضها إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمله. فأما بنو منبه بن بكر فمنهم ثقيف، وهم بنو قسي بن منبه بطن عظيم متع، منهم بنو جهم بن ثقيف، كان منهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن حبيب بن الحرث بن مالك بن حطيط صاحب لوائهم يوم حنين، وتل يومئذ كافرا. وكان من ولده أمير الأندلس لسليمان بن عبد الملك وهو الحر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان. ومنهم بنو عوف بن ثقيف، ويعرفون بالأحلاف. فمنهم بنو سعد بن عوف، كان منهم عتبان بن مالك بن كعب بن عمرون بن سعد بن عوف الذي وضعته ثقيف رهينة عند أبي مكسورة، وأخوه معتب. كان من بنيه عروة بن مسعود بن معتب الذي بحثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه داعياً إلى الإسلام فقتلوه، وهو أحد عظيمي القريتين ومن بنيه أيضاً الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب، صاحب العراقين لعبد الملك وابنه الوليد. ومنهم يوسف بن عمر بن محمد بن عبد الحكم والي العراقين لهشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، وكثير من قومه كانوا ولاة بالعراق والشام واليمن ومكة. ومن بني معتب أيضاً غيلان بن مسلمة بن معتب، كانت له وفاة ة على كسرى. ومنهم بنو غبرة بن عوف، الذين منهم الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف. والحرث بن كلدة بن عمرو بن علاج طبب العرب، وأبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن غيرة الصحابي المقتول لوم الجسر، من أيام القادسية، وابنه المختار بن أبي عبيد الذي ادعى النبوة بالكوفة، وكان عاملا عليها لعبد الله بن الزببر، فانتقض عليه ودعا لمحمد بن الحنفية، ثم ادعى النبوة.
ومنهم أبو محجن بن حبيب بى عمرو بن عمير في آخرين يطول ذكرهم. ومواطن ثقيف كانت بالطائف، وهي مدينة من أرض نجد قريبا من مكة. ثم جلس في شرقيها وشمالها وهي على قبة الجبل، كانت تسمى واج وبوج. وكانت في الجاهلية للعمالقة، ثم نزلتها ثمود قبل وادي القرى. ومى ثم يقال أن ثقيفا كانت من بقايا ثمود، ويقال: أن الذي سكنها بعد العمالقة عدوان، وغلبهم عليها ثقيف، وهي الآن دارهم، كذا ذكره السهيلي. وبقال: أنهم موال لهوازن ، ويقال ألهم من إياد. ومن أعمال الطائف سوق عكاظ والعرج. وعكاظ حجر بين اليمن والحجاز، وكانت سوقها في الجاهلية يوما في السنة يقصدها العرس من الأقطار فكانت لهم موسما. وأما بنو معاوية بن بكر بن هوازن ففيها بطون كثيرة: منهم بنو نصر بن معاوية الذين منهم مالك بن سعد بن عوف بن سعد بن ربيعة بن يربوع بن وأثلة بن دهمان بن نصر، قائد المشركين يوم حنين، وأسلم وحسن إسلامه. ومنهم بنو جشم بن معاوية، ومن جشم غزية رهط بن دريد الصفة، ومواطنهم بالسروات وهي بلاد تفصل بين تهامة ونجد متصلة من اليمن إلى الشام، كسروات الجبل، وسروات جشم، متصلة بسروات هذيل. وانتقل معظمهم إلى الغرب، وهم الآن به كما يأتي ذكره في الطبقة الرابعة هن العرب، ولم يبق بالسروات منهم إلا من ليس له صولة. ومنهم بنو سلول، ومنهم بنو مرة لن صعصعة بن معاوية. وإنما عرفوا بأمهم سلول. وكانوا في الغرب كثيرا، وفي الغرب منهم كثير لهذا العهد. ومنهم فيما يزعم العرب بنو يزيد أهل وطن حمزة غربي بجاية وبعض أحياء بجيل عياض. كما نذكر منهم بنو عامر بن صعصعة بن معاوية جرم كبير من أجرام العرب، لهم بطون أربعة: نمير وربيعة وهلال وسوأة. فأما نمير بن عامر فهم إحدى جمرات العرب، وكانت لهم كثرة وعزة في الجاهلية والإسلام، ودخلوا إلى الجزيرة الفراتية وملكوا حرار وغيرها، واستلحمهم بنو العباس أيام المعتز فهلكوا ودثروا. وأما سوأة بن عامر فشعوبهم في رباب من سمرة بن سوأة، فمنهم جابر بن ثمرة بن جنادة بن جندب بن رباب الصحابي المشهور. ومن بطون رباب هؤلاء بأفريقية حي ينجعون مع رياح بن هلال ويعرفون بهذا النسب كما يأتي في أخبار هلال من الطبقة الرابعة. وأما هلال بن عامر فبطون كثيرة كانوا في الجاهلية بنجد، ثم ساروا إلى ديار المصرية في حروب القرامطة. ثم ساروا إلى أفريقية أجازهم الوزير البالي في خلافة المستنصر العبيدي لحرب المعز بن باديس. فملك عليه
ضواحى أفريقية، ثم زاحمهم بنو سليم فساروا إلى الغرب ما بين بونة وقسنطينة إلي البحر المحيط. وكان لهلال خمسة من الولد: شعبة وناشرة ونهيك وعبد مناف وعبد الله، وبطونهم كلها ترجع إلى هؤلاء الخمسة. فكان من بني عبد مناف زينب أم المؤمنين بنت خزيمة بن الحرث بن عبد الله بن عمرو بن عبد الله بن عبد مناف، وكان من بني عبد الله ميمونة أم المؤمنين بنت الحرث بن خزن بن بحير بن هرم بن رويبة بن عبد الله. قال ابن حزم: ومن بطون بني هلال بنو قرة وبنو نعجة الذين بين مصر وأفريقية، وبنو حرب الذين بالحجاز، وبنو رياح الذين أفسدوا أفريقية.
وقال ابن سعيد: وجيل بني هلال مشهور بالشام، وقد صار عربه حرائر، وفيه قلعة صرخد مشهورة. قال: وقبائلهم في العرب ترجع لهذا العهد إلى أثبج ورياح وزغبة وقارع. فأما الأثبج فمنهم سراح بجهة برقة وعياض بجبل القلعة المسمى لهم ولغيرهم. وأما رياح فبلادهم بنواحى قسنطينة والسلم والزاب. ومنهم عتبة بنواحي بجاية، ومنهم بالغرب الأقصى خلق كثير كما يأتي في أخبارهم. وأما زغبة فإنهم في بلاد زناتة خلق كثير. وأما قارع فإنهم في الغرب الأقصى مع المعقل وقرة وجشم.
وبنو قرة كانت منازلهم ببرقة، وكانت رياستهم أيام الحاكم العبيدي لما مضى ابن مقرب، ولما بايعوا لأبي ركوة من بني أمية بالأندلس، وقتله الحاكم، سلط عليهم العرب، والجيوش فأفنوهم. وانتقل جلهم إلى المغرب الأقصى، فهم مع جشم هنالك كما يأتي ذكره، ويأتي الكلام في نسب هلال وشعوبهم ومواطنهم بالمغرب الأوسط وأفريقية عند الكلام عليهم في الطبقة الرابعة. وأما بنو ربيعة بن عامر فبطون كثيرة وعامتها ترجع إلى ثلاثة من بنيه، وهم عامر وكلاب وكعب، وبلادهم بأرض نجد الموالية لتهامة بالمدينة وأرض الشام. ثم دخلوا إلى الشام وافترق منهم على ممالك الإسلام، فلم يبق منهم بنجد أحد.
فمن عامر بن ربيعة بنو التكما وهو ربيعة بن عامر بن ربيعة الذي اشترك ابنه حندج مع خالد بن جعفر بن كلاب في قتل زهير بن جذيمة العبسي، وبنو ذي السهمين معاوية بن عامر بن ربيعة، وهو ذو الحجر عوف بن عامر بن ربيعة، وبنو فارس الضحيا عمرو لمن عامر بن ربيعة، منهم خداش بن زهير بن عمرو هن فرسان الجاهلية وشعرائها، وأما بنو كلاب بن ربيعة فمنهم بنو الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، وبنو ربيعة
المجنون بن عبد الله بن أبى بكر بن كلاب وبنو عمرو بن كلاب. قال ابن حزم: يقال إن منهم بني صالح بن مرداس أمراء حلب. ومن بني كلاب بنو رواس واسمه الحرث بن كلاب، وبنو الضباب واسمه معاوية بن كلاب الذين منهم شهر بن ذي الجوش بن الأعور بن معاوية قاتل الحسين بن علي. ومن عقبه كان الصهيل بى حاتم بن شمر، وزير عد الرحمن بن يوسف الفهري بالأندلس. وبنو جعفر بن كلاب الذين منهم عامر، بن الطفيل بن مالك بن جعفر، وعمه أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة وربيعة بن مالك وتبع المعتبرين، وأبوه لبيد بن ربيعة شاعر معروف مشهور. وكانت بلاد بني كلاب حمى ضرية والربذة في جهات المدينة وفدك والعوالي. وحمى ضرية هي حمى كليب وائل نباته النضر تسمن عليه الخيل والإبل. وحمى الربذة هو الذي أخرج عليه عثمان أبا ذر رضي الله عنهما. ثم انتقل بنو كلاب إلى الشام فكان لهم في الجزيرة الفراتية صيت وملك، وملكوا حلب وكثيرا من مدن الشام. تولى ذلك منهم بنو صالح بن مرادس، ثم ضعفوا فهم الآن تحت خفارة العرب المشهورين بالشام، وهنالك بالإمارة من طيء. قال ابن سعيد: وجمان لهم في الإسلام دولة باليمامة. ومن بني كعب بن ربيعة بطون كثيرة منهم الحريش بن كعب، بطن كان منهم مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن وقدان بن الحريش الصحابي المشهور. ويقال: إن منهم ليلى التي شبب بها قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة الشاعر، مادح النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو لن ربيعة بن جعدة، الذي كلب على ناب فارس أيام الزبير، وعم أمه زياد بن الأشهب الذي وفد على علي ليصلح بينه وبين معاوية، ومالك بن عبد الله بن جعدة الذي أجار قيس بن زهير العبسي. وبنو قشير بن كعب منهم مرة بن هبيرة بن عامر بن مسلمة الخير بن قشير، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فولاه صدقات قومه. وكلثوم بن عياض بن رصوح بن الأعور بن قشير الذي ولي أفريقية. وابن أخيه بلخ بن بشر. ومن بني قشير بخراسان أعيان. منهم أبو القاسم القشيري. صاحب الرسالة، ومنهم عريسة الأندلس بنو رشيق ملكها منهم عبد الرحمن بن رشيق، وأخرج منها ابن عمارة. ومنهم الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة، وشو العجلان بن
خريطة
عبد الله بن كعب، وشاعرهم تميم بن مقبل. وبنو عقيل بن كعب وهم بطون كثيرة منهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل. ومن أعقاب بني المنتفق هؤلاء العرب المعروفون في الغرب بالخلط. قال علي بن عبد العزيز الجرجاني: الخلط بنو عوف وبنو معاوية ابنا المنتفق بن عامر بن عقيل انتهى.
قال ابن سعيد ة ومنازل المنتفق الآجام التي بين البصرة والكوفة، والإمارة منهم في
بني معروف. قلت والخلط لهذا العهد في أعداد جشم بالمغرب ومن بني عقيل بن كعب بنو عبادة بن عقيل منهم الأخيل واسمه كعب بن الرحال بن معاوية بن عبادة، ومن عقبه ليلى الأخيلة بنت حذيفة بن سداد بن الأخيل.
وذكر ابن قتيبة أن قيس بن الملوح المجنون منهم، وبنو عبادة هؤلاء لهذا العهد
فيما قال ابن سعيد بالجزيرة الفراتية فيما يلي العراق. ولهم عدد وذكر وغلب منهم على الموصل وحلب في أواسط المائة الخامسة قريش بن بدران بن مقيد فملكها هو وابنه مسلم بن قريش من بعده، وشممى شرف الدولة. وتوالى الملك في عقب مسلم بن قريش منهم إلى أن انقرضوا.
قال ابن صعيد: ومنهم لهذا العهد بقية بين الحازر والزاب، يقال لهم عرب شرف
الدولة . ولهم إحسان من صاحب الموصل، وهم في تجمل وعز إلا ان عددهم قليل نحو مائة فارس. ومن بني عقيل بن كعب خفاجة بن عمرو بن عقيل، وانتقلوا في قرب من هذه العصور إلى العراق والجزيرة، ولهم ببادية العراق دولة. ومن بني عامر بن عقيل بن عامر بن عوف بن مالك بن عوف، وهم إخوة بني المنتفق وهم ساكنون بجهات البصرة، وقد ملكوا البحرين بعد بني أبي الحسن ملكوها من تغلب.
قال ابن سعيد: وملكوا أرض اليمامة من بني كلاب، وكان ملكهم لعهد الخمسين
من المائة السابعة عصفور وبنوه، وقد انقضى الكلام في بطون قيس عيلان. والله المعين لا رب غيره ولا خير إلا خيره، وهو نعم المولى ونعم النصير، وهو حسبي ونعم الوكيل، واسأله الستر الجميل آمين.
بطون خندف
وأما بطون خندف بن الياس بن نصر: ولد الياس مدركة وطابخة وقمعة، وأمهم امرأة من
قضاعة اسمها خندف، فانتسب ولد الياس كلهم إليها. فمن بطون قمعة اسلم وخزاعة. فأسلم بنو أفصى بن عامر بن قمعة، وخزاعة بن عمرو بن عامر بن لحي، وهو ربيعة بن عامر بن قمعة، واسمه حارثة. وعمرو بن لحي هو أول من غير دين إسماعيل وعبد الأوثان، وأمر العرب بعبادتها. وفيه قالصلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار يعني أحشاءه. ومواطنهم بأنحاء مكة في مر الظهران وما يليه، وكانوا حلفاء لقريش. ودخلوا عام الحديبية فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فغزا قريشاً وغلبهم على أمرهم وافتتح مكة، وكان عام الفتح. وقد يقال: إن خزاعة هؤلاء من غسان، وأنهم بنو حارثة بن عمرو مزيقيا، وأنهم أقاموا بمر الظهران حين سارت غسان إلى الشام، وتخزعوا عنهم فسموا خزاعة، وليس ذلك بصحيح كما ذكر. وكانت لخزاعة ولاية البيت قبل قريش في بني كعب بن عمرو بن لحي، وانتهت إلى حليل بن حبشية بن سلول، وهو الذي أوصى بها لقصي بن كلاب حين زوجه ابنته حبى بنت حليل. ويقال: إن أبا غبشان بن حليل، واسمه المحترش، باع الكعبة من قصي بزق خمر، وفيه جرى المثل المعروف. يقال: أحسر صفقة من أبي غبشان. ومن ولد حليل بن حبشية كان كرز بن علقمة بن هلال بن حريبة بن عبد فهم بن حليل الذى قفا أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى الغار، ورأى عليه نسج العنكبوت، وعش اليمامة ببيضها فرخوا عنه. ولخزاعة هؤلاء بطون كثيرة: منهم بنو المصطلق بن سعد بن عمرو بن لحي، وبموكب بن عمرو. ومنهم عمران بن الحصين صحابى، وسليمان بن صرد ، أمير التوابين القائمين بثار الحسين، ومالك بن الهيثم كلت نقباء بني العباس، وبنو عدي بن عمرو. ومنهم جويرية بنت الحارث أم المؤمن، وبنو مليح بن عمرو. ومنهم طلحة الطلحات وكثير الشاعر صاحب عزه، وهو ابن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سبيع بن خثعمة بن سعد بن مليح. وبنو عوف بن عمرو، ومنهم العباد أهل الحيرة، وهم بنو جهينة بن عوف. ومن إخوة خزاعة بنو أسلم بن أفصى بن عامر بن قمعة، وبنو مالك بن أفصى، وماثان بن أفصى. فمن أسلم لطمة بن الأكوع الصحابي ودعبل وبنو الشيص الشاعران، ومحمد بن الأشعث قائد شي العباس. ومنهم مالك بن سليمان بن كثير من دعاة بني العباس قتله أبو مسلم.
وأما طابخة فلهم بطون كثيرة أشهرها ضبة والرباب ومزينة وتميم وبطون صغار إخوة لتميم، منهم صوفة ومحارب. قاما بنو تميم بن مر فهم بنو تميم بن مر بن أد بن طابخة. وكانت منازلهم بأرض نجد، دائرة من هنالك على البصرة واليمامة، وانتشرت إلى العذيب من أرض الكوفة، وقد تفرقوا لهذا العهد في الحواضر، ولم تبق منهم باقية. وورث منازلهم الحيان العظيمان بالمشرق لهذا العهد غزية من طيء وخفاجة من بني عقيل بن كعب. ولميم بطون كثيرة منهم الحارث بن تميم، وفيهم ينسب المسيب بن شريك الفقيه وهم قليل. وبنو العنبر الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وزفر الفقيه بن ذهيل بن قيس بن مسلم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذويا بن جذيمة بن عمرو بن جيجور بن جندب بن العنبر صاحب أبي حنيفه، والناسك الفاضل عامر بن عبد قيس بن ثابت بن بشامة بن حذيفة بن معاوية بن الجون بن كعب بن جندب، وربيعة بن رفيع بن سلمة بن محلم بن صلاة بن عبدة بن عدي بن جندب. وبنو الهجيج بن عمرو بن تميم، وبنو أسيد بن عمير. وكان منهم أبو هالة هند بن زرارة بن النباش بن عدي بن نمير بن أسيد الصحابي المشهور. وحنضلة بن الربيع بن صيفي بن رياح بن الحرث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد، كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم والحليم المشهور أكثم بن صيفي بن رياح، ويحيى بن أكثم قاضي المأمون من ولد صيفي بن رياح. وبنو مالك بن عمرو بن تميم منهم النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عبدة بن زهير بن عروة بن جميل بن حجر بن خزاعي بن مازن بن مالك النحوي المحدث. وسلم بن أخوز بن اربد بن مخزر بن لاي بن مهل بن ضباب بن حجبة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك صاحب الشرطة لنصر بن سيار، وقاتل يحيى بن زيد بن زين العابدين، وإخوة هلال بن أخوز قاتل آل المهلب، وقطري بن الفجاءة. واسم الفجاءة جعونة بن يزيد بن زياد بن جنز بن كابية بن حرقوص الخارجي الأزرقي سلم عليه بالخلافة عشرين سنة. ومالك بن الريب بى جوط بن قرط بن حسيل بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص، صاحب القصيدة المشهورة نعى بها نفسه، وبعث بها إلى قومه وهو في خراسان في بعث عثمان بن عفان وأولها: دعاني الهوى من أهل وذي ورفقتي بذي الشيطين فالتفت ورائيا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا وبنو عمرو بن العلاء بن عمار بن عدنان بن عبيد الله بن الحصى بن الحرث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك. وبنو الحرث بن عمرو بن تميم، وهم الحبطات. منهم عباد بن الحصين بن يزيد بن أوس بن سيف بن عدم بن جبلدة بن قيار بن سعد بن الحرث، وهو الملقب بالحبط لعظم بطنه. وبنو امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم وكان منهم زيد بن عدي بن زيد بن أيوب بن مخوف بن عامر بن عطية بن امرىء القيس صاحب النعمان بن المنذر بالحيرة، الذي سعى له إلى كسرى حتى قتله. ومقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب بن مخوف صاحب فصر بني مقاتل بن منصور بالحيرة. ولاهز بن قريط بن سري بن الكاهن بن زيد بن عصية من دعاة بني العباس الذي قتله أبو مسلم لنذارته لنصر بن سيار. وبنو سعد بن زيد مناة بن تميم منهم الأبناء، كان منهم رؤبة بن العجاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كنيف بن عمير بن حي بن ربيعة بن سعد بن مالك بن سعد. وعبدة بن الطيب الشاعر، وبنو منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة. كان منهم قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه وكان من ولده مية صاحبة ذي الرمة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم. ومن بني منقر عمرو بن الأهتم صحابي، وبنو مرة بن عبيد بن مقاعس. منهم الأحنف بن قيس بن معاوية بر حصين بن حفص بن عاده بن النزال بن مرة وأبو بكر الأبهري المالكي، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح بن عمرو بن حفص بن عمرو بن مصعب بن الزبير بن سعد بن كعب بن عبادة بن النزال. وبنو صريم بن مقاعس، منهم عبد الله بن أباض رئيس الأباضية من الخوارج. وعبد الله بن صفار رئيس الصفرية. والبرك بن عبد الله الذي اشترط بقحل معاوية وضربه فجرحه. وبنو عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة منهم ثم من بني بهدلة بن عوف الزبرقان ، واسمه الحصين بن بدر بن امرىء القيس بن خلف بن بهدلة وأوشى ابن أخيه حنظلة الذى أسر هوذة بن علي الحنفي. ومن بني عطارد بن عوف كرب بن صفوان بن شحمة بن عطارد الذي كان يجيز بأهل الموسم في الجاهلية. ومن بني قريع بن عوف بن كعب جعفر الملقب أنف الناقة، وكان ولده يغضبون منها إلى أن مدحهم الحطيئة بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الناقة الذنبا وبنو الحرث الأعرج لن كعب بن سعد بن زيد مناة، كان منهم زهرة بن جؤية بن عبد الله بن قتادة بن مرثد بن معاوية بن قطن بن مالك بن أرتم بن جشم بن الحرث الذي أبلى في القادسية، وقتله الجالنوس أمير الفرس، وقتله هو بعد ذلك أصحاب. شبيب الخارجي مع عتاب بن ورقاء. وبنو مالك بن سعد بن زيد مناة، كان منهم الأغلب بن سالم بن عقال بن خفافة بن عبادة بن عبد الله بن محرث بن سعد بن حرام بن سعد بن مالك أبو الولاة بأفريقية لبني العباس. وبنو ربيعة بن مالك بن زيد مناة كان منهم عروة بن جرير بن عامر بن عبد بن كعب بن ربيعة أول خارجي قال: لا حكم إلإ لله يوم صفين.. ويعرف بأن أباه نسبه إلى أمه. ومن بني حنظلة بن مالك البراجم ، وهم بنو عمرو. والظلم وغالب وكلبة وقيس كلهم بنو حنظلة. كان منهم ضابىء بن الحرث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن جندال بن قيس. وابن عمير بن ضابىء الذي قتله الحجاج. وبنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وبنو الحرث بن يربوع منهم الزبير بن الماحور أمير الخوارج، وأخوه عثمان وعلي، وهم بنو بشير بن يزيد. الملقب بالماحور بن الحارث بن ساحق بن الحرث بن سليط بن يربوع، وكلهم أمراء الأزارقة. وبنو كليب بن يربوع كان منهم جرير الشاعر ابن عطية بن الخطفي، وهو حذيفة بن بدر بن مسلم بن عوف بن كليب. وبنو العنبر بن يربوع منهم كانت سجاح المتنبئة بنت أويس بن جوين بن سامة بن عنبر. وبنو رياح كان منهم شبث بن ربعي بن حصين بن عميم بن ربيعة بن زيد بن رياح. كان منهم رياح أسلم ثم سار مع الخوارج، ثم رجع عنهم تائباً. ومعقل بن قيس، أوفده عمار بن ياسر على أيام عمر بفتح تستر. وعتاب بن ورقاء بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح أمير أصبهان، وقتله شبيب الخارجي. وبنو طهية بن حالك وهم بنو أبي سود وعوف ابني مالك. وبنو دارم بن مالك بن حنظلة، كان منهم ثم من بني نهشل بن دارم بن حازم بن خزيمة بن عبد الله بن حنظلة نضلة بن حدثان بن مطلق بن أصحر بن نهشل صاحب الشرطة لبني العباس. ومن بني مجاشع بن دارم الاقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، والفرزدق بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال، والحتات بن يزيد بن علقمة الذي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان. ومن بني عبد الله بن دارم المنذر بن
ساوى بن عبد الله بن زيد بن عبد مناة بن دارم صاحب هجر. ومن بني غرس بن زيد بن دارم حاجب بن زرارة غرس وابنه عطارد وبنوهم. كان فيهم رؤساء وأمراء وانقضى الكلام في تميم. وأما بنو مزينة وهم بنو مر بن أد بن طابخة بن الياس، واسم ولده عثمان وأوس وأمهما مزينة فسمي جميع ولدهما بها. فكان منهم زهير بن أبي سلمى وهو ربيعة ابن أبي رياح بن قرة بن الحرث بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن لاظم بن عثمان، أحد الشعراء الستة. وابناه بجبر وكعب الذي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنعمان بن مقرن بن عامر بن صبح بن هجيم بن نصر بن حبشية بن كعب بن عفراء بن ثور بن هرمة. وأخوه سويد الذي قمل يوم نهاوند. ومعقل بن يسار بن عبد الله بن معير بن حراق بن لأبي بن كعب بن عبد ثور الصحابي المشهور. وأما الرباب وهم بنو عبد مناة بن أد بن طابخة، فمن بنيه تميم وعدي وعوف وثور، وسموا الرباب لأنه غمسوا في الرب أيديهم في حلف على بني ضبة. وبلادهم جوار بني تميم بالدهنا ، وفي أشعارهم ذكر حزوى وعالج من معالهما ، وتفرقوا لهذا العهد ولم يبق منهم أحد هنالك. وكان من بي تميم بن عد مناة المستورد بن علقمة بن الفريس بن صبارى بن نشبة بن ربيع بن عمرو بن عبد الله بن لؤي بن عمرو بن الحرث بن تميم الخارجي، قتله معقل بن قيس الرياحي في إمارة المغيرة بن شعبة. وابن باخمة ورد بن مجالد بن علقمة، حضر مع عبد الرحمن بن ملجم في قتل علي وقتل قطام بنت بحنة بن عدي بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تميم التي تزوجها عبد الرحمن بن ملجم ومهرها قتل علي فيما قيل حيث يقول: ثلاثة آلاف وعبد وقينة وضرب على بالحسام المصمم وكانت خارجية وقتل أبوها شحمة وعمها الأخضر يوم النهروان. ومن بغي عدي بن عبد مناة ذي الرمة الشاعر. وهو غيلان بن عقبة بن بهس بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان بن عدي. ومن بني ثور بن عبد مناة ويسمى أطمل سفيان الثوري، وهو سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن منقر بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور، وأخواه عمرو والمبارك والربيع بن خثيم الفقيه.
وأما ضبة فهم بنو ضبة بن أد، وكانت ديارهم جوار بني تميم اخوتهم بالناحية الشمالية التهامية من نجد ثم انتقلوا في الإسلام إلى العراق بجهة النعمانية وبها قتلوا المثنى الشاعر. فمنهم ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن أسعد بن ضبة سيد بني ضبة في الجاهلية. وبقيت سيادتهم في بنيه. وكان له ثمانية عشر ولداً ذكراً شهدوا معه يوم القويتين، وابنه حصين كان مع عائشة يوم الحمل. ومن ولده القاضي أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان بن المنذر بن ضرار بن عنبسة بن إسحق بن شمر بن عبس بن عنبسة بن شعبة بن المختبر بن عامر بن العباب بن حسل بن بجالة المذكور في قواد بني العباس، ولي مصر أيام المتوكل. ويقال إن الديلم من بني باسل بن ضبة بن أد والله أعلم. وأما صوفة: فهم بو الغوث بن مر بن أد، كانوا يجيزون بالحاج في الموسم، لا يجوز أحد حتى يجوزوا، ثم انقرم ا عنضوا عن آخرهم في الجاهلية. وورث ذلك آل صفوان بن شحمه من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وقدر ذلك وانقضى بنو طابخة بن الياس. وأما مدركة بن الياس: فهم بطون كثيرة أعظمها هذيل والقارة وأسد وكنانة وقريش. فأما هذيل فهم بنو هذيل بن مدركة، وديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف . ولهم أماكن ومياه في أسفلها من جهات نجد وتهامة بين مكة والمدينة، ومنها الرجيع وبئر معونة، وهم بطنان سعد بن هذيل ولحيان بن هذيل. فمن بني سعد بر هذيل أبو بكر الشاعر، والحطيئة فيما يقال، وعبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ فار بن مخزوم بن صاهلة بن الحارث بن تميم بن سعد الصحابي المشهور، وأخواه عتبة وعميس، وبنوه عبد الرحمن وعتبة والمسعودي المؤرخ ابن عتبة، وهو علي بن الحسين بن علي بن عبد الله بن زيد بن عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. ومن عتبة أخوه عتبة بن عبد الله بن زيد بن عتبة فقيه المدينة، وقد افترقوا في الإسلام على الممالك، ولم يبق لهم حي يطرف. وبأفريقية منهم قبيلة بنواحي باجة يعسكرون مع جند السلطان ويؤذون المغرم. وأما بنو أسد فمنهم بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بطن كبير متسع ذو بطون، وبلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد وفي مجاورة طيء. ويقال ة إن بلاد طيء كانت
لبني أسد. فلما خرجوا من اليمن غلبوهم على أجا وسلمى، وجاءوا واصطلحوا وتجاوروا لبني أسد والتغلبية وواقصة وغاضرة. ولهم من المنازل المسماة في الأشعار غاضرة والنعف. وقد تفرقوا من بلاد الحجاز على الأقطار، ولم يبق لهم حي، وبلادهم الآن فيما ذكر ابن سعيد لطيء وبني عقيل الأمراء كانوا بأرض العراق والجزيرة، وكانوا في الدولة السلجوقية تجد عظم أمرهم، وملكوا الحلة وجهاتها، وكان بها منهم الملوك بنو مرين الذين ألف الهباري بهم أرجوزته المعروفة به في السياسة. ثم اضمحل ملكهم بعد ذلك، وورث بلادهم بالعراق خفاجة. وكانت بنو أسد بطوناً كثيرة، كان منها بنو كاهل قاتل حجر بن عمرو الملك والد امرىء القيس، وبنو غنم بن دودان بن أسد: منهم عبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم الذي أسلم ثم تنصر ومات نصرانياً ، وأخته زينب أم المؤمنين رضي الله عنها. وعكاشة بن محصن بن حدثان بن قيس بن مرة بن كثير الصحابي المشهور. وبنو ثعلبة بن دودان بن أسد، منهم الكميت الشاعر ابن زيد بن الأخنس بن ربيعة بن امرىء القيس بن الحرث بن عمرو بن مالك بن سعد بن ثعلبة، وضرار بن الأزور ، وهو مالك بن أويس بن خزيمة بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة الصحابى، قاتل مالك بن نويرة والحضرمي بن عامر بن مجمع بن موالة بن همام بن صحب بن القيس بن مالك، وأفدهم على النبىصلى الله عليه وسلم. وبنو عمرو بن قعيد بن الحارث بن ثعلبة بن دودان: منهم الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو بن قعيد، الذي سعى عند قيصر في هلاك امرىء القيس، وطليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمرو، الذي كان كاهناً وادعى النبوة ثم أسلم. وفي بني أسد بطون يطول ذكرها. وأما القارة وعكل دفهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة بن الياس إخوة بني أسد، وكانوا حلفاء لبني زهرة من قريش. وأما كنانة فهم كنانة بن خزيمة بن مدركة إخوة بني أسد، وديارهم بجهات مكة، وفيهم بطون كثيرة وأشرفها قريش، وهم بنو النضر بن كنانة، وسيأتي ذكرهم. ثم بنو عبد مناة بن كنانة، وبنو مالك بن كنانة. فمن بني عبد مناة بنو بكر، وبنو مرة وبنو الحارث وبنو عامر. فمن شي بكر بنو ليث بن بكر، منهم بنو الملوح بن يعمر وهو الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث. ومنهم الصعب بن جثامة بن كيس بن الشداخ الصحابى
المشهور، والشاعر عروة بن أدينة بن يحى بن مالك بن الحرث بن عبد الله بن الشداخ. ومنهم بنو شجع بن عامر بن ليث بن بكر، ومنهم أبو واقد الليثي الصحابي، وهو الحرث بن عوف بن أسيد بن جابر بن عديدة بن عبد مناة بن شجع وبنو سعد بن ليث بن بكر، منهم أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جابر بن خميس بن عدي بن سعد، آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم. مات سنة سبع ومائة. وواثلة بن الأسقع بن عبد العزى بن عبد يا ليل بن ناشب بن عبدة بن سعد الصحابي المشهور. وبنو جذع بن بكر بن ليث بن بكر: منهم أمير خراسان نصر بن سيار بن رافع بن عدي بن ربيعة بن عامر بن عوف بن جندع. ورافع بن الليث بن نصر القائم بسمرقند أيام الرشيد بدعوة بني أمية. ثم استأمن إلى المأمون. ومن بني عبد مناف بنو عريج بن بكر بن عبد مناف، وبنو الديل بن بكرة منهم الأسود بن رزق بن يعمر بن نافثة بن عدي بن الديل الذي كان بسببه فتح مكة. وسارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر بن محية بن عبد بن عدي بن الديل الذي ناداه عفر فيما اشتهر من المدينة وهو بالعراق يقاتل. وأبو الأسود واضع النحو، وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن جندب بن يعمر بن حليس بن نافثة بن عدي. وبنو ضمرة بن بكر منهم عامرة بن مخشى بن خويلد بن عبد بن نهم بن يعمر بن عوف بن جرى بن ضمرة الذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه. وعمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله بن إياس بن عتيد بن ناثرة بن كعب بن جري الصحابي، والبراض بن قيس بن رافع بن قيس بن جري الفاتك قاتل عروة الرحال ببن عتبة بن جعفر بن كلاب وكان بسببها حرب الفجار. ومن ضمرة غفار بن مليل بن ضمرة، بطن كان منهم أبو ذز الغفاري الصحابي، وهو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وصاحبه كثير الشاعر الذي تشبب بعزة، بت جيل بنت بن إياس بن عبد العزى بن حاجب، كافر بن غفار. ومنهم كلثوم بن الحصين بن خالد بن معيسير بن بدر بن خميس بن كفار. واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوة الفتح. وبنو مدلج بن مرة بن عبد مناة: منهم سراقة بن مالك بن جعشم بن عالك بن عمرو بن مالك بن تيم بن مدلج الذي اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجعالة قريش ليرده، فظهرت فيه الآية وصرفه الله تعالى عنه. ومجزز المدلجي الذي سر النبي صلى الله عليه وسلم يقيافته في أسامة وزيد وهو مجزز بن الأعور بن جعد بن معاذ بن عتوارة بن
خريطة
عمرو بن مدلج.
وبنو عامر بن عبد مناة منهم بنو مساحق بن الأفرم بن جذيمة بن عامر الذين قتلهم
خالد بن الوليد بالغميصا ووداهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر فعل خالد. وبنو الحارث بن عبد مناة منهم الحليس بن علقمة بن عمرو بن الأوقح بن عامر بن جذيمة بن عوف بن الحرث الذي عقد عف الأحابيش مح قريش، وأخوه تيم الذي عقد حلف القارة معهم. وبنو فراس بن مالك بن كنانة: منهم فارس العرب ربيعة بن المكدم بن عامر بن خويلد بن جذيمة بن علقمة بن جذل الطعان بن فارس.
وبنو عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة: منهم نسأة المشهور في الجاهلية. قام الإسلام فيهم على جنادة بن أمية بن عوف بن قلع بن جذيمة بن فقيم بن علي بن عامر. وكل من صارت إليه هذه المرتبة كان يسمى القلمس وأول من نسأ الشهور سمير بن ثعلبة بن الحارث وكان منهم الرماحس بن عبد العزيز بن الرماحس بن الرسارس بن واقد بن وهب بن هاجر بن عز بن وائلة بن الفاكه بن عمرو بن الحرث، ولاه عبد الرحمن الداخل حين جاء إلى الأندلس على الجزيرة وشذونة، وامتنع بها ثم زحف إليه، ففر إلى العدوة وبها مات. وكان له بالأندلس عقب، ولهم في الدولة الأموية ذكر وولايات. كان منها على الأساطيل فكان لهم فيها غناء. وكانوا يغزون سواحل العبيديين بأفريقية فتعظم نكايتهم فيها. وهو وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا رب غيره ولا خير إلا خيره، ولا يرجى إلا إياه ولا معبود سواه، وهو نعم المولى ونم النصير، وأسأله الستر الجميل، ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً والله ولي التوفيق.
قريش
وأما قريش وهم ولد النضر بن كنانة بن فهر بن مالك بن النضر، والنضر هو الذي يسهى قريشاً. قل للتقرش وهو التجارة، وقيل تصغير قرش وهو الحوت الكبير المفترس دواب البحر. وأنما انتسبوا إلى فهر لأن عقب النضر منحصر فيه لم يعقب من بني النفر غيره. فهذا وجه القول بأن قريشاً من بني فهر بن مالك، أعني انحصار نسبهم
فيه. وأما الذي اسمه قريش فهو التضر، فولد فهر غالب والحارث ومحارب، فبنو محارب بن فهر من قريش الظواهر، منهم الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب صاحب مرج واهط ، قاتل فيه مروان بن الحكم حين بويع له بالخلافة وقتل. وضرار بن الخطاب بن مرداس بن كير بن عمرو آكل السقف بن حجب بن عمرو بن شيبان الفارس المشهور في الصحابة، وأبوه الخطاب بن مرداس سيد الظواهر في الجاهلية، وكان يأخذ المرباع منهبم، وحضر حروب الفجار، وابنه من فرسان الإسلام وشعرائه. وعبد الملك بن قيم بن نهشل بن عمرو بن عبد الله بن وهب بن سعد بن عمرو آكل السقف. شهد يوم الحرة وعاش حتى ولى الأندلس وصلبه أصحاب بلخ بن بشر القشيري. وكرز بن جابر بن حسل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان، قتل يوم الفتح وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسار بنو الحرث بن فهر من الظواهر. منهم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن وهب بن ضبة بن الحرث، من العشيرة وأمير المسلمين بالشام عند الفتح. وعقبة بن نافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ضرب بن الحرث فاتح أفريقية ومؤسس القيروان بها. ومن عقبه عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة والي أفريقية، أبوه حبيب بن عقبة هو قاتل عبد العزيز بن موسى بن نصير. ويوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة صاحب الأندلس، وعليه دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فقتله، ووليها هو وبنوه من بعده. وأما غالب بن فهر: وهو في عمود النسب الكريم، فولد تيم الأدرم وولدين، فبنو تميم الأدرم من الظواهر وهم بادية كان منهم ابن خطل الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح، فقتل وهو متعلق باستار الكعبة. وهو هلال بن عبد الله بن عبد مناة بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيم الأدرم. وأما لؤي بن غالب: في عمود النسب الكريم فولد كعباً وعامراً وبطونا أخرى يختلف في نسبها إلى لؤي خزيمة وسامة وسعد وجشم، وهو الحارث وعوف وهم من قريش الظواهر على أقل، فمنهم خزيمة بن لؤي، وبنو سامة بن لؤي. ويقال ليس بنو
سامة من قريش وهم بعمان. ويقال : إن منهم بني سامان ملوك ما وراء النهر. فأما بنو عامر بن لؤي فهم شقير حسل بن عامر ومعيص بن عامر، فمن بني معيص بشر بن أرطأة وهو عويمر عمران بن الحليس بن يسار بن نزار بن معيص بن عامر، وهو أحد قواد معاوية ومكرز بن حفص بى الأحنف بن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص، من سادات قريش الذي أجار أبا جندل بن سهيل، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمرو بن تيس بن زايدة بن جندب الأصم ابن هرم بن رواحة بن حجر بن عد معيص، وهو ابن خال خديجة، وأمه أم كلثوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم. ومن بني حسل: عامر بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب بن خزيمة بن مالك بن حسل بن عامر أمير المسلمين في فتح إفريقية أيام عثمان، وولي مصر وكان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى مكة، ثم جاء تائباً وحسنت حاله وقصته معروفة. وحويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، له صحبة. وعبد عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك صاحب الحديبية ، وأخوه السكران، وابنه أبو نجدل سهيل واسمه العاصي، وهو الذي جاء في قيوده يوم صلح الحديبية إلى النبىصلى الله عليه وسلم فرده وقصته معروفة. وزمعة بن قيس بن عبد شمس، وابنه عبد بن زمعة، ابنته سودة بنت زمعة أم المؤمنين، وكانت زوجة السكران ابن عمها، ثم تزوجها بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما كعب بن لؤي وهو في عمود النسب الكريم فولده مرة وهصيص وعدي، وهم فريش البطاح أي بطائح مكة. فمن ابن كعب هصيص بن كعب بن لؤي بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، منهم العاصي بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم، وابناه عمرو وهشام ابنا العاصي. وعبد الرحمن بن معيص بن أبي وداعة وهو الحارث بن سعيد بن سعد بن سهم قارىء أهل مكة، واسماعيل بن جامع بن عبد المطلب بن أبي وداعة مفتي مكة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتلا يوم بدر كافرين والقيا في القليب. وقتل يومئذ العاصي بن منبه. وكان له ذو الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبد الله بن الزبعرى بن قيس بن غدي بن سعد بن سهم كان يؤذي بشعره، ثم أسلم وحسن إسلامه. وحذافة بن قيس أبو الأخنس وخنيس. وكان خنيس على حفصة قبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وعبد الله بن حذافة من مهاجرة الحبشة وهو الذى مضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى. وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب. كان منهم أمية بن خلف بن وهب بن حذافة، قتل يوم بدر وأخوه أبي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بيده، وابنه صفوان بن أمية أسلم يوم الفتح، وابنه عبد الله بن صفوان قتل مع الزبير، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة، وإخوته قدامة والسائب وعبد الله مهاجرون بدريون وإخوتهم زينب بنت مظعون أم حفصة. وبنو عدي بن كعب: منهم زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي. رفض الأوثان في الجاهلية، والتزم الحنيفية ملة إبراهيم إلى أن قتل بقرية من قرى البلقاء، قتله لخم أو جذام، وابنه سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. وعمر بن الخطاب أصر المؤمنين، وابنه عبد الله وعاصم وعبيد الله وغيرهم، وخارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبيد الله بن عويج بن عدي بن كعب الذي قتله الحروري بمصر يظنه عمرو بن العاصي. وقال أردت عمراً وأراد الله خارجة فطارت مثلا. وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم صاحب النفل يوم خنين، ومطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج صحابي. وابنه عبد الله بن مطيع كان على المهاجرين يوم الحرة، قمل مع ابن الزبير مكة. وأما مرة بن كعب: وهو من عمود النسب الكريم فكان له من الولد كلاب وتيم ويقظة. فأما ليم بن مرة فمنهم عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم سيد قريش في الجاهلية، وتنسب إليه الدار المشهورة يومئذ بمكة. ومنهم أبو بكر الصديق اسمه عبد الله بن أبي قحافة، وهو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب، وابناه عبد الرحمن ومحمد. وطلحة بن عد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب قتل يوم الجمل، وابنه محمد السجاد وأعقابهم كثيرة. وبنو يقظة بن مرة منهم بن مخزوم بن يقظة بن مرة. فمنهم صيفي بن أبي رفاعة وهو أمية عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، قتل هو وأخوه ببدر كافراً، والأرقم بن أبي الأرقم، واسمه عبد مناف بن أبي جندب، واسمه أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم صحابي بدري، كان يجتمع بداره النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون سرا قبل أن يفشو
الإسلام، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم من قدماء المهاجرين، كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
والفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، واسمه أبو قيس، قتل يوم بدر كافرأ، وأبو جهل بن هام بن المغيرة واسمه عمرو قتل يومئذ كافرا، وابنه عكرمة صحابى. والحارث بن هشام بن المغيرة أسلم وحسن إسلامه، وله عقب كثير مشهورون. وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة قتل يوم بدر كافراً وبنته أم سلمة أم المؤمنين، وهشام بن أبي خذيفة من مهاجرة الحبشة، وعبد الله ابن أبي ربيعة، وهو عمرو بن المغيرة من الصحابة، من ولده الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع، والوليد بن المغيرة مات بمكة كافراً وابنه خالد بن الوليد سيف الله صاحب الفتوحات الإسلامية. وسعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم تابعي، وأبوه المسيب من أهل بيعة الرضوان.
وأما كلاب بن مرة: من عمود النسب الكريم فولد له فضي وزهرة فبنو زهرة بن كلاب منهم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أم النبي صلى الله عليه وسلم، وابن أخيها عبد الله بن الأرقم ابن عد يغوث بن وهب. وسعد بن أبي وقاص، واسمه مالك بن وهب بن عبد مناف أمير المسلمين في فتح العراق. وهاشم ابن أخيه عتبة من الأمراء يومئذ وابنه عمر بن سعد الذي بعثه عبيد الله بن زياد لقتال الحسين، وقتله المختار بن أبي عبيد، وأخوه محمد بن سعد قتله الحجاج بن أبي الأشعث والمسور بن مخرمة بن نوفل بن وهب صحابي، وأبوه من المؤلفة قلوبهم وعبد الله بن عوف بن عبد عوف بن الحرث بن زهرة، وابنه سلمة وله عقب في.
وأما قصي بن كلاب من عمود النسب الكريم وهو الذي جمع أمر قريش وأثل مجدهم، فولد له عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى. فبنو عبد الدار كان منهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، أسر يوم بدر مع المشركين. ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومر بالصفراء أمر به فضرب عنقه هنالك. ومصعب بن عمرو بن هاشم بن عبد مناف، صحابي بدري استشهد يوم أحد، وكان صاحب اللواء. ومن عقبه كان عامر بن وهب القائم بسرقسطة من الأندلس بدعوة أبي جعفر المنصور، وقتله يوسف بن عبد الرحمن الفهرفي أمير الأندلس قبل عبد الرحمن الداخل.
ومنهم أبو السنابل بن بعكك بن السباق بن عبد الدار، الذي دفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مفتاح الكعبة، وقيل إنما دفعه إلى أخيه شيبة. وصارت حجابة البيت إلى بني شيبة بن طلحة من يومئذ. وبنو عبد العزى بن قصي منهم أبو البختري العاصي بن هاشم بن الحارث بن أسعد بن عبد العزى، أراد التملك على قريش من قبل قيصر فمنعوه، فرجع عنهم إلى الشام، وسجن من وجد بها من قريش. وكان في جملتهم أبو أحيحة سعيد بن العاصي، فدست قريش إلى عمرو بن جفنة الغساني. فسم عثمان بن الحويرث ومات بالشام. وهبار بن الأسود بن المطيب بى أسد بن عد العزى، كان من عقبه عمر بن عبد العزيز بن المنذر بن الزبير بن عبد الرحمن بن هبار ، صاحب السند، وليها في ابتداء الفتنة إثر قتل المتوكل، وتداول أولاده ملكها إلى أن انقطع أمرهم على يد محمود بن سكتكين صاحب كزنة رما دون النهر من خراسان، وكانت قاعدتهم المنصورة. وكان جده المنذر بن الربيع قد قام بقرفيسيا أيام السفاح، فاسر وصلب. واسماعيل بن هبار قتله مصعب بن عبد الرحمى غيلة، وهبار كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ابنه عوف أسلم فمدحه وحسن إسلامه. وعبد الله بن زمعة بن الأسود، له صحبة. وتزوج زينب بت أبي سلمة من أم سلمة أم المؤمنين، وخديجة أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، والزبير بن العوام بن خويلد أحد العشرة، وابناه عبد الله ومصعب وحكيم بن حزام بن خويلد، عاش ستين سنة في الإسلام، وباع داره الندوة من معاوية بمائة ألف وابنه هشام بن حكيم. وأما عبد مناف وهو صاحب الشوكة في قريش وسنام الشرف، وهو في عمود النسب الكريم، فولد له عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل. وكان بنو هاشم وبنو عبد شمس متقاسمين رياسة بني عبد مناف، والبقية أحلاف لهم. فبنو المطلب أحلاف لبني هاشم، وبنو نوفل أحلاف لبني عبد شمس. فأما بنو عبد شمس فمنهم العبلات وهم بنو أمية الاصغر وبنته الثريا صاحبة عمر بن أبي ربيعة، وهي سيدة القريض المغني، وبنو ربيعة بن عبد شمس: منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة. ومن عتبة ابنه الوليد وقتل يوم بدر كافرا، وأبو حذيفة صحابي وهو مولى سالم، قتل يوم اليمامة. وهند بنت عتبة أم معاوية رضي الله عنها. وبنو عبد العزى صهر النبي، وكانت له منها أمامة تزوجها علي بعد فاطمة
رضي الله عنهما. وبنو أمية الأكبر بن عبد شمس: منهم سعيد بن أبي أحيحة العاصي بن أمية مات كافرا، وابنه خالد بن سعيد قتل يوم اليرموك ، وسعيد بن العاصي بن سعيد قديم الإسلام ولي صنعاء واستشهد في فتح الشام، وابنه سعيد قتل يوم اليرموك وسعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن امية ولي الكوفة لعثمان. وابنه عمرو الأشدق القائم على عبد الملك وقتله. وأمير المؤمنين عثمان بن عفان بن العاصي بن أمية. ومروان بن الحكم بن أبي العاصي وأعقابه الخلفاء الأولون في الإسلام ، والملوك بالأندلس معروفون يأتي ذكرهم عند أخبار دولهم. وأبو سفيان بن حرب بن أميه: وابناؤه معاوية أمير المؤمنين، ويزيد وحنظلة وعتبة وأم حبيبة أم المؤمنين. وعقب معاوية بين الخلفاء والإسلام بين معروف يذكر عند ذكرهم، وعتاب بن أسيد بن أبي العاص بن امية، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة، اذ فتحها فلم يزل عليها إلى أن مات يوم ورود الخبر بموت أبي بكر الصديق. ومنهم بنو أبي الشوارب القضاة ببغداد، من عهد المتوكل إلى المقتدر. وهم بنص أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط واسمه أبان بن عمرو بن أمية، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر صبراً. وابنه الوليد صحابي ولي الكوفة، وهو الذي حد على الخمر بين يدي عثمان وابنه أبو قطيفة الشاعر. ومن عقبة بن أبي معيط المعيطي الذي بويع بدانية من شرق الأندلس. بايع له ملكها مجاهد زمن الفتنة، بعد المائة الرابعة في آخر الدولة الاموية. وهو عبد الله بن عبد الله بن عبيد الله بن الوليد بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عثمان بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عقبة بن أبي معيط. وبنو نوفل بن عبد مناف: منهم جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل الصحابي المشهور. وأبو مطعم هو الذي نوه به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الطائف، ومات في بدر. وطعيمة بن عدي قتل يوم بدر كافرا، ومولاه وحشي هو الذي قتل يوم أحد حمزة بن عبد المطلب. وبنو المطلب بن عبد مناف: منهم قيس بن مخرمة بن المطلب صحابي، وابنه عبد الله بن قيس، مولى يسار جد محمد بن اسحق بن يسار صاحب المغازي. ومسطح وهو عوف بن أثاثة بن عباد بن المطلب أحد من تكلم بالإفك، وهو ابن خالة أبي بكر الصديق .
خريطة
وركانة بر عبد يزيد بنن هاشم بن عبد المطلب، كان م أشد الرجال. وصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه، وكانت آية من آياته، والسائب بن عبد يزيد، كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر يوم بدر: ومن عقبه الشافعي محمد بن إدريس بن العباس بن عثما بن شافع بن السائب. وأما بنو هاشم بن عبد مناف فسيدهم عبد المطلب بن هاشم ، ولم يذكر من عقبه إلا عقب عبد المطلب هذا. وكان بنوه عشرة: عبدالله أبو النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصغرهم، وحمزة والعباس وأبو طالب والزبير والمقوم، ويقال اسمه الغيداق وضرار وحجل وأبو لهب وقثم والزبير لا عقب لهما، وعقب حمزة انقرض فيما قال ابن حزم. ومن عقب أبي لهب ابنه عتبة صحابي. وأما عقب العباس وأبي طالب فأكثر من أن يحصر، والبيت والشرف من بني العباس في عبد الله بن العباس. ومن بني أبي طالب في علي أمير المؤمنين وبعده أخوه جعفر رضي الله عنهم أجمعين. وسنذكر من مشاهيرهم عند ذكر أخبارهم ودولهم ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. هذا اخر الكلام في أنساب قريش، وانقضى بتمامها الكلام في أنساب مضر وعدنان. فلنرجح الآن إلى أخبار قريش وسائر مضر، وما كان لهم من الدول الإسلامية. والله المستعان لا رب غيره، ولا خير إلا خيره ولا معبود سواه ولا يرجى إلا إياه. وهو حصبي ولعم الوكيل، وأسأله الستر الجميل. قريش الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أموهم وكيف صال الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز وأكناف العرب كانت ديار العمالقة، من ولد عمليق بن لاوذ، وأنهم كان لهم ملك هنالك. وكانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشذ. وكانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت. وأصاب اليمن يومئذ قحط ففروا نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى، وعثروا في طريقهم بإسماعيل مع أمه هاجر عند زمزم. وكان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عد ذكر إبراهيم عليه السلام.
ونزلوا على قطورا من بقية العمالقة وعليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة- ابن لورى بن ذكر بن عملاق أو عمليق. واتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن، وما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم وعليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم. فنزلوا على مكة بقعيقعان. وكانت قطورا أسفل مكة. وكان . مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها، والسميدع من أسفلها. هكذا عند ابن إسحق والمسعودي أن قطورا من العمالقه، وعند غيرهما أن قطورا من بطون جرهم وليسوا من العمالقة. ثم افترق أمر قطورا وجرهم وتنافسوا الملك واقتتلوا وغلبهم المضاض وقتل السميدع وانقضت العرب العاربة قال الشاعر: مضى آل عملاق فلم يبق منهمو حقير ولاذ وعزة متشاوس عتوا فأدال الدهر منهم وحكمه على الناس هذا واغذ ومبايس
ونشأ إسماعيل صلوات الله عليه بين جرهم، وتكلم بلغتهم، وتزوج منهم حرا بنت
سعد بن عوف بن هنء نبت بن جرهم. وهي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره ووجده غائباً. فقال لها: قولي لزوجك فليغير كتبته، فطلقها وتزوج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف. ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور. وتزوج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم. ولثلاثين سنة من عمر إسماعيل قدم أبوه الحجاز، فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام، وكان الحجر زربا لغنم إسماعيل، فرفع قواعدها مع ابنه إسماعيل وصيرها خلوة لعبادته، وجعلها حجا للناس كما أمره الله، وانصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مر. وبعث الله إسماعيل الى العمالقة وجرهم وأهل اليمن، فآمن بعض وكفر بعض، إلى أن قبضه الله ودفن بالحجر مع أفه هاجر، ويقال أجر. وكان عمره فيما يقال مائة وثلاثين سنة، وعهد بأمره لابنه قيذار. ومعنى قيذار صاحب الإبل، وذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسماعيل، كذا قال السهيلي. وقال غيره معناه الملك. ويقال إنما عهد لابنه نابت، فقام ابنه بأمر البيت ووليها. وكان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر: قيذار قيايوت أدبئيل مبسام مشمع دوما مسا حدار ديما يطور ياقيس قدما. أمهم السيدة بنت مضاض قاله السهيلي، وهكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات. والحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج، فلهذا يقع الخلاف بين
العلماء في ضبط هذه الألفاظ. وقد ضبط ابن إسحاق تيماً منهم بالطاء والياء، وضبطه الدارقطني بالضاد المعجمة والميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم ، وذكر ابن إسحاق ديما. وقال البكري: به سميت دومة الجندل لأنه كان نزلها. وذكر أن الطور بيطون ابن إسماعيل. ثم هلك نابت بن إسماعيل وولي أمر البيت جده الحرث بن مضاض، وقيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم، ثم ابنه الحرث بن عمرو. ثم قسمت الولاية بين ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم، ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسماعيل إعظاماً للحرم أن يكون به بغي أو قتال. ثم بغت جرهم قي البيت، ووافق بغيهم تفرق سبأ ونزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكة. فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم واقتتلوا، فغلبهم بنو حارثة وهم فيما قيل خزاعة وملكوا البيت عليهم، ورئيسهم يومئذ عمرو بن لحي، وشرد بقية جرهم. ولحي هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر، وقيل إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر. وفي الحديث رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار يعني أحشاءه. لأنه الذي بحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، وغير دين إسماعيل، ودعا إلى عبادة الأوثان. وفي طريق آخر رأيت عمرا بن عامر. قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة. هذا هو عمرو بن لحي بن قمعة بن الياس. وأنما عامر اسم أبيه أخو قمعة، وهو مدركة بن الياس وقال السهيلي: كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحي بعد أبيه قمعة. ولحي تصغير. واسمه ربيعة تناه حارثة وانتسب إليه، فالنسب صحيح بالوجهين. وأسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة. وعن ابن أسحق أن الذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها، وأنما تصدى للنكير عليهم خزاعة وكنانة. وتولى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو غبشان بن عبد عمرو بن بوي بن ملكان بن أفصى بن حارثة، فاجتمعوا لحربهم واقتتلوا وغالبهم بنو بكر وبنو غبشان بن كنانة وخزاعة على البيت ونفوهم من مكة. فخرج عمرو وقيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر بمن معه من جرهم إلي اليمن ، بعد أن دفن حجر الركن وجميع أموال الكعبة بزمزم. ثم اسفوا على ما فارقوا من أمر مكة وحزنوا حزناً شديداً. وقال عمرو بن الحرث وقيل عامر: كان لم يكن بين الجحون إلى الصف أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت نطوف فما تحظى لدينا المكاثر ملكنا فعززنا فاعظم ملكنا فليس لحي عندنا ثم فاخر ألم تنكحوا من خير شخص علمته فأبناؤنا منا ونحن الأصاهر فإن تنثني الدنيا علينا بحالها فإن لها حالا وفيها التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة كذلك يا للناس تجري المقادر أقول إذا نام الخلي ولم أنم إذا العرش لا يبعد ليهل وعامر وبذلت منها أوجها لا اجبها قبائل منها حمير وبخائر وصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة بذلك عضتنا السنون الغوابر فساحت دموع العين تبكي لبلدة بها حرم أم وفيها المشاعر ونبكي لبيت ليس يؤذى حمامه يظل بها أمنا وفيها العصافر وفيه وحوش لا ترام أنيسة إذا خرجت منه فليست تغادر
ثم غلبت بنو حبشية على أمر البيت بقومهم من خزاعة واستقلوا بولايتها دون بني
بكر عبد مناة، وكان الذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث وهو غبشان. وذكر الزبير أن الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسماعيل هم إياد بن نزار. ومن بعد ذلك وتعت الحرب بين ضر وإياد فأخرجتهم مضر. ولما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود ودفنوه في بعض المواضع، ورأت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها، فاشترطوا على مضر إن دلوهم عليه أن لهم ولاية البيت دونهم، فوفوا لهم بذلك. وصارت ولاية البيت لخزاعة، إلى أن باعها أبو غبشان لفصي. ويذكر أن من وليها منهم عمرو بن لحي، ونصب الأصنام وخاطبه رجل من جرهم: يا عمرو لا تظلم بمكة إنها بلد حرام سائل بغاد أين هم وكذاك تخترم الأنام وهي العماليق الذين لهم بها كان السوام وكانت ولاية آل البيت لخزاعة، وكان لمضر ثلاث خصال: الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرة إخوتهم وهو صوفه. والإضافة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عدي، وانتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد، فدفع من مزدلفة أربعين سنة على حمار، ونسء
الشهور الحرم، كان لبني مالك بن كنانة. وانتهى إلى القلمس كما مر. وكان إذا أراد الناس الصدور من مكة قال: اللهم إني أحللت أحد الصفريين ونسأت الأخر للعام المقبل. قال عمرو بن قيس من بني فراس: ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراماً
قال ابن اسحق. فأقام بنو خزاعة وبنو كنانة على ذلك مدة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه. وفي أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة، ومن مضر كلها وصاروا جرما وبيوتات متفرقين في بطن قومهم من بني كنانة، وكلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها. وصارت قريش على فرقتين: تريق البطاح ولريش الظواهر. فقريش البطاح ولد قصي بن كلاب وسائر بني كعب بن لؤي. وقريش الظواهر من سواهم. وكانت خزاعة بادية لكنانة ثم صار بنو كنانة لقريش. ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح، وقريش الظواهر من كان على أقل من مرحلة ومن الضواحي من كان على أكثر من ذلك. وصار من سوى قريش وكنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية وظعونا ناجعة، من بطون قيس وخندف من أشجع وعبس وفرازة ومرة وسليم وسعد بن بكر، وعامر بن صعصعة وثقيف. ومن تميم والرباب وضبعي بني أسد وهذيل والقارة وغير هؤلاء من البطون الصغار، وكان التقدم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش، والتقدم في قريش لبني لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. وكان سيدهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. كان له فيهم شرف وقرابة وثروة وولد، وكان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بى زيد من بطونهم نسب ظئر ورحم كلالة، كانوا من أجلها فيه شيعة. وذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكة في مهلك كلاب بن مرة، وكان كلاب خلف قصيا فى حجر أمه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن، فتزوجها ربيعة وقصي يومئذ فطيم، فاحتملته إلى بلاد بني عذرة، وتركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا، وولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة، ولما شب قصي وعرف نسبه رجع إلى قومه، وكان الذي يلى أمر البيت لعهده من خزاعة، حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو، فأصهر إلى قصي في ابنته حبى فأنكحه إياها، فولدت له عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي. ولما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأى فصي أنه أحق
بالكعبة وبأمر مكة وخزاعة وبني بكر لشرفه في قريش. ولما كثرت قريش سائر الناس واعتزت عليهم، وقيل أوصي له بذلك حليل. ولما بدا له ذلك مشى فى رجالات قريش ودعاهم إلى ذلك فأجابوه، وكتب إلى أخيه رزاح في قومه عذرة مستجيشا بهم، فقدم مكة في إخوته من ولد ربيعة ومن تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصي. قال السهيلي: وذكر غير ابن إسحق إن حليلاً كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبى حين كبر وضعف، فكانت بيدها وكان قصي ربما أخذها يفتح البيت للناس ويغلقه، فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي، وأبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصي، فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم. وقال: الطبري لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبى لما كبر وثقل، قالت إجعل لرجل يقوم لك به، فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي، وكانت له ولاية الكعبة. ويقال: إن أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصي بزق خمر، قيل فيه أخسر من صفقة أبي كبشان. فكان من أول ما بدأوا به نقض ما كان لصوفة من إجارة الحاج، وذلك أن بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة، ينفر الحاج لنفرهم ويرمون الجمار لرميهم، ورثوا ذلك من بني الغوث بن مرة. كانت أمه من جرهم وكانت لا تلد، فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها، فولدت الغوث، وخلى أخواله من جرهم بينه وبين من نافسه بذلك. فكان له ولولده وكان يقال لهم صوفة. وقال السهيلي عن بعض الإخباريين: إن ولاية الغوث بن مرة كانت من قبل ملوك كندة، ولما انقرضوا ورث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة. ولما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتات بن سحنة وفد مر ذكره في بطون تميم. فلما كان العام الذي أجمع فيه قصى الإنفراد بولاية البيت، وحضر إخوته من عذرة تعرض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش، وكنانة وقضاعة عند الكعبة. فلما وقفوا للإجازة قال لا نحن أولى بهذا منكم، فتناجزا وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم، وعرفت خزاعة وبنو بكر عند ذلك أنه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين، فانحازوا عنه واجمعوا لحربه، وتناجزوا وكثر القتل، ثم صالحوه على أن يحكموا من أشراف العرب، وتنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن
بكر بن عبد مناة لن كنانة، فقضى لقصي عليهم فولي قصي البت وقر بمكة، وجمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها وقطعها أرباعا بينهم. فأنزل كل بطن منهم بمنزله الذي صبحهم به الإسلام وسمي بذلك مجمعا قال الشاعر: قصي لعمرى كان يدعى مجمعاً به جمع الله القبائل من فهر فكان أول من أصاب من بني لؤي بن غالب ملكا أطاع له به قومه، فصار له لواء الحرب وحجابة البيت، وتيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم و كثيرها، فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم، وجعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم ومعاقدهم، ثم تصدى لإطعام الحاج وسقايته لما رأى أنهم ضيف الله وزوار بيته. وفرض على قريش خراجاً يؤدونه إليه زيادة على ذلك كانوا يردفونه به، فحاز شرفهم كله. وكانت الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء له. ولما أسن قصي وكان بكره عبد الدار وكان ضعيفا، وكان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة ابيه، فأوصى قصي لعبد الدار بما كان له من الحجابة واللواء والندوة والرفادة والسقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف. وكان أمره في قومه كالدين المتبع، ولا يعدل عنه. ثم هلك وقام بأمره في قومه بنوه من بعده، وأقاموا على ذلك مدة وسلطان مكة لهم، وأمر قريش جميعاً. ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم ونازعوهم 4 فافترق أمر قريش، وصاروا في مظاهرة بني قصي بعضهم على بعض فرقتين. وكان بطون قريش قد إجتمعت لعهدها ذلك إثني عشر بطنا: بنو الحرث بن فهر، وبنو محارب بن لؤي، وبنو عدي بن كعب، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو تيم بن مرة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أدد لن عبد العزى بن قصي، وبنو عبد الدار، وبنو عبد مناف بن قصي. فأجمع بنو عبد مناف إنتزاع ما بأيدي عبد الدار مما جعل لهم قصي، وقام بأمرهم عبد شمس أسن ولده، واجتمع له من قريش بنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحرث. واعتزل بنو عامر وبنو المحارب الفريقين، وصار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار، وهم بنو سهم وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم. ثم عقد كل من
الفريقين على أحلافه عقداً مؤكدا، وأحضر بنو عبد مناف، وحلف قومهم عند الكعبة جفنة مملوءة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيداً للحلف. فسمي حلف المطيبين. وأجمعوا للحرب وسووا بين القبائل، وأن تبعث بعضها إلى بعض. فبعث بنو عبد الدار لبني أسد، وبنو جمح لبني زهرة، وبنو مخزوم لبني تيم، وبنو عدي لبني الحرث. ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ويختص بنو عبد الدار بالحجابة واللواء، فرضي الفريقان وتحاجز الناس. وقال الطبرى: قيل ورثها من أبيه، ثم بقام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره وقراره بمكة، وتقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام. فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج وإكرام وفدهم. ويقال: إنه أول من أطعم الثريد الذي كان يطعم فهو ثريد قريش، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. والثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاوة، والتنور. وليس من طعام العرب إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة، وهو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطباً إلى أن يتم نضجه، ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه وتتلازج. وما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أولا، إلا أن لفظ الثريد يتناوله لغة. ويقال: إن هاشم بن عبد المطلب أول من سن الرحلتين في الشتاء والصيف للعرب، ذكره بن إسحق وهو غير صحيح، لأن الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم ومصالحها، لأن معاشهم فيها. وهذا معنى العرب وحقيقتهم أنه الجيل الذي معاشهم في كسب الإبل والقيام عليها في ارتياد المرعى، وانتجاع المياه والنتاج والتوليد وغير ذلك من مصالحها، والفرار بها من أذى البرد عند التوليد إلى القفار ودفئها، وطلب التلول في المصيف للحبوب وبرد الهواء. وتكونت على ذلك طباعهم فلا بد لهم منها. ظعنوا أو أقاموا وهو معنى العروبية. وشعارها أن هاشماً لما هلك وكان مهلكه بغزة من أرض الشام، تخلف عمد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده ابنه المطلب، وكان ذا شرف وفضل، وكانت قريش تسميه الفضل لسماحته، وكان هاشم قدم يثرب فتزوج في شي عدي. وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الاوس لعهده، فولدت عمرو بن أحيحة وكانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح، فولدت عبد المطلب فسمته شيبة،
وتركه هاشم عندها حتى كان كلاماً. وهلك هاشم فخرج إليه أخوه المطلب، فأسلمته إليه بعد تعسف واغتباط به، فاحتمله ودخل مكة فردفه على بعيره، فقالت قريش هذا عبد ابتاعه المطلب فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ. ثم إن المطب هلك بردمان من اليمن، فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم، وأقام الرفادة والسقاية للحاج على أحش ما كان قومه يقيمونه بمكة من قبله، وكانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير والحبشة، وقد قدمنا خبره مع ابن ذي يزن ومع ابرهة. ولما أراد حفر زمزم: للرؤيا التي رآها اعترضته قريش دون ذلك، ثم حالوا بينه وبين مما أراد منها، فنذر لئن ولد له عشرة من الولد ثم يبلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم قرباناً لله عند الكعبة، فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة، فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، وتحير في شأنه، ومنعه قومه من ذلك. وأشار بعضهم وهو المجيرة بن عبد الله بن مخزوم، بسؤال العرافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك. فألفوها بخيبر وسألوها، فقالت قربوه وعشرا من الإبل، وأجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك، وإلا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح، وانحروها حينئذ فهي الفدية عنه. وقد رضي إلهكم ففعلوا، وبلغت الإبل مائة. فنحرها عمد المطلب، وكانت من كرامات الله به. وعليه قولهصلى الله عليه وسلم: أنا ابن الذبيحين يعني عبد الله أباه، وإسماعيل بن إبراهيم جده، اللذين قربا للذبح ثم فديا بذبح الأنعام. ثم أن عبد المطلب زوج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك فلما أبطأ عليهم خبره بعث في أثره. وقال الطبري عن الواقدي: الصحيح إنه أقبل من الشام في حي لقريش، فنزل بالمدية ومرض بها ومات. ثم أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكة، والكون يصغي لملك العرب، والعالم يتمحض بفصال النبوة، إلى أن وضح نور الله من أفقهم، وسرى خبر السماء إلى بيوتهم، واختلفت الملائكة إلى أحيائهم، وخرجت الخلافة في انصبائهم، وصارت العزة لمضر ولسائر العرب بهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة وهو الذي احتفر زمزم.
قالى السهيلي: ولما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب، وأسيافاً. كذلك كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة، وقيل سابور. ودفنها الحرث بن مضاض في زمزم، لما خرج بجرهم من مكة. فاستخرجها عبد المطلب وضرب الغزالين حلية للكعبة، فهو أول من ذهب حلية الكعبة بها، وضرب من تلك الأسياف باب حديد وجعله للكعبة. ويقال: إن أول من كسى الكعبة واتخذ لها غلقا تبع إلى أن جعل لها عبد المطلب هذا الباب. ثم اتخذ عبد المطلب حوضاً لزمزم يسقي منه، وحسده قومه على ذلك وكانوا يخربونه بالليل، فلما غمه ذلك رأى في النوم قائلا يقول: قل لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل، فإذا قلتها فقد كفيتهم، فكان بعد إذا أرادها أحد بمكروه رمى بداء في جده، ولما عملوا بذلك تناهوا عنه. وقال السهيلي: أول من كسا البيت المسوح والخصف والأنطاع تبع الحميري. ويروى أنه لما كساها انتقض البيت فزال ذلك عنه، وفعل ذلك حين كساه الخصف، فلما كساه الملاء والوصائل قبله وسكن. وممن ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل. وقال ابن إسحق أول من كسا الديباج الحجاج. وقال الزبير بى بكار بن عبد الله بن الزبير أول من كساها ذلك. وذكر جماعة منهم الدارقطني إن نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيراً، فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبه، وكانت من بيت مملكة فوفت بنذرها. هذه أخبار قريش وملكهم بمكة. وكانت ثقيف جيرانهم بالطائف يساجلونهم في مذاهب العروبية وينازعونهم في الشرف، وكانوا من أوفر قبائل هوازن، لأن ثقيفا هو قسي بن منيه بن بكر بن هوازن. وكانت الطائف قبلهم لعدوان الذين كان فيهم حكيم العرب عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان. وكثر عددهم حتى قاربوا سبعين ألفا. ثم بغى بعضهم على بعض فهلكوا وقل عددهم. وكان قسي بن منبه صهرا لعامر بن الظرب، وكان بنوه بينهم. فلما قل عدد عدوان تغب عليهم ثقيف وأخرجوهم من الطائف وملكوه إلى أن صبحهم الإسلام به على ما نذكره، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، والبقاء لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تم الجزء الثاني من تاريخ ابن خلدون حسب ترتيب المؤلف
ظهور الإسلام ملحق الجزء الثانى من تاريخ العلامة ابت خلدون حسب ترتيب المؤلف
صفحة فراغ
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر النبوة والهجرة
أمر النبوة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب علي الإسلام بعد الإباية والحرب لما استقر أمر قريش بمكة على ما استقر، وافترقت قبائل مضر في أدنى مدن الشام والعراق وما دونهما من الحجاز، فكانوا ظعوناً وأحياء. وكان جميعهم بمسغبة وفي جهد من العيش بحرب بلادهم، وحرب فارس والروم على تلول العراق والشام وأربابهما، ينزلون حاميتهم بثغورهما، ويجهزون كتائبهم بتخومهما ويولون على العرب من رجالاتهم، وبيوت العصائب منهم من يسومهم القهر ويحملهم على الإنقياد، حتى يؤتوا جباية السلطان الأعظم، وإتاوة ملك العرب، ويؤدوا ما عليهم من الدماء والطوائل، ويسترهموا ابناءهم على السلم وكف العادية. ومن انتجاع الأرباب وميرة الأقوات والعساكر من وراء ذلك، توقع بمن منع الخراج، وتستأصل من يروم الفساد. وكان أمر مضر راجعا في ذلك إلى ملوك كندة بني حجر آكل المرار، منذ ولاه عليهم تبع حسان كما ذكرناه. ولم يكن في العرب ملك إلا في آل المنذر بالحيرة للفرس، وفي آل جهينة بالشام للروم، وفي بني حجر هؤلاء على مضر والحجاز. وكانت قبائل مضر مع ذلك، بل وسائر العرب أهل بغي وإلحاد، وقطع للأرحام، وتنافس في الردى، وإعراض عن ذكر الله. فكانت عبادتهم الأوثان والحجرة، وأكلهم العقارب والخنافس والحيات والجعلان، وأشرف طعامهم أوبار الإبل إذا أمروها في الحرارة في الدم.
وأعظم عزهم وفادة على آل المنذر وآل جهينة وبني جعفر ونجعة من ملوكهم. وإنما كان تنافسهم الموءودة والسائبة والوصيلة والحامى. فلما تأذن الله بظهورهم، وآشرأبت إلى الشرف هوادي أيامهم، وتم أمر الله في إعلاء أمرهم، وهبت ريح دولتهم وملة الله فيهم، تبدت تباشير الصباح من أمرهم، وأونس الخير والرشد في خلالهم، ويبدل الله بالطيب الخبيث من أحوالهم وشرهم. واستبدلوا بالذل عزا، وبالمآثم متابا، وبالشر خيرا. ثم بالضلالة هدى وبالمسغبة شبعاً وريا وإيالة وملكا.
وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه: فكان لهم من العز والظهور قبل المبعث ما كان. وأوقع بنو شيبان وسائر بكر بن وائل وعبى بن غطفان بطيء وهم يومئذ ولاة العرب بالحيرة، وأميرها منهم قبيصة بن إياس، ومعه الباهوت صاحب مسلحة كسرى. فأوقعوا بهم الوقعة المشهورة بذي قار، والتحمت عساكر الفرس، وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمدينة بيومها وقال: "اليوم انتصفت العرب من العجم وبى نصروا". ووفد حاجب بن زرارة من بني تميم على كسرى، في طلب الإنتجاع والميرة بقومه في أباب العراق. فطلب الأساورة منه الرهن على عادتهم، فأعطاهم قوسه واستكبر عن استرهان ولده، توقعوا منه عجزاً عما سواها، وانتقلت خلال الخير من العجم ورجالات فارس، فصارت أغلب في العرب حتى كان الواحد منهم همه بخلاله وشرفه، وغلب الشر والسفسفة على أهل دول الحجم، وانظر فيما كتب عمر إلى أبي عبيدة بن المثنى حين وجهه إلى حرب فارس: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والحيرة، تقدم على أقوام قد جرأوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون اهـ. وتنافست العرب في الخلال، وتنازعوا في المجد والشرف حسبما هو مذكور في أيامهم وأخبارهم. وكان حظ قريش من ذلك أوفر على نسبة حظهم من مبعثه، وعلى ما كانوا ينتحلونه من هدى آبائهم. وينظر ما وقع في حلف الفضول، حيث اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تميم،، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا من ظلمهم حتى ترد عليه مظلمته،، وسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. وفي الصحيح، عن طلحة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد شهدت في دار عبد الله بن
جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت. ثم ألقى الله في قلوبهم التماس الدين وإنكار ما عليهم قومهم من عبادة الأوثان، حتى لقد اجتمع منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحويرث بن أسد، وزيد بن عمرو بن نفيل من بني عدي بن كعب عم عمر بن الخطاب، وعبيد الله بن جحش من بني أسد بن خزيمة، وتلاوموا في عبادة الأحجار والأوثان، وتواصوا بالنفر في البلدان بالتماس الحنيفية: دين إبراهيم نبيهم. فأما ورقة فاستحكم في النصرانية وابتغى من أهلها الكتب، حتى علم من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه، حتى جاء الإسلام، فأسلم وهاجر إلى الحبشة، فتنصر وهلك نصرانيا. وكان يمر بالمهاجرين بأرض الحبشة، فيقول. فقحنا وصأصأتم، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر. مثلما يقال في الجرو إذا فتح عينيه فقح، وإذا أراد ولم يقدر صأصأ. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على ملك الروم قيصر، فتنضر وحسنت منزلته عنده. وأما زيد بن عمر فما هم أن يدخل في دين ولا اتبع كتابا. واعتزل الأوثان والذبائح والميتة والدم، ونهى عن قتل الموءودة وقال: أعبد رب إبراهيم. وصرح بعيب آلهتهم وكان يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك ولكن لا أعلم، ثم يسجد على راحته. وفال ابنه سعيد وابن عمه عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر الله لزيد بن عمرو قال: نعم! إنه يبعث أمة واحدة. ثم تحدث الكهان والحزاة قبل النبوة لى وإنها كائنة في العرب، وأن ملكهم سيظهر. وتحدث أهل الكتاب من اليهود والنصارى بما في التوراة والإنجيل من بث محمد وأمته، وظهرت كرامة الله بقريش ومكة في أصحاب الغيل أرهاصاً بين يدي مبعثه. ثم ذهب ملك الحبشة من اليمن على يطه ابن ذي يزن من بقية التبابعة. ووفد عليه عبد المطلب يهنيه عند استرجاعه ملك قومه من أيدي الحبشة، فبشره ابن ذي يزن بظهور نبي من العرب، وأنه من ولده في قصة معروفة. وتحين الأمر لنفسه كثير من رؤساء العرب يظنه فيه، ونفروا إلى الرهبان والأحبار من أهل الكتاب يسألونهم ببلدتهم عن ذلك، مثل أمية بن أبي الصلت الشقي، وما وقع له في سفره إلى الشام مع أبي سفيان بن حرب، وسؤاله الرهبان ومفاوضته أبا سفيان فيما وقف عليه من ذلك، بظن أن الأمر له أولا شرف
قريش من بنى عبد مماف، حتى تبين لهما خلاف ذلك في قصة معروفة. ثم رجمت الشياطين عن استماع خبر السماء في أمره، وأصغى الكون لاستماع أنبائه. المولد الكريم وبدء التوحيد ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول لأربعين سنه من ملك كسرى أنوشروان، وقيل لثماني وأربعين وثمانماية واثنين وثمانين لذي القرنين. وكان عبد الله أبوه غائباً بالشام، وانصرف فهلك بالمدينة، وولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جد مهلكه بأشهر فلائل، وقيل غير ذلك. فكفله جده عبد المطلب بن هاشم، وكفالة الله من ورائه. والتمس له الرضعاء، واسترضع في بني سعد أبي عد من هوازن، ثم في بني نصر بن سعد، أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحرث بن شحنة بن رزاح بن ناظرة بن خصفة بن قيس، وكان ظئره منهم الحارث بن عبد العزى، وقد مر ذكرهما في بني عامر بن صعصعة. وكان أهله يتوسمون فيه علامات الخير والكرامات من الله، ولما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شق الملكين بطنه، واستخراج العلقة السوداء من قلبه، وغسلهم حشاه وقلبه بالثلج ما كان. وذلك لرابعة من مولده، وهو خلف البيوت يرعى الغنم، فرجع إلى البيت ممتقع اللون. وظهرت حليمة على شأنه فخافت أن يكون أصابه شيء من اللمم فرجعته إلى أمه. واسترابت آمنة برجعها إياه بعد حرصها على كفالته، فأخبرتها الخبر فقالت: كلا والله لست أخشى عليه. وذكرت من دلائل كرامة الله له وبه كثيراً، وأزارته أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أخوال جده عبد المطلب، من بني عدي بن النجار بالمدينة، وكانوا أخوالا لها أيضا. وهلك عبد المطلب لثمان سنين من ولادته، وعهد به إلى ابنه أبي طالب فأحسن ولايته وكفالته، وكان شأنه في رضاعه وشابه ومرباه وأحواله عجباً. وتولى حفظه وكلاءته من مفارقة أحوال الجاهلية، وعصمته من التلبس بشيء منها حتى لقد ثبت أنه مر بعرس مع شباب قريش، فلما دخل على القوم أصابه غشي النوم فما أفاق حتى طلعت الشمس
وافترقوا. ووقع له ذلك أكثر من مرة. وحمل الحجارة مع عمه العباس لبنيان الكعبة وهما صبيان، فأشار عليه العباس بحملها في إزاره، فوضعه على عاتقه، وحمل الحجارة فيه وانكشف، فلما حملها على عاتقه سقط مغشياً عليه، ثم عاد فسقط، فاشتمل إزاره وحمل الحجارة كما كان يحملها. وكانت بركاته تظهر بقومه، وأهل بيته ورضعائه، في شؤونهم كلها. وحمله عمه أبو طالب إلى الشام وهو إبن ثلاث عشرة سنة، وقيل ابن سبع عشرة سنة فمروا ببحيرا الراهب عند بصرى، فعاين الغمامة تظلله والشجر تسجد له، فدعا القوم وأخبرهم بنبوته، وبكثير من شأنه في قصة مشهورة. ثم خرج ثانية إلى الشام تاجرا بمال خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى مع غلامها ميسرة، ومروا بنسطور الراهب، فرأى مفكين يظلانه من الشمس، فأخبر ميسرة بشأنه؛ فأخبر بذلك خديجة، فعرضت نفسها عليه. وجاء أبو طالب فخطبها إلى أبيها، فزوجه، وحضر الملاء من قريش، وقام أبو طالب خطيباً فقال: الحمد لته الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معد وعنصر مضر، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمنا، وجعلنا أمناء بيته وسواس حرمه، وجعلنا الحكام على الناس. وإن ابن أخي محمد بن عبد لله من قد علمتم قرابته، وهولا يوزن بأحد إلا رجح به. فإن كان في المال تل فإن المال ظل زائل. وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة. وشهد بنيان الكعبة لخمس وثلاثين سنة من مولده، حين أجمع كل قريش على هدمها وبنائها. ولما انتهوا إلى الحجر تنازعوا أيهم يضعه، وتداعوا للقتال. وتحالف بنو عبد الدار على الموت ثم اجتمعوا وتشاوروا. وقال أبو أمية حكموا أول من دخل من باب المسجد، فتراضوا على ذلك. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين- وبذلك كانوا يسمونه- فتراضوا به وحكموه. فبسط ثوباً ووضع فمه الحجر، وأعطى قريشا طرف الثوب فرفعوه حتى أدنوه من مكانه، ووضعه عليه السلام بيده وكانوا أربعة: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو حذيفة بن المغيرة بن عمر بن مخزوم، وقيس بن عدي السهمي. ثم استمروا على أكمل الزكاء والطهارة في
أخلاقه. وكان يعرف بالأمين. وظهرت كرامة الله فيه، وكان إذا أبعد في الخلاء لا يمر بحجر ولا شجر إلا وسلم عليه. بدء الوحي ثم بدأ بالرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم تحدث الناس بشأن ظهوره ونبوته، ثم حببت إليه العبادة والخلوة بها، فكان يتزود للانفراد حتى جاء الوحي بحراء لأربعين سنة من مولده، وقيل لثلاث وأربعين. وهي حالة يغيب فيها عن جلسائه وهو كائن معهم، فأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه ويعي قوله، وأحيانا يلقى عليه القول ويصيبه أحوال الغيبة عن الحاضرين من الغط والعرق، وتصيبه كما ورد في الصحيح من أخباره قال: وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. فأصابته تلك الحالة بغار حراء وألقى عليه: (إقرأ باسم ربك الذى خلق* خلق الإنسان من علق* إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم *علم الإنسان ما لم يعلم ).
وأخبر بذلك كما وقع في الصحيح، وآمنت به خديجة وصدقته، وحفظت عليه
الشأن. ثم خوطب في الصلاة وأراه جبريل طهرها. ثم صلى به وأراه سائر أفعالها. ثم كان شأن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، من الأرض إلى السماء السابعة، وإلى سدرة المنتهى، وأوحى إليه ما أوحى. ثم آمن به علي ابن عمه أبي الطالب، وكان في كفالته من أزمة أصابت قريشا وكفل العباس جعفرا أخاه. فجعفر أسن عيال أبي طالب، فأدركه الإسلام وهو في كفالته، فآمن وكان يصلى معه فى الشعاب مختفيا من أبيه، حتى إذا ظهر عليهما أبو طالب دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أستطيع فراق ديني ودين آبائي! ولكن لا يخلص إليك شيء تكره ما بقيت. وقال لعلي: الزمه! فإنه لا يدعو الا الخير. فكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزى، ثم أبو بكر وعلي بن أبي طالب كما ذكرنا، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال بن حمامة مولى أبي بكر، ثم عمر بن عنبسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص بن امية. ثم أسلم بعد ذلك قوم من قريش، اختارهم الله لصحابته من سائر قومهم، وشهد
لكثير منهم بالجنة. وكان أبو بكر محببا سهلاً، وكانت رجالات قريش تألفه، فأسلم على يده من بني أمية عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية، ومن عشيرة بني عمرو بن كعب بن سعد بن تيم طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، ومن بني زهرة بن قصي سعد بن أبي وقاص، واسمه مالك بن وهب بن عبد مناف بن زهرة وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحرث بن زهرة. ومن بني أسد بن عبد العزى الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد وهو ابن صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أسلم من بني الحرث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحرث. ومن بني مخزوم ابن يقظة بن مرة بن كب أبو سلمة عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. ومن بني جمح ابن عمر هصيص بن كعب، عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذاقة بن جمح وأخوه قدامة. ومن بني عدي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد الله بن قرط بن رياح بن عدي وزوجته فاطمة أخت عمر بن الخطاب بن نفيل. وأخوه زيد هو الذي رفض الأوثان في الجاهلية، ودان بالتوحيد، وأخبرصلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. ثم أسلم عمير أخو سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود (رض) بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل. بن الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة حليف بني زهرة، كان يرعى غنم عقبة بن أبي معيط، وكان سبب إسلامه ألن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلب من غنمه شاة حائلا فعدت. ثم أسلم جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وامرأته أسماء بنت عميس بنت النعمان بن كعب بن مفك بن قحافة الخثعمي، والسائب بن عثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، واسمه مهشم، وعامر بن فهيرة أزدي، وفهيرة أمه مولاه أبي بكر. وأفد بن عبد الله بن عبد مناف، تميمي من حلفاء بني عدي. وعمار بن ياسر عنسي من مذجح مولى لبني مخزوم، وصهيب بن سنان من بني الضمر بن قاسط حليف لبني جدعان. ودخل الناس في الدين أرسالاَ، وفشا الإسلام وهم ينتجعون به، ويذهبون إلى الشعاب فيصلون. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بأمره ويدعو إلى دينه بعد ثلاث سنين من مبدأ الوحي، فصعد على الصفا ونادى: يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش.
فقال: لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتها تصدقونني؟ قالوا: بلى!… قال: فإني نذير لكم بين يدى عذاب شديد. ثم نزل قوله " (وأنذر عشيرتك الأقربين ). وتردد إليه الوحي النذارة فجمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون على طعام صنعه لهم علي بن أبي طالب بأمره ودعاهم إلى الإسلام ورغبهم وحذرهم وسمعوا كلامه وا فترقوا. ثم إن قريشا حين صدع، وسب الآلهة وعابها نكروا ذلك منه، ونابذوه واجمعوا على عداوته، فقام أبو طالب دونه محامياً ومانعاً، ومشت إليه رجال قريش يدعونه إلى النصفة: عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، وأبو البختري بن هشام بن الحرب بن أسد بن عبد العزى، والاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ابن أخي الوليد، والعاص بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد فناف بن زهرة. فكلموا أبا طالب وعادوه فردهم ردا جميلا. ثم عادوا إليه وسألوه النصفة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته بمحضرهم وعرضوا عليه قولهم فتلا عليهم القرآن، وأيأسهم من نفسه وقال لأبي طالب: يا عماه لا أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه. واستعبر وظن أن أبا طالب بدا له فيه مجاف، فرق له أبو طالب وقال: يا ابن أخى ! قل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا. هجرة الحبشة ثم افترق أمر قريش، وتعاهد بنو هاشم وبنو المطلب مع أبي طالب على القيام دون النبي صلى الله عليه وسلم، ووثب كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم، واشتد عليهم العذاب، فأمرهم النبىصلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى أرض الحبشة فراراً بدينهم، وكان قريش يتعاهدونها بالتجارة فيحمدونها. فخرج عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مراغما لأبيه، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو بن عامر بن لؤي، والزبير بن العوام ومصعب بن عمير بن عبد شمس وأبوسبرة بن أبي هاشم بن عبد
العزى العامري من بني عامر بن لؤي، وسهيل بن بيضاء من بني الحرث بن فهر، وعبد الله بن مسعود، وعامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي وهو من عنز بن وائل ليس من عنزة، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة. فهؤلاء الأحد عشر رجلا كانوا أول من هاجر إلى أرض الحبشة، وتتابع المسلمون من بعد ذلك. ولحق بهم جعفر بن أبى طالب وغيره مر المسلمين. وخرجت قريش لي آثار الأولين إلى البحر، فلم يدركوهم وقدموا إلى أرض الحبشة فكانوا بها، وتتابع المسلمون في اللحاق بهم. يقال: إن المهاجرين إلى أرض الحبشة بلغوا ثلاثة وثمانين رجلا. فلما رأت قريش النبي صلى الله عليه وسلم قد امتنع بعمه وعشيرته وأنهم لا يسلمونه طفقوا يرمونه عند الناس ممن يفد على مكة بالسحر والكهونة والجنون والشعر، يرومون بذلك صدهم عن الدخول في دينه. ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرتهصلى الله عليه وسلم باالعداوة والأذى، منهم عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، أحد المستهزئين، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط أحد المستهزئين، وأبو سفيان من المستهزئين والحكم بن أبي العاص بن أمية من المستهزئين أيضاً. والنضر بن الحرث من بني عبد الدار والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى من المستهزئين، وابنه زمعة وأبو البختري العاص بن هشمام، والأسود بن عبد يغوث وأبو جهل بن هشام وأخوهما العاص وعمهما الوليد وابن عمهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، وزهير بن أبى امية بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي وابنا عمه نبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية وانجى ابنا خلف بن جمح.
صفحة فراغ
القسم الرابع
المجلد الثاني
من تاريخ العلامة ابن خلدون وأقاموا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتعرضون له بالاستهزاء ؤالإذاية، حتى لقد كان بعضهم ينال منه بيده. وبلغ عمه حمزة يوما أن أبا جهل بن هشام تعرض له يوما بمثل ذلك، وكان قوي الشكيمة. فلم يلبث أن جاء إلى المسجد وأبو جهل في نادي قريش، حتى وقف على رأسه وضربه وشجه وقال له: تشتم محمدا وأنا على دينه؟ وثار رجال بني مخزوم إليه فصدهم أبو جهل وقال: دعوه فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا. ومضى حمزة على إسلامه وعلمت قريش أن جانب المسلمين قد اعتز بحمزة، فكفوا بعض الشر بمكانه فيهم. ثم اجتمعوا وبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي ليسلم إليهم من هاجر إلى أرضه من المسلمين، فنكر النجاشي رسالتهما وردهما مقبوحين. إسلام عمر بن الخطاب ثم أسلم عمر بن الخطاب، وكان سببه إسلامه أنه بلغه أن أخته فاطمة أسلمت مع زوجها سعيد ابن عمه زيد، وان خباب بن الأرت عندهما يعلمهما القرآن فجاء إليهما منكراً وضرب أخته فشجها، فلما رأت الدم قالت. قد أسلمنا وتابعنا محمدا فافعل ما بدا لك! وخرج إليه خباب من بعض زوايا البيت، فذكره ووعظه، وحضرته الانابة فقال له: اقرأ على من هذا القرآن! فقرأ من سورة طه، وأدركته الخشية فقال له. كيف تصنعون إذا أردتم الإسلام؟ فقالوا له : وأروه الطهور ثم سأل عن مكان النبي صلى الله عليه وسلم فدل عليه،
فطرقهم في مكانهم، وخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا ابن الخطاب؟ فقال: يا رسول الله! جئت مسلماً ! ثم تشهد شهادة الحق ودعاهم إلى الصلاة عند الكعبة، فخرجوا وصلوا هنالك واعتز المسلمون بإسلامه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: اللهم اعز الإسلام بأحد العمرين يعنيه أو أبا جهل. فلما رأت قريش فشو الإسلام وظهوره أهمهم ذلك، فاجتمعوا وتعاهدوا على بني هاشم وبني المطلب، الا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في الكعبة. وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلهم كافرهم ومؤمنهم، فصاروا في شعب أبي طالب محصورين متجنبين، حاشا أبي لهب، فإنه كان مع قريش على قومهم. فبقوا كذلك ثلاث سنين لا يصل إليهم شيء ممن أرادوا صلتهم إلا سرا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل على شأنه من الدعاء إلى الله، والوحي عليه متتابع إلى أن قام في نقض الصحيفة رجال من قريش، كان أحسنهم في ذلك أثرا هشام لن عمرو بن الحرث من بني حسن بن عامر بن ئؤي، لقي زهر بن أبي امة بن المغيرة، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فعيره بإسلامه أخواله إلى ما هم فمه، فأجاب إلى نقض الصحيفة. ثم مضى إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وذكر رحم هاشم والمطلب ثم الى أبي البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود فأجابوا كلهم وقاموا في نقض الصحيفة. وقد بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحيفة أكلت الأرضة كتابتها كلها، حاشا أسماء الله. فقاموا بأجمعهم فوجدوها كما قال، فخروا ونقض حكمها. ثم أجمع أبو بكر الهجرة وخرج لدلك، فلقيه ابن الدغينة فرده. ثم اتصل بالمهاجرين في أرض الحبشة خبر كاذب بأن فريشاً قد أسلموا، لرجع قوم منهم إلى مكة: منهم عثمان بن عفان وزوجته وأبو حذيفة وامرأته، وعبد الله بن عتبة بن غزوان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير وأخوه والمقداد بن عمر وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم المؤمنين، وسلمة بن هشام بن المغيرة وعمار بن ياسر، وبنو مظعون: عبد الله وقدامة وعثمان وابنه السائب، وخنيس بن حذافة وهشام بن العاص وعامر بن ربيعة وامرأته، وعبد الله بن مخرمة من بني عامر بن لؤي، وعبد الله بن سهل بن السكران بن عمرو، وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وعمرو بن أبي سرح، فوجدوا المسلمين بمكة على ما كانوا عليه مع قريش من الصبر
على أذاهم، ودخلوا إلى مكة بعضهم مختفيا وبعضهم بالجوار، وأقاموا إلى ان كانت الهجرة إلى المدينة بعد أن مات بعضهم بمكة. الأذى والاستهزاء ثم هلك أبو طالب وخديجة، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة وأقدم عليه سفهاء قريش بالإذاية والاستهزاء وإلقاء القاذورات في مصلاه، فخرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام والنصرة والمعونة. وجلس إلى عبد ياليل بن عمر بن عمير وأخويه مسعود وحبيب، وهم يومئذ سادات ثقيف وأنتمرافهم، وكلمهم فأساءوا الرد، ويئس منهم فأوصاهم بالكتمان فلم يقبلوا، وأغروا به سفهاءهم فاتبعوه حتى ألجأوه إلى حائط عتبة وشيمة ابني ربيعة، فأوى إلى ظله حتى اطمأن، ثم رفع طرفه إلى السماء يدعو: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين، أنت ربي إلى من تكلني! إلى بغيض يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بها علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك. ولما انصرف من الطائف إلى مكة، بات بنخلة وقام يصلي من جوف الليل، فمر به نفر من الجن سمعوا القرآن، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في جوار المطعم بن عدي بن نوفل، بعد أن عرض ذلك على غيره من رؤساء قريش، فاعتذروا بما قبله منهم. ثم قدم عليه الطفيل بن عمرو الدوسي فأسلم، ودعا قومه فأسلم بعضهم، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له علامة للهداية، فجعل لوجهه نوراً، ثم دعا له فنقله إلى سوطه وكان يعرف بذي النور. الإسراء قال ابن حزم: ثم كان الاسراء إلى بيت المقدس، ثم إلى السماوات، ولقي من لقي من الأنبياء، ورأى جنة المأوى وسدرة المنتهى في السماء السادسة، وفرضت الصلاة
في تلك الليلة. وعند الطبري: الاسراء وفرض الصلاة كان أول الوحي. ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على وفود العرب في الموسم، يأتيهم في منازلهم ليعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إلى نصره، ويتلو عيهم القرآن. وقريش مع ذلك يتعرضون لهم بالمقابح إن يقبلوا منهم، وأكثرهم في ذلك أبو لهب. وكان من الذين عرض عليهم في الموسم بنو عامر بن صعصعة بن مضر وبنو شيبان وبنو حنيفة من ربيعة وكندة من قحطان وكلب من قضاعة وغيرهم من قبائل العرب. فكان منهم من يحسن الاستماع والعذر، ومنهم من يعرض ويصرح بالاذاية، ومنهم من يشترط الملك الذي ليس هو من سبيله. فيردصلى الله عليه وسلم الأمر إلى الله، ولم يكن فيهم أقبح رداً من بني حنيفة، ولد ذخر الله الخير في ذلك كله للأنصار. فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بن الاوس، فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الإسلام فلم يبعد ولم يجب، وانصرف إلى المدينة فقتل في بعض حروبهم وذلك قبل بعاث. ثم قدم بمكة أبو الحيسر أنس بن رافع في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف، لدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال إياس بن معاذ منهم- وكان شابا حدثاً-: هذا والله خير مما جئنا له! فانتهره أبو الحيسر فسكت. ثم انصرفوا إلى بلادهم ولم يتم لهم الحلف ومات إياس فيقال انه مات مسلما. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد لن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وعوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم، وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زيد بن مالك بن غضبة بن جشم بن الخزرج، وطبقة بن عامر بن حيدرة بن عمر بن سواد بر غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن اشد بن مراد بن يزيد بن جشم، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن خزام بن كعب بن غنم بن سلمة، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سلمة بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان من صنع الله لهم أن اليهود جيرانهم كانوا يقولون: إن نبيا يبعث ولد أظل زمانه، فقال بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي تحدثكم به اليهود، فلا يسبقونا إليه. فآمنوا وأسلموا وقالوا إنا قد قدمنا بينهم حروبا فننصرف وندعوهم إلى ما دعوتنا إليه! فعسى الله أن يجمع كلمتهم بك، فلا يكون
أحد أعز منك، فانصرفوا إلى المدينة ودعوا إلى الإسلام حتى فشا فيهم. ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. العقبة الأولى حتى إذا كان من العام القابل قدم مكة من الأنصار اثنا عشر رجلا: منهم خمسة من الستة الذي ذكرنا وهم من عدي، وجابر بن عبد الله، فإنه لم يحضرها. وسبعة من غيرهم وهم: معاذ بن الحرث أخو عوف بن الحرث المذكور، وقيل: إنه ابن عفراء، وذكوان ابن عبد قيس بن خالدة، وخالد بن مخلد بن عامر بن زريق، وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهد بن ثعلبة بن صرمة بن أصرم بن عمرو بن عبادة بن عصيبة من بنى حبيب، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف، هؤلاء عشرة من الخزرج. ومن الأوس: أبو الهيثم مالك بن التيهان، وهو من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحرث بن الخزرج بن عمر بن ملك بن أوس، وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس بن حارثة؛ فبايع هؤلاء، رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على بيعة النساء،- وذلك قبل أن يفرض الحرب- على الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن لا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يفتروا الكذب. فلما حان انصرافهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن مكتوم، ومصعب بن عمير يدعوهم إلى الإسلام، ويعلم من أسلم منهم القرآن والشرائع. فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة، وكان مصعب يؤمهم، وأسلم على يديه خلق كثير من الأنصار. وكان سعد بن معاذ وأسعد بن زرارة ابنا الخاله، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن الحصين إلى سعد بن زرارة،- وكان جارا لبني عبد الأشهل- فأنكرا عليه فهداهما الله إلى الإسلام، وأسلم لإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال- والنساء. ولم تبق دار من دور الأنصار الا وفيها المسلمون رجال ونساء، حاشا بني أمية بن زيد، وخطمة ووائل وواقف: بطون من الأوس وكانوا في عوالي المدينة، فأسلم منهم وكان قوم، شدهم أبو قيس صيفي بن الأسلت الشاعر، فوقف بهم عن الإسلام حتى كانت الخندق فأسلموا كلهم.
العقبة الثانية
ثم رجع مصعب المذكور بن عمير إلى مكة، وخرج معه إلى الموسم جماعة ممن أسلم من الأنصار للقاء النبي صلى الله عليه وسلم في جملة قوم مهم لم يلموا بعد. فوافوا مكة وواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، ووافوا ليلة ميعادهم إلى العقبة متسللين من رحالهم سرا عمن حضر من كفار قومهم، وحضر معهم عبد الله بن حزام بن عمرو أبو جابر، وأسلم تلك الليلة. فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ) على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وإزرهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه.
وحضر العباس بن عبد المطلب، وكان على دين قومه بعد. وإنما توثق للنبيصلى الله عليه وسلم وكان للبراء بن معرور في تلك الأيام المقام المحمود في الإخلاص والتوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من بايع. وكانت عدة الذين بايعوا تلك الليلة ثلاثا وسبعين رجلاً وامرأتين. واختار منهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وقال لهم: انتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي. فمن الخزرج من أهل العقبة الأولى أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت. ومن غيرهم سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرىء القيس بن مالك، وثعلبة بن كعب بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن امرىء القيس، والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبد الله بن عمرو بن حزام أبو جابر، وسعد بن عبادة بن ديلم بن حارثة بن لودان بن عبد ود بن يزيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة، وثلاثة من الأوس وهم أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرىء القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن الأوس ورفاعة بن عبد المنذر بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. فدعا قوم أبو الهيثم بن التيهان مكان رفاعة هذا والله أعلم. ولما تمت هذه البيعة، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى رحالهم فرجعوا، ونمي الخبر إلى قريش فغدت الخلة منهم على الأنصار في رحالهم، فعاتبوهم فأنكروا ذلك، وحلفوا لهم. وفال عبد الله بن أبي بن سلول: ما كان قومي ليتفقوا على مثل هذا وأنا لا أعلمه ! فانصرفوا عنه، وتفرق الناس من منى، وعلمت قريش الخبر، فخرجوا في
طلبهم. فأدركوا سعد بن عبادة فجاءوا به إلى مكة يضربونه ويجرونه بشعره حتى نادى بجبير بن مطعم والحرث بن أمية، وكان يجيرهما ببلده فخلصاه مما كان فيه. وقد كانت قريش قبل ذلك سمعوا صائحاً يصيح ليلاً على جبل أبي قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف مخالف
فقال أبو سفيان : السعدان سعد بكر وسعد هذيم.
فلما كان في الليلة القابلة سمعوه يقول: أيا سعد: سعد الأوس كن أنت ناصراً ويا سعد سعد الخزرجي الغضارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى جنان من الفردوس ذات رفارف
فقال والله هذان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ. ولما فشا الإسلام بالمدينة، وطفق أهلها يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، تعاقدت على أن يفتنوا الملمين عن دينهم، فأصابهم من ذلك جهد شديد. ثم نزل قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. فلما تمت بيعة الأنصار على ما وصفناه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ممن هو بمكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالا، وأول من خرج أبو سلمة بن عبد الأسد، ونزل في قبا، ثم هاجر عامر بن ربيعة حليف بني عدي بامرأته ليلى بنت أبي خيثمة بن غانم. ثم هاجر جميع بني جحش من بني أسد بن خزيمة ونزلوا بقبا، على عكاشة بن محصن وجماعة من بني أسد، حلفاء بني أمية كانت فيهم زينب بنت جحش أم المؤمنين وأختاها حمنة وأم حبية. ثم هاجر عمر بن الخطاب وعباس بن أبي ربيعة في عشرين راكباً، فنزلوا في العوالي في بني أمية بن زيد. وكان يصلي لهم سالم مولى أبي حذيفة. وجاء أبو جهل بن هشام، فخادع عياش بن أبي ربيعة ورده إلى مكة، فحبسوه حتى تخلص بعد حين. ورجع وهاجر مع عمر أخوه زيد، وسعيد ابن عمه زيد وصهره على بنته حفصة أم المؤمنين، جحش بن حذافة السهمى وجماعة من حلفاء بني عدي نزلوا بقبا على رفاعة بن عبد المنذر من بني عوف بن عمرو.
ثم هاجر طلحة بن عبيد الله، فنزل هو وصهيب بن سنان على حبيب بن أساف في بني الحرث بن الخزرج بالسلم وقيل بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة. ثم هاجر حمزة بن عبد المطلب ومعه زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحليفه أبو مرثد كناز بن حصن الغنوي بم فزلوا في بني عمرو بن عوف بقبا على كلثوم بن الهدم، ونزل جماعة من بني المطلب بن عبد مناف فيهم مسطح بن أثاثة ومعه خباب بن الأرت مولى عتبة بن غزوان فى بنى المسجلان بقبا. ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع في بني الحرث بن الخزرج. ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى على المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح في دار بنى جحجبا ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ في بني عبد الاشهل. ونزل أبو حذيفة بن عتبة ومولاه سالم، وعتبة بن غزوان المازني على عباد بن بشر من بني عبد الأشهل. ولم يكن سالم عتيق أبي حذيفة وإنما اعتقته امرأة من الأوس كانت زوجاً لأبي حذيفة، اسمها بثينة بنت معاذ، فتبناه ونسب إليه. ونزل عثمان بن عفان في بني النجار على أوس أخي حسان بن ثابت. ولم يبق أخد من المسلمين بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فإنهما أقاما بأمره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة. الهجرة ولما علمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأنصار من غيرهم، وأنه مجمع على اللحاق بهم، وأن أصحابه من المهاجرين سبقوه إليهم، لشاوروا ما يصنعون فى أمره. واجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة: عتبة وشيبة وأبو سفيان من بني امية، وطعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر من بني نوفل، والنضر بن الحارث من بني عبد الدار، وأبو جهل من بني مخزوم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج من بني سهم، وأمية بن خلف من بني جمح، ومعهم من لا يعد من قريش، فتشاوروا في حبسه وإخراجه عنهم. ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شاباً جلداً فيقتلونه جميعاً، فيتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم. واستعدوا لذلك من ليلتهم، وجاء الوحي بذلك إلى النبىصلى الله عليه وسلم. فلما رأى أرصدهم على باب منزله، أمر
علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ويتوشح ببرده. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فطمس الله تعالى على أبصارهم، ووضع على رؤوسهم ترابا، وأقاموا طول ليلهم. فلما أصبحوا خرج إليهم علي، فعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نجا، وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق، واستأجر عبد الله بن أريقط الدولي من بني بكر بن عبد مناف ليدل بهما إلى المدينة، وينكب عن طريق العظمى، وكان كافرا وحليفاً للعاص بن وائل، لمحنهما وثقا بأمانته، وكان دليلاً بالطريق. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر ليلا وأتيا الغار الذي في جبل ثور بأسفل مكة، فدخلا فيه. وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وراعي غنمه، يريح غنمه عليهما ليلاً فيأخذا حاجتهما من لمنها، واسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام. ونقض عامر بالغنم إثر عبد الله، ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف، فقاف الأثر حتى وقف عند الغار، وقال : هنا انقطع الأثر وإذا بنسج العنكبوت على فم الغار، فاطمأنوا إلى ذلك ورجعوا، وجعلوا مائة ناقة لمن ردهما عليهم. ثم أتاهما عبد الله بن أريقط بعد ثلاث براحلتيهما، فركبا. وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة، واتتهما أسماء بسفرة لهما، وشقت نطاقها وربطت السفرة، فسميت ذات النطاقين. وحمل أبو بكر جميع ماله نحو ستة آلاف درهم، ومروا بسراقه بن مالك بن جعشم فاتبعهم ليردهم. ولما رأوه دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخت قوائم فرسه في الأرض، فنادى بالأمان وأن يقفوا له. فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابا، فكتبه أبو بكر بأمره، وسلك الدليل من أسفل مكة على الساحل أسفل من عسفان وأمج، وأجاز قديدا إلى العرج ثم إلى قبا من عوالي المدينة. ووردوها قريباً من الزوال يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، وخرج الأنصار يخلقونه، وقد كانوا ينتظرونه إلى أن قلصت الظلال ورجعوا إلى بيوتهم، فتلقوه مع أبي بكر في ظل نخلة. ونزل عليه السلام بقبا على سعد بن خيثمه، وقيل على كلثوم الهدم. ونزل أبو بكر بالسخ في بني الحرث بن خزرج على حبيب بن أسد، وقيل على خارجة بن زيد. ،لحق بهم علي رضى الله عنه من مكة بعد أن رد الودائع للناس التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزل معه بقبا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك أياماً، ثم نهض لما أمر الله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن غؤف، فصلاها في المسجد هنالك. ورغب إليه رجال شي سليم أن يقيم عندهم، وتبادروا إلى خطام ناقته اغتناما لبركته. فقال عليه السلام: خلوا سبيلها فإنها مأمورة. ثم مشى والأنصار حواليه إلى أن مر بدار بني بياضة، فتبادر إليه رجالهم يبتدرون خطام الناقة. فقال: دعوها فإنها مأمورة. ثم مر بدار بني ساعدة، فتلقاه رجال وفيهم سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو ودعوه كذلك، وقال لهم مثل ما قال للآخرين. ثم إلى دار بني حارثة بن الخزرج فتلفاه سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة. ثم مر ببني عدي بن النجار أخوال عبد المطلب ففعلوا وقال لهم مثل ذلك. إلى أن أتى دار بني مالك بن النجار، فبركت ناقته على باب مسجده اليوم، وهو يومئذ لغلامين منهم في حجر معاذ بن عفراء اسمهما سهل وسهيل، وفيه خرب ونخل وقبور للمشركين، ومربد. ولما بركت الناقة، بقي على ظهرها ولم ينزل، فقامت ومشت غير بعيد ولم يثنها. ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مكانها الأول، فبركت واستقرت، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها. وحمل أبو أيوب رحله إلى داره، فنزل عليه، وسأل عن المربد وأراد أن يتخذه مسجدا، فاشتراه من بني النجار بعد أن وهبوه له فأبى من قبوله. ثم أمر بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطعت، وبنى المسجد باللبن، وجعل عضادتيه الحجارة، وسواريه جذوع النخل وسقفه الجريد، وعمل فيه المسلمون حسبة لله عز وجل.
ثم وادع اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة، شرط فيه لهم وعليهم. ثم مات أسعد بن زرارة وكان نقيبا لبني النجار، فطلبوا إقامة نقيب مكانه. فقال أنا نقيبكم ولم يخص بها مفهم أحد دولن أحد، فكانت من مناقبهم. ولما رجع عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكانه، فخرج ومعه عائشة أخته وأمهما أم رومان، ومعهم طلحة بن عبيد الله، فقدموا المدينة، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر، وبنى بها في منزل أبي بكر بالسنح. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا رافع إلى نباتة وزوجته سودة بنت زمعة، فحملهما إليه من مكة. وبلغ الخبر بموت أبي أحيحة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل من مشيخة قريش.
المؤاخاة ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين جعفر بن أبى طالب وهو بالحبشة ومعاذ بن جبل، وبين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وبين عمر بن الخطاب وعثمان بن مالك من بني سهم، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين عثمان بن عفان وأوس لن ثابت أخي حسان، وبين سعيد بن زيد وأبى بن كعب، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، ربين أبي حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر بن وقش من بني عبد الأشهل. وبين غمار بن ياسر وخذيفة بن اليمان العنسي حليف بني عبد الأشهل، وقيل بل ثابت بن قشر بن الشماس، وبين أبي ذز الغفارى والمنذر بن عمرو من بني ساعدة، وبين حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العرى وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء وعفير بن بلتعة من بني الحرث بن الخزرج و... وبين بلال بن حمامة وأبي رويحة الخثعمي. ثم فرضت الزكاة، ويقال وزيد في صلاة الحاضر ركعتين، فصارت أربعا بعد أن كانت ركعتين سفرا وحضراً. ثم أسم عبد الله بن سلام، وكفر جمهور اليهود، وظهر قوم من الأوس والخزرج منافقون يظهرون الإسلام مراعاة لقومهم من الأنصار، ويصرون الكفر. وكان رئيسهم: من الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس، ومن الأوس الحرث بن سهيل بن الصامت وعباد بن حنيف ومربع بن قيظي وأخوه أوس من أهل مسجد الضرار. وكان قوم من اليهود أيضا تعوذوا بالإسلام وهم يبطنون الكفر منهم: سعد بن خنيس وزيد بن اللطيت، ورافع بن خزيمة ورفاعة بن زيد بن التابوت وكنانة ن حيورتا.
العزوات
غزوة الابواء ولما كان شهر صفر بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، خرج في مائتين من أصحابه يريد قريشاً وبتي ضمرة، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، فبلغ ودان والأبواء ولم يلقهم. واعترضه مخشي بن عمرو سيد بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة، وسأله موادعة قومه، فعقد له ورجع إلى المدينة، ولم يلى حربا. وهي أول غزاة غزاها بنفسه، وتسمى بالايواء وبودان، المكانان اللذان انتهى إليهما، وهما متقاربان بنحو ستة أميال. وكان صاحب اللواء فمها حمزة بن عبد المطلب. غزوة بواط : ثم بلغه أن عيراً لقريش نحو ألفين وخمسمائة فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش ذاهبة إلى مكة، فخرج في ربيع الاخر لاعتراضها، واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون. وقال الطبري: سعد بن معاذ، فانتهى إلى بواط، ولم يلقهم، ورجع إلى المدينة. غزوة العشيرة ثم خرج في جمادى الأولى غازياً قريشا، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، فسلك عن جانب من الطريق إلى أن لقي الطريق بصخيرات اليمام إلى العشيرة من بطن ينبع، فأقام هنالك بقية جمادى الأولى وليلة من جمادى الثانية، ووادع بني مدلج. ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً. غزوة بدر الأولى وأقام بعد العشيرة نحو عشر ليال، ثم أغار كرز بن جابر الفهرفي على سرح المدينة، فخرج في طلبه حتى بلغ ناحية بدر، وفاته كرز فرجع إلى المدينة. البعوث وفي هذه الغزوات كلها، غزا بنفسه، وبعث فيما بينها بعوثاً نذكرها وفيها: بعث حمزة بن عبد المطلب بعد الابواء، بعثه في ثلاثين راكباً من المهاجرين إلى سيف
البحر، فلقي أبا جهل في ثلثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم عدي بن حجر الجهني ولم يكن قتال. ومنها بعث عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب في ستين راكبا وضانين من المهاجرين، فبلغ ثنية المرار، ولقي بها جمعاً عظيما من قريش، كان عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل مكرز بن حفص بن الأحنف، ولم يكن بينهم قتال. وكان مع الكفار يومئذ من المسلمين المقداد بن عمرو، وعتبة بن غزوان، خرجا مع الكفار ليجدا السبيل إلى اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهربا إلى المسلمين وجاءا معهم. وكان بعث حمزة وعبيدة متقاربين، واختلف ايهما كان قبل، إلا أنهما أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الطبري: ان بعث حمزة كان قبل ودان في شوال لسبعة أشهر من الهجرة، ومنها بعث سعد بن أبي رقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، لطلب كرز بن جابر حين أغار على سرح المدينة فبلغ المرار ورجع. ومنها بعث عبد الله بن جحش إثر مرجعه من يبدر الأولى في شهر رجب، بعثه بثمانية من المهاجرين وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان بن مازن بن منصور، وسعد بن أسى وقاص، وعامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي ووافد بن عبد الله بن زيد مناة بن تميم، وخالد بن البكير بن سعد بن ليث وسهيل بن مضاض بن مهر بن مالك. وكتب له كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ولا يكره أحداً من أصحابه. فلما قرأ الكتاب بعد يومين، وجد فيه أن تمضي حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، وترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم. فأخبر أصحابه وقال: حتى ننزل نخلة بين مكة والطائف، ومن أحب الشهادة فلينهض، ولا أستكره أحداً. فمضوا كلهم وأضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان في بعض الطريق بعيراً لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا في طلبه، ونفر الباقون إلى نخلة. فمرت بهم عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولاهم، وذلك آخر يوم من رحب. فتشاور المسلمون وتجرح بعضهم الشهر الحرام، ثم اتفقوا واغتنموا الفرصة فيهم. فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل، وقدموا بالعير والأسيرين، وقد أخرجوا الخمس فعزلوه. فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم ذلك في الشهر
الحرام، فسقط في أيديهم ثم أنزل الله تعالى: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه... } الآية إلى قوله {حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}. فسري عنهم وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الخمس، وقسم الغنيمة، وحكي: وقبل الفداء في الأسيرين، وردهم الحكم بن كيسان منهما. ورجع سعد وعتبة سالمين إلى المدينة. وهذه أول غنيمة غنمت في الاسلام، وأول غنيمة خمست في الاسلام. وقتل عمرو بن الحضرمي هو الذي هاج وقعة بدر الثانية. صرف القبلة ثم صرفت القبلة عن بيت المقدس، إلى الكعبة، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدية. خطب بذلك على المنبر، وسمعه بعض الأنصار، فقام فصفى ركعتين إلى الكعبة، قاله ابن حزم. وقيل على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل ستة عشر، ولم يقل غير ذلك. غزوة بدر الثانية (العظمى والكبرى) فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى رمضان في السنة الثانية، ثم بلغه أن عيراً لقريش فيها أموال عظيمة، مقبلة من الشام الى مكة، معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش، عيدهم أبرسميان، ومعه عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل فندب عليه السلام المسلمين إلى هذه العير، وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج. ولم يحتفل في الحشد لأنه لم يظن قتالأ، واتصل خروجه بأبي سفيان، فاستأجر ضمضم بن عمار الغفاري، وبعثه إلى أهل مكة يستنصرهم لعيرهم، فنفروا وأرعبوا إلا يسيرا منهم: أبو لهب. وخرجصلى الله عليه وسلم لثمان خلون من رمضان، واستخلف على الصلاة عمرو بن أم مكتوم، ورد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة. ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، ودفع إلى علي راية، وإلى رجل من الأنصار أخرى- يقال كانتا سوداوين. وكان مع أصحابهصلى الله عليه وسلم يومئذ سبعون بعيرا يعتقبونها فقط. وجعل على الساقة بقيس بن أبي صعصعة من بني النجار. وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ، فسلكوا نقب المدينة مع سعد بن معاذ إلى ذي الخليفة، ثم انتهوا إلى صخيرات تمام، ثم إلى بئر الروحاء. ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء. وبعث عليه السلام قبلها بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي
الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتجسسون أخبار أبي سفيان وغيره. ثم تنكب عن الصفراء يمينا، وخرج على وادي دقران، فبلغة خروج قريش ونفيرهم، فاستشار أصحابه. فتكلم المهاجرون وأحسنوا، وهو يريد ما يقوله الأنصار وفهموا ذلك. فتكلم سعد بن معاذ، وكان يخما قال: لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله، فسر بذلك وقال: سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر، وبعث عليا والزبير وسعدا في نفر يلتمسون الخبر، فأصابوا غلامين لقريش فأتوا بهما، وهو عليه الصلاة والسلام قائم يصلي وقالوا: نحن سقاة قريش ! فكذبوهما كراهية في الخبر، ورجاء أن يكونا من العير للعمة، وقلة المؤنة، فجعلوا يضربونهما فيقولان: نحن من العير. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليهم وقال للغلامين: أخبراني أين قريش؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب وإنهم ينحرون يوماً عشرا من الإبل ويوما تسعا. فقال عليه السلام: القوم بين التسعمائة والألف. وقد كان بسسس وعدي الجهنيان مضيا يتجسسان الأخبار، حتى نزلا بدرا وأناخا قرب الماء، واستقيا في شن لهما ومجدي بن عمرو سيد جهينة بقربهما. فسمع عدي جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها: العير نأتي كدا أو بعد غد، فاعمل لهم واقضيك الذي لك. وجاءت إلى مجدي بن عمرو فصدقها. فرجع بسسس وعدي بالخبر، وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر. فقال لمجدي هل أحسست أحداً؟ فقال: راكبين أناخا فيما يلي هذا التل، فاستقيا الماء ونهضا. فأتى أبو سفيان مناخهما وفتت من أبعار رواحلهما فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجح سريعا وقد حذر وتنكب بالعير إلى طريق الساحل، فنجا وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا!
فقال أبو جهل:،والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ونقيم به ثلاثا، وتهابنا العرب أبدأ.
ورجع الاخنس بن شريق بجميع بنى زهرة، وكان حليفهم ومطاعا فيهم وقال: إنما خرجتم تمنعون أموالكم، وقد نجت فرجعوا. وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم فلم يشهد بدراً من قريش عدوي ولا زهري. وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا إلى ماء بدر، وثبطهم عنه مطر نزل، وبله مما يليهم، وأصاب المسلمين دهس الوادى، وأعانهم على السير. فنزل عليه السلام على أدنى ماء
من مياه بدر الى المدينة، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: آلله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنك أم قصدت الحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام: لا بل هو الرأي والحرب! فقال يا رسول الله: ليس هذا بمنزل، وإنما تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونبني عليه حوضاً فنملؤه، ونغور القلب كلها فنكون قد منعناهم الماء. فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بنوا له عريشاً يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتيه من ربه النصر يريهم مصارع القوم واحداً واحداً. ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يجذر لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا، فيهم فارسان: الزير والمقداد. فجذرهم وانصرف وخبرهم الخبر. ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرحعا بقريش ولا يكون الحرب، فأبى أبو جهل وساعده المشركون، وتواقفت الفئتان. وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بيده، ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر وحده، وطفق يدعو ويلح، وأبو بكر يقاوله ويقول في دعائه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني. وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه، وأخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتبه فقال : أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر الله- ثم خرج يحرض الناس، ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول: شاهت الوجوه. ثم تزاحفوا، فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد بصلبون البراز، فخرج إليهم عبيدة بن الحرث وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب. فقتل حمزة وعلي شيبة والوليد، وضرب عتبة عبيدة، فقطع رجله فمات. وجاء حمزة وعلي إلى عتبة فقتلاه. وقد كان برز إليهم عوف ومعوذ إبنا عفراء، وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلا قومهم. وجال القوم جوله، فهزم المشركون، وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا. فمن مشاهيرهم: عتبة وشيبة إبنا ربيعة، والوليد بن عتبة وحنظلة بن سفيان بن حرب، وإبنا سعيد بن العاص عبيدة والعاص، والحرث بن عامر بن نوفل، وابن عمه طعيمة بن عدي وزمعة بن الأسود وإبنه الحرث، واخوه عقيل بن الأسود، وابن عمه أبو البحتري بن هشام، أ ونوفل بن خويلد بن أسد، وأبو جهل بن هشام. اشترك فيه معاذ ومعوذ إبنا عفراء، وجده عبدالله بن مسعود وبه رمق فحز رأسه، وأخوة العاص بن هشام، وابن عمهما مسعود بن أمية وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وابن عمه أبو قيس بن الفاكه، ونبيه ومنبه ابنا
الحجاج، والعاص والحراث ابنا منبه، وأمية لن خلف وابنه علي، وعمير بن عثمان عم طلحة. وأبو العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب، والسائب بن عبد العزيز من بني المطب، وعمرو بن أبي سفيان بن حرب، وأبو العاص بن الربيع، وخالد بن أسيد بن أبي العيص، وعدي بن الخيار من بني نوفل. وعثمان بن عبد شمس ابن عم عتبة بن عزوان، وأبو عزيز أخو مصعب بن عمير، وخالد بن هشام بن المغيرة وابن عمه رفاعة بن أبي رفاعة، وأمية بن أبي حذيفة بن التغيرة، والوليد بن الوليد أخو خالد، وعبد الله وعمرو ابنا أبي بن خلف، وسهيل بن عمرو في آخرين مذكورين في كتب السير. واستشهد من المسلمين: من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن المطلب، عمير بن أبي وقاص، وذو الشمالين عبد عمرو بن نضلة الخزاعى حليف بني زفرة، وصفوان بن بيضاء من بني الحرث بن فهر، ومهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصابه سهم فقتله. وعاقل بن البكير الليثي حليف بني عدي من الأنصار. ثم من الأوس سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر. ومن الخزرج يزيد بن الحارث بن الخزرج، وعمير بن الحمام، من بني سلمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على الجهاد، ويرغب في الجنة، وفي يده تمرات يأكلهن. فقال: بخ بخ أما بينى وبين الجنة الا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم رمى بهن وقاتل حتى قتل. ورافع بن المعفى من بني حبيب بن عبد حارثة، وحارثة بن سراقة من بني النجار، وعوف ومعوذ ابنا عفراء. ثم انجلت قريش الحرب، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين فسحبوا إلى القليب، وطم عليهم التراب. وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن مقدول بن عمر ابن غنم بن مازن بن النجار. ثم انصرف إلى المدينة، فلما نزل الصفراء قسم الغنائم كما أمر الله، وضرب عنق النضر بن كلدة من بني عبد الدار. ثم نزل عرق الظبية، فضرب عنق عقبة ابن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية، وكان في الاسارى، ومر إلى المدينة فدخلها لثمان بقين من رمضان.
غزوة الكرز وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه إلى المدينة إجتماع غطفان، فخرج يريد بني سليم بعد سبع ليال من منصرفه، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم. فبلغ ماء يقال له الكرز، وأقام عليه ثلاثة أيام، ثم انصرف ولم يلق حرباً. وقيل أنه أصاب من نعمهم ورجع بالغنيمة، وإنه بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية، فنالوا منهم وانصرفوا بالغنيمة. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحجة، وفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر- أسارى بدر. غزوة السويق ثم إن أبا سفيان لما انصرف من بدر نذر أن يغزو المدينة، فخرج في مائتي راكب حنى أتى بني النضير ليلا، فتوارى عنه حمي بن أخطب، ولقيه سلام بن مشكم وقراه، وأعلمه بخبر الناس. ثم رجح ومر باطراف المدينة، فحرق نخلاً، وقتل رجلين في حرث لهما. فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، واستعمل على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وبلغ الكرز، وفاته أبو سفيان والمشركون، وقد طرحوا سويقا من أزوادهم ليتحففوا فأخذها المسلمون. فسميت لذلك غزوة السويق وكانت في ذي الحجة بعد بدر بشهرين.
ذي أمر: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر المحرم غازيا غطفان، واستعمل
على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأقام بنجد صفر وانصرف ولم يلق حرباً. نجران: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ربيع الأول يريد قريشاً، واستخلف ابن أم مكتوم، فبلغ نجران معدناً في الحجاز ولم يلق حرباً. وأقام هناك إلى جمادى الثانية من السنة الثالثة وانصرف إلى المدينة. قتل كعب بن الأشرف وكان كعب بن الاشرف رجلا من طيء، وأمه من يهود بني النضير. ولما أصيب أصحاب بدر، وبحث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مبشرين إلى المدينة جعل يقول: ويلكم أحق هذا؟ وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، وإن كان محمد أصاب هؤلاء، فبطن الأرض خير من ظهرها. ثم قدم مكة ونزل على المطلب بن المجلد الثانى ص 518 - 567 وعاد أبو عبيدة إلى فلسطين، وبعث أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبْسىّ ، فسَلكوا درب تفليس إلى بلاد الروم، فلقي جمعا للروم ومعهم عرب من غسان وتتوج وأياد يريدون اللحاق بهرقل، فأوقع بهم واثخن فيهم. ولحق به على أنطاكية مالك بن الأشتر النخعي مدداً، فرجعوا جميعا إلى أبي عبيدة. وبعث أبو عبيدة جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان وخربها. وبعث جيشا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحرث كذلك. وفي خلل دلك فتحت قيثارية بعث إليها يزيد بن أبي سفيان أخاه معاوية بأمر عمر فسار إليها وحاصرهم بعد أن هزمهم. وبلغت قتلاهم في الهزائم ثمانين ألفا وفتحها آخر وكان علقمة بن مجزر على غزة وفيها الق بغار من بطاركة الروم. وقعة أجنادين وفتح بيسان والاردن وبيت المقدس لما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص بعد واقعة مرج الروم نزل عمرو وشرحبيلُ على أهل بيسان، فافتتحها وصالح أهل الأردن، واجتمع عسكر الروم بأجناد ين وغزة وبيسان وعليهم أرطبون من بطارقة الروم. فسار عمرو وشرحبيل إليهم، واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي وكان الأرطبون قد أنزل بالرملة جندا عظيما من الروم وبيت المقدس كذلك. وبعث عمرو علقمة بن حكيم الفراسى، ومسروق بن العكي لقتال أهل بجت المقدس. وبعث أبا أيوب المالكى إلى قتال أهل الرملة. وكان معاوية محاصرا لأهل قيسارية فشغل جميعهم عنه. ثم زحف عمرو إلى الأرطبون واقتتلوا كيوم اليرموك أو أشد. وانهزم أرطبون إلى بيت المقدس، وأفرج له المسلمون الذين كانوا يحاصرونها حتى دخل. ورجعوا إلى عفر وقد نزل أجناد ين. وقد تقدم لنا ذكر هذه الواقعة قبل اليرموك على رأي من جعلها قبلها، وهذا على قول من جعلها بعدها. ولما دخل أرطبون بيت المقدس فتح عمر غزة. وقيل كان فتحها في خلافة أبي بكر ثم فتح سبسطية وفيها قبر يحمى بن زكريا، وفتح نابلس على الجزية. ثم فتح مدينة لد ثم عمواس وبيت حبرين ويافا ورفح وسائر مدائن الأردن. وبعث إلى الأرطبون فطلب أن يصالح كأهل الشام، ويتولى العقد عمر، وكتبوا إليه بذلك.
فسار عن المدينة واستخلف عليها علي بن أبي طالب بعد أن عذله في مسيره فأبى. وقد كان واعد أمراء الأجناد هنالك، فلقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير، فنزل ورماهم بالحجارة وقال: استقبلونى في هذا الزي؟ وإنما شبعتم مذ سنتين، والله لو كان على رأس المائتين لاستبدلت بكم. قالوا: إنها بلا ثمن، وإن عينا السلاح فسكت ودخل الجابية.
وجاءه أهل بيت المقدس وضم عمرا وشرحبيل إليه، وقد هرب أرطبون عنهم إلى مصر فصالحوه على الجزية وفشوها له، وكذلك أهل الرملة.
وولى علقمة بن حكيم عليه نصف فلسطين وأسكنه الرملة، وعلقمة بن مجزر على النصف الآخر وأسكنه بيت المقدس، وضم عمرا وشرحبيل إليه فلقياه بالجابية. وركب عمر إلى بيت المقدس فدخلها وكشف عن الصخرة، وأمر ببناء المسجد عليها. وذلك سنة خمس عشرة وقيل سنة ست عشرة. ولحق أرطبون بمصر مع من أبى الصلح من الروم حتى هلك في فتح مصر. وقيل: إنما لحق بالروم وهلك في بعض الطوائف. ثم فرق عمر العطاء ودون الدواوين سنة خمس عشرة ورتب ذلك على السابقة.
ولما أعطى صفوان بن أمية والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو أقل من غيرهم قالوا: لا والله لا يكون أحد أكرم منا. فقال: إنما أعطيت على سابقة الإسلام لا على الأحساب. فقالوا: فنعم إذن، وخرجوا إلى الشام فلم يزالوا مجاهدين حتى أصيبوا.
ولما وضع عمر الدواوين قال له علي وعبد الرحمن ابدأ بنفسك. قال لا ! بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب، ورتب ذلك على مراتب. ففرض خمسة آلاف ثم أربعة ثم ثلاثة ثم ألفين وخمسمائة ثم ألفين ثم ألفا واحدا ثم خمسمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين ثم مائتين.
وأعطى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف لكل واحدة وفضل عائشة بألفين، وجعل النساء على مراتب، فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلاثمائة ثم مائتين، والصبيان مائة مائة والمساكين جرايتين في الشهر ولم يترك في بيت المال شيئا. وسئل في ذلك فأبى وقال: هي فتنة لمن بعدي.
وسأل الصحابة في قوته من بيت المال فأذنوا له فيه وسألوه في الزيادة على لسان
حفصة ابتنه فتكتمين عنه. فغضب وامتنع. وسألها عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشه وملبسه وفراشه، فأخبرته بالكفاف من ذلك. فقال: والله لأضعن الفضول موضعها، ولأتبلغن بالترجية، وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سكوا طريقا، وتزود الأول فبلغ المنزل، واتبعه الآخر مقتديا به كذلك، ثم جاءه الثالث بعدهما، فإن اقتفى طريقهما وزادهما لحق بهما وإلا لم يبلغهما.
وفتحت في جمادى من هذه السنة بكريت، لان أهل الجزيرة كانوا قد اجتمعوا إلى المرزبان الذي كان لها، وهم من الروم وأياد وتغلب والنمر ومعهم المشهارجة ليحموا أرض الجزيرة من ورائهم. فسرح إليهم سعد بن أبي وقاص بأمر عمر كاتبه عبد الرحمن بن المعتمر، وعلى مقدمته ربعي بن الأفكل. وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة؟ فحاصروهم أربعين يوما ودخلوا العرب الذين معهم، فكانوا يطلعونهم على أحوال الروم. ثم يئس الروم من أمرهم واعتزموا على ركوب السفن في دجلة للنجاة. فبعث العرب بذلك إلى المسلمين وسألوهم الأمان، لأجابوهم على أن يسلموا فأسلموا، وواعدوهم الثبات والتكبير،وأن يأخذوا على الروم أبواب البحر مما يلي دجلة ففعلوا. ولما سمع الروم التكبير من جهة البحر ظنوا أن المسلمين استداروا من هنالك، فخرجوا إلى الناحية التي فيها المسلمون، فأخذتهم السيوف من الجهتين. ولم يفلت إلا من أسلم هن قبائل ربيعة من تغلب والنمر وإياد، وقسمت الغنائم فكان للفارس ثلاثة آلاف درهم وللراجل ألف. ويقال أن عبد الله بن المعتمر بعث ربعي بن الأفكل بعهد عمر إلى الموصل ونينوى، وهما حصنان على دجلة من شم قيها وغربيها. فسار في تغلب وإياد والنمر، وسقوه إلى الحضين، فأجابوا إلى الصلح وصاروا ذمة. وقيل بل الذي فتح الموصل عتبة بن فرقد سنة عشرين، وإنه ملك نينوى وهو الشرقي عنوة.
وصالحه أهل الموصل وهو الغربي على الجزية، وفتح معها جبل الأكراد وجميع أعمال الموصل، وقيل إلا بعث عتبة بن فرقد عياض بن غنم عندما فتح الجزيرة على ما نذكره والله أعلم.
مسير هرقل إلي حمص وفتح الجزيرة وأرمينية
كان أهل الجزيرة قد راسلوا هرقل وأغووه بالشام، وأن يبعث الجنود إلى حمص وواعدوه المدد. وبعثوا الجنود إلى أهل هيت مما يلى العراق. فأرسل سعد عمر بن مالك بن خيبر بن مطعم لى جند، وعلى مقدمته الحرث بن يزيد العامري. فسار إلى هيت وحاصرهم، فلما رأى اعتصامهم بخندقهم حجر عليهم الحرث بن يزيد، وخرج في نصف العسكر، وجاء قرقيسيا على غرة فأجابوه إلى الجزية. وكتب إلى الحرث أن يخندق على عكر الجزيرة، فبيت حتى سألوا المسالمة والعود إلى بلادهم، فتركهم ولحق بعمر بن مالك.
ولما اعتزم هرقل على قصد حمص، وبلغ الخبر أبا عبيدة، ضم إليه مسالحة، وعسكر بفنائها. وأقبل إليه خالد من قنسرين، وكتبوا إلى عمر نخبر هرقل، فكتب إلى سعد أن يذهب الناس بل أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو ويسرحهم من يومهم، فإن أبا عبيدة قد أحيط به. وأن يسرح سهيل بن عدي إلى الرقة، فإن أهل الجزيرة هم الذين استدعوا الروم إلى حمص. وأن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، ثم يقصد حران والرها. وأن يسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وأن يكون عياض بن غنم على أمراء الجزيرة هؤلاء أن كانت حرب- فمضى القعقاع من يومه في أربعة آلاف إلى حمص، وسار عياض بن غنم وأمراء الجزيرة كل أمير إلى كورته. وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية يريد حمص مغيثا لأبى عبيده، ولما سمع أهل الجزيرة خبر الجنود فارقوا هرقل ورجعوا إلى بلادهم. وزحف أبو عبيدة إلى الروم فانهزموا، وقدم القعقاع من العراق بعد الوقعة بثلاث. وكتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إليهم أن أشركوا أهل العراق في الغنيمة. وسار عياض بن غنم إلى الجزيرة، وبعث سهيل بن عدي إلى الرقة عندما انقبضوا عن هرقل، فنهضوا معه إلا إياد بن نزار، فإنهم دخلوا أرض الروم. ثم بعث عياض بن سهيل وعبد الله يضمهما إليه، وسار بالناس إلى حران فأجابوه إلى الجزية. ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها، فأجابوا إلى الجزية وكمل فتح الجزيرة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر لما رجع من الجابية وانصرف معه خالد، أن يضم إليه عياض بن غنم مكانه ففعل، وولى حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها والوليد بن عقبة على عربها.
ولما بلغ عمر دخول إياد إلى بلاد الروم، كتب إلى هرقل: بلغني أن حيا من أحياء العرب تركوا دارنا وأتوا دارك فوالله لتخرجنهم أو لنخرجن النصارى إليك. فأخرجهم هرقل وتفرق منهم أربعة آلاف فيما يلي الشام والجزيرة، وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل من نغلب إلا الإسلام. فكتب إليه عمر: إنما ذلك في جزيرة العرب التي فيها مكة والمدينة واليمن، فدعهم على أن لا ينصروا وليدا ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام. ثم وفدوا إلى عمر في أن يضع عنهم اسم الجزية، فجعلها الصدقة مضاعفة. ثم عزل الوليد عنهم لسطوته وعزتهم، وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملي. وقال ابن إسحاق: أن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة، وأن سعدا بعث إليها الجند مع عياض بن غنم وفيهم ابنه عمر وعياض بن غنم، ففتح عمر الرها بل ففتح عياض الرها. وصالحت حران وافتتح أبو موسى نصيبين، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينيا فصالحوه على الجزية. ثم كان فتح قيسارية من فلسطين. فتكون الجزيرة على هذا من فتوح أهل العراق، والأكثر إنها من فتوح أهل الشام، وأن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إليها. ويل بل استخلفه لما توفي. فولاه عمر على حمص وقنسرين والجزيرة، فسار إليها سنة ثماني عشرة في خمسة آلاف، فانتهت طائفة إلى الرقة فحاصروها، حتى صالحوه على الجزية والخراج على الفلاحين. ثم سار إلى حران فجهز عليها صفوان بن المعطل، وحبيب بن مسلمة، وسار هو إلى الرها فحاصرها حتى صالحوه، ثم رجع إلى حران وصالحهم كذلك ثم فتح شميساط وشروج ورأس كيفا، فصالحوه على منبج كذلك ثم آمد ثم ميافارقين ثم كفر توثا ثم نصيبين ثم ماردين ثم الموصل، وفتح أحد حصنيها، ثم سار إلى أرزن الروم ففتحها، ودخل الدرب إلى بدليس ثم خلاط، فصالحوه وانتهى إلى أطراف أرمينية، ثم عاد إلى الرقة ومضى إلى حمص فمات. واستعمل عمر عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين، وقيل: أن عياضاً هو الذي أرسله، وقيل أن أبا موسى الأشعري هو الذي افتتح رأس عين بعد وفاة عياض بولاية عمر. وفيل أن خالدا حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد، فأطلى بشيء فيه خمر، وميل لم يسر خالد تحت لواء أحط بعد أبي عبيدة. ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة ثم انتقض أهلها، فلما ولي معاوية الشام والجزيرة وجه إليها حبيب بن مسلمة ففتحها عنوة أيضاً ورتب فيها الجند وولى عليها لما أدرب عياض بن غنم من الجابية.
فرجع عمر إلى المدينة سنة سبع عشرة وعلى حمص أبو عبيدة، وعلى قنسرين خالد بن الوليد من تحته، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى السواحل عبد الله بن قيس. وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال فانتجعه رجال منهم الأشعث، فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله واضمم إليك عمله. فاستدعاه أبو عبيدة وجمع الناس وجلس على المنبر، وسأل اليزيد خالدا فلم بجبه، فقام بلال وأنفذ فيه أمر عمر وسأله فقال: من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته وعمامته. ثم استدعاه عمر فقال له من أين هذا الثراء؟ قال من الأنفال والسهمان وما زاد على ستين ألفاً فهو لك، فجمع ماله فزاد عشرين نجعلها في بيت المال، ثم استصلحها. وفي سنة سبع عشره هذه اعتمر عمر ووسع في المسجد، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على من أبى البيع دورهم لذلك. وكانت العمارة في رجب وتولاها مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى وسعيد بن يربوع. واستأذنه أهل المياه أن يبنوا المنازل بين مكة والمدينة فأذن لهم على شرط أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة وولاية أبي موسى
كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر، ثم عزله عمر بقدامة بن مظعون ثم أعاده. وكان العلاء يناوىء سعد بن أبي وقاص ووقع له في قتال أهل الردة ما وقع. فلما ظفر سد بالقادسية كان أعظم من فعل العلاء، فأراد أن يؤثر في الفرس شيئاً، فندب الناس إلى فارس وأجابوه وفرقهم أجنادا بين الجارود بن المعلى والسوار بن همام وخليد بن المنذر، وأفره على جميعهم، وحمله في الجر إلى فارس بغير إذن من عمر. لأنه كان بنهى عن ذلك وأبو بكر قبله خوف الغرق. فخرجت الجنود إلى اصطخر وبازائهم الهربذ في أهل فارس، وحالوا بينهم وبين سفنهم، فخاطبهم خليد وقال: إنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لمن غلب. ثم ناهدوهم واقتتلوا بطاوس وقتل الجارود والسوار. وأمر خالد أصحابه أن يقاتلوا رجالة. وقتل من الفرس مقتله عظيمة. ثم خرج المسلمون نحو البصرة، وأخذ الفرس عليهم الطرق، فعسكروا وامتنعوا، وبلغ ذلك عمر فأرسل إلى عتبة بالصرة يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا. وأمر العلاء بالانصراف عن البحرين إلى سعد بمن معه، فأرسل عتبة الجنود اثني عشر ألف مقاتل، فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وأمثالهم، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم من عامر بن لؤي، فساحل بالناس حتى لقي خليدا والعسكر. وقد تداعى إليهم بعد وقعة طاوس أهل فارس من كل ناحية، فاقتتلوا وانهزم المشركون وقالوا. ثم انكفأوا بما أصابوا من الغنائم، واستحثهم عتبة بالرجوع، فرجعوا إلى البصرة. ثم استأذن عتبة في الحج فأذن له عمر فحج، ثم استعفاه فأبى وعزم عليه ليرجعن إليه عمله. فانصرف ومات ببطن نخلة على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد. واستخلف على عمله أبا سبرة بن أبي رهم فأقره عمر بقيه السنة.
ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، وكان بينه وبين أبي بكر منافرة، وكانا متجاورين في مشربتين ينفذ البصر من إحداهما إلى الأخرى من كوتين، فزعموا أن أبا بكرة وزياد بن أبيه وهو أخوه لأمه وآخرين معهما عاينوا المغيرة على حالة قذفوه بها، ادعوا الشهادة، ومنعه أبو بكرة من الصلاة. وبعثوا إلى عمر فبعث أبا موسى أميرا في تسعة وعشرين من الصحابة فيهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر، ومعهم كتاب عمر إلى المغيرة: أما بعد فقد بلغني عنك نبأ عظيم، وبعثت أبا موسى أميرا فسلم إليه ما في يدك والعجل. ولما استحضرهم عمر اختلفوا في الشهادة ولم يستكملها زياد، فجلد الثلاثة. ثم عزل أبا موسى عن البصرة بعمر بن سراقة، ثم صرفه إلى الكوفة ورد أبا موسى فأقام عليه.
بناء البصرة والكوفة
وفي هذه السنة وهي أربع عشرة بلغ عمر أن العرب تقر بل تغيرت ألوانهم ورأى ذلك في وجوه وفودهم، فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا، وقيل أن حذيفة وكان مع سعد كتب بذلك إلى عمر. فسأل عمر سعداً فمال غيرتهم وخومة البلاد، والعرب لا يوافقها من البلاد إلا ما وافق إبلها. فكتب إليه أن يبعث سلمان وحذيفة شرقيه فلم يرضيا إلا بقعة الكوفة فصليا فيها ودعيا أن تكون منزل ثبات. ورجع إلى سعد فكتب إلى القعقاع وعبد الله بن المعتمر أن يستخلفا على جندهما ويحضرا. وارتحل من المدائن فنزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة لسنتين وشهرين من وقعة القادسية، ولثلاث شين وثمانية أشهر من ولاية عمر. وكتب إلى عمر إني قد نزلت الكوفة بين الحيرة والفرات بريا بحريا بين الجلاء والنصر، وخيرت الناس بينهما وبين المدائن، ومن أعجبته تلك جعلته فيها مسلحة. فلما استقروا بالكوفة ثاب إليهم ما فقدوه من حالهم. ونزل أهل البصرة أيضاً منازلهم في وقت واحد مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرات نزلوها من قبل، واستأذنوا جميعاً في بنيان القصب، فكتب عمر أن العسكرة أشد لحربهم وأذكر لكم: وما أحب أن أخالفكم فابتنوا بالقصب. ثم وقع الحريق في القصرين، فاستأذنوا في البناء باللبن فقال: افعلوا ولا يزيد أحد على ثلاثة بيوت، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة. وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل البصرة أبو المحرب عاصم بن الدلف. وكانت ثغور الكوفة أربعة : حلوان وعليها القعقاع، وماسبدان وعليها ضرار بن الخطاب، وقرقيسيا وعليها عمر بن مالك، والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر. ويكون بها خلفاؤهم إذا غابوا.
فتح الأهواز والسوس بعدها
لما انهزم الهرمزان يوم القادسية قصد خوزستان وهي قاعدة الأهواز، فملكها وملك سائر الأهواز. وكان أصله منهم من البيوتات السبعة في فارس وأقام يغير على أهل ميثان ودست ميثان من ثغور البصرة، يأتي إليها من منادر ونهر تيري من ثغور الأهواز. واستمد عتبة بن كزوان سعدا فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود. فنزل بين ثغور البصرة وثغور الأهواز. وبعث عتبة بن غزوان سلمي بن القين وحرملة بن قريضة من بني العدوية من خنظلة، فنزل على ثغور البصرة بميسان ودعوا بني العم بن مالك، وكانوا ينزلون خراسان. فأهل البلاد يأمنونهم، فاستجابوا وجاء منهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي، فلقي سلمي وحرملة وواعداهما الثورة بمنادر ونهر تيري. ونهض سلمي وحرملة يوم الموعد في التعبية، وأنهض نعيماً والتقو هم والهرمزان وسلمي على أهل البصرة، ونعيم على أهل الكوفة. وأقبل إليهما المدد من قبل غالب وكليب، وقد ملك منادر ونهر تيري، فانهزم الهرمزان وقتل المسلمون من أهل فارس مقتلة وانتهوا في اتباعهم إلى شاطىء دجيل وملكوا ما دونها. وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وصل دجيل بينه وبين المسلمين. ثم طلب الهرمزان الصلح فصالحوه على الأهواز كلها، ما خلا نهر تيري ومنادر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد، وبقية المسالح على نهر تيري ومنادر، وفيهما غالب وكليب- ثم وقع بينهما وين الهرمزان اختلاف في التخم ووافقهما سلمى وحرملة فنقض الهرمزان ومنع ما قبله وكثف جنوده بالأكراد. وبعث عتبة بن غزوان حرقوص بن زهير السعدي لقتاله، فانهزم وسار إلى رام هرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها
واتسعت له البلاد إلى تستر. ووضع الجزية وكتب بالفتح، وبعث في أثر الهرمزان جزء بن معاوية، فانتهى إلى قرية الشغر. ثم إلى دورق فملكها. وأقام بالبلاد وعفرها وطلب الهرمزان الصلح على ما بقي من البلاد.
ونزل حرقوص جبل الأهواز، وكان يزدجرد في خلال ذلك يمد ويحرض أهل فارس، حتى اجتمعوا وتعاهدوا مع أهل الأهواز على النصرة. وبلغت الأخبار حرقوصا وجزءا وسلمى وحرملة فكتبوا إلى عمر؟ فكتب إلى سعد أن يبعث جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن ينزلون منازل الهرمزان. وكتب إلى أبي موسى أن يبعث كذلك جند كثيفا مع سعد بن عدي أخي سهيل، ويكون فيهم البراء بن مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم. وعلى الجندين أبو سبرة بن أبي رهم. فخرج النعمان مقرن في أهل الكوفة فخلف حرقوصا وسلمي وحرملة إلى الهرمزان وهو برام هرمز. فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ولقيه فانهزم ولحق بتستر، وجاء النعمان إلى رام هرمز فنزلها، وجاء أهل البصرة من بعده فلحقهم خبر الواقعة بسوق الأهواز فساروا حتى أتوا تستر.
ولحقهم النعمان فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان، وأمدهم عمر بأبي موسى
جعله على أهل البصرة، فحاصروهم أشهرا وأكثروا فيهم القتل. وزاحفهم المشركون ثمانين زحفا سجالا، ثم انهزموا في. آخرها. واقتحم المسلمون خنادقهم وأحاطوا بها وضاق عليهم الحصار، فاستأمن بعضهم من داخل البلد بمكتوب في سهم على أن يدلهم على مدخل يدخلون منه، فانتدب لهم طائفة، ودخلوا المدينة من مدخل الماء وملكوها وقتلوا المقاتلة. وتحصن الهرمزان بالقلعة فأطافوا بها واستنزلوهم على حكم عمر وأوثقوه، واقتسموا الفيء فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، والراجل ألف. وقتل المسلمين في تلك الليلة البراء بن مالك ومجزاة بن ثور قتلهما الهرمزان.
ثم خرج أبو سبرة في أثر المنهزمين ومعه النعمان وأبو موسى، فنزلوا على السوس وسار زر بن عبد الله الفقيمي إلى جنديسابور فنزل عليها. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالرجوع إلى البصرة وأمر مكانه الأسود بن ربيعة من بني ربيعة بن مالك صحابي يسمى المقترب. وأرسل أبو سبرة بالهرمزان إلى عمر في وفد منهم أنس مالك والاحنف بن قيس، فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج المذهب، وتاجه مرصعا بالياقوت وحليته ليراه المسلمون.
فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه، وقال يا هرمزان: كيف رأيت أمر الله وعاقبة الغدر؟ فقال يا عمر: إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغبناكم. فلما صار الآن معكم غلبتمونا. قال فما حجتك وما عذرك في الانتقاض مرة بعد أخرى؟ قال أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك ! قال لا تخف ذلك. ثم استقى فأتي بالماء فقال: أخاف أن أقتل وأنا أشرب، قال لا بأس عليك حتى تشربه، فألقاه من يده وقال: لا حاجة لي في الماء وقد أمنتني. قال كذبت.! قال انس: صدق يا أمير المؤمنين فقد قلت له لا بأس عليك حتى تخبرني وحتى تشربه وصدق الناس. فأقبل عمر على الهرمزان وقال خدعتني؟ لا والله إلا أن تسلم ! فأسلم. فغرض له في ألفين وأنزله المدينة، واستأذنه الأحنف بن قيس في الانسياح في بلاد فارس وقال: لا يزالون في الانتقاض حتى يهلك ملكهم فأذن له.
ولما لحق أبو سبرة بالسوس ونزل عليها وبها شهريار أخو الهرمزان، فأحاط بها
ومعه المقترب بن ربيعة في جند البصرة، فسأل أهل السوس الصلح فأجابوهم. وسار النعمان بن مقرن بأهل الكوفة إلى نهاوند وقد اجتمع بها الأعاجم. وسار المقترب إلى زر بن عبد الله على جنديسابور فحاصروها مدة، ثم رمى السهم بالأمان من خارج على الجزية فخرجوا لذلك. فناكرهم المسلمون فإذا عبد فعل ذلك أصله منهم، فأمضى عمر أمانه. وقيل في فتح السوس: أن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل اصطخر ومنعه سياه في سبعين إلفاً من فارس، فبعثه إلى السوس ونزل الكلبانية، وبعث الهرمزان إلى تستر ثم كانت واقعة أبي موسى، فحاصرهم فصالحوه على الجزية وسار إلى هرمز ثم إلى تستر ونزل سياه بين رامهرمز وتستر.
وحمل أصحابه على صلح أبي موسى، تم على الإسلام على أن يقاتلوا الأعاجم
ولا يقتلوا العرب، وبمنعهم هو من العرب ويلحق بأشرف العطاء، فأعطاهم ذلك عمر وأعوا وشهدوا فتح تسمر ومضى سياه إلى بعض الحصون في زفي العجم فغدرهم وفتحه للمسلمين وكان فتح تستر وما بعدها سنة سبع عشرة وقيل ست عشرة.
سير المسلمين إلى الجهات للفتح
لما جاء الأحنف بن قيس بالهرمزان إلى عمر قال له: يا أمير المؤمنين! لا يزال أهل ارس يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، فلو أذنت بالإنسياح في بلادهم فأزلنا ملكهم، انقطع
رجاؤهم. فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة غير بعيد حتى بل ويقيم حتى يأتي أمره. ثم بعث إليه مع سهيل بن عدي بألوية الأمراء الذين يسيرون في بلاد العجم، لواء خراسان للأحنف بن قيس، ولواء أردشيرخرت وسابور لمجاشع بن مسعود السلمي، ولواء اصطخر لعثمان بن أبي العاص الثقفي، ولوء فسا ودار ابجرد لسارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان لسهيل بن عدي، ولواء سجستان لعاصم بن عمرو، ولواء مكران للحكم بن عمير الثعلبي. ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة بثماني عشرة. ويقال سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين. ثم ساروا في بلاد العجم وفتحوا كما يذكر بعد.
مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس
وأصاب الناس سنة ثماني عشرة قحط شديد وجدب أعقب جوعا بعد العهد بمثله
مع طاعون أتى على جميع الناس، وحلف عمر لا يذوق السمن واللبن حتى يحيا الناس، وكتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدهم لأهل المدينة. فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام من مصر فرخمى السعر، واستقى عمر بالناس فخطب الناس وصلى. ثم قام وأخذ بيد العباس وتوسل به ثم بكى وجثا على ركبتيه يدعو إلى أن مطر الناس. وهلك بالطاعون أبو عبيدة ومعاد ويزيد بن أبي سفيان والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وابنه عتبة في آخرين أمثالهم وتفانى الناس بالشام. وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها، فدعا أبو موسى يرتاد له منزلا ومات قبل رحيله.
وسار عمر بالناس إلى الشام وانتهى إلى سرغ، ولقيه أمراء الأجناد وأخبروه بشد الوباء. واختلفت الناس عليه في قدد معه، فقيل إشارة العود. ورجع وأخبر عبد الرحمن بن عوف بما سمع من رسول الله في أمر الوباء فقال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه. أخرجاه فى الصحيحين.
ولما هلك يزيد وولى عمر على دمشق مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان، وعلى
الأرض شرحبيل بن حسنة. ولما فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر المسير إليه ليقسم مواريث المسلمين ويتطوف على الثغور، ففعل ذلك ورجع واستقضى في سنة ثمانى. عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكندي وعلى البصرة كعب بن سوار الأزدي.
وحج في هذه السنة، ويقال ا أن فتح جلولاء والمدائن والجزيرة كان فى هذه السنة وقد تقدم ذكر ذلك. وكذلك فتح قيسارية على يد معاوية وقيل سنة عشرين.
فتح مصر
لما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه، ثم أتبعه الزبير بن العوام فساروا سنة عشرين أو إحدى أو اثنين أو خمس. فاقتحموا باب إليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر، ولقيهم الجاثليق أبو مريم والأسقف قد بعثه المقوقس. وجاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية والمنع، وأخبره بما أوصى به رسول الله في شأنهم. وأخلهم ثلاثاً، ورجعوا إلى المقوقس وأرطبون أمير الروم، فأبى من ذلك أرطبون وعزم الحرب وبئت المسلمين فهزموه وجنده. ونازلوا عين شمس وهي المطرية، وبعثوا لحصار الفورفا أبرهة بن الصباح، ولحصار الاسكندرية عوف بن مالك، فراسلهم أهل البلاد وانتظروا عين شمس. فحاصرهم عمرو والزبير مدة حتى صالحوهما على الجزية وأجروا ما أخذوا قبل ذلك عنوة، فجرى الصلح وشرطوا رد السبايا، فامضاه لهم عمر بن الخطاب على أن يجيز السبايا في الإسلام و كتب العهد بينهم ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وكافتهم وصاعهم ومدهم وعدهم لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقضي. ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليه ما جنى نصرتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من المجزية بعددهم، وذمتنا ممن أبى برئة. وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله ما لهم وعليه ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سلطاننا، وعليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا، طى أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله وصمد ابناه. وكتب وردان وحضر. هذا نص الكتاب منقولا من الطبري.
قال: فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح، ونزل المسلمون الفسطاط. وجاء أبو مريم الجاثليق يطلب السبايا التي بعد المعركة في أيام الأجل، فأبى عمرو من ردها وقال: أغاروا وقاتلوا وقسمتهم في الناس، وبلغ الخبر إلى عمر فقال: من يقاتل في أيام الأجل فله الأمان. وبعث فيهم إلى الدقاق فردهم عليهم. ثم سار عمرو إلى الإسكندرية، فاجتمع له من بينها وبين الفسطاط من الروم والقبط، فهزمهم واثخن فيهم. ونازل الإسكندرية، وبها المقوقس، وسأله الهدنة إلى مدة فلم يجبه، وحاصرهم ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وغنم ما فيها وجعلهم ذمة. وقيل أن المقوقس صالح عمرا على إثني عشر ألف دينار على أن يخرج من يخرج ويقيم من يقيم باختيارهم وجعل عمرو فيها جنداً. ولما تم فتح مصر والإسكندرية أغزى عمرو العساكر إلى النوبة فلم يظفروا، فلما كان أيام عثمان وعبد الله بن أبى سرح على مصر صالحهم على عدة رؤوس في كل سنة ويهدي إليهم المسلمون طعاما وكسوة فاستمر ذلك فيما بعد.
وقعة نهاوند وما كان بعدها من الفتوحات
لما فتحت الأهواز ويزدجرد بمرو كاتبوه واستنجدوه، فبعث إلى الملوك ما بين الباب والسند وخراسان وحلوان يستمدهم، فأجابوه واجتمعوا إلى نهاوند وعلى الفرس الفيرزان في مئة وخمسين ألف مقاتل. وكان سعد بن أبي وقاص قد ألب أقوام عليه ص سكره وشكوه إلى عمر، فبعث محمد بن مسلمة في الكشف عن أمره فلم يسمع إلا خيراً ، سوى مقالة من بني عبس. فاستقدمه محمد إلى عمرو وخبره الخبر فقال: كيف تصلي يا سعد؟ قال أطيل الأولتين وأحذف الأخيرتين. قال هكذا الظن بك. ثم قال: مى خليفتك على الكوفة؟ قال عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأمره وشافهه بخبر الأعاجم وأشار بالإنسياح ليكون أهيب على العدو. فجمع عمر الناس واستشارهم بالمسير بنفسه. فمن موافق ومخالف إلى أن اتفق رأيهم على أن يبعث الجنود ويقيم ردءا لهم. وكان ذلك رأي علي وعثمان وطلحه وغيرهم. فولى على حربهم النعمان بن مقرن المزني وكان على جند الكوفة بعد انصرافهم من حصار السوس، وأمره أن يصير إلى ماء لتجتمع الجيوش عليه، ويسير بهم إلى الفيرزان ومن معه. وكتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر الناس من النعمان، فبعثهم مع حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن، وكتب إلى المقترب وحرملة وزر الذين كانوا بالأهواز وفتحوا السوس وجنديسابور أن يقيموا بتخوم أصبهان وفارس ويقطعوا المدد على أهل نهاوند.
واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة وجرير والمغيرة وابن عمر وأمثالهم. وأرسل النعمان طليحة وعمرو بن معد يكرب طليعة، ورجع عمرو من طريقه. وانتهى طليحة إلى نهاوند ونقض الطرق فلم يلق بها أحدا وأخبر الناس، فرحل النعمان وعبى المسلمين ثلاثين ألفا. وجعل على مقدمته نعيم بن مقرن، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن وعلى المجردة القعقاع، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. وعبى الفيرزان كتائبه وعلى مجنبتيه زردق وبهمن جادوية مكان ذي الحاجب، وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب من القادسية من أبطالهم. فلما تراءى الجمعان كبر المسلمون، وحطت العرب الأثقال وتبادر أشراف الكوفة إلى فسطاط النعمان فبنوه. حذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبه وعقبة بن عمرو وجرير بن عبد الله وحنظلة الكاتب وبشير بن الخصاصية والأشعث بن قيس ووائل بن حجر وسعيد بن قيس الهمداني. ثم تزاحفوا للقتال يوم الأربعاء والخميس والحرب سجال. ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة وحاصروهم أياما، وسئم المسلمون اعتصامهم بالخنادق وتشاوروا وأشار طليحة باستخراجهم للمناجزة بالاستطراد، بفناشبهم القعقاع فبرزوا إليه كأنهم حبال حديد، قد تواثقوا أن لا يفروا، وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا.
فلما برزوا استطرد لهم حتى فارقوا الخنادق وقد ثبت لهم المسلمون ونزل الصبر، ثم وقف النعمان على الكتائب وحرض المسلمين ودعا لنفسه بالشهادة. وقال إذا كبرت الثالثة فاحملوا، ثم كبر وحمل عند الزوال وتجاول الناس ساعة، وركدت الحرب ثم انفض الأعاجم وانهزموا. وقتلوا ما بين الظهر والعتمة حتى سالت أرض المعركة دما تزلق فيه المشاة، حتى زلق فيه النعمان وصرع. وقيل بل أصابه سهم فسجاه أخوه نعيم بثوب، وتناول الراية حذيفة بعهده، وتواصلوا بكتمان موته. وذهب الأعاجم ليلا، وعميت عليهم المذاهب، وعقرهم حسك الحديد، ووقعوا في اللهيب الذي أعدوه في عسكرهم. فمات منهم أكثر من مئة ألف، منها نحو ثلاثين ألفا في المعركة، وهرب الفيرزان بعد أن صرع إلى همذان، واتبعه نعيم بن مقرن فأدركه بالثنية دونها وتد سدتها الأحمال، وترحل وصعد في الجبل. وكان نعيم قد قدم القعقاع أمامه، فاعترضه وقتله المسلمون على الثنية، ودخل الفل همذان وبها خسر شنوم فنزل المسلمون عليها مع نعيم والقعقاع. ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة وغنموا ما فيها، وجمعوه إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع. وولى على الجط حذيفة بعهد النعمان إليه. ثم جاء الهربذ صاحب بيت النار إلى حذيفة فأمنه وأخرج له صفتين مملوءتين جوهرا نفيسا كانا من دخائل كسرى أودعهما عنده البجرجان، فنقلهما المسلمون. وبعث الخمس من السائب إلى عمر، وأخبره بالواقعة وبالفتح ومن استشهد فبكى. وبالصفتين فقال ضعهما في بيت المال والحق بجندك. قال السائب: ثم لحقني رسوله بالكوفة فردني إليه فلما رآني قال: ما لي وللسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها، فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان نارا يتواعداني بالكي أن لم اقسمهما، فخذهما عني وبعهما في أرزاق المسلمين. فبعثمهما بالكوفة من عمرو بن حريث المخزومى بألفي ألف درهم وباعهما عمرو بأرض الأعاجم بضعفهما. فكان له بالكوفة مال.
وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف والراجل ألفين، ولم يكن للفرس بعدها اجتماع، وكان أبو لؤلؤة قاتل عمر من أهل نهاوند، حصل في أسر الروم وأسره الفرس منهم، فكان إذا لقي سبي نهاوند بالمدينة يبكي ويقول: أكل عمر كبدي. وكان أبو موسى الأشعري قد حضر نهاوند على أهل البصرة، فلما انصرف مر بالدينور، فحاصروها خمسة أيام ثم صالحوه على الجزية. وصار إلى أهل شيروان فصالحوه كذلك. وبعث السائب بن الأقرع إلى العيمرة ففتحها صلحا.
ولما اشتد الحصار بأهل همذان بعث خسر شنوم إلى نعيم والقعقاع في الصلح على قبول الجزية فأجابوه إلى ذلك. ثم اقتدى أهل الماهين، وهم الملوك الذين جاءوا لنصرة يزدجرد بأهل همذان، وبعثوا إلى حذيفة فصالحوه. وأمر عمر بالإنسياح في بلاد الأعاجم، وعزل عد الله بن عبد الله بن عتبان عن الكوفة، وبعثه في وجه آخر. وولى مكانه زياد بن حنظلة حليف لبني عبد قصي، واستعفى فاعفاه. وولى عمار بن ياسر واستدعى بن مسعود من حمص فبعثه معه معلماً لأهل الكوفة، وأمدهم بأبي موسى، وأمد أهل البصرة مكانه بعبد الله بن عبد الله. ثم بعثه إلى أصبهان مكان حذيفة وولى على البصرة عمرو بن سراقة.
ثم انتقض أهل همذان، فبعث إلى نعيم بن مقرن يحاصرهم وصار بعد فتحها إلى خراسان. وبعث عتبة بن فرقد وبكر بن عبد الله إلى أذربيجان فدخل أحدهما من حلوان، والآخر من الموصل ولما فضل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان، وكان من الصحابة من وجوه الأنصار حليف بني الحبلي فأمده بأبي موسى. وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي وعصمة بن عبد الله، فسار إلى نهاوند. ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة. فسار عبد الله بمن معه ومن تبعه من عند النعمان نحو أصبهان، وعلى جندها الأسبيدان وعلى مقدمته شهريار بن جادويه في جمع عظيم برستاق أصبهان فاقتتلوا، وبارز عبد الله بن ورقاء شهريار فقتله. وانهزم أهل أصبهان وصالحهم الأسبيدان على ذلك الرستاق.
ثم ساروا إلى أصبهان- وتسمى جي- وملكها الفادوسفان فصالحهم على الجزية والخيار بين المقام والذهاب وقال: ولكم أرض من ذهب. وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز، فدخل معه أصبهان، وكتبوا إلى عمر بالفتح. فكتب إلى عبد الله أن يسيروا إلى سهيل بن عدي لقتال كرمان فاستخلف على أصبهان السائب بن الاقرع، ولحق بسهيل قبل أن يصل كرمان. وقد قيل: أن النعمان بن مقرن حضر فتح أصبهان أرسله إليها عمر من المدينة واستجاش له أهل الكوفة، فقتل في حرب أصبهان. والصحيح أن النعمان قتل بنهاوند وافتتح أبو موسى قم وقاشان. ثم ولى عمر على الكوفة سنة إحدى وعشرين المغيرة بن شعبة وعزل عمارا.
فتح همذان
كان أهل همذان قد صالح عليهم خشرشنوم القعقاع ونعيما وضنهما، ثم انتقض فكتب عمر إلى نعيم أن يقصدها، فودع حذيفة ورجع إليها من الطريق على تعبيته. فاستولى على بلادها أجمع حتى صالحوه على الجزية. وقيل أن فتحها كان سنة أربع وعشرين. فبينما نعيم يجول في نواحي همذان إذ جاءه الخبر بخروج الديلم وأهل الري واسفنديار أخو رستم بأهل أذربيجان. فاستخلف نعيم على همذان يزيد بن قيس الهمذاني، وسار إليهم فاقتتلوا، وانهزم الفرس وكانت واقعتها مثل نهاوند وأعظم. وكتبوا إلى عمر بالفتح فأمر نعيما بقصد الري والمقام بها بعد فتحها.
وقيل أن المغيرة بن شعبة أرسل من الكوفة جرير بن عبد الله إلى همذان ففتحها صلحا وغلب على أرضها، وقيل تولاها بنفسه وجرير على مقدمته. ولما فتح جرير همذان بعث البراء بن عازب إلى قزوين ففتح ما قبلها وسار إليها، فاستنجدوا بالديلم فوعدوهم. ثم جاء البراء في المسلمين فخرجوا لقتالهم والديلم وقوف بأعلى الجبل ينظرون، فيئس أهل قزوين منهم وصالحوا البراء على صلح أبهر قبلها. ثم غزا البراء الديلم وجيلان.
فتح الري
ولما انصرف نعيم من واقعته سار إلى الري، وخرج إليه أبو الفرخان من أهلها في الصلح، وأبى ذلك ملكها سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين واستمد أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان فأمروه والتقوا مع نعيم فشغلوا به عن المدينة. وقد كان خلفهم أبو فرخان. ودخل المدينة من الليل ومعه المنذر بن عمرو وأخو نعيم، فلم يشعروا وهم مواقفون لنعيم إلا بالتكبير من ورائهم فانهزموا وقتلوا وأفاء الله على المسلمين بالري مثلما كان بالمدائن. وصالحه أبو الفرخان الزبيني على البلاد يزل شرفهم في عقبه. وأخرب نعيماً مدينتهم العتيقة وأمر ببناء أخرى. وكتب إلى عمر بالفتح، وصالحه أهل دنباوند على الجزية فقبل منهم. ولما بعث بالأخماس إلى عمر كتب إليه بإرسال أخيه سويد إلى قومس ومعه هند بن عمرو الجملي، فسار فلم يقم له أحد، وأخذها سلما وعسكر بها. وكاتبه الفل الذين بطبرستان وبالمفاوز فصالحوه على الجزية، ثم سار إلى جرجان وعسكر منها ببسطام، وصالحه ملكها على الجزية، وتلقاه مرزبان صول قبل جرجان فكان معه حتى جبل خراج. وأراه مروجها وسدها، وقيل كان فتحها سنة ثلاثين أيام عثمان. ثم أرسل سويد إلى الاصبهبذ صاحب طبرستان على الموادعة فقبل وعقد له بذلك.
فتح أذربيجان
ولما افتتح نعيم الري أمره عمر أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري إلى أذربيجان مما البكر بن عبد الله. وكان بكر بن عبد الله عند ما سار إلى أذربيجان لقي بالجبال اسفنديار بن قرخزاد مهزوما من واقعة نعيم معهم أبو حرود دون همذان وهو أخو رستم فهزمه بكير وأسره. فقال له اسكني عندك، فاصالح لك على البلاد وإلا فروا إلى الجبال وتركوها. وتحضن من تحصن إلى يوم ما، فأمسكه وسارت البلاد صلحا إلا الحصون. وقدم عليه سماك وهو في مثل ذلك، وقد افتتح ما يليه وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم فأذن له أن يتقدم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتح، فاستخلف عتبة بن فرقد وجمع له عمر أذربيجان كلها. فولى عتبة سماك بن خرشة على ما افتتحه بكير. وكان بهرام بن الفرخزاد قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره مقتصدا بل معترضا له. فلقيه عتبة وهزمه، وبلغ خبره إلى الإسفنديار وهو أسير عند بكير، فصالحه واتبعه أهل أذربيجان كلهم. وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر، وبعثوا بالأخماس، فكتب عمر لأهل أذربيجان كتاب الصلح. ثم غزا عتبة بن فرقد شهرزور والصامغان ففتحهما بعد قتال على الجزية والخراج، وقتل خلقا من الأكراد، وكتب إلى عمر أن فتوحي بلغت أذربيجان فولاه إياها، وولى هرثمة بن عرفجة الموصل.
فتح الموصل- الباب
ولما افتتح أمر عمر بكير بن عبد الله بغزو الباب والتقدم إليها، بعث سراقة بن عمرو على حربها، فار من البصرة، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة وعلى احدى مجنبتيه ابن أسيد الغفاري، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله المتقدم. وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلي، ورد أبا موسى الأشعري إلى البصرة مكان سراقة. ثم أمد سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة، وسار سراقة من اذربيجان. فلما وصل عبد الرحمن بن ربيعة في مقدمته على الباب، والملك بها يومئذ من ولد شهريار الذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام منهم. فكاتبه منهم شهريار واستأمنه على أن يأتي، فحضر وطلب الصلح والموادعة على أن تكون جزيته النصر والطاعة للمسلمين. قال: ولا تسومون الجزية فتوهنونا لعدوكم فسيره عبد الرحمن إلى سراقة فقبل منه وقال: لا بد من الجزية على من يقيم ولا يحارب العدو، فأجابوا وكتبوا إلى عمر فأجاز ذلك.
فتح موقان وجبال ارمينية
ولما فرغ سراقة من الباب بعث أمراء إلى ما يليه من الجبال المحيطة بأرمينية، فأرسل بكير بن عبد الله إلى موقان، وحبيب بن مسلمة إلى تفليس، وحذيفة بن اليمان إلى جبال اللات، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر. وكتب بالخبر إلى عمر فلم يرج تمام ذلك لأنه فرج عظيم. ثم بلغه موت سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة، فأقره عمر على فرج الباب، وأمره بغزو الترك ولم يفتح أحد من أولئك الامراء؟ إلا بكير بن عبد الله فإنه فتح موقان، ثم تراجعوا على الجزية دينارا عن كل حالم.
غزو الترك
ولما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك سار حتى جاء الباب، وسار معه شهريار فغزا بلنجر، وهم قوم من الترك ففروا منه وتحصنوا وبلغت خيله على مائتي فرسخ من بلنجر. وعاد بالظفر والغنائم، ولم يزل يردد الغزو فيهم إلى أيام عثمان، فتذامر الترك وكانوا يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لأن الملائكة معهم تمنعهم، فأصابوا في هذه الغزاة رجلا من المسلمين على غر؟ فقتلوه وتجاسروا، وقاتل عبد الرحمن فقتل وانكشف أصحابه، وأخذ الراية أخوة سلمان. فخرج بالناس ومعه أبو هريرة الدوسي، فسلكوا على جيلان إلى جرجان.
فتح خراسان
ولما عقدت الألوية للأمراء للإنسياح في بلاد فارس، كان الأحنف بن قيس منهم بخراسان. وقد تقدم أن يزدجر سار بعد جلولاء إلى الري وبها أبان جادويه من مرازبته فأكرهه على خاتمة. وكتب الضحاك بما اقترح من ذخائر يزدجرد وختم عليها وبعثها إلى سعد فردها عليه على حكم الصلح الذي عقد له. ثم سار يزدجرد والناس معه إلى أصبهان ثم إلى كرمان، ثم رجع إلى مرو من خراسان فنزلها، وأمن من العرب. وكاتب الهرمزان وأهل فارس بالأهواز والفيرزان وأهل الجبال فنكثوا جميعا وهزمهم الله وخذلهم، وأذن عمر للمسلمين بالإنسياح في بلادهم. وأمر الأمراء كما قدمناه وعقد لهم الأولوية، فسار الأحنف إلى خراسان سنة ثماني عشرة، وقيل اثنين وعشرين. فدخلها من الطبسين وافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلال العبدي. ثم سار إلى مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور مطرف بن عبد الله بن الشخير، وإلى سرخس الحرث بن حسان. ودرج يزدجرد من مرو الشاهجان إلى مرو الروذ، فملكها الأحنف ولحقه مدد أهل الكوفة هنالك. فسار إلى مرو الروذ واستخلف على الشاهجان حارثة بن النعمان الباهلي. وجعل مدد الكوفة في مقدمته، فالتقوا هم ويزدجرد على بلخ فهزموه وعبر النهر فلحقهم الأحنف، وقد فتح الله عليهم ودخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور وطخارستان. وولى على طخارستان ربعي بن عامر وعاد إلى مرو الروذ فنزلها، وكتب إلى عمر بالفتح فكتب إليه أن يقتصر على ما ودون النهر.
وكان يزدجرد وهو بمرو الروذ قد استنجد ملوك الأمم، وكتب إلى ملك الصين وإلى خاقان ملك الترك، وإلى ملك الصغد. فلما عبر يزدجرد النهر منهزما أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد. فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ، واجتمع المسلمون إلى الأحنف بمرو الروذ، ونزل المشركون عليه. ثم رحل ونزل سفح الجبل في عشرين ألفا من أهل البصرة وأهل الكوفة وتحصن العسكران بالخنادق وأقاموا يقاتلون أياما. وصحبهم الأحنف ليلة، وقد خرج فارس من الترك يضرب بطبلة، ويتلوه اثنان كذلك. ثم يخرج العسكر بعدهم عادة لهم، فقتل الأحنف الأول ثم الثاني ثم الثالث. فلما مر بهم خاقان تشاءم وتطير ورجع أدراجه، فارتحل وعاد إلى بلخ. وبلغ الخبر إلى يزدجرد وكان على مرو الشاهجان محاصرا لحارثة بن النعمان ومن معه. فجمع خزائنه وأجمع اللحاق بخاقان على بلخ، فمنعه أهل فارس وحملوه على صلح المسلمين والركون إليهم، وإنهم أوفى ذمة من الترك فأبى من ذلك وقاتلهم فهزموه، واستولوا على الخزائن.
ولحق بخاقان وعبروا النهر إلى فرغانة وأقام يزدجرد ببلد الترك أيام عمر كلها إلى أن كفر أهل خراسان أيام عثمان. ثم جاء أهل فارس إلى الأحنف ودفعوا إليه الخزائن والأموال وصالحوه واغتبطوا بملكة المسلمين، وقسم الأحنف الغنائم فأصاب الفارس ما أصابه يوم القادسية. ثم نزل الأحنف بلخ وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ورجع إلى مرو الروذ فنزلها وكتب بالفتح إلى عمر.
وكان يزدجرد لما عبر النهر لقي رسوله الذي بعثه إلى ملك الصين رده إليه يسأله أن يعيف له المسلمين الذين فعلوا به هذه الافاعيل، مع قلة عددهم- ويسأل عن وفائهم ودعوتهم وطاعة أمرائهم ووقوفهم عند الحدود، ومآكلهم وشرابهم وملابسهم ومراكبهم فكتب إليه بذلك كله. وكتب إليه ملك الصين أن يسالمهم فإنهم لا يقوم لهم شيء بما قام نردبل فأقام يزدجرد بفرغانة بعهد من خاقان. ولما وصل الخبر إلى عمر خطب الناص وقال: ألا وإن ملك المجوسية قد ذهب، فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضر بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وابناءهم لينظر كيف تعملون، فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم. فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم.
فتوح فارس
ولما خرج الأمراء الذين توجهوا إلى فارس من البصرة افترقوا وسار كل أمير إلى جهته، وبلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم، وكانت تلك هزيمتهم وشتاتهم. وقصد مجاشع بن مسعود من الأمراء سابور وأردشيرخرت، فاعترضه الفرس دونهما بتوج فقتلهم وأثخن فيهم. وافتتح توج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر، سفكانت واقعة توج هذه ثانية لواقعة العلاء بن الحضرمي عليهم أيام طاوس. ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا فأقروا بها. اصطخر: وقصد عثمان بن أبي العاص اصطخر، فزحفوا إليه بجور فهزمهم وأثخن فيهم وفتح جور واصطخر، ووضع عليهم الجزية وأجابه الهربذ إليها. وكان ناس منهم فروا فتراجعوا إليها وبعث بالفتح والخمس إلى عمر. ثم فتح كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها ولحق به أبو موسى، فافتتح مدينة شيراز وأرجان على الجزية والخراج وقصد عثمان جينا ففتحها ولقي الفرس هنالك بناحية جهرم فهزمهم وفتحها. ثم نقض شهرك في أول خلافة عثمان، فبعث عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم، وأتته الأمداد من البصرة وعليهم عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد، والتقوا بأرض فارس فانهزم شهرك، وفتله الحكم بن أبي العاص وقيل سوار بن همام العبدي.
وقيل أن ابن شهرك حمل على سوار فقتله. ويقال أن اصطخر كانت سنة ثماني وعشرين وقيل تسع وعشرين... وقيل أن عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرن إلى فارس في ألفين، فسار إلى توج وعلى مجنبتيه الجارود وأبو صفرة والد المهلب، وكان كسرى أرسل شهرك في الجنود للقائهم، فالتقوا بتوج وهزمهم إلى سابور وقتل شهرك، وحاصروا مدينة سابور حتى صالح عليها ملكها واستعانوا به على قتال اصطخر. ثم مات عمر رضي الله عنه، وبعث عثمان بن عفان عبيد الله بن فغفر مكان عثمان بن أبي العاص، وأقام محاصرا اصطخر، وأراد ملك سابور الغدر به. ثم أحضر وأصابت عبيد الله حجارة منجنيق فمات بها. ثم فتحوا المدينة فقتلوا بها بشرا كثيرا منهم.
بساودارابجرد: وقصد سارية بن زنيم الكناني من أمراء الانسياح مدينة بسا ودارا بجرد فحاصرهم. ثم استجاشوا بأكراد فارس واقتتلوا بصحراء. وقام عمر على المنبر ونادى: يا سارية الجبل ! يشير إلى جبل كان إزاءه أن يستند إليه. فسمع ذلك سارية ولجأ إليه. ثم انهزم المشركون، وأصاب المسلمون مغانمهم، وكان فيها صفت جوهر، فاستوهبه سارية من الناس، وبعث به مع الفتح إلى عمر. ولما قدم به الرسول سأله عمر فأخبره عن كل شيء، ودفع إليه السفط فأبى إلا أن يقسم على الجند، فرجع به وقسمه سارية.
كرمان: وقصد سهيل بن عدي من أمراء الانسياح كرمان ولحق به عبد الله بن عبد الله بن عتبان وحشد أهل كرمان، واستعانوا بالقفص، وقاتلوا المسلمين في أدنى أرضهم فهزموهم بإذن الله. وأخذ المسلمون عليهم الطريق بل الطرق. ودخل البشير بن عمرو العجلي إلى جيرفت وقتل في طريقه مرزبان كرمان، وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير وأصابوا ما أرادوا من إبل وشاء. وقيل: أن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بل ورقاء الخزاعي ثم أتى الطبسين من كرمان. ثم قدم على عمر وقال اقطعني الطبسين، فأراد أن يفعل فقال إنهما رستاقان فامتنع.
سجستان: وقصد عاصم بن عمرو من الأمراء سجستان، ولحق به عبد الله بن عمير، وقاتلوا أهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم، وحصروهم بزرنج ومخروا أرض سجستان. ثم طلبوا الصلح لحى مدينتهم وأرضها. على أن الفرات حمى ويسقي أهل سجستان على الخراج. وكان أعظم من خراسان وأبعد فروجاً، يقاتلون القندهار والترك وأمما أخرى. فلما كان زمن معاوية هرب الشاه من أخيه زنبيل ملك الترك إلى بلد من سجستان يدعى آمل وكان على سجستان سلم بن زياد بن أبي سفيان، فعقد له وأنزله آمل، وكتب إلى معاوية بذلك فأقرة بغير نكير. وقال: أن هؤلاء قوم كدر وأهون ما يجيء منهم إذا وقع اضطرب أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها فكان كذلك. وكفر الشاه بعد معاوية وغلب على بلاد آمل واعتصم منه زنبيل بمكانه. وطمع هو في زربخ، فحاصرها حتى جاءت الأمداد من البصرة فاجلفوا عنها.
مكران: وقصد الحكم بن عمرو التغلبي من أمراء الانسياح بلد فكران، ولحق بها شهاب بن المخارق، وجاءه سهيل بن عدي وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وانتهوا جميعا إلى دوين وأهل مكران على شاطئيه، وقد أمدهم أهل السند بجيش كثيف، ولقيهم المسلمون فهزموهم واثخنوا فيهم بالقتل، واتبعوهم أياما حتى انتهوا إلى النهر، ورجعوا إلى مكران فأقاموا بها وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس مع صحار العبدي، وسأله عمر عن البلاد فأثنى عليها شرا فقال: والله لا يغزوها جيش لي أبدا. وكتب إلى سهيل والحكم أن لا يجوز مكران أحد من جنودكما.
خبر الأكراد
كان أمر أمراء الانسياح لما فصلوا إلى النواحي حتى اجتمع ببيروذ بين نهر تيري ومنادر من أهل الأهواز جموع من الأعاجم أعظمهم الأكراد، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى تخوم البصرة ردءا للأمراء المنساحين. فجاء إلى بيروذ وقاتل تلك الجموع قتالاً شديدا، وقتل المهاجر بن زياد. ثم وهن الله المشركين فتحصنوا منه في قلة وذلة. فاستخلف أبو موسى عليهم أخاه الربيع بن زياد وسار إلى أصبهان مع المسلمين الذين يحاصرونها، حتى إذا فتحت رجع إلى البصرة. وفتح الربيع بن زياد بيروذ وغنم ما فيها، ولحق به بالبصرة وبعثوا إلى عمر بالفتح والأخماس.
وأراد ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، فغضب وانطلق شاكيا إلى عمر بانتقائه ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه وأنه أجاز الحطيئة بألف. وولى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، واعتذر أبو موسى وقبله عمر. وكان عمر قد اجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الاشجعي ودفعهم إلى الجهاد على عادته وأوصاهم. فلقوا عدوا من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية فأبوا، وقاتلوهم وهزموهم وقتلوا وسبوا، وقسموا الغنائم، ورأى سلمة جوهرا في سفط فاسترضى المسلمين وبعث به إلى عمر، فسأل الرسول عن أمور الناس حتى أخبره بالسفط فغضب وأمر به فوجىء في عنقه وقال: أسرع قبل أن تفترق الناس ليقسمه سلمة فيهم، فباعه سلمة وقسمه في الناس وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفا.
مقتل عمر وامر الشولى وبيعة عثمان رضي الله عنه
كان للمغيرة بن شعبة مولى من نصارى العجم اسمه أبو لؤلؤة، وكان يشدد عليه في الخراج. فلقي يوما عمر في السوق فشكا إليه وقال: أعدني على المغيرة فإنه يثقل علي في الخراج درهمين في كل يوم. قال وما صناعتك؟ قال: نجار، حداد، نقاش. فقال ليس ذلك بكثير على هذه الصنائع. وقد بلغني أنك تقول أصنع رحى تطحن بالريح، فاصنع لي رحى. قال أصنع لك رحى يتحدث الناس بها أهل المشرق والمغرب. وانصرف فقال عمر: توعدني العلج؟ فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة واستوت الصفوف، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر برأسين نصابه في وسطه فضرب عمر ست ضربات إحداهما تحت سرته. وقتل كليبا بن أبي البكير الليثي، وسقط عمر، فاستخلف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة. واحتمل إلى بيته.
ثم دعا عبد الرحمن وقال أريد أن أعهد إليك! قال فتثير علي بها؟ قال لا قال والله لا أفعل. قال فهبني صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول وهو عنهم راض. ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن معهم وقال انتظروا طلحة ثلاثاً، فإن جاء، وإلا فاقضوا أمركم. وناشد الله من يفضي إليه الأمر منهم أن يحمل أقاربه على رقاب الناس، وأوصاهم بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم
ويعفوا عن مسيئهم، وأوصى بالعرب فإنهم مادة الإسلام أن تؤخذ صدقاتهم فتوضع في فقرائهم. وأوصى بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم ثم قال: اللهم قد بلغت لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة.
ثم دعا أبا طليحة الأنصاري فقال: قم على باب هؤلاء ولا تدع أحدا يدخل إليهم حتى يقضوا أمرهم. ثم قال يا عبد الله بن عمر أخرج فانظر من قتلني؟ قال يا أمير المؤمنين قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة. قال الحمد لله الذي يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة. ثم بعث إلى عائشة يستأذنها في دفنه مع رسول الله وأبي بكر فأذنت له. ثم قال يا عبد الله أن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإن تساووا فكن مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
ثم أذن للناس فدخل المهاجرون والأنصار فقال لهم: أهذا عن ملأ منكم؟ فقالوا معاذ الله! وجاء علي وابن عباس فقعدا عند رأسه. وجاء الطبيب فسقاه نبيذا فخرج متغيرا، ثم لبنا فخرج كذلك. فقال له أعهد! قال قد فعلت! ولم يزل يذكر الله إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وصفى عليه صهيب وذلك لعشر سنين وستة أشهر من خلافته.
وجاء أبو طلحة الأنصاري ومعه المقداد بن الأسود. وقد كان أمرهما عمر أن يجمعا هؤلاء الرهط الستة في مكان ويلزماهم أن يقدموا للناس من يختاروه منهم، وان اختلفوا كان الاتباع للأكثر، وإن تساووا حكموا عبد الله بن عمر، أو اتبعوا عبد الرحمن بن عوف. ويؤجلهم في ذلك ثلاثا يصلي فيها بالناس صهيب، ويحضر عبد لله بن عمر معهم مشيرا ليس له شيء من الأمر وطلحة شريكهم أن قدم في الثلاث ليال. فجمهم أبو طلحة والمقداد في بيت المسور بن مخرمة، وقيل في بيت عائشة. وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما، سعد وأقامهما، وقال تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى. ثم دار بينهم الكلام وتنافسوا في الأمر، فقال عبد الرحمن أنكم يخرج منها نفسه ويجتهد فيوليها أفضلكم وأنا أفعل ذلك؟ فرضي القوم وسكت علي. فقال: ما تقول على شريطة أن تؤثر الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نصحا، وتعطينا العهد بذلك. قال وتعطوني أنتم مواثيقكم على أن تكونوا معي على من خالف وترضوا من اخترت؟ وتواثقوا، ثم قال لعلي: أنت تقول إنك أحق مفن حضر بقرابتك وسوابقك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد في نفسك؟ فمن ترى أحن فيه بعدك من هؤلاء؟ قال عثمان ا وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك، فقال علي.
ودار عبد الرحمن لياليه كلها يلقى أصحاب رسول الله ومن يوافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس ويشيرهم إلى صبيحة الرابع. فأتى منزل المسرور بن مخرمة، وخلا فيه بالزبير وسعد أن يتركا الأمر لعلي أو عثمان. فاتفقا على علي. ثم قال له سعد: بايع لنفسك وأرحنا فقال: قد خلعت لهم نفسي على أن أختار ولم أفعل ما أردتها.
ثم استدعى عبد الرحمن عليا وعثمان فناجى كلا منهما إلى أن رضوا، بل إلى أن صلوا الصبح ولا يعلم أحد ما قالوا. ثم جمع المهاجرين وأهل السابقة من الأنصار وأمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم فقال: أشيروا علي! فأشار عمار بعلي ووافقه المقداد. فقال ابن سرح: أن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، ووافقه عبد الله بن أبي ربيعة فتفاوضا وتشاتما ونادى سعد: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا. ثم قال لعلي: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال: أرجو أن اجتهد بل أن أفعل بمبلغ علمي وطاقتي. وقال لعثمان؟ مثل ذلك فقال نعم! فرفع رأسه إلى المسجد ويده في يد عثمان وقال: اللهم اشهد أني قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق عثمان فبايعه الناس. ثم قدم طلحة في ذلك اليوم، فأتى عثمان، فقال له عثمان: أنت على الخيار في الأمر، وإن أبيت رددتها فقال: أكل الناس بايعوك؟ قال نعم! قال: رضيت ولا أرغب عما أجمع عليه. وكانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، ومر أبو لؤلؤة بالهرمزان وبيده الخنجر الذي طعن به عمر، فتناوله من يده وأطال النظر فيه ثم رده إليه. ومعهم جفينة نصراني من أهل الحيرة. فلما طعن عمر من الغداة قال عبد الرحمن بن أبي بكرة لعبيد الله بن عمر: إني رأيت هؤلاء الثلاثة يتناجون، فلما رأونى افترقوا وسقط منهم هذا الخنجر. فعدا عبيد الله عليهم فقتلهم ثلاثتهم. وأمسكهم سعد بن أبي وقاص، وجاء به إلى عثمان بعد البيعة وهو في المسجد فأشار علي بقتله. وقال عمرو بن العاص لا يقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم. فجعلها عثمان دية واحتملها وقال: أنا وليه. ثم قام عثمان وصعد المنبر وبايعه الناس كافة. وولى لوقته سعد بن أبي وقاص على الكوفة وعزل المغيرة وذلك بوصية عمر، لأنه أوصى بتوليه سعد وقال لم أعزله عن سوء ولا خيانة منه، وقيل إنما ولأه وعزل المغيرة بعد سنة وإنما أقر لأول أمره عمال عمر كلهم.
نقض اهل الاسكندرية وفتحها لما سار هرقل إلى القسطنطينية وفارق الشام واستولى المسلمون على الإسكندرية،وبقي الروم بها تحت أيديهم، فاتبعوا هرقل فاستنجدوه، فبعث إليهم عسكرا مع منويل الخصي، ونزلوا بساحل الاسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه فساروا إلى مصر ولقيهم عمرو بن العاص والمسلمون فهزموهم واتبعوهم إلى الإسكندرية. وأثخنوا فيهم بالقتل وقتل قائدهم منويل الخصي، وكانوا قد أخذوا في مسيرهم إلى مصر أموال أهل القرى، فردها عمرو عليهم بالبينة، ثم هدم سرر الإسكندرية ورجع إلى مصر.
ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح ارمينيا واذربيجان
وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعدا عن الكوفة لأنه كان اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضاً، وتقاضاه ابن مسعود فلم يوسر سعد، فتلاحيا وتناجيا بالقبيح وافترقا يتلاومان، وتداخلت بينهما العصبية وبلغ الخبر عثمان فعزل سعدا، واستدعى الوليد بن عقبة من الجزيرة، وكان على غربها منذ ولاه عمر، فولاه عثمان على الكوفة فكان مكان سعد. ثم عزل عتبة بن فرقد عن اذربيجان، فنقضوا فغزاهم الوليد وعلى مقدمته عبد الله بن شبيل الاحمسي، فأغار على أهل موقان والبرزند والطيلسان، ففتح وغنم وسبى. وطلب اهل كور اذربيجان الصلح فصالحهم على صلح حذيفة ثمانمائة درهم، وقبض المال. ثم بث سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى اهل ارمينية في إثني عشر ألفاً. فسار فيها واثخن، ثم انصرف إلى الوليد، وعاد الوليد إلى الكوفة، وجعل طريقه علي الموصل. فلقيه كتاب عثمان بأن الروم أجلبوا على معاوية بالشام، فابعث إليه رجلا من اهل النجدة والبأس في عشرة آلاف عند قراءة الكتاب. فبعث الوليد الناس مع سلمان بن ربيعة ثمانية آلاف، ومضوا إلى الشام ودخلوا أرض الروم مع حبيب بن مسلمة، فشنوا عليه الغارات وافتتحوا الحصون. وقيل: أن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة هو سعيد بن العاص. وذلك أن عثمان كتب إلى معاوية أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية، فبعثه وحاصر قاليقلا حتى نزلوا على الجلاء أو الجزية، فجلا كثيرا إلى بلاد الروم، وأقام فيها فيمن معه أشهرا. ثم بلغه أن بطريك أرميناقس وهي بلاد ملطية وسيواس وقونية إلى خليج قسطنطينية قد زحف إليه في ثمانين ألفاً، فاستنجد معاوية فكتب إلى عثمان فأمر سعيد بن العاص بإمداد حبيب فأمده بسلمان في ستة آلاف، وبئت الروم فهزمهم وعاد إلى قاليقلا. ثم سار في البلاد فجاء بطريك خلاط وبيده أمان عياض بن غنم وحمل ما عليهم من المال. فنزل حبيب خلاط، ثم سار منها فصالحه صاحب السيرجان ثم صاحب أردستان ثم صالح أهل دبيل بعد الحصار، ثم أهل بلاد السيرجان كلهم. ثم أتى أهل شميشاط فحاربوه فهزمهم وغلب على حصونهم. ثم صالحه بطريك خرزان على بلاده وسار إلى تفليس فصالحوه وفتح عدة حصون ومدن تجاورها. وسار ابن ربيعة الباهلي إلى أران، فصالح أهل البيلقان على الجزية والخراج. ثم أهل بردعة كذلك وقراها. وقاتل أكراد البوشنجان وظفر بهم، وصالح بعضهم على الجزية، وفتح مدينة شمكور وهي التي سميت بعد ذلك المتوكلية، وسار سلمان حتى فتح فلية وصالحه صاحب كسكر على الجزية، وملكوا شروان وسائر ملوك الجبال إلى مدينة الباب وانصرفوا. ثم غزا معاوية الروم وبلغ عمورية ووجد ما بين إنطاكية وطرسوس من الحصون خاليا فجمع فيها العساكر حتى رجع وخربها.
ولاية عبد الله بن أبي سرح علي مصر وفتح افريقية
وفي سنة ست وعشرين عزل عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة، فكتب إلى عثمان يشكو عمرا، فاستقدمه واستقل عبد الله بالخراج والحرب، وأمره بغزو أفريقية. وقد كان عمرو بن العاص سنة إحدى وعشرين سار من مصر إلى برقة فصالح أهلها على الجزية، ثم سار إلى طرابلس فحاصرها شهرا وكانت مكشوفة السور من جانب البحر، وسفن الروم في مرساها. فحصر القوم في بعض الأيام، وانكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين، فاقتحموا البلد بين البحر والبيوت فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم.
وارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل البلد، ولم تفلت الروم إلا بما خص في المراكب. ورجع إلى مدينة صبرة وقد كانوا قد آمنوا بمنعة طرابلس، فصبحهم المسلمون ودخلوها عنوة. وكمل الفتح ورجع عمرو إلى برقة، فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار جزية وكان أكثر أهل برقة لواتة، وكان يقال أن البربر ساروا بعد قتل ملكهم جالوت إلى المغرب، وانتهوا إلى لوبيا ومراقية، كورتان من كور مصر. فصارت زتاتة ومغيلة من البربر إلى المغرب، فسكنوا الجبال وسكنت لوتة برقة وتعرف قديما إنطابلس. وانتشروا إلى السوس ونزلت هوارة مدينة لبدة، ونزلت نفوسة مدينة صبرة وجلوا من كان هنالك من الروم. وأقام الأفارق وهم خدم الروم وبقيتهم على صلح يؤدونه إلى من غلب عليهم، إلى أن كان صلح عمرو بن العاص. ثم أن عبد الله بن أبي سرح كان أمره عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين. وقال له: أن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم، وأمر عقبة بن نافع عبد القيس على جند، وعبد الله بن نافع بن الحرث على آخر، وسرحهما فخرجوا إلى إفريقية في عشرة آلاف، وصالحهم أهلها على مال يؤدونه، ولم يقدورا على التوغل فيها لكثرة أهلها.
ثم لما ولي عبد الله بن أبي سرح استأذن عثمان في ذلك واستمده، فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به، فجهز العساكر من المدينة وفيهم جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وابن جعفر والحسن والحسين وابن الزبير، وساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين. ولقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم عندها. ثم ساروا إلى إفريقية وبثوا السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم جرير يملك ما بين طرابلس وطنجة تحت ولاية هرقل، ويحمل إليه الخراج. فلما بلغه الخبر جمع مئة وعشرين ألفا من العساكر ولقيهم على يوم وليلة من سبيطلة، دار ملكهم وأقاموا يقتتلون، ودعوه إلى الإسلام أو الجزية. فاستكبر ولحقهم عبد الرحمن بن الزبير مددا بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم. وسمع جرجير بوصول المدد ففت في عضده، وشهد ابن الزبير معهم القتال وقد غاب ابن أبي سرح وسأل عنه فقيل: إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل ابن أبي سرح فله مئة ألف دينار وأزوجه ابنتي، فخاف وتأخر عن شهود القتال. فقال له ابن الزبير تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته مئة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده، فخاف جرجير أشد منه. ثم قال عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير متأهبين للحرب ويقاتلوا الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا، فركب عليهم في الاخرين على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم. ووافق على ذلك أعيان أصحابه ففعلوا ذلك روكبوا من الغد إلى الزوال وألحوا عليهم حتى أتبعوهم ثم افترقوا. وأركب عبد الله الفريق الذين كانوا مستريحين، فكبروا وحملوا حملة رجل واحد حش غشوا الروم في خيامهم، فانهزموا وقتل كثير منهم، وقتل ابن الزبير جرجير وأخذت ابنته سيئة فنفلها ابن الزبير وحاصر ابن أبي شرح سبيطلة ففتحها. وكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألف. وبث جيوشه في البلاد إلى قفصة، فسبوا وغنموا.
وبعث عسكر إلى حصن الأجم، وقد اجتمع به أهل البلاد فحاصره وفتحه على الأمان. ثم صالحه أهل إفريفية على ألفى ألف وخمسمئة ألف دينار. وأرسل ابن الزبير بالفتح والخمس فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمئة ألف دينار وبعض الناس يقول أعطاه إياه ولا يصح، وإنما أعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى. ثم رجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر بعد مقامه سنة وثلاثة أشهر. ولما بلغ هرقل أن أهل أفريقية صالحوه بذلك المال الذي أعطوه غضب عليهم، وبعث بطريقا يأخذ منهم مثل ذلك، فنزل قرطاجنة وأخبرهم بما جاء له فأبوا وقالوا: قد كان ينبغي أن يساعدنا مما نزل بنا. فقاتلهم البطريك وهزمهم وطرد الملك الذي ولوه بعد جرجير، فلحق بالشمام. وقد اجتمع الناس على معاوية بعد علي رضي الله عنه، فاستجاشه على إفريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكوني في عسكر، فلما وصل الإسكندرية وهلك الرومي ومضى ابن حديج في العساكر، فنزل قونية، وتسرح إليه البطريق ثلاثين ألف مقاتل وقاتلهم معاوية، فهزمهم معاوية وحاصر حصن جلولاء فامتنع معه حتى سقط ذات سوره فملكه المسلمون وغنموا ما فيه.
ثم بث السرايا ودوخ البلاد فأطاعوا، وعاد إلى مصر. ولما أصاب ابن أبي سرح من إفريقية ما أصاب ورجع إلى مصر، خرج قسطنطين بن هرقل غازياً إلى الإسكندرية في ستمائة مركب، وركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح ومعه معاوية في أهل الشام. فلما تراءى الجمعان أرسوا جميعا وباتوا على أمان والمسلمون يقرأون ويصلون. ثم قرنوا سفنهم عند الصباح واقتتلوا ونزل الصبر، واستحر القتل. ثم انهزم قسطنطين جريحا في فل قليل من الروم، وأقام ابن أبي سرح بالموضع أياما، ثم قفل وسمى المكان ذات الصواري والغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري. وكانت هذه الغزاة سنة إحدى وثلاثين وقيل أربعة وثلاثين. وسار قسطنطين إلى صقلية وعرفهم خبر الهزيمة فنكروه وقتلوه في الحمام.
فتح قبرص
كان أبو عبيدة لما احتضر استخلف على عمله عياض بن غنم وكان ابن عمه وخاله، وقيل استخلف معاذ بن جبل. واستخلف عياض بعده سعد بن حذيم الجمحي، ومات شد فولى عمر مكانه عمير بن سعيد الانصاري، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه على دمشق أخاه معاوية، فاجتمعت له دمشق والأردن ومات عمر وهو كذلك وعمير على حمص وقنسرين. ثم استعفى عمير عثمان في مرضه فأعفاه، وضم حمص وقنسرين إلى معاوية، ومات عبد الرحمن بن أبي علقمة وكان على فلسطين فضم عثمان عمله إلى معاوية.
فاجتمع الشام كفه لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان. وكان يلح على عمر في غزو البحر، وكان وهو بحمص كتب إليه في شأن قبرص أن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلاب قبرص وصياح دجاجهم، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه! فكتب إليه: هو خلق كبير يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء. أن ركد فلق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول يزداد فيه اليقين قله والشك كثرة. وراكبه دود على عود أن مال غرق وإن نجا برق. فكتب عمر إلى معاوية: والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً. وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله كل يوم وليلة في أن يغرق الأرض، فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر. وبالله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي في ذلك. فقد علمت ما لقي العلاء مني. ثم كاتب ملك الروم عمر وقاربه وأقصر عن الغزو. ثم ألح معاوية على عثمان بعده في غزو البحر فأجابه على خيار الناس وطوعهم. فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وأبو الدرداء وشداد بن أوص وعبادة بن الصامت وزوجه أم حرام بنت ملحان، واستعمل عليهم عبد الله بن قشى حليف بق فزارة، وساروا إلى قبرص، وجاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فاجتمعوا عليها وصالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار بكل سنة. ويؤدون مثلها للروم ولامنعة لهم عن المسلمين ممن أرادهم من سواهم، وعلى أن يكونوا عيناً للمسلمين على عدوهم، ويكون طريق الغزو للمسلمين عليهم وكانت هذه الغزاة سنة ثماني وعشرين وقيل تسعة وعشرين وقيل ثلاثة وثلاثين، وماتت فيها أم حرام سقطت عن دابتها حين خرجت من البحر.
وكان النبي أخبرها بذلك وأقام عبد الله بن قيس المحاسبي على البحر فغزا خمسين غزاة لم ينكب فيها أحد إلى أن نزل في بعض أيام في ساحل المرقى من أرض الروم، فثاروا إليه فقتلوه ونجا الملاح، وكان قد استخلف سفيان بن عوف الأزدي على السفن، فجاء إلى أهل المرقى وقاتلهم حتى قتل وقتل معه جماعة. ولاية ابن عامر علي البصرة وفتوح فارس وخراسان وفي السنة الثالثة من خلافة عثمان خرج أبو موسى من البصرة غازيا إلى أهل آمد والأكراد لما كفروا، وحمل ثقله على أربعين بغلة من القصر بعد أن كان حض على الجهاد مشيا. فألب الناس عليه ومضوا إلى عثمان فاستعفوه منه. وتولى كبر ذلك غيلان بن جرشة، فعزله عثمان وولى عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن خال عثمان، وكان ابن خمس وعشرين سنة. وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن ابي العاص من عمان والبحرين. فصرف عبيد الله بن معمر عن خراسان وبعثه إلى فارس، وولى على خراسان مكانه عمير بن عثمان بن سعد، فأثخن فيها حتى بلغ فرغانة. ولم يدع كورة إلا أصلحها. ثم ولى عليها سنة أربع أمير بن أحمر اليشكري، وعلى كرمان عبد الرحمن بن عبيس. واستعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي، وعلى كرمان عاصم بن عمرو فجاشت فارس وانتقضت بعبيد الله بن عمرو، وجمعوا له فلقيهم بباب اصطخر، فقتل عبيد الله وانهزم جنده، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر، فاستنفر أهل البصرة.
وسار بالناس وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص، وفي المجنبتين أبو برزة الأسلمي ومعقل بن يسار، وعلى الخيل عمران بن حصين ولقيهم باصطخر. فقتل منهم مقتلة عظيمة، وانهزموا وفتح اصطخر عنوة، وبعدها دارا بجرد. وسار إلى مدينة جور وهي أردشيرخرت، وكان هرم بن حيان محاصرا لها فلما جاء ابن عامر فتحها، ثم عاد إلى اصطخر وقد نقضت، فحاصرها طويلاً ورماها بالمجانيق واقتحمها عنوة ففني فيها أكثر أهل البيوتات والأساورة لأنهم كانوا لجأوا إليها، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل. وكتب إلى عثمان بالفتح، فكتب إليه أن يستعمل على كور فارس هرم بن حيان اليشكري وهرم بن حيان العبسي والخريت بن راشد وأخاه المنجاب من بني سلمة، والبرجمان الهجيمي. وأن يفرق كرر خراسان بين ستة نفر: الأحنف بن قيس على المرو، وحبيب بن قرط اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهيرعلى هراة، وأمير بن أحمر اليشكري على طوس، وقيس بن هبيرة السلمي على نيسابور. ثم جمع عثمان خراسان كفها لقيس، واستعمل أمير بن أحمر اليشكري على سجستان، ثم بعده عبد الرحمن بن سمرة من قرابة ابن عامر بن كريز. فلم يزل عليها حتى مات عثمان، وعمران على كرمان، وعمير بن عثمان بن مسعود على فارس، وابن كريز القشيري على مكران. وخرج على قيس بن هبيرة بعد موت عثمان ابن عمه عبد الله بن حازم كما نذكره.
ولما افتتح ابن عامر فارس أشار عليه الناس بقصد خراسان وكانوا قد انتقضوا، فسار إليها وقيل عاد إلى البصرة، واستخلف على فارس شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها. فلما دخل البصرة أشار عليه الأحنف بن قيس وحبيب بن أوس بالمسير إلى خراسان، فتجهز واستخلف على البصرة زياد بن أبيه، وسار إلى كرمان وقد نكثوا، فبعث لحربهم مجاشع بن مسعود السلمي، ولحرب سجستان الربيع بن زياد الحارثي. وسار هو إلى حوالي نيسابور. وتقدمهم الأحنف بن قيس إلى الطبسين حصنان هما بابا خراسان، فصالحه أهلها وسار إلى قوهستان فقاتل أهلها حتى أحجرهم في حصنهم، ولحقه ابن عامر فصالحوه على ستمائة ألف درهم. وقيل كان المتولي حرب قوهستان أمير بن أحمر اليشكري.
ثم بعث ابن عامر السرايا إلى أعمال نيسابور ففتح رستاق رام عنوة وباخرز وجيرفت عنوة. وبعث الأسود بن كلثوم بن عدى الرباب،- وكان ناسكا- إلى بيهق من أعمالها. فدخل البلد من ثلمة كانت في سورها، وقاتل حتى قتل، وظفر أخوه أدهم بالبلد. وفتح ابن عامر بشت- بالشين المحجمة- من أعمال نيسابور، ثم اسفارين ثم قصد نيسابور. وبعدها استولى على أعمالها فحاصرها شهرا، وكان بها أربع مرازبة من فارس فسأل واحد منهم الأمان على أن يدخلهم ليلا، وفتح لهم الباب وتحضن الأكبر منهم في حصنها حتى صالح على ألف ألف درهم.
وولى ابن عامر على نيسابور قيس بن الهيثم السلمي. وبعت جيشاً إلى نساوابورد. فصالحهم أهلها، وآخر إلى سرخس فصالحوا مرزبانها على أمان مئة رجل لم يدخل فيها نفسه، فقتله واقتحمها عنوة. وجاء مرزبان طوس فصالحه على ستمائة ألف درهم، وبعث جيشا إلى هراة مع عبد لله بن حازم فصالح مرزبانها على ألف ألف درهم. ثم بعث مرزبان مرو فصالح على ألف ألف ومائتي ألف. وأرسل إليه ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، ثم بعث الأحنف بن قيس إلى طخارستان فصالح في طريقه رستاقا على ثلاثمائة ألف وعلى أن يدخل رجل يؤذن فيه ويقيم حتى ينصرف. ومر إلى مرو الروذ، وزحف إليه أهلها فهزمهم وحاصرهم، وكان مرزبانها من أقارب باذان صاحب اليمن، فكتب إلى الأحنف متوسلا بذلك في الصلح، فصالحه على ستمائة ألف. ثم اجتمع أهل الجوزجان والطالقان والفارياب في جمع عظيم، وقيهم الأحنف فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انهزموا فقتلوا قتلا ذريعا.
ورجع الاحنف إلى مرو الروذ، وبعث الأقرع بن حابس إلى ففهم بالجوزجان فهزمهم وفتحها عنوة. ثم فتح الأحنف الطالقان صلحا والفارياب صلحاً. وقيل بل فتحها أمير بن أصر. ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهي مدينة طخارستان، فصالحوه على أربعمائة ألف، وقيل سبعمائة، واستعمل عليها أسيد بن المنشمر. ثم سار إلى خوارزم على نهر جيحون فامتنعت عليه، فرجع إلى بلخ وقد استوفى أسيد قبض المال، وكتبوا إلى ابن عامر. ولما سار مجاشع بن مسعود إلى كرمان كما ذكرناه وكانوا قد انتقضوا ففتح
هميد عنوة وبنى بها قصراً ينسب إليه. ثم سار إلى السيرجان وهي مدينة كرمان فحاصرها وفتحها عنوة وجلى كثيراً من أهلها. ثم فتح جيرفت عنوة، ودوخ نواحي كرمان وأتى القفص، وقد تجمع له من العجم من أهل الجلاء. وقاتلهم فظفر وركب كثير منهم البحر إلى كرمان وسجستان.
ثم نزل العرب إلى منازلهم وأراضيهم، وسار الربيع بن زياد الحارثي بولاية ابن
عامر كما قدمناه إلى سجستان، فقطع المفازة من كرمان حتى أتى حصن زالق، فأغار عليهم يوم المهرجان وأسر دهقانهم فافتدى بما غمر عنزة قاعة من الذهب والفضة، وصالحوه على صلح فارس وصار إلى زريخ، ولقبه المشركون دونها فهزمهم وقتلهم وفتح حصونا عدة بينها وبينه. ثم انتهى إليها وقاتله أهلها فاحجرهم وحاصرهم، وبعث مرزبانها في الأمان ليعضد فأمنه، وجلس له على شلو من أشلاء القتلى وارتفق بآخر وفعل أصحابه مثله.
فرعب المرزبان من ذلك، وصالح على ألف جام من الذهب يحملها ألف وصيف. ودخل المسلمون المدينة ثم سار منها إلى وادي سنارود فعبره إلى القرية التي كان رستم الشديد يربط بها فرسه فقاتلهم وظفر بهم، وعاد إلى زريخ فأقام بها سنة، ثم سار بها إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملا فأخرجوه وامتنعوا. فكانت ولاية الربيع سنة ونصف سنة، سبى فيها أربعين ألف رأس وكان الحسن البصري يكتب له. ثم استعمل ابن عامر على سجستان عبد الرحمن بن سمرة فسار إليها وحاصر زريخ حتى صالحوه على ألفي ألف درهم، وألفي وصيف وغلب على ما بينهما وبين الكش من ناحية الهند، وعلى ما بينها وبين الدادين من ناحية المرجح.
ولما انتهى إلى بلد الدادين حاصرهم في بلد الزور حتى صالحوه، ودخل على الزور، وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان. فأخذهما وقطع يده وقال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر وإنما قصدت أنه لا يضر ولا ينفع. ثم فتح كامل وزابلستان وهي بلاد غزنة فتحها صلحاً.
ثم عاد إلى زريخ إلى أن اضطرب أمر عثمان فاستخلف عليها أمير بن أحمر، وانصرف فأخرجه أهلها وانتقضوا. ولما كمل الفتح لابن عامر في فارس وخراسان وكرمان وسجستان قال له الناس: لم يفتح لأحط ما فتح عليك فقال: لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرما من موقفي هذا. فاحرم بعمرة من نيسابور. وقدم على ضمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم فسار قيس في أرض طخارستان ودوخها، وامتنع عليه أهل سنجار وافتتحها عنوة.
ولاية سعيد بن العاص الكوفة
كان عثمان لأول ولايته قد ولى على الكوفة الوليد بن عقبة، استقدمه إليها من عمله بالجزيرة، وعلى بني تغلب وغيرهم من العرب. فبقي على ولاية الكوفة خمس سنين وكان أبو زبيد الشاعر قد انقطع إليه من أخواله بني تغلب ليد اسداها إليه، وكان نصرانيا فأسلم على يده، وكان يغشاه بالمدينة والكوفة. وكان أبو زبيد يشرب الخمر، وكان بعض السفهاء يتحدث بذلك في الوليد لملازمته إياه. ثم عدا الشباب من الأزد بالكوفة على رجل من خزاعة فقتلوه ليلا في بيته، وشهد عليهم أبو شريح الخزاعي، فقتلهم الوليد فيه بالقسامة. وأقام آباءهم للوليد على حقه، وكانوا ممن يتحدثون فيه وجاءوا إلى ابن مسعود بمثل ذلك. فقال: لا نتبع عورة من استترعنا. وتغيض الوليد من هذه المقالة، وعاتب ابن مسعود عليها. ثم عمد أحد أولئك المرهط إلى ساحر قد أتى به الوليد فاستفتى ابن مسعود فيه وافتى بقتله. وحبسه الوليد ثم أطلقه فغضبوا وخرجوا إلى عثمان شاكين من الوليد، وإنه يشرب الخمر. فاستقدمه عثمان وأحضره وقال رأيتموه يشرب؟ قالوا لا وإنما رأيناه يقيء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده وكان علي حاضرا فقال: انزعوا خميصته للجلد. وقيل أن عليا أمر ابنه الحسن أن يجلده فأبى، فجلده عبد الله بن جعفر. فلما بلغ أربعين قال أمسك جلد رسول الله وأبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة.
ولما وقعت هذه الوقعة عزل عثمان الوليد عن الكوفة، وولى مكانه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، مات سعيد الأول كافرا، وكان يكنى أحيحة وخالد ابنه عم سعيد الثاني، ولاه رسول الله صنعاء، وكان يكتب له، واستشهد يوم مرج الصفر. وربي سعيد الثاني في حجر عثمان، فلما فتح الشام أقام مع معاوية ثم استقدمه عثمان وزوجه، وأقام عنده حتى كان من رجال قريش. فلما استعمله عثمان وذلك سنة ثلاثين سار إلى الكوفة ومعه الأشتر وأبو خيفة الغفاري وجندب بن عبد الله والصب بن جثامة، وكانوا شخصوا مع الوليد ليعينوه فصاروا عليه.
فلما وصل خطب الناس وحذرهم وتعرف الأحوال وكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب الروادف والتابعة على أهل الشرف والسابقة. فكتب إليه عثمان أن يفضل أهل السابقة، ويجعل من جاء يعدهم تبعا ويعرف لكل منزلته ويعطيه حقه. فجمع الناس وقرأ عليهم كتاب عثمان وقال: أبلغوني حاجة ذي الحاجة. وجعل القراء في سمرة، فلم ترض أهل الكوفة ذلك، وفشت المقالة وكتب سعيد إلى عثمان، فجمع الناس واستشارهم فقالوا أصبت لا تطمع في الأمور من ليس لها بأهل فتفسد فقال: يا أهل المدينة! إني أرى الفتن دبت إليكم. وإني أرى أن أتخلص الذي لكم وانقله إليكم، من العراق، فقالوا وكيف ذلك؟ قال تبيعونه ممن شئتم بمالكم في الحجاز واليمن، ففعلوا ذلك واستخلصوا ما كان لهم بالعراق، منهم طلحة ومروان والأشعث بن قيس ورجال من القبائل اشتروا ذلك بأموال كانت لهم بخيبر ومكة والطائف.
غزو طبرستان
وفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان، ولم يغزها أحد قبله. وقد تقدم أن الأصبهبذ صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر على مال، فغزاها سعيد في هذه السنة ومعه ناس من أصحاب رسول الله-، منهم الحسن والحسين وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وحذيفة بن اليمان في غيرهم. ووافق خروج ابن عامر من البصرة إلى خراسان، فنزل نيسابور، ونزل سعيد قومس وهي صلح كان حذيفة صالحهم عليه بعد نهاوند، فأتى سعيد جرجان فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى متاخما جرجان على البحر فقاتله أهلها. ثم سألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا. وفتحوا، فقتلهم أجمعين إلا رجلاً، وقتل معهم محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمرو، وكان أهل جرجان يعطون الخراج تارة مئة ألف وأخرى مائتين وثلاثمائة، وربما منعوه. ثم امتنعوا وكفروا، فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد. وصار الطريق إلى خراسان من فارس كما كان من قبل، حتى ولي قتيبة بن مسلم خراسان، وقدمها يزيد بن المهلب، فصالح المرزبان وفتح البحيرة ودهستان وصالح أهل جرجان على صلح سعيد.
غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف
وفي سنة ثلاثين هذه صرف حذيفة من غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة، وأقام له سعيد بن العاص باذربيجان ردءا حتى عاد بعد مقتل عبد الرحمن كما مر، فأخبره بما رأى من اختلاف أهل البلدان في القرآن، وأن أهل حمص يقولون: قراءتنا خير من قراءة غيرنا، وأخذناها عن المقداد، وأهل دمشق يقولون كذلك، وأهل البصرة عن أبي موسى، وأهل الكوفة عن ابن مسعود. وأنكر ذلك واستعظمه وحذر من الاختلاف في القرآن، ووافقه من حضر من الصحابة والتابعين، وأنكر عليه أصحاب ابن مسعود فأغلظ عليهم وخطأهم، فأغلظ له ابن مسعود فغضب سعيد وافترق المجلس. وسار حذيفة إلى عثمان فأخبره وقال: أنا النذير العريان، فأدرك الأمة. فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ابعثي إلينا بالصحف ننسخها، وكانت هذه الصحف هي التي كتبت أيام أبي بكر، فإن القتل لما استحر في القراء يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: أرى أن تأمر بجمع القرآن، لئلا يذهب الكثير منه لفناء القراء فأبى أولاً وقال: أن رسول الله لم لفعله. ثم استبصر ورجع إلى رأي عمر، وأمر زيد بن ثابت بجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال. وكتب في الصحف فكانت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة. وأرسل عثمان فأخذها. وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش ففعلوا، ونسخوا المصاحف فبعث إلى كل أفق بمصحف يعتمد عليه وحرق ما سوى ذلك فقبل ذلك الصحابة في سائر الأمصار، ونكره عبد لله بن مسعود في الكوفة حتى نهاهم عن ذلك وحملهم عليه.
مقتل يزدجرد
لما خرج ابن عامر من البصرة إلى فارس وافتتحها هرب يزدجرد من جور وهي أردشير خره في سنة ثلاثين، فبعث ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود، وقيل هرم بن حيان اليشكري، وقيل العنسي فاتبعه إلى كرمان، فهرب إلى خراسان. وهلك الجند في طريقهم بالثلج، فلم يسلم إلا مجاشع ورجل معه، وكان مهلكهم على خمسة فراسخ من السيرجان. ولحق يزدجرد بمرو ومعه خرزاذ أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق ووصى به ما هو به مرزبان مرو، فسأله في المال فمنعه وخافه علي نفسه وعلى مرو. واستجاش بالترك فبيتوه وقتل أصحابه، وهرب يزدجرد ماشيا إلى شط المرغاب، وآوى إلى بيت رجل ينقل الأرحاء، فلما نام قتله ورماه في النهر، وقيل إنما بيته أهل مرو. ولما جاءوا إلى بيت الرجل أخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله، واستخرجوا يزدجرد من النهر، وحملوه في تابوت إلى اصطخر، فدفن في ناوس هنالك. وقيل أن يزدجرد هرب من وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان، واستأذن عليه بعض رؤسائها وحجب فضرب البواب وشجه، فرحل عن أصبهان إلى الري. وجاء صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده فلم يجبه، ومضى من فوره ذلك إلى سجستان ثم إلى مرو في ألف فارس. وقيل بل أقام بفارس أربع سنين ثم بكرمان سنتين، وطلبه دهقانها في شيء فمنعه فطرده عن بلاده. وأقام بسجستان خمس لسنين، ثم نزل خراسان ونزل مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين وفرخزاذ، وكاتب ملوك الصين اوفرغانة والخزار وكابل. وكان دهقان مرو قد منعه الدخول خوفا من مكره، ووكل ابنه بحفظ الأبواب، فعمد يزدجرد يوما إلى مرو ليدخلها، فمنعه ابن الدهقان وأظهر عصيان أبيه في ذلك. وقيل بل أراد يزدجرد أن يجعل ابن أخيه دهقانا لجها فعمل في هلاكه وكتب إلى نيزك طرخان يستقدمه لقتل يزدجرد ومصالحة العرب عليه، وأن يعطيه في اقتناعه كل يوم ألف درهم كتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب، وإنه يقدم عليه فيلقاه منفردا عن العسكر وعن فرخزاذ، فأجابه إلى ذلك بعد أن امتنع فرخزاذ واتهمه يزدجرد في امتناعه، فتركه لشانه بعد أن أخذ خطه برضاه بذلك.
وسار إلى نيزك فاستقبله بأشياء وجاء به إلى معسكره، ثم سأله أن يزوجه ابنته، فأنف يزدجرد من ذلك وسبه. فعلا رأسه بالمقرعة، فركض منهزماً وقتل أصحابه، وانتهى إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثا لم يطعم، ثم عرض عليه الطعام فقال لا أطعم إلا بالزمزمة فسأل من زمزم له حتى أكل، ووشى المزمزم بأمره، إلى بعض الأساورة فبعث إلى الطحان بخنفه وإلقائه في النهر، فأبى من ذلك وجحده، فدل عليه ملبسه وعرف المسك فيه لأخذوا ما عليه وخنقوه والقوه في الماء، فجعله اسقف مرو في تابوت ودفنه. وقيل بل سار يزدجرد من كرمان قبل وصول العرب إليها إلى مرو في أربعة آلاف على الطبسين وقهستان، ولقيه قبل مرو قائدان من الفرس متعاديين، فسعى أحدهما في الآخر ووافقه يزدجرد في قتله، ونمى الخبر إليه فبيت يزدجرد وعدوه، فهرب إلى رحى على فرسخين من مرو، وطلب منه الطحان شيئاً فأعطاه منطقته. فقال إنما أحتاج إلى أربعة دراهم، فقال: ليست معي ثم نام، فقتله الطحان وألقى شلوه في الماء. وبلغ خبر قتله إلى المطران بمرو، فجمع النصارى وعظم عليهم من حقوق سلفه، فدفنوه وبنوا له ناووساً، وأقاموا له مأتما بعد عشرين سنة من ملكه، ستة عشر منها في محاربة العرب. وانقرض ملك الساسانية بموته.
ويقال: أن قتيبة حين فتح الصغد وجد جاريتين من ولد المخدج ابنه قد وطئا أفه بمرو، فولدت هذا الغلام بعد موته ذاهب الشق، فسفي المخدج وولد له أولاد بخراسان. وجد قتيبة هاتين الجاريتين من ولده، فبعث بهما إلى الحجاج وبعث بهما إلى الوليد أو بأحدهما فولدت له يزيد الناقص.
ظهور الترك بالثغور
كان الترك والخزر يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لما رأوا من شدتهم وظهورهم في غزواتهم، حتى أكمنوا لهم في بعض الغياض فقتلوا بعضهم، فتجاسروا على حربهم. وكان عبد الرحمن بن ربيعة على ثغور أرمينيا إلى الباب استخلفه عليها سراقة بن عمر، وأقره عمر وكان كثير الغزو في بلاد الخزر، وكثيرا ما كان يغزو بلنجر، وكان عثمان قد نهاه عن ذلك فلم يرجع. فغزاهم سنة اثنين وثلاثين، وجاء الترك لمظاهرتهم وتذامروا، فاشتدت الحرب بينهم. وقتل عبد الرحمن كما مر، وافترقوا فرقتين: فرقة سارت نحو الباب لقوا سلمان بن ربيعة، قد بعثه سعيد بن العاص من الكوفة مدداً للمسلمين بأمر عثمان فساروا معه، وفرقة سلكوا على جيلان وجرجان فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة.
ثم استعمل سعيد بن العاص على الباب سلمان بن ربيعة مكان أخيه، وبعث معه جندا من أهل الكوفة حذيفة بن اليمان، وأمدهم عثمان بحبيب بن مسلمة في جند الشام، وسلمان أمير على الجميع. ونازعه حبيب الأمارة فوقع الخلاف. ثم غزا حذيفة بعد ذلك ثلاث غزوات عند آخرها مقتل عثمان.
وخرجت جموع الترك سنة اثنين وثلاثين من ناحية خراسان في أربعين ألفا عليهم قارن من ملوكهم فانتهوا إلى الطبسين. واجتمع له أهل بادغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ قيس بن الهيثم السلمي، استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرماً فدوخ جهتها، وكان معه ابن عفه عبد الله بن حازم، فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهدا إذا خرج منها قيس ففعل، فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن حازم: ما ترى؟ قال أرى أن تخرج عن البلاد فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها، فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر. وني أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستحده، فلما خرج أظهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس. وسار ابن حازم للقاء الترك في أربعة آلاف، ولما التقى الناس أمر جيشه بإيقاد النار في أطراف رحالهم، فهاج العدو على دهش وغشيهم ابن حازم بالناس متتابعين، فانهزموا وأثخن إ المسلمون فيهم بالقتل والسبي. وكتب ابن حازم بالفتح إلى ابن عامر فأقرة على خراسان، فلم يزل واليا عليها إلى حرب الجمل. فأقبل إلى البصرة. وبقي أهل البصرة بعد غزوة ابن حازم هذه حتى غزوا المنتقضين من أهلها، وعادوا جفزوا كتيبة من أربعة آلاف فارس هنالك. بدء الانتقاض علي عثمان رضي الله عنه لما استكمل الفتح واستكمل للملة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول والإقتداء بهديه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز، ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم. وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلا قليلا منهم، وكان لهم في الفتوحات قدم. فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من الذهول والدهش لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب، وتنوسي الحال بعض الشيء، وذل العدو واستفحل الملك. كانت عروق الجاهلية تنبض ووجدوا الرياسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم فأنفت نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والإستبطاء عليهم في الطاعات، والتجني بسؤال الإستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان. وفشت المقالة في ذلك من اتباعهم، وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة فارتابوا لها، وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه. وبعث إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعد الله بن عمر إلى الشام، وعمار بن ياسر إلى مصر، وغيرهم إلى سوى هذه. فرجعوا إليه فقالوا ة ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم إلا عمارا فانه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه، منهم عبد الله بن سبأ ويعرف بإبن السواد، كان يهوديا وهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه، وأخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام، وأخرجوه فلحق بمصر، وكان يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السر لأهل البيت، ويقول: أن محمدا يرجع كما يرجع عيسى. وعنه أخذ ذلك أهل الرجعة وإن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله حيث لم يجز وصيته، وإن عثمان أخذ الأمر بغير حق، ويحرض الناس على القيام في ذلك والطعن على الأمراء. فاستمال الناس بذلك في الأمصار، وكاتب به بعضهم بعضا. وكان معه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر، فثبطوا عماراً عن المسير إلى المدينة. وكان مما انكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام ومن المدينة إلى الربذة. وكان الذي دعا إلى ذلك شدة الورع من أبي ذر، وحمله الناس على شدائد الأمور والزهد في الدنيا، وإنه لا ينبغي لأحد أن يكون ضده أكثر من قوت يومه، ويأخذ بالظاهر في ذم الإدخار بكنز الذهب والفضة. وكان ابن سبأ يأتيه فيغريه بمعاوية، ويعيب قوله: المال
مال الله. ويوهم أن في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين، حتى عتب أبو ذر في ذلك معاوية فاستعتب له وقال: سأقول ما للمسلمين. وأتى ابن سبأ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك فدفعوه، وجاء به عبادة إلى معاوية وقال: هذا الذي بعث عليك أبا ذر.
ولما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه وقال له: ما لأهل الشام يشكون منك؟ فأخبره فقال: يا أبا ذر لا يمكن حمل الناس على الزهد وإنما علي أن أقضي بينهم بحكم الله وأرغبهم في الإقتصاد فقال أبو ذر: لا نرضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا للجيران والإخوان ويصلوا القرابة. فقال له كعب الأحبار: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فضربه أبو ذر فشجه وقال: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا؟ فاستوهب عثمان من كب شجته فرهبه.
ثم استأذن أبو ذر عثمان في الخروج من المدينة وقال: أن رسول الله- أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا فأذن له. ونزل الربذة وبنى بها مسجدا، واقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقا، وكان يتعاهد المدينة. فعد أولئك الرهط خروج أبي ذر فيما ينقمونه على عثمان مع ما كانوا يعدون عليه من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقية، والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه.
ومما عدوا عليه أيضاً زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة، وإتمامه الصلاة في منى وعرفة، مع أن الأمر في حياة رسول الله والشيخين بعده كان على القصر.
ولما سأله عبد الرحمن واحتج عليه بذلك قال له: بلغني أن بعض حاج اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي، وقد اتخذت بمكة أهلاً، ولي بالطائف مال. فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال: زوجتك بمكة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت خرجت، ومالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر.
وأما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله والشيخين بعده، وقد كان الإسلام ضرب بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. فمن الصحابة من تبعه على ذلك، ومنهم من خالفه.
ومما عدوا عليه سقوط خاتم النبي من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد. وأما الحوادث التي وقعت في الأمصار فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدم ذكرها، وإنه عزله على شرب الخمر، واستبدله بسعيد بن العاص منه. وكان وجوه الناس وأهل القادسية يسمرون عنده، مثل مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس من النخع، وثابت بن قيس الهمداني وجندب بن زهير العامري وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وابن الكواء، وكميل بن زياد وعمير بن ضابىء وطليحة بن خويلد. وكانوا يفيضون في أيام الوقائع وفي أنساب الناس وأخبارهم، وربما ينتهون إلى الملاحاة، ويخرجون منها إلى المشاتمة والمقاتلة، ويعذلهم في ذلك حجاب سعيد بن العاص فيهزمونهم ويضربونهم. وقد قيل: أن سعيدا قال يوما إنما هذا السواد بستان قريش، فقال له الأشتر: السواد الذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك ولقومك؟ وخاض القوم في ذلك فأغلظ لهم عبد الرحمن الأزدي صاحب شرطته فوثبوا عليه وضربوه حتى عشي عليه . فمنع سعيد بعدما السمر عنده، فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيدا وعثمان، والسفهاء يغشونهم. فكتب سعيد وأهل الكوفة إلى عثمان في اخراجهم فكتب أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية أن نفرا خلقوا الفتنة فقم عليهم وانههم، وإن أنست منهم رشدا فأقبل منهم، وإن أعيوك فأرددهم علي. فأنزلهم معاوية وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق وأقاموا عنده يحضرون مائدته، ثم قال لهم يوما: أنتم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة. إذ ائمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم، وإن ائمتكم يصبرون لكم على الجور ويحملون عنكم المؤنة والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونوا شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم. فقال له صعصعة منهم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر الناس ولا أمنعها
في الجاهلية فتخوفنا، وإما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: الآن عرفتكم وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قفة العقول وأنت خطيبهم، ولا. أرى لك عقلا أعظم عليك أمر الإسلام. وتذكرني في الجاهلية، أخزى الله قوماً عظموا أمركم، افقهوا عني ولا أظنكم تفقهون.
ثم ذكر شأن قريش وإن عزها إنما كان بالله في الجاهلية والإسلام ولم يكن بكثرة
ولا شدة، وكانوا على أكرم أحساب وأكمل مروءة وبوأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب والعجم والأسود والأحمر في بلادهم. ثم ذكر بعثة النبي وان الله ارتضى له أصحابا كان خيارهم قريشا. فبنى الملك عليهم، وجعل الخلافة فيهم، فلا يصلح ذلك إلا بهم. ثم قرعهم ووبخهم وهددهم، ثم أحضرهم بعد أيام وقال: إذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضره، وإن أردتم النجاة فالزموا الجماعة ولا تبطرنكم النعمة وسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
وكتب إلى عثمان إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أبطرهم العدل،
إنما همهم الفتنة وأموال اهل الذمة والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين يأتون الأمر إلا مع غيرهم، فإنه سعيدا ومن عنده عنهم. فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة، ومروا. بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم وقال: يا الة الشيطان لا مرحبا بكم ولا أهلا، قد رجع الشيطان محسورا وانتم بعد في نشاط. خسر الله عبد الرحمن أن لم يؤدبكم، يا معشر من لا ادري أعرب هم أم عجم. ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوه وما قالوه لسعيد ومعاوية. فهابوا سطوته وطفقوا يقولون نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله. حتى قال: تاب الله عليكم، وسرح الأشتر إلى عثمان تائباً. فقال له عثمان: أحلك حيث تشاء. فقال: مع عبد الرحمن بن خالد. قال ذاك إليك! فرجع إليه وقيل: إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة، ودار بينهم وبينه القول واغلظوا له، وأغلظ عليهم وكتب إلى عثمان فأمر أن يردهم إلى سعيد، فردهم فأطلقوا ألسنتهم وضج سعيد منهم، وكتبوا إلى عثمان فكتب إليه أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد، فدار بينهم وبينه ما قدمناه.
وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن، وكان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، هاجر إلى الإسلام من اليهودية ونزل على حكيم بن جبلة العبدي، وكان يتشيع لأهل البيت ففشت مقالته بالطعن، وبلغ ذلك حكيم بن جبلة،
فأخرجه وأتى الكوفة، فأخرج أيضاً واستقر بمصر. وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه، والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء. وكان حمران بن أبان أيضاً يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدة وسيره إلى البصرة فلزم ابن عامر. وكان بالبصرة عامر بن عبد القيس وكان زاهدا متقشفا، فأغرى به حمران صاحبه ابن عامر، فلم يقبل سعايته. ثم أذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس إنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه عثمان بمعاوية وأقام عنده حتى تبينت براءته وعرف فضله وحقه، وقال: إرجع إلى صاحبك! فقال لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا! وأقام بالشام كثير العبادة والإنفراد بالسواحل إلى أن هلك. ولما فشت المقالات بالطعن والإرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع وثلاثين، وكان قبلها قد ولى على الأعمال أمراء من قبله فولى الأشعث بن قيس على أذربيجان، وسعيد بن قيس على الري، والنسير العجلي على همدان والسائب بن الأقرع على أصبهان، ومالك بن حبيب على ماه، وحكيم بن سلامة على الموصل، وجرير بن عبد لله على قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة على الباب. وجعل على حلوان عتيبة بن النفاس، وعلى الحرب القعقاع بن عمرو. فخرجوا لأعمالهم وخرج هو وافدا على عثمان، واستخلف عمرو بن حريث، وخلت الكوفة من الرؤساء. وأظهر الطاعنون أمرهم وخرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان، فبادره القعقاع بن عمرو فقال له: إنما تستعفي من سعيد. وكتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم، فساروا إليه وسبقهم الأشتر، ووقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول: جئتكم من عند عثمان، وتركت سعيدا يريده على نقصان نسائكم على مئة درهم ورد أولى البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. ثم استخلف الناس، ونادى يزيد في الناس: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل. فخرجوا وذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون. وأقام أشراف الناس وعقلاؤهم مع عمرو بن حريث، ونزل يزيد وأصحابه الجرعة قريبا من القادسية لاعتراض سعيد ورده. فلما وصل قالوا: ارجع فلا حاجة لنا بك. قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحداً إلي أو إلى عثمان. وقال مولى له: ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع، فقتله الأشتر، ورجع سعيد إلى
عثمان فأخبره بخبر القوم، وإنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولاه الكوفة، وكتب إليهم: أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، ووالله لأقرضنكم عرضي، ولأبذلنكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي. وخطب أبو موسى الناس وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان فرضوا، ورجع الأمراء من قرب الكوفة، واستمر أبو موسى على عمله. وقيل أن أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان ويعذلوه فيما نقم عليه، فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد، وهو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنيس فأتاه. وقالوا له: أن ناسا اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أمورا عظاما، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: ألا تسمعون إلى هذا الذي يزعم الناس أنه . قارىء، ثم يجيء يكلمني في المحقرات؟ ووالله لا يدري أين الله. فقال عامر: بل والله إني لأدري أن الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر وعمرو بن العاص- وكانوا بطانته دون الناس- فجمعهم وشاورهم وقال: إنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما رأيتم. فطلبوا أن أعزل عمالي وأرجع إلى ما يحبون، فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر: أرى أن تشغلهم بالجهاد، وقال سعيد: متى تهلك قادتهم تفرقوا. وقال معاوية: إجعل كفالتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام. وقال عبد الله: استصلحهم بالمال. فردهم عثمان إلى أعمالهم، وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل، ورد سعيدا إلى الكوفة، فلقيه الناس بالجزعة وردوه كما ذكرناه، وولى أبا موسى. وأمر عثمان حذيفة بغزو الباب فسار نحوه. ولما كثر هذا الطعن في الأمصار، وتواتر بالمدينة، وكثر الكلام في عثمان والطعن عليه، وكان له منهم شيعة يذبون عنه: مثل زيد بن ثابت وأبي أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، فلم يغنوا عنه. واجتمع الناس إلى علي بن أبي طالب وكلموه وعددوا عليه ما نقموه. فدخل على عثمان وذكر له شأن الناس وما نقموا عليه، وذكره بأفعال عمر وشدته ولينه هو لعماله، وعرضي عليه ما يخاف من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة. فقال له: أن المغيرة بن شعبة وليناه وعمر ولاه ومعاوية كذلك. وابن عامر تعرفون رحمه وقرابته. فقال له علي: أن عمر كان يطأ على صماخ من ولأه، وأنت ترفق
بهم، وكان أخوف لعمر من غلامه يرفأ. ومعاوية يتبد عليك ويقول هذا أمر عثمان فلا تغير عليه. ثم تكالما طويلا وافترقا، وخرج عثمان على أثر ذلك وخطب، وعرض بما هو فيه من الناس وطعنهم، وما يريدون منه، وإنهم تجرأوا عليه لرفقه بما لم يتجرأوا بمثله على ابن الخطاب، ووافقهم برجوعه في شأنه إلى ما يقدمهم. حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأثابه ورفع درجته ولما كثرت الإشاعة في الأمصار بالطعن على عثمان وعماله، وكتب بعضهم إلى بعض في ذلك، وتوالت الأخبار بذلك على أهل المدينة، جاءوا إلى عثمان وأخبروه فلم يجدوا عنده علما منه. وقال: أشيروا علي وانتم شهود المؤمنين. قالوا: تبعث من تثق به إلى الأنصار يأتوك بالأخبار. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى البصرة وعبد لله بن عمر إلى الشام وغيرهم إلى سواها. فرجعوا وقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره علماء المسلمين ولا عوامهم، وتأخر عمار بن ياسر بمصر واستماله ابن السوداء وأصحابه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر. وكتب عثمان إلى أهل الأمصار إنى قد رفع إلي أهل المدينة أن عمالي وقع منهم أضرار بالناس، وقد أخذتهم بأن يوافوني في كل موسم، فمن كان له حق فليحضر يأخذ حقه مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين. فبكى الناس عند قراءة كتابه عليهم، ودعوا له. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر وابن أبي سرح ومعاوية وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمرا وقال: ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة؟ وإنى لأخشى والله أن يكونوا صادقين! فقالوا له: ألم يخبرك رسلك بأن أحداً لم يشافههم بشيء، وإنما هذه إشاعة لا يحل الأخذ بها، واختلفوا في وجه الرأي في ذلك. فقال عثمان: أن الأمر كائن وبابه سيفتح، ولا أحب أن تكون لأحد علي حجة في فتحه. وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا، فسكنوا الناس وبينوا لهم حقوقهم. ثم قدم المدينة فدعا علما وطلحة، الزبير- ومعاوية حاضر-، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أتم ولاة هذا الأمر واخترتم صاحبكم يعني عثمان، وقد كبر وأشرف وفشت مقالة خفتها عليكم فما عنيتم به من شيء فأنالكم به، ولا تطمعوا الناس في أمركم. فانتهره علي، ثم ذهب عثمان يتكلم، وقال: اللذان كانا قبلي منعا قرابتهما احتسابا، وإن المجلد الثانى
صفحة 568 إلى 622 ( النهاية )
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته، وإن قرابتى أهل عيلة وقلة معاش فأعطيتهم، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه. فقالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا، ومروان خمسة عشر ألفا. قال : آخذ ذلك منهما. فانصرفوا راضين. وقال له معاوية: اخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه. قال: لا ابتغي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلاً قال: فابعث إليك جندا يقيمون معك. قال: لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معاوية: لتغتالن ولتعيرن، قال: حسبي الله ونعم الوكيل. ثم سار معاوية ومر على عليّ وطلحة والزبير فوصاهم بعثمان وودعهم ومضى. وكان المنحرفون عن عثمان بالأمصار قد تواعدوا عند مسير الأمراء إلى عثمان أن يثبوا عليه في مغيبهم. فرجع الأمراء ولم يتهيأ لهم ذلك. وجاءتهم كتب من المدينة ممن صار إلى مذهبهم في الإنحراف عن عثمان إن اقدموا علينا فإن الجهاد عندنا، فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة، فخرج المصريون وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة وقيل في ألف، وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسوادن بن حمران السكوني وميسرة أو قيترة بن فلان السكوني، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي. وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري. وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبدي وزريح عباد وبشر بن شريح القيسي، وابن المحرش، وعليهم حرقوص بن زهير السعدي، وكفهم في مثل عدد أهل مصر. وخرجوا جميعا في شوال مظهرين للحج، ولما كانوا من المدينة على ثلاثة مراحل تقدم ناس من أهل البصرة، وكان هواهم في طلحة فنزلوا ذا خشب، وتقدم ناس من أهل الكوفة: وكان هواهم في الزبير فنزلوا الأعوص، ونزل معهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في عليّ، وتركوا عامتهم بذي المروة. وقال أبو زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم في أهل الكوفة لا تعجلوا حتى ندخل المدينة فقد بلغنا انهم عسكروا لنا، فوالله إن كان حقا لا يقوم لنا أمر. ثم دخلوا المدينة ولقوا عليا وطلحة والزبير وأمهات المؤمنين وأخبروهم أنهم إنما أتوا للحج، وأن يستعفوا من بعض العمال، واستأذنوا في الدخول فمنعوهم ورجعوا إلى أصحابهم وتشاوروا في أن يذهب من أهل الكوفة وكل مصر فريؤ، إلى أصحابهم كياداً
وطلباً في الفرقة. فأتى المصريون عليا وهو في عسكره عند أحجار الزيت، وقد بعث إليه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عليه فعرضوا عليه أمرهم، فصاح بهم وطردهم وقال: إن جيش في المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم ذلك الصالحون. وأتى البصريون طلحة والكوفيون الزبير فقالا مثل ذلك، فانصرفوا وافترقوا عن هذه الأماكن إلى عسكرهم على بعد. فتفرق أهل المدينة فلم يشعروا إلا والتكبير في نواحيها وقد هجموا وأحاطوا بعثمان، ونادوا بأمان من كف يده.
وصلى عثمان بالناس أياما، ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه. وغدا عليهم عليّ فقال: ما ردكم بعد ذهابكم؟ قالوا: أخذنا تحابا مع يزيد بقتلنا. وقال المصريون لطلحة والكوفيون للزبير مثل مقالة أهل مصر وإنهم جاءوا لينصروهم. فقال لهم عليّ: كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم علينا جميعا؟ هذا أمر أبرم بليل: فقالوا: اجعلوه كيف شئتم، لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا وهم يصلون خلفه، ومنعوا الناس من الإجتماع معه.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار شحثهم، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهرفي، وبعث عبد الله بن أبي سرح معاوية بن جريح، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو، وتسابقوا إلى المدينة على الصعب والذلول. وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المحدينة، فمن الصحابة عقبة بن عامر وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب، ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله،؟ بن حكيم. وقام بالبصرة في ذلك عمران بن حصين وأنر بن مالك وهشام بن عامر، ومن التابعين كعب بن سوار وهرم بن حبان. وقام بالشام وبمصر جماعة أخرى من الصحابة والتابعين. ثم خطب عثمان في الجمعة القابلة وقال: يا هؤلاء! الله، الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطأ بالصواب. فقال محمد بن مسلمة أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم ابن جبلة. وقام ريد بن ثابت فأقعده آخر، وحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وأصيب عثمان بالحصباء فصرخ، وقاتل دونه سعد بن أبي وقاص والحسين وزيد بن ثابت
وأبو هريرة. ودخل عثمان بيته وعزم عليهم في الإنصراف فانصرفوا. ودخل عليّ وطلحة والزبير على ضمان يعودونه وعنده ففر من بني أمية فيهم مروان فقالوا لعلي: أهلكتنا
وصنعت هذا الصنع، والله لئن بلغت الذي تريد لتحزن عليك الدنيا، فقام مغضبا، وعادوا إلى منازلهم. وصفى عثمان بالناس وهو محصور ثلاثين يوماً. ثم منعوه الصلاة وصلى بالناس أمير المصريين الغافقي بن حرب العكي. وتفرق أهل المدينة في بيوتهم وحيطانهم ملازمين للسلاح، وبقي الحصار أربعين يوما. وقيل بل أفر عثمان أبا أيوب الأنصاري فصلى أياما. ثم صفى عليّ بعده بالناس وقيل أمر عليا سهل بن حنيف فصلى عشر ذي الحجة، ثم صفى العيد والصلوات حتى قتل عثمان. وقد قيل في حصار عثمان: إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان. فلما خرج المصريون في رجب مظهرين للحج ومضمرين قتل عثمان أو خلعه، وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، كان فيمن خرج مع المصريين محمد بن ابي بكر. وبعث عبد الله بن سعيد في آثارهم وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر. فلما كان ابن أبي سرح بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه، وأن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر، فرجع سريعاً إليهما فمنع منهما فأتى فلسطين وأقام بها حتى قتل عثمان. وأما المصريون فلما نزلوا ذا خشب جاء عثمان إلى بيت عليّ ومت إليه بالقرابة في أن يركب إليهم ويردهم لئلا تظهر الجرأة منهم فقال له عليّ: قد كلمتك في ذلك فأطعت أصحابك وعصيتني!- يعني مروان ومعاوية وابن عامر وابن أبي سرح وسعيد- فعلى أي شيء أردهم؟ فقال على أن أصير إلى ما تراه وتشيره، وأن أعصي أصحابي وأطيعك. فركب عليّ في ثلاثين من المهاجرين والأنصار فيهم سعد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن فطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب، ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وابو حميد وزيد بن ثابت وحسان وكعب بن مالك، ومن العرب دينار بن مكرز. فأتوا المصريين وتولى الكلام معهم عليّ ومحمد بن مسلمة. فرجعوا إلى مصر وقال ابن عديس لمحمد: أتوصينا بحاجة؟ قال تتفي الله وترد من قبلك عن أمانه، فقد وعدنا أن يرجع وينزع. ورجع القوم إلى المدينة ودخل عليّ على عثمان وأخبره برجوع المصريين. ثم جاءه مروان من الغد فقال له: أخبر الناس بأن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عنك كان باطلا قبل أن تجيء الناس من الأمصار ويأتيك ما لا نطيقه ففعل. فلما خطب ناداه الناس كل ناحية: إتق الله يا عثمان وتب إلى الله، وكان أولهم عمرو بن العاص. فرفع
يده وقال لهم: إني تائب. وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين، ثم جاء الخبر بحصاره وقتله. وقيل: إن عليا لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزوع قبل أن يجيء غيرهم ففعل وخطب بذلك، وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال: أنا أول من أتعظ، استغفر الله مما فعلت وأتوب اليه، فليأت أشرافكم يروني رأيهم، فوالله إن ردني الحق عبداً لأستن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد، وما عن الله مذهب الا إليه. فوالله لأعطينكم الرضى ولا أحتجب عنكم. ثم بكى وبكى الناس ودخل منزله. فجاءه نفر من بني أمية يعذلونه في ذلك فوبختهم نائلة بنت الفرافصة، فلم يرجعوا إليها وعابوه فيما فعل واستذلوه في اقراره بالخطيئة والتوبة عند الخوف، واجتمع الناس في الباب وقد ركب بعضهم بعضا. فقال لمروان كلمهم! فأغلظ لهم في القول وقال: جئتم لنزع ملكنا من أيدينا. والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله ما نحن مغلوبون على ما في أيدينا. وبلغ الخبر عليا فنكر ذلك وقال لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث: أسمعت خطبته بالأمس، ومقالة مروان للناس اليوم، يا لله ويا للناس! إن قعدت في بيتي قال تركتني وقرابتي وحقي، وإن تكلمت فجاء ما يزيد يلعب به مروان ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة الرسول. وقام مغضبا إلى عثمان واستقبح مقالة مروان وانبه عليها وقال: ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، فقد أذهبت شرفك وغلبت على رأيك. ثم دخلت عليه امرأته نائلة وقد سمعت قول عليّ، فعذلته فى طاعة مروان وأشارت عليه باستصلاح عليّ، فبعث إليه فلم يأته. فأتاه عثمان إلى منزله ليلاً يستلينه ويعده الثبات على رأيه معه، فقال: بعد أن أقام مروان على بابك يشتم الناس ويؤذيهم؟ فخرج عثمان وهو يقول خذلتني وجرأت عليّ الناس! فقال عليّ: والله إني أكثر الناس ذبا عنك، ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي. ثم منع عثمان الماء فغضب عليّ غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان، وقيل إن عليا كان عند حصار عثمان بخيبر فقدم والناس يجتمعون عند طلحة فجاءه عثمان وقال يا عليّ! إن لي حق الإخاء والقرابة والصهر، ولو كان أمر الجاهلية فقط لكان عارا
على بني عبد مناف أن تنزع تيم أمرهم فجاء عليّ إلى طلحة وقال ما هذا؟ فقال طلحة: ابعد ما مس الحزام الطبيين يا أبا حسن! فانصرف عليّ إلى بيت المال وأعطى الناس فبقي طلحة وحده. وسر بذلك عثمان وجاء إليه طلحة فقال له: والله ما جئت تائبا ولكن مغلوبا، فالله حسيبك يا طلحة. وقيل إن المصريين لما رجعوا خرج إليهم محمد بن مسلمة فأعطوه صحيفة قالوا وجدناها عند غلام عثمان بالبويب، وهو على بعير من ابل الصدقة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البياع، وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم. وقيل وجدت الصحيفة بيد أبي الأعور السلمي. فعاد المصريون وعاد معهم الكوفيون والمصريون، وقالوا لمحمد بن مسلمة حين سألهم: قد كلمنا عليا وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فوعدونا أن يكفموه، فليحضر عليّ معنا عند عثمان. ثم دخل عليّ ومحمد على عثمان وأخبروه بقول أهل مصر فحلف ما كتب ولا علم. ففال محمد: صدق! هذا من عمل مروان. ودخل المصريون، فشكا ابن عديس بابن أبي سرح وما أحدثه بمصر، وأنه ينسب ذلك إلى كتاب عثمان، وإنا جئنا من مصر لقتلك فردنا عليّ ومحمد وضمنا لنا النزوع عن هذا كله، فرجعنا ولقينا هذا الكتاب وفيه أمرك لابن أبي سرح بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس، وهو بيد غلامك وغليه خاتمك. فحلف عثمان ما كتب ولا أمر ولا علم. قالوا فكيف يجترىء عليك بمثل هذا؟ فقد استحقيت الخلع على التقديرين، ولا يحل أن يولى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف فاخلع نفسك. فقال: لا أنزع ما ألبسني الله، ولكن أتوب وأرجع. قال: رأيناك تتوب وتعود فلا بد من خلعك أو قتلك، وقتال أصحابك دون ذلك إلى أن يخلص إليك أو تموت. فقال: لا ينالكم أحد بأخرى ولو أردت ذلك لاستجشت بأهل الأمصار. ثم كثر اللغط وأخرجوا ومضى عليّ إلى منزله، وحصر المصريون عثمان وكتب إلى معاوية وابن عامر يستحثهم. وقام يزيد بن أسد القسري فاستنفر أهل الشام وسار إلى عثمان وبلغهم تله برادي القرى فرجعوا وقيل سار من الشام حبيب بن مسلمة، ومن البصرة مجاشع بن مسعود فبلغهم قتله بالربذة فرجعوا. وكان بطانة عثمان أشاروا عليه أن يبعث إلى عليّ في كفهم عنه على الوفاء لهم،
فبعث إليه في ذلك فأجاب بعد توقف. ثم بعث إليهم فقالوا: لا بد أن تتوثق منه، وجاءه فأعلمه وتوثق منه، على أجل ثلاثة أيام. وكتب بينهم كتاباً على رد المظالم وعزل من كرهوه من العمال. ثم مضى الأجل وهو مستعد ولم يغير شيئا، فجاءه المصريون من ذي خشب بستنجزون عهدهم فأبى فحصروه. وأرسل إلى عليّ وطلحة والزبير وأشرف عليهم فحياهم ودعا لهم ثم قال: أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم وبجمعكم على خيركم؟ أتقولون إنه لم يستجب لكم، أو تقولون إن الله لم يبال بمن ولى هذا الدين، أم تقولون ان الأمة ولو مكابرة وعن غير مشورة فوكلهم إلى أمرهم. أو لم يعلم عاقبة أمري! ثم أنشدكم الله هل تعلمون لي من السوابق ما يجب حقه! فمهلا فلا يحل إلا قتل ثلاثة: زان بعد إحصان، وكافر بعد إيمان، وقاتل بغير حق. ثم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف. فقالوا له: أما ذكرت من الاستخارة بعد عمر فكل ما صنع الله تعالى فيه الخيرة، ولكن الله ابتلى بك عباده. وأما حقك وسابقتك فصحيح، لكن أحدثت ما علمت، ولا تترك إقامة الحق مخافة الفتنة عاما قابلا. وأما حصر القتل في الثلاثة ففي كتاب الله: قتل من سعى في الأرض فسادا، ومن قاتل على البغي وعلى منع الحق والمكابرة عليه، وأنت إنما تمسكت بالأمارة علينا، وإنما قاتل دونك هؤلاء بهذه التسمية، فلو نزعتها انصرفوا. فسكت عثمان ولزم الدار، وأقسم على الناس بالانصراف فانصرفوا إلا الحسن بن عليّ ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير، وكانت مدة الحصار أربعين يوما. ولثمان عشرة منها وصل الخبر بمسير الجنود من الأمصار فاشتد الحصار ومنعوه من لقاء الناس ومن الماء. وأرسل إلى عليّ وطلحة والزبير وأمهات المؤمنين يطلب الماء. فركب عليّ إليهم مغلساً وقال: يا أيها الناس إن هذا لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين! وإن الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى. فقالوا لا والله ونعمة عين، فرجع وجاءت أم حبيبة على بغلتها مشتملة على أداوة وقالت: أردت أن أسأل هذا الرجل عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم فقالوا: لا والله وضربوا وجه البغلة فنفرت وكادت تسقط عنها، وذهب بها الناس إلى بيتها. وأشرف عليهم عثمان وقرر حقوقه وسوابقه. فقال بعضهم: مهلا عن أمير
المؤمنين. فجاء الأشتر وفرق الناس وقال؟ لا يمكر بكم. ثم خرجت عائشة إلى الحج ودعت أخاها فأبى فقال له حنظلة الكاتب: تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع سفهاء العرب فيما لا يحل؟ ولو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم ذهب حنظلة إلى الكوفة، وبلغ طلحة والزبير ما لقي عليّ وأم حجة فلزموا بيوتهم. وكان آل حزم يدسون الماء إلى بيت عثمان في الغفلات، وكان ابن عباس مفن لزم باب عثمان للمدافعة، فأشرف عليه عثمان وأمره أن يحج بالناس فقال: جهاد هؤلاء أحب إلي! فأقسم عليه وانطلق. ولما رأى أهل مصر أن أهل الموسم يريدون قصدهم، وأن أهل الأمصار يسيرون إليهم اعتزموا على قتل عثمان رضي الله عنه وتقبل لهادتهم يرجون في ذلك خلاصهم، واشتغال الناس عنهم، فقاموا إلى الباب ليفتحوه فمنعهم الحسن بن عليّ ابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة، وقاتلوهم وغلبوهم دون الباب. ثم صدهم عثمان في القتال وحلف ليدخلن فدخلوا وأغلق الباب فجاءوا بالنار وأحرقوه، ودخلوا وعثمان يصلي وقد افتتح سورة طه. وقد سار أهل الدار فما شغله شيء من أمرهم حتى فرغ وجلس إلى المصحف يقرأ فقرأ: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل }. ثم قال لمن عنده: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه ومنعهم من القتال، وأذن للحسن في اللحاق بأبيه وأقسم عليه، فأبى وقاتل دونه. وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تعجل من الحج في عصابة لنصره فقاتل حتى قتل. وجاء أبو هريرة ينادي: يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار، وقاتل. ثم اقتحمت الدار من ظهرها من جهة دار عمرو بن حزم فامتلأت قوماً ولا يشعر الذين بالباب، وانتدب رجل فدخل على عثمان في البيت فحاوره في الخلع فأبى، فخرج ودخل آخر ثم آخر كلهم يعظه فيخرج ويفارق القوم. وجاء ابن سلام فوعظهم فهفوا بقتله. ودخل عليه محمد بن أبي بكر فحاوره طويلا بما لا حاجة إلى ذكره، ثم استحيا وخرج. ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم وأكبت عليه نائلة إمرأته تتقي الضرب بيدها، فنفحها أحدهم بالسيف في أصابعها. ثم قتلوه وسال دمه على المصحف. وجاء غلمانه فقتلوا بعض أولئك القاتلين وقتلاء أخر وانتهبوا ما في البيت وما على النساء حتى ملاءة نائلة، وقتل الغلمان منهم، وقتلوا من الغلمان. ثم خرجوا إلى بيت المال فانتهبوه وأرادوا قطع رأسه فمنعهم النساء. فقال ابن عديس: اتركوه. ويقال إن الذي تولى قتله كنانة بن بشر التجيبي. وطعنه عمرو بن الحمق طعنات. وجاء عمير بن ضابىء وكان أبوه مات في سجنه فوثب عليه حتى كسر ضلعا من أضلاعه. وكان قتله لثمان عشرة خلت من ذي الحجة، وبقي في بيته ثلاثة أيام. ثم جاء حكيم بن حزام وجبير بن مطعم إلى عليّ فأذن لهم في دفنه، فخرجوا به بين المغرب والعشاء ومعهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان فدفنوه في حش كوكب وصفى عليه جبير وقيل مروان وقيل حكيم. ويقال: إن ناسا تعرضوا لهم
ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل إليهم عليّ وزجرهم. وقيل إن عليا وطلحة حضرا جنازته، وزيد بن ثابت وكعب بن مالك. وكان عماله عند موته على ما نذكره: فعلى مكة عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى المجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة والمجرين عد الله بن عامر، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى حمص عبد الرحمن بن خالد من قبله، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة كذلك، وعلى الأردن أبو الأعور السلمي كذلك، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكندي كذلك، وعلى البحرين عبد الله بن قيس الفزاري، وعلى القضاء أبو الدرداء، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة، والقعقاع بن عمرو على الحرب، وعلى خراج السواد جابر المزييئ، وسفالى الأنصاري على الخراج، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد اللة، وعلى أذربيجان الاشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة بن نهاس وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبدان خنيس، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى القضاء زيد بن ثابت
بيعة عليّ رضي الله عنه
لما قتل عثمان اجتمع طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا عليا يبايعونه فأبى وقال: أكون وزيرا لكم خير من أن أكون أميرا، ومن اخترتم رضيته، فألحوا عليه وقالوا له: لا نعلم أحق منك ولا نختارغيرك حتى غلبوه في ذلك، فخرج إلى المسجد وبايعوه. وأول من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيرهما- ويقال إنهما ادعيا الإكراه بعد ذلك بأربعة أشهر وخرجا إلى مكة- ثم بايعه الناس وجاءوا بابن عمر فقال كذلك. فقال ائتني بكفيل قال لا أجده، فقال الأشتر دعني أقتله، فقال عليّ دعوه أنا كفيله. وبايعت الأنصار، وتأخرّ منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو
سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفصالة بن عبيد وكعب بن عجرة وسلمة بن سلامة بن وخش. وتأخر من المهاجرين عبد الله بن سلام وصهيب بن سنان وأسامة بن زيد وقدامة بن مظعون والمغيرة بن شعبة. وأما النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان وقميصه الذي قتل فيه ولحق بالشام صريخاً.
وقيل إن عثمان لما قتل بقي الغافقى بن حرب أميرا على المدينة خمسة أيام والتمس من يقوم بالأمر فلم يحبه أحد، وأتوا إلى عليّ فامتنع، وأتى الكوفيون الزبير والبصريون طلحة فامتنعا. ثم بعثوا إلى سعد وابن عمر فامتنعا فبقوا حيارى ورأوا أن رجوعهم إلى الأمصار بغير إمام يوقع في الخلاف والفساد، فجمعوا أهل المدينة وقالوا: انتم أهل الشورى وحكمكم جائز على الأمة فاعقدوا الإمام ونحن لكم تبع، وقد أجلناكم يومين وإن لم تفعلوا قتلنا فلانا وفلانا وغيرهم يشيرون إلى الأكابر. فجاء الناس إلى عليّ فاعتذر وامتنع، فخوفوه الله في مراقبة الإسلام، فوعدهم إلى الغد. ثم جاءوه من الغد. وجاء حكيم بن جبلة في البصريين فأحضر الزبير كرها، وجاء الأشتر في الكوفيين فأحضر طلحة كذلك، وبايعوا لعلي وخرج إلى المسجد وقال: هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أردتم، وقد افترقنا أمس وأنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم، فقالوا نحن على ما افترقنا لك عليه بالأمس فقال لهم: اللهم اشهد! ثم جاءوا بقوم ممن تخلف قالوا نبايع على إقامة كتاب الله. ثم بايع الحامة، وخطب عليّ وذكر الناس، وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، ورجع إلى بيته فجاءه طلحة والزبير وقالا: قد اشترطنا إقامة الحدود فلتقمها على قتلة هذا الرجل فقال: لا قدرة لي على شيء مما تريدوه حتى يهدأ الناس وتستقر ا أمور فتؤخذ الحقوق. فافترقوا عنه، وأكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان وباستناده إلى أربعة في رأيه. وبلغه ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم. ثم هرب مروان وبنو أمية ولحقوا بالشام، فاشتد على عليّ منع قريش من الخروج. ثم نادى في اليوم الثالث برجوع
الأعراب إلى بلادهم فأبوا وتذامرت معهم السبئية، وجاءه طلحة والزبير فقالا: دعنا نأت البصرة والكوفة فنستنفر الناس فأمهلهما. وجاء المغيرة فأشار عليه باستبقاء العمال حتى يستقر الأمر ويستبدلوا بمن شاء، فأمهله. ورجع من الغد، فأشار بمعاجلة الاستبدال. وجاءه ابن عباس فأخبره بخبر المغيرة فقال: نصحك أمس وغشك اليوم. قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج عند قتل الرجل أو قبل ذلك إلى مكة، وأما اليوم فإن بني أمية يشبهون على الناس بأن يلجموك طرفا من هذا الأمر ويطلبون ما طلب أهل المدينة في قتلة عثمان فلا يقدرون عليهم، والرأي أن تقر معاوية. فقال عليّ رضي الله عنه والله لا أعطيه إلا السيف.
فقال له ابن عباس: أنت رجل شجاع، لست صاحب رأي في الحرب. أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحرب خدعة: قال بلى! فقال ابن عباس: أما والله إن أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الامور ولا يعرفون ما كان وجهها من غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال يا ابن عباس: لست من هنياتك ولا هنيات معاوية في شيء. فقال ابن عباس ة أطعني والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك. وإن نهضت مع هؤلاء اليوم يحملك الناس دم عثمان غدا. فأبى عليّ وقال: أشر عليّ وإذا خالفتك أطعني. قال: أيسر ما لك عندي الطاعة. قال: فسر إلى الشام فقد وليتكها. قال إذا يقتلني معاوية بعثمان أو يحبسني فيتحكم عليّ لقرابتي منك، ولكن أكتب إليه وعده فأبى. وكان المغيرة يقول: نصحته فلم يقبل، فغضب ولحق بمكة. ثم فرق عليّ العمال على الأمصار فبعث على البصرة عثمان بن حنيف، وعلى الكوفة عمارة بن شهاب من المحهاجرين، وعلى اليمن عبد الله بن عثاس، وعلى مصر قيس بن سعد، وعلى الشام سهل بن حنيف. فمضى عثمان إلى البصرة فدخلها واختلفوا عليه فأطاعته فرقة، وقال آخرون: ننظر ما يصنع أهل المدينة فنقتدي بهم. ومضى عمارة إلى الكوفة، فلما بلغ زبالة لقي طليحة بن خويلد فقال له: إرجع فإن القوم لا يستبدلون بأبي موسى وإلا ضربت عنقك. ومضى ابن عباس إلى اليمن فجمع يعلى بن منية مال الجباية
وخرج به الى مكة ودخل عبد الله إلى اليمن، ومضى قيس بن سعد إلى مصر ولقيه بايلة خيالة من أهل مصر فقالوا: من أنت؟ قال قيس بن سعد من فل عثمان أطلب من آوي إليه وانتصر به. ومضى حتى دخل مصر وأظهر أمره فافترقوا طيه، فرقة كانت معه، وأخرى تربصوا حتى يروا فعله في قتلة عثمان.
ومضى سهل بن حنيف إلى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقال لهم: أنا أمير على الشام قالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع. فلما رجع وجاءت أخبار الآخرين دعا على طلحة والزبير وقال: قد وقع ما كنت أحذركم، فسألوه الإذن في الخروج من المدينة وكتب عليّ إلى أبي موسى مع معبد الأسلمي فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، ومن الكاره منهم والراضي حتى كأنه يشاهد. وكتب إلى معاوية مع سبرة الجهني فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان. ثم دعا قبيصة من عبس وأعطاه كتابا مختوماً عنوانه: من معاوية إلى عليّ وأوصاه بما يقول وأعاده مع رسول عليّ. فقدم في ربيع الأول، ودخل العبسي وقد رفع الطومار كما أمره حتى دفعه إلى عليّ ففضه فلم يجد فيه كتابا. فقال للرسول: ما وراءك؟ قال آمن أنا؟ قال نعم! قال تركت قوما لا يرضون إلا بالقود، قال ومفن؟ قال منك. وتركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان منصوبا على منبر دمشق. فقال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! قد نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله. ثم رده إلى صاحبه وصاحت السبئية: اقتلوا هذا الكلب وافد الكلاب. فنادى يا لمضر يا لقيس أحلف بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحول والركاب وتقاووا عليه فمنعته مضر، ودس أهل المدينة على عليّ من يأتيهم برأيه في القتال، وهو زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعا إليه، فجالسه ساعة، فقال له عليّ: سيروالغزو الشام. فقال لعلي الأناة والرفق أمثل فتمثل يقول:
- متى تجمع القلب الذكي وصارماً وانفاً حميا تجتنبك المظالم
فعلم أن رأيه القتال، ثم جاء إلى القوم الذين دسوه فأخبرهم ثم استأذنه طلحة والزبير في العمرة ولحقا بمكة. ثم اعتزم على الخروج إلى الشام ودعا أهل المدينة إلى قتالهم. وقال: انطلقوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم، لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم. وأمر الناس بالتجهز إلى الشام، ورفع اللواء لمحمد بن الحنفية، وولى عبد الله بن عباس ميمنته وعمرو بن أبي سلمة ميسرته، ويقال بل عمرو بن سفيان بن عبد الاسد وولى أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي عبيدة مقدمته، ولم يول أحداً مفن خرج على عثمان. واستخلف على المدينة تمام بن العبّاس، وعلى مكة قثم بن العبّاس. وكتب إلى قيس بن سعد بمصر وعثمان بن حنيف بالبصرة وأبي موسى بالكوفة أن يندبوا الناس إلى الشام، وبينما هو على التجهيز للشام إذ أتاه الخبر عن أهل مكة بنحو آخر وانهم على الخلاف فانتقض عن الشام.
أمر الجمل
ولما جاء خبر مكة إلى عليّ قام في الناس وقال: ألا إنّ طلحة والزبير وعائشة قد تمالأؤا على نقض إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم واكف إن كفوا واقتصد نحوهم. وندب أهل المدينة فتثاقلوا وبعث كميلا النخعي فجاءه بعبد الله بن عمر فقال: إنهض معي، فقال أنا من أهل المدينة افعل ما يفعلون. قال: فاعطني كفيلا بأنك لا تخرج قال ولا هذه، فتركه ورجع إلى المدينة. وخرج إلى مكة وقد أخبر أخته أم كلثوم بما سمع من اهل المدينة في تثاقلهم وأنه على طاعة على ويخرج معتمرا، وجاء الخبر من الغداة إلى على بأنه خرج إلى الشام فبعث في أثره على كل طريق، وماج اهل المدينة وركبت أم كلثوم إلى أبيها وهو في السوق يبعث الرجال ويظاهر في طلبه، فحدثته فانصرف عن ذلك. ووثق فيما قاله ورجع إلى اهل المدينة فخاطبهم وحرّضهم فرجعوا إلى إجابته. وأول من أجابه أبو الهيثم بن التيهان البدري، وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين. ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس عن عليّ انتدب إليه وقال: من تثاقل عنك فإنا نخفّ معك ونقاتل دونك. وكان سبب إجتماعهم بمكّة أن عائشة كانت خرجت إلى مكّة وعثمان محصور كما قدمناه، فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة، فلقيت في طريقها رجلا من بني ليث أخوالها فأخبرها بقتل عثمان وبيعة عليّ فقالت: قتل عثمان والله ظلما ولأطلبن بدمه فقال لها الرجل ولم أنت كنت تقولين ما قلت؟ فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه وانصرفت إلى مكة.
وجاءها الناس فقالت: إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم من كان قبله ومواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام. والله لأصبع من عثمان خير من طباق الارض أمثالهم، ولو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه. فقال عبد لله بن عامر الحضرمي وكان عامل مكة لعثمان: أنا أول طالب فكان أول مجيب وتبعه بنو أميه وكانوا هربوا إلى مكة بعد قتل عثمان: منهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة. وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ويعلى بن منية من اليمن بستمائة بعير وستمائة ألف فأناخ بالابطح.
ثم قدم طلحة والزبير من المدينة فقالت لهما عائشة: ما وراءكما؟ قالا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب غلبون على خيارهم فلم يمنعوا انفسهم ولا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلا. فقالت: انهضوا بنا إليهم وقال آخرون: نأتي الشام. فقال ابن عامر: إن معاوية كفاكم الشام فأتوا البصرة فلي بها صنائع ولهم في طلحة هوى، فنكروا عليه مجيئه من البصرة واستقام رأيهم على رأيه وقالوا: إن الذين معنا لا يطيقون من بالمدينة، ويحتجون ببيعة على، وإذا أتينا البصرة انهضناهم كما انهضنا اهل مكة وجاهدنا، فاتفقوا ودعوا عبد الرحمن بن عمر إلى النهوض فأبى وقال: أنا من اهل المدينة أفعل ما يفعلون.
وكانت أمهات المؤمنين معها على قصد المدينة. فلما نهضت إلى البصرة قعدوا عنها، وأجابتها حفصة فمنعها أخوها عبد الله. وجهزهم ابن عامر بما معه من المال، ويعلى بن منية بما معه من المال والظهر. ونادوا في الناس بالحملان، فحملوا على ستمائة بعير وساروا في ألف من اهل مكة ومن اهل المدينة. وتلاحق بهم الناس فكانوا ثلاثة آلاف، وبعثت أمّ الفضل أم عبد الله بن عباس بالخبر استأجرت على كتابها من أبلغه عليّا، ونهضت عائشة ومن معها، وجاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير فقال على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة فقال ابن الزبير: على أبي، وقال ابن طلحة: على أبي، فأرسلت عائشة إلى مروان تقول له: أتريد أن تفرق أمرنا ليصل بالناس ابن أختي تعني عبد الله بن الزبير. وودع أمهات المؤمنين عائشة من ذات عرق باكيات، وأشار سعيد بن العاص على مروان بن الحكم وأصحابه بإدراك ثأرهم من عائشة وطلحة والزبير. فقالوا: نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا.
ثم جاء إلى طلحة والزبير فقال لمن تجعلان الأمر إن ظفرتما؟ قالا: لأحدنا الذي تختاره الناس. فقال: بل اجعلوه لولد عثمان لأنكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: وكيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟ قال: فلا أراني أسعى الا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد، ووافقه المغيرة بن شعبة ومن معه من ثقيف. فرجعوا ومضى القوم ومعهم أبان والوليد إبنا عثمان. واركب يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بمئة دينار، وقيل بثمانين، وقيل بل كان لرجل من عرينة عرض لهم بالطريق على جمل فاستبدلوا به جمل عائشة على أن حمله بألف، فزادوه أربعمائة درهم وسألوه عن دلالة الطريق، فدلهم ومر بهم على ماء الحوأب فنبحتهم كلابه. وسألوه عن الماء فعرفهم باسمه. فقالت عائشة: ردوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟ ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وأقامت بهم يوما وليلة إلى أن قيل النجاء! النجاء! قد أدرككم عليّ فارتحلوا نحو البصرة. فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي، وأشار بأن يتقدم عبد الله بن عامر إليهم، فأرسلته عالة وكتبت معه إلى رجال من البصرة: إلى الاحنف بن قيس وسمرة وأمثالهم وأقامت بالحفيين تنتظر الجواب. ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجلا عامّة، وأبا الأسود الدؤليّ وكان
رجلا خاصّة وقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها، فجاءاها بالحفير وقالا: إن أميرنا بعثنا نسألك عن مسيرك فقالت: إن الغوغاء ونزاع القبائل فعلوا ما فعلوا. فخرجت في المسلمين أعلمهم بذلك وبالذي فيه الناس وراءنا، وما ينبغي من إصلاح هذا الأمر. ثم قرأت: { لا خير في كثير من نجواهم } [الآية….]
ثم عدلا عنها إلى طلحة فقالا ما أقدمك؟ قال الطلب بدم عثمان! فقالا: ألم تبايع عليا؟ قال بلى والسيف على رأسي، وما استقبل على البيعة إن هو لم يخل بيننا ربين قتله عثمان. وقال لهما الزبير مثل ذلك، ورجعا إلى عمان بن حنيف فاسترجع وقال. دارت رحى الإسلام ورث الكعبة. ثم قال: أشيروا عليّ! فقال عمران اعتزل قال بل امنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فجاءه هشام بن عامر فأشار عليه بالمسالمة والمسامحة حتى يأتي أمر عليّ، لأبى ونادى لي الناس بلبس السلاح. ثم دس من يتكلم في الجمع ليرى ما عندهم. فقال رجل: إن هؤلاء القوم إن كانوا جاءوا خائفين فبلدهم يأمن فيه الطير، وإن جاءوا لدم عثمان فما نحن بقتلته. فأطيعوني وردهم من حيث جاءوا. فقال الأسود بن سريع السعدي إنما جاءوا يستعينون بنا على قتلته منا ومن غيرنا، فحصبه الناس. فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرا وكسر ذلك كله. وانتهت عائشة ومن معها إلى المربد، وخرج إليها عثمان فيمن معه. وحضر أهل البصرة فتكلم طلحة من الميمنة، فحمد الله وذكر عثمان وفضله ودعا إلى الطلب بدمه وحث عليه، وكذلك الزبير. فصدقهما أهل الميمنة، وقال أصحاب عثمان من الميسرة: بايعتم عليا ثم جئتم تقولون. ثم تكلمت عائشة وقالة: كالت: كان الماس يتجنب عثمان ويأتوننا بالمدينة فنجدهم فجرة ونجده برا تقيا، وهم يحاولون يخر ما يظهرون. ثم كثروا واقتحموا عليه داره، وقتلوه واستحلوا المحرمات بلا ترة ولا عذر. ألا وإن مما ينبغي لكم ولا ينبغي غيره أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله. ثم قرأت: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } الآية. فاختلف أصحاب عثمان عليه وقال بعضهم إلى عائشة. ثم افترق الناس وتحاصبوا وانحدرت عائشة إلى المربد وجاءها جارية بن قدامة السعدي فقال يا أم المؤمنين: والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح. إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، وأنّه من
رأى قتالك يرى قتلك. فإن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت مكرهة فاستعيني بالله وبالناس على الرجوع. وأقبل حكيم لن جبلة وهو على ظهر الخيل فانشب القتال. وأشرع أصحاب عائشة رماحهم فأقتتلوا على فم السكة وحجز الليل بينهم وباتوا يتأهبون وعاداهم حكيم بن جبلة فاعترضه رجل من عبد القيس فقتله حكيم ثم قتل إمرأة أخرى، واقتتلوا إلى ان زال النهار. وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف ولما عفتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتواعدوا على أن يبعثوا إلى المدينة، فإن كان طلحة والزبير اكرها سلم لهم عثمان الأمر، وإلا رجعا عنه.
وسار كعب بن سوار القاضي إلى أهل المدينة يسألهم عن ذلك فجاءهم يوم جمعة وسألهم فلم يجبه إلا أسامة بن زيد فإنه قال: بايعا مكرهين. فضربه الناس حتى كاد يقتل. ثم خلصه صهيب وأبو أيوب ومحمد بن مسلمة إلى منزله. ورجع كعب وبلغ الخبر بذلك إلى على، فكتب إلى عثمان بن حنيف يعجزه ويقول: والله ما أكره على فرقة ولقد أكره على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا. ولما جاء كعب بقول أهل المدينة بعث طلحة والزبير إلى عثمان ليجتمع بهما فامتنعا واحتج بالكتاب وقال: هذا غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الناس وجاءا إلى المسجد بعد صلاة العشاء في ليلة ظلماء شاتية، وتقدم عبد الرحمن بن عتاب في الوحل فوضع السلاح في الجابية من الزط والسابحة وهو أربعون رجلا فقاتلوهم وقتلوا عن آخرهم. واقتحموا على عثمان فأخرجوه إلى طلحة والزبير وقد نتفوا شعر وجهه كله وبعثا إلى عائشة بالخبر فقالت: خلوا سبيله. وقيل أمرت بإخراجه وضربه، وكان الذي تولى إخراجه وضربه مجاشع بن مسعود. وقيل أن الإتفاق إنما وقع بينهم على أن يكتبوا إلى على فكتبوا إليه. وأقام عثمان يصلي فاستقبلوه ووثبوا عليه فظفروا به وأرادوا قتله، ثم استبقوه من أجل الأنصار وضربوه وحبسوه. ثم خطب طلحة والزبير وقالا: يا أهل البصرة! توبة بحوبة إنما أردنا أن نستعتب عثمان
فغلب السفهاء فقتلوه. فقالوا لطلحة: قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا! قال الزبير: أما أنا فلم أكاتبهم وأخذ يرمي عليا بقتل عثمان. فقال رجل من عبد القيس: يا معشر المهاجرين انتم أول من أجاب داعي الإسلام، وكان لكم بذلك الفضل ثم استخلفتم مرارا ولم تشاورونا وقتلتم كذلك، ثم بايعتم عليا، وجئتم تستعدوننا عليه فماذا الذي نقمتم عليه؟ فهموا بقتله ومنعته عشيرته. ثم وثبوا من الغد كلى عثمان ومن معه فقتلوا منهم سبعين.
وبلغ حكيم بن جبلة ما فعل بعثمان بن حنيف فجاءه لنصره في جماعة من عبد القيس، فوجد عبد الله بن الزبير فقال له: ما شأنك؟ قال تخلوا عن عثمان وتقيمون على ما كنتم حتى يقدم عليّ. وقد استحللتم الدم الحرام تزعمون الطلب بثأر عثمان وهم لم يقتلوه، ثم ناجزهم الحرب في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين. وأقام حكيم أربعة قواد فكان هو بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام. وتزاحفوا واستحر القتل فيهم حتى قتل كثير منهم وقتل حكيم وذريح وأفلت حرقوص في فل من أصحابه إلى قومهم بني سعد، وتتبعوهم بالقتل وطالبوا بني سعد بحرقوص وكانوا عثمانية فاعتزلوا، وغصبت عبد القيس كلهم والكثير من بكر بن وائل، وأمر طلحة والزبير بالعطاء في أهل الطاعة لهما. وقصدت عبد القيس وبكر بيت المال فقاتلوهم ومنعوهم، وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بالخبر وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن عليّ وأن يقوموا بدم عثمان، وكتبت بمثل ذلك إلى اليمامة والمدينة. ولنرجع إلى خبر عليّ: وقد كان لما بلغه خبر طلحة والزبير وعائشة ومسيرهم إلى البصرة دعا أهل المدينة للنصرة وخطبهم فتثاقلوا أولا، وأجابه زياد بن حنظلة وأبو الهيثم وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين وأبو قتادة في آخرين، وبعثت أم سلمة معه ابن عمها وخرج يسابق طلحة والزبير إلى البصرة ليردهما. واستخلف على المدينة تمام بن عباس وقيل سهل بن حنيف وعلى مكة قثم بن العبّاس. وسار في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وسار معه من نشط من الكوفيين والمصريين متخففين في تسعمائة، ولقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال يا أمير المؤمنين: لا تخرج منها فوالله إن
خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا. فبدر الناس إليه. فقال دعوه فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وسار فانتهى إلى الربذة، وجاء خبر سبقهم إلى البصرة فأقام يأمر بما يفعل، ولحقه ابنه الحسن وعذله في خروجه وما كان من عصيانه إياه. فقال: ما الذي عصيتك فيه حين أمرتني؟ قال أمرتك أن تخرج عند حصار عثمان من المدينة ولا تحضر لقتله، ثم عند قتله ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب، وبيعة الأمصار، ثم عند خروج هؤلاء أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا.
فقال: أما الخروج من المدينة فلم يكن إليه سبيل، وقد كان أحيط بنا كما أحيط بعثمان، وأما البيعة فخفنا ضياع الامر والحل والعقد لأهل المدينة لا للعرب ولا للامصار، ولقد مات رسول الله-صلى الله عليه وسلم وأنا أحق بالأمر بعده. فبايع الناس غيري واتبعتهم في أبي بكر وعمر وعثمان، فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين. فأنا أقاتل من خالف بمن أطاع إلى أن يحكم الله فهو خير الحاكمين. وأما القعود عن طلحة والزبير فإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر فمن ينظر فيه؟ ثم أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر يستنفران الناس، وأقام بالربذة يحرض الناس وأرسل إلى المدينة في أداته وسلاحه وقال له بعض أصحابه: عرفنا بقصدك من القوم !قال: الإصلاح إن تبلوا لان بادرونا امتنعنا. ثم جاءه جماعة من طيء نافرين معه فقبلهم وأثنى عليهم. ثم سار من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمرو بن الجراح. ولما انتهى إلى فيد أتته أسد وطيء وعرضوا عليه النفير معه فقال: إلزموا قراركم قي المهاجرين كفاية. ولقيه هنالك رجل من أهل الكوفة من بني شيبان فسأله عن أبي موسى فقال: إن أردت الصلح فهو صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه فقال: والله ما أريد إلا الصلح حتى يرد علينا. ثم انتهى إلى الثعلبية والأساد فبلغه ما لقي عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة. ثم جاءه بذي قار عثمان بن حنيف وأراه ما بوجهه فقال: أصبت أجرأ وخيرا. إن الناس وليهم قبلي، رجلان فعملا بالكتاب، ثم ثالث فقالوا وفعلوا ثم بايعوني ومنهم طلحة والزبير ثم نكثا وألبا على. ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما عليّ! والله إنهما ليعلمان أني لست دونهم. ثم أخذ في الدعاء عليهما وابن وائل هنالك يعرضون عليه النفير، فأجابهم مثل طيء وأسد. وبلغه خروج عبد القيس على طلحة والزبير فأثنى عليهم. وأما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فبلغا إلى الكوفة
ودفعا إلى أبي موسى كتاب على، وقاما في الناس بأمره فلم يجبهما أحد- وشاوروا أبا موسى في الخروج إلى على فقال: الخروج سبيل الدنيا والقعود سبيل الآخرة فقعدوا كلهم. وغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق على وإن كان لا بد من القتال فحتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا، فرجعا إلى عليّ بالخبر وهو بذي قار. فرجع عليّ باللائمة على الأشتر وقال: أنت صاحبنا في أبي موسى فاذهب أنت وابن العبّاس واصلح ما أفسدت. فقدما على أبي موسى وكلماه واستعانا عليه بالناس، فلم يجب إلى شيء ولم ير إلا القعود حتى تنجلي الفتنة ويلتئم الناس. فرجع ابن عباس والأشتر إلى عليّ فأرسل عليّ ابنه الحسن وعمار بن ياسر وقال لعمار: إنطلق فأصلح ما أفسدت، فانطلقا حتى دخلا المسجد، وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن عليّ فضمه إليه وقال لعمار: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا وأحللت نفسك مع الفخار؟ فقال لم أفعل! فأقبل الحسن على أبي موسى فقال: لم تثبط الناس عنا وما أردنا إلا الإصلاح؟ ومثل أمير المؤمنين لا يخاف على شيء! قال: صدقت! بأبي أنت وأمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون فتنبة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب والمسلمون إخوان ودماؤهم وأموالهم حرام. فغضب عمار وسبه فسبه آخر وتثاور الناس، ثم كفهم أبو موسى وجاء زيد بن صوحان بكتاب عائشة إليه وكتابها إلى أهل الكوفة، فقرأهما على الناس في سبيل الإنكار عليها. فسبه شبت بن ربعي وتهاوى الناس وأبو موسى يكفهم ويأمرهم بلزوم البيوت حتى تنجلي الفتنة ويقول: أطيعوني وخفوا قريشاً إذ أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم حتى ينجلي الأمر. وناداه زيد بن صوحان بإجابة عليّ والقيام بنصرته، وتابعه القعقاع بن عمرو فقام بعده فقال لا سبيل إلى الفوضى. وهذا أمير المؤمنين مليء بما ولي، وقد دعاكم فانفروا وقال عبد خير مثل ذلك وزاد: يا أبا موسى هل تعلم أن طلحة والزبير بايعا؟ قال نعم! قال فهل أحدث عليّ ما ينقض البيعة؟ قال لا أدري. قالا: دريت ونحن نتركك حتى تدري.
ثم قال سيحاد بن صوحان مثلما قال القعقاع وحرض على طاعة عليّ وقال: فإنه
دعاكم تنظرون ما بينه وبين صاحبيه وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فقال عمار: هو دعاكم إلى ذلك لتنظروا في الحق وتقاتلوا معه لا عليه. فقال الحسن أجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتلجخم، وإن امير المؤمنين يقول إن كنت مظلوماً أطيعوني أو ظالما فخذوا مني بالحق والله إن طلحة والزبير أول من بايعني وأول من غدر. فأجاب الناس وحرض عدي بن حاتم قومه وحجر بن عدي كذلك، فنفر مع الحسن من الكوفة تسعة آلاف سارت منها ستة في البر وباقيهم في الماء.
وأرسل عليّ بعد مسير الحسن وعمار الأشتر إلى الكوفة، فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى والحسن وعمار في منازعة معه ومع الناس فجعل الأشتر يمر بالقبائل ويدعوهم إلى القصر حتى انتهى إليه في جماعة الناس فدخله وأبو موسى بالمسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له: اعتزل عملنا واترك منبرنا، فدخل الأشتر إلى القصر وأمر بإخراج غلمان أبي موسى من القصر. وجاءه أبو موسى فصاح به الأشتر: اخرج لا أم لك وأجاه تلك العشية. ودخل الناس لينهبوا متاعه فمنعهم الأشتر، ونفر الناس مع الحسن كما قلنا وكان الأمراء على أهل النفير: على كنانة واشد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرياحى، وعلى قبائل قيس بن مسعود الثقفى عم المختار، وعلى بكروتغلب وعلة بن مجدوح الذهلي، وعلى مذجح والأشعر ين حجر بن عدي، ولحى بجيلة وأنمار وخثعم والازد مخنف بن سليم الأزدي. ورؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب، ورؤساء النفار زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قشى وأمثالهم. فقدموا على عليّ بذي قار، فركب إليهم ورحب بهم. وقال: يا أهل الكوفة دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فهو الذي نريد وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم، ولا ندع أمرا فيه الصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله. فاجتمع الناس عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها وهم ألوف ينتظرونه ما بينه وبين البصرة. ثم دعا القعقاع وكان من الصحابة فأرسله إلى أهل البصرة وقال: إلق هذين الرجلين فادعهما للإلفة
والجماعة وعظم عليهما الفرقة فقال له: كيف تصنع إذا قالوا ما لا وصاة مني فيه عندك قال: نلقاهم بالذي أمرت به، فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك رأي فيه اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى إنه ينبغي، قال: أنت لها. فخرج القعقاع فقدم البصرة وبدأ بعائشة. فقال أي أمة ما أشخصك؟ قالت أريد الإصلاح بين الناس. قال فابعثى إلى طلحة والزبير تسمعي مني ومنهما. فبعثت إليهما فجاءا فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح وكذلك قالا. قال ! فأخبرني ما هو؟ قال قتلة عثمان! فإن تركهم ترك للقران. قال: فقد قتلت منهم ستمائة من أهل البصرة وغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعته ستة آلاف فإن قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمعت مضر وربيعة على حربكم فأين الإصلاح؟ قالت عائشة فماذا تقول أنت؟ قال هذا الأمر دواؤه التسكين وإذا سكن إختلجوا، فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح خير ولا تعرضونا للبلاء فنتعرض له ويصرعنا وإياكم. فقالوا قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع وأخبر عليا فأعجبه وأشرف القوم على الصلح. وقد كانت وفود أهل البصرة أقبلوا إلى عليّ قبل رجوع القعقاع، ولفاوضوا مع أهل الكوفة واتفقوا جميعا على الإصلاح. ثم خطب عليّ الناس وأمرهم بالرحيل من الغد وأن لا يرجع معه أحد ممن أعان على عثمان. فاجتمع من أهل مصر ابن السوداء وخالد بن ملجم والأشتر والذين رضوا بمن سار إليه، مثل علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى. وتشاوروا فيما قال على وقالوا: هو أبصر بكتاب الله وأقرب إلى العمل به من أولئك وهو يقول ما يقول، وإنما معه الذين أعانوا على عثمان، فكيف إذا اصطلحوا واجتمعوا ورأوا قلتنا في كثرتهم فقال الأشتر رأيهم والله فينا واحد وإن يصطلحوا فعلى دمائنا، فهلموا نثب على طلحة نلحقه بعثمان ثم يرضى منا بالسكوت. فقال ابن السوداء: طلحة :أصحابه نحو من خمسة آلاف وانتم ألفان وخمسمائة فلا تجدون إلى ذلك سبيلا. وقال علباء بن الهيثم اعتزلوا الفريقين حتى يأتيكم من تقومون به. فقال ابن السوداء: ود والله الناس لو انفردتم فيتخطفونكم فقال عدي: والله ما رضيت ولا كرهت، فأما إذا وقع ما وقع ونزل الناس بهذه المنزلة فإن لنا خيلاً وسلاحا، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أحجمتم أحجمنا. ثم قال سالم بن ثعلبة وسويد بن أوفى أبرموا أمركم. ثم تكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزّكم
في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال فلا يجدون بدا منه ويشغلهم الله عما تكرهون. وافترقوا على ذلك وأصبح عليّ راحلا حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه وساروا معه. فنزل الزاوية وسار من الزاوية إلى البصرة، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة والتقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد منتصف جمادى الآخرة. وتراسلت بكر بن وائل وعبد القيس وجاءوا إلى على رضي الله تعالى عنه فكانوا معه. وأشار على الزبير بعض أصحابه أن يناجز القتال، فاعتذر بما وقع بينه وبين القعقاع.
وطلب من عليّ رضي الله عنه أصحابه مثل ذلك فأبى، وسئل ما حالنا وحالهم في القتلى فقال: أرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الجنة. ونهى عن قتالهم، وبعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب إن كنتم على ما جاء به القعقاع فكفوا حتى ننزل وننظر في الأمر. وجاءه الأحنف بن قيس وكان معتزلا عن القوم، وقدا كان بايع عليا بالمدينة بعد قتل عثمان مرجعه من الحج. قال الأحنف: ولم أبايعه حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وعثمان محصور وعلمت أنه مقتول فقلت لهم: من أبايع بعده؟ قالوا عليا! فلما رجعت وقد قتل عثمان بايعت عليا. فلما جاءوا إلى البصرة دعوني إلى قتال عليّ، فحرت فى أمري ما بين خذلانهم أو خلع طاعتي. فقلت: ألم تأمروني بمبايعته؟ قالوا نعم لكنه بدل وغير فقلت: لا انقض بيعتي ولا أقاتل أم المؤمنين ولكن اعتزل. ونزل بالجلحاء على فرسخين من البصرة في زهاء سته آلاف.
فلما قدم عليّ جاءه وخيره بين القتال معه أو كف عشرة آلاف سيف عنه فاختار الكف، ونادى في تميم وبني سعد فأجابوه، فاعتزل بهم حتى ظفر عليّ فرجع إليه واتبعه. ولما تراءى الجمعان خرج طلحة والزبير وجاءهم عليّ حتى اختلفت أعناق دوابهم. فقال على: لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا، إن كنتما أعددتما عند الله عذرا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما فهل من حدث أحل لكما دمي؟ قال طلحة: ألبت على عثمان! قال على يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق. فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة: أما بايعتني؟ قال والسيف على عنقي. ثم قال للزبير أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقاتلنه وأنت له ظالم؟ قال اللهم نعم ولو ذكرته قبل مسيري ما سرت. ووالله لا أقاتلك أبدا وافترقوا.
فقال عليّ لأصحابه أن الزبير قد عهد أن لا يقاتلكم ورجع الزبير إلى عائشة وقال: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف أمري غير موطني هذا. قالت فما تريد أن تصنع؟ قال أدعهم وأذهب. فقال له ابنه عبد لله: خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت إن حامليها فتية أنجاد وإن تحتها الموت الأحمر فجنبت، فاحفظه ذلك. وقال: حلفت: قال: كفر عن يمينك، فاعتق غلامه مكحولا، وقيل إنما أراد الرجوع عن القتال حين سمع أن عمار بن ياسر مع على لما ورد: ويح عمار تقتله الفئة الباغية. وكان أهل البصرة على ثلاث فرق مفترقين مع هؤلاء وهؤلاء، وثالثة اعتزلت كالأحنف بن قيس وعمران بن حصين. ونزلت عائشة في الأزد ورأسهم صبرة بن شيمان. وأشار عليه كعب بن سور بالاعتزال فأبى وكان معها قبائل كثيرة من مضر الرباب، وعليهم المنجاب بن راشد وبنو عمرو بن تميم وعليهم ابو الجربا، وبنو حنظلة وعليهم هلال بن وكيع، وسليم وعليهم مجاشع بن مسعود وبنو عامر وغطفان وعليهم زفر بن الحرث، والأزد وعليهم صبرة بن شيمان، وبكر وعليهم مالك بن مسمع وبنو ناجية وعليهم الخريت بن راشد وهم في نحو ثلاثين ألفاً. وعلي في عشرين ألفاً والناس جميعا متنازلون: مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة ولا يشكون في الصلح وقد ردوا حكيما ومالكا إلى على إنا على ما فارقنا عليه القعقاع. وجاء ابن عباس إلى طلحة والزبير، ومحمد بن طلحة إلى على، وتقارب أمر الصلح وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة يتشاورون، واتفقوا على إنشاب الحرب بين الناس فغسلوا وما يشعر بهم أحد. وقصد مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة ويمن إلى يمن فوضعوا السلاح. وثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم. وبعث طلحة والزبير عبد الرحمن بن الحرث بن هشام إلى الميمنة وهم ربيعة. وعبد الرحمن بن عتاب إلى الميسرة وركبا في القلب وتساءل الناس ما هذا؟ فقالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً ، فقال طلحة والزبير: إن عليا لا ينتهي حتى يسفك الدماء ثم دفعوا أولئك المقاتلين فسمع على وأهل عسكره الصيحة فقال ما هذا؟ فقيل له أظنه سقط من هنا طرقنا أو نحوه السبئية بيتونا ليلا فرددناهم، فوجدنا القوم على أهبة فركبونا وثار الناس وركب عليّ. وبعث إلى الميمنة والميسرة صاحبها وقال: إنّ طلحة والزبير لا
ينتهيان حتى تسفك الدماء، ونادى في الناس كفوا وكان رأيهم جميعا في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يقيموا الحجة، ولا يقتلوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يستحلوا سلبا. وأقبل كعب بن سور إلى عائشة وقال: قد أبى القوم إلا القتال فلعل الله يصلح بك. فأركبها وألبسوا هودجها الأدراع وأوقفوها بحيث تسمع الغوغاء، واقتتل الناس حتى انهزم أصحاب الجمل وذهب وأصيب طلحة بسهم في رجله. فدخل البصرة ودمه يسيل إلى أن مات.
وذهب الزبير إلى وادي السباع لما ذكره عليّ، فمر بعسكر الأحنف واتبعه عمرو بن جرموز، وكان يسائله حتى قام إلى الصلاة قبله ورجع بفرسه وسلاحه وخاتمه إلى الأحنف فقال: والله ما تدري أحسنت أم أسأت! فجاء إبن جرموز إلى عليّ وقال للحاجب: إستأذن لقاتل الزبير فقال لحاجبه ائذن له وبشره. بالنار. ولما بلغت الهزيمة البصرة ورأوا الخيل أطافت بالجمل، رجعوا وشبت الحرب كما كانت. وقالت عائشة لكعب بن سور وناولته مصحفا: تقدم فادعهم إليه واستقبل القوم، فقتله السبئية رشقاً بالسهم، ورموا عائشة في هودجها حتى جأرت بالاستغاثة ثم بالدعاء على قتلة عثمان، وضج الناس بالدعاء فقال عليّ ما هذا؟ قالوا عائشة تدعو على قتلة عثمان! فقال: اللهم إلعن قتلة عثمان. ثم أرسلت عائشة إلى الميمنة والميسرة وحرضتهم! وتقدم مضر الكوفة ومضر البصرة فاجتلدوا أمام الجمل حتى ضرسوا، وقتل زيد بن صوحان من أهل الكوفة وأخوه سيحان وارتث أخوهما صعصعة. وتزاحف الناس وتأخرت يمن الكوفة وربيعتها. ثم عادوا فقتل على رايتهم عشرة ثم أخذها يزيد بن قيس فثبت. ولتل تحت راية ابن ربيعة زيد وعبد لله بن رقية وأبو عبيدة بن راشد بن سلمة. واشتد الأمر ولزقت ميمنة الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم، ومنعت ميمنة هؤلاء ميسرة هؤلاء وميسرة هؤلاء ميمنة هؤلاء، وتنادى شجعان مضر من الجانبين بالصبر وقصدوا الأطراف يقطعونها. وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتاب قبل قتله. وقاتل عند الجمل الازد ثم بنو ضبة وبنو عدي بن عبد مناف، وكثر القتل والقطع وصارت المجنبات إلى القلب، ومحمد بن طلحة أمامهم، وحمل عدي بن زيد ففقئت عينه، وحمل الاشتر واستمر القتل إلى الجمل حتى قتل على الخطام أربعون رجلا أو سبعون كلهم من قريش. فجرح عبد الله بن الزبير، وقتل عبد الرحمن بن عتاب وجندب بن زهير العامري وعبد الله بن حكيم بن حزام ومعه راية قريش، فقتله الأشتر وأعانه فيه عدي بن حاتم، وقتل الاسود
بن أبي البختري وهو آخذ بالخطام، وبعده عمر بن الاشرف الازدي في ثلاثة عشر من أهل بيته، وجرح مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير سبعا وثلاثين جراحة ما بين طعنة ورمية. ونادى عليّ اعقروا الجمل يتفرقوا، وضربه رجل فسقط فما كان صوت أشد عجيجا منه. وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل فأخذها الصقعب أخوه فقتل ثم أخوهما عبد الله كذلك فأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح وهى بيده.
وكانت راية عبد القيس من اهل الكوفة مع القاسم بن سليم، فقتل ومعه زيد وسيحان ابنا صوحان. وأخذها عده فقتلوا منهم عبد الله بن رقية، ثم منقذ بن النعمان ودفعها إلى ابنه مرة فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحرث بن حسان فقتل من بني أهله ورجال من بني مخزوم وخمسة وثلاثين من بني ذهل. وقيل في عقر الجمل إن القعقاع دعا الاشتر وقد جاء من القتال عند الجمل إلى العود فلم يجبه، وحمل القعقاع والخطام بيد زفر بن الحرث، فأصيب شيوخ من بني عامر. وقال القعقاع لبجير بن دلجة من بني ضبة وهو من اصحاب عليّ يا بجير! صح بقومك يعقروا الجمل قبل ان يصابوا وتصاب أم المؤمنين. فضرب ساق البعير فوقع على شقه وأمر القعقاع من يليه، واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير، وحملا الهودج فوضعاه وهو كالقنفذ بالسهام ومر من ورائه. وأمر على فنودي لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور. وأمر بحمل الهودج من بين القتلى. وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة وأن ينظر هل بها جراحة، وجاء يسألها. وقيل لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج إلى ناحية ليس قربه أحد وأتاها على فقال: كيف أنت يا أمة! قالت بخير! قال يغفر الله لك! قالت ولك، وجاء وجوه الناس إليها فيهم القعقاع بن عمرو، فسلم عليها وقالت له: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وجاء إلى عليّ فقال له مثل قولها. ولما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق البصرة،
فأقرها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية زوجته بنت الحرث بن أبي طلحة من بني عبد الدارأم طلحة الطلحات بن عبد الله. وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا ليلا إلى البصرة، وأذن على في دفن القتلى فدفنوا بعد أن طاف عليهم.
ورأى كعب بن سور وعبد الرحمن بن عتاب وطلحة بن عبيد الله وهو يقول: زعموا أنه يخرج إلينا إلا الغوغاء وأمثال هؤلاء فيهم. ثم صلى على القتلى من الجانبين وأمر بالأطراف فدفنت في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من كل شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال: من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا عليه سمة السلطان. وأحصى القتلى من الجانبين فكانوا عشرة آلاف منهم من ضبة ألف رجل. ولما فرغ عليّ من الوقعة جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد فقال له: تربصت! فقال: ما أراني ألا قد أحسنت وبأمرك كان، فارفق فإن طريقك بعيد وأنت إلي غدا أحوج منك أمس، فلا تقل لي مثل هذا، فإني لم أزل لك ناصحا. ثم دخل البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة. وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة فبايعه وعرض له في عفه زياد بأنه متربص. فقال: والله إنه لمريض وعلى مسرتك لحريص فقال: إنهض أمامي فمضى، فلما دخل عليه على فتبعه فقبل عذره واعتذر بالمرض قبل عذره. وأراده على البصرة فامتنع وقال: ولها رجلا من أهلك تسكن إليه الناس وسأشير عليه، وأشار بإبن عباس فولاه. وجعل زيادا على الخراج وبيت المال وأمر ابن عباس بموافقته فيما يراه. ثم راح على إلى عائشة في دار ابن خلف، وكان عبد الله بن خلف قتل في الوقعة فاستاءت أمه وبعض النسوة عليه فأعرض عنهن وحرضه بعض أصحابه عليهن فقال: إن النساء ضعيفات وكنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات فكيف بهن مسلمات؟ ثم بلغه أن بعض الغوغاء عرض لعائشة بالقول والإساءة فأمر من أحضر له بعضهم وأوجعهم ضربا. ثم جهزها على إلى المدينة بما احتاجت إليه وبعثها مع أخيها محمد مع أربعين من نسوة البصرة اختارهن لمرافقتها، وأذن للفل مفن خرج معها أن يرجعوا معها ثم جاء يوم ارتحالها، فودعها واستعتبت له واستعتب لها ومشى معها أميالا وشيعها بنوه مسافة يوم، وذلك غرة رجب، فذهبت إلى مكة فقضت الحج ورجعت إلى المدينة وخرج
بنو أمية من الفل ناجين إلى الشام. فعتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن ويحيى أخو مروان خلصوا إلى عصمة بن أبير التيمي إلى أن اندملت جراحهم ثم بعثهم إلى الشام، وأما عبد الله بن عامر فخلص إلى بني حرقوص ومضى من هنالك، وأما مروان بن الحكم فأجاره أيضاً مالك بن مسمع وبعثه، وقيل كان مع عائشة فلما ذهبت إلى مكة فارقها إلى المدينة. وأما الزبير فاختفى بدار بعض الأزد وبعث إلى عائشة يعلمها بمكانه فأرسلت أخاها محمدا، وجاء إليها به. ثم قسم على جميع ما في بيت المال على من شهد معه، وكان يزيد على ستمائة ألف فأصاب كل رجل خمسمائة وقال: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلما إلى إعطياتكم، فخاض السبئية بالطعن عليه بذلك وبتحريم أموالهم مع إراقة دمائهم، ورحلوا عنه فأعجلوه عن المقام بالبصرة، وارتحل في آثارهم ليقطع عليهم امرأ إن أرادوه.
وقد قيل في سياق أمر الجمل غير هذا. وهو أن عليا لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى ليستنفر له اهل الكوفة وامتنع، سار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى على بالربذة فأخبره فأعاده إليه يقول له: إني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق، فامتنع أبو موسى وكتب إليه هاشم مع المحل بن خليفة الطائي، فبعث عليّ ابنه الحسن وعمار بن ياسر يستنفران كما مر. وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميرا وبعث إليه: إني قد بعثت الحسن وعمارا يستنفران الناس، وبعثت قرظة بن كعب والياً على الكوفة، فاعتزل عملنا مذموماً مدحورا، وإن لم تفعل فقد أمرته أن ينابذك وإن ظفر بك أن يقطعك إربا إربا. وإن الناس تواقفوا للقتال وأمر على من يتقدم بالمصحف يدعوهم إلى ما فيه وإن قطع وقتل. وحمله بعض الناس وفعل ذلك فقتل وحملت ميمنة علىّ على ميسرتهم، فاقتتلوا ولاذ الناس بجمل عائشة أكثرهم من ضبة والأزد ثم انهزموا آخر النهار. واستحر في الأزد القتل وحمل عمار على الزبير يحوزه بالرمح، ثم استلان له وتركه. وألقى عبد الله بن الزبير نفسه في الجرحى وعقر الجمل، واحتمل عائشة أخوها محمد فأنزلها وضرب عليها قبة ووقف عليها عليّ يعاتبها. فقالت
له: ملكت فاسجح نعم ما أبكيت قومك اليوم، فسرّحها في جماعة رجال ونساء إلى المدينة وجهزها بما تحتاج إليه. هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين. وقتل يوم الجمل عبد الرحمن أخو طلحة من الصحابة والمحرز بن حارثة العبشمي، وكان عمر ولأه على مكة، ومجاشع ومجالد ابنا مسعود مع عائشة. وعبد الله بن حكيم بن حزام وهند بن أبي هالة وهو ابن خديجة قتل مع على وقيل بالبصرة وغيرهم. انتهى أمر الجمل.
ولما فرغ الناس من هذه الوقعة اجتمع صعاليك من العرب، وعليهم جبلة بن عتاب الحنظلي، وعمران بن الفضل البرجمي وقصدوا سجستان، وقد نكث أهلها وبعث عليّ إليهم عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتلوه، فكتب إلى عبد الله بن عباس أن يبعث إلى سجستان والياً. فبعث ربعي بن كاس العنبري في أربعة آلاف ومعه الحصين بن أبي الحرّ، فقتل جبلة وانهزموا وضبط ربعي البلاد واستقامت. انتفاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله لما قتل حذيفة بن عتبة يوم اليمامة ترك ابنه محمدا في كفالة عثمان وأحسن تربيته، وسكر في بعض الأيام فجلده عثمان ثم تنسك وأقبل على العبادة، وطلب الولاية من عثمان فقال: لست لها بأهل فاستأذنه على اللحاق بمصر لغزو البحر، فأذن له وجهزه ولزمه الناس وعظموه لما رأوا من عبادته. ثم غزا مع ابن أبي سرح غزوة الصواري كما مر، فكان يتعرض له بالقدح فيه وفي عثمان وبتوليته، ويجتمع في ذلك مع محمد بن أبي بكر، وشكاهما ابن أبي سرح إلى عثمان فكتب إليه بالتجافي عنهما لوسيلة ذاك بعائشة وهذا لتربيته. وبعث إلى ابن أبي حذيفة ثلاثين ألف درهم وحمل من الكسوة فوضعهما ابن أبي حذيفة في المسجد وقال: يا معشر المسلمين كيف أخادع عن دينى وآخذ الرشوة عليه، فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان وبايعوه على رياستهم، وكتب إليه عثمان يذكره بحقوقه عليه فلم يرده ذلك. وما زال يحرض الناس عليه حتى خرجوا لحصاره، وأقام هو بمصر وخرج ابن أبي سرح إلى عثمان
فاستولى هو على مصر وضبطها إلى أن قتل عثمان، وبويع عليّ، وبايع عمرو بن العاص لمعاوية وسار إلى مصر قيل قدوم قيس بن سعد فمنعهما فخدع محمد حتى خرج إلى العريش فتحفن بها في ألف رجل فحاصره حتى نزل على حكمهم فقتلوه. وفي هذا الخبر بعض الوهن لأن الصحيح أن عمرا ملك مصر بعد صفين، وقيس ولاه عليّ لأول بيعته، وقد قيل: إن ابن أبي حذيفة لما حوصر عثمان بالمدينة، أخرج هو ابن أبي سرح عن مصر وضبطها، وأقام ابن أبي سرح بفلسطين حتى جاء الخبر بقتل عثمان وبيعة على، وتوليته قيس بن سعد على مصر. فأقام بمعاوية. وقيل أن عمرا سار إلى مصر بعد صفين، فبرز إليه ابن أبي حذيفة
في العساكر وخادعه في الرجوع إلى بيعة عليّ، وإن يجتمعا لذلك بالعريش في غير جيش من الجنود. ورجع إلى معاوية عمرو فأخبره ثم جاء إلى ميعاده بالعريش، وقد استعد بالجنود وأكمنهم خلفه، حتى إذا التقيا طلعوا على أثره، فتبين ابن أبي حذيفة الغدر فتحضن بقصر العريش إلى أن نزل على حكم عمرو. وبعث به إلى معاوية فحبسه إلى أن فر من محبسه فقتل. وقيل إنما بعثه عمرو إلى معاوية عند مقتل محمد بن أبي بكر وإنه أمنه ثم حمله إلى معاوية فحبسه بفلسطين.
ولاية قيس بن سعد عليّ مصر كان عليّ قد بعث غ لى مصر لأول بيعته قيس بن سعد أميرا في صفر من سنة ست وثلاثين، وأذن له في الاكثار مر الجنود وأوصاه وقال له: لو كنت لا أدخلها إلا بجند آتي بهم من المدينة، فلا أدخلها أبدا، فأنا أدعو لك الجند تبعثهم في وجوهك. وخرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر، وقرأ عليهم كتاب عليّ بمبايعته وطاعته وإنه أميرهم. ثم خطب فقال بعد حمد الله: أيها الناس قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، فبايعه الناس واستقامت مصر وبعث عليها عماله إلا بعض القرى كان فيها قوم يدعون إلى الطلب بدم عثمان: مثل يزيد بن الحرث ومسلمة بن مخلد فهادنهم وجبى الخراج وانقضى أمر الجمل، وهو بمصر. وخشي معاوية أن يسير إليه عليّ في أهل العراق، وقيس من ورائه في أهل مصر، فكتب إليه يعظم قتل عثمان ويطوقه علما ويحضه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله. يوليّ من أراد من أهله الحجاز
كذلك ويعطيه ما شاء من الأموال. فنظر في أهله بين موافقته أو معاجلته بالحرب فآثر الموافقة فكتب إليه: أما بعد فإني لم أقارف شيئا مما ذكرته وما اطلعت لصاحبي على شيء منه. وأما متابعتك فانظر فيها وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه حتى نرى وترى.
فكتب إليه معاوية: إني لم أرك تدنو فأعدك سلما، ولا تتباعد فأعدك حربا وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعي عدد الرجال وأعنة الخيل والسلام. فعلم قيس أن المدافعة لا تنفع معه، فأظهر له ما في نفسه وكتب إليه بالرد القبيح والشتم، والتصريح بفضل على والوعيد. فحينئذ أيس معاوية منه وكاده من قبل عليّ، فأشاع في الناس أن قيسا شيعة له تأتينا كتبه ورسله ونصائحه، وقد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان وهو يجري عليهم من الأعطية والأرزاق. فأبلغ ذلك إلى على محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر وعيونه بالشام، فأعظم ذلك وفاوض فيه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر. فقال له عبد الله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واعزله عن مصر. ثم جاء كتابه بالكف عن قتال المعتزلين فقال ابن جعفر: مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة، فكتب إليه يأمره بذلك فلم ير قيس ذلك رأيا وقال: متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوك وهم الآن معتزلون، والرأي تركهم. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين ! ابعث محمد بن أبي بكر على مصر وكان أخاه لأمه واعزل قيسا، فبعثه وقيل بعث قبله الأشتر النخعي ومات بالطريق فبعث محمدا. ولما قدم محمد على قيس خرج عنها مغضباً إلى المدينة، وكان عليها مروان بن الحكم فأخافه فخرج هو وسهل بن حنيف إلى عليّ. وكتب معاوية إلى مروان يعاتبه لو أمددت عليا بمئة ألف مقاتل كان ايسر على من قيس بن سعد. ولما قدم قيس على عليّ وكشف له عن وجه الخبر قبل عذره وأطاعه في أمره كله. وقدم محمد مصر فقرأ كتاب علىّ على الناس وخطبهم. ثم بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم ادخلوا في طاعتنا أو اخرجوا عن بلادنا! فقالوا: دعنا حتى ننظر! وأخذوا حذرهم، ولما انقضت صفين وصار الأمر إلى التحكيم بارزوه، وبعث العساكر الى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا وعليهم الحرث بن جمهان فقتلوه، ثم بعث آخر فقتلوه.
مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية
لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد، فسكن بها هاربا مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله، فارتحل يبكي ويقول كما تقول النساء حتى أتى دمشق، فبلغه بيعة على فاشتد عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنعه الناس. ثم بلغه مسير عائشة وطلحة والزبير فأمل فرجا من أمره، ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب فى أمره، وسمع أن معاوية بالشام لا يبايع عليا وأنه يعظم قتل عثمان، فاستشار بنيه في المسير إليه. فقال له ابنه عبد لله: توفي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك، فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس، وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب، وكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت؟ فقال يا عبد الله ! أمرتني بما هو خير لي في ديني، ويا محمد! أمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حش تدم على معاوية، فوجدوهم يطلبون دم عثمان فقال: انتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، فأعرض معاوية قليلا ثم رجع إليه وشركه في سلطانه.
أمر صفين
لما رجع في بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعا على قصد الشام بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان، وإلى الأشعث بن قيس بأذربيجان- وهما من عمال عثمان- لأن يأخذا له البيعة ويحضرا عنده، فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته، ونكث طلحة والزبير وحزبهما، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس. فلما قدم علبه طاوله في الجواب وحمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان، واتهامهم علما به. وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ملوثا بالدم كما قدمناه، وبأصابع زوجته نائلة، وضع معاوية القميص على المنبر والأصابع من فوقه. فمكث الناس يبكون مدة، واقسموا ان لا يمسهم ماء الجنابة ولا يناموا على فراش حتى يثأروا من عثمان ومن حال دون ذلك قتلوه. فرجع جرير بذلك إلى عليّ،. وعذله الأشتر فبعث
جرير، وأنّه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم. فغضب لذلك جرير ولحق بقرقيسيا، واستقدمه معاوية فقدم عليه. وقيل إن شرحبيل بن الصمت الكندي أشار على معاوية برد جرير لمنافسة كانت بينهما منذ أيام عمر. وذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه، فقربه سعد وقدمه ونافسه له أشعث بن قيس. فأوصى جريرا عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده ففعل، فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير. فلما جاء إلى معاوية أغراه شرحبيل به وحمله على الطلب بدم عثمان. ثم خرج على وعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري، وقدم عليه عبد الله بن عباس في أهل البصرة. وتجهز معاوية وأغراه عمرو بقلة عسكر عليّ واضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم.
وعبى معاوية أهل الشام، وعقد لعمرو ولابنيه وغلامه وردان الأولوية. وبعث عليّ في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف، وشريح بن هانىء في أربعة آلاف. وسار من النخيلة إلى المدائن، واستنفر من كان بها من المقاتلة، وبعث منها معقل بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل ويوافيه بالرقة. وولى عليّ على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد وسار، فلما وصل إلى الرقة نصب له جسر فعبر، وجاء زياد وشريح من ورائه وكانا سمعا بمسير معاولة، وخشيا أن يلقاهما معاوية وبينهما وبين عليّ البحر، ورجعا إلى هيت وعبرا الفرات ولحقا بعلي فقدمهما أمامه. فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من اهل الشام فطاولاه، وبعثا إلى عليّ فسرح الأشتر وأمره أن يجعلهما على مجنبتيه وقال: لا تقاتلهم حتى آتيك! وكتب إلى شريح وزياد بطاعته فقدم عليهما، وكف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشي فاقتتلوا ساعة وافترقوا، ثم خرج من الغداة. وخرج إليه من أصحاب الأشتر هاشم بن عتبة المرقال، واقتتلوا عامة يومهم. وبعث الأشتر سنان بن مالك النخعي إلى أبي الأعور السلمي يدعوه إلى البراز، فأبى وحجز بينهم الليل ووافاهم من الغد على وعساكره. فتقدم الأشتر وانتهى إلى معاوية ولحق به عليّ، وكان معاوية قد ملك شريعة الفرات، فشكا الناس إلى عليّ العطش، فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية بأنا سرنا ونحن عازمون على الكف عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال. ونحن رأينا الكفّ حتى ندعوكم ونحتج عليك، وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا وبينكم، وإذا أردت القتال حتى يشرب الغالب فعلنا. فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم، وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنعهم الماء وعرضا بشتم فتشماتم معهم صعصعة ورجع وأوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء. وحاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه.
ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جد خالد بن عبد الله، ثم بعمرو بن العاص بعده. وأمر عليّ الاشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر وعليهم أصحاب عليّ وملكوا الماء عليهم، وأرادوا منعهم منه فنهاهم عليّ عن ذلك، وأقام يومين. ثم بعث إلى معاوية أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميي يدعونه إلى الطاعة، وذلك أول ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فدخلوا عليه. وتكلم بشير بن عمرو بعد حمد الله والثناء عليه والموعظة الحسنة، وناشده الله أن لا يفرق الجماعة ولا يسفك الدماء فقال: هلأ أوصيت بذلك صاحبك. فقال بشير: ليس مثلك هو أحق بالأمر بالسابقة والقرابة. قال فما رأيك؟ قالى تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق. قال معاوية: ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبدا! ثم قال ، شبث بن ربعي: يا معاوية! إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء الطغام إلى طاعتك، ولقد علمنا أنك أبطأت على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة، فاتق الله ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله. لأجابه معاوية وأبدع في سبه وقال: إنصرفوا فليس بيني وبينكم إلا السيف. فقال له شبث: أقسم بالله لنجعلنها لك. ورجعوا إلى عليّ بالخبر وأقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها، عسكر من هؤلاء وعسكر من هؤلاء، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذراً من الاستئصال والهلاك. ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعاً في الصلح، وبعث إلى معاوية عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن حفصة. فتكلم عدي بعد الحمد والثناء ودعا إلى الدخول في طاعة عليّ ليجمع الله به الكلمة، فلم يبق غيرك ومن معك، واحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل. فقال معاوية:
كأنك جئت مهدداً لا مصلحاً، هيهات يا عدي أنا ابن حرب والله ما يقعقع لي بالشنان، وأنك من قتلة عثمان وأرجو أن يقتلك الله به. فقال له يزيد بن قيس: إنما أتيناك رسلاً ولا ندع مع ذلك النصح والسعي في الإلفة والجماعة، وذكر من فضل عليّ واستحقاقه للأمر بتقواه وزهده.
فقال معاوية: بعد الحمد والثناء أما الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا، وأما طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا، وآوى أهل ثأرنا. ونحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة والجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان. فقل شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن تقتل عمارا؟ قال نعم بمولاه. قال شبث حتى تضيق والله الأرض الفضاء عليك. فقال معاوية لو كان ذلك لكانت عليك أضيق. وافترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن حفصة وشكا إليه من على وسأله النصر فيه بعشيرته وأن يوليه أحد المصرين فأبى وقال: إني على بينة من ربي فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقام عنه فقال معاوية لعمرو كأن قلوبهم قلب رجل واحد. ثم بعث معاوية إلى عليّ حبيب بن مسلمة وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه. فتكلم حبيب بعد الحمد لله والثناء فقال: إن عثمان كان خليفة مهدئا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم موته فقتلتموه، فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس فيولوا من أجمعوا عليه. فقال عليّ: ما أنت وهذا الأمر فاسكت فلست بأهل له. فقال والله لتراني بحيث تكره فقال: وما أنت لا أبقى الله عليك إن أبقيت وأذهب فصوب وصعد. ثم تكلم بعد الحمد لله والثناء وهداية الناس لمحمدصلى الله عليه وسلم وخلافة الشيخين وحسن سيرتهما، وقد وجدنا عليهما أن تولينا ونحن أقرب منهما إلى رسول الله ! لكن سامحناهما بذلك. وولي عثمان فعاب الناس عليه وقتلوه، ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم. ونكث عليّ رجلان وخالف صاحبكم الذي ليس له مثل سابقتي، والعجب من انقيادكم له دون بيت نبيكم، ولا ينبغي لكم ذلك. وأنا أدعوكم إلى الكتاب والسنة ومعالم الدين وإماتة الباطل وإحياء الحق فقالوا: نشهد أن عثمان قتل مظلوما. فقال: لا أتول مظلوماً ولا ظالما. قالوا: فمن لم يقل ذلك فنحن منه براء وانصرفوا. فقرأ عليّ: {إنك لاتسمع الموتى}[ الآية] ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في ضلالهم أجدّ منكم في حقّكم.
ثم تنازع عدي بن حاتم في راية طيء عامر بن قيس الجرموزي وكان رهطه اكثر من رهط عدي، فقال عبد لله بن خليفة اليولاني: ليس فينا أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم، ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم، ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي وهو الوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس طيء في النخيلة والقادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند وتستر. وسأل عليّ قومهم فوافقوه على ذلك فقضى بها لعدي.
ولما انسلخ المحرم نادى عليّ في الناس بالقتال وعبى الكتائب وقال لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا ولا تأخذوا مالا ولا تهيجوا امرأة وإن شتمتكم، فانهن ضعاف الأنفس والقوى. ثم حرضهم ودعا لهم وجعل الأشترعلى خيل الكوفة، وسهل بن حنيف على خيل الصرة، وقيس بن سعد على رجالة البصرة، وعمار بن ياسر على رجالة الكوفة، وهاشم بن عتبة معه الراية، ومسعر بن فدكي على القراء. وعبى معاوية كتائبه: فجعل على الميمنة ذا الكلاع الحميري، وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة، وعلى المقدمة أبا الأعور، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالتها مسلم بن عقبة المري. وعلى الناس كلهم الضحاك بن قيس. وتبابع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا انفسهم بالعمائم في خمسة صفوف، وخرجوا في اليوم الأول من صفر، خرج الأشتر من أهل الكوفة وحبيب من أهل الشام فاقتتلوا عامة يومهم، وفي اليوم الثاني هاشم بن عتبة وأبو الأعور السلمي. وفي اليوم الثالث عمار بن ياسر وعمرو بن العاص فاقتتلوا أشذ قتال، وحمل عمار فأزال عمرا عن موضعه.
وفي اليوم الرابع محمد بن الحنفية وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وتداعيا إلى البراز، فرد عليّ ابنه وتراجعوا. وفي اليوم الخامس عبد الله بن عباس والوليد بن عقبة فاقتتلا كذلك. ثم عاد في اليوم السادس الأشتر وحبيب فاقتتلا قتالا شديدا وانصرفا. وخطب عليّ الناس عشية يومهم وأمرهم بمناهضة القوم بأجمعهم، وأن يطيلوا ليلتهم القيام ويكثروا التلاوة، ويدعوا لله بالنصر والصبر ويرموا غدا في لقائهم بالجد والحزم.
فبات الناس يصلحون ليلتهم سلاحهم، وعبى على الناس ليلته إلى الصباح،
وزحف وسأل عن القبائل من أهل الشام وعرف مواقفهم، وأمر كل قبيلة أن تحفيه أختها من أهل الشام. ومن ليس منهم أحد بالشام يصرفهم إلى من ليس منهم أحد
بالعراق، مثل بجيلة صرفهم إلى لخم. وخرج معاوية من أهل الشام فاقتتلوا يوم الأربعاء قتالا شديداً عامة يومهم ثم انصرفوا، وغلس عليّ يوم الخميس بالزحف، وعلى ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء وعلى ميسرته عبد الله بن عباس والقراء مع عمار وقيس بن سعد وعبد الله ابن زيد، والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلي في القلب بين أهل الكوفة والبصرة ومعه أهل البصرة والكوفة، ومعه اهل المدينة من الأنصار وخزاعة وكنانة.
ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الثياب وبايعه أكثر اهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق، وزحف ابن بديل في الميمنة فقاتلهم إلى الظهر وهو يحرض اصحابه. ثم كشف خيلهم واضطرهم إلى قبة معاوية. وجاء الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية فبعثهم إلى حبيب فحمل بهم على ميمنة أهل العراق، فانجفل الناس عن اهل بديل إلا ثلائمائة أو مائتين من القراء، وانتهت الهزيمة إلى عليّ. وأمده عليّ بسهل بن حنيف في اهل المدينة فاستقبلهم جموع عظيمة لأهل الشام فمنعتهم. ثم انكشفت مضر من الميسرة وثبتت ربيعة، وجاء عليّ يمشي نحوهم، فاعترضه أحمر مولى أبي سفيان فحال دونه كيسان مولاه فقتله أحمر. فتناول عليّ أحمر من درعه فجذبه وضرب به الأرض وكسر منكبيه وعضديه، ثم دنا من ربيعة فصبرهم وثبت أقدامهم وتنادوا بينهم: إن أصيب بينكم أمير المؤمنين افتضحتم في العرب. وكان الأشتر مر به راكضا نحو الميمنة، واستقبل الناس منهزمين فأبلغهم مقالة عليّ: أين فراركم من الموت الذي لا تعجزوه إلي الحياة التي لا تبقى لكم. ثم نادى: أنا الأشتر! فرجع إليه بعضهم فنادى مدحجا وحرضهم فأجابوه، وقصد القوم واستقبله شباب من همذان ثمانمائة أو نحوها، وكان قد هلك منهم في ذلك اليوم أحد عشر رئيسا وأصيب منهم ثمانون ومائة، وزحف الأشتر نحو الميمنة. وتراجع الناس واشتد القتال حتى كشف أهل الشام، وألحقهم بمعاوية عند الاصفرار، وانتهى إلى ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القراء قد لصقوا بالأرض. فانكشف عنهم أهل الشام وأبصروا إخوانهم، وسألوا عن عليّ فقيل لهم هو بالميسرة يقاتل. فقال ابن بديل استقدموا بنا، ونهاه الأشتر فأبى ومضى نحو معاوية وحوله أمثال الجبال تقتل كل من دنا منه حتى وصل
إلى معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به فقتل، وقتل من أصحابه ناس ورجع آخرون مجروحون وأهل الشام في اتباعهم. فبعث الأشتر من نفس عنهم حتى وصلوا إليه، وزحف الأشتر في همدان وطوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف المعقلة بالعمائم حول معاوية. ثم حمل أخرى فصرع منهم أربعة صفوف حتى دعا معاوية بفرسه فركب. وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمار فقاتلوا، وتقدم عقبة بن حبيب النميري مستميتا ومعه إخوته فقاتلوا حتى قتلوا. وتقدم شمر بن ذي الجوشن مبارزا فضرب أدهم بن محرز الباهلي وجهه بالسيف وحمل على أدهم فقتله. وحمل قيس بن المكشوح ومعه راية بجيلة فقاتل حتى أخذها آخر كذلك.
ولما رأى على أهل ميمنة أصحبه قد عادوا إلى مواقفهم وكشفوا العدو قبالتهم أقبل إليهم وعذلهم بعض الشيء عن مفرهم، وأثنى على رجوعهم. وقاتل الناس قتالاً شديداً، وتبارز الشجعان من كل جانب. وأقبلت طيء والنخع وخرجت حمير من ميمنة أهل الشام وتقدم ذو الكلاع ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب، فقصد ربيعة في ميسرة أهل العراق وعليهم ابن عباس وحملوا عليهم حملة شديدة، فثبتت ربيعة وأهل الحفاظ منهم وانهزم الضعفاء والفشلة. ثم رجعوا ولحقت بهم عبد القيس وحملوا على حمير فقتل ذي الكلاع وعبد الله بن عمر، وأخذ سيف ذي الكلاع وكان لعمر. فلما ملك معاوية العراق أخذه من قاتله. ثم خرج عمار بن ياسر وقال اللهم إني لا أعمل اليوم عملا أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين. ثم نادى من سعى في رضوان ربه فلا يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال: إقصدوا بنا هؤلاء الذين يطلبون بدم عثمان، يخادعون بذلك عما في نفوسهم من الباطل. ثم مضى فلا يمر بواد من صفين إلا اتبعه من هناك من الصحابة. ثم جاء إلى هاشم بن عتبة، وكان صاحب الراية فانهضه حتى دنا من عمرو بن العاص فقال يا عمرو: بعت دينك بمصر؟ تبا لك! فقال: إنما أطلب دم عثمان فقال: أشهد أنك لا تطلب وجه الله في كلام كثير من أمثال ذلك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمار تقتله الفئة الباغية.
ولما قتل عمار حمل على وحمل معه ربيعة ومضر وهمدان حملة منكرة فلم يبق لأهلى الشام صف إلا انتقض حتى بلغوا معاوية، فناداه ير على م يقتل الناس بيننا هلم نحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر. فقال له عمرو: انصفك. فقال له معاوية: لكنك ما انصفت. وأسر يومئذ جماعة من أصحاب عليّ فترك سبيلهم وكذلك فحل عليّ. ومر عليّ بكتيبة من الشام قد ثبتوا، نجث إليهم محمد بن الحنفية فأزالهم عن مواقفهم وصرع عبد الله بن كعب المرادي، فمر به الأسود بن قيس فأوصاه بتقوى الله والقتال مع عليّ وقال أبلغه عني السلام. وقال له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره فإنه العالي.
ثم اقتتل الناس تلك الليلة إلى الصباح، وهي ليلة الجمعة وتسمى ليلة الهرير وعلى يسير بين الصفوف، ويحرض كل كتيبة على التقدم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهرة، والأشتر في الميمنة وابن عباس في الميسرة والناس يقتتلون من كل جانب، وذلك يوم الجمعة. ثم ركب الأشتر ودعا الناس إلى الحملة على أهل الشام، فحمل حتى أنتهى إلى عسكرهم وقتل صاحب رايتهم، وأمده على بالرجال.
فلما رأى عمرو شدة أهل العراق وخاف على أصحابه الهلاك لمعاوية: مر الناس يرفعون المصاحف على الرماح ويقولون كتاب الله بيننا وبينكم فإن فعلوا ذلك ارتفع عنا القتال، وإن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة ففعلوا ذلك فقال الناس: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم على يا عباد الله! امضوا على حقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم، صحبتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال. ويحكم والله ما رفعوها إلا مكيدة وخديعة فقالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل. فقال: إنما قاتلناهم ليدينوا بكتاب الله فإنهم نبذوه. فقال له مسعر بن فدك التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك يا على: أجب إلى كتاب الله وإلا دفعنا برمتك إلى القوم أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفان. فقال: إن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم قالوا: فابعث إلى الأشتر وكفه عن القتال، فبعث إليه يزيد بن هاني بذلك فأبى وقال: قد رجوت أن يفتح
الله لي فلما جاء يزيد بذلك ارتج الموقف باللغط وقالوا لعلى: ما نراك إلا أمرته بقتال ما بعث إليه فليأتك وإلا اعتزلناك فقال عليّ: ويحك يا يزيد قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت فقال: ألرفع المصاحف؟ فقال نعم! قال لقد ظننت إن ذلك يوقع فرقة، كيف ندع هؤلاء وننصرف والفتح قد وقع فقال يزيد: تحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل؟ ثم أقبل إليهم الأشتر وأطال عتبهم وقال: امهلوني فوالا فقد أحسست بالفتح فأبوا فعذلهم وأطال في عذلهم فقالوا: دعنا يا أشتر قاتلناهم لله فقال: بل خدعتم فانخدعتم.
ثم كثرت الملاحاة بينهم وتشاتموا فصاح بهم عليّ فكفوا. فقال له الاشعث بن قيس أن الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية وسألته ما يريد قال أفعل فأتاه وسأله لأي شيء رفعتم المصاحف؟ قال لنرجع نحن وانتم إلى ما أمر الله به من كتابه. تبعثون رجلا ترضونه ونحن آخر ونأخذ عليهما عهد الله أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه. ثم نتبع ما اتفقا عليه. فقال الأشعث: هذا الحق ورجع إلى عليّ والناس وأخبرهم فقال الناس رضينا وقبلنا، ورضي أهل الشام عمرا وقال الأشعث: وأولئك القراء الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي موسى فقال عليّ لا أرضاه! ففال الأشعث ويزيد بن الحصين ومسعر بن فدك لا نرضى إلا به. قال: فإنه ليس بثقة قد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر قالوا: لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء قال فالأشتر؟ قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قال فاصنعوا ما بدا لكم! فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل القتال، فقيل إن الناس قد اصطلحوا فحمد الله. قيل وقد جعلوك حكما فاسترجع. وجاء أبو موسى إلى العسكر وطلب الأحنف بن قيس من عليّ أن يجعله مع أبي موسى فأبى الناس من ذلك، وحضر عمرو بن العاص عند عليّ ليكتبوا القضية بحضوره فكتبوا بعد البسملة: هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال عمرو: ليس هو بأميرنا! فقال له الأحنف: لا تمحها فإني اتطير بمحوها. فمكث مليا ثم قال الأشعث: إمحها فقال عليّ الله أكبر! وذكر قصة الحديبية وفيها إنك ستدعى إلا مثلها فتجيب. فقال عمرو: سبحان الله نشئه بالكفار ونحن مؤمنون. فقال على: يا ابن النابعة ومتى لم تكن للفاسقين وليا وللمؤمنين عدواً. فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم. فقال عليّ: أرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك، وكتب الكتاب. هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى عليّ على أهل الكوفة ومن معهم، ومعاوية على أهل الشام ومن معهم، أنا ننزل عند حكم الله وكتابه، وأن لا يجمع بيننا غيره، وإن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله. وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة حتى يقضيا. وأحلا القضاء إلى رمضان فإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام. وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام وضعوا خطوطهم في الصحيفة، وأبى الاشتر أن يكتب اسمه فيها، وحاوره الأشعث في ذلك فأساء الرد عليه وتهدده. وكتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، واتفقوا على أن يوافي عليّ موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرح في شهر رمضان. ثم جاء بعض الناس إلى عليّ يحضه على قتال القوم فقال: لا يصلح الرجوع بعد الرضى ولا التبديل بعد الإقرار. ثم رجع الناس عن صفين ورجع عليّ وخالفت الحرورية وأنكروا تحكيم الرجال ورجعوا على غير الطريق الذي جاءوا فيه حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة. ومر عليّ بقبر خباب بن الأرت، توفي بعد خروجه، فوقف واسترحم له ثم دخل الكوفة، فسمع رجة البكاء في الدور فقيل يبكين على القتلى فترحم لهم ولم يزل يذكر الله حتى دخل القصر، فلم تدخل الخوارج معه، وأتوا حرورا فنزلوا بها في اثني عشر ألفا، فقدموا شبث بن عمر التميمي أمير القتال، وعبيد الله بن الكوى اليشكري أمير الصلاة.
قالوا البيعة لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر شورى بعد الفتح فقالوا للناس: بايعتم عليا إنكم أولياء من والى وأعداء من عادى، وبايع أهل الشام معاوية على ما أحب وكرهوا فلستم جميعاً من الحق في شيء. فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بايعناه إلا على الكتاب والسنة ولكن لما خالفتموه تعينتم للضلال وتعين للحق. ثم بعث عليّ عبد الله بن عباس إليهم وقال: لا تراجعهم حتى آتيك، فلم يصبر عن مكالمتهم وقال: ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما بين الزوجين فكيف بالأمة؟ فقالوا لا يكون هذا بالرأي والقياس فإنّ ذلك جعله الله حكما للعباد وهذا أمضاه كما أمضى حكم الزاني والسارق. قال ابن عباس، قال الله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم }، قالوا: والأخرى كذلك، وليس أمر الصيد والزوجين كدماء المسلمين. ثم قالوا له: قد كنا بالأمس نقاتل عمرو بن العاص، فإن كان عدلاً فعلى ما قاتلناه؟ وإن لم يكن عدلا فكيف يسوغ تحكيمه؟ وانتم قد حكمتم الرجال في أمر معاوية وأصحابه، والله تعالى قد أمضى حكمه فيهم أن يقتلوا أو يرجعوا، وجعلتم بينكم الموادعة في الكتب وقد قطعها الله بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة. ثم جاء عليّ إلى فسطاط يزيد بن قيس منهم بعد أن علم أنهم يرجعون إليه في رأيهم، فصلى عنده ركعتين وولاه على أصبهان والري.
ثم خرج إليهم وهم في مجلس ابن عباس فقال: من زعيمكم قالوا ابن الكوى! قال فما هذا الخروج؟ قالوا لحكومتكم يوم صفين. قال أنشدكم الله أتعلمون إنه لم يكن رأي، وإنما كان رأيكم مع أني اشترطت على الحكمين أن يحكما بحكم القرآن، فإن فعلا فلا ضير وإن خالفا فلا ضير ونحن براء من حكمهم. فقالوا فتحكيم الرجال في الدماء عدل؟ قال إنما حكمنا القرآن إلا أنه لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال قالوا: فلم جعلتم الأجل بينكم؟ قال لعل الله يأتي فيه بالهدنة بعد افتراق الأمة فرجعوا إلى رأيه وقال: ادخلوا مصركم فلنمكث ستة أشهر حتى يجبى المال ويسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا فدخلوا من عند آخرهم. أمر الحكمين ولما انقضى الاجل وحان وقت الحكمين بعث عليّ أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل، عليهم شريح بن هاني الحارثي ومعهم عبد الله بن عباس يصلي بهم، وأوصى شريحا بموعظة عمرو. فلما سمعها قال متى كنت أقبل مشورة عليّ واعتد برأيه؟ قال: وما يمنعك أن تقبل من سيد المسلمين وأساء الرد عليه فسكت عنه. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائه من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل، فكان أصحاب عمرو أطوع من أصحاب ابن عباس لابن عباس حتى لم يكونوا يسألونه عن كتاب معاوية إذا جاءه. ويسأل أهل العراق ابن عباس ويتهمونه. وحضر مع الحكمين:
عبد الله بن عمرو عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام وعبد الرحمن بن يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص على خلاف فيه، وقيل ندم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس. ولفا اجتمع الحكمان قال عمرو لأبي موسى أما تعلم أن عثمان قتل مظلوما وأن معاوية وقومه أولياؤه؟ قال بلى! قال فما يمنعك منه وهو في قريش كما علمت؟ لان قصرت به السابقة قدمه حسن السياسة وإنه صهر رسول الله-صلى الله عليه وسلم وكاتبه وصاحبه والطالب بدم عثمان، وعرض بالولاية. فقال له أبو موسى يا عمرو اتق الله واعلم إن هذا الامر ليس بالشرف وإلا لكان لآل أبرهة بن الصباح، وإنما هو بالدين والفضل، مع أنه لو كان بشرف قريش لكان لعلي بن أبي طالب، وما كنت لأرى لمعاوية طلبه دم عثمان وأوليه وأدع المهاجرين الأولين. وأما تعريضك بالولاية، فلو خرج لي عثمان عن سلطانه ما وليته وما أرتشي في حكم الله. ثم دعاه إلى تولية عبد الله بن عمر. قال له عمرو: فما يمنعك من ابني وهو من علمت؟ فقال له رجل صدق ولكنك غمسته في الفتنة. فقال عمرو: إن هذا الامر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل ولطعم- وكانت في ابن عمر غفلة-. وكان ابن الزبير بإزائه فنبهه لما قال. فقال ابن عمر لا أرشو عليها أبدأ! ثم قال أبو موسى با ابن العاص إن العرب اسندت أمرها إليك بعد المقارعة بالسيوف، فلا تردهم في فتنة. قال له فخبرني ما رأيك؟ قال أرى أن نخم الرجلين ونجعل الامر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم. فقال عمرو الرأي ما رأيت.ثم أقبلوا على الناس وهم ينتظرونهم وكان عمر وقد عود أبا موسى ان يقدمه لي الكلام لما له من الصحبة والسن. فقال يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق فقال: إنا رأينا أمراً نرجو الله أن يصلح به الأمة فقال له ابن عباس: ويحك أظنه خدعك، فاجعل له الكلام قبلك، فأبى وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر اصلح لهم مما اتفقنا عليه، وهو أن نخع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من احثوا، وإني قد خلعتهما فولوا من أردتم ورأيتموه أهلا. فقال عمرو: إن هذا قد خلع صاحبه وقد خلعته كما خلعه، وأثبت معاوية فهو ولي ابن عفان وأحق الناس بمقامه. ثم عدا ابن عباس وسعد على أبي موسى باللائمة وقال: ما أصنع غدرني ورجع باللائمة على
عمرو، وقال لا وفقك الله غدرت وفجرت. وحمل شريح على عمرو فضربه بالسيف وضربه ابن عمر كذلك. وحجز الناس بينهم فلحق أبو موسى بمكة وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة. ورجع ابن عباس وشريح إلى على بالخبر فكان يقنت إذا صلى الغداة ويقول: اللهم العن معاوية وعمراً وحبيبا وعبد الرحمن بن مخلد والضحاك بن قيس والوليد وأبا الأعور. وبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت يلعن عليا وابن عباس والحسن والحسين والأشتر.
أمر الخوارج وقتالهم
ولما اعتزم عليّ أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعديّ من الخوارج وقالا له: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم. وقال: عليّ: قد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وعاهدناهم. فقال حرقوص: ذلك ذنب تبتغي التوبة منه. فقال عليّ: ليس بذنب ولكن عجز من الرأي. فقال زرعة: لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله فقال على: بؤسا لك كأني بك قتيلا تسفى عليك الرياح قال: وددت لو كان ذلك، وخرجا من عنده يناديان لا حكم إلا لله. وخطب عليّ يوما فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة فقال على: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل. وخطب ثانيا فقالوا كذلك فقال: أما آن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا الفيء ما دمتم معنا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا وننتظر فيكم أمر الله. ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فوعظهم وحرضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدع، وتبعه حرقوص بن زهير في المقال. فقال حمزة بن سنان الازدي: الرأي ما رأيتم لكن لا بد لكم من أمير وراية، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي ثم حرقوص ثم زهير ثم حمزة بن سنان ثم
شريح بن أبي أوفى العنسي فأبوا كلّهم ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فأجاب فبايعوه لعشر خلون من شوّال. وكان يقال له ذو الثفنات.
ثم اجتمعوا في منزل شريح وتشاوروا وكتب ابن وهب إلى أهل البصرة منهم يستحث بهم على اللحاق بهم. ولما اعترفوا على المسير تعبدوا ليلة الجمعة ويومها وساروا، فخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي، واتبعه أبوه إلى المدائن فلم يقدروا عليه فرجع ولقيه عبد الله بن وهب في عشرين فارسا وأراد قتله فمنعه من كان معه من طيء. وأرسل عليّ إلى عامل المدائن سعد بن مسعود يخبرهم فاستخلف ابن أخيه المختار بن أبي عبيد وسار في طلبهم في خمسمائة فارس، فتركوا طريقهم وساروا على بغداد، ولحقهم سعد بالكرخ مساء وجاءه عبد الله في ثلاثين فارسا وقاتلهم وامتنعوا. وأشار أصحابه بتركهم إلى أن يأتي فيهم أمر عليّ فأبى، ولفا جن عليهم الليل عبر عبد الله إليهم دجلة وسار إلى أصحابه بالنهروان، واجتمعت خوارج البصرة في خمسمائة رجل عليهم مسعر بن فدكي التميمي واتبعهم أبو الأسود الدؤلي بأمر ابن عباس، ولحقه ياقتتلوا حتى حجز بينهم الليل. فأدلج مسعر بأصحابه فلحق بعبد الله بن وهب بالنهروان، ولما خرجت الخوارج بايع عليا أصحابه على قتالهم. ثم أنكر شأن الحكمين فخطب الناس وقال: بعد الحمد لله والموعظة إلا أن هذين الحكمين نبذا حكم القرآن، واتبع كل واحد هواه، واختلفا في الحكم وكلاهما لم يرشد، فاستعدوا للسير إلى الشام.
وكتب إلى الخوارج بالنهروان بذلك، واستحثهم للمسير إلى العدو وقال: نحن على الأمر الأول الذي كنا عليه. فكتبوا إليه إنك غضبت لنفسك ولم تغضب لربك، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت نظرنا بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء، فيئس عليّ منهم ورأى أن يمضي إلى الشام ويدعهم. وقام في الناس يحرضهم لذلك. وكتب إلى ابن عباس من معسكره بالنخيلة يأمره بالشخوص في العساكر والمقام إلى أن يأتي أمره. فأشخص ابن عباس الاحنف بن قيس في ألف وخمسمائة. ثم خطب ثانية وندب الناس وقال: كيف ينفر هذا العدد القليل وأنتم
ستون ألف مقاتل ثم تهددهم وأمرهم بالنفير مع جارية بن قدامة السعدي، فخرج معه ألف وستمائة ووافوا عليا في ثلاثة آلاف أو يزيدون.
ثم خطب أهل الكوفة ولاطفهم بالقول وحرضهم وأخبرهم بما فعل أهل البصرة مع كثرتهم وقال: ليكتب إلي كل رئيس منكم ما في عشيرته من المقاتلين من أبنائهم ومواليهم، فأجابه سعيد بن قيس الهمداني، ومعقل بن قيس وعدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس بالسمع والطاعة، وأمروا ذويهم الا يتخلف منهم أحد، فكانوا أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفا ممن بلغ الحلم. وانتهت عساكره إلى ثمانية وستين ألفاً. وبلغه أن الناس يرون تقديم الخوارج فقال لهم ة إن قتال أهل الشام أهم علينا لأنهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكا جئارين، وليتخذوا عباد الله خولا فرجعوا إلى رأيه وقالوا: سر بنا إلى حيث شئت، وبينما هو على اعتزام السير إلى أهل الشام بلغه أن خوارج أهل البصرة لقوا عبد الله بن خباب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من النهروان، فعرفهم بنفسه فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيرا، ثم عن عثمان في أول خلافته وآخرها، فقال كان محقا في الأول والاخر، فسألوه عن عليّ قبل التحكيم وبعده فقال هو أعلم بالله وأشد توقيا على دينه. فقالوا إنك توالي الرجال على أسمائها ثم ذبحوه، وبقروا بطن امرأنه، ثم قتلوا ثلاث نسوة من طيء. فآسف عليا قتلهم عبد الله بن ضباب واعتراضهم الناس. فبعث الحرث بن مرة العبدي لينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه، فقال له أصحابه: كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم في أموالنا وعيالنا، إنما نقدم أمرهم على الشام. وقام الأشعث بن قيس بمثل ذلك. فوافقهم عليّ وسار إليهم وبعث من يقول لهم إدفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نرجع من قتال العرب لعل الله يردكم إلى خير. فقالوا: كلنا قتلهم وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم. ثم جاءهم قيس بن سعد ووعظهم، وأبو أيوب الأنصاري كذلك. ثم جاءهم عليّ فتهددهم وسفه رأيهم، وبين لهم شأن الحكمين، وأنهما لما خالفا حكم
الكتاب والسنّة نبذنا أمرهما ونحن على الامر الأول فقالوا: إنا كفرنا بالتحكيم وقد تبنا، فإن تبت أنت فنحن معك وإن أبيت فقد نابذناك. فقال: كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني وهجرتي وجهادي ثم انصرف عنهم. وقيل إن عليا خطبهم وأغلظ عليهم فيما فعلوه من الاستعراض والقتل، فتنادوا لا تكلموهم وتأهبوا للقاء الله. ثم قصدوا جسر الخوارج ولحقهم عليّ دونه.، وقد عبى أصحابه وعلى ميمنته حجر بن عدي وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس، وعلى الخيل أبو أنوب وعلى الرجالة أبو قتادة، وعلى أهل المدينة، سبعمائة أو ثمانمائة، قيس بن سعد. وعبأت نحوه الخوارج على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العنسي وعلى الخيل حمزة بن سنان الأسدي، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير. ودفع عليّ إلى أبي أيوب راية أمان لهم لمن جاءها ممن لم يقتل ولم يستعرض فناداهم إليها وقال: من انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن. فاعتزل عنهم فروة بن نوفل الاشجعي في خمسمائة وقال أعتزل حتى يتضح لي أمر في قتال عليّ، فنزل الدسكرة. وخرج آخرون إلى الكوفة، ورجع آخرون إلى عليّ وكانوا أربعة آلاف. وبقي منهم ألف وثمانمائة فحمل عليهم عليّ والناس حتى فزقهم على الميمنة والميسرة.. ثم استقبلتهم الرماة وعطفت عليهم الخيل من المجنبتين، ونهض إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا كفهم في ساعة واحدة كأنما قيل لهم موتوا، وقتل عبد الله بن وهب وزيد بن حصن وحرقوص بن زهير وعبد الله بن شجرة وشريح بن أوفى. وأمر عليّ أن يلتمس المخدج في قتلاهم وهو الذي ذكره رسول الله- صلى الله عليه وسلم في علاماتهم، فوجد في القتلى. فاعتبر على وكبر واستبصر الناس وأخذ ما في عسكرهم من السلاح والدواب فقسمه بين المسلمين ورد عليهم المتاع والإماء والعبيد. ودفن عدي بن حاتم ابنه طرفة ورجالاً من المسلمين فنهى على عن ذلك وارتحل ولم يفقد من أصحابه إلا سبعة أو نحوهم. وشكى إليه الناس الكلال ونفود السهام والرماح وطلبوا الرجوع إلى الكوفة ليستعدوا
فإنه أقوى على القتال. وكان الذي تولى كلامه الأشعث بن قيس فلم يجبه وأقبل فنزل النخيلة ومنعهم من دخول منازلهم حتى يسيروا إلى عدوهم، فتسللوا أيام المقامة إلى البيوت وتركوا المعسكر خاليا. فلما رأى عليّ ذلك دخل في ندبهم ثانيا فلم ينفروا فأقام أياما ثم كلم رؤساءهم عن رأيهم والذي يبطىء بهم فلم ينشط لذلك إلا القليل. فخطبهم وأغلظ في عتابهم وأعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق والنصح فتثاقلوا وسكتوا.
ولاية عمرو بن العاص عليّ مصر قد تقدم لنا ما كان من اجتماع العثمانية بنواحي مصر مع معاوية بن حديج الئكوني، وإن محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم فهزموه وقتلوه، واضطرمت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر وبلغ ذلك عليا، فبعث إلى الأشتر من مكان عمله بالجزيرة وهو نصيبين فبعثه على مصر والشام: ليس لها غيرك. وبلغ الخبر إلى معاوية وكان قد طمع في مصر فعلم إنها ستمتنع بالأشتر. وجاء الأشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك، وقيل إن معاوية بعث إلى صاحب القلزم فسفه على أن يسقط عنه الخراج وهذا بعيد. وبلغ خبر موته عليا فاسترجع واسترحم، وكان محمد بن أبي بكر لما بلغته ولاية الأشترشق عليه فكتب عليّ يعتذر إليه، وإنه لم يوله لسوء رأيه في محمد وإنما هو لما كان يظن فيه من الشدة. فقد صار إلى الله ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب، فاصبر لعدوك وشمر للحرب، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وأكثر من ذكر الله والإستعانة به والخوف منه يكفيك ما أهمك ويعينك على ما ولاك فأجابه محمد بالرضا برأيه والطاعة لأمره. وأنه مزمع على حرابة من خالفه. ثم لما كان من أمر الحكمين ما كان، واختلف أهل العراق على عليّ وبايع اهل الشام معاوية بالخلافة. فأراد معاوية صرف عمله إلى مصر لما كان يرجو من الاستعانة على حروبه بخراجها. ودعا بطانته أبا الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن
أرطاة والضحّاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط وشاورهم في شأنها، فأشار عليه عمرو بافتتاحها. وأشار ببعث الجيش مع حازم صارم يوثق ويجتمع إليه من كان على رأيه من العثمانية.
فقال معاوية: بل الرأي أن نكاتب العثمانية بالوعد ونكاتب العدو بالصلح والتخويف، ونأتي الحرب بعد ذلك. ثم قال معاوية: إنك يا ابن العاص بورك لك في العجلة وأنا في التؤدة فقال: إفعل ما تراه وأظن الأمر لا يصير إلا للحرب. فكتب معاوية إلى معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد يشكرهما على الخلاف ويحثهما على الحرب والقيام في دم عثمان، وفرحا بجوابهما فطلب المدد فجمع أصحابه وأشاروا بذلك. فأمر عمرو بن العاص أن يتجهز إلى مصر في ستة آلاف رجل ووصاه بالتؤدة وترك العجلة فنزل أدنى أرض مصر، واجتمعت إليه العثمانية. وبعث كتابه وكتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر بالتهديد، وإن الناس اجتمعوا عليك وهم مسلموك فأخرج فبعث بالكتابين الى على فوعده بإنفاذ الجيوش وأمره بقتال العدو والصبر. فقدم محمد بن أبي بكر كنانة بن بشر في ألفين ، فبعث معاوية عمرو بن حديج وسرحه في أهل الشام، فأحاطوا بكنانة فترجل عن فرسه وقاتل حتى استشهد. وجاء الخبر إلى محمد بن أبي بكر فافترق عنه أصحابه وفروا وآوى في مفره إلى خربة واستتر في تلك الخربة فقبض عليه، فأخذه ابن حديج وجاء به إلى الفسطاط وطلب أخوه عبد الرحمن من عمرو أن يبعث إلىابن حديج في البقاء عليما فأبى. وطلب محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان. ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعف ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو. وكانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتله ويقال إنه لما انهزم اختفى عند جبلة بن مسروق حتى أحاط به معاوية بن حديج وأصحابه فخرج إليهم فقاتل حتى قتل. ولما بلغ الخبر عليا خطب الناس وندبهم إلى أعدائهم وقال: اخرجوا بنا إلى الجزعة بين الحيرة والكوفة. وخرج من الغد إلى منتصف النهار يمشي إليها حتى نزلها، فلم يلحق
به أحد، فرجع من العشي وجع أشراف الناس ووبخهم فأجاب مالك بن كعب الأرحبي في ألفين. فقال سر وما أراك تدركهم، فسار خمسا. ولحق حجاج بن عرفة الأنصاري قادما من مصر فأخبر بقتل محمد. وجاء إلى عليّ عبد الرحمن بن شبث الفزاري وكان عينا له بالشام. فأخبره بقتلى محمد واستيلاء عمرو على مصر فحزن بذلك وبعث إلى مالك بن كعب أن يرجع بالجيش. وخطب الناس فأخبرهم بالشبر وعذلهم على ما كان منهم من التثاقل حتى فات هذا الأمر ووبخهم طويلا ثم نزل.
دعاء ابن الحضرمي بالبصرة لمعاوية ومقتله ولما افتتح معاوية مصر بعث عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة داعيا لهم، وقد آنس منهم الطاعة بما كان من قتل عليّ إياهم يوم الجمل، وانهم على رأيه في دم عثمان وأوصاه بالنزول في مصر وأن يتودّد إلى الازد وحذره من ربيعة وقال: إنهم ترائبه ! يعني شيعة لعلي. فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة. وكان ابن عباس قد خرج إلى عليّ واستخلف عليها زياداً، ونزل في بنى تميم واجتمع إليه العثمانية فحضهم على الطلب بدم عثمان من عليّ. فقال الضحاك بن قيس الهلالي: قبح الله ما جئت به وما تدعو إليه، تحملنا على الفرقة بعد الاجتماع وعلى الموت ليكون معاوية أميرا؟ فقال له عبد الله بن حازم السلمي اسكت! فلست لها بأهل. ثم قال لأبن الحضرمي نحن أنصارك ويدك والقول قولك، فقرأ كتاب معاوية يدعوهم إلى رأيه من الطلب بدم عثمان على أن يعمل فيهم بالسنة ويضاعف لهم الأعطية. فلما فرغ من قراءته قام الاحنف بن قيس معتزلاً وحض عمر بن مرحوم على لزوم البيعة والجماعة. وقام العبّاس بن حجر في مناصرة ابن الحضرمي فقال له المثنى بن مخرمة: لا يغرنك ابن صحار وارجع من حيث جئت. فقال ابن الحضرمي لصبرة بن شيمان الازدي ألا تنصرني؟ قال لو نزلت عندي فعلت! ودعا زياد أمير البصرة حصين بن المنذر ومالك بن مسمع ورؤوس بكر بن وائل إلى المنعة من ابن الحضرمي إلى أن يأتي أفر عليّ، فأجاب حصين وتثاقل مالك وكان هواه في بني أمية. فأرسل زياد إلى صبرة بن شيمان يدعوه
إلى الجوار بما معه من بيت المال فقال: إن حملته إلى داري أجرتك فتحول إليه ببيت المال والمنبر، وكان يصلي الجمعة في مسجد قومه وأراد زياد اختبارهم فبعث إليهم من ينذرهم بمسيره إليهم، وأخذ زياد جندا منهم بعد صبره لذلك وقال: إن جاءوا جئناهم. وكتب زياد إلى علم بالخبر فأرسل أعين بن ضبيعة لنفرق تميما عن ابن الحضرمي، ويقاتل من عصاه بمن أطاعه. فجاء لذلك وقاتلهم يوما أو بعض يوم. ثم اغتاله قوم فقتلوه يقال من الخوارج.
ولاية زياد عليّ فارس ولما قتل ابن الحضرمي بالبصرة والناس مختلفون على عليّ طمع أهل النواحي من بلاد العجم في كسر الخراج وأخرج أهل فارس عاملهم سهل بن حنيف فأشار عليّ الناس فأشار عليه جارية بن قدامة بزياد فأمر ابن عباس أن يوليه عليه فبعثه إليها في جيش كثيف فطوى بهم أهل فارس، وضرب ببعضهم بعضا وهرب قوم وأقام آخرون، وصفت له فارس بغير حرب. ثم تقدم إلى كرمان فدوخها مثل ذلك فاستقامت وسكن الناس ونزل اصطخر وسكن قلعة بها تسمى قلعة زيار. فراق ابن عباس لعلي رضي الله عنه وفي سنة أربعين فارق عبد الله بن عباس عليا ولحق بمكة وذلك أنه مر يوما بأبي الأسود ووبخه على أمر فكتب أبو الأسود إلى عليّ بأن ابن عباس استتر بأموال الله، فأجابه عليّ يشكره على ذلك. وكتب لابن عبّاس ولم يخبره بالكاتب، فكتب إليه
بكذب ما بلغه من ذلك وإنه ضابط للمال حافظ له. فكتب إليه عليّ: أعلمني ما أخذت ومن أين أخذت وفيما وضعت؟ فكتب إليه ابن عباس فهمت استعظامك لما رفع إليك إني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه، واستدعى أخواله من بني هلال فجاءته قيس كلها، فحمل المال وقال: هذه أرزاقنا واتبعه أهل البصرة ووقفت دونه قيس، فرجع صبرة بن شيمان الهمداني بالازد وقال قيس: إخواننا وهم خير من المال فأطيعوني.
وانصرف معهم بكر وعبد القيس، ثم انصرف الاحنف بقومه من بني تميم وحجز بقية بني تميم عنه ولحق ابن عباس بمكة. مقتل عليّ رضي الله عنه قتل عليّ رضي الله عنه سنة أربعين لسبع عشرة من رمضان، وقيل لأحدى عشرة، وقيل في ربيع الآخر والأول أصح. وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي واسمه الحجاج، وعمرو بن بكر التميمي السعدي: ثلاثتهم من الخوارج لحقوا من ففهم بالحجاز واجتمعوا فتذاكروا ما فيه الناس وعابوا الولاة وترخموا على قتلى النهروان وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم الناس. فقال ابن ملجم:- وكان من مصر- أنا أكفيكم عليا وقال البرك أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص وتعاهدوا أن لا يرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت. واتعدوا لسبع عشرة من رمضان وانطلقوا. ولقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم. ثم جاء إلى شبيب بن شجرة من أشجع ودعاه إلى الموافقة في شأنه. فقال شبيب: ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله؟ قال أكمن له في المسجد في صلاة الغداة، فإن قتلناه وإلا فهي الشهادة. قال ويحك لا
أجدني انشرح لقتله مع سابقته وفضله، قال ألم يقتل العباد الصالحين أهل النهروان؟ قال بلى. قال فنقتله بمن قتله منهم فأجابه. ثم لقي امرأة من تيم الرباب فائقة الجمال قتل أبوها وأخوها يوم النهروان فأخذت قلبه فخطبها فشرطت عليه عبدا وقينة وقتل على. فقال كيف يمكن ما أنت تريدين؟ قالت التمس غرته فإن قتلته شفيت النفوس وإلا فهي الشهادة قال: والله ما جئت إلا لذلك ولك ما سألت. قالت: سأبعث معك من يشد ظهرك ويساعدك، فبعثت معه رجلا من قومها إسمه وردان. فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل على، وكانت ليلة الجمعة جاء إلى المسجد ومعه شبيب ووردان، وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها عليّ للصلاة. فلما خرج ونادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على مقدم رأسه وقال: الحكم لله لا لك يا عليّ ولا لأصحابك، وهرب وردان إلى منزله وأخبر بعفى أصحابه بالأمر فقتله وهرب شبيب مغلساً. وصاح الناس به فلحقه رجل من حضرموت، فأخذه وجلس عليه والسيف في يد شبيب والناص قد أقبلوا في طلبه. وخشي الحضرمي على نفسه لاختلاط الغلس فتركه وذهب في غمار الناس.
وشد الناس على ابن ملجم، واستخلف على على الصلاة جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانىء فصفى الغداة بالناس، وأدخل ابن ملجم مكتوفاً على عليّ فقال: ايه عدو الله ما حملك على هذا؟ قال شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه. فقال أراك مقتولا به! ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأي. يا بني عبد المطلب لا تحرضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير المؤمنين، لا تقتلوا الا قاتلي. يا حسن! أنا إن مت من ضربتي هذه فاضربه بسيفه ولا تمثلن بالرجل فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إياكم والمثلة. وقالت أم كلثوم لابن ملجم وهو مكتوف وهي تبكي: أي عدو الله لا بأس على أبي والله مخزيك، قال فعلام تبكين؟ والله لقد شريته بألف وصقلته أربعين، ولو كانت هذه الضربة بأهل بلد ما بقي منهم أحد. وقال جندب بن عبد الله لعلى أنبايع الحسن إن فقدناك؟ قال ما آمركم به ولا أنهاكم انتم أبصر. ثم دعا الحسن والحسين ووصاهما قال: أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وإن
بغتكما، ولا تأسفا على شيء زوى منها عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم واعينا الضائع وكونا للظالم خصما وللمظلوم ناصرا، واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم قال لمحمد بن الحنفية إني أوصيك بمثل ذلك وبتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك، ولا تقطع أمراً دونهما. ثم وصاهما بابن الحنفية، ثم أعاد على الحسن وصيته. ولما حضرته الوفاة كتب وصيته العامة ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض. وأحضر الحسن ابن ملجم فقال له هل لك البقاء عليّ! وأني قد عاهدت الله أن اقتل عليا ومعاوية، وإني عاهدت الله على الوفاء بالعهد فخل بيني وبين ذلك، فإن قتلته وبقيت فلك عهد الله أن آتيك فقال: لا والله حتى تعاين النار، ثم قدمه فقتله. وأما البرك فإنه قصد لمعاوية تلك الليلة، فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف في إليته وأخذ فقال: عندي بشرى أتنفعني إن أخبرتك بها؟ قال نعم! قال إن أخا لي قتل عليا هذه الليلة. قال فلعله لم يقدر عليه؟ قال بلى إن عليا ليس معه حرس. فأمر به معاوية فقتل وأحضر الطبيب فقال: ليس إلا الكي أو شربة تقطع منك الولد فقال: في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني، والنار لا صبر لي عليها.وقد قيل انه أمر بقطع البرك فقطع وأقام إلى أيام زياد فقتله بالبصرة. وعند ذلكاتخذ معاوية المقصورة، وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد. ويقال إن أول من اتخذ المقصورة مروان بن الحكم سنة أربع وأربعين حين طعنه اليمانيّ. وأمّا عمرو ابن بكر فإنّه جلس إلى عمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى فأمر صاحب شرطته خارجة بن أبي حبيبة بن عامر بن لؤي يصلي بالناس فشد عليه فضربه فقتله، وهو يرى أنه عمرو بن العاص. فلما أخذوه وأدخلوه على عمرو قال: فمن قتلت إذا؟ قالوا خارجة فقال لعمرو بن العاص والله ما ظننته غيرك! فقال عمرو: وأردت عمرا وأراد الله خارجة. وأمر بقتله وتوفي عليّ رضي الله عنه، وعلى البصرة عبد الله بن عبّاس، وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي، وعلى فارس زياد بن سمّية، وعلى اليمن عبيد الله بن العبّاس، حتى وقع أمر بسر بن أبي أرطاة، وعلى مكة والطائف قثم بن عبّاس، وعلى المدينة أبو أيوب الأنصاري وقيل سهل بن حنيف.
بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية ولما قتل عليّ رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن، وأول من بايعه قيس بن سعد وقال: أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال الملحدين، فقال الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله. ويأتيان على كل شرط ثم بايعه الناس، فكان يشترط عليهم إنكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت. فارتابوا وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال. وبلغ الخبر بمقتل عليّ إلى معاوية فبويع بالخلافة ودعي بأمير المؤمنين، وكان قد بويع بها بعد اجتماع الحكمين. ولأربعين ليلة بعد مقتل عليّ مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه. ثم مات من أصحاب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي وكان عليّ قبل قتله قد تجهز بالمسلمين إلى الشام، وبايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت. فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه، وعلى مقدمتته قيس بن سعد في إثني عشر ألفا وقيل بل كان عبد الله بن عباس على المقدمة، وقيس في طلائعه.. فلما نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر ان قيس بن سعد قتل، واهتاج الناس وماج بعضهم في بعفى، وجاءوا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الذي كان عليه، واستلبوه رداءه، وطعنه بعضهم في فخذه. وقامت ربيعة وهمدان دونه واحتملوه على سرير إلى المدائن. ودخل إلى القصر وكاد أمره أن ينحل، فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف، ويعطيه خراج دارابجرد من فارس وأن لا يشتم عليا وهو يسمع. وأخبر بذلك أخاه الحسين وعبد الله بن جعفر، وعذلاه فلم يرجع إليهما. وبلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها، وكان قد بعث عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة إلى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك، فاشترط فيها اضعاف ما كان في الصحيفة. فلما سلم له وطالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الأولى وقال: هو الذي
طلبت. ثم نزعه أهل البصرة خراج دارا بجرد وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه. وخطب الحسن أهل العراق وقال سخى نفسي عنكم ثلاث: قتل أبي وطعني وانتهاب بيتي، ثم قال الا وقد أصبحتم بين قبيلتين، قبيل بصفين يبكون له، وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره. وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر. وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبى السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى. فناداه الناس من كل جانب البقية الباقية فأمضي الصلح. ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته، ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس. وكتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال: نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة فقال له الناس: طاعة الإمام أولى. وانصرفوا إلى معاوية فبايعوه وامتنع قيس وانصرف. فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص ان يقيم الحسن للناس خطيبا ليبدو للناس عيه، فلما قدم حمد الله وقال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذا الأمر مدة، وإن الدنيا دول والله عز وجل يقول لنبيه: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين }[الأية….] فقال له معاوية: إجلس. وعرف أنه خدع في رأيه. ثم ارتحل الحسن في أهل بيته وحشمهم إلى المدينة، وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين فلم يزل مقيما بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع وأربعين. وقال أبو الفرج الأصبهاني سنة إحدى وخمسين، على فراشه بالمدينة. وما ينقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة، وحاشا لمعاوية من ذلك.
وأقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة، وكان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عباس لما كتب إليه في الأمان بنفسه فلقيه ليلا وأمنه وسار معه إلى معاوية فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد، وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة على على دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة. وبلغ الخبر إلى معاوية وأشار عليه عمرو في قتاله، فقال معاوية: يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام ولا خير فيه، ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها وقال: اكتب في هذا ما شئت فهو لك: فكتب قيس له ولشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال،
ولم يسأل مالا، فأعطاه معاوية ذلك وبايعه قيس والشيعة الدين معه، ثم جاء سعد بن أبي وقّاص فبايعه واستقرّ الأمر لمعاوية واتفق الجماعة على بيعته وذلك في منتصف سنة إحدى وأربعين، وسمّى ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك. ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان وغيرهم، فقاتلهم واستلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من افراد الأخبار عن الدول وأهل النحل دولة دولة وطائفة طائفة.
وهذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة، اوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبري وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمة وخيارهم وعدولهم من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين. فكثيراً ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء، فلا ينبغي أن تسود بها العيون. وابعتها بمفردات من غير كتاب الطبري بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة، وإذا ذكرت شيئا في الأغلب نسبته إلى قائله. وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية واخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تأليهم فى الفضل والعدالة والصحبة، ولا ينظر في ذلك إلى حديث: الخلافة بعدي ثلاثون، فإنه لم يصخ. والحق إن معاوية في عداد الخلفاء وإنما أخره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين: الأول: إن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدمناه من العصبية التي حدثت لعصره، وأما قبل ذلك فكانت اختيارا واجتماعاً، فميزوا بين الحالتين. فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك، ويشبهون بعضهم ببعض، وحاشى لله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده. فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العبّاس. ولا يقال: إن الملك أدون رتبة من الخلافة، فكيف يكون خليفة ملكا. واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتية والمعبر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها. وأما الملك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوة، فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات
الله عليهما نبيين وملكين وكانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربهما عز وجل. ومعاوية لم يطلب الملك ولا أبهته للإستكثار من الدنيا، وإنما ساقه أمر العصبية بطبعها لفا استولى المسلمون على الدولة كلها، وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستعمل العصبية وتدعو لطبيعة الملك.
وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استعمال أحكامه ودواعيه. والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار، لا بالواهي. فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي-صلى الله عليه وسلم في المسلمين، ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا. وإن سمي خليفة في المجاز. الأمر الثاني: في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخلفاء الأربعة انهم كانوا أهل نسب واحد، عظيمهم معاوية فجعل مع أهل نسبه والخلفاء الأوّلون مختلفو الأنساب، فجعلوا في نمط واحد، وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريبا في الفضل، والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم.
ما ورد في نسخة باريس زيادة عن نسخة طبع بولاق كمل بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه على يد كاتبه العبد الفقير، المقر بالعجز والتقصير، الراجي عفو ربه العليم الخبير، المسرف على نفسه بالتقصير، عبد الله بن محمد بن الصايم التلمساني. اسكنه الله بفضله دار الأماني ويغفر له ولوالديه ولمشايخه ولمن كان السبب في نسخه، ولمن دعا لهم بالمغفرة، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. والصلاة الدائمة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين والرضا عن آله وصحبه أجمعين، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ منه عشية يوم الأحد لعشرين مضت من ربيع الاخر سنة 1192هـ اثنين وتسعين وماية وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم انتهى.