تاريخ ابن خلدون - الجزء الثالث
تاريخ ابن خلدون، الجزء الثالث.
تاريخ ابن خلدون المجلد الثالث ص 3-125
القِسْم الأول من تاريخ العلامة ابن خلدون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
دَولة بني أُمَيَّة
بسم الله الرحمن الرحيم
(كان) لبني عَبْد ُمنَافَ في قُرَيْش جُمَلٌ من العدد والشرف. لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قُرَيْش. وكان فخذاهم بنو أمَيَّة وبنو هاشم حياً جميعاً ينتمون لعبد مناف وينسبون إليه. وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدداً من بني هاشم وأوفر رجالاً، والعِزةُ إنما هي بالكثرة، قال الشاعر:
- # وإنما العِزةُ للكَاثر
وكان لهم قبيل الإِسلام شرف معروف، انتهى إلى حرب بن أُمَيَّة، وكان رئيسهم في حرب الفُجَّار. وحدث الإخباريون أن قريشاً تواقعوا ذات يوم، وحرس هذا مسند ظهره إلى الكعبة، فتبادر إليه غلمة منهم ينادون ياعم أدرك قومك، فقام يجرَ إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا، ولَوح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم.(ولما) جاء الإِسلام ودُهِشَ الناس لمّا وقع من أمر النبوَّة والوحي وتنزل الملائكة، وما وقع من خوارق الأمور ونسي الناس أمر العَصَبِيَّة مسلمهم وكافرهم. أمَّا المسلمون فنهاهم الإِسلام عن أُمور الجاهلية كما في الحديث أنَّ الله أذهب عنكم غُبِيَّةّ الجاهلية وفخرها لأننا وأنتم بنو آدم، وآدم من تراب. وأمَّا المشركون فشغلهم ذلك الأمر
العظيم عن شأن العصائب، وذهلوا عنه حيناً من الدهر. ولذلك لمّا افترق أمر بني أُمَيَّة وبني هاشم بالإِسلام. إنما كان ذلك الافتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير. ولم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبيات والذهول عنها بالإِسلام، حتى كانت الهجرة وشرع الجهاد. ولم يبق إلا العَصَبِيَّة الطبيعية التي لا تفارق وهي بعزّة الرجل على أخيه وجاره في القتل والعدوان عليه، فهذه لا يُذهبها شيءٌ ولا هي محظورة، بل هي مطلوبة ونافعة في الجهاد والدعاءِ إلى الدين.ألا ترى إلى صَفْوان بن أُمَيَّة وقوله عندما انكشف المسلمون يوم حُنَيْن، وهو يومئذ مشرك في المدَّة التي جعل له رسول الله حتي يسلم، فقال له أخوه: ألا بطل السحر اليوم؟ فقال له صَفْوان اسكت فض الله فاك. لأن يُرِبْني رجل من قُرَيْش أحب إليَّ من أن يُرِبْني رجل من هُوَازِن.
ثم أن شرف بني عَبـْد مناف لم يزل في بني عَبْد شمس وبني هاشم. فلما هلك أبو طالب وهاجر بنوه مع رسول الله ، وحمزة كذلك. ثم من بعده العباس0، والكثير من بني عَبْد المطلب، وسائر بني هاشم، خلا الجوّ حينئذ من مكان بني هاشم بمكّة، واستغلظت رياسة بني أُمَيَّة في قُرَيْش. ثم استحكمتها مشيخة قُرَيْش من سائر البطون في بَدْر وهلك فيها عظماء بني عَبْد شمس: عُتْبَةُ ورَبيعَةُ والوليد وعقبة بن أبي معيط وغيرهم. فاستقلّ أبو سُفْيان بشرف بني أُمَيَّة والتقَدَّم في قُرَيْش، وكان رئيسهم في أُحُدٍ وقائدهم في الأحزاب وما بعدها.(ولما كان الفتح) قال العباس للنبي لمّا أسلم أبو سفيان ليلتئذ، كما هو معروف، وكان صديقاً له يا رسول الله إنّ أبا سُفْيان رجل يحب الفخر، فاجعل له ذكراً، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ثم منّ على قُرَيْش بعد أن ملكهم يومئذ، وقال: إذهبوا فأنتم الطُلَقَاء وأسلموا. وشكت مشيخة قُرَيْش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم من التخلّف عن رتب المهاجرين الأوّلين، وما بلغهم من كلام عمر في تركه شوارهم، فاعتذر لهم أبو بكر وقال: أدركوا إخوانكم بالجهاد، وأنفذهم لحروب الرِدَّة، فأحسنوا الغَنَاءَ عن الإِسلام وقوّموا الأعْرَاب عن الحيف والميل. ثم جاء عمر فرمى بهم الروم، وأرغب قريشاً في النفير إلى الشام، فكان معظمهم هنالك. واستعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام. وطال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عَمْوَاس سنة ثماني عشرة فولّى مكانه أخاه معاوية وأقّره عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على قُرَيْش في الإِسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها ولا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوَّة، ونبذوا الدنيا من أيديهم بما اعتاضوا عنها من مباشرة الَوحْي وشرف القرب من الله برسوله وما زال الناس يعرفون ذلك لبني أُمَيَّة. وانظر
مقالة حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر: إنّ هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عَبْد مناف. (ولما هلك عثمان) واختلف الناس على عليّ كانت عساكر عليّ أكثر عدداً لمكان الخلافة والفضل، إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم، وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قُرَيْش شوكة مضرو بأسهم، نزلوا بثغور الشام منذ الفتح، فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكة، ثم كسر من جناح عليّ، ما كان من أمر الخوارج وشغله بهم إلى أن ملك معاوية وخلع الحسن نفسه، واتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى وأربعين عندما نسي الناس شأن النبوَّة والخوارق، ورجعوا إلى أمر العَصَبِيَّة والتغالب، وتعين بنو أمَيَّة للغلب على مُضَر وسائر العرب، ومعاوية يومئذ كبيرهم. فلم تتعدّه الخلافة ولا ساهمه فيها غيره، فاستوت قدمه واستفحل شأنه، واستحكمت في أرض ِمْصَر رياسته وتوثق عقده. وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنة، ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبني هاشم وآل الزبير وأمثالهم، ويصانع رؤوس العرب وقروم مُضَر بالإغضاءِ والاحتمال والصبر على الأَذى والمكروه. وكانت غايته في الحلم لا تدرك، وعصابته فيها لا تنزع، ومرقاته فيها تزلُّ عنها الأقدام.(ذكر) أنه مازح عديّ بن حاتم يوماً يؤنبه بصحبة عليّ، فقال له عديّ: والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وأنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت إلينا من الغدر شبراً لندنينَّ إليك من الشرّ باعاً، وأنَّ حّز الحلقوم وحَشْرَجَة الحيزوم ، لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليّ، فشم السيف يا معاوية يبعث السيف. فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها، وأقبل عليه ولاطفه وتحادثا، وأخباره في الحلم كثيرة.
- (بعث معاوية العمال إلى الأمصار)*
لمّا استقل معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمّال إلى الأمصار، فبعث على الكوفة المُغِيرة بن شُعْبَة. ويقال إنه ولّى عليها أوّلا عَبْدَ الله بن عَمْرو بن العَاص، فأتاه المغيرة منتصحاً، وقال: عمرو بمِصْرَ وابنه بالكوفة فأنت بين نابي أسد، فعزله وولّى المغيرة. وبلغ
ذلك عمراً فقال لمعاوية: يختان المال فلا تقدر على ردّه، فعد فاستعمل من يخافك. فنصب المُغِيرَة على الصلاة، وولّى على الخراج غيره، وكان على القضاء شُرَيح. (ولما وَلىَ) المغيرة على الكوفة استعمل كُثَيّر بن شهاب على الريّ، وأقرّه زياد بعده. وكان يغزو الدَيْلُم. ثم بعث على البصرة بسر بن أرْطَأَة، وكان قد تغلّب عليها حمران بن زيد عند صلح الحسن مع معاوية، فبعث بسراً عليها فخطب الناس وتعرض لعليّ. ثم قال: نشدت الله رجلاً يعلم أني صادق أو كاذب، ولا صدقني أو كَذَّبَني. فقال أبو بكرة: اللهم لا نعلمك إلاّ كاذباً، فأمر به فخنق. فقام أبو لُؤْلُؤَة الضَبِيّ فدفع عنه. وكان على فارس من أعمال البصرة زياد ابن أبيه. وبعث إليه معاوية يطلبه في المال فقال: صرفت بعضه في وجهه، واستودعت بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله. فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك، فامتنع. فلما ولي بِسْرٌ على البصرة جمع عنده أولاد زياد والأكابر عَبْد الرحمن وعبد الله وعبّاد وكتب إليه لتقدمنَّ أو لأقتلن بنيك فامتنع واعتزم بِسْر على قتلهم، فأتاه أبو بكرة وكان أخا زياد لأمّه فقال: أخذتهم بلا ذنب.وصالح الحسن على أصحاب عليّ حيث كانوا، فأمهله بِسْر إلى أن يأتي بكتاب معاوية. ثم قدم أبو بكرة على معاوية وقال: إنّ الناس لم يبايعوكَ على قتل الأطفال، وإن بِسراً يريد قتل بني زياد! فكتب إليه بتخليتهم وجاء إلى البصرة يوم المهاد، ولم يبق منه إلآَّ ساعة وهم موثقون للقتل فأدركهم وأطلقهم انتهى.(ثم عزل) معاوية بِسراً عن البصرة، وأراد أن يولي عُتْبَة بن أبي سفيان، فقال له ابن عامر: إن لي بالبصرة أموالاً وودائع، وإن لم تولني عليها ذهبت. فوّلاه وجعل إليه معها خراسان وسجستان. وقدمها سنة إحدى وأربعين فولي على خراسان قيس بن الهيثم السلمي، وكان أهل بلخ وباذغيس وهراة وبوشلج قد نضوا، فسار إلى بلخ وحاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة. وقيل إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين على ما سيأتي. (ثم قدم) قيس على ابن عامر فضربه وحبسه وولى مكانه عَبْد الله بن حازم، وقدم خراسان فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشلج في الأمان والصلح فأجابهم وحمل لابن عامر مالا انتهى. ثم ولى معاوية سنة اثنتين وأربعين على المدينة مروان بن الحكم وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام. واستقضى مروان عَبْد الله بن الحارث بن نوفل، وعزل مروان عن المدينة سنة تسع وأربعين، وولى مكانه سعيد بن العاص، وذلك لثمان سنين من
ولايته. وجعل سعيد على القضاء ابن عَبْد الرحمن مكان عَبْد الله بن الحرث ثم عزل معاوية سعيداً سنة أربع وخمسين وردّ إليها مروان. (قدوم زياد): وكان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل علي كما قدّمناه، وكان عَبْد الرحمن ابن أخيه أبي بكرة يلي أمواله بالبصرة، ورفع إلى معاوية أن زياداً استودع أمواله عَبْد الرحمن، فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك، فأحضر عَبْد الرحمن وقال له: إن يكن أبوك أساء إليّ فقد أحسن عمك، وأحسن العذر عند معاوية. (ثم قدم المغيرة) على معاوية فذكر له ما عنده من الوجل باعتصام زياد بفارس فقال داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل، فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت، ويعيد الحرب خدعة، فاستأذنه المغيرة أن يأتيه ويتلطف له ثم أتاه وقال: إنّ معاوية بعثني إليك وقد بايعه الحسن ولم يكن هناك غيره، فخذ لنفسك قبل أن يستغني معاوية عنك. قال أشر عليّ والمستشار مؤتمن. فقال: أرى أن تشخص إليه، وتصل حبلك بحبله، وترجع عنه. فكتب إليه معاوية بأمانه. وخرج زياد من فارس نحو معاوية، ومعه المنجاب بن رابد الضبي وحارثة بن بدر الغداني، واعترضه عَبْد الله بن حازم في جماعة وقد بعثه ابن عامر ليأتيه به فلما رأى كتاب الأمان تركه، وقدم على معاوية، فسأله عن أموال فارس، فأخبره بما أنفق وبما حمل إلى علي وبما بقي عنده مودعا للمسلمين، فصدقه معاوية وقبضه منه. ويقال: إنه قال له أخاف أن تكون مكروباً بي فصالحني فصالحه على ألفي ألف درهم بعث بها إليه، واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له. وكان المغيرة يكرمه ويعظمه، وكتب إليه معاوية أن يلزم زياداً وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وسيف بن ربعي وابن الكوا وابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلوات.
( عمّال ابن عامر على الثغور): لمّا وُلّي ابن عامر على البصرة استعمل عَبْد الرحمن بن سمرَة على سجستان، فأتاها وعلى شرطتها عباد بن الحصين، ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر وغيره. وكان أهل البلاد قد كفروا. ففتح أكثرها حتى بلغ كابُل، وحاصرها أشهراً، ونصب عليها المجانيق حتى ثلم سورها، ولم يقدر المشركون على سد الثلمة. وبات عباد بن الحسين عليها يطاعنهم إلى الصبح، ثم خرجوا من الغد للقتال فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوة اهـ . (ثم سار) إلى نسف فملكها عنوة، ثم إلى حسك فصالحه أهلها ثم إلى الرجح فقاتلوه وظفر بهم وفتحها اهـ. ثم إلى زابلستان (وهي غزنة) وأعمالها، ففتحها ثم عاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها اهـ. (واستعمل) على ثغر الهند عَبْد الله بن سوار العبديّ، ويقال بل ولاّه معاوية من قبله فغزا التيعان فأصاب مغنماً ووفد على معاوية وأهدى له من خيولها، ثم عاد إلى غزوهم فاستنجدوا بالترك وقتلوه، وكان كريماً في الغاية. يقال: لم يكن أحد يوقد النار في عسكره، وسأل ذات ليلة عن نار رآها فقيل له خبيص يصنع لنفساء، فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام.( واستعمل) على خراسان قيس بن الهيثم، فتغافل بالخراج والهدنة فولى مكانه عَبْد الله بن حاتم. فخاف قيسا وأقبل، فزاد ابن عامر غضبأ لتضييعه الثغر وبعث مكانه رجلاً من يشكر وقيل أسلم بن زرعة الكِلابي اهـ. ثم بعث عَبْد القه بن حازم، وقيل إنّ ابن حازم قال لابن عامر إنّ قيساً لا ينهض بخراسان، وأخاف إن لقي قيس حرباً أن ينهزم ويفسد خراسان، فاكتب لي عهداً إن عجز عن عدوّ قمت مقامه. فكتب وخرجت خارجة من طخارستان فأشار ابن حازم عليه أن يتأخر حتى يجتمع عليه الناس، فلما سار غير بعيد أخرج ابن حازم عهده، وقام بأمر الناس وهزم العدوّ. وبلغ الخبر إلى الأمصار فغضبت أصحاب قيس، وقالوا خدع صاحبنا، وشكوا إلى معاوية فاستقدمه، فاعتذر فقبل منه، وقال له أقم في الناس بعذرك ففعله اهـ. (وفي سنة) ثلاث وأربعين توفي عمرو بن العاص بمصر فاستعمل معاوية عَبْد الله ابنه.
(عزل ابن عامر): وكان ابن عامر حليماً ليّناً للسفهاء، فطرق البصرة الفساد من ذلك. وقال له زياد جرّد السيف، فقال: لا أصلح الناس بفساد نفسي. ثم بعث وفدا من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة، ومنهم ابن الكوا، وهو عَبْد الله بن أبي أوفى اليشكري. فلما سألهم معاوية عن الأمصار أجابه ابن الكوا بعجز ابن عامر وضعفه، فقال معاوية: تكلم على أهل البصرة وهم حضور، وبلغ ذلك ابن عامر فغضب وولى على خراسان من أعداء ابن الكوا عَبْد الله بن أبي شيخ اليشكري، أو طفيل بن عوف، فسخر منه ابن الكوا لذلك وقال: وددت أنه ولى كل يشكري من أجل عداوتي. ثم إن معاوية استقدم ابن عامر، فقدم
وأقام أياماً فلما ودعّه قال: إني سائلك ثلاثا، قال هن لك، قال ترد علي عملي ولا تغضب، وتهب لي مالك بعرفة ودورك بمكة، قال: قد فعلت. قال وصلتك رحم، فقال ابن عامر وإني سائلك ثلاثاً: ترد علي عملي بعرفة ولا تحاسب لي عاملاً، ولا تتبع لي أثرا وتنكحني ابنتك هندا. قال قد فعلت! ويقال إن معاوية خيره بين أن يرده على اتباع أثره وحسابه بما سار إليه، أو يعزله ويسوغه ما أصاب. فاختار الثالثة فعزله وولى مكانه الحارث بن عَبْد الله الأزدي.
(استخلاف زياد): كانت سُمَيَّةُ أم زياد مولاة للحرث بن كندة الطبيب، وولدت عنده أبا بكرة، ثم زوجها بمولى له، وولدت زياداً. وكان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية. وولدت زياداً هذا ونسبه إلى أبي سفيان وأقر لها به، إلا أنه كان بخفية، ولما شبّ زياد سمت به النجابة. واستكتبه أبو موسى الأشعري وهو على البصرة، واستكفاه عمر في أمر فحسن منار دينه وحضر عنده يعلمه بما صنع، فأبلغ ما شاء في الكلام. فقال عمرو بن العاص -وكان حاضرا- لله هذا الغلام، لو كان أبوه من قُرَيْش لساق العرب بعصاه. قال أبو سفيان وعلي يسمع: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم امه، فقال له علي: اسكت فلو سمع عمر هذا منك كان إليك سريعا. ثم استعمل علي زياداً على فارس فضبطها وكتب إليه معاوية يتهدده، ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه فقام في الناس فقال: عجبا لمعاوية يخوفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين والأنصار. وكتب إليه علي إني وليتك وأنا أراك أهلا وقد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب النفس، لا توجب ميراثا ولا نسباً. ومعاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام اهـ. ولما قتل علي وصالح زياد معاوية، وضع مصقلة بن هبيرة الشيباني على معاوية ليعرض له بنسب أبي سفيان ففعل، ورأى معاوية أن يستميله باستلحاقه، فالتمس الشهادة بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان، فشهد له رجال من أهل البصرة وألحقه، وكان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك وينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة. وكتب زياد إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب ليكون له حجة، فكتبت إليه: من عائشة ام المؤمنين إلى ابنها زياد. وكان عَبْد الله بن عامر يبغض زياداً، وقال يوماً لبعض أصحابه من عَبْد القيس: ابن سمية يقبح آثاري ويعترض عمالي لقد هممت بقسامة من قُرَيْش أن أبا سفيان لم ير سمية. فأخبر زياد. بذلك، فأخبر به معاوية. فأمر حاجبه أن يرده من أقصى الأبواب وشكا ذلك إلى يزيد، فركب معه فأدخله على معاوية، فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيته. فقال يزيد نقعد في انتظاره، فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول، وقال إني لا أتكثر بزياد من قلة، ولا أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حق الله فوضعته موضعه فخرج ابن عامر وترضى زياداً ورضى له معاوية.
(ولاية زياد البصرة)
كان زياد بعد صلح معاوية واستلحاقه نزل الكوفة، وكان يتشوف الإمارة عليها. فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم يعفه. فيقال إنه خرج زياد إلى الشام، ثم إن معاوية عزل الحارث بن عَبْد الله الأزدي عن البصرة وولى عليها زياداً سنة خمس وأربعين. وجمع له خراسان وسجستان. ثم جمع له السند والبحرين وعمان، وقدم البصرة فخطب خطبته البتراء وهي معروفة. وإنما سميت البتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد والثناء، فحذرهم في خطبته ما كانوا عليه من الانهماك في الشهوات والاسترسال فى الفسق والضلال، وانطلاق أيدي السفهاء على الجنايات، وانتهاك الحرم وهم يدنون منهم، فأطال في ذلك. عنفهم ووبخهم وعرفهم ما يجب عليهم من الطاعة، من المناصحة والانقياد للأمة. وقال لكم عندي ثلاث: لا أحتجب عن طالب حاجة، ولو طرقني ليلا. ولا أحبس العطاء عن إباية ولا أحمر البعوث. فلما فرغ من خطبته قال له عَبْد الله بن الأيهم أشهد أنك اوتيت الحكمة وفصل الخطاب. قال كذبت ذاك نبي الله داود. ثم استعمل على شرطته عَبْد الله بن حصين، وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل. وكان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. وكان يأمر بقراءة سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة. ثم يمهل بقدر ما يبلغ الرجل أقصى البصرة. ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحدا إلا قتله، وكان أول من شدد أمر السلطان وشيد الملك، فجرد السيف وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه السفهاء والذّعار، وأمن الناس على أنفسهم ومتاعهم، حتى كان الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه، ولا يغلق أحد بابه، وأدر العطاء واستكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف. وسئل في
إصلاح السابلة فقال: حتى أصلح المصر. فلما ضبطه أصلح ما وراءه، وكان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة فاستعفى، فولى مكانه عَبْد الله بن فضالة الليثي، ثم أخاه عاصماً، ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد، وكان يستعين بأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب. ويقال إن زياداً أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس رابطة، فكان خمسمائة منهم لا يفارقون المسجد. ثم قسم ولاية خراسان على أربعة فولّى على مرو أمين بن أحمد اليشكري، وعلى نيسابور خليد بن عَبْد الله الحنفي وعلى مرو الروذ والعاربات والطالقات قيس بن الهيثم. وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائي. ثم إن نافعا بعث إليه بجواد باهر غنمه في بعض وجوهه، وكانت قوائمه منه، فأخذ منها قائمة وجعل مكانها أخرى ذهبا، وبعث الجواد مع غلامه زيد وكان يتولى اموره، فسعى فيه عند زياد بأمر تلك القائمة، فعزله وحبسه، وأغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتاباً، وقيل ثمانمائة ألف. وشفع فيه رجال من الأزد، فأطلقه. واستعمل مكانه الحكم بن عمرو الغفاري، وجعل معه رجالاً على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابي. وغزا الحكم طخارستان، فغنم غنائم كثيرة. ثم سار سنة سبع وأربعين إلى جبال الغور، وكانوا قد ارتدوا، ففتح وغنم وسبى وعبر النهر في ولايته إلى ما وراءه. فملأه غارة. ولما رجع من غزاة الغور مات بمرو، واستخلف على عمله أنس بن أبي إياس بن ربين، فلم يرضه زياد. وكتب إلى خليد بن عَبْد الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين ألفاً من البصرة والكوفة.
( صوائف الشام)
ودخل المسلمون سنة اثنتين وأربعين إلى بلاد الروم، فهزموهم وقتلوا جماعة من البطارقة، وأثخنوا فيها. ثم دخل بسر بن أرطاة أرضهم سنة ثلاث وأربعين، ومشى بها وبلغ القسطنطينية. ثم دخل عَبْد الرحمن بن خالد وكان على حمص، فشتى بهم وغزاهم بسر تلك السنة في البحر. ثم دخل عَبْد الرحمن إليها سنة ست وأربعين فشتى بها، وشتى أبو عَبْد الرحمن السبيعي على أنْطاكِية. ثم دخلوا سنة ثمان وأربعين، فشتى عَبْد الرحمن بأنْطاكِية أيضاً، ودخل عَبْد الله بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة. وغزاهم مالك بن هبيرة اليشكري في البحر وعقبة بن عامر الجهني في البحر أيضاً بأهل مصر وأهل المدينة. ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع وأربعين فشتى بأرض الروم، ودخل عَبْد الله بن كرز الجيلي بالصائفة، وشتى يزيد بن ثمرة الرهاوي في بلاد الروم بأهل الشام في البحر
وعقبة بن نافع بأهل مصر كذلك. ثم بعث معاوية سنة خمسين جيشا كثيفاً إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف، وندب يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه. ثم بلغ الناس أن الغزاة أصابهم جوع ومرض، وبلغ معاوية أن يزيد أنشد في ذلك
- ما إن أبالي بما لاقت جموعهم بالفدفد البيد من حمى ومن شوم
- إذا اتطأت على الأنماط مرتفقاً بدير مران عندي أم كلثــوم
وهي امرأته بنت عَبْد الله بن عامر، فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير، جمعهم إليه معاوية. فيهم ابن عباس وابن عامر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري، فأوغلوا في بلاد الروم وبلغوا القسطنطينية وقاتلوا الروم عليها. فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريبا من سورها. ورجع يزيد والعساكر إلى الشام ثم شتى فضالة بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى وخمسين وغزا بسر بن أرطأة بالصائفة.
(وفاة المغيرة): توفي المغيرة وهو عامل على الكوفة سنة خمسين بالطاعون، وقيل سنة تسع وأربعين، وقيل سنة إحدى وخمسين، فولى مكانه معاوية زياداً وجمع له المصرين. فسار زياد إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب. فلما وصل الكوفة خطبهم، فحصبوه على المنبر. فلما نزل جلس على كرسي وأحاط أصحابه بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك. ومن لم يحلف حبسه. فبلغوا ثمانين واتخذ المقصورة من يوم حبس. ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء فطلبه، فهرب ثم أخذه فقتله. وقال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط إن عمرو بن الحمق يجتمع إليه شيعة علي، فأرسل إليه زياد ونهاه عن الاجتماع عنده. وقال لا ابيح أحدا حتى يخرج علي، وأكثر سمرة بن جندب اليتامى بالبصرة. يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك عليه زياد اهـ. (كان عمرو بن العاص) قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عَبْد قيس على أفريقية، وهو ابن خالته، انتهى إلى لواتة ومرانة، فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم وقتل وسبي. ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين غذامس. وفي السنة التي بعدها ودّان وكورا من كور السودان، وأثخن في تلك النواحي، وكان له فيها جهاد وفتوح. ثم ولاه معاوية على أفريقية سنة خمسين، وبعث إليه عشرة آلاف فارس، فدخل أفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد، لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا، فإذا رجعوا عنهم ارتدوا. فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها العساكر من البربر، فاختط القيروان وبنى بها المسجد الجامع، وبنى الناس مساكنهم ومساجدهم، وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع، وكملت في خمس سنين وكان يغزو ويبعث السرايا للإغارة والنهب، ودخل أكثر البربر في الإِسلام. واتسعت خطة المسلمين، ورسخ الدين. ثم ولى معاوية على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري، واستعمل على أفريقية مولاه أبا المهاجر، فأساء عزل عقبة واستخف به، فسير ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية، وشكا إليه، فاعتذر له ووعده برده إلى عمله، ثم ولاه يزيد سنة اثنتين وستين. (وذكر) الواقدي أن عقبة ولي أفريقية سنة ست وأربعين، فاختط القيروان، ثم عزله يزيد سنة اثنتين وستين بأبي المهاجر. فحينئذ قبض على عقبة وضيق عليه، فكتب إليه يزيد يبعثه إليه وأعاده والياً على أفريقية، فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعاً كسلة ملك البرانس من البربر كما نذكر بعد.( كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة) كثيرا ماً يتعرض لعلي في مجالسه وخطبه، ويترحم على عثمان ويدعو له. فكان حجر بن عدي إذا سمعه يقول: بلاياكم قد أضل الله ولعن. ثم يقول أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أحق بالذم. فبعث له المغيرة يقول: يا حجر اتق غضب السلطان وسطوته، فإنها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك.
(ولما كان) آخر أمارة المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول، فصاح به حجر ثم قال له: مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا وأصبحت مولعا بذم المؤمنين، وصاح الناس من جوانب المسجد صدق حجر فمر لنا بأرزاقنا، فالذي أنت فيه لا يجدي علينا نفعا. فدخل المغيرة إلى بيته وعذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن سلطانه، ويسخط عليه معاوية. فقال لا احب أن آتي بقتل أحد من أهل المصر. وسيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله. ثم توفي المغيرة وولي زياد. فلما قدم خطب الناس وترحم على عثمان ولعن قاتليه. وقال حجر ما كان يقول، فسكت عنه ورجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي ويعلنون بلعن معاوية والبراءة منهم، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص إلى الكوفة حتى دخلها، ثم خطب الناس وحجر جالس يسمع، فتهدده وقال: لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر، وأودعه نكالاً لمن بعده. ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة، فبعث صاحب الشرطة شداد بن الهيثم الهلالي إليه جماعة، فسبهم أصحابه. فجمع زياد أهل الكوفة وتهددهم فتبرؤوا فقال: ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا، حتى إذا لم يبق معه إلا قومه، قال زياد لصاحب الشرطة: انطلق إليه فأت به طوعاً أو كرهاً. فلما جاء يدعوه امتنع عن الإجابة، فحمل عليهم وأشار إليه أبو العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه، هذا وزياد على المنبر ينتظر. ثم غشيهم أصحاب زياد وضرب عمرو بن الحمق، فسقط ودخل في دور الأزد، فاختفى وخرج حجر من أبواب كندة، فركب ومعه أبو العمرطة إلى دور قومه، واجتمع إليه الناس ولم يأته من كندة إلا قليل. ثم أرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان ليأتوه بحجر، فلما علم أنهم قصدوه تسرب من داره إلى النخع، ونزل على أخي الأشتر. وبلغه أن الشرطة تسأل عنه في النخع. فأتى الأزد واختفى عند ربيعة بن ناجد، وأعياهم طلبه. فدعا حجر محمد بن الأشعث أن يأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجاء محمد ومعه جرير بن عَبْد الله، وحجر بن يزيد وعبد الله بن الحرث أخو الأشتر، فاستأمنوا له زياداً فأجابهم. ثم أحضروا حجرا فحبسه وطلب أصحابه، فخرج عمرو بن الحمق إلى الموصل ومعه زواعة بن شداد، فاختفى في جبل هناك. ورفع أمرهما إلى عامل الموصل وهو عَبْد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية، ويعرف بابن أم الحكم. فسار إليهما وهرب زواعة، وقبض على عمرو، وكتب إلى معاوية بذلك. فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعا بمشاقص كانت معه فأطعنه كذلك فمات في الأولى والثانية. ثم جدّ زياد في طلب أصحاب حجر واتي بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه. وجاء قيس بن عباد الشبلي برجل من قومه من أصحاب حجر، فأحضره زياد وسأله عن علي فأثنى عليه، فضربه وحبسه. وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث. ثم دخل بيته في الكوفة وسعى به إلى الحجاج فقتله. ثم أرسل زياداً إلي عَبْد الله بن خليفة الطائي من أصحاب حجر فتوارى، وجاء الشرط فأخذوه. ونادت أخته الفرار بقومه فخلصوه، فأخذ زياد عدي بن حاتم وهو في المسجد وقال: ائتني بعبد الله وخبره جهرة فقال آتيك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فحبسه، فنكر ذلك الناس وكلموه وقالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبير طيىء قال: أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه وأمر عدي عَبْد الله أن يلحق بجبل طيىء فلم يزل هنالك حتى مات.وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر وغيره
ولما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا رؤوس الأرباع. يومئذ وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة، وكندة وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد. فشهدوا كلهم أن حجراً جمع الجموع، وأظهر شتم معاوية، ودعا إلى حربه. وزعم أن الأمر لا يصلح إلا في الطالبيين. ووثب بالمصر، وأخرج العامل، وأظهر غدر أبي تراب والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن النفر الذين معه وهم رؤوس أصحابه على مقدم رأيه. ثم استكثر زياد من الشهود، فشهد إسحق وموسى إبنا طلحة والمنذر بن الزبير وعمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمر بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم. وفي الشهود شريح بن الحارث وشريح بن هانىء. ثم استدعى زياد وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب ودفع إليهما حجر بن عدي وأصحابه وهم: الأرقم بن عَبْد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فضيل الشيباني، وقبيضة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي وورقاء بن سمي البجلي، وكرام بن حبان العنزي، وعبد الرحمن بن حسّان العنزي، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد الله بن حوية السعدي. ثم أتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر، وسعد بن غوات الهمداني، وأمرهما أن يسيرا إلى معاوية. ثم لحقهما شريح بن هانىء ودفع كتابه إلى معاوية بن وائل ولما انتهوا إلى مرج غدراء قريب دمشق تقدم ابن وائل وكثير إلى معاوية، فقرأ كتاب شريح وفيه: بلغني أن زياداً كتب شهادتي، وأني أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقبله أو فدعه. فقال معاوية: ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس، وسعد بن غوات اللذين ألحقهما زياد بهما. وجاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية فأخبره بوصولهما، فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصماً وورقاء إبني عمه. وقد كتب يزيد يزكيهما ويشهد ببراءتهما، فأطلقهما معاوية. وشفع وائل بن حجر في الأرقم، وأبو الأعور السلمي في ابن الأخنس، وحبيب بن سلمة في أخويه فتركهم. وسأله مالك بن هبيرة السكوني في حجرفرده. فغضب وحبس في بيته. وبعث معاوية هدبة بن فياض القضافي، والحسين بن عَبْد الله الكلابي، وأبا شريف البدري إلى حجر وأصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله، فأتوهم وعرض عليهم البراءة من عليّ، فأبوا وصلوا عامة ليلتهم. ثم قدموا من الغد للقتل. وتوضأ حجر وصلى وقال: لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت منها. اللهم إنا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة، يشهدون علينا، وأهل الشام يقتلوننا. ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف، فارتعد. فقالوا كيف وأنت زعمت أنك لا تجزع من الموت؟ فابرأ من صاحبك وندعك. فقال وما لي لا أجزع وأنا بين القبر والكفن، والسيف. وإن جزعت من الموت لا أقول ما يسخط الرب فقتلوه وقتلوا ستة معه وهم: شيريك بن شداد، وصيفي بن فضيل، وقبيصة بن حنيفة، ومحرز بن شهاب، وكرام بن حبان ودفنوهم وصلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسان العنزي وجيء بكريم بن الخثعمي إلى معاوية فطلب منه البراءة من عليّ فسكت، واستوهبه سمرة بن عَبْد الله الخثعمي من معاوية فوهبه له، على أن لا يدخل الكوفة، فنزل إلى الموصل. ثم سأل عَبْد الرحمن بن حسان عن عليّ فأثنى خيراً. ثم عن عثمان فقال: أول من فتح باب الظلم، وأغلق باب الحق. فرده إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه حياً وهو سابع القوم. وأمَّا مالك بن هبيرة السكوني فلما لم يشفعه معاوية في حجر، جمع قومه وسار ليخلصه وأصحابه، فلقي القتلة وسألهم، فقالوا: مات القوم. وسار إلى عدي فتيقن قتلهم فأرسل في أثر القتلة فلم يدركوهم، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمائة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه. ولما بلغ عائشة خبر حجر وأصحابه، أرسلت عَبْد الرحمن بن الحارث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء وقد قتلوا. فقال لمعاوية أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال حيث غاب علي مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت. وأسفت عائشة لقتل حجر وكانت تثني عليه. وقيل في سياقة الحديث غير ذلك. وهو أن زياداً أطال الخطبة في يوم جمعة، فتأخرت الصلاة، فأنكر حجر ونادى بالصلاة فلم يلتفت إليه. وخشي فوت الصلاة فحصبه بكف من الحصباء، وقام إلى
الصلاة فقام الناس معه، فخافهم زياد ونزل فصلى. وكتب إلى معاوية وعظم عليه الأمر، فكتب إليه أن يبعث به موثقاً في الحديد. وبعث من يقبض عليه، فكان ما مر. ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية، فلما رآه معاوية أمر بقتله، فصلى ركعتين وأوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيداً ولا تغسلوا دماً فإني لاق معاوية غداً على الجادة وقتل 1هـ. وقالت عائشة لمعاوية أين حلمك عن حجر؟ قال: لم يحضرني رشيد 1هـ. وكان زياد قد ولى الربيع بين زياد الحارثي على خراسان سنة إحدى وخمسين، بعد أن هلك حسن بن عمر الغفاري وبعث معه من جند الكوفة والبصرة خمسين ألفاً، فيهم بريدة بن الحصيب، وأبو برزة الأسلمي من الصحابة، وغزا بلخ ففتحها صلحاً، وكانوا انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس. ثم فتح قهستان عنوة واستلحم من كان بناحيتها من الترك، ولم يفلت منهم إلا قيزل طرخان. وقتله قتيبة بن مسلم في ولايته. فلما بلغ الربيح بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك وقال: لا تزال العرب تقتل بعده صبراً. ولو نكروا قتله منعوا أنفسهم من ذلك، لكنهم أقروا فذلوا. ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره، وقال للناس إني قد مللت الحياة، وإنى داع فأمنوا ثم رفع يديه وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمّن الناس . ثم خرج فما تواترت ثيابه حتى سقط، فحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عَبْد الله ومات من يومه. ثم مات ابنه بعد شهرين، واستخلف خليذ بن عَبْد الله الحنفي وأقره زياد. (وفاة زياد): ثم مات زياد في رمضان سنة ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه، يقال بدعوة ابن عمر، وذلك أن زياداً كتب إلى معاوية أني ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة فأشغلها بالحجاز، فكتب له عهده بذلك، وخاف أهل الحجاز وأتوا عَبْد الله بن عمريدعو لهم الله أن يكفيهم ذلك. فاستقبل القبلة ودعا معهم وكان من دعائه اللهم اكفناه، ثم كان الطاعون فأصيب فى يمينه، فأشير عليه بقطعها، فاستدعى شريحاً القاضي فاستشاره، فقال إن يكن الأجل فرغ فتلقى الله أجذم كراهية في لقائه، وإلا لتعيش أقطع، ويعير ولدك. فقال لا أبيت والطاعون في لحاف واحد، واعتزم على قطعها- فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه، وقيل تركه لإشارة شريح. وعذل الناس شريحاً في ذلك فقال المستشار مؤتمن. ولما حضرته الوفاة قال له ابنه قد هيأت لكفنك ستين ثوباً. فقال يا بني قد دنا لأبيك لباس خيرمن لباسه. ثم مات ودفن بالتوسة قرب الكوفه، وكان يلبس القميص ويرقعه. ولما مات استخلف على الكوفة عَبْد الله بن خالد بن أُسيد، وكان خليفته على البصرة عَبْد الله بن عمر بن غيلان، وعزل بعد ذلك عَبْد الله بن خالد عن الكوفة وولى عليها الضحاك بن قيس.
ولاية عبيد الله بن زياد علي خراسان ثم علي البصرة:
ولما قدم إبنه عبيد الله على معاوية، وهو ابن خمس وعشرين سنة قال : من استعمل أبوك على المصرين؟ فأخبره فقال: لو استعملك لاستعملتك. فقال عبيد الله:
أنشدك الله أن يقول لي أحد بعدك، لو استعملك أبوك وعمك استعملتك. فولاه خراسان ووصاه فكان من وصيته: اتق الله ولا تؤثرن على تقواه شيئاً، فإن في تقواه عوضاً وقِ عرضك من أن تدنسه، وإن أعطيت عهداً فأوف به، ولا تتبعن كثيراً بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك. وإذا لقيت عدوك فكبّر أكبر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطعمن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق هو له. ثم ودعه فسار إلى خراسان أول سنة أربع وخمسين، وقدم إليها أسلم بن زرعة الكلإبي، ثم قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، ففتح رامين، ونسف وسكند. ولقيه الترك فهزمهم، وكان مع ملكهم امرأته خاتون، فأعجلوها عن لبس خفيها، فأصاب المسلمون أحدهما وقوّم بمائتي ألف درهم. وكان عبيد الله ذلك اليوم يحمل عليهم، وهو يطعن حتى يغيب عن أصحابه، ثم يرفع رايته تقطر دماً. وكان هذ الزحف من زحوف خراسان المعدودة، وكانت أربعة منها للأحنف بن قيس بقهستان والمرعات. وزحف لعبد الله بن حازم، قضى فيه جموع فاران. وأقام عبيد الله والياً على خراسان سنتين، وولاه معاوية سنة خمس وخمسين على البصرة. وذلك أن ابن غيلان خطب وهو أمير على البصرة. فحصبه رجل من بني ضبّة فقطع يده فأتاه بنو ضبّة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار
عنه، وأنه قطع على أمر لم يصح، مخافة أن يعاقبهم معاوية جميعاً. فكتب لهم وسار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة، وأوفاه الضبّيّون بالكتاب، فادعوا أن ابن غيلان قطع صاحبهم ظلماً. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: أمَّا القود من عمّالي فلا سبيل إليه، ولكن أدي صاحبكم من بيت المال. وعزل عَبْد الله بن غيلان عن البصرة، واستعمل عليها عبيد الله بن زياد، فسار إليها عبيد الله، وولى على خراسان أسلم بن زرعة الكلابى فلم يغز ولم يفتح.
العهد ليزيد
ذكر الطبري بسنده قال: قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف، فاستعفاه فأعفاه وأراد أن يولي سعيد بن العاص. وقال أصحاب المغيرة للمغيرة: إن معاوية قلاك، ففال لهم رويداً، ونهض إلى يزيد وعرض له بالبيعة. وقال ذهب أعيان الصحابة وكبراء قُرَيْش ورادوا أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وسياسةً، وما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العهد لك. فأدى ذلك يزيد إلى أبيه واستدعاه وفاوضه في ذلك. فقال قد رأيت ما كان من الاختلاف وسفك الدماء بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف، فاعهد له يكون كهفاً للناس بعدك، فلا تكون فتنة ولا يسفك دم. وأنا أكفيك الكوفة، ويكفيك ابن زياد البصرة. فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة وأمره أن يعمل في بيعة يزيد. فقدم الكوفة وذاكر من يرجع إليه من شيعة بني أُمَيَّة فأجابوه، وأوفد منهم جماعة مع ابنه موسى فدعاه إلى عقد البيعة ليزيد. فقال: أو قد رضيتموه؟ قالوا: نعم ! نحن ومن وراءنا. فقال ننظر ما قدمتم له ويقضي الله أمره، والأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره بفكر. وكف عن هدم دار سعيد. وكتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الضغينة بين قرابته، ويقول لو لم نكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم، يجب عليك أن تدعي ذلك، فاعتذر له معاوية وتنصل. وقدم سعيد عليه وسأله عن مروان فأثنى خيراً، فلما كان سنة سبع وخمسين عزل مروان وولى مكانه الوليد بن عتية بن أبي سفيان وقيل سنة ثمان وخمسين.
عزل الضحاك عن الكوفة وولاية ابن أم الحكم ثم النعمان بن بشير: عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان وخمسين، وولى مكانه عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن عثمان الثقفي، وهو ابن ام الحكم اخت معاوية، فخرجت عليه الخوارج الذين كان المفيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة، وخرجوا من سجنه بعد موته. فاجتمعوا على حيان بن ظبيان السلميئ، ومعاذ بن جرير الطائي، فسير إليهم عَبْد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما يذكر في أخبار الخوارج. ثم إن أهل الكوفة نقلوا عن عَبْد الرحمن سؤ سيرته، فعزله معاوية عنهم. وولّى مكانه النعمان بن بشير. وقال: اوليك خيرا من الكوفة، فولاه مصر، وكان عليها معاوية بن خديج السكوني وسار إلى مصرفاستقبله معاوية على مرحلتين منها، وقال ارجع إلى حالك لا تسر فينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة، فرجع إلى معاوية وأقام معاوية بن خديج فى عمله.
(ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان)
وفي سنة تسع وخمسين قدم عَبْد الرحمن بن زياد وافدا على معاوية، فقال يا أمير المؤمنين أمَّا لنا حق؟ قال: بلى، فماذا قال توليني؟ قال بالكوفة النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله ، بالبصرة وخراسان عبيد الله أخوك، وبسجستان عبّاد أخوك. ولا أرى ما بشبهك إلا أن اشركك في عمل عبيد الله، فإن عمله واسع يحتمل الشركة. فولاه خراسان، فسار إليها وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمى، فأخذ أسلم بن زرعة وحبسه. ئم قدم عَبْد الرحمن فأغرمه ثلاثمائه ألف درهم. وأقام بخراسان وكان متضعفا لم يقرقط. وقدم على يزيد بين يدي قتل الحسين، فاستخلف على خراسان قيس بن الهيثم. فقال له يزيد: كم معك من مالى خراسان؟ قال عشرون ألف ألف درهم. فخيره بين أخذها بالحساب ورده إلى عمله، أو تسويغه إياها وعزله، على أن يعطي عَبْد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، فاختار تسويغها والعزل. وبعث إلى ابن جعفر بألف ألف وقال نصفها من يزيد ونصفها مني. ثم إن أهل البصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على منازلهم، ودخل الأحنف آخرهم وكان هيأ المنزلة من عبيد الله، فرحب به معاوية وأجلسه معه على سريره. ثم تكلم القوم وأثنوا على عبيد الله وسكت الأحنف، فقال معاوية: تكلم يا أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم، فقال انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله، واطلبوا واليا ترضونه، فطفق القوم يختلفون إلى رجال بني أُمَيَّة وأشراف الشام، وقعد الأحنف في منزله ثم أحضرهم معاوية، وقال من اخترتم فسمى كل فريق رجلاً والأحنف ساكت. فقال معاوية تكلم يا أبا بحر فقال: إن وليت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن وليت من غيرهم ينظر في ذلك. قال فإني قد أعدته عليكم، ثم أوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته. ولما هاجت الفتنة لم بعزله غير الأحنف، ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم. ( بقية الصوائف): دخل بسر بن أرطاة سنة اثنتين وخمسين أرض الروم وشتى بها، وقيل رجع ونزل هناك سفيان بن عوف الأزدي فشتى بها وتوفي هنالك اهـ. وغزا بالصائفة محمد بن عَبْد الله الثقفي، ثم دخل عَبْد الرحمن بن ام الحكم سنة ثلاث وخمسين إلى أرض الروم وشتى بها، وافتتحت في هذه السنة رودس، فتحها جنادة بن أبي أُمَيَّة الأزدي ونزلها المسلمون على حذر من الروم، ثم كانوا يعترضونه في البحر
ويأخذون سفنه، وكان معاوية يدركهم بالعطاء حتى خافهم الروم، ثم نقلهم يزيد في ولايته. ثم دخل سنة أربع وخمسين إلى بلاد الروم محمد بن مالك وشتى بها وغزا بالصائفة ، ابن يزيد السلمي، وفتح المسلمون جزيرة اروى القسطنطينية ومقدمهم جنادة بن أبي أُمَيَّة، فملكوها سبع سنين، ونقلهم يزيد في ولايته. وفي سنة خمس وخمسين كان شتى سفيان بن عوف بأرض الروم، وقيل عمر بن محرز، وقيل عَبْد الله بن قيس. وفي سنة ست وخمسين كان شتى جنادة بن أبي أُمَيَّة، وقيل عَبْد الرحمن بن مسعود، وقيل غزا في البحر يزيد بن سمرة. وفي البرعياض بن الحارث. وفي سنة سبع وخمسين كان شتى عَبْد الله بن قيس بأرض الروم. وغزا مالك بن عَبْد الله الخثعمي في البر، وعمر بن يزيد الجهني في البحر. وفي سنة ثمان وخمسين كان شتي عمر بن مرة الجهني بأرض الروم، وغزا في البحر جنادة بن أُمَيَّة. وفتح المسلمون في هذه السنة حصن كفخ من بلاد الروم، وعليهم عمير بن الحباب السلمي صعد سورها وقاتل عليه وحده، حتى انكشف الروم وفتحه. وفي سنة ستين غزا مالك بن عَبْد الله سورية، وملك جنادة بن أبي أُمَيَّة رودس وهدم مدينتها.
( وفاة معاوية): وتوفي معاوية سنة ستين، وكان خطب الناس قبل موته وقال: إني كزرع مستحصد، وقد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أن من كان قبلي خير مني. وقد قيل من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي. فلم يمض إلا قليل حتى ازداد به مرضه، فدعا ابنه يزيد وقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأُمور، وأخضعت لك رقاب العرب. وجمعت لك ما لم يجمعه أحد. وإني لا أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي انتسب لك إلا أربعة نفر من قُرَيْش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر. فأما ابن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق غيره بايعك. وأمَّا الحسين فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ما مثله وحقاَ
عظيما. وأمَّا ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ولير له همة إلا في النساء. وأمَّا الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وشب، فذاك ابن الزبير. فإن هو فعلها بك وقدرت عليه فقطعه إربا إربا. هذا حديث الطبري عن هاشم وله عن هاشم من طريق آخر قال: لمّا حضرت وفاة معاوية سنة ستين كان يزيد غائبا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري، وكان صاحب شرطته، ومسلم بن عتبة المزني فقال: أبلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنهم أهلك فأكرم من قدم إليك منهم وتعاهد من غاب. وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف. وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإن رابك شئ من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن قاموا بغمر بلادهم تغيرت أخلاقهم. ولست أخاف عليك من قُرَيْش إلا ثلاثا، ولم يذكر في هذا الطريق عَبْد الرحمن بن أبي بكر. وقال في ابن عمر قد وقذه الدين فليس ملتمسا شيئا قبلك. وقال في الحسين ولو أني صاحبه عفوت عنه، وأنا أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه. وقال في ابن الزبير إذا شخص إليك فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحا فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت. ( وتوفي في منتصف رجب) ويقال في جمادى لتسع عشرة سنة وأشهر من ولايته وكان على خاتمه عَبْد الله بن محصن الحميري وهو أول من اتخذ ديوان الخاتم، وكان سببه أنه أمر لعمر بن الزبير بمائة ألف درهم، وكتب له بذلك إلى زياد بالعراق، ففضى عمر الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، وأخذ عمر بردها وحبسه فاداها عنه أخوه عبد الله. فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم، وحزم الكتب ولم تكن تحزم. وكان على شرطته قيس بن همزة الهمداني، فعزله ابن بيد بن عمر العدوي، وكان على حرسه المختار من مواليه. وقيل أبو المحاري مالك مولى حميرة، وهو أول من اتخذ المحرس. وعلى حجابه مولاه سعد، وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي، وعلى القضاء فضالة بن عَبْد الله الأنصاري، وبعده أبو دويس عائد بن عَبْد الله الخولاني.
(بيعة يزيد )
بويع يزيد بعد موت أبيه، وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عمر ابن سعيد بن العاص، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير. ولم يكن همه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد بموت معاوية، وأن يأخذ حسينأ وابن عمر وابن الزبير بالبيعة من غير رخصة. فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية، استرجع وترحم، واستشاره الوليد في أمر اولئك النفر، فأشار عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا وإلا قتلتهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فيثب كل رجل منهم في ناحية، إلا ابن عمر فإنه لا يحب القتال، ولا يحب الولاية، إلا أن يرفع إليه الأمر. فبعث الوليد لوقته عَبْد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث، فجاء إلى الحسين وابن الزبير في المسجد، في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس. وقال أجيبا الأمير. فقالا: لا تنصرف إلا أن نأتيه، ثم حدثا فيما بعث إليهما، فلم يعلموا ما وقع. وجمع الحسين فتيانه وأهل بيته وسار إليهم فأجلسهم بالباب، وقال إن دعوتكم أو سمعتم صوتي عالياً فادخلوا بأجمعكم. ثم دخل فسلم ومروان عنده فشكرهما على الصلة بعد القطيعه، ودعا لهما بإصلاح ذات البين. فأقرأه الوليد الكتاب بنعي معاوية، ودعاه إلى البيعة، فاسترجع وترحم وقال: مثلي لا يبايع سرا ولا يكتفي بثا مني، فإذا ظهرت إلى الناس ودعوتهم كان أمرنا واحدا وكنت أول مجيب. فاقال الوليد: وكان يحب المسالمة، انصرف. فقال مروان: لا يقدر منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينهم،أ لزمه البيعة وإلا اضرب عنقه. فوثب الحسين وقال: أنت تقتلني أو هو كذبت والله وانصرف إلى منزله. وأخذ مروان في عذل الوليد. فقال يا مروان والله ما احب أن لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت الحسين أن قال لا أبايع. وأمَّا ابن الزبير فاختفى في داره وجمح أصحابه، وألح الوليد في طلبه، وبعث مواليه فشتموه وهددوه، وأقاموا ببابه في طلبه فبعث ابن الزبير أخاه جعفرا يلاطف الوليد ويشكو ما أصابه من الذعر، ويعده بالحضور من الغداة، وأن يصرف رسله من بابه فبعث إليهم وانصرفوا، وخرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما، وأخذا طريق الفرع إلى مكة، فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه، ورجعوا وتشاغلوا بذلك عن الحسين سائر يومه. ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال : أصبحوا وترون وفري. وسار في الليلة الثانية ببنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية، وكان قد نصحه وقال تنحّ عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث دعاتك إلى الناس، فإن أجابوك فاحمد الله، وإن اجتمعوا على غيرك فلم يضر بذلك دينك ولا عقلك ولم تذهب به مروءتك ولا فضلك. وأنا أخاف أن تأتي مصراً أو قوماً فيختلفون عليك، فتكون الأول إساءة، فإذا خير الأمة نفساً وأباً أضيعها ذماراً وأذلها. قال له الحسين: فإني ذاهب. قال انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن فاتت بك لحقت بالرمال وشعب الجبال، ومن بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس، وتعرف الرأي. فقال يا أخي نصحت وأشفقت ولحق بمكة. وبعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع فقال: أنا أبايع أمام الناس، وقيل ابن عمر وابن عباس كانا بمكة، ورجعا إلى المدينة فلقيا الحسين وابن الزبير وأخبراهما بموت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر: لا تفرقا جماعة المسلمين، وقدم هو وابن عباس المدينة وبايعا عنه بيعة الناس. ولما دخل ابن الزبير مكة وعليها عمرو بن سعيد قال: أنا عائد بالبيت، ولم يكن يصلي ولا يقف معهم ويقف هو وأصحابه ناحية.
عزل الوليد عن المدينة وولاية عمرو بن سعيد:
ولما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر، عزله عن المدينة واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق، فقدمها في رمضان، واستعمل على شرطته عمر بن الزبير بالمدينة، لمّا كان بينه وبين أخيه من البغضاء، وأحضر نفرا من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد، وعبد الرحمن بن الأسود بن عَبْد يغوث، وعثمان بن عَبْد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم. ثم جهز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها. وقال لعمر بن الزبير: من نبعث إلى أخيك؟ ة فقال لا تجد رجلاً أنكى له مني. فجهز معه سبعمائة مقاتل فيهم انس بن عمير الأسلمي. وعذله مروان بن الحكم في غزو مكة، وقال له: اتق الله ولا تحل حرمة البيت. فقال: والله لنغزونه في جوف الكعبة. وجاء أبو شريح الخزاعي إلى عمروبن سعيد فقال: سمعت رسول الله يقول: "إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس ". فقال له عمرو: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ. وقيل: إن يزيد كتب إلى عمروبن سعيد أن يبعث عمربن الزبير بالجيش إلى أخيه، فبعثه في ألفي مقاتل وعلى مقدمته أنيس. فنزل أنيس بذي طوى ونزل عمر بالأبطح، وبعث إلى أخيه أن بر يمين يزيد، فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلا أن يؤتى بك في جامعه، فلا يضرب الناس بعضهم بعضا، فإنك في بلد حرام. فأرسل عَبْد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عَبْد الله بن صَفْوان، فهزموا أنيساً بذي طوى، وقتل أنيس في الهزيمة وتخفف عن عمر بن الزبير أصحابه، فدخل دار ابن علقمة وأجاره عبدة بن الزبير. وقال لأخيه قد أجرته، فأنكر ذلك عليه. وقيل: إن صَفْوان قال لعبد الله بن الزبير اكفني أخاك، وأنا أكفيك أنيس بن عمر، وسار إلى أنيس فهزمه وقتله. وسار مصعب بن عَبْد الرحمن إلى عمر فتفرق عنه أصحابه، وأجاره أخوه عبدة، فلم يجز أخوه عَبْد الله جواره وضربه بكل من ضربه بالمدينة، وحبسه بسجن عارم ومات تحت السياط.
مسير الحسين إلى الكوفة ومقتله:
ولما خرج الحسين إلى مكة لقيه عَبْد الله بن مطيع وسأله أين تريد؟ فقال مكة ! وأستخير الله فيما بعد، فنصحه أن لا يقرب الكوفة، وذكره قتلهم أباه وخذلانهم أخاه، وأن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس. ورجع عنه وترك الحسين بمكة فأقام والناس يختلفون إليه، وابن الزبير في جانب الكعبة يصلي ويطوف عامة النهار، ويأتي الحسين فيمن يأتي، ويعلم أن أهل الحجاز لا يلقون إليه مع الحسين. ولما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد ولحاق الحسين بمكة، اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، وكتبوا إليه عن نفر منهم سليمان والمسيب بن محمد، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وغيرهم يستدعونه وأنهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعة ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه. وبعثوا بالكتاب مع عَبْد الله بن سبع الهمداني، وعبد الله بن وال. ثم كتبوا إليه ثانياً بعد ليلتين نحو مائة وخمسين صحيفة، ثم ثالثأ يستحثونه للحاق بهم. كتب له بذلك شيث بن ربعي وحجاز بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي. فأجابهم الحسين: فهمت ما قصصتم وقد بعثت إليكم ابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، يكتب إليّ بأمركم ورأيكم فإن اجتمع ملؤكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم عليكم قريباً. ولعمري ما الإمام إلى العامل بالكتاب، القائم بالقسط، يدين بدين الحق. وسار مسلم فدخل المدينة وصلى في المسجد، وودع أهله واستأجر دليلين من قيس فضلا الطريق، وعطش القوم فمات الدليلان بعد أن أشارا إليهم بموضع الماء، فانتهوا إليه وشربوا ونجوا. فتطير مسلم من ذلك، وكتب إلى الحسين يستعفيه. فكتب إليه: خشيت أن لا يكون حملك على ذلك إلا الجبن، فامض لوجهك والسلام. وسار مسلم فدخل الكوفة أول ذي الحجة من سنة ستين، واختلف إليه الشيعة وقرأ عليهم كتاب الحسين، فبكوا ووعدوه النصر. وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة، وكان حليما يجنح إلى المسالمة، فخطب وحذر الناس الفتنة. وقال: لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا آخذ بالظنة والتهمة، ولكن إن نكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فوالله لأضربنكم بسيفي ما دام قائمته بيدي، ولو لم يكن لي ناصر. فقال له بعض حلفاء بني أُمَيَّة: لا يصلح ما ترى إلا الغشم، وهذا الذي أنت عليه مع عدوك رأي المستضعفين. فقال: أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله، ثم تركه. فكتب عَبْد الله بن مسلم وعمارة بن الوليد وعمارة بن سعد بن أبي وقاص إلى يزيد بالخبر، وتضعف النعمان وضعفه فابعث إلى الكوفة رجلا قوياً ينفذ أمرك ويعمل عملك في عدوك فأشار عليه سرجون.
مسيرة المختار إلى الكوفة وأخذها من ابن المطيع بعد وقعة كربلاء:
مضى إبراهيم إلى المختار وأخبره الخبر، وبعثوا في الشيعة ونادوا بثأر الحسين، ومضى إبراهيم إلى النخع فاستركبهم وسار بهم في المدينة ليلأ، وهويتجنب المواضع التي فيها الأمراء. ثم لقي بعضهم فهزمهم، ثم آخرين كذلك، ثم رجع إلى المختار فوجد شبث بن ربعي وحجاز بن أبجر العجلي يقاتلانه فهزمهما، وحاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس والنهوض إلى القوم قبل. فولى أمرهم فركب واجتمع الناس وتوافى إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة، وبعث ابن مطيع شبث بن ربعي في ثلاثة آلاف، وربع بن إياس في أربعة آلاف. فسرح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس وستمائه راجل، ونعيم بن هبيرة لشبث في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل، واقتتلوا من بعد صلاة الصبح. وقتل نعيم فوهن المختار لقتله، وظهر شبث وأصحابه عليهم. وقاتل إبراهيم بن الأشتر راشد بن إياس فقتله، وانهزم أصحابه وركبهم الفشل. وبعث ابن المطيع جيشاً كثيفاً فهزمهم، ثم حمل على شبث فهزمه، وبعث المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة. ورجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش، فشجعه عمر بن الحجاج الزبيدي، وقال له اخرج واندب الناص ففعل. وقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم، وندبهم. ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين وشمر بن ذي الجوشن في ألفين، ونوفل بن مساحق في خمسة آلاف. ووقف هو بكتائبه. واختلف على القصر شبث بن ربعي، فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه وأسره، ثم من عليه. ودخل ابن مطيع القصر وحاصره إبراهيم بن الأشتر ثلاثاً ومعه يزيد بن أنس وأحمد بن شميط، ولما اشتد الحصار على ابن مطيع، أشار عليه شيث بن ربعي بأن يستأمن للمختار، ويلحق بابن الزبير وله ما يعده. فخرج عنهم مساء ونزل دار أبي موسى. واستأمن القوم للمختار، فدخل القصر وغدا على الناس في المسجد فخطبهم، ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية، فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب والسنة، واللطف بأهل البيت، ووعدهم بحسن السيرة. وبلغه أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال يجهز بهذه. وكان ابن مطيع قد فرق بيوت الأموال على الناس، وسار ابن مطيع إلى وجهه وملك الكوفة، وجعل على شرطته عَبْد الله بن كامل، وعلى حرسه يهسان أبا عمرة، وجعل الأشراف جلساءه، وعقد لعبد الله بن الحارث بن الأشتر على أرمينية، ولمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، ولعبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، ولإسحق بن مسعود على المدائن، ولسعد بن خذيفة بن اليمان على حلوان. وأمره بقتال الأكراد وإصلاح السابلة. وولى شريحا على القضاء. ثم طعنت فيه الشيعة، بأنه شهد على حجر بن عدي، ولم يبلغ عن هانىء بن عروة رسالته إلى قومه، وأن علياًّ غرمه، وأنه عثماني. وسمع ذلك هو فتمارض، فجعل مكانه عَبْد الله بن عتبة بن مسعود، ثم مرض فولى مكانه عَبْد الله بن مالك الطائي.
مسيرة ابن زياد إلى المختار وخلافة أهل الكوفة عليه:
كان مروان بن الحكم لمّا استوثق له الشام، بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز مع جيش بن دلجة القينيئ وقد شاتة ومقتلة، والاخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد، فكان من أمره وأمر التوابين من الشيعة ما تقدم. وأقام محاصراً لزفر بن الحارث بقرقيسيا، وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير، فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها. ثم توفي مروان وولى بعده عَبْد الملك، فأقره على ولايته وأمره بالجد. ويئس من أمر زفر وقيس، فنهض إلى الموصل، فخرج عنها عَبْد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت. وكتب إلى المختار بالخبر، فبعث يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة آلاف إلى الموصل، فسار إليها على المدائن، وسرح ابن زياد للقائه ربيعة بن المختار الغنوي في ثلاثة آلاف، فالتقيا ببابل. وعبى يزيد أصحابه وهو راكب على حمار وحرضهم. وقال إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، وإن هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري، وإن هلك فسعد الخثعمي. ثم اقتتلوا يوم عرفة وانهزم أهل الشام وقتل ربيعة، وسار الفل غير بعيد، فلقيهم عَبْد الله بن حملة الخثعمي قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف، فرد المنهزمين وعاد القتال يوم الأضحى، فانهزم أهل الشام، وأثخن فيهم أهل الكوفة بالقتل والنهب، وأسروا منهم ثلاثمائة فقتلوهم. وهلك يزيد بن أنس من آخر يومه، وقام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفته، وهاب لقاء ابن زياد بعد يزيد وقال: نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك. وانصرف الناس وتقدم الخبر إلى الكوفة، فأرجف الناس بالمختار، واشيع أن يزيد قتل. وسر المختار رجوع العسكر، فسرح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف، وضم إليه جيش يزيد، ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك. ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شيث بن ربعي وكان شيخهم جاهليا إِسلاميا، وشكوا من سيرة المختار وإيثاره الموالي عليهم، ودعوه إلى الوثوب به. فقال حتى ألقاه وأعذر إليه، ثم ذهب إليه وذكر له جميع ما نكروه، فوعده
الرجوع إلى مرادهم، وذكر له شأن الموالي وشركتهم في الفيء. فقال: إن أعطيتموني عهدكم على قتال بني أُمَيَّة وابن الزبير تركتهم. فقال اخرج إليهم بذلك، وخرج فلم يرجع. واجتمع رأيهم على قتاله، وهم شبث بن ربعي، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعد بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن، وكعب بن أبي كعب النخعي، وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي. وقد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشام وأهل البصرة، فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم وشجعانكم وهم عليكم أشد، فأبوا من رأيه وقالوا لا تفسد جماعاً.
ثم خرجوا وشهروا السلاح، وقالوا للمختار- اعتزلنا فإن ابن الحنفية لم يبعثك. قال نبعث إليه الرسل مني ومنكم، وأخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات، وكف أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر، وقد بعث إليه بالرجوع. فجاء فرأى القوم مجتمعين، ورفاعة بن شذاد البجلي يصلي بهم. فلما وصل إبراهيم عبأ المختار أصحابه، وسرح بين يديه أحمد بن شميط البجيلي، وعبد الله بن كامل الشادي، فانهزم أصحابهما وصبراً، ومدهما المختار بالفرسان والرجال فوجاً بعد فوج، وسار ابن الأشتر إلى مصر وفيهم شيث بن ربعي فقاتلوه فهزمهم، فاشتد ابن كامل على اليمن، ورجع رفاعة بن شداد أمامهم إلى المختار، فقاتل معه حتى قتل من أهل اليمن عَبْد الله بن سعيد بن قيس، والفرات بن زحر بن قيس، وعمر بن مخنف. وخرج أخوه عَبْد الرحمن فمات، وانهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة، وأسر من الوادعيين خمسمائة أسير، فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين منهم، فكانوا نصفهم وأطلق الباقين. ونادى المختار الأمان، إلا من شهد في دماء أهل البيت وفر عمر بن الحجاج الزبيدي، وكان أشد من حضر قتل الحسين، فلم يوقف له على خبر. وقيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا رأسه، وبعث في طلب شمر بن ذي الجوشن، فقتل طالبه وانتهى إلى قرية الكلبانية، فارتاح يظن أنه نجا... وإذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار، بعثه مسلحة بينه وبين أهل البصرة، فنمي إليه خبره فركب إليه فقتله وألقى شلوه للكلاب.
وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً أكثرهم من اليمن، وكان آخر سنة ست وستين، وخرج أشراف الناس إلى البصرة، وتتبع المختا ر قتلة الحسين ودل على عبيد الله بن أسد الجهني، ومالك بن نسير الكندي. وحمل ابن مالك المحاربي بالقادسية فأحضرهم وقتلهم. ثم أحضر زياد بن مالك الضبعى، وعمران بن خالد العثري وعبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي، وعبد الله بن قيس الخولاني، وكانوا نهبوا من الورث الذي كان مع الحسين فقتلهم. وأحضر عَبْد الله أو عَبْد الرحمن بن طلحة وعبدالله بن وهيب الهمداني ابن عم الأعشى فقتلهم. وأحضرعثمان بن خالد الجهنيئ وأ با أسماء بشربن سميط القابسي، وكانا مشتركين في قتل عَبْد الرحمن ابن عقيل وفي سلبه، فقتلهما وحرقهما بالنار.
وبحث عن خولي بن يزيد الأصبحي صاحب رأس الحسين، فجيء برأسه وحرق بالنار. ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه عَبْد الله بن أبي جعدة بن هبيرة، فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه وابنه حفص عنده. فقال تعرف هذا؟ قال: نعم ! ولا خير في العيش بعده فقتله. ولقال: إن الذي بعث المختار على قتلة الحسين، أن يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية، فقال له ابن الحنفية: يزعم المختار أن لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه، فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل، وبعث برأس عمرو ابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه أنه قتل من قدر عليه وهو في طلب الباقين. ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي، وكان رمى الحسين بسهم، وأصاب سلب العباس ابنه. وجاء عدي بن حاتم يشفع فيه، فقتله ابن كامل والشيعة قبل أن يصل حذرأ من قبول المختار شفاعته. وبحث عن مرة بن منقذ بن عَبْد القيس قاتل علي بن الحسين، فدافع عن نفسه ونجا إلى مصعب بن الزبير، وقد شقت يده بضربة. وبحث عن زيد وفاد الحسين قاتل عَبْد الله بن مسلم بن عقيل، رماه بسهمين وقد وضع كفه على جبهته يتقي النبل، فأثبت كفه في جبهته وقتله بالأخرى، فخرج بالسيف يدافع. فقال ابن كامل ارموه بالحجارة، فرموه حتى سقط وأحرقوه حيا. وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فلحى بالبصرة. وطلب عمر بن صبح الصدائي فقتله طعنا بالرماح، وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية فهرب إلى مصعب وهدم المختار داره. وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين، فلحقوا بمصعب وهدم دورهم.
شأن المختار مع ابن الزبير:
كان على البصرة الحارث بن أبي ربيعة وهو القباع عاملاً لابن الزبير. وعلى شرطته عباد بن حسين، وعلى المقاتلة قيس بن الهيثم. وجاء المثنى بن مخرمة العبدي، وكان ممن شهد مع سليمان بن صرد، ورجع فبايع للمختار، وبعثه إلى البصرة يدعو له بها، فأجابه كثير من الناس، وعسكر لحرب القباع، فسرح إليه عباد بن حسين وقيس بن الهيثم في العساكر، فانهزم المثنى إلى قومه عَبْد القيس، وأرسل القباع مسعكرا يأتونه به. فجاءه زياد بن عمر العنكبي، فقال له: لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنهم. فأرسل الأحنف بن قيس وأصلح الأمر، على أن يخرج المثنى عنهم، فسار إلى الكوفة. وقد كان المختار لمّا أخرج ابن مطيع من البصرة كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتم أمره في الدعاء لأهل البيت، وطلب المختار في الوفاء بما وعده به الولاية، فأراد ابن الزبيرأن يتبين الصحيح من أمره، فولى عمر بن عَبْد الرحمن بن الحارث بن هشام على الكوفة، وأعلمه بطاعة المختار وبعثه إليها. وجاء الخبر إلى المختار، فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس، وأعطاه سبعين ألف درهم، وقال ادفعها إلى عمر فهي ضعف ما أنفق، وأمره بالانصراف بعد تمكث، فإن أبى فأره الخيل، فكان كذلك. ولما رأى عمر الخيل أخذ المال وسار نحو البصرة، واجتمع هو وابن مطيع في إمارة القباع قبل وثوب ابن مخرمة. وقيل إن المختار كتب إلى ابن الزبير إني اتخذت الكوفة داراً، فإن سوغتني ذلك وأعطيتني مائة ألف درهم سرت إلى الشام وكفيتك مروان، فمنعه من ذلك. فأقام المختار بطاعته ويوادعه ليتفرع لأهل الشام. ثم بعث عَبْد الملك بن مروان عَبْد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد، فأجابه أن يعجل بإنفاذ الجيش إلى جند عَبْد الملك بوادي القرى، فسرح شرحبيل بن دوس الهمداني في ثلاثة آلاف أكريم من الموالي، وأمره أن يأتي المدينة ويكاتبه بذلك، واتهمه ابن الزبير فبعث من مكة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر العرب، وإن رأى من جيش المختار خلافاً ناجزهم وأهلكهم. فلقيهم عبّاس
بالرقيم وهم على تعبية، فقال سيروا بنا إلى العدو الذي بوادي القرى. فقال ابن دوس إنما أمرني المختار أن آتي المدينة، ففطن عباس لمّا يريد. فأتاهم بالعلوفة والزاد، وتخير ألفاً من أصحابه وحمل عليهم، فقتل ابن دوس وسبعين معه من شجعان قومه، وأمن الباقين فرجعوا للكوفة، ومات أكثرهم في الطريق. وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير ويوهمه أنه بعث الجيش في طاعته، ففعل بهم ابن الزبير ما فعل. ويستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة، ويبعث ابن الحنفية عليهم رجلاً من قبله فيفهم الناس أني في طاعتك، فكتب إليه ابن الحنفية قد عرفت قصدك ووفاءك بحقي، وأحب الأمر إليئ الطاعة، فأطع الله وتجنب دماء المسلمين. فلو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعاً والأعوان كثيراً لكني أعتزلهم وأصبرحتى0 يحكم الله وهو خير الحاكمين. ثم دعا ابن الزبير محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة، فامتنع وبعث إليه ابن الزبير وأغلظ عليه وعليهم، فاستكانوا وصبروا فتركهم. فلما استولى المختار على الكوفة، وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به، فاعتزم عليهم في البيعة، وتوعدهم بالقتل، وحبسهم بزمزم، وضرب لهم أجلأ. وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك، فأخبر الشيعة وندبهم وبعث . امراء منهم في نحو ثلاثمائة، عليهم أبوعبد الله الجدلي. وبعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم، وساروا إلى مكة، فدخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب، كراهة إشهار السيوف في الحرم، وطفقوا ينادون بثأر الحسين حتى انتهوا إلى زمزم. وأخرج ابن الحنفية وكان قد بقي من أجله يومان، واستأذنوه في قتال ابن الزبير، فقال لا أستحل القتال في الحرم. ثم جاء باقي الجند، وخافهم ابن الزبير، وخرج ابن الحنفية إلى شعب علي واجتمع له أربعة آلاف رجل فقسم بينهم المال. ولما قتل المختار واستوثق أمر ابن الزبير، بعث إليهم في البيعة، فخافه على نفسه وكتب لعبد الملك فأذن له أن يقدم الشام، حتى يستقيم أمر الناس، ووعده بالإحسان. وخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام. ولما وصل مدّين لقيه خبر مهلك عمرو بن سعيد، فندم وأقام بايلة وظهر في الناس فضله وعبادته وزهده. وكتب له عبد الملك أن يبايعه فرجع إلى مكة ونزل شعب أبي طالب، فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف، وعذل ابن عباس بن الزبير على شأنه ثم خرج عنه ولحق بالطائف ومات هنالك. وصلى عليه ابن الحنفية، وعاش إلى أن أدرك حصار الحجّاج لابن الزبير.( ولما قتل
ابن الزبير) بايع لعبد الملك، وكتب عَبْد الملك إلى الحجاج بتعظيم حقه وبسط أمله، ثم قدم إلى الشام وطلب من عَبْد الملك أن يرفع حكم الحجّاج عنه ففعل، وقيل إن ابن الزبير بعث إلى ابن عباس وابن الحنفية في البيعة حتى يجتمع الناس على إمام، فإن في هذه فتنة. فحبس ابن الحنفية في زمزم، وضيق على ابن عباس في منزله، وأراد إحراقهما، فأرسل المختار جيشه كما تقدم ونفس عنهما. ولما قتل المختار قوي ابن الزبير عليهما فخرجا إلى الطائف.
مقتل ابن زياد:
ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين، بعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد، وبعث معه وجوه أصحابه وفرسانهم وشيعته وأوصاه. وبعث معه بالكرسي الذي كان يستنصر به وهو كرسي قد غشاه بالذهب. وقال للشيعة هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل، فكبر شأنه وعظم. وقاتل ابن زياد فكان له الظهور وافتتن به الشيعة، ويقال: إنه كرسي علي بن أبي طالب، وأن المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة، وكانت امه ام هانىء بنت أبي طالب، فهو ابن اخت علي. ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في السير وأوغل في أرض الموصل، وكان ابن زياد قد ملكها كما مر. فلما دخل إبراهيم أرض الموصل عبى أصحابه، ولما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، ونزل ابن زياد قريبأ من النهر، وكانت قيس مطبقة على بني مروان عند المرج، وجند عَبْد الملك يومئذ ، فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر، وأوعده أن ينهزم بالمسيرة، وأشار عليه بالمشاجرة. ورأى عند ابن الأشتر ميلاً إلى المطاولة فثناه عن ذلك. وقال: إنهم ميلوا منكم رعباً وإن طاولتهم اجترؤوا عليكم. قال وبذاك أوصاني صاحبي. ثم عبى أصحابه في السحر الأول، ونزل يمشي ويحرض الناس، حتى أشرف على القوم. وجاءه عَبْد الله بن زهير السلولي بأنهم خرجوا على دهش وفشل، وابن الأشتر يحرض أصحابه ويذكرهم أفعال ابن زياد وأبيه. ثم التقى الجمعان وحمل الحصين بن نميرمن ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم، فقتل علي بن مالك الخثعمي، ثم أخذ الراية فرذ ابن علي، فقتل وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عَبْد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي، ورجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا. وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم، فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالاً شديداً. وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم، فاقتتلوا أشد قتال، حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القصارين وإبراهيم يقول لصاحب رايته انغمس برايتك فيهم. ثم حملوا حملة رجل واحد، فانهزم أصحاب ابن زياد. وقال ابن الأشتر إني قتلت رجلا ًتحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك، وضربته بسيفي فقصمته نصفين، فالتمسوه، فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه وأحرقت جثته. وحمل شريك بن جدير الثعلبي على الخصين بن نمير، فاعتقله وجاء أصحابه فقتلوا الحصين. ويقال: إن الذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا، وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع وادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي، وورقاء بن عازب الأزدي، وعبيد الله بن زهير السلمي واتبع أصحاب بن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكثر ممن قتل، وغنموا جميع ما في العسكر. وطرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى المختار فأتته بالمدائن، وأنفذ ابن الأشتر عماله إلى البلاد فبعث أخاه عَبْد الرحمن على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة. وولى زفر بن الحارث قيس وحاتم بن النعمان الباهلي حرّان والرها وشمشاط، وعمير بن الحباب السلمي كفرنوبي وطور عبدين، وأقام بالموصل وأنفذ رؤوس عبيد الله وقواده إلى المختار.
مسير مصعب إلى المختار وقتله إياه:
كان ابن الزبير في أول سنة سبع وستين أو آخر ست عزل الحارث بن ربيعة وهو القباع وولى مكانه أخاه مصعباً، فقدم البصرة وصعد المنبر، وجاء الحارث فأجلسه مصعب تحته بدرجة، ثم خطب وقرأ الآيات من أؤل القصص، ونزل ولحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار، ودخل عليه شيث بن ربعي وهو ينادي واغوثاه، ثم قدم محمد بن الأشعث بعده واستوثقوه إلى المسير، وبعث إلى المهلب بن أبي صفرة وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار، فأبطأ وأغفل. وأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه، فقال المهلب: ما وجد مصعب بريداً غيرك؟ فقال: ما أنا ببريد، ولكن غلبنا عبيدنا على أبنائنا وحرمنا، فأقبل معه المهلب بالجموع والأموال، وعسكر مصعب عند الجسر، فأرسل عَبْد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سراً ليثبط الناس عن المختار، ويدعو إلى ابن الزبير. وسار على التعبية وبعث في مقدمته عبّاد بن الحصين الحبطي التميمي، وعلى ميمنته عمربن عبيد الله بن معمر، وعلى ميسرته المهلب. وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه، وقربهم إلى الخروج مع ابن شميط، وعسكر مع محمد في أعفر. وبعث رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط وأصحابه فثبتوا وحمل المهلب من الميسرة، على ابن كامل فثبت، ثم كرّ المهلب وحمل حملة منكرة، وصبر ابن كامل قتيلاً وانهزموا وحمل الناس جميعاً على ابن شميط فانهزم وقتل. واستمر القتل في الرجالة، وبعث مصعب عبادا فقتل كل أسير أخذه. وتقدم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة، فلم يدركوا منهزما إلا قتلوه. ولما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط، وحملوا الضعفاء وأثقالهم في السفن، ثم خرجوا إلى نهر الفرات وسار إلى الكوفة. ولما بلغ المختار خبر الهزيمة ومن قتل من أصحابه، وأن مصعباً أقبل إليه في البر والبحر سار إلى مجتمع الأنهار، نهر الجزيرة والمسلحين والقادسية، ونهر يسر. فسكر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار. وبقيت سفن أهل البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر وأزالوه، وقصدوا الكوفة. وسار المختار ونزل حر وراء بعد أن حصن القصر وأدخل عدة الحصار، وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلب، وعلى ميسرته عمربن عبيد الله، وعلى الخيل عباد بن الحصين، وجعل المختارعلى ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ
الهمدانى، وعلى الخيل عمر بن عبيد الله النهدي. ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين. ولما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة، وحمل عَبْد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي على من بإزائه، فحطّم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم، وحمل مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة، فقتل ابن الأشعث وعامة أصحابه، وقتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب وقاتل المختار. ثم افترق الناس ودخل القصر وسار مصعب من الغد فنزل السبخة وقطع عنهم الميرة. وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية، ففطن مصعب لذلك فمنعه، وأصابهم العطش فكانوا يصبون العسل في الابار ويشربون. ثم إن المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنط وتصلب، وخرج في عشرين رجلا: منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله. فقال: ويحك يا أحمق، وثب ابن الزبير بالحجاز، ووثب بجدة باليمامة، وابن مروان بالشام فكنت كأحدهم إلا أني طلبت بثار أهل البيت إذ نامت عقد العرب، فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية. ثم تقدم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين طرفة وطراف ابني عَبْد الله بن دجاجة. وكان عَبْد الله بن جعدة بن هبيرة لمّا رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر، واختفى عند بعض إخوانه، ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب، ونزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين. وأشار عليه المهلب باستبقائهم، فاعترضه أشراف أهل الكوفة، ورجع إلى رأيهم. ثم أمر بكف المختار بن أبي عبيد فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجاج. وقتل زوجة عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أن المختار ، فاستأذن أخاه عَبْد الله وقتلها ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته. ووعده بولاية أعنة الخيل وما غلب عليه من المغربة. وكتب إليه عَبْد الملك بولاية العراق، واختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن زياد وإشراف أهل الشام. وكتب إلى مصعب بالإجابة وسار إليه، فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلب بن أبي صفرة، وقيل إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وأنه بعث على مقدمته أحمد بن
شُمَيط، وبعث مصعب عبّاد الحبطي ومعه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وتراضوا ليلاً، فناجزهم المختار من ليلته. وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم واشتد القتال، وقتل من أصحاب مصعب جماعة، منهم محمد بن الأشعث. فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب وليس عنده أحد، فانصرف ودخل قصر الكوفة وفقد أصحابه فلحقوا به، ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم. وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل، وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعاً، وكانوا ستة آلاف رجل. ولما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب، فأساء السيرة وقصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن مسمع، فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة أن ألحق بأبيك. وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهم مصعباً ففعل. وخرج حمزة بالأموال فعرض له مالك بن مسمع وقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا، فضمن له عمر بن عبيد الله العطاء فكف عنه. وقيل: إن عبيد الله بن الزبير إنما رد مصعباً إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار. ولما رده إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، وولاه حرب الأزارقة. وكان المهلب على حربهم أيام مصعب وحمزة، فلما رد مصعبا أراد أن يولي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عَبْد الملك، فاستقدمه واستخلف على عمله المغيرة. فلما قدم البصرة عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس، واستعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج.
خلاف عمرو بن سعيد الأشدق ومقتله:
كان عَبْد الملك بعد رجوعه من قنسرين أقام بدمشق زمانا، ثم! سار لقتال زحر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا، واستخلف على دمشق عَبْد الرحمن بن ام الحكم الثقفي ابن أخته وسار معه عمرو بن سعيد. فلما بلغ بطنان انتقض عمرو وأسرى ليلاً إلى دمشق، وهرب ابن ام الحكم عنها فدخلها عمرو وهدم داره، واجتمع إليه الناس فخطبهم ووعدهم. وجاء عَبْد الملك على أثره فحاصره بدمشق، ووقع بينهما القتال أياماً. ثم اصطلحا وكتب بينهما كتاباً، وأفنه عَبْد الملك فخرج إليه عمرو ودخل عَبْد الملك دمشق، فأقام أربعة أيام. ثم بعث إلى عمرو ليأتيه، فقال له عَبْد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده: لا تأتيه فإني أخشى عليك منه. فقال: والله لوكنت نائمأ ما أيقظني. ووعد الرسول بالرواح إليه ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء، ومضى في مائة من مواليه، وقد جمع عَبْد الملك عنده بني مروان، وحسان بن نجد الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمرو فدخل. ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد، ونظر إلى عَبْد الملك والجماعة حوله فأحس بالشر، وقال للغلام انطلق إلى أخي يحيى وقل له يأتيني، فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك، وهولا يفهم. فقال له اغرب عني. ثم أذن عَبْد الملك لحسان وقبيصة فلقيا عمرا، ودخل فأجلسه معه على السرير، وحادثه زمنا. ثم أمر بنزع السيف عنه. فأنكر ذلك عمرو وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له عَبْد الملك: أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك؟ فأخذ عنه السيف،ثم قال له عَبْد الملك ياأبا أُمَيَّة إنك حين خلعتني حلفت يمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة، فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم وما عسيت أن أصنع بأبي أُمَيَّة؟ فقال بنو مروان أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أُمَيَّة، فقال عمرو قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت فراشه جامعة وأمر غلاما فجمعه فيها، وسأله أن لا يخرجه على رؤوس الناس. فقال أمكرا عند الموت؟ ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء. فقال عَبْد الملك: والله لو علمت أنك تبقى أن أبقيت عليك وتصلح قُرَيْش لأبقيتك، ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد. فشتمه عمرو، وخرج عَبْد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عَبْد العزيز بقتله. فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم، فأمسك عنه وجلس. ورجع عَبْد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب، فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمرا فذبحه بيده، وقيل أمر غلامه ابن الزغير فقتله. وافتقد الناس عمر مع عَبْد الملك حين خرج إلى الصلاة، فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده وكانوا ألفاً، ومعه حميد بن الحارث وحريث وزهير
بن الأبرد فهتفوا باسمه، ثم كسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وخرج الوليد بن عَبْد الملك واقتتلوا ساعة. ثم خرج عَبْد الرحمن بن ام الحكم الثقفي بالرأس فألقاه إلى الناس، وألقى إليهم عَبْد العزيز بغن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا. ثم خرج عَبْد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فاخبر بجراحته، وأتى بيحيى بن سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد، ثم أخرجهم جميعا وألحقهم بمصعب، حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم. وكان بنوعمرو أربعة: أُمَيَّة وسعد وإسماعيل ومحمد. ولما حضروا عنده قال أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلأ لن يجعله الله لكم، والذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً بل كان قديماً في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية. فقال سعيد: يا أمير المؤمنين! تعد علينا أمراً كان في الجاهلية، والإِسلام قد هدم ذلك، ووعد جنة وحذر ناراً. وأمَّا عمرو فهو ابن عمك وقد وصل إلى الله وأنت أعلم بما صنعت، وإن أحدثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها. فرق لهم عَبْد الملك وقال أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلتي، وأمَّا أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم. وقيل إن عمراً إنما كان خلفه وقتله حين سار عَبْد الملك لقتال مصعب، طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه، فلم يجبه إلى ذلك، فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها، وكان قتله سنة تسع وستين.
مسير عَبْد الملك إلي العراق ومقتل مصعب:
ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق، وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه، فاستمهله أصحابه فأبى. وسار نحو العراق وبلغ مصعباً سيره، فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره. وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج، وولى مكانه المهلب، وذلك حين استخلف على الكوفه. وجاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن اسيد على البصرة مختفياً، واعيد لعبد الملك عند مالك بن مسمع في بكر بن وائل والأزد، وأمد عَبْد الملك بعبيد الله بن زياد بن ظبيان وحاربهم عمربن عبيد الله بن معمر، ثم صالحهم على أن يخرجوا خالدا فأخرجوه.
وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر وسب أصحابه وضربهم وهدم دورهم وحلقهم، وهدم دار مالك بن مسمع واستباحها. وعزل بن معمرعن فارس وولى المهلب وخرج إلى الكوفة. فلم يزل بها حتى سار للقاء عَبْد الملك، وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة. ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلب على قتال الخوارج رده وقال له المهلب: إن أهل العراق قد كاتبوا عَبْد الملك، وكاتبهم فلا يتعدى. ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى عسكر في معسكره، وسار عَبْد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان، وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد، فنزلوا قريباً من قرقيسيا. وحضر زفر بن الحارث الكلابي، ثم صالحه. وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار معه فنزل بمسكن قريبأ من مسكن مصعب، وفر الهذيل بن زفر فلحق بمصعب. وكتب عَبْد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان، وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوماً إلى مصعب فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فأخبره مصعب بما فيه، وقال مثل هذا لا يرغب عنه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة. ولقد كتب عَبْد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعني واقتلهم أو احبسهم في أضيق محبس، فأبى عليه مصعب وأضمر أهل العراق الغدر بمصعب. وعذلهم قيس بن الهيثم منهم في طاعة أهل الشام فأعرضوا عنه. ولمّا تدانى العسكران بعث عَبْد الملك إلى مصعب يقول، فقال: تجعل الأمر شورى. فقال فصعب ليس بيننا إلا السيف. فقدم عَبْد الملك أخاه محمداً، وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمده بالجيش فأزال محمداً عن موقفه، وأمده عَبْد الملك بعبيد الله بن يزيد، فاشتد القتال، وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهلي والد قتيبة، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء، فساء ذلك إبراهيم ونكره. وقال: أوصيته لا يمدني بعتاب وأمثاله. وكان قد بايع لعبد الملك، فجر الهزيمة على إبراهيم وقتله، وحمل رأسه إلى عَبْد الملك. وتقدم أهل الشام، فقاتل مصعب ودعا رؤوس العراق إلى القتال فاعتذروا وتثاقلوا. فدنا محمد بن مروان من مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل العراق فأعرض عنه، فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه. فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال: أتظنهم يعرفون لك ذلك؟ فإن أحببت فافعل. قال لا يتحدث نساء قُرَيْش
إني رغبت بنفسي عنك. قال: فاذهب إلى عمك بمكة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني، فأنى مقتول فقال لا أخبر قريشاً عنك أبداً، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنهم على الطاعة، أو بأمير المؤمنين بمكة. فقال لا يتحدث قُرَيْش إني فررت. ثم قال لعيسى تقدم يا بني أحتسبك، فتقدم في ناس فقتل وقتلوا. وألح عَبْد الملك في قبول أمانه فأبى ودخل سرادقه، فتحفظ ورمى السرادق، وخرج فقاتل، ودعاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فشتمه وحمل عليه، وضربه فجرحه. وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة أنفس وأثخنته الجراحة، فرجع إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فقتله، وجاء برأسه إلى عَبْد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها. وقال: إنما قتلته بثأر أخي، وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته، وقيل: إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار. وأخذ عبيد الله رأسه، وأمر عَبْد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل. وكان ذلك سنة إحدى وسبعين. ثم دعا عَبْد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوماً، وخطب الناس فوعد المحسن، وطلب يحيى بن سعيد عن جعفة وكانوا أخواله، فأحضروه فأمنه. وولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة، ومحمد بن نمير على همدان، ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري ولم يفى لهم بأصبهان كما شرطوا عليه، وكان عَبْد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري، ويحيى بن معتوق الهمداني قد لجآ إلى علي بن عَبْد الله بن عباس، ولجأ فذيل بن زفر بن الحارث، وعمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد، فأمنهم عَبْد الملك. وصنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاماً فأخبره بالخورنق، وأذن للناس عامة فدخلوا، وجاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره وطعم الناس. ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه، ولما بلغ عَبْد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عَبْد الملك قال : أمعه عمر بن معمر قيل: هو على فارس. قال فالمهلب؟ قيل في قتال الخوارج. قال فعباد بن الحسين؟ قيل على البصرة. قال: وأنا بخراسان.
- خذيني فجريني جهاراً وأنشدي بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره
ثم بعث عَبْد الملك برأس مصعب إلى الكوفة ثم إلى الشام. فنصب بدمشق وأرادوا التطاوف به فمنعت من ذلك زوجة عَبْد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فغسلته ودفنته. انتهى قتل مصعب إلى المهلب وهو يحارب الأزارقة، فبايع الناس لعبد الملك بن مروان. ولما جاء خبر مصعب لعبد الله بن الزبيرخطب الناس فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزمن يشاء ويذل من يشاء. ألا وأنه لم يذلّ الله من كان الحق معه، وإن كان الناس عليه طرّاً. وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب. فالذي أفرحنا منه أن قتله شهادة، وأمَّا الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة. ثم عَبْد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإن أهل العراق، أهل الغدر والنفاق، سلموه وباعوه بأقل الثمن فإن فو الله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص، والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإِسلام. ولا نموت إلا طعنا بالرماح وتحت ظلال السيوف، ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ البطور، وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين. أقول قولي هذا وأستغفرالله لي ولكم. ولما بلغ الخبر إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن ابان، وعبد الله بن أبي بكرة، واستعان حمدان بعبد الله بن الأهتم عليها، وكانت له منزلة عند بني أُمَيَّة، فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولى على البصرة خالد بن عَبْد الله بن اشيد، فاستخلف عليها عبيد الله بن أبي بكرة، فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد ثم عزل خالدا سنة ثلاث وسبعين، وولى مكانه على البصرة أخاه بشراً وجمع له المصرين، وسار بشر إلى البصرة، واستخلف على الكوفه عمر بن حريث. وولى عَبْد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين، فغزا الروم ومزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم. أمر زفر بن الحارث بقرقيسيا:
قد ذكرنا في وقعة راهط مسير ابن زفر إلى قرقيسيا، واجتماع قيس عليه. وأقام بها يدعولابن الزبير. ولما ولي عَبْد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط، وهو على حمص بالمسير إلى زفر، فسار وعلى مقدمته عَبْد الله بن رميت العلائي، فعاجله عَبْد الله بالحرب، وقتل من أصحابه نحو ثلثمائة. ثم أقبل إبان فوابزفر، وقيل ابنه وكيع بن زفر، وأوهنه. ثم سار إليه عَبْد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب، فحاصره ونصب عليه المجانيق وقال: كلب لعبد الملك، لا تخلط معنا القيسية، فإنهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر ففعل. واشتد حصارهم، وكان زفر يقاتلهم في كل غداة، وأمر ابنه الهذيل يوماً أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عَبْد الملك، ففعل وقطع بعض أطنابه. ثم بعث عَبْد الملك أخاه بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومن معهما، وأن لهم ما أحبوا. فأجاب الهذيل وأدخل أباه في ذلك. وقال عَبْد الملك لنا خير من ابن الزبير، فأجاب أن له الخيار في بيعته سنة. وأن ينزل حيث شاء، ولا يعين على ابن الزبير. وبينما الرسل تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد قدم من المدينة أربعة أبراج، فترك الصلح وزحف إليهم، فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم، ورجع إلى الصلح واستقر بينهم على الأمان ووضع الدماء والأموال. وأن لا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه، وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه. وتأخر زفر عن لقاء عَبْد الرحمن خوفاً من فعلته بعمر بن سعد. فأرسل إليه بقضيب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء إليه وأجلسه عَبْد الملك معه على سريره. وزوج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر. وسار عَبْد الملك إلى قتال مصعب، فبث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر، ولما قارب مصعباً هرب إليه، وقاتل مع ابن الأشتر، حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمنه عَبْد الملك كما مر.
مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح عليها:
قد تقدّم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث فرق، وكف فرقتين منهم. وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور، وعليهم بجير بن ورقاء الصريمي. فلما قتل مصعب بعث عَبْد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين، وبعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة. فقال ابن حازم: لولا الفتنة بين سليم وعامر، ولكن كل كتابك فأكله. وكان بكيربن وشاح التميمي خليفة ابن حازم على مرو، فكتب إليه عَبْد الملك، بعهده على خراسان ورغبة بالمطامع أن انتهى، فخلع ابن الزبير ودعا إلى عَبْد الملك، وأجابه أهل مرو. وبلإبن حازم فخاف أن يأتيه بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بجيرا وارتحل عنه إلى مرو، ويزيد ابنه يترمد. فاتبعه بجير ولحقه قريبأ من مرو، واقتتلوا فقتل ابن حازم. طعنه بجير وآخران معه فصرعوه، وقعد أحدهم على صدره فقطع رأسه. وبعث بجير البشير بذلك إلى عَبْد الملك، وترك الرأس، وجاء بكير بن وشاح في أهل مرو، وأراد إنفاذ الرأس إلى عَبْد الملك، وأنه الذي قتل ابن حازم، وأقام في ولاية خراسان. وقيل إن ذلك إنما كان بعد قتل ابن الزبير، وأن عَبْد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة، فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة. وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير وبكير ما ذكرناه.
(كان) عَبْد الملك لمّا بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة، وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمعي، فهرب الحارث وأقام ابن أنيف شهراً يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى معسكره. ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحارث إلى المدينة. وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الدورقي على خيبر وفدك. ثم بعث عَبْد الملك إلى الحجاز عَبْد الملك بن الحارث بن الحكم في أربعة آلاف، فنزل وادي القرى، وبعث سرية إلى سليمان بخيبر، وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه. وأقاموا بخيبر وعليهم ابن القمقام. وذكر لعبد الملك ذلك فاغتم وقال: قتلوا رجلاً صالحاً بغيرذنب . ثم عزل ابن الزبير الحارث بن حاطب عن المدينة، وولّى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة، فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبرا. ثم بعث عَبْد الملك طارق بن عمر مولى عثمان، وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى، ويعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار، وليسدّ خللأ، إن ظهر له بالحجاز، فبعث طارق خيلا إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا، فاصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه، وكتب ابن الزبير إلى القباع وهو عامله على البصرة يستمده ألفي فارس إلى المدينة. فبعثهم القباع وأمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل، ولقيهم طارق فهزمهم وقتل مقدمهم. وقتل من أصحابه خلقا وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم، ورجع إلى وادي القرى. ثم عزل ابن الزبير جابرا عن المدينة، واستعمل طلحة بن عَبْد الله بن عوف، وهو طلحة النداء وذلك سنة سبعين. فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق. ولما قتل عَبْد الملك مصعباً ودخل الكوفة، وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير، وكتب معه بالأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا. فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين، فلم يتعرض للمدينة، ونزل الطائف. وكان يبعث الخيل إلى غرفة، ويلقاهم هناك خيل ابن الزبير فينهزمون دائماً، وتعود خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجاج إلى عَبْد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرق أصحابه، ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمده، فكتب عَبْد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة إثنتين وسبعين، وأخرج عنها طلحة النداء عامل بن الزبير، وولى مكانه رجلاً من أهل الشام، وسار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف. ولما قدم الحجّاج مكة أحرم بحجه ونزل بئر ميمون، وحج بالناس ولم يطف ولا سعى، وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي. ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس، ورمى به الكعبة وكان ابن عمرقد حج تلك السنة، فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل، ونادى منادي الحجّاج عند الإفاضة انصرفوا فإنّا نعود بالحجارة على ابن الزبير، ورمى بالمنجنيق على الكعبة، وألحت الصواعق عليهم في يومين، وقتلت من أصحاب الشام رجالاً فذعروا. فقال لهم الحجاج لا شك فهذه صواعق تهامة وأنّ الفتح قد حضر فأبشروا.
ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسري عن أهل الشام، فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي، فلا ينصرف ولم يزل القتال بينهم، وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه وقسم لحمها في أصحابه. وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمدُّ من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق، يقوي بها نفوس أصحابه. ثم أجهدهم الحصار، وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان، فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف، وافترق الناس عنه.
وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب، وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه. وحرّض الناس الحجاج وقال: قد ترون قلّة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق، فتقدّموا واملؤوا ما بين الحجون والأبواء. فدخل ابن الزبير على امه أسماء وقال يا امَّه: قد خذلني الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أُمَيَّة. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك. وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال يا امّه أخاف أن يمثلوا بي ويصلبوني. فقالت يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ، فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبل رأسها وقال هذا رأي، والذي خرجت به، داعياً إلى يومي هذا، وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة وما أخرجني إلا الغضب لله، وأن تستحلَّ حرماته، ولكن أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتيني بصيرة. وإني يا امه في يومي هذا مقتول، فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم، ولم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى. اللهم لا اقر هذا تزكية لنفسي، لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني. فقالت إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. ثم قالت: اخرج حتى أنظر ما يصير أمرك جزاك الله خيراّ. قال فلا تدعي الدعاء لي، فدعت له وودّعها وودّعته، ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد ! فقال ما لبستها إلا لأشد منك. فقالت إنه لا يشد مني فنزعها وقالت له البس ثيابك مشمرة. ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه، وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال: بئس الشيخ إذن أنا في الإِسلام إذا واقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام، والحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة، وابن الزبير يحمل على هؤلاء وعلى هؤلاء وينادي أبا صَفْوان لعبد الله بن صَفْوان بن أُمَيَّة بن خلف، فيجيبه من جانب المعترك. ولما رأى الحجاج إحجام الناس عن ابن الزبير، غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين يديه، فتقدم ابن الزبير إليهم وكشفهم عنه، ورجع فصلى ركعتين عند المقام، وحملوا على صاحب الراية فقلتوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية.ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل، ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام، ويقال إنه قال لأصحابه يوم قتل: يا آل الزبيرأوطبتم لي نفساً عن أنفسكم كأهل بيتٍ من العرب اصطلمنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم، وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرىء قرنه ولا تسألوا عني. ومن كان سائلاً فإني في الرعيل الأول. ثم حمل حتى بلغ الحجون، فأصابته حجارة في وجهه فأرغش لها ودمي وجهه. ثم قاتل قتالاً شديداً وقتل في جمادى الاخرة سنة ثلاث وسبعين. وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد، وكبر أهل الشام، وثار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه، وبعث الحجاج برأسه ورأس عَبْد الله بن صَفْوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عَبْد الملك. وصلب جثته منكّسةً على ثنية الحجون اليمنى. وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى، وكتب إليه عَبْد الملك يلومه على ذلك، فخلّى بينها وبينه. ولما قتل عَبْد الله ركب أخوه عروة وسبق الحجاج إلى عَبْد الملك، فرحب به وأجلسه على سريره، وجرى ذكرعبد الله فقال عروة: إنه كان، فقال عَبْد الملك وما فعل؟ قال قتل فخّر ساجداً. ثم أخبره عروة أنّ الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمّه. فقال نعم: وكتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه، فبعث بجثته إلى امّه وصلى عليه عروة ودفنه وماتت امه بعده قريباً. ولما فرغ الحجاج من ابن الزبير دخل إلى مكة فبايعه أهلها لعبد الملك، وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين، وأساء إلى أهلها وقال: أنتم قتلة عثمان. وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة. منهم جابر بن عَبْد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد. ثم عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله، وقيل إن ولاية الحجاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين، وأن عَبْد الملك عزل عنها طارقاً واستعمله، ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير، وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذي أقره عليه النبي ، ولم يصدق ابن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة. فلما صح عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل.
ولاية المهلب حرب الأزارقة:
ولما عزل عَبْد الملك خالد بن عَبْد الله عن البصرة، واستعمل مكانه أخاه بشر بن مروان وجمع له المصرين، أمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة ويتركه وراءه في الحرب، وأن يبعث من أهل الكوفة رجلاً شريفاً معروفأ بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب، فيتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم. فأرسل المهلب جذيع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان. وشق على بشر أن امرأة المهلب جاءت من عند عَبْد الملك، فغص به ودعا عَبْد الرحمن بن مخنف، فأعلمه منزلته عنده وقال: إني اوليك جيش الكوفة، بحرب الأزارقة، فكن عند حسن ظني بك. ثم أخذ يغريه بالمهلّب، وأن لا يقبل رأيه ولا مشورته، فأظهر له الوفاق. وسار إلى المهلب فنزلوا رامهرمز، ولقي بها الخوارج فحدق عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران. ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم، وأنه استخلف على البصرة خالد بن عَبْد الله بن خالد، فافترق الناس من أهل المصرين إلى بلادهم ونزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عَبْد الله يتهددهم ويحذرهم عقوبة عَبْد الملك، إن لم يرجعوا إلى المهلب، فلم يلتفتوا إليه ومضوا إلى الكوفة واستأذنوا عمر بن حريث، في الدخول ولم يأذن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه.
ولاية أسد بن عَبْد الله علي خراسان:
ولما ولي بكير بن وشّاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم وأقاموا في العَصَبِيَّة له وعليه سنتين، وخاف أهل خراسان أن تفسد البلاد ويقهرهم العدو، لكتبوا إلى عَبْد الملك بذلك، وأنها لا تصلح إلا على رجل من قُرَيْش. واستشار أصحابه فقال له أُمَيَّة بن عبيد الله ان خالد بن أسيد نزكيهم لرجل منك. فقال لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها. فاعتذر وحلف أن الناس خذلوه ولم يجد مقاتلاًُ، فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن الهلكة، وقد كتب إليك خالد بن عَبْد الله بعذري، وقد علمه الناس فولاه خراسان. ولما سمع بكير بن وشاح بمسيره بعث إلى بجير بن ورقاء وهو في حبسه كما مر، فأبى وأشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل.
وصالح بكير أو بعث إليه بكير بأربعين ألفاً على أن لا يقاتله. فلما قارب أُمَيَّة نيسابور سار إليه بجير وعرّفه عن أمور خراسان وما يحسن به طاعة أهله. وحذره غدر بكير. وجاء معه إلى مرو فلم يعرض أُمَيَّة لبكير ولا لعماله وعرض عليه شرطته فأبى. وقال لا أحمل الجزية اليوم، وقد كانت تحمل إليّ بالأمس وأراد أن يوليه بعض النواحي من خراسان، فحذره بجير منه. ثم ولى أُمَيَّة ابنه عَبْد الله على سجستان فنزل بسْتا وغزا رتبيل الذي ملك على الترك بعد المقتول الأوّل، وكان هائباً للمسلمين فراسلهم في الصلح وبعث ألف ألف، وبعث بهدايا ورقيق. فأبى عَبْد الله من قبولها وطلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها عَبْد الله. ثم أخذ عليه الشعاب والمضايق حتى سأل منه الصلح وأن يخلي عينه عن المسلمين، فشرط رتبيل عليه ثلثمائة ألف درهم، والعهد بأن لا يغزو بلادهم. فأعطاه ذلك وبلغ الخبر بذلك عَبْد الملك فعزله.
ولاية الحجاج العراق: ثم ولى عَبْد الملك الحجاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمسة وسبعين، وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق، فسار على النجب في اثني عشر راكباً حتي قدم الكوفة في شهر رمضان. وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج، فدخل المسجد وصعد المنبر وقال: عليّ بالناس فظنوه من بعض الخوارج فهموا به، حتى تناول عمير بن ضابي البرجمي الحصباء وأراد أن يحصبه، فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه وهولا يشعر به. ثم حضر الناس فكشف الحجّاج عن وجهه وخطب خطبته المعروفة. ذكرها الناس وأحسن من أوردها المبرَّد في الكامل، يتهدد فيها أهل الكوفة ويتوعدهم عن التخلف عن المهلب. ثم نزل وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلب، فقام إليه عمير بن ضابي وقال: أنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشد مني. فقال هذا خير لنا منك. قال ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابي. قال الذي غزا عثمان في داره؟ قال: نعم. فقال يا عدو الله إلى عثمان بدلا ًقال ! إنه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً. فقال: إني لا احب حياتك، إن في قتلك صلاح المصرين، وأمر به فقتل ونهب ماله. وقيل إن عنبسة بن سعيد بن العاص هو الذي أغرى به الحجّاج حين دخل عليه. ثم أمر الحجاج مناديه فنادى ألا
إن ابن ضابي تخلّف بعد ثالثة من النداء فأمرنا بقتله، وذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب. فتساءل الناس إلى المهلب وهو بدار هُرمْز وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر. ثم بعث الحجّاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي وأمره أن يشتد على خالد بن عَبْد الله، وبلغه الخبر فقسم في أهل البصرة ألف ألف، وخرج عنها. ويقال إن الحجّاج أول من عاقب على التخلف عن البعوث بالقتل، قال الشعبي كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي تنزع عمامته ويقام بين الناس، فلما ولي مصعب أضاف إليه حلق الرؤوس واللحى، فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط فيخرق المسماران يده وربما مات. فلما جاء الحجّاج ترك ذلك كله وجعل عقوبة من تخلى بمكانه من الثغر أو البعث القتل. ثم ولّى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، فخرج عليه معاوية بن الحارث الكلابي العلاقي وأخوه، فغلباه على البلاد وقتلاه. فأرسل الحجّاج مجاعة بن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر وغزا وفتح فتوحات بمكران لسنة من ولايته. وقوع أهل البصرة بالحجّاج: ثم خرج الحجّاج من الكوفة، واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة، وسار إلى البصرة وقدمها وخطب كما خطب بالكوفة، وتوعد على القعود عن المهلب كما توعد، فأتاه شريك بن عمرو اليشيكري وكان به فتق، فاعتذر به وبأنّ بشر بن مروان قبل عذره بذلك، وأحضر عطاءه ليُرْد لبيت المال، فضرب الحجّاج عنقه وتتابع الناس مزدحمين إلى المهلب، ثم سار حتى كان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً. وأقام يشدّ ظهره وقال يا أهل المصرين ! هذا والله مكانكم حتى يهلك اللهُ الخوارجَ. ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية، وكانت مائة مائة. وقال: لسنا نجيزها. فقال عَبْد الله بن الجارود إنما هي زيادة عَبْد الملك، وقد أجازها أخوه بشر بأمره، فانتهره الحجّاج فقال : إني لك ناصح وإنه قول من ورائي فمكث الحجّاج أشهراً لا يذكر الزيادة، ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل الرد الأول. فقال له مضفلة بن كرب العبدي سمعاً وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا وليس لنا أن نرد عليه. فانتهره ابن الجارود وشتمه، وأتى الوجوه إلى عَبْد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وقالوا: إنّ هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة، وإنا نبايعك على إخراجه من العراق
ونكتب إلى عَبْد الملك أن يولي علينا غيره وإلاّ خلعناه، وهو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق، فبايعوه سراً وتعاهدوا وبلغ الحجّاج أمرهم فاحتاط وجدّ. ثم خرجوا في ربيع سنة ست وسبعين، وركب عَبْد الله بن الجارود في عَبْد قيس على راياتهم، ولم يبق مع الحجّاج إلا خاصته وأهل بيته، وبعث الحجّاج يستدعيه فأفحش في القول لرسوله، وصرح بخلع الحجاج فقال له الرسول: تهلك قومك وعشيرتك. وأبلغه تهديد الحجاج إياه فضرب وأخرج وقال لولا أنك رسول لقتلتك. ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه، فنهبوا ما فيه من المتاع وأخذوا زجاجته وانصرفوا عنها. فكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه. وقال الغضبان بن أبي القبعثري الشيباني لابن الجارود: لا ترجع عنه وحرضه على معالجته. فقال إلى الغداة، وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمر العتكي صاحب الشرطة بالبصرة، فاستشارهما، فأشار زياد بأن يستأمن القوم ويلحق بأمير المؤمنين. وأشار عثمان بالثبات ولو كان دونه الموت. وقال لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقاك إلى ما رقاك، وفعلت ما فعلت بابن الزبير في الحجاز. فقبل رأي عثمان وحقد على زياد في إشارته، وجاءه عامر بن مسمع يقول: قد أخذ لك الأمان من الناس، فجعل الحجّاج يغالطه رافعاً صوته عليه ليسمع الناس ويقول : والله لا آمنهم حتى تؤتوني بالهذيل بن عمران وعبد الله بن حكيم ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري أن ائتني فامنعني . فقال له إن أتيتني منعتك فابى، وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد وعبد الله بن حكيم بمثل ذلك ، وأجابوه مثله . ثم إن عباد بن الحصين. ثم جاءه سبرة بن الجفطي مر بابن الجارود والهذيل وعبد الله بن حكيم تناجون ، فطلب الدخول معهم فأبوا وغضب وسار إلى الحجاج ، وجاءه قتيبة بن مسلم في بني أعصر للحمية القتيبية عليّ الكلابي وسعيد بن أسلم الكلابي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي ، فثابت إليه نفسه وعلم أنه قد امتنع . وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت عنك ، فأجابه أن أقم ، فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف . وقال ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي ؟ قال تركته أمس ولم يبق إلا الصبر. ثم تراجعوا وعبى ابن الجارود وأصحابه على ميمنة الهذيل وعلى ميسرته سعيد بن أسلم ، وحمل ابن الجارود حتى حاصر أصحاب
الحجّاج ، وعطف الحجّاج عليه فقارب ابن الجارود أن يظفر. ثم أصابه سهم غَرِبُ فوقع ميتاً . ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وابن الحكيم ، وأمر أن لا يتبع المنهزمين ، ولحق ابن ضبيان بعمارة فهلك هنالك . وبعث الحجاج برأس ابن الجارود ورأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك ، ونصبت ليراها الخوارج ليتاسوا من الاختلاف ، وحبس الحجاج عبيد بن كعب ، ومحمد بن عمير لامتناعهما من الإتيان إليه ، وحبس ابن القبعثرى لتحريضه عليه ، فأطلقه عبد الملك وكان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك . فقال الحجاج لا أرى أنساً يعين علي . ودخل البصرة وأخذ ماله . وجاءه أنس فأساء عليه وأفحش في شتمه ، وكتب أنس إلى عبد الملك يشكوه . فكتب عبد الملك إلى الحجاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس ، وأن تجيء إلى منزله وتتنصل إليه ، وإلا نبعث من يضرب ظهرك ويهتك سترك . قالوا : وجعل الحجاج في قراءته يتغير ويرتعد وجبينه يرشح عرقاً . ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه ، وفي عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة، وقد كانوا خرجوا قبل ذلك أيام مصعب ولم يكونوا بالكثير، وأفسدوا الثمار والزروع ، ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم ، وقتل بعضهم وصلبه . فلما كانت هذه الواقعة قدّموا عليهم رجلاً منهم اسمه رياح ويلقب بشير زنجي أي أسد الزنج وأفسدوا . فلما فرغ الحجّاج من ابن الجارود أمر زياد ابن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم مَن يقاتلهم ، وبعث ابنه حفصاً في جيش فقتلوه وانهزم أصحابه فبعث جيشاً فهزم الزنج وأبادهم .
مقتل ابن مخنف وحرب الخوارج :
كان المُهَلبُ وعبد الرحمن بن مُخْنِفَ واقفين للخوارج بِرَامَهُرْمُز فلما أمدّهم الحجّاج بالعساكر من الكوفة والبصرة ، تاجر الخوارج من رامهرمز إلى كازِرُونَ وأتبعهم العساكر حتى نزلوا بهم ، وخندق المهلب على نفسه ، وقال ابن مخنف وأصحابه خدمنا سيوفنا، فبيتهم الخوارج وأصابوا الغِرةَ في ابن مخنف ، فقاتل هو وأصحابه حتى قتلوا، هكذا حديث أهل البصرة . وأما أهل الكوفة فذكروا أنهم لما ناهضوا
الخوارج اشتدّ القتال بينهم ، ومال الخوارج على المهلب فاضطروه إلى معسكره ، وأمدّه عبد الرحمن بالخيل والرجال . ولما رأى الخوارج مدده تركوا مَنْ يشغل المهلب ، وقصدوا عبد الرحمن فقاتلوه وانكشفوا عنه ، وصبر في سبعين من قومه فثابوا إلى عتاب بن ورقاء، وقد أمره الحجّاج أن يسمع للمهلّب فثقل ذلك عليه ، فلم يحسن بينهما العِشْرة، وكان يتراءف في الكلام ، وربما أغلظ له المهلب . فأرسل عتاب إلى الحجّاج يسأله القعود، وكان حرب الخوارج وشبيب قد اتسع عليه ، فصادفا منه ذلك مرقعا، واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلب ، فولّى المهلب عليهم ابنه حبيباً وأقام يقاتلهم بنيسابور نحواً من سنة، وتحرّكت الخوارج على الحجّاج من لدن سنة ست وسبعين إلى سنة ثمان وشغل بحربهم ، وأول مَن خرج منهم صالح بن سَرْحٍ من بني تميم . بعث إليه العساكر فقتل ، فولّوا عليهم شبيباً واتّبعه كُثَيِّرُ من بني شيبان ، وبعث إليهم الحجّاج العساكر مع الحابى بن عُمَيْرَة، ثم مع سفيان الخَثْعَمِيّ ، ثم انحدر ابن سعيد فهزموها، وأقبل شبيب إلى الكوفة، فحاربهم الحجّاج وامتنع ، ثم سرح عليه العساكر وبعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزموهم . ثم بعث عتاب بن ورقاء ، وزهرة بن حَوْبَةَ مَدَدا لهم ، فانهزموا وقتل عتاب وزهرة، ثم قتل شبيب واختلف الخوارج بينهم ، وقتل منهم جماعة كما يذكر ذلك كله في أخبارهم . ضرب السكّة الإسلامية كان عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى الروم : قل هو الله أحد، وذكر النبي مع التاريخ ، فنكر ذلك ملك الروم وقال : اتركوه وإلا ذكرنا نبيّكم في دنانيرنا بما تكرهونه . فعظم ذلك عليه واستشار الناس ، فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السِكّةِ وترك دنانيرهم ففعل : ثم نقش الحجاج فيها قل هو الله أحد. فكره الناس ذلك لأنه قد يمسّها غير الطاهر، ثم بالغ في تخليص الذهب والفضة من الغش . وزاد ابن هُبَيْرَةَ أيام يزيد بن عبد الملك عليه . ثم زاد خالد القِسْرِيّ عليهم في ذلك أيام هشام . ثم أفرط يوسف بن عمر من بعدهم في المبالغة وامتحان العيار، وضرب عليه فكانت الهُبَيْرِيَّةُ والخالِديةُ واليوسفيَّةُ أجود نقود بني أميّة . ثم أمر المنصور أن لا يقبل في الخراج غيرها وسمِّيت النقود الأولى مكروهة إما لعدم جودتها أو لما نقش عليها الحجّاج وكرهه . وكانت دراهم العجم مختلفة بالصغر والكبر، فكان منها مثقال وزن عشرين قيراطاً ، واثني عشر، وعشرة قراريط وهي أنصاف المثاقيل . فجمعوا قراريط الأنصاف الثلاثة فكانت اثنين وأربعين ، فجعلوا ثلثها وهو اثنا عشر قيراطاً وزن الدرهم العربي ، فكانت كل عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل . وقيل إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله ، والأصح أن عبد الملك أول مَن ضرب السكّة في الإسلام.
مقتل بكير بن وشاح بخراسان :
قد تقدّم لنا عزل بكير عن خُراسان ، وولاية أميّة بن عُبَيْدِ الله بن خالد بن أسَيد سنة أربع وسبعين ، وأن بكيراً أقام في سلطان أميّة بخراسان ، وكان يكرمه ويدعوه لولاية ما شاء من أعمال خراسان فلا يجيب ، وأنه ولاه طَخَارَسْتان ، وتجهّز لها فيه بُجَيْرُ بن ورقاء فمنعه ، ثم أمره بالتجهّز لغزو ما وراء النهر، فحذّره منه بجير، فردّه فغضب بكير. ثم تجهّز أميّة لغزو غارا وموسى بن عبد الله بن حازم لِتَرْمُذ، واستخلف ابنه على خراسان . فلما أراد قطع النهر قال لبكير ارجع إلى مرو اكفنيها فقد وليتكها، وقم بأمر ابن حازم فإني أخشى أن لا يضبطها . فانتخب مَن وثق به من أصحابه ورجع ، وأشار عليه صاحبه عَتَّابُ بان يحرق السفن ويرجع إلى مرو فيخلع أميّة، ووافقه الأحنف بن عبد الله العَنْبَرِي على ذلك . فقال لهم بكير: أخشى على مَن معي . قالوا نأتيك من أهل مرو بمَن تشاء، قال يهلك المسلمون . قال نادِ في الناس برفع الخراج فيكونون معك . قال فيهلك أمية وأصحابه . قال لهم عِدَدٌ وعَددٌ يقاتلون عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين ، فاحرق بكير السفن ورجع إلى مرو، فخلع أميّة وحبس ابنه . وبلغ الخبر أميّة فصالح أهل الشام بُخَارى، ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر، وجاءه موسى بن عبد الله بن حازم من مدداً له ، وبعث شماس بن ورقاء في ثمانمائة في مقدمته فبيّته بكير هزمه ، فبعث مكانه ثابت بن عطية فهزمه . ثم التقى أميّة وبكير فاقتتلوا أياماً، ثم انهزم بكير إلى مرو، وحاصره أميّة أياماً حتى سأل الصلح على ولاية ما شاء من خراسان ، وأن يقضي عنه أربعمائة ألف دينه ، ويصل أصحابه
ولا يقبل فيه سعاية بجَيْر، فتمَ الصلح ودخل أمية مدينة مرو، وأعاد بكيراً إلى ما كان عليه من الكرامة وأعطى عتاب العدابي عشرين ألفاً، وعزل بُجَيْر عن شرطته بعطا بن أبي السائب . وقيل إن بكيراً لم يصحب أميّة إلى النهر، وإنما استخلفه على مرو، فلما عبر أميّة النهر خلع وفعل ما فعل . ثم إن بكيراً سعى بأميّة بان بكيراً دعاه إلى الخلاف ، وشهد عليه جماعة من أصحابه ، وأن معه ابني أخيه . فقبض عليه أميّة وقتله ، وقتل معه ابني أخيه ، وذلك سنة سبع وسبعين . ثم عبر النهر لغزو بلخ ، فحصره الترك حتى جهد هو وعسكره وأشرفوا على الهلاك ثم نجوا ورجعوا إلى مرو.
قتل بجير بن زياد:
ولما قُتِلَ بَكِير ُبسعاية بُجَيْرُ بن وَرْقَاءَ تعاقد بنو سَعْدِ بن عَوْفٍ من تميم وهم عشيرته على الطلب بدمه ، وخرج فتى منهم من البادية اسمه شَمَرْدَل ، وقَدِمَ خراسان ووقف يوماً على بُجَيْرٍ فطعنه فصرعه ولم يمت ، وقتل شمردل وجاء مكانه صَعْصَعَةُ بن حَرْب العوفي ، ومض إلى سِجِسْتان وجاور قرابة بجير مدّة . وانتسب إلى خنَفِيَّةَ ثم قال لهم إن لي بخراسان ميراثاً فاكتبوا إلى بجير يعينني ، فكتبوا له وجاء إليه وأخبره بنسبه وميراثه ، وأقام عنده شهرا يحضر باب المُهَلَّب وقد أنس به وأمن غائلته ، وجاء صعصعة يوماً وهو عند المهلب في قميص ورداء، ودنا ليكلّمه فطعنه ومات من الغد . وقال صعصعة فمنعته مُقاعِسُ وقالوا أخذا بثأره ، فحمل المهلب دم صعصعة وجعل دم بجير ببكير. وقيل إن المهلب بعثه إلى بجير فقتله والله أعلم وكان ذلك سنة إحدى وثمانين
ولاية الحجّاج على خراسان وسجستان :
وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أميّة بن عبد الله عن خراسان وسجستان ، وضمهما إلى الحجّاج بن يوسف. فبعث المهلب بن أبي صُفْرَةَ على خراسان ، وقد كان . فرغ من حرب الأزارقة، فاستدعاه وأجلسه معه على السرير، وأحسن إلى أهل البلاد من أصحابه وزادهم ، وبعث عُبَيْدَ الله بن أبي بكرة على سِجِسْتان . فأما المهلب فقدم ابنه حبيباً إلى خراسان فلم يعرض لأميّة ولا لعماله حتى قَدِمَ أبوه المهلب بعد سنة من ولايته ، وسار في خمسة آلاف وقطع النهر الغربي وما وراء النهر، وعلى مقدمته أبو الأدهم الرُقَانيّ في ثلاثة آلاف فنزل على كَشٍّ وجَاءَه ابن عمر الخَتْن يستنجده على ابن عمّه ، فبعث معه ابنه يزيد. فبيّت ابن العمّ عساكر الختن وقتل الملك ، وجاءه صَر يريد قلعتهم حتى صالحوا بما رضي ، ورجع ، وبعث المهلب ابنه حبيباً في أربعة آلاف ، ووافى صاحب بُخارى في أربعين ألفاً . وكبس بعضهم جنده في قرية فقتلهم وأحرقها ورجع إلى أبيه . وأقام المهلب يحاصر كشّ سنتين حتى صالحوه على فِدْيَةٍ . وأما عبد الله بن أبي بكرة فأقام بسجستان ورَتْبِيل على صلحه يؤدّي الخراج . ثم امتنع فأمر الحجّاج ابن أبي بكرة فغزوه واستباحوا بلاده ، فسار في أهل المصرين وعلى أهل الكوفة شُرَيْحُ بن هانىء من أصحاب علي ، فدخل بلاد رتبيل وتوغل فيها حتى كانوا على ثمانية عشر فرسخاً من مدينتهم ، وأثخن واستباح وخرّب القرى والحصون . ثم أخذ الترك عليهم القرى والشِعاب حتى ظنوا الهَلَكَةَ، فصالحهم عبيد الله على الخروج من أرضهم ، على أن يعطيهم سبعمائة ألف درهم. ونكر ذلك عليه شريح وأبى إلا القتال ، وحرّض الناس ورجع . وقتل حين قتل بناس من أصحابه ونجا الباقون ، وخرجوا من بلاد رتبيل ، ولقيهم الناس بالأطعمة فكانوا يموتون إذا شبعوا . فجعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلاً حتى استمروا وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في غزو بلاد رتبيل فأذن له ، فجهز عشرين ألف فارس من الكوفة وعشرين ألفاً من البصرة، واختار أهل الغنى والشجاعة ، وأزاح عِلَلهم وأنفق فيهم ألفي ألف سوي أعْطِيَاتِهم ، وأخذهم بالخيل الرائعة والسلاح الكامل . وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشْعَثِ ، وكان يبغضه ويقول أريد قتله . ويخبر الشعبي بذلك عبد الرحمن فيقول أنا ازيله عن سلطانه ، فلما بعثه على ذلك الجيش تنصح أخوه إسماعيل للحجّاج وقال : لا تبعثه فإني أخشى خلافه . فقال هو أهيب لي من أن يخالف أمري . وسار عبد الرحمن في الجيش وقَدِمَ سجستان واستنفرهم ، وحذر العقوبة لمن يتعدّى . وساروا جميعاَ إلى بلاد رتبيل ، وبذل الخراج فلم يقبل منه ودخل بلاده فحواها شيئا فشيئاً . وبعث عمّاله عليها ورجع المصالح بالنواحي والأرصاد على العقاب والشعاب ، وامتلأت أيدي الناس من الغنائم ، ومنع من التوغل في البلاد إلى قابل ، وقد قيل في بعث عبد الرحمن بن الأشعث غير هذا . وهو أن الحجّاج كان قد أنزل هَمْيَانَ بن عَدِيَ السِذَي مسلحة بكرمان أن احتاج إليه عامل السند وسِجِسْتَان فمضى هِمْيَانُ فبعث الحجّاج عبد الرحمن بن الأشعث فهزمه ، وقام بموضعه . ثم مات عبد الله بن أبي بكرة فولاّه الحجاج مكانه ، وجهّزإليه هذا الجيش ، وكان يسمى جيش الطواويس لحُسْن زيّهم.
أخبار ابن الأشعث ومقتله :
ولما وصل كتاب ابن الأشعث إلى الحجّاج كتب إليه يوبخه على القعود عن التوغل ويامره بالمضيّ لما أمره به من هدم حصونهم وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم . وأعاد عليه الكتاب بذلك ثانياً وثالثاً وقال له إن مضيت وإلا فأخوك إسحق أمير الناس . فجمع عبد الرحمن الناس وردّ الرأي عليهم وقال : قد كنا عزمنا جميعا على ترك التوغل في بلد العدوّ، ورأينا رأيا وكتبت بذلك إلى الحجاج ، وهذا كتابه يستعجزني ويستضعفني ويأمرني بالتوغّل بكم وأنا رجل منكم ، فثار الناس وقالوا لا نسمع ولا نطيع الحجّاج . وقال أبو الطفَيْل عامِر بن واثِلَةَ الكِنَانيّ : اخلعوا عدو الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن ، فتنادى الناس من كل جانب : فعلنا فعلنا . وقال عبد المؤمن بن شيث بن رَبْعي : انصرفوا إلى عدوّ الله الحجّاج فانفوه عن بلادكم ، ووثب الناس إلى عبد الرحمن على خلع الحجّاج ونفيه من العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد الملك . وصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيلِ ما بقي من الدهر، وإن هزم منعه ، بمَن يريده . وجعل عبد الرحمن على سَبْتٍ عِيَاض بن هَمْيَانَ الشيْبَانيّ ، وعلى رومِجَ عبد الله بن عامر التميمي ، وعلى كَرْمانَ حَرْثَةَ بن عمر التميمي . ثم سار إلى العراق في جموعه وأعشى هَمْدَانَ بين يديه يجري بمدحه وذمَ الحجّاج ، وعلى مقدمته عَطِيةُ بن عُمَيْر العَيْرَني . ولما بلغ فارس بدا للناس في أمر عبد الملك وقالوا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعناه ، فخلعه الناس وبايعوا عبد الرحمن على السنة وعلى جهاد أهل الضلالة والمخلّين وخلعهم . وكتب الحجّاج إلى عبد الملك يخبره ويستمدّه ، وكتب المهلب إلى الحجّاج بان لا يعترض أهل العراق حتى يسقطوا إلى أهليهم ، فنكر كتابه واتهمه ، وجند عبد الملك الجند إلى الحجَاج فساروا إليه متتابعين ، وسار الحجاج من البصرة فنزل تَسْتُر، وبعث مقدمة خيلٍ فهزمهم أصحاب عبد الرحمن بعد قتال شديد، وقتل منهم جمعاً كثيراً وذلك في أضحى إِحدى وثمانين ، وأجفل الحجّاج إلى البصرة، ثم تأخر عنها إلى الغاوية وراجع كتاب المهلب فعلم نصيحته ، ودخل عبد الرحمن البصرة فبايعه أهلها وسائر نواحيها، لأن الحجاج كان اشتد على الناس في الخراج ، وأمر مَن دخل الأمصار أن يرجع إلى القرى، يستوفي الجزية، فنكر ذلك الناس ، وجعل أهل القرى يبكون منه ، فلما قَدِمَ عبد الرحمن بايعوه على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك .
ثم اشتد القتال بينهم في المحرّم سنة اثنتين وثمانين ، وتزاحفوا على حرب الحجاج وخلع عبد الملك . وانهزم أهل العراق وقصدوا الكوفة، وانهزم منهم خلق كثير. وفشا القتل في القرى، فقتل منهم عُقْبةَ بن الغافر الأزدي في جماعة استلحموا معه ، وقتل الحجّاج بعد الهزيمة منهم عشرة آلاف ، وكان هذا اليوم يسمى يوم الراوِيةِ . واجتمع مَن بقي بالبصرة على عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وبايعوه ، فقاتل بهم الحجّاج خمس ليالٍ ثم لحق بابن الأشعث بالكوفة ربيعة، طائفة من أهل البصرة . ولما جاء عبد الرحمن الكوفة وخليفة الحجّاج عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحَضْرَمي ، وثب به مَطَرَ بن ناجِيَة من ابني تميم مع أهل الكوفة، فاستولى على القصر وأخرجه . فلما وصل ابن الأشعث لقيه أهل الكوفة احتف به هَمْدان . وجاء إلى القصر فمنعه مطر فصد الناس القصر وأخذوه ، فحبسه عبد الرحمن وملك الكوفة . ثم إن الحجّاج استعمل على البصرة الحَكَم بن أيوب الثَقَفِيّ ، ورجع إلى الكوفة فنزل دوير ِفِيرَةَ ، ونزل عبد الرحمن دير الجَماجمِ ، واجتمعٍ إلى كل واحد أمداده ، وخندق على نفسه . وبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمداً في جند كثيف ، وأمرهماا ن يعرضا على أهل العراق عزل الحجّاج ويجري عليهم أعطياتهم كاهل الشام ، وينزل عبد الرحمن إلى أيّ بلد شاء عاملا لعبد الملك . فوجم الحجّاج لذلك وكتب إلى عبد الملك أن هذا مما يزيدهم جراءة، وذكره بقضية عثمان وسعيد بن العاص ، فأبى عبد الملك من رأيه ، وعرض عبد الله ومحمد بن مروان ما جاء به عبد الملك ، وتشاور أهل العراق بينهم ، وأشار عليهم عبد الرحمن بقبول ذلك ، وأن العزّة لهم على عبد الملك لا تزول ، فتواثبوا من كل جانب منكرين لذلك ومجددين الخلع. وتقدّمهم في ذلك عبد الله بن دُوَابٍ السَلَميّ وعُمَيْرُ بن تِيحانَ ، ثم برزوا للقتال . وجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي ، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخْمِي ، وعلى الخيل سفيان بن الأبْرَدِ الكلبي ، وعلى الرجالة عبد الله بن حبيب الحَكَمي . وجعل عبد الرحمن على ميمنته الحجّاج بن حارثة الخَثْعَميّ ، وعلى ميسرته الأبْرَدَ بن قُرّةَ التميمي ، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وعلى رجالته محمد بن سعد بن أبي وقَّاص ، وعلى مجنبته عبد الله بن رَزْم الحُرْشي ، وعلى القرى جَبَلَةُ بن زَخْر بن قَيْسٍ الجُعْفِيّ وفيهم سعيد بن جُبَيْرٍ وعامر الشعبي وأبو البُخْتُري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى . ثم أقاموا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون بقية سنتهم ، وكتيبة القرى معروفة بالصبر يحملون عليها فلا تنتقص . فعبّى الحجّاج ثلاث كتائب مع الجرَّاحِ بن عبد الله الحَكَمِي ، وحملوا على القرى ثلاث حملات ، وجبلة يحرض القرى ويبيّتهم ، والشعبي وسعيد بن جبير كذلك . ثم حملوا على الكتائب ففرَّقوها وأزالوها عن مكانها، وتأخر جبلة عنهم ليكون لهم فئة يرجعون إليه ، وأبصره الوليد بن نجيب الكلبيّ ، فقصده في جماعة من أهل الشام وقتله وجيءَ برأسه إلى الحجّاج ، وقدموا عليهم مكانه وظهر القتل في القرى . ثم اقتتلوا بعد ذلك ما يزيد على مائة يوم كثر فيِها القتلى والمبارزة . ثم اقتتلوا يوماً في منتصف جمادى الآخرة، وحمل سفيان بن الأبرد في ميمنة الحجّاج على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرّة من غير قتال ، فتقوَّضت صفوف الميمنة وركبهم أصحاب الحجّاج ، ثم انهزم عبد الرحمن وأصحابه . ومض الحجّاج إلى الكوفة ومحمد بن مروان إلى الموصل ، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام . وأخذ الحجاج الناس على أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر، وقتل مَن أبى ذلك . ودعا بِكُمَيْلِ بن زياد صاحب عليّ فقتله لاقتصاصه ثم أقام بالكوفة شهراً وأنزل أهل الشام في بيوت أهل الكوفة، ولحق ابن الأشعث بالبصرة فاجتمع إليه جموع المنهزمين ، ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سُمْرَةَ، ولحق به محمد بن سعد بن أبي وقاص بالمدائن ، وسار نحو الحجاج ومعه بَسْطَام بن مَصْقَلَةَ بن هُبَيْرَةَ الشيْبَاني ، كان قَدِمَ عليه قبل الهزيمة من الرقي ، وكان انتقض بها ثم غلب عليها، ولحق بعبد الرحمن فكان معه . وبايع عبد الرحمن خلق كثير على الموت ، ونزل مسكن وخندق عليه وعلى أصحابه ، والحجّاج قبالتهم ، وقاتلهم خالد بن جرير بن عبد الله . وكان قَدِمَ من خراسان في بعث الكوفة، فقاتلهم خمسة عشر يوماً من شعبان أشد قتال ، وقتل زياد بن غنيم القيني . وكان عليٌ صالَحَ الحجّاج فهدّ منهم ثم أبى بكر القتال . وحمل بَسْطَامُ بن مَصْقَلَةَ هُبَيْرَةَ في أربعة آلاف من فرسان الكوفة والبصرة، كسروا جفون سيوفهم وحملوا على أهل الشام فكشفوهم مرارا وأحاط بهم الرّماة ولحقوا فقتلوا . وحمل عبد الملك بن المهلب على أصحاب عبد الرحمن فكشفوهم. ثم حمل أصحاب الحجاج من كل جانب ، فأنهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه ، وأبو البُخْتُرِي الطافي وسلَّى بن الأشعث نحو سجستان . ويقال إن بعض الأعراب جاء إلى الحجّاج فدلّه على طريق من وراء معسكر ابن الأشعث ، فبعث معه أربعة آلاف جاؤُوا من ورائه ، وأصبح الحجّاج فقاتله واستطرد له حتى نهب معسكره . وأقبلت السريّة من الليل إلى معسكر ابن الأشعث ، وكان الغرقى منهم أكثر من القتلى ، وجاء الحجاج إلى المعسكر فقتل مَن وجد فيه ، وكان عدّة القتلى أربعة آلاف : منهم عبد الله بن شداد بن الهادي ، وبسطام بن مَصْقَلَةَ وعمر بن ربيعة الرقاشي ، وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم . ولما سار ابن الأشعث إلى سجستان أتبعه الحجّاج بالعساكر، وعليهم عمارة بن تميم اللخمي ، ومعهم محمد بن الحجّاج فأدركوه بالسوس فقاتلوه ، وانهزم إلى سابور واجتمع إليه الأكراد وقاتلوا العساكر قتالاَ شديداً فهزم ، وخرج عمارة ولحق ابن الأشعث بكرمان ، فلقيه عامله بها وهيا له النزول فنزل . ثم رحل إلى زَرْنَج فمنعه عامله من الدخول ، فحاصرها أياما ثم سار إلى بَسْتَ وعليها من قبله عَيَّاضُ بن هَمْيَان بن هشام السلوبِيّ الشيْبَاني ، ثم استغفله فأوثقه . وكان رَتْبيلُ ملك الترك قد سار ليستقبله ، ونزل على بَسْت وتهدّد عِياضاً فأطلقه ، وحمل رتبيل إلى بلاده وأنزله عنده . واجتمع المنهزمون فاتفقوا على قصد خراسان لينموا بعشائرهم ، وقصدوا للصلاة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث ، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث يستقدمونه ، فقَدِمَ عليهم وثناهم عن قصد خراسان مخافة من سطوة يزيد بن المهلـب ، وأن يجتمع أهل الشام وأهل خراسان ، فأبوا وقالوا بل يكثر بها تابِعنا . فسار معهم إلى هَرَاةَ، فهرب عنهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سُمْرَةَ فخشي الانتقاض وقال : إنما أتيتكم وأمركم جميعاً . وأنا لآن منصرف إلى صاحبي الذي جئت من عنده يعني رتبيل . ورجع عنهم في قليل . وبقي معظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس بسجستان فجمع بابن الأشعث وسار إلى خراسان في عشرين ألفاً، ونزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه . وبعث إليه يزيد بن المهلب بالرحلة من البلاد، فقال إنما نزلنا لنستريح ونرتحل . ثم أخذ في الجباية، وسار نحوه يزيد بن المهلب والتقوا فافترق أصحاب عبد الرحمن عنه ، وصبرت معه طائفة ثم انهزموا، وأمر يزيد بالكف عنهم وغنم ما في عسكرهم ، وأسر جماعة منهم ، فيهم محمد بن سعد بن أبي وقّاص وعمر بن موسى بن عبد الله بن معمر، وعباس بن الأسود بن عوف والهَلْقَام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز وأبو لبلج سولى عبيد الله بن معمر،وسوار بن مروان وعبد الله بن طلحة الطلحات وعبد الله بن فُضَالَةَ الزهراني الأزدي . ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسِّنْدِ وأتى ابن سمرَةَ إلى مرو، وانصرف يزيد إلى مرو. وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع سَيْدَةَ بن نَجْدَةَ، وقال له أخوه حبيب : ألا تبعث عبد الرحمن بن طلحة؟ فإن له عندنا يَدَيْن ، وقد ودى عن المهلب أبو طلحة مائة ألف ، فتركه وترك عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد. وبعث الباقين وقَدِموا عليه بمكان واسط قبل بنائها، فدعا بفيروز وقال : ما أخرجك مع هؤلاء وليس بينك وبينهم نسب . قال فتنة عمّت الناس ! قال اكتب أموالك ، فكتب ألفي ألف وأكثر. فقال للحجّاج وأنا آمن على دمي ، قال لا والله لتؤدِّينّها ثم أقتلك . قال لا تجمع مالي ودمي وأمر به فنُحِّي . ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقَاص فوبّخه طويلاً ثم أمر به فقتل ، ثم دعا بعمر بن موسى فوبخه ولاطفه في العذر فلم يقبل ثم أمر به فقتل . ثم أحضر الهَلْقَامَ بن نعيم فوبخه. وقال : ابن الأشعث طلب الممالك فما الذي طلبتَ أنت ؟ قال أن توليني العراق مكانك فأمر به فقتل . ثم أحضر عبد الله بن عامر فعذله في عبد الله بن زيد بن المهلب لأنه أطلق قومه من الأسر وقاد نحوه مطرا، فاطرق الحجّاج ثم قال : ما أنت وذاك ؟ ثم أمر به فقتل ، فلم يزل في نفسه من يزيد حتى عزله . ثم أمر بفيروز فعذب ، ولما أحسّ بالموت قال أظهروني للناس ليردّوا عليَ ودائعي ، فلما ظهر نادى مَن كان لي عنده شي فهو في حِل فأمر به فقتل ، وأمر بقتل عمر بن فهر الكندي وكان شريفاً، وأحضر أعشى همدان واستنشده قصيدته بين الأثلج وبين قيس ، وفيها تحريض ابن الأشعث وأصحابه فقال : ليست هذه وإنما التي بين الأثلج وبين قيس بارق على رويّ الدال ، فأنشده فلما بلغ قوله بخٍ بخ ٍللوالدة وللمولود. قال والله لا تبخبخ بعدها أبداً وقتل . وسأل الحجّاج عن الشَعْبي فقال له يزيد بن أبي مسلم أنه لحق بالريّ ، فكتب إلى قُتَيْبَةَ بن مسلم وهو عامله على الريّ بإرسال الشعبي . فَقَدِمَ على الحجّاج سنة ثلاث وثمانين ، وكان ابن أبي مسلم له صديقاً فأشار عليه بحُسْن الاعتذارِ. فلما دخل على الحجّاج سلّم عليه بالإمرة وقال : وايم الله لا أقول إلا الحق
قد والله حرَّضنا وجهدنا فما كنا أقوياء فَجَرَة، ولا أتقياء برَرَة، وقد نصرك الله وظفرت فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا . فقال الحجّاج هذا والله أحبّ إليّ ممن يقول ما شهدت ولا فعلت وسيفه يقطر من دمائنا . ثم أمنه وانصرف . ولما ظفر الحجّاج بابن الأشعث وهزمه ، لحق كثير من المنهزمين بعمر بن الصلت ، وقد كان غلب على الري في تلك الفتنة . فلما اجتمعوا أرادوا أن يحظوا عند الحجّاج ويمحوا عن أنفسهم ذنب الجماجم ، فأشاروا على عمر بخلع الحجّاج فامتنع ، فدشوا عليه أباه فأجاب . ولما سار قتيبة إلى الريّ خرجوا مع عمر لقتاله ثم غدروا به فانهزم ، ولحق بطبرستان وأقره الأصْبَهْبَد وأحسن إليه ، وأرادوا الوثوب على الأصبهبد فشاور أباه وقال : قد علمت الأعاجم أني أشرف منه ، فمنعه أبوه ودخل قتيبة الري ، وكتب الحجّاج إلى الأصبهبد أن يبعث بهم أو برؤُوسهم ففعل ذلك . ولما انصرف عبد الرحمن بن الأشعث من هراةَ إلى رتْبيل قال له علقمة بن عمر الأزدي لا أدخل معك دار الحرب لأن رتبيل إن دخل إليه الحجاج فيك وفي أصحابك
قتلكم أو أسلمكم إليه ، ونحن خمسمائة وقد تبايعنا على أن نتحصن بمدينة حتى نأمن أو نموت كراماً، وقدِمَ عليهم مودود البصرىِ ، وزحف إليهم عمارة بن تميم اللخمي وحاصرهم حتى استأمنوا فخرجوا إليه وقلاهم ، وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن يرهبه ويرغبه . وكان عبيد بن سميع التميمي من أصحاب ابن الأشعث ، وكان رسوله إلى رتبيل أوّلاً، فانس به رتبيل وزحف عليه وأغرى القاسم بن الأشعث أخاه عبد الرحمن بقتله ، فخافه وزيّن لرتبيل أخذ العهد من الحجّاج ، وإسلام عبد الرحمن إليه على أن يكف عن أرضه سبع سنين ، فأجابه رتبيل وخرج إلى عمارة سراٌ . وكتب عمارة إلى الحجّاج بذلك ، فأجاب وكتب له بالكفّ عنه عشر سنين ، وبعث إليه رتبيل برأس عبد الرحمن ، وقيل مات بالسلّ فقطع رأسه وبعث به ، وقيل أرسله مقيدا مع ثلاثين من أهل بيته إلى عمارة، فالقى عبد الرحمن نفسه من سطح القصر فمات ، فبعث عمارة برأسه وذلك سنة أربع أو خمس وثمانين . قد كنّا قدِمنا حصار المهلب مَدِينَةَ كش من وراء النهر فأقام عليها سنتين ، وكان استخلف على خراسان ابنه المغيرة.فمات سنة اثنتين وثمانين ، فجزع عليه وبعث ابنه يزيد إلى مرو ومكنه في سبعين فارساً، ولقيهم في مفازة نَسني جمع من الترك يقاربون الخمسمائة، فقاتلوهم قتالاً شديداً يطلبون ما في أيديهم والمغيرة يمتنع حتى أعطى بعض
أصحابه لبعضهم شيئاً من المتاع والسلاح ، ولحقوا بهم ولحق يزيد بمرو. ثم سال أهل كش من المهلب الصلح على مال يعطونه ، فاسترهن منهم رهناً من أبنائهم في ذلك ، وانفتل المهلّب وخلف حريث بن قطنة مولى خُزَاعة ليأخذ الفدية ويرد الرهن ، فلما صار ببلّخ كتب إليه لا تخل الرهن وإن قبضت الفدية حتى تقدم أرض بلخ لئلا يغيروا عليك. فاقرأ صاحب كشَ كتابه وقال : إن عجّلت أعطيتك الرهن ، وأقول له جاء الكتاب بعد إعطائه . فعجّل صاحب كش بالفدية وأخذ الرهن ، وعرض له الترك كما عرضوا ليزيد وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى، ففدوهم فرداً فرداً وأطلقهم . ولما وصل إلى المهلب ضربه ثلاثين سوطاً عقوبة على مخالفة كتابه في الرهن. فحلف حريث أن ابن قطنة ليقتلن المهلب ، وخاف ثابتاً إن كان ذلك المسير إليه . فبعث إليه المهلب أخاه ثابت بن قطنة يلاطفه فأبى وحلف ليقتلنَ المهلب ، وخاف ثابت إن كان ذلك أن يقتلوا جميعاً فأشار عليه باللحاق بموسى بن عبد الله بن حازم ، فلحق به في ثلاثمائة من صحابهما . ثم هلك المهلب واستخلف ابنه يزيد، وأوصى ابنه حبيباً بالصلاة وأوصى ولده جميعا بالاجتماع والإلفة، ثم قال : أوصيكم بتقوى الله وصِلة الرحم فإنها تنسىءُ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والذلّة والقلّة ، وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن فِعالكم أفضل من مقالكم . واتقوا الجواب وزلة اللسان ، فإن الرجل تزل قدمه فينعش ويزلّ لسانه فيهلك ، واعرفوا لمَن يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له . وآثروا الجود على البخل وأحبّوا العرف واصنعوا المعروف ، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت فكيف بالصنيعة عنده . وعليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاءُ نزل القضاءُ، وإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر، لان لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب . وعليكم بقراءة القرآن وتعلّم السُنن وآداب الصالحين ، وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم . ثم مات وذلك سنة اثنتين وثمانين .
ويقال إنه لما حثّهم على الإلفة والاجتماع أحضر سهاما محزومة فقال أتكسرون هذه مجتمعة قالوا لا . قال فتكسرونها متفرقة؟ قالوا نعم . قال فهكذا الجماعة . واستولى يزيد على خراسان بعد أبيه ، وكتب له الحجّاج بالعهد عليها . ثم وضع العيون على بَيْزَكَ حتى بلغه خروجه عن قلعته ، فسار إليها وحاصرها ففتحها وغنم ما كان فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع . وكان بيزك إذا أشرف عليها يسجد لها . ولما فتحها كتب إلى الحجّاج بالفتح ، وكان كاتبه يَعْمُرُ العَدْواني حليف هُذَيْل فكتب : إنّا لقينا العدو فمنحنا الله أكنافهم ، فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة بروُوس الجبال ومهامه الأودية وأهضام الغيطان وأفناءِ الأنهار. فقال الحجّاج : مَن يكتب ليزيد؟ قيل يحيى بن يعمر: فكتب بحمله على البريد . فلما جاءه قال أين ولدت ؟ قال بالأهواز. قال فمن أين هذه الفصاحة؟ قال حفظت من أولاد أبي وكان فصيحاً . قال يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال نعم كثيراً ! قال ففلان ؟ قال نعم ! قال فإنا ؟ قال تلحن خفيفا، تجعل أن موضع إنَّ وإنَّ موضع أن . قال أجلتك ثلاثاً وإن وجدتك ، بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان .
بناء الحجاج مدينة واسط :
كان الحجاج يُنْزِل أهل الشام على أهل الكوفة، فضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان سنة ثلاث وثمانين ، وعسكروا قريباً من الكوفة حتى يستتمّوا ، ورجع منهم ، ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمّه ، فطرق بيته ودق الباب فلم يفتح له إلا بعد هنيهة، وإذا سكران من أهل الشام فشكت إليه ابنة عمّه مراودته إياها، فقال لها ائذني له فأذنت له ، وجاء فقتله الفتى وخرج إلى العسكر. وقال ابعثي إلى الشاميين وارفعي إليهم صاحبهم ، فأحضروها عند الحجاج فأخبر لَه . فقال صدقت ! وقال للشاميين لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار. ثم نادى مناديه لا ينزل أحد على أحد، وبعث الروّاد فارتادوا له مكان واسط ، ووجد هناك راهباً ينظّف بقبعته من النجاسات فقال : ما هذه ؟ قال نجد في كتبنا أنه ينشأ ههنا مسجد للعبادة . فاختطَّ الحجّاج مدينة واسط هنالك وبنى المسجد في تلك البقعة . عزل يزيد عن خراسان : يقال إن الحجّاج وفد إلى عبد الملك ومرّ في طريقه براهب قيل له إن عنده علماً من الحدثان فقال : هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه ؟ قال نعم : فقال مُسَمى أو موصوفا؟ قال موصوفا. قال : فما تجدون صفة ملكنا؟ قال صفته كذا . قال ثم مَن ؟ قال آخر اسمه الوليد . قال ثم مَن ؟ قال آخر اسمه ثَقَفِي . قال فمَن تجد
بعدي ؟ قال رجل يدعى يزيد . قال أتعرف صفته ؟ قال لا أعرف صفته إلا أن يغدر غدرة . فوقع في نفس الحجّاج أنه يزيد بن المهلب ، ووجل منه ، وقَدِمَ على عبد الملك . ثم عاد إلى خراسان وكتب إلى عبد الملك يدعى يزيدَ وآل المهلب وأنهم زُبَيْرِية، فكتب إليه أن وفاءهم لآل الزبير يدعوهم إلى الوفاء لي . فكتب إليه الحجّاج يخوّفه غدرهم وما يقول الراهب . فكتب إليه عبد الملك أنك أكثرت في يزيد فانظر مَن تولي مكانه . فسمّى له قتيبة بن مسلم ، فكتب له أن يولّيه . وكره الحجّاج أن يكاتبه بالعزل ، فاستقدمه وأمره أن يستخلف أخاه المفضل ، واستشار يزيد حُصَيْن بن المُنْذِر الرَقَاشِي فقال له : أقم واعتل ، وكاتِبْ عبد الملك فإنه حسن الرأي فيك . نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره الخلاف ، وأخذ يتجهّز
وأبطأ . فكتب الحجّاج إلى المفضل بولاية خراسان واستلحاق يزيد . فقال إنه لا يضرّك بعدي ، وإنما ولاّك مخافة أن أمتنع . وخرج يزيد في ربيع سنة خمس وثمانين . ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته ، وولّى قتيبة بن مسلم . وقيل سبب عزل اليزيد أن الحجّاج أذلّ العراق كلهم إلآ آل المهلب ، وكان يستقدم يزيد فيعتل عليه بالعدا والحروب . وقيل كتب إليه أن يغزو خوارزم فاعتذر إليه بانها قليلة السلَبَ شديدة الكَلَف . ثم استقدمه بعد ذلك فقال إلى أن أغزو خوارزم . فكتب الحجّاج لا تغزها، فغزاها وأصاب سُبيا وصالحه أهلها، وانفتل في الشتاء . وأصاب الناس البرد فتدثّروا بلباس الأسرى فبقوا عرايا ، وقتلهم المفضل . ولما ولّي المفضل خراسان غزا باذغِيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه ، ثم غزا شومان فغنم وقسم ما أصابه . مقتل موسى بن حازم : كان عبد الله بن حازم لما قتل بني تميم بخراسان ، وافترقوا عليه فخرج إلى نيسابور، وخاف بنو تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى : اقطع نهر بلخ حتى نلتجىء إلى بعض الملوك أو إلى حِصْنٍ نقيم فيه . فسار موسى عن مرو في مائتين وعشرين فارساً، واجتمع إليه شبه الأربعمائة، وقوم من بني سليم ، وأتى قُمْ فقاتله أهلها فظفر بهم ، وأصاب منهم مالاً، وقطع النهر. وسأل صاحب بخارى أن يأوي إليه فأبى وخافه ، وبعث إليه بصلة فسار عنه ، وعرض نفسه على ملوك الترك فأبوا خشية منه ، وأتى سمرقند فأذن له ملكها طرخونُ ملك الصغْدِ في المقام فأقام ، وبلغه قتل أبيه عبد الله بن حازم ولم يزل مقيما بسَمَرْقَنْدَ . وبارز بعض أصحابه يوماً بعض الصغْدِ فقتله ، فأخرجه طرخون عنه فأتى كِشُّ فنزلها، ولم يطق صاحبها مدافعته ، واستجاش عليه بطرخون . فخرج موسى للقائه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس ، فاقتتلوا إلى الليل ، ودسّ موسى بعض أصحابه إلى طرخون يخوَفه عاقبة أمره ، وأن كل مَن يأتي خراسان يطالبه بدمه . فقال يرتحل عن كش ؟ قال له نعم ! وكف حتى ارتحل وأتى ترمذ، فنزل إلى جانب حصن بها مشرف على النهر، وأبى ملك تِرْمُذَ من تمليكه الحصن ، فأقام هنالك ولاطف الملك ، وتودَّد له وصار يتصيد معه . وصنع له الملك يوماً طعاما وأحضره في مائة من أصحابه ليأكلوا، فلما طعموا امتنعوا من الذهاب . وقال موسى : هذا الحصن إمّا بيتي أو قبري ، وقاتلهم فقتل منهم عدّة، واستولى على الحصن وأخرج ملك تِرْمُذَ ولم يتعرّض له ولا لأصحابه . ولحق به جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم ، وكان يغير على ما حوله.
ولما وَليَ أميّة خراسان سار لغزوه ، وخالفه بكير كما تقدّم . ثم بعث إليه بعد صلحه مع بكير الجيوش مع رجل من خُزَاعَةَ وحاصروه . وعاود ملك ترمذ استنصاره بالترك في جمع كثير، ونزلوا عليه من جانب آخر. وكان يقاتل العرب أوّل النهار والترك آخره ثلاثة أشهر. ثم بيّت الترك ليلة فهزمهم وحوى عسكرهم بما فيه من المال والسلاح ، ولم يهلك من أصحابه إلا ستة عشر رجلا ً. وأصبح الخزاعي والعرب وقد خافوا مثلها . وغدا عمر بن خالد بن حصين الكلابي على موسى بن حازم وكان صاحبه فقال إنا لا نظفر إلا بمكيدة فاضربني وخلني ، فضربه خمسين سوطا، فلحق بالخزاعي وقال : إن ابن حازم اتهمني بعصبيتكم ، وإني عين لكم فأمنه الخزاعي وأقام عنده . ودخل عليه يوماً وهو خالٍ فقال له لا ينبغي أن تكون بغير سلاح . فرفع طرف فراشه وأراه سيفا منتضى تحته فضربه عمر حتى قتله ولحق بموسى . وتفرق الجيش واستأمن بعضهم موسى . ولما وليَ المُهَلَّب على خراسان قال لبنيه إياكم وموسى! فإنه إن مات جاء على خراسان أمير من قَيْسٍ . ثم لحق به حُرَيْث وثابت ابنا قَطْنَةَ الخُزاعي فكانا معه . ولما ولي يزيد أخذ أموالهما وحرمهما ، وقتل أخاهما للأم الحَارث بن مُعَقَّد ، فسار ثابت إلى طرخون صريخاً، وكان محببا إلى الترك فغضب له طرخون . وجمع له نيزك وملك الصعد وأهل بخارى والصاغان ، فقَدِموا مع ثابت إلى موسى وقد اجتمع عليه فَلُّ عبد الرحمن بن عباس من هَرَاةَ وفلُّ ابن الأشعث من العراق ومن كابل . فكان معه نحو ثمانية آلاف ، فقال له ثابتَ وحريث : سر بنا في هذا العسكر مع الترك ، فنخرج يزيد من خراسان ونوليك ، فحذّر موسى أن يغلباه على خراسان ، ونصحه بعض أصحابه في ذلك فقال لهما إن أخرجنا يزيد قَدِمَ عامل المدينة عبد الملك ، ولكنّا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر ويكون لنا ، فأخرجوهم وانصرف طرخون والترك. وقوي أمر العرب بترمذ وجبوا الأموال ، واستبد ثابت وحريث على موسى وأغراه أصحابه بهما فهمَّ بقتلهما، واذا بجموع العجم قد خرجت إليهم من الهَيَاطِلة والتّبتِ والتُّرْكِ ، فخرج موسى فيمن معه للقتال . ووقف ملك الترك على ما قيل في عشرة آلاف ، فحمل عليهم حريث بن قسطْنَةَ حتى أزالهم عن موضعهم ، وأصيب بسهم في وجهه وتحاجزوا . ثم بيتّهم موسى فانهزموا، وقتل من الترك خلق كثير، ومات منهم قليل . ومات حريث بعد يومين ، ورجع موسى بالظفر والغنيمة . وقال له أصحابه قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت فأبى . وبلغ ثابت بعض ما كانوا يخوضون فيه ، ودسّ محمد بن عبد الله الخزاعي عليهم على أنه من سبي الباسيان ولا يحسن العربية، فاتصل بموسى وكان ينقل إلى ثابت خبر أصحابه فقال لهم ليلة قد أكثرتم عليَ فعلى أيّ وجه تقتلونه ولا أغدر به ؟ فقال له أخوه نوح إذا أتاك غداً عدلنا به إلى بعض الدور فقتلناه قبل أن يصل إليك . فقال والله إنه لهلاككم ! وجاء الغلام إلى ثابت بالخبر فخرج من ليلته في عشرين فارساً ، وأصبحوا ففقدوه وفقدوا الغلام فعلموا أنه كان عيناً . ونزل ثابت بحشور واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجمِ . وسار إليه موسى وقاتله ، فحصر ثابتاً بالمدينة . وأتاه طرخون مدد فرجع موسى إلى تِرْمُذ . ثم اجتمع ثابت وطرخون وأهل بخارى ونسف وأهل كش في ثمانين ألفاً . فحاصروا موسى بترمذ حتى جهد أصحابه . وقال يزيد بن هُذَيْل والله لأقتلنّ ثابتاً أو أموت ، فاستأمن إليه وحذّره بعض أصحابه منه ، فاخذ ابنيه قُدَامَةَ والضحّاك رهنا وأقام يزيد يتلّمس غِزةَ ثابت . ومات ابن الزياد والقصير الخزاعي ، فخرج إليه ثابت يعزّيه وهو بغير سلاح ، فضربه يزيد على رأسه وهرب . وأخذ طرخون قدامة والضحّاك ابني يزيد فقتلهما . وهلك ثابت لسبعة أيام وقام مكانه من أصحابه ظهير وضعف أمرهم ، وبيتهم موسى ليلاً في ثلثمائة، فبعث إليه طرخون كفّ أصحابك فإنّا نرحل الغداة . فرجع وارتحل طرخون والعجم جميعاً. ولما وَليَ المفضل خراسان بعث عثمان بن مسعود في جيش إلى موسى بن حازم ، وكتب إلى مُدْرِكَ بن المُهَلَّب في بلخ بالمسير معه ، فعبر النهر في خمسة عشر ألفاً، وكتب إلى رتبيل وإلى طرخون أن يكونوا مع عثمان ، فحاصروا موسى بن حازم فضيّقوا عليه شهرين ، وقد خندق عثمان على معسكره حذر البيات . فقال موسى لأصحابه اخرجوا بنا مستميتين واقصدوا الترك ، فخرجوا وخلف النضْرُ ابن أخيه سليمان في المدينة . وقال له : إن أنا قتلت فملك المدينة لمدرك بن المُهلَب دون عثمان ، وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال لا تقاتلوه إلا إن قاتلكم . وقصد طرخون وأصحابه وصدقوهم القتال ؟ فانهزم طرخون وأخذوا وحجزت الترك والصغد بينهم وبين الحصن ، فقاتلهم فعقروا فرسه وأردفه مولى له ، فبصر به عثمان حين وثب فعرفه فقصده ، وعقروا به الفرس وقتلوه ، وقتل خلق كثير من العرب . وتولى قتل موسى واصِل العَنْبَرِيّ ونادى منادي عثمان بكف القتل وبالأسر، وبعث ، النضر بن سليمان إلى مدرك بن المهلب فسلّم إليه مدينة تِرْمُذ ، وسلمها مدرك إلى عثمان . وكتب المفضل إلى الحجّاج بقتل موسى فلم يسرّه لأنه من قيس ، وكان قتل موسى سنة خمس وثمانين لخمس عشرة سنة من تغلبه على تِرْمذ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيعة للوليد بالعهد
وكان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد والبيعة لابنه الوليد وكان قبيصة ينهاه عن ذلك ويقول : لعلّ الموت يأتيه وتدفع العَار عن نفسك ، وجاءه رَوْحُ بن زنباغ ليلة وكان عنده عظيماً ففاوضه في ذلك فقال : لو فَعلته ما انتطح فيه عنزان . فقال نصلح إن شاء الله ! وأقام روح عنده ، ودخل عليهما قُبَيْصَة بن ذؤَيب من جنح الليل وهما نائمان وكان لا يحجب عنه وإليه الخاتم والسكّة ، فأخبره بموت عبد العزيز أخيه. فقال روح كفانا الله ما نريد. ثم ضمّ مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك ، وولاّه عليها . ويقال : إن الحجّاج كتب إلى عبد الملك يزيّن له بيعة الوليد، فكتب إلى عبد العزيز إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك فكتب له أن تجعَل الأمر له من بيعَة، فكتب له إني أرى في أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب له عبد الملك أن يحمل خراج مصر، فكتب إليه عبد العزيز إني وإياك يا أمير المؤمنين قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا، ولا ندري أيّنا يأتيه الموت فلا تفسد عليَّ بقية عمري ، فرق له عبد الملك وتركه . ولما بلغ الخبر بموت عبد العَزيز عبد الملك أمر الناس بالبَيعة لابنه الوليد وسليمان ، وكتب بالبيعَة لهما إلى البلدان . وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي ، فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا، وأبى سعِيد بن المُسَيب فضربه ضرباً مبرحاً، وطاف به وحبسه . وكتب عبد الملك إلى هشام يلومه ويقول : إن سعيدا ليس عنده شقاق ولا نفاق ولا خلاف ، وقد كان ابن المسيب امتنع من بيعَة ابن الزبير، فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطاً، وكتب إليه ابن الزبير يلومه . وقيل : إن بيعَة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين ، والأول أصحّ. وقيل قَدِمَ عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر، فلما فارقه وصّاه عبد الملك فقال ابسط بشرك ، وألِنْ كنفك ، وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ لك ، وانظر حاجبك ، وليكن من خير أهلك ، فإنه وجهك ولسانك . ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الذي تأذن له أو تردّه ، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك ، وتثبت ، في قلوبهم محبتك . وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المبهمة . واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ، ولن يهلك امرؤٌ من مشورة . وإذا سخطت على أحد فأخِّر عقوبته ، فإنك على العُقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردّها بعد إصابتها .
وفاة عبد الملك وبيعة الوليد
ثم توفي عبد الملك منتصف شوّال سنة ست وثمانين ، وأوصى إلى بنيه فقال : أوصيكم بتقوى الله ، فإنها أزين حلية وأحصن كهف ، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه ، فإنه نابكم الذي عنه تفترّون ، ولحيكم الذي عنه ترمون . وأكرموا الحجّاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر، ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم مغنى الأعداء . وكونوا بني أم بررة، لا تدب بينكم العقارب . وكونوا في الحرب أحرارا، فإن القتال لا يقرِّب منية . وكونوا للمعروف مناراً ، فإن المعروف يبقى أجره وذخره وذكره وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنه لصون له ، واشكر لما يؤتى إليهم منه ، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا ، وإن عادوا فانتقموا . ولما دفن عبد الملك قال الوليد : إنّا لله وإنا إليه راجعون والله المُستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين ، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة . فكان أوّل مَن عزّى نفسه وهنأها . ثم قام عبد الله بن همّام السامولي وهو يقول:
- الله أعْطَاكَ التي لا فَوْقَها وقد أراد المُلْحِدُونَ عَوْقَهَا
- عَنْكَ ويأبى الله إلا سَوْقَهَا إلَيْكَ حتى قَلدُوكَ طَوْقَهَا
وبايعه ثم بايعه الناس بعده ، وقيل إن الوليد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيّها الناس لا مقدِّم لما أخّره الله ، ولا مؤخّر لما قدمه الله ، وقد كان من قضاءِ الله وسابق علمه ، وما كتب على أنبيائه وحَمَلَة عرشه الموتُ ، وقد صار إلى منازل الأبرار ووبيَ هذه الأمة بالذي يحقّ عليه في الشدّة على المذنب واللين لأهل الحق والفضل ، لإقامة ما أقام الله من منازل الإسلام وإعلائه ، من حج البيت وغزو الثغور وشنّ الغارة على أعداء الله ، فلم يكن عاجزاً ولا مُفَرطا ً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع المنفرد. أيها الناس مَن أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، ومَن سكت مات بدائه ثم نزل .
ولاية قتيبة في مسلم خراسان وأخباره :
قَدِمَ قُتَيْبَةُ خراسان أميراً عن الحجّاج سنة ست وثمانين ، فعرض الجند وحثّ على الجهاد، وسار غازياً وجعل على الحرب بمرو إياس بن عبد الله بن عمرو، سوعلى الخراج عثمان بن السعد وتلقاه دهاقين البلخ والطالقان وساروا معه . ولما عبر النهر تلقّاه ملك الصُغانِيان بهداياه . وكان ملك أخْرُونَ وسومان يسيءُ جواره فدعاه إلى بلاده وسلّمها إليه . وسار قتيبة إلى أخرون وسومان وهو من طخارستان ، فصالحه ملكهما على فدية أدّاها إليه ، وقبضها ثم انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم ، ففتح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورَشْتَ من فَرْغَانَةَ ، ثم أخْسِيكَتَ مدينة فرغانة القديمة . وكان معه ابن يسار، وأبلى في هذه الغزاة . وقيل إن قتيبة قَدِمَ خراسان سنة خمس وثمانين ، وكان من ذلك السُبِيّ امرأة برمك . وكان بَرْقكُ على النُوبَهار، فصارت لعبد الله بن مسلم أخي قتيبة، فوقع عليها وعلقت منه بخالد، ثم صالح أهل بلخ وأمر قتيبة بردّ السُبي فالحق عبد الله به حملهما. ثم ردٌت إلى برمك . وذكر أن ولد عبد الله بن مسلم ادّعوه ورفعوا أمرهم إلى المهدي وهو بالريّ ، فقال لهم بعض قرابتهم إنكم إن استلحقتموه لا بدّ لكم أن تزوّجوه ، فتركوه . ولما صالح قتيبة ملك سومرن كتب إلى بترك طرخان صاحب باذغيس فيمن عنده من أسرى المسلمين ، وهدّدهم فبعث بهم إليه . ثم كتب إليه يستقدمه على الأمان ، فخشي وتثاقل ، ثم قَدِمَ وصالح لأهل باذغيس على أن لا يدخلها قتيبة، ثم غزا بيكَنْدَاد في مدائن بُخَارى إلى النهر سنة سبع وثمانين . فلما نزل بهم استجاشوا بالصُغْدِ وبمَن حولهم من الترك ، وساروا إليه في جموع عظيمة، وأخذوا عليه الطرق . فانقطعت الأخبار والرسل ما بينه وبين المسلمين شهرين ، ثم هزمهم بعض الأيام وأثخن فيهم بالقتل والأسْر وجاء إلى السور ليهدمه ، فسألوا الصلح فصالحهم ، واستعمل عليهم ، وسار عنهم غير بعيد . فقتلوا العامل ومَن معه ، فرجع إليهم وهدم سورهم ، وقتل المُقَاتِلَةَ وسبى الذُّرّيةَ، وغنم من السلاح وآنية الذهب والفضة ما لم يصيبوا مثله . ثم غزا سنة ثمان وثمانين بلد نُومَكَثْتَ ، فصالحوه وسار إلى رامِسَةَ فصالحوه أيضاً، فانصرف وزحف أيضاً إليه التُرْك والصُّغْد وأهل فرغانة في مائتي ألف ، ومَلِكُهُم كُورْبَعابُور ابن أخت ملك الصين ، واعترضوا مقدمته وعليها أخوه عبد الرحمن ، فقاتلهم حتى جاء قتيبة وكان ينزل معه ، فأبلى مع المسلمين . ثم انهزم الترك وجموعهم ، ورجع قتيبة إلى مرو، ثم أمره الحجّاج سنة تسع وثمانين بغزو بخارى وملكها ورْدانُ خُذَاه ، فعبر النهر من زمّ ، ولقيه الصغد وأهل كش ونسف بالمفازة وقاتلوه فهزمهم ومض إلى بخارى، فنزل عن يمين وردان ولم يظفر منه بشيءٍ ورجع إلى مرو. عمارة المسجد : كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع وثمانين ، لأربع سنين من ولايته ، وولّى عليها عمر بن عبد العزيز، فقَدِمها ونزل دار مروان ، ودعا عشرة من فقهاء المدينة
فيهم الفقهاءُ السبعة المعروفون ، فجعلهم أهل مشورته لا يقطع أمراً دونهم ، وأمرهم أن يبلّغوه الحاجات والظلامات فشكروه وجزوه خيراً ، ودعا له الناس . ثم كتب إليه سنة ثمان أن يدخل حِجْرَ أمهات المؤمنين في المسجد ويشتري ما في نواحيه ، حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها، وقدم القبلة. ومَن أبى أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل ، وادفع إليه الثمن ، واهدم عليه الملك ، ولك في عمر وعثمان أسوة . فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها وبعث الوليد إلى ملك الروم أنه يريد بناء المسجد، فبعثَ إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب ، ومائة من الفعلة، وأربعين حملاً من الفُسَيْفِساء، وبعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز، واستكثر معهم من فعَلَة الشام ، وشرع عمر في عمارته اهـ . ووَلَّى الوليد في سنة تسع وثمانين على مكة خالد بن عبد الله القسْرِي.
فتح السند: كان الحجّاج قد ولّى على ثغر السند ابن عمّه محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل ، وجهّز معه ستة آلاف مقاتل ، ونزل مكران ، فأقام بها أياماً . ثم أتى فيريوز ففتحها، ثم أرْمايِل . ثم سار إلى الدَبيل وكان به بد عظيم في وسط المدينة على رأسه دقْل عظيم وعليه راية . فإذا هبّت الريح دارت فأطافت بالمدينة . والبدّ صنم مركوز في بناءٍ ، والدقل منارة عليه . وكل ما يعبد فهو عندهم بدّ . فحاصر الدبيل ورماهم بالمنجنيق ، فكسر الدقل فتطيّروا بذلك . ثم خرجوا إليه فهزمهم ، وتسنم الناس الأسوار ففتحت عنوة، وأنزل فيها م أربعة آلاف من المسلمين ، وبنى جامعها وسار عنها إلى النَيْروز . وقد كانوا بعثوا إلى الحجّاج وصالحوه ، فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم ، وسار عنها . وجعل لا يمرّ بمدينة من مدائن السند إلا فتحها حتى بلغ نهر مهران ، واستعد ملك السند لمحاربته واسمه داهر بن صَصة . ثم عقد الجسر على النهر وعبر، فقاتله داهر وهو على الفيل وحوله الفيلة . ثم اشتد القتال وترجل داهر، فقاتل حتى قتل ، وانهزم الكفّار واستلحمهم المسلمون . ولحقت امرأة داهر بمدينة رارو فساروا إليها وخافته فاحرقت نفسها وجواريها . وملك المدينة ولحق الفلّ بمدينة بدهَمْتَابَادَ العتيقة على فرسخين من مكان المنصورة، وهي يومئذ غَيْضَة، ففتحها عنوة واستلحم مَن وجد بها
وخرّبها . ثم استولى على مدائن السند واحدة واحدة، وقطع نهر ساسِل إلى الملقاد، فحاصرها وقطع الماء عنها، فنزلوا على حكمه . فقتل المقاتلة وسبى الذريّة، وقتل سَدَنَةَ البلد وهم ستة آلاف . وأصابوا في البلد ذهباً كثيراً في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية ، كانت الأموال تُهدى إليه من البلدان ، ويحجّون إليه ويحلقون شعرهم عنده ، ويزعمون أنه هو أيوب . فاستكمل فتح السند، وبعث من الخمس بمائة وعشرين ألف ألفٍ وكانت النفقة نصفها .
فتح الطالقان وسمرقند وغرو كشّ ونسف والشاش وفرغانة وصلح خوارزم : قد تقدّم أن قتيبة غزا بخارى سنة تسع وثمانين ، وانصرف عنها ولم يظفر. وِبعث إليه الحجّاج سنة تسعين يوبّخه على الانصراف عنها ويأمره بالعَوْد . فسار إليها ومعه نيْزَكُ طُرْخَان صاحب باذغيس ، وحاصرها . واستجاش ملكها وردان ، أخذاه بمَن حوله من الصُغْدِ والترْكِ . فلما جاء مددهم خرجوا إلى المسلمين ، وكانت الأزد في المقدّمة، فانهزموا حتى جازوا عسكر المسلمين ثم رجعوا ، وزحفت العساكر حتى ردوا الترك إلى موقفهم . ثم زحف بنو تميم وقاتلوا الترك حتى خالطوهم في مواقفهم وأزالوهم عنها . وكان بين المسلمين وبينهم نهر لم يتجاسر أحد على عبوره إلا بنو تميم ، فلما زالوا عن مواقفهم عبر الناس واتبعوهم وأثخنوا فيهم بالقتل ، وخرج خاقان وابنه وفتح الله على المسلمين ، وكتب بذلك إلى الحجّاج . ولما استوت الهزيمة جاء طرخون ملك الصغد ومعه فارسان ، ودنا من عسكر قتيبة يطلب الصلح على فدية يؤدّيها فأجابه قتيبة وعقد له ، ورجع قتيبة ومعه نيزك ، وقد خافه لما رأى من الفتوح ، فاستأذنه في الرجوع وهو بآمُدَ، فرجع يريد طَخارِسْتَانَ ، وأسرع السير. وبعث قتيبة إلى المغيرة بن عبد الله يامره بحبسه ، وتبعه المغيرة فلم يدركه ، وأظهر نيزك الخلع ودعا لذلك الأصْبَهْبَذَ ملك بَلْخَ وباذان ملك مَرْو الروذ وملك الطالِقان وملك ألقاًرباب وملك الجَوْزَجَانِ فأجابوه ، وتوعدوا لغزو قتيبة . وكتب إلى كاتب شاه يستظهر به وبعث إليه بأثقاله وأمواله ، واستأذنه في الإتيان إن اضطر إلى ذلك . وكان جَيْفُونَةُ ملك
طخارستان نيزك عنده ، فاستضعفه وقبض عليه وقيّده خشية من خلافه ، وأخرج عامل قتيبة من بلده . وبلغ قتيبة خبرهم قبل الشتاء وقد تفرّق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألف إلى البروقان ، وقال أقم بها ولا تُحْدِث شيئاً، فإذا انقضى الشتاءُ تقدّم إلى طخارستان وأنا قريب منك . ولما انصرم الشتاء استقدم قتيبة الجنود من نيسابور وغيرها ققدموا ، فسار نحو الطالقان وكان ملكها قد دخل معهم في الخلع ، ففتحها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في مثلها، واستخلف عليها أخاه محمد بن مسلم ،وسار إلى القارِباتِ فخرج إليه ملكها مطيعاً . واستعمل عليها وسار إلى الجوزجان فلَقيَه أهلها بالطاعة، وهرب ملكها إلى الجبال واستعمل عليها عامر بن ملك الحماس . ثم أتى بلخ وتلقّاه أهلها بالطاعة، وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب حمله ، ومض نيزك إلى بغلان وخلف المقاتلة على فم الشعب ولا يهتدي إلى مدخل ، ومضايقوه يمنعونه . ووضع أثقاله في قلعة من وراء الشعب . وأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على فم الشعب ولا يهتدي إلى مدخل ، حتى دلّه عليه بعض العجم هنالك على طريق سرب منه الرجال إلى القلعة فقاتلوهم ، وهرب مَن بقي منهم ومضى إلى سمنجان ثم إلى نيزك ، وقدّم ، أخاه عبد الرحمن . وارتحل نيزك إلى وادي فرغانة ، وبعث أثقاله وأمواله إلى كابل شاه ، ومضرَ إلى السكون فتحضن به ولم يكن له إلا مَسْلَكٌ واحد صب على الدواب ، فحاصره قتيبة شهرين حتى جهدوا وأصابهم جهد الجُدَري . وقَرُبَ فصل الشتاء فدعا قتيبة بعض خواصّه ممّن كان يصادق نيزك فقال : انطلق إليه وأثنِ عليه بغير أمان ، وإن أعياك فأمّنه . وإن جئت دونه صلبتك . فمض الرجل وأشار عليه بلقائه وأنه عازم على أن يشقّ هنالك ، فقال أخشاه ! فقال له لا يخلّصك إلا إتيانك ، وتنّصح له بذلك وبأنه يخشى عليه من غدر أصحابه الذين معه . ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب ، وهو يمتنع حتى قال له إنه قد أمنك . فأشار عليه أصحابه بالقبول لعلمهم بصدقه ، وخرج معه نيزك ومعهم جيفونة ملك طخارستان الذي كان قيده ، حتى انتهوا إلى الشعب وهناك خيل أكمنه الرجل ما كان فيه ، وكتب إلى الحجّاج يستأذنه في قتل نيزك ، فوافاه كتابه لأربعين يوماً بقتله فقتله ، وقتل معه صول طرخان خليفة جيفونة وابن أخي نيزك ومن أصحابه
سبعمائة وصلبهم ، وبعث برأسه إلى الحجاج . وأطلق جيفونة وبعث إلى الوليد . ثم رجع إلى مرو. وأرسل إليه ملك الجوزجان يستأمنه ، فأمنّه على أن يأتيه ، فطلب الرهن فأعطاه وقَدِم . ثم رجع فمات بالطالقان وذلك سنة إحدى وتسعين . ثم سار إلى شومان فحاصرها، وقد كان ملكها طرد عامل قتيبة من عنده ، فبعث إليه بعد مرجعه من هذه الغزاة أن يؤدّي ما كان صالح عليه ، فقتل الرسول ، فسار إليه قتيبة وبعث له صالح أخو قتيبة وكان صديقه ينصحه في مراجعة الطاعة فأبى ، فحاصره قتيبة ونصب عليه المجانيق ، فهدم الحصن وجمع الملك ما في الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر لا يدرك قعره ، ثم استمات وخرج فقاتل حتى قتل . وأخذ قتيبة القلعة عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذريّة، ثم بعث أخاه عبد الرحمن إلى الصُغْد وملكهم طرخون ، فأعطى ما كان صالح عليه قتيبة . وسار قتيبة إلى كشّ ونسف فصالحوه ، ورجع ولقي أخاه ببخارى وساروا إلى مرو . . ولما رجع عن الصغْدِ حبس الصغد ملكهم طرخون لإعطائه الجزية، وولوا عليهم غورك ، فقتل طرخون نفسه . ثم غزا في سنة اثنتين وتسعين إلى سِجِسْتان يريد رَتْبِيل ، فصالحه وانصرف . وكان ملك خوارزم قد غلبه أخوه خَرَاد علي أمره وكان أصغر منه ، وعاثَ في الرعيّة وأخذ أموالهم وأهليهم ، فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه على أن يمكّنه من أخيه ومن عصاه من دونهم . فأجابه قتيبة ولم يُطلِع الملك أحداً من مرازِبَتِهِ على ذلك . وتجهّز قتيبة سنة ثلاث وتسعين وأظهر غزو الصغد، فأقبل أهل خوارزم على شأنهم ولم يحتفلوا بغزوه وإذا به قد نزل هزار سبّ قريباً منهم . وجاء أصحاب خوارزم شاه إليه يدعوه للقتال. فقال ليس لنا به طاقة! ولكن نصالحه على شيءٍ نعطيه كما فعل غيرنا . فوافقوه وسار إلى مدينة الفِيد من وراء النهر، وهذا حصن بلاده . وصالحه بعشرة آلاف رأس وعين ومتاع ، وأن يعينه على خامِ جُرد، وقيل على مائة ألف رأس . وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد وهو عدو لخوارزم شاه ، فقاتله وقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه ، وأسر منهم أربعة آلاف فقتلهم . وسلم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومَن كان يخالفه من أمرائه فقتلهم ، ودفع أموالهم إلى قتيبة. ولما قبض قتيبة أموالهم أشار عليه المُحشرُ بن مُخَازِمِ
السلَمِيّ بغزو الصغْد وهم آمنون على مسافة عشرة أيام . فقال اكتم ذلك ، فقدّم أخاه الفرسان والرّماة ، وبعثوا بالأثقال إلى مرو، وخطب قتيبة الناس وحثّهم على الصغد وذكرهم الضغائن فيهم . ثم سار فأتى الصغد بعد ثلاث من وصول أخيه ، فحاصرهم بسمرقند شهرا واستجاشوا ملك الشاش وأخشاد خاقان وفرغانة ، فانتخبوا أهل النجدة من أبناء الملوك والمرازبة والأساورة ، وولّوا عليهم ابن خاقان وجاوُوا إلى المسلمين ، فانتخب قتيبةُ من عسكره ستمائة فارس ، وبعث بهم أخاه صالحاً لاعتراضهم في طريقهم ، فلقوهم بالليل وقاتلوهم أشدّ قتال ، فهزموهم وقتلوهم وقتلوا ابن خاقان ولم يفلت منهم إلا القليل وغنموا ما معهم ، ونصب قتيبة المجانيق فرماهم بها وثلم السور واشتد في قتالهم ، وحمل الناس عليهم إلى أن بلغوا الثلمة . ثم صالحوه على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام ، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس ، وأن يمكّنوه من بناءِ مسجد بالمدينة ويخلوها حتى يدخل فيصلّي فيه . فلما فعل ذلك ودخل المدينة أكرههم على إقامة جند فيها . وقيل إنه شرط عليهم الأصنام وما في بيوت النار، فأعطوه فاخذ الحلية وأحرق الأصنام وجمع من بقايا مساميرها، وكانت ذهباً، خمسين ألف مثقال . وبعث بجارية من سبيها من ولد يزدجرد إلى الحجّاج ، فأرسلها الحجّاج إلى الوليد وولدت له يزيد . ثم قال فورك لقتيبة انتقل عنّا، فانتقل وبعث إلى الحجّاج بالفتح . ثم رجع إلى مرو، واستعمل على سمرقند إياس بن عبد الله على حربها، وعبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم على خراجها، فاستضعف أهل خوارزم إياساً وجمعوا له ، فبعث قتيبة عبد الله عاملا ًعلىِ سمرقند، وأمره أن يضرب إياساً وحبايا السطي مائة مائة وبخلعهما. فلما قرب عبد الله من خوارزم مع المغيرة بن عبد الله فبلغهم ذلك ، وخشي ملكهم من أبناء الذين كان قتلهم ففر إلى بلاد الترك . وجاء المغيرة فقتل وسبى وصالحه الباقون على الجزية، ورجع إلى قتيبة فولاّه على نيسابور. ثم غزا قتيبة سنة أربع وتسعين . إلى ما وراء النهر، وفرض البعث على أهل بُخارى وكَشّ ونسَفَ وخوارزم ، فسار منهمٍ عشرون ألف مقاتل فبعثهم إلى الشاش . وسار هو إلى خَجَنْدَةَ فجمعوا له واقتتلوا مرارا كان الظفر فيها للمسلمين ، وفتح الجند الذين ساروا إلى مدينة الشاش وأحرقوها،. ورجعوا إلى قتيبة وهو على كشان مدينة فَرْغَانَةَ وانصرف إلى مرو. ثم بعث الحجّاج إليه جيشاً من العراق وأمره بغزو الشاش فسار لذلك وبلغه موت الحجّاج فرجعوا إلى مرو.
خبر يزيد بن المهلب وإخوته : كان الحجّاج قد حبس يزيد وإخوته سنة ست وثمانين ، وعزل حبيب بن المُهَلب عن كرمان فأقاموا في محبسهم إلى سنة تسعين ، وبلغه أن الأكراد غلبوا على فارس ، فعسكر قريباً من البصرة للبعث ، وأخرج معه بني المهلب وجعلهم في فسطاط قريباً منه ، ورتّب عليهم الحرس من أهل الشام . ثم طلب منهم ستة آلاف ألف ، وأمر بعذابهم وبكت أختهم هند بنت المهلّب زوجة الحجّاج فطلّقهَا . ثم كفَّ عنهم وجعل يستأدبهم ، وبعثوا إلى أخيهم مروان وكان على البصرة أن يعذ لهم خيلا، وكان حبيب منهم يعذب بالبصرة . فصنع يزيد للحرس طعاماً كثيراً وأمر لهم بشراب ، فأقاموا يتعاقرون ، واستغفلهم يزيد والمُفضلُ وعبد الملك وخرجوا ولم يفطنوا لهم . ورفع الحرس خبرهم إلى الحجّاج فخشيهم على خراسان ، وبعث البريد إلى قُتيْبَةَ بخبرهم ليحذّرهم ، وكان يزيد قد ركب السفن إلى البطائح ، واستقبلته الخيل المُعدّة له هناك ، وساروا إلى الشام على السماوة ومعهم دليل من كلب . ونمي خبرهم ، فبعث إلى الوليد بذلك ، وقَدِموا إلى فلسطين فنزلوا على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي ، وكان كريماً على سليمان فاخبره بحالهم .، وأنهم استجاروا به من الحجّاج ، فقال ائتني بهم فقد أجرتهم . وكتب الحجّاج إلى الوليد أن بني المهلب خانوا مال الله وهربوا مني فلحقوا بسليمان ، فسكن ما به لأنه كان خشيهم على خراسان كما خشيهم الحجّاج ، وكان غاضِباً للمال الذي ذهبوا به . فكتب سليمان إلى الوليد أنَ يزيدا عندي وقد أمَّنته ، وكان الحجّاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدّ نصفها وأنا أودّي النصف . فكتب الوليد لا أؤَمّنه حتى تبعث به ، فكتب سليمان لأجيئن معه ، فكتب الوليد إذن لا أؤَمّنه . فقال يزيد لسليمان لا يتشاءَم الناس بي لكما، فاكتب معي وتلطف ما أطقت ، فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب ، وكان الوليد أمر أن يبعث مقيدا . فقال سليمان لابنه ادخل على عمّك أنت ويزيد في سلسلة . فقال الوليد لما رأى ذلك لقد بلغنا من سليمان . ثم دفع أيوب كتاب أبيه بالشفاعة وضمان المال عن يزيد، فقرأه الوليد واستعطفه أيوب في ذمّة أبيه وجواره ، وتكلم يزيد واعتذر، فأمنه الوليد ورجع إلى سليمان ، وكتب الوليد إلى الحجّاج
بالكفّ عنهم فكفّ عن حبيب ، وأبي عبسة وكانا عنده ، وأقام يزيد عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة . ولاية خالد القسري على مكة وإخراج سعيد بن جبير عنها ومتله : ولما كان في سنة ثلاث وتسعين كتب عُمَر بن عبد العزيز إلى الوليد يقصّ عليه أفعال الحجّاج بالعراق ، وما هم فيه من ظلمه وعدوانه ، فبلغ بذلك الحجّاج فكتب إلى الوليد : إنّ كثيرا من المُرَّاق وأهل الشقاق قد انجلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة ومنعهم عمر وأصابه من ذلك وهن . فولّى الوليد على مكّة خالد بن عبد الله القِسْرِيّ وعُثْمَانَ بن حَيَّانَ بإشارة الحجّاج ، وعزل عمر عن الحجاز وذلك في شعبان من السنة . ولما قَدِمَ خالد مكة أخرج مَن كان بها من أهل العراق كرها، وتهدّد مَن أنزل عراقيا أو أجره دارا، وكانوا أيام عمر بن عبد العزيز يلجا إلى مكة والمدينة كل مَن خاف الحجّاج فيأمن . وكان منهم سعيد بن جبير هاربا من الحجّاج ، وكان قد جعله على عطاء الجند الذين وجّههم مع عبد الرحمن بن الأشعث إلى قتال رتبيل . فلما خرج عبد الرحمن كان سعيد فيمن خلع ، فكان معه إلى أن هزم وسار إلى بلاد رتبيل ، فلحق سعيد بأصبهان وكتب الحجّاج فيه إلى عاملها فتحرّج من ذلك ، ودس إلى سعيد فسار إلى أذربيجان . ثم طال عليه المقام فخرج إلى مكة فكان بها مع ناس أمثاله من طلبة الحجّاج يستخفّون بأسمائهم. فلما قَدِمَ خالد بن عبد الله مكة أمره الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجّاج ، فاخذ سعيد بن جبير ومجاهدا وطلق بن حبيب ، وبعث بهم إلى الحجّاج فمات طلق في الطريق وجيء بالآخرين إلى الكوفة، وأدخلا على الحجّاج . فلما رأى سعيدا شتم خالدا القسري على إرساله وقال : لقد كنت أعرف أنه بمكة، وأعرف البيت الذي كان فيه ، ثم أقبل على سعيد وقال : ألم أشرِكْكَ في أمانتي ؟ ألم أستعملك ؟ ثم تفعلا ! يعدد أياديه عنده . فقال : بلى! قال : فما أخرجك على قتالي ؟ أنا امرؤٌ من المسلمين اخطىء مرّة وأصيب أخرى . ثم استمر في محاورته فقال : إنما كانت بيعة في عنقي فغضب الحجّاج وقال : ألم آخذ بيعتك لعبد الملك بمكة بعد مقتل ابن الزبير؟ ثم جددت له البيعة بالكوفة فأخذت بيعتك
ثانيا؟ قال : بلى! قال : فنكثت بيعتين لأمير المؤمنين ، وتوفي بواحدة للفاعل ابن ألفاًعل ، والله لأقتلنّك . فقال : إني لسعيد كما سمّتني أمي ، فضربت عنقه ، فهلّل رأسه ثلاثا أفصح منها بمرّة. ويقال إن عقل الحجّاج التبس يومئذ وجعل يقول قيودنا قيودنا فظنوها قيود سعيد بن جبير، فأخذوها من رجليه وقطعوا عليها ساقيه ، وكان إذا نام يرى سعيد بن جبير في منامه آخذا بمجامع ثوبه يقول : يا عدوّ الله فيمَ قتلتني فينتبه مرعوبا يقول ما لي ولسعيد بن جبير. وفاة الحجاج : وتوفي الحجّاج في شوّال سنة خمس وتسعين لعشرين سنة من ولايته العراق ، ولما حضرته الوفاة استخلف على ولايته ابنه عبد الله ، وعلى حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كَبْشَةَ، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم ، فاقرّهم الوليد بعد وفاته . وكتب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان : قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجهدك وجهادك أعداء المسلمين ، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي تحب ، فأتمم مغازيك وانتظر ثواب ربك ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك ، حتى كأني .أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه ، ولم يغير الوليد أحدا من عمّال الحجّاج . أخبار محمد بن القاسم بالسند : كان محمد بن القاسم بالمَلْتان وأتاه خبر وفاة الحجّاج هنالك فرجع إلى الدور والثغور وكان قد فتحه ثم جهّزه الناس إلى السلْمَاس مع حبيب فأعطوا الطاعة، وسالمه أهل شرست وهي مغزى أهل البصرة ، وأهلها يقطعون في البحر. ثم سار في العسكر إلى [*] فخرج إليه دوهر فقاتله محمد وهزمه وقتله ، ونزل أهل المدينة على حكمه فقتل وسبا. ولم يزل عاملاً على السند إلى أن ولي سليمان بن عبد الملك ، فعزله وولى يزيد بن أبي كَبْشَةَ السكْسَكِي على السند مكانه . فقيده يزيد وبعث به إلي العراق ، فحبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط ، وعذبه في رجال من قرابة الحجّاج على
قتلهم . وكان الحجّاج قتل أخاه آدم على رأي الخوارج. ومات يزيد بن أبي كبشة لثمان عشرة ليلة من مقدمه . فولّى سليمان على السند حبيب بن المُهَلبِ ، فقَدِمَها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ، ورجع حبشة بن داهر إلي برهما باذ، فنزل حبيب علِى شاطىء مهران ، وأعطاه أهل الروم الطاعة، وحارب فظفر، ثم أسلم الملوك لما كتب عمر بن عبد العزيز إلى الإسلام على أن يملكهم وهم أسوة المسلمين فيما لهم وعليهم ، فاسلم حبشة والملوك وتسمّوا بأسماء العرب وكان عُمَرُ بن مسْلِم الباهِلي عامل عمر على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند وظفر. ثم ولَّى الجُنَيْدَ بن عبد الرحمن على السند أيام هشام بن عبد الملك ، فأتى شطّ مهران . ومنعه حبشة بن داهر العبور وقال : إني قد أعملت وولّاني الرجل الصالح ، ولست آمنك فأعطاه الرهن ثم ردّها حبشة وكفر وحارب ، فحاربه الجنيد في السفن وأسره ثم قتله . وهرب صَصَةُ بن داهر إلى العراق شاكياً لغدر الجنيد، فلم يزل يؤنسه حتى جاءه فقتله . ثم غزا الجنيد المكيرج من آخر الهند وكانوا انقضّوا، فاتخذ كباشاً زاحفة ثم صكّ بها سور المدينة فثلمها، ودخل فقتل وسبى وغنم وبعث العمَال إلى المرمد والمعدل ودهج ، وبعث جيشاً إلى أرين فأغاروا عليها وأحرقوا ربضها ، وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف ، وحمل مثلها وولّى تميم بن زيد الضبِيّ فضعف ووهن ومات قريباً من الهدبيلِ . وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند وتركوا مراكزهم . ثم ولي الحكم ابن سَوّام الكلبيّ ، وقد كفر أهل الهند إلا أهل قَصَّةَ، فبنى مدينة سماها المحفوظة وجعلها ماوى المسلمين . وكان معه عمر بن محمد بن القاسم ، وكان يفوّض إليه عظائم الأمور وأغزاه عن المحفوظة . فلما قَدِمَ وقد ظهر أمره فبنى مدينة وسمّاها المنصورة وهي التي كان أمراءُ السند ينزلونها، واستخلص ما كان غلب عليه العدوّ ورضي الناس بولايته . ثم قتل الحكم وضعفت الدولة الأموية عن الهند . وتأتي أخبار السند في دولة المأمون . فتح مدينة كاشغر:
أجمع قتيبة لغزو مدينة كاشغر سنة ست وتسعين وهي أدنى مدائن الصين ، فسار لذلك وحمل مع الناس عيالاً تَهم ليضعها بسمرقند وعبر النهر، وجعل على المجاز مسلحة يمنعون الراجع من العساكر إلا بإذنه . وبعث مقدمة إلى كاشَغْرَ فغنموا وسبوا وختم أعناق السُبي ، وأوغل حتى قارب الصين . فكتب إليه ملك الصين يستدعي من أشراف العرب مَن يخبره عنهم وعن دينهم . فانتخب قتَيْبَةُ عشرة من العرب كان منهم هُبَيْرَةُ بن شَمَرْجَ الكتابيّ ، وأمر لهم بعدة حسنة ومتاع من الخَزَ والوَشي وخيول أربعة وقال لهم أعلموه أني حالف إني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم . ولما قَدِموا على ملك الصين دعاهم في اليوم الأول فدخلوا ، وعليهم الغلائل والأردية ، وقد تطيبوا ولبسوا النعال ، فلم -يكلمهم الملك ولا أحد ممّن حضره ، وقالوا بعد انصرافهم هؤلاء نسوان . فلبسوا الوشي والمطارف وعمائم الخز وغدوا عليه ، فلم يكلّموهم وقالوا هذه أقرب إلى هيئة الرجال . ثم دعاهم الثالثة فلبسوا سلاحهم وعلى رؤوسهم البيضات والمغافر، وتوشحوا السيوف واعتقلوا الرماح ، ونكبوا .القِسِي فهالهم منظرهم . ثم انصرفوا وركبوا فتطاردوا، فعجب القوم منهم . ثم دعا زعيمهم هُبَيْرَةَ بن شَمَرْجَ فسأله لِمَ خالفوا في زيِّهم ؟ فقال : أما الأول فإنا نساءُ في أهلنا، وأما الثاني فزيّنا عند أمرائنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا. فاستحسن ذلك ثم قال له : قد رأيتم عِظَم مُلكي ، وأنه ليس أحد يمنعكم منّي ، وقد عرفت قلتكم فقولوا لصاحبكم ينصرف وإلا بعثت مَن يهلككم . فقال هبيرة كيف نكون في قلّة وأول خيلنا في بلادك وآخرها في منابت الزيتون ؟ وأمّا القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه ، ولنا آجال إذا حضرت فلن نتعداها، وقد حلف صاحبنا أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويأخذ جزيتكم . قال الملك: فإنّا نُخرِجه من يمينه ، نبعث له بتراب من أرضنا فيطؤه ، ويقبض أبناءنا فيختمهم وبهدية ترضيه ، ثم أجازهم فأحسن . وقَدِموا على قتيبة فقبل الجزية ووطئ التراب وختم الغلمان وردّهم ثم انصرف من غداته . وأوفد هبيرة إلى الوليد، وبلغه وهو في الفرات موت الوليد.
وفاة الوليد وبيعة سليمان : ثم توفي الوليد في منتصف جمادى الأخيرة من سنة ست وتسعين ، وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز وكان من أفضل خلفاء بني أمية وبنى المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد القدس ومسجد دمشق . ولما أراد بناء مسجد دمشق كانت في موضعه كنيسة فهدمها وبناها مسجدا وشكوا ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال : نردّ عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنها خارج المدينة ممّا فتح عنوة ونبنيها مسجدا فتركوا ذلك. وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند، وكان يتخذ الضياع وكان متواضعاً يمّر بالبقَّال فيسأله بِكَم حزمة البَقْل ؟.ويسعّر عليه وكان يختم القرآن في ثلاث وفي رمضان في يومين وكان أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان فكتب إلى عمّاله ودعا الناس إلى ذلك فلم يُجُبْه إلا الحجّاج وقتيبة وبعض خواصّه . واستقدم سليمان ثم استبطأه فأجمع السير إليه ليخلعه فماّت دون ذلك . ولما مات بويع سليمان من يومه وهو بالرمْلَةِ فعزل عثمان بن حيّان من المدينة آخر رمضان ، وولّى عليها أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، وعزل ولاة الحجّاج عن العراق فولّى يزيد بن المهلّب على المِصْرَيْن وعزل عنهما يزيد بن أبي مسلم . فبعث يزيد أخاه زياداً على عمّان وأمر سليمان يزيد بن المهلّب بنكبة آل أبي العُقَيْل قوم الحجّاج وبني أبيه وبسط أصناف العذاب عليهم ، فولّى على ذلك عبد الملك بن المهلب . مقتل قتيبة بن مسلم : ولما وَليَ سُلَيْمَانُ خافه قُتَيْبَةُ لما قدّمناه من موافقته الوليد على خلعه ، فخشي أن يولي يزيد بن المُهلَّب خراسان ، فاجمعٍ خلعه وكتب إليه لئن لم تقرّني على ما كنت عليه وتؤمنّي لأخلعنّك وَلأملأنّها عليك خيلاً ورجلاً فأمّنه وكتب له العهد على خراسان وبعث إليه رسوله بذلك ، فبعث الرسول وهو بِحُلْوَانَ أنه قد خلع وكان هو بعد بعثة الكتاب إلى سليمان قد اشتدّ وجله وأشار عليه أخوه عبد الله بالمعاجلة، فدعا الناس !لى الخلع وذكرهم بوائقه وسوء ولاية مَن تقدّمه فلم يجِبْه أحد، فنضب وشتمهم وعدّد وقالبهم قبيلة قبيلة فأثنى على نفسه بالأب والبلد والمعشر. فغضب الناس وكرهوا خلع سليمان وأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه وعذل قتيبة أصحابه فيما كان منه فقال : لما لم تجيبوني
غضبت فلم أدرِ ما قلت .وجاء الأزد إلى حُضَيْنِ بن المنذر "بالضاد المعجمة" فقالوا : كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين ويشتمنا ، فعرف مغزاهم فقال : إن مضر بخراسان كثير وتميم أكثرهمِ وهم شوكتها ولا يرضون بغيرهم فيصيبوا قتيبة ولا أرى لها إلا وكيعا . وكان وكيع موثقا من قتيبة بعزله وولاية ضِرار بن حُصَيْن الضَبِّي مكانه . وقال حَيَّان النبَطِيّ مولى بني شَيْبَان ليس لها غير وكيع ، ومشى الناس بعضهم إلى بعض سرّا، وتولّى كِبَر ذلك حيّان ونُمِيَ خبره إلى قتيبة فأمر بقتله إذا دخل عليه ، وتنصح بعض خدم قتيبة بذلك إلى حيّان فلما دعاه تمارض ، واجتمع الناس إلى وكيع وبايعوه . فمن أهل البصرة والعالِيَةِ من المقاتلة تسعة آلاف ، ومن بكر سبعة آلاف رئيسهم حضين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف عليهم ابن زَخْر، ومن الموالي سبعة آلاف عليهم حيّان النبطي وقيل من الديلم ، وسُمَّيَ نَبَطِيّا للكنته . وشرط على وكيع أن يحوّل له الجانب الشرقي من نهر بلخ فقبل ، وفشا الخبر وبلغ قتيبة فدسّ ضرّار بن سيان الضبّي إلى وكيع فبايعه ، وجاء إلى قتيبة بالخبر فأرسل قتيبة !لى وكيع فاعتذر بالمرض .فقال لصاحب شرطته :ائتني به وإن أبى ائتني برأسه فلما جاء إلى وكيع ركب ونادى في الناس فأتوه أرسالا . واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواصّه وثقاته وبنو عمّه ، وأمر فنودي في الناسي قبيلة قبيلة، وأجابوه بالجفوة . يقول :أين بنو فلان ؟ فيقولون :كحيث وضعتهم فنادى بأذكِّركم الله والرحم ، فقالوا: أنت قطعتها! فنادى لكم العتبى ، فقالوا: إنّا لنا الله إذا فدعا ببرْذَوْنٍ ليركبه فمنعه ورَمَحَهُ فعاد إلى سريره وجاء حيّان النبطي في العجم ، فأمره عبد الله أخوقتيبة أن يحمل على القوم ، فاعتذر وقال لابنه :إذا لقيتني حوّلت قلنسوتي فَمِلْ بالأعاجم إلى وكيع ، ثم حوّلها وسار بهم ورمى صالح أخوقتيبة بسهم فحمل إلىِ أخيه. ثم تهايج الناس وجاء إلى عبد الرحمن أخي قتيبة الغوغاءُ ونحوهم فاحرقوا آرِيّا فيه إبل قتيبة ودوابّه . ثم زحفوا به حتى بلغوا فِسْطاطه فقطعوا أطنابه وجرخ جراحات كثيرة . ثم قطعوا رأسه وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحُصَيْن وعبد الكريم ومسلم وابنه كُثَيِّرٍ ، وقيل قتل عبد الكريم بقَزْوين، فكان عدَّة مَن قتل من أهله أحد عشر رجلاً ، ونجا أخوه عمر مع أخواله من تميم . ثم صعد وكيع المنبر وأنشد الشعر في الثناء على نفسه وفعله والذمّ من قتيبة ووعده بحُسْن السيرة وطلب رأس قتيبة وخاتمه من الأزد
وهدّدهم عليه فجاؤُوا به فبعثه إلى سليمان ووفى وكيع لحيّان النبَطِيّ بما ضمن له .
ولاية يزيد بن المهلب خراسان : كان يزيد بن المهلّب لما ولأه سليمان العراق على الحرب والصلاة والخراج استكره أن يحيف على الناس في الخراج فتلحقه المذمة كما لحقت الحجّاج ، ويخرّب العراق، وإن قصّر عن ذلك لم يقبل منه . فرغب من سليمان أن يعفيه من الخراج ، وأشار عليه بصالح ابن عبد الرحمن مولى تميم . فولاه سليمان الخراج وبعثه قِبَلَ يزيد فلما جاء صالح إلى يزيد ضيق عليه صالح، وكان يزيد يُطعمُ على ألف خوان فاستكثرها صالح فقال: اكتب ثمنها عليّ وغير ذلك وضجر يزيد وجاء خبر خراسان ومقتل قتيبة فطمع يزيد في ولايتها ودسّ عبد الله بن الأهتم على سليمان أن يولّيه خراسان ولا يشعر بطلبته بذلك . وسيّره على البريد فقال له سليمان: إن يزيد كتب إليَّ يذكر عملك بالعراق ! فقال نعم بها وُلِدْت وبها نشأت ثم استشاره فيمن يوليه خراسان ولم يزل سليمان بذكر الناس وهو يرذُهم ، ثم حذّره من وكيع وغدره قال : فَسَمِّ أنت ! قال شريطة الكمال الإجازة ممّن أشير به ، وإذا علم يكره ذلك . ثم قال :هو يزيد بن المهلب فقال سليمان: العراق أحب إليه ، فقال ابن الأهْتَم : قد علمت ولكن نكرهه فيستخلف على العراق ويسير إلى خراسان ، فكتب عهد يزيد على خراسان وبعثه مع ابن الأهتم فلما جاءه بعث إبنه مخاداً على خراسان وبعثه مع ابن الأهتم . ثم سار بعده واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحَكَمِيّ ، وعلى البصرة ابن عبد الله بن هلال الكِلاَبي، وعلى الكوفة حَرْمَلَة بن عيد اللمغْمِيّ . ثم عزله لأشهر بشير بن حيّان النهدي ، فكانت قيس تطلب بثأر قتيبة وتزعم أنه لم يخلع . فأوصى سليمان يزيد إن أقامت قيس بيّنة أنه لم يخلع أن يقيّد به من وكيع .
أخبارالصوائف الصوائف وحصار قسطنطينية كانت الصوائف تعطلت من الشام منذ وفاة معاوية وحدوث الفتن واشتدت الفتن أيام عبد الملك اجتمعت الروم واستجاشوا على أهل الشام فصالح عبد الملك صاحب قُسْطَنْطِينيةَ على أن يؤدّي إليه كل يوم جمعة ألف دينار خشية منه على المسلمين ونظراً
لهم ، وذلك سنة سبعين لعشر سنين من وفاة معاوية . ثم لما قتل مُصْعَبُ وسكنت الفتنة بعث الجيوش سنة إحدى وسبعين في الصائِفَةِ . فدخل فافتتح قِيسارِيَّةَ، ثم ولّى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وسبعين فدخل في الصائفة إلى بلاد الروم فهزمهم ، ودخل عثمان بن الوليد من ناحية أرمينية في أربعة آلاف ولقِيَه الروم في ستين ألفاً فهزمهم وأثخن فيهم بالقتل والأسر. ثم غزا محمد بن مروان سنة أربع وسبعين فبلغ أنبولِيَةَ وغزا في السنة بعدها في الصائفة من طريق مرعش فدوّخ بلادهم وخرج الروم في السنة بعدها إلى العتيق فغزاهم من ناحية مرعش ثانية، ثم غزاهم سنة ست وسبعين من ناحية مَلْطِيَةَ ودخل في الصائفة سنة سبع وسبعين الوليد بن عبد الملك فاثخن فيهم ورجع وجاء الروم سنة تسع وسبعين فأصابوا من أهل أنطاكية وظفروا بهم فبعث عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بالعسكر ففتح قاليلا. ثم غزا محمد بن مروان سنة اثنتين وثمانين أرمينية وهزمهم ، فسألوه الصلح فصالحهم وولّى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروه وقتلوه فغزاهم سنة خمس وثمانين وصافَ فيها وشتّى ثم غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ودوخها، ورجع وعاد إليها سنة سبع وثمانين . فأثخن فيهم بناحية المُصَيْصَةِ وفتح حصونا كثيرة منها حصن بُولَقَ والأحْزَمِ وبُولُسَ وقَمْقِيم . وقتل من المُسْتَقْرِبَةِ ألف مقاتل وسبى أهاليهم . ثم غزا بلاد الروم سنة تسع وثمانين مُسْلِمَةُ بن عبد الملك والعَباسُ بن الوليد، فافتتح مسلمة حِصْنَ سورية وافتتح العباس أردولية ،ولقي جمعا من الروم فهزمهم . وقيل إن مسلمة قصد عَمُورِيَّةَ فلقي بها جمعا من الروم فهزمهم وافتتح هِرَقْلَةَ وقُمولِيَة وغزا العباس الصائفة من ناحية البَلْدَبْدُونِ . وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك سنة تسع وثمانين من ناحية أذَرْبيجَانَ ففتح حصونا ومدائن هناك ثم غزا سنة تسعين ففتح الحصون الخمس التي بسورية . وغزا العباس حتى بلغ أرْدُن وسورية . وفي سنة إحدى وتسعين غزا عبد العزيز بن الوليد في الصائفة مع مسلمة بن عبد الملك وكان الوليد قد ولّى مسلمة على الجزيرة وأرمينية وعزل عمه محمد بن مروان عنها، فغزا الترك من ناحية أذربيجان حتى الباب وفتح مدائن وحصونا ثم غزا سنة اثنتين وتسعين بعدها، ففتح ثلاثة حصون وجلا أهل سَرْسَنةَ إلى بلاد الروم ثم غزا العباس بن الوليد سنة ثلاث بعدها بلاد الروم ففتح سُبَيْطِلَةَ، وغزا مروان بن الوليد فبلغ حَنْجَرَةَ. وغزا مسلمة ففتح ماشِيَةَ وحصن الحديد وغزالة من ناحية مَلْطِيَةَ . وغزا العباس بن الوليد سنة أربع وتسعين ، ففتح أنطاكية . وغزا عبد العزيز بن الوليد ففتح غزالة، وبلغ الوليد بن هشام المُعَيْطِيّ مروج الحمام ويزيد بن أبي كَبْشَةَ أرض سورية . وفي سنة خمس وتسعين غزا العباس الروم ففتح هِرَقْلَةَ . وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الرضاخِيَّة وفتح الحصن الذي فتحه الرَّصاع ، وغزا عُمَرُ بن هُبَيْرَةَ أرض الروم في البحر فشتى بها، وبعث سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القُسْطَنْطِينِيَّةَ، وبعث ابنه داود على الصائفة ففتّح حصن المِراةِ، وفي سنة ثمان وتسعين مات ملك الروم ، فجاء ألْقُونُ إلى سليمان فاخبره وضمن له فتح الروم ، وسار سليمان إلى وَابِقَ وبعث الجيوش مع أخيه مسلمة، ولما دنا من القُسْطَنْطِينِيَّةِ أمر أهل المعسكر أن يحمل كل واحد مدّينِ مذين من الطعام ويلقوه في معسكرهم ، فصار أمثال الجبال ، واتخذ البيوت من الخشب . وأمر الناس بالزراعة، وصافَ وشتى وهم يأكلون من زراعتهم وطعامهم الذي استاقوه مُذَخَرا .
ثم جهد أهل القسطنطينية الحصار وسألوا الصلح على الجزية دينارا على الرأس ، فلم يقبل مسلمة، وبعث الروم إلى ألقون إن صرفتَ عنّا المسلمين ملّكناك ، فقال لمسلمة لو أحرقت هذا الزرع علم الروم أنك قصدتهم بالقتال فنأخذهم باليد، وهم الآن يظنون مع بقاء الزرع أنك تطاولهم ، فاحرق الزرع فقوي الروم ، وغدر ألقون وأصبح محاربا ، وأصاب الناس الجوع فأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق ، وسليمان مقيم بوابق وحالَ الشتاء بينهم وبينه ، فلم يقدر أن يمدهم حتى مات . وأغارت بِرْجانُ على مسلمة وهو في قلّة فهزمهم وفتح مدينتهم . وغزا في هذه السنة الوليد بن هشام ، فاثخن في بلاد الروم . وغزا داود بن سليمان سنة ثمان وتسعين ، ففتح حِصْنَ المِراةِ مما يلي مَلْطِيَةَ . وفي سنة تسع وتسعين بعث عمر بن عبد العزيز مسلمة وهو بأرض الروم ، وأمدّه بالنفول بالمسلمين ، وبعث إِليه بالخيل والدواب وحث الناس على معونتهم . ثم أمر عمر بن عبد العزيز أهل طريدة بالجلاء عنها إلى ملطية وخَرّبها. وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين ، وفرض على أهل الجزيرة مَسْلَحَة تكون عندهم إلى فصل الشتاء، وكانت متوغلة في أرض الروم فخرّبها عمر، وولى على ملطية جَعُونَةَ بن الحارث من بني عامر بن صَعْصَعَةَ . وأغزى عمر سنة مائة من الهجرة بالصائفة الوليد بن هشام المعيطي وعمر بن قيس الكِنْدِيّ .
فتح جرجان وطبرستان :
كان يزيد بن المهلب يريد فتحهما لما أنهما كانتا للكفّار، وتوسطتا بين فارس وخراسان ولم يصبهما الفتح. وكان يقول وهو في جوار سليمان بالشام إذا قُصَّتْ عليه أخبار قتيبة وما يفعله بخراسان وما وراء النهر، ما فعلت جَرْجانُ التي قطعت الطريق وأفسدت يوُسس ونيسابور، وليست هذه الفتوح بشيءٍ والشأن في جرجان . فلما ولاّه سليمان خراسان سار إليها في مائة ألف من أهل العراق والشام وخراسان سوى الموالي والمُتَطَوِّعَةَ، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومَخَارِمُ ، يقوم الرجل على باب منها فيمنعه . فابتدأ بِقَهِسْتَانَ فحاصرها وبها طائفة من الترك ، فكانوا يخرجون فيقاتلون وينهزمون في كل يوم ويدخلون حصنهم . ولم يزل على ذلك حتى بعث إليه دهقان يَتَسْتَاذِنَ يسأل في الصلح وُيسَئلم المدينة وما فيها، فصالحه وأخذ ما فيها من الأموال والكنوز والسُبِيِّ ما لا يحصى ، وقتل أربعة عشر ألفاً من الترك ، وكتب إلى سليمان بذلك . ثم سار إلى جرجان ، وكان سعيد بن العاصي قد صالحهم على الجزية مائة ألف في السنة ، فكانوا أحياناً يجبون مائة وأحياناً مائتين وأحياناً ثلثمائة ، وربما أعطوا ذلك وربما منعوا، ثم كفروا ولم يعطوا خراجاً، ولم يأتِ جرجان بعد سعيد أحدٌ ومنعوا الطريق إلى خراسان على فكان الناس يسلكون على فارس وسَلْماس . ثم فتح قتيبة طريق قومِسَ ، وبقي أمر جرجان حتى جاء يزيد فصالحوه . ولما فتح يزيد قَهَسْتَانَ وجَرْجَانَ طمع في طبرستان ، فاستعمل عبد الله بن معمر اليَشْكُرِيّ على ساسان وقهستان ، وخلف معه أربعة آلاف فارس ، وسار إلى أدنى جرجان من جهة طبرستان ، ونزل بآمد . ونسا راشد بن عمر في أربعة آلاف ، ودخل بلاد طبرستان فسأل صاحبها الأصبَهْبَذ في الصلح ، وأن يخرج من طبرستان. فأبى يزيد ورجا أن يفتحها، ووجّه أخاه عُيَيْنَةَ من وجه ، وابنه خالد بن زيد من وجه ، وإذا اجتمعا فعُيينة على الناس . واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديْلَم والتقوا ، فانهزم
المشركون ، واتبعهم المسلمون إلى الشّعْبِ ، وصعد المشركون في الجبل ، فامتنعوا على المسلمين وصعد أبو عيينة بمَن معه خلفهم ، فهزمهم المشركون في الوعر، فكفّوا. وكاتب الأصبهبذ أهل جرجان ومقدَّمهم المرزبان أن يبيتوا للمسلمين عندهم ليقطعوا المادة عن يزيد والطرق بينه وبين جرجان ، ووعدهم بالمكافأة على ذلك . فساروا بالمسلمين وهم غارّون ، وقتل عبد الله بن مَعْمَرَ وجميع مَن معه ولم يَنْجُ أحد . وكتبوا إلى الأصبهبَذ بأخذ المضايق والطرق ، وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعَظُمَ عليهم وهالَهم ، وفزعٍ يزيد إلى حيّان النَبَطِي وكان قد غرمه مائتي ألف درهم بسبب أنه كتب إلى ابنه مخلد كتاباً فبدأ بنفسه ، فقال له لا يمنعك ما كان منّي إليك من نصيحة المسلمين ، وقد علمت ما جاء من جرجان فاعمل في الصلح . فأتى حيّان الأصبهبذ ومت إليه بنسب العجم وتنصّل له ، وفتل له في الذروة والغارب حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة وِقْر زعفران أو قيمته من العين ، وأربعمائة رجل على يد كل رجل منهم ترس وَطَيْلَسان وجام من فضة وخرقة حرير وكسوة، فأرسل يزيد لقبض ذلك ورجع ا هــ .( وقيل) في سبب مسير يزيد إلى جَرْجان أنّ صولا التركي كان على قهستان والبحيرة، جزيرة في البحر على خمسة فراسخ من قهستان ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم ، وكان يُغير على فيروز بن فولفول مرزبان جرجان . وأشار فيروز بنصيب من بلاده ، فسار فيروز إلى يزيد هارباً منه ، وأخذ صول جرجان ، وأشار فيروز على يزيد أن يكتب إلى الأصبهبَذ ويرغّبه في العطاء إن هو حبس صولاً بجرجان حتى يحاصر بها، ليكون ذلك وسيلة إلى معاكسته وخروجه عن جرجان ، فيتمكّن يزيد منه . فكتب إلى الأصبهبذ وبعث بالكتاب إلى صول ، فخرج من حينه إلى البحيرة . وبلغ يزيد الخبر فسار إلى جرجان ومعه فيروز، واستخلف على خراسان إبنه مُخْلِداً، وعلى سَمَرْقَنْدَ وكَشَّ ونَسْفَ وبُخارَى إبنه معاوية، وعلى طَخَارِسْتَانَ ابن قُبَيْصَةَ بن المُهَلبِ ، وأتى جرجان فلم يمنعه دونها أحد ودخلها. ثم سار منها إلى البحيرة وحصر صولا بها شهراً حتى سأل الصلح على نفسه وماله وثلثمائة، ويسلّم إليه البحيرة، فأجابه
يزيد وخرج صول عن البحيرة، وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفاً وأمر إدريس بن حَنْظَلَةَ العمي أن يحصي ما في البحرية، ليعطي الجند فلم يقدر، وكان فيها من الحنطة والشعير والأرُز والسمسم والعسل شيءٌ كثير، ومن الذهب والفِضَّةِ كذلك ولما صالح يزيد أصبهبَذ طبرستان كما قدّمناه سار إلى جرجان وعاهد الله إن ظفر بهم ليطحننّ القمح على سائل دمائهم ويأكل منه . فحاصرهم سبعة أشهر وهم يخرجون إليه فيقاتلونه ويرجعون ، وكانوا متمنّعين في الجبل والأوعار. وقصد رجل من عجم خراسان فأتبع بخلا في الجبل ، وانتهى إلى معسكرهم وعرف الطريق إليه ودلّ الأدلّة على معالمه ، وأتى يزيد فاخبره . فانتخب ثلثمائة رجل مع ابنه خالد، وضم إليه جَهْمَ بن ذَخْرٍ وبعثه ، وذلك الرجل يدل به ، وواعده أن يناهضهم العصر من الغداة . ولما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد ير حطب عنده حتى اضطرمت النيران ، ونظر العدوّ إلى النار فهالهم وحاملوا للقتال آمنين خلفهم ، فناشبهم يزيد إلى العصر، وإذا بالتكبير من ورائهم فهربوا إلى حصنهم ، واتبعهم المسلمون فأعطوا ما بأيديهم ونزلوا على حكم يزيد . فقتل المقاتلة وسبى الذّرية وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى وادي جرجان ، ومكّن أهل الثأر منهم حتى استلحموهم . وجرى الماء على الدم وعليه الأرحاء فطحن وخبز وأكل ، وقتل منهم أربعين ألفاً . وبنى مدينة جرجان ولم تكن بُنِيت قبل ، ورجع إلى خراسان وولّى على جرجان جهم بن ذخر الجعفي ، ولما قتل مقاتلهم صلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره .
وفاة سليمان وبيعة عمر بن عبد العزيز: ثم توفي سليمان بدابق من أرض قِّنسرين من سنة تسع وتسعين في صفر منها، وقد كان في مرضه أراد أن يعهد إلى ولده داود، ثم استصغره وقال له كاتبه رجاء بن حيوة ابنك غائب عنك بِقُسْطَنْطِينية ولا يعرف حياتَه من موته ، فعدل إلى عُمَرَ بن عبد العزيز وقال له : !ني والله لأعلم أنها تكون فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده ، وكان عبد الملك قد جعل ذلك له ، وكتب بعد البسملة : هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز: إني قد ولّيتك الخلافة بعدي
ومن بعدك يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم وختم الكتاب . ثم أمر كعب بن جابر العبسي صاحب الشرطة أن يجمع أهل بيته ، وأمر رجاء بن حيوة أن يدفع لهم كتابه وقال : أخبرهم أنه كتابي فليبايعوا مَن ولّيت فيه ، فبايعوه رجلاً رجلاً وتفرقوا . وأتى عمر إلى رجاء يستعمله ويناشده الله والمودّة، يستعفي من ذلك ، فأبى وجاءه هشام أيضاً يستعمله ليطلب حقه في الأمر فأبى، فانصرف أسفاً أن يخرج منْ بني عبد الملك . ثم مات سليمان وجمع رجاء أهل بيته فقرأ عليهم الكتاب . فلما ذكر عمر قال هشام : والله لا نبايعه أبداً فقال له رجاء: والله نضرب عنقك . فقام أسفاً يجرّ رجليه ، حتى جاء إِلى عمر بن عبد العزيز، وقد أجلسه رجاء على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه ، فبايعه واتبعه الباقون . ودفن سليمان وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، والوليد كان غائباً عن موت سليمان ، ولم يعلم بيعة عمر، فعقد لواء ودعا لنفسه وجاء إلى دمشق . ثم بلغه عهد سليمان فجاء إلى عمر واعتذر إليه وقال : بلغني أنّ سليمان لم يعهد، فخفت على الأموال أن تنهَب فقال عمر: لو قمت بالأمر لقعدت في بيتي ولم أُنازعك ، فقال عبد العزيز: والله لا أحب لهذا الأمر غيرك ! وأول ما بدأ به عمر لما استقرّت البيعة أنه رد ما كان لفاطمة بنت عبد الملك زوجته من المال والحليّ والجوهر إلى بيت المال . وقال : لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد، فردته جميعه . ولما وُلّي أخوها يزيد من بعد ردّه عليها فأبت وقالت : ما كنت أعطيه حياً أعطيه ميتاً، ففّرقه يزيد على أهله . وكان بنو أمية يسبون عليّاً، فكتب عمر إلى الأفاق بترك ذلك ، وكتب إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول بالمسلمين .
عزل يزيد بن المهلب وحبسه والولاية على عمّاله : ولما استقرت البيعة لعمر كتب في سنة مائة إلى يزيد بن المهلب أن يستخلف على عماله ويقدم ، فاستخلف مخلداً ابنه وقَدِمَ من خراسان ، وقد كان عمر ولى على البصرة عَدِيّ بن أرطاة الفَزَارِيّ ، وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخَطَّاب ، وضم إليه أبا الزِنادِ، فكتب إلى عديّ بن أرطاة موسى أن يقبض على يزيد بن المهلب ويببعثه مقيداً، فلما نزل يزيد واسط ، وركب السفن يريد البصرة بعث علي بن
أرطاة موسى بن الرحَيْبَةِ الحِمْيَري فلقيه في نهر معقل عند الجسر، فقيّده وبعث به إلى عمر، وكان عمر يبغضه ويقول إنه مراءٍ وأهل بيته جبابرة .
فلما طالبه بالأموال التي كتب بها إلى سليمان من خمس جرجان قال : إنما كتبت لأسمع الناس ، وعلمت أنّ سليمان لم يكن ليأخذني بذلك . فقال له عمر: اتق الله ، وهذه حقوق المسلمين لا يسعني تركها. ثم حبسه بحصن حلب ، وبعث الجراح بن عبد الله الحَكَمِيّ والياً على خُراسان مكانه . وانصرف يزيد بن يزيد فَقَدِمَ على عمر واستعطفه لأبيه ، وقال له يا أمير المؤمنين إن كانت له بيّنة فخذ بها وإلا فاستحلفه ،وإلا فصالحه أو فصالحني على ما تسأل ، فأبى عمر من ذلك وشكر من مخلد ما فعل ثم ألبس يزيد جبة صوف ، وحمله على جمل وسيّره إلى دَهْلَك . ومر يزيد على الناس وهو ينادي بعشيره وبالنكير لما فعل به ، فدخل سلامة بن نعيم الخَولاني على عمر، وقال اردد يزيد إلى محبسه لئلا ينزعه قومه ، فإنهم قد غضبوا فردّه إلى أن كان من أمر فزارة ما يذكر.
ولاية عبد الرحمن بن نعيم القشيري على خراسان :
ولما عزل يزيد عن خراسان وكان عامل جَرجَانَ جَهْمُ بن ذُخْر الجَعْفِي ، فأرسل عامل العراق على جرجان عاملا ًمكانه ، فحبسه جهم وقيده . فلما جاء الجراح إلى خراسان أطلق جرجان عاملهم ، ونكر الجَّراح على جهم ما فعل . وقال لولا قرابتك منّي ما سَؤَغْتُكَ هذا! يعني أن جهماً وجعفاً معاً ابنا سعد العشيرة . ثم بعث في الغزو وأوفد على عمر وفداً فكلّم فيه بعضهم عمر بأنه يعرِّي الموالي بلا عطاءٍ ولا رزق ، ويؤاخذ مَن أسلم من أهل الذمة بالخراج . ثم عرض بأنه سيف من سيوف الجراح قد علم بالظلم والعدوان ، فكتب عمر إلى الجّراح انظر مَن صلّى قِبَلك فخل عنه الجزية، فسارع الناس إلى الإسلام فِراراً من الجزية فامتحنهم بالختان وكتب إلى عمربذلك . فكتب إليه عمر أن : الله بعث محمدا داعياً، ولم يبعثه خاتناً، واستقدم الجرّاح وقال : احمل معك أبا مُخْلد واستخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم القُشَيْرِي . ولما قَدِمَ على عمر قال : متى خرجت ؟ قال في شهر رمضان . قال صدقك مَن وصفك بالجفاء، ألا أقمت حتى تفطر ثم تسافر. ثم سأل عمر أبا مخلد عن عبد الرحمن بن عبد الله فقال : يكافىء الأكفاء، وُيعادي الأعداء ويقدم إن وجد ما يساعده . قال فعبد الرحمن بن نعيم ؟ قال يحب العافية وتأتيه ! قال
هو أحب إليّ ، فولاّه الصلاة والحرب ، وولّى عبد الرحمن القشيري الخراج . فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى قتل يزيد بن المهلّب ، وولي مسلمة . فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف. . وظهر من أيام الجرّاح بخراسان دعاة بني العباس فيمن بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلى الأفاق حسبما يذكر في أخبار الدولة العباسية وفاة عمر بن عَبْد العزيز وبيعة يزيد:
ثم توفي عمر بن عَبْد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان، ودفن بها السنتين وخمسة أشهر من ولايته، ولأربعين من عمره، وكان يدعى أشجّ بني أُمَيَّة، رمحته دابة وهو غلام فشجّته. ولما مات ولي بعده يزيد بن عَبْد الملك بعهد سليمان كما تقدم، وقيل لعمر حين احتضر: اكتب إيى يزيد فأوصه بالأمة، فقال بماذا اوصيه؟ إنه من بني عَبْد الملك ! ثم كتب: أمَّا بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترلى ما أترك لمن لا يحمدك وتصير إلى من لا يعذرك والسلام. ولما ولي يزيد عزل أبا بكربن محمد بن عمر بن حزم عن المدينة، وولى عليها عَبْد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهري، وغير كل ما صنعه عمر بن عَبْد العزيز، وكان من ذلك شأن خراج اليمن. فإن محمدا أخا الحجاج جعل عليهم خراجاً مجدداً، وأزال ذلك عمر إلى العشر أو نصف العشر. وقال: لئن يأتيني من اليمن حبة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوظيفة. فلما ولي يزيد أعادها وقال لعامله خذها منهم ولو صاروا حرضاً. وهلك عمه محمد بن مروان فولى مكانه على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية عمه الاخر مسملمة بن عبد الملك. احتيال يزيد بن المهلب ومقتله: قد تقدّم لنا حبس يزيد بن المهلب، فلم يزل محبوساً حتى اشتدّ مرض عمر بن عَبْد العزيز فعمل في الهرب مخافة يزيد بن عَبْد الملك لأن زوجته بنت أخي الحجّاج. وكان سليمان أمر ابن المهلب بتعذيب قرابة الحجاج كلهم، فنقلهم من البلقاء وفيهم زوجة يزيد وعذبها. وجاءه يزيد بن عَبْد الملك إلى منزله شافعاً فلم يشفعه، فضمن حمل ما قرر عليها فلم يقبل، فتهدده فقال له ابن المهلب: لئن وليت أنت لأرمينك بمائة ألف
سيف، فحمل يزيد بن عَبْد الملك عنها مائة ألف دينار، ولما اشتدّ مرض عمر خاف من ذلك وأرسل إلى مواليه أن يغدوا إليه بالإبل والخيل في مكان عينه لهم. وبعث إلى عامل حلب بإشفاقه من يزيد، وبذل له المال وإلى الحرس الذين يحفظونه فخلى سبيله، وأتى إلى دوابه فركبها ولحق بالبصرة. وكتب إلى عمر إني والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك. ولكن خفت أن يقتلني يزيد شرّقتلة. فقرأ عمر الكتاب وبه رمق، فقال اللهم إن كان ابن المهلب يريد بالمسلمين سوءا فألحقه به وهضه فقد هاض. انتهى. ولما بويع ليد بن عبد الملك، كتب إلى عَبْد الحميد بن عَبْد الرحمن بالكوفة، وإلى عدىّ بن أرطاة بالبصرة بهربه والتحررّ منه،. وأبى عدي أن يأخذ المهلب بالبصرة، فحبس المفضّل حبيباً ومروان ابني المهلب، وبعث عَبْد الحميد من الكوفة جنداً عليهم هشام بن ساحق بن عامر فأتوا العذيب ومرّ بيزيد عليهم فوق القطقطانة فلم يقدموا عليه. ومضى نحو البصرة وقد جمع عدي بن أرطاة أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيلها المغيرة بن عَبْد الله بن أبي عقيل. وجاء يزيد على أصحابه الذين معه، وانضم إليه أخوه محمد فيمن اجتمع إليه من قومهم. وبعث عدي بن أرطاة على كل خمس من أخماس البصرة رجالاً: فعلى الأزد الفغيرة بن زياد بن عمر العتكيّ، وعلى تميم مخرز بن حمدان السعدي، وعلى بكرة نوح بن شيبان بن مالك بن مسمع، وعلى عَبْد القيس مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى أهل العالية عَبْد الأعلى بن عَبْد الله بن عامر، وهم قُرَيْش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان ومزينة، فلم يعرضوا ليزيد وأقبل فانزل. انتهى.
واختلف الناس إليه، وأرسل إلى عدي أن يطلق له إخوته فينزل به البصرة، ويخرج حتى يأخذ لنفسه من يزيد، وبعث حميد ابن أخيه عَبْد الملك بن المهلب يستأمن له من يزيد بن عَبْد الملك، فأجاره خالد القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد له ولأهله. وقد كان بعد منصرف حميد فرق في الناس قطع الذهب والفضة فانثالوا طيه، وعدي يعطي درهمين درهمين. ثم تناجزوا الحرب وحمل أصحاب يزيد على أصحاب عدي فانهزموا ودنا يزيد من القصر، وخرج عدي بنفسه، فانهزم أصحابه وخاف أخوة يزيد وهم في الحبس أن يقتلوا قبل وصوله، فأغلقوا الباب وامتنعوا، فجاءهم الحرس يعالجون فأجفلهم الناس عنه، فخلوا عنهم وانطلقوا إلى أخيهم. ونزل يزيد دار مسلم بن زياد إلى جنب القصر، وتسؤر القصر بالسلالم وفتحه، واتى بعدي بن أرطاة فحبسه. وهرب رؤس
البصرة من تميم وقيس ومالك بن المنذر إلى الكوفة والشام. وخرج المغيرة بن زياد بن عمر العتكي إلى الشام، فلقي خالدا القسري وعمر بن يزيد، وقد جاؤوا بأمان يزيد بن المهلب مع حميد ابن أخيه فأخبرهما بظهور يزيد على البصرة، وحبسه عدياً، فرجعا إلى وعد لهما فلم يقبلا، فقبض عَبْد الحميد بن عَبْد الرحمن بالكوفة على خالد بن يزيد بن المهلب وحماد بن ذخر وحملهما وسيرهما الى الشام، فحبسهما يزيد حتى هلكا بالسجن. وبعث يزيد بن عَبْد الملك إلى أهل الكوفة يثني عليهم ويمنيهم الزيادة، وجهز أخاه مسلمة وابن أخيه العبّاس بن الوليد إلى العراق في سبعين ألف مقاتل أو ثمانين من أهل الشام والجزيرة، فقدموا الكوفة ونزلوا النخيلة. وتكلم العباس يوماً ببعض الكلام فأساء عليه حيان النبطي بالكشة الأعجمية. ولما سمع ابن المهلب بوصول مسلمة وأهل الشام فخطب الناس وشجعهم للقائهم وهون عليهم أمرهم، وأخبرهم أن أكثرهم له. واستوثق له أهل البصرة وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان. وبعث إلى خراسان مدرك بن المهلب وعليها عَبْد الرحمن بن نعيم، وبعث بنو تميم ليمنعوه. ولقيه الأزد على رأس المغارة فقالوا ارجع عنا حتى نرى مآل أمركم. ثم خطب يزيد الناس يدعوهم إلى الكتاب والسنة ويحثهم على الجهاد، وأن جهاد أهل الشام أعظم ثواباًّ من جهاد الترك والديلم، ونكر ذلك الحسن البصري والنضر بن أنس بن مالك، وتابعهما الناس في النكير.
وسار يزيد من البصرة إلى واسط واستخلف عليها أخاه مروان بن المهلب. وأقام بواسط أيامأ، ثم خرج منها سنة اثنتين ومائة، واستخلف عليها أمان معونة. وقدم أخاه عَبْد الملك بن المهلب نحو الكوفة، فاستقبله ابن الوليد بسور له، فاقتتلوا وانهزم عَبْد الملك، وعاد إلى يزيد. وأقبل مسلمة على شاطىء الفرات إلى الأنهار فعقد الجسر وعبر وسار، حتى نزل على يزيد بن المهلب، وفزع إليه ناس من أهل الكوفة، وكان عساكره مائة وعشرين. وكان عَبْد الحميد بن عَبْد الرحمن قد عسكر بالنخيلة، وشق المياه وجعل الأرصاد على أهل الكوفة أن يغزعوا إلى يزيد بن المهلب، وبعث بعثاً إلى مسلمة مع صبرة بن عَبْد الرحمن بن مختف، فعزل مسلمة بن عَبْد الحميد عن الكوفة، واستعمل عليها محمد بن عمر بن الوليد بن عقبة. ثم أراد يزيد بن المهلب أن يبعث أخاه محمدا بالعساكر يبيتون مسلمة، فأبى عليه أصحابه وقالوا قد وعدناهم بالكتاب والسنة ووعدوا بالإجابة فلا نغدرهم. فقال يزبد: ويحكم تصدقونهم، إنهم
يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه، والله ما في بني مروان أمكر ولا أبعد غوراً من هذه الجرادة الصغرى يعني مسلمة. وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحث الناس على اللحاق بيزيد أخيه والحسن البصري يثبطهم ويتهدده فلم يكف. ثم طلب الذين يجتمعون إليه فافترقوا، فأقام مسلمة بن عَبْد الملك يطاول يزبد بن المهلب ثمانية أيام. ثم خرج يوم الجمعة منتصف صفر فعبى أصحابه، وعبى العباس بن الوليد كذلك، والتقوا واشتد القتال، وأمر مسلمة فأحرق الجسر فسطع دخانه. فلما رآه أصحاب يزيد انهزموا، واعترضهم يزيد يضرب في وجوههم حتى كثروا عليه، فرجع وترجّل في أصحابه. وقيل له قتل أخوك حبيب، فقال لا خير في العيش بعده ولا بعد الهزيمة. ثم استمات ودلف إلى مسلمة لا يريد غيره، فعطف عليه أهل الشام فقتلوه هو وأصحابه، وفيهم أخوه محمد. وبعث مسلمة برأسه إلى يزيد بن عَبْد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة. وقيل: إن الذي قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابئ، وأنف أن ينزل فيأخذ رأسه فأخذه غيره. وكان المفضل لن المهلب يقاتل في ناحية المعترك، وما علم اهـ. بقتل يزيد، فبقي ساعة كذلك يكر ويفرحتى اخبربقتل إخوته، فافترق الناس عنه ومضى إلى واسط. وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد فقاتلهم أبو رؤبة رأس الطائفة المرجئة ومعه جماعة من صدق، فقاتلوا ساعة من النهار ئم انصرفوا. وأسر مسلمة ثلثمائة أسير حبسهم في الكوفة. وجاء كتاب يزيد إلى محمد بن عمر بن الوليد بقتلهم، فأمر العريان بن الهيثم صاحب الشرطة بذلك، وبدأ بثمانين من بني تميم فقتلهم. ثم جاء كتاب يزيد بإعفائهم فتركهم. وأقبل مسلمة فنزل الحيرة، وجاء الخبر بقتل يزيد إلى واسط، فقتل ابنه معاوية عديّ بن أرطاة ومحمدا ابنه ومالكاً وعبد الملك ابنا مسمع في ثلاثين، ورجع إلى البصرة بالمال والخزائن. واجتمع بعمه المفضل وأهل بيتهم، وتجهزوا للركوب في البحر، وركبوا إلى قندابيل وبها وداع بن حميد الأسدي، ولاه عليها يزيد بن المهلب ملجأ لأهل بيته إن وقع بهم ذلك، فركبوا البحر بعيالهم وأموالهم إلى جبال كرمان فنزلوا بها، واجتمع إليه الفل من كل جانب. وبعث مسلمة مدرك بن ضب الكلبى في طلبهم فقاتلهم، وقتل من أصحاب المفضل النعمان بن إبراهيم، ومحمد بن إسحق بن محمد بن الأشعث وأسر ابن صول قهستان. وهرب عثمان بن إسحق بن محمد الأشعث، فقتل وحمل رأسه إلى مسلمه بالحيرة. ورجع ناس من أصحاب بني المهلب فاستأمنوا، وأمنهم مسلمة منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر والورد
بن عَبْد الله بن حبيب السعدي التميمي. ومضى إلى آل المهلب ومن معهم بقندابيل، فمنعهم وداع بن حميد من دخولها، وخرج معهم لقتال عدوهم. وكان مسلمة قد رد مدرك بن ضبّ بعد هزيمتهم في جبال كرمان، وبعث في أثرهم هلال بن أحور التميمي فلحقهم بقندابيل، فتبعوا لقتاله. !وبعث هلال راية أمان، فمال إليه وداع بن حميد، وعبد الله بن هلال، وافترق الناس عن آل المهلب. ثم استقدموا فاستأمنوا فقتلهم عن اخرهم: المفضل وعبد الملك وزياد ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن المهلب، والمنهال بن أبي عيينة بن المهلب، وعمر بن يزيد بن المهلب، وعثمان بن المفضل بن المهلب برتبيل ملك الترك. وبعث هلال بن أحوز برؤوسهم وسبيهم وأسراهم إلى مسلمة بالحيرة، فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عَبْد الملك، فسيرهم يزيد إلى العباس بن الوليد في حلب، فنصب الرؤوس. وأراد مسلمة أن يبتاع الذرية فاشتراهم الجراح بن عَبْد الله الحكيمي بمائة ألف وخلى سبيلهم. ولم يأخذ مسلمة من الجراح شيئاً. ولما قدم بالأسرى على يزيد بن عَبْد الملك وكانوا ثلاثة عشرأمريزيد فقتلوا وكلهم من ولد المهلب، واستأمنت هند بنت المهلب لأخيها عيينة إلى يزيد بن عَبْد الملك فأمنه، وأقام عمرو وعثمان عند رتبيل حتى أمنهما أسد بن عَبْد الله القسري وقدما عليه بخرا سان.
ولاية مسلمة علي العراق وخراسان: ولما فرغ مسلمة بن عَبْد الملك من حرب بني المهلب ولأه يزيد بن عَبْد الملك على العراق وجمع له ولاية البصرة والكوفة وخراسان، فأقر على الكوفة محمد بن عمر بن الوليد، وكان قد قام بأمر البصرة بعد بني المهلب شبيب بن الحارث التميمي، فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى شرطتها عمر بن يزيد التميمي. وأراد عَبْد الرحمن أن يقتل شيعة ابن المهلب بالبصرة، فعزله وولى على البصرة عَبْد الملك بن بشر بن مروان. وأقر عمر بن يزيد على الشرطة. واستعمل مسلمة على خراسان صهره على سعيد بن عَبْد العزيزبن الحارث بن الحكم بن أبي العباس
ويلقب سعيد خدينة. دخل عليه بعض العرب بخراسان وعليه ثياب مصبغة، وحوله مرافق مصبغة. وسئل عنه لمّا خرج فقال: خدينة، وهي الدهقانة ربة البيت. ولما ولاه على خراسان، سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند. فسار إليها وقدم الصغد، وكان أهلها كفروا أيام عَبْد الرحمن بن نعيم، ثم عادوا إلى الصلح. فوبخ ساكنها من العرب وغيرهم بالجبن، فاعتذروا بأمر أميرهم علي بن حبيب العبدي. ثم حبس سعيد عمال عَبْد الرحمن بن عَبْد الله وأطلقهم، ثم حبس عمال يزيد بن المهلب، رفع لهم أنهم اختانوا الأموال فعذبهم، فمات بعضهم في العذاب، وبقي بعضهم في السجن حتى غزاهم الترك والصغد فأطلقهم.
العهد لهشام بن عَبْد الملك والوليد بن يزيد: لمّا بعث يزيد بن عَبْد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب مع مسلمة أخيه والعباس بن أخيه الوليد قال له العباس: إنا نخاف أن يرجف أهل العراق بموتك، ويبث ذلك في أعضادنا، وأشار عليه بالعهد لعبد العزيز أخيه ابن الوليد، وبلغ ذلك مسلمة فجاءه وقال: أخوك أحق فإن ابنك لم يبلغ، وأشار عليه بأخيه هشام وابنه الوليد من بعده، والوليد ابن إحدى عشرة سنة فبايع لهما كذلك. ثم بلغ ابنه الوليد فكان إذا رآه يقول: الله ببني وبين من قدم هشاماً عليك. غزوة الترك: لمّا ولى سعيد خراسان استضعفه الناس وسموه خدينة، واستعمل شعبة على شمرقند ثم عزله كما مر، وولّى مكانه عثمان بن عَبْد الله بن مطرف بن الشخير فطمعت الترك، وبعثهم خاقان إلى الصغد، وعلى الترك كورصول وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وكتبوا إلى عثمان بسمرقند وخافوا أن يبطىء المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفاً، وأعطوهم سبعة عشر رجلاً رهينة. وندب عثمان الناس فانتدب المسيب بن بشر الرياحي ومعه أربعة آلاف من سائر القبائل. فقال لهم المسيب من أراد الغزو والصبر على الموت فليتقدم! فرجع عنه ألف، وقالها بعد فرسخ فرجع ألف ألف آخر، ثم أعادها ثالثة بعد فرسخ فاعتزله ألف. وسار حتى كان
على فرسخين من العدو، فأخبره بعض الدهاقين بقتل الرهائن وميعادهم غداً. وقال أصحابي ثلثمائة مقاتل وهم معكم، فبعث المسيب إلى القصر رجلين عجميأ وعربياً يأتيانه بالخبر، فجاؤوا في ليلة مظلمة، وقد أجرت الترك الماء بدائر القصر لئلا يصل إليه أحد، فصاح بهما فقالا له اسكت وادع لنا فلاناً. فأعلماه قرب العسكر وسألا هل عندكم امتناع غداً؟ فقال لهما نحن مستميتون. فرجعا إلى المسيب فأخبراه، فعزم على تبييت الترك، وبايعه أصحابه على الموت، وساروا يومهم إلى الليل. ولما أمسى حثهم على الصبر وقال: ليكن شعاركم يا محمد، ولا تتبعوا مولياً، واعقروا الدواب فإنه أشد عليهم، وليست بكم قفة فإن سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنته، وإن كثر أهله. ثم دنوا من العسكر في السحر، وثار الترك وخالطهم المسلمون، وعقروا الدواب وترجل المسيب في أصحاب له فقاتلوا قتالاً شديداً، وقتل عظيم من عظماء الترك فانهزموا. ونادى منادي المسيب لا تتبعوهم، واقصدوا القصر واحملوا من فيه، ولا تحملوا من متاعهم إلا المال. ومن حمل امرأة أو صبئا أو ضعيفاً حسبة فأجره على الله، وإلا فله أربعون درهماً. وحملوا من في القصر إلى سمرقند، ورجع الترك من الغد فلم يروا في القصر أحداً. ورأوا قتلاهم فقالوا لم يكن الذين جاؤونا بالأمس.
غزو الصغد: ولما كان من انتقاض الصغد وإعانتهم الترك على المسلمين ما ذكرنا، تجهزسعيد لغزوهم وعبر النهر، فلقيه الترك وطائفة من الصغد، فهزمهم المسلمون. ونهاهم سعيد عن أتباعهم، وقال: هم جباية أمير المؤمنين فانكفوا عنهم. ثم سار المسلمون إلى واد بينهم وبين المرج، فقطعه بعض العسكر وقد أكمن لهم الترك، فخرجوا عليهم. وانهزم المسلمون إلى الوادي، وقيل بل كان المنهزمون مسلحة للمسلمين. وكان فيمن قتل شعبة ان ظهر في خمسين رجلاً. وجاء الأمير والناس فانهزم العدو. وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا رد السبي وعاقب السرية، فثقل سعيد على الناس وضعفوه. ولما رجع من هذه الغزاة وكان سورة بن الأبجر قد قال لحّيان النبطيّ يوم أمر سعيد بالكف عن الصُغْد وأنهم جباية أمير المؤمنين. فقال: سورة إرجع عنهم يا حيّان، فقال: عقيرة
الله لا أدعها، فقال: انصرف يا نبطيّ قال أنبط الله وجهك. فحقدها عليه سورة وأغرى به سعيد خـدينة وقال: إنه أفسد خراسان على قتيبة، ويثب عليك ويتحصن ببعض القلاع. فقال له سعيد: لا يسمع هذا منك أحد، ثم حاول عليه وسقاه لبناَ قد ألقى فيه ذهباً مسحوقا. ثم ركض والناس معه أربعة فراسخ، فعاش حيّان من بعدها ليالى قلائل ومات.
ولاية ابن هبيرة علي العراق وخراسان: كان مسلمة لمّا ولي على هذه الأعمال لم يدفع من الخراج شيئاً، واستحيا يزيدة من عزله، فكتب إليه بالقدوم وأن يستخلف على عمله. وسار لذلك سنة ثلاث وأربعمائة، فلقيه عمر بن هبيرة بالطريق على دواب البريد وقال: وجهني أمير المؤمنين لحيازة أموال بني المهلب، فارتاب لذلك، وقال له بعض أصحابه: كيف يبعث ابن هبيره من عند الجزيرة لمثل هذا الغرض؟ ثم أتاه أن ابن هبيرة عزل عماله. وكان عمر بن هبيرة من النجابة بمكان، وكان الحجّاج يبعثه في البعوث، وهو ممن سار لقتال مطرف بن المغيرة حين خلع، ويقال إنه الذي قتله وجاء برأسه. فسيره الحجّاج إلى عَبْد الملك فأقطعه قرية قريبة من دمشق، ثم بعثه إلى كروم ابن مرثد الفزاري ليخلص منه مالاً، فارتاب وأخذ المال ولحق بعبد الملك عائدا به من الحجّاج. وقال قتلت ابن عمه ولست آمنه على نفسي، فأجاره عَبْد الملك، وكتب الحجّاج إليه فيه. فقال أمسك عنه، وعظّم شأنه عَبْد الملك وبنوه واستعمله عمر بن عَبْد العزيز على الروم من ناحية أرمينية، وأثخن فيهم وأسر سبعمائة منهم وقتلهم. واستخدم أيام يزيد لمحبوبته حبابة، فسعت له في ولاية العراق، فولاه يزيد مكان أخيه مسلمه. ولمّا ولي قدم عليه المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمر الليثي في وفد، فشكوا من سعيد وحذيفة عاملهم، وهو صهر مسلمة، فعزله وولى مكانه على خراسان سعيد بن عمر الخريشي من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فسار خدينة عن خراسان، وقدم سعيد فلم يعرض لعماله. ولما قدم على خراسان كان الناس بإزاء العدو، وقد نكثوا فحثهم على الجهاد، وخاف الصغد منه بما كانوا أعانوا الترك أيام حذيفة، فقال لهم ملكهم: احملوا له خراج ما مضى، واضمنوا خراج ما يأتي
والعمارة والغزو معه، وأعطوه الرهن بذلك. فأبوا إلا ّأن يستجيروا بملك فرغانة وخرجوا من بلادهم إلى خجندة وسألوا الجوار وأن ينزلوا شعب عصام. فقال: أمهلونا عشرين يوماً أو أربعين لنخليه لكم، وليس لكم علي جوار قبل دخولكم إياه. ثم غزاهم الحريش سنة أربع ومائة، فقطع النهر وترك قصر الريح على فرسخين من الدنوسية، وأتاه ابن عم ملك فرغانة يغريه بأهل الصغد وأنهم بخجندة، ولم يدخلوا جواره بعد، فبعث معه عَبْد الرحمن القسري فى عسكر، وجاء في أثره حتى نزلوا على خجندة، وخرج أهل صغد لقتالهم فانهزموا، وقد كانوا حفروا خندقاً وغطوه بالتراب ليسقط فيه المسلمون عند القتال، فلما انهزموا ذلك اليوم أخطأهم الطريق وأسقطهم الله في ذلك الخندق. ثم حاصرهم الحريشي ونصب عليهم المجانيق، وأرسلوا إلى ملك فرغانة ليجيرهم. فقال قد شرت عليكم أن لا جوار قبل الأجل الذي بيني وبينكم. فسألوا الصلح من الحريشي على أن يردوا ما في أيديهم من سبي العرب، ويعطوا ما كسرمن الخراج ولا يتخلف أحد منهم بخجندة وإن أحدثوا حدثاً استبيحت دماؤهم. فقبل منهم وخرجوا من بخجندة، ونزلوا في العسكر على كل من يعرفه. وبلغ الحريشي أنهم قتلوا امرأة فقتل قاتلها، فخرج قبيل منهم فاعترض الناس وقتل جماعة. وقتل الصغد من أسرى المسلمين مائة وخمسين، ولقي الناس منهم عنفاً، ثم أحاطوا بهم وهم يقاتلون بالخشب ليس لهم سلاح، فقاتلوا عن آخرهم ثلاثة آلاف أو سبعة آلاف. وكتب الحريشي إلى يزيد بن عَبْد الملك ولم يكتب لعمر بن هبيرة، فأحفظه ذلك ثم سرح الحريشي سليمان بن أبي السرى إلى حصن يطيف به وراء الصغد ومعه خوارزم شاه وملك أجرون وسومان، فسار سليمان وعلى مقدمته المسيب بن بشر الرياحي، ولقيه أهل الحصن فهزمهم ثم حاصرهم، فسألوا الصلح على أن لا يعرض لسبيهم ويسلموا القلعة بما فيها فقبل، وبعث إلى الحريشي فقبضه، وبعث من قبضه. وسار الحريشي إلى كش فصالحوه على عشرة آلاف رأس وولى نصر بن سيار على قبضها. واستعمل على كش ونسف حرباً وخراجأ سليمان بن السرى واستنزل مكانه آخر اسمه قشقري من حصنه على الأمان وجاء به إلى مرو فشنقه وصلبه.
ولاية الجراح علي أرمينية وفتح بلنجر: ولما سار ابن هبيرة على الجزيرة وأرمينية تشبب البهراني، فحفل لهم الخزر وهم التركمان، واستجاشوا بالقفجاق وغيرهم من أنواع الترك ولقوا المسلمين بمرج الحجارة، فهزموهم، واحتوى التركمان على عسكرهم وغنموا ما فيه. وقدم المنهزمون على يزيد بن عَبْد الملك، فولى على أرمينية الجراح بن عَبْد الله الحكمي وأمده بجيش كثيف، وسار لغزو الخزر فعادوا للباب والأبواب. ونزل الجراح بردعة فأراح بها قليلاً. ثم سار نحوهم وعبر نهر الكر، وأشاع الإقامة ليرجع بذلك عيونهم إليهم. ثم أسرى من ليلته وأجد السير إلى مدينة الباب، فدخلها وبث السرايا للنهب والغارة. وزحف إليه التركمان وعليهم ابن ملكهم، فلقيهم عند نهر الزمان واشتد القتال بينهم، ثم انهزم التركمان وكثر القتل فيهم، وغنم المسلمون ما معهم، وساروا حتى نزلوا على الحصن، ونزل أهلها على الأمان فقتلهم. ثم سار إلى مدينة برغوا فحاصرها ستة أيام، ثم نزلوا على الأمان فقتلهم، ثم ساروا إلى بلنجر، وقاتلهم التركمان دونها فانهزموا وافتتح الحصن عنوة. وغنم المسلمون جميع ما فيه. فأصاب ألفاًرس ثلاثمائة دينار، وكانوا بضعة وثلاثين ألفاً. ثم إن الجراح رجع حصن بلنجر إلى صاحبه، ورد عليه أهله وماله، على أن يكون عيناً للمسلمين على الكفار. ثم نزل على حصن الوبيد وكان به أربعون ألف بيت من الترك، فصالحوا الجراح على مال أعطوه إياه. ثم تجمع الترك والتركمان وأخذوا الطرق على المسلمين، فأقام في رستاق سبى وكتب إلى يزيد بالفتح وطلب المدد، وكان ذلك آخر عمر يزيد. وبعث هشام بعد ذلك إليه بالمدد وأقره على العمل. ولاية عَبْد الواحد القسري علم المدينة ومكة: كان عَبْد الرحمن بن الضحّاك عاملاً على الحجاز منذ أيام عمر بن عَبْد العزيز، وأقام عليها ثلاث سنين ثم حدثته نفسه خطبة فاطمة بنت الحسين فامتنعت، فهددها بأن يجلد ابنها في الخمر، وهو عَبْد الله بن الحسين المثنى، وكان على ديوان المدينة عامل من أهل الشام يسمى ابن هرمز. ولما رفع حسابه وأراد السير إلى يزيد، جاء ليودع فاطمة، فقالت اخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض لي. ثم بعث
رسولها بكتابها إلى يزيد يخبره. وقدم ابن هرمز على يزيد، فبينما هو يحدثه عن المدينة قال الحاجب: بالباب رسول فاطمة بنت الحسين، فذكر ابن هرمز ما حملته. فنزل عن فراشه وقال: عندك مثل هذا وما تخبرني به؟ فاعتذر بالنسيان. فأدخل يزيد الرسول وقرأ الكتاب، وجعل ينكث الأرض بخيزرانة ويقول: لقد اجترأ ابن الضحاك، هل من رجل يسمعني صوته في العذاب؟ قيل له عَبْد الواحد بن عَبْد الله القسري. فكتب إليه بيده: قد وليتك المدينة، فانهض إليها واعزل ابن الضحّاك
وغرمه أربعين ألف دينار، وعذبه حتى أسمع وأنا على فراشي. وجاء البريد بالكتاب إليه، ولم يدخل على ابن الضحّاك، فأحضر البريد ودس إليه بألف دينار لأخبره الخبر، فسار ابن الضحّاك إلى مسلمة بن عَبْد الملك واستجار به، وسأل مسلمة في يزيد. فقال والله لا أعفيه أبداً. فرده مسلمة إلى عَبْد الواحد بالمدينة فعذبه ولقي شراً، ولبس جبة صوف يسأل الناس، وكان قد آذى الأنصار فذموه، وكان قدوم القسري في شوال سنة أربع ومائة، وأحسن السيرة فأحبه الناس، وكان يستشير القاسم بن محمد وسالم بن عَبْد الله. عزل الحريشي وولاية مسلم الكلبي علي خراسان: كان سعيد الحريشي عاملاً على خراسان لابن هبيرة كما ذكرنا، وكان يستخف به ويكاتب الخليفة دونه، ويكنيه أبا المثنى. وبعث من عيونه من يأتيه بخبره، فبلغه أعظم مما سمع، فعزله وعذبه حتى أدى الأموال، وعزم على قتله ثم كف عنه. وولّى ابن هبيرة على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، ولما جاء إلى خراسان حبسه وقيده وعذبه كما قلنا. فلما هرب ابن هبيرة بعد ذلك عن العراق أرسل خالد القسري في طلبه الخريشي فأدركه على الفرات. وقال لابن هبيرة ما ظنك بي؟ قال إنك لا تدفع رجلاً من قومك إلى رجل من قسر. قال هو ذاك ثم انصرف وتركه. وفاة يزيد وبيعة هشام: ثم توفي يزيد بن عَبْد الملك في شعبان سنة خمس ومائة لأربع سنين من خلافتة، وولّى بعده أخوه هشام بعهده إليه بذلك كما مر، وكان بحمص فجاءه الخبر بذلك، فعزل عمر بن هبيرة عن العراق وولّى مكانه خالد بن عَبْد الله القسري فسار إلى العراق من يومه.
غزو مسلم الترك:
غزا مسلم بن سعيد الترك سنة خمسة ومائة، فعبر النهر وعاث في بلادهم ولم يفتح شيئاً، وقفل فأتبعه الترك ولحقوه على النهر، فعبر بالناس ولم ينالوا منه. ثم غزا بقية السنة وحاصرأفشين حتى صالحوه على ستة آلاف رأس، ثم دفعوا إليه القلعة. ثم غزا سنة ست ومائة، وتباطأ عنه الناس، وكان ممن تباطأ البختري بن درهم فرد مسلم نصر بن سيار إلى بلخ وأمره أن يخرج الناس إليه، وعلى بلخ عمر بن قتيبة أخو مسلم، فجاء نصر وأحرق باب البختري وزياد بن طريف الباهلي. ثم منعهم عمر من دخول بلخ، وقد قطع سعيد النهر، ونزل نصر بن سيار البروقان، وأتى جند الضلاضيان، وتجمعت ربيعة والأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر، وخرجت مضر إلى نصر، وخرج عمر بن مسلم إلى ربيعة والأزد وتوافقوا، وسفر الناس بينهما في الصلح، وانصرف نصر. ثم حمل البختري وعمر بن مسلم على نصر، فكرعليهم فقتل منهم ثمانية عشر وهزمهم، وأتى بعمر بن مسلم والبختري وزياد بن طريف فضربهم مائة مائة، وحلق رؤوسهم ولحاهم وألبسهم المسوح. وقيل إن سبب تعزير عمر بن مسلم انهزام تميم عنه، وقيل انهزام ربيعة والأزد، ثم أمنهم نصر بعد ذلك وأمرهم أن يلحقوا بمسلم بن سعيد. ولما قطع مسلم النهر ولحقه من لحق من أصحابه، سار إلى بخارى فلحقه بها كتاب خالد بن عَبْد الله القسري بولايته ويأمره بإتمام غزاته، فسار إلى فرغانة وبلغه أن خاقان قد أقبل إليه، فارتحل. ولحقه خاقان بعد ثلاثة مراحل لقي فيها طائفة من المسلمين فأصابهم. ثم أطاف بالعسكر وقاتل المسلمين، وقتل المسيب بن بشر الرياحي والبراء من فرسان المهلب وأخو غورك. وثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر. ورحل مسلم بالناس ثمانية أيام، والترك مطيفون بهم بعد أن أمر بإحراق ما ثقل من الأمتعة، فأحرقوا ما قيمته ألف ألف. وأصبحوا في التاسع قريب النهر دونه أهل فرغانة والشاش. فأمر مسلم الناس أن يخرطوا سيوفهم ويحملوا. فأفرج أهل فرغانة والشاش عن النهر، ونزل مسلم بعسكره ثم عبر من الغد وأتبعهم ابن خاقان. فكان حميد بن عَبْد الله على الساقة من وراء النهر وهو مثخن بالجراحة. فبعث إلى مسلم بالانتظار، وعطف على الترك فقاتلهم، وأسر قائدهم وقائد الصغد ثم أصابه سهم فمات، وأتوا خجندة وقد أصابتهم مجاعة وجهد، ولقيهم هنالك كتاب
أسد بن عَبْد الله القسري أخي خالد بولايته على خراسان واستخلافه عَبْد الرحمن بن نعيم، فقرأ مسلم الكتاب وقال سمعاً وطاعة.
ولاية أسد القسري علي خراسان: ولما كزا خالد بن عَبْد الله خراسان واستخلف عليها أخاه أسد بن عَبْد الله، فقدم ومسلم بن سعيد بفرغانة، فلما رجع وأتى النهر ليقطعه منعه الأشهب بن عَبْد الله التميمي، وكان على السفن بآمد، حتى عرفه أنه الأمير، فأذن له. ثم عبر أسد النهر ونزل بالمرج وعلى سمرقند هانىء، بن هانىء، فخرج بالناس وتلقى أسداً وأدخله سمرقند. وبعث أسد إلى عَبْد الرحمن بن نعيم بالولاية على العسكر، فقفل بالناس إلى سمرقند، ثم عزل أسداً عنها وولى مكانه الحسن بن أبي العمرطة الكندي. ثم قدم مسلم بن سعيد بن عَبْد الله بخراسان، فكان يكرمه. ومر بابن هبيرة وهو يروم الهرب وأسلم على يديه. ثم غزا الغور وهي جبال هراة. فوضع أهلها أثقالهم في الكهوف ولم يكن إليهم طريق. فاتخذ التوابيت ووضع فيها الرجال ودلآها بالسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه. ثم قطع كماق النهر، وجاءه خاقان ولم يكن بينهما قتال. وقيل عاد مهزوماً من الجسر ثم سار إلى عوبرين وقاتلها، وأبلى نصر بن سيار ومسلم بن أحوز، وانهزم المشركون، وحوى المسلمون عساكرهم بما فيه. ولاية أشرس علي العراق: كان أسد بن عَبْد الله في ولايته على خراسان يتعصب، حتى أفسد الناس. وضرب نصر بن سّيار بالسياط، وعبد الرحمن بن نعيم، وسورة بن أبجر والبختري بن أبي درهم، وعامر بن مالك الحماني وحلقهم وسّيرهم إلى أخيه، وكتب إليه أنهم أرادوا الوثوب بي. فلامه خالد وعنّفه وقال: هلا بعثت برؤوسهم؟ وخطب أسد يوماً فلعن أهل خراسان. فكتب هشام بن عَبْد الملك إلى خالد اعزل أخاك، فعزله في رمضان سنة تسع، وولّى مكانه الحكم بن عوانة الكلبي، فقعد عن الصائفة تلك السنة. فاستعمل هشام على خراسان أشرس بن عَبْد الله السلمي، وأمره أن يراجع خالداً فكان خيرا ففرح به أهل خراسان.
عزل أشرس:
أرسل أشرس إلى سمرقند سنة عشر ومائة أبا الصيدا صالح بن ظريف مولى بني ضبة، والربيع بن عمران التميمي إلى سمرقند وغيرها مما وراء النهر يدعوهم إلى الإِسلام، على أن توضع عنهم الجزية، وعليها الحسن بن العمرطة الكندي، على حربها وخراجها فدعاهم إلى ذلك وأسلموا. وكتب غورك إلى الأشرس أن الجراح قد انكسر، فكتب أشرس إلى ابن العمرطة بلغني أنذ أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما أسلموا نفوراً من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه. ثم عزل ابن العمرطة عن الخراج وولى عليها ابن هانىء، ومنعهم أبو الصيد أخذ الجزية ممن أسلم، وكتب هانىء إلى أشرس بأنهم أسلموا وبنوا المساجد. فكتب إليه والى العمال أن يعيدوا الجزية على من كانت عليه ولو أسلم، فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على فراسخ من سمرقند. وخرج معهم أبو الصيد وربيع بن عمران والهيثم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وعامر بن قشير وبشير الجحدري وبيان العنبري وإسماعيل بن عقبة لينصروهم. وبلغ الخبر إلى أشرس فعزل ابن العمرطة عن الحرب وولى مكانه المجشر بن مزاحم السلمي وعميرة بن سعد الشيباني، فكتب المجشر إلى أبي الصيدا يستقدمه هو وأصحابه فقدم ومعه ثابت قطنة فحبسهما وسيرهما إلى أشرس، واجتمع الباتون وولّوا عليهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئاً فكتب أشرس ووضع عنهم الخراج فرجعوا وضعف أمرهم وتتبعوا فحبسوا كلهم. وألح هانىء في الخراج، واستخف بفعل العجم والدهاقين. واقيموا في العقوبات وحرقت ثيابهم، والقيت مناطقهم في أعناقهم، واخذت الجزية ممن أسلم. فكفرت الصغد وبخارى واستجاشوا بالترك، وخرج أشرس غازياً فنزل آمد وأقام أشهرا. وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم في عشرة آلاف فعبر النهر ولقي الترك وأهل الصغد وبخارى ومعهم خاقان، فحصروا قطنأ في خندقه. وأغار الترك على سرح المسلمين، وأطلق أشرس ثابت قطنة بكفالة عَبْد الله بن بسطام بن مسعود بن عمر، وبعثه معه في خيل، فاستقدمه من أيدي الترك ما أخدوه. ثم عبر أشرس بالناس ولحق بقطن ولقيهم العدو فانهزموا أمامهم. وسار أشرس بالناس حتى جاء بيكند فحاصرها المسلمون، وقطع أهل البلد عنهم الماء، وأصابهم العطش فرحلوا إلى المدينة.
واعترضهم دونها العدو فقاتلوهم قتالاً شديداً، وأبلى الحارث بن شريح، وقطن بن قتيبة بلاء شديداً وأزالوا الترك عن الماء. فقتل يومئذ ثابت قطنة وصخربن مسلم بن النعمان العبدي، وعبد الملك بن دثار الباهلي وغيرهم وحمل قطن بن قتيبة في جماعة تعاقدوا على الموت، فانهزم العدو واتبعهم المسلمون يقتلونهم إلى الليل. ثم رجع أشرس إلى بخارى وجهز عليهم عسكرأ، يحاصرونها، وعليهم الحارث بن شريح الأزدي. ثم حاصر خاقان مدينة كمرجة من خراسان وبها جمع من المسلمين، وقطعوا القنطرة وأتاهم ابن جسر وابن يزدجرد وقال: إن خاقان جاء يرد علي منكبي وأنا آخذ لكم الأمان، فشتموه وأتاهم يزغري في مائتين، وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه. فطلب رجلأ يكلمه، فجاء يزيد بن سعد الباهلي فرغبه بإضعاف. العطاء والإحسان على النزول، وشميرون معهم، فلاطفه ورجع إلى أصحابه، وقال هؤلاء يدعونكم لقتال المسلمين، فأبوا وأمر خاقان فآلقى الحطب الرطب في الخندق ليقطعه. وألقى المسلمون البهائم ليأكلوها ويحشوا جلودها ترابأ ويملؤا بها الخندق. وأرسل الله سبحانه فاحتمل السيل ما في الخندق إلى النهر الأعظم، ورمى المسلمون بالسهام فاصيب يزغري بسهم ومات من ليلته، فقتلوا جميع ما عندهم من الأسرى والرهن. ولم يزالوا كذلك حتى نزلت جيوش المسلمين فرغانة، فجردوا عليهم واشتد قتالهم، وصالحهم المسلمون على أن يسلموا لهم كمرجة ويرحلوا عليها إلى سمرقند والدنوسية، وتراهنوا على ذلك. وتأخر خاقان حتى يخرجوا، وخلف معهم كورصول ليبلغهم إلى مأمنهم، فارتحلوا حتى بلغوا الدنوسية. وأطلقوا الرهن وكانت مدة الحصار ستين يوماً.
عزل أشرس عن خراسان وولاية الجنيد: وفي سنة إحدى عشرة ومائة عزل هشام أشرس بن عَبْد الله عن خراسان، وولى مكانه الجنيد بن عَبْد الرحمن بن عمر بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري، أهدى إلى ام حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جواهر، فأعجبت هشامأ فأهدى له أخرى مثلها، فولاه خراسان وحمله على البريد. فقدم خراسان في خمسمائة، ووجد الخطاب بن محرز السلمي خليفة أشرس على خراسان. فسار الجنيد إلى ما وراء النهر ومعه الخطاب، واستخلف على مرو المجشر بن فزاحم
السلمي وعلى بلخ سورة بن أبجر التميمي، وبعث إلى أشرس وهو يقاتل أهل بخارى والصغد أن يبعث إليه بسرية مخافة أن يعترضه العدو. فبعث إليه أشرس عامر بن مالك الجابي، فعرض له الترك والصغد فقاتلوهم ثم استداروا وراء معسكر الترك وحمل المسلمون عليهم من أمامهم، فانهزم الترك ولحق عامر بالجنيد، فأقبل معه وعلى مقدمته عمارة بن حزيم، واعترضه الترك فهزمهم. وزحف إليه خاقان بنواحي سمرقند وقطن بن قتيبة على ساقته، فهزم خاقان وأسر ابن أخيه وبعث به إلى هشام، ورجع إلى مرو ظافراً، واستعمل قطن بن قتيبة على بخارى، والوليد بن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بن مرة العبسي على شرطته، ومسلم بن عَبْد الرحمن الباهلي على بلخ وعليها نصربن سيار. فبعث مسلم إلى نصر وجيء به في قميص دون سراويل، فقال شيخ مضر جئتم به على هذه الحالة؟ فعزل الجنيد مسلماً عن بلخ وأوفد وفداً إلى هشام بخبر غزاته.
مقتل الجرّاح الحكمي: قد كان تقدّم لنا دخوله إلى بلاد الخزر سنة أربع ومائة، وانهزامهم أمامه، وأنه أثخن فيهم وملك بلنجر وردها على صاحبها، وأدركه الشتاء فأقام هنالك. وأن هشاماً أقره على عمله ثم ولأه أرمينية، فدخل بلاد التركمان من ناحية تفليس سنة إحدى عشرة ففتح مدينتهم البيضاء وانصرف ظافراً، فاجتمع الخزر والترك من ناحية اللاف، وزحف إليهم الجراح سنة اثنتي عشرة، ولقيهم بمرج أردبيل، فاقتلوا أشد قتال. وتكاثر العدو عليه فاستشهد ومن معه، وقد كان استخلف أخاه الحجّاج على أرمينية. ولما قتل طمع الخزر وهم التركمان، وأوغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل، وقيل كان قتله ببلنجر. ولما بلغ الخبر هشاماً دعا سعيداً الحريشي فقال: بلغني أن الجراح انهزم. قال الجراح أعرف بالله من أن ينهزم، لكن قتل، فابعثني على أربعين من دواب البريد، وابعث إلي كل يوم أربعين رجلاً مدداً، واكتب إلى الأمراء الأجناد يواسوني. ففعل وسار الحريشي، فلا يمر بمدينة إلا ويستنهض أهلها فيجيبه من أراد الجهاد. ووصل مدينة أزور، فلقيه جماعة من أصحاب الجراح فردهم معه. ووصل إلى خلاط فحاصرها وفتحها، وقسم غنائمها. ثم سار عنها يفتح القلاع والحصون إلى بروعة فنزلها وابن خاقان يومئذ باذربيجان يحاصر مدينة ورثان منها ويبعث في نواحيها وبعث الحريشي إلى
أهل ورثان يخبرهم بوصوله، فأخرج العدو عنهم ووصل إليهم الحريشي. ثم اتبع العدو إلى أردبيل، وجاءه بعض عيونه بأن عشرة آلاف من عسكرهم على أربعة فراسخ منه، ومعهم خمسة آلاف بيت من المسلمين أسارى وسبايا، فبيتهم وقتلهم أجمعين، ولم ينج منهم أحد. واستنقذ المسلمين منهم. وسار إلى باجروان فجاءه عين آخر ودله على جمع منهم، فسار إليهم واستلحمهم أجمعين، واستنقذ من معهم من المسلمين، وكان فيهم أهل الجراح وولده، فحملهم إلى باجروان. ثم زحف إليهم جموع الخزر مع ابن ملكهم، والتقوا بأرض زرند واشتد القتال والسبي من معسكر الكفار، فبكى المسلمون رحمة لهم، وصدقوا الحملة. فانهزم الكفار وأتبعهم المسلمون إلى نهر أرس، وغنموا ما كان معهم من الأموال واستنقذوا الأسرى والسبايا وحملوهم إلى باجروان ثم تناصر الخزر في ملكهم ورجعوا فنزلوا نهر البيلقان واقتتلوا قتالاً شديداً. ثم انهزموا فكان من غرق أكثر ممن قتل وجمع الحريشي الغنائم وعاد إلى باجروان فقسمها، وكتب إلى هشام بالفتح. واستقدمه وولّى أخاه مسلمة على أرمينية وأذربيجان.
وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان: وخرج الجنيذ سنة اثنتي عشرة ومائة من خراسان غازياً إلى طخارستان، وبعث إليها عمارة بن خزيم في ثمانية عشرألفاً، وبعث إبراهيم بن سام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر، وحاشتك التركي. وزحف بهم خاقان إلى سمرقند وعليها سورة بن أبجر، فكتب إلى الهند مستغيثا، فأمر الجنيد بعبور النهر. فقال له المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي إن الترك ليسوا كغيرهم، وقد مزقت جندك. فسلم ابن عَبْد الرحمن بالنبراود والبختري بهراة، وعمارة بن حزيم بطخارستان. ولا تعبر النهر في أقل من خمسين ألفاً. فاستقدم عمارة وأمهل، فقال أخي على سورة وعبر الجنيد، فنزل كش وتأهب للسير. وغؤر الترك الآبار في طريق كش وسار الجنيد على التعبية، واعترضه خاقان ومعه أهل الصغد وفرغانة والشاش، وحملوا على مقدمته، وعليها عثمان بن عَبْد الله بن الشخيرفرجعوا والترك في اتباعهم. ثم حملوا على المدينة، وأمدهم الجنيد
بنصر بن سيار، وشدوا على العدو وقتل أعياناً منهم. وأقبل الجنيد على الميمنة، وأقبل تحت راية الأزد، فقال له صاحب الراية: ما قصدت كرامتنا لكن علمت أنا لا نصل إليك ومنا عين تطرف! فصبروا وقاتلوا حتى كفت سيوفهم. وقطع عبيدهم الخشب فقاتلوا بها حتى أدركهم الملل، وتعانقوا تحاجزوا، وهلك من الأزد في ذلك المعترك نحو من ثمانين. فيهم عَبْد الله بن بسطام، ومحمد بن عَبْد الله بن جودان، والحسين بن شيخ، وبزيد بن المفضل الحراني. وبين الناس كذلك إذ طلعت أوائل عسكر خاقان، فنادى منادي الجنيد بالنزول فترجلوا، وخندق كل كائن على رجاله. وقصد خاقان جهة بكر بن وائل وعليهم زياد بن الحارث فحملت بكر عليهم فأفرجوا واشتد القتال. وأشار أصحاب الجنيد عليه بأن يبعث إلى سورة بن أبجر من سمرقند ليتقدم الترك إليه ليكون لهم شغل به عن الجنيد وأصحابه. فكتب يستقدمه فاعتذر، فأعاد عليه وتهدده وقال: اخرج وسر مع النهر لا تفارقه، فلما خرج هو استبعد طريق النهر، واستخلف على سمرقند موسى بن أسود الحنظلي. وسار محمد في اثني عشرألفاً حتى إذا بقي بينه وبين الجنيد وعساكره فرسخ لقيه خاقان عند الصباح، وحال بينهم وبين الماء وأضرم النار في اليبس حواليهم فاستماتوا وحملوا، وانكشف الترك وأظلم الجو بالعجاج. وكان من وراء الترك لهب سقط فيه جميع العدؤوالمسلمون وسقط سورة فاندقت فخذه. ثم عطف الترك فقتلوا المسلمين ولم يبق منهم إلا القليل، وانحاش بالناس المهلب بن زياد والعجمي في ستمائة أو ألف، ومعه قُرَيْش بن عَبْد الله العبدي إلى رستاق البرغاب، وقاتلوا بعض قصوره، فأصيب المهلب وولوا عليهم الرحب بن خالد. وجاءهم الأسكيد صاحب نسف وغورك ملك الصغد فنزلوا معه إلى خاقان، فلم يجزأمان غورك وقتلهم ولم ينج منهم أحد. ئم خرج الجنيد من الشعب قاصدا سمرقند، وأشار عليه مجشر بن مزاحم بالنزول فنزل، ووافقته جموع الترك. فجال الناس جولة، وصبر المسلمون، وقاتل العبيد وانهزم العدو. ومضى الجنيد إلى سمرقند فحمل العيالات إلى مرو، وأقام بالصغد أربعة أشهر. وكان صاحب الرأي بخراسان في الحرب المجشر بن مزاحم السلمي، وعبد الرحمن بن أصبح المخزومي، وعبيد الله بن حبيب الهجري. ولما انصرفت الترك بعث الجنيد نهار بن توسعة بن تيم الله، وزميل بن سوذيد بن شيم بالخبر. وتحامل فيه على سورة بن أبجر بما عصاه من مفارقة النهر حتى نال العدو منه. فكتب إليه هشام قد بعث إليك من المدد عشرة آلاف من البصرة، ومثلها من الكوفة، وثلاثون ألف رمح ومثلها سيفاًً. اقام
الجنيد بسمرقند، وسار خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة بن مسلم، فخاف عليه من الترك. واستشار عَبْد الله بن أبي عَبْد الله مولى بن سليم بعد أن اختلف عليه أصحابه، فاشترط عليه أن لا يخالفه. فأشار بحمل العيالات من سمرقند، فقدمهم واستخلف بسمرقند عثمان بن عَبْد الله بن الشخير في أربعمائه فارس وأربعمائه راجل، ووفرأعطياتهم. وسار العيالات في مقدمته حتى من الضيق ودنا من الطواويس، فأقبل إليه خاقان بكير ميمنة أول رمضان سنة اثنتي عشرة واقتتلوا قليلاً. ثم رجع الترك وارتحل من الغد، فاعترضه الترك ثانياً وقتل مسلم بن أحوز بعض عظمائهم، فرجعوا من الطواوشى. ثم دخل الجنيد بالمسلمين بخارى، وقدمت الجنود من البصرة والكوفة، فسّرح الجنيد معهم حورثة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه. ولاية عاصم علي خراسان وعزل الجنيد: بلغ هشاماً سنة ست عشرة أن الجنيد بن عَبْد الرحمن عامل خراسان تزوج بنت يزيد بن المهلب، فغضب لذلك وعزله، وولى مكانه عاصم بن عَبْد الله بن يزيد الهلالي، وكان الجنيد قد مرض بالاستسقاء. فقال هشام لعاصم إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه، فلما قدم عاصم وجده قد مات، وكانت بينهما عداوة، فحبس عمارة بن حزيم، وكان الجنيد استخلفه وهو ابن عذبة، فعذبه عاصم وعذب عمال الجنيد. ولاية مروان بن محمد علي أرمينية وأذربيجان: لمّا عاد مسلمة من غزو الخزر وهم التركمان إلى بلاد المسلمين، وكان في عسكره مروان بن محمد بن مروان، فخرج مختفياً عنه إلى هشام، وشكا له من مسلمة وتخاذله عن الغزو، وما أدخل بذلك على المسلمين من الوهم. وبعث إلى العدو بالحرب، وأقام شهراً حتى استعدوا وحشدوا، ودخل بلادهم فلم يكن له فيهم نكاية وقصد، أراد السلامة ورغب إليه بالغزو إليهم لينتقم منهم، وأن يمده بمائة وعشرين ألف مقاتل ويكتم عليه.
فأجابه لذلك وولاه على أرمينية، فسار إليها وجاءه المدد من الشام والعراق والجزيرة. فأظهر أنه يريد غزو اللان، وبعث إلى ملك الخزر في المهادنة، فأجاب وأرسل رسله لتقرير الصلح فأمسكهم مروان إلى أن تجهز، وودعهم وسار إلى أقرب الطرق. فوافاهم ورأى ملك الخزر أن اللقاء على تلك الحال غرر، فتأخر إلى أقصى بلاده. ودخل مروان فأوغل فيها وخرب وغنم وسبى إلى آخرها. ودخل بلاد ملك السرير وفتح قلاعها، وصالحوه على ألف رأس نصفها غلمان ونصفها جواري، ومائة ألف مد تحمل إلى الباب. وصالحه أهل تومان على مائة رأس نصفين وعشرين ألف مد. ثم دخل أرض وردكران فصالحوه. ثم أتى حمرين وافتتح حصنهم، ثم أتى سبدان فافتتحها صلحأ، ثم نزل صاحب اللكز في قلعته وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج يزيد ملك الخزر، فاصيب بسهم ومات وصالح أهل اللكز مروان، وأدخل عامله، وسار مروان إلى قلعة سروان فأطاعوا، وسار إلى الرودانية فأوقع بهم ورجع.
خلع الحرث بن شريح بخراسان: كان الحارث هذا عظيم الأزد بخراسان، فخلع سنة ست عشرة ولبس السواد، ودعا إلى كتاب الله وسنة نبيه، والبيعة للرضا علىما كان عليه دعاة بني العباس هناك. وأقبل إلى الغاربات، وجاءته رسل عاصم مقاتل بن حيان النبطي والخطاب بن محرز السلمي فحبسهما وفروا من السجن إلى عاصم بدم الحارث وغدره. وسار الحارث من الغاربات إلى بلخ وعليها نصر بن سيار والنجيبي، فلقياه في عشرة آلاف وهو في أربعة، فهزمهم وملك بلخ، واستعمل عليها سليمان بن عَبْد الله بن حازم. وسارإلى الجوزجان عليها ثم سار إلى مرو، ونمي إلى عاصم أن أهل مرو يكاتبونه، فاستوثق منهم بالقسامة وخرج وعسكر قريباًَ من مرو، وقطع الجسور. وأقبل الحارث في ستين ألفاً ومعه فرسان الأزد ونميم، ودهاقين الجوزجان والغاربات، وملك الطالقان، وأصلحوا القناطر، ثم نزع محمد بن المثنى في ألفين من الأزد، وحماد بن عامر
الجابي في مثلها من بني تميم إلى عاصم، ولحقوا به ثم اقتتلوا. فانهزم الحارث وغرق كثير من أصحابه في نهر مرو، وقتلوا قتلاً ذريعاً. وكان ممن غرق حازم. ولما قطع الحارث نهر مرو ضرب رواقه واجتمع إليه بها ثلاثة آلاف فارس وكف عاصم عنهم.
ولاية أسد القسري الثانية بخراسان: كتب عاصم إلى هشام سنة سبع عشرة أن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى العراق ليكون مددها قريب الغوث، فضم هشام خراسان إلى خالد بن عَبْد الله القسري وكتب إليه ابعث أخاك يصلح ما أفسد فبعث خالد أخاه أسدا، فسار على مقدمته محمد بن مالك الهمداني. ولما بلغ عاصم الخبر راود الحارث بن شريح على الصلح، وأن يكتبا جميعاً إلى هشام يسألانه الكتاب والسنة، فإن أبى اجتمعا. وأبى بعض أهل خراسان ذلك فانتقض بينهما واقتتلا، فانهزم الحارث وأسر من أصحابه كثير قتلهم عاصم. وبعث بالفتح إلى هشام مع محمد بن مسلم العنبري، فلقيه أسد بالري. وجاء إلى خراسان فبعث عاصماً وطلبه بمائة ألف درهم، وأطلق عمارة بن حزيم وعمال الجنيد، ولم يكن لعاصم بخراسان إلا مرو ونيسابور. وكانت مرو الروذ للحارث، وواصل لخالد بن عبيد الله الهجري على مثل رأي الحارث. فبعث أسد عَبْد الرحمن بن نعيم في أهل الكوفة والشام إلى الحارث، وسار هو بالناس إلى امد. فخرج إليه زياد القرشي مولى حيان النبطي في العسكر، فهزمهم أسد وحاصرهم حتى سألوا الأمان، واستعمل عليهم يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني وسار إلى بلخ. وقد بايعوا سليمان بن عَبْد الله بن حازم، فسار حتى قدمها. ثم سار منها إلى ترمذ، والحارث محاصر لهما. وأعجزه وصول المدد إليها فخرج إلى بلخ، وخرج أهل ترمذ فهزموا الحارث وقتلوا أكثر أصحابه. ثم سار أسد إلى سمرقند ومر بحصن زم وبه أصحاب، الحارث، فبعث إليهم وقال إنما نكرتم منا سوء السيرة، ولم يبلغ ذلك النساء واستحلال الفروج، ولا مظاهر المشركين على مثل سمرقند، وأعطاه الأمان على تسليم سمرقند. وهدده إن قاتل بأنه لا يؤمنه أبدا. فخرج إلى الأمان وسار معه إلى سمرقند فنزلهم على الأمان. ثم رجع أسد إلى بلخ وسرح جديعأ الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحارث وأصحابه في طخارستان، فحاصرها وفتحها وقتل مقاتلهم ومنهم بنو بزري من ثعلب أصحاب الحارث. وباع سبيهم في سوق بلخ، وانتقض على الحرث
أربعمائة وخمسون من أصحابه بالقلعة، ورئيسهم جرير بن ميمون القاضي. فقال لهم الحارث إن كنتم مفارقي ولا بد فاطلبوا الأمان، وإن طلبتموه بعد رحيلي لا يعطونه لكم، فأبوا إلا إن ارتحل، فبعثوا بالأمان فلم يجبهم إليه. وسرح جديعة الكرماني في ستة آلاف، فحصرهم حتى نزلوا على حكمه. وحمل خمسين منهم إلى أسد فيهم ابن ميمون القاضي. فقتلهم وكتب إلى الكرماني بإهلاك الباقين، واتخذ أسد مدينة بلخ داراً، ونقل إليها الدواوين. ثم عزا طخارستان وأرض حبونة فغنم وسبى.
مقتل خاقان: ولما كانت سنة تسع عشرة غزا أسد بن عَبْد الله بلاد الختل، فافتتح منها قلاعاً وامتلأت أيدي العسكرمن السبي والشاء، وكخب ابن السائحي صاحب البلاد يستجيش خاقان على العرب ويضعفهم له، فتجهز وخفف من الأزودة استعجالا للعرب. فلما أحس به ابن السائحي بعث بالنذير إلى أسد فلم يصدقه، فأعاد عليه أني الذي استمددت خاقان لأنك مغرت البلاد. ولا أريد أن يظفر بك خشية من معاداة العرب، واستطالة خاقان علي، فصدقه حينئذ أسد وبعث الأثقال مع إبراهيم بن عاصم العقيلي، الذي كان ولي سجستان، وبعث معه المشيخة كثير بن أُمَيَّة، وأبا سفيان بن كثير الخزاعي، وفضيل بن حيان المهري وغيرهم، وأمدهما بجند آخر. وجاء في أثرهم فانتهى إلى نهر بلخ، وقد قطعه إبراهيم بن عاصم بالسبي والأثقال، فخاض النهر من ثلاثة وعشرين موضعاً، وحمل الناس شياههم حتى حمل هو شاة، فما استكمل العبور حتى طلعت عليهم الترك وعلى المسلحة الأزد وتميم. فحمل خاقان عليهم فانكشفوا، فرجع أسد إلى عسكره وخندق. وظنوا أن خاقان لا يقطع النهر، فقطع النهر إليهم، وقاتله المسلمون في معسكرهم، وباتوا والترك محيطون بهم. فلما أصبحوا لم يروا منهم أحدا فعلموا أنهم اتبعوا الأثقال والسبي، واستعلموا علمها من الطلائع، فشاور أسد الناس فأشاروا بالمقام، وأشار نصر بن سيار باتباعهم يخلص الأثقال ويقطع شقة لا بد من قطعها، فوافقه أسد وطير النذير إلى إبراهيم بن عاصم، وصبح خاقان للأثقال وقد خندقوا عليهم. فأمر أهل الصغد بقتلهم، فهزمتهم مسلحة المسلمين فصعد
على تل حتى رأى المسلمين من خلفهم. وأمر الترك أن يأتوهم من هنالك، ففعلوا وخالطوهم في معسكرهم، وقتلوا صاغان خذاه وأصحابه، وأحسوا بالهلاك. وإذا بالغبار قد رهج والترك يتنحون قليلاً قليلاً. وجاء أسد ووقف على التل الذي كان. عليه خاقان. وخرج إليه بقية الناس، وجاءته امرأة صاغان خذاه معولة، فأعول معها، ومضى خاقان يقود أسرى المسلمين في الافاق ويسوق الإبل الموقورة والجواري. وأراد أهل العسكر قتالهم، فمنعهم أسد. ونادى رجل من عسكر خاقان وهو من أصحاب الحارث بن شريح يعير أسداً ويحرضه ويقول: قد كان لك عن الختل مندوحة، وهي أرض أبائي وأجدادي، قد كان ما رأيت، ولعل الله ينتقم منك.
ومضى أسد إلى بلخ فعسكرفي مرجها حتى جاء الشتاء، فدخل البلد وشتى فيها. وكان الحارث بن شريح بناحية طخارستان، فانضم إلى خاقان وأغراه بغزو خراسان، وزحفوا إلى بلخ. وخرج أسد يوم الأضحى، فخطب الناس وعرفهم بأن الحارث بن شريح استجلب الطاغية ليطفىء نور الله ويبدل دينهم، وحرضهم على الاستنصار بالله. وقال أقرب ما يكون العبد لله ساجداً. ثم سجد وسجد الناس وأخلصوا الدعاء، وخرج للقائهم وقد استمد خاقان من وراء النهر، وأهل طخارستان وحبونة في ثلاثين ألفاً، وجاء الخبر إلى أسد وأشار بعض الناس بالتحصن منهم بمدينة بلخ واستمد خالد وهشام وأبي الأسد إلا اللقاء، فخرج واستخلف على بلخ الكرماني ابن علي. وعهد إليه أنه لا يدع أحدا يخرج من المدينة. واعتزم نصر بن سيار والقاسم ان نجيب وغيرهم على الخروج، فأذن لهم وصلى بالناس ركعتين وطول. ثم دعا وأمر الناس بالدعاء، ونزل من وراء المنطره ينتظر من تخلف. ثم بدا له وارتحل، فلقى طليعة خاقان وأسر قائدهم. وسار حتى نزل على فرسخين من الجوزجان. ثم أصبحوا وقد تراءى الجمعان، وأنزل أسد الناس ثم تهيأ للحرب ومعه الجوزجان اهـ. وحملت الترك على الميسرة فانهزموا إلى رواق أسد، فشدت عليهم الأسد وبنو تميم والجوزجان من الميمنة، فانكشفوا إلى خاقان وقد انهزم والحارث معه. وأتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلونهم، واستاقوا مائة وخمسين ألفاً من الشاء ودواب كثيرة. وسلك خاقان غير الجادة والحارث بن شريح ولقيهم أسد عند الطريق، وسلك الجوزجان بعثمان بن عَبْد الله بن الشخيرطريقاً
يعرفها، حتى نزلوا على خاقان وهو آمن، فتركوا الأبنية والقدور تغلي، وبناء العرب والموالي والعسكر مشحون من آنية الفضة، وركب خاقان والحارث يمانع عنه. وأعجلوا امرأة خاقان عن الركوب فقتلها الخصي الموكل بها. وبعث أسد بجوار الترك دهاقين خراسان يفادون بها أسراهم، وأقام خمسة أيام وانصرف إلى بلخ لتاسعة من خروجه. ونزل الجوزجان وخاقان هارب أمامه. وانتهى خاقان إلى جونة الطخاري فنزل عليه، وانصرف أسد إلى بلخ، وأقام خاقان عند جونة حتى أصلح الله وسار وسبية بها، فأخذه جدكاوش أبو فشين فأهدى إليه وأتحفه وحمل أصحابه، يتخذ بذلك عنده يداً. ثم وصل خاقان بلاده وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحرث وابن شريح وأصحابه على خمسة آلاف برذون، ولاعب خاقان بالنرد كورصول يوماً، فغمزه كورصول فأنف وتشاجر، فصك كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرن يده فتنحى وجمع. ثم بيّت خاقان فقتله، وافترق الترك وحملوه وتركوه بالعراء، فحمله بعض عظمائهم ودفنه. وكان أسد بعث بالفتح من بلخ إلى خالد بن عَبْد الله، فأخبره وبعث به إلى هشام فلم يصدقه، ثم بعده القاسم بن نجيب بقتل خاقان، فبعث قيس أسداً وخالداً وقالوا لهشام: استقدم مقاتل بن حيان. فكتب بذلك إلى خالد، فأرسل إلى أسد أن يبعث به فقدم على هشام والأبرش وزيره جالس عنده، فقص عليه الخبر فسر بذلك وقال لمقاتل: ما حاجتك؟ قال يزيد بن المهلب أخذ من حيان أبي مائة ألف درهم بغير حق، فأمر بردها علي. فاستخلفه وكتب له بردها وقسمها مقاتل بين ورثة حيان. ثم غزا أسد الختل بعد مقتل خاقان، وقدم مصعب بن عمرالخزاعى إليها فسار إلى حصن بدر طرخان، فاستأمن له أن يلقى أسداً فأمنه، وبعث إلى أسد فسأل أن يقبل منه ألف درهم، وراوده على ذلك، فأبى أسد ورده إلى مصعب ليرده إلى حصنه فقال له مسلمة بن أبي عَبْد الله:- وهو من الموالي- إن أمير المؤمنين سيندم على حبسه. ثم أقبل أسد بالناس ووعد له المجشر بن مزاحم بدرطرخان أو قبول ما عرض، فندم أسد وأرسل إلى مصعب يسأل عنه، فوجده مقيماً عند مسلمة، فجيء به وقطعت يده. ثم أمر رجلاً من الأزد كان بدرطرخان قتل أباه، فضرب عنقه وغلب على القلعة، وبعث العساكر في بلاد الختل، فامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وامتنع ولد بدر طرخان وأمواله في قلعة فوق بلدهم صغيرة فلم يوصل إليهم.
وفاة أسد: وفي ربيع الأول سنة عشرين توفي ابن عَبْد الله القسري بمدينة بلخ، واستخلف جعفربن حنظلة النهروانيّ، فعمل أربعة أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيّار بالعمل في رجب. ولاية يوسف بن عمر الثقفي علي العراق وعزل خالد: وفي هذه السنة عزل هشام خالداً عن أعماله جميعها بسعاية أبي المثنى وحسان النبطي، وكانا يتوليان ضياع هشام بالعراق، فثقلا على خالد، وأمر الأشدق بالنهوض على الضياع. وأنهى ذلك حسان بعد أبي المثنى، وأن غلته في السنة ثلاثة عشر ألف ألف، فوقرت في نفس هشام. وأشار عليه بلال بن أبي بردة والعريان بن الهيثم أن يعرض أملاكه على هشام، ويضمنون له الرضا فلم يجبهم. ثم شكا من خالد بعض آل عمر والأشدق بأنه أغلظ له في القول بمجلسه، فكتب إليه هشام يوبّخه ويأمره بأن يمشي ساعياً على قدميه إلى بابه ويترضاه. ونميت عنه من هذا أقوال كثيرة، وأنه يستقل ولاية العراق فكتب إليه هشام يا ابن ام خالد بلغني أنك تقول ما ولاية العراق لي بشرف، يا ابن اللخناء كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفاً وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ أمَّا والله إني لأظن أن أول من يأتيك صقر من قُرَيْش يشد يديك إلى عنقك. ثم كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي وهو باليمن، يأمره أن يقدم في ثلاثين من أصحابه إلى العراق فقد ولاه ذلك. فسار إلى الكوفة ونزل قريباً منها، وقد ختن طارق، خليفة خالد بالكوفة، ولده، وأهدى إليه وصيفاً ووصيفة سوى الأموال والثياب.ومرّ يوسف وأصحابه ببعض أهل العراق فسألوهم فعرضوا وظنوهم خوارج، وركب يوسف إلى دورثقيف فكتموا، ثم جمع يوسف بالمسجد من كان هنالك من مضر، ودخل مع الفجر فصلى، وأرسل إلى خالد وطارق فأخذهما. وقيل إن خالداً كان بواسط، وكتب إليه بالخبر بعض أصحابه من دمشق، فركب إلى خالد وأخبره بالخبر وقال: اركب إلى أمير المؤمنين واعتذرإليه، قالى لا أفعل بغير إذن، قال فترسلني أستأذنه؟ قال لا، قال فاضمن له جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهده
وهي مائة ألف ألف. قال: والله ما أجد عشرة آلاف ألف. قال أتحملها أنا وفلان وفلان، قال لا أعطي شيئاً وأعود فيه. فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا، ونستبقي الدنيا وتبقى الدنيا عليك وعلينا خيرمن أن يجيء من يطالبنا بالأموال وهي عند الكوفة، فنقتل ويأكلوا الأموال. فأبى خالد من ذلك كله، فودعه طارق ومضى وبكى ورجع إلى الكوفة. وخرج خالد إلى الحمَّة، وجاء كتاب هشام بخطه إلى يوسف بولاية العراق، وأن يأخذ ابن النصرانية يعني خالداً وعماله فيعذبهم فأخذ الأولاد وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصلت. وقدم في جمادى الأخيرة سنة عشرين ومائة، فنزل النجف وأرسل مولى كيسان فجاء بطارق ولقيه بالحيرة، فضربه ضربأ مبرحأ ودخل الكوفة. وبعث عثمان عطاء بن مقدم إلى خالد بالحُمّة، فقدم عليه وحبسه، وصالحه عنه ابان بن الوليد وأصحابه على سبعة آلاف ألف. وقيل أخذ منه مائة ألف وكانت ولايته العراق خمس عشرة سنة. ولما ولي يوسف نزلت الذلة بالعراق في العرب، وصار الحكم فيه إلى أهل الذمة.
ولاية نصر بن سيار خراسان وغزوه وصلح الصغد: ولما مات أسد بن عَبْد الله ولّى هشام على خراسان نصر بن سيار، وبعث إليه على عهده عَبْد الكريم بن سليط الحنفي، وقد كان جعفر بن حنظلة لمّا استخلفه أسد عند موته، عرض على نصرأن يوليه بخارى. فقال له البحتري ّ بن مجاهد مولى بني شيبان لا تقبل فإنك شيخ مضر بخراسان، وكان عهدك قد جاء على خراسان كلها فكان كذلك. ولما ولي نصر استعمل على بلخ مسلم بن عَبْد الرحمن، وعلى مرو الروذ وشاح بن بكير بن وشاح، وعلى هراة الحرث بن عَبْد الله بن الحشرج، وعلى نيسابور زياد بن عَبْد الرحمن القسري وعلى خوارزم أبا حفص علي بن حقنة، وعلى الصغد قطن بن قتيبة. وبقي أربع سنين لا يستعمل في خراسان إلا مضريّاً، فعمرت عمارة لم تعمر مثلها، وأحسن الولاية والجباية. وكان وصول العهد إليه بالولاية في رجب سنة عشرين فغزا غزوات أولها إلى ما وراء النهر من نحو باب الحديد. وسار إليها من بلخ، ورجع إلى مرو، فوضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة، وجعلها على من كان يخفف عنه منهم. وانتهى عددهم ثلاثين ألفاً من الصنفين، وضعت عن هؤلاء وجعلت على هؤلاء ثم غزا الثانية إلى سمرقند، ثم الثالثة إلى الشاش سار إليها من
مرو، ومعه ملك بخارى وأهل سمرقند وكش ونسف في عشرين ألفاً. وجاء إلى نهر الشاش فحال بينه وبين عبوره كورصول، عسكر نصر في ليلة ظلماء، ونادى نصر لا يخرج أحد. وخرج عاصم بن عمير في جند سمرقند، فجاولته خيل الترك ليلاً وفيهم كورصول، فأسره عاصم وجاء به إلى نصر فقتله وصلبه على شاطىء النهر، فحزنت الترك لقتله وأحرقوا أبنيته وقطعوا آذانهم وشعورهم وأذناب خيولهم. وأمر نصر بإحراق عظامه لئلا يحملوها بعد رجوعه. ثم سار إلى فرغانة فسبى منها ألف رأس، وكتب إليه يوسف بن عمران ليسير إلى الحارث بن شريح في الشاش ويخرب بلادهم ويسبيهم. فسار لذلك وجعل على مقدمته يحيى بن حصين، وجاء بهم إلى الحارث وقاتلهم، وقتل عظيماً من عظماء الترك، وانهزموا.
وجاء ملك الشاش في الصلح والهدنة والرهن. واشترط نصر عليه إخراج الحارث بن شريح من بلده فأخرجه إلى فاراب. واستعمل على الشاش بنزل بن صالح مولى عمرو بن العاص. ثم سار إلى أرض فرغانة وبعث أمه في إتمام الصلح، فجاءت لذلك وأكرمها نصر وعقد لها ورجعت. وكان الصغد لمّا قتل خاقان طمعوا في الرجعة إلى بلادهم، فلما ولي نصر بعث إليهم في ذلك وأعطوه ما سألوه من الشروط، وكان أهل خراسان قد نكروا شروطهم، وكان منها أن لا يعاقب من ارتد عن الإِسلام إليهم، ولا يؤخذ منهم أسرى إلا ببينة وحكم، وعاب الناس ذلك على نصر لمّا أمضاه لهم. فقال: لو عاينتم شكوتهم في المسلمين مثل ما عاينت ما أنكرتم. وأرسل إلى هشام في ذلك فأمضاه وذلك سنة ثلاث وعشرين. ظهور زيل بن علي ومقتله: ظهر زيد بن علي بالكوفة خارجاً على هشام داعياً للكتاب والسنة، وإلى جهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء وردّ المظالم وأفعال الخير ونصر أهل البيت. واختلف في سبب خروجه فقيل: إن يوسف بن عمر لمّا كتب في خالد القسري كتب إلى هشام أنه شيعة لأهل البيت، وأنه ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ورد عليه الأمن. وأنه أودع زيداً وأصحابه الوافدين عليه مالاً، فكان زيد قد قدم على خالد بالعراق هو ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وداود بن علي بن عد الله بن عبّاس، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة.
فبعث هشام عنهم وسألهم فأقرّوا بالجائزة، وحلفوا على ما سوى ذلك، وأن خالدا لم يودعهم شيئاً. فصدقهم هشام وبعثهم إلى يوسف، فقاتلوا خالداً وصدقهم الآخر، وعادوا إلى المدينة ونزلوا القادسية. وراسل أهل الكوفة زيداً فعاد إليهم، وقيل في سبب ذلك: إن زيداً اختصم مع ابن عمه جعفر بن الحسن المثنى في وقف علي، وكانا يحضران عند عامل خالد بن عَبْد الملك بن الحارث. فوقعت بينهما في مجلسه مشاتمة، وأنكر زيد من خالد إطالته للخصومة وأن يستمع لمثل هذا فأغلظ له زيد وسار إلى هشام فحجبه، ثم أذن له بعد حين. فحاوره طويلا ثم عرض له بأنه ينكر الخلاف وتنقصه. ثم قال له أخرج؟ قال نعم ثم لا أكون إلا بحيث تكره، فسار إلى الكوفة. وقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ناشدتك الله إلحق بأهلك ولا تأت الكوفة، وذكّرهُ بفعلهم مع جدّه، وجده يستعظم ما وقع به. وأقبل الكوفة فأقام بها مستخفياً ينتقل في المنازل. واختلف إليه الشيعة وبايعه جماعة: منهم مسلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحق بن زيد بن حارثة الأنصاري، وناس من وجوه أهل الكوفة يذكر لهم دعوته، ثم يقول أتبايعون على ذلك؟ فيقولون نعم فيضع يده على أيديهم ويقول عهد الله عليك وميثاقه وذمته وذمة نبيه بيقين تتبعني ولا تقاتلني مع عدوي ولتنصحن لي في السر والعلانية. فإذا قال نعم وضع يده في يده ثم قال: اللهم اشهد فبايعه خمسة عشر ألفاً، وقيل أربعون. وأمرهم بالاستعداد وشاع أمره في الناس، وقيل: إنه أقام في الكوفة ظاهراً ومعه داود بن عليّ بن عَبْد الله بن عبّاس لمّا جاؤا لمقاتلة خالد، فاختلف إليه الشيعة، وكانت البيعة. وبلغ الخبر إلى يوسف بن عمر فأخرجه من الكوفة، ولحق الشيعة بالقادسية أو الغلبية وعذله داود بن عليّ في الرجوع معه، وذكره حال جدّه الحسين. فقالت الشيعة لزيد: هذا إنما ريد الأمر لنفسه ولأهل بيته، فرجع معهم، ومضى داود إلى المدينة. ولما أتى الكوفة جاءه مسلمة بن كهيل فصده عن ذلك، وقال أهل الكوفة لا يعولون ذلك. وقد كان مع جدك منهم أضعاف مما معك ولم تعادله، وكان أعز عليهم منك على هؤلاء. فقال له قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وعنقهم. قال فتأذن لي أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث وأنا لا أهلك نفسي، فخرج لليمامة. وكتب عَبْد الله بن الحسن المثنى إلى زيد يعذله ويصده، فلم يصغ إليه. وتزوج نساء بالكوفة وكان يختلف إليهن، والناس يبايعونه، ثم أمر أصحابه يتجهّزون. ونمي الخبر إلى يوسف بن عمر فطلبه، وخاف فتعجّل الخروج وكان يوسف بالحيرة، وعلى الكوفة الحكم بن الصلت وعلى شرطته عمر بن عَبْد الرحمن من القاهرة، ومعه عبيد الله بن عبّاس الكندي في ناس من أهل الشام. ولما علم الشيعة أنّ يوسف يبحث عن زيد جاء إليه جماعة منهم فقالوا: ما تقول في الشيخين؟ فقال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، وما سمعت أهل بيتي يذكرونهما إلا بخير. وغاية ما أقول إنا كنا أحق بسلطان رسول الله من الناس فدفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك الكفر، وقد عدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة. قال: فإذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم؟ فقال إن هؤلاء ظلموا المسلمين أجمعين، فإنا ندعوهم إلى الكتاب والسنة، وأن نحيي السنن ونطفىء البدع، فإن أجبتم سعدتم وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: سبق الإمام الحق يعنون محمداً الباقر، وأن جعفراً ابنه إمامنا بعده، فسماهم زيد الرافضة، ويقال إنما سماهم الرافضة حيث فارقوه. ثم بعث يوسف بن عمر إلى الحكم بأن يجمع أهل الكوفة في المسجد، فجمعوا وطلبوا زيداً في دار معاوية بن إسحق بن زيد بن حارثة، فخرج منها ليلاً واجتمع إليه ناس من الشيعة، وأشعلوا النيران ونادوا يا منصور حتى طلع الفجر، وأصبح جعفر بن أبي العباس الكِندي فلقي اثنين من أصحاب زيد يناديان بشعاره، فقتل واحدا وأتى بالآخر إلى الحكم فقتله، وأغلق أبواب المسجد على الناس. وبعث إلى يوسف بالخبر، فسار من الحيرة وقدم الرَيَّاف بن سلمة الأراثيني في ألفين خيالة وثلثمائة ماشية. وافتقد زيد الناس فقيل إنهم في الجامع محصورون، ولم يجد معه إلا مائتين وعشرين. وخرج صاحب الشرطة في خيله، فلقي نصر بن خزيمة العبسي من أصحاب زيد ذاهبا إليه، فحمل عليه نصر وأصحابه فقتلوه، وحمل زيد على أهل الشام فهزمهم. وانتهى إلى دار أنس بن عمر الأسدي ممن بايعه وناداه فلم يخرج إليه. ثم سار زيد إلى الكناسة فحمل على أهل الشام فهزمهم، ثم دخل الكوفة والرايات في أتباعه. فلما رأى زيد خذلان الناس قال لنصر بن خزيمة أفعلتموها حسينية؟ قال: أمَّا أنا فوالله لأموتن معك وإن الناس بالمسجد، فامض بنا إليهم. فجاء إلى المسجد ينادي بالناس بالخروج إليه. فرماه أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد، فانصرفوا عند المساء. وأرسل يوسف بن عمر من الغد العّباس بن سعد المزني في أهل الشام، فجاءه في دار الزرق، وقد كان أوى إليها عند المساء. فلقيه زيد بن ثابت فاقتتلوا فقتل نصر. ثم حملوا على أصحاب العبّاس، فهزمهم زيد وأصحابه، وعأهم يوسف بن عمر من العشّي ثم سرّحهم، فكشفهم أصحاب زيد ولم تثبت خيلهم لخيله. وبعث إليهم يوسف بن عمر بالقادسية، واشتد القتال وقتل معاوية بن زيد. ثم رمي زيد عند المساء بسهم أثبته، فرجع أصحابه وأهل الشام يظنون أنهم تحاجزوا، ولما نزع النصل من جبهته مات فدفنوه وأجروا عليه الماء. وأصبح الحكم يوم الجمعة يتبع الجرحى من الدور، ودله بعض الموالي على قبر زيد فاستخرجه وقطع رأسه وبعث بها إلى يوسف بالحيرة، فبعثه إلى هشام فنصبه على باب دمشق. وأمر يوسف الحكم أن يصلب زيداً بالكناسة، ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحق ويحرسهم. فلما ولي الوليد أمر باحراقهم، واستجار يحيى بن زيد بعبد الملك بن شبر بن مروان فأجاره حتى سكن المطلب، ثم سار إلى خراسان في نفر من الزيدية.
ظهور أبي مسلم بالدعوة العباسية: كان أهل الدعوة العباسية بخراسان يكتمون أمرهم منذ بعث محمد بن علي بن عَبْد الله بن عباس دعاته إلى الآفاق سنة مائة من الهجرة، أيام عمر بن عَبْد العزيز، لمّا مر أبو هاشم عَبْد الله بن محمد بن الحنفيّة ذاهباً وجائياً من الشام من عند سليمان بن عَبْد الملك، فمرض عنده بالحميمة من أعمال البلقاء، وهلك هنالك وأوصى له بالأمر. وكان أبو هاشم قد علّم شيعته بالعراق وخراسان وأن الأمر صائر في ولد محمد بن علي بن عَبْد الله بن عباس. فلما مات أبو هاشم قصدت الشيعة محمداً وبايعوه سرا، وبعث دعاته منهم إلى الآفاق. وكان الذي بعث إلى العراق مسيرة ابن والي خراسان محمد بن حبيش، وأمَّا عكرمة السرّاج، وهو أبو محمد الصادق وحيان العطاّر خال إبراهيم بن سلمة فجاؤوا إلى خراسان ودعوا إليه سرا وأجابهم الناس، وجاؤوا بكتب من أجاب إلى مسيرة ا هـ. فبعث بها إلى محمد، واختار أبو محمد الصادق اثني عشر رجلاً من أهل الدعوة فجعلهم نقباء عليهم وهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريط التميمي، وأبوالنجم عمران بن إسماعيل مولى أبي معيط، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وأبو حمزة بن عمر بن أعين مولى خزاعة وأخوه عيسى، وأبو علي شبلة بن طهمان الهروي مولّى بني حنيفة. واختار بعده سبعين رجلاً، وكتب إليه محمد بن علي كتابأ يكون لهم مثالاً
يقتدون به في الدعوة، وأقاموا على ذلك. ثم بعث مسيرة رُسُله من العراق سنة اثنتين ومائة في ولاية سعيد خدينة، وخلافة يزيد بن عَبْد الملك. وسعى بهم إلى سعيد فقالوا نحن تجار، فضمنهم قوم من ربيعة واليمن فأطلقهم. وولد محمد ابنه عَبْد الله السفاح سنة أربع ومائة، وجاء إليه أبو محمد الصادق في جماعة من دعاة خراسان، فأخرجه لهم ابن خمسة عشر يوماً وقال هذا صاحبكم الذي يتم الأمر على يده، فقبلوا أطرافه وانصرفوا. ثم دخل معهم في الدعوة بكير بن هامان جاء من السند مع الجنيد بن عَبْد الرحمن. فلما عزل قدم الكوفة ولقي أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن حبيش وعمار العبادي خال الوليد الأزرق، دعاه إلى خراسان في ولاية أسد القسري أيام هشام ووشى بهم إليه، فقطع أيدي من ظفر به منهم وصلبه. وأقبل عمار إلى بكير بن هامان فأخبره، فكتب إلى محمد بن علي بذلك فأجابه: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ومقالتكم، وقد بقيت فيكم قتلى ستعد. ثم كان أول من قدم محمد بن علي إلى خراسان أبو محمد زياد مولى همذان، بعثه محمد بن علي سنة تسعة في ولاية أسد أيام هشام وقال له: انزل في اليمن وتلطّف لمضر ونهاه عن غالب النيسابوري شيعة بني فاطمة. فشتى زياد بمرو، ثم سعى به إلى أسد فاعتذر بالتجارة، ثم عاد إلى أمره. فأحضره أسد وقتله في عشرة من أهل الكوفة. ثم جاء بعدهم إلى خراسان رجل من أهل الكوفة اسمه كثيِّر، ونزل على أبي الشحم وأقام يدعو سنتين أو ثلاثة، ثم أخذ أسد بن عَبْد الله في ولايته الثانية سنة سبع عشرة. أخذ سليمان بن كثيّر، ومالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، ولاهز بن قريط بثلاثمائة سوط، وشهد حسن بن زيد الأسدي ببراءتهم فأطلقهم. ثم بعث بكير بن هامان سنة ثماني عشر عمّار بن زيد على شيعتهم بخراسان، فنزل مرو وتسمى بخراش، وأطاعه الناس. ثم نزل دعوتهم بدعوة الخرمية، فأباح النساء وقال: إن الصوم إنما هو عن ذكر الإمام، وأشار إلى إخفاء اسمه. والصلاة الدعاء له، والحج القصد إليه. وكان خراش هذا نصرانياً بالكوفة، وأتبعه على مقالته مالك بن الهيثم والحريش بن سليم. وظهر أسد على خبره، وبلغ الخبر بذلك إلى محمد بن علي فنكر عليهم قبولهم من خراش، وقطع مراسلتهم. فقدم عليه ابن كثير منهم يستعلم خبره ويستعطفه على ما وقع منهم، وكتب معه إليهم كتاباً مختوماً لم يجدوا فيه غير البسملة، فعلموا مخالفة خراش لأمره وعظم
عليهم. ثم بعث محمد بن بكير بن أبان، وكتب معه بكذب خراش فلم يصدقوه، فجاء إلى محمد وبعث مع عصيا مضبيةً بعضها بالحديد وبعضها بالنحاس. ودفع إلى كل رجل عصا فعلموا أنهم قد خالفوا السيرة فتابوا ورجعوا. وتوفي محمد بن علي سنة أربع وعشرين، وعهد إلى ابنه إبراهيم بالأمر وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمونه الإمام. وجاء بكير بن هامان إلى خراسان بنعيه، والدعاء لإبراهيم الإمام سنة ست وعشرين ومائة. ونزل مرو ودفع إلى الشيعة والنقباء كتابه بالوصية والسيرة فقبلوه، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقاتهم، فقدم بها بكير على إبراهيم. ثم بعث إليهم أبا مسلم سنة أربع وعشرين وقد إختلف في أوليته اختلافاً كثيراً. وفي سبب اتصاله بإبراهيم الإمام أو أبيه محمد، فقيل كان من ولد بزر جمهر، ولد بأصبهان وأوصى به أبوه إلى عيسى بن موسى السراج، فحمله إلى الكوفة ابن سبع سنين. ونشأ بها واتصل بإبرهيم الإمام. وكان اسم أبي مسلم إبراهيم بن عثمان بن بشار، فسفاه إبراهيم الإمام عَبْد الرحمن وزوجة أبيه أبي النجم عمران بن إسماعيل من الشيعة. فبنى بها بخراسان، وزوج ابنته من محرز بن إبراهيم فلم يعقب. وابنته أسماء من فهم بن محرز، فأعقبت فاطمة، وهي التي يذكرها الخرمية. وقيل في اتصاله بإبراهيم الإمام: إنّ أبا مسلم كان موسى السراج، وتعلم منه صناعة السروج، وكان يتجهز فيها بأصبهان والجبال والجزيرة والموصل. واتصل بعاصم بن يونس العجلي صاحب عيسى السراج، وابن أخيه عيسى وإدريس ابني معقل، وإدريس هو جد أبي دلف. ونمي إلى يوسف بن عمران العجلي من دعاة بني العباس، فحبسهم مع عمال خالد القسري. وكان أبو مسلم معهم في السجن بخدمتهم وقبل منهم الدعوة. وقيل لم يتصل بهم من عيسى السّراج، وإنما كان من ضياع بني العجلي بأصبهان أو الجبل. وتوجه سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهزبن قريط، وقحطبة بن شبيب من خراسان، يريدون إبراهيم الإمام بمكة، فمروا بعاصم بن يونس وعيسى وإدريس ابني معقل العجلي بمكانهم من الحبس فرأوا معهم أبا مسلم فأعجبهم وأخذوه. ولقوا إبراهيم الإمام بمكة فأعجبه فأخذه وكان يخدمه. ثم قدم النقباء بعد ذلك على إبراهيم الإمام يطلبون أن يوجه من قلبه إلى خراسان، فبعث معه أبا مسلم. فلما تمكن ونوى أمره ادّعى أنه من ولد سليط بن عَبْد الله بن عباس. وكان من أولية هذا الخبرأن
جارية لعبد الله بن العبّاس ولدت لغير رشدة فحدّها واستعبد وليدها وسماه سليطاً، فنشأ واختص بالوليد. وادعى أن عَبْد الله بن عباس أقر بأنه ابنه، وأقام البينة على ذلك. وخاصم علي بن عَبْد الله في الميراث وأذاه. وكان في صحابته عمر الدنُّ من ولد أبي رافع مولى رسول الله ودخل عليها سليط بالخبر، فاستعدت الوليد على علي فأنكر وحلف، فنبشوا في البستان فوجدوه. فأمر الوليد بعلي فضرب ليدله على عمر الدن. ثم شفع فيه عباد بن زياد فاخرج إلى الحميمة. لمّا ولي سليمان رده إلى دمشق. وقيل إن أبا مسلم كان عبداً للعجليين، وابن بكير بن هامان كان كاتباً لعمال بعض السند. وقدم الكوفة فكان دعاة بني العباس فحبسوا وبكير معهم. وكان العجليون في الحبس، وأبو مسلم العبسي بن معقل، فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه، واستحسن الغلام فاشتراه من عيسى بن معقل بأربعمائة درهم، وبعث به إلى إبراهيم الإمام فدفعه إبراهيم إلى موسى السرّاج من الشيعة. فسمع منه وحفظ، وصار يتردد إلى خراسان. وقيل كان لبعض أهل هراة، وابتاعه منه إبراهيم الإمام، ومكث عنده سنين وكان يتردد بكتبه إلى خراسان. ثم بعثه أميراً على الشيعة وكتب إليهم بالطاعة له، وإلى أبي سلمة الخلال داعيهم بالكوفة يأمره بإنفاذه إلى خراسان، فنزل على سليمان بن كثير وكان من أمره ما يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى. ثم جاء سليمان بن كثير، ولاهز بن قريط وقحطبة إلى مكة سنة سبع وعشرين، بعشرين ألف دينار للإمام إبراهيم، ومائتي ألف درهم وصه ومسك ومتاع كثير، ومعهم أبو مسلم وقالوا: هذا مولاك. وكتب بكير بن هامان إلى الإمام بأنه أوصى بأمر الشيعة بعده لأبي سلمة حفص بن سليمان الخلاّل وهو رضى. فكتب إليه إبراهيم بالقيام بأمر أصحابه، وكتب إلى أهل خراسان بذلك فقبلوه وصدّقوه، وبعثوا بخمس أموالهم ونفقة الشيعة للإمام إبراهيم. ثم بعث إبراهيم في سنة ثماني وعشرين مولاه أبا مسلم إلى خراسان، وكتب له: إني قد أمرته بأمري فاسمعوا له وأطيعوا، وقد أمرته على خراسان وما غلبت عليه، فارتابوا من توله ووفدوا على إبراهيم الإمام من قابل مكة، وذكر له أبو مسلم أنهم لم يقبلوه. فقال لهم: قد عرضت عليكم الأمر فأبيتم من قبوله وكان عرضه على سليمان بن كثير، ثم على إبراهيم بن مسلمة فأبوا. وإني قد أجمع رأي على مسلم، وهو مّنا أهل البيت فاسمعوا له وأطيعوا. وقال لأبي مسلم انزل في أهل
اليمن وأكرمهم. فإنّ بهم يتمّ الأمر وآتهم البيعة. وأمَّا مضر فهم العدوّ والغريب، واقتل من شككت فيه، وإن قدرت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وارجع إلى سليمان بن كثير واكتف به مني وسرّحه معهم فساروا إلى خراسان. وفاة هشام بن عبد الملك وبيعة الوليد بن يزيد: توفي هشام بن عَبْد الملك بالرصافة في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، لعشرين سنة من خلافته، وولى بعده الوليد إبن أخيه يزيد بعهد يزيد بذلك كما مر، وكان الوليد متلاعباً، وله مجون وشراب وندمان، وأراد هشام خلعه فلم يمكنه. وكان يضرب من يأخذه في صحبته، فخرج الوليد في ناس من خاصته ومواليه، وخلف كاتبه عياض بن مسلم ليكاتبه بالأحوال، فضربه هشام وحبسه. ولم يزل الوليد مقيماً بالبرية حتى مات هشام، وجاءه مولى أبي محمد السفياني على البريد بكتاب سالم بن عَبْد الرحمن صاحب ديوان الرسائل بالخبر، فسأل عن كاتبه عياض فقال: لم يزل محبوساً حتى مات هشام، فأرسل إلى الحراق أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاماً من شيء طلبه. ثم خرج بعد موته من الحبس، وختم أبواب الخزائن. ثم كتب الوليد من وقته إلى عمه العباس بن عَبْد الملك أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده وعماله وخدمه، إلا مسلمة بن هشام فإنه كان يراجع أباه بالرفق بالوليد، فانتهى العباس لمّا أمر به الوليد. ثم استعمل الوليد العمال وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة. فجاءته بيعتهم. وكتب مروان ببيعته واستأذن في القدوم. ثم عقد الوليد من سنته لإبنيه: الحكم وعثمان بعده وجعلهما وليي عهده، وكتب بذلك إلى العراق وخراسان. ولاية نصر للوليد علي خراسان: وكتب الوليد في سنته إلى نصر بن سيار بولاية خراسان وأفرده بها، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصراً وعماله، فرد إليه الوليد خراسان. وكتب يوسف إلى نصر بالقدوم، ويحمل معه الهدايا والأموال وعياله جميعاً وكتب له الوليد بأن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، ويجمع له البراذين الغرّة ويجمع بذلك إليه في
المجلد الثالث
من صفحة 130 –197
وجوه أهل خراسان، واستحثه رسول يوسف فأجازه. ثم سار واستخلف على خراسان عصمة بن عَبْد الله الأسدي، وعلى شاش موسى بن ورقاء، وعلى سمرقند حسان ابن من أهل الصغانيان، وعلى آمد مقاتل بن عليّ الصغدي وأسر إليهم أن يداخلوا الترك في المسير إلى خراسان ليرجع إليهم. وبينا هو في طريقه إلى العراق ببيهق لقيه مولى لبني ليث، وأخبره بقتل الوليد والفتنة بالشام. وأن منصور بن جمهور قدم العراق وهرب يوسف بن عمر فرجع الناس.
مقتل يحيي بن زياد: كان يحيى بن زياد سار بعد قتل أبيه وسكون الطلب عنه كما مر فأقام عنه الحريش بن عمرو ومروان في بلخ. ولما ولي الوليد كتب إلى نصر بأن يأخذه من عند الحريش، فأحضر الحريش وطالبه بيحيى فأنكر، فضربه ستمائة سوط، فجاء ابنه قُرَيْش ودله على يحيى فحبسه. وكتب إلى الوليد فأمره أن يخلي سبيله وسبيل أصحابه. فأطلقه نصر وأمره أن يلحق بالوليد، فسار وأقام بسرخس، فكتب نصر إلى عَبْد الله بن قيس بن عياد يخرجه عنها، فأخرجه إلى بيهق، وخاف يحيى بن يوسف بن عمر فسار إلى نيسابور وبها عمر بن زرارة وكان مع يحيى سبعون رجلاً، ولقوا دواب وأدركهم الإعياء فأخذوها بالثمن. وكتب عمر بن زرارة بذلك إلى نصر، فكتب إليه يأمره بحربهم. فحاربهم في عشرة آلاف فهزموه وقتلوه، ومروا بهراة فلم يعرضوا لها. وسرح نصر بن سيار مسلم بن أحور المازني إليهم، فلحقهم بالجوزجان فقاتلهم قتالاً شديداً وأصيب يحيى بسهم في جبهته فمات.وقتل أصحابه جميعاً وبعثوا برأسه إلى الوليد، وصلب بالجوزجان. وكتب الوليد إلى يوسف بن عمر بأن يحرق شلو زيد، فأحرقه وذراه لي الفرات.ولم يزل يحيى مصلوباً بالجوزجان حتى استولى أبو مسلم على خراسان فدفنه ونظر في الديوان اسماء من حضر لقتله فمن كان حياً قتله، ومن كان ميتاً خلفه في أهله بسوء. مقتل خالد بن عَبْد اللّه القسري: قد تقدم لنا ولاية يوسف بن عمر على العراق، وأنه حبس خالداً أصحاب العراق
وخراسان قبله، فأقام بحبسه في الحيرة ثمانية عشر شهراً مع أخيه إسمعيل وابنه يزيد بن خالد والمنذر ابن أخيه أسد. واستأذن هشاماً في عذابه فأذن له على أنه إن هلك قتل يوسف به فعذبه. ثم أمر هشام بإطلاقه سنة إحدى وعشرين، فأتى إلى قرية بإزاء الرصافة فأقام بها، حتى خرج زيد وقتل وانقضى أمره، فسعى يوسف بخالد عند هشام بأنه الذي داخل زيداً في الخروج، فرد هشام سعايته ووبخ رسوله وقال: لسنا نتهم خالداً في طاعة. وسار خالد إلى الصائفة، وأنزل أهله دمشق وعليها كلثوم بن عياض القشيري، وكان يبغض خالداً. فظهر في دمشق حريق في ليال، فكتب كلثوم إلى هشام بأن موالي خالد يريدون الوثوب إلى بيت المال، ويتطرقون إلى ذلك بالحريق كل ليلة في البلد. فكتب إليه هشام بحبس الكبير منهم والصغير والموالي، فحبسهم ثم ظهر على صاحب الحريق وأصحابه. وكتب بهم الوليد بن عَبْد الرحمن عامل الخراج، ولم يذكر فيهم أحداً من آل خالد ومواليه، فكتب هشام إلى كلثوم يوبخه ويأمره بإطلاق آل خالد وترك الموالي. فشفع فيهم خالد عند مقدمه من الصائفة، فلما قدم دخل منزله وأذّن للناس فاجتمعوا ببابه فوّبخهم وقال: إن هشاماً يسوقهن إلى الحبس كل يوم. ثم قال: خرجت غازياً سامعاً مطيعاً فحبس أهلي مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين. ولم يغير ذلك أحد منكم، أخفتم القتل؟ أخافكم الله. والله ليكفن عني هشام، أو لاعودن إلى عراقي الهوى، شامي الدار، حجازي الأصل، يعني محمد بن علي بن عَبْد الله بن عباس.وبلغ ذلك هشاماً فقال: خرف أبو الهيثم. ثم تتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام بطلب يزيد بن خالد، فأرسل إلى كلثوم بإنفاذه إليه، فهرب يزيد فطلبه كلثوم من خالد وحبسه فيه، فكتب إليه هشام بتخليته ووبخه اهـ. ولما ولي الوليد بن يزيد استقدم خالداً وقال: أين ابنك؟ قال: هرب من هشام، وكنّا نراه عندك حتى استخلفك الله فلم نره، وطلبناه ببلاد قومه من الشراة فقال: ولكن خلفته طلباً للفتنة فقال: إنا أهل بيت طاعة. فقال لتأتينى به أو لازهقن، نفسك. فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فأمر الوليد بضربه. ولما قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال اشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف فقال له الوليد: إن يوسف يشتريك بكذا فاضمنها لي قبل أن أدفعك إليه. فقال: ما عهدت العرب تباع! والله لو سألتني عوداً ما ضمنته. فدفعه إلى يوسف، فألبسه عباءة وحمله على غير وطاء، وعذبه عذاباً شديداً وهو لا يكلمه. ثم حمله إلى الكوفة فاشتد في عذابه، ثم قتله ودفنه في عباءة، يقال إنه قتله بشيء وضعه على وجهه، وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه. وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة.
مقتل الوليد وبيعة يزيد: ولما ولي الوليد لم يقلع عما كان عليه من الهوى والمجون. حتى نسب إليه في ذلك كثير من الشنائع. مثل رمية المصحف بالسهام، حين استفتح فوقع على قوله: {وخاب كل جبار عنيد}. وينشدون له في ذلك بيتين تركتهما لشناعة مغزاهما. ولقد ساءت القالة فيه كثيراً، وكثير من الناس نفوا ذلك عنه وقالوا: إنها من شناعات الأعداء، ألصقوها به. قال المدائني دخل ابن الغمر بن يزيد على الرشيد فسأله: ممن أنت؟ فقال: من قُرَيْش. قال: من أيها ؟ فوجم، فقال: قل وأنت آمن ولو أنك مروان. فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال: رحم الله الوليد ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة مجمعاً عليه، إرفع حوائجك فرفعها وقضاها.وقال شبيب بن شبة كنا جلوساً عند المهدي فذكر الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام ابن علانة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافه النبوَّة وأمر الأمة زنديقاً، لقد أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبه وشربه، ويراه في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة، يطرح الثياب التي عليه المصبية المصبغة. ثم يتوضأ فيحسن الوضوء، ويؤتى بثياب بيض نظيفة فيلبسها ويشتغل بربه. أترى هذا فعل من لا يؤمن بالله؟ فقال المهدي: بارك الله عليك يا ابن علانة، وإنما كان الرجل محسوداً في خلاله، ومزاحماً بكبار عشيرة بيته من بني عمومته مع لهوٍ كان يصاحبه أوجد لهم به السبيل على نفسه.وكان من خلاله قرض الشعر الوثيق ونظم الكلام
البليغ. قال يوماً لهشام يعزيه في مسلمة أخيه: إن عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختل الثغر فهوى. وعلى أثر من سلف يمضي من خلف، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى. فأعرض هشام وسكت القوم.وأمَّا حكاية مقتله فإنه لمّا تعرض له بنو عمه، ونالوا من عرضه، أخذ في مكافأتهم. فضرب سليمان ابن عمه هشام مائة سوط، وحلقه وغربه إلى معان من أرض الشام، فحبسه إلى آخر دولته. وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرق بين ابن الوليد وبين امرأته، وحبس عدةً من ولد الوليد، فرموه بالفسق والكفر واستباحة نساء أبيه. وخوفوا بني أُمَيَّة منه بأنه اتخذ ميتة جامعة لهم، وطعنوا عليه في تولية إبنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما. وكان أشدهم عليه في ذلك يزيد بن الوليد، لأنه كان يتنسك فكان الناس إلى قوله أميل. ثم فسدت اليمامة عليه بما كان منه لخالد القسري. وقالوا: إنما حبسه ونكبه لامتناعه من بيعة ولديه. ثم فسدت عليه قضاعة، وكان اليمن وقضاعة أكثر جند الشام. واستعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف بن عمر، وصنعوا على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنية بشأن خالد، فازداد واختفى. وأتوا إلى يزيد بن الوليد بن عَبْد الملك فأرادوه على البيعة. وشاور عمر بن زيد الحكمي فقال: شاور أخاك العباس وإلا فأظهر إنه قد بايعك، فإن الناس له أطوع. فشاور العباس فنهاه عن ذلك فلم ينته، ودعا الناس سراً، وكان بالبادية. وبلغ الخبر مروان بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عَبْد الملك يعظم عليه الأمر ويحذره الفتنة ويذكر له أمر يزيد، فأعظم ذلك سعيد، وبعث بالكتاب إلى العباس، فتهدد أخاه يزيد فكتمه فصدقه.ولما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق لأربع ليال متنكراً، معه سبعة نفر على الحمر. ودخل دمشق ليلاً وقد بايع له أكثر أهلها سراً، وأهل المزة. وكان على دمشق عَبْد الملك بن محمد بن الحجاج، فاستوياها فنزل قطنا، واستخلف عليها إبنه محمداً. وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عَبْد الله السلمي. ونمي الخبر إليهما فكذباه، وتواعد بزيد مع أصحابه بعد المغرب بباب الفراديس. ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة، ولما قضوا الصلاة جاء حرس المسجد لإخراجهم فوثبوا عليهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين وخمسين، وطرقوا باب المقصورة، فأدخلهم الخادم، فأخذوا أبا العاج وهو سكران
وخزان بيت المال وبعث عن محمد بن عَبْد الملك فأخذوه وأخذوا سلاحاً كثيراً كان بالمسجد، وأصبح الناس من الغد من النواحي القريبة متسائلين للبيعة أهل المزة والسكاسك وأهل دارا. وعيسى بن شيب الثعلبي في أهل درهة وحرستا، وحميد بن حبيب اللخمي في أهل دمرعران، وأهل حرش والحديثة ودير كاوربعي بن هشام الحرثي في جماعة من عر وسلامان. ويعقوب بن عمير بن هانىء العبسي وجهينة ومواليهم. ثم بعث عَبْد الرحمن بن مصادي في مائتي فارس، فجاء بعبد الملك بن محمد بن الحجاج من قصره على الأمان. ثم جهز يزيد الجيش إلى الوليد بمكانه من البادية مع عَبْد العزيز بن الحجاج بن عَبْد الملك، ومنصور بن جمهور. وقد كان الوليد لمّا بلغه الخبر بعث عَبْد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فأقام بطريقه قليلأ. ثم بايع ليزيد، وأشار على الوليد أصحابه أن يلحق بحمص فيتحصن بها. قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد، وخالفه عَبْد الله بن عنبسة. وقال: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره وحرمه قبل أن يقاتل. فسار إلى قصر النعمان بن بشير، ومعه أربعون من ولد الضحاك وغيره. وجاء كتاب العباس بن الوليد بأنه قادم عليه، وقاتلهم عَبْد العزيز ومنصور بعد أن بعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى الكتاب والسنة. فقتله أصحاب الوليد واشتدّ القتال بينهم، وبعث عَبْد العزيز بن منصور بن جمهور لاعتراض العباس بن الوليد أن يأتي بالوليد. فجاء به كرهاً إلى عَبْد العزيز، وأرسل الوليد إلى عَبْد العزيز بخمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي على أن ينصرف عنه فأبى. ثم قاتل قتالاً شديداً حتى سمع النداء بقتله وسبه من جوانب الحومة، فدخل القصر فأغلق الباب، وطلب الكلام من أعلى القصر، فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي فذكره بحرمه وفعله فيهم. فقال ابن عنبسة: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. قال : حسبك الله يا أخا السكاسك ! فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت. ثم رجع إلى الدار فجلس يقرأ في المصحف وقال: يوم كيوم عثمان فتسوّروا عليه، وأخذ يزيد بن عنبسة بيده يقيه لا يريد قتله، وإذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه واجتزوا رأسه، فساروا به إلى يزيد فأمر بنصبه.فتلطّف له يزيد بن فروة مولى بني مرّة في المنع من ذلك، وقال: هذا ابن عمك وخليفة، وإنما تنصب رؤوس الخوارج، ولا آمن أن يتعصب له أهل بيته، فلم يجبه، وأطافه بدمشق على رمح، ثم دفع إلى أخيه سليمان بن يزيد وكان معهم عليه. وكان قتله آخر جمادى الآخرة سنة ست وعشرين لسنتين وثلاثة أشهر من بيعته. ولما قتل خطب الناس يزيد فذمّه وثلبه، وإنه إنما قتله من أجل ذلك. ثم وعدهم بحسن الظفر والاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم، وسد الثغور والعدل في العطاء والأرزاق ورفع الحجاب، وإلا فلكم ما شئتم من الخلع. وكان يسمى الناقص لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الناس وهي عشرة عشرة. وردّ العطاء كما كان أيام هشام، وبايع لأخيه إبراهيم بالعهد ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عَبْد الملك، حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض طرقه .
ولما قتل الوليد، وكان قد حبس سليمان ابن عمه هشام بعمان، خرج سليمان من الحبس وأخذ ما كان هناك من الأموال ونقله إلى دمشق. ثم بلغ خبر مقتله إلى حمص، وأن العباس بن الوليد أعان على قتله، فانتقضوا وهدموا دار العباس وسبوها، وطلبوه فلحق بأخيه يزيد. وكاتبوا الأجناد في الطلب بدم يزيد، وأمروا عليهم مروان بن عَبْد الله بن عَبْد الملك، ومعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، وراسلهم يزيد فطردوا رسوله، فبعث أخاه مسروراً في الجيش فنزل حّوارين. ثم جاء سليمان بن هشام من فرد عليه ما أخذ الوليد من أموالهم، وبعث على الجيش وأمر أخاه مسروراً بالطاعة. واعتزم أهل حمص على المسير إلى دمشق، فقال لهم مروان: ليس من الرأي أن تتركوا خلفكم هذا الجيش وإنما نقاتله قبل، فيكون ما بعده أهون علينا. فقال لهم السميط بن ثابت إنما يريد خلافكم وإنما هواه مع يزيد والقدرية، فقتلوه وولّوا عليهم محمداً السفياني وقصدوا دمشق، فاعترضهم ابن
هشام بغدرا فقاتلهم قتالاً شديداً. وبعث يزيد عَبْد العزيز بن الحجاج بن عَبْد الملك في ثلاثة آلاف إلى ثنية العقاب وهشام بن مضاد في ألف وخمسمائة إلى عقبة السلامية. وبينما سالم يقاتلهم إذ أقبلت عساكر من ثنية العقاب، فانهزم أهل حمص، ونادى يزيد بن خالد بن عَبْد الله القسري: الله الله على قومك يا سليمان. فكف الناس عنهم وبايعوا ليزيد. وأخذ أبا محمد السفياني ويزيد بن خالد بن يزيد وبعثهما إلى يزيد فحبسهما اهــ. واستعمل على حمص معاوية بن يزيد بن الحصين، وكان لمّا قتل الوليد وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عَبْد الملك فطردوه، وتولى منهم سعيد وضبعان إبنا روح، وكان ولد سليمان ينزلون فلسطين، فأحضروا يزيد بن سليمان وولّوه عليهم، وبلغ ذلك أهل الأردن، فولوا عليهم محمد بن عَبْد الملك. وبعث يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني على ثمانين ألفاً، وبعث إلى إبني روح بالإحسان والولاية، فرجعا بأهل فلسطين. وقدّم سليمان عسكراً من خمسة آلاف إلى طبرية فنهبوا القرى والضياع، وخشي أهل طبرية على من وراءهم، فانتهبوا يزيد بن سليمان ومحمد بن عَبْد الملك ونزلوا بمنازلهم، فافترقت جموع الأردن وفلسطين. وسار سليمان بن هشام، ولحقه أهل الأردن فبايعوا ليزيد، وسار إلى طبرية والرملة وأخذ على أهلهما البيعة ليزيد، وولّى على فلسطين ضبعان بن روح، وعلى الأردن إبراهيم بى الوليد.
ولاية منصور بن جمهور علي العراق ثم ولاية عَبْد الله بن عمر. لمّا ولي يزيد استعمل منصور بن جمهور على العراق وخراسان، ولم يكن من أهل الدين، وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحنقاً على يوسف بقتله خالداً القسري. ولما بلغ يوسف قتل الوليد ارتاب في أمره، وحبس اليمانيّة لمّا تجتمع المضرية عليه فلم ير عندهم ما يحب، فأطلق اليمانيّة. وأقبل المنصور وكتب من عين البقر إلى قوّاد الشام في الحيرة بأخذ يوسف وعماله، فأظهر يوسف الطاعة. ولما قرب منصور
دخل دار عمر بن محمد بن سعيد بن العاص، ولحق منها بالشام سًّراً، وبعث يزيد بن الوليد خمسين فارساً لتلقيه. فلما أحس بهم هرب واختفى، ووجد بين النساء فأخذوه وجاؤا به إلى يزيد، فحبسه مع إبني الوليد، حتى قتلهم مولى ليزيد بن خالد القسري. ولما دخل منصور بن جمهور الكوفة لأيام خلت من رجب، أفاض العطاء وأطلق من كان في السجون من العمال وأهل الخراج، واستعمل أخاه على الري وخراسان، فسار لذلك فامتنع نصر بن سيار من تسليم خراسان له. ثم عزل يزيد منصور بن جمهور لشهرين من ولايته، وولّى على العراق عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز وقال: سر إلى أهل العراق، فإن أهله يميلون إلى أبيك. فسار وانقاد له أهل الشام، وسلم إليه منصور العمل، وانصرف إلى الشام. وبعث عَبْد الله العمّال على الجهات، واستعمل عمر بن الغضبان بن القبعثرا على الشرطة وخراج السواد والمحاسبات، وكتب إلى نصر بن سيّار بعهده على خراسان.
انتقاض أهل اليمامة:
ولما قتل الوليد كان عليّ بن المهاجر على اليمامة عاملاً ليوسف بن عمر، فجمع له المهير بر سليمان بن هلال من بني الدول بن خولة. وسار إليه وهو في قصره بقاع هجر فالتقوا وانهزم عليّ، وقتل ناس من أصحابه، وهرب إلى المدينة. وملك المهير اليمامة، ثم مات. واستخلف عليها عَبْد الله بن النعمان من بني قيس بن ثعلبة من الدول، فبعث المندلب بن إدريس الحنفي على الفلج قرية من قرى بني عامر بن صعصعة، فجمع له بني كعب بن ربيعة بن عامر، وبني عمير، فقتلوا المندلب وأكثر أصحابه. فجمع عَبْد الله ابن النعمان جموعاً من حنيفة وغيرها، وغزا الفلج وهزم بني عقيل وبني بشير وبني جعدة وقتل أكثرهم. ثم اجتمعوا ومعهم نمير فلقوا بعض حنيفة بالصحراء فقتلوهم وسلبوا نساءهم، ثم جمع عمر بن الوازع الحنفي الجموع وقال: لست بدون عَبْد الله بن النعمان، وهذه فترة من السلطان. وأغار وامتلأت يداه من الغنائم، وأقبل ومن معه وأقبلت بنو عامر، والتقوا فانهزم بنو حنيفة ومات أكثرهم من العطش. ورجع بنو عامر بالأسرى والنساء، ولحق عمر بن الوازع باليمامة. ثم جمع
عبيد الله بن مسلم الحنفي جمعاً وأغار على قشير وعكل فقتل منهم عشرين، وسمى المثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة والياً على اليمامة من قبل أبيه حتى ولي العراق لمروان، فتعرض المثنى لبني عامر وضرب عدة من بني حنيفة وحلقهم. ثم سكنت البلاد، ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفياً، حتى قدم كسرى بن عبيد الله الهاشمي والياً على العامة لبني العباس ودل عليه فقتله. اختلاف أهل خراسان: ولما قتل الوليد وقدم على نصر عهد خراسان من عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيزصاحب العراق، انتقض عليه جديع بن علي الكرماني، وهو أزدي. وإنما سمي الكرماني لأنه ولد بكرمان، وقال لأصحابه هذه فتنة فانظروا لأموركم رجلاً، فقالوا له: أنت ! وولّوه. وكان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عَبْد الله، فلما ولى نصر عزله عن الرياسة بغيره، فتباعد ما بينهما. وأكثر على نصر أصحابه في أمر الكرماني، فاعتزم على حبسه، وأرسل صاحب حرسه ليأتي به. وأراد الأزد أن يخلصوه فأبى، وجاء إلى نصر يعدد عليه أياديه قبله، من مراجعة يوسف بن عمر في قتله، والغرامة عنه، وتقديم ابنه للرياسة. ثم قال: فبدلت ذلك بالإجماع على الفتنة، فأخذ يعتذر ويتنصل، وأصحاب نصر يتحاملون عليه، مثل مسلم بن أحور وعصمة بن عَبْد الله ا لأسدي.ثم ضربه وحبسه آخر رمضان سنة ست وعشرين، ثم نقب السجن واجتمع له ثلاثة آلاف، وكانت الأزد قد بايعوا عَبْد الملك بن حرملة على الكتاب والسنة. ولما جاء الكرماني قدمه عَبْد الملك، ثم عسار نصر على باب مرو الروذ، واجتمع إليه الناس، وبعث سالم بن أحور في الجموع إلى الكرماني، وسفر الناس بينهما على أن يؤمنه نصر ولا يحبسه. وأجاب نصر إلى ذلك، وجاء الكرماني إليه و أمره بلزوم بيته. ثم بلغه عن نصر شيء فعاد إلى حاله، وكلموه فيه فأمنه، وجاء إليه وأعطى أصحابه عشرة عشرة. فلما عزل جمهور عن العراق وولي عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز، خطب نصر قدام بن جمهور وأثنى على عَبْد الله، فغضب الكرماني لابن الجمهور، وعاد لجمع المال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعة في ألف وخمسمائة، ويصلي خارج المقصورة، ويدخل فيسلم ولا يحبس. ثم أظهر الخلاف، وبعث إليه نصر سالم بن أحور فأفحش في
صرفه، وسفر بينهما الناس في الصلح على أن يخرج الكرماني من خراسان، وتجهز للخروج إلى جرجان.
أمان الحرث بن شريح وخروجه من دار الحرث: لمّا وقعت الفتنة بخراسان بين نصر والكرماني خاف نصر أن يستظهر الكرماني عليه بالحارث بن شريح، وكان مقيماً ببلاد الترك منذ إثنتي عشرة سنة كما مرّ، فأرسل مقاتل بن حيان النبطي يراوده على الخروج من بلاد الترك، بخلاف ما يقتضي له الأمان من يزيد بن الوليد. وبعث خالد بن زياد البدي الترمذي وخالد بن عمرة مولى بني عامر لاقتضاء الأمان له من يزيد، فكتب له الأمان. وأمر نصراً أن يردّ عليه ما أخذ له، وأمر عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز عامل الكوفة أن يكتب لهما بذلك أيضاً. ولما وصل إلى نصر بعث الى الحرث بذلك، فلقيه الرسول راجعاً مع مقاتل بن حيّان وأصحابه، ووصل سنة سبع وعشرين في جمادى الأخيرة، وأنزله نصر بمرو ورد عليه ما أخذ له، وأجرى عليه كل يوم خمسين درهمأ، وأطلق أهله وولده. وعرض عليه أن يوليه، ويعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل، وقال: لست من الدنيا واللذات في شيء، وإنما أسأل كتاب الله والعمل بالسنة، وبذلك اساعدك على عدوك. وإنما خرجت من البلاد منذ ثلاث عشرة سنة إنكاراً للجور، فكيف تزيدني عليه. وبعث إلى الكرماني إن عمل نصر بالكتاب عضدته في أمر الله، ولا أعتبك إن ضمنت لي القيام بالعدل والسنة. ثم دعا قبائل تميم فأجاب منهم ومن غيرهم كثير، واجتمع إليه ثلاثة آلاف وأقام على ذلك. انتقاض مروان لمّا قتل الوليد: كان مروان بن محمد بن مروان على أرمينية، وكان على الجزيرة عبدة بن رياح العبادي. وكان الوليد قد بعث بالصائفة أخاه، فبعث معه مروان إبنه عَبْد الملك. فلما انصرفوا من الصائفة لقيهم بجرزان حين مقتل الوليد، وسار عبدة عن الجزيرة. فوثب عَبْد الملك بالجزيرة وجرزان فضبطهما، وكتب إلى أبيه بأرمينية يستحثه، فسار طلباً بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطها. وكان معه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين، وكان صاحب فتنة. وكان هشام قد حبسه على إفساد
الجند بأفريقية عند مقتل كلثوم بن عياض، وشفع فيه مروان فأطلقاه واتخذه عنده يداً. فلما سار من أرمينية داخل ثابت أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفرات. واجتمع له الكبير من جند مروان وناهضه القتال. ثم غلبهم وانقادوا له، وحبس ثابت بن نعيم وأولاده، ثم أطلقهم من خرّان إلى الشام وجمع نيفاً وعشرين ألفاً من الجزيرة ليسير بهم إلى يزيد، وكتب إليه يشترط ما كان عَبْد الملك ولى أباه محمداً من الجزيرة والموصل وأذربيجان، فأعطاه يزيد ولاية ذلك وبايع له مروان وانصرف. وفاة يزيد وبيعة أخيه إبراهيم: ثم توفي يزيد آخر سنة ست وعشرين لخمسة أشهر من ولايته، ويقال: إنه كان قدرياً وبايعوا لأخيه إبراهيم من بعده، إلا أنه انتقض عليه الناس ولم يتم له الأمر. وكان يسلم عليه تارة بالخلافة وتارة بالإمارة، وأقام على ذلك نحواًً من ثلاثة أشهر، ثم خلعه مروان بن محمد على ما يذكر. وهلك سنة إثنتين وثلاثين. مسير مروان إلي الشام: ولما توفي يزيد وولى أخوه إبراهيم وكان مضعفأ، انتقض عليه مروان لوقته، وسار إلى دمشق. فلما انتهى إلى قنسرين وكان عليها بشر بن الوليد عاملاً لأخيه يزيد، ومعه أخوهما مسرور،ودعاهم مروان إلى بيعته. ومال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة، وخرج بشر للقاء مروان. فلما تراءى الجمعان مال ابن هبيرة وقيس إلى مروان، وأسلموا بشراً ومسروراً فأخذهما مروان وحبسهما، وسار بأهل قنسرين ومن معه إلى حمص، وكانوا امتنعوا من بيعة إبراهيم. فوجه إليهم عَبْد العزيز بن الحجاج بن عَبْد الملك في جند أهل دمشق، فكان يحاصرهم. فلما دخل مروان رحل عَبْد العزيز عنهم، وبايعوا مروان، وخرج للقائه سليمان بن هشام في مائة وعشرين ألفاً، ومروان في ثمانين فدعاهم إلى الصلح، وترك الطلب بدم الوليد على أن يطلقوا إبنيه الحكم وعثمان وليي عهده، فأبوا وقاتلوه. وسرب عسكراًص جاؤهم من خلفهم فانهزموا، وأثخن فيهم أهل حمص فقتلوا
منهم نحواً من سبعة عشر ألفاً وأسروا مثلها. ورجع مروان بالفل وأخذ عليهم البيعة للحكم وعثمان ابني الوليد، وحبس يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيين فهلكا في حبسه. وكان ممن شهد قتل الوليد بن الحجاج، وهرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق، فاجتمع له مع إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج وتشاوروا في قتل الحكم وعثمان، خشية أن يطلقهما مروان فيثأرا بأبيهما. وولوا ذلك يزيد بن خالد، فبعث مولاه أبا الأسد فقتلهما وأخرج يوسف بن عمر فقتله، واعتصم أبو محمد السفياني ببيت في الحبس فلم يطيقوا فتحه، وأعجلهم خيل مروان. فدخل دمشق وأتى بأبي الوليد ويوسف بن عمر مقتولين، فدفنها وأتى بأبي عمر السفياني في قيوده، فسلم عليه بالخلافة وقال: إنّ ولي العهد جعلها لك. ثم بايعه وسمع الناس فبايعوه، وكان أولهم بيعة معاوية بن يزيد بن حصين بن نضير وأهل حمص. ثم رجع مروان إلى خراسان واستأمن له إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام وقدما عليه، وكان قدوم سليمان من تدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانية فبايعوا لمروان.
انتقاض الناس على مروان ولما رجع إلى خراسان راسل ثابت بن نعيم من فلسطين أهل حمص في الخلاف على مروان، فأجابوه وبعثوا إلى من كان بتدمر ممن طلب، وجاء الأصبغ بن دُؤالة الكلبيّ وأولاده، ومعاوية السكسكي فارس أهل الشام وغيرها في ألف من فرسانهم، ودخلوا حمص ليلة الفطر من سنة سبع وعشرين. وزحف مروان في العساكر من حّران ومعه إبراهيم المخلوع، وسليمان بن هشام، ونزل عليهم ثالث يوم الفطر، وقد سدوا أبوابهم فنادى مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا لم ننكث ونحن على الطاعة. ودخل عمر الوضّاح في ثلاثة آلاف فقاتله المحتشدون هنالك للخلاف، وخرجوا من الباب الآخر، وجفل مروان في اتباعهم، وعلا الباب. فقتل منهم نحو خمسمائة وصلبهم وهدم من سورها علوه، وأفلت الأصبغ بن دؤالة وابنه فرافصة. ثم بلغ مروان وهو بحمص خلاف أهل الغوطة، وأنهم ولّوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وحاصروا دمشق وأميرها زامل بن عمر، فبعث مروان إليهم أبا الورد بن الكوثر بن زُفَر بن الحرث، وعمر بن الوضّاح، في عشرة آلاف، فلما دنوا من فى مشق حملوا عليهم، وخرج إليهم من كان بالمدينة فهزموهم، وقتلوا يزيد بن خالد وبعثوا برأسه الى مروان وأحرقوا الّمزة
وقرى البرامة. ثم خرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين وحاصر طبرية وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم. فبعث مروان إليه أبا الورد، فلما قرب منه خرج أهل طبرية عليه فهزموه، ولقيه أبو الورد منهزماً فهزمه أخرى، وافترق أصحابه، وأسر ثلاثة من ولده، وبعث بهم إلى مروان. وتغيب ثابت وولّى مروان على فلسطين الرُّماحس بن عَبْد العزيز الكنانيّ، فظفر بثابت بعد شهرين، وبعث به إلى مروان موثقاً فقطعه وأولاده الثلاثة، وبعثهم إلى دمشق فصلبوه. ثم بايع لابنيه عَبْد الله وعبيد الله وزوجهما بنتي هشام، ثم سار إلى ترمذ من دير أيوب، وكانوا قد غوروا المياه. فاستعمل المزاد والقرب والإبل، وبعث وزيره الأبرش الكلّبي إليهم، وأجابوا إلى الطاعة. وهرب نفر منهم إلى البلد، وهدم الأبرش سورها، ورجع بمن أطاع إلى مروان. ثم بعث مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لقتال الضحاك الشيبانيّ الخارجي بالكوفة، وأمدّه ببعوث أهل الشام، ونزل قرقيسيا ليقدّم ابن هبيرة لقتال الضحاك. وكان سليمان بن هشام قد استأذنه بالمقام في الرصافة أياماً ويلحق به، فرجعت طائفة عظيمة من أهل الشام الذين بعثهم مروان مع ابن هبيرة، فأقاموا بالرصافة ودعوا سليمان بن هشام بالبيعة فأجاب، وسار معهم إلى قَّنسْرِين فعسكر بها، وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه. وبلغ الخبر مروان فكتب إلى ابن هبيرة بالمقام، ورجع من قرقيسيا إلى سليمان فقاتله فهزمه، واستباح معسكره وأثخن فيهم وقتل أسراهم، وقتل إبراهيم أكبر ولد سليمان وخالد بن هشام المخزومي جا أبيه فيما ينيف على ثلاثين ألفاً وهرب سليمان إلى حمص في الفل فعسكر بها، وبنى ما كان تهدم من سورها. وسار مروان إليه، فلما قرب منه بيّته جماعة من أصحاب سليمان تبايعوا على الموت، وكان على احتراس وتعبية، فترك القتال بالليل وكمنوا له في طريقه من الغد، فقاتلهم إلى آخر النهار، وقتل منهم نحواً من ستمائة. وجاؤا إلى سليمان فلحق بتدمر وخلف أخاه سعيداً بحمص، وحاصره مروان عشرة أشهر ونصب عليهم نيفاً وثمانين منجنيقا، حتى استأمنوا له وأمكنوه من سعيد بن هشام وآخرين شرطهم عليهم.ثم سار لقتال الضحّاك الخارجيّ بالكوفة. وقيل إنّ سليمان بن هشام لما انهزم بقَّنسْرين لحق بعبد الله بن عمر بن عَبْد العزيز بالعراق، وسار معه إلى الضحّاك فبايعوه، وكان النضر بن سعيد قد وَلِيَ العراق. فلما اجتمعوا على قتاله سار نحو مروان فاعترضه بالقادسية جنود الضحّاك من الكوفة مع ابن ملحان فقتله النضر. وولّى الضحاك مكانه بالكوفة المثنى بن عمران، وسار الضحّاك إلى الموصل وأقبل ابن هبيرة إلى الكوفة،فنزل بعيد التمر. وسار إليه المثنى فهزمه ابن هبيرة وقتله وعدّة من قوّاد الضحاك. وانهزم الخوارج ومعهم منصور بن جمهور، ثم جاؤا إلى الكوفة واحتشدوا وساروا للقاء ابن هبيرة، فهزمهم ثانية ودخل الكوفة وسار إلى واسط. وأرسل الضحّاك عبيدة بن سوار الثعلبي لقتاله، فنزل الصَّرَاة، وقاتله ابن هبيرة هنالك فانهزمت الخوارج كما يأتي في أخبارهم.
ظهور عَبْد اللّه بن معاوية كان عَبْد الله بن معاوية بن عَبْد الله بن جعفر قدم على عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز الكوفة في إخوانه وولده، فأكرمهم عَبْد الله وأجرى عليهم ثلثمائة درهم في كل يوم وأقاموا كذلك. ولما بويع إبراهيم بن الوليد بعد أخيه، واضطرب الشام وسار مروان إلى دمشق، حبس عَبْد الله بن عمر عَبْد الله بن معاوية عنده، وزاد في رزقه بعده لمروان يبايعه ويقاتله. فلما ظفر مروان بإبراهيم سار إسمعيل بن عَبْد الله القسري إلى الكوفة وقاتله عَبْد الله بن عمر. ثم خاف إسمعيل أن يفتضح، فكفوا خبرهم فوقعت العَصَبِيَّة بين الناس من إيثارعبد الله بن عمر بعضاً من مُضَر وربيعة بالعطاء دون غيرهم، فثارت
ربيعة، فبعث إليهم أخاه عاصماً ملقياً بيده فاستحيوا ورجعوا. وأفاض في رؤوس الناس يستميلهم. فاستنفر الناس، واجتمعت الشيعة إلى عَبْد الله بن معاوية فبايعوه وأدخلوه قصر الكوفة، وأخرجوا منه عاصم بن عمر. فلحق بأخيه بالحيرة وبايع الكوفيون ابن معاوية ومنهم منصور بن جمهور وإسمعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء، وجاءته البيعة من المدائن وجمع الناس، وخرج إلى عَبْد الله بن عمر بالحيرة، فسرّح للقائه مولاه. ثم خرج في أثره وتلاقيا، ونزع منصور بن جمهور وإسمعيل أخو خالد القسري وعمر بن العطاء. وجاءته البيعة من ابن عمر ولحقوا بالحيرة وانهزم ابن معاوية إلى الكوفة. وكان عمر بن الغضبان قد حمل على ميمنة ابن عمر فكشفها، وانهزم أصحابه من ورائه. فرجع إلى الكوفة وأقام مع ابن معاوية في القصر، ومعهم ربيعة والزيدية على أفواه السكك يقاتلون ابن عمر. ثم أخذ ربيعة الأمان لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية، وسار ابن معاوية إلى المدائن، وتبعه قوم من أهل الكوفة، فتغلب بهم على حلوان والجبل وهمذان وأصبهان والري إلى أن كان من خبره ما نذكره.
غلبة الكرماني على مرو وقتله الحرث بن شريح: لمّا ولي مروان وولّى على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة كتب يزيد إلى نصر بعهده على خراسان، فبايع لمروان بن محمد، فارتاب الحرث وقال: ليس لي أمان من مروان، وخرج فعسكر، وطلب من نصر أن يجعل الأمر شورى فأبى. وقرأ جهم بن صفوان مولى راسب وهو رأس الجهـميّة سيرته وما يدعو إليه على الناس، فرضوا وكثر جمعه. وأرسل إلى نصر في عزل سالم بن أحور عن الشرطة وتغيير العمال، فتقرّر الأمر بينهما على أن يردوا ذلك إلى رجال أربعة: مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان بتعيين نصر، والمغيرة بن شعبة الجهضي ومعاذ بن جبلة بتعيين الحرث.
وأمر نصر أن يكتب بولاية سمرقند وطخارستان لمن يرضاه هؤلاء الأربعة. وكان الحرث يقول إنه صاحب السور، وإنه يهدم سور دمشق، ويزيل ملك بني أُمَيَّة. فأرسل إليه نصر: إن كان ما تقوله حقاً فتعال نسير إلى دمشق، وإلا فقد أهلكت عشيرتك. فقال الحرث :هو حق لكن لا تبايعني عليه أصحابي. قال فكيف تهلك عشرين ألفاًًص من ربيعة واليمن ؟ ثم عرض عليه ولاية ما وراء النهر ويعطيه ثلثمائة ألف فلم يقبل. فقال له فابدأ بالكرماني فاقتله وأنا في طاعتك. ثم اتفقا على تحكيم جهم ومقاتل، فاحتكما بأن يعزله نصر، ويكون الأمر شورى. فأتى نصر فخالفه الحرث، وقدم على نصر جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة: منهم عاصم بن عمير الضريمي، وأبو الديَّال الناجي ومسلم بن عَبْد الرحمن وغيرهم. فكانوا معه. وأمر الحرث أن يقرأ سيرته في الأسواق والمساجد، وأتاه الناس وقرئت على باب نصر. فضرب غلمان نصر قارئها فنادى بهم، وتجهزوا للحرب. ونقب الحرث سور مرو من الليل، ودخل بالنهار فاقتتلوا وقتل جهم بن مسعود الناجي، وأعين مولى حيان، ونهبوا منزل مسلم بن أحور، فركب سالم حين أصبح، فقاتل الحرث وهزمه، وجاء إلى عسكره فقتل كاتبه. وبعث نصر إلى الكرماني، وكان في الأزد و ربيعة، وكان موافقاً للحرث لمّا قدمناه، فجاءه نصر على الأمان وحادثهم وأغلظوا له في القول فارتاب ومضى، وقتل من أصحابه جهم بن صفوان. ثم بعث الحرث إبنه حاتماً إلى الكرمانيّ يستجيشه، فقال له أصحابه: دع عدويك يضطربان، ثم ضرب بعد يومين وناوش القتال أصحاب نصر فهزمهم، وصرع تميم بن نصر ومسلم بن أحور. وخرج نصر من مرو من الغد، فقاتلهم ثلاثة أيام، وانهزم الكرمانيّ وأصحابه، ونادى مناد يا معشر ربيعة واليمن إن أبا سيّار قتل، فانهزمت مضر ونصر وترجل إبنه تميم، فقاتل وأرسل إليه الحرث أني كافّ عنك فإنّ اليمانية يعيرونني بانهزامكم، فاجعل أصحابك إزاء الكرمانيّ. ولما انهزم نصر غلب الكرمانيّ على مرو ونهب الأموال، فأنكر ذلك عليه الحرث، ثم اعتزل عن الحرث بشر بن جرموز الضبــّي في خمسة آلاف، وقال: إنما كنا نقاتل معك طلباً للعدل، فأمّا إن اتبعت الكرماني للعصبية فنحن لا نقاتل. فدعى الحرث الكرماني إلى الشورى فأبى، فانتقل الحرث عنه وأقاموا أياماً. ثم ثلم الحرث السور ودخل البلد وقاتله الكرمانيّ قتالاً شديداً فهزمه وقتله وأخاه سوادة. واستولى الكرمانيّ على مرو وقيل إن الكرماني خرج مع الحرث لقتال بشر بن جرموز. ثم ندم الحرث على اتباع الكرماني. وأتى عسكر بشر فأقام معهم، وبعث إلى مضر من عساكر الكرماني فساروا إليهم، وكانوا يقتتلون كل يوم ويرجعون إلى خنادقهم. ثم نقب الحرث بعد أيام سور مرو ودخلها وتبعه الكرماني واقتتلوا، فقتل الحرث وأخاه، وبشر بن جرموز وجماعة من بني تميم. وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة، فانهزم الباقون، وصفت مرو لليمن وهدموا دور المضرية.
ظهور الدعوة العباسية بخراسان: قد ذكرنا أن أبا مسلم كان يتردد إلى الإمام من خراسان، ثم استدعاه سنة تسعة وعشرين ليسأله عن الناس، فسار في سبعين من النقباء مؤدين بالحج. ومر بِنَسَا فاستدعى أسيداً فأخبره بأن كتب الإمام جاءت إليه مع الأزهر بن شعيب وعبد الملك بن سعيد، ودفع إليه الكتب. ثم لقيه بقومس كتاب الإمام إليه وإلى سليمان بن كثير أني قد بعثت إليك براية النصر، فارجع من حيث يلقاك كتابي ووجه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال والعروض. وجاء أبو مسلم إلى مرو وأعطى كتاب الإمام لسليمان بن كثير، وفيه الأمر بإظهار الدعوة، فنصبوا أبا مسلم، وقالوا رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس. وكتبوا إلى الدعاة بإظهار الأمر، وترك أبو مسلم بقرية من قرى مرو في شعبان من سنة تسع وعشرين.ثم بثوا الدعاة في طخارستان ومرو الرود والطالقان وخوارزم، وأنهم إن أعجلهم عدوّهم. دون الوقت عاجلوه وجرّدوا السيوف للجهاد، ومن شغله العدوّ عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعد الوقت. ثم سار أبو مسلم فنزل على سليمان بن كثير الخزاعي آخر رمضان، ونصر بن سيّار يقاتل الكرماني وشيبان. فعقد اللواء الذي بعث به الإمام إليه، وكان يدعى الظلّ على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً. ثم عقد الراية التي بعثها معه وتسمى السحاب وهو يتلو: { أذن للذين يقاتلون } [سورة….].ولبسوا السواد هو وسليمان بن كثير وأخوه سليمان ومواليه، ومن أجاب الدعوة من أهل تلك القرى، وأوقدوا النيران ليلتهم لشيعتهم في خرقان فأصبحوا عنده. ثم قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضّاح في سبعمائة راجل، وقدم من الدعاة أبو العباس المروزي، وحصن أبو مسلم بسفيدنج ورَمَّها، وحضر عيد الفطر، فصلى سليمان بن كُثَيّر، وخطب على المنبر في العسكر وبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة. وكبر في الأولى ست تكبيرات، وفي الثانية خمساً خلاف ما كانوا بنو أمَيَّة
يفعلون. وكل ذلك مما سنّه لهم الإمام وأبوه. ثم انصرفوا من الصلاة مع الشيعة، فطمعوا وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب نصر بن سيار يبدأ بإسمه، فلما قوي بمن اجتمع إليه كتب إلى نصر وبدأ بنفسه وقال( أمَّا بعد) فإنّ الله تباركت أسماؤه عَيّر قوماً في القرآن فقال: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير}[سورة:….] إلى: {ولن تجد لسنة الله تحويلاً}.[سورة:….]. فاستعظم الكتاب وبعث مولاه يزيد لمحاربة أبي مسلم لثمانية عشر شهراً من ظهوره، فبعث إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعي، فدعاه إلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستكبروا، فقاتلهم مالك وهو في مائتين يوماً بكماله. وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبيّ وإبراهيم بن يزيد وزياد بن عيسى، فسرّحهم إلى مالك فقوي مالك بهم، وقاتلوا القوم فحمل عَبْد الله الطائي على يزيد مولى نصر فأسره، وانهزم أصحابه وأرسله الطائي إلى أبي مسلم ومعه رؤوس القتلى، فأحسن أبو مسلم إلى يزيد وعالجه، ولما اندملت جراحه قال: إن شئت أقمت عندنا وإلا رجعت إلى مولاك سالماً، بعد أن تعاهدنا على أن لا تحاربنا ولا تكذب علينا، فرجع إلى مولاه. وتفرس نصر أنه عاهدهم فقال: والله هو ما ظننت وقد استحلفوني أن لا أكذب عليهم وأنهم والله يصلون الصلاة لوقتها بأذان وإقامة، ويتلون القرآن، ويذكرون الله كثيراً ويدعون إلى ولاية آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أحسب أمرهم إلا سيعلو. ولولا أنك مولاي لأقمت عندهم، وكان الناس يرجفون عنهم بعبادة الأوثان واستحلال الحرام. ثم غلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ، وقتل عامل نصر بها. وكان من بني تميم من الشيعة، وأراد بنو تميم منعه. فقال: أنا منكم، فإن ظفرت فهي لكم، وإن قتلت كفيتم أمري فنزل قرية زاها. ثم تغلب على أهلها، فقتل بشر بن جعفر السغدي عامل نصر عليها أوائل ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع إبنه خزيمة بن حازم. وقيل فى أمر أبي مسلم غير هذا وأن إبراهيم الإمام أزوج أبا مسلم لمّا بعثه إلى خراسان بابنة أبي النجم، وكتب إلى النقباء بطاعته كان أبو مسلم من سواد الكوفة فهزما فانتهى لادريس بن معقل العجلي. ثم سار الى ولاية محمد بن علي ثم إبنه إبراهيم ثم للأئمة من ولاية من ولده. وقدم خراسان وهو حديث السن، واستصغره سليمان بن كثيّر فردّه. وكان أبو داود خالد بن إبراهيم غائباً وراء النهر. فلما جاء إلى مرو أقرأه كتاب الإمام وسألهم عن أبي مسلم، فأخبروه أنّ سليمان بن كثير ردّه لحداثة سنة وأنه لا يقدر على الأمر فنخاف على أنفسنا وعلى من يدعوه. فقال لهم أبو داود: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جميع خلقه، وأنزل عليه كتابه بشرائعه، وأنبأه بما كان وما يكون، وخلف علمه رحمة لأمته، وعمله إنما هو عند عترته وأهل بيته، وهم معدن العلم وورثة الرسول فيما علمه الله. أتشكون في شيء من ذلك ؟ قالوا لا. قال فقد شككتم والرجل لم يبعثه إليكم حتى علم أهليته لمّا يقوم به، فبعثوا عن أبي مسلم وردوه من قومس بقول أبي داود، وولوه أمرهم وأطاعوه. ولم نزل في نفس أبي مسلم من سليمان بن كثيّر. ثم بعث الدعاة ودخل الناس في الدعوة أفواجاً واستدعاه الإمام سنة تسع وعشرين أن يوافيه بالمرسوم ليأمره بأمره في إظهار الدعوة، وأن يقدم معه قحطبة بن شبيب، ويحمل ما اجتمع عنده من الأموال. فسار في جماعة من النقباء والشيعة، فلقيه كتاب الإمام بقومس يأمره بالرجوع وإظهار الدعوة بخراسان، وبعث قحطبة بالمال، وأنّ قحطبة سار إلى جرجان. واستدعى خالد بن برمك وأبا عون، فقدما بما عندهما من مال الشيعة فسار به نحو الإمام.
مقتل الكرماني: قد ذكرنا من قبل أن الكرماني قتل الحرث بن شريح، فخلصت له مرو وتنحىّ نصر عنها. ثم بعث نصر سالم بن أحْوَر في رابطته وفرسانه إلى مَرْو، فوجد يحيى بن نعيم الشيباني في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثُنَى ّفي سبعمائة من الأزد، وأبو الحسن بن الشيخ في ألف منهم، والحربي السغدي في ألف من اليمن. فتلاحى سالم وابن المثنى وشتم سالم الكرماني فقاتلوه فهزموه وقتل من أصحابه نحو مائة. فبعث نصر بعده عصمة بن عَبْد الله الأسدي فكان بينهم مثل ما كان أوّلاً. فقاتلهم محمد السغدي، فانهزم السغدي، وقتل من أصحابه أربعمائة، ورجع إلى نصر. فبعث مالك بن عمر التميمي فاقتتلوا كذلك، وانهزم مالك وقتل من أصحابه سبعمائة، ومن أصحاب الكرماني ثلثمائة. ولما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه، وأنه لا مدد لهم جعل يكتب إلى شيبان الخارجي يذمّ اليمانية تارةً ومضر أخرى ويوصي
الرسول بكتاب مضر أن يتعرض لليمانية ليقرؤا ذم مضر، والرسول بكتاب اليمانية، أن يتعرض لمضر ليقرؤا ذم اليمانية، حتى صار هوى الفريقين معه. ثم كتب إلى نصر بن سيّار والكرماني: أنّ الإمام أوصاني بكم ولا أعدو رأيه فيكم. ثم كتب يستدعي الشيعة: أسد بن عَبْد الله الخزاعي بنسا، ومقاتل بن حكيم بن غزوان، وكانوا أوّل من سود ونادوا يا محمد يا منصور ! ثم سود أهل أبي ورد ومرو الروذ وقرى مرو، فاستدعاهم أبو مسلم، وأقبل فنزل بين خندق الكرماني وخندق نصر، وهابه الفريقان، وبعث إلى الكرماني إني معك، وقبل فانضم أبو مسلم إليه، وكتب نصر بن سيّار إلى الكرماني يحذّره منه، ويشير عليه بدخول مرو ليصالحه. فدخل ثم خرج من الغد، وأرسل إلى نصر في إتمام الصلح في مائتي فارس، فرأى نصر فيه غرة، فبعث إليه ثلثمائة فارس فقتلوه، وسار إبنه إلى أبي مسلم، وقاتلوا نصر بن سيار حتى أخرجوه من دار الإمارة إلى بعض الدور. ودخل أبو مسلم مرو فبايعه علي بن الكرماني، وقال له أبو مسلم أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. وكان نصر حين نزل أبو مسلم بين خندقه وخندق الكرماني ورأى قوته، كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بخروجه وكثرة من معه ودعائه لإبراهيم بن محمد:
- أرى خلل الرماد وميض جمرٍ ويوشك أن يكون لها ضرام
- فإن النار بالعودين تذكو وإن الحرب أولها الكــــلام
- فإن لم تطفؤها يخرجوها مسجرة يغيب لها الغـــلام
- أقول من التعجب ليت شعرى أأيقظ أمية أم نيـام
- فإن يك قومنا أضحوا نياماً فقل قوموا فقد حان القيم
- تعزى عن رجالك ثم قولى على الإسلام والعرب السلام
فوجده مشتغلا بحرب الضحّاك بن قيس، فكتب إليه: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فأحثهم التلول قبلك. فقال نصر: أمَّا صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده. وصادف وصول كتاب نصر إلى مروان عثورهم على كتاب من إبراهيم الإمام لأبي مسلم يوبّخه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكنته، ويأمره أن لا يدع بخراسان متكّلماً بالعربية. فلما قرأ الكتاب بعث إلى عامله بالبلقاء أن يسير إلى الحيسة، فيبعث إليه إبراهيم بن محمد مشدود الوثاق فحبسه مروان.
اجتماع أهل خراسان على قتل أبي مسلم: لمّا أظهر أبو مسلم أمره سارع إليه الناس، وكان أهل مرو يأتونه ولا يمنعهم نصر، وكان الكرماني وشيبان الخارجي لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان. وكان أبو مسلم ليس له حرس ولا حجّاب ولا غلظة الملك، فكان الناس يأنسون به لذلك، وأرسل نصر إلى شيبان الخارجي في الصلح ليتفرع لقتال أبي مسلم، إمَّا أن يكون معه أو يكفّ عنه، ثم نعود إلى ما كنا فيه. فهمّ شيبان بذلك، وكتب أبو مسلم إلى الكرمانيّ فحرضه على منع شيبان من ذلك، فدخل عليه وثناه عنه. ثم بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة فملكها، وطرد عنها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي عامل نصر. فجاء يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني إلى الكرماني وشيبان، وأغراهما بمصالحة نصر. وقال: إن صالحتم نصراً قاتله أبو مسلم وترككم، لأنّ أمر خراسان لمضر. وإن لم تصالحوه صالحه وقاتلكم، فقدّموا نصر قبلكم. فأرسل شيبان إلى نصر في الموادعة فأجاب، وجاء مسلم بن أحور بكتب الموادعة فكتبوها. وبعث أبو مسلم إلى شيبان في موادعة ثلاثة أشهر. فقال ابن الكرمانيّ: إذا ما صالحت نصراً إنما صالحه شيبان وأنا موتور بأبي. ثم عاود القتال وقعد شيبان عن نصره، وقال: لا يحلّ الغدر، فاستنصر ابن الكرمانيّ بأبى مسلم، فأقبل حتى نزل الماخران لإثنتين وأربعين يوماً من نزوله يسفيدنج، وخندق على معسكره وجعل له بابين، وعلى شرطته مالك بن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند أبا صالح كامل بن المظفّر، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب وكان القاسم يصلي بأبي مسلم ويقرأ القصص بجد العصر، فيذكر فضل بني هاشم وسالف بني أُمَيَّة. فلما نزل أبو مسلم الماخران أرسل إلى ابن الكرمانيّ بأنه معه، فطلب لقاءه فجاءه أبو مسلم وأقام عنده يومين ثم رجع، وذلك أوّل المحرم سنة ثلاثين. ثم عرض الجند، وأمر كامل بن مظفّر بكتب أسمائهم وأنسابهم في دفتر، فبلغت عدّته سبعة آلاف. ثم إن القبائل من ربيعة ومضر واليمن توادعوا على وضع الحرب والاجتماع على قتال أبي مسلم، فعظم ذلك عليه وتحول عن الماخران لأربعة أشهر من نزولها لأنها كانت
تحت الماء. وخشي أن يقطع فتحوّل إلى طبسين وخندق بها، وخندق نصر بن سيار على نهر عياض، وأنزل عمّاله بالبلاد. فأنزل أبا الدَّيال في جنده لطوسان، فآذوا أهلها وعسفوهم، وكان أكثرهم مع أبي مسلم في خندق، فسير إليهم جنداً فقاتلوه فهزموه وأسروا من أصحابه ثلاثين، فأطلقهم أبو مسلم، ثم بعث محرز بن إبراهيم في جمع من الشيعة ليقطع مادّة نصر من مرو الروذ وبلخ وطخارستان، فخندق بين نصر وبين هذه البلاد، واجتمع إليه ألف رجل وقطع المادة عن نصر. مقتل عَبْد الله بن معاوية: قد تقدم لنا أنّ عَبْد الله بن معاوية بن عَبْد الله بن جعفر بويع بالكوفة، وغلبه عليها عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز ولحق بالمدائن. وجاءه ناس من أهل الكوفة وغيرها، فسار إلى الجبال وغلب عليها وعلى حلوان وقومس وأصبهان والريّ وأقام بأصبهان. وكان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس، فجاء إلى دار الإمارة بأصطخر وطرد عامل عَبْد الله بن عمرعنها، وبايع الناس لعبد الله بن معاوية. ثم سار إلى كرمان فأغار عليها وانضم إليه قوّاد من أهل الشام. فسار إلى سالم بن المسيَّب عامل عَبْد الله بن عمر على شيراز، فقتله سنة ثمان وعشرين. ثم سار محارب إلى أصبهان وحوّل عَبْد الله بن معاوية إلى أصطخر، بعد أن استعمل على الجبال أخاه الحسن بن معاوية، وأتى إلى أصطخر فنزل بها، وأتاه بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال وبعث العمّال. وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام، وأتاه شيبان بن عَبْد العزيز الخارجي، ثم أتاه جعفر المنصور وعبد الله ابن أخيه عيسى. ولما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي على الأهواز، وأن يقاتل عَبْد الله بن معاوية، وبلغ سليمان بن حبيب وهو بالأهواز فسرّح داود بن حاتم للقاء نباتة، وهرب سليمان من الأهواز إلى نيسابور، وقد غلب الأكراد عليها فطردهم عنها، وبايع لابن معاوية، فبعث أخاه يزيد بن معاوية عليها. ثم إنّ محارب بن موسى فارق عَبْد الله بن معاوية وجمع، وقصد نيسابور. فقاتله يزيد بن معاوية، وهزمه فأتى كرمان. وأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث، فصار معه ثم نافره. فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين إبناً له.ثم بعث يزيد بن هبيرة بعد نباتة بن حنظلة إبنه داود بن يزيد في العساكر إلى عَبْد الله بن معاوية، وعلى مقدمته داود بن ضبارة.وبعث
معن بن زائدة من وجه آخر، فقاتلوا عَبْد الله بن معاوية وهزموه وأسروا وقتلوا، وهرب منصور بن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان، وعمر بن سهيل بن عَبْد العزيز بن مروان إلى مصر، وبعثوا بالأسرى إلى ابن هبيرة، فأطلقهم ومضى ابن معاوية عن فارس إلى خراسان. وسار معن بن زائدة في طلب منصور بن جمهور، وكان فيمن أسر مع عَبْد الله بن معاوية عَبْد الله بن علي بن عَبْد الله بن عباس، شفع فيه حرب بن قطن من أخواله بني هلال، فوهبه له ضبارة، وغاب عَبْد الله بن معاوية عن ابن ضبارة. ورمى أصحابه باللواطة، فبعث إلى ابن هبيرة ليخبره، وسار ابن ضبارة في طلب عَبْد الله بن معاوية إلى شيراز، فحاصره بها حتى خرج منها هارباً ومعه أخوه الحسن ويزيد وجماعة من أصحابه فسلك المفازة على كرمان إلى خراسان طمعاً في أبي مسلم، لأنه كان يدعو إلى الرضا من آل محمد، وقد استولى على خراسان فوصل إلى نواحي هراة وعليها مالك فقال له: انتسب نعرفك. فانتسب له فقال: أمَّا عَبْد الله وجعفر فمن أسماء آل الرسول، وأمَّا معاوية فلا نعرفه في أسمائهم. قال :إنّ جدّي كان عند معاوية حين ولد أبي، فبعث إليه مائة ألف على أن يسمي إبنه باسمه. فقال: لقد اشتريتم الأسماء الخبيثة بالثمن اليسير فلا نرى لك حقاً فيما تدعو إليه. ثم بعث بخبره إلى أبي مسلم، فأمره بالقبض عليه وعلى من معه فحبسهم. ثم كتب إليه بإطلاق أخويه الحسن ويزيد، وقتل عَبْد الله فوضع الفراش على وجهه فمات . لمّا تعاقد نصر وابن الكرماني وقبائل ربيعة واليمن ومضر على قتال أبي مسلم عظم على الشيعة، وجمع أبو مسلم أصحابه ودسّ سليمان بن كثيّر إلى ابن الكرماني يذكّره بثأر أبيه من نصر فانتقضوا، فبعث نصر إلى أبي مسلم بموافقة مضر، وبعث إليه أصحاب ابن الكرماني وهم ربيعة واليمن بمثل ذلك. واستدعى وفد الفريقين ليختار الركون إلى أحدهما، وأحضر الشيعة لذلك وأخبرهم بأن مضر أصحاب مروان وعمّاله وشيعته وقبله يحيى بن يزيد. فلما حضر الوفد تكلم سليمان بن كثيّر ويزيد بن شقيق السَلَــمِّي بمثل ذلك، وبأن نصر بن سيّار عامل مروان ويسميه أمير المؤمنين، وينفّذ أوامره فليس على هدى، وإنما يختار علي بن الكرماني. وأصحابه ووافق السبعون من الشيعة على ذلك وانصرف الوفد ورجع أبو مسلم من أبين إلى الماخران، وأمر الشيعة ببناء المساكن، وأمن من فتنة العرب ثم أرسل إليه علي بن الكرماني أن يدخل مرو من ناحيته ليدخل هو وقومه من الناحية الأخرى، فلم يطمئن لذلك أبو مسلم وقال: ناشبهم الحرب من قبل فناشب ابن الكرمانيّ نصر بن سيّار الحرب، ودخل مرو من ناحيته، وبعث أبو مسلم بعض النقباء. فدخل معه ثم سار وعلى مقدمته أسيد بن عَبْد الله الخزاعيّ، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع. فدخل مرو والفريقان يقتتلان، ومضى إلى قصر الإمارة وهو يتلو: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها. وأمر الفريقين بالانصراف فانصرفوا إلى معسكرهم وصفت له مرو، وأمر بأخذ البيعة من الجند، وتولى أخذها أبو منصور طلحة بن زريق أحد النقباء الذين اختارهم محمد بن علي من الشيعة حين بعث دعاته إلى خراسان سنة ثلاث وأربع، وكانوا إثني عشر رجلاً. فمن خُزاعة سليمان بن كثيّر ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحة بن زريق وعمر بن أعين. ومن طيء قحطبة بن شبيب بن خالد بن سعدان، ومن تميم أبو عيينة موسى بن كعب ولاهز ابن قريط والقاسم بن مجاشع وأسلم بن سلام. ومن بكر بن وائل أبو داود خالد بن إبراهيم الشيبانيّ وأبو علي الهروي، ويقال شبل بن طهمان. وكان عمر بن أعين مكان موسى بن كعب وأبو النَّجْم إسمعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي وهو ختن أبي مسلم. ولم يكن أحد من النقباء غير أبي منصور طلحة بن زريق بن سعد، وهو أبو زينب الخزاعي، وكان قد شهد حرب ابن الأشعث، وصحب المهلّب وغزا معه. وكان أبو مسلم يشاوره في الأمور. وكان نصّ البيعة: أبايعكم على كتاب الله وسنّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والطاعة للرضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله الحرام، وعلى أن لا تسألوا رزقاً ولا طمعاً حتى تبدأكم به ولاتكم، وذلك سنة ثلاثين ومائة.ثم أرسل أبو مسلم لاهز بن قريط في جماعة إلى نصر بن سيّار يدعو إلى البيعة، وعلم نصر أن أمره قد استقام ولا طاقة له بأصحابه، فوعده بأنه يأتيه يبايعه من الغد، وأرسل أصحابه بالخروج من ليلتهم إلى مكان يأمنون فيه. فقال أسلم بن أحوز لا يتهيأ لنا الليلة. فلما أصبح أبو مسلم كتابه، وأعاد لاهز بن قريط إلى نصر يستحثه فأجاب وأقام لوضوئه، فقال لاهز: إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك. فخرج نصر عند المساء من خلف حجرته ومعه إبنه تميم، والحكم بن غيلة النميري، وامرأته المرزبانة، وانطلقوا هراباً. واستبطأه لاهز فدخل المنزل فلم يجده وبلغ أبا مسلم هربه فجاء إلى معسكره وقبض على أصحابه، منهم سالم بن أحوز صاحب شرطته، والبحتري كاتبه، وإبنان له ويونس بن عَبْد ربه، ومحمد ابن قطن وغيرهم. وسار أبو مسلم وابن الكرماني في طلبه ليلتهما، فأدركا امرأته قد خلفها وسار، فرجعوا إلى مرو. وبلغ نصر من سرخس فأقام بطوس خمس عشرة ليلة. ثم جاء نيسابور فأقام بها، وتعاقد ابن الكرماني مع أبي مسلم على رأيه. ثم بعث إلى شيبان الحروري يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: بل أنت تبايعني ، واستنصر بابن الكرماني فأبى عليه، وسار شيبان إلى سرخس واجتمع له جمع من بكر بن وائل، وبعث إليه أبو مسلم في الكف فسجن الرسل. فكتب إلى بسّام بن إبراهيم مولى بني ليث المُكَنّى بأبي ورد أن يسير إليه، فقاتله وقتله، وقتل بكر بن وائل الرسل الذين كانوا عنده. وقيل إنّ أبا مسلم إنما وجه إلى شيبان عسكراً من عنده عليهم خزيمة بن حازم وبسّام بن إبراهيم. ثم بعث أبو مسلم كعباً من النقباء إلى أبيورد فافتتحها ثم أبا داود خالد بن إبراهيم من النقباء إلى بلخ وبها زياد بن عَبْد الرحمن القشيريّ، فجمع له أهل بلخ وترمذ وجند طخارستان ونزل الجوزجان، ولقيهم أبو داود فهزمهم وملك مدينة بلخ. وساروا إلى ترمذ فكتب أبو مسلم إلى أبي داود يستقدمه، وبعث مكانه على بلْخ يحيى بن نعيم أبا الميلا، فداخله زياد بن عَبْد الرحمن في الخلاف على أبي مسلم، واجتمع لذلك زياد ومسلم بن عَبْد الرحمن الباهليّ وعيسى بن زرعة السلميّ، وأهل بَلْخ وترمذ، وملوك طخارستان وما وراء النهر. ونزلوا على فرسخ من بلْخ، وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه.واتفقت كلمة مضر وربيعة واليمن ومن معهم من العجم على قتال المـسـوَّدة، وولّوا عليهم مقاتل بن حيّان النبطي مخافة أن يتنافسوا. وبعث أبو مسلم أبا داود إليهم، فأقبل بعساكره حتى اجتمعوا على نهر السرحسان واقتتلوا. وكان زياد وأصحابه قد خلفوا أبا سعيد القرشي مسلحةً وراءهم خشية أن يؤتوا من خلفهم، وكانت راياته سوداً وأغفلوا ذلك. فلما اشتدّ القتال زحف أبو سعيد في أصحابه لمددهم، فظّنوه كمينا للمسَـّودة فانهزموا وسقطوا في النهر، وحوى أبو داود معسكرهم بما فيه، وملك بلْخ. ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى ترمذ، وكتب أبو مسلم يستقدم أبا داود. وبعث النضر بن صبيح المزني على بلخ. ولما قدم أبو داود أشار على أبي مسلم بالتفرقة بين عليّ وعثمان إبني الكرماني. فبعث عثمان على بلْخ وقدمها فاستخلف الفرافصة بن ظهير العبسي، وسار هو والنضر بن صبيح إلى مرو الروذ. وجاء مسلم بن عَبْد الرحمن الباهليّ من ترمذ في المضريَّة، فاستولى على بلْخ. ورجع إليه عثمان والنضر فهربوا من ليلتهم، ولم يعن النضر في طلبهم، وقاتلهم عثمان ناحية عنه فانهزم، ورجع أبو داود إلى بلْخ. وسار أبو مسلم إلى نيسابور، ومعه علي بن الكرماني، وقد اتفق مع أبي داود على قتال إبني الكرماني، فقتل أبو داود عثمان في بلْخ، وقتل أبو مسلم عًّلياًً في طريقه إلى نيسابور.
مسير قحطبة للفتح: وفي سنة ثلاثين قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم من عند الإمام إبراهيم، وقد عقد له لواء على محاربة العدوّ، فبعثه أبو مسلم في مقدمته وضم إليه العساكر، وجعل إليه التولية والعزل، وأمر الجنود بطاعته. وقد كان حين غلب على خراسان بعث العمّال على البلاد، فبعث ساعي بن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ومحمد بن الأشعث الخزاعي على طبسين، وجعل مالك بن الهيثم على شرطته. وبعث قحطبة إلى طوس ومعه عدّة من القوّاد: أبو عون عَبْد الملك بن يزيد، وخالد بن برمك، وعثمان بن نهيك، وحازم بن خزيمة وغيرهم، فهزم أهل طوس وأفحش في قتلهم. ثم بعث أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق الحجَّــة، وكتب إلى قحطبة بقتال تميم بن نصر بالسودقان،
ومعه الثاني ابن سويد وأصحاب شيبان، وأمدّه بعشرة آلاف مع عليّ بن معقل. فزحف إليهم ودعاهم بدعوته وقاتلهم، فقتل تميم بن نصر وجماعة عظيمة من أصحابه، يقال بلغوا ثلاثين ألفاً، واستبيح معسكرهم، وتحصّن الباقي بالمدينة فاقتحمها عليهم، وخلف خالد بن برمك على قبض الغنائم، وسار إلى نيسابور. فهرب منها نصر بن سيّار إلى قومس، ثم تفرق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان وكان يزيد بن هبيرة بعثه مدداً لنصر، فأتى فارس وأصبهان، ثم سار إلى الريّ، ثم إلى جرجان. وقدم قحطبة نيسابور، فأقام بها رمضان وشوّال، وارتحل إلى جرجان، وجعل ابنه الحسن على مقدمته، وانتهى إلى جرجان وأهل الشام بها مع نباتة، فهابهم أهل خراسان، فخطبهم قحطبة وأخبرهم أنّ الإمام أخبره أنهم يلقونه مثل هذه العدد فينصرونه عليهم. ثم تقدّم للقتال وعلى ميمنته ابنه الحسن، فانهزم أهل الشام وقتل نباتة في عشرة آلاف منهم، وبعث برأسه إلى أبي مسلم، وذلك في ذي الحجة من السنة، وملك قحطبة جرجان. ثم بلغه أن أهل جرجان يرومون الخروج عليه، فاستعرضهم وقتل منهم نحواً من ثلاثين ألفاً، وسار نصر من قومس إلى خوار الري وعليها أبو بكر العقيليّ، وكتب إلى ابن هبيرة بواسط يستمدّه، فحبس رسله. فكتب مروان إلى ابن هبيرة، فجهز ابن هبيرة جيشاً كثيفاً إلى نصر وعليهم ابن عطيف.
هلاك نصر بن سيار: ثم بعث قحطبة ابنه الحسن إلى محاصرة نصر في جوار الري في محّرم سنة إحدى وثلاثين، وبعث إليه المدد مع أبي كامل وأبي القاسم محرز بن إبراهيم وأبي العّباس المروزىّ . ولما تقاربوا نزع أبو كامل إلى نصر فكان معه، وهرب جند قحطبة وأصحاب نصر أصابهم شيء من متاعهم، فبعثه نصر إلى ابن هبيرة، فاعترضه ابن عطيف بالري فأخذه فغاضبه نصر، فأقام ابن عطيف بالري. وسار نصر إلى الري وعليها حبيب بن يزيد النهشليّ، فلما قدمها سار ابن عطيف إلى همذان وكان فيها مالك بن أدهم بن محرز الباهلي، فعدل بن عطيف عنها إلى أصبهان وبها عامر بن
ضبارة، وقدم نصر الري فأقام بها يومين ومرض وارتحل. فلما بلغ نهاوند مات لإثني عشر من ربيع الأوّل من السنة ودخل أصحابه همذان.
استيلاء قحطبة علي الريّ: ولما مات نصر بن سيّار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن حازم إلى سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان، وقدم زياد بن زرارة القشيري وقد كان قدم على طاعة أبي مسلم، واعتزم على اللحاق بابن ضبارة، فبعث قحطبة في أثره المسيَّب بن زهير الضبيّ فهزمه، وقتل عامة من مع ابن معاوية ورجع، ولحق قحطبة ابنه الحسن إلى الريّ فخرج عنها حبيب بن يزيد النهشليّ وأهل الشام، ودخلها الحسن في صفر، ثم لحق به أبوه وكتب برسالة إلى أبي مسلم. وقد أكثر أهل الري إلى بني أُمَيَّة، فأخذ أبو مسلم أملاكهم ولم يردّها عليهم إلا السفاح بعد حين. فأقام قحطبة بالريّ، وكتب أبو مسلم إلى أصبهــبذ طبرستان بالطاعة واداء الخراج فأجاب، وكتب إلى المصمغان صاحب دنباوند وكبير الديلم بمثل ذلك، فأفحش في الردّ. فكتب أبو مسلم إلى موسى بن كعب أن يسير إليه من الري فسار ولم يتمكن منه لضيق بلاده. وكان الديلم يقاتلونه كل يوم، فكثر فيهم الجراح والقتل، ومنعهم الميرة فأصابهم الجوع، فرجع موسى إلى الري، ولم يزل المصمغان متمنــّعاً إلى أيام المنصور، فأغزاه حمّاد بن عمر في جيش كثيف، ففتح دنباوند. ولما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم ارتحل عن مرو ونزل نيسابور، ثم سير قحطبة إبنه الحسن بعد نزوله الريّ بثلاث ليالٍ، فسار عنها مالك بن أدهم وأهل الشام وخراسان إلى نهاوند، ونزل على أربعة فراسخ من المدينة، وأمدّه قحطبة بأبي الجهم بن عطية مولى باهلة في سبعمائة وأقام محاصراً لها. استيلاء قحطبة على أصبهان ومقتل ابن ضبارة وفتح نهاوند وشهرزور: قد تقدم لنا أنّ ابن هبيرة بعث إبنه داود بن يزيد لقتال عَبْد الله بن معاوية باصطخر،
وبعث معه عامر بن ضبارة فهزموه واتبعوه إلى كرمان سنة تسع وعشرين، فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بجرجان سنة ثلاثين، كتب إلى إبنه داود بن ضبارة بالمسير إلى قحطبة، فسار من كرمان في خمسين ألفاً ونزلوا أصبهان. وبعث إليهم قحطبة جماعة من القوّاد عليهم مقاتل بن حكيم الكعبيّ فنزلوا قمّ، وسار قحطبة إلى نهاوند مدداً لولده الحسن الذي حاصرهم، فبعث مقاتلاً بذلك قحطبة، فسار حتى لحقه، وزحفوا للقاء داود بن ضبارة وهم في مائة ألف، وقحطبة في عشرين ألفاً. وحمل قحطبة وأصحابه فانهزم ابن ضبارة وقتل واحتووا على ما كان في معسكرهم مما لا يعّبر عنه من الأصناف وذلك في رجب .وطّير قحطبة بالخبر إلى إبنه الحسن وسار إلى أصبهان، فأقام بها عشرين ليلة، وقدم على إبنه فحاصروا نهاوند ثلاثة أشهر إلى آخر شوّال، ونصبوا عليها المجانيق وبعث بالأمان إلى من كان في نهاوند من أهل خراسان فلم يقبلوا، فبعث إلى أهل الشام فقالوا أشغلٍ عنا أهل المدينة بالقتال نفتح لك المدينة من ناحيتنا، ففعلوا، وخرجوا إليه جميعأ، فقتلوا أهل خراسان فيهم أبو كامل وحاتم بن شريح وابن نصر بن سيّار وعاصم بن عمير وعليّ بن عقيل وبيهس. وكان قحطبة لمّا جاء إلى نهاوند بعث إبنه الحسن إلى جهات حلوان وعليها عَبْد الله بن العلاء الكنديّ، فتركها وهرب. ثم بعث قحطبة عَبْد الملك بن يزيد ومالك بن طرا في أربعة آلاف إلى شهرزور، وبها عثمان بن سفيان على مقدمته عَبْد الله بن محمد، فقاتلوا عثمان آخر ذي الحجة، فانهزم وقتل. وملك أبو عون بلاد الموصل. وقيل إنّ عثمان هرب إلى عَبْد الله بن مروان، وغنم أبو عون عسكره وقتل أصحابه، وبعث إليه قحطبة بالمدد. وكان مروان بن محمد بحرّان، فسار في أهل الشام والجزيرة والموصل، ونزل الزاب الأكبر وأتوا شهرزور إلى المحرّم سنة إثنتين وثلاثين. حرب السفاح ابن هبيرة مع قحطبة ومقتلهما وفتح الكوفة: ولمد قدم على يزيد بن هبيرة إبنه داود منهزماً من حلوان، خرج يزيد للقاء قحطبة في مدد لا يحصى، وكان مروان أمدّه بحوثرة بن سهيل الباهليّ، فسار معه حتى نزل حلوان، واحتفر الخندق الذي كانت فارس احتفرته أيام الواقعة. وأقام وأقبل
قحطبة إلى حلوان، ثم عبر دجلة إلى الأنبار، فرجع ابن هبيرة مبادراً إلى الكوفة. وقدم إليها حوثرة في خمسة عشرة ألفاً، وعبر قحطبة الفرات من الأنبار لثمان من المحرّم سنة إثنتين وثلاثين، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات، وعلى ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة، ومعه حوثرة وفلُّ ابن ضبارة. وأشار عليه أصحابه أن يدع الكوفة ويقصد هو خراسان، فيتبعه قحطبة، فأبى إلا البدار إلى الكوفة، وعبر إليها دجلة من المدائن، وعلى مقدمته حوثرة، والفريقان يسيران على جانب الفرات.وقال قحطبة لأصحابه إنّ الإمام أخبرني بأنّ وقعة تكون بهذا المكان والنصر لنا، ثم دلوه على مخاضة فعبر منها، وقاتل حوثرة وابن نباتة فانهزم أهل الشام، وقعد قحطبة وشهد مقاتل العللي بأنّ قحطبة عهد لإبنه الحسن بعده، فبايع جميع الناس لأخيه الحسن، وكان في سرية فبعثوا عنه وولّوه. ووجد قحطبة في جدول هو وحرب بن كم بن أحوز وقيل: إنّ قحطبة لمّا عبر الفرات وقاتل ضربه معن بن زائدة، فسقط وأوصى إذا مات أن يلقى في الماء. ثم انهزم ابن نباتة وأهل الشام ومات قحطبة وأوصى بأمر الشيعة إلى أبي مسلمة الخلاّل بالكوفة وزير آل محمد. ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة فانهزم إلى واسط، واستولى الحسن بن قحطبة على ما في معسكرهم وبلغ الخبر إلى الكوفة فثار بها محمد بن خالد القسري بدعوة الشيعة، خرج ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثيّ، وعلى شرطته عَبْد الرحمن بن بشير العجلي وسار إلى فهرب زياد ومن معه من أهل الشام ودخل القصر ورجع إليه حوثرة وعن محمد عامة من معه، ولزم القصر. ثم جاء قوم من بجيلة من أصحاب حوثرة، فدخلوا في الدعوة. ثم آخرون من كنانة، ثم آخرون من نجدل فارتحل حوثرة نحوه وكتب محمد إلى قحطبة
وهو لم يعلم بهلاكه، فقرأه الحسن على الناس. وارتحل نحو الكوفة، فصبحها الرابعة من مسيره، وقيل إنّ الحسن بن قحطبة سار إلى الكوفة بعد قتل ابن هبيرة، وعليها عَبْد الرحمن بن بشيرالعجلي، فهـب عنها وسبق محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلاً، فلقي الحسن ودخل معه، وأتوا إلى أبي مسلمة فاستخرجوه من بني مسلمة وعسكر بالنخيلة، ثم نزل حمام أعين.وبعث الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة، وبايع الناس أبا مسلمة حفص بن سليما ن الخلاّل وزير آل محمد، واستعمل محمد بن خالد القسري على الكوفة وكان يسمّى الأمير حتى ظهر أبو العباس السفاح، وبعث حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد، والمسيَّب بن هبيرة وخالد بن مرمل إلى دير فناء وشراحيل إلى عير وبسّام بن إبراهيم بن بسّام إلى الأهواز، وبها عَبْد الرحمن بن عمر بن هبيرة فقاتله بسّام وانهزم إلى البصرة، وعليها مسلم بن قتيبة الباهلي عاملاً لأخيه. وبعث بسّام في أثره سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب واليا على البصرة، فجمع سالم قيساً ومضر وبني أُمَيَّة. وجاء قائد من قواد ابن هبيرة في ألفي رجل، وجمع سفيان اليمانية وحلفاءهم من ربيعة، واقتتلوا في صفر. وقتل ابن سفيان واسمه معاوية، فانهزم لذلك. ثم جاء إلى سالم أربعة آلاف مدداً من عند مروار،، فقاتل الأزد واستباحهم، ولم يزل بالبصرة حتى قتل ابن هبيرة، فهرب عنها. واجتمع ولد الحارث بن عَبْد المطلب إلى محمد بن جعفر فولّوه أياماً، حتى قدم أبو مالك عَبْد الله بن أسيد الخزاعى من قبل أبي مسلم. فلما بويع أبو العباس السفاح ولاّها سفيان بن معاوية.
بيعة السفاح: قد كنا قدمنا خبر الدعاة وقبض مروان على إبراهيم بن محمد، وأنه حبسه بحّران، وكان نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم باللحاق بالكوفة، وأوصى على أخيه أبي العّباس عَبْد الله بن الحرثية. فسار أبو العّباس ومعه أهل بيته، وفي إخوته أبو جعفر المنصور وعبد الوهاب ومحمد ابن أخيه إبراهيم وعيسى ابن أخيه موسى، ومن أعمامه داود وعيسى وصالح
وإسمعيل وعبد الله وعبد الصمد وبنو علي بن عَبْد الله بن عّباس، وموسى ابن عمه داود ويحيى بن جعفر بن تمام بن العّباس. فقدموا الكوفة في صفر، وأبو سلمة والشيعة على حمام أعين بظاهر الكوفة، وأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم عن جميع القوّاد والشيعة أربعين ليلة، وأراد فيما زعموا أن يحول الأمر إلى أبي طالب. وسأله أبو الجهم من الشيعة وغيره فيقول: لا تعجلوا ليس هذا وقته.ولقي أبو حميد محمد بن إبراهيم ذات يوم خادم إبراهيم الإمام، وهو سابق الخوارزميّ فسأله عن الإمام فقال: قتل إبراهيم وأوصى إلى أخيه أبي العّباس، وها هو بالكوفة ومعه أهل بيته. فسأله في اللقاء فقال: حتى أستأذن: وواعده من الغد في ذلك المكان، وجاء أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبره وكان في عسكر أبي سلمة، فقال له تلطف في لقائهم. فجاء إلى موعد سابق ومضى معه ودخل عليهم، فسأل عن الخليفة فقال داود بن علي: هذا إمامكم وخليفتكم، يشير إلى أبي العّباس. فسلم عليه بالخلافة وعزاه بإبراهيم الإمام، ورجع ومعه خادم من خدمهم إلى أبي الجهم، فأخبره عن منزلهم وأن أبا العباس أرسل إلى أبي سلمة أن يبعث إليه كراء الرواحل التي جاؤوا إليها، فلم يبعث إليهم شيئاً. فمشى أبو الجهم وأبو الحميد والخادم إلى موسى بن كعب وأخبروه بالأمر، وبعثوا إلى الإمام مائتي دينار مع خادمه. واتفق رأي القواد على لقاء الإمام، فنهض موسى بن كعب وأبو الجهم عَبْد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وعبد الله الطائي وإسحق بن إبراهيم وشراحيل وأبو حميد وعبد الله بن بسام ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن حصين وسليمان بن الأسود، فدخلوا على أبي العّباس فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم. ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم وخلفوا الباقين عند الإمام، وأوصوهم إن جاء أبو سلمة لا يدخلن إلا وحده. وبلغه الخبر فجاء ودخل وحده كما حددوا له، وسلم على أبي العباس بالخلافة، وأمره بالعود إلى معسكره، وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، فلبسوا الصُفاح واصطفوا للخروج إلى أبي العباس وأتوه بالدواب وله ولمن معه من أهل بيته، وأركبوهم إلى دار الإمارة.ثم رجع إلى المسجد فخطب وصلى بالناس، وبايعوه ثم صعد المنبر ثانية فقام في أعلاه، وصعد عفه داود فقام دونه وخطب خطبته البليغة المشهورة، وذكر حقهم في الأمر وميراثهم له. وزاد الناس في أعطياتهم وكان موعوكاً فاشتد عليه الوعك فحبس على المنبر. وقام عمه داود على أعلى المراقي فخطب
مثله، وذم سيرة بني أُمَيَّة، وعاهد الناس على إقامة الكتاب والسنة وسيرة النبي، ثم اعتذر عن عود السفاح بعد الصلاة على المنبر، وأنه أراد أن لا يخلط كلام الجمعة بغيرها، وإنما قطعه عن إتمام الكلام شدة الرعك، فادعوا الله له بالعافية. ثم بالغ ذم مروان، وشكر شيعتهم من أهل خراسان، وأن الكوفة منزلهم لا يتخلون عنها، وأنه ما صعد هذا المنبر خليفة بعد رسول الله إلا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين عَبْد الله بن محمد، وأشار إلى السفاح. وأن هذا الأمر فينا ليس بخارج عنا حتى نسلمه لعيسى بن مريم.
ثم نزل أبو العباس وداود أمامه حتى دخل القصر، وأجلس أخاه أبا جعفر في المسجد يأخذ البيعة على الناس حتى جن الليل، وخرج أبو العباس إلى عسكر أبي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر. وحاجب السفاح يومئذ عَبْد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة عمه داود، وبعث عمه عَبْد الله إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور، وبعث ابن أخيه موسى إلى الحسن بن قحطبة وهو يحاصر ابن هبيرة بواسط، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى أحمد بن قحطبة بالمدائن. وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمر بن عثمان بن مالك بن الطواف. وأقام السفاح بالعسكر شهرأ ثم ارتحل، فنزل قصر الإمارة من المدينة الهاشمية، وقد قيل إن داود بن علي وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بني العباس إلى الكوفة، وإنهما لقياهم بدومة الجندل فعرفا خبرهم. وقال لهم داود: كيف تأتون الكوفة؟ ومروان بن محمد في حران في أهل الشام والجزيرة، فطل على العراق ويزيد بن هبيرة بالعراق. فقال يا عم: من أحب الحياة ذل فرجع داود وابنه معه. مقتل إبراهيم بن الإمام: قد تقدّم لنا أنّ مروان حبسه بحّران، وحبس سعيد بن هشام بن عَبْد الملك وابنيه عثمان ومروان والعّباس بن الوليد بن عَبْد الملك وعبد الله بن عمر بن عَبْد العزيز وأبا محمد السفياني، فهلك منهم في السجن من وباء وقع بحّران :العباس بن الوليد وإبراهيم بن الإمام وعبد الله بن عمر، وخرج سعيد بن هشام ومن معه من المحبوسين بعد أن قتلوا صاحب السجن، فقتلهم الغوغاء من أهل حّران. وكان فيمن قتلوه شراحيل بن مسلمة بن عَبْد الملك وعبد الملك بن بشر الثعلبي، وبطريق أرمينية وإسمه كوشان
وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس لم يستحلّ الخروج منه. ولفا قدم مروان منهزماً من الزاب حل عنه فيمن بقي، وقيل إنّ شراحيل بن مسلمة كان محبوساً مع إبراهيم، وكانا يتزاوران ويتهاديان، فدس في بعض الأيام إلى إبراهيم بن الإمام بلبن مسموم على لسان شراحيل فاستطلق بطنه. وقيل إنّ شراحيل قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، احتيل والله عليه، وأصبح ميتاً من ليلته.
هزيمة مروان بالزاب ومقتله بمصر: قد ذكرنا أنّ قحطبة أرسل أبا عون عَبْد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور، فقتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل ، وأنّ مروان بن محمد سار إليه عن حران في مائة وعشرين ألفاً وسار أبو عون إلى الزاب، ووجه أبو سلمة عيينة بن موسى والمنهال بن قبّان واسحق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف مدداً له. فلما بويع أبو العباس وبعث مسلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله الطائيّ في ألف وخمسمائة، وعبد الحميد بن ربعي الطائى في ألفين، ودراس بن فضلة في خمسمائة، كلهم مدداً لأبي عون. ثم ندب أهل بيته إلى المسير إلى أبي عون، فانتدب عَبْد الله بن عليّ فسار وقدم على أبي عون، فتحوّل له عن سرادقه بما فيه. ثم أمر عيينة بن موسى بخمسة آلاف تعبر النهر من الزاب أوّل جمادى الأخير سنة إثنتين وثلاثين، وقاتل عساكر مروان إلى المساء. ورجع ففقد مروان الجسر من الغد، وقدم ابنه عَبْد الله، وعبر فبعث عَبْد الله بن عليّ المخارق بن غفّار في أربعة نحو عَبْد الله ان مروان، فسرّح ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فانهزم أصحاب المخارق، وأسر هو وجيء به إلى مروان مع رؤوس القتلى. فقال: أنت المخارق ؟ قال: لا . قال: فتعرفه في هذه الرؤوس؟ قال: نعم . قال: هو ذا، فخلّى سبيله. وقيل بل أنكر أن يكون في الرؤوس فخلى سبيله.وعاجلهم عَبْد الله بن عليّ بالحرب قبل أن يفشوا الخبر، وعلى ميمنته أبو عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية. وكان عسكره نحواً من عشرين ألفاً، وقيل إثني عشر. وأرسل مروان إليه في الموادعة فأبى، وحمل الوليد بن معاوية بن مروان
وهو صهر مروان على إبنته، فقاتل أبا عون حتى انهزم إلى عَبْد الله بن علي فأمر الناس فارتحلوا. ومشى قدماً ينادي يا لثارات إبراهيم وبالأشعار يا محمد يا منصور. وأمر مروان القبائل بأن يحملوا فتخاذلوا واعتذروا حتى صاحب شرطته. ثم ظهر له الخلل، فأباح الأموال للناس على أن يقاتلوا فأخذوها من غير قتال. فبعث ابنه عَبْد الله يصدّهم عن ذلك، فتبادروا بالفرار وانهزموا، وقطع مروان الجسر وكان من غرق أكثر ممن قتل. وغرق إبراهيم بن الوليد المخلوع، وقيل بل قتله عَبْد الله بن علي بالشام، وممن قتل يحيى بن علي بن هشام، وكان ذلك في جمادى الأخيرة سنة إثنتين وثلاثين.وأقام عَبْد الله في عسكره سبعة أيام، واجتاز عسكر مروان لمّا فيه. وكتب بالفتح إلى أبي العّباس السفّاح، وسار مروان منهزماً إلى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمر الثعلبي وابن خزيمة الأسدي، فقطعا الجسر ومنعاه العبور إليهم، وقيل هذا أمير المؤمنين، فتجاهلوا وقالوا أمير المؤمن لا يفّر. ثم أسمعوه الشتم والقبائح، فسار إلى حّران وبها أبان ابن أخيه، وسار إلى حمص، وجاء عَبْد الله إلى حّران، فلقيه أبو مسعود فأمنه، ولقي الجزيرة .ولما بلغ مروان حمص أقام بها ثلاثاً وارتحل، فاتبعه أهلها لينهبوه، فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم. وسار إلى دمشق وعليها الوليد بن عمه، فأوصاه بقتال عدوه. وسار إلى فلسطين فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامى، فأرسل إلى عَبْد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره. ثم سار عَبْد الله بن عليّ في أثره من حّران بعد أن هدم الدار التي حبس فيها أخوه الإمام إبراهيم. وانتهى إلى قنج فأطاعه أهلها، وقدم عليه أخوه عَبْد الصمد، بعثه السفاح مددا فى ثمانية آلاف، وافترق قواد الشيعة على أبواب دمشق فحاصروها أياما. ثم دخلوها عنوة لخمس من رمضان واقتتلوا بها كثيرا، وقتل عاملها الوليد بن معاوية. وأقام عَبْد الله بدمشق خمس عشرة ليلة، وارتحل يريد فلسطين، فأجفل مروان إلى العريش.
وجاء عَبْد الله فنزل نهر أبى فطرس، ووصله هناك كتاب السفاح بأن يبعث صالح بن علي في طلب مروان، فسار صالح في ذي القعدة، وعلى مقدمته أبو عون وعامر بن إسماعيل الحارثي، فأجفل مروان إلى النيل ثم إلى الصعيد، ونزل صالح الفسطاط، وتقدمت عساكره فلقوا خيلا لمروان فهزموهم، وأسروا منهم ودلوهم على مكانه ببوصير. فسار إليه أبو عون وبيته هنالك خوفا من أن
يفضحه الصبح، فانهزم مروان وطعن فسقط في آخر ذي الحجة الحرام وقطع رأسه، وبعث به طليعة أبي عون إليه. فبعثه إلى السفاح، وهرب عَبْد الله وعبيد الله ابنا مروان إلى الحبشة وقاتلوهم، فقتل عبيد الله ونجا عَبْد الله، وبقي إلى أيام المهدي. فأخذه عامل فلسطين، وسجنه المهدي. وكان طليعة أبي عون عامر بن إسماعيل الحارثي، فوجد نساء مروان وبناته في كنيسة بوصير قد وكل بهن خادما يقتلهن بعده، فبعث بهن صالح. ولما دخلن عليه سألنه في الإبقاء فلامهن على قتالهم عند بني أُمَيَّة. ثم عفا عنهن وحملهن إلى حران يبكين. وكان مروان يلقب بالحمار لحرنه في مواطن الحرب. وكان أعداؤه يلقبونه الجعدي نسبة إلى الجعد بن درهم كان يقول بخلق القرآن ويتزندق. وأمر هشام خالداً القسري بقتله فقتله. ثم تتبعوا بني أُمَيَّة بالقتل. ودخل أسديف يوما على السفاح وعنده سليمان بن
هشام وقد أمنه والده فقال:
- لا يغرنك ما تري من رجــال إنّ بين الضلوع داءً دويا
- فضع السيف وارفع السوط حتي لا ترى فوق ظهرها امويّا
فأمر السفاح بسليمان فقتل. ودخل شبل بن عَبْد الله مولى بني هاشم على عَبْد الله بن علي وعنده ثمانون أو تسعون من بني أُمَيَّة يأكلون على مائدته فقال:
- أصبح الملك في ثبات الأساس بالبهاليل من بني العّباس
- طلبوا أمر هاشم فنعونا بعد ميلٍ من الزمان وباس
- لا تقيلنَّ عَبْد شمس عثاراً فاقطعن كل رقلةٍ وغراس
- فلنا اظهر التودُّد منهما وبها منكم كحزّ المواسي
- فلقد غاضني وغاض سوائي قربهم من نمارقٍ وكراسي
- انزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهون والإتعاس
- واذكروا مصرع الحسين وزيداً وقتيلاً بجا نب المهراسس
- والقتيل الذي بحران أضحى ثاوياً رهن غربةٍ ونعاس
فأمر بهم عَبْد الله فشدخوا بالعمد، وبسط من فوقهم الأنطاع فأكل الطعام عليهم، وأنينهم يسمع حتى ماتوا وذلك بنهرابي فطرس. وكان فيمن قتل: محمد بن عَبْد الملك بن مروان، والمعزُّ بن يزيد وعبد الواحد بن سليمان، وسعيد بن عَبْد الملك وأبو
عبيدة بن الوليد بن عَبْد الملك. وقيل: إنّ إبراهيم المخلوع قتل معهم، وقيل إنّ أسديفاً هو الذي أنشد هذا الشعر للسفاح، وأنه الذي قتلهم. ثم قتل سليمان بن علي بن عَبْد الله بن العّباس بالبصرة جماعة من بني أُمَيَّة، فأمر بأشلائهم في الطرق، فأكلتهم الكلاب، وقيل: إنّ عَبْد الله بن علي أمر بنبش قبور الخلفاء من بني أُمَيَّة، فلم يجدوا في القبور إلاّ شبه الرماد وخيطاً في قبر معاوية، وجمجمة في قبر عَبْد الملك. وربّما وجد فيها بعد الأعضاء إلا هشام بن عَبْد الملك، فإنه وجد كما هو لم يبل، فضربه بالسوط ثم صلبه وحرقه وذراه في الريح، والله أعلم بصحة ذلك. ثم تتبعوا بني أُمَيَّة بالقتل، فلم يفلت منهم إلا الرضعاء أومن هرب إلى الأندلس مثل عَبْد الرحمن بن معاوية بن هشام، وغيرهم ممن تبعه من قرابته كما يذكر في أخبارهم.
بقية الصوائف في الدولة الاموية: قد انتهينا بالصوائف إلى آخر أيام عمر بن عَبْد العزيز، وفي إثنتين ومائة أيام اليزيد غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية وهو على الجزيرة قبل أن يلي العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقاً وقتل منهم سبعمائة أسير. وغزا العباس بن الوليد الروم أيضا ففتحها لسنة. ثم غزا سنة ثلاث بعدها فافتتح مدينة رسلة. ثم غزا الجّراح الحكميّ أيام هشام سنة خمس فبلغ وراء بلنجر، وغنم وغزا في هذه السنة سعيد بن عَبْد الملك أرض الروم، وبعث ألف مقاتل في سرية فهلكوا جميعاً. وغزا فيها مروان بن محمد بالصائفة اليمنى، ففتح مدينة قريبة من أرض الزوكخ. ثم غزا سعيد بن عَبْد الملك بالصائفة أيام هشام سنة ست. ثم غزا مسلمة بن عَبْد الملك الروم من الجزيرة وهو والٍ عليها، ففتح قيساريَّة. وغزا إبراهيم بن هشام، ففتح حصناً. وغزا معاوية بن هشام في البحر قبرس، وغزا سنة تسع ففتح حصناً آخر يقال له طبسة. وغزا سنة عشر بالصائفة عَبْد الله بن عقبة الفهريّ ، وكان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج. وغزا بالصائفة اليسرى سنة إحدى عشرة معاوية بن هشام، وبالصائفة اليمنى سعيد بن هشام، وفي البحر عَبْد الله بن أبي مريم. وافتتح معاوية في
صائفة ثلاث عشرة سنة خرشفة. وغزا سنة ثلاث عشرة عَبْد الله البطّال، فانهزم فثبت عَبْد الوهاب من أصحابه فقتل. ودخل معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش. ثم غزا سنة أربع عشرة بالصائفة اليسرى وأصحاب ربض أفرق. والتقى عَبْد الله البطال مع قسطنطين، فهزمه البطال وأسره. وغزا سليمان بن هشام بالصائفة اليسرى، فبلغ قيسارّية. وهزم مسلمة بن عَبْد الملك خاقان وباب الباب. وغزا معاوية بن هشام بالصائفة سنة خمس عشرة. وغزا سفيان بن هشام بالصائفة اليسرى سنة سبع عشرة، وسليمان بن هشام بالصائفة اليمنى من ناحية الجزيرة، وفرّق السرايا في أرض الروم وبعث فيها مروان بن محمد من أرمينية فافتتحوا من أرض اللان آهلها أخذها قومانساه صلحاً. وغزا معاوية وسليمان أيضاً أرض الروم سنة ثماني عشرة. وغزا فيها مروان بن محمد من أرمينية، ودخل أرض وارقيس، فهرب وارقيس إلى الحرور ونازل حصنه فحاصره. وقتل وارقيس بعض من اجتاز به، وبعث برأسه إلى مروان، ونزل أهل الحصن على حكمه، فقتل وسبى. وغزا سنة تسع عشرة مروان بن محمد من ارمينية ومّر ببلاد اللاّن إلى بلاد الخزر على بلنجر وسمندر، وانتهى إلى خاقان، فهرب خاقان منه. وغزا سليمان بن هشام سنة عشرين بالصائفة فافتتح سندرة، وغزا إسحق بن مسلم الحقيلي قومانساه، وافتتح قلاعه وخرب أرضه. وغزا مروان من أرمينية سنة إحدى وعشرين، وأفنى قلعة بيت السرير فقتل وسبى، ثم قلعة أخرى كذلك، ودخل عزسك وهو حصن الملك فهرب منه الملك ودخل حصناً له يسمى جرج، فيه سرير الذهب، فنازله مروان حتى صالحه على ألف فارس كل سنة، ومائة ألف مدني. ثم دخل أرض أرزق ونصران فصالحه ملكها، ثم أرض تومان كذلك، ثم أرض حمدين فأخرب بلاده، وحصر حصناً له شهراً حتى صالحه، ثم أرض مسداد ففتحها على صلح. ثم نزل كيلان فصالحه أهل طبرستان وكيلان. وكل هذه الولايات على شاطىء البحر من أرمينية إلى طبرستان. وغزا مسلمة بن هشام الروم في هذه السنة فافتتح بها مطامير. وفي سنة إثنتين وعشرين بعدها قتل البطّال وإسمه عَبْد الله بن الحسين الأنطاكي، وكان كثير الغزو في بلاد الروم والإغارة عليهم. وقدّمه مسلمة على عشرة آلاف فارس، فكان يغزو بلاد الروم إلى أن قتل هذه السنة. وفي سنة أربعة وعشرين غزا سليمان بن هشام بالصائفة على عهد أبيه، فلقي أليون ملك الروم فهزمه وغنم، وفي سنة خمسة وعشرين خرجت الروم إلى حصن زنطره، وكان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهري وخزينة الروم، وبنى بناء غير محكم فأخربوه ثانية أيام مروان. ثم بناه الرشيد وطرقه الروم أيام المأمون فشعبوه فأمر ببنائه وتحصينه. ثم طرقوه أيام المعتصم وخبره معروف. وفي هذه السنة غزا الوليد بن يزيد بالصائفة أخاه العمر، وبعث الأسود بن بلال المحاربي بالجيش في البحر إلى قبرس ليجير أهلها بين الشام والروم فافترقوا فريقين. وغزا أيام مروان سنة ثلاثين بالصائفة الوليد بن هشام ونزل العمق وبنى حصن مرعش.
عمال بني أُمَيَّة علي النواحي: استعمل معاوية أوّل خلافته سنة أربعين عَبْد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، ثم عزله واستعمل المغيره بن شعبة على الصلاة، واستعمل على الخراج وكان على النقباء بها شريح، وكان حمران بن أبان قد وثب على البصرة عندما صالح الحسن معاوية، فبعث معاوية بشر بن أرطأة على البصرة وأمدّه، فقتل أولاد زياد بن أبيه، وكان عاملاً على فارس لعليّ بن أبي طالب. فقدم البصرة وقد ذكرنا خبره مع بني زياد فيما قبل. ثم ولّى على البصرة عَبْد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عَبْد شمس، وضم إليه خراسان وسجستان، فجعل على شرطته حبيب بن شهاب، وعلى القضاء عميرة بن تبرى، وقد تقدّم لنا أخبار قيس في خراسان. وكان عمرو بن العاص علي مصر كما تقدّم، فوّلى سنة إحدى وأربعين من قبله على أفريقية عقبة بن نافع بن عَبْد قيس، وهو ابن خالته، فانتهى إلى لواتة ومزاتة فأطاعوه ثم كفروا، فغزاهم وقتل وسبى. ثم افتتح سنة إثنتين وأربعين بعدها غذامس وقتل وسبى، وافتتح سنة ثلاثة وأربعين بعدها بلد ودّان. وولّى معاوية بالمدينة سنة إثنتين وأربعين مروان بن الحكم، فاستقضى عَبْد الله بن الحرث بن نوفل، وولّى معاوية على مكّة في هذه السنة خالد بن العاص بن هشام، وكان على أرمينية حبيب بن مسلمة الفهريّ وولاه عليها معاوية ومات سنة إثنتين وأربعين فولى مكانه. واستعمل ابن عامر في هذه السنة على ثغر الهند عَبْد الله بن سوار العبدي، ويقال ولاّه معاوية. وعزل ابن عامر في هذه السنة قيس بن الهيثم عن خراسان وولّى مكانه الحرث بن عَبْد الله بن حازم. ثم عزل معاوية عَبْد الله بن عامر عن البصرة سنة أربع وأربعين، وولىّ مكانه الحرث بن عَبْد الله الأزدى، ثم عزله لأربعة أشهر، وولى أخاه زياداً سنة خمس وأربعين. فولىّ على خراسان الحكم بن عمر الغفاريّ، وجعل معه على الخراج أسلم بن زرعة الكلابي. ثم مات الحكم فولىّ خليد بن عَبْد الله الحنفيّ سنة سبع وأربعين. ثم ولّى على خراسان سنة ثمان بعدها غالب بن فضالة الليثيّ، وتولى عمرو بن العاص سنة تسع وأربعين فولى مكانه سعيد بن العاص، فعزل عَبْد الله بن الحرث عن الفضاء، واستقضى أبا سلمة بن عَبْد الرحمن. وفي سنة خمسين توفي المغيرة بن شعبة فضم الكوفة إلى أخيه زياد، فجاء إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وكان يقسم السنة بين المصريين في الإقامة نصفاً بنصف. وفي سنة خمسين هذه اقتطع معاوية أفريقية عن معاوية بن خديج بمصر، وولىّ عقبه بن نافع الفهريّ، وكان مقيماً ببرقة وزويلة من وقت فتحها أيام عمرو بن العاص، فأمده بعشرة آلاف، فسار إليها. وانضاف إليه من أسلم من البربر ودوّخ البلاد وبنى بالقيروان، وأنزل عساكر المسلمين، ثم استعمل معاوية على مصر وأفريقية مولاه أبا المهاجر، فأساء عزل عقبة. وجاء عقبة إلى الشام فاعتذر إليه معاوية ووعده بعمله، ومات معاوية فولاّه يزيد سنة إثنتين وستين. وذكر الواقدي أن عقبة ولي سنة إثنتين وستين واستعمل أبا المهاجر فولي الأمصار، فحبس عقبة وضيق عليه، وأمره يزيد بإطلاقه، فوفد عقبة فأعاده إلى عمله. فحبس أبا المهاجر وخرج غازياً وأثخن حتى قتله كسيلة كما يأتي في أخباره. وفي سنة إحدى وخمسين ولّى زياد على خراسان الربيع بن زياد الحرث مكان خليد بن عَبْد الله الحنفي. وفي سنة ثلاث وخمسين توفي زياد واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وعلى الكوفة عَبْد الله بن خالد بن أسيد. ثم ولى الضحّاك بن قيس سنة خمس بعدها. وفي هذه السنة مات الربيع بن زياد عامل خراسان قبل موت زياد، واستخلفه ابنه عَبْد الله، ومات لشهرين. واستخلف خليد بن يربوع الحنفي، وكان على صفا بيروز الديلميّ من قبل معاوية، فمات سنة ثلاث وخمسين. وفي سنة أربع وخمسين عزل معاوية عن المدينة سعيد بن العاص، وردّ إليها مروان بن الحكم، ثم عزله سنة سبعة وولىّ مكانه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان. وعزل سنة تسعة وخمسين عن البصرة ابن جندب، وولىّ مكانه عَبْد الله بن عمر بن غيلان، وولىّ على خراسان عبيد الله بن زياد، ثم ولاّه سنة خمس بعدها على البصرة مكان بن غيلان. ثم ولىّ على خراسان سنة ستة وخمسين سعيد بن عثمان بن عفّان. وفي سنة ثمانية وخمسين عزل معاوية عن الكوفة الضحّاك بن قيس، واستعمل مكانه ابن أمّ الحكم وهي أخته، وهو عَبْد الرحمن بن عثمان الثقفي، وطرده أهل الكوفة فولاّه مصر.فردّه معاوية بن خديج، وولىّ مكانه على الكوفة سنة تسعة وخمسين النعمان بن بشير، وولى فيها على خراسان عَبْد الرحمن بن زياد. فقدم إليها قيس بن الهيثم السلمي، فحبس أسلم بن زرعة، فأغرمه ثلثمائة ألف درهم. ثم مات معاوية سنة ستين وولاته على النواحي من ذكرناه، وعلى سجستان عبّاد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور. وعزل يزيد لأّول ولايته الوليد بن عقبة عن المدينة والحجاز، وولاّها عمر بن سعيد الأشدق. ثم عزله سنة إحدى وستين، ورد الوليد بن عقبة، وولىّ على خراسان سالم بن زياد، فبعث سالم إليها الحرث بن معاوية الحرثي، وبعث أخاه يزيد إلى سجستان، وكان بها أخوهما عبّاد فخرج عنهما. وقاتل يزيد أهل كابل فهزموه، فبعث مسلم على سجستان طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عَبْد الله بن خلف الخزاعي فبقي سنة، وبعث سنة إثنتين وستين عقبة بن نافع إلى أفريقية، فحبس أبا المهاجر واستخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي كما نذكر في أخباره. وتوفي في هذه السنة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ أمير مصر. ثم هلك يزيد سنة أربع وستين، واستخلف على أهل العراق عبيد الله بن زياد. وولى أهل البصرة عليهم عَبْد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عَبْد المطّلب ويلقب ببَّة، وهرب ابن زياد إلى الشام. وجاء إلى الكوفة عامر بن مسعود من قبل ابن الزبير، وبلغه خلاف أهل الري وعليهم الفرَّخان، فبعث عليهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب فهزموه، فبعث عّتاب بن ورقاء فهزمهم. ثم بويع مروان وسار إلى مصر فملكها من يد عبد الرحمن بن حجَّام القرشيّ داعية ابن الزبير وولىّ عليها عمر بن سعيد. ثم بعثه للقاء مصعب بن الزبير، لمّا بعثه أخوه عَبْد الله إلى الشام، وولّى على مصر ابنه عَبْد العزيز فلم يزل عليها والياً إلى أن هلك لسنة خمسة وثمانين، فولىّ عَبْد الملك عليها ابنه عَبْد الله بن عَبْد الملك. وخلع أهل خراسان بعد يزيد سالم بن زياد، واستخلف المهلّب بن أبي صفرة، ثم ولىّ مسلم عَبْد الله بن حازم، فاستبدّ بخراسان إلى حين. ثم أخرج أهل الكوفة عمر بن حريث خليفة بن زياد، وبايعوا لابن الزبير، وقدم المختار بن أبي عبيد أميراً على الكوفة من قبله بعد ستة أشهر من مهلك يزيد، وامتنع شريح من القضاء أيام الفتنة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
65 هـ
واستعمل ابن الزبير على المدينة أخاه مصعباً سنة خمس وستين مكان أخيه عَبْد الله، وثار بنو تميم بخراسان على عَبْد الله بن حازم فغلبه عليها بكير بن وشّاح. وغلب المختار على ابن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة سنة ست وستين(ثم مات) مروان سنة خمس وستين، وولي عَبْد الملك. وولى ابن الزبير أخاه مصعباً على البصرة، وولى مكانه بالمدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري. ثم ملك عَبْد العزيز العراق سنة إحدى وسبعين، واستعمل على البصرة خالد بن عَبْد الله بن أسد، وعلى الكوفة أخاه بشر بن مروان، وكان على خراسان عَبْد الله بن حازم بدعوة ابن الزبير، فقام بكير بن وشاح التميمي بدعوة عَبْد الملك وقتله، وولاه عَبْد الملك خراسان. وكان على المدينة طلحة بن عَبْد الله بن عوف بدعوة ابن الزبير بعد جابر بن الأسود، فبعث عَبْد الملك طارق بن عمر مولى عثمان، فغلبه عليها.
73 هـ
ثم قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، وانفرد عَبْد الملك بالخلافة، وولى على الجزيرة وأرمينية أخاه محمداً. وعزل خالد بن عَبْد الله عن البصرة، وضمها إلى أخيه بشر، فسار إليها واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وولى على الحجاز واليمن واليمامة الحجاج بن يوسف، وبعثه من الكوفة لحرب ابن الزبير. وعزل طارقاً عن المدينة وسار من جنده. وفي سنة أربع وسبعين استقضى أبا إدريس الخولاني، وأمر بشر أخاه أن يبعث المهلب بن أبي صفرة لحرب الأزارقة. وعزل عن خراسان بكير بن وشاح، وولى مكانه أُمَيَّة بن عَبْد الله بن خالد بن أسيد، فبعث أُمَيَّة ابنه عَبْد الله على سجستان. وكان على أفريقية زهير بن قيس البلوي، فقتله البربر سنة تسع وستين. وشغل عَبْد الملك بفتنة ابن الزبير، فلما فرغ منها بعث إلى أفريقية سنة أربع وسبعين حسان بن النعمان القيساني في عساكر لم ير مثلها، فأثخن فيها وافترقت جموع الروم والبربر. وقتل الكاهنة كما يذكر في أخبار أفريقية.
75 هـ
ثم ولى عَبْد الملك سنة خمس وسبعين الحجاج بن يوسف على العراق فقط، وولى على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، وقتل في حروبها، وكان أمر الخوارج. وفي سنة ست وسبعين ولى على المدينة إبان بن عثمان، وكان على قضاء الكوفة شريح. وعلى قضاء البصرة زرراة بن أبي أوفى بعد هشام بن هبيرة، وعلى قضاء المدينة عَبْد الله بن قشير بن مخرمة. ثم كانت حروب الخوارج كما نذكر في أخبارهم. وفي سنة ثمان وسبعين عزل عَبْد الملك أُمَيَّة بن عَبْد الله عن خراسان وسجستان وضمهما إلى الحجاج بن يوسف، فبعث الحجاج على خراسان المهلب بن أبي صفرة، وعلى سجستان عَبْد الله بن أبي بكرة، وولى على قضاء البصرة موسى بن أنس، واستعفى شريح بن الحرث من القضاء بالكوفة، فولى مكانه أبا بردة بن أبي موسى، ثم ولى على قضاء البصرة عَبْد الرحمن بن اذينة. وخرج عَبْد الرحمن بن الأشعث، فملك سجستان وكرمان وفارس والبصرة، ثم قتل ورجعت إلى حالها، وذلك سنة إحدى وثمانين. وفي سنة إثنتين وثمانين مات المهلب بن أبي صفرة، واستخلف ابنه يزيد على خراسان، فأقره الحجاج. وفي هذه السنة عزل عَبْد الملك أبان بن عثمان عن المدينة، وولى مكانه هشام بن إسماعيل المخزومي، فعزل هشام نوفل بن مساحق عن القضاء، وولى مكانه عمر بن خالد الزرقي. وبنى الحجاج مدينة واسط. وفي سنة خمس وثمانين عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان، وولى مكانه هشام أخاه المفضل قليلاً، ثم ولي قتيبة بن مسلم وتوفي عَبْد الملك. وعزل الوليد لأول ولايته هشام بن إسماعيل عن المدينة وولى مكانه عمر بن عَبْد العزيز، فولى على القضاء أبا بكر بن عمرو بن حزم، وولى الحجاج على البصرة الجراح بن عَبْد الله الحكمي، وولى على قضائها عَبْد الله بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبا بكر بن أبي موسى الأشعري. وفي سنة تسع وثمانين ولى الوليد على مكة خالد بن عَبْد الله القسري، وكان على ثغر السند محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، وهو ابن عم الحجاج. ففتح السند وقتل ملكه. وكان على مصر عَبْد الله بن عَبْد الملك، ولاه عليها أبوه ففل ملكها. فعزله الوليد في هذه السنة وولى مكانه قرة بن شريك، وعزل خالداً عن الحجاز، وولى عمر بن عَبْد العزيز.
91 هـ
وفي سنة إحدى وتسعين عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية، وولى مكانه أخاه مسلمة بن عَبْد الملك، وكان على طندة في قاصية المغرب طارق بن زياد عاملاً لمولاه موسى بن نصير
عامل الوليد بالقيروان، فأجاز البلاد والبحر إلى بلاد الأندلس، وافتتحها سنة إثنتين وتسعين كما يذكر في أخبارها. وفي سنة ثلاث وتسعين عزل عمر بن عَبْد العزيز عن الحجاز وولى مكانه خالد بن عَبْد الله على مكة، وعثمان بن حيان على المدينة.
95 هـ
ومات الحجاج سنة خمس وتسعين، ثم مات الوليد سنة ست وتسعين، وفيها قتل قتيبة بن مسلم لانتقاضه على سليمان، وولاها سليمان يزيد بن المهلب. وفيها مات قرة بن شريك ، وكان على المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم، وعلى مكة عَبْد العزيز بن عَبْد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى، وعلى قضاء البصرة عَبْد الرحمن بن أذينة وفي سنة سبع وتسعين، عزل سليمان بن موسى بن نصير عن أفريقية وولى مكانه محمد بن يزيد القرشي حتى مات سليمان فعزل. واستعمل عمر مكانه إسمعيل بن عَبْد الله. وفي سنة ثمان وتسعين كان فتح طبرستان وجرجان أيام سليمان بن عَبْد الملك على يد يزيد بن المهلب. وفي سنة تسع وتسعين استعمل عمر بن عَبْد العزيز على البصرة عدي بن أرطاة الفزاري، وأمره بإبقاء يزيد بن المهلب موثوقاً، فولى على القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري، ثم إياس بن معاوية، وعلى الكوفة عَبْد الحميد بن عد الرحمن بن يزيد بن الخطاب. وولى على المدينة عَبْد العزيز بن أرطاة، وولى على خراسان الجراح بن عَبْد الله الحكمي، ثم عزل سنة مائة. وولي عَبْد الرحمن بن نعيم القرشي، وولى على الجزيرة عمر بن هبيرة الفزاري، وعلى أفريقية إسمعيل بن عَبْد الله مولى بني مخزوم، وعلى الأندلس السمح بن مالك الخولاني.
101 هـ
ثم في سنة إحدى ومائة عزل إسمعيل عن أفريقية، وولاها يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج، فلم يزل عليها إلى أن قتل.
102 هـ
وفي سنة إثنتين ومائة ولى يزيد بن عَبْد الملك أخاه مسلمة على العراق وخراسان، فولى على خراسان سعيد بن عَبْد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العاص بن أُمَيَّة، ويقال له سعيد خدينة. ثم استحيا من مسلمة في أمر الجراح فعزله، وولى مكانه ابن يزيد بن هبيرة. فجعل على قضاء الكوفة القاسم بن عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن مسعود، وعلى قضاء البصرة عَبْد الملك بن يعلى. وكان على مصر أسامة بن زيد، وليها بعد قرة بن شريك، وولى ابن هبيرة على خراسان سعيداً الحرشي مكان حذيفة.
103 هـ
وفي سنة ثلاث ومائة جمع يزيد مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك،وعزل عَبْد العزيز بن عَبْد الله بن خالد عن مكة وعن الطائف، وولى مكانه عَبْد الواحد بن عَبْد الله البصري.
104 هـ
وفي سنة أربع ومائة ولى يزيد على أرمينية الجراح بن عَبْد الله الحكمي، وعزل عَبْد الرحمن بن الضحاك عن مكة والمدينة لثلاث سنين من ولايته، وولى عليهما مكانه عَبْد الواحد البصري، وعزل ابن هبيرة سعيداً الحرشي عن خراسان، وولى عليها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي. وولى على قضاء الكوفة الحسين بن حسين الكندي. ومات يزيد بن عَبْد الملك سنة خمس، وولي هشام فعزل ابن هبيرة عن العراق، وولي مكانه خالد بن عَبْد الله القسري، واستعمل خالد على خراسان أخاه أسداً سنة سبع ومائة. وعزل مسلم بن سعيد وولى على البصرة عقبة بن عَبْد الأعلى، وعلى قضائها ثمامة بن عبدالله بن أنس. وولى على السند الجنيد بن عَبْد الرحمن. واستعمل هشام على الموصل الحر بن يوسف، وعزل عَبْد الواحد البصري عن الحجاز، وولى مكانه إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، واستقضى بالمدينة محمد بن صفوان الجمحي، ثم عزله واستقضى الصلت الكندي. وعزل الجراح بن عَبْد الله عن أرمينية وأذربيجان، وولى مكانه أخاه مسلمة، فولى عليها الحرث بن عمرو الطائي. وكان على اليمن سنة ثمان يوسف بن عمر. وفي سنة تسع عزل خالد أخاه أسداً عن خراسان، وولى هشام عليها أشرس بن عَبْد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالداً بعد أن كان خالد ولى الحكم بن عوانة الكلبي مكان أخيه فلم يقر، فعزله هشام. ومات في سنة تسع عامل القيروان بشر بن صفوان، فولى هشام مكانه عبيدة بن عَبْد الرحمن بن الأغر السلمى، فعزل عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس، واستعمل حذيفة بن الأخوص الأشجعي. ثم عزل لستة أشهر، ووليها عثمان بن أبي تسعة الخثعمي. وفي سنة عشر ومائة جمع خالد الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبي بردة، وعزل ثمامة عن القضاء. وفي سنة إحدى عشرة عزل هشام عن خراسان أشرس بن عَبْد الله، وولى مكانه الجنيد بن عَبْد الرحمن بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري، وولى على أرمينية الجراح بن عَبْد الله الحكمي، وعزل مسلمة. وفيها عزل عبيدة بن عَبْد الرحمن عامل أفريقية، وعثمان بن أبي تسعة عن الأندلس، وولى مكانه الهيثم بن عبيد الكناني.
112 هـ
وفي سنة إثنتي عشرة قتل الجراح بن عَبْد الله صاحب أرمينية، قتله التركمان فولى هشام مكانه سعيدا الحرشي، ومات الهيثم عامل الأندلس، وولوا على أنفسهم مكانه محمد بن عَبْد الله الأشجعي شهرين، وبعده عَبْد الرحمن بن عَبْد الله الغافقي من قبيل ابن عَبْد الرحمن السلمي عامل أفريقية، وغزا إفرنجة فاستشهد. فولى عبيدة مكانه عَبْد الملك بن قطن الفهري، وعزل عبيدة عن أفريقية وولى مكانه عبيد الله بن الحجاب، وكان على مصر فسار إليها. وفي سنة أربع عشرة عزل هشام مسلمة عن أرمينية وولى مكانه مروان بن محمد بن مروان، وعزل إبراهيم بن هشام عن الحجاز، وولى مكانه على المدينة خالد بن عَبْد الملك بن الحرث بن الحكم، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام المخزومي. وفي سنة ست عشرة ومائة عزل هشام الجنيد بن عَبْد الرحمن المري عن خراسان، وولى مكانه عاصم بن عَبْد الله بن يزيد الهلالي. وفيها استعمل عَبْد الله بن الحجاب على الأندلس عقبة بن الحجاج القيسي مكان عَبْد الملك بن قطن ففتح خليتيه. وفي سنة سبع عشرة ومائة عزل هشام عاصم بن عَبْد الله عن خراسان وولى مكانه خالد بن عَبْد الله القسري، فاستخلف خالد أخاه أسداً. وولى هشام على أفريقية والأندلس عبيد الله بن الحجاب، وكان على مصر فسار إليها. واستخلف على مصر ولده. وولى على الأندلس عقبة بن الحجاج، وعلى طنجة ابنه إسمعيل. وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازياً إلى المغرب، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان وفتح وغنم. وأغزاه إلى صقلية سنة إثنتين وعشرين ومائة ففتح أكثرها. ثم استدعاه لفتنة ميسرة كما نذكره في أخبارهم. وفي سنة ثمان عشرة عزل هشام عن المدينة خالد بن عَبْد الملك بن الحرث، وولى مكانه محمد بن هشام بن إسمعيل. وفي سنة عشرين مات أسد بن عَبْد الله الخراساني وولي مكانه نصر بن سيار. وعزل هشام خالد القسري عن جميع أعماله بالعراقين وخراسان، وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي استقدمه إليها من ولاية اليمن. فأقر نصر بن سيار على خراسان، وكان على قضاء الكوفة ابن شرمة وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة. وولى يوسف بن عمر بن شرمة على سجستان، واستقضى مكانه محمد بن عَبْد الرحمن بن أبي ليلى. وكان على قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة، فمات في هذه السنة. وفي سنة ثلاث وعشرين، قتل كلثوم بن عياض الذي بعثه هشام لقتال البربر بالمغرب. وتوفي عقبة بن الحجاج أمير الأندلس، وقيل بل خلعوه. وولي مكانه عَبْد الملك بن قطن ولايته الثانية كما يذكر. وفي سنة أربع وعشرين ظهر أمر أبي مسلم بخراسان، وتلقب بلخ على الأندلس، ثم مات. وكان سار إليها من فل كلثوم بن عياض لمّا قتله البربر بالمغرب. وولى هشام على الأندلس أبا الخطار حسام بن ضرار الكلبي، فأمر حنظلة بن صفوان أن يوليه فولاه. وكان ثعلبة بن خزامة سلامة الجرابي قد ولوه بعد بلخ، فعزله أبو الخطار.
وفي هذه السنة ولي الوليد بن يزيد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي على الحجاز فأسره. ثم قتل الوليد سنة ست وعشرين، فعزل يزيد عن العراق يوسف بن عمر، وولى مكانه منصور بن جمهور، فبعث عامله على خراسان، فامتنع نصر بن سيار من تسليم العمل له. ثم عزل يزيد منصور بن جمهور وولى مكانه على العراق عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز، وغلب حنظلة على أفريقية عَبْد الرحمن بن حبيب كما يذكر في خبرها. وعزل يزيد عن المدينة يوسف بن محمد بن يوسف، وولى مكانه عَبْد العزيز بن عمر بن عثمان، وغلب سنة سبع وعشرين عَبْد الله بن معاوية بن عَبْد الله بن جعفر على الكوفة، وولى مروان على الحجاز عَبْد العزيز بن عمر بن عَبْد العزيز، وعلى العراق النضر بن سعيد الحرشي. وامتنع ابن عمر من استلام العمل إليه، ووقعت الفتنة بينهم. ولحق ابن عمر بالخوارج كما يذكر في أخبارهم. واستولى بنو العباس على خراسان.
129 هـ
وفي سنة تسع وعشرين ولي يوسف بن عَبْد الرحمن الفهري على الأندلس بعد نوابة بن سلامة كما يأتي في أخبارهم. وولى مروان على الحجاز عَبْد الواحد وعلى العراق يزيد بن عمر بن هبيرة.
130 هـ
وفي سنة ثلاثين ملك أبو مسلم خراسان، وهرب عنها نضر بن سيار فمات بنواحي همذان سنة إحدى وثلاثين. وجاء المسودة وعليهم قحطبة، فطلبوا ابن هبيرة على العراق وملكوه، وبايعوا خليفتهم أبا العباس السفاح. ثم غلبوا مروان على الشام ومصر وقتلوه. وانقرض أمر بني أُمَيَّة، وعاد الأمر والخلافة لبني العباس. والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده. وهذه أخبار بني أُمَيَّة مخلصة من كتاب أبي جعفر الطبري. ولنرجع إلى أخبار الخوارج كما شرطنا في أخبارها بالذكر. والله المعين لا رب غيره. الخوارج الخبر عن الخوارج وذكر أوليتهم وتكرر خروجهم في الملة الإِسلامية
قد تقدم لنا خبر الحكمين في حرب صفين، واعتزل الخوارج علياً منكرين للتحكيم مكفرين به، ولاطفهم في الرجوع عن ذلك، وناظرهم فيه بوجه الحق فلجوا وأبوا إلا الحرب. وجعلوا شعارهم النداء بلا حكم إلا الله. وبايعوا عَبْد الله بن وهب الراسبي. وقاتلهم علي بالنهروان، فاستلحمهم أجمعين. ثم خرج من فلهم طائفة
بالأنبار، فبعث إليهم من استلحمهم. ثم طويفة أخرى مع هلال بن علية، فبعث معقل بن قيس فقتلهم. ثم أخرى ثالثة كذلك، ثم أخرى على المدائن كذلك، ثم أخرى بشهرزور كذلك. وبعث شريح بن هانىء فهزموه فجرح واستلحمهم أجمعين، واستأمن من بقي فأمنهم، وكانوا نحو خمسين. وافترق شمل الخوارج، ثم اجتمع من وجدانهم الثلاثة الذين توعدوا لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص. فقتل بالسهم عَبْد الرحمن بن ملجم علياً رضي الله عنه وباء بإثمه، وسلم الباقون. ثم اتفقت الجماعة على بيعة معاوية سنة إحدى وأربعين، واستقل معاوية بخلافة الإِسلام. وقد كان فروة بن نوفل الأشجعي اعتزل علياً والحسن، ونزل شهرزور وهو في خمسمائة من الخوارج. فلما بويع معاوية قال فروة لأصحابه: قد جاء الحق فجاهدوا واقبلوا، فنزلوا النخيلة عند الكوفة، فاستنفر معاوية أهل الكوفة فخرجوا لقتالهم، وسألوا أهل الكوفة أن يخلوا بينهم وبين معاوية فأبوا، فاجتمعت أشجع على فروة وأتوا له من القتال
ودخلوا الكوفة قهراً واستعمل الخوارج بعده عَبْد الله بن أبي الحريشي من طيىء. وقاتلوا أهل الكوفة، فقاتلوا وابن أبي الحريشي معهم. ثم اجتمعوا بعده على حوثرة بن وداع الأسدي وقدموا إلى النخيلة في مائة وخمسين، ومعهم فل بن أبي الحريشي. وبعث معاوية إلى حوثرة أباه ليرده عن شأنه فأبى، فبعث إليهم عَبْد الله بن عوف في معسكر فقتله وقتل أصحابه، إلا خمسين دخلوا الكوفة وتفرقوا فيها، وذلك في جمادى الأخيرة سنة إحدى وأربعين. وسار معاوية إلى الشام وخلف المغيرة بن شعبة، فعاد فروة بن نوفل الأشجعي إلى الخروج. فبعث إليه المغيرة خيلاً عليها ابن ربعي، ويقال معقل بن قيس، فلقيه بشهرزور فقتله. ثم بعث المغيرة إلى شبيب بن أبجر من قتله، وكان من أصحاب ابن ملجم. وهو الذي أتى معاوية يبشره بقتل علي، فخافه على نفسه وأمر بقتله. فتنكر بنواحي الكوفة إلى أن بعث المغيرة من قتله.
ثم بلغ المغيرة أن بعضهم يريد الخروج، وذكر له معن بن عَبْد الله المحاربي فحبسه، ثم طالبه بالبيعة لمعاوية فأبى فقتله، ثم خرج على المغيرة أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب، فأخرج معه النساء. فبعث المغيرة من قتله وأصابه. ثم حكم أبو ليلى في المسجد بمشهد الناس، وخرج في إثنين من الموالي، فأتبعه المغيرة معقل بن قيس الرياحي، فقتله بسور الكوفة سنة إثنتين وأربعين. ثم خرج على ابن عامر في البصرة سهم بن غانم الجهني في سبعين رجلاً منهم الحطيم، وهو يزيد بن حالك الباهلي، ونزلوا بين الجسرين والبصرة. ومر بهم بعض الصحابة منقلباً من الغزو فقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه، وقالوا: هؤلاء كفرة. وخرج إليهم ابن عامر فقتل منهم عدة وأمن باقيهم. ولما أتى زياد البصرة سنة خمس وأربعين، هرب منهم الحطيم إلى الأهواز، وجمع ورجع إلى البصرة فافترق عنه أصحابه، فاختفى وطلب الأمان من زياد فلم يؤمنه، ثم دل عليه فقتله وصلبه بداره. وقيل بل قتله عَبْد الله بعد زياد سنة أربع وخمسين. ثم اجتمع الخوارج بالكوفة على المستورد بن عقلة التيمي من تيم الرباب، وعلى حيان بن ضبيان السلمي، وعلى معاذ بن جوين الطائي، وكلهم من فل النهروان الذين ارتموا في القتلى، ودخلوا الكوفة بعد مقتل علي، واجتمعوا في أربعمائة في منزل حيان بن ضبيان، وتشاوروا في الخروج، وتدافعوا الإمارة. ثم اتفقوا على المستورد وبايعوه في جمادى الأخيرة. وكبسهم المغيرة في منزلهم، فسجن حيان وأفلت المستورد، فنزل الحيرة، واختلف إليه الخوارج، وبلغ المغيرة خبرهم فخطب الناس وتهدد الخوارج، فقام إليه معقل بن قيس فقال: ليكفك كل رئيس قومه. وجاء صعصعة بن صوحان إلى عَبْد القيس، وكان عالماً بمنزلهم عند سليم بن مخدوج العبدي إلا أنه لا يسلم عشيرته، فخرجوا ولحقوا بالصراة في ثلثمائة فجهز إليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وجعل معظمهم من شيعة علي، وخرج معقل في الشيعة، وجاء الخوارج ليعبروا النهر إلى المدائن فمنعهم عاملها سمال بن عَبْد العبسي ودعاهم إلى الطاعة على الأمان فأبوا، فساروا إلى المذار. وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فبعث شريك بن الأعور الحارثي في ثلاثة آلاف من الشيعة، وجاء معقل بن قيس إلى المدائن وقد ساروا إلى المذار، فقدم بين يديه أبا الرواع الشاكري في ثلثمائة، وسار ولحقهم أبو الرواع بالمذار فقاتلهم. ثم لحقه معقل بن قيس متقدّما أصحابه عند المساء، فحملت الخوارج عليه فثبت وباتوا على تعبية، وجاء الخبر إلى الخوارج بنهوض شريك بن الأعور من البصرة فأسروا من ليلتهم راجعين. وأصبح معقل واجتمع بشريك، وبعث أبا الرواع في أتباعهم في ستمائة، فلحقهم بجرجان فقاتلهم فهزمهم إلى ساباط وهو في اتباعهم. ورأى المستورد أن هؤلاء مع أبي الرواع حماة أصحاب معقل، فتسرب عنهم إلى معقل وأبو الرواع في اتباعه. ولما لحق بمعقل قاتلهم قتالاً، وأدركهم أبو الرواع بعد أن لقي كثيراً من أصحاب معقل منهزمين فردهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل المستورد معقلا، طعنه بالرمح فأنفذه، وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد، فقسم دماغه بالسيف وماتا جميعاً. وأخذ الراية عمر بن محرز بن شهاب التميمي بعهد معقل بذلك. ثم حمل الناس على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم إلا خمسة أو ستة. وعند ابن الكلبي أن المستورد من تيم من بني رباح. خرج بالبصرة أيام زياد قريب الأزدي، ورجاف الطائي ابنا الخالة، وعلى البصرة سمرة بن جندب وقتلوا بعض بني ضبة، فخرج عليهم شبان من بني علي وبني راسب فرموهم بالنبل، وقتل قريب وجاء عَبْد الله بن أوس الطائي برأسه، واشتد زياد في أمر الخوارج وسمرة وقتلوا منهم خلقاً. ثم خرج سنة إثنتين وخمسين على زياد بن حراش العجلي في ثلثمائة بالسواد فبعث إليهم زياد سعد بن حذيفة في خيل فقتلوهم، وخرج أيضا أصحاب المستورد حيان بن ضبيا ن ومعاذ من طيىء، فبعث إليهما من قتلهما وأصحابهما. وقيل بل استأمنوا وافترقوا. ثم اجتمع بالبصرة سنة ثمان وخمسين سبعون رجلاً من الخوارج من عَبْد
القيس، وبايعوا طواف بن على أن يفتكوا بابن زياد، وكان سبب ذلك أن ابن زياد حبس جماعة من الخوارج بالبصرة، وحملهم على قتل بعضهم بعضاً وخلى سبيل القاتلين ففعلوا وأطلقهم، وكان منهم طواف. ثم ندموا وعرضوا على أولياء المقتولين القود والدية فأبوا، وأفتاهم بعض علماء الخوارج بالجهاد لقوله تعالى: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنواؤ} الآية، فاجتمعوا للخروج كما قلنا. وسعى بهم إلى ابن زياد، فاستعجلوا الخروج وقتلوا رجلاً ومضوا إلى الجلحاء كما قلنا. فندب ابن زياد الشرط والمحاربة فقاتلوهم. فانهزم الشرط أولاً ثم كثرهم الناس فقتلوا عن آخرهم، واشتد ابن زياد على الخوارج، وقتل منهم جماعة كثيرة، منهم عروة بن أدية أخو مرداس وأدية أمهما، وأبوهما جرير بن تميم.
وكان وقف على ابن زياد يوماً يعظه فقال: أتبنون بكل ريع آية تعبثون الآيات؟. فظن ابن زياد أن معه غيره، فأخذه وقطعه وقتل إبنيه. وكان أخوه مرداس من عظمائهم وعبادهم، وممن شهد النهروان بالاستعراض. ويحرم خروج النساء، ولا يرى بقتال من لا يقاتله. وكانت امرأته من العابدات من بني يربوع وأخذها ابن زياد فقطعها. وألح ابن زياد في طلب الخوارج وقتلهم، وخلى سبيل مرداس من بينهم لمّا وصف له من عبادته، ثم خاف فخرج إلى الأهواز. وكان يأخذ مال المسلمين إذا مرّ به، فيعطي منه أصحابه وبرد الباقي. وبعث ابن زياد إليهم أسلم بن زرعة الكلابي في ألفي رجل، ودعاهم إلى معاودة الجماعة فأبوا وقاتلوهم، فهزموا أسلم وأصحابه. فسرح إليهم ابن زياد عباد بن علقمة المازني ولحقهم بتوج وهم يصلون، فقتلهم أجمعين ما بين راجع وساجد لم يتغيروا عن حالهم. ورجع إلى البصرة برأس أبي بلال مرداس، فرصده عبيدة بن هلال في ثلاثة نفر عند قصر الإمارة ليستفتيه فقتلوه، واجتمع عليهم الناس فقتلوا منهم. وكان على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فأمره زياد بتتبع الخوارج إلى أن تقدم فحبسهم، وأخذ الكفلاء على بعضهم، وأتى بعروة بن أدية فقال: أنا كفيلك وأطلقه. ولما جاء ابن زياد قتل المحبوسين منهم والمكفولين، وطالب ابن أبي بكرة بعروة بن أدبة، فبحث عنه حتى ظفر به، وجاء به إلى ابن زياد فقطعه وصلبه سنة ثمان وخمسين. ثم مات يزيد واستفحل أمر ابن الزبير بمكة، وكان الخوارج لمّا اشتدّّذ عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال مرداس أشار عليهم نافع بن الأزرق منهم باللحاق بابن الزبير، لجهاد عساكر يزيد، لمّا ساروا إليه قالوا: وإن لم يكن على رأينا داحضاً عن البيت، وقاموا يقاتلون معه فلما مات يزيد وانصرفت العساكر كشفوا عن رأي ابن الزبير فيهم، وجاؤه يرمون من عثمان ويتبرؤن منه فصرح بمخالفتهم. وقال بعد خطبة طويلة أثنى فيها على الشيخين وعلي وعثمان، واعتذر عنه فيما يزعمون وقال: أشهدكم ومن حضرني أني ولي لابن عفان وعدو لأعدائه، قالوا: فبرىء الله منك قال بل برىء الله منكم ! فافترقوا عنه. وأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد الله بن صفار السعدي، وعبد الله بن أباض وحنظلة بن بيهس، وبنو الماخور: عَبْد الله وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع وكلهم من تميم، حى أتوا البصرة. وانطلق أبو طالوت عن بني بكر بن وائل، وأبو فديك عَبْد الله بن نور بن قيس بن ثعلبة بن الأسود اليشكري إلى اليمامة، فوثبوا بها مع أبي طالوت. ثم تركوه ومالوا عنه إلى نجدة بن عامر الحنفي. ومن هنا افترقت الخوارج على أربع فرق: الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان رأيه البراءة من سائر المسلمين وتكفيرهم، والاستعراض وقتل الأطفال واستحلال الأمانة لأنه يراهم كفاراً. والفرقة الثانية النجدية وهم بخلاف الأزارقة في ذلك كله. والفرقة الثالثة الإباضية أصحاب عَبْد الله بن إباض المري، وهم يرون أن المسلمين كلهم يحكم لهم بحكم المنافقين، فلا ينتهون إلى الرأي الأوّل، ولا يقفون عند الثاني، ولا يحرمون مناكحة المسلمين ولا موارثتهم، ولا المنافقين فيهم، وهم عندهم كالمنافقين، وقول هؤلاء أقرب إلى السنة. ومن هؤلاء البيهسية أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعي. والفرقة الرابعة الصفرية وهم موافقون للإباضية إلا في العقدة، فإن الإباضية أشد على العقدة منهم.وربما اختلفت هذه الآراء من بعد ذلك، واختلف في تسمية الصفرية، ففيل نسبوا إلى ابن صفار وقيل اصفروا بما نهكتهم العبادة. وكانت الخوارج من قبل هذا الافتراق على رأي واحد لا يختلفون إلا في الشاذ من الفروع. وفي أصل اختلافهم هذا مكاتبات بين نافع بن الأزرق وأبي بيهس وعبد الله بن إباض ذكرها المبرد في كتاب الكامل فلينظر هناك.(ولما جاء نافع) إلى نواحي البصرة سنة أربع وستين، فأقام بالأهواز يعترض الناس، وكان على البصرة عَبْد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عَبْد المطلب. فسرح إليه مسلم عبس بن كويز بن ربيعة من أهل البصرة بإشارة الأحنف بن قيس، فدافعه عن نواحي البصرة وقاتله بالأهواز، وعلى ميمنة مسلم الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر العداني. وعلى ميمنة ابن الأزرق عبيدة بن هلال، وعلى ميسرته الزبير بن الماخور التميمي. فقتل مسلم، ثم قتل نافع، وأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب، والخوارج عَبْد الله بن الماخور. ثم قتل الحجاج وعبد الله، فأمر أهل البصرة ربيعة بن الأخدم، والخوارج عبيد الله بن الماخور. ثم اقتتلوا حتى أمسوا، وجاء إلى الخوارج مدد فحملوا على أهل البصرة فهزموهم. وقتل ربيعة وولوا مكانه حارثة بن بدر، فقاتل وردهم على الأعقاب ونزل الأهواز. ثم عزل عن البصرة عَبْد الله بن الحرث، وبعث ابن الزبير عليها الحرث القباع بن أبي ربيعة، فزحف الخوارج إلى البصرة وأشار الأحنف بن قيس بتولية المهلب حروبهم، وقد كان ابن الزبير ولاه خراسان، فكتبوا لابن الزبير بذلك فأجاب. واشترطوا للمسلم ما سأل من ولاية ما غلب عليه، والإعانة بالأموال، فاختار من الجند إثني عشر ألفاً، وسار إليهم فدفعهم عن الجسر. وجاء حارثة بن بدر بمن كان معه في قتال الخوارج، فردهم الحرث إلى المهلب. وركب حارثة البحر يريد البصرة فغرق في النهر. وسار المهلب وعلى مقدمته إبنه المغيرة فقاتلهم المقدمة ودفعوهم عن سوق الأهواز إلى مادر. ونزل المهلب بسولاف، وقاتله الخوارج وصدقوا الحملة، فكشفوا أصحاب المهلب. ثم ترك من الغد قتالهم وقطع دجيل ونزل العقيل، ثم ارتحل فنزل قريباً منهم، وخندق عليه وأذكى العيون والحرس.وجاء منهم عبيدة بن هلال والزبير بن الماخور في بعض الليالي ليبيتوا عسكر المهلب فوجدوهم حذرين. وخرج إليهم المهلب من الغد في تعبية، والأزد وتميم في ميمنته، وبكر وعبد القيس في ميسرته، وأهل العالية في القلب. وعلى ميمنة الخوارج عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماخور، واقتتلوا ونزل الصبر. ثم، شدوا على الناس فأجفل عسكر المهلب وانهزم، وسبق المنهزمين إلى ربوة ونادى فيهم، فاجتمع له ثلاثة آلاف أكثرهم من الأزد فرجع بهم وقصد عسكر الخوارج، واشتد قتالهم ورموهم بالحجارة، وقتل عَبْد الله بن الماخور وكثير منهم وانكفؤا راجعين إلى كرمان وناحية أصبهان منهزمين، واستخلفوا عليهم الزبير بن الماخور، وأقام المهلب بمكانه حتى جاء مصعب بن الزبير أميراً على البصرة وعزل المهلب.
( وأمَّا نجدة) وهو نجدة بن عامر بن عَبْد الله بن سيار بن مفرج الحنفي، وكان مع نافع بن الأزرق. فلما افترقوا سار إلى اليمامة ودعا أبو طالوت إلى نفسه، وهو من بكر بن وائل، وتابعه نجدة ونهب الحضارم بلد بني حنيفة، وكان فيها رقيق كثير يناهز أربعة آلاف، فقسمها في أصحابه، وذلك سنة خمس وستين. واعترض عيراً من البحرين جاءت لابن الزبير، فأخذها وجاء بها إلى أبي طالوت، فقسمها بين أصحابه. ثم رأى الخوارج أن نجدة خير لهم من أبي طالوت، فخالفوه وبايعوا نجدة. وسار إلى بني كعب بن ربيعة فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع نجدة إلى اليمامة في ثلاثة آلاف، ثم سار إلى البحرين سنة سبع وستين، فاجتمع أهل البحرين من عَبْد القيس وغيرهم على محاربته. وسالمته الأزد والتقوا بالعطيف، فانهزمت عَبْد القيس، وأثخن فيهم نجدة وأصحابه، وأرسل سرية إلى الخط فظفروا بأهله. ولما قدم مصعب بن الزبير البصرة سنة تسع وستين، بعث عَبْد الله بن عمر الليثي الأعور في عشرين ألفاً، ونجدة بالعطيف فقاتلوهم، وهزمهم نجدة وغنم ما في عسكرهم. وبعث عطية بن الأسود الحنفي من الخوارج إلى عمان، وبها عباد بن عَبْد الله شيخ كبير، فقاتله عطية فقتله، وأقام أشهراً وسار عنها. واستخلف عليها بعض الخوارج، فقتله أهل عمان وولوا عليهم سعيداً وسليمان ابني عباد.ثم خالف عطية نجدة وجاء إلى عمان، فامتنعت منه. فركب البحر إلى كرمان، وأرسل إليه المهلب جيشاً فهرب إلى سجستان، ثم إلى السند، فقتله خيل المهلب بقندابيل. ثم بعث نجدة المعرفين إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير، فقاتلوا بني تميم بكاظمة وأعانهم أهل طويلع، فبعث نجدة من استباحهم وأخذ منهم الصدقة كرهاً. ثم سار إلى صنعاء فبايعوه وأخذ الصدقة من مخالفيها. ثم بعث أبا فديك إلى حضرموت، فأخذ الصدقة منهم. وحج سنة ثمان وستين في تسعمائة رجل، وقيل في ألفين، ووقف ناحية عن ابن الزبير على صلح عقد بينهما.ثم سار نجدة إلى المدينة وتأهبوا لقتاله، فرجع إلى الطائف وأصاب بنتاً لعبد الله بن عمر بن عثمان، فضمها إليه. وامتحنه الخوارج بسؤاله بيعها فقال: قد أعتقت نصيبي منها. قالوا: فزوجها، قال: هي أملك بنفسها، وقد كرهت الزواج. ولما قرب من الطائف جاءه عاصم بن عروة بن مسعود فبايعه عن قومه، وولىّ عليهم الخازرق، وعلى يبانة والسراة. وولىّ على ما يلي نجران سعد الطلائع، ورجع إلى البحرين، وقطع الميرة عن الحرمين. وكتب إليه ابن عباس أو ثمامة بن أثاك لمّا أسلم قطع الميرة عن مكة وهم مشركون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة فخلاها لهم، وانك قطعت الميرة ونحن مسلمون، فخلاها لهم نجدة.ثم اختلف إليه أصحابه لأن أبا سنان حيي بن وائل أشار عليه بقتل من أطاعه تقية، فانتهره نجدة وقال: إنما علينا أن نحكم بالظاهر. وأغضبه عطية في منازعة جرت بينهما على تفضيله لسرية البرّ على سرية البحر في الغنيمة، فشتمه نجدة فغضب. وسأله في درء الحدّ في الخمر عن رجل من شجعانهم، فأبى. وكاتبه عَبْد الملك في الطاعة على أن يوليه اليمامة، ويهدر لهم ما أصاب من الدماء. فاتهموه في هذه المكاتبة ونقموا عليه أمثال هذه، وفارقه عطية إلى عمان. ثم انحازوا عنه وولوا أمرهم أبو فديك عَبْد الله بن ثور أحد بني قيس بن ثعلبة. واستخفى نجدة، وألح أبو فديك في طلبه، وكان مستخفياً في قرية من قرى حجر. ثم نذر به فذهب إلى أخواله من تميم، وأجمع المسير إلى عَبْد الملك، فعلم به أبو فديك، وجاءت سرية منهم وقاتلهم فقتلوه. وسخط قتله جماعة من أصحاب أبي فديك، واعتمده مسلم بن جبير فطعنه إثنتي عشرة طعنة، وقتل مسلم لوقته، وحمل أبو فديك إلى منزله،ثم جاء مصعب إلى البصرة سنة ثمان وستين والياً على العراقين عن أخيه، وكان المهلب في حرب الأزارقة فأراد مصعب أن يوليه بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية، ليكون بينه وبين عَبْد الملك. فاستقدمه من فارس وولاّه، وولىّ على فارس وحرب الأزارقة عمر بن عَبْد الله بن معمر. وكان الخوارج قد ولوّا عليهم بعد قتل عَبْد الله بن الماخور سنة خمس وستين أخاه الزبير، فجاؤا به إلى إصطخر، وقدم عمر ابنه عبيد الله إليهم فقتلوه، ثم قاتل الزبير عمر فهزمهم وقتل منهم سبعون. وفلق قطري بن الفجاءة، وشتر صالح بن مخراق، وساروا إلى نيسابور فقاتلهم عمر بها وهزمهم، فقصدوا أصبهان فاستحموا بها. ثم أقبلوا إلى فارس وتجنبوا عسكر عمر، ومروا على ساجور ثم أرجان، فأتوا الأهواز قاصدين العراق. وأغذ عمر السير في أثرهم، وعسكر مصعب عند الجسر. فسار الزبير والخوارج، فقطع أرض صرصر، وشن الغارة على أهل المدائن يقتلون الولد ان، والرجال ويبقرون بطون الحبالىوهرب صاحب المدائن عنها، وانتهت جماعة منهم إلى الكرخ، فقاتلهم أبو بكر بن مخنف فقتلوه، وخرج أمير الكوفة وهو الحرث بن أبي ربيعة القباع حتى انتهى إلى الصراة، ومعه إبراهيم بن الأشتر، وشبيب بن ربعي، وأسماء بن خارجة، ويزيد بن الحرث، ومحمد بن عمير، وأشاروا عليه بعقد الجسر والعبور إليهم، فانهزموا إلى المدائن. وأمر الحرث عَبْد الرحمن بن مخنف باتباعهم في ستة آلاف إلى حدود أرض الكوفة، فانتهوا إلى الري وعليها يزيد بن الحرث بن دويم الشيباني، وما والاهم عليه أهل الري، فهزموه وقتلوه. ثم انحطوا إلى أصبهان وبها عتاب بن ورقاء، فحاصروه أشهراً، وكان يقاتلهم على باب المدينة.ثم دعا إلى الاستماتة في قتالهم، فخرجوا وقاتلوهم، وانهزمت الخوارج، وقتل الزبير واحتووا على معسكرهم. ثم بايع الخوارج قطري بن الفجاءة المازني ويكنى أبا نعامة، وارتحل بهم إلى كرمان حتى استجمعوا فرجعوا إلى أصبهان فامتنعت، فأتوا الأهواز وقاموا. وبعث مصعب إلى المهلب فرده إلى قتال الخوارج، وولى على الموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب فانتجعت الناس من البصرة، وسار إلى الخوارج فلقيهم بسولاف. واقتتلوا ثمانية أشهر، وبعث مصعب إلى عتاب بن ورقاء الرباحي عامل أصبهان بقتال أهل الري بما فعله في ابن دويم، فسار إليهم وعليهم الفرخان فقاتلهم وافتتحها عنوة وقلاعها وعاث في نواحيها.
خبر ابن الحر ومقتله:
كان عبيد الله بن الحمر الجعفي من خيار قومه صلاحاً وفضلاً، ولما قتل عثمان حزن عليه، وكان مع معاوية على علي، وكانت له زوجة بالكوفة فتزوجت لطول مغيبه. فأقبل من الشام وخاصم زوجها إلى علي، فعدد عليه شهوده صفين. فقال: أيمنعني ذلك من عدلك؟ قال: لا. ورد إليه امرأته. فرجع إلى الشام وجاء إلى الكوفة بعد مقتل علي، ولقي إخوانه وتفاوضوا في النكير على علي ومعاوية. ولما قتل الحسين تغيب على ملحمته، وسأل عنه ابن زياد فلم يره. ثم لقيه فأساء عذله، وعرض له بالكون مع عدوه، فأنكر وخرج مغضباً. وراجح ابن زياد رأيه في فطلبه فلم يجده، فبعث عنه فامتنع وقال: أبلغوه أنى لا آتيه طائعاً أبدا وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي، فاجتمع اليه أصحابه، وخرج إلى المدائن، ومضى لمصارع الحسين وأصحابه فاستغفر لهم، ولما مات يزيد و وقعت الفتنه اجتمع إليه أصحابه، وخرج بنواحى، المدائن، ولم يعترض للقتل ولا للمال، إنما كان يأخذ مال السلطان متى لقيه، فيأخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويرد الباقي، ويأخذ لصاحب المال بما أخذ.وحبس المختار إمرأته بالكوفة، وجاء فأخرجها من الحبس، وأخرج كل من فيه. وأراد المختار أن يسطو به، فمنعه إبراهيم بن الأشتر إلى الموصل لقتال ابن زياد. ثم فارقه ولم يشهد معه، وشهد مع مصعب قتال المختار وقتله. ثم أغرى به مصعب فحبسه، وشفع فيه رجال من وجوه مذحج فشفعهم وأطلقه، وأتى إليه الناس يهنؤونه. فصرخ بأن أحداً لا يستحق بعد الأربعة، ولا يحل أن يعقد لهم بيعة في أعناقنا، فليس لهم علينا من الفضل ما يستحقون به ذلك، وكلهم عاصٍ مخالف، قوي الدنيا ضعيف الآخرة، ونحن أصحاب الأيام مع فارس، ثم لا يعرف حقناً وفضلنا، وإني قد أظهرت لهم العداوة. وخرج للحرب فأغار، فبعث إليه مصب سيف بن هانىء المرادي يعرض عليه الطاعة على أن يعطيه قطعة من بلاد فارس، فأبى فسرح إليه الأبرد بن فروة الرباحيّ في عسكر، فهزمه عبيد الله، فبعث إليه حريث بن زيد فهزمه فقتله، فبعث إليه الحجّاج بن حارثة الخثعمي ومسلم بن عمر فقاتلهما بنهر صرصر وهزمهما، فأرسل إليه مصعب بالأمان والولاية فلم يقبل. وأتى إلى فرس فهرب دهقانها بالمال، وتبعه ابن الحر إلى عين النمر وعليه بسطام بن معلقة بن هبيرة الشيبانى، فقاتل عبيد الله. ووافاهم الحجّاج بن حارثة فهزمهما عبيد الله وأسرهما، وأخذ المال الذي مع الدهقان. وأقام بتكريت ليجبي الخراج، فسرح مصعب لقتاله الأبرد بن فروة الرباحي، والجون بن كعب الهمداني في ألف وأمدهم المهلّب بيزيد بن المعقل في خمسمائة، وقاتلهم عبيد الله يومين في ثلاثمائة. ثم تحاجزوا وقال لأصحابه إني سائر بكم إلى عَبْد الملك فتجهزوا! ثم قال: إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعباً، وقصد الكوفة وجاءته العساكر من كل جهة. ولم يزل يهزمهم ويقتل منهم بنواحي الكوفة والمدائن. وأقام يغير بالسواد ويجبي الخراج. ثم لحق بعبد الملك فأكرمه وأجلسه معه على سريره، وأعطاه مائة ألف درهم، وقسّم في أصحابه الأعطيات، وسأل من عَبْد الملك أن يوجّه معه عسكراً لقتال مصعب فقال: سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال، فسار نحو الكوفة ونزل بناحية الأنبار، وأذن لأصحابه في إتيان الكوفة ليخبروا أصحابه بقدومه. وبعث الحارث بن أبي ربيعة إليه جيشاً كثيفاً، فقاتلهم وتفرّق عنه أصحابه، وأثخنه الجراح فخاض البحر إلى سفينة فركبها حتى توسط الفرات، فأشرفت خيالة على السفينة وتبادروا به، فقام يمشي في البحر فتعلقوا به فألقى نفسه في الماء مع بعضهم فغرّقوه.
حروب الخوارج مع عَبْد الملك والحجاج :
ولما استمر عَبْد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب بعث على البصرة خالد بن عَبْد الله، وكان المهلّب يحارب الأزارقة، فولاه على خراج الأهواز. وبعث أخاه عَبْد العزيز بن عَبْد إلى قتال الخوارج، ومعه مقاتل بن مسمع، وأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى دارابجرد، وبعث قطري بن الفجاءة صالح بن مخراق في تسعمائة، فاستقبل عَبْد العزيز ليلاً على غير تعبية فانهزم. وقتل مقاتل بن مسمع وأسرت بنت المنذر بن الجارود امرأة عَبْد العزيز، فقتلها الخوارج. وتغير عَبْد العزيز إلى رامهرمز. وكتب خالد بالخبر إلى عَبْد الملك فكب إليه ، على ولاية أخيه الحرب وولاية المهلب جباية الخراج، وأمره بأن يسرح المهلب بحربهم. وكتب إلى بشر بالكوفة بإمداده بخمسة آلاف مع من يرضاه، فإذا فرغوا من قتال الخوارج ساروا إلى الري فكانوا هنالك مسلحة، فأنفذ بشر العسكر وعليهم عَبْد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكتب له عهده على الري، وخرج خالد بأهل البصرة، ومعه المهلّب واجتمعوا بالأهواز. وجاءت الأزارقة فأحرقوا السفن. ومر المهلّب بعبد الرحمن بن الأشعث وأمره أن يخندق عليه، وأقاموا كذلك عشرين ليلة. ثم زحف الخوارج بالناس، فهال الخوارج كثرتهم وانصرفوا. وبعث خالد داود بن قحدم في اثارهم، وانصرف إلى البصرة، وكتب بالخبر إلى عَبْد الملك. فكتب إلى أخيه بشر أن يبعث أربعة آلاف من أهل الكوفة إلى فارس ويلحقوا بداود بن قحدم في طلب الأزارقة. فبعث بهم بشر بن عتاب، ولحقوا بداود واتبعوا الخوارج حتى أصابهم الجهد، ورجع عامتهم مشاة إلى الأهواز.
(ثم خرج أبو فديك) من بني قيس بن ثعلب، فغلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحنفي كما مر. وهزم خالدا فكتب إلى عَبْد الملك بذلك، وأمر عَبْد الملك عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة، ويسير لقتال أبي فديك. فانتدب معه عشرة آلاف، وسار بهم وأهل الكوفة على ميمنته عليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة في ميسرته عليهم عمر بن موسى أخيه، وهو في القلب. وانتهوا إلى البحرين، واصطفوا للقتال، وحملوا على أبي فديك وأصحابه،
فكشفوا ميسرته حتى أبعدوا إلا المغيرة بن المهلب ومجاعة وعبد الرحمن وفرسان الناس، فإنهم مالوا إلى أهل الكوفة بالميمنة ورجع أهل الميسرة. وحمل أهل الميمنة على الخوارج فهزموهم واستباحوا عسكرهم، وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر حتى نزلوا على الحكم، فقتل منهم ستة آلاف وأسر ثمانمائة، وذلك سنة ثلاث وسبعين. ثم ولى عَبْد الملك أخاه بشراً على البصرة، فسار إليها، وأمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة، وأن ينتخب من أهل البصرة من أراد، ويتركه ورأيه في الحرب، ويمده بعسكر كثيف من أهل الكوفة مع رجل معروف بالنجدة. فبعث المهلب لانتخاب الناس جديع بن سعيد بن قبيصة، وشق على بشر ولاية المهلب من عَبْد الملك وأوغرت صدره. فبعث على عسكر الكوفة عَبْد الرحمن بن مخنف، وأغراه بالمهلب في ترك مشورته، وتنغصه. وسار المهلب إلى رامهرمز
وبها الخوارج، وأقبل ابن مخنف في أهل الكوفة، فنزل على ميل منه بحيث يتراءى العسكران. ثم أتاهم نبأ بشر بن مروان، وأنه استخلف خالد بن عَبْد الله بن خالد على البصرة، وخليفته على الكوفة عمر بن حريث، فافترق ناس كثيرة من أهل البصرة وأهل الكوفة فنزلوا الأهواز، وكتب إليهم خالد بن عَبْد الله يتهددهم فلم يلتفتوا إليه. وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة، وكتب إليهم عمر بن حريث بالنكير والعود إلى المهلب، ومنعهم الدخول فدخلوا ليلاً إلى بيوتهم.
(ثم قدم الحجاج) أميرأ على العراقين سنة خمس وسبعين، فخطب بالكوفة خطبته المعروفة كان منها: "ولقد بلغني رفضكم المهلّب وإقبالكم إلى مصركم عاصين مخالفين، وأيم الله لا أجد أحداً متخلفاً عن عسكره بعد ثلاثة إلا ضربت عنقه، وأنهب داره". ثم دعا العرفاء وقال: ألحقوا الناس بالمهلّب وأتوني بالبراءة بموافاتهم، ولا تغلقن أبواب الجسر. ووجد عمر بى ضابىء من المتخلفين، وأخبر أنه من قتلة عثمان فقتله. فأخرج جند المهلب وازدحموا على الجسر، وجاء العرفاء إلى المهلب برامهرمز. فأخذوا كتابه بموافاة الناس، وأمرهم الحجّاج بمناهضة الخوارج، فقاتلوهم شيئاً ثم انزاحوا إلى كازرون، وسار المهلّب وابن مخنف فنزلوا بهم. وخندق المهلب ولم يخندق ابن مخنف، ويتهم الخوارج فوجدوا المهلب حذراً، فمالوا إلى ابن مخنف فانهزم عنه أصحابه وقاتل حتى قتل. وفي حديث أهل الكوفة أنهم لمّا ناهضوا الخوارج مالوا إلى المهلب واضطروه إلى معسكره، وأمده عَبْد الرحمن بعامة عسكره وبقي في خفّ من الجند. فمال إليه الخوارج، فنزل ونزل معه القراء وواحد وسبعون من أصحابه فقتلوا، وجاء المهلب من الغد فدفنه وصلى عليه، وكتب بالخبر إلى الحجّاج، فبعث على معسكره عتاب بن ورقاء وأمره بطاعة المهلب، فأجاب لذلك وفي نفسه منه شيء، وعاتبه المهلب يوماً ورفع إليه القضيب، فرده إبنه المغيرة عن ذلك. وكتب عتاب يشكو المهلب إلى الحجّاج ويسأله العود، وصادف ذلك أمر شبيب فاستقدمه وبقي المهلب.
حروب الصفرية وشبيب مع الحجاج:
ثم خرج صالح بن مسرح التميمي من بني امرىء القيس بن زيد مناة وكان يرى رأي الصغرية، وكان عابداً ومسكنه أرض الموصل والجزيرة، وله أصحاب يقرئهم القرآن والفقه. وكان يأتي الكوفة ويلقى أصحابه، ويعد ما يحتاج إليه. فطلبه الحجاج فترك الكوفة، وجاء إلى أصحابه بالموصل، ودار فدعاهم إلى الخروج وحثه عليه. وجاءه كتاب شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني من رؤوسهم يحثه على مثل ذلك. فكتب إليه: إني في انتظارك فأقدم. فقدم شبيب في نفر من أصحابه منهم أخوه المضاد، والمحلل بن وائل اليشكري ولقيه بدارا، وأجمع صالح الخروج. وبعث إلى أصحابه وخرجوا في صفر سنة ست وسبعين. وأمر بالدعاء قبل القتال وخير في الدماء والأموال. وعرضت له دواب لمحمد بن مروان بالجزيرة، فأخذوها وحملوا عليها أصحابهم. وبلغ محمد بن مروان وهو أمير الجزيرة خروجهم، فسرح إليهم عدي بن عدي الكندي في ألف، فسار من حّران، وكان ناسكاً فكره حروبهم، وبعث إليهم بالخروج، فحبسوا الرسول. فساروا إليه فطلعوا عليه وهو يصلي الضحى، وشبيب في الميمنة، وسويد بن سليم في الميسرة. وركب عدي على غير تعبية فانهزم، واحتوى الخوارج على معسكره ومضوا إلى آمد. وسرح محمد بن مروان خالد بن حر السلمي في ألف وخمسمائة، والحرث بن جعونة العامري في مثلها وقال : أيكما سبق فهو أمير على صاحبه.
وبعث صالح شبيباً إلى الحرث، وتوجه هو نحو خالد وقاتلوهم أشد القتال. واعتصم أصحاب محمد بخندقهم، فسارت الخوارج عنهم، وقطعوا أرض الجزيرة والموصل إلى الدسكرة. فسرح إليهم الحجّاج الحرث بن عميرة بن ذي الشعار في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة، فلقيهم على تخم ما بين الموصل وصرصر، والخوارج في تسعين رجلاً. فانهزم سويد بن سليم، وقتل صالح، وصرع شبيب. ثم وقف على صالح قتيلاً فنادى بالمسلمين فلاذوا به، ودخلوا حصناً هنالك، وهم سبعون. وعاث الحرث بهم وأحرق عليهم الباب، ورجع حتى يصبحهم من الغداة. فقال لهم شبيب. بايعوا من شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا إليهم. فبايعوه وأطفؤوا النار بالماء في اللبود، وخرجوا إليه فبيتوا، وسرح الحرث فحملوا على أصحابه وانهزموا نحو المدائن، وحوى شبيب عسكرهم.
وسار شبيب إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سنان التميمي من تميم شيبان، أوخاه فضالة من أكابر الخوارج. وكان خرج قبل صالح في ثمانية عشر رجلاً ونزل على ماء لبني عنزة فقتلوهم وأتوا برؤوسهم إلى عَبْد الملك يتقربون له بهم. فلما دعا شبيب سلامة إلى الخروج شرط عليه أن ينتخب ثلاثين فارساً ويسير بهم إلى عنزة. فيثأر منهم بأخيه، فقبل شرطه. وسار إلى عنزة فأثخن فيهم، وجعل يقتل الحلة بعد الحلة. ثم أقبل شبيب إلى داران في نحو سبعين رجلاً ففرت منهم طائفة من بني شيبان نحو ثلاثة آلاف، فنزلوا ديراً خراباً وامتنعوا منه وسار في بعض حاجاته، واستخلف أخاه مضاد بن يزيد بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين، فقتل منهم ثلاثين شيخاً، فيهم حوثرة بن أسد. وأشرف بنو شيبان على مضاد وأصحابه، وسألوا الأمان ليخرجوا إليهم ويسمعوا دعوتهم فأخرجوا وقبلوا، ونزلوا إليهم واجتمعوا بهم. وجاء شبيب فاستصوب فعلهم. وصار بطائفة نحوأذربيجان.
وكان الحجّاج قد بعث سفيان بن أبي العالية الخثعمي إلى طبرستان يحاصرها في ألف فارس، وكتب إليه الحجّاج أن يرجع. فصالح أهل طبرستان، ورجع فأقام بالدسكرة يطلب المدد، وبعث الحجّاج أيضاً إلى الحرث بن عميرة الهمداني قاتل صالح أن يأتيه بجيش الكوفة والمدائن، وإلى سورة ابن أبجر التميمي في خيل المناظر. ويعجل سفيان في طلب شبيب، فلحقه بخانقين، فاستطردهم وأكمن كميناً لهم مع أخيه، واتبعوه في سفح الجبل فخرج عليهم الكمين فانهزموا بغير قتال، وثبت سفيان وقاتل. ثم حمل شبيب فانكشف ونجا إلى بابل مهرود، وكتب إلى الحجّاج بالخبر وبوصول العساكر إلا سورة بن أبجر. فكتب الحجّاج إلى سورة يتهدده ويأمره أن يتخذ من المدائن خمسمائة فارس، ويسير إلى شبيب فسار. وانتهى شبيب إلى المدائن ثم إلى الهندوان، فترحم على أصحابه هنالك. وبيتهم سورة هنالك وهم حذرون فلم يصب منهم الغرة. ورجع نحو المدائن وشبيب في اتباعه.
وخرج ابن أبي العصغي عامل المدائن فقاتلهم، وهرب كثير من جنده إلى الكوفة، ومضى شبيب إلى تكريت. ووصل سورة إلى الكوفة بالغل، فحبسه الحجّاج ثم أطلقه. وسرح عثمان بن سعيد بن شرحيل الكندي ويلقب الجزل، في أربعة آلاف ليس فيهم من المنهزمين أحد، وساروا لحرب شبيب وأصحابه. وقدم بين يديه عياض بن أبي لبنة الكندي وجعلوا يتبعون شبيباً من رستاق إلى رستاق وهو على غير تعبية، والجزل على التعبية، ويخندق على نفسه متى نزل. وطال ذلك على شبيب، وكان في مائة وستين، فقسمه على أربع فرق وثبت الجزل ومشايخه فلم يصب منهم فرجع عنهم. ثم صحبهم ثانية فلم يظفر منهم بشيء.
وسار الجزل في التعبية كما كان وشبيب يسير في أرض الخوارج وغيرها يكسب الخراج وكتب الحجاج إلى الجزل ينكر عليه البطء ، ويأمره بالمناهضة. وبعث سعيد بن المجالدي على جيش الجزل فجاءهم بالهندوان ووبخهم وعجزهم. وجاءهم الخبر بأن شبيباً قد دخل قطيطيا والدهقان يصلح لهم الغداء، فنهض سعيد في الناس وترك الجزل مع العسكر وقد صف بهم خارج الخندق. وجاء سعيد إلى قطيطيا وعلم به شبيب، فأكل وتوضأ وصلى. وخرج فحمل على سعيد وأصحابه مستعرضاً فانهزموا وثبت سعيد فقتله وسار في اتباعهم إلى الجزل، فقاتلهم الجزل حتى وقع بين القتلى جريحاً. وكتب إلى الحجّاج بالخبر وأقام بالمدائن. وانتهى شبيب إلى الكرخ وعبر دجلة إليه، وأرسل إلى سوق بغداد فأتاهم في يوم سوقهم
واشترى منه حاجاته، وسار إلى الكوفة فلما قرب منها بعث الحجّاج سويد بن عَبْد الرحمن السعدي في ألفي رجل، فساروا إلى شبيب. وأمر عثمان بن قطن فعسكر في السبخة. وخالفه شبيب إلى أهل السبخة فقاتلوه. وجاء سويد في آثاره فمضى نحو الحيرة وسويد في إتباعه. ثم رحل من الحيرة وجاء كتاب الحجّاج إلى سويد يأمره باتباعه. فمضى في إتيانه وشبيب يغير في طريقه. وأخذ على القطقطاتة، ثم على قصر بني مقاتل، ثم على الأنبار ثم ارتفع على أدنى أذربيجان- ولما أبعد سار الحجّاج إلى البصرة، واستعمل على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فجاءه كتاب دهقان بابل مهرود يخبره بقصد شبيب الكوفة، فبعث بالكتاب إلى الحجّاج.
وأقبل شبيب حتى نزل عَقَرقوبا، ونزل وسار منها يسابق الحجاج إلى الكوفة. وطوى الحجّاج المنازل فوصل الكوفة عند العصر ووصل شبيب عند المغرب. فأراح وطعموا، ثم ركبوا ودخلوا إلى السوق. وضرب شبيب القصر بعموده. ثم اقتحموا المسجد الأعظم فقتلوا فيه من الصالحين، ومروا بدار صاحب الشرطة فدعوه إلى الأمير ونكرهم، فقتلوا غلامه. ومروا بمسجد بني ذهل فقتلوا ذهل بن الحرث، وكان يطيل الصلاة فيه. ثم خرجوا من الكوفة واستقبلهم النضر بن القعقاع بن شور الذهلي، وكان ممن أقبل مع الحجّاج من البصرة، فتخفف عنه. فلما رآه قال: السلام عليك أيها الأمير، فقال له شبيب: قل أمير المؤمنين ويلك، فقالها. وأراد شبيب أن يلقنه للقرابة بينهما. وكان النضر ناحية بيت هانىء بن قبيصة الشيباني، فقال له: يا نضر لا حكم إلا لله، ففطن بهم وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وشدّ عليه أصحاب شبيب فقتلوه.ونادى منادي الحجّاج بالكوفة يا خيل الله اركبي وهو بباب القصر، وكان أول من أتاه عثمان بن قطن بن عَبْد الله بن الحسين ذي القصة. ثم جاء الناس من كل جانب، فبعث الحجّاج خالد بن الأسدي وزائدة بن قُدامة الثقفي وأبا الضريس مولى بني تميم، وعبد الأعلى بن عَبْد الله بن عامر، وزياد بن عَبْد الله العتكي في ألفين ألفين وقال: إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة. وبعث معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله من سجستان، وكان عَبْد الملك قد ولاّه عليها، وأمر الحجّاج أن
يجهزه ويبعثه في آلاف من الجنود إلى عمله، فجهّزه وحدث أمر شبيب. فقال له الحجّاج، تجاهد ويظهر إسمك ثم نمضي إلى عملك، فساروا جميعاً ونزلوا أسفل الفرات. وأخذ شبيب نحو القادسية وجرد الحجّاج ألفاً وثمانمائة من نقاوة الجند مع ذخر بن قبس، وأمره بمواقعة شبيب أينما أدركه، وإن ذهب فاتركه. فأدركه بالسلخين، وعطف عليه شبيب، فقاتل ذخر حتى صرع وفيه بضعة عشر جرحاً. وانهزم أصحابه يظنون أنه قتل. ثم أفاق من برد السحر، فدخل قرية وسار إلى الكوفة. ثم قصد شبيب وأعوانه وهم على أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة، فقال: إن هزمناهم فليس دون الحجاج والكوفة مانع. وانتهى إليهم وقد تعبوا للحرب وعلى الميمنة زياد بن عمر العتكي، وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير بمكانه. وعبى شبيب أصحابه ثلاثة كتائب، فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمر فانكشفوا، وثبت زياد قليلاً ثم حمل الثانية فانهزموا، وانهزم جريحاً عند المساء. ثم حملوا على عَبْد الأعلى بن عَبْد الله بن عامر فانهزم ولم يقاتل ولحق بزياد بن عمر، وحملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن طلحة عند الغروب، فقاتلوه وصبر لهم. ثم حمل مضاد أخو شبيب على بشر بن غالب في الميسرة فصبر ونزل في خمسين رجلاً فقاتلوه حتى قتلوا، وحملت الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم فهزموه حتى انتهى إلى أعين، ثم حملوا عليه وعلى أعين فهزموهما إلى زائدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه نادى نزال وقاتلهم إلى السحر، ثم حمل شبيب عليه فقتله وقتل أصحابه، ودخل أبو الضريس مع الفل إلى الجوسق بازائهم. ورفع الخوارج عنهم السيف ودعوهم إلى البيعة لشبيب عند الفجر فبايعوه، وكان فيمن بايعه أبو بردة وبقي محمد بن موسى لم ينهزم، فلما طلع الفجر سمع شبيب أذانهم وعلم مكانهم فأذن وصلّى، ثم حمل عليهم فانهزمت طائفة منهم وثبتت أخرى، وقاتل محمد حتى قتل. وأخذ الخوارج ما في العسكر وانهزم الذين بايعوا شبيباً فلم يبق منهم أحد، وجاء شبيب إلى الجوسق الذي فيه أعين وأبو الضريس فتحصنوا منه، فأقام يوماً عليهم وسار عنهم، وأراده أصحابه على الكوفة وإزاءهم خوخى فتركها وخرج على نفر. وسمع الحجّاج بذلك فظن أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة وأكثر السواد لها فهاله ذلك وبعث عثمان بن قطن أميراً على المدائن وخوخى والأنبار، وعزل منها عَبْد الله بن أبي عصيفير. وقيل في مقتل محمد بن موسى غير هذا وهو أنه كان شهد مع عمر بن عَبْد الله بن معمر قتال أبي فديك، فزوجه عمر ابنته وكانت أخته تحت عَبْد الملك، فولاّه سجستان فمر بالكوفة وقيل للحجّاج إن جاء إلى هذا أحد ممن تطلبه منعك منه، فمره بقتال شبيب في طريقه لعل الله يريحك منه، ففعل الحجّاج وعدل محمد إلى قتال شبيب، وبعث إليه لشيب بدهاء الحجّاج وخديعته إياه وأن يعدل عنه فأبى إلا شبيباً فبارزه وقتله شبيب، ولما انهزم الأمراء وقتل موسى بن محمد بن طلحة دعا الحجّاج عَبْد الرحمن بن الأشعث، وأمره أن ينتخب ستة آلاف فارس ويسير في طلب شبيب أين كان، فسار لذلك. ثم كتب إليه وإلى أصحابه يتهدّدهم إن انهزموا ومرّ ابن الأشعث بالمدائن وعاد الجزل من جراحته، فوصّاه وحذره وحمله على فرسه وكانت لا تجارى. وسار لشبيب على دقوقا وشهرزور، وابن الأشعث في إتباعه إلى أن وقف على أرض الموصل، وأقام يقاتله أهلها.فكتب إليه الحجاج: أمَّا بعد فاطلب شبيباً وأسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فاقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. فجعل ابن الأشعث يتبعه وشبيب يقصد به الأرض الخشنة الغليظة، وإذا دنا منه رجع يبيته فيجده على حذره حق أتعب الجيش وأحفى دوائهم ونزل بطن أرض الموصل، ليس بينه وبين سواد إلا نهر حولايا في دادان الأعلى من الأرض خوخى. ونزل عَبْد الرحمن في عواقيل النهر وكانت أيام النحر، وطلب شبيب الموادعة فيها فأجابه قصداً للمطاولة. وكتب عثمان بن قَطَن بذلك إلى الحجّاج فنكر، وبعث إلى عثمان بن قَطَن بإمارة العسكر وأمره بالمسير، وعزل عَبْد الرحمن بن الأشعث. وبعث على المدائن مُطَرَّف بن المغيرة مكان ابن قَطَن، وقدم ابن قَطَن على عسكر الكوفة عشية يوم التروية وناداهم إلى الحرب فاستمهلوه وأنزله عَبْد الرحمن بن الأشعث.وأصبحوا إلى القتال ثالث يومهم على تعبية، وفي الميمنة خالد بن نَهِيك بن قَيْس، وفي الميسرة عقيل بن شدّاد السَّلُوِليّ وابن قَطَن في الرجالة وعبر إليهم شبيب في مائة وثلاثين رجلاًَ فوقف في الميمنة وأخوه مضاد في القلب وسُوَيْد بن سليم في الميسرة، وحمل شبيب على ميسرة عثمان بن قَطَن فانهزموا، ونزل عَقِيل بن شدّاد فقاتل حتى قتل، وفتل معه مالك بن عَبْد الله الهَمْدَاني. وحمل سُوَيْد على ميمنة عثمان فهزمها، وقاتل خالد بن نَهِيك، فجاء شبيب من ورائه فقتله، وَتقدم عثمان إلى مضاد في القلب فاشتدّ القتال وحمل شبيب من وراء عثمان وعطف عليه سويد بن سليم ومضاد من القلب حتى أحاطوا به فقتلوه. وانهزمت العساكر ووقع عَبْد الرحمن بن الأشعث، فأتاه ابن أبي شَثْبَة الجُعْفي وهو على بغلة فأردفه ونادى في الناس باللحاق بدير أبي مريم.ورفع شبيب السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه، ولحق ابن الأشعث بالكوفة فاختفى حتى أمنه الحجّاج. ومضى شبيب إلى ماه نهرادان فأقام فيه فصل الصيف، فلحق به من كان للحجّاج عليه تبعة. ثم أقبل إلى المدائن في ثمانمائة رجل، وعليها مُطَّرف بن المُغِيَرة. وبلغ الخبر إلى الحجّاج فقام في الناس وتسخط وتوعد. فقال زُهْرَة بن حَوِيَّة وهو شيخ كبير لا يستطيع القيام إلا معتمداً: أنت تبعث الناس متقطعين فيصيبون منهم فاستنفر الناس جميعاً وابعث عليهم رجلاً شجاعاً مجّرباّ، يرى الفرار عاراّ والصبر مجداً وكرماً . فقال الحجّاج: أنت ذلك الرجل ! فقال: إنما يصلح من يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على الفرس، ولا أطيق من هذا شيئاً، وقد ضعف بصري، ولكن أكون مع أمير وأشير عليه. فقال له: جزاك الله خيراً عن الإِسلام وأهله أول أمرك وآخره.ثم قال للناس: سيروا فتجهّزوا بأجمعكم، فتجهزوا وكتب الحجّاج إلى عَبْد الملك بأن شبيباً شارف المدائن يريد الكوفة، وهم عاجزون عن قتاله بما هزم جندهم وقتل أمراءهم، ويستمده من جند الشام، فبعث إليه عَبْد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف، وحبيب بن عَبْد الرحمن الحكمي في ألفين، وذلك سنة ست وسبعين.
وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي يستقدمه من عند المهلب، وقد وقع بينهما كما مر فقدم عتاب وولاه على الجيش، فشكر زهرة بن حوية له وقال: رميتهم بحجرهم، والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. وبعث الحجاج إلى جند الشام يحذرهم البيات ويوصيهم
الاحتياط، وأن يأتوا على عين التمر. وعسكر عتاب بجماع أعين، ثم قطع شبيب دجلة إلى المدائن، وبعث إليه مطرف أن يأتيه رجال من وجوههم ينظر في دعوتهم، فرجاً منه وبعث إليه بغيث بن سويد في جماعة مكثوا عنده أربعاً ولم يرجعوا من مطرف بشيء ونزل عتاب الصراة وخرج مطرف إلى الجبال خوفاً أن يصل خبره مع شبيب إلى الحجاج. فخلا لهم الجو، وجاء مضاد إلى المدائن فعقد الجسر ونزل عتاب سوق حكم في خمسين ألفاً. وسار شبيب بأصحابه في ألف رجل، فصلى الظهر بساباط وأشرف على معسكر عتاب عند المغرب، وقد تخلف عنه أربعمائة من أصحابه، فصلى المغرب وعبى أصحابه ستمائة سويد بن سليم في مائتين في الميسرة، والمحفل بن وائل في مائتين في الميمنة، وهو في مائتين في القلب. وكان على ميمنة عتاب محمد بن عَبْد الرحمن بن سعيد، وعلى ميسرته نعيم بن عليم، وعلى الرجالة حنظلة بن الحرث اليربوعى وهو ابن عمه، وهم ثلاثة صفوف بين السيوف والرماح والرماة. ثم حرض الناس طويلاً وجلس في القلب ومعه زهرة بن مرتد، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي. وأقبل شبيب حين أضاء القمر بين العشاءين فحمل على الميسرة وفيها ربيعة فانفضوا وثبت قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم على رايتهم حتى قتلوا. ثم حمل شبيب على عتاب بن ورقاء وحمل سويد بن سليم على محمد بن سليم في الميمنة في تميم وهمذان. واشتد القتال وخالط شبيب القلب، وانفضوا وتركوا عتاباً وفر ابن الأشعث في ناس كثيرين، وقتل عتاب بن ورقاء وركب زهرة بن حوية فقاتل ساعة ثم طعنه عامر بن عمر الثعلبي من الخوارج، ووطأته الخيل فقتله الفضل بن عامر الشيباني منهم، ووقف عليه شبيب. وتوجع له ونكر الخوارج ذلك وقالوا أتتوجع لرجل كافر؟ فقال اعرف قديمه.
ثم رفع السيف عن الناس ودعا للبيعة فبايعوه وهربوا تحت ليلهم وحوى ما في العسكر، وأتاه أخوه من المدائن وأقام يومين. ثم سار نحو الكوفة، ولحق سفيان بن الأبرد وعسكر الشام بالحجاج، فاستغنى بهم عن أهل الكوفة واشتد بهم وخطب، فوبخ أهل الكوفة
المجلد الثالث من صفحة 198 -303
وعجزهم. وجاء شبيب فنزل حمام أعين، فسرح الحجاج إليه الحرث بن معاوية الثقفي في نحو ألف من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب، فبادر إليه شبيب فقتله، وانهزم أصحابه إلى الكوفة وأخرج الحجّاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك، وجاء شبيب فنزل السبخة ظاهر الكوفة، وبنى فيها مسجداً وسرح الحجاج مولاه أبا الورد في غلمان لقتاله، فحمل عليه شبيب وقتله يظنه الحجّاج. ثم أخرج إليه مولاه طهمان كذلك فقتله، فركب الحجاج في أهل الشام وجعل سبرة بن عَبْد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك. وقعد على كرسيه ونادى في أهل الشام وحرضهم، فغضوا الأبصار وجثوا على الركب وشرعوا الرماح. وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس معه ومع سويد بن سليم، ومع المحلل بن وائل. وحمل سويد وبيتوا وطاعنوه حتى انصرف. وقدم الحجّاج كرسيه وحمل المحلل ثانية فكذلك، وقدّم الحجاج كرسيه فثبتوا له وألحقوه بأصحابه وسرب شبيب سويد بن سليم إلي أهل السكك، وكان عليها عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يطق دفاعه. ثم حمل شبيب فطاعنوه وردوه، وانتهى الحجّاج إلي مسجده وصعده وملك العرصة، وقال له خالد بن عتاب إئذن لي في قتالهم فإني موتور فأذن له فجاءهم من ورائهم وقتل أخا شبيب وغزالة إمرأته، وخرق عسكرهم وحمل الحجاج عليهم فانهزموا. وتخلف شبيب رداً لهم، فأمر الحجّاج أصحابه بموادعتهم ودخل الكوفة فخطب وبشر الناس.ثم سرح حبيب بن عَبْد الرحمن الحكمي في ثلاثة آلاف فارس لاتباعه وحذّره بياته، فانتهى في أثره إلي الأنبار، وقد افترق عن شبيب كثير من أصحابه للأمان الذي نادى الحجّاج به، فجاءه شبيب عند الغروب وقد قسم حبيب جنده أرباعاً وتواصوا بالاستماتة، فقاتلهم شبيب طائفة بعد طائفة. فما زالت قدم إنسان عن موضعها إلي آخر الليل. ثم نزل شبيب وأصحابه واشتدّ القتال وكثر القتلى، وسقطت الأيدي وفقئت الأعين. وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين ومن أهل الشام نحو مائة. وأدركهم الإعياء والفشل جميعاً. فانصرف شبيب بأصحابه وقطع دجلة ومر في أرض خوخى. ثم قطع دجلة أخرى عند واسط ومضى على الأهواز وفارس إلي كرمان ليريح بها. (وقد قيل) في هذه الحرب غير هذا، وهو أن الحجّاج بعث إليه أمراء واحداً بعد واحد فقتلهم، وكان منهم أعين صاحب حمام أعين، وكانت غزالة إمرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين بالبقرة وآل عمران. فجاء لشبيب ودخل الكوفة ليلا
وأوفت بنذرها. ثم قاتلهم الناس وخرجوا. وقام الحجّاج في الناس يستشيرهم، وبرز إليه قتيبة وعذله في بعث الرعاع ينهزمون ويموت قائدهم، والرأي أن تخرج بنفسك فتحالمه، فخرج من الغد إلي السبخة وبها شبيب، واختفى مكانه عن القوم ونصب أبا الورد مولاه تحت اللواء فحمل عليه شبيب فقتله. ثم حمل على خالد بن عتاب في الميسرة ثم على مطرف بن ناجية في الميمنة فكشفهما. ونزل عند ذلك لحجّاج وأصحابه، وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد. وبينما هم على ذلك إذ اختلف الخوارج وقال مصقلة بن مهلهل الضبي لشبيب: ما تقول في صالح بن سرح؟ قال: برئت منه. فبريء مصقلة منه، وفارقه. وشعر الحجّاج باختلافهم فسرح خالد بن عتاب لقتالهم فقاتلهم في عسكرهم وقتل غزالة وبعث برأسها إلي الحجاج، فأمر شبيب من اعترضه فقتل حامله، وجاء به فغسله ودفنه. وانصرف الخوارج وتبعهم خالد. وقتل مضاد أخو شبيب، ورجع خالد عنهم بعد أن أبلى وسار شبيب إلي كرمان، وكتب الحجّاج إلي عَبْد الملك يستمدّه، فبعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبيّ في العساكر، فانفق فيهم المال وسرّحه بعد انصراف الخوارج بشهرين، وكتب إلي عامل البصرة، وهو الحكم بن أيوب زوج ابنته أن يبعث بأربعة آلاف فارس من جند البصرة إلي سفيان، فبعثهم مع زياد بن عمر العتكي فلحقه انقضاء الحرب.
وكان شبيب بعد أن استجم بكرمان أقبل راجعاً، فلقي سفيان بالأهواز فعبر إليه جسر دجيل، وزحف في ثلاثة كراديس فقاتلهم أشد قتال وحملوا عليهم أكثر من ثلاثين حملة، وسفيان وأهل الشام مستميتين يزحفون زحفاً حتى اضطّر الخوارج إلي الجسر، فنزل شبيب في مائة من أصحابه وقاتل إلي المساء، حتى إذا جاء الليل انصرف وجاء إلي الجسر فقدّم أصحابه وهو على أثرهم. فلما مر بالجسر اضطرب حجر تحت حافر فرسه وهو على حرف السفينة فسقط في الماء وغرق وهو يقول: وكان أمر الله مفعولا، ذلك تقدير العزيز العليم. وجاء صاحب الجسر إلي سفيان وهو يريد الإنصراف بأصحابه، فقال: إن رجلاً من الخوارج سقط، فتنادوا بينهم غرق أمير المؤمنين ومرّوا وتركوا عسكرهم، فكبّر سُفيان وأصحابه وركب إلي الجسر وبعث إلي عسكرهم فحوى ما فيه، وكان كثير الخيرات ثم استخرجوا شبيباً من النهر ودفنوه.
خروج المطرف بن المغيرة بن شعبة:
لمّا ولي الحجاج الكوفة وتدمها وجد بني المغيرة صلحاء أشرافاً، فاستعمل عروة على الكوفة ومطرفاً على المدائن، وحمزة على همذان، فكانوا أحسن العمال سيرة وأشدّهم على المريب. ولما جاء شبيب إلي المدائن نزل نهر شير، ومطّرف بمدينة الأبواب، فقطع مطّرف الجسر وبعث إلي شبيب أن يرسل إليه من يعرض عليه الدعوة، فبعث إليه رجلاً من أصحابه فقالوا: نحن ندعو إلي كتاب الله وسنة رسوله وإنا نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتبسط بالجزية فقال مطّرف دعوتم إلي حق جورا ظاهراً وأنا لكم متابع فبايعوني على قتال هؤلاء الظلمة بإحداثهم، وعلى الدعاء الى الكتاب والسنة وعلى الشورى كما تركها عمر بن الخطّاب حتى يولّي المسلمون من يرضونه، فإن العرب إذا علمت أن المراد بالشورى الرضا من قُرَيْش رضوا فكثر مبايعكم، فقالوا: لا نجيبك إلي هذا! وأقاموا أربعة أيام يتناظرون في ذلك ولم يتفقوا وخرجوا من عنده، ثم دعا مطّرف أصحابه وأخبرهم بما دار بينه وبين أصحاب شبيب، وأنّ رأيه خلع عَبْد الملك والحجّاج فوجموا من قوله وأشاروا عليه بالكتمان فقال له يزيد بن أبي زياد مولى أبيه: لن والله يخفى على ا الحجاج شيء مما وقع، ولو كنت في السحاب لاستنزلك فالنجاء بنفسك، ووافقه أصحابه فسار عن المدائن إلي الجبال، ولما كان في بعض الطريق دعا أصحابه إلي الخلع والدعاء إلي الكتاب والسُنة، وأن يكون الأمر شورى فرجع عنه بعض إلي الحجّاج منهم سُبْرَة بن عَبْد الرحمن بن مخنف . وسار مطّرف ومرّ بحُلْوَان وبها سُوَيْد بن عَبْد الرحمن السعدي مع الأكراد فاعترضوه، فأوقع مطّرف بهم وأثخن في الأكراد ومال عن همذان ذات اليمين وبها أخوه حمزة واستمدّه بمال وسلاح فأمده سراً.وسار إلي قُم وقاشان فبعث عماله في نواحيه وفزع إليه من كل جانب، فجاءسويد بن سرحان الثقفي وبُكير بن هرون
النخعي من الري في نحو مائة رجل. وكان على الريّ عديّ بن زياد الأيادي، وعلى أصبهان البّراء بن قُبيصة فكتب إلي الحجّاج بالخبر، واستمدّه فأمدّه بالرجال وكتب إلي عديّ بالري أن يجتمع مع البّراء على حرب مطّرف، فاجتمعوا في ستة آلاف وعديّ أميرهم. وكتب الحجّاج إلي قيس بن سعد البجلي وهو على شرطة حمزة بهمذان، بأن يقبض على حمزة ويتولى مكانه، فجاءه في جمع من عجل وربيعة وأقرأه كتاب الحجّاج فقال: سمعاً وطاعة. وقبض قيس عليه وأودعه السجن. وسار عديّ والبّراء نحو مطّرف فقاتلوه، وانهزم أصحابه وقتل يزيد مولى أبيه. وكان صاحب الراية، وقتل من أصحابه عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن عفيف الأزدي وكان ناسكاً صالحاً، وكان الذي تولى قتل مطّرف عمر بن هبيرة الفزاريّ. وبعث عديّ أهل البلاء إلي الحجّاج وأمر بكير بن هرون وسويد بن سرحان، وكان الحجّاج يقول مطّرف ليس بولد للمغيرة وإنما هو ابن مصقلة الحر، لأن أكثر الخوارج كانوا من ربيعة ولم يكن فيهم من قيس.
اختلاف الازارقة:
قد تقدّم لنا مقام المهلب في قتال الأزارقة على سابور بعد مسير عتاب عنه إلي الحجّاج، وأنه أقام في قتالهم سنة. وكانت كرمان لهم وفارس للمهلب فانقطع عنهم المدد وضاقت حالهم فتأخروا إلي كرمان، وتبعهم المهلّب ونزل خيررفت مدينة كرمان، وقاتلهم حتى أزالهم عنها. وبعث الحجّاج العمال على نواحيها وكتب إليه عَبْد الملك بتسويغ للمهلّب معونة له على الحرب، وبعث الحجّاج إلي المهلب البراء بن قبيصة يستحثه لقتال الخوارج، فسار وقاتلهم والبراء مشرف عليه من ربوة واشتد قتاله، وجاء البراء من الليل فتعجب لقتاله وانصرف إلي الحجّاج وأنهى غدر المهلّب، وقاتلهم ثمانية عشر شهراً لا يقدر منهم على شيء. ثم وقع الاختلاف بينهم فقيل في سببه إن المقعطر الضبي، وكان عاملاً لقطريّ على بعض نواحي كرمان قتل بعض الخوارج، فطلبوا القود منه فمنعه قطري وقال: تأول فأخطأ، وهو من ذوي السابقة، فاختلفوا وقيل بل كان رجل في عسكرهم يصنع النصول مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فكتب المهلب كتاباً مع رجل وامرأة أن يلتقيه في عسكرهم، وفيه وصلت نصالك وقد أنفذت إليك ألف درهم. فلما وقف على الكتاب سأل الصانع فأنكر فقتله، فأنكر عليه عَبْد ربه الكبير واختلفوا.(وقيل) بعث المهلّب نصرانياَ وأمره بالسجود لقطريّ، فقتله بعض الخوارج وولّوا عَبْد ربه الكبير وخلعوا قطرياً فبقي في نحو الخمسين منهم، وأقاموا يقتتلون شهراً، ثم لحق قطريّ بطبرستان وأقام عَبْد ربه بكرمان، وقاتلهم المهلّب وحاصرهم بخيرفت. ولما طال عليهم الحصار خرجوا بأموالهم وحريمهم وهو يقاتلهم حتى أثخن فيهم. ثم دخل خيرفت وسار في اتباعهم فلحقهم على أربعة فراسخ، فقاتلهم هو وأصحابه حتى أعيوا وكفّ عنهم. ثم استمات الخوارج ورجعوا فقاتلوه حتى يئس من نفسه. ثم نصره الله عليهم وهزمهم وقتل منهم نحواً من أربعة آلاف كان منهم عَبْد ربه الكبير، ولم ينج منهم إلا القليل.وبعث المهلّب المبشر إلي الحجّاج فأخبره وسأله عن بني المهلب فأثنى عليهم واحداً واحداً. قال فأيهم كان أنجد؟ قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلي المهلّب يشكره ويأمره أن يولّي على كرمان من يراه وينزل حامية ويقدّم عليه، فولى عليها إبنه يزيد، وقدم على الحجّاج فاحتفل لقدومه وأجلسه إلي جانبه وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلّب! وسرحّ سفيان بن الأبرد الكلبي في جيش عظيم نحو طبرستان لطلب قطريّ وعبيدة بن هلال ومن معهم من الخوارج. والتقوا هنالك بإسحق بن محمد بن الأشعث في أهل الكوفة، واجتمعا على طلبهم، فلقوهم في شعب من شعاب طبرستان وقاتلوهم فافترقوا عن قطريّ ووقع عن دابته فتدهده إلي أسفل الشعب، ومرّ به علج فاستقاه على أن يعطيه سلاحه. فعمد إلي أعلى الشعب وحدّر عليه حجراً من فوق الشعب فأصابه في رأسه فأوهنه، ونادى بالناس فجاء في أوّلهم نفر من أهل الكوفة فقتلوه منهم سورة بن أبجر التميمي وجعفر بن عَبْد الرحمن بن مخنف والسياح بن محمد بن الأشعث، وحمل رأسه أبو الجهم إلي إسحق بن محمد، فبعث به إلي الحجّاج، وبعثه الحجاج إلي عَبْد الملك.وركب سفيان فأحاط بالخوارج وحاصرهم حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا إليه واستماتوا فقتلهم أجمعين، وبعث برؤوسهم إلي الحجّاج ودخل دنباوند وطبرستان، فكان هناك حتى عزله الحجّاج قبل دير الجماجم قال بعض العلماء: وانقرضت الأزارقة بعد قطريّ وعُبيدة آخر رؤسائهم وأوّل رؤسائهم نافع بن الأزرق، واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة إلي أن افترقوا كما ذكرناه سنة سبع وسبعين فلم تظهر لهم جماعة إلي رأس الماثة.
خروج شوذب:
خرج شودب هذا أيام عمر بن عَبْد العزيز على رأس المائة، واسمه بسطام وهو من بني يشكر. فخرج في مائتي رجل وسار في خوخى، وعامل الكوفة يومئذ عَبْد الحميد بن عَبْد الرحمن بن زيد بن الخطّاب. فكتب إليه عمر أن لا يعرض لهم حتى يقتلوا أو يفسدوا فيوجه إليهم الجند مع صليب حازم، فبعث عَبْد الحميد بن جرير بن عَبْد الله البجلي في ألفين فأقام بإزائه لا يحرّكه. وكتب عمر إلي شودب: بلغني أنك خرجت غضباً لله ولرسوله، وكنت أولى بذلك مني، فهلم إليّ أناظرك فإن كان الحق معنا دخلت مع الناس، وإن كان الحق معك نظرنا في أمرك. فبعث إليه عاصماً الحبشي مولى بني شيبان ورجلاً من بني يشكر فقدما عليه بخاصر فسألهما: ما أخرجكم وما الذي نقمتم؟ فقال عاصم ما نقمنا سيرتك إنك لتتحرى العدل والإحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر مشورة من الناس أم غلبت عليه؟ قال عمر: ما سألته ولا غلبت عليه. وعهد إليّ رجل قبلي فقمت ولم ينكر أحد، ومذهبكم الرضا لكل من عدل، وإن أنا خالفت الحق فلا طاعة لي عليكم. قالا: فقد خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم، فتبرأ منهم والعنهم. فقال عمر: أنتم تريدون الآخرة وقد أخطأتم طريقها، وإن الله لم يشرع اللعن. وقد قال إبراهيم: ومن عصاني فإنك غفور رحيم. وقال : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. وبقي تسمية أعمالهم مظالم ذماً، ولو كان لعن أهل الذنوب فريضة لوجب عليكم لعن فرعون، أنتم لا تلعنونه وهو أخبث
الخلق، فكيف ألعن أنا أهل بيتي وهم مصلّون صائمون ولم يكفروا بظلمهم! لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلي الإيمان والشريعة، فمن عمل بها قبل منه، ومن أحدث حدثاً فرض عليه الحدّ. فقالا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلي التوحيد والإقرار بما نزل عليه. فقال عمر:وليس أحد ينكر ما نزل عليه ولا يقول لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن القوم أسرفوا على أنفسهم. قال عاصم: فابرأ منهم ورد أحكامهم. قال عمر: أتعلمان أن أبا بكر سبى أهل الردة وأن عمر ردها بالفدية ولم يبرأ من أبي بكر، وأنتم لا تبرؤون من واحد منهما قال: فأهل النهروان خرج أهل الكوفة منهم فلم يقتتلوا ولا استعرضوا، وخرج أهل البصرة فقتلوا عَبْد الذ بن خباب وجارية حاملاً، ولم يتبرأ من لم يقتل ممن قتل واستعرض، ولا أنتم تتبرؤون من واحد منهما، وكيف ينفعكم ذلك مع علمكم باختلاف أعمالكم ؟ ولا يسعني أنا البراءة من أهل بيتي والدين واحد. فاتقوا الله ولا تقبلوا المردود وتردوا المقبول، وقد أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد شهادة الإِسلام وعصم ماله ودمه، وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر الأديان وتحرمون دماءهم وأموالهم.فقال اليشكري: من استأمن على قوم وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلي رجل غير مأمون، أتراه أدّى الحق الذي لزمه؟ فكيف تسلم هذا الأمر بعدك إلي يزيد مع علمك أنه لا يعدل فيه؟ فقال: إنما ولاّه غيري والمسلمون أولى بذلك بعدي. قال: فهو حق ممن فعله وولاّه، قال أنظراني ثلاثاً. ثم جاءه عاصم فرجع عن رأي الخوارج، وقال له اليشكري: أعرض عليهم ما قلت واسمع حجتهم. وأقام عاصم عند عمرو، وأمر له بالعطاء، وتوفي عمر لأيام قلائل ومحمد بن جرير ينتظر عود الرسل. ولما مات عمر كتب عَبْد الحميد إلي محمد بن جرير بمناجزة شوذب قبل أن يصل إليهم خبرعمر، فمالت الخوارج: ما حالف هؤلاء ميعادهم إلاّ وقد مات الرجل الصالح. واقتتلوا فانهزم حمد بن جرير واتبعه الخوارج إلي الكوفة، ورجعوا وقدم على شودب صاحباه وأخبراه بموت عمر، وسرّح يزيد تميم بن الحباب في ألفين فهزمه أصحابه، ثم بعث إليهم الشجاع بن وادع في ألفين فقتلوه وهزموه بعد أن قتل منهم هدبة ابن عم شودب، وبقي الخوارج بمكانهم. وجاء مسلمة إلي الكوفة فأرسل سعيد بن عمرو الحريشي في عسكر آلاف، فاستماتت الخوارج وكشفوا العساكر مراراً ثم حملوا عليهم فطحنوهم طحناً.وقتل شودب وأصحابه ولم يبق منهم أحد، وضعف أمر الخوارج على ظهور أيام هشام سنة عشرين ومائة بهلول بن بشر بن شيبان وبلغت كنارة. وكان لمّا عزم على الخوارج حج ولقي بمكة من كان على رأيه، فأبعدوا إلي قرية من قرى الموصل واجتمعوا بها وهم أربعون وأمروا عليهم البهلول وأخفوا أنفسهم بأنهم قدموا من عند هشام. ومرّوا بقرية كان بهلول ابتاع منها خلاًّ فوجده خمراً وأبى البائع من رده، واستعدى عليه عامل القرية، فقال: الخمر خير منك ومن قومك، فقتلوه وأظهروا أمرهم، وقصدوا خالد القسري بواسط، وتعللوا عليه بأنه يهدم المساجد ويبني الكنائس ويولّي المجرّد على المسلمين.وجاء الخبر إلي خالد فتوجه من واسط إلي الحيرة وكان بها جند من بني العين نحو ستمائة بعثوا مدداً لعامل الهند، فبعثهم خالد مع مقدمهم لقتال بهلول وأصحابه، وضمّ إليهم مائتين من الشرط والتقوا على الفرات، فقتل مقدمهم وانهزموا إلي الكوفة. وبعث خالد عابداً الشيباني من بني حوشب بن يزيد بن رويم فلقيه بين الموصل والكوفة، فهزمهم إلي الكوفة وارتحل يريد الموصل، ثم بدا له وسار يريد هشاماً بالشام، وبعث خالد جنداً من العراق وعامل الجزيرة جنداً وبعث هشام جنداً فاجتمعوا بين الجزيرة والموصل بكحيل وهم في عشرين ألفاً وبهلول في سبعين، فقاتلوا واستماتوا وصرع بهلول. وسأله أصحابه العهد فعهد إلي دعامة الشيباني ثم إلي عمر اليشكري من بعده. ومات بهلول من ليلته وهرب دعامة وتركهم، ثم خرج عمر اليشكري فلم يلبث أن قتل.(ثم خرج) على خالد بعد ذلك بسنتين الغفري صاحب الأشهب، وبهذا كان يعرف، فبعث إليه السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف، فالتقوا بناحية الفرات فانهزمت الخوارج، ولقيهم عبيد أهل الكوفة وغوغاؤهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.ثم خرج وزير السختياني على خالد بالحيرة فقتل وأحرق القرى، فوجّه إليه خالد جنداً فقتلوا أصحابه وأثخن بالجراح، وأتى به خالد فوعظه فأعجبه وعظه فأعفاه من القتل. وكان يسامره بالليل وسعى بخالد إلي هشام، وأنه أخذ حرورياً يستحق القتل فجعله سميراً، فكتب إليه هشام بقتله فقتله.ثم خرج بعد ذلك الصخارى بن شبيب الفريفية فمضى وندم خالد فطلبه فلم يرجع، وأتى جبل وبها نفر من اللاّت بن ثعلبة فأخبرهم وقال: إنما أردت التوصل إليه لأقتله بفلان من قعدة الصفرية كان خالد قتله صبراً. ثم خرج معه ثلاثون منهم فوجه إليهم خالد جنداً فلقوهم بناحية المناذر فاقتتلوا فقتل الصحارى وأصحابه أجمعون.وردّ أمر الخوارج بعد ذلك مرّة فلما وقعت الفتن أيام هشام بالعراق والشام وشغل مروان بمن انتقض عليه فخرج بأرض كفريموتا سعيد بن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة وكان على رأي الحرورية، وخرج بسطام البهسي في مثل عدّتهم من ربيعة، وكان مخالفاً لرأيه، فبعث إليه سعيد بن بهدل قائده الخبيري في مائة وخمسين فبيت كم وقتل بسطاماً ومن معه، ولم ينج منهم إلا أربعة عشر رجلا. ثم مضى سعيد بن بهدل نحو العراق فمات هنالك، واستخلف الضحاك بن قيس الشيباني فبايعه السراة وأتى أرض الموصل وشهرزور.فبعث إليه من الصغرية أربعة آلاف أو يزيدون.
وولى مروان على العراق النضر بن سعيد الحريشي وعزل به عَبْد الله بن عمر بن عَبْد العزيز، فامتنع عَبْد الله بالحيرة، وسار إليه النضر وتحاربا أشهراً. وكانت الصغرية مع النضر عصبة لمروان لطلبه بدم الوليد وأمه قيسية. وكانت اليمنية مع ابن عمر عصبية لدخولهم في قتل الوليد بما فعله مع خالد القسري، فلما علم الضحاك والخوارج باختلافهم، أقبل إلي العراق سنة سبع وعشرين وزحف إليهم فتراسل ابن عمر والنضر وتعاقدا واجتمعا لقتاله بالكوفة، وكل واحد منهما يصلي بأصحابه وابن عمر أمير على الناس وجاء الخوارج فقاتلوهم فهزموهم الى خندقهم ثم قاتلوهم في اليوم الثاني كذلك فسلك الناس إلى واسط منهم النضر نب سعيد الحريشي ومنصور ابن جمهور وإسماعيل أخو خالد القسري وغيرهم من الوجوه.فلحق ابن عمر بواسط ، واستولى الضحّاك على الكوفة، وعادت الحرب بين ابن عمر والنضر. ثم زحف إليهما الضحّاك فاتفقا وقاتلا حتى ضرستهما الحرب، ولحق منصور بن جمهور بالضحّاك والخوارج وبايعهم ثم صالحهم ابن عمر ليشغلوا مروان عنه، وخرج إليهم وصلّى خلف الضحّاك وبايعه وكان معه سليمان بن هشام وصل إليه هارباً من حمص لمّا انتقض بها وعليه... عليها مروان فلحق بابن عمر وبايع معه الضحّاك وصار معه وحرّضه على مروان... انما لحق بالضحّاك وهو يحاصر نضيراً وتزوج أخت شيبان الحروري. فرجع الضحّاك إلي الكوفة وسار منها إلي الموصل بعد عشرين شهراً من حصار واسط، بعد أن دخل أهل الموصل وعليهم القطرن أم أكمه من بني شيبان عامل لمروان فأدخلهم أهل البلد وقاتلهم القطرن فقتل ومن معه وبلغ الخبر إلي مروان وهو يحاصر حمص فكتب إلي ابنه عَبْد الله أن يسير إلي... يمانع الضحّاك عن توسط الجزيرة فسار في ثمانية آلاف فارس
والضحاك في مائة ألف وحاصره بنصيبين. ثم سار مروان بن محمد إليه فالتقيا عند كفريموتا من نواحي ماردين فقاتله عامة يومه إلي الليل وترجّل الضحّاك في نحو ستة آلاف وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وعثر على الضحّاك في القتلى فبعث مروان برأسه إلي الجزيرة وأصبح الخوارج فبايعوا الخبيري قائد الضحّاك، وعاودوا الحرب مع مروان فهزموه وانتهوا إلي خيامه فقطعوا أطنابهم وجلس الخبيري على فرشه والجانحان ثابتان، وعلى الميمنة عَبْد الله بن مروان وعلى الميسرة إسحق بن مسلم العقيلى فلما انكشفت قلّة الخوارج أحاطوا بهم في مخيم مروان فقتلوهم جميعاً والخبيري معهم ورجع مروان من نحو ستة أميال .
وانصرف الخوارج وبايعوا شيبان الحروري وهو شيبان بن عَبْد العزيز اليشكري ويكنى أبا الدلقاء. وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ وأقام في قتالهم أياماً، وانصرف عن شيبان كثير منهم وارتحلوا إلي الموصل بإشارة سليمان بن هشام وعسكروا شرقي دجلة، وعقدوا الجسور، واتبعهم مروان فقاتلهم لتسعة أشهر، وقتل من الطائفتين خلق كثير. وأسر ابن أخ لسليمان بن هشام إسمه أُمَيَّة بن معاوية فقطعه ثم ضرب عنقه. وكتب مروان إلي يزيد بن عمر بن هبيرة وهو بقرقيسيا يأمره بالسير إلي العراق وولاّه عليها، وعلى الكوفة يومئذ المثنى بن عمران العائذي من قُرَيْش خليفةً للخوارج، فلقي ابن هبيرة بعين التمر، فاقتتلوا وانهزمت الخوارج. ثم تجمّعوا له بالنخيلة ظاهر الكوفة فهزمهم، ثم تجمعوا بالبصرة فأرسل شيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة فهزمهم ابن هبيرة، وقتل عبيدة واستباح عسكرهم، واستولى على العراق.وكان منصور بن جمهور مع الخوارج فمضى إلي الماهين وغلب عليها وعلى الخيل جميعأ، وسار ابن هبيرة إلي واسط فحبس ابن عمر، وكان سليمان بن حبيب عامل ابن عمر على الأهواز، فبعث ابن هبيرة إليه نباتة بن حنظلة، وبعث هو داود بن حاتم والتقيا على دجلة
فانهزم داود وقتل. وكتب مروان إلي ابن هبيرة أن يبعث إليه عامر بن ضبابة المزنيّ فبعته في ثمانية آلاف وبعث شيبان لاعتراضه الجون بن كلاب الخارجي في جمع فانهزم عامر وتحصّن بالسند، وجعل مروان يمدّه بالجنود، وكان منصور بن جمهور بالجبل يمدّ شيبان بالأموال. ثم كثرت جموع عامر فخرج الى الجون والخوارج الذين يحاصرونه فهزمهم وقتل الجون وسار قاصداً الخوارج بالموصل، فارتحل شيبان عنها وقدم عامر على مروان فبعثه في اتباع شيبان، فمرّ على الجبل وخرج على بيضاء فارس، وبها يومئذ عامر بن عَبْد الله بن حطوبة بن جعفر في جموع كثيرة، فسار ابن معاوية إلي كرمان وقاتله عامر فهزمه ولحق بهراة، وسار عامر بمن معه فلقي شيبان والخوارج بخيرفت فهزمهم واستباح عسكرهم، ومضى شيبان إلي سجستان فهلك بها سنة ثلاثين ومائة. وقيل بل كان قتال مروان وشيبان على الموصل شهراً. ثم انهزم شيبان ولحق بفارس وعامر بن صراة في أتباعه، ثم سار شيبان إلي جزيرة ابن كاوان وأقام بها.
ولما ولي السفاح بعث حارثة بن خزيمة لحرب الخوارج هنالك لموجدة وجدها عليه، فأشير عليه ببعثه لذلك. فسار في عسكر إلي البصرة وركب السفن إلي جزيرة ابن كاوان، وبعث فضالة بن نعيم النهيلي في خمسمائة، فانهزم شيبان إلي عمان وقاتل هناك، وقتله جلندي بن مسعود بن جعفر بن جلندي ومن معه سنة أربع وثلاثين. وركب سليمان بن هشام السفن بأهله ومواليه إلي الهند بعد مسير شيبان إلي جزيرة ابن كاوان، حتى إذا بويع السفاح قدم عليه وأنشده سديف البيتين المعروفين وهما :
- لا يغرنك ما ترى من رجــال إن بين الضلوع داء دويا
- فضع السيف وارفع الصوت حتى لا ترى فوق ظهرها أُمويا
فقتله السفاح وانصرف مروان بعد مسير شيبان إلي الموصل إلي منزله بحران، فلم يزل بها حتى سار إلي الزاب. ومضى شيبان بعد سلمة إلي خراسان والفتنة بها يومئذ بين نصر بن سيار والكرماني والحرث بن شريح، وقد ظهر أبو مسلم بالدعوة العباسية فكان له من الحوادث معهم ما ذكرناه، واجتمع مع علي بن الكرماني على قتال نصر سن سيار. فلما صالح الكرماني أبا مسلم كما مرّ وفارق شيبان تنحى شيبان عن عمر لعلمه أنه لا يقاومه، ثم هرب نصر بن سيار إلي سرخس، واستقام أمر أبي مسلم بخراسان فأرسل إلي شيبان يدعوه إلي البيعة ويأذنه بالحرب، واستجاش بالكرماني فأبى. فسار إلي سرخس واجتمع إليه الكثير من بكر بن وائل، وأرسل إليه أبو مسلم في الموادعة، فحبس الرسل، فكتب أبو مسلم إلي بسام بن إبراهيم مولى بني ليث بالمسير إلي شيبان
فسار إليه فهزمه وقتل في عدة من بكر بن وائل. ويقال إن خزيمة بن حازم حضر مع بسام في ذلك.
خبر أبي حمزة وطالب وأسحق: كان إسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي البصري وكان من الخوارج الإباضية، وكان يوافي مكة كل موسم يدعو إلي خلاف مروان، وجاء عَبْد الله بن يحيى المعروف بطالب الحق سنة ثمان وعشرين وهو من حضرموت فقال له: إنطلق معي فإني مطاع في قومي. فانطلق معه إلي حضرموت وبايعه على الخلافة. وبعثه عَبْد الله سنة تسع وعشرين مع بلخ بن عقبة الأزدي في سبعمائة فقدموا مكة وحكموا بالموقف، وعامل المدينة يومئذ عَبْد الواحد بن سليمان بن عَبْد الملك، فطلبهم في الموادعة حتى ينقضي الموسم.وأقام للناس حجّهم ونزل بمنى، وبعث إلي أبي حمزة عبيد الله بن حسن بن الحسن، ومحمد بن عَبْد الله بن عمر بن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن ربيعة بن أبي عَبْد الرحمن في أمثالهم. فكشر في وجه العلوي والعثماني وانبسط إلي البكري والعمري وقال لهما: ما خرجنا إلا بسيرة أبويكما! فقال له عبيد الله بن حسن: ما جئنا للتفضيل بين آبائنا، وإنما جئنا برسالة من الأمير وربيعة يخبرك بها.ثم أحكموا معه الموادعة إلي مدتها. ونفر عَبْد الواحد في النفر الأول فمضى إلي المدينة وضرب على أهلها البعث وزادهم في العطاء عشرة وبعث عليهم عَبْد العزيز بن عَبْد الله بن عمر بن عثمان، فانتهوا إلي فديك. وجاءتهم رسل أبي حمرة يسألونهم التجافى عن حربهم، وأن يخلوا بينهم وبين عدوهم. فلما نزلوا قديد وكانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب، فطلع عليهم أصحاب أبي حمزة من الغياض فأثخنوا فيهم، وكان قتلاهم نحو سبعمائة من قُرَيْش. وبلغ الخبر إلي عَبْد الواحد فلحق بالشام. ودخل أبو حمزة المدينة منتصف صفر سنة ثلاثين وخطب على المنبر وأعلن بدعوته ووعظ، وذكر وردّ مقالات من عليهم وسفه رأيهم وأحسن السيرة في أهل المدينة واستمالهم حتى سمعوه
يقول: من زنا فهو كافر ومن سرق فهو كافر، وأقام ثلاثة أشهر، ثم ودّعهم وسار نحو الشام.وكان مروان قد سرح إليهم عَبْد الملك بن محمد بن عطية بن هَوازِن في أربعة آلاف ليقاتل الخوارج حتى يبلغ اليمن، فلقي أبا حمزة في وادي القرى، فانهزمت الخوارج وفتل أبو حمزة ولحق فلهم بالمدينة. وسار عطية في أثرهم إلي المدينة فأقام بها شهراً، ثم سار إلي اليمن، واستخلف على المدينة الوليد ابن أخيه عروة، وعلى مكة رجلاً من أهل الشام. وبلغ عَبْد الله طالب الحق مسيره إليه وهو بصنعاء فخرج للقائه، واقتتلوا، وقتل طالب الحق، وسار ابن عطية إلي صنعاء وملكها. وجاء كتاب مروان بإقامة الحج بالناس، فسار في إثني عشر رجلاً ومعه أربعون ألف دينار وخلف ثقله بصنعاء، ونزل الحرف فاعترضه ابن حماية المرادي في جمع، وقال له ولأصحابه: أنتم لصوص فاستظهروا بعهد مروان فكذبوه، وقاتلهم فقتلوه. وركد ريح الخوارج من يومئذ إلي أن ظهرت الدولة العباسية وبويع المنصور بعد السفّاح.(فخرج سنة سبع وثلاثين) بالجزيرة ملبد بن حرملة الشيباني فسارت إليه روابط الجزيرة في ألف فارس فهزمهم وقاد منهم. ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي ومهلل بن صَفْوان مولى المنصور، ثم نزار من قواد خراسان، ثم زياد بن مسكان ثم صالح بن صبيح فهزمهم كلهم واحداً بعد واحد، وقتل منهم. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو عامل الجزيرة فهزمه وتحصن حميد منه، فبعث المنصور عَبْد العزيز بن عَبْد الرحمن أخا عَبْد الجبار في الجيوش، ومعه زياد بن مسكان فأكمن له الملبد، وقاتلهم تم خرج الكعبين فانهزم عَبْد العزيز وقتل عامّة أصحابه، فبعث المنصور حازم بن خزيمة في ثمانية آلاف من أهل خراسان فسار إلي الموصل وعبر إليه الملبد دجلة فقاتله فانهزم أهل الميمنة وأهل الميسرة من أصحاب حازم، وترجل حازم وأصحابه، وترجل ملبد كذلك.وأمر حازم أصحابه فنضحوهم بالنبل، واشتد القتال وتزاحفت الميمنة والميسرة ورشقوهم، فقتل ملبد في ثمانمائة ممن ترجل معه، وثلثمائة قبل أن يترجل. وتبعهم فضالة صاحب الميمنة فقتل منهم زهاء مائة وخمسين. ثم خرج سنة ثمان وأربعين أيام المنصور بنواحي الموصل حسان بن مخالد بن مالك بن الأجدع الهمداني أخو مسروق. وكان على الموصل الصفر بن يجدة وليها بعد حرب ابن عَبْد الله فسار إليهم فهزموه إلي الدجلة. وسار حسان إلي العمال ثم إلي البحر، وركب إلي السند وقاتل، وكاتب الخوارج بعمان يدعوهم ويستأذنهم في اللحاق بهم فأبوا، وعاد إلي الموصل فخرج إليه الصفر بن الحسن بن صالح بن جنادة الهمذاني وهلال، فقتل هلالاً واستبقى ابن الحسن، فاتهمه بعض أصحابه بالعصبية وفارقوه. وقد كان حسان أمه من الخوارج وخاله حفص بن أشتم من فقهائهم. ولما بلغ المنصور خروجه قال: خارجي من همذان فقيل له إنه ابن اخت حفض بن أشتم، قال: من هناك وإنما أنكر المنصور ذلك لأن عامة همذان شيعة.وعزم المنصور على الفتك بأهل الموصل، فإنهم عاهدوه على أنهم إن خرجوا فقد فلت ديارهم وأموالهم، وأحضر أبا حنيفة وابن أبي ليلى بن شبرمة واستفتاهم فتلطفوا له في العفو، فأشار إلي أبي حنيفة فقال: أباحوا ما لا يملكون كما لو أباحت إمرأة، فزوّجها بغير عقد شرعيّ، فكف عن أهل الموصل.ثم خرج ايام المهدي بخراسان يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرة واجتمع شركس، فبعث إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني ابن أخي معن فاقتتلوا قتالاً شديداً وأسره يزيد وبعث به إلي المهدي موثقاً، وحمل من النهروان على بعير وحوّل وجهه إلي ذنبه كذلك، فدخلوا إلي الرصافة وقطعوا ثم صلبوا.وكان حروباً متعوداً فغلب على بوشنج ومرو الروذ والطالقان والجوزجان، وكان على بوشنج مصعب بن زريق جد طاهر بن الحسين فهرب منه وكان من أصحابه معاذ الفارياني وقبض معه. ثم خرج معه أيام المهدي بالجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي سنة تسع وستين وهزم منصور بن زياد وصاحب الخراج وقوي أمره، ثم اغتاله بعض أصحابه فقتله.ثم خرج آخر أيام المهدي بأرض الموصل خارجي من بني تميم إسمه ياسين يميل إلي مقاتلة صالح بن مسرح، فهزم عسكر الموصل وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فبعث إليها المهدي القائد أبا هريرة محمد بن مروخ وهزيمة بن أعين مولى بني ضبة فحارباه حتى قتل في عدة من أصحابه وانهزم الباقون. ثم خرج بالجزيرة أيام الرشيد سنة ثمان وسبعين الوليد بن طريف من بني مغلب، وقتل إبراهيم بن خالد بن خزيمة بنصيبين، ثم دخل أرمينية وحاصر- خلاط عشرين يوماً وافتدوا بثلاثين ألفاً. ثم سار إلي أذربيجان ثم إلي حُلوان وأرض السواد، وعبر إلي غرب دجلة وعاث في أرض الجزيرة، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، وهو ابن أخي معن في العساكر فمكث يقاتله، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فاغروا به الرشيد وأنه أبقى على الوليد برجم وائل. فكتب إليه الرشيد يتهدده فناجزه يزيد الحرب في رمضان سنة تسع وسبعين وقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل الوليد وجيء برأسه. ثم أصبحت اخته مستلئمة للحرب فخرج إليها يزيد وضربها على رأسها بالرمح وقال لها: أعدي فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت وهي تقول في رثائه الأبيات المشهورة الي منها:
- أيا شجرالخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف
- فتى لا يجب الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف
وانقرضت كلمة هؤلاء بالعراق والشام، فلم يخرج بعد ذلك إلا شُذاذ متفرقون يستلحمهم الولاة بالنواحي، إلا ما كان من خوارج البربر بأفريقية، فإن دعوة الخارجية فشت فيهم من لدن مسيرة الظفري سنة ثلاث وعشرين ومائة. ثم فشت دعوة الإباضية والصفرية منهم في قوارة ولماية ونفزة ومغيلة وفي مغراوة وبني يفرن من زناتة حسبما بذكر في أخبار البربر، لسي رستم من الخوارج بالمغرب دولة في تاهرت من الغرب الأوسط نذكرها في أخبار البربر أيضاً. ثم سار بإفريقية منهم على دولة العبيديين خلفاء القيروان أبو يزيد بن مخلد المغربي، وكانت له معهم حروب وأخبار نذكرها فى موضعها. ثم لم يزل أمرهم في تناقص إلي أن اضمحلت ديانتهم وافترقت جماعتهم، وبقيت آثار نحلتهم في أعقاب البربر الذين دانوا بها أول الأمر. ففي بلاد زناتة بالصحراء منها أثر باق لهذا العهد في قصور ربع وواديه، وفي مغراوة من شعوب زناتة يسمون الراهبية نسبة إلي عَبْد الله بن وهب الراهبي. أول من بويع منهم أيام علي بن أبي طالب. وهم في قصور هنالك مظهرين لبدعتهم لبعدهم عن مقال أهل السنة والجماعة، وكذلك في جبال طرابلس، وزناتة أثر باق من تلك النحلة يدين بها أولئك البربر في المجاورة لهم مثل ذلك. وتطير إلينا هذا العهد من تلك البلاد دواوين ومجلدات من كلامهم في فقه الدين، وتمهيد عقائده، وفروعه مباينة لمناحي السنة وطرقها بالكلية، إلا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف والترتيب،
وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة.وكان بنواحى البحرين وعمان إلي بلاد حضرموت وشرقي اليمن ونواحي الموصل آثار تفشي وعروق في كل دولة، إلي أن خرج علي بن مهدي من خولان باليمن ودعا إلي هذه النحلة. وغلب يومئذ من كان من الملوك باليمن، واستلحم بنى الصليحي القائمين بدعوة العبيديين من الشيعة وغلبوهم على ما كان بأيديهم من ممالك اليمن، واستولوا أيضاً على زبيد ونواحيها من يد موالي بني نجاح ومولى ابن زياد كما نذكر ذلك كله في أخبارهم إن شاء الله سبحانه وتعالى. فلتصفح في أماكنها. ويقال: إن باليمن لهذا العهد شيعة من هذه الدعوة ببلاد حضرموت، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
الدولة الإِسلامية بعد افتراق الخلافة: لم يزل أمر الإِسلام جميعاً دولة واحدة أيام الخلفاء الأربعة وبني أُمَيَّة من بعدهم لاجتماع عصبية العرب. ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة، وهم الدعاة لأهل البيت، فغلب دعاة بني العباس على الأمر واستقلوا بخلافة الملك، ولحق الفل من بني أُمَيَّة بالأندلس، فقام بأمرهم فيها من كان هنالك من مواليهم، ومن هرب، فلم يدخلوا في دعوة بني العباس، وانقسمت لذلك دولة الإِسلام بدولتين لافتراق عصبية العرب. ثم ظهر دعاة أهل البيت بالمغرب والعراق من العلوية ونازعوا خلفاء بني العباس واستولوا على القاصبة من النواحي كالأدارسة بالمغرب الأقصى، والعبيديين بالقيروان ومصر، والقرامطة بالبحرين، والدواعي بطبرستان والديلم والأطروش فيها من بعده. وانقسمت دولة الإِسلام بذلك دولاً متفرقة نذكرها واحدة بعد واحدة. ونبدأ منها أولاً بذكر الشيعة ومبادىء دولهم، وكيف انساقت إلي العباسية، ومن بعدهم إلي آخر دولهم. ثم نرجع إلي دولة بني أُمَيَّة بالأندلس. ثم نرجع إلي دولة الدعاة للدولة العباسية في النواحي من العرب والعجم كما ذكرناه في برنامج الكتاب، والله الموفق للصواب. مبدأ دولة الشيعة (أعلم) أن مبدأ هذه الدولة أن أهل البيت لمّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لرجالهم دون من سواهم من قُرَيْش. وفي الصحيح أن العباس قال لعلي في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه: اذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال علي: إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده. وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فاختلفوا عنده في ذلك وتنازعوا ولم يتم الكتاب. وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى اللهعليه وسلم وبين ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم، حتى لقد ذهب كثير من الشيعة إلي أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى في مرضه ذلك لعلي، ولم يصح ذلك من وجه يعول عليه. وقد أنكرت هذه الوصية عائشة وكفى بإنكارها. وبقي ذلك معروفاً من أهل البيت وأشياعهم.وفيما نقله أهل الآثار، أن عمر قال يوماً لابن العباس: إن قومكم يعني قريشاً ما أرادوا أن يجمعوا لكم، يعني بني هاشم، بين النبوَّة والخلافة فتحموا عليهم، وأن ابن عباس نكر ذلك، وطلب من عمر إذنه في الكلام فتكلم بما عصب له. وظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أن في نفوس أهل البيت شيئاً من أمر الخلافة والعدول عنهم بها. وفي قصة الشورى: أن جماعة من الصحابة كانوا يتشيعون لعلي ويرون استحقاقه على غيره، ولما عدل به إلي سواه تأففوا من ذلك وأسفوا له: مثل الزبير ومعه عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وغيرهم. إلا أن القوم لرسوخ قدمهم في الدين، وحرصهم على الإلفة، لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف.
ثم لمّا فشا التكبر على عثمان، والطعن في الآفاق، كان عَبْد الله بن سبأ ويعرف بابن السوداء، من أشد الناس خوضاً في الشيع لعلي بما لا يرضاه من الطعن على عثمان وعلى الجماعة في العدول إليه عن عليّ، وأنه وليّ بغير حق، فأخرجه عَبْد الله بن عامر من البصرة، ولحق بمصر. فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحوا إلي الغلوّ في ذلك، وانتحال المذاهب الفاسدة فيه، مثل خالد بن ملجم وسوزان بن حمدان وكنانة بن بشر وغيرهم.ثم كانت بيعة عليّ وفتنة الجمل وصفين، وانحراف الخوارج عنه بما أنكروا عليه من التحكيم في الدين. وتمحضت شيعته للاستماتة معه في حرب معاوية مع عليّ، وبويع إبنه الحسن وخرج عن الأمر لمعاوية، فسخط ذلك شيعة علي منه، وأقاموا يتناجون في السر باستحقاق أهل البيت والميل إليهم، وسخطوا من الحسن ما كان منه، وكتبوا إلي الحسين بالدعاء له فامتنع، وأوعدهم إلي هلاك معاوية. فساروا إلي محمد بن الحنفية وبايعوه في السر على طلب الخلافة متى أمكنه، وولّى على كل بلد رجلاً، وأقاموا على ذلك ومعاوية يكف بسياسته من غربهم، ويقتلع الداء إذا تعّين له منهم، كما فعل بحجر بن عديّ وأصحابه، ويروّض من شماس أهل البيت ويسامحهم في دعوى تقدّمهم واستحقاقهم. ولا يهيّج أحداً منهم بالتثريب عليه في ذلك،إلي أن مات وولّيّ يزيد، وكان من خروج الحسين وقتله ما هو معروف، فكانت من أشنع الوقائع في الإِسلام. عظمت بها الشحناء، وتوغّل الشيعة في شأنهم، وعظم النكير والطعن على من تولّى ذلك أو قعد عنه. ثم تلاوموا على ما أضاعوه من أمر الحسين، وأنهم دعوه ثم لم ينصروه فندموا ورأوا أن لا كفّارة في ذلك إلا الاستماتة دون ثأره، وسمّوا أنفسهم التوّابين. وخرجوا لذلك يقدمهم سليمان بن صرد الخزاعيّ، ومعه جماعة من خيار أصحاب عليّ. وكان ابن زياد قد انتقض عليه العراق ولحق بالشام، وجمع وزرينج قاصد العراق، فزحفوا إليه وقاتلوه حتى قتل سليمان وكثير من أصحابه كما ذكرنا في خبره، وذلك سنة خمس وستين. ثم خرج المختار بن أبي عبيد ودعا لمحمد بن الحنفية كما قدّمناه في خبره، وفشا التعصّب لأهل البيت في الخاصة والعامة بما خرج عن حدود الحق، واختلفت مذاهب الشيعة فيمن هو أحق بالأمر من أهل البيت، وبايعت كل طائفة لصاحبها سرّاً ورسخ الملك لبني أُمَيَّة.وطوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على عقائدهم فيها وتستّروا بها، مع تعدّد فرقهم وكثرة اختلافهم كما ذكرناه عند نقل مذاهبهم في فصل الإمامة من الكتاب الأوّل. ونشأ زيد بن علي بن الحسين وقرأ على واصل بن عطاء إمام المعتزلة في وقته، وكان واصل متردداً في إصابة علي في حرب صفين والجمل، فنقل ذلك عنه. وكان أخوه محمد الباقر يعذله في الأخذ عمن يرى سخطيّة جدّه، وحصان زيد أيضاً مع قوله بأفضلية عليّ على أصحابه، يرى أن بيعة الشيخين صحيحة، وأن إقامة المفضول جائزة خلاف ما عليه الشيعة. ويرى أنهما لم يظلما عليّاً.ثم دعته الحال إلي الخروج بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة، واجتمع له عامّة الشيعة، ورجع عنه بعضهم لمّا سمعوه يثني على الشيخين، وأنهما لم يظلما عليّاً. وقالوا: لم يظلمك هؤلاء ورفضوا دعوته فسمّوا الرافضة من أجل ذلك. ثم قاتل يوسف بن عمر
فقتله يوسف وبعث برأسه إلي هشام، وصلب شلوه بالكناسة، ولحق إبنه يحيى بخراسان فأقام بها، ثم دعته شيعته إلي الخروج فخرج هنالك سنة خمس وعشرين، وسرّح إليه نصر بن سيّار العساكر مع سالم بن أحور المازنيّ فقتلوه، وبعث برأسه إلي الوليد وصلب شلوه بالجوزجان، وانقرض شأن الزيدية. وأقام الشيعة على شأنهم وانتظار أمرهم، والدعاء لهم في النواحي يدعون على الأحجال للرضا من آل محمد، ولا يصرّحون بمن يدعون له حذراً عليه من أهل الدولة. وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت، وكانوا يرون أنّ الأمر بعد محمد بن الحنفيّذة لإبنه أبي هشام عَبْد الله. وكان كثيراً ما يغدو على سليمان بن عَبْد الملك، فمرّ في بعض أسفاره محمد بن علي بن عَبْد الله بن عبّاس بمنزله بالحميمة من أعمال البلقاء، فنزل عليه وأدركه المرض عنده، فمات وأوصى له بالأمر. وقد كان أعلم شيعته بالعراق وخراسان أنّ الأمر صائر إلي ولده محمد بن عليّ هذا، فلما مات قصدت الشيعة محمد بن عليّ وبايعوه سراً. وبعث الدعاة منهم إلي الآفاق على رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عَبْد العزيز، وأجابه عامّة أهل خراسان. وبعث عليهم النقباء وتداول أمرهم هنالك. وتوفي محمد سنة أربع وعشرين، وعهد لإبنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمّونه الإمام. ثم بعث أبو مسلم إلي أهل دعوته بخراسان ليقوم فيهم بأمره، فهلك وكتب إليهم بولايته. ثم قبض مروان بن محمد على إبراهيم الإمام وحبسه بخراسان، فهلك هنالك لسنة. وملك أبو مسلم خراسان وزحف إلي العراق، فملكها كما ذكرنا ذلك كله من قبل، وغلبوا بني أُمَيَّة على أمرهم وانقرضت دولتهم.
دولة بني العباس
الخبر عن بني العباس من دول الإِسلام في هذه الطبقة الثالثة للعرب وأولية أمرهم وإنشاء دولتهم والإلمام بنكت أخبارهم وعيون أحاديثهم:
هذه الدولة من دولة الشيعة كما ذكرناه، وفرقها منهم يعرفون بالكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن عليّ بن الحنفيّة بعد عليّ، ثم بعده إلي ابنه أبي هشام عَبْد الله. ثم بعده إلي محمد بن عليّ بن عَبْد الله بن عبّاس بوصيته كما ذكرنا. ثم بعده إلي ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد، ثم بعده إلي أخيه أبي العبّاس السفّاح، وهو عَبْد الله بن الحارثية، هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية، ويسمّون أيضاً الحرماقّية نسبة إلي أبي مسلم لأنه كان يلقب بحرماق. ولبني العبّاس أيضاً شيعة يسمّون الراوندية من أهل خراسان، يزعمون أنّ أحق الناس بالإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم هو العبّاس لأنه وارثه وعاصبه، لقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وإنّ الناس منعوه من ذلك وظلموه إلي أن ردّه الله إلي ولده، ويذهبون إلي البراءة من الشيخين وعثمان، ويجيزون بيعة عليّ لأنّ العباس قال له يا ابن أخي هلم ابايعك فلا يختلف عليك إثنان. ولقول داود بن عليّ - عم الخليفة العباسي- على منبر الكوفة يوم بويع السفّاح: يا أهل الكوفة إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم، يعني السفّاح.
دولة السفاح
قد تقدّم لنا كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم، ثم استيلاء شيعتهم على خراسان والعراق، ثم بيعة السفّاح بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، ثم قتل مروان بن محمد وانقراض الدولة الأموية. ثم خرج بعض أشياعهم وقوّادهم وانتقضوا على أبي العبّاس السفّاح، وكان أوّل من انتقض حبيب بن مرَّة المرَّيّ من قوّاد مروان، وكان بخولان والبلقاء، خاف على نفسه وقومه، فخلع وبيض، ومعناه لبس البياض ونصب الرايات البيض مخالفة لشعار العبّاسية في ذلك. وتابعته قيس ومن يليهم، والسفّاح يومئذ بالحيرة، بلغه أنّ أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابيّ انتقض بقنَّسرين، وكان من قوّاد مروان، ولما انهزم مروان وقدم عليه عَبْد الله بن عليّ بايعه ودخل في دعوة العبّاسية، وكان ولد مسلمة بن عَبْد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فعبث بهم وبنسائهم القائد الذي جاءهم من قبل عَبْد الله بن عليّ. وشكوا ذلك إلي أبي الورد، فقتل القائد، وخلع معه أهل قَّنسرين، وكاتبوا أهل حمص في الخلاف، وقدّموا عليهم أبا محمد عَبْد الله بن يزيد بن معاوية، وقالوا هو السفياني الذي بذكر.ولما بلغ ذلك عَبْد الله بن عليّ، وادع حبيب بن مرّة، وسار إلي أبي الورد بقَّنسرين، ومرّ بدمشق، فخلف بها أبا غانم عَبْد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه وأثقاله، وسار إلي حمص، فبلغه أنّذ أهل دمشق خلعوا وبيّضوا، وقام فيهم بذلك عثمان بن عَبْد الأعلى بن سراقة الأزدي. وأنهم هزموا أبا غانم وعسكره، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما خلف عندهم، فأعرض عن ذلك وسار للقاء السفياني وأبي داود، وقدّم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف، فكشف ورجع إلي أخيه عَبْد الله منهزماً، فزحف عبد الله في جماعة القوّاد، ولقيهم بمرج الأحزم وهم في أربعين ألفاً، فانهزموا، وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه، فقتلوا جميعاً.وهرب أبو محمد إلي ترمذ، وراجع أهل قَّنسرين طاعة العبّاسيّة، ورجع عَبْد الله بن علي إلي قتال أهل دمشق ومن معهم. فهرب عثمان بن سراقة، ودخل أهل دمشق في الدعوة، وبايعوا لعبد الله بن عليّ، ولم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز متغيباً إلي أيام المنصور، فقتله زياد بن عَبْد الله الحارثي عامل الحجاز يومئذ، وبعث برأسه إلي المنصور مع إبنين له أسيرين فأطلقهما المنصور.ثم خلع أهل الجزيرة وبيّضوا، وكان السفّاح قد بعث إليهم ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعب من قوّاده، وأنزلهم بحرّان. وكان إسحق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية، فلما بلغته هزيمة مروان سار عنها، واجتمع إليه أهل الجزيرة، وحاصروا موسى بن كعب بحرّان شهرين، فبعث السفاّح أخاه أبا جعفر إليهم، وكان محاصراً لابن هبيرة بواسط، فسار لقتال إسحق بن مسلم، ومرّ بقرقيسيا والرقّة وأهلهما قد خلعوا وبيّضوا. وسار نحو حرّان، فأجفل إسحق بن مسلم عنها، ودخل الرها، وبعث أخاه بكَّضار بن مسلم إلي قبائل ربيعة بنواحي ماردين، ورئيسهم يومئذ برمكة من الحرورية ، فصمد إليهم أبو جعفر فهزمهم وقتل برمكة في المعركة، وانصرف بكّار إلي أخيه إسحق، فخلفه بالرها، وسار إلي شمشاط بمعظم عسكره. وجاء عَبْد الله بن عليّ فحاصره، ثم جاء أبو جعفر فحاصروه سبعة أشهر وهو يقول: لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقّن موت صاحبها. ثم تيقّن موت مروان، فطلب الأمان، واستأذنوا السفّاح، فأمرهم بتأمينه، وخرج إسحق إلي أبي جعفر فكان من آثر أصحابه. واستقام أهل الجزيرة والشام، ووّلى السفّاح أخاه أبو جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى استخلف.
حصار ابن هبيرة بواسط ومقتله:
ثم تقدّم لنا هزيمة يزيد بن هبيرة أمام الحسن بن قحطبة وتحصنه بواسط، وكان جويرة وبعض أصحابه أشاروا عليه بعد الهزيمة اللحاق بالكوفة فأبى. وأشار عليه يحيى بن حصين باللحاق بمروان وخوّفه عاقبة الحصار، فأبى خشية على نفسه من مروان واعتصم بواسط. وبعث أبو مسلمة الحسن بن قحطبة في العسكر لحصاره، وعلى ميمنته ابنه داود، فانهزم أهل الشام واضطرّوا إلي دجلة، وغرق منهم كثير. ثم تحاجزوا ودخل ابن هبيرة المدينة، وخرج لقتالهم ثانية بعد سبعة أيام فانهزم كذلك، ومكثوا أياماً لا يقتتلون إلا رمياً. وبلغ ابن هبيرة أن أبا أُمَيَّة الثعلبي قد سوّد فحبسه، فغضبت لذلك ربيعة ومعن بن زائدة، وحبسوا ثلاثة نفر من فزارة رهناً في أبي أُمَيَّة، واعتزل معن وعبد الله بن عَبْد الرحمن بن بشير العجلي فيمن معهما، فخلّى ابن هبيرة سبيل أبي أُمَيَّة وصالحهم وعادوا إلي اتفاقهم. ثم قدم على الحسن بن قحطبة من ناحية سجستان أبو نصر مالك بن الهيثم، فأوقد غيلان بن عَبْد الله الخزاعي على السفّاح يخبره بقدوم أبي نصر، وكان غيلان واجداً على الحسن، فرغب من السفّاح أن يبعث عليهم رجلاً من أهل بيته. فبعث أخاه أبا جعفر، وكتب إلي الحسن: العسكر لك، والقوّاد قوّادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً فاحسن طاعته ومؤازرته.وقدم أبو جعفر فأنزله الحسن في خيمته، وجعل على حرسه عثمان بن نهيك. ثم تقدّم مالك بن الهيثم لقتال أهل الشام، وابن هبيرة. فخرجوا لقتاله وأكمنوا معن بن زائدة وأبا يحيى الجرافي. ثم استطردوا لابن الهيثم وانهزموا للخنادق. فخرج عليهم معن وأبو يحيى فقاتلوهم إلي الليل، وتحاجزوا وأقاموا بعد ذلك أياماً. ثم خرج أهل واسط مع معن ومحمد بن نباتة، فهزمهم أصحاب الحسن إلي دجلة، فتساقطوا فيها. وجاء مالك بن الهيثم فوجد إبنه قتيلاً في المعركة، فحمل على أهل واسط حتى أدخلهم المدينة. وكان مالك يملأ السفن حطباً ويضرمها ناراً فتحرق ما تمر به، فيأمر ابن هبيرة بأن تجر بالكلاليب، ومكثوا كذلك أحد عشر شهراً.وجاء إسمعيل بن عَبْد الله القسري إلي ابن هبيرة بقتل مروان، وفشلت اليمانية عن القتال معهم، وتبعهم الفزاريّة فلم يقاتل معه إلا الصعاليك. وبعث ابن هبيرة إلي محمد بن عَبْد الله بن الحسن المثنّى بأن يبايع له، فأبطأ عنه جوابه، وكاتب السفّاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة، وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحرثيان، ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له جهة السفّاح، ولم يفعلا. وتردّد الشعراء بين أبي جعفر وابن هبيرة في الصلح، وأن يكتب له كتاب أمان على ما اختاره ابن هبيرة، وشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه وأنفذه إلي أبي جعفر، فأنفذه إلي السفّاح وأمر بإمضائه، وكان لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، فكتب إليه يحيى بن هبيرة قد خرج بعد الأمان إلي أبي جعفر في ألف وثلثمائة، فلقيه الحاجب سلاّم بن سليم، فأنزله وأجلسه على وسادة، وأطاف بحجرة أبي جعفر عشرة آلاف من أهل خراسان،ثم أذن لابن هبيرة فدخل على المنصور وحادثه، وخرج عنه ومكث يأتيه يوماً ويغبه يوماًً. ثم أغرى أبا جعفر أصحابه بأنه يأتي في خمسمائة فارس وثلثمائة راجل فيهتز له العسكر. فأمر أبو جعفر أن يأتي في حاشيته فقط. فكان يأتي في ثلاثين ثم آخرا في ثلاثة. ثم ألح السفّاح على أبي جعفر في قتله، وهو يراجعه للأمان الذي كتب له، حتى كتب إليه السفّاح: والله لتقتلنه أو لأبعثنّ من يخرجه من حجرتك فيقتله. فبعث أبو جعفر الى وجوه القيسية والمضرية وقد أعد لهم ابن نهيك في مائة من الخراسانية في بعض حجره.وجاء القوم في إثنين وعشرين رجلاً يقدمهم محمد بن نباتة وجويرة بن سهيل، فدعاهم سلام الحاجب رجلين رجلين، وعثمان ابن نهيك يقيدهما إلي أن استكملهم، وبعث أبو جعفر لحازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة في مائة إلي ابن هبيرة، فقالوا: نريد حمل المال، فدلهم حاجبه على الخزائن، فأقاموا عندها الرجال، وأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم. فضربه الهيثم فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل في جماعة من مواليه. ثم قتل ابن هبيرة آخراً وحملت رؤوسهم
إلي أبي جعفر. ونادى بالأمان للناس إلا الحكم بن عَبْد الملك أبي بشر، وخالد بن مسلمة المخزومي، وعمر بن در، فهرب الحكم وأمن أبو جعفر خالداً، فلم يجز السفاح أمانه، وقتله واستأمن زياد بن عبيد الله لابن در فأمنه.
مقتل أبي مسلمة بن الخلال وسليمان بن كثير:
قد تقدّم لنا ما كان من أبي مسلمة الخلال في أمر أبى العباس السفّاح، واتهام الشيعة في أمره، وتغير السفّاح عليه وهو بعكوة أعين ظاهر الكوفة. ثم تحول إلي مدينة الهاشمية ونزل قصرها وهو يتنكر لأبي مسلمة، وكتب إلي أبي مسلم ببغيته وبرأيه فيه، فكتب إليه أبو مسلم بقتله. وقال له داود بن علي: لا تفعل. فيحتج بها أبو مسلم عليك، والذين معك أصحابه وهم له أطوع، ولكن أكتب إليه يبعث من يقتله، ففعل. وبعث أبو مسلم مرار بن أنس الضبي فقتله. فلما قدم نادى السفّاح بالرضا عن أبي مسلمة، ودعا به وخلع عليه. ثم دخل عنده ليلة أخرى، فسهر عامة ليله، ثم انصرف إلي منزله، فاعترضه مرار بن أنس وأصحابه فقتلوه، وقالوا قتله الخوارج. وصفى عليه من الغد يحيى أخو السفّاح، وكان يسمى وزير آل محمد، وأبو مسلم أمير آل محمد. وبلغ الخبر إلي أبي مسلم، وسرح سليمان بن كثير بالنكير لذلك فقتله أبو مسلم، وبعث على فارس محمد بن الأشعث وأمره أن يقتل ابن أبي مسلمة ففعل.
عمال السفاح:
ولما استقام الأمر للسفّاح ولى على الكوفة والسواد عمه داود بن علي، ثم عزله وولاه على الحجاز واليمن واليمامة، وولى مكانه على الكوفة عيسى ابن أخيه موسى بن محمد. ثم توفي داود سنة ثلاث وثلاثين، فولى مكانه على الحجاز واليمامة خالد بن زياد بن عبيد الله بن عبيد <*> وعلى اليمن محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عَبْد
... وولى السفّاح على البصرة سفيان بن معاوية المهفبيئ، ثم عزله وولى مكانه عمه سليمان بن علي، وأضاف إليه كور دجلة والبحرين وعمان. وولى عمه إسمعيل بن علي الأهواز، وعمه عَبْد الله بن علي على الشام، وأبا عون عَبْد الملك بن يزيد على مصر، وأبا مسلم على خراسان، وبرمك على ديوان الخراج. وولى عمه عيسى بن علي على فارس، فسبقه إليها محمد بن الأشعث من قبل أبي مسلم. فلما قدم عليه عيسى هم محمد بقتله، وقال: أمرني أبو مسلم أن أقتل من جاءني بولاية من غيره. ثم أقصر عن قتله وأستحلفه بأيمان لا مخارج لها أن لا يعلو منبرأ ما عاش، ولا يتقلد سيفأ إلا في جهاد، فوفى عيسى بذلك بقية عمره.واستعمل بعده على فارس عمه إسمعيل بن علي، واستعمل على الموصل محمد بن صول، فطرده أهلها وقالوا: بل علينا تولى خثعم، وكانوا منحرفين عن بني العباس، فاستعمل السفّاح عليهم أخاه يحيى وبعثه في إثني عشر ألفاً، فنزل قصر الإمارة وقتل منهم إثني عشر رجلاً، فثاروا به وحمل السلاح، فنودي فيهم بالأمان لمن دخل المسجد الجامع، فتسايل الناس عليه، وقد أقام الرجال على أبوابه، فقتلوا كل من دخل. يقال: قتل أحد عشر ألفاً ممن لبث، وما لا يحصى من غيرهم. وسمع صياح النساء بالليل، فأمر من الغد بقتل النساء والصبيان، واستباحهم ثلاثة أيام.وكان في عسكره أربعة آلاف من الزنوج فعانوا في النساء. وركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف، فاعترضته إمرأة وأخذت بعنان دابته وقالت له: ألست من بني هاشم؟ ألست ابن عم الرسول؟ أمَّا تعلم أن المؤمنات المسلمات ينكحهن الزنوج؟ فأمسك عنها وجمع الزنج من الغد للعطاء، وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم. وبلغ السفّاح سوء أمره في أهل الموصل فعزله، وولى مكانه إسمعيل، بن علي، وولى يحيى مكان إسمعيل بالأهواز وفارس. وملك الروم ملطية وقالقيلا. وفي سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم فحصر ملطية، والفتن يومئذ بالجزيرة، وعاملها يومئذ موسى بن كعب بن أسان. فلم يزل حاصرهم حتى نزلوا على الأمان، وانتقلوا إلي بلاد الجزيرة، وحملوا ما قدروا عليه. وخرب الروم ملطية، وساروا عنها إلي مرج الحصى، وأرسل قسطنطين العساكر إلي قالقيلا من نواحي ماردين مع قائده كوشان الأرمني، فحصرها وداخل بعض الأرمن من أهل المدينة فنقبوا له السور، فاقتحم البلد من ذلك النقب واستباحها.
الثوار بالنواحي:
كان المثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة قد ولاه أبو علي اليمامة، فلما قتل يزيد أبوه امتنع هو باليمامة، فبعث إليه زياد بن عبيد المدن بالعساكر من المدينة مع إبراهيم بن حيان السلمي، فقتله وقتل أصحابه، وذلك سنة ثلاث وثلاثين. (وفيها) خرج شريك ابن شيخ إسحاراً على أبي مسلم، ونقض أفعاله، واجتمع إليه أكثر من ثلاثين ألفاً، فبعث إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعى فقاتله وقتله. (وفيها) توجه أبو داود وخالد بن إبراهيم إلي الختل، فتحصن ملكهم ابن السبيل منهما، ومنعه الدهاقين، فحاصره أبو داود حتى جهد الحصار، فخرج من حصنه مع الدهاقين ولحق بفرغانة. ثم سار منها إلي بلد الصين، وأخذ أبوداود من ظفر به في الحصن فبعث بهم إلي أبي مسلم.(وفيها) الفتنة بين أخشيد فرغانة وملك الشاش، واستمد الأخشيد ملك الصين فأمده بمائة ألف مقاتل، وحصروا ملك الشاش حتى نزلوا على حكم ملك الصين، فلم يعرض له ولا لقومه بسوء. وبعث أبو مسلم زياد بن صالح لاعتراضهم، فلقيهم على نهر الطرار، فظفر بهم وقتل منهم نحواً من خمسين ألفاً، وأسر نحواً من عشرين ألفاً، ولحق بهم بالصين، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين. ثم انتقض بسام بن إبراهيم بن بسام من فرسان أهل خراسان، وسار من عسكر السفّاح وجماعة على رأيه سراً إلي المدائن، فبعث السفّاح في أثرهم خازم بن خزيمة فقاتلهم وقتل أكثرهم واستباحهم، وبلغ ماه وانصرف، فمر بذات المطامير،ن وبها أخوال السفّاح من بني عَبْد المدان في نحو سبعين من قرابتهم ومواليهم.وقيل له: إن المغيرة من أصحاب بسام عندهم، فسألهم عنه فقالوا: مر بنا مجتازا، فهددهم إن لم يأخذه، فأغلظوا له في القول فقتلهم أجمعين ، ونهب أموالهم، وهدم دورهم، وغضبت اليمانية لذلك ودخل بهم زياد بن عبيد الله الحرثي على السفّاح وشكوا إليه ما فعل بهم فهم بقتله. وبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطية فدخلا على السفاح، وذكراه سابقة الشيعة وطاعتهم، وأنهم آثروكم على الأقارب والأولاد وقتلوا من خالفكم، فإن كان لا بد من قتله فابعثه لوجه من الوجوه، فإن قتل هو الذي تريد، وإن ظفر فلك، بعثه إلي الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان من عمان، مع شيبان بن عَبْد العزيز اليشكري، فبعث معه سبعمائة رجل، فحملهم سليمان بن علي من البصرة في السفن، وقد انضم إليه من أهله وعشيرته ومواليه وعدة من بني تميم من البصرة، فلما أرسوا بجزيرة ابن كاوان قدم خازم فضلة بن نعيم المنشلي في خمسمائة إلي شيبان، فانهزم هو وأصحابه وكانوا صفرية، وركبوا إلي عمان فقاتلهم الجلندي في الإباضية، فقتل شيبان ومن معه كما مر، وشيبان هذا غير شيبان بن سلمة الذي قتل بخراسان، فربما يشتبهان.ثم ركب خازم البحر إلي ساحل عمان، فنزل وقاتل الجلندي أياماً، أمر خازم أصحابه في آخرها أن يجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة، ويدوروها بالنفط، ويشعلوها بالنيران، ويرموها في بيوت القوم، وكانت من خشب. فلما اضطرمت فيها النار شغلوا بأهليهم وأولادهم عن القتل، فحمل عليهم خازم وأصحابه فاستلحموهم. وقتل الجلندي وعشرة آلاف، فبعث خازم برؤوسهم إلي البصرة فبعثها سليمان إلي السفاح فندم اهـ،ثم غزا خالد بن إبراهيم أهل كش، فقتل الاخر يد ملكها وهو مطيع واستباحهم،وأخذ من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة، ومن الديباج والسروج ومتاع الصين وظرفه ما لم يرمثله، وحمله إلي أبي مسلم بسمرقند. وقتل عدة من دهاقين كش، ومفك طازان أخا الاخر يد على كش، ورجع أبو مسلم إلي مرو بعد أن فتك في الصغد وبخارى، وأمر ببناء سور سمرقند. واستخلف زياد بن صالح على بخارى وسمرقند، ورجع أبو داود إلي بلخ. ثم بلغ السفّاح انتقاض منصور بن جمهور بالسند، فبعث صاحب شرطته موسى بن كعب، واستخلف مكانه على الشرطة المسيب بن زهير.وسار موسى لقتال ابن جمهور، فلقيه بتخوم الهند وهو في نحو إثني عشر ألفاً، فانهزم ومات عطشاً في الرمال. ورحل عامله على السند بعياله وثقلته، فدخل بهم بلاد الخزر. ثم انتقض سنة خمس وثلاثين زياد بن صالح وراء النهر. فسار أبو مسلم إليه من مرو، وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلي ترمذ ليمنعها من زياد، فلما وصل إليها خرج عليه ناس من الطالقان فقتلوه، فبعث مكانه عيسى بن ماهان فسمع قتلة نصر فقتلهم. وسار أبو مسلم فانتهى إلي آمد ومعه سباع بن النعمان الأزدي، وكان السفّاح قد دس معه إلي زياد بن صالح الأزدي أن ينتهز فرصة في أبي مسلم فيقتله. ونمى الخبر إلي أبي مسلم فحبس سباعاً بآمد، وسار عنها وأمر عامله بقتله. ولقيه قواد زياد في طريقه وقد خلعوا زياداً، فدخل أبو مسلم بخارى، ونجا زياد إلي دهقان هناك فقتله وحمل رأسه إلي أبي مسلم. وكتب أبو مسلم إلي أبي داود فقتله، وكان قد شغل بأهل الطالقان، فرجع إلي كش، وبعث عيسى بن ماهان إلي بسام فلم يظفر منها بشيء، وبعث إلي بعض أصحاب أبي مسلم يعيب أبا داود وعيسى، فضربه وحبسه، ثم أخرجه فوثب عليه الجند فقتلوه، ورجع أبو مسلم إلي مرو.
حج أبي جعفر وأبي مسلم:
وفي سنة ست وثلاثين استأذن أبو مسلم السفّاح في القدوم عليه للحج، وكان منذ ولي خراسان لم يفارقها، فأذن له في القدوم مع خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم أني قد عاديت الناس ولمست آمن على نفسي فأذن له في ألف، وقال: إن طريق مكة لا تحتمل العسكر، فسار في ثمانية آلاف فرقهم ما بين نيسابور والري، وخلف أمواله وخزائنه بالري وقدم في ألف وخرج القواد بأمر السفاح لتلقيه، فدخل على السفاح وأكرمه وأعظمه. واستأذن في الحج فأذن له، وقال: لولا أن أبا جعفر يريد الحج لاستعملتك على الموسم، فأنزله بقرية وكان قد كتب إلي أبي جعفر أن أبا مسلم استأذنني في الحج وأذنت له، وهو يريد ولاية الموسم، فاسألني أنت في الحج، فلا تطمع أن يتقدمك، وأذن له فقدم الأنبار. وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعداً من حيث بعث السفاح أبا جعفر إلي خراسان ليأخذ البيعة له ولأبي جعفر من بعده، ويولي أبا مسلم على خراسان، فاستخلى أبو مسلم بأبي جعفر. فلما قدم ألان أبو جعفر السفّاح بقتله، وأذن له فيه، ثم ندم وكفه عن ذلك، وسار أبو جعفر إلي الحج ومعه أبو مسلم واستعمل على حران مقاتل بن حكيم العكي.
موت السفاح وبيعة المنصور:
كان أبو العباس قد تحول من الحيرة إلي الأنبار في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين، فأقام بها سنتين ثم توفي في ذي الحجة سنة ست وثلاثين لثلاث عشرة ليلة خلت منه، ولأربع سنين وثمانية أشهر من لدن بويع، وصلى عليه عمه عيسى ودفن بالأنبار. وكان وزيره أبو الجهم بن عطية، وكان قبل موته قد عهد بالخلافة لأخيه أبي جعفر، ومن بعده لعيسى ابن أخيهما موسى، وجعل العهد في ثوب وختمه بخواتيمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلي عيسى، ولما توفي السفّاح، وكان أبو جعفر بمكة، فأخذ البيعة على الناس عيسى بن موسى، وكتب إليه بالخبر فجزع واستدعى أبا مسلم وكان متأخراً عنه، فأقرأه الكتاب فبكى واسترجع، وسكن أبا جعفر عن الجزع فقال: أخاف شر عَبْد الله بن عليّ، فقال: ألا أكفيكه وعامة جنده أهل خراسان، وهم أطوع لي منه فسري عنه. وبايع له أبو مسلم والناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة. ويقال: إن أبا مسلم كان متقدماً على أبي جعفر، فإن الخبر قد أتاه قبله، فكتب أبو مسلم إليه يعزيه ويهنيه بالخلافة، وبعد يومين كتب له ببيعته. وقدم أبو جعفر الكوفة سنة سبع وثلاثين، وسار منها إلي الأنبار، فسلم إليه عيسى بيوت الأموال والدواوين واستقام أمر أبي جعفر. انتقاض عَبْد الله بن عليّ وهزيمته: كان عَبْد الله بن عليّ قدم على السفّاح قبل موته، فبعثه إلي الصائفة في جنود أهل الشام وخراسان، فانتهى إلي دلوك ولم يدر حتى جاءه كتاب عيسى بن موسى بوفاة السفّاح، وأخذ البيعة لأبي جعفر وله من بعده كما عهد به السفّاح، فجمع عَبْد الله الناس، وقرأ عليهم الكتاب، وأعلمهم أن السفّاح حين أراد أن يبعث الجنود إلي حران تكاسل بنو أبيه عنها، فقال لهم: من انتدب منكم فهو ولي عهدي فلم ينتدب غيري! وشهد له أبو غانم الطائي وخفاف المروزي وغيرهما من القواد وبايعوه، وفيهم حميد بن حكيم بن قحطبة وغيره من خراسان والشام والجزيرة. ثم سار عَبْد الله حتى نزل حران وحاصر مقاتل بن حكيم العكي أربعين يوماً، وخشي من أهل خراسان فقتل منهم جماعة، وولى حميد بن قحطبة على حلب، وكتب معه إلي عاملها زفر بن عاصم بقتله، فقرأ الكتاب في طريقه وسار إلي العراق. وجاء أبو جعفر من الحج،
فبعث أبا مسلم لقتال عَبْد الله، ولحقه حميد بن قحطبة نازعاً عن عَبْد الله، فسار معه، وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي. ولما بلغ عَبْد الله خبر إقباله وهو على حران بذل الأمان لمقاتل بن حكيم ومن معه وملك حران. ثم بعث مقاتلاً بكتابه إلي عثمان بن عَبْد الأعلى، فلما قرأ الكتاب قتله وحبس إبنيه، حتى إذا هزم عَبْد الله قتلهما. وأمر المنصور محمد بن صول وهو على أذربيجان أن يأتي عَبْد الله بن علي ليمكر به، فجاء وقال: إني سمعت السفّاح يقول: الخليفة بعدي عمي عَبْد الله، فشعر بمكيدته وقتله، وهو جد إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب.ثم أقبل عَبْد الله بن علي حتى نزل نصيبين وخندق عليه، وقدم أبو مسلم فيمن معه. وكان المنصور قد كتب إلي الحسن بن قحطبة عامله على أرمينية بأن يوافي أبا مسلم، فقدم عليه بالموصل، وسار معه. ونزل أبو مسلم ناحية نصيبين، وكتب إلي عَبْد الله: أني قد وليت الشام ولم أؤمر بقتالك، فقال أهل الشام لعبد الله سر بنا إلي الشام لنمنع نساءنا وأبناءنا. فقال لهم عَبْد الله: ما يريد إلا قتالنا وإنما قصد المكر بنا فأبوا إلا الشام، فارتحل بهم إلي الشام، ونزل أبو مسلم في موضع معسكره، وغور ما حوله من المياه، فوقف أصحاب عَبْد الله بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى الخيل عَبْد الصمد بن علي أخو عَبْد الله وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته خازم بن خزيمة، فاقتتلوا شهراً. ثم حمل أصحاب عَبْد الله على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم، وحمل عَبْد الصمد فقتل منهم ثمانية عشر رجلاً. ثم حمل عليهم ثانية فأزالوا صفهم. ثم نادى منادي أبي مسلم في أهل خراسان فتراجعوا. وكان يجلس إذا لقي الناس على عريش ينظر منه إلي الحومة، فإن رأى خللاً أرسل بسده. فلا تزال رسله تختلف بينه وبين الناس حتى ينصرفوا. فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين اقتتلوا، وأمر أبو مسلم الحسن بن قحطبة أن يضم إلي الميسرة وينزل في الميمنة حماة أصحابه، فانضم أهل الشام من الميسرة إلي الميمنة كما أمرهم، وأمر أبو مسلم أهل القلب فحطموهم وركبهم أصحاب أبي مسلم.
فانهزم أصحاب عَبْد الله فقال لابن سراقة. ما ترى؟ قال الصبر إلي أن تموت، فالفرار فيكم بمثلك قبيح. قال: بل آتي العراق فأنا معك فانهزموا وحوى أبو مسلم عسكرهم. وكتب بذلك إلي المنصور، ومضى عَبْد الله وعبد الصمد. فقدم عَبْد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى، وأمنه المنصور، وقيل بل أقام بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مروان العجلي في خيول أرسلها المنصور، فبعث به موثقاً مع أبي الخطيب، فأطلقه المنصور. وأمَّا عَبْد الله فقدم البصرة، وأقام عند أخيه سليمان متوارياً حتى طلبه واشخص إليه. ثم إن أبا مسلم أمن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكف عنهم <*>،
ذكر قتل أبي مسلم الخراساني
كان أبو مسلم لمّا حج مع المنصور يؤيد نفسه عليه، ويتقدم بالإحسان للوفود وإصلاح الطريق والمياه، وكان الذكر له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه. ولما صدروا عن الموسم، تقدم أبو مسلم، ولقيه الخبر بوفاة السفاح، فبعث إلي أبي جعفر يعزيه، ولم يهنئه بالخلافة، ولا رجع إليه ولا أقام ينتظره. فغضب أبو جعفر وكتب إليه وأغلظ في العتاب، فكتب يهنئه بالخلافة ويقدم إلي <*>، فدعا عيسى بن موسى إلي أن يبايع له، فأبى وقدم أبو جعفر، وقد خلع عبيد الله بن علي، فسرح أبا مسلم لقتاله، فهزمه كما مر، وجمع الغنايم من عسكره. فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها، فغضب أبو مسلم ونال: أنا أعين على الدعاء فكيف أخون الأموال؟ وهم بقتل الخصيب ثم خلى عنه.وخشي المنصور أن يمضي إلي خراسان، فكتب إليه بولاية مصر والشام، فازداد نفاراً وخرج من الجزيرة يريد خراسان، وسار المنصور إلي المدائن، وكتب إليه يستقدمه، فأجابه بالامتناع والمسك بالطاعة عن بعد، والتهديد بالخلع إن طلب منه لسوى ذلك، فكتب إليه المنصور ينكر عليه هذا الشرط، وأنه لا يحسن طاعة. وبعث إليه عيسى بن موسى برسالة يؤنسه ويسليه. وقيل: بل كتب إليه أبو مسلم يعرض له بالخلع، وأنه قد تاب إلي الله مما جناه من القيام بدعوتهم، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان، وأمر المنصور عمه عيسى ومشيخة بني هاشم بالكتاب على أبي مسلم يحرضونه على التمسك بالطاعة، ويحذرونه عاقبة البغي، ويأمرونه بالمراجعة. وبعث الكتب مع مولاه أبي حميد المرودوذي ، وأمره بملاينته والخضوع له بالقول حتى ييأس منه، فإذا يئس يخبره بقسم أمير المؤمنين لأوكلت أمرك إلي غيري، ولو خضت البحر خضته وراءك، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك وأموت. فأوصل أبو حميد الكتب وتلطف له في القول ما شاء، واحتج عليه بما كان منه في التحريض على طاعتهم، فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم فأبى له من الإصغاء إلي هذا القول وقال: والله لئن أتيته ليقتلنك. ثم بعث إلي نيزك صاحب الري يستشيره، فأبى له من ذلك، وأشار عليه بنزول الري وخراسان من ورائه، فيكون أمكن لسلطانه. فأجاب أبا حميد بالامتناع، فلما يئس منه أبلغه مقالة المنصور، فوجم طويلاً ورعب من ذلك القول وأكبره. وكان المنصور قد كتب إلي عامل أبي مسلم بخراسان يرغبه في الإنحراف عنه بولاية خراسان فأجاب سراً، وكتب إلي أبي مسلم يحذره الخلاف والمعصية، فزاده ذلك رعباً وقال لأبي حميد قبل انصرافه: قد كنت عزمت على المضي إلي خراسان، ثم رأيت أن أوجه أبا إسحق إلي أمير المؤمنين يأتيني برايته فإني أثق به. ولما قدم أبو إسحق تلقاه بنو هاشم وأهل الدولة بكل ما يجب، وداخله المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهة خراسان ووعده بولايتها، فرجع إليه وأشار عليه بلقاء المنصور، فاعتزم على ذلك. واستخلف مالك بن الهيثم على عسكره بحلوان، وسار فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخشي أبو أيوب وزير المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك، فدعا بعض إخوانه، وأشار عليه بأن يأتي أبا مسلم ويتوسل به إلي المنصور في ولاية كسكر ليعيب فيها مالاً عظيماً. وأن يشرك أخاه في ذلك، فإن أمير المؤمنين عازم أن يوليه ما يوري به ويريح نفسه. واستأذن له المنصور في لقاء أبي مسلم فأذن له، فلقي أبا مسلم وتوسل إليه وأخبره الخبر، فطابت نفسه وذهب عنه الحزن. ولما قرب أمر الناس بتلقيه، ثم دخل على المنصور فقبل يده وانصرف ليريح ليلته، ودعا المنصور من الغد حاجبه عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس، منهم شبيب بن رواح، وابن حنفية حرب بن قيس، وأجلسهم خلف الرواق، وأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه. واستدعى أبا مسلم، فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمه عَبْد الله بن علي، وكان متقلداً بأحدهما، فقال: هذا أحدهما ! فقال: أرني ! فانتضاه أبو مسلم وناوله إياه، فأخذ يقلبه بيده ويهزه. ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل يعاتبه، فقال: كتبت إلي السفاح تنهاه عن الموات كأنك تعلمه: قال: ظننت أنه لا يحل، ثم اقتديت بكتاب السفاح وعلمت أنكم معدن العلم. قال: فتوركك عني بطريق مكة! قال كرهت مزاحمتك على الماء! قال فامتناعك من الرجوع إلي حين بلغك موت السفّاح أو الإقامة حتى ألحقك! قال: طلبت الرفق بالناس والمبادرة إلي الكوفة! قال فجارية عَبْد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك! قال: لا إنما وكلت بها من يحفظها. قال: فمراغمتك ومسيرك إلي خراسان! قال: خشيت منك، فقلت آتي خراساني وأكتب بعذري فأذهب ما في نفسك مني! قال: فالمال الذي جمعه بحران! قال: أنفقته في الجندية تقوية لكم. قال ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب آسية بنت علي وتزعم أنك ابن سليط بن عَبْد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعباً. ثم قال له: وما الذي دعاك إلي قتل سليمان بن كثير، مع أثره في دعوتنا، وهو أحد نقبائنا، من قبل أن ندخلك في هذا الأمر؟ قال: أراد الخلافة فقتلته. ثم قال أبو مسلم: كيف يقال هذا بعد بلائي وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة لو كانت أمة مكانك لأغنت، إنما ذلك بدولتنا وربحنا. وأكب أبو مسلم يقبل يده ويعتذر، فازداد المنصور غضباً. ثم قال أبو مسلم دع هذا! فقد أصبحت لا أخاف إلا الله. فشتمه المنصور وصفق بيديه، فخرج الحرس. وضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه. فقال: استبقني لعدوك! فقال: لا أبقاني الله إذاً وأي عدو أعدى منك، وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه، وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين. وخرج الوزير أبو الجهم فصرف الناس، وقال: الأمير قائل عند أمير المؤمنين فانصرفوا، وأمر لهم بالجوائز، وأعطى إسحاق مائة ألف. ودخل عيسى بن موسى على المنصور فسأل عنه، وأخذ في الثناء على طاعته وبلائه، وذكر رأي الإمام إبراهيم فيه.
فقال المنصور: والله ما أعلم على وجه الأرض عدواً أعدى لكم منه، هو ذا في البساط. فاسترجع عيسى، فأنكر عليه المنصور وقال: وهل كان لكم ملك معه؟ ثم دعا جعفر بن حنظلة واستشاره في أمر أبي مسلم، فأشار بقتله فقال له المنصور وفقك الله! ثم نظر إليه قتيلاً، فقال له يا أمير المؤمنين عد خلافتك من هذا اليوم. ثم دعا أبا إسحق عن متابعة أبي مسلم، وقال تكلم بما أردت، وأخرجه قتيلاً. فسجد أبو إسحق ثم رفع رأسه يقول: الحمد لله! أميت هو؟ ولله ما جئته قط إلا تكفنت وتحنطت ورفع ثيابه وأراه كفنه وحنوطه. فرحمه وقال له استقبل طاعتك، واحمد الله الذي أراحك. وكتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلي أبي نصر بن الهيثم على لسان أبي مسلم يأمره بحمل أثقاله، وقد كان أبو مسلم أوصاه إن جاءك كتاب بخاتمي تاماً فاعلم أني لم أكتبه، فلما رآه كذلك فطن وانحدر إلي همذان يريد خراسان، فكتب له المنصور بولاية شهرزور، وكتب إلي زهير بن التركي بهمذان بحبسه. فمر أبو نصر بهمذان وخادعه زهير ودعاه إلي طعامه وحبسه. وجاء كتاب العهد بشهرزور لأبي نصر، فأطلقه زهير، ثم جاءه بعد ذلك الكتاب بقتله، فقال جاءني كتاب عهده فخفيت سبيله. وقدم أبو نصر على المنصور فعذله في إشارته على أبي مسلم بخراسان، فقال: نعم استنصحني فنصحت له. وإن استنصحني أمير المؤمنين نصحت وشكرت، واستعمله على الموصل. وخطب أبو جعفر الناس بعد قتل أبي مسلم وانسهم وافترق أصحابه، وخرج منهم بخراسان رجل إسمه سنباد ويسمى فيروز أصبهبذ، وتبعه أكثر الجبال يطلبون بدم أبى مسلم، وغلب على نيسابور والري، وأخذ الخزائن أبي مسلم التي خلفها بالري حين شخص إلي السفاح. وسبى الحرم ونهب الأموال، ولم يعرض إلي التجار. وكان يظهر أنه قاصد إلي الكعبة يهدمها، فسرح إليه المنصور جمهور بن مرار العجلي والتقوا على طرق المفازة بين همذان والري، فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم نحواً من ستين ألفاً، وسبى ذراريهم ونساءهم. ولحق سنباد بطبرستان، فقتله بعض عمال صاحبها وأخذ ما معه. وكتب إلي المنصور بذلك، فكتب إليه المنصور في الأموال فأنكر، فسرح إليه الجنود فهرب إلي الديلم. ثم إن جمهور بن مرار لمّا حوى ما في عسكر سنباد، ولم يبعث به خاف من المنصور، فخلع واعتصم بالري فسرح إليه محمد بن الأشعث في الجيوش، فخرج من الري إلي أصبهان فملكها، وملك حمد الري. ثم اقتتلوا وانهزم جمهور فلحق بأذربيجان، وقتله بعض أصحابه وحملوا رأسه إلي المنصور وذلك سنة ثمان وثلاثين.
حبس عَبْد الله بن علي:
كان عَبْد الله بن علي بعد هزيمته أمام أبي مسلم لحق بالبصرة، ونزل على أخيه سليمان. ثم إن المنصور عزل سليمان سنة تسع وثلاثين، فاختفى عَبْد الله وأصحابه، فكتب المنصور إلي سليمان وأخيه عيسى بأمان عَبْد الله وقواده ومواليه، وأشخاصهم إلي المنصور منهما فشخصوا. ولما قدما عليه فأذن لهما فأعلماه بحضور عَبْد الله، واستأذناه له فشغلهما بالحديث، وأمر بحبسه في مكان قد هيئ له في القصر، فلما خرج سليمان وعيسى لم يجد عَبْد الله، فعلما أنه قد حبس وأن ذمتهما قد أخفرت، فرجعا إلي المنصور فحبسا عنه. وتوزع أصحاب عَبْد الله بين الحبس والقتل، وبعث ببعضهم إلي أبي داود خالد بن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها. ولم يزل عَبْد الله محبوساً حتى عهد المنصور إلي المهدي سنة تسع وأربعين، وأمر موسى بن عيسى فجعله بعد المهدي، ودفع إليه عَبْد الله، وأمره بقتله، وخرج حاجاً. وسار عيسى كاتبه يونس بن فروة في قتل عَبْد الله بن علي فقال: لا تفعل فإنه يقتلك به، وإن طلبه منك فلا ترده إليه سراً، فلما قفل المنصور من الحج دس على أعمامه من يحرضهم على الشفاعة في أخيهم عَبْد الله فشفعهم، وقال لعيسى: جئنا به! فقال: قتلته كما أمرتني. فأنكر المنصور وقال خذوه بأخيكم، فخرجوا به ليقتلوه حتى اجتمع الناس واشتهر الأمر، فجاء به وقال: هو ذا حي سوي، فجعله المنصور في بيت أساسه ملح وأجرى عليه الماء فسقط ومات.
وقعة الراوندية:
كان هؤلاء القوم من أهل خراسان، ومن أتباع أبي مسلم، يقولون بالتناسخ والحلول، وأن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن الله حل في المنصور وجبريل في الهيثم بن معاوية. فحبس المنصور نحواً من مائتين منهم، فغضب الباقون، واجتمعوا وحملوا بينهم نعشاً كأنهم في جنازة، وجاؤا إلي السجن، فرموا بالنعش وأخرجوا أصحابهم، وحملوا على الناس في ستمائة رجل. وقصدوا قصر المنصور، وخرج المنصور من القصر ماشيا. وجاء معن بن زائدة الشيباني وكان مستخفياً من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة، وقد اشتد طلب المنصور له، فحضر عنده هذا اليوم فتلثما، وترجل وأبلى. ثم جاء إلي المنصور ولجام بغلته في يد الربيع حاجبه، وقال: تنح ذا أنا أحق بهذا اللجام في هذا الوقت
وأعظم، فنازل وقاتل حتى ظفر بالراوندية. ثم سأله فانتسب فأمنه واصطنعه.
وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم ووقف على باب المنصور وقال: أنا اليوم بواب ثم قاتلهم أهل السوق، وفتح باب المدينة، ودخل الناس وحمل عليهم خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة حتى قتلوهم عن آخرهم. وأصاب عثمان بن نهيك في الحومة سهم فمات منه بعد أيام، وجعل على الحبس بعده أخاه عيسى، ثم بعده أبا العباس الطوسي، وذلك كله بالهاشمية. ثم أحضر معناً ورفع منزلته وأثنى عليه بما كان منه في ذلك اليوم مع عمه عيسى، فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت إلي الحكومة وجلا حتى رأيت شذتك، فحملني ذلك على ما رأيت مني، وقيل: إنه كان مختفياً عند أبي الخصيب حاجب المنصور، وأنه جاء يوم الراوندية، فاستأذن أبو الخصيب وشاوره المنصور، فأشار ببث المال في الناس، وأبى المنصور إلا الركوب إليهم بنفسه، فخرج بين يديه وأبلى حتى قتلوا. ثم تغيب فاستدناه وأمنه وولاه على اليمن.
انتقاض خراسان ومسير المهدي إليها:
كان السفاح قد ولى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الذهلي، بعد انتقاض بسام بن إبراهيم ومهلكه. فلما كان سنة أربعين ثار به بعض الجند وهو بكشماهن وجاؤا إلي منزله، فأشرف عليهم ليلاً من السطح، فزلت قدمه فسقط ومات ليومه. وكان عصام صاحب شرطته، فقام بالأمر بعده. ثم ولى المنصور على خراسان عَبْد الجبار بن عَبْد الرحمن، فقدم علها وحبس جماعة من القواد. اتهمهم بالدعاء للعلوية، منهم مجاشع بن حريث الأنصاري عامل بخارى، وأبو المعرة خالد بن كثير مولى بني تميم عامل قهستان، والحريش بن محمد الذهلي ابن عم أبي داود في آخرين. ثم قتل هؤلاء وألح على عمال أبي داود في استخراج المال، وانتهت الشكوى إلي المنصور بذلك، فقال لأبي أيوب: إنما يريد بفناء شيعتنا الخلع، فأشار عليه أبو أيوب أن تبعث من جنود خراسان لغزو الروم، فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت، واستمكن منه. فكتب إليه بذلك فأجاب بأن الترك قد جاشت، وإن فرقت الجنود خشيت على خراسان. فقال له أبو أيوب: اكتب إليه بأنك ممده بالجيوش، وابعث معها من شئت يستمكن منه، فأجاب عَبْد الجبار بأن خراسان مغلبة في عامها، ولا تحتمل زيادة العسكر. فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله. فبعث إبنه المهدي، فسار ونزل الري. وقدم خازم بن خزيمة
لحرب عَبْد الجبار، فقاتلوه فانهزم وجاء إلي مقطنة وتوارى فيها. فعبر أبى المحشد بن مزاحم من أهل مرو الروذ، وجاء به إلي خازم، فحمله على بعير وعليه جبة صوف، ووجهه إلي عجز البعير، وحمله إلي المنصور في ولده وأصحابه. فبسط إليهم العذاب حتى استخرج الأموال، ثم قطع يديه ورجليه وقتله. وذلك سنة اثنتين وأربعين، وبعث بولده إلي دهلك فعزلهم بها، وأقام المهدي بخراسان، حتى رجع إلي العراق سنة تسع وأربعين . وفي سنة اثنتين وأربعين انتقض عيينة بن موسى بن كعب بالسند، وكان عاملاً عليها من بعد أبيه، وكان أبوه يستخلف المسيب بن زهير على الشرط، فخشي المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن يوليه على الشرط، فحذره المنصور وحرضه على الخلاف فخلع الطاعة. وسار المنصور إلي البصرة وسرح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكي لحرب عيينة، وولاه على السند والهند، فورد السند وغلب عليها. وفي هذه السنة انتقض الأصبهبذ بطبرستان، وقتل من كان في أرضه من المسلمين، فبعث المنصور مولاه أبا الخطيب، وخازم بن خزيمة، وروح بن حاتم في العساكر فحاصروه في حصنه مدة، ثم تحيلوا ففتح لهم الحصن من داخله، وقتلوا المقاتلة، وسبى الذرية، وكان مع الأصبهبذ كبد سم فشربه ومات.
أمر بني العباس: بنو هاشم حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه، وتشاوروا فيمن يعقدون له الخلافة، فاتفقوا على محمد بن عَبْد الله بن الحسن المثنى بن علي، وكان يقال: إن المنصور ممن بايعه تلك الليلة. ولما حج أيام أخيه السفاح سنة ست وثلاثين تغيب عنه محمد وأخوه إبراهيم، ولم يحضرا عنده مع بني هاشم. وسأل عنهما فقال له زياد بن عبيد الله الحرثي أنا آتيك بهما، وكان بمكة، فرده المنصور إلي المدينة. ثم استخلف المنصور وطفق يسأل عن محمد ويختص بني هاشم بالسؤال سراً، فكلهم يقول: إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر، فخافك على نفسه، ويحسن العذر عنه إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، فإنه قال له: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنه لا ينام عنك، لكان موسى بن عَبْد الله بن حسن يقول بعد هذا: اللهم اطلب الحسن بن زيد بدمائنا. ثم إن المنصور حج سنة ، وألح على عَبْد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد، فاستشار عَبْد الله سليمان بن علي في إحضاره فقال له: لو كان عافياً عفى عن عمه! فاستمر عَبْد الله على الكتمان، وبث المنصور العيون بين الأعراب في طلبه بسائر بوادي الحجاز ومياهها. ثم كتب كتاباً على لسان الشيعة إلي محمد بالطاعة والمسارعة، وبعثه مع بعض عيونه إلي عَبْد الله، وبعث معه بالمال والألطاف كأنه من عندهم. وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع، فكتب إلي عَبْد الله بن حسن بالخبر، وكان محمد بجهينة، وألح عليه صاحب الكتاب أمر محمد ليدفع إليه كتاب الشيعة. فقال له: اذهب إلي علي بن الحسن المدعو بالأغر يوصلك إليه في جبل جهينة، فذهب وأوصله إليه. ثم جاءهم حقيقة خبره من كاتب المنصور، وبعثوا أبا هبار إلي محمد وعلي بن حسن يحذرهما الرجل، فجاء أبو هبار إلي علي بن حسن وأخبره، ثم سار إلي محمد، فوجد العين عنده جالساً مع أصحابه، فخلا به وأخبره، فقال: وما الرأي؟ قال: تقتله. قال :لا أقارف دم مسلم. قال: تقيده وتحمله معك. قال: لا آمن عليه لكثرة الخوف والإعجال. قال: فتودعه عند بعض أهلك من جهينة. قال: هذه إذن. ورجع فلم يجد الرجل، ولحق بالمدينة. ثم قدم على المنصور وأخبره الخبر، وسمى إسم أبي هبار وكنيته، وقال: معه وبر. فطلب أبو جعفر وبراً المري، فسأله عن أمر محمد فأنكره، وحلف فضربه وحبسه. ثم دعا عقبة بن سالم الأزدي، وبعثه منكراًً بكتاب والطاف من بعض الشيعة بخراسان، إلي عَبْد الله بن حسن ليظهر على أمره، فجاءه بالكتاب فانتهره، وقال: لا أعرف هؤلاء القوم. فلم يزل يتردّد إليه حتى قبله وأنس به، وسأله عقبة الجواب فقال: لا أكتب لأحد، ولكن أقرئهم مني سلامأ، وأعلمهم أن إبني خارجان لوقت كذا. فرجع عقبة إلي المنصور فأنشأ الحج، فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم وعبد الله إلي جنبه، ثم دعا بالغداء فأصابوا منه. ثم قال لعبد الله بن حسن قد أعطيتني العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطاناً، فقال: وأنا على ذلك. فلحظ المنصور عقبة بن سالم، فوقف بين عَبْد الله حتى ملأ عينه منه فبادر المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل، وأمر حبسه. وكان محمد يتردّد في النواحي، وجاء إلي البصرة فنزل في بني راهب، وقيل في بني مرّة بن عبيد، وبلغ الخبر إلي المنصور، فجاء إلي البصرة، وقد خرج عنها محمد، فلقي المنصور عمر بن عبيد، فقال له: يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ فقال: لا، فانصرف واشتد الخوف على محمد وإبراهيم، وسار إلي عدن، ثم إلي السند، ثم إلي الكوفة، ثم إلي المدينة. وكان المنصور حج سنة أربعين، وحج محمد وإبراهيم وعزما على اغتيال المنصور وأبى محمد من ذلك. ثم طلب المنصور عَبْد الله بإحضار ولديه، وعنفه وهم به، فضمنه زياد عامل المدينة. وانصرف المنصور، وقدم محمد المدينة قدمة، فتلطف له زياد وأعطاه الأمان له. ثم قال له: إلحق بأي بلاد شئت. وسمع المنصور فبعث أبا الأزهر إلي المدينة في جمادى سنة إحدى وأربعين ليستعمل على المدينة عَبْد العزيز بن المطلب، ويقضى زياداً وأصحابه. فسار بهم فحبسهم المنصور، وخلف زياد ببيت المال ثمانين ألف دينار. ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد بن عَبْد الله القسري، وأمره بطلب محمد، وإنفاق المال في ذلك. فكثرت نفقته واستبطأه المنصور واستشار في عزله، فأشار عليه يزيد بن أسيد السلمي من أصحابه باستعمال رباح بن عثمان بن حسان المزني، فبعثه أميراً على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين، وأطلق يده في محمد بن خالد القسريّ. فقدم المدينة وتهدّد عَبْد الله بن حسن في إحضار إبنيه. وقال له عَبْد الله يومئذ: إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة، فاستشعر ذلك ووجد، فقال له حاجبه أبو البختري: إن هذا ما اطلع على الغيب. فقال ويلك! والله ما قال إلا ما سمع، فكان كذلك. ثم حبس رباح محمد بن خالد وضربه وجد في طلب محمد، فاخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع وهو جبل جهينة، فبعث عامله في طلب فأفلت منه. ثم إنّ رباح بن مرّة حبس بني حبس وقيدهم وهم: عَبْد الله بن حسن بن الحسن، وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر، وإبنه موسى بن عَبْد الله، وبنو أخيه داود وإسمعيل وإسحق بنو إبراهيم بن الحسن، ولم يحضر معهم أخوه عليّ العائد. ثم حفر من الغد عند رباح، وقال: جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه، وكتب إليه المنصور أن يحبس معهم محمد بن عَبْد الله بن عمر بن عثمان المعروف بالديباجة. وكان أخا عَبْد الله لأمه، أمهما فاطمة بنت الحسين. وكان عامل مصر قد عثر على عليّ بن محمد بن عَبْد الله بن حسن، بعثه أبوه إلي مصر يدعو له، فأخذه وبعث به إلي المنصور، فلم يزل في حبسه. وسمى من أصحاب أبيه عَبْد الرحمن بن أبي المولى وأبا جبير، فضربهما المنصور وحبسهما. وقيل عَبْد الله حبس أولاً وحده، وطال حبسه. فأشار عليه أصحابه بحبس الباقين فحبسهم ثم حج المنصور سنة أربع وأربعين، فلما قدم مكة بعث إليهم وهم في السجن محمد بن عمران بن إبراهيم بن طلحة ومال بن أنس يسألهم أن يرفعوا إليه محمداً وإبراهيم ابني عَبْد الله، فطلب عَبْد الله الإذن في لقائه، فقال المنصور: لا والله حتى يأتيني به وبإبنيه، وكان حسناً مقبولاً لا يكلم أحداً إلا أجابه إلي رأيه. ثم إنّ المنصور قضى حجه وخرج إلي الربذة، وجاء رباح ليودعه فأمر بأشخاص بني حسن ومن معهم إلي العراق، فأخرجهم في القيود والأغلال، وأردفهم في محامل بغير وطء، وجعفر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي. وجاء محمد وإبراهيم مع أبيهما عَبْد الله يسايرانه مستترين بزي الأعراب ويستأذنانه في الخروج فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما، وإنا منعتما أن تعيشا كريمين فلا تمنعا أن تموتا كريمين، وانتهوا إلي الزيدية. وأحضر العثماني الديقا عند المنصور فضربه مائة وخمسين سوط بعد ملاحاة جرت بينهما أغضبت المنصور. ويقال: إن رباحاً أغرى المنصور به، وقال له: إن أهل الشام شيعته ولا يتخلف عنه منهم أحد. ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلي المنصور، بأن أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عَبْد الله واحذر منهم. فأمر المنصور بقتل العثماني، وبعث برأسه إلي خراسان، وبعث من يحلف أنه رأس محمد بن عَبْد الله، وأن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قدم المنصور بهم الكوفة، وحبسهم بقصر ابن هبيرة. يقال إنه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن منهم على إسطوانة وهو حي فمات، ثم بعده عَبْد الله بن حسن ثم علي بن حسن، ويقال: إن المنصور أمر بهم فقتلوا، ولم ينج منهم إلا سليمان وعبد الله إبنا داود، وإسحق وإسمعيل إبنا إبراهيم بن حسن، وجعفر بن حسن والله أعلم.
ظهور محمد المهدي ومقتله:
ولما سار المنصور إلي العراق، وحمل معه بني حسن، رجع رباح إلي المدينة وألح في طلب محمد وهو مختف يتنقل في اختفائه من مكان إلي مكان، وقد أرهقه الطلب حتى تدلى في بئر. فتدلى فغمس في مائها، وحتى سقط ابنه من جبل فتقطع، ودل عليه رباح بالمداد، فركب في طلبه فاختفى عنه ولم يره. ولما اشتد عليه الطلب، أجمع الخروج وأغراه أصحابه بذلك. وجاء الخبر إلي رباح بأنه الليلة خارج، فأحضر العباس بن عَبْد الله بن الحرث بن العباس، ومحمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة وغيرهما، وقال لهم: أمير المؤمنين يطلب محمداً شرق الأرض وغربها، وهو بين أظهركم. والله لئن خرج ليقتلنكم أجمعين. وأمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة فجاؤا في جمع كثير، وأجلسهم بالباب. ثم أحضر نفراً من العلويين فيهم جعفر بن محمد بن الحسين وحسين بن عليّ بن حسين بن عليّ، ورجال من قُرَيْش، فيهم إسمعيل بن أيوب بن سلمة بن عَبْد الله بن الوليد بن المغيرة، وإبنه خالد، وبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير، وقيل قد خرج محمد فقال له ، ابن مسلم بن عقبة: أطعني واضرب أعناق هؤلاء فأبى، وأقبل من المداد في مائة وخمسين رجلاً، وقصد السجن، فأخرج محمد بن خالد بن عَبْد الله القسريّ، وابن أخيه النذير بن يزيد ومن كان معهم، وجعل على الرجالة خوات بن جبير، وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل. فدخلوا من باب المقصورة وقبضوا على رباح وأخيه عباس وابن مسلم بن عقبة فحبسهم، ثم خرج إلي المسجد وخطب الناس، وذكر المنصور بما نقمه عليه، ووعد الناس واستنصر بهم. واستعمل على المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عَبْد العزيز بن المطلب بن عَبْد الله المخزوميّ، وعلى بيت السلاح عَبْد العزيز الدراوردي، وعلى الشرط أبا الغلمش عثمان بن عبيد الله بن عَبْد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عَبْد الله بن جعفر بن عَبْد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأرسل إلي محمد بن عَبْد العزيز يلومه على القعود عنه، فوعده بالبصرة، وسار إلي مكة، ولم يتخلف عن محمد من وجوه الناس إلا نفر قليل: منهم: الضحاك بن عثمان بن عَبْد الله بن خالد بن حرام، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عَبْد الله بن خالد، وأبو سلمة بن عبيد الله بن عَبْد الله بن عمر، وحبيب بن ثابت بن عَبْد الله بن الزبير، واستفتى أهل المدينة مالكاً في الخروج مع محمد وقالوا: في أعناقنا بيعة المنصور، فقال: إنما بايعتم مكرهين. فتسارع الناس إلي محمد، ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلي إسمعيل بن عَبْد الله بن جعفر يدعوه إلي بيعته، وكان شيخاً كبيراً فقال: أنت والله وابن أخي مقتول فكيف أبايعك؟ فرجع الناس عنه قليلاً، وأسرع بنو معاوية بن عَبْد الله بن جعفر إلي محمد، فجاءت جمادة أختهم إلي عمها إسمعيل وقالت: يا عم إن مقالتك ثبطت الناس عن محمد وأخوتي معه، فأخشى أن يقتلوا فردها. فيقال: إنها عدت عليه فقتلته، ثم حبس محمد بن خالد القسريّ بعد أن أطلقه واتهمه بالكتاب إلي المنصور، فلم يزل في حبسه. ولما استوى أمر محمد، ركب رجل من آل اويس بن أبي سرح إسمه الحسين بن صخر، وجاء إلي المنصور في تسع فخبره الخبر، فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم، وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تتابع الخبر، وأشفق المنصور من أمره، واستشار أهل بيته ودولته. وبعث إلي عمه عَبْد الله وهو محبوس يستشيره، فأشار عليه بأن يقصد الكوفه، فإنهم شيعة لأهل البيت، فيملك عليهم أمرهم، ويحفها بالمسالح حتى يعرف الداخل والخارج، ويستدعي سالم بن قتيبة من الري فيتحد معه كافة أهل الشام ويبعثه، وأن يبعث العطاء في الناس. فخرج المنصور إلي الكوفة، ومعه عبد الله بن الربيع بن عَبْد الله بن عَبْد المدان. ولما قدم الكوفة أرسل إلي يزيد بن يحيى وكان السفاح يشاوره، فأشار عليه بأن يشحن الأهواز بالجنود، وأشار عليه جعفر بن حنظلة الهرّاني بأن يبث الجند إلي البصرة. فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبيّن وجه إشارتهما. وقال المنصور لجعفر: كيف خفت البصرة؟ قال: لأن أهل المدينة ليسوا أهل حرب حبسهم أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء الطالبيين، ولم يبق إلا البصرة. ثم إن المنصور كتب إلي محمد المهديّ كتاب أمان، فأجابه عنه بالردّ والتعريض بأمور في الأنساب والأحوال، فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك، وانتصف كل واحد منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه، مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري في كتاب الكامل، فمن أراد الوقوف فليلتمسها في أماكنها. ثم إنّ محمداً المهديّ استعمل على مكة محمد بن الحسن بن معاوية بن عَبْد الله بن جعفر، وعلى اليمن القاسم بن إسحق، وعلى الشام موسى بن عَبْد الله. فسار محمد بن الحسن إلي مكة، والقاسم معه، ولقيهما السريّذ بن عَبْد الله عامل مكة ببطن أذاخر، فانهزم. وملك محمد مكة، حتى استنفره المهديّ لقتال عيسى بن موسى، فنفر هو والقاسم بن عبيد الله، وبلغهما قتل محمد بنواحي قديد، فلحق محمد بإبراهيم، فكان معه بالبصرة. واختفى القاسم بالمدينة، حتى أخذت له الأمان إمرأة عيسى، وهي بنت عَبْد الله بن محمد بن عليّ بن عَبْد الله بن جعفر. وأمَّا موسى بن عَبْد الله فسار إلي الشام فلم يقبلوا منه، فرجع إلي المدينة. ثم لحق بالبصرة مختفياً، وعثر عليه محمد بن سليمان بن عليّ، وعلى إبنه عَبْد الله، وبعث بهما إلي المنصور، فضربهما وحبسهما. ثم بعث المنصور عيسى بن موسى إلي المدينة لقتال محمد فسار في الجنود ومعه محمد بن أبي العباس بن السفّاح، وكثيّر بن حصين العبديّ وحميد بن قحطبة وهو زمرّد وغيرهم، فقال له: إن ظفرت فأغمد سيفك وابذل الأمان، وإن تغيب فخذ أهل المدينة فإنهم يعرفون مذاهبه، ومن لقيك من آل أبي طالب فعرفني به، ومن لم يلقك فاقبض ماله. وكان جعفر الصادق فيمن تغيب، فقبض ماله. ويقال إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلك، فقال: قبضه مهديكم. ولما وصل عيسى إلي فئته، كتب إلي نفر من أهل المدينة ليستدعيهم، منهم: عَبْد العزيز بن المطلب المخزومي، وعبيد الله بن محمد بن صَفْوان الجمحي، وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب. فخرج إليه عَبْد الله هو وأخوه عمر، وأبو عقيل محمد بن عَبْد الله بن محمد بن عقيل. واستشار المهديّ أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها، فأمر بذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفر الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب. ونزل عيسى الأعرض، وكان محمد قد منع الناس من الخروج
فخيرهم، فخرج كثير منهم بأهلهم إلي الجبال، وبقي في شرذمة يسيرة. ثم تدارك رأيه وأمر أبا الغلمش بردهم فأعجزوه، ونزل عيسى على أربعة أميال من المدينة، وبعث عسكراً إلي طريق مكة يعترضون محمداً إن انهزم إلي مكة، وأرسل إلي المهدي بالأمان والدعاء إلي الكتاب والسنة، ويحذره عاقبة البغي. فقال: إنما أنا رجل فررت من القتل. ثم نزل عيسى بالحرف لإثنتي عشرة من رمضان سنة خمس وأربعين، فقام يومين، ثم وقف على مسلم ونادى بالأمان لأهل المدينة، وأن يخفوا بينه وبين صاحبه، فشتموه، فانصرف وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات المدينة وبرز محمد في أصحابه ورأية مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وشعارهم أحد أحد. وطلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه أخو أسد فقتله، ثم آخر فقتلوا، وقال أنا ابن الفاروق. وأبلى محمد المهدي يومئذ بلاءً عظيمأ، وقتل بيده سبعين رجلاً. ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة من الرجال إلي حائط دون الخندق فهدمه، وأجازوا الخندق وقاتلوا من وراءه، وصابرهم أصاب محمد إلي العصر. ثم أمر عيسى أصحابه فرموا الخندق بالحقائب، ونصبوا عليها الأبواب، وجازت الخيل واقتتلوا، وانصرف محمد فاغتسل وتحنط. ثم رجع فقال: اترك أهل المدينة والله لا أفعل وأقتل، وأنت مني في سعة، فمشى قليلاً معه. ثم رجع وافترق عنه جل أصحابه، وبقي في ثلثمائة أو نحوها. فقال له بعض أصحابه: نحن اليوم في عدة أهل بدر، وطفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في اللحاق بالبصرة أو غيرها، فيقول والله لا تبتلون بي مرتين. ثم جمع بين الظهر والعصر، ومضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعهم. وجاء إلي السجن وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباساً، وابن مسلم بن عقبة، وتوثق محمد بن القسريّ بالأبواب فلم يصلوا إليه. ورجع ابن حصين إلي محمد فقاتل معه، وتقدم محمد إلي بطن سلع، ومعه بنو شجاع من الخمس. فعرقبوا دوابهم، وكسروا جفون سيوفهم، واستماتوا وهزموا أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثة. وصعد نفر من أصحاب عيسى الجبل، وانحدروا منه إلي المدينة. ورفع بعض نسوة إلي العباس خماراً لها أسود على منارة المسجد. فلما رآه أصحاب محمد وهم يقاتلون هربوا، وفتح بنو غفّار طريقاً لأصحاب عيسى، فجاؤا من وراء أصحاب محمد. ونادى حميد بن قحطبة للبراز فأبى، ونادى ابن حصين بالأمان فلم يصغ إليه، وكثرت فيه الجراح. ثم قتل وقاتل محمد على شلوه فهدّ الناس عنه هداً حتى ضرب، فسقط لركبته وطعنه ابن قحطبة في صدره. ثم أخذ رأسه وأتى به عيسى فبعثه إلي المنصور مع محمد بن الكرام عَبْد الله بن علي بن عَبْد الله بن جعفر، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن، وأرسل معه رؤوس بني شجاع، وكان قتل محمد منتصف رمضان. وأرسل عيسى الألوية فنصبت بالمدينة للأمان، وصلب محمد وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة، واستأذنت زينب أخته في دفنه بالبقيع، وقطع المنصور الميرة في الجر عن المدينة، حتى أذن فيها المهديّ بعده، وكان مع المهديّ سيف عليّ ذو الفقار، فأعطاه يومئذ رجلاً من التجار في دين كان له عليه. فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة، أخذه منه وأعطاه من دينه. ثم أخذه منه المهديّ، وكان الرشيد يتقلده وكان فيه ثمان عشرة فقرة، وكان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى وحمزة بن عَبْد الله بن محمد بن علي بن الحسين، وحسين وعلي إبنا زيد بن علي. وكان المنصور يقول عجباً خرجا عليّ ونحن أخذنا بثأر أبيهما. وكان معه عليّ وزيد إبنا الحسن بن زيد بن الحسن، وأبوهما الحسن مع المنصور والحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عَبْد الله بن جعفر، والقاسم بن إسحق بن عَبْد الله بن جعفر والمرخى عليّ بن جعفر بن إسحق بن علي بن عَبْد الله بن جعفر وأبوه عليّ مع المنصور، ومن غير بني هاشم محمد بن عَبْد الله بن عمر بن سعيد بن العاص، ومحمد بن عجلان وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، وأبو بكر بن عَبْد الله بن محمد بن أبي سبرة، أخذ أسيراً فضرب وحبس في سجن المدينة، فلم يزل محبوساً إلي أن نازل السودان بالمدينة على عَبْد الله بن الربيع الحارثي، وفر عنها إلي بطن نخل، وملكوا المدينة ونهبوا طعام المنصور. فخرج ابن أبي سبرة مقيداً وأتى المسجد، وبعث إلي محمد بن عمران ومحمد بن عَبْد العزيز وغيرهما، وبعثوا إلي السودان وردوهم عما كانوا فيه، فرجعوا ولم يصلّ الناس يومئذ جمعة. ووقف الأصبغ بن أبي سفيان بن عاصم بن عَبْد العزيز لصلاة العشاء، ونادى أصلى بالناس على طاعة أمير المؤمنين، وصلى. ثم أصبح ابن أبي سبرة ورد من العبيد ما نهبوه، ورجع ابن الربيع، من بطن نخل، وقطع رؤساء العبيد. وكان مع محمد بن عَبْد الله أيضاً عَبْد الواحد بن أبي عون مولى الأزد، وعبد الله بن جعفر بن عَبْد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وعبد العزيز بن محمد الدراورديّ، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع وبنوه تسعة، وعيسى وعثمان إبنا خضير. وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير قتله المنصور من بعد ذلك لمّا أخذ بالبصرة، وعبد العزيز بن إبراهيم بن عَبْد الله بن مطيع وعليّ بن المطلب بن عَبْد الله بن حنطب، وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير، وهشام بن عميرة بن الوليد بن بن عَبْد الجبار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم.
شأن إبراهيم بن عَبْد الله وظهوره ومقتله:
كان إبراهيم بن عَبْد الله أخو المهديّ محمد قد اشتد الطلب عليه وعلى أخيه منذ خمس سنين، وكان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس وبكرمان والجبل والحجاز واليمن والشام، وحضر مرّة مائدة المنصور بالموصل، وجاء أخرى إلي بغداد حين خطها المنصور مع النظار على قنطرة الفرات حين شدها، وطلبه فغاض في الناس فلم يوجد، ووضع عليه الرصد بكل مكان. ودخل بيت سفيان بن حيان العمي وكان معروفاً بصحبته، فتحيل على خلاصه بأن أتى المنصور وقال: أنا آتيك بإبراهيم، فاحملني وغلامي على البريد، وابعث معي الجند ففعل. وجاء بالجند إلي البيت، وأركب معه إبراهيم في زي غلامه، وذهب بالجند إلي البصرة، ولم يزل يفرقهم على البيوت ويدخلها موهماً أنه يفتشه، حتى بقي وحده فاختفى.
وطلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه، وكان قدم قبل ذلك الأهواز، فطلبه محمد بن حصين، واختفى منه عند الحسن بن حبيب، ولقي من ذلك غيًّّا. ثم قدم إبراهيم البصرة سنة خمس وأربعين، بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة يحيى بن زياد بن حسان النبطي، وأنزله بداره في بني ليث. فدعا الناس إلي بيعة أخيه، وكان أول من بايعه نميلة بن مرّة العبسيّ، وعبد الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبد الله بن حي بن حصين الرَّقاشي، وبثوا دعوته في الناس، واجتمع لهم كثير من الفقهاء. وأهل العلم. وأحصى ديوانه أربعة آلاف، واشتهر أمره. ثم حوّلوه إلي وسط البصرة. ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر وليقرب من الناس، وولاه سفيان أمير البصرة على أمره. وكتب إليه أخوه محمد يأمره بالظهور، وكان المنصور بظاهر، وأرسل من القوّاد مدّد السفيان على إبراهيم أن ظهر، ثم إن إبراهيم خرج أول رمضان من سنة خمس وأربعين، وصلى الصبح في الجامع، وجاء دار الإمارة بابن سفيان وحبسه وحبس القوّاد معه، وجاء جعفر ومحمد إبنا سليمان بن عليّ في ستمائة رجل. وأرسل إبراهيم إليها المعين بن القاسم الحدروري في خمسين رجلاً فهزمهما إلي باب زينب بنت سليمان بن عليّ، وإليها ينسب الزينبيون من بني العباس. فنادى بالأمان وأخذ من بيت المال ألفي ألف درهم، وفرض لكل رجل من أصحابه خمسين. ثم أرسل المغيرة على الأهواز في مائة رجل، فغلب عليها محمد بن الحصين وهو في أربعة آلاف. وأرسل عمر بن شدّاد إلي فارس وبها إسمعيل وعبد الصمد إبنا عليّ، فتحصنا في دار بجرد، وملك عمر نواحيها، فأرسل هرون بن شمس العجلي في سبعة عشر ألفاً إلي واسط، فغلب عليها هرون بن حميد الإيادي وملكها. وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسمعيل في خمسه آلاف، وقيل في عشرين. فاقتتلوا أياماً ثم تهادنوا حتى يروا مآل الأميرين المنصور وإبراهيم. ثم جاء نعي محمد إلي أخيه إبراهيم قبل الفطر، فصلى يوم العيد وأخبرهم، فازدادوا حنقاً على المنصور. ونفر في حره وعسكر من الغد، واستخلف على البصرة غيلة وابنه حسناً معه. وأشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام، وإرسال الجنود وإمدادهم واحداً بعد واحد. وأشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأن الناس في انتظارك، ولو رأوك ما توانوا عنك، فسار. وكتب المنصور إلي عيسى بن موسى بإسراع العود وإلى مسلم بن قتيبة بالري، وإلى سالم بقصد إبراهيم، وضم إليه غيرها من القواد. وكتب إلي المهديّ بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز وفارس والمدائن وواسط
والسواد، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف يتربصون به. ثم رمى كل ناحية بحجرها، وأقام خمسين يوماً على مصلاه، ويجلس ولم ينزع عنه جبته ولا قميصه وقد توسخا، ويلبس السواد إذا ظهر للناس، وينزعه إذا دخل بيته. وأهديت له من المدينة إمرأتان فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبد الله، وأمة الكريم بنت عَبْد الله من ولد خالد بن أسيد فلم يحفل بهما. وقال: ليست هذه أيام نساء حتى أنظر رأس إبراهيم إليّ أو رأسي له. وقدم عليه عيسى بن موسى فبعثه لحرب إبراهيم في خمسة عشر ألفاً، وعلى مقدّمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف وسار إبراهيم من البصرة ومائة ألف حتى نزلا بإزاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخاً من الكوفة، وأرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالف عيسى إلي المنصور فهو في حف من الجنون، ويكون أسهل عليك. فعرض ذلك إبراهيم على أصحابه فقالوا: نحن هرون وأبو جعفر في أيدينا! فأسمع ذلك رسول سالم فرجع، ثم تصافوا للقتال. وأشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس، ليكون أثبت، والصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فأبى إبراهيم إلا الصف صف أهل الإِسلام، ووافقه بقية أصحابه. ثم اقتتلوا وانهزم حميد بن قحطبة، وانهزم معه الناس، وعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فقال لهم حميد: لا طاعة في الهزيمة. ولم يبق مع عيسى إلا فل قليل، فثبت واستمات. وبينما هو كذلك إذ قدم جعفر ومحمد بن سليمان بن عليّ، وجاء من وراء إبراهيم وأصحابه، فانعطفوا لقتالهم واتبعهم أصحاب عيسى. ورجع المنهزمون من أصحابه بأجمعهم، اعترضهم إمامهم، فلا يطيقون مخافة ولا وثوبة، فانهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابه وحميد يقاتله. ثم أصابه سهم بنحره، فأنزلوه واجتمعوا عليه. وقال حميد: شدّوا على تلك الجماعة فأحصروهم عن إبراهيم، وقطعوا رأسه وجاؤا به إلي عيسى، فسجد وبعثه إلي المنصور، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة الحرام سنة خمس وأربعين، ولما وضع رأسه بين يدي المنصور بكى وقال: والله إني كنت لهذا كارها ولكني ابتليت بك وابتليت بي. ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا، ومنهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور، حتى دخل جعفر بن حنظلة الهراني فسلم ثم قال: عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك، فتهلل وجه المنصور وأقبل عليه وكناه بأبي خالد واستدناه.
بناء مدينة بغداد
وابتدأ المنصور سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية، ولأنه كان يكره أهل الكوفة، ولا يأمن على نفسه منهم. فتجافى عن جوارهم وسار إلي مكان بغداد اليوم، وجمع من كان هنالك من البطارقة، فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحرّ والبرد والمطر والوحل والهوام، واستشارهم فأشاروا عليه بمكانها. وقالوا تجيئك الميرة في السفن من الشام والرّقة ومصر والمغرب إلي المصرات. ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل في دجلة. ومن أرمينية وما اتصل بها في تامر حتى يتصل بالزاب. وأنت بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطي والجسور. وإذا قطعتها لم يكن لعدوك مطمع، وأنت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل، قريب من البر والبحر والجبل. فشرع المنصور في عمارتها. وكب إلي الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في الصنّاع والفعلة واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة، فأحضرهم لذلك، منهم: الحجاج بن أرطاة، وأبو حنيفة الفقيه. وأمر بخطها بالرماد، فشكلت أبوابها وفضلانها وطاقاتها ونواحيها، وجعل على الرماد حب القطن. فأضرم ناراً ثم نظر إليها وهي تشتعل، فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم. ووكل بها أربعة من القواد يتولى كل واحد منهم ناحية. ووكل أبا حنيفة بعدّ الآجر واللبن. وكان أراده على القصاء والمظالم لأبى. فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملاً، فكان هذا. وأمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعاً ومن أعلاه عشرين، وجعل في البناء القصب والخشب، ووضع بيده أّول لبنة وقال( بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.) ثم قال ابنوا على بركة الله، فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهديّ، فقطع البناء وسار إلي الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه، ورجع من مدينة ابن هبيرة إلي بغداد واستمر في بنائها، واستشار خالد بن برمك في نقض المدائن والإيوان. فقال: لا أرى ذلك لأنه من آثار الإِسلام وفتوح العرب، وفيه مصفى عليّ بن أبي طالب، فاتهمه بمحبة العجم، وأمر
بنقض القصر الأبيض، فإذا الذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه. فقال خالد: لا أرى إقصارك عنه لئلا يقال عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم، فأعرض عنه ونقل الأبواب إلي بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة، وجعل المدينة مدورة، وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حد سواء. وجعل المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين، والداخل أعلى من الخارج. ووضع الحجاج بن أرطاة قبلة المسجد، وكان وزن اللبنة التي يبني بها مائة رطل وسبعة عشر رطلاً وطولها ذراع في ذراع، وكانت بيوت جماعة من الكتاب والقواد تشرع أبوابها إلي رحبة الجامع، وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلي ناحية الكرخ لمّا كان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها، وجعل الطرق أربعين ذراعاً، وكان مقدار النفقة عليها في المسجد والقصر والأسواق والفضلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف وثلاثة وثلاثين ألف درهم. وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط، والروز كاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلاَّ بما بقي عنده، وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهما بعد أن حبسه عليها.
العهد للمهدي وخلع عيسي بن موسي : كان السفّاح قد عهد إلي عيسى بن موسى بن عليّ وولاه على الكوفة فلم يزل عليها، فلما كبر المهديّ أراد المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى، وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهدي عن يساره، فكلمه في التأخر عن المهديّ في العهد فقال: يا أمير المؤمنين كيف بالإيمان التى عليّ وعلى المسلمين وأبى ذلك، فتغير له المنصور وباعده بعض الشيء. وصار يأذن للمهديّ قبله ولعمه عيسى بن عليّ وعبد الصمد. ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهديّ واستمر المنصور على التنكر له وعزله عن الكوفة لثلاث عشرة سنة من ولايته، وولى مكانه محمد بن سليمان بن علي، ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهديّ بالعهد، وجعل عيسى من بعده. ويقال: إنه أعطاه أحد عشر ألف ألف درهم، ووضع الجند في الطرقات لأذاه وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء.
خروج استادسيس:
كان رجل ادعى النبوَّة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلثمائة ألف مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان، وسار إليه الأخثم عامل مرو الروذ في العساكر، فقاتل الأخثم وعامة أصحابه، وتتابع القواد في لقائه فهزمهم. وبعث المنصور وهو بالبرداق خازم بن خزيمة إلي المهديّ في إثني عشر ألفاً، فولاه المهدي حربه فزحف إليه في عشرين ألفاً. وجعل على ميمته الهيثم بن شبة بن ظهير، وعلى ميسرته نهار بن حصن السعدي، وفي مقدمته بكّار بن مسلم العقيلي، ودفع لواءه للزبرقان. ثم راوغهم في المزاحفة وجاء إلي موضع فخندق عليه وجعل له أربعة أبواب، وأتى أصحاب أستادسيس بالفؤس والمواعيل ليطموا الخندق، فبدؤا بالباب الذي يلي بكّار بن مسلم، فقاتلهم بكّار وأصحابه حتى ردّوهم عن بابهم. فأقبلوا على باب خازم وتقدم منهم الحريش من أهل سجستان، فأمر خازم الهيثم بن شعبة أن يخرج من باب بكّار ويأتي العدو من خلفهم، وكانوا متوقعين قدوم أبي عون وعمر بن مسلم بن قتيبة وخرج خازم على الحريش واشتد قتاله معهم. وبدت أعلام الهيثم من ورائهم، فكبر أهل العسكر وحملوا عليهم فكشفوهم، ولقيهم أصحاب الهيثم فاستمر فيهم القتال، فقتل سبعون ألفاً وأسر أربعة عشر، وتحصّن أستادسيس على حكم أبي عون، فحكم بأن يوثق هو وبنوه ويعتق الباقون، وكتب إلي المهديّ بذلك فكتب المهديّ إلي المنصور. ويقال: إنّ أستادسيس أبو مراجل أم المأمون وابنه غالب خال المأمون الذي قتل الفضل بن سهل.
ولاية هشام بن عمرو الثغلبي على السند:
كان على السند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة ويلقب مرامى- يعني ألف رجل- ولما كان من أمر المهديّ ما قدمناه بعث ابنه عَبْد الله الأشتر إلي البصرة ليدعو له، فسار من هنالك إلي عمر بن حفص وكان يتشيع فأهدى له خيلاً يمكن بها من لقائه. ثم دعاه فأجاب وبايع له وأنزله عنده مختفياً ودعا القوّاد وأهل البلد فأجابوا فمزق الأعلام، وهيأ لبسة من البياض يخطب فيها، وهو في ذلك إذ فجأه الخبر بقتل المهديّ، فدخل على ابنه أشتر وعزاه. فقال له الله في دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السند عظيم المملكة كان يعظم جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معروفاً بالوفاء، فأرسل إليه بعد أن عاهده عليه، واستقر عند ذلك الملك. وتسلل إليه جماعة من الزيدية نحواً من أربعمائة، وبلغ ذلك المنصور فغاظه وكتب إلي عمر بن حفص بعزله وأقام يفكر فيمن يوليه السند وعرض له يوماً هشام بن عمرو الثغلبي وهو راكب، ثم اتبعه إلي بيته وعرض عليه أخته، فقال للربيع: لو كانت لي حاجة في النكاح لقبلت فجزاك الله خيراً، وقد وليتك السند فتجهز لها، وأمره أن يحارب ملك السند ويسلم إليه الأشتر ففعل، وأقام المنصور يستحثه. ثم خرجت خارجة بالسند فبعث هشام أخاه سفيحاً لحسم الداء عنها، فمر بنواحي ذلك الملك، فوجد الأشتر يتنزه في شاطىء همذان في عشرة من الفرسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه جميعاً. وكب هشام بذلك إلي المنصور. فشكره وأمر بمحاربة ذلك الملك فظفر به وغلب على مملكته، وبعث بسراريّ عَبْد الله الأشتر ومعه ولد منه إسمه عَبْد الله بعث بهم المنصور إلي المدينة وأسلمه إلي أهله. ولما ولّى هشام بى عمر على السند وعزل عمر بن حفص عنها. ثم حدث فتق بإفريقية بعثه إلي سدّه كما سيأتي في أخبارها. بناء الرصافة للمهدي:
ولما رجع المهديّ من خراسان قدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة فأجازهم وكساهم وجملهم وكذلك المنصور. ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بأن يفرق بينهم ويستكفيه في ذلك، وأمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة ويسأله بحق الله ورسله والعباس وأمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر؟ فقال: مضر كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها كتاب الله وعندها بيت الله ومنها خليفة الله، لغضب اليمن إذ لم يذكر لها فضلاً. ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر وقطعوا الذي كبحها، فتشاجر الحيان وتعصبت لليمن ربيعة والخراسانية للدولة وأصبحوا أربع فرق، وقال قثم للمنصور: إضرب كل واحدة بالأخرى وسير لابنك المهديّ فلل أمير له بجنده فيتناظرون في أهل مدينتك، فقبل رأيه وأمر صالحاً صاحب المصلى ببناء الرصافة للمهديً.
مقتل معن بن زائدة
كان المنصور قد ولى على سجستان معن بن زائدة الشيباني وأرسل إلي رتبيل في الضريبة التي عليه فبعث بها عروضاً زائدة الثمن، فغضب معن وسار إلي الرخج على مقدمته يزيد ابن أخيه يزيد، ففتحها وسبى أهلها وقتلهم، ومضى رتبيل إلي عزمه، وانصرف معن إلي بست فشتى بها. ونكر قوم من الخوارج سيرته فهجموا عليه وفتكوا به في بيته. وقام يزيد بأمر سجستان وقتل قاتليه واشتدّت على أهل البلاد وطأته، فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور على لسانه كتاباً يتضجر من كتب المهديّ إليه ويسأله أن يعفى من معاملته. فأغضب ذلك المنصور وأقرأ المهديّ كتابه وعزله وحبسه، ثم شفع فيه شخص إلي مدينة السلام فلم يزل مجفواً حتى بعث إلي يوسف البرم بخراسان كما يذكر بعد.
العمال علي النواحي أيام السفّاح والمنصور:
كان السفّاح قد ولّى عند بيعته على الكوفة عمه داود بن عليّ، وجعل على حجابته عَبْد الله بن بسّام وعلى شرطته موسى بن كعب، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وبعث عمه عَبْد الله قتال مروان مع أبي عون بن يزيد بن قحطبة تقدمة. وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلي المدائن، وكان أحمد بن قحطبة تقدمة، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمّار بن ياسر إلي الأهواز مدّداً لبسام بن إبراهيم،
ودفع ولاية خراسان إلي أبي مسلم، فولى أبو مسلم عليها إياداً وخالد بن إبراهيم، وبعث عمّه عَبْد الله في مقدمته لحرب مروان أخاه صالحاً ومعه أبو عون بن يزيد، فلما ظفر وانصرف ترك أبا عون يزيد بمصر واستقل عَبْد الله بولاية الشام. وولّى السفّاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فولّذى على أرمينية يزيد بن أسد وعلى أذربيجان محمد بن صول ونزل الجزيرة. وكان أبو مسلم ولّى على فارس محمد بن الأشعث حين قتل أبا مسلمة الخلاّل، فبعث السفّاح عليها عيسى فمنعه محمد بن الأشعث واستخلفه على الولاية، فبعث عليها عمّه إسمعيل. وولّى على الكوفة ابن أخته موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية المهلبيّ وعلى السند منصور بن جمهور ونقل عمه داود إلي ولاية الحجاز واليمن واليمامة. ثم ولى على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان. وتوفي داود بن عليّ سنة ثلاث وثلاثين، فولّى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن عَبْد الله بن عَبْد المدان، وعلى مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد بن عَبْد الله بن عَبْد المدان الحارثي وهو عم محمد بن يزيد. وفيها بعث محمد بن الأشعث إلي إفريقية ففتحها. وفي سنة أربع وثلاثين بعث صاحب الشرطة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور، وولاّه مكانه على السند، فاستخلف مكانه على الشرطة المسيب بن زهير. وتوفي عامل اليمن محمد بن يزيد فولّى مكانه عليّ بن الربيع بن عبيد الله الحارثيّ. ولما استخلف المنصور وانتقض عَبْد الله بن علي وأبو مسلم ولّى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الشام عَبْد الله بن عليّ. ثم هلك خالد بن إبراهيم سنة أربعين فولى مكانه عَبْد الجبار بن عَبْد الرحمن فانتقض لسنة من ولايته، فبعث المنصور ابنه المهديّ على خراسان وفي مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبار. وتوفي سليمان عامل البصرة سنة أربعين فولى مكانه سفيان بن معاوية، ومات موسى بن كعب بالسِّند وولّى مكانه ابنه عيينة فانتقض، فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي صفرة. وولّى على مصر في هذه السنة حميد بن قحطبة، وولّى على الجزيرة والثغور والعواصم أخاه العباس بن محمد وكان بها يزيد بن أسيد، وعزل عمه إسمعيل عن الموصل وولّىّ مكانه مالك بن الهيثم الخزاعيّ. وفي سنة ست وأربعين عزل الهيثم بن معاوية وولّى على مكة والطائف مكانه السريّ بن عَبْد الله بن الحرث بن العبّاس نقله إليها من اليمامة، وولّى مكانه من اليمن قثم بن العبّاس بن عَبْد الله بن العبّاس، وعزل حميد بن قخطبة عن مصر وولّى مكانه نوفل بن الفرات. ثم عزله وولّى مكانه يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة. وولّى على المدينة محمد بن خالد بن عَبْد الله القسريّ، ثم اتهمه في أمر ابن أبي الحسن فعزله، وولّى مكانه رباح بن عثمان المزنيّ. ولما قتله أصحاب محمد المهديّ ولّى مكانه عَبْد الله بن الربيع الحارثي. ولما قتل إبراهيم أخو المهدي سنة خمس وأربعين ولّى المنصور على البصرة سالم بن قتيبة الباهليّ، وولّى على الموصل ابنه جعفراً مكان مالك بن الهيثم، وبعث معه حرب بن عَبْد الله من أكابر قوّاده. ثم عزل سالم بن قتيبة عن البصرة سنة ست وأربعين، وولّى مكانه محمد بن سليمان، وعزل عَبْد الله بن الربيع عن المدينة، وولّى مكانه جعفر بن سليمان، وعزل السريّ بن عَبْد الله عن مكة وولّى مكانه عمه عَبْد الصمد بن عليّ، وولّى سنة سبع وأربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكان عيسى بن موسى لمّا سخطه بسبب العهد. وولّى مكان محمد بن سليمان على البصرة محمد بن السفّاح، فاستعفاه ورجع إلي بغداد فمات، واستخلف بها عقبة بن سالم فأقّره. وولّى على المدينة جعفر بن سليمان، وولّى سنة ثمان وأربعين على الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكراد في نواحيها، وعزل سنة تسع وأربعين عمه عَبْد الصمد عن مكة، وولّى مكانه محمد بن إبراهيم.وفي سنة خمسين عزل جعفر بن سليمان عن المدينة، وولّى مكانه الحسن بن زيد بن الحسن. وفي سنة إحدى وخمسين عزل عمر بن حفص عن السِّند وولّى مكانه هشام بن عمرو الثغلبيّ، وولّى عمر بن حفص على أفريقية. ثم بعث يزيد بن حاتم من مصر مدّداً له، وولّى مكانه بمصر محمد بن سعيد. وفي هذه السنة قتل معن بن ذائدة بسجستان كما تقدّم فقام بأمره يزيد ابن أخيه يزيد، فأقّره المنصور ثم عزله. وفي هذه السنة سار عقبة بن سالم من البصرة واستخلف نافع بن عقبة، فغزا البحرين وقتل ابن حكيم العدويّ واستقصره المنصور بإطلاق أسراهم، فعزله وولّى جابر بن مومة الكلابيّ، ثم عزله وولّى مكانه عَبْد الملك بن ظبيان النميريّ. ثم عزله وولّى الهيثم بن معاوية العكّيّ.وفيها ولّى على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام، ثم عزله وولّى مكانه إبراهيم ابن أخيه، يحيى بن محمد، وولّى على الموصل إسمعيل بن خالد بن عَبْد الله القسريّ. ومات أسيد بن عَبْد الله أمير خراسان فولّى مكانه حميد بن قحطبة. وفي سنة ثلاث وخمسين توفي عبيد الله ابن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضى شريك بن عَبْد الله النخعيّ، وكان على اليمن يزيد بن منصور.وفي سنة خمس وأربعين بل أربع وخمسين عزل عن الجزيرة أخاه العبّاس وأغرمه مالاً، وولّى مكانه موسى بن كعب الخثعمي، وكان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه، ولم يزل ساخطاً على العبّاس حتى غضب على عمه إسمعيل، فشفع فيه أخوته عمومة المنصور. فقال عيسى بن عيسى: يا أمير المؤمنين شفعوا في أخيهم وأنت ساخط على أخيك العبّاس منذ كذا ولم يكلمك فيه أحد منهم فرضي عنه.وفي سنة خمس وخمسين عزل محمد بن سليمان عن الكوفة وولّى مكانه عمر بن زهير الضبي أخا المسيب صاحب الشرطة، وكان من أسباب عزله، أنه حبس عَبْد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة، وكتب إليه أن يتبين أمره، فقتله قبل وصول الكتاب، فغضب عليه المنصور وقال: لقد هممت أن أقيده به، وعزل عمّه عيسى في أمره لأنه الذي كان أشار بولايته. وفيها عزل الحسن بن زيد عن المدينة وولّى مكانه عمّه عَبْد الصمد بن علي، وكان على الأهواز وفارس عمارة بن حمزة.وفي سنة سبع وخمسين ولّى على البحرين سعيد بن دعلج صاحب الشرطة بالبصرة فأنفذ إليها ابنه تميماً، ومات سوار بن عَبْد الله قاضي البصرة فولّى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحسين العيريّ. وعزل محمد بن الكاتب عن مصر وولّى مكانه مولاه مطراً، وعزل هشام بن عمرو عن السِّند وولّى مكانه معبد بن الخليل. وفي سنة ثمان وخمسين عزل موسى بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمر ابنه المهديّ أن يسير إلي الرقّة مورياً بزيارة القدس ويكفل طريقه على الموصل فقبض عليه، وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجّله في إحضارها ثلاثاً وإلا قتله، فبعث ابنه يحيى إلي عمارة بن حمزة ومبارك التركي، وصالح صاحب المصلّى وغيرهم من القوّاد ليستقرض منهم، قال يحيى: فكلهم بعث إلا أنّ منهم من منعني الدخول ومنهم من يجيبني بالرد إلا عمارة بن حمزة فإنه أذن لي ووجهه إلي الحائط، ولم يقبل عليه، وسلّمت فرّد خفيفاً، وسأل كيف خالد فعرّفته واستقرضته فقال: إن أمكنني شيء يأتيك فانصرفت عنه .ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين وتعذرت ثلثمائة ألف. وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة وانتشار الأكراد بها، وسخط موسى بن كعب، فأشار عليه المسيب بن زهير بخالد بن برمك فقال: كيف يصلح بعدما فعلنا؟ فقال أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه، وعقد له على الموصل، ولابنه يحيى على أذربيجان. وسارا مع المهديّ فعزل موسى بن كعب وولاهما.قال يحيى: وبعثني خالد إلي عمارة بمرضه وكان مائة ألف، فقال لي: أكنت لأبيك صديقاً؟ قم عني لا قمت. ولم يزل خالد على الموصل إلي وفاة المنصور. وفي هذه السنة عزل المنصور المسيب بن زهير عن شرطته وحبسه مقيداً لأنه ضرب أُبان بن بشير الكاتب بالسياط حتى قتله، وكان مع أخيه عمر بن زهير بالكوفة، وولّى المنصور على فارس نصر بن حرب بن عَبْد الله. ثم على الشرطة ببغداد عمر بن عَبْد الرحمن أخا عَبْد الجبّار، وعلى قضائها عَبْد الله بن محمد بن صَفْوان. ثم شفع المهديّ في المسيب وأعاده إلي شرطته.
الصوائف كان أمر الصوائف قد انقطع منذ سنة ثلاثين بما وقع من الفتن، فلما كانت سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم إلي ملطية ونواحيها فنازل حصن بلخ، واستنجدوا أهل ملطية فأمدوهم بثمانمائة مقاتل، فهزمهم الروم وحاصروا ملطية والجزيرة مفتوحة، وعاملها موسى بن كعب بخراسان، فسلموا البلد على الأمان لقسطنطين. ودخلوا إلي الجزيرة وخرب الروم ملطية ثم ساروا إلي قاليقلا ففتحوها. وفي هذه السنة سار أبو داود وخالد بن إبراهيم إلي الجتن فدخلها فلم تمتنع عليه، وتحصن منه السبيل ملكهم وحاصره مدة، ثم فرض الحصن ولحق بفرغانة.ثم دخلوا بلاد الترك وانتهوا إلي بلد الصين، وفيها بعث صالح بن علي بن فلسطين سعيد بن عَبْد الله لغزو الصائفة وراء الدروب. وفي سنة خمس وثلاثين غزا عَبْد الرحمن بن حبيب عامل أفريقية جزيرة صقلية فغنم وسبى وظفر بما لم يظفر به أحد قبله. ثم سفل ولاة إفريقية بفتن البربر، فأمن أهل صقلية وعمر الحصون والمعاقل، وجعلوا الأساطيل تطوف بصقليهة للحراسة، وربما صادفوا تجار المسلمين في البحر فأخذوهم. وفي سنة ثمان وثلاثين خرج قسطنطين ملك الروم فأخذ ملطية عنوة وهدم سورها وعفا عن أهلها. فغزا العبّاس بن محمد الصائفة ومعه عماه صالح وعيسى،
وبنى ما خربه الروم من سور ملطية أثناء ثورة الروم، وردّ إليها أهلها وأنزل بها الجند، ودخل دار الحرب من درب الحرث وتوغل في أرضهم، ودخل جعفر بن حنظلة البهراني من درب ملطية.وفي سنة تسع وثلاثين كان الفداء بين المسلمين والروم في أسرى قاليقلا وغيرهم. ثم غزا بالصائفة سنة أربعين عَبْد الوهاب بن إبراهيم الإمام ومعه الحسن بن قحطبة، وسار إليهم قسطنطين ملك الروم في مائة ألف، فبلغ جيحان، وسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم ورجع، ولم تكن بعدها صائفة إلي سنة ست وأربعين، لاشتغال المنصور بفتنة بني حسن. وفي سنة ست وأربعين، خرج الترك والحدر من باب الأبواب وانتهوا إلي أرمينية وقتلوا من أهلها جماعة ورجعوا.وفي سنة سبع وأربعين أغار أسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على أرمينية فغنم وسبى، ودخل تفليس، فعاث فيها. وكان حرب بن عَبْد الله مقيماً بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارزمي بالجزيرة، فأمره المنصور بالمسير لحرب الترك مع جبريل بن يحيى، فانهزموا وقتل حرب في كثير من المسلمين. وفيها غزا بالصائفة مالك بن عَبْد الله الخثعمي من أهل فلسطين، ويقال له ملك الصوائف فغنم غنائم كثيرة وقسمها بدرب الحرث. وفي سنة تسع وأربعين غزا بالصائفة العباس بن محمد ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث فدخلوا أرض الروم وعاثوا ورجعوا. ومات محمد بن الأشعث في طريقه في سنة إحدى وخمسين وقتل أخوه محمد ولم يدر.ثم غزا بالصائفة سنة أربع وخمسين زفر بن عاصم الهلاليّ. وفي سنة خمس بعدها طلب ملك الروم الصلح على أن يؤدي الجزية، وغزا بالصائفة يزيد بن أسيد السلمي وغزا بها سنة ست وخمسين وغزا بالصائفة معيوب بن يحيى من درب الحرث ولقي العدو فاقتتلوا ثم تحاجزوا.
وفاة المنصور وبيعة المهدي
وفي سنة ثمان وخمسين توفي المنصور منصرفاً من الحج ببئر ميمون لست خلت من ذي الحجة، وكان قد أوصى المهديّ عند وداعه فقال: لم أدع شيئاً إلا تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل واحدة منها، وله سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره. فقال للمهديّ: انظر إلي هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلي يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا ففي الثاني والثالث حتى تبلغ سبعة. فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل.فانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البيوت. فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك وأن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدّمهم وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإن عزك عزهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيراً فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، وأن لا تخرج محبتك من قلوبهم، وأن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل. وإياك أنّ تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها وأظنك ستفعل. وإياك أن تستعين برجل من بني سليم وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل.وقيل قال له إني ولدت في ذي الحجة ووليت في ذي الحجة وقد يحس في نفسي أن أموت في ذي الحجة في هذه السنة، وإنما حدّ لي الحج على ذلك. فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعديّ يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجاً ومخرجاً ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. يا بني إحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود فإن فيها صلاحك في الأجل وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم أن شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه.واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فساداً مع ما ادخر له من العذاب الأليم فقال: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه المقيم فاحفظه وحصّنه وذبّ عنه، وأوقع بالملحدين واقمع المارقين منه، وقابل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل
ولا تشطط فإن ذلك أقطع للشعب وأحسم للعدو وأنجع فى الدواء، واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك. وافتتح بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعية، واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمن السبيل وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم وارفع المكاره عنهم وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبديد فإن النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان. وأعدّ الأكراع والرجال والجند ما استطعت.وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع، وخذ في أحكام الأمور النازلات في أوقاتها أولاً، أولاً، واجتهد وشمر فيها وأعدّ رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن وأسىء الظن بعملك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ وتفقد من يبيت على بابك وسفل إذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك وكل بهم عينا غير نائمة ونفساً غير ساهية. ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولّي الخلافة ولا دخل عينيه الغمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.ثم ودعه وسار إلي الكوفة فأحرم منها قارناً، وساق الهدي وأشعره وقلده لأيام خلت من ذي القعدة. ولما سار منازل عرض له وجعه الذي مات به. ثم اشتدّ فجعل يقول للربيع- وكان عديله- بادر بي إلي حرم ربي هارباً من ذنوبي، فلما وصل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجة لم يحضر إلا خدمه والربيع مولاه. فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم، فدعا عيسى بن علي العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولّي العهد، ثم الأكابر وذوي الأنساب ثم عامتهم. فبايعهم الربيع للمهدي، ثم بايع القوّاد وعامة الناس. وسار العبّاس بن محمد ومحمد بن سليمان إلي مكة فبايعا الناس للمهديّ بين الركن والمقام وجهزوه إلي قبره، وصلى عليه عيسى بن موسى، وقيل إبراهيم بن يحيى، ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من خلافته.وذكر علي بن محمد النوفلي عن أبيه، وهو من أهل البصرة وكان يختلف إلي المنصور تلك الأيام قال: جئت من مكة صبيحة موته إلي العسكر فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق، والقاسم بن المنصور في ناحية فعلمت أنه قد مات.ثم أقبل الحسن بن زيد العلوي والناس حتى ملؤا السرادق وسمعنا همس البكاء.ثم خرج أبو العنبر الخادم مشقوق الأقبية وعلى رأسه التراب وهو يستغيث، وقام القاسم فشق ثيابه. ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه على الناس وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.. من عَبْد الله المنصور أمير المؤمنين، إلي من خلف من بني هاشم وشيعة من أهل خراسان وعامة المسلمين، ثم بكى وبكى الناس ثم قال: البكاء إمامكم فانصتوا رحمكم الله : ثم قرأ: أمَّا بعد فإني كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من أيام الدنيا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعاً ولا يذيق بعضكم بأس بعض.ثم أخذ في وصيتهم للمهديّ وحثهم على الوفاء بعهده. ثم تناول الحسن بن زيد وقال: قم فبايع: فبايع موسى بن المهديّ لأبيه، ثم بايع الناس الأول فالأول. ثم دخل بنو هاشم وهو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام، فحملوه على ثلاثة أميال من مكة فدفنوه. وكان عيسى بن موسى لمّا بايع الناس أبى من الشيعة، فقال له عليّ بن عيسى بن ماهان: والله لتبايعن وإلا ضربنا عنقك. ثم بعث موسى بن المهدي والربيع بالخبر والبردة والقضيب وخاتم الخلافة إلي المهديّ وخرجوا من مكة.ولما وصل الخبر إلي المهدي منتصف ذي الحجة اجتمع إليه أهل بغداد وبايعوه، وكان أول ما فعله المهدي حين بويع أنه أطلق من كان في حبس المنصور إلا من كان في دم أو مال أو ممن يسعى بالفساد، وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود وكان محبوساً مع الحسن بن إبراهيم بن عَبْد الله بن حسن بن الحسن.فلما أطلق ساء ظن إبراهيم وبعث إلي من يثق به بحفر سرب يفضي إلي محبسه، وبلغ ذلك يعقوب بن داود فجاء إلي ابن علاثة القاضي وأوصله إلي أبي عبيد الله الوزير ليوصله إلي المهديّ فأوصله واستخلاه فلم يحدثه حتى قام الوزير والقاضي وأخبره بتحقيق الحال، فأمره بتحويل الحسن، ثم هرب بعد ذلك ولم يظفر به. وشاور يعقوب بن داود في أمره فقال: أعطه الأمان وأنا أحضره وأحضره. ثم طلب من المهديّ أن يجعل له السبيل في رفع أمور الناس وراء بابه إليه فأذن له وكان يدخل كلما أراد، ويرفع إليه النصائح في أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وترويح العذاب وفكاك الأسرى والمحبوسين، والقضاء على الغارمين والصدقة على المتعففين، فحظي بذلك وتقدمت منزلته وسقطت منزلة أبي عَبْد الله، ووصله المهديّ بمائة ألف وكتب له التوقيع بالإخاء في الله.
ظهور المقنع ومهلكه:
كان هذا المقنع من أهل مرو ويسمى حكيماً وهاشمياً، وكان يقول بالتناسخ وأن الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح، ثم إلي أبي مسلم ثم إلي هاشم وهو المقنع. فظهر بخراسان وادعى الإلهية واتخذ وجهاً من ذهب فجعله على وجهه فسمي المقنع، وأنكر قتل يحيى بن زيد وزعم أنه يأخذ بثأره، وتبعه خلق عظيم من الناس وكانوا يسجدون له. وتحصن بقلعة بسّام من رساتيق كش وكان قد ظهر ببخارى والصغد جماعة من المبيضة فاجتمعوا معه على الخلاف، وأعانهم كفار الأتراك وأغاروا على المسلمين من ناحيتهم، وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر بن سيّار، فقتلوا أخاه محمد بن نصروحسان ابن أخيه تميم.وأنفذ المهديّ إليهم جبريل بن يحيى وأخاه يزيد لقتال المبيضة، فقاتلوهم أربعة أشهر في بعض حصون بخارى وملكوه عنوة، فقتل منهم سبعمائة، ولحق فلهم بالمقنع وجبريل في اتباعهم. ثم بعث المهديّ أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله، فبعث معاذ بن مسلم في جماعة القوّاد والعساكر، وعلى مقدّمته سعيد الحريشي، وأتاه عقبة بن مسلم من ذم فاجتمعوا بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنع فهزموهم، ولحق فلهم بالمقنع في بسّام فتحصنوا بها. وجاء معاذ فنازلهم وفسد ما بينه وبين الحريشيّ، فكتب الحريشيّ إلي المهديّ بالسعاية في معاذ، ويضمن الكفاية إن أفرد بالحرب، فأجابه المهديّ إلي ذلك وانفرد بحرب المقنع وأمده معاذ بابنه وجاؤا بآلات الحرب حتى طلب أصحاب المقنع الأمان سراً فأمنهم وخرج إليه ثلاثون ألفاً وبقي معه زهاء ألفين، وضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك وجمع نساءه وأهله. فيقال سقاهم السم، ويقال بل أحرقهم وأحرق نفسه بالنار، ودخلوا القلعة وبعث الحريشي برأس المقنع إلي المهدي فوصل إليه بحلب سنة ثلاث وتسعين.
الولاة أيام المهديّ:
وعزل المهديّ سنة تسع وخمسين عمه إسمعيل عن الكوفة وولّى عليها إسحق بن الصفّاح الكندي ثم الأشعي، وقتل عيسى بن لقمان بن محمد بن صاحب الجمحيّ وعزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة، وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة وولّى مكانهما عَبْد الملك بن أيوب بن طيبان الفهيريّ. ثم جعل الأحداث إلي عمارة بن حمزة فولاها للسود بن عَبْد الله الباهلي. وعزل قثم بن العبّاس عن اليمامة وولّى مكانه الفضل بن صالح، وعزل مطراً مولى المنصور عن مصر
وولّى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان. وعزل عَبْد الصمد بن عليّ عن المدينة وولّى مكانه محمد بن عَبْد الله الكثيريّ ثم عزله وولّى عَبْد الله بن محمد بن عَبْد الرحمن بن صَفْوان، ثم عزله وولّى مكانه زفر بن عاصم الهلاليّ.وتوفي معبد بن الخليل عامل السّند فولى مكانه روح بن حاتم بإشارة وزيره أبي عَبْد الله. وتوفي حميد بن قحطبة بخراسان فولّى عليها مكانه أبا عون عَبْد الملك بن يزيد، ثم سخطه سنة ستين فعزله، وولّى معاذ بن مسلم. وولّى على سجستان حمزة بن يحيى، وعلى سمرقند جبريل بن يحيى فبنى سورها وحصّنها. وكان على اليمن رجاء بن روح، وولّى على قضاء الكوفة شريك. . وولّى على فارس والأهواز ودجلة قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن، ثم عزله وولّى مكانه محمد بن سليمان، وولّى على السِّند بسطام بن عمر، وولّى على اليمامة بشر بن المنذر.وفي سنة إحدى وتسعين ولّى على السِّند محمد بن الأشعث، واستقضى عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة، وعزل الفضل بن صالح عن الجزيرة وولّى مكانه عَبْد الصمد بن عليّ، وولّى عيسى بن لقمان على مصر ويزيد بن منصور على سواد الكوفة وحسان السروريّ على الموصل وبسطام بن عمرو الثغلبيّ على أذربيجان، وعزله عن السِّند.وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة، فولّى مكانه حمزة بن مالك وكان الأبان بن صدقة كاتباً للرشيد فصرفه وجعله مع الهادي، وجعل هو مع هرون يحيى بن خالد، وعزل محمد بن سليمان أبا ضمرة عن مصر وولّى مكانه سليمان بن رجاء، وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحق بن منصور. وفي سنة ست وستين عزل عليّ بن سليمان عن اليمن وولّى مكانه عَبْد الله بن سليمان، وعزل مسلمة بن رجاء عن مصر وولّى مكانه عيسى بن لقمان، ثم عزله لأشهر وولّى مكانه مولاه واضحاً، ثم عزله وولّى مكانه يحيى الحريشي، وكان على طبرستان عمر بن العلاء وسعيد بن دعلج، وعلى جرجان مهليل بن صَفْوان، ووضع ديوان الأرمة وولّى عليها عمر بن بزيع مولاه.
العهد للهادي وخلع عيسي:
كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد والبيعة لموسى الهادي بن المهديّ، ونمي ذلك إلي المهديّ فسر به واستقدم عيسى بن موسى من منزله بالرحبة من أعمال الكوفة فامتنع من القدوم. فاستعمل المهديّ على الكوفة روح بن حاتم وأوصاه بالأضرار فلم يجد سبيلاً إلي ذلك. وكان عيسى لا يدخل الكوفة إلا يوم جمعة أو عيد. وبعث إليه المهدي يتهدده فلم يجب، ثم بعث عمه العبّاس يستقدمه فلم يحضر. فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه، وقدم على عسكر المهديّ وأقام أياماً يختلف إليه ولا يكلم بشيء. غر الدار يوماً وقد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه، فثاروا به وأغلق الباب الذي كان خلفه فكسروه، وأظهر المهديّ النكير عليهم فلم يرجعوا إلا أن كاشفه أكابر أهل بيته وأشدهم محمد بن سليمان، واعتذر بالأيمان التي عليه. فأحضر المهديّ القضاة والفقهاء وفيهم محمد بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجي فأفتوه بمخارج الأيمان، وخلع نفسه وأعطاه المهديّ عشرة آلاف درهم وضياعاً بالزاب وكسكر، وبايع لابنه موسى الهادي بالعهد. ثم جلس المهديّ من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم وخرج إلي الجامع وعيسى معه، فخطب وأعلم الناس ببيعة الهادي ودعاهم إليها فبادروا وأشهد عيسى بالخلع. فتح باربد من السند: وبعث المهدي سنة تسع وخمسين عَبْد الملك بن شهاب المسمعي في جمع كثير من الجند والمقطوعة إلي بلاد الهند، فركبوا البحر من فارس ونزلوا بأرض الهند، وفتحوا باربد فافتتحوها عنوة ولجأ أهلها إلي البدّ فأحرقوه عليهم فاحترق بعض وقتل الباقون، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون وأقاموا بعض أيام إلي أن يطيب الريح، فوقع فيهم موتان فهلك ألف فيهم إبراهيم بن صبيح. ثم ركبوا البحر إلي فارس، فلما انتهوا إلي ساحل حرّان عصفت بهم الريح فانكسرت عامة مراكبهم وغرق الكثير منهم. حج المهدي: وفي سنة ستين حج المهديّ واستخلف على بغداد ابنه الهادي وخاله يزيد بن منصور، واستصحب ابنه هرون وجماعة من أهل بيته، وكان معه الوزير يعقوب بن
داود، فجاء في مكة بالحسن بن إبراهيم الذي ضمنه على الأمان فوصله بالمهدي وأقطعه. ولما وصل إلي مكة اهتم بكسوة الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها. وكانت فيها كسوة هشام بن عَبْد الملك من الديباج الثخين، وقسم مالاً عظيماً هنالك في مصارف الخير فكان منه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائة ألف دينار، ففرق ذلك كله، وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع المسجد، ونقل خمسمائة من الأنصار إلي العراق جعلهم في حرسه وأقطع لهم وأجرى الأرزاق. ولما رجع أمر ببناء القصور بطريق مكة أوسع من قصور المنصور، من القادسية إلي زبالة ، وأمر باتخاذ المصانع في كل منها منهل، وبتحديد الأميال وحفر الآبار، وولّى على ذلك بقطير بن موسى، وأمر بالزيادة في مسجد البصرة وتصغير المنابر إلي مقدار منبر النبي صلى الله عليه وسلم . وأمر في سنة سبع وستين بالزيادة في الحرمين على يد بقطير، فدخلت فيه دول كثيرة، ولم يزل البناء فيهما إلي وفاة المهديّ.
نكبة الوزير أبي عَبْد الله: كان أبو عَبْد الله الأشعري قد اتصل بالمهدي أيام أبيه المنصور، فلطفت عنده منزلته واستوزره وسار معه إلي خراسان وعظمت به بطانة المهديّ فأكثروا فيه السعاية ،وكان الربيع يدرأ عنه ويعرض كتبه على المنصور وجسن القول فيه. فكتب المنصور إلي المهدي بالوصاة به وأن لا يقبل فيه السعايةّ، ولصا مات المنصور وقام الربيع ببيعة المهدي ،وقدموا إلي بغداد جاء الربيع إلي باب أبي عَبْد الله قبل المهدي وقبل أهله، فعذله ابنه افضل على ذلك ،فقال :هو صاحب الرجل وينبغي أن نعامله بغير ما كنا نعامله، وإياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أو تمنن بذلك في نفسك. فلصا وقف ببابه أمهله طويلاً من المغرب إلي العشاء. ثم أذن له فدخل عليه وهو متكىء فلم يجلس ولا أقبل عليه. وشرع الربيع يذكر أمر البيعة فكفه وقال: قد بلغنا أمركم: فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب. فقال له: ليس الصواب إلا ما عملته، ولكن والله لأنفقن مالي وجاهي في مكروهه، وجد في السعاية فيه فلم يجد طريقاً إليها لاحتياطه في أمر دينه وأعماله. فأتاه من قبل ابنه محمد، ودس إلي المهدي بعرضه لحرمه وأنه زنديق، حتى إذا استحكمت التهمة فيه أحضره المهدي في غيبة من أبيه ثم قال له: اقرأ! فلم يحسن فقال لأبيه: ألم تقل إن ابنك يقرأ القرآن؟ فقال فارقني منذ سنين وقد نسي، فأمر به المهدي فقتل. واستوحش من أبي عَبْد الله وساءت منزلته إلي أن كان من أمره ما نذكره، وعزله عن ديوان الرسائل ورده إلي الربيع ، وارتفعت منزلة يعقوب بن داود عند المهدي وعظم شأنه وأنفذ عهده إلي جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب، وكان لا ينفذ كتاب المهديّ حتى يكتب يعقوب إلي يمينه بإنفاذ ذلك. ظهور دعوة العباسة بالأندلس وانقطاعها: وفي سنة إحدى وستين أجاز عَبْد الرحمن بن حبيب الفهريّ من إفريقية إلي الأندلس داعية لبني العباس،ن ونزل بساحل مرسية، وكاتب سليمان بن يقظان عامل سرقسطة في طاعة المهديّ فلم يجبه. وقصد بلاده فيمن معه من البربر فهزمه سليمان وعاد إلي تدبير. وسار إليه عَبْد الرحمن صاحب الأندلس وأحرق السفن في البحر تضييقاً على ابن حبيب في النجاة، فاعتصم بجبل منيع بنواحي بلنسية فبذل عَبْد الرحمن فيه المال فاغتاله بعض البربر وحمل رأسه إليه، فأعطاه ألف دينار وذلك سنة إثنتين وستين. وهم عَبْد الرحمن صاحب الأندلس أمر ذلك لغزو الشام من الأندلس على العدوة الشمالية لأخذ ثأره، فعصى عليه سليمان بن يقظان والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري في سرقسطة فشغلوه عما اعتزم عليه من ذلك.
غزو المهدي:
تجهز المهديّ سنة ثلاث وستين لغزو الروم، وجمع الأجناد من خراسان ومن الأفاق، وتوفي عمه عيسى بن علي آخر جمادى الأخيرة بعسكره، وسار من الغد واستخلف على بغداد إبنه موسى الهادي واستصحب هرون، ومرّ في طريقه بالجزيرة والموصل، فعزل عَبْد الصمد بن علي وحبسه ثم أطلقه سنة ست وستين. ولما جاز ببني مسلمة بن عَبْد الملك ذكره عمه العبّاس بما فعله مسلمة مع جدهم محمد بن عليّ، وكان أعطاه مرة في اجتيازه عليه ألف دينار، فاحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه وأعطاهم عشرين ألف دينار وأجرى عليهم الأرزاق، وعبر الفرات إلي حلب، فأقام بها وبعث إبنه هارون للغزو وأجاز معه الدروب إلي جيحان مشيعاً، ولجث معه عسى بن موسى وعبد الملك بى صالح والحسن بن قحطبة والربيع بن يونس ويحيى بن خالد بن برمك، وكان إليه أمر العسكر والنفقات وحاصروا حصن سمالو أربعين يوماً ثم فتح بالأمان، وفتحوا بعده فتوحات كثيرة، وعادوا إلي المهديّ وقد أثخن في الزنادقة وقتل من كان في تلك الناحية منهم. ثم قفل إلي بغداد ومرّ ببيت المقدس وصلى في مسجده ورجع إلي بغداد.
العهد لهارون:
وفي سنة ست وستين أخذ المهديّ البيعة لابنه هارون بعد أخيه الهادي ولقبه الرشيد. نكبة الوزير يعقوب بن داود: كان أبو داود بن طهمان كاتباً لنصر بن سيار هو وأخوته، وكان شيعياً وعلى رأي الزيدية. ولما خرج يحيى بن زيد بخراسان كان يكاتبه بأخبار نصر فأقصاه نصر، فلما طلب أبو مسلم بدم يحيى جاءه داود فأمنه في نفسه وأخذ ما اكتسبه من المال أيام نصر،وأقام بعد ذلك عاطلاً. ونشأ له ولد أهل أدب وعلم وصحبوا أولاد الحسن. وكان داود يصحب إبراهيم بن عَبْد الله فورثوا ذلك عنه، ولما قتل إبراهيم طلبهم المنصور وحبس يعقوب وعلياً مع الحسن بن إبراهيم حتى توفي، وأطلقهما المهديّ بعده مع من أطلق. وداخله المهديّّ في أمر الحسن لمّا فر من الحبس فكان ذلك سبباً لوصلته بالمهدي حتى استوزره، فجمع الزيدية وولاهم شرقاً وغرباً، وكثرت السعاية فيه من البطانة بذلك وبغيره وكان المهديّ يقبل سعايتهم حتى يروا أنها قد تمكنت، فإذا غدا عليه تبسم وسأله.وكان المهدي مشتهراً بالنساء فيخوض معه في ذلك وفيما يناسبه ويتغلب برضاه، وسامره في بعض الليالي وجاء ليركب دابته وقد نام الغلام، فلما ركب نفرت الدابة من قعقعة ردائه فسقط ورمحته فانكسر، فانقطع عن المهدي وتمكن أعداؤه من السعاية حتى سخطه وأمر به فحبس وحبس عماله وأصحابه. ويقال بل دفع إليه علوياً ليقتله فأطلقه، ونمي ذلك إلي المهدي فأرسل من أحضره، وقال ليعقوب أين العلوي؟ فقال: قتلته، فأخرجه إليه حتى رآه. ثم حبس في المطبق ودلي في بئر فيه. وبقي أيام المهدي والهادي ثم أخرج وقد عمي وسأل من الرشيد المقام بمكة فأذن له. وقيل في سبب تغيره إنه كان ينهى المهدي عن شرب أصحابه النبيذ عنده، ويكثر
عليه في ذلك ويقول: أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ! لا والله لا على هذا استوزرتني ولا عليه صحبتك!
مسير الهادي إلي جرجان: وفي سنة سبع وستين عصى وتداهر من شرو بن ملكا طبرستان من الديلم، فبعث المهدي ولي عهده موسى الهادي، وجعل على جنده محمد بن حميد، وعلى حجابته نفيعاً مولى المنصور، وعلى حرسه عيسى بن ماهان، وعلى رسائله أبان بن صدقة. وتوفي أبان بن صدقة فبعث المهدي مكانه أبا خالد الأجرد فسار المهدي وبعث الجنود في مقدمته وأمّر عليهم يزيد، فحاصرهما حتى استقاما. وعزل المهدي يحيى الحريشيّ عن طبرستان وما كان إليه، وولّى مكانه عمر بن العلاء، وولّى على جرجان فراشة مولاه، ثم بعث سنة ثمان وستين يحيى الحريشيّ في أربعين ألفاً إلي طبرستان.
العمال بالنواحي: وفي سنة ثلاث وستين ولّى المهدي إبنه هرون على المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى الرسائل يحيى بن خالد بن برمك. وعزل زفر بن عاصم عن الجزيرة وولّى مكانه عَبْد الله بن صالح، وعزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولّى مكانه المسيب بن زهير الضبي، وعزل يحيى الحريشيّ عن أصبهان وولّى مكانه الحكم بن سعيد، وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان وولّى مكانه عمر بن العلاء، ومهلهل بن صَفْوان عن جرجان وولاها هشام بن سعيد. وكان على الحجاز واليمامة جعفر بن سليمان، وعلى الكوفة إسحق بن الصباح، وعلى البحرين والبصرة وفارس والأهواز محمد بن سليمان، فعزله سنة أربع وستين وولّى مكانه صالح بن داود.وكان على السند محمد بن الأشعث. وفي سنة خمس وستين عزل خلف بن عَبْد الله عن الري وولاها عيسى مولى جعفر، وولّى على البصرة روح بن حاتم، وعلى البحرين وعمان والأهواز وفارس وكرمان النعمان مولى المهدي. وعزل محمد بن الفضل عن الموصل وولّى مكانه أحمد بن إسمعيل. وفي سنة ست وستين
عزل عبيد الله بن حسن العنبري عن قضاء البصرة واستقضى مكانه خالد بن طليق بن عمران بن حصين فاستعفى أهل البصرة منه. وولّى المهدي على قضائه أبا يوسف حين سار إلي جرجان. واضطربت في هذه السنة خراسان على المسيّب بن زهير فولاها أبا العبّاس الفضل بن سليمان الطوسي وأضاف إليه سجستان، فولى هو على سجستان سعيد بن دعلج. وولّى على المدينة إبراهيم ابن عمه، وعزل منصور بن يزيد عن اليمن وولّى مكانه عَبْد الله بن سليمان الربعي.وكان على مصر إبراهيم بن صالح، وتوفي في هذه السنة عيسى بن موسى بالكوفة وهي سنة سبع وستين. وعزل المهدي يحيى الحريشي عن طبرستان والرويان وما كان إليه، وولاه عمر بن العلاء وولّى على جرجان فراشة مولاه. وحج بالناس إبراهيم ابن عمه يحيى وهو على المدينة ومات بعد قضاء الحج، فولى مكانه إسحق بن موسى بن علي وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثي وعلى اليمامة عَبْد الله بن مصعب الزبيري وعلى البصرة محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التميمي وعلى الموصل أحمد بن إسمعيل الهاشمي. وقتل موسى بن كعب ووقع الفساد في بادية البصرة من الأعراب بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطرق وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة.
الصوائف: وفي سنة تسع وخمسين أغزى المهدي عمه العباس بالصائفة وعلى مقدمته الحسن الوصيف، فبلغوا أهرة وفتحوا مدية أوهرة ورجعوا سالمين ولم يصب من المسلمين أحد. وفي سنة إحدى وستين غزا بالصائفة يمامة بن الوليد فنزل دابق وجاشت الروم مع ميخاييل في ثمانين ألفاً، ونزل عمق مرعش فقتل وسبى وغنم، وحاصر مرعش وقتل من المسلمين عدداً، وانصرف إلي جيحان، فكان عيسى بن علي مرابطاً بحصن مرعش، فعظم ذلك على المهدي وتجهز لغزو الروم. وخرجت الروم سنة إثنتين وستين إلي الحرث فهدموا أسوارها. وغزا بالصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفاً من المرتزقة فبلغ جهة أدرركبه، وأكثر التحريق والتخريق ولم يفتح حصناً ولا لقي
جمعاً ورجع بالناس سالماً.وغزا يزيد بن أسيد السلمي من ناحية قالقيلا فغنم وسبى وفتح ثلاثة حصون. ثم غزا المهدي بنفسه سنة ثلاث وستين كما مرّ. ثم غزا سنة أربع وستين عَبْد الكبير بن عَبْد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحرث فخرج إليه ميخاييل وطارد الأرمني البطريقان في تسعين ألفاً فخام عن لقائهم، ورجع بالناس فغضب عليه المهدي وهم بقتله فشفع فيه وحبسه. وفي سنة خمس وستين بعث المهدي ابنه هرون بالصائفة وبعث معه الربيع، فتوغل في بلاد الروم ولقيه عسكر نقيطاً من القواميس، فبارزه يزيد بن مزيد فهزمهم وغلب على عسكرهم ولحقوا بالدمشق صاحب المسالح، فحمل لهم مائتي ألف دينار وإثنتين وعشرين ألف درهم، وسار الرشيد بعساكره وكانت نحواً من مائة ألف، فبلغ خليج قسطنطينية وعلى الروم يومئذ غسطة امرأة إليون كافلة لابنها منه صغيراً، فجرى الصلح على الفدية وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق لأن مدخله كان ضيقاً مخوفاً فأجابت لذلك. وكان مقدار الفدية سبعين ألف دينار كل سنة، ومدة الصلح ثلاث سنين. وكان ما سباه المسلمون قبل الصلح خمسة آلاف رأس وستمائة رأس، وقتل من الروم في وقائع هذه الغزوات أربعة وخمسون ألفاً ومن الأسرى ألفان. ثم نقض الروم هذا الصلح سنة ثمان وستين ولم يستكملوا مدته، بقي منها أربعة أشهر. وكان على الجزيرة وقنسرين علي بن سليمان فبعث يزيد بن البدر بن البطّال في عسكر فغنموا وسبوا وظفروا ورجعوا.
وفاة المهدي وبيعة الهادي: وفي سنة تسع وستين اعتزم المهدي على خلع إبنه موسى الهادي من العهد، والبيعة للرشيد به، وتقديمه على الهادي، وكان بجرجان فبعث إليه بذلك فاستقدمه، فضرب الرسول وامتنع، فسار إليه المهدي، فلما بلغ سبدان توفي هنالك. يقال مسموماً من بعض جواريه، ويقال سمت إحداهما الأخرى في كمثرى، فغلط وأكلها، ويقال حاز صيداً فدخل وراءه إلي خربة فدق الباب ظهره. وكان موته في المحرم، وصلى عليه إبنه الرشيد، وبويع ابنه موسى الهادي لمّا بلغه موت أبيه وهو مقيم جرجان يحارب أهل طبرستان.وكان الرشيد لمّا توفي المهدي والعسكر بسبدان نادى في الناس بإعطاء تسكيناً، وقسم فيهم مائتين مائتين، فلما استوفوها تنادوا بالرجوع إلي بغداد وتشايعوا إليها واستيقنوا موت المهدي، فأتوا باب الربيع وأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق ونقبوا السجون.وقدم الرشيد بغداد في أثرهم، فبعثت الخيزران إلي الربيع، فامتنع يحيى خوفاً من غيرة الهادي، وأمرت الربيع بتسكين المجند فسكنوا، وكتب الهادي إلي الربيع يتهدده، فاستشار يحيى في أمره وكان يثق بودّه، فأشار عليه بأن يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه وتصحبه الهدايا والتحف ففعل، ورضي الهادي عنه، وأخذت البيعة ببغداد للهادي.وكتب الرشيد بذلك إلي الآفاق، وبعث نصيراً الوصيف إلي الهادي بجرجان، فركب البريد إلي بغداد فقدمها في عشرين يوماً. فاستوزر الربيع، وهلك لمدة قليلة من وزارته. واشتد الهادي في طلب الزنادقة وقتلهم، وكان منهم عليّ بن يقطين ويعقوب بن الفضل من ولد ربيعة بن الحرث بن عَبْد المطلب، كان قد أقر بالزندقة عند المهدي إلا أنه كان مقسماً أن لا يقتل هاشمياً فحبسه وأوصى الهادي بقتله وبقتل ولد عمهم داود بن علي فقتلهما.(وأمَّا عماله) فكان على المدينة عمر بن عَبْد العزيز بن عبيد الله بن عَبْد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى مكة والطائف عَبْد الله بن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بن مسلم بن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بن سليم الحواري، وعلى الكوفة موسى بن عيسى بن موسى، وعلى البصرة ابن سليمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بن عميرة مولى وعلى الموصل هاشم بن سعيد بن خالد، وعزله الهادي لسوء سيرته وولّى مكانه عَبْد الملك وصالح بن علي.(وأمَّا الصائفة) فغزا بها في هذه السنة وهي سنة تسع وستين معيوب بن يحيى، وقد كان الروم خرجوا مع بطريق لهم إلي الحرث فهرب الوالي ودخلها الروم وعاثوا فيها، فدخل معيوب وراءهم من درب الراهب، وبلغ مدينة أستة وغنم وسبى وعاد. ظهور الحسين المقتول بفتح: وهو الحسين بن علي بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن الحسن السبط، كان الهادي
قد استعمل على المدينة عمر بن عَبْد العزيز كما مر فأخذ يوماً الحسن بن المهدي بن محمد بن عَبْد الله بن الحسين الملقب أبا الزفت، ومسلم بن جندب الهذلي الشاعر، وعمر بن سلام مولى العمريين على شراب لهم، فضربهم وطيف بهم بالمدينة بالحبال في أعناقهم، وجاء الحسين إليه فشفع فيهم وقال: ليس عليهم حد فإن أهل العراق لا يرون به بأساً وليس من الحد أن نطيفهم فحبسهم. ثم جاء ثانية ومعه من عمومته يحيى بن عَبْد الله بن الحسن صاحب الديلم بعد ذلك فكفلاه وأطلقه من الحبس.وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضاً ويعرضون، فغاب الحسن عن العرض يومين، فطلب به الحسين بن علي ويحيى بن عَبْد الله كافليه وأغلظ لهما، فحلف يحيى أنه يأتي به من ليلته أو يدق عليه الباب يؤذنه به. وكان بين الطالبيين ميعاد للخروج في الموسم فأعجلهم ذلك عنه وخرجوا من ليلتهم، وضرب يحيى على العمري في باب داره بالسيف، واقتحموا المسجد فصلوا الصبح، وبايع الناس الحسين المرتضى من آل محمد على كتاب الله وسنة رسوله. وجاء خالد اليزيدي في مائتين من الجند والعمري وابن إسحق الأزرق ومحمد بن واقد في ناس كثيرين فقاتلوهم وهزموهم في المسجد،واجتمع يحيى وإدريس بن عَبْد الله بن حسن فقتلاه وانهزم الباقون وافترق الناس.وأغلق أهل المدينة أبوابهم وانتهب القوم من بيت المال بضعة عشر ألف دينار وقيل سبعين ألفاً، واجتمعت شيعة بني العبّاس من الغد وقاتلوهم إلي الظهر وفشت الجراحات وافترقوا. ثم قدم مبارك التركي من الغد حاجاً فقاتل مع العبّاسية إلي منتصف النهار وافترقوا، وواعدهم مبارك الرواح إلي القتال، واستغفلهم وركب رواحله راجعاً واقتتل الناس المغرب ثم افترقوا. ويقال إنّ مباركاً دس إلي الحسين بذلك تجافياً عن أذية، أهل البيت وطلب أن يأخذ له عذراً في ذلك بالبيات، فبيته الحسين واستطرد له راجعاً. وأقام الحسين وأصحابه بالمدينة واحداً وعشرين يوماً آخر ذي القعدة، ولما بلغها نادى في الناس بعتق من أتى إليه من العبيد فاجتمع إليه جماعة.وكان قد حج تلك السنة رجال من بني العباس منهم سليمان بن المنصور ومحمد بن سليمان بن علي والعبّاس بن محمد بن عليّ وموسى وإسمعيل أبناء عيسى بن موسى، ولما بلغ خبر الحسين إلي الهادي كتب إلي محمد بن سليمان وولاه على حربه وكان معه رجال وسلاح وقد أغذ بهم عن البصرة خوف الطريق، فاجتمعوا بذي طوى وقدموا مكة فحلوا من العمرة التي كانوا أحرموا بها، وانضم إليهم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم، واقتتلوا يوم التروية فانهزم الحسين وأصحابه وقتل كثير منهم ، وانصرف محمد بن سليمان وأصحابه إلي مكة ولحقهم بذي طوى رجل من خراسان برأس الحسين ينادي من خلفهم بالبشارة، حتى ألقى الرأس بين أيديهم مضروباً على قفاه وجبهته، وجمعت رؤوس القتلى فكانت مائة ونيفاً وفيها رأس سليمان أخي المهدي بن عَبْد الله، واختلط المنهزمون بالحاج.وجاء الحسن بن المهدي أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعبّاس بن محمد، فأخذه موسى بن عيسى وقتله، وغضب محمد بن سليمان من ذلك وغضب الهادي لغضبه وقبض أمواله. وغضب على مبارك التركي وجعله سائس الدواب، فبقي كذلك حتى مات الهادي، وأفلت من المنهزمين إدريس بن عَبْد الله أخو المهدي فأنى مصر وعلي يريدها، وأصبح مولى صالح بن المنصور وكان يتشيع لآل عليّ فحمله على البريد إلي المغرب، ووقع بمدية وليلة من أعمال طنجة، واجتمع البريد على دعوته،وقتل الهادي وأصحابه بذلك وصلبه وكان لإدريس وابنه إدريس وأعقابهم حروب نذكرها بعده.
حديث الهادي في خلع الرشد: كان الهادي يبغض الرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره، وكان رأى في منامه أنه دفع إليهما قضيبين فأورق قضيب الهادي من أعلاه وأورق قضيب الرشيد كله، وتأول ذلك بقصر مدة الهادي وطول مدة الرشيد وحسنها. فلما وليّ الهادي أجمع خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر مكانه، وفاوض في ذلك قواده، فأجابه يزيد بن مزيد وعلي بن عيسى وعبد الله بن مالك، وحرضوا الشيعة على الرشيد لينقصوه ويقولوا لا نرضى به، ونهى الهادي أن يشاور بين يديه بالحرب فاجتنبه الناس، وكان يحيى بن خالد يتولى أموره فاتهمه الهادي بمداخلته، وبعث إليه وتهدده فحضر عنده مستميتا وقال: يا أمير المؤمنين أنت أمرتني بخدمته من بعد المهدي ! فسكن غضبه وقال له في أمر الخلع، فقال يا أمير المؤمنين أنت إن حملت الناس على نكث الإيمان فيه هانت عليهم فيمن توليه، وإن بايعت بعده كان ذلك أوثق للبيعة، فصدقه وسكت عنه.
وعاد أولئك الذين جفلوه من القواد والشيعة فأغروه بيحيى، وأنه الذي منع الرشيد من خلع نفسه، فحبسه الهادي فطلب الحضور للنصيحة، وقال له: يا أمير المؤمنين! أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو صبي ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم، وتأمن أن يسموا إليها عند ذلك أكابر بيتك فتخرج من ولد أبيك، والله لو لم يعقده المهدي لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذراً من ذلك، وإني أرى أن تعقده لأخيك، فإذا بلغ ابنك أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له، فقبل الهادي قوله وأطلقه. ولم يقنع القواد ذلك لأنهم كانوا حذرين من الرشيد في ذلك، وضيق عليه واستأذنه في الصيد فمضى إلي قصر مقاتل، ونكره الهادي وأظهر خفاءه وبسط الموالي والقواد فيه ألسنتهم.
وفاة الهادي وبيعة الرشيد:
ثم خرج الهادي إلي حديقة الموصل فمرض واشتدّ مرضه هنالك، واستقدم العمال شرقاً وغرباً. ولما ثقل تآمر القواد الذين بايعوا جعفراً في قتل يحيى بن خالد، ثم أمسكوا خوفا من الهادي. ثم توفي الهادي في شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وقيل توفي بعد أن عاد من حديقة الموصل. ويقال: إن أمه الخيزران وصت بعض الجواري عليه فقتلته لأنها كانت أول خلافته تستبد عليه بالأمور فعكف الناس واختلفت المواكب، ووجد الهادي لذلك فكلمته يوماً في حاجة فلم يجبها فقالت: قد ضمنتها لعبد الله بن مالك. فغضب الهادي وشتمه وحلف لا قضيتها فقامت مغضبة، فقال: مكانك وإلا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم . لئن بلغني أن أحداً من قوادي وخاصتي وقف ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله، ما للمواكب تغدو وتروح عليك؟ أمَّا لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك: إياك! لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي فانصرفت وهي لا تعقل.ثم قال لأصحابه: أيكم يحب أن يتحدث الرجال. بخبر أمه، ويقال فعلت أم فلان وصنعت؟ فقالوا لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون معها؟ فيقال: إنه لمّا جدّ في خلع الرشيد خافت عليه منه، فلما ثقل مرضه وصت بعض الجواري فجلست على وجهه فمات، وصلى عليه الرشيد. وجاء هرثمة بن أعين إلي
الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة، وأحضر يحيى فاستوزره، وكتب إلي الأطراف بالبيعة. وقيل: إن يحيى هو الذي جاءه وأخرجه فصلى على الهادي ودفنه إلي يحيى وأعطاه خاتمه، وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد. وعزل لأوّل خلافته عمر بن عَبْد العزيز العمريّ عن المدينة وولّى مكانه إسحق بن سليمان، وتوفي يزيد بن حاتم عامل إفريقية فولّى مكانه روح بن حاتم، ثم توفي فولّى مكانه إبنه الفضل، ثم قتل فولّى هرثمة بن أعين كما يذكر في أخبار إفريقية. وأفرد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلها عمالة واحدة وسماها العواصم، وأمره بعمارة طرسوس ونزلها الناس. وحج لأول خلافته وقسم في الحرمين مالاً كثيراً.وأغزى بالصائفة سليمان بن عَبْد الله البكائي، وكان على مكة والطائف عَبْد الله بن قثم، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البحرين والبصرة واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي، وعلى خراسان أبو الفضل العباس بن سليمان الطوسي، ثم عزله وولّى مكانه جعفر بن محمد بن الأشعث. فسار إلي خراسان وبعث إبنه العباس إلي كابل فافتتحها وافتتح سابها وغنم ما كان فيها. ثم استقدمه الرشيد فعزله، وولّى مكانه ابنه العباس، وكان على الموصل عَبْد الملك بن صالح فعزله وولّى مكانه إسحق بن محمد بن فروح، فبعث إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحضره إلي بغداد وقتله، وولّى مكان وكان على أرمينية يزيد بن مزيد بن زائدة ابن أخي معن فعزله وولّى مكانه أخاه عَبْد الله بن المهدي.وولّى سنة إحدى وسبعين على صدقات بني ثغلب روح بن صالح الهمداني، فوقع بينه وبين تغلب خلاف وجمع لهم الجموع فبيتوه وقتلوه في جماعة من أصحابه. وتوفي سنة ثلاث وسبعين محمد بن سليمان والي البصرة وكان أخوه جعفر كثير السعاية فيه عند الرشيد، وأنه يحدث نفسه بالخلافة وأن أمواله كلها فيء من أموال المسلمين، فاستصفاها الرشيد وبعث من قبضها، وكان لا يعبر عنها من المال والمتاع والدواب، وأحضروا من العين فيها ستين ألف ألف دينار. ولم يكن إلا أخوه جعفر فاحتج عليه الرشيد بإقراره أنها فيء. وتوفي سنة أربع وسبعين والي الرشيد إسحق بن سليمان على السّند ومكران، واستقضى يوسف بن أبي يوسف في حياة أبيه، وفي سنة خمس وسبعين عقد لابنه محمد بن زبيدة ولاية العهد ولقبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين بسعاية خاله عيسى بن جعفر بن المنصور ووساطة الفضل بن يحيى، وفيها عزل الرشيد العباس بن جعفر عن خراسان وولاها خاله الغطريف بن عطاء الكندي.
خبر يحيي في عَبْد الله في الديلم : وفي سنة خمس وسبعين خرج يحيى بن عَبْد الله بن حسن أخو المهدي بالديلم واشتدت شوكته وكثر جمعه وأتاه الناس من الأمصار، فندب إليه الرشيد الفضل بن يحيى في خمسين ألفاً وولاه جرجان وطبرستان والري وما إليها، ووصل معه الأموال. فسار ونزل بالطالقان وكاتب يحيى وحذره وبسط أمله، وكتب إلي صاحب الديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم، فأجاب يحيى على الأمان بخط الرشيد وشهادة الفقهاء والقضاة وأجلة بني هاشم ومشايخهم عن عَبْد الصمد منهم، فكتب له الرشيد بذلك وبعثه مع الهدايا والتحف. وقدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد بكل ما أحب وأفاض عليه العطاء وعظمت منزلة الفضل عنده. ثم إن الرشيد حبس يحيى إلي أن هلك في حبسه.
ولاية جعفر بن يحيي مصر.
كان موسى بن عيسى قد ولاه الرشيد مصر، فبلغه أنه عازم على الخلع فرد أمرها إلي جعفر بن يحيى، وأمره بإحضار عمر بن مهران وأن يوليه عليها، وكان أحول مشوه الخلق خامل البزة يردف غلامه خلفه. فلما ذكرت له الولاية قال على شرطية أن يكون أمري بيدي إذا صلحت البلاد انصرفت فأجابه إلي ذلك. وسار إلي مصر وأتى مجلس موسى فجلس في أخريات الناس ، حتى إذا افترقوا رفع الكتاب إلي موسى فقرأه وقال: متى يقدم أبو حفص؟ فقال: أنا أبو حفص ! فقال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: أليس لي ملك مصر، ثم سلم له العمل. فتقدم عمر إلي كاتبه أن لا
يقبل من الهدية إلا ما يدخل في الكيس، فبعث الناس بهداياهم وكانوا يمطلون بالخراج. فلما حضر النجم الأول والثاني وشكوا الضيق في الثالث أحضر الهدايا وحسبها لأربابها واستوفى خراج مصر ورجع إلي بغداد.
الفتنة بدمشق:
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية، ورأس المضرية أبو الهيدام عامر بن عمارة من ولد خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري، وكان أصل الفتنة بين القيس وبين اليمانية أن اليمانية قتلوا منهم رجلاً فاجتمعوا لثأره، وكان على دمشق عَبْد الصمد بن علي، فجمع كبار العشائر ليصلحوا بينهم فأمهلتهم اليمانية وبيتوا المضرية فقتلوا منهم ثلثمائة أو ضعفها، فاستجاشوا بقبائل قضاعة وسليم فلم ينجدوهم وأنجدتهم قيس، وساروا معهم إلي البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة وطال الحرب بينهم. وعزل عَبْد الصمد عن دمشق وولّى مكانه إبراهيم بن صالح بن عليّ. ثم أصلحوا بعد سنين ووفد إبراهيم على الرشيد وكان هواه مع اليمانية فوقع في قيس عند الرشيد واعتذر عنهم عَبْد الواحد بن بشر استخلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحق، فحبس جماعة من قيس وضربهم.ثم وثبت غسان برجل من ولد قيس بن العبسي فقتلوه، واستنجد أخوه بالدواقيل من حوران فأنجدوه وقتلوا من اليمانية نفراً. ثم وثبت اليمانية بكليب بن عمر بن الجنيد بن عَبْد الرحمن وعنده ضيف له فقتلوهم، فجاءت أم الغلام سابة إلي أبي الهيدام، فقال انظريني حتى ترفع دماؤنا إلي الأمير، فإن نظر فيها وإلا فأمير المؤمنين ينظر فيها. وبلغ ذلك إسحق وحضر عنده أبو الهيدام فلم يأذن له. ثم قتل بعض الدواقيل رجلاً من اليمانية، وقتلت اليمانية رجلاً من سليم ونهبوا جيران محارب، وركب أبو الهيدام معهم إلي إسحق فوعده بالنظر لهم، وبعث إلي اليمانية يغريهم به فاجتمعوا وأتوا إلي باب الجابية، فخرج إليهم أبو الهيدام وهزمهم واستولى على دمشق وفتح السجون.ثم اجتمعت اليمانية واستنجدوا كلباً وغيرهم فاستمدوهم، واستجاش أبو الهيدام المضرية فجاؤه وهو يقاتل اليمانية عند باب توما فهزمهم أربع مرات. ثم أمره إسحق بالكف، وبعث إلي اليمانية يخبرهم بغرته وجاء الخبر وركب وقاتلهم فهزمهم، ثم هزمهم أخرى على باب توما. ثم جمعت اليمانية أهل الأردن والجولان من كلب وغيرهم فأرسل من يأتيه بالخبر فأبطؤا ودخل المدينة فأرسل إسحق من دلهم على مكمنه وأمرهم بالعبور إلي
المدينة، فبعث من أصحابه من يأتيهم من ورائهم فانهزموا. ولما كان مستهل صفر جمع إسحق الجنود عند قصر الحجاج، وجاء أصحاب الهيدام من أراد نهب القرى التي لهم بنواحى دمشق، ثم سألوا الأمان من أبي الهيدام فأمنهم وسكن الناس.
وفرق أبو الهيدام أصحابه وبقي في نفر يسير من أهل دمشق، فطمع فيه إسحق وسلط عليه العذافر السكسكي مع الجنود فقاتلهم، فانهزم العذافر وبقي الجند يحاربونه ثلاثاً. ثم إن إسحق قاتله في الثالثة والجند في إثني عشر ألفاً ومعهم اليمانية، فخرج أبو الهيدام من المدينة وقاتلهم على باب الجابية حتى أزالهم عنه. ثم أغار جمع من أهل حمص على قرية لأبي الهيدام فقاتلهم أصحابه وهزموهم وقتلوا منهم خلقاً وأحرقوا قرى ودياراً لليمانية في الغوطة، ثم توادعوا سبعين يوماً أو نحوها. وقدم السّندي في الجنود من نجل الرشيد، وأغزته اليمانية بأبي الهيدام فبعث هو إليه بالطاعة، فأقبل السّندي إلي دمشق، وإسحاق بدار الحجاج، وبعث قائده في ثلاثة آلاف وأخرج إليهم أبو الهيدام ألفاً، وأحجم القائد عنهم ورجع إلي السّندي فصالح أبا الهيدام وأمن أهل دمشق.وسار أبو الهيدام إلي حوران، وأقام السندي بدمشق ثلاثاً. وقدم موسى بن عيسى والياً عليها، فبعث الجند يأتونه بأبي الهيدام فكبسوا داره وقاتلهم هو وابنه وعبده فانهزموا، وجاء أصحابه من كل جهة وقصد بصرى. ثم بعث إليه موسى فسار إليه في رمضان سنة سبع وسبعين، وقيل إن سبب الفتنة بدمشق أن عامل الرشيد بسجستان قتل أخاه الهيدام فخرج هو بالشام وجمع الجموع. ثم بعث الرشيد أخاً له ليأتيه به فتحيل حتى قبض عليه وشده وثاقاً وأتى به إلي الرشيد فمن عليه وأطلقه. وبعث جعفر بن يحيى سنة ثمانين إلي الشام من أجل هذه الفتن والعصبية، فسكن الثائرة وأمن البلاد وعاد. فتنة الموصل ومصر: وفي سنة سبع وثمانين تغلب العطاف بن سفيان الأزدي على خراسان، وأهل الموصل على العامل بها محمد بن العباس الهاشمي وقيل عَبْد الملك بن صالح، فاجتمع عليه أربعة آلاف رجل، وجبى الخراج وبقي العامل معه مغلباً إلي أن سار الرشيد إلي الموصل وهدم سورها ولحق العطاف بأرمينية ثم بالرقم فاتخذها وطناً. وفي سنة ثمان وسبعين
ثارت الحوفية بمصر، وهم من قيس وقضاعة على عاملها إسحق بن سليمان وقاتلوه. وكتب الرشيد إلي هرثمة بن أعين وكان بفلسطين فسار إليهم وأذعنوا بالطاعة، وولّي على مصر ثم عزله لشهر، وولّى عَبْد الملك بن صالح عليها.كان على خراسان أيام المهدي والهادي أبو الفضل العبّاس بن سليمان الطوسي فعزله الرشيد، وولّى على خراسان جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي، فأبوه من النقباء من أهل مصر، وقدم ابنه العباس سنة ثلاث وسبعين، ثم قدم فغزا طخارستان، وبعث ابنه العباس إلي كابل في الجنود وافتتح سابهار ورجع إلي مرو. ثم سار إلي العراق سنة ثلاث في رمضان، وكان الأمين في حجره قبل أن يجعله في حجر الفضل بن يحيى.ثم ولّى الرشيد ابنه العباس بن جعفر ثم عزله عنها فولّى خالداً الغطريف بن عطاء الكندي سنة خمس وسبعين على خراسان وسجستان وجرجان فقدم خليفة داود بن يزيد وبعث عامل سجستان. وخرج في أيامه حصين الخارجي من موالي قيس بن ثعلبة من أهل أوق، وبعث عامل سجستان عثمان بن عمارة الجيوش إليه فهزمهم حسين وقتل منهم وسار إلي باذغيس وبوشنج وهراة، فبعث إليه الغطريف إثني عشر ألفاً من الجند فهزمهم حصين وقتل منهم خلقاً، ولم يزل في نواحي خراسان إلي أن قتل سنة سبع وسبعين. وسار الفضل إلي خراسان سنة ثمان وسبعين وغزا ما وراء النهر سنة ثمانين، ثم ولّى الرشيد على خراسان علي بن عيسى بن ماهان وقدم إليه يحيى فأقام بها عشرين سنة. وخرج عليه في ولايته حمزة بن أترك وقصد بوشنج، وكان على هراة عمرويه بن يزيد الأزدي فنهض إليه في ستة آلاف فارس فهزمهم حمزة وقتل جماعة منهم ومات عمرويه في الزحام، فبعث عليّ بن عيسى ابنه الحسن في عشرة آلاف ففض حربه فعزله، وبعث إبنه الآخر عيسى فهزمه حمزة فأمده بالعساكر ورده فهزم حمزة وقتل أصحابه، ونجا إلي قهستان في أربعين. وأثخن عيسى في الخوارج بارق وجوين وفيمن كان يعينهم من أهل القرى حتى قتل ثلاثين ألفاً.وخلف عَبْد الله بن العباس النسيقي بزرنج فجبى الأموال وسار بها ومعه الصفة، ولقيه حمزة فهزموه وقتلوا عامة أصحابه. وسار حمزة في القرى فقتل وسبى، وكان علي قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج فخرج إلي حمزة وقصد قرية ففر الخوارج وهم الذين يرون التحكم ولا يقاتلون، والمحكمة هم الذين يقاتلون وشعارهم لا حكم إلا الله. فكتب العقد إلي حمزة بالكف وواعدهم، ثم انتفض وعاث في البلاد وكانت بينه وبين أصحاب علي حروب كثيرة.ثم ولى الرشيد سنة إثنتين وثمانين ابنه عَبْد الله العهد بعد الأمين ولقبه المأمون، وولاه على خراسان وما يتصل بها إلي همذان، واستقدم عيسى بن علي من خراسان وردها إليه من قبل المأمون. وخرج عليه بنسا أبو الخصيب وهب بن عَبْد الله النسائي، وعاث في نواحي خراسان ثم طلب الأمان فأمنه. ثم بلغه أن حمزة الخارجي عاث بنواحي باذغيس فقصده وقتل من أصحابه نحواً من عشرة آلاف وبلغ كل من وراء غزنة. ثم غدر أبو الخصيب ثانية وغلب أبيورد ونساوطوس ونيسابور، وحاصر مرو وانهزم عنها وعاد إلي سرخس، ثم نهض إليه ابن ماهان سنة ست وثمانين فقتله في نسا وسبى أهله. ثم نمي إلي الرشيد سنة تسع وثمانين أن علي بن عيسى مجمع على الخلاف وأنه قد أساء السيرة في خراسان وعنفهم، وكتب إليه كبراء أهلها يشكون بذلك، فسار الرشيد إلي الري فأهدى له الهدايا الكثيرة والأموال ولجميع من معه من أهل بيته وولده وكتابه وقوّاده. وتبين للرشيد من مناصحته خلاف ما إنتهى إليه. فرده إلي خراسان، وولّي على الري وطبرستان ودنباوند وقومس وهمذان وبعث علي ابنه عيسى لحرب خاقان سنة ثمان وثمانين فهزمه وأسر أخوته، وانتقض على علي بن عيسى رافع بن الليث بن نصر بن سمار بسمرقند، وطالت حروبه معه، وهلك في بعضها إبنه عيسى.ثم إن الرشيد نقم على علي بن عيسى أموراً منها استخفافه بالناس وإهانته أعيانهم، ودخل عليه يوماً الحسين بن مصعب والد طاهر فأغلظ له في القول وأفحش في السب والتهديد وفعل مثل ذلك بهشام بن فأما الحسين فلحق بالرشيد شاكياً ومستجيراً وأمَّا هشام فلزم بيته وادعى أنه بعلة الفالج حتى عزل عليّ، وكان مما نقم عليه أيضاً أنه لمّا قتل إبنه عيسى في حرب رافع بن الليث أخبر بعض جواريه أنه دفن في بستانه ببلخ ثلاثين ألف دينار، وتحدث الجواري بذلك فشاع في الناس ودخلوا البستان ونهبوا المال، وكان يشكو إلي الرشيد بقلة المال ويزعم أنه باع حلي نسائه.فلما سمع الرشيد هذا المال استدعى هرثمة بن أعين وقال له: وليتك خراسان وكتب له بخطه وقال له: اكتم أمرك وامض كأنك مددُ، وبعث معه رجاء الخادم فسار إلي نيسابور وولّى أصحابه فيها، ثم سار إلي مرو ولقي علي بن عيسى فقبض عليه وعلى أهله وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف، وبعث إلي الرشيد من المتاع وقر خمسمائة بعير وبعث إليه بعلي بن عيسى على بعير من غير غطاء ولا وطاء، وخرج هرثمة إلي ما وراء النهر وحاصر رافع بن الليث بسمرقند إلي أن استأمن فأمنه، وأقام هرثمة بسمرقند وكان قدم مرو سنة ثلاث وتسعين.
إيداع كتاب العهد:
وفي سنة ست وثمانين حج الرشيد وسار من الأنبار ومعه أولاده الثلاثة محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم، وكان قد ولّى الأمين العهد وولاه العراق والشام إلي آخر الغرب. وولّى المأمون العهد بعده وضم إليه من همذان إلي آخر المشرق، وبايع لابنه القاسم من بعد المأمون ولقبه المؤتمن وجعل خلعه وإثباته للمأمون. وجعل في حجر عَبْد الملك صالح وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم.ومرّ بالمدينة فأعطاه فيها ثلاثة أعطية: عطاء منه ومن الأمين ومن المأمون، فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. ثم سار إلي مكة فأعطى مثلها، وأحضر الفقهاء والقضاة والقوّاد وكتب كتاباً أشهد فيه على الأمين بالوفاء للمأمون، وآخر على المأمون بالوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة وجدّد عليها العهود هنالك.ولما شخص إلي طبرستان سنة تسع وثمانين وأقام بها أشهد من حضره أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع للمأمون، وجدّد له البيعة عليهم وأرسل إلي بغداد فجدّد له البيعة على الأمين. البرامكة أخبار البرامكة ونكبتهم قد تقدم لنا أن خالد بن برمك كان من كبار الشيعة، وكان له قدم راسخ في الدولة وكان يلي الولايات العظام، وولاه المنصور على الموصل وعلى أذربيجان، وولىّ ابنه
يحيى على أرمينية، ووكله المهدي بكفالة الرشيد فأحسن تربيته ودفع عنه أخاه الهادي أراده على الخلع، وتولية العهد ابنه وحبسه الهادي لذلك. فلما ولي الرشيد استوزر يحيى وفوض إليه أمور ملكه وكان أولاً يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد، ثم استبد بالدولة. ولما ماتت وكان بيتهم مشهوراً بالرجال من العمومة والقرابة، وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد شابهوا آباءهم في عمل الدولة واستولوا على حظ من تقريب السلطان واستخلا صه.وكان الفضل أخاه من الرضاع أرضعت أمه الرشيد وأرضعته الخيزران، وكان يخاطب يحيى يا أبت، واستوزر الفضل وجعفراً وولىّ جعفراً على مصر وعلى خراسان وبعثه إلي الشام عندما وقعت الفتنة بين المضرية واليمانية فسكن الأمور، ورجع. وولىّ الفضل أيضاً على مصر وعلى خراسان وبعثه لاستنزال يحيى بن عَبْد الله العلوي من الديلم. ودفع المأمون لمّا ولاه العهد إلي كفالة جعفر بن يحيى، فحسنت آثارهم في دلك كله، ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم على الدولة، وكثرت السعاية فيهم. وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم، يقال بسبب أنه دفع إليه يحيى بن عَبْد الله لمّا استنزله أخوه الفضل من الديلم وجعل حبسه عنده، فأطلقه استبداداً على السلطان ودالة وأنهى الفضل بن الربيع ذلك إلي الرشيد فسأله فصدقه الخبر فأظهر له التصويب وحقدها عليه، وكثرت السعاية فيهم فتنكر له الرشيد.ودخل عليه يوماً يحيى بن خالد بغير إذن فنكر ذلك منه، وخاطب به طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفاً به من مواجهته وكان حاضراً، فقال يحيى: هو عادتي يا أمير المؤمنين، وإذ قد نكرت مني فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها! فاستحيى هرون وقال: ما أردت ما يكره. وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد ليحيى إذا دخل، فتقدم لهم مسرور الخادم بالنهي عن ذلك فصاروا يعرضون عنه إذا أقبل، وأقاموا على ذلك زماناً. فلما حج الرشيد سنة سبع وثمانين ورجع من حجه ونزل الأنبار أرسل مسروراً الخادم في جماعة من الجند ليلاً فأحضر جعفراً بباب الفسطاط، وأعلم الرشيد فقال: إئتني برأسه، فطفق جعفر يتذلل ويسأله المراجعة في أمره حتى قذفه الرشيد بعصا كانت في يده وتهدده فخرج وأتاه برأسه، وحبس الفضل من ليلته وبعث من احتياط على منازل يحيى وولده وجميع موجودهم وحبسه في منزله.وكتب من ليلته إلي سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم، وبعث من الغد بشلو جعفر وأمر أن يقسم قطعتين وينصبان على الجسر، وأعفى محمد بن خالد من النكبة ولم يضيق على يحيى ولا بنيه الفضل ومحمد وموسى. ثم تجردت عنه التهمة بعبد الملك بن صالح بن علي وكانوا أصدقاء له، فسعى فيه إبنه عَبْد الرحمن بأنه يطلب الخلافة فحبسه عنه الفضل بن الربيع ثم أحضره من الغداة وقرعه ووبخه فأنكر وحلف واعترف لحقوق الرشيد وسلفه عليه، فأحضر كاتبه شاهداً عليه فكذبه عَبْد الملك، فأحضر ابنه عَبْد الرحمن فقال: هو مأمور معذور، أو عاق فاجر، فنهض الرشيد من مجلسه وهو يقول سأصبر حتى أعلم ما يرضي الله فيك، فإنه الحكم بيني وبينك، فقال عَبْد الملك: رضيت بالله حكماً وبأمير المؤمنين حاكماً فإنه لا يؤثر هواه على رضا ربه.ثم أحضره الرشيد يوماً آخر فأرعد له وأبرق، وجعل عَبْد الملك يعدد وسائله ومقاماته في طاعته ومناصحته، فقال له الرشيد لولا إبقائي على بني هاشم لقتلتك ورده إلي محبسه، وكلمه عَبْد الله بن مالك فيه وشهد له بنصحه فقال: أطلقه إذا قال: أمَّا في هذا القرب فلا! ولكن سهل حبسه ففعل وأجرى عليه مؤنه حتى مات الرشيد وأطلقه الأمين. وعظم حقده على البرامكة بسبب ذلك، فضيق عليهم وبعث إلي يحيى يلومه فيما سترعنه من أمر عَبْد الملك. فقال: يا أمير المؤمنين كيف يطلعني عَبْد الملك على ذلك وأنا كنت صاحب الدولة، وهل إذا فعلت ذلك يجازيني بأكثر من فعلك؟ أعيذك بالله أن تظن هذا الظن ألا أنه كان رجلاً متجملاً يسرني أن يكون في بيتك مثله، فوليته ولا خصصته. فعاد إليه الرسول يقول: إن لم تقر قتلت الفضل إبنك. فقال: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت.وجذب الرسول الفضل وأخرجه، فودع أباه وسأله في الرضا عنه فقال: رضي الله عنك. وفرق بينهما ثلاثة أيام ولم يجد عندهما شيئاً فجمعهما واحتفظ إبراهيم بن عثمان بن نهيك لقتل جعفر فكان يبكيه ويبكي قومه حزناً عليهم. ثم انتهى به إلي طلب الثأر بهم، فكان يشرب النبيذ مع جواريه ويأخذ سيفه وينادي واجعفراه واسيداه والله لأثأرن بك ولأقتلن قاتلك، فجاء إبنه وحفص كان مولاه إلي الرشيد فأطلعاه على أمره، فأحضر إبراهيم وأظهر له الندم على قتله جعفراً والأسف عليه، فبكى إبراهيم وقال: والله يا سيدي لقد أخطات في قتله فانتهره الرشيد وأقامه. ثم دخل عليه إبنه بعد ليال قلائل فقتله، يقال بأمر الرشيد. وكان يحيى بن خالد محبوساً بالكوفه ولم يزل بها كذلك إلي أن مات سنة تسعين ومائة، ومات بعده ابنه الفضل سنة ثلاث وتسعين. وكانت البرامكة من محاسن العالم، ودولتهم من أعظم الدول، وهم كانوا نكتة محاسن الملة وعنوان دولتها.
الصوائف وفتوحاتها: كان الرشيد على ما نقله الطبري وغيره يغزو عاماً ويحج عاماً، ويصلي كل يوم مائة ركعة ويتصدق بألف درهم، وإذا حج حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم، وإذا لم يحج أنفق على ثلثمائة حاج نفقة شائعة. وكان يتحذى بآثار المنصور إلا في بذل المال فلم ير خليفة قبله أبذل منه للمال. وكان إذا لم يغز غزا بالصائفة كبار أهل بيته وقوّاده، فغزا بالصائفة سنة سبعين سليمان بن عَبْد الله البكائي، وقيل غزا بنفسه. وغزا بالصائفة سنة إثنتين وسبعين إسحق بن سليمان بن علي فأثخن في بلاد الروم وغنم وسبى. وغزا في سنة أربع وسبعين بالصائفة عَبْد الملك بن صالح، وقيل أبوه عَبْد الملك فبلغ في نكاية الروم ما شاء، وأصابهم برد شديد سقطت منه أيدي الجند. ثم غزا بالصائفة سنة سبع وسبعين عَبْد الرزاق بن عَبْد الحميد الثغلبي. وفي سنة ثمان وسبعين زفر بن عاصم. وغزا سنة إحدى وثمانين بنفسه فافتتح حصن الصفصاف وأغزى عَبْد الملك بن صالح فبلغ أنقرة، وافتتح مطمورة. وكان الفداء بين المسلمين والروم، وهو أول فداء في دولة بني العبّاس، وتولاه القاسم بن الرشيد وأخرج له من طرسوس الخادم الوالي عليها وهو أبو سليمان فرج، فنزل المدامس على إثني عشر فرسخاً، وحضر العلماء والأعيان وخلق من أهل الثغور وثلاثون ألفاً من الجند المرتزقة فحضروا هنالك وجاء الروم بالأسرى ففودي بهم من كان لهم من الأسرى، وكان أسرى المسلمين ثلاثة آلاف وسبعمائة. وغزا بالصائفة سنة إثنتين وثمانين عَبْد الرحمن بن عَبْد الملك بن صالح دقشوسوس مدينة أصحاب الكهف، وبلغهم أن الروم سموا ملكهم قسطنطين بن إليون وملكوا أمه ربى وتلقب عطشة، فأثخنوا في البلاد ورجعوا.وفي سنة ثلاث وثمانين حملت إبنة خاقان ملك الخزر إلي الفضل بن يحيى فماتت ببردعة، ورجع من كان معها فأخبروا أباها أنها قتلت غيلة، فتجهز إلي بلاد الإِسلام، وخرج من باب الأبواب وسبى أكثر من مائة ألف فارس وفعلوا ما لم يسمع بمثله. فولى الرشيد يزيد بن مزيد أمر أرمينية مضافة إلي أذربيجان وأمره
بالنهوض إليهم، وأنزل خزيمة بن خازم بنصيبين رداً لهم. وقيل إن سبب خروجهم أن سعيد بن مسلم قتل الهجيم السلمي فدخل إبنه إلي الخزر مستجيشاً بهم على سعيد، ودخلوا أرمينية وهرب سعيد والخزر ورجعوا.وفي سنة سبع وثمانين غزا بالصائفة القاسم بن الرشيد وجعله قرباناً لله، وولاه العواصم، فأناخ على قرة، وضيق عليها وبعث عليها ابن جعفر بن الأشعث، فحاصر حصن سنان حتى جهد أهله، وفادى الروم بثلثمائة وعشرين أسيراً من المسلمين على أن يرحل عنهم، فأجابهم وتم بينهم الصلح، ورحل عنهم، وكان ملك الروم يومئذ ابن زيني وقد تقدم ذكره، فخلعه الروم وملكوا نيقفور وكان على ديوان خراجهم، ومات زيني بعد خمسة أشهر. ولما ملك نيقفور كتب إلي الرشيد بما استفزه، فسار إلي بلاد الروم غازياً. ونزل هرقل وأثخن في بلادهم حتى سأل نيقفور الصلح، ثم نقض العهد وكان البرد شديد الكلب، وظن نيقفور أن ذلك يمنعه من الرجوع فلم يمنعه، ورجع حتى أثخن في بلاده، ثم خرج من أرضهم.وغزا بالصائفة سنة ثمان وثمانين إبراهيم بن جبريل ودخل من درب الصفصاف، فخرج إليه نيقفور ملك الروم وانهزم وقتل من عسكره نحواً من أربعين ألفاً. وفي هذه السنة رابط القاسم بن الرشيد أبق.. وفي سنة تسع وثمانين كتب الرشيد وهو بالري كتب الأمان لشروين أبي قارن وندا هرمز جد مازيار مرزبان خستان صاحب الديلم، وبعث بالكتب مع حسين الخادم إلي طبرستان، فقدم خستان ووندا هرمز فأكرمهما الرشيد وأحسن إليهما. وضمن وندا هرمز وشروين صاحبي طبرستان وذكرا كيف توجه الهادي لهما وحاصرهما.وفي سنة ست وثمانين كان فداء بين المسلمين حتى لم يبق بأرض الروم مسلم إلا فردي، وفي سنة تسعين سار الرشيد إلي بلاد الروم بسبب ما قدمناه من غدر نيقفور، في مائة وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة ومن ليس له ذكر في الديوان، واستخلف المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلي الآفاق بذلك، فنزل على هرقل فحاصرها ثلاثين يوماً وافتتحها وسبى أهلها وغنم ما فيها، وبعث داود بن عيسى بن موسى في سبعين ألفاً غازياً في أرضهم، ففتح الله عليه وخرب ونهب ما شاء. وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة وديسة. وافتتح يزيد بن مخلد حصن الصفصاف وقونية، وأناخ عَبْد الله بن مالك على حصن ذي الكلاع.واستعمل الرشيد حميد بن معيوب على الأساطيل ممن بسواحل الشام ومصر إلي قبرس، فهزم وخرق وسبى أهلها نحواً من سبعة عشر ألفاً وجاء بهم إلي الواقعة فبايعوا بها. وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار. ثم سار الرشيد إلي حلوانة فنزل بها وحاصرها، ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر. وبعث يقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن إبنه دينارين وعن بطارقته كذلك. وبعث يقفور في جارية من بني هرقلة وكان خطبها إبنه فبعث بها إليه. ونقض في هذه السنة قبرس فغزاهم معيوب بن لحمى فأثخن فيهم وسباهم. ولما رجع الرشيد من غزاته خرجت الروم إلي عين زربة والكنيسة السوداء وأغاروا ورجعوا، فاستنقذ أهل المصيصة ما حملوه من الغنائم.
وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضايق، فانهزم وقتل في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس. واستعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان، وضم إليه ثلاثين ألفاً من أهل خراسان وأخرجه إلي الصائفة، وسار بالعساكر الإِسلامية في أثره، ورتب بدرب الحرث عَبْد الله بن مالك، وبمرعش سعيد بن مسلم بن قتيبة، وأغارت الروم عليه فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرك من مكانه. وبعث الرشيد محمد بن زيد بن مزيد إلي طرسوس، وأقام هو بدرب الحرث، وأمر قواده بهدم الكنائس في جميع الثغور. وأخذ أهل الذمة بمخالفة زي المسلمين في ملبوسهم.
وأمر هرثقة ببناء هرطوس وتولى ذلك فخرج الخادم بأمر الرشيد وبعث إليها جنداً من خراسان ثلاثة أيام، وأشخص إليهم ألفاً من أهل المصيصة وألفاً من أنْطاكِية فتم بناؤها سنة إثنتين وتسعين. وفي هذه السنة تحركت الخرمية بناحية أذربيجان فبعث إليهم عَبْد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل وسبى وأسر، ووافاه بقرمالين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي. وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن مالك الخزاعي فافتتح مطمورة وكان الفداء على يديه بالبرذون. ثم كان الفداء الثاني وكان عدة أسرى المسلمين فيه ألفين وخمسمائة.
الولاية على النواحى كان على إفريقية مزيد بن حاتم كما قدمناه، ومات سنة إحدى وسبعين بعد أن استخلف ابنه داود، فبعث الرشيد على إفريقية أخاه روح بن حاتم فاستقدمه من فلسطين وبعثه إلي إفريقية. وعزل أبا هريرة محمد بن فروج عن الجزيرة وقتله وولى مكانه وفي سنة ست وسبعين ولى الرشيد على الموصل الحكم بن سليمان، وقد كان خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين وغنم وسار إلي داريا وآمد وأرزق وخلاط فقفل لذلك ورجع إلي نصيبين فأتى الموصل وخرج إليه الفضل في عساكرها فهزمهم على الزاب. ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه. وفي سنة ست وسبعين مات روح بن حاتم بإفريقية، واستخلف حبيب بن نصر المهلبي فسار الفضل إلي الرشيد فولاه على إفريقية، وعاد إليها فاضطرب عليه الخراسانية من جند إفريقية ولم يرضوه، فولى مكانه هرثمة بن أعين وبعث في العساكر فسكن الاضطراب ورأى ما بإفريقية من الاختلاف فاستعفى الرشيد من ولايتها فاعفاه، وقدم إلي العراق بعد سنتين ونصف من مغيبه.وفي هذه ولى الفضل بن يحيى على مصر مكان أخيه جعفر مضافاً إلي ما بيده من الري وسجستان وغيرهما، ثم عزله عن مصر وولّى عليها إسحق بن سليمان، فثارت به الجوقية من مصر وهم جموع من قيس وقضاعة فأمده بهرثمة بن أعين فأذعنوا، وولاه عليهم شهراً، ثم عزله وولى عَبْد الملك بن
صالح مكانه، وفيها فوض أمر دولته إلي يحيى بن خالد. وفي سنة ثمانين بعث جعفر بى يحيى إلي الشام في القواد والعساكر ومعه السلاح والأموال والعصبية التي كانت بها فسكنت الفتنة ورجع فولاه خراسان وسجستان، فاستعمل عليها عيسى بن جعفر، وولى جعفر بن يحيى المُريس.وقدم هرثمة بن أعين من إفريقية فاستخلفه جعفر على الحرد وعزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان وولاها عَبْد الله بن حازم، وولّى على الجزيرة سعيد بن مسلم، وولّى على الموصل يحيى بن سعيد الحرشيّ فأساء السيرة وطالبهم بخراج سنين ماضية، فانجلا أكثر أهل البلد، وعزله الرشيد وولّى عليها يحيى بن خالد. وفي سنة إحدى وثمانين ولى على إفريقية محمد بن مقاتل بن حكيم العكي وكان أبوه من قواد الشيعة، ومحمد رضيع الرشيد وتلاده، فلما استعفى هرثمة ولاه مكانه، واضطربت عليه إفريقية، وكان إبراهيم بن الأغلب بها والياً على الزاب، وكان جند إفريقية يرجعون إليه، فأعانه وحمل الناس على طاعته بعد أن أخرجوه، فكرهوا ولاية محمد بن مقاتل، وحملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلي الرشيد يطلب ولاية إفريقية على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت تحمل من مصر معونة إلي والي إفريقية، ويحمل هو كل سنة أربعين.ألف دينار. فاستشار الرشيد بطانته، فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب، وولاه الرشيد في محرم سنة أربعة وثمانين، فضبط الأمور وقبض على المؤمنين وبعث بهم إلي الرشيد، فسكنت البلاد.وابتنى مدينة بقرب القيروان سماها العباسية وانتقل إليها بأهله وخاصته وحشمه، وصار ملك افريقية في عقبه كما يذكر في أخبارها إلي أن غلبهم عليها الشيعة العبيديون. وكان يزيد بن مزيد على أذربيجان فولاه الرشيد سنة ثمان وثمانين على أرمينية مضافة إليها، وولى خزيمة بن خازم على نصيبين. وولى الرشيد سنة أربع وثمانين على اليمن ومكة حماداً البربري، وعلى السند داود بن يزيد بن حاتم، وعلى الجبل يحيى الحرشي، وعلى طبرستان مهرويه الزاي، وقتله أهل طبرستان سنة خمس وثمانين، فولى مكانه عَبْد الله بن سعيد الحرشي.وفيها توفي يزيد بن زائدة الشيطاني ببردعة، وكان على أذربيجان وأرمينية فولى مكانه إبنه أسد بن يزيد بن حاتم. وفي سنة تسع وثمانين سار الرشيد إلي الري وولى على طبرستان والري ودنباوند وقوس وهمذان عَبْد الملك بن مالك. وفي سنة تسعين ولى على الموصل خالد بن يزيد بن حاتم، وقد تقدم لنا ولاية هرثمة على سليمان ونكبة علي بن عيسى. وفي سنة إحدى وتسعين ظفر حماد البربري بهيصيم اليماني وجاء به إلي الرشيد فقتله، وولى في هذه السنة على الموصل محمد بن الفضل بن سليمان، وكان على مكة الفضل بن العباس أخي المنصور والسفّاح.
خلع رافع بن الليث بما وراء النهر:
كان رافع بن نصر بن سيار من عظماء الجند فيما وراء النهر، وكان يحيى بن الأشعث قد تزوج ببعض النساء المشهورات الجمال، وتسرى عليها وأكثر ضرارها وتشوقت إلي التخلص منه، فدس إليها رافع بن الليث بأن تحاول من يشهد عليها بالكفر لتخلص منه وتحل للأزواج ثم ترجع وتتوب، فكان وتزوجها. وشكا يحيى بن الأشعث إلي الرشيد وأطلعه على جل الأمر، فكتب إلي علي بن عيسى أن يفرق بينهما ويقيم الحد على رافع ويطوف به في سمرقند مقيداً على حمار ليكون عظة لغيره، ففعل ذلك ولم يجده رافع وحبس بسمرقند، فهرب من الحى ولحق بعلي بن عيسى في بلخ فهم بضرب عنقه، فشفع فيه إبنه عيسى، فأمره بالانصراف إلي سمرقند، فرجع إليها ووثب بعاملها فقتله وملكها وذلك سنة تسعين. فبعث علي لحربه إبنه عيسى فلقيه رافع وهزمه وقتله، فخرج علي بن عيسى لقتله وسار من بلخ إلي مرو مخافة عليها من رافع بن الليث.ثم كانت نكبة علي بن عيسى وولاية هرثمة بن أعين على خراسان، وكان مع رافع بن الليث جماعة من القواد، ففارقوه إلي هرثمة. منهم عجيف بن عنبسة وغيره. وحاصر هرثمة رافع بن الليث في سمرقند وضايقه، واستقدم طاهر بن الحسين من خراسان فحضر عنده، وعاث حمزة الخارجي في نواحي خراسان لخلائها من الجند، وحمل إليه عمال هراة وسجستان الأموال. ثم خرج عَبْد الرحمن إلي نيسابور سنة أربع وتسعين وجمع نحواً من عشرين ألفاً، وسار حمزة فهزمه وقتل من أصحابه خلقاً وأتبعه إلي هراة، حتى كتب المـأمون إليه ورده عن
ذلك.وكانت سنة ثلاث وتسعين بين هرثمة وبين أصحاب رافع وقعة كان الظفر فيها لهرثمة، وأسر بشراً أخا رافع، وبعث به إلي الرشيد وافتتح بخارى. وكان الرشيد قد سار من الرقة بعد مرجعه من الصائفة التي بنى فيها طرسوس على اعتزام خراسان لشأن رافع، وكان قد أصابه المرض، فاستخلف على الرقة إبنه القاسم وضم إليه خزيمة بن خازم، وجاء إلي بغداد. ثم سار منها إلي خراسان في شعبان سنة إثنتين وتسعين واستخلف عليها إبنه الأمين، وأمر المأمون بالمقام معه، فأشار عليه الفضل بن سهل بأن يطلب المسير مع الرشيد، وحذره البقاء مع الأمين فأسعفه الرشيد بذلك وسار معه.
وفاة الرشيد وبيعة الأمين : ولما سار الرشيد عن بغداد إلي خراسان بلغ جرجان في صفر سنة ثلاث وتسعين واشتدت عليه، فبعث إبنه المأمون إلي مرو ومعه جماعة من القواد: عَبْد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن خزيمة والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسدي والحريشي ونعيم بن خازم. ثم سار الرشيد إلي موسى واشتد به الوجع وضعف عن الحركة وثقل، فأرجف الناس بموته، وبلغه ذلك فأراد الركوب ليراه الناس فلم يطق النهوض فقال ردوني. ووصل إليه وهو بطوس بشير أخو رافع أسيراً، بعث به هرثمة بن أعين فأحضره وقال: لو لم يبق من أجلي إلا حركة شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم أمر قصاباً ففصل أعضاءه، ثم أغمي عليه وافترق الناس. ولما يئس من نفسه أمر بقبره فحفر في الدار التي كان فيها وأنزل فيه قوماً قرؤا فيه القرآن حتى ختموه وهو في محفة على شفيره ينظر إليه وينادي واسوأتاه من رسول الله صلىالله عليه وسلم . ثم مات وصلى عليه إبنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسمعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة أو تزيد، وترك في بيت المال تسعمائة ألف ألف دينار.ولما مات الرشيد بويع الأمين في العسكر صبيحة يومه والمأمون يومئذ بمرو، وكتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد إلي نائبه ببغداد، وهو سلام أبو مسلم يعلمه بوفاة الرشيد وهنأه بالخلافة، فكان أول من فعل ذلك. وكتب صالح إلي أخيه الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد، وبعث معه بالخاتم والبردة
والقضيب، فانتقل الأمين من قصره بالخلد إلي قصر الخلافة. وصلى بالناس الجمعة وخطب ثم نعى الرشيد وعزى نفسه والناس، وبايعته جملة أهله ووكل سليمان بن المنصور، وهم عم أبيه وأمه بأخذ البيعة على القواد وغيرهم، ووكل السّندي بأخذ البيعة على الناس سواهم، وفرق في الجند ببغداد رزق سنين. وقدمت أمه زبيدة من الرقة فلقيها الأمين بالأنبار في جمع من بغداد من الوجوه، وكان معها خزائن الرشيد، وكان قد كتب إلي معسكر الرشيد وهو حي مع بكر بن المعتمر لمّا اشتدت علة الرشيد، وإلى المأمون بأخذ البيعة لهما وللمؤتمن أخيهما، وإلى أخيه صالح بالقدوم بالعسكر والخزائن والأموال برأي الفضل. وإلى الفضل بالاحتفاظ على ما معه من الحرم والأموال، وأقر كل واحد على عمله كصاحب الشرطة والحرس والحجابة.وكان الرشيد قد سمع بوصول بكر بالكتاب فدعاه ليستخرجها منه فجحدها فضربه وحبسه. ثم مات الرشيد وأحضره الفضل فدفعها إليه، ولما قرؤا الكتاب تشاوروا في اللحاق بالأمين، وارتحل الفضل بالناس لهواهم في وطنهم، وتركوا عهود المأمون. فجمع المأمون من كان عنده من قواد أبيه، وهم عَبْد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعلاء مولى الرشيد،- وكان على حجابته-. والعباس بن المسيب بن زهير- وكان على شرطته- وأيوب بن أبي سمير- وهو على كتابته- وعبد الرحمن بن عَبْد الملك بن صالح وذو الرياستين الفضل بن سهل- وهو أخصهم به وأحظاهم عنده- فأشار بعضهم أن يركب في أثرهم ويردهم، ومنعه الفضل من ذلك وقال: أخشى عليك منهم، ولكن تكتب وترسل رسولك إليهم تذكرهم البيعة والوفاء، وتحذرهم الحنث، فبعث سهل بن صاعد ونوفلاً الخادم بكتابه إليهم بنيسابور، فقرأ الفضل كتابه وقال : أنا واحد من الجند.وشد عَبْد الرحمن برجليه على سهل ليطعنه بالرمح وقال: لو كان صاحبك حاضراً لوضعته فيه، وسب المأمون وانصرفوا، ورجع سهل ونوفل بالخبر إلي المأمون فقال له الفضل بن سهل: هؤلاء أعداء استرحت منهم وأنت بخراسان، وقد خرج بها المقنع وبعده يوسف البر فتضعضعت لهما الدولة ببغداد، وأنت رأيت عند خروج رافع بن الليث كيف كان الحال وأنت اليوم نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم فاصبر وأنا أضمن لك الخلافة، فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقال: إن عَبْد الله بن مالك والقواد أنفع لك مني لشهرتهم وقوتهم، وأنا خادم
لمن يقوم بأمرك منهم حتى ترى رأيك. وجاءهم الفضل في منازلهم وعرض عليهم البيعة للمأمون، فمنهم من امتنع ومنهم من طرده، فرجع إلي المأمون وأخبره فقال: قم أنت بالأمر. وأشار عليه الفضل أن يبعث على الفقهاء ويدعوهم إلي الحق والعمل به وإحياء السنة ورد المظالم ويعقد على الصفوف، ففعل جميع ذلك، وأكرم القواد. وكان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعيّ مكان أبي داود وخالد بن إبراهيم، ولليماني مكان قحطبة ومالك بن الهيثم، وكل هؤلاء نقباء الدولة. ووضع عن خراسان ربع الخراج فاغتبط به أهلها وقالوا: ابن أختنا وابن عم نبين. وأقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان والري، وأهدى إلي الأمين وكتب إليه وعظمه. ثم إن الأمين عزل لأول ولايته أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بن خازم وأقر المؤتمن على قنسرين والعواصم. وكان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد، وعلى حمص إسحاق بن سليمان فخالف عليه أهل حمص، وانتقل عنهم إلي سلمية، فعزله الأمين وولى مكانه عَبْد الله بن سعيد الحرشي، فقتل عدة منهم وحبس عدة وأضرم النار في نواحيها، وسألوا الأمان فأجابهم. ثم انتقضوا فقتل عدة منهم، ثم ولى عليهم إبراهيم بن العباس. أخبار رافع وملوك الروم وفي سنة ثلاث وتسعين دخل هرثمة بن أعين سمرقند وملكها وقام بها، ومعه طاهر بن الحسين، فاستجاش رافع بالترك فأتوه وقوى بهم. ثم انصرفوا وضعف أمره، وبلغه الحسن سيرة المأمون فطلب الأمان وحضر عند المأمون، فأكرمه. ثم هدم هرثمة على المأمون فولاه الحرس، وأنكر الأمين ذلك كله. وفي هذه السنة قتل يقفور ملك الروم في حزب برجان لسبع سنين من ملكه، وملك بعده إبنه استبراق وكان جريحاً فمات لشهرين، وملك بعده صهره على أخته ميخاييل بن جرجيس، ووثب عليه الروم سنة أربع وتسعين بعد اثنتين من ملكه، فهرب وترهب وولوا بعده إليون القائد
الفتنة بين الأمين والمأمون
ولما قدم الفضل بن الربيع على الأمين ونكث عهد المأمون خشي غائلته، فأجمع قطع علائقه من الأمور وأغرى الأمين بخلعه والبيعة للعهد لإبنه موسى، ووافقه في ذلك على بن عيسى بن ماهان والسنديّ وغيرهما ممن يخشى المأمون. وخالفهم خزيمة بن خازم وأخوه عَبْدالله، وناشدوا الأمين في الكف عن ذلك وأن لا يحمل الناس على نكث العهود فيطرقهم لنكث عهده. ولج الأمين في ذلك وبلغه أن المأمون عزل العباس بن عَبْد الله بن مالك عن الري، وأنه ولىّ هرثمة بن أعين على الحرس، وأن رافع بن الليث أستأمن له فأفنه وسار في جملته فكتب إلي العمال بالدعاء لموسى ابنه بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فبلغ ذلك المأمون فأسقط اسم الأمين من الطرد وقطع البريد عنه. وأرسل الأمين إليه العباس بن موسى بن عيسى، وخاله عيسى بن جعفر بن المنصور وصالحا صاحب الموصل، ومحمد بن عيسى بن نَهِيك يطلب منه تقديم إبنه موسى عليه في العهد ويستقدمه. فلما قدموا على المأمون استشار كبراء خراسان فقالوا: إنما بيعتنا لك على أن لا تخرج من خراسان، فأحضر الوفد وأعلمهم بامتناعه مما جاؤا فيه. واستعمل الفضل بن سهل العباس بن موسى ليكون عيناً لهم عند الأمين ففعل، وكانت كتبه تأتيهم بالأخبار. ولما رجع الوفد عاودوه بطلب بعض كور خراسان، وأن يكون له بخراسان صاحب بريد يكاتبه، فامتنع المأمون من ذلك وأوعد إلي قعوده بالري ونواحيها يضبط الطرق وينقذها من غوائل الكتب والعيون، وهو مع ذلك يتخوف عاقبة الخلاف. وكان خاقان ملك التبت قد التوى عليه، وجيفونة فارق الطاعة، وملوك الترك منعوا الضريبة، فخشي المأمون ذلك، وحفظ عليه الأمر بأن يولي خاقان وجيفونة بلادهما، ويوادع ملك كابل، ويترك الضريبة لملوك الترك الآخرين. وقال له بعد ذلك: ثم أضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا لحقت بخاقان مستجيراً فقبل إشارته وفعلها، وكتب إلي الأمين يخادعه بأنه عامله على هذا الثغر الذي أمره الرشيد بلزومه، وأن مقامه به أشد غناء ويطلب إعفاءه من الشخوص إليه، فعلم الأمين أنه لا يتابعه على مراده، فخلعه وبايع لولده في أوائل سنة خمس وتسعين، وسمّاه الناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون والمؤتمن من المنابر، وجعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى، وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك،
وعلى حرسه أخوه عيسى، وعلى رسائله صاحب القتلى. وكان يدعى له على المنابر ولابنه الآخر عَبْد الله ولقبه القائم بالحق، وأرسل إلي الكعبة من جاء بكتابي العهد للأمين والمأمون اللذين وضعهما الرشيد هنالك، وسارت الكتب من ذلك إلي المأمون ببغداد من عيونه بها، فقال المأمون: هذه أمور أخبر الرائي عنها وكفاني أنا أن أكون مع الحق وبعث الفضل بن سهل إلي جند الري بالأقوات والإحسان، وجمع إليهم من كان بأطرافهم. ثم بعث على الري طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق أسعد الخزاعي أبا العباس أميراً وضم إليه القواد والأجناد، فنزلها ووضع المسالح والمراصد، وبعث الأمين عصمة بن حماد بن سالم إلي همذان في ألف رجل، وأمره أن يقيم بهمذان ويبعث مقدمته إلي ساوة.
خروج ابن ماهان لحرب طاهر ومقتله:
ثم جهز الأمين علي بن عيسى بن ماهان إلي خراسان لحرب المأمون، يقال دس بذلك الفضل بن سهل العين له عند الفضل بن الربيع، فأشار به عليهم لمّا في نفوس أهل خراسان من النفرة عن ابن ماهان فجدّوا في حربه. ويقال حرّض أهل خراسان على الكتب إلي ابن ماهان ومخادعته إن جاء. فأمره الأمين بالمسير وأقطعه نهاوند وهمذان وقُم وأصبهان وسائر كور الجبل حرباً وخراجاً، وحكمه في الخزائن وأعطاه الأموال، وجهز معه خمسين ألف فارس. وكتب إلي أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجلْيّ وهلال بن عَبْد الله الحضرميّ في الانضمام، وركب إلي باب زبيدة ليودعها فأوصته بالمأمون بغاية ما يكون أن يوصى به، وأنه بمنزلة إبنها في الشفقة والموصلة، وناولته قيداً من فضة وقالت له: إن سار إليك فقيده به مع المبالغة في البر والأدب معه. ثم سار علي بن عيسى من بغداد في شعبان، وركب الأمين يشيعه في القواد والجنود، ولم ير عسكر مثل عسكره. ولقي السفر بالسابلة فأخبروه أن طاهرا بالريّ يعرض أصحابه، وهو مستعد للقتال. وكتب إلي ملوك الديلم وطبرستان يعدهم ويمنيهم، وأهدى لهم التيجان والأسورة على أن يقطعوا الطرق عن خراسان فأجابوا، ونزل أول بلاد الري، فأشار عليه أصحابه بإذكاء العيون والطلائع، والتحصن بالخندق فقال: مثل طاهر لا يستعدّ له، وهو إما أن يتحصن بالريّ فيثب إليه أهلها، وأمَّا أن يفر إذا قربت منه خيلنا. ولما كان من الريّ على عشرة فراسخ استشار أصحاب طاهر في لقائه فمالوا إلي التحصّن بالريّ فقال: أخاف أن يثب بنا أهلها. وخرج فعسكر على خمسة فراسخ
منها في أقل من أربعة آلاف فارس. وأشار عليه أحمد بن هشام كبير جند خراسان أن ينادي بخلع الأمين وبيعة المأمون لئلا يخادعه علي بن عيسى بطاعة الأمين وأنه عامله ففعل، وقال علي لأصحابه: بادروهم فإنهم قليل ولا يصبرون على حد السيوف وطعن الرماح، وأحكم تعبية جنده، وقدم بين يديه عشر رايات مع كل راية ألف رجل، وبين كل رايتين غلوة سهم ليقاتلوا نوبا. وعبى طاهر أصحابه كراديس وحرضهم وأوصاهم، وهرب من أصحاب طاهر جماعة، فجلدهم علي وأهانهم، فأقصر الباقون وجذوا في قتاله..
وأشار أحمد بن هام على طاهر بأن يرفع كتاب البيعة على رمح ويذكر علي بن عيى بها نكثه. ثم اشتد القتال وحملت ميمنة علي فانهزمت ميسرة طاهر، وكذلك ميسرته على ميمنة طاهر فأزالوها، واعتمد طاهر القلب فهزموهم، ورجعت المجنبتان منهزمة، وانتهت الهزيمة إلي علي وهو ينادي لأصحابه. فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله وجاء برأسه إلي طاهر، وحمل شلوه على خشبة وألقي في بئر بأمر طاهر. وأعتق طاهر جميع غلمانه شكرا لله، وتمت الهزيمة. واتبعهم أصحاب طاهر فرسخين وأقفوهم فيها اثنتي عشرة مرة يقتلونهم في كلها ويأسرونهم، حتى جن الليل بينهم. ورجع طاهر إلي الري وكتب إلي الفضل: كتابي إلي أمير المؤمنين ورأس علي بين يدي وخاتمه في إصبعي، وجنده متصرفون تحت أمري والسلام. وورد الكتاب على البريد في ثلاثة أيام، فدخل الفضل على المأمون وهنأه بالفتح، ودخل الناس فسلموا عليه بالخلافة ووصل رأس علي بعدها بيومين وطيف به في خراسان، ووصل الخبر إلي الأمين بمقتل علي وهزيمة العسكر، فأحضر الفضل بن الربيع وكيل المأمون ببغداد وهو نوفل الخادم، فقبض ما بيده من ضياعه وغلاته وخمسين ألف ألف درهم كان الرشيد وضاه بها، وندم الأمين على فعله، وسعت الجند والقواد في طلب الأرزاق، فهم عَبْد الله بن حاتم بقتالهم فمنعه الأمين وفرق فيهم أموالا. مسير ابن جبلة إلي طاهر ومقتله: ولما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عَبْد الرحمن بن الأنباري في عشرين ألف فارس إلي همذان، وولاّه عليها وعلى كل ما يفتحه من بلاد خراسان وأمدّه بالمال، فسار إلي همذان وحصّنها، وجاءه طاهر فبرز إليه ولقيه، فهزمه طاهر إلي البلد. ثم خرج عَبْد الرحمن ثانية فانهزم إلي المدينة، وحاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة وطلب الأمان من طاهر، وخرج من همذان. وكان طاهر عند نزوله عليها قد خشي من صاحب قزوين أن يأتيه من ورائه، فجهّز العسكر على همذان. وسار إلي قزوين في ألف فارس، ففرّ عاملها وملكها. ثم ملك همذان وسائر أعمال الجبل، وأقام عَبْد الرحمن بن جبلة في أمانه. ثم أصاب منه بعض الأيام غرة فركب وهجم عليه في عسكر، فقاتله طاهر أشدّ القتال، حتى انهزم أصحابه وقتل ولحق فلّهم بعبد الله وأحمد إبني الحريشيّ في عسكر عظيم بعثهما الأمين مدداً لعبد الرحمن، فانهزموا جميعاً إلي بغداد. وأقبل طاهر نحو البلاد وحده وأخذه إلي حلوان فخندق بها وجمع أصحابه.
بيعة المأمون
وأمر المأمون عندها بأن يخطب له على المنابر، ويخاطب بأمير المؤمنين، وعقد للفضل بن سهل على المشرق كلّه من جبل همذان إلي البيت طولاً، ومن بحر فارس إلي بحر الديلم وجرجان عرضاً، وحمل له عمّاله ثلاثة آلاف ألف درهم. وعقد له لواء ذا شعبتين ولقّبه ذا الرياستين يعني الحرب والعلم، وحمل اللواء علي بن هشام، وحمل العلم نعيم بن خازم، وولّى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج.
ظهور السفياني
هو علي بن عد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ويلقّب أبا العميطر لأنه زعم أنها كنية الحردون فلقّبوه بها، وكانت أمه نفيسة بنت عَبْد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب، وكان يقول: أنا ابن شيخي صفين يعني علياً ومعاوية. وكان من بقايا بني أُمَيَّة بالشام. وكان من أهل العلم والرواية، فادّعى لنفسه بالخلافة آخر سنة خمس وتسعين. وأعانه الخطاب بن وجه العلس مولى بني أُمَيَّة، كان متغلباً على صيدا، فملك دمشق من يد سليمان بن المنصور، وكان أكثر أصحابه من كلب. وكتب إلي محمد بن صالح بن بيهس يدعوه ويتهدده فأعرض عنه. وقصد السفياني القيسية فاستجاشوا بمحمد بن صالح، فجاءهم في ثلثمائة فارس من الصبات ومواليه. وبعث السفياني يزيد بن هشام للقائهم في إثني عشر ألفاً، فانهزم يزيد وقتل من أصحابه ألفان وأسر ثلاثة آلاف أطلقهم ابن بيهس وحلقهم. ثم جمع جمعاً مع إبنه القاسم وخرجوا
إلي ابن بيهس فانهزموا، وقتل القاسم وبعث برأسه إلي الأمين. ثم جمع جمعاً آخر وخرجوا مع مولاه المعتمر فانهزموا، وقتل المعتمر فوهن أمر السفياني وطمعت فيه قيس. ثم إن ابن بيهس مرض فجمع رؤساء بني نمير وأوصاهم بيعة مسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعد بن مسلمة بن عَبْد الملك بالخلافة. وقال لهم: تولوه وكيدوا به السفياني فإنكم لا تتقون بأهل بيته. وعاد ابن بيهس إلي حوران، واجتمعت نمير على مسلمة فبايعوه، فقتل منهم وجمع مواليه. ودخل على السفياني فقيده وحبس رؤساء بني أُمَيَّة، وأدنى القيسية وجعلهم بطانة. وأفاق ابن بيهس من مرضه فجاء إلي دمشق وحاصرها وسلمها له القيسية في محرم سنة ثمان وتسعين وهرب مسلمة ، السفياني إلي المزة، وملك ابن بيهس دمشق إلي أن قدم عَبْد الله بن طاهر دمشق وسار إلي مصر، ثم عاد إليها فاحتمل ابن بيهس معه إلي العراق ومات بها.
مسير الجيوش إلي طاهر ورجوعهم بلا قتال: ولما قتل عَبْد الرحمن بن جبلة أرسل الفضل بن الربيع إلي أسد بن يزيد بن مزيد ودعاه لحرب طاهر بعد أن ولّي الأمين الخلافة، وشكر لأسد فضل الطاعة والنصيحة وشدة البأس ويمن التقية. وطلب منه أرزاق الجد من المال لسنة، وألف فرس تحمل من معه بعد إزاحته عللهم بالأموال، وأن لا يطلب بحسبان ما يفتتح. فقال: قد أشططت ! ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين. ثم ركب ودخل على الأمين فأمر بحبسه، وقيل إنه طلب ولدي المأمون كانا عند أمهّما إبنة الهادي ببغداد بحملهما معه، فإن أطاعه المأمون وإلاّ قتلهما. فغضب الأمين لذلك وحبسه، واستدعى عَبْد الله بن حميد بن قحطبة فاشتط كذلك، فاستدعى أحمد بن مزيد واعتذر له عبس أسد وبعثه لحرب طاهر، وأمر الفضل بأن يجهز له عشرين ألف فارس، وشفع في أسد بن أخيه فأطلقه.ثم سار وسار معه عَبْد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفاً أخرى وانتهوا إلي حلوان وأقاموا وطاهر بموضعه ودس المرجفين في عسكرهم، بأن العطاء والمنع ببغداد، والجند يقبضون أرزاقهم. حتى مشى الجند بعضهم إلي بعض، واختلفوا واقتتلوا ورجعوا من غير لقاء. وتقدم طاهر فنزل
حلوان وجاءه هرثمة في جيش من عند المأمون ومعه كتاب بأن يسلم إلي هرثمة ما ملكه من المدن ويتقدم إلي الأهواز ففعل ذلك.
أمر عَبْد الملك بن صالح وموته. قد تقدم لنا حبس عَبْد الملك بن صالح إلي أن مات الرشيد وأخرجه الأمين، ولما كان أمر طاهر جاء عَبْد الملك إلي الأمين وأشار عليه بأن يقدم أهل الشام لحربه، فهم أجرأ من أهل العراق وأعظم نكاية في العدو، وضمن طاعتهم بذلك فولاه الأمين أهل الشام والجزيرة وقر له بالمال والرجال واستحثه. فسار إلي الرقة وكاتب أهل الشام فتسالموا إليه، فأكرمهم وخلع عليهم وكثرت جموعه. ثم مرض واشتد مرضه ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيين وأهل الشام بسبب دابة أخذت لبعضهم في وقعة سليمان بن أبي جعفر وعرفها عند بعض أهل الشام، فاقتتلوا وأرسل إليهم عَبْد الملك بالقتل فلم يقتلوا، وأكثر القتل وأظهر عَبْد الملك النصرة للشاميين وانتقض الحسين بن مملي للخراسانيين وتنادى الناس بالرجوع إلي بلادهم، فمضى أهل حمص وقبائل كلب، فانهزم أهل الشام وأقام عَبْد الملك بن صالح بالرقة، توفي بها. خلع الأمين وإعادته: ولما مات عَبْد الملك بن صالح نادى الحسين بن علي في الجند بالرحيل إلي بغداد، وقدمها فلقيه القوّاد ووجوه الناس، ودخل منزله واستدعاه الأمين من جوف الليل، فامتنع وأصبح، فوافى باب الجسر وأغراهم بخلع الأمين، وحذرهم من نكثه. ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا، ولقيه أصحاب الأمين فانهزموا، وذلك منتصف رجب سنة ست، وأخذ البيعة للمأمون من الغد. ووثب العبّاس بن عيسى بن موسى بالأمين فأخرجه من قصر الخلد وحبسه بقصر المنصور ومعه أمه زبيدة، فلما كان من الغد طلب الناس أرزاقهم من الحسين وماج بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد فنكر استبداد الحسين بخلع الأمين وليس بذي منزلة ولا حسب ولا نسب ولا غنائم.وقال أسد الحربي: قد ذهب أقوام بخلع الأمين، فاذهبوا أنتم بفكه يا معشر الحربية، فرجع الناس على أنفسهم باللائمة وقالوا: ما قتل قوم خليفتهم إلا سلّط الله عليهم السيف. ثم نهضوا إلي الحسين وتبعهم أهل الأرض فقاتلوه قتالاً شديداً وأسروه. ودخل
أسد الحربي إلي الأمين وكسر قيوده وأجلسه على أريكته، وأمرهم الأمين بلبس السلاح، فانتهبه الغوغاء وجيء بالحسين إليه أسيراً، فاعتذر إليه وأطلقهم، وأمر بجمع الجند والمسير إلي طاهر، وخلع عليه ما وراء بابه. ووقف الناس يهنئونه بباب الجسر حتى إذا خف عنه الناس قطع الجسر وهرب، وركب الجند في طلبه وأدركوه على فرسخ من بغداد وقتلوه وجاؤا برأسه إلي الأمين، واختفى الفضل بن الربيع عند ذلك فلم يوقف له على خبر.
استيلاء طاهر علي البلاد: ولما جاء كتاب المأمون بالمسير إلي الأهواز قدم إليها الحسين بن عمر الرستمي، وسار في أثره وأتته عيونه بأن محمد بن يزيد بن حاتم قد توجه من قبل الأمين في جند ليحمي الأهواز من أصحاب طاهر، فبعث من أصحابه محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخارا أخذاه مدداً للرستمي. ثم أمدهم بقريش بن شبل. ثم سار بنفسه حتى كان قريباً منهم، وأشرفوا على محمد بن يزيد بعسكر مكرم، وقد أشار إليه أصحابه بالرجوع إلي الأهواز والتحصن بها حتى تأتيه قومه الأزد من البصرة، فرجع وأمر طاهر قُرَيْش بن شبل باتباعه قبل أن يتحصن بالأهواز، فخرج لذلك وفاته محمد بن يزيد إلي الأهواز، وجاء على أثره فاقتتلوا قتالاً شديداً، وفرّ أصحاب محمد واستمات هو ومواليه حتى قتلوا.وملك طاهر الأهواز، وولّى على اليمامة والبحرين وعمان. ثم سار إلي واسط وبها السّندي بن يحيى الحريشيّ والهيثم بن شعبة خليفة خزيمة بن حازم، فهربا عنها وملكها طاهر وبعث قائداً من قواده إلي الكوفة وبها العبّاس بن الهادي، فخلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب بذلك إلي طاهر، وكذلك فعل المنصور بن المهدي بالبصرة والمطلب بن عَبْد الله بن مالك بالموصل، وأقرهم طاهر على أعمالهم.وبعث الحرث بن هشام وداود بن موسى إلي قصر ابن هبيرة وأقام بجرجابا. ولما بلغ الخبر بذلك إلي الأمين بعث محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري إلي قصر ابن هبيرة فقاتلهم الحرث وداود قتالاً شديداً وهزموهم إلي بغداد. وبعث الأمين أيضاً الفضل بن موسى على الكوفة، فبعث إليه طاهر بن العلاء في جيش فلقيه في طريقه، فأراد مسالمته بطاعة المأمون كياداً، ثم قاتله فانهزم إلي بغداد. ثم سار طاهر إلي المدائن
وعليها البرمكي، والمدّد متصل له كل يوم، فقدم قُرَيْش بن شبل، فلما أشرف عليهم وأخذ البرمكي في التعبية فكانت لا تتم له، فأطلق سبيل الناس وركب بعضهم بعضاً نحو بغداد، وملك طاهر المدائن ونواحيها، ثم نزل صرصر وعقد بها جسراً.
بيعة الحجاز للمأمون: ولما أخذ الأمين كتب العهد من مكة، وأمر داود بن عيسى، وكان على مكة والمدينة بخلع المأمون قام في الناس ونكر نقض العهد وذكرهم ما أخذ الرشيد عليهم من الميثاق لإبنيه في المسجد الحرام أن يكونوا على الظالم، وأن محمداً بدأ بالظلم والنكث، وخلع أخويه وبايع لطفل صغير رضيع، وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما ظلماً، ثم دعا إلي خلعه والبيعة للمأمون فأجابوه، ونادى بذلك في شعاب مكة وخطبهم. وكتب إلي إبنه سليمان بالمدينة بمثل ذلك ففعله، وذلك في رجب سنة ست وتسعين. وسار من مكة على البصرة وفارس وكرمان إلي المأمون، وأخبره فسر بذلك وولاه مكانه، وأضاف إليه ولاية عك. وأعطاه خمسمائة ألف درهم وسير معه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى على الموسم، ويزيد بن جرير بن مزيد بن خالد القسري في جند كثيف عاملاً على اليمن، ومروا بطاهر وهو محاصر بغداد؟ فأكرمهم وأقام يريد اليمن فبايعوه للمأمون وأطاعوه. حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها ومقتل الأمين: ولما اتصلت بالأمين هذه الأحوال، وقتل الحسين بن علي بن عيسى، شمّر لحرب طاهر واستعد له. وعقد في شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة شتى، وأمر عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلي هرثمة فساروا إليه والتقوا بنواحي النهروان في رمضان، فانهزموا وأسر قائدهم علي بن محمد، فبعث به هرثمة إلي المأمون وترك النهروان، وأقام طاهر بصرصر، والجيوش تتعاقب من قبل الأمين فيهزمها، ثم بذل الأمين الأموال ليستفسد بها عساكرهم، فسار إليه من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف، لفرق فيهم الأموال، وقود جماعة من الحربية، ودس إلي رؤساء
الجند في عسكر طاهر ورغبهم، فشغبوا على طاهر وسار كثير منهم إلي الأمين، وانضموا إلي قواد الحربية وقوّاد بغداد وساروا إلي صرصر. فعبى أصحابه كراديس وحرضهم ووعدهم.ثم تقدم فقاتلهم ملياً من النهار، وانهزم أصحاب الأمين، وغنم أصحاب طاهر عسكرهم. ولما وصلوا إلي الأمين فرق فيهم الأموال وقود منهم جماعة ولم يعط المنهزمين شيئاً، ودس إليهم طاهر واستمالهم، فشغبوا على الأمين. فأمر هؤلاء المحدثين بقتالهم وطاهر يراسلهم وقد أخذ رهائنهم على الطاعة، وأعطاهم الأموال. فسار فنزل باب الأنبار بقواده وأصحابه، واستأمن إليه كثير من جند الأمين، وثارت العامة وفتقت السجون، ووثب الشطار على الأخيار. ونزل زهير بن مسيب الضبي من ناحية، ونصب المجانيق والعرادات، وحفر الخنادق. ونزل هرثمة بناحية أخرى وفعل مثل ذلك. ونزل عبيد الله بن الوضاح بالشماسية، ونزل طاهر بباب الأنبار، فضيق على الأمين بمنزله ونفد ما كان بيد الأمين من الأموال، وأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة. وضرب آنية الذهب والفضة ليفرقها في الجند، وأحرق الحديثة فمات بها خلق، واستأمن سعيد بن مالك بن قادم إلي طاهر فولاه الأسواق وشاطىء دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان وكل ما غلب عليه من الدروب، وأمده بالرجال والأموال. ووكّل الأمين بقصر صالح وقصر سليمان بن المنصور إلي دجلة بعض قوّاده، فألح في إحراق الدور والرمي بالمجانيق وفعل طاهر مثل ذلك. وكثر الخراب ببغداد، وصار طاهر يخندق على ما يمكنه من النواحي ويقاتل من لم يجبه ، وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقواد وعجز الأجناد عن القتال.وقام به الباعة والعيارون، وكانوا ينهبون أموال الناس. واستأمن إليه القائد الموكل بقصر صالح فأمنه وسلم إليه ما كان بيده من تلك الناحية في جمادى الأخيرة من سنة سبع . واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب الشرطة فوهن الأمين. واجتمع العيارون والباعة والأجناد وقاتلوا أصحاب طاهر في قصر صالح، وقتلوا منهم خلقاً، وكاتب طاهر القواد بالأمان وبيعة المأمون، فأجابه بنو قحطبة كلهم ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطائي وغيرهم. وفشل الأمين وفوض الأمر إلي محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الحسن الهرش، ومعهم الغوغاء يتولون أمر تلك الفتنة. وأجفل الناس من بغداد وافترقوا في البلاد.ولما وقع بطاهر في قصر صالح ما وقع بأصحابه شرع في هدم المباني وتخريبها، ثم قطع الميرة عنهم، وصرف السفن التي تحمل فيها إلي الفرات. فغلت الأسعار وضاق الحصار، واشتد كلب العيارين فهزموا عبيد الله بن الوضاح وغلبوه على الشماسية. وجاء هرثمة ليعيق فهزموه أيضاً وأسروه، ثم خلصه أصحابه. وعقد طاهر جسراً فوق الشماسية وعبر إليهم وقتلهم أشد قتال فردهم على أعقابهم، وقاتل منهم بشراً كثيراً . وعاد ابن الوضاح إلي مركزه، وأحرق منازل الأمين بالخيزرانية، وكانت النفقة فيها بلغت عشرين ألف درهم، وأيقن الأمين بالهلاك ، وفر منه عَبْد الله بن خازم بن خزيمة إلي المدائن لأنه اتهمه وحمل عليه السفلة والغوغاء.ويقال بل كاتبه طاهر وقبض ضياعه، لخرج عن الأمين وقصد الهرش ومن معه جزيرة العباس من نواحي بغداد، فقاتلهم بعض أصحاب طاهر وهزموهم، وغرق منهم خلق كثير. وضجر الأمين وضعف أمره، وسار المؤتمن بن الرشيد إلي المأمون فولاه جرجان، وكاتب طاهر خزيمة بن حازم ومحمد بن علي بن موسى بن ماهان وأدخلهما قي خلع الأمين فأجاباه، ووثبا آخر محرم من سنة ثمان وتسعين فقطعا جسر دجلة، وخلع الأمين، وبعث إلي هرثمة وكان بإزائهما فسار إليهما من ناحيته، ودخل عسكر المهدي وملكه. وقدم طاهر من الغد إلي المدينة والكرخ فقاتلهم وهزمهم وملكها عنوة ونادى بالأمان، ووضع الجند بسوق الكرخ وقصر الوضاح، وأحاط بمدينة المنصور وقصر زبيدة وقصر الخلد من باب الجسر إلي باب البصرة، وشاطىء الصراة إلي مصبها في دجلة، ونصب عليها المجانيق.واعتصم الأمين في أمّه وولده بمدينة المنصور، واشتد عليه الحصار، وثبت معه حاتم بن الصقر والحرشي والأفارقة. وافترق عامة الجنود والخصيان والجواري في الطرق، وجاء محمد بن حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي إلي الأمين وقالا له: بقي من خيلك سبعة آلاف فرس، نختار سبعة آلاف ونجعلهم عليها، ونخرج على بعض الأبواب ولا يشعر بنا أحد، ونلحق بالجزيرة والشام فيكون ملك جديد، وربما مال إليك الناس ويحدث الله أمراً. فاعتزم على ذلك وبلغ الخبر إلي طاهر، فكتب إلي سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك يتهددهم إن لم يصرفوه عن ذلك الرأي. فدخلوا على الأمين وحذروه من ابن الصقر وابن الأغلب أن يجعل نفسه في أيديهم فيتقربوا به إلي طاهر، وأشاروا عليه بطلب الأمان على يد هرثمة بن أعين والخروج إله، وخالفهم إليه ابن الصقر وابن الأغلب.وقالوا له: إذا ملت إلي الخوارج فطاهر خير لك من هرثمة فأبى، وتطير من طاهر، وأرسل إلي هرثمة يستأمنه. فأجابه أنه يقاتل في أمانة المأمون فمن دونه وبلغ ذلك طاهراً فعظم عليه أن يكون الفتح لهرثمة، واجتمع هو وقواده لهرثمة وقواده في منزل خزيمة بن حازم، وحضر سليمان والسندي وابن نهيك وأخبروا طاهراً أنه لا يخرج إليه أبداً، وأنه يخرج إلي هرثمة ويدفع إليه الخاتم والقضيب والبردة وهو الخلافة فرضي.ثم جاءه الهرش وأسر إليه أنهم يخادعونه وأنهم يحملونها مع الأمين إلي هرثمة، فغضب وأعد رجالاً حول قصور الأمين. وبعث إليه هرثمة لخمس بقين من محرم سنه ثمان وتسعين بأن يتربص ليلة لأنه رأى أولئك الرجال بالشط فقال: قد افترق عني الناس ولا يمكنني المقام لئلا يدخل علي طاهر فيقتلني. ثم ودع إبنيه وبكى وخرج إلي الشط،وركب حراقه هرثمة. وجعل هرثمة يقبل يديه ورجليه وأمر بالحراقة أن تدفع، وإذا بأصحاب طاهر في الزواريق، فشدوا عليها ونقبوها ورموهم بالآجر والنشاب فلم يرجعوا، ودخل الماء إلي الحراقة فغرقت.قال أحمد بن سالم صاحب المظالم: فسقط الأمين وهرثمة وسقطنا، فتعلق الملاح بشعر هرثمة وأخرجه، وشق الأمين ثيابه. قال: وخرجت إلي الشط فحملت إلي طاهر فسألني عن نفسي فانتسبت، وعن الأمين فقلت غرق، فحملت إلي بيت وحبست فيه حتى أعطيتهم مالاً فاديتهم به على نفسي. فبعد ساعة من الليل فتحوا علي الباب وأدخلوا علي الأمين عريان في سراويل وعمامة، وعلى كتفه خرقة فاسترجعت وبكيت. ثم عرفني فمال: ضمني إليك فإني أجد وحشة شديدة، فضممته وقلبه يخفق فقال. يا أحمد! ما فعل أخي فقلت حي. قال: قبح الله بريدهم كان يقول قد مات، يريد بذلك العذر عن محاربته، فقلت: بل قبح الله وزراءك فقال: تراهم يفون لي بالأمان! قلت: نعم إن شاء الله.ثم دخل محمد بن حميد الطاهري فاستثبتنا حتى عرفه وانصرف، ثم دخل علينا منتصف الليل قوم من العجم منتضين سيوفهم، فدافع عن نفسه قليلاً. ثم ذبحوه ومضوا برأسه إلي طاهر، ثم جاؤا من السحر فأخذوا جثته. ونصب طاهر الرأس حتى رآه الناس، ثم بعث به إلي المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن بن مصعب، ومعه الخاتم والبردة والقضيب وكتب معه بالفتح . فلما رآه المأمون سجد.ولما قتل الأمين نادى طاهر بالأمان، ودخل المدينة يوم الجمعة فصلى بالناس وخطب للمأمون وذم الأمين، ووكل بحفظ القصور الخلافية ، وأخرج زبيدة أم الأمين وإبنيه موسى وعبد الله إلي بلاد الزاب الأعلى. ثم أمر بحمل الولدين إلي المأمون، وندم الجند على قتله. وطالبوا طاهراً بالأموال، فارتاب بجند بغداد وبجند ه أنهم تواطؤا عليه، وثاروا به لخمس من قتل الأمين. فهرب إلي عقرقوبا ومعه جماعة من القواد. ثم تعبى لقتالهم فجاؤا واعتذروا وأحالوا على السفهاء والأحداث فصغ عمهم وتوعدهم أن يعودوا لمثلها، وأعطاهم أربعة أشهر. واعتذر إليه مشيخة بغداد وحلفوا أنهم لم يدخلوا الجند في شيء من ذلك، فقبل منهم ووضعت الحرب أوزارها واستوسق الأمر للمأمون في سائر الأعمال والممالك.ثم خرج الحسن الهرش في جماعة من السفلة واتبعه كثير من بوادي الأعراب،ودعا إلي الرضا من آل محمد ، وأتى النيل فجبى الأموال ونهب القرى. وولّى المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما افتتحه طاهر من كور الجبل والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، فقدم سنه تسعة وتسعين وفرق العمال وولّى طاهراً على الجزيرة والموصل والشام والمغرب، وأمره أن يسير إلي قتال نصر بن شبيب، وأمر هرثمة بالمسير إلي خراسان، وكان نصر بن شبيب من بني عقيل بن كب بن ربيعة بن عامر في كيسوم شمالي حلب، وكان له ميل إلي الأمين. فلما قتل أظهر الوفاء له بالبيعة، وغلب على ما جاوره من البلاد، وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب، وعبر إلي شرقي العراق، وحصر حران.وسأل منه شيعة الطالبيين أن يبايعوا لبعض آل علي لمّا رأوه من بني العباس ورجالهم وأهل دولتهم وقال: والله لا أبايع أولاد السوداوات، فيقول: إنه خلقني ورزقني. قالوا: فبعض بني أُمَيَّة قال: قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل ولو سلم علي رجل مدبر لأعداني بإدباره، وإنما هواي في بني العباس، وإنما حاربتهم لتقديمهم العجم على العرب. ولما سار إليه طاهر نزل الرقة وأقام بها وكتب إليه يدعوه إلي الطاعة وترك الخلاف فلم يجبه، وجاء الخبر إلي طاهر في الرقة بوفاة أبيه الحسين بن زريق بن مصعب بخراسان، وأن المأمون حضر جنازته. ونزلا الفضل قبره وجاءه كتاب المأمون يعزيه فيه.وبعد قتل الأمين كانت الوقعة بالموصل بين اليمانية والنزارية وكان عليّ بن الحسن الهمداني متغلباً على الموصل فعسف بالنزارية ، وسار عثمان بن نعيم البرجمي إلي ديار مصر، وشكا إلي أحيائهم واستنفرهم، فسار معه من مصر عشرون ألفاً وأرسل إليهم علي بن الحسن بالرجوع إلي ما يريدون، فأبى عثمان فخرج علي في أربعة آلاف فهزمهم وأثخن فيهم وعاد إلي البلد.
ظهور ابن طباطبا العلوي:
لمّا بعث المأمون الحسن بن سهل إلي العراق وولاّه على ما كان افتتحه طاهر من البلاد والأعمال، تحدث الناس أن الفضل بن سهل غلب على المأمون واستبد عليه وحجبه عن أهل بيته وقوّاده، فغضب بنو هاشم ووجوه الناس واجترؤا على الحسن بن سهل وهاجت الفتنة. وكان أبو السرايا السري بن منصور ويذكر أنه من بني شيبان من ولد هانىء بن قبيصة بن هانىء بن مسعود، وقيل من بني تميم بالجزيرة، وطلب فعبر إلي شرقي الفرات وأقام هناك يخيف السابلة ثم لحق بيزيد بن مزيد بأرمينية في ثلاثين فارساً فقوّده وقاتل معه الحرمية وأسر منهم وأخذ منهم غلامه أبا الشوك. ومات يزيد بن مزيد فكان مع ابنه أسد، وعزل أسد فسار إلي أحمد بن مزيد. ولما بعث الأمن أحمد بن مزيد لحرب هرثمة بعثه طليعة إلي عسكره، فاستماله هرثمة فمال إليه ولحق به وقصد بني شيبان مع الجزيرة، واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة واجتمع إليه أزيد من ألفي فارس. فلما قتل الأمين تعصى هرثمة عن أرزاقهم فغضب واستأذن في الحج فأذن له وأعطاه عشرين ألف درهم ففرقها في أصحابه ومضى وأوصاهم باتباعه، فاجتمع له منهم نحو مائتين وسار إلي عين التمر، فأخذوا عاملها وقسمّوا ماله، ولقوا عاملاً آخر بمال موفور على ثلاثة أنفار فاقتسموه. وأرسل هرثمة عسكراً خلفه فهزمهم، ودخل البرية. ولحق به من تخفف من أصحابه فكثر جمعه، وسار نحو دقوقا وعليها أبو ضرغامة في سبعمائة فارس، فخرج وقاتله فهزمه، ورجع إلي القصر فحاصره أبو السرايا حتى نزل على الأمان وأخذ أمواله. وسار إلي الأنبار وعليها إبراهيم الشروي مولى المنصور، فقتله وأخذ ما فيها وعاد إليها عند إدراك الغلال فافتتحها. ثم قصد الرقة ومرّ بطوق بن مالك الثعلبي فاستجاشه على قيس، فأقام عنده أربعة أشهر يقاتل قيساً بعصبية ربيعة حتى انقادت قيس إلي طوق. وسار أبو السرايا إلي الرقة فلقي محمد بن إبراهيم بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن عليّ، وتلقب أبوه إبراهيم طباطبا فدعاه إلي الخروج، وأنفذ إلي الكوفة فدخلاها وبايعهم أهلها على بيعة الرضا من آل محمد، ونهب أبو السرايا قصر العباس بن موسى بن عيسى، وأخذ ما فيه من الأموال والجواهر مما لا يحصى، وذلك منتصف جمادى الأخيرة سنة تسعة وتسعين، وقيل إن أبا السرايا مطله هرثمة بأرزاق أصحابه، فغضب ومضى إلي الكوفة فبايع ابن طباطبا. ولما ملك الكوفة هرع إليه الناس والأعراب من النواحي فبايعوه، وكان عليها سليمان بن المنصور من قبل الحسن بن سهل، فبعث إليه زهير بن المسيب الضبي في عشرة آلاف، وخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فهزموه واستباحوا عسكره وأصبح محمد بن طباطبا من الغد ميتاً، فنصب أبو السرايا مكانه غلاماً من العلويّة، وهو محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين واستبد عليه. ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة فأقام به وبعث الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن خالد المروروذي في أربعة آلاف، فلقيه أبو السرايا منتصف رجب وقتله ولم يفلت من أصحابه أحد كانوا بين قتيل وأسير، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة وبعث جيوشاً إلى البصرة وواسط، وولى على البصرة العبّاس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفري، وعلى مكة الحسين الأفطس بن الحسين بن علي زين العابدين وجعل إليه الموسم. وعلى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق، وعلى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر الصادق، وعلى الأهواز زيد بن موسى الصادق، فسار إلى البصرة وأخرج عنها العبّاس بن محمد بن داود بن الحسن المثنى إلى المدائن، وأمره أن يأتي بغداد من الجانب الشرقي ففعل.
وكان بواسط عَبْد الله بن سعد الخرشي من قبل الحسن بن سهل، ففرّ أمامهم وبعث الحسن بن سهل إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا وكان قد سار إلى خراسان مغاضباً له، فرجع بعد امتناع، وسار إلى الكوفة في شعبان. وبعث الحسن إلى المدائن وواسط علي بن أبى سعيد، وأبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه جيشاً إلى المدائن فملكوها في رمضان. وتقدم فنزل نهر صرصر، وعسكر هرثمة بإزائه غدوة. وسار عليّ بن أبي سعيد في سؤال المدائن فحاصر بها أصحاب أبي السرايا ورجع هو من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وهرثمة وأتباعه، ثم حصره وقتل جماعة من أصحابه فانحاز إلى الكوفة ووثب الطالبيون على دور بني العبّاس وشيعتهم فنهبوها وخربوها وأخرجوهم واستخرجوا ودائعهم عند الناس، وكان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، فلما بلغه قدوم حسين الأفطس جمع شيعة بني العباس. وكان مسرور الكبير قد حج في مائة فارس فتعبئ للحرب ودعا داود إلى حربهم فقال: لا أستحل ذلك في الحرم وخرج إلى العراق وتبعه مسرور. وكان حسين الأفطس بسرف يخاف دخول مكة فبلغه
الخبر أن مكة قد خلت من بني العبّاس، فدخل في عشرة أنفس وطاف وسعى ووقف بعرفة ليلاً وأتم الحجّ. وأقام هرثمة بنواحي الكوفة يحاصرها، واستدعى منصور بن المهدي وكاتب رؤساء الكوفة، وسار علي بن سعيد من المدائن إلى واسط فملكها ثم توجه إلى البصرة واشتد الحصار على أبي السرايا بالكوفة، فهرب عنها في ثمانمائة فارس ومعه صاحبه الذى نصبه وهو محمد بن جعفر بن محمد. ودخلها هرثمة منتصف محرم فأقام بها يوما وولىّ عليها غسان صاحب الحرس بخراسان، وعاد وقصد أبو السرايا القادسية وسار منها إلى السوس، ولقي بخراسان مالاً حمل من الأهواز فقسّمه في أصحابه. وكان على الأهواز الحسن بن علي المأموني، فخرج إليه لقاتله فهزمه، وافترق أصحابه وجاء إلى منزلة برأس عين من جلولاء ومعه صاحبه محمد وغلامه أبو الشوك، فظفر بهم حمّاد الكند غوش وجاء بهم إلى الحسن بن سهل في النهروان، فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إلى المأمون وبصاحبه محمد معه، ونصب شلوه على جسر بغداد. وسار عليّ بن أبي سعيد إلى البصرة فملكها من يد زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يسمّى زيد النار لكثرة ما أحرق من دور العباسيين وشيعتهم، فاستأمن إليه زيد فأمنه وأخذه، وبعث الجيوش إلى مكة والمدينة واليمن لقتال من بها من العلويين، وكان إبراهيم بن موسى بن جعفر بمكة، فلما بلغه خبر أبي السرايا ومقتله ولّى وسار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى بن عيسى فهرب إلى مكة، واستولى إبراهيم على اليمن وكان يسمى الجزار لكثرة قتله وفتكه. ثم بعث رجلاً من ولد عقيل بن أبي طالب إلى مكة ليحجّ بالناس، وقد جاء لذلك أبو الحسن المعتصم في جماعة من القوّاد فيهم حدوية بن علي بن عيسى بن ماهان، والياً على اليمن من قبل الحسن بن سهل فخام العقيلي عن لقائهم، واعترض قافلة الكسوة فأخذها، ونهب أموال التجّار ودخل الحجّاج إلى مكة عراة، فبعث الخلودي من القوّاد فصبحهم وهزمهم وأسر منهم، وتفقد أموال التجّار وكسوة الكعبة وطيبها، وضرب الأسراء عشرة أسواط لكل واحد وأطلقهم، وحجّ المعتصم بالناس.
بيعه محمد بن جعفر بمكة: هو محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين ويلقّب الديباجة، وكان عالماً زاهداً ويروي عن أبيه وكان الناس يكتبون عنه. ولما ملك الحسين الأفطس
مكة كما ذكرناه عاث فيها ونزع كسوة الكعبة وكساها بأخرى من الغد أنفذها أبو السرايا من الكوفة، وتتبع ودائع بني العباس وجعلها ذريعة لأخذ أموال الناس فخرجوا من مكة. وقلع أصحابه شبابيك الحرم وقلع ما على الأساطين من الذهب، واستخرج ما كان في الكعبة من المال فقسمه في أصحابه، وساء أثره في الناس. فلما قتل أبو السرايا تنكروا له فخشي على نفسه، فجاء إلى محمد بن جعفر ليبايع له بالخلافة، فلم يزل به هو وابنه حسن واستعانا عليه بابنه علي حتى بايعوه، ودعوه بأمير المؤمنين. واستبدّ عليه ابنه علي وابن الأفطس بأسوأ مما كان قبل، وأفحشوا في الزنا واللواط واغتصاب النساء والصبيان، فاجتمع الناس على خلع محمد بن جعفر أو يردّ إليهّم ابن القاضي كان مغتصبا ببيت ابنه عليّ، فاستأمنهم حتى ركب إلى بيت ابنه وسلّم إليهّم الغلام. وجاء إسحق بن موسى بن عيسى من اليمن، فاجتمع الناس وخندقوا مكة، وقاتلهم إسحق وامتنعوا عليه، فسار نحو العراق ولقي الجند الذين بعثهم هرثمة إلى مكة مع الجلودي ورجاء بن جميل، وهو ابن عم الحسين بن سهل. فرجع بهم وقاتل الطالبيين فهزمهم وافترقوا، واستأمن إليه محمد بن جعفر فأمنه وملك مكة، وسار محمد بن جعفر إلى الجحفة ثم إلى بلاد جهينة فجمع وقاتل هارون بن المسيب والي المدينة، فانهزم محمد وفقئت عينه وقتل خلق من أصحابه ورجع إلى موضعه. ولما انقضى الموسم استأمن الجلودي ورجاء بن جميل فأمناه ودخل مكة، وخطب واعتذر عما فعله بأنه بلغه موت المأمون ثم صح أنه حي، وخلع نفسه وسار إلى الحسن والي المأمون بمرو، فلم يزل عنده إلى أن سار المأمون إلى العراق فمات بجرجان في طريقه.
مقتل هرثمة: لمّا فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع، وكان الحسن بن سهل بالمدائن فلم يعرج عليه، وسار إلى عقرقوبا إلى النهروان قاصداً خراسان، ولقيته كتب المأمون متلاحقة أن يرجع إلى الشام والحجاز، فأبى إلا لقاءه دالة عليه بما سبق له من نصحه له ولآبائه. وكان قصد أن يطلع المأمون على حال الفضل بن سهل في طيه الأخبار عنه وما عند الناس من القلق بذلك، وباستبداده عليه ومقامه بخراسان، وعلم الفضل بذلك فأغرى به المأمون، وألقى إليه أنه سلّط أبا السرايا وهو من جنده وقد خالف كتبك وجاء معانداً سيء القالة، وإن سومح في ذلك اجترأ غيره فسخطه المأمون وبقي في
انتظاره، ولما بلغ مرو قرع طبوله يسمعها لئلا يطوى خبره عن المأمون، وسأل المأمون عنها فقيل هرثمة أقبل يرعد ويبرق، فاستدعاه وقال هرثمة: مالأت العلويين وأبا السرايا ولو شئت إهلاكهم جميعاً لفعلت، فذهب يعتذر فلم يمهله، وأمر فربس بطنه وشُدخ أنفه، وسحب إلى السجن، ثم دسّ إليه من قتله.
انتقاض بغداد علي الحسن بن سهيل: ولما بلغ خبر هرثمة إلى العراق كتب الحسن بن سهل إلى علي بن هشام والي بغداد من قبله أن يتعلل على الجند الحربية والبغداديين في أرزاقهم، لأنه كان بلغه عنهم قبل مسير هرثمة أنهم عازمون على خلعه وطرد عماله، وولوا عليهم إسحق بن الهادي خليفة المأمون. فلم يزل الحسين يتلطف إليهم ويكاتبهم حتى اختلفوا فأنزل علي بن هشام ومحمد بن أبي خالد في أحد جانبيها، وزهير بن المسيب في الجانب الآخر وقاتلوا الحربية ثلاثة أيام ثم صالحهم على العطاء وشرع فيه. وكان زيد بن موسى بن جعفر قد أخذه علي بن أبي سعيد من البصرة وحبسه كما ذكرناه قبل، فهرب من محبسه وخرج بناحية الأنبار ومعه أخ لأبي السرايا. ثم تلاشى أمره، وأخذوا [*] إلى علي بن هشام. ثم جاء خبر هرثمة وقد انتقض محمد بن أبي خالد على علي بن هشام بما كان يستحق به، وغضب يوماً مع زهير بن المسيب فقنعه بالسوط، فسار إلى الحربية ونصب لهم الحرب، وانهزم علي بن هشام إلى صرصر. وقيل إن ابن هشام أقام الحد على عَبْد الله بن علي بن عيسى، فغضب الحربية وأخرجوه. واتصل ذلك بالحسن بن سهل وهو بالمدائن كما قلناه، فانهزم إلى واسط أول سنة إحدى ومائتين، والفضل بن الربيع وقد ظهر من اختفائه من لدن الأمين. وجاء عيسى بن محمد بن أبي خالد من الرقة من عند طاهر، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن وهزموا كل من تعرض للقائهم من أصحابه. وكان زهير بن المسيب عاملاً للحسن على جوخي من السواد وكان يكاتب بغداد، فركب إليه محمد بن أبي خالد
وأخذه أسيراً وانتهب ماله وحبسه ببغداد عند ابنه جعفر. ثم تقدم إلى واسط وبعثه ابنه هرون إلى النيل، فهزم نائب الحسن بها إلى الكوفة فلحق بواسط، ورجع هرون إلى أبيه وتقدم نحو واسط فسار الحسن عنها. وأقام الفضل بن الربيع مختفياً بها واستأمن لمحمد وبعثه إلى بغداد. وسار إلى الحسن على البقية ولقيتهم عساكر الحسن وقواده، وانهزم محمد وأصحابه وتبعهم الحسن إلى تمام الصلح، ثم لحقوا بجرجايا. ووجه محمد ابن ابنه هرون إلى [*]أ فأقام بها. وسار محمد ابن ابنه أبو رتيل وهو جريح إلى بغداد فمات بها ودفن في داره سراً ومحمد أبو رتيل إلى زهير بن المسيب فقتله من ليلته. وقام خزيمة بن خازم بأمر بغداد وبعث إلى عيسى بن محمد بأن يتولى حرب الحسن مكان أبيه، وبلغ الحسن موت محمد فبعث عسكره إلى هرون بالنيل فغلبوا وانتهبوها، ولحق هرون بالمدائن. ثم اجتمع أهل بغداد وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى، فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد والعراق انحرافاً عن الحسن بن سهل. وقيل: إن الحسن لمّا ساعد أهل بغداد عيسى بن محمد بن أبي خالد على حربه خام عنه فلاطفه ووعده بالمصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية النواحي، فقبل وطلب خط المأمون بذلك، وكتب إلى أهل بغداد: إني شغلت بالحرب عن جباية الخراج فولوا رجلاً من بني هاشم، فولوا المنصور بن المهدي: وأحصى عيسى أهل عسكره فكانوا، مائة ألف وخمسة وعشرين ألفاً. وبعث منصور غسان بن الفرج إلى ناحية الكوفة فغزاه حميد الطوسي من قواد الحسن بن سهل، وأخذ أسيراً ونزل النيل، فبعث منصور بن محمد يقطين في العساكر إلى حميد، فلقيه حميد بكونى فهزمه وقتل من أصحابه، ونهب ما حول كوثى ورجع إلى النيل وأقام ابن يقطين بصرصر.
أمر المطوعة: ولما كثر الهرج ببغداد وامتدت أيدي الدعاوي بأذاية الناس في أموالهم وأفشى المناكير فيهم وتعذر ذلك، فخرجوا إلى القرى فانتهبوها. واستعدى الناس أهل الأمر فلم يغدوا عليهم، فتمشى الصلحاء من عمل ريظ وكل بينهم، ورأوا أنهم في كل درب قليلون بالنسبة إلى خيارهم، فاعتزموا على مدافعتهم واشتد خالد المدريوش من أهل بغداد، فدعا جيرانه وأهل محلته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن يغيروا على السلطان. فشد على من كان عندهم من ادّعار وحبسهم ورفعهم إلى السلطان وتعدى ذلك إلى غير محلته. ثم قام بعده سهل بن سلامة الأنصاري من الحريشية من أهل خراسان ويكنى أبا حاتم فدعا إلى مثل ذلك، وإلى العمل بالكتاب والسنة، وعلق في عنقه مصحفاً وعبر على العامة وعلى أهل الدولة فبايعوه على ذلك وعلى قتال من خالف. وبلغ خبرهما إلى منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد فنكروا ذلك، لأن أكثر الدعار كانوا يشايعونهم على أمرهم، فدخلوا بغداد بعد أن عقد عليه الصلح مع الحسن بن سهل على الأمان له ولأهل بغداد، وانتظروا كتاب المأمون ورضي أهل البلد بذلك، فسهل عليهم أمر المدريوش وسهل.
العهد لعلي الرضا والبيعة لإبراهيم بن المهدي: ولما بلغ أهل بغداد أن المأمون قد بايع العهد لعلي بن موسى الكاظم، ولقبه الرضا من آل محمد، وأمر الجند بطرح السواد ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد ببغداد يعلمه بذلك في رمضان من سنة إحدى ومائتين، وأمره أن يأخذ من عنده من الجند وبني هاشم بذلك، فأجاب بعض وامتنع بعض، وكبر عليهم إخراج الخلافة من بنى العباس. وتولى كبر ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي، وشايعهم عليه المطلب بن عَبْد الله بن مالك والسدّي ونصر الوصيف وصالح صاحب المصلّى ومنعوا يوم الجمعة من نادى في الناس بخلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن المهدي ومن بعده لإسحق بن الهادي. ثم بايعوه في المحرم سنة إثنتين ومائتين ولقبوه المبارك ووعد الجند بأرزاق ستة أشهر، واستولى على الكوفة والسواد، وخرج فعسكر بالمدائن، وولّى بها على الجانب الغربي العباس بن الهادي، وعلى الجانب الشرقي إسحق بن الهادي. وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عَبْد الحميد عاملاً للحسن بن سهل، ومعه القواد سعيد بن الساحور وأبو البط وغسان بن الفرج ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب، كانوا منحرفين عن حميد، فداخلوا إبراهيم بن الهادي في أن يهلكوه في قصر ابن هبيرة وشعر بذلك الحسن بن سهل، فاستقدم حميداً وخلا لهم الجو منه، فبعث إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد وملك قصر ابن هبيرة وانتهب عسكر حميد ولحق به ابنه بجواريه. ثم عاد إلى الكوفة فاستعمل عليها العباس بن موسى الكاظم وأمره أن يدعو لأخيه فامتنع غلاة الشيعة من إجابته وقالوا لا حاجة إلينا بذكر المأمون وقعدوا عنه. وبعث إبراهيم بن المهدي من القواد سعيداً وأبا البط لقتاله، فسرح إليهم العباس بن عمه وهو علي بن محمد الديباجة فانهزم، ونزل سعيد وأبو البط الحيرة، ثم تقدموا لقتال أهل الكوفة، وقاتلهم شيعة بني العباس ومواليهم. ثم سألوا الأمان للعباس وخرجوا من داره. ثم قاتل أصحابه أصحاب سعيد فهزموهم وأحرقوا دور عيسى بن موسى، وبلع الخبر إلى سعيد بالحيرة بأن العباس قد نقض ورجع عن الأمان، فركب وجاء إلى
الكوفة وقتل من ظفر به، ولقيه أهله فاعتذروا إليه بأن هذا فعل الغوغاء، وأن العباس باق على عهده. ودخل سعيد وأبو البط ونادوا بالأمان، وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي، ثم عزلوه وولوا مكانه غسان بن الفرج فقتل أخا السرايا. ثم عزلوه وولوا الهول ابن أخي سعيد القائد، وقدم حميد بن عَبْد الحميد لحربهم بالكوفة، فهرب الهول وبعث إبراهيم بن المهدي بن عيسى بن محمد بن أبي خالد لحصار الحسن بواسط على طريق النيل. وكان الحسن متحصناً بالمدينة، فسرح أصحابه لقتالهم فانهزموا وغنم عسكرهم، ورجع عيسى إلى بغداد فقاتل سهل بن سلامة المطوع حتى غلبه على منزله، فاختفى في كمار النظار، وأخذوه بعد ليال وأتوا به إسحق فقال: كل ما كنت أدعو إليه باطل. فقالوا: أخرج فأعلم الناس بذلك! فخرج وقال: قد كنت أدعوكم إلى الكتاب والسنة ولم أزل على ذلك، فضربوه وقيدوه وبعثوا به إلى إبراهيم المهدي فضربه وحبسه، وظهر أنه قتل في محبسه خفية لسنة من قيامه. ثم أطلقه فاختفى إلى أن انقرض أمر إبراهيم. وزحف حميد بن عَبْد الحميد سنة ثلاث ومائتين إلى قتال إبراهيم بن المهدي وأصحابه، وكان عيسى بن محمد بن أبي خالد هو المتولي لقتالهم بأمر إبراهيم، فداخلهم في الغدر بإبراهيم، وصار يتعلل عليه في المدافعة عنه، ونمي ذلك إلى إبراهيم بن هرون أخي عيسى فتنكر له، ونادى عيسى في الناس بمسالمة حميد، فاستدعاه إبراهيم وعاتبه بذلك فأنكر واعتذر، فأمر به فضرب، وحبس عدة من قوّاده وأفلت العباس خليفته، فمشى بعض الناس إلى بعض ووافقوا العباس على خلع إبراهيم وطردوا عامله من الجسر والكرخ. وثار الرعاع والغوغاء. وكتب العباس إلى حميد يستقدمه ليسلم إليه بغداد ونزل صرصر، وخرج إليه العباس والقواد وتواعدوا لخلع إبراهيم على أن يدفع لهم العطاء، وبلغ الخبر إلى إبراهيم فأخرج عيسى وأخوته، وسأله قتال حميد فامتنع. ودخل حميد فصلّى الجمعة وخطب للمأمون وشرع في العطاء ثم قطعه عنهم، فغضب الجند. وعاود إبراهيم سؤال عيسى في قتال حميد ومدافعته، فقاتل قليلاً ثم استأ سر لهم، وانفض العسكر راجعين إلى إبراهيم. وارتحل حميد فنزل في وسط المدينة وتسلل أصحاب إبراهيم إلى المدائن فملكوها، وقاتل بقيتهم حميد، وكان الفضل بن الربيع مع إبراهيم فتحول إلى حميد وكاتب المطلب بن عَبْد الله بن مالك بأن يسلموه إليه. وكان سعيد بن الساحور والبط وغيرهم من القواد يكاتبون علي بن هشام بمثل ذلك. ولما علم إبراهيم بما اجتمعوا
عليه أقبل على مداراتهم إلى أن جُنّ الليل. ثم تسرب في البلد واختفى منتصف ذي الحجة من سنة ثلاث، وبلغ الخبر إلى حميد وعلي بن هشام، فأقبلوا إلى دار إبراهيم فلم يجدوه، وذلك لسنتين من بيعته. وأقام علي بن هشام على شرقي بغداد وحميد على غربيها وأظهر سهل بن سلامة ما كان يدعو إليه فقربه حميد ووصله. قدوم المأمون إلى العراق
لمّا وقعت هذه الفتن بالعراق بسبب الحسن بن سهل ونفور الناس من استبداده وأخيه على المأمون، ثم من العهد لعلي الرضا بن موسى الكاظم وإخراج الخلافة من بني العباس، وكان الفضل بن سهل يطوي ذلك عن المأمون ويبالغ في إخفائه حذراً من أن يتغير رأي المأمون فيه وفي أخيه. ولما جاء هرثمة للمأمون وعلم أنه يخبره بذلك وأن المأمون يثق بقوله، أحكم السعاية فيه عند المأمون حتى تغير له فقتله ولم يصغ إلى كلامه، فازدادت نفرة الشيعة وأهل بغداد وكثرت الفتن، وتحدث القواد في عسكر المأمون بذلك ولم يقدروا على إبلاغه، فجاؤا إلى علي الرضا وسألوه إنهاء ذلك إلى المأمون فأخبره بما في العراق من الفتنة والقتال، وأنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي فقال المأمون: إنما جعلوه أميراً يقوم بأمرهم! فقال ليس كذلك: وإن الحرب الآن قائمة بين ابن سهل وبينه، وإن الناس ينقمون عليك مكان الفضل والحسن ومكاني وعهدك لي. فقال له المأمون: ومن يعلم هذا غيرك؟ فقال: يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وغيرهما من وجوه قوادك. فاستدعاهم فكتموا حتى استأمنوا إليه ثم أخبروه بما أخبره به الرضا، وأن الناس بالعراق يتهمونه بالرفض لعهده لعلي الرضا، وأن طاهر بن الحسين مع علم أمير المؤمنين ببلائه قد دفع إلى الرقة وضعف أمره، والبلاد تفتقت من كل جانب، وإن لم يتدارك الأمر ذهبت الخلافة منهم. فاستيقن المأمون ذلك وأمر بالرحيل واستخلف على خراسان غسان بن عباد وهو ابن عم الفضل بن سهل، وعلم الفضل بن سهل بذلك فشرع في عقاب أولئك القواد فلم يغنه. ولما نزل المأمون شرحبيل وثب بالفضل أربعة نفر فقتلوه في الحمام وهربوا، وجعل المأمون جعلاً لمن جاء بهم، فجاء بهم العباس بن الهيثم الدينوري. فلما حضروا عند المأمون قالوا له: أنت أمرتنا بقتله! وقيل بل اختلفوا في القول فقال بعضهم: أمرنا بقتله ابن أخيه، وقال آخرون بل عَبْد العزيز بن عمران من القواد وعلي وموسى، وغيرهم وأنكر
آخرون. فأمر المأمون بقتلهم وقتل من أقروا عليه من القواد، وبعث إلى الحسن بن سهل وسار إلى العراق. وجاءه الخبر بأن الحسن بن سهل أصابته الماليخوليا واختلط فبعث ديناراً مولاه ووكله بأمور العسكر، وكان إبراهيم بن المهدي وعيسى بالمدائن، وأبو البط وسعيد بالنيل والحرب متصلة بينهم. والمطلب بن عَبْد الله بن مالك قد اعتل بالمدائن، فرجع إلى بغداد وجعل يدعو إلى المأمون سراً وإلى خلع إبراهيم، وأن يكون منصور بن المهدي خليفة المأمون، وداخله في ذلك خزيمة بن خازم وغيره من القواد. وكتب إلى علي بن هشام وحميد أن يتقدما فنزل حميد نهر صرصر وعلي النهروان، وعاد إبراهيم بن المهدي من المدائن إلى بغداد منتصف صفر، وقبض على منصور وخزيمة ومنع المطلب مواليه، فأمر إبراهيم بنهب داره ولم يظفر، ونزل حميد وعلي بن هشام المدائن وأقاما بها. وزوج المأمون في طريقه إبنته من علي الرضا، وبعث أخاه إبراهيم بن موسى الكاظم على الموسم، وولاه اليمن وكان به حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان قد غلب عليه. ولما نزل المأمون مدينة طوس مات علي الرضا فجأة آخر صفر من سنة ثلاث من عنب أكله، وبعث المأمون إلى الحسن بن سهل بذلك وإلى أهل بغداد وشيعته يعتذر من عهده إليه وأنه قد مات ويدعوهم إلى الرجوع لطاعته. ثم سار إلى جرجان وأقام بها أشهراً وعقد على جرجان لرجاء بن أبي الضحاك قاعداً وراء النهر، ثم عزله سنة أربع وعقد لغسان بن عباد من قرابة الفضل بن سهل على خراسان وجرجان وطبرستان وسجستان وكرمان وروبان ودهارير ثم عزله بطاهر كما نذكره. ثم سار إلى النهروان فلقيه أهل بيته وشيعته والقواد ووجوه الناس، وكان قد كتب إلى طاهر أن يوافيه بها، فجاء من الرقة ولقيه هنالك. وسار المأمون فدخل بغداد منتصف صفر من سنة أربعة فنزل الرصافة ثم نزل قصره بشاطىء دجلة، وبقي القواد في العسكر وانقطعت الفتن وبقي الشيعة يتكلمون في لبس الخضرة، وكان المأمون قد أمر طاهر بن الحسين أن يسأل حوائجه، فأول شيء سأل لبس السواد فأجابه؟ وقعد للناس وخلع عليه وعليهم الثياب السود، واستقامت الأمور . كانت الفتنة قد وقعت بالموصل بين بني شامة وبني ثعلبة، وكان علي بن الحسن الهمداني متغلباً عليها في قومه، فاستجارت ثعلبه بأخيه محمد فأمرهم بالخروج إلى البرية ففعلوا، وتبعهم بنو شامة في ألف رجل وحاصروهم بالقوجاء
ومعهم بنو ثعلب، وبعث علي ومحمد إليهم بالمدّد فقتلوا جماعة من بني شامة وأسروا منهم ومن بني ثعلب، فجاء أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي إلى علي فوادعه وسكنت الفتنة. ثم إن علي بن الحسين سطا بمن كان في الموصل من الأزد عسف في الحكم عليهم، وقال لهم يوماً الحقوا بعمان! فاجتمعت الأزد إلى السيد بن أنس كبيرهم وقاتلوه. وكان في تلك النواحي مهدي بن علوان من الخوارج، فأدخله علي بن الحسين وبايعه وصفى بالناس، واشتدت الحرب. ثم كانت إصراً على علي وأصحابه، وأخرجهم الأزد عن البلد إلى الحديثة ثم اتبعوهم فقتلوا علياً وأخاه أحمد في جماعة، ولجأ محمد إلى بغداد وملك السيد بن أنس والأزد والموصل، وخطب للمأمون. ولما قدم المأمون بغداد وفد عليه السيد بن أنس فشكاه محمد بن الحسين بن صالح واستعداه عليه بقتل أخويه وقومه، فقال نعم يا أمير المؤمنين ! ادخلوا الخارجي بلدك وأقاموا على منبرك وأبطلوا دعوتك فأهدر المأمون دماءهم.
ولاية طاهر علي خراسان ووفاته: كان المأمون بعد وصوله إلى العراق قد ولى طاهر بن الحسين الجزيرة والشرطة بجانبي بغداد والسواد، ودخل عليه يوماً في خلوته فأذن له بالجلوس وبكى ففداه. فقال المأمون: أبكي لأمر ذكره ذل وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن وقضى طاهر حديثه وانصرف. وكان حسين الخادم حاضراً فدسّ إليه على يد كاتبه محمد بن هرون أن يسأل المأمون عن مكاتبته على مائة ألف درهم ومثلها للكاتب، وخلا حسين بالمأمون وسأله ففطن وقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، والمعروف عندي ليس بضائع فعيبي عن غير المأمون. فأجابه وركب إلى المأمون وفاوضه في أمر خراسان، وأنها يخشى عليها من الترك وأن غسان بن عباد ليس بكفء لها. فقال: لقد فكرت في ذلك فمن ترى يصلح لها؟ قال طاهر بن الحسين: قال هو خالع: قال أنا ضامنه. فاستدعاه وعقد له من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق من حلوان إلى خراسان، وعسكر من يومه خارج بغداد، وأقام شهراً تحمل إليه كل يوم عشرة آلاف ألف درهم عادة صاحب خراسان. وولى المأمون مكانه بالجزيرة ابنه عَبْد الله، وكان
ينوب عن أبيه بالشرطة فحملها إلى ابن عمه إسحق بن إبراهيم بن مصعب، وخرج إلى عمله ونزل الرقة لقتال نصر بن شيث ثم سار طاهر إلى خراسان آخر ذي القعدة سنة خمس ومائتين. وقيل في سبب ولاية طاهر خراسان: إن عَبْد الرحمن المطوع جمع جموعاً كثيرة بنيسابور لقتال الحرورية ولم يستأذن غسان بن عبّاد وهو الوالي على خراسان، فخشي أن يكون ذلك من المأمون فاضطرب، وتعصب له الحسن بن سهل. وخشي المأمون على خراسان فولى طاهراً وسار إلى خراسان فأقام بها إلى سنة سبع، ثم اعتزم على الخلاف. وخطب يوماً فأمسك عن الدعاء للمأمون ودعا بصلاح الأمة، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون بخلعه، فدعا بأحمد بن أبي خالد فقال: أنت ضمنته فسر وأتني به. ثم جاء من الغد الخبر بموته، فقال المأمون للبريد ونعم الحمد لله الذي قدّمه وأخرنا. وولى طلحة من قبله، وبعث إليه المأمون أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره، فعبر أحمد إلى ما وراء النهر، وافتتح اشر وسنة، وأسر كاووس بن خالد أحمد وابنه الفضل وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لأحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضاً بألف ألف ولمكاتبته خمسمائة ألف درهم. ثم خالف الحسين بن الحسين بن مصعب بكرمان فسار إليه أحمد بن أبي خالد وأتى به إلى المأمون فعفا عنه.
ولاية عَبْد الله بن طاهر الرقة ومصر ومحار بته نصر بن شيث: وفي سنة ست ومائتين بلغ الخبر بوفاة يحيى بن معاذ عامل الجزيرة، وأنه استخلف ابنه أحمد، فولى المأمون عَبْد الله بن طاهر مكانه وجعل له ما بين الرقة ومصر، فأمره بحرب نصر بن شيث، وقيل ولاه سنة خمس، وقيل سنة سبع. واستخلف على الشرطة ببغداد إسحق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب وهو ابن عمه، وكتب إليه أبو طاهر كتاباً بالوصية جمع فيه محاسن الآداب والسياسة ومكارم الأخلاق، وقد ذكرناه في مقدمة كتابنا، فسار عَبْد الله بن طاهر لذلك، وبعث الجيوش لحصار نصر بن شيث بكيسوم في نواحي جانب، ثم سار إليه بنفسه سنة تسع ومائتين وأخذ بمخنقه. وبعث إليه المأمون محمد بن جعفر العامري يدعوه إلى الطاعة، فأجاب على شرط أن لا يحضر عنده. فتوقف المأمون وقال: ما باله ينفر مني فقال أبو جعفر لمّا
تقدم من ذنبه. فقال: فتراه أعظم ذنباً من الفضل بن الربيع وقد أخذ جميع ما أوصى له به الرشيد من الأموال والسلاح وذهب مع القواد إلى أخي، وأسلمني وأفسد علي حتى كان ما كان، ومن عيسى ابن أبي خالد وقد خالف علي ببلدي وأخرب داري، وبايع لإبراهيم دوني فقال ابن جعفر يا أمير المؤمنين هؤلاء لهم سوابق ودالة يبقون بها، ونصر ليست له في دولتكم سابقة، وإنما كان من جند بني أُمَيَّة، وأنا لا أجيب إلى هذا الشرط. ولح نصر في الخلاف حتى جهده الحصار واستأمن فأمنه عَبْد الله بن طاهر، وخرج إليه سنة عشرة وبعث به إلى المأمون، وأخرب حصن كيسوم لخمس سنين من حصاره. ورجع عَبْد الله بن طاهر إلى الرقة. ثم قدم بغداد سنة إحدى عشرة فتلقاه العباس بن المأمون والمعتصم وسائر الناس.
الظفر بابن عائشة وبإبراهيم بن المهدي: كان إبراهيم بن محمد بن عَبْد الوهاب بن إبراهيم الإمام ويعرف بابن عائشة ممن تولى كبر البيعة لإبراهيم بن المهدي، ومعه إبراهيم بن الأغلب ومالك بن شاهين، وكانوا قد اختفوا. عند قدوم المأمون في نواحي بغداد. ولما وصل نصر بن شيث وخرجت النظارة أنفذوا للخروج في ذلك اليوم، ثم غلبهم بعض الناس فأخذوا في صفر من سنة عشرة، ثم ضربوا حتى أقروا على من كان معهم في الأمر فلم يعرض لهم المأمون وحبسهم فضاق عليهم المحبس وأرادوا أن ينقبوه، فركب المأمون بنفسه وقتلهم وصلب ابن عائشة ثم صلى عليه ودفنه. ثم أخذ في هذه السنة إبراهيم بن المهدي وهو متنقب في زي امرأة يمشي بين إمرأتين، واستراب به بعض العسس وقال: أين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت في يده فازداد ريبة ورفعهن إلى صاحب المسلحة، وجاء بهن إلى أصاحب الجسر فذهب به إلى المأمون، وأحضره والغل في عنقه والملحبة على صدره ليراه بنو هاشم والناس. ثم حبسه عند أحمد بن أبي خالد، ثم أخرجه معه عندما سار الحسن بن سهل ليغنم الصلح، فشفع فيه الحسن وقيل ابنته بوران، وقيل: إن إبراهيم لمّا أخذ حُمل إلى دار المعتصم وكان عند المأمون فأدخله عليه وأنبه فيما كان منه. واعتذر بمنظوم من الكلام ومنثور أتى فيه من وراء الغاية وهو منقول في كتب التاريخ فلا نطيل بنقله.
انتفاض مصر والإسكندرية
كان السري بن محمد بن الحكم والياً على مصر وتوفي سنة خمس ومائتين، وبقي ابنه عَبْد الله، فانتقض وخلع الطاعة وأنزل بالإسكندرية جالية من الأندلس أخرجهم الحكم بن هشام من ربضي قرطبة وغربهم إلى المشرق. ولما نزلوا بالإسكندرية ثاروا وملكوها وولوا عليهم أبا حفص عمر البلوطي. وفشل عَبْد الله بن طاهر عنهم بمحاربة نصر بن شيث فلما فرغ منه ثار من الشام إليهم، وقدم قائداً من قوّاده، ولقيه ابن السرى وقاتله وأغذّ إبن طاهر المسير فلحقهم وهم في القتال، وانهزم ابن السري إلى مصر وحاصره عَبْد الله بن طاهر حتى نزل على الأمان، وذلك سنة عشرة. ثم بعث إلى الجالية الذين ملكوا الإسكندرية بالحرب، فسألوا الأمان على أن يرتحلوا إلى بعض الجزائر في بحر الروم مما يلي الإسكندرية ففعل. ونزلوا جزيرة أقريطش واستوطنوها وأقامت في مملكة المسلمين من أعقابهم دهراً إلى أن غلب عليها الإفرنجة.
العمال بالنواحي:
لمّا استقر المأمون ببغداد وسكن الهج وذلك سنة أربع، ولى على الكوفة أخاه أبا عيسى، وعلى البصرة أخاه صالحاً، وعلى الحرمين عَبْد الله بن الحسين بن عَبْد الله بن العبّاس بن علي بن أبي طالب، وعلى الموصل السيد بن أنس الأزدي، وولى على الشرطة ببغداد ومعاون السواد طاهر بن الحسين استقدمه من الرقة، وكان الحسن بن سهل ولاه عليها فقدم واستخلف إأبنه عَبْد الله عليها. ثم ولاه المأمون سنة خمس خراسان وأعمال المشرق كلها، واستقدم ابنه عَبْد الله فجعله على الشرطة ببغداد مكان أبيه. وولى يحيى بن معاذ على الجزيرة وعيسى بن محمد بن أبي خالد على أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. ومات عامل مصر السري بن محمد بن الحكم فولى ابنه عبيد الله مكانه.
ومات داود بن يزيد عامل السند فولى بشر بن داود مكانه على أن يحمل ألف ألف درهم كل سنة، ثم مات يحيى بن معاذ سنة ست واستخلف ابنه أحمد فعزله المأمون وولى مكانه عَبْد الله بن طاهر وأضاف إليه مصر، وسيره لمحاربة نصر بن شيث وولّى عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط سنة خمس، ثم عزله سنة ست وولّى داود بن منحور مع أعمال البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين وولّى
في سنة سبع محمد بن حفص على طبرستان والرويان ودنباوند. وفيها أوقع السيد بن أنس بجماعة من عرب بني شيبان ووديعة بما فشا من إفسادهم في البلاد، فكبسهم بالدسكرة واستباحهم بالقتل والنهب.
وفي سنة تسع ولّى صدقة بن على و يعرف بزريق على أرمينية وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك، وقام بأمره أحمد بن الجنيد الإسكافي فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل أذربيجان. وكان على جبال طبرستان شهريار بن شروين، فمات سنة عشر وقام مكانه إبنه سابور، فقتله مازيار بن قارن في حرب أسره فيها، وملك جبال طبرستان. وفي سنة إحدى عشرة قتل زريق بن علي بن صدقة الأزدي السيد بن أنس صاحب الموصل، وقد كان زريق تغلب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان وولاه المأمون عليها، فجمع وفصد الموصل لحرب السيد فخرج إليه أربعة آلاف، فاشتد القتال بينهم وقتل السيد في المعركة فغضب المأمون لقتله، وولّى محمد بن حميد الطوسي على الموصل وأمره بحرب زريق وبابك الخُرمي فسار إلى الموصل واستول عليها سنة إثنتي عشرة ومات موسى بن حفص عامل طبرستان فولى المأمون مكانه إبنه، وولّي حاجب بن صالح على الهند فوقعت بينه وبين بشر بن داود صاحب السند حرب، وانهزم بشر إلى كرمان. ثم قتل محمد بن حميد الطوسي سنة أربع عشرة، قتله بابك الخرمي. وذلك أنه لمّا فرغ من أمر المتغلبين بالموصل سار إلى بابك في العساكر الكاملة الحشد، وتجاوز إليه المضايق ووكل بحفظها حتى انتهى إلى الجبل، فصعد وقد أكمن بابك الرجال في الشعراء. فلما جاز ثلاثة فراسخ خرجت عليهم الكمائن، فانهزموا وثبت محمد بن حميد، حتى إذا لم يبق معه إلا رجل واحد فتسلل يطلب النجاة، فعثر في جماعة من الحربية يقاتلون طائفة من أصحابه فقصدوه وقتلوه، وعظم ذلك على المأمون. واستعمل عَبْد الله بن طاهر على خراسان لأنه كان بلغه أن أخاه طلحة بن طاهر مات وقام علي أخوه مكانه خليفة لعبد الله، وعبد الله بالدينور يجهز العساكر إلى بابك، فولى على نيسابور محمد بن حميد، فكثر عيث الخوارج بخراسان فأمره المأمون بالمسير إليها، فسار ونزل نيسابور، وسأل عن سيرة محمد بن حميد فسكتوا فعزله لسكوتهم. وفي سنة إثنتي عشرة خلع أحمد بن محمد العُمري ، يعرف بالأحمر، العين باليمن، فولّى المأمون ابنه العبّاس على الجزيرة والثغور والعواصم، وأخاه أبا إسحق المعتصم على الشام ومصر، وسير عَبْد الله بن طاهر إلى خراسان وأعطى لكل واحد منهم خمسمائة ألف درهم، وبعث المعتصم أبا عميرة الباذغيسي عاملاً على مصر فوثب به جماعة من القيسية واليمانية فقتلوه سنة أربع عشرة، فسار المعتصم إلى مصر فقاتلهم، وافتتح مصر وولّى عليها واستقامت الأمور. وفي سنة ثلاث عشرة ولى المأمون غسان بن عبّاس على السند لمّا بلغه خلاف بشر بن داود.
وفي سنة أربع عشرة استقدم المأمون أبا دُلف وكان بالكرخ من نواحي همذان منذ سار مع عيسى بن ماهان لحرب طاهر، وقتل عيسى فعاد إلى همذان، وراسله طاهر يدعوه إلى البيعة فامتنع . وقال له ولا أكون مع أحد وأقام بالكرخ. فلما خرج المأمون إلى الري أرسل إليه يدعوه فسار نحوه وجلاً بعد أن أغرى عليه أصحابه الامتناع. وفي سنة أربع عشرة قتل باليمن، وفيها ولّى المأمون عليّ بن هشام الجبل وقم وأصبهان وأذربيجان، وخلع أهل قم وكانوا سألوا الحُطيطة من خراجهم وهو ألف ألف درهم، لأن المأمون لمّا جاء من العراق أقام بالري أياماً وخفف عنهم من الخراج، فطمع أهل قم في مثلها فأبى فامتنعوا من الأداء، فسرح إليهم علي بن هشام وعجيف بن عنبسة وظفروا بهم وقتلوا يحيى بن عمران وهدموا سورها وجبوها على سبعة آلاف ألف. وفي سنة ست عشرة ظهر عبدوس الفهري بمصر وقتل بعض عمال المعتصم، فسار المأمون إلى مصر وأصلحها وأتى بعبدوس فقتله، وقدم من برقة وأقام بمصر. وفيها غضب المأمون على علي بن هشام ووجه عجيفاً وأحمد بن هشام لقبض أمواله وسلامه لمّا بلغه من تعسفه وظلمه، وأراد قتل عجيف واللحاق ببابك فلم يقدر، وظفر به عجيف وجاء به إلى المأمون فأمر بقتله، وطيف برأسه في الشام والعراق وخراسان ومصر ثم القي في البحر. وقدم غسان بن عبّاد من السند ومعه بشر بن داود متسأمناً فولى على السند عمران بن موسى العكي وهرب جعفر بن داود القفي إلى قم فخلع، وكان محبوساً بمصر منذ عزله المأمون عن قم، فهرب الآن وخلع فغلبه عليّ بن عيسى القمي وبعث به إلى المأمون فقتل. الصوائف:
وفي سنة مائتين قتل الروم ملكهم إليون لسبع سنين ونصف من ملكه، وأعادوا ميخاييل بن جرجس المخلوع، وبقي عليهم تسع سنين. ثم مات سنة خمس عشرة، وملك ابنه نوفل. وفتح عَبْد الله بن حرداوية، والي طبرستان البلاد والسيرن من بلاد الديلم وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليل ملك الديلم، وذلك سنة إحدى ومائتين. وفيها ظهر بابك الخرمي في الجاوندانية أصحاب جاوندان سهل، وتفسيره الدائم الباقي. وتفسير خرم فرح، وكانوا يعتقدون مذاهب المجوس. وفي سنة أربع عشرة خرج أبو بلال الصابي الشاري، فسرح إليه المأمون ابنه العبّاس في جماعة من القواد وقتلوه. وفي سنة خمس عشرة دخل المأمون بلاد الروم بالصائفة، وسار عن بغداد في المحرم واستخلف عليها إسحق بن إبراهيم بن مصعب وهو ابن عم طاهر، وولاه السواد وحلوان وكور دجلة، ولما وصل تكريت لقيه محمد بن علي الرضا فأجازه وزف إليه ابنته أم الفضل، وسار إلى المدينة فأقام بها وسار المأمون على الموصل إلى منبج ثم دابق ثم أنْطاكِية ثم المصيصة وطرطوس. ودخل من هنالك فافتتح حصن قرة عنوةً وهدمه. وقيل بل فتحه على الأمان، وفتح قبله حصن ماجد كذلك. وبعثه أشناس إلى حصن سدس، ودخل ابنه العباس ملطية، ووجه المأمون عجيفاً وجعفر الخياط إلى حصن سنان فأطاع. وعاد المعتصم من مصر فلقي المأمون قبل الموصل، ولقيه العبّاس ابنه برأس عين. وجاء المأمون منصرفه من العراق إلى دمشق، ثم بلغه أن الروم أغاروا على طرسوس والمصيصة وأثخنوا فيهم بالقتل. وكتب إليه ملك الروم فيه بنفسه فرجع إليهم وافتتح كثيراً من معاقلهم وأناخ على هرقلة حتى استأمنوا وصالحوه، وبعث المعتصم فافتتح ثلاثين حصناً منها مطمورة، وبعث يحيى بن أكثم فأثخن في البلاد، وقتل وحرق وسبى. ثم رجع المأمون إلى كيسوم فأقام بها يومين ثم ارتحل إلى دمشق.
وفي سنة سبع عشرة رجع المأمون إلى بلاد الروم فأناخ على لؤلؤة فحاصرها مائة يوم، ثم رحل عنها وخلف عجيفاً على حصارها. وجاء نوفل ملك الروم فأحاط به فبعث إليه المأمون بالمدد، فارتحل نوفل واستأمن من أهل لؤلؤة إلى عجيف، وبعث نوفل في المهادنة والمأمون على سلوين فلم يجبه. ثم رجع المأمون سنة ثمان عشرة وبعث إبنه العبّاس إلى بناء طوانة فبنى بها ميلاً في ميل ودورها أربعة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب ونقل إليها الناس من البلدان.
وفاة المأمون وبيعة المعتصم:
ثم مرض المأمون على نهر البربرون واشتد مرضه، ودخل العراق وهو مريض فمات بطرسوس، وصلى عليه المعتصم وذلك لعشرين سنة من خلافته، وعهد لابنه المعتصم وهو أبو إسحاق محمد فبويع له بعد موته، وذلك منتصف رجب من سنة ثمان عشرة
ومائتين. وشغب الجند وهتفوا باسم العبّاس بن المأمون فأحضره وبايع، فسكتوا وخرب لوقته ما كان بناه من مدينة طوانة وأعاد الناس إلى بلادهم وحمل ما أطاق حمله من الآلة وأحرق الباقي.
ظهور صاحب الطالقان: وهو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي زين العابدين بن الحسين، كان ملازما للمسجد بالمدينة، فلزمه شيطان من أهل خراسان وزين له أنه أحق بالإمامة، وصار يأتيه بحجّاج خراسان يبايعونه. ثم خرج به إلى الجوزجان وأخفاه وأقبل علي الدعاء له، ثم حمله على إظهار الدعوة للرضا من آل محمد على عادة الشيعة في هذا الإبهام كما قدمناه. وواقعه قواد عَبْد الله بن طاهر بخراسان المرة بعد المرة فهزموه وأصحابه، وأخرج ناجياً بنفسه ومر بنسا، فوشي به إلى العامل فقبض عليه وبعثه إلى عَبْد الله بن طاهر، فبعثه إلى المعتصم منتصف ربيع أول سنة تسع عشرة فحبسه عند الخادم مسرور الكبير، ووكل بحفظه فهرب من محبسه ليلة الفطر من سنته ولم يوقف له على خبر.
حرب الزّط:
وهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد، وولّوا عليهم رجلاً منهم إسمه محمد بن عثمان، وقام بأمره آخر منهم إسمه سماق. وبعث المعتصم لحربهم في هذه السنة عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة فسار إلى واسط وحاربهم، فقتل منهم في معركة ثلثمائة وأسر خمسمائة، ثم قتلهم وبعث برؤوسهم إلى باب المعتصم وأقام قبالتهم سبعة أشهر. ثم استأمنوا إليه في ذي الحجة آخر السنة وجاؤا بأجمعهم في سبعة وعشرين ألفاً، المقاتلة منهم إثنا عشرألفاً، فعباهم عجيف في السفن على هيئتهم في الحرب ودخل بهم بغداد في عاشوراء سنة عشرين، وركب المعتصم إلى الشماسة في سفينة حتى رآهم، ثم غربهم إلى عين زربة فأغارت عليهم الروم فلم يفلت منهم أحد. بناء سامرا: كان المعتصم قد اصطنع قوماً من أهل الحرف بمصر وسماهم المطاربة، وقوماً من سمرقند وأش روسنة وفرغانة وسماهم الفرغانة وأكثر من صبيانهم، وكانوا يركضون الدواب في الطرق ويختلفون بها ركضاً فيصدمون النساء والصبيان فتتأذى العامة بهم، وربما انفرد بعضهم فقتلوه. وتأذى الناس من ذلك ونكروه، وربما أسمعوا النكير للمعتصم، فعمد إلى بناء القاطون، وكانت مدينة بناها الرشيد ولم يستتمها وخربت، فجددها المعتصم وبناها سنة عشرين وسماها سرّ من رأى فرخمها الناس سامرا وصارت داراً لملكهم من لدن المعتصم ومن بعده، واستحلف ببغداد حتى انتقل إليها ابنه الواثق.
نكبة الفضل بن مروان
كان للمعتصم في ولاية أخيه كاتب يعرف بيحيى الجرمقابي، واتصل به الفضل بن مروان، وهو من البردان، وكان حسن الخط. فلما هلك الجرمقابي استكتبه المعتصم وسار معه إلى الشام فأثرى. ولما استخلف المعتصم استولى على هواه واستتبع الدواوين واحتجر الأموال، ثم صار يرد أوامر المعتصم في العطايا ولا ينفذها، واختلفت فيه السعايات عند المعتصم ودسوا عليه عنده من ملأ مجلسه ومساخره من يعير المعتصم باستبداده عليه ورد أوامره، فحقد له ذلك. ثم نكبة سنة عشرين وصادره وجميع أهل بيته، وجعل مكانه محمد بن عَبْد الملك بن الزيات وغرب الفضل إلى بعض قرى الموصل. محاربة بابك الخرمي:قد تقدم لنا حديث بابك الخرمي وظهوره سنة إثنتين ومائتين بدعوة جاوندان بن سهل، واتخذ مدينة البذّ لامتناعه وولّى المأمون حروبه، فهزم عساكره وقتل جماعة من قواده، وخرب الحصون فيما بين أردبيل وزنجان، فلما ولي المعتصم بعث أبا سعيد محمد بن يوسف فبنى الحصون التي خربها وشحنها بالرجال والأقوات، وحفظ السابلة لجلب الميرة. وبينما هو في ذلك أغارت بعض سرايا بابك بتلك النواحي فخرج في طلبهم واستنقذ ما أخذوه، وقتل كثيراً وأسر أكثر، وبعث بالرؤوس والأسرى إلى المعتصم. وكان ابن البعيث أيضاً في قلعة له حصينة من كور أذربيجان ملكها من يد ابن الرواد، وكان يصانع بابك ويضيف سراياه إذا مروا به. ومرّ به في هذه الأيام قائده عصمة، وأضافه على العادة ثم قبض عليه وقتل أصحابه وبعث به إلى المعتصم، فسأله عن عورات بلاد بابك فدله عليها. ثم حبسه وعقد لقائده الأفشين حيدر بن كاوس على الجبال، ووجهه لحرب بابك، فسار إليها ونزل بساحتها وضبط الطرقات ما بينه وبين أردبيل، وأنزل قواده في العساكر ما بينه وبين أردبيل يتلقون الميرة من أردبيل من واحد إلى الآخر حتى تصل عكسر الأفشين. وكان إذا وقع بيده أحد من جواسيس بابك يسأله عن إحسان بابك إليه فيضاعفه ويطلقه. ثم إن المعتصم بعث بغا الكبير بمدد الأفشين بالنفقات، وسمع بابك فاعتزم على اعتراضه، وأخبر الأفشين بذلك بعض جواسيسهم فكتب إلى بغا أ ن يرتحل من حصن النهرقيلا، ثم يرجع إلى أردبيل ففعل ذلك.وجاءت الأخبار إلى بابك وركب الأفشين في يوم مواعدته لبغا وأغذ المسير،وخرجت سرية بابك فلقيت قافلة النهر، ولم يصادفوا بغا فيها فقتلوا من وجدوا فيها من الجند وفاتهم المال. ولقوا في طريقهم الهيثم من قواد الأفشين فهزموه وامتنع بحصنه، ونزل بابك عليه يحاصره وإذا بالأفشين قد وصل، فأوقع بهم، وقتل الكثير من جنده؟ ونجا بابك إلى موقان وأرسل إلى عسكره في البر فلحقت به، وخرج معهم من موقان إلى البذّ. ولما رجع الأفشين إلى عسكره استمر على حصار بابك وانقطعت عنه الميرة من سائر النواحي، ووجه صاحب مراغة إليه ميرة فلقيتها سرية من سرايا بابك فأخذوها، ثم خلص إليه بغا بما معه من المال ففرقه في العساكر، وأمر الأفشين قواده فتقدموا ليضيقوا الحصار على بابك في حصن البذّ، ونزل على ستة أميال منه. وسار بغا الكبير حتى أحاط بقرية البذّ وقاتلهم وقتلوا منهم جماعة، فتأخر إلى خندق محمد بن حميد من القواد، وبعث إلى الأفشين في المدد فبعث إليه أخاه الفضل وأحمد بن الخليل بن هشام وأبا خوس وصاحب شرطة الحسن بن سهر، وأمره بمناجزتهم إلى الحرب في يوم عينه فركبوا في ذلك اليوم، وقصدوا البذّ وأصابهم برد شديد ومطر. وقاتل الأفشين فغلب من بإزائه من أصحاب بابك واشتد عليهم المطر فنزلوا واتخذ بغا دليلاً أشرف به على جبل يطل منه على الأفشين، ونزل عليهم الثلج والضباب فنزلوا منازلهم. وعمد بابك إلى الأفشين ففض معسكره، وضجر أصحاب بغا من مقامهم في رأس الجبل فارتحل بهم ولا يعلم ما تم على الأفشين، وقصد حصن البذّ فتعرف خبر الأفشين ورجع على غير الطريق الذي دخلوا منه لكثرة مضايقه وعقباته، وتبعته طلائع بابك فلم يلتفت إليهم مسابقة للمضايق أمامه. وأجنهم الليل وخافوا على أثقالهم وأموالهم فعسكر بهم بغا من رأس جبل وقد تعبوا وفنيت أزوادهم وبيتهم بابك، ففضهم ونهبوا ما كان معهم من المال والسلاح ونجوا إلى خندقهم الأول في أسفل الجبل وأقام بغا هنالك. وكان طرخان كبير قواد بابك قد استأذنه أن يشتوا بقرية في ناحية مراغة، فأرسل الأفشين إلى بعض قواده بمراغة فأسرى إليه وقتله وبعث برأسه. ودخلت سنة إثنتين وعشرين فبعث المعتصم جعفر الخياط بالعساكر مدداً للأفشين، وبعث أتياخ بثلاثين ألف ألف درهم لنفقات الجند فأرسلها وعاد، ورحل الأفشين لأول فصل الربيع، ودنا من الحصن وخندق على نفسه. وجاءه الخبر بأن قائد بابك واسمه أدين قد عسكر بإزائه وبعث عياله إلى بعض حصون الجبل، فبعث الأفشين بعض قواده لاعتراضهم، فسلكوا مضايق وتملقوا وأغاروا إلى أن لقوا العيال فأخذوهم وانصرفوا، وبلغ الخبر أدين فركب لاعتراضهم وحاربهم واستنقذ بعض النساء. وعلم بشأنهم الأفشين من علامات كان أمرهم بها أن رأى بهم ريباً، فركب إليهم فلما أحسوا به فرجوا عن المضيق ونجا القوم، وتقدم الأفشين قليلاً قليلاً إلى حصن البذّ وكان يأمر الناس بالركوب ليلاً للحراسة خوف البيات، فضجر الناس من التعب وارتاد في رؤوس تلك الجبال أماكن يتحصن فيها الرجالة، فوجد ثلاثة فأنزل فيها الرجالة بأزوادهم وسد الطرق إليها بالحجارة وأقام يحاصرهم. وكان يصلي الصبح بغلس، ثم يسير زحفاً ويضرب الطبول ليزحف الناس لزحفه في الجبال والأودية على مصافهم، وإذا أمسك وقفوا. وكان إذا أراد أن يتقدم المضيق الذي أتى منه عام أول خلّف به عسكرأ على رأس العقبة يحفظونه لئلا يأخذه الحرس منه عليهم. وكان بابك متى زحفوا عليه كمن عسكراً تحت تلك العقبة، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان الكمين فلم يطق. وكان يأمر أبا سعيد وجعفراً الخياط وأحمد بن الخليل بن هشام فيتقدمون إلى الوادي في ثلاثة كراديس، ويجلس على تلك ينظر إليهم وإلى قصر بابك. ويقف بابك قبالته فى عسكر قليل وقد أكمن بقية العسكر، فيشربون الخمر ويلعبون بالسرياني، فإذا صلى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذ الروز مصافاً بعد مصاف، الأقرب إلى العدو ثم الذي يليه، وآخرين ترجع العسكر الذي عقبه المضيق، حتى ضجرت الخرمية من المطاولة، وانصرف بعض الأيام وتأخر جعفر، فخرج الخرمية من البذّ على أصحابه، فردهم جعفر على أعقابهم، وارتفع الصياح ورجع الأفشين وقد نشبت الحرب. وكان مع أبي دلف من أصحاب جعفر قوم من المطوعة فضيقوا على أصحاب بابك وكانوا يصدعون البذّ، وبعث جعفر إلى الأفشين يستمده خمسمائة راجل من الناشبة، فأتى له وأمره بالتحيل في الانصراف، وتعلق أولئك المطوعة بالبذّ وارتفع الصياح وخرج الكمناء من تحت العقبة، وتبين الأفشين أماكنهم واطلع على خدعتهم. وانصرف جعفر إلى الأفشين وعاتبه، فاعتذر إليه يستأمن الكمين وأراه مكانه، فانصرف عن عتابه وعلم أن الرأي معه. وشكا المطوعة ضيق العلوفة والزاد فأذن لهم في الانصراف، وتناولوه بألسنتهم طلبوه في المناهضة فأذن لهم ووادعهم ليوم معلوم، وتجهز وحمل المال والزاد والماء والمحامل لجرجان، وتقدم إلى مكانه بالأمس، وجهز العسكر على العقبة على عادته. وأمر جعفراً بالتقدم بالمطوعة وأن يأتوا من أسهل الوجوه، وأطلق يده بمن يريده من الناشبة والنفاطين، وتقدم جعفر إلى مكانه بالأمس والمتطوعة معه، فقاتلوا وتعلقوا بسور البذّ حتى ضرب جمعهم ما به وجاء الفعلة بالفؤوس وطيف عليهم بالمياه والأزودة. ثم جاء الخرمية من الباب وكسروا على المطوعة وطرحوهم على السور ورموهم بالحجارة فنالت منهم وضعفوا عن الحرب، ثم تحاجزوا آخر يومهم وأمرهم الأفشين بالانصراف وداخلهم اليأس من الفتح تلك السنة، وانصرف أكثر المطوعة. ثم عاود الأفشين الحرب بعد أسبوعين، وبعث من جوف الليل ألفاً من الناشبة إلى الجبل الذي وراء البذّ حتى يعاينوا الأفشين من هذه الناحية فيرمون على الخرمية. وبعث عسكراً آخر كميناً تحت ذلك الجبل الذي وراء البذّ، وركب هو من الغداة إلى المكان الذي يقف فيه على عادته. وتقدم جعفر الخياط والقواد حتى صاروا جميعاً حول ذلك الجبل، فوثب كمين بابك من أسفل الجبل بالعسكر الذي جاء إليه لمّا فضحهم الصبح، وانحدر الناشبة من الجبل وقد ركبوا الأعلام على رماحهم وقصدوا جميعاً أدين قائد بابك في جفلة، فانحدر إلى الوادي، فحمل عليه جماعة من أصحاب القواد فرمى عليهم الصخور من الجبل، وتحدرت إليهم. ولما رأى ذلك بابك استأمن للأفشين على أن يحمل عياله من البذّ، وبينما هم في ذلك إذ جاء الخبر إلى الأفشين بدخول البذّ. وأن الناس صعدوا بالأعلام فوق قصور بابك حتى دخل وادياً هنالك.
وأحرق الأفشين قصور بابك وقتل الخرمِيه عن آخرهم، وأخذ أمواله وعياله ورجع إلى معسكره عند المساء، وخالفه بابك إلى الحصن فحمل ما أمكنه من المال والطعام. وجاء الأفشين من الغد فهدم القصور وأحرقها، وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم بإذكاء العيون عليه في نواحيهم حتى يأتوه به. ثم عثر على بابك بعض العيون في واد كثير الغياض يمر من أذربيجان إلى أرمينية، فبعث من يأتي فلم يعثروا عليه لكثرة الغياض والشجر. وجاء كتاب المعتصم بأمانه فبعث به الأفشين بعض المستأمنة أصحاب بابك فامتنع من قبوله. وقتل بعضهم ثم خرج من ذلك الوادي هو وأخوه عَبْد الله ومعاوية وأمه يريدون أرمينية، ورآهم الحرس الذين جاؤا لأخذه، وكان أبو السفاح هو المقدّم عليهم فمروا في أتباعهم وأدركوهم على بعض المياه، فركب ونجا وأخذ أبو السفاح معاوية وأم بابك وبعث بهم إلى الأفشين. وسار بابك في جبال أرمينية مختفياً وقد أذكوا عليه العيون، حتى إذا مسه الجوع بعث بعض أصحابه بدنانير لشراء قوتهم، فعثر به بعض المسلحة. وبعث إلى سهل بن ساباط فجاء واجتمع بصاحب بابك الذي كانت حراسة الطريق عليه، ودله على بابك فأتاه وخادعه حتى سار إلى حصنه وبعث بالخبر إلى الأفشين، فبعث إليه بقائدين من قبله وأمرهما بطاعة ابن ساباط، فأكمنهما في بعض نواحي الحصن وأغرى بابك بالصيد وخرج معه. فخرج القائدان من الكمين فأخذاه وجاء به إلى الأفشين ومعهما معاوية بن سهل بن ساباط فحبسه ووكل بحفظه وأعطى معاوية ألف درهم، وآتى سهلاً ألف ألف درهم ومنطقة مفرقة بالجوهر. وبعث إلى عيسى بن يوسف بن أسطقانوس ملك البيلقان يطلب منه عَبْد الله أخا بابك، وقد كان لجأ إلى حصنه عندما أحاط به ابن ساباط فأنفذه إليه، وحبسه الأفشين مع أخيه. وكتب إلى المعتصم فأمره بالقدوم بهما وذلك في شوال من سنة إثنتين وعشر ين،وسار الأفشين بهما إلى سامرا فكان يلقاه في كل رحلة رسول من المعتصم بخلعة وفرس. ولما قرب من سامرا تلقاه الواثق وكبر لقدومه وأنزل الأفشين وبابك عنده بالمطيرة، وتوج الأفشين وألبسه وشاحين ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في عسكره، وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين. وجاء أحمد بن أبي داود إلى بابك متنكراً وكلمه، ثم جاء المعتصم أيضاً متنكراً فرآه. ثم عقد من الغد واصطف النظارة سماطين وجيء ببابك راكباً على الفيل. فلما وصلا أمر المعتصم بقطع أطرافه ثم بذبحه، وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب شلوه بسامرا وبعث بأخيه عَبْد الله إلى إسحق بن إبراهيم ببغداد ليفعل به مثل ذلك ففعل. وكان الذي أنفق الأفشين في مدة حصاره لبابك سوى الأرزاق والأنزال والمعاون عشرة آلاف ألف درهم يوم ركوبه لمحاربته وخمسة آلاف يوم قعوده. وجميع من قتل بابك في عشرين سنة أيام قتيبة مائة ألف وخمسة وخمسين ألفاً، وهزم من القواد يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث. وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلثمائة والذي استنقذ من يديه من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة إنسان جعلوا في حظيرة، فمن أتى من أوليائهم وأقام بينه على أحد منهم أخذه، والذي صار في يد الأفشين من بني بابك وعياله سبعة عشر رجلاً وثلاثاً وعشرين امرأة.
فتح عمورية
وفي سنة ثلاث وعشرين خرج نوفل بن ميخاييل ملك الروم إلى بلاد المسلمين،فأوقع بأهل زبطرة ، لأن بابك لمّا أشرف على الهلاك كتب إليه أن المعتصم قد وجه عساكره حتى خياطة يعني جعفر بن دينار وطباخة يعني إيتاخ ولم يبق عنده أحد، فانتهز الفرصة ثلاثاً أو دونها. وظن بابك، أن ذلك يدعو المعتصم إلى إنفاذ العساكر لحرب الروم، فيخص عنه ما هو فيه. فخرج نوفل في مائة ألف وفيهم من المجمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال وهزمهم إسحق بن إبراهيم بن مصعب فلحق بالروم، وبلغ نوفل زبطرة فاستباحها قتلاً وسبياً وأعاد على ملطية وغيرها، ومثل بالأسرى. وبلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه فأجاب وهو على سريره لبيك، لبيك ! . ونادى بالنفير ونهض من ساعته فركب دابته واحتقب شكالاً وسكة من حديد فيها رداؤه. وجمع العساكر وأحضر قاضي بغداد عَبْد الرحمن بن إسحق ومعه ابن سهل في - ثلثمائة وثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من الضياع، ثلثاً لولده وثلثاً لمواليه وثلثاً لوجه الله. وسار فعسكر بقرى دجلة لليلتين من جمادى الأولى، وبعث عجيف بن عنبسة وعمر الفرغاني وجماعة من القواد مدّداً لأهل زبطرة، فوجدوا الروم قد ارتحلوا عنها فأقاموا حتى تراجع الناس واطمأنوا . ولما ظفر ببابك سأل أي بلاد الروم أعظم عندهم فقيل له عمورية فتجهز إليها بما لا يماثله أحد قبله من السلاح والآلة والعدد وحياض الأدم والقرب والروايا وجعل مقدمته أشناس وبعده محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى الميمنة إيتاخ، وعلى الميسرة جعفر بن دينار الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة. وجاء إلى بلاد الروم فأقام بسلوقية على نهر السن قريبا من البحر، وعلى مسيرة يوم من طرطوس وبعث الأفشين إلى سروج وأمره بالدخول من درب الحرب وبعث أشناس من درب طرطوس وأمره بانتظاره بالصفصاف، وقدم وصيفاً في أثر أشناس وواعدهم يوم اللقاء. ورحل المعتصم لست بقين من رجب وبلغه الخبر أن ملك الروم عازم على كبس مقدمته، فبعث إلى أشناس بذلك وأن يقيم ثلاثة أيام ليلحق به. ثم كتب إليه أن يبعث إليه من قواده من يأتيه بخبر الروم وملكهم، فبعث عمر الفرغاني في مائتي فارس، فطاف في البلاد وأحضر جماعة عند أشناس أخبروه بأن ملك الروم بينما هو ينتظر المقدمة ليواقعها إذ جاءه الخبر بأن العساكر دخلت من جهة أرمينية يعني عسكر الأفشين، فاستخلف ابن خاله على عسكره وسار إلى تلك الناحية، فوجه أشناس بهم إلى المعتصم. وكتب المعتصم إلى الأفشين بالمقام حذراً عليه، وجعل لمن يوصل الكتاب عشرة آلاف درهم، وأوغل في بلاد الروم فلم يدركه الكتاب. وكتب المعتصم إلى أشناس بأن يتقدم والمعتصم في أثره، حتى إذا كانوا على ثلاث مراحل من أنقرة أسر أشناس في طريقه جماعة من الروم فقتلهم، وقال لهم شيخ منهم أنا أدلك على قوم هربوا من أنقرة معهم الطعام والشعيرة، فبعث معه مالك بن كرد في خمسمائة فارس فدل بهم إلى مكان أهل أنقرة فغنموا منهم ووجدوا فيهم جرحى قد حضروا وقعة ملك الروم مع الأفشين وقالوا: لمّا استخلف على عسكره سار إلى ناحية أرمينية فلقينا المسلمين صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجالهم وافترقت عساكرنا في طلبهم، ثم رجعوا بعد الظهر فقاتلونا وحرقوا عسكرنا وفقدنا الملك وانهزمنا، ورجعنا إلى العسكر فوجدناه قد انتقض. وجاء الملك من الغد فقتل نائبه الذي استخلفه وكتب إلى بلاده بعقاب المنهزمين ومواعدتهم بمكان كذا ليلقى المسلمين بها. ووجه خصيا له إلى أنقرة ليحفظها فوجد أهلها قد أجلوا، فأمره الملك بالمسير إلى عمورية، فوعى مالك بن كرد خبرهم ورجع بالغنيمة والأسرى إلى أشناس وأطلق الأمير الذي دله. وكتب أشناس بذلك إلى المعتصم، ثم جاء البشير من ناحية الأفشين بالسلامة،وأن الوقعة كانت لخمس بقين من شعبان. وقدم الأفشين على المعتصم بأنقرة ورحل بعد ثلاث والأفشين في ميمنته وأشناس في ميسرته وهو في القلب، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمرهم بالتخريب والتحريق ما بين أنقرة وعمورية . ثم وافى عمورية وقسمها على قواده، وخرج إليه رجل من المنتصرة فدته على عورة من السور بني ظاهره وأخل باطنه، فضرب المعتصم خيمته قبالته ونصبت عليه المجانيق، فتصدع السور. وكتب بطريقها باطيس والخصي إلى الملك يعلمانه بشأنهما في السور وغيره، فوقع في يد المسلمين مع رجلين. وفي الكتاب أن باطيس عازم على أن يخرج ليلاً ويمر بعسكر المسلمين للحاق بالملك، فنادى المعتصم حرسه. ثم انثلمت فوهة من السور بين برجين، وقد كان الخندق طم بأوعية الجلود المملوءة تراباً. ثم ضرب بالذبالات عليها فدحرجها الرجال إلى السور، فنشبت في تلك الأوعية وخلص من فيها بعد الجهد. ولما جاء من الغد بالسلالم والمنجنيقات فقاتلوهم على تلك الثلمة، وحارب وبدر بالحرب أشناس وجمعت المنجنيقات على تلك الثلمة. وحارب في اليوم الثاني الأفشين والمعتصم راكب إزاء الثلمة، وأشناس وأفشين وخواص الخدام معه. ثم كانت الحرب في اليوم الثالث على المعتصم، وتقدم إيتاخ بالمغاربة والأتراك،واشتد القتال على الروم إلى الليل وفشت فيهم الجراحات، ومشى بطريق تلك الناحية إلى رؤساء الروم، وشكا إليهم واستمدهم فأبوا، فبعث إلى المعتصم يستأمن، فأمنه وخرج من الغد إلى المعتصم وكان إسمه وندوا، فبينما هو والمعتصم يحادثه أومأ عَبْد الوهاب
بن علي من لين يديه إلى المسلمين بالدخول، فافتتحوا من الثلمة ورآهم وندوا فخاف، فقال له المعتصم: كل شيء تريده هو لك. ودخل المسلمون المدينة وامتنع الروم بكنيستهم وسطها فأحرقها المسلمون عليهم. وامتنع باطيس البطريق في بعض أبراجها حتى استنزله المعتصم بالأمان، وجاء الناس بالأسرى والسبي من كل جانب، واصطفى الأشراف وقتل من سواهم، وبيعت مغانمهم في خمسة أيام وأحرق الباقي. ووثب الناس على المغانم في بعض الأيام ينهبونها فركب المعتصم وسار نحوهم فكفوا بعمورية فهدمت وأحرقت، وحاصرها خمسة وخمسين يوماً من سادس رمضان إلى آخر شوال، وفرق الأسرى على القواد ورجع نحو طرطوس. ولم يزل نوفل ملكاً على الروم إلى أن هلك سنة تسع وعشرين ومائتين في ولاية الواثق، ونصبوا ابنه ميخاييل فى كفالة أمه ندورة فأقامت عليهم ست سنين، ثم اتهمها ابنها ميخاييل بقمط من أقماطها عليها وألزمها بيتها سنة ثلاث وثلاثين.
حبس العباس بن المأمون ومهلكه
كان المعتصم يقدم الأفشين على عجيف بن عنبسة ولما بعثه إلى زبطرة لم يطلق يده في النفقات كما أطلق للأفشين، وكان يستقصر شأن عجيف وأفعاله فطوى عجيف على النكث ولقي العباس بن المأمون فعذله على قعوده عند وفاة المأمون عن الأمر حتى بويع المعتصم وأغراه قبلاً في ذلك فقبل العباس منه، ودس رجلاً من بطانته يقا ل له السمرقندي قرابة عَبْد الله بن الوضاح وكان له أدب ومداراة، فاستأمن له جماعة من القواد ومن خواص المعتصم فبايعوه، وواعد كل واحد منهم أن يثب بالقائد الذي معه فيقتله من أصحاب المعتصم، والأفشين وأشناس بالرجوع إلى بغداد فأبى من ذلك وقال: لا أفسد العراق. فلما فتحت عمورية وصعب التدبير بعض الشيء أشار عجيف بأن يضع من ينهب الغنائم، فإذا ركب المعتصم وثبوا به ففعلوا مثل ما ذكرنا. وركب فلم يتجاسروا عليه.وكان للفرغاني قرابة غلام أمرد في جملة المعتصم، فجلس مع ندمان الفرغاني تلك الليلة وقص عليهم ركوب المعتصم، فأشفق الفرغاني وقال يا بني أقلل من المقام عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، وإن سمعت هيعة فلا تخرج فأنت غلام غر. ثم ارتحل المعتصم إلى الثغور، وتغير أشناس على عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل وأساء إليهما، فطلبا من المعتصم أن يضمهما إلى من شاء وشكيا من أشناس، فقال له المعتصم أحسن أدبهما، فحبسهما وحملهما على بغل. فلما صار بالصفصاف حدث الغلام ما سمع من قريبه عمر الفرغاني، فأمر بغا أن يأخذه من عند أشناس ويسأله عن تأويل مقالته فأنكر وقال إنه كان سكران، فدفعه إلى إيتاخ. ثم دفع أحمد بن الخليل إلى أشناس [*] عنده نصيحة للمعتصم، وأ خبره خبر العباس بن المأمون والقواد والحرث السمرقندي، فأنفذ أشناس إلى الحرث وقيده وبعث به إلى المعتصم وكان في المقدمة، فأخبر الحرث المعتصم بجلية الأثر فأطلقه وخلع عليه، ولم يصدقه على القواد لكثرتهم. ثم حضر العباس بن المأمون واستحلفه أن لا يكتم عنه شيئا فشرح له القصة فحبسه عند الأفشين، وتتبع القواد بالحبس والتنكيل وقتل منهم المشاء بن سهيل ثم دفع العبّاس للأفشين، فلما نزل منبج طلب الطعام فأطعم ومنع الماء. ثم أدرج في بج فمات. ولما وصل المعتصم إلى نصيبين احتفر لعمر الفرغاني بئراً وطمت عليه، ولما دخلوا بلاد الموصل قتل عجيف بمثل ما قتل به العبّاس، واستلحم جميع القواد في تلك الأيام، وسموا العباس اللعين. ولما وصل إلى سامرا جلس أولاد المأمون في داره حتى ماتوا.
انتقاض مازيار وقتله
كان مازيار بن قارن بن وندا هرمز صاحب طبرستان وكان منافراً لعبد الله بن طاهر فلا يحمل إليه الخراج، وقال لا أحمله إلا للمعتصم، فيبعث المعتصم من يقبضه من أصحابه ويدفعه إلى وكيل عَبْد الله بن طاهر يرده إلى خراسان، وعظمت الفتنة بين مازيار وعبد الله، وعظمت سعاية عَبْد الله في مازيار عند المعتصم حتى استوحش منه. ولما ظفر الأفشين ببابك، وعظم محله عند المعتصم، وطمع في ولاية خراسان ظن أن انتقاض مازيار وسيلة لذلك، فجعل يستميل مازيار ويحرضه على عداوة ابن طاهر وإنّ
أدت إلى الخلاف ليبعثه المعتصم لحربه؟ فيكون ذلك وسيلة له إلى استيلائه على خراسان ظنا بأن ابن طاهر لا ينهض لمحاربته. فانتقض مازيار وحمل الناس على بيعته كرهاً وأخذ رهائنهم وعجل جباية الخراج، فاستكثر منه وخرب سور آمد وسور سابة وفتل أهلها إلى جبل يعرف بهرمازا باروني سرخاشان سورطمس، منها إلى البحر على ثلاثة أميال، وهي على حد جرجان ، وكانت تبنيه سداً بين الترك وطبرستان وجعل عليه خندقاً ومن أهل جرجان إلى نيسابور، وأنفذ عَبْد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين في جيش كثيف لحفظ جرجان فعسكر على الخندق، ثم بعث مولاه حيان بن جبلة إلى قومس فعسكر على جبال شروين. وبعث المعتصم من بغداد محمد بن إبراهيم بن مصعب، وبعث منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري، وبعث أبا الساج إلى دنباوند وأحاطت العساكر بحياله من كل ناحية وداخل أصحاب الحسن بن الحسين أصحاب سرخاشان في تسليم سورهم وليس بينهما إلا عرض الخندق، فكلموه وسار الآخرون إليه على حين غفلة من القائدين، وركب الحسن بن الحسين وقد ملك أصحابه السور ودخلوا منه، فهرب سرخاشان وقبضوا على أخيه شهريار فقتل، ثم قبض على سرخاشان على خمسة فراسخ من معسكره، وجيء به إلى الحسن بن الحسين فقتله أيضا. ثم وقعت بين حيان بن جبلة وبين فارو بن شهريار وهو ابن أخي مازيار ومن قواده مداخلة استمالة حيان، فأجاب أن يسلم مدينة سارية إلى حد جرجان على أن يملكوه جبال آبائه، وبعث حيان إلى ابن طاهر فسجل لقارن بما سأل، وكان قارن في جملة عَبْد الله بن قارن أخي مازيار ومن قواده، فأحضر جميعهم لطعامه وقبض عليهم وبعث بهم إلى حيان، فدخل جبال قارن في جموعه، واعتصم لذلك مازيار وأشار عليه أخوه القوهيار أن يخلي سبيل من عنده من أصحابه ينزلون من الجبل إلى مواطنهم لئلا يؤتى من قبلهم، فصرف صاحب شرطته وخراجه، وكاتبه حميدة فلحقوا بالسهل، ووثب أهل سارية بعامله عليهم مهرستان بن شهرين، فهرب ودخل حيان سارية. ثم بعث قوهيدار أخو مازيار محمد بن موسى بن حفص عامل طبرستان، وكانوا قد حبسوه عند انتقاضهم فبعثه إلى حيان ليأخذ له الأمان وولاية جبال آبائه على أن يسلم إليه مازيار، وعزل قوهيدار بعض أصحابه في عدوله بالاستئمان عن الحسن إلى حيان، فرجع إليهم وكتبوا إلى الحسن يستدعون قوهيدار من أخيه مازيار فركب من معسكره بطمس وجاء لموعدهم، ولقي حيان على فرسخ فرده إلى جبال شروين التي افتتحها، ووبخه على غيبته عنها فرجع سارية وتوفي وبعث عَبْد الله مكانه محمد بن الحسين بن مصعب وعهد إليه أن لا يمنع قارن ما يريده، ولما وصل الحسن إلى خرماباذ وسط جبال مازيار لقيه قوهيدار هنالك واستوثق كل منهما من صاحبه، وكاتب محمد بن إبراهيم بن مصعب من قواد المعتصم قوهيدار بمثل ذلك، فركب قاصداً إليه. وبلغ الحسن خبره فركب في العسكر وحازم يسابق محمد بن إبراهيم إلى قوهيار فسبقه ولقي قوهيار وقد جاء بأخيه مازيار، فقبض عليه وبعثه مع إثنين من قواده إلى خرماباذ، ومنها إلى مدينة سارية. ثم ركب واستقبل محمد بن إبراهيم بر مصعب وقال: أين تريد؟ فقال إلى المازيار: فقال هو بساريه. ثم حبس الحسن أخوي المازيار ورجع إلى مدينة سارية فقيد المازيار بالقيد الذي قيد به محمد بن محمد بن موسى بن حفص. وجاء كتاب عَبْد الله بن طاهر بأن يدفع المازيار وأخويه وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم يحملهم إلى المعتصم. وسأل الحسن المازيار عن أمواله فذكر أنها عند قوم من وجوه سارية سماهم وأمر الحسن القوهيار بحمل هذه الأموال، وسار إلى الجبل ليحملها، فوثب به مماليك المازيار من الديلم وكانوا ألفاً ومائتين فقتلوه بثأر أخيه وهربوا إلى الديلم، فاعترضتهم جيوش محمد بن إبراهيم وأخذوهم فبعث بهم إلى مدينة سارية. وقيل إن الذي غدر بالمازيار ابن عم له كان يتوارث جبال طبرستان والمازيار يتوارث سهلها، وكانت جبال طبرستان ثلاثة أجبل، فلما انتقض واحتاج إلى الرجال دعا ابن عمه من السهل وولاه على أصعبها، وظن أنه قد توثق به فكاتب هو الحسن وأطلعه على مكاتبة الأفشين لمازيار، وداخله في الفتك على أن يوليه ما كان لآبائه، وأن المازيار لمّا ولاه الحسن بن سهل طبرستان انتزع الجبل من يده، فأفضى له الحسن كتاب ابن طاهر وتوثق له فيه وأوعده ليوم معلوم، ركب فيه الحسن إلى الجبل فأدخله ابن عم مازيار وحاصروه حتى نزل على حكمه، ويقال أخذه أسيراً في الصيد. ومضى الحسن به ولم يشعر صاحب الجبل الآخر وأقام في قتاله لمن كان بإزائه فلم يشعر إلا والعساكر من ورائه فانهزم، ومضى إلى بلاد الديلم فأتبعوه وقتلوه. ولما صار المازيار في يده طلبت منه كتب الأفشين فأحضرها، وأمر ابن طاهر أن يبعث بها معه إلى المعتصم، فلما وصل إلى المعتصم ضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك وذلك سنة أربع وعشرين.
ولاية ابن السيد على الموصل: وفي سنة أربع وعشرين ولّى المعتصم على الموصل عَبْد الله بن السيد بن أنس الأزدي، وكان سبب ولايته أن رجلا من مقدّميّ الأكراد يعرف بجعفر بن فهرجس كان قد عصى بأعمال الموصل، وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم، وأفسدوا البلاد فبعث المعتصم لحربه عَبْد الله بن السيد بن أنس فقاتله وغلبه على ماتعيس وأخرجه منها بعد أن كان استولى عليها، ولحق بجبل دانس وامتنع بأعاليه، وقاتله عَبْد الله وتوغل في مضايق ذلك الجبل ، فهزمه الأكراد وأثخنوا في أصحابه بالقتل، وقتل إسحق بن أنس عم عَبْد الله. فبعث المعتصم مولاه إيتاخ في العساكر إلى الموصل سنة خمس وعشرين وقصد جبل داس فقاتل جعفراً وقتله و افترق أصحابه، وأوقع بالأكراد واستباحهم وفروا أمامه إلى تكريت.
نكبة الأفشين ومقتله
كان الأفشين من أهل أشر وسنة تبوأها ونشأ ببغداد عند المعتصم وعظم محله عنده، ولما حاصر بابك كان يبعث إلى أشر وسنة بجميع أمواله فيكتب ابن طاهر بذلك إلى المعتصم، فيأمره المعتصم بأن يجعل عيونه عليه في ذلك. وعثر مرة ابن طاهر على تلك الأموال فأخذها وصرفها في العطاء، وقال له حاملوها: هذا مال الأفشين، فقال كذبتم لو كان ذلك لأعلمني أخي أفشين به وإنما أنتم لصوص، وكتب إلى الأفشين بذلك بأنه دفع المال إلى الجند ليوجههم إلى الترك، فكتب إليه أفشين مالي ومال أمير المؤمنين واحد، وسأله في إطلاق القوم فأطلقهم واستحكمت الوحشة بينهما وتتابعت السعاية فيه من طاهر، وربما فهم الأفشين أن المعتصم يعزله عن خراسان فطمع في ولايتها، وكان مازيار يحسن له الخلافة ليدعو المعتصم ذلك إلى عزله وولاية الأفشين لحرب مازيار. فكان من أمر مازيار ما ذكر ناه وسيق إلى بغداد مقيداً، وولى المعتصم الأفشين على أذربيجان فولى عليها من قبله منكجور من بعض قرابته، فاستولى على مال عظيم لبابك، وكتب به صاحب البريد إلى المعتصم فكذبه منكجور وهم بقتله، فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم. وسمع ذلك المعتصم فأمر الأفشين بعزل منكجور، وبعث قائداً في عسكره مكانه، فخلع منكجور وخرج من أردبيل فهزمه القائد، ولحق ببعض حصور أذربيجان كان بابك خربه، فأصلحه وتحصن فيه شهراً ثم وثب فيه أصحابه وأسلموه إلى القائد، فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم واتهم الأفشين في أمره، وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين بأن القائد كان بغا الكبير وأنه خرج إليه بالأمان اهــ . ولما أحس الأفشين بتغير المعتصم أجمع أمره على الفرار واللحاق بأرمينية، وكانت في ولايته، ويخرج منها إلى بلاد الخزر ويرجع إلى بلاد أشر وسنة، وصعب عليه ذلك بمباشرة المعتصم أمره فأراد أن يتخط لهم صنيعاً يشغلهم فيه نهارهم، ثم يسير من أول الليل. وعرض له في أثناء ذلك غضب على بعض مواليه، وكان سيء الملكة فأيقن مولاه بالهلكة، وجاء إلى إتياخ فأحفره إلى المعتصم وخبره الخبر فأمره بإحضاره وحبسه بالجوثق، وكان ابنه الحسن عاملاً على بعض ما وراء النهر. فكتب المعتصم إلى عَبْد الله بن طاهر في الاحتيال عليه، وكان يشكو من نوح بن أسد صاحب بجارى. فكتب ابن طاهر إلى الحسن بولاية بخارى، وكتب إلى نوح بذلك وأن يستوثق منه إذا وصل إليه ويبعث به، ثم يبعث به إلى ابن طاهر ثم إلى المعتصم. ثم أمر المعتصم بإحضار الأفشين ومناظرته فيما قيل عنه، فأحضر عند الوزير محمد بن عَبْد الملك بن الزيات وعنده القاضي أحمد بن أبي دواد وإسحق بن إبراهيم وجماعة القواد والأعيان، وأحضر المازيار من محبسه والمؤيد والمرزبان بن تركش أحد ملوك الصغد ورجلان من أهل الصغد يدعيان أن الأفشين ضربهما وهما إمام ومؤذن بمسجد. فكشفا عن ظهورهما وهما عاريان من اللحم، فقال ابن الزيات للأفشين: ما بال هذين؟ قال عهدا إلى معاهدين فوثبا على بيت أصنامهم فكسراها، واتخذا البيت مسجداً فعاقبتهما على ذلك. وقال ابن الزيات: ما بال الكتاب المحلى بالذهب والجوهر عندك وفيه الكفر؟ قال كتاب ورثته من آبائي وأوصوني بما فيه من آدابهم فكنت آخذها منه وأترك كفرهم، ولم أحتج إلى نزع حليبة، وما ظننت أن مثل هذا يخرج عن الإِسلام. ثم قال المؤيد إنه يأكل لحم المنخنقة ويحملني على أكلها ويقول هو أرطب من لحم المذبوحة. ولقد قال لي يوماً حملت على كل مكروه لي حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، إلى هذه الغاية لم أختتن ولم تسقط عني شعرة العانة. فقال الأفشين: أثقة هذا عندكم في دينه؟ وكان مجوسياً قالوا: لا ! قال فكيف تقبلونه عليّ؟ ثم قال للمؤيد أنت ذكرت أني أسررت إليك ذلك، فلست بثقة في دينك ولا بكريم في عهدك ثم قال له المرزبان: كيف يكاتبك أهل أشر وسنة؟ قال: ما أدري قال: أليس يكاتبونك بما تفسره بالعربي: إلى اله الآلهة من عبده فلان؟ قال: بلى فقال ابن الزيات فما أبقيت لفرعون؟ قال: هذه عادة منهم لأبي وجدي ولي قبل الإِسلام، ولو منعت! لفسدت علي طاعتهم. ثم قال له أنت كاتبت هذا؟ وأشار إلى المازيار. كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لن ينصر هذا الدين غيري وغيرك وغير بابك، فأما بابك قد قتل نفسه بجمعه ولقد عهدت أن أمنعه فأبى إلا خنقه، وأنت إن خالفت لم يرمك القوم بغيري ومعي أهل النجدة، وإن توجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا العرب والمغاربة والترك، والعربي كلب تناوله لقمة وتضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك لهم صدمة ثم تجول الخيل جولة فتأتي عليهم، ويعود هذا الدين إلى ما كان عليه أيام العجم. فقال الأفشين هذا يدعي أن أخي كتب إلى أخيه فما يجب علي؟ ولو كتب فأنا أستميله مكراً به لأحظى عند الخليفة كما حظي به ابن طاهر، فزجره ابن أبي دواد فقال له الأفشين: ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة فقال: أمتطهر أنت؟ قال لا! قال فما يمنعك وهو شعار الإِسلام؟ قال خشيت على نفسي من قطعة! قال فكيف وأنت تلقى الرماح والسيوف؟ قال تلك ضرورة أصبر عليها وهذا أستجلبه. فقال ابن أبي دواد لبغا الكبير: قد بان لكم أمره يا بغا عليك به! فدفعه بيديه ورده إلى محبسه وضرب مازيار أربعمائة سوط فمات منها، وطلب أفشين من المعتصم أنّ
ينفذ إليه من يثق به، فبعث حمدون بن إسمعيل فاعتذر له عن جميع ما قيل فيه، وحمل إلى دار إيتاخ فقتل بها وصلب على باب العامة، ثم أحرق. وذلك في شعبان من سنة ست وعشرين، وقيل قطع عنه الطعام والشراب حتى مات.
ظهور المبرقع: كان هذا المبرقع يعرف بأبي حرب اليماني وكان بفلسطين، وأراد بعض الجند النزول في داره فمنعه بعض النساء فضربها الجندي وجاءت فشكت إليه بفعل الجندي، فسار إليه وقتله، ثم هرب إلى جبال الأردن، فأقام بها واختفي ببرقع على وجهه. وصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعيب الخليفة ويزعم أنه أموي، واجتمع له قوم من تلك الناحية وقالوا هو السفياني. ثم أجابه جماعة من رؤساء اليمانية منهم ابن بهيس وكان مطاعاً في قومه وغيره فاجتمع له مائة ألف، وسرح المعتصم رجاء بن أيوب في ألف من الجند، فخام عن لقائه لكثرة من معه، عسكر قبالته ينتظر أوان الزراعة وانصراف الناس عنه لأعمالهم. وبينما هم في الانصراف توفي المعتصم وثارت الفتنة بدمشق، فأمره الواثق بقتل من أثار الفتنة والعود إلى المبرقع، ففعل وقاتله فأخذه أسيراً وابن بهيس معه، وقتل من أصحابه عشرين ألفاً وحمله، وذلك سنة سبع وعشرون ومائتين. وفاة المعتصم وبيعة الواثق: وتوفي المعتصم أبو إسحق محمد بن المأمون بن الرشيد، منتصف ربيع الأول سنة سبع وعشرين لثمان سنين وثمانية أشهر من خلافته، وبويع ابنه هرون الواثق صبيحته وتكنى أبا جعفر. فثار أهل دمشق بأميرهم وحاصروه، وعسكروا بمرج واسط وكان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال المبرقع، فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وقتل منهم نحو من ألف و خمسمائة ومن أصحابه نحو ثلثمائة، وصلح أمر دمشق، ورجع رجاء إلى قتال، المبرقع حتى جاء به أسيراً ر*[*] ، بيعة
الواثق توجه أشناس ووشحه، وكان للواثق سمر يجلسون عنده ويفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة واستبدادهم على الرشيد واحتجابهم الأموال، فأغراه ذلك بصادرة الكتاب خجفحبسهم وألزمهم الأموال. فآخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه، ومن سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألفاً، ومن إبراهيم بن رباح وكاتبه مائة ألف، ومن أبي الوزر مائة وأربعين ألفاً، وكان على اليمن إيتاخ، وولاه عليها المعتصم بعدما عزل جعفر بن دينار وسخطه وحبسه ثم رضي عنه وأطلقه، فلما ولي الواثق ولى إيتاخ على اليمن من قبله سار بأميان، فسار إليهما وكان الحرس إسحق بن يحيى بن معاذ ولاه المعتصم بعد عزل الأفشين. وولّى الواثق على المدينة سنة إحدى وعشرين محمد بن صالح بن العباس وبقي محمد بن داود على مكة، وتوفي عَبْد الله بن طاهر سنة ثلاثين، وكان على خراسان وكرمان وطبرستان، والري وكان له الحرب والشرطة والسواد فولّى الواثق على أعماله كلها ابنه طاهراً.
وقعة بغا في الاعراب
كان بنو سليم يفسدون بنواحي المدينة ويتسلطون على الناس في أموالهم، وأوقعوا بناس من كنانة وباهلة، وبعث محمد بن صالح إليهم مسلحة المدينة ومعهم متطوعة من قُرَيْش والأنصار، فهزمهم بنو سليم وقتلوا عامتهم وأحرقوا لباسهم وسلاحهم وكراعهم ونهبوا القرى ما بين مكة والمدينة وانقطع الطريق، فبعث الواثق بغا الكبير، وقدم المدينة في شعبان فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم خمسين رجلاً وأسر مثلها، واستأمنوا له على حكم الواثق، فقبض على ألف منهم ممن يعرف بالفساد فحبسهم بالمدينة وذلك سنة ثلاثين. ثم حج وسار إلى ذات عرق وعرض على بني هلال مثل بني سليم فأخذ من المفسدين منهم نحو ثلثمائة رجل وحبسهم بالمدينة وأطلق الباقين. ثم خرج بغا إلى بني مُرة فنقب أولئك الأسرى الحبس وقتلوا الموكلين فاجتمع عليهم أهل المدينة ليلاً ومنعوهم من الخروج فقاتلوهم إلى الصبح ثم قتلوهم، وشق ذلك على بغا وكان سبب غيبته أن فزارة وبني مُرّة تغلبوا على فدك فخرج إليهم وقدم رجلاً من قوّاده يعرض عليهم الأمان، فهربوا من سطوته إلى الشام واتبعهم إلى تخوم الحجاز من الشام، وأقام أربعين ليلة ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر منهم. وجاءه قوم من بطون غفار وفزارة وأشجع وثعلبة فاستخلفهم على الطاعة. ثم سار إلى بني كلاب فأتوه في ثلاثة آلاف رجل، فحبس أهل الفساد منهم ألفاً بالمدينة وأطلق الباقين، وأمره الواثق سنة إثنتين وثلاثين بالمسير إلى بني نُمير باليمامة وما قرب منها لقطع فسادهم، فسار إليهم ولقي جماعة الشريف منهم فحاربهم وقتل منهم خمسين وأسر أربعين. ثم سار إلى مُرة وبعث إليهم في الطاعة فامتنعوا وساروا إلى جبال السند وطف اليمامة، وبعث سراياهم فأوقع بهم في كل ناحية. ثم سار إليهم في ألف رجل فلقيهم قريباً من أضاخ فكشفوا مقدمته وميسرته وأثخنوا في عسكره بالقتل والنهب. ثم ساروا تحت الليل وهو في أتباعهم يدعوهم إلى الطاعة، وبعث طائفة من جنده يدعون بعضهم وأصبح وهو في قلة، فحملوا عليه وهزموه إلى معسكره وإذا بالطائفة الذين بعثهم قد جاؤا من وجهتهم، فلما رآهم بنو نُمير من خلفهم ولوا منهزمين وأسلموا رجالهم وأموالهم ونجوا على خيلهم ولم يفلت من رجالهم أحد، وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة، وأقام بمكان الوقعة واستأمن له أمراؤهم فقيدهم وحبسهم بالبصرة. وقدم عليه واجن الأشروسني في سبعمائة مقاتل مدداً، فبعثه إلى أتباعهم إلى أن بلغ تبالة من أعمال اليمن ورجع، وسار بغا إلى بغداد بمن معه منهم وكانوا نحو ألفي رجل ومائتي رجل، وكتب إلى صالح أمير المدينة أن يوافيه ببغداد من عنده منهم فجاء بهم وسلموا جميعاً. مقتل أحمد بن نصر: وهو أحمد بن مالك وهو أحد النقباء كما تقدم، وكان أحمد هذا نسيبة لأهل الحديث ويغشاه جماعة منهم مثل ابن حصين وابن الدورقي وأبي زهير، ولقن منهم النكير على الواثق بقوله بخلق القرآن. ثم تعدى ذلك إلى الشتم، وكان ينعته بالخنزير والكافر، وفشا ذلك عنه. وانتدب رجلان ممن كان يغشاه: هما أبو هرون السراج وطالب وغيرهما، فدعوا الناس له وبايعه خلق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرقوا الأموال في الناس ديناراً لكل رجل وأنفذوا لثلاث تمضي من شعبان من سنة إحدى وثلاثين يظهرون فيها دعوتهم. واتفق أن رجالاً ممن بايعهم من بني الأشرس جاؤا قبل الموعد بليلة وقد نال منهم السكر، فضربوا الطبل وصاحب الشرطة إسحق بن إبراهيم غائب، فارتاع خليفته محمد أخوه فأرسل من يسأل عن ذلك فلم يوجد أحد، وأتوه برجل أعور إسمه عيسى وجدوه في الحمام، فدلهم على بني الأشرس وعلى أحمد بن نصر وعلى أبي هرون وطالب، ثم سيق خادم أحمد بن نصر فذكر القصة، فقبض عليه وبعث بهم جميعاً إلى الواثق بسامرا مقيدين، وجلس لهم مجلساً عاماً وحضر فيه أحمد بن أبي دؤاد، ولم يسأله الواثق عن خروجه وإنما سأله عن خلق القرآن فقال: هو كلام الله. ثم سأله عن الرؤية فقال: جاءت بها الأخبار الصحيحة، ونصيحتي أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم سأل الواثق العلماء حوله عن أمره، فقال عَبْد الرحمن بن إسحق قاضي الجانب الغربي: هو حلال الدم ! وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب. فدعا الواثق بالصمصامة فانتضاها ومشى إليه فضربه على حبل عاتقه ثم على رأسه، ثم وخزه في بطنه ثم أجهز سيما الدمشقي عليه وحزوا رأسه، ونصب ببغداد وصلب شلوه عند بابها.
الفداء والصائفة
وفي سنة إحدى وثلاثين عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن مسلم بن قتيبة على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء هو وجانمان الخادم، وأمرهما أن تمتحن الأسرى باعتقاد القرآن والرؤية. وجاء الروم بأسراهم والمسلمون كذلك والتقوا على نهر اللامس على مرحلة من طرطوس، وكان عدة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين، والنساء والصبيان ثمانمائة، وأهل الذمة مائة. فلما فرغوا من الفداء غزا أحمد بن سعيد بن مسلم شاتياً وأصاب الناس ثلج ومطر وهلك منهم مائة نفس، وأسر منهم نحوها، وخرق بالنبل قرون خلق، ولقيه بطريق من الروم خام عن لقائه ثم غنم ورجع، فعزله الواثق وولّى مكانه نصر بن حمزة الخزاعى .
وفاة الواثق وبيعة المتوكل
وتوفي الواثق أبو جعفر هرون بن المعتصم محمد لست بقين من سنة إثنتين وثلاثين، وكانت علته الاستسقاء وأدخل في تنور مسجر فلقي خفة ثم عاوده في اليوم الثاني أكثر من الأول فأخرج في محفة فمات فيها ولم يشعروا به. وقيل إن ابن أبي دؤاد غمضه ومات لخمس سنين وتسعة أشهر من خلافته. وحضر في الدار أحمد بن أبي
دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرح وابن الزيات، وأراد البيعة لمحمد بن واثق وهو غلام إمر فألبسوه فإذا هو قصير، فقال وصيف: أمَّا تتقون الله تولون الخلافة مثل هذا ! ثم تناظروا فيمن يولونه وأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة وعممه وسلم عليه بإمارة المؤمنين ولقبه المتوكل وصلى على الواثق ودفنه. ثم وضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وولّى على بلاد فارس إبراهيم بن محمد بن مصعب، وكان على الموصل غانم بن محمد الطويس فأقره وعزل ابن العباس محمد بن صول عن ديوان النفقات، وعقد لابنه المنتصر على الحرمين واليمن والطائف.
نكبة الوزير ابن الزيات ومهلكه: كان محمد بن عَبْد الملك بن الزيات قد استوزره الواثق فاستمكن من دولته وغلب على هؤلاء، وكان لا يحفل بالمتوكل ولا يوجب حقه، وغضب الواثق عليه مرة فجاء إلى ابن الزيات ليستنزله فأساء معاملته في التحية والملاقاة فقال: اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك. وقام عنه حزيناً فجاء إلى القاضي أحمد بن دؤاد فلم يدع شيئا من البر إلا فعله وحياه وفداه، وخطب حاجته فقال: أحب أن ترضي عني أمير المؤمنين فقال: أفعل ونعمة عين ! ولم يزل بالواثق حتى رضي عنه. وكان ابن الزيات كتب إلى الواثق عندما خرج عنه المتوكل أن جعفر أتاني فسأل الرضا عنه وله وفرة شبه زي المخنثين، فأمره الواثق أن يحضره من شعر قفاه فاستحضره فجاء يظن الرضا عنه وأمر حجاماً أخذ من شعره وضرب به وجهه فحقد له ذلك وأساء له. ولما ولي الخلافة بقي شهراً ثم أمر إيتاخ أن يقبض عليه ويقيده بداره ويصادره، وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين فصادره واستصفى أمواله وأملاكه وسلط عليه أنواع العذاب، ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة وتزعج من فيه لضيقه، ثم مات منتصف ربيع الأول، وقيل: إنه مات من الضرب وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله. وكان عمر بن الفرح الرخجي يعامل المتوكل بمثل ذلك فحقد له، ولما استخلف قبض عليه في رمضان واستصفى أمواله ثم صودر على أحد عشر ألف ألف.
نكبة إيتاخ ومقتله
كان إيتاخ مولى السلام الأبرص، وكان عنده ناخورياً طباخاً، وكان شجاعاً فاشتراه المعتصم منه سنة تسع وتسعين وارتفع في دولته ودولة الواثق ابنه، وكان له المؤنة بسامرا مع إسحق بن إبراهيم بن مصعب، وكانت نكبة العظماء في الدولة على يديه وحبسهم بداره، مثل أولاد المأمون وابن الزيات وصالح وعجيف وعمر بن الفرج وابن الجنيد وأمثالهم، وكان له البريد والحجابة والجيش والمغاربة والأتراك. وشرب ذات ليلة مع المتوكل فعربد على إيتاخ، وهم إيتاخ بقتله ثم غدا عليه فاعتذر له ودس عليه من زين له الحج فاستأذن المتوكل فأذن له وخلع عليه وجعله أمير كل بلد يمر به. وسار لذلك في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وسار العسكر بين يديه وجعلت الحجابة إلى وصيف الخادم، ولما عاد إيتاخ من الحج بعث إليه المتوكل بالهدايا والألطاف، وكتب إلى إسحق بن إبراهيم بن مصعب يأمره بحبسه. فلما قارب بغداد كتب إليه إسحق بأن المتوكل أمر أن يدخل بغداد وأن تلقاه بنو هاشم ووجوه الناس، وأن يقعد بدار خزيمة بن خازم فيأمر للناس بالجوائز على قدر طبقاتهم ففعل ذلك، ووقف إسحق على باب الدار فمنع أصحابه من الدخول إليه، ووكل بالأبواب ثم قبض على ولديه منصور مظفر وكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد، وبعث إيتاخ إليه يسأله الرفق بالولدين ففعل، ولم يزل إيتاخ مقيداً بالسجن إلى أن مات فقيل: إنهم منعوه الماء، وبقي إبناه محبوسين إلى أن أطلقهما المنتصر بعد المتوكل.
شأن ابن البغيث
كان محمد بن البغيث بن الحليس ممتنعاً في حصونه بأذربيجان وأعظمها مرند، واستنزل من حصنه أيام المتوكل وحبس بسامرا فهرب من حبسه ولحى بمرند، وقيل: إنه في حبس إسحق بن إبراهيم بن مصعب وشفع فيه بغا الشرابي، فأطلقه إسحق في كفالة محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني وكان يتردد إلى سامرا حتى مرض المتوكل ففر ولحق بمرند وشحنها بالأقوات، وجاءه أهل الفتنة من ربيعة وغيرهم فاجتمع له نحو ألفين ومائتي رجل، والوالي بأذربيجان يومئذ محمد بن حاتم بن هرثمة فلم يقامعه، فعزله المتوكل وولّى حمدويه بن علي بن الفضل السعدي، فسار إليه وحاصره بمرند مدة وبعث إليه المتوكل بالمدّد، وطال الحصار فلم يقن فيه، فبعث بغا الشرابي في ألفي فارس فجاء لحصاره. وبعث إليه عيسى بن الشيخ بن السلسل بالأمان له ولوجوه أصحابه أن ينزلوا على حكم المتوكل، فنزل الكثير منهم وانفض جمعه ولحق ببغا وخرج هو هارباً، ونهبت منازله واسرت نساؤه وبناته. ثم أدرك بطريقه واتي به أسيراً وبأخويه صقر وخالد وأبنائه حليس وصقر والبغيث ، وجاء بهم بغا إلى بغداد وحملهم على الحجال يوم قدومه حتى رآهم الناس وحبسوا. ومات البغيث لشهر من وصوله سنة خمس وثلاثين وجعل بنوه في الشاكرية مع عَبْد الفه بن يحيى خاقان.
بيعة العهد
وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين عقد المتوكل البيعة والعهد وكانوا ثلاثة محمدا وطلحة وإبراهيم، ويقال فى طلحة ابن الزبير، وجعل محمداً أولهم ولقبه المستنصر وأقطعه أفريقية والمغرب وقنسرين والثغور الشامية والخزرية، وديار مضر وديار ربيعة، وهيت والموصل وغانة والخابور، وكور دجلة والسواد والخرمين وحضرموت والحرمين والسند ومكران وقندابيل وكور الأهواز والمستغلات بسامرا، وماء الكوفة وماء البصرة. وجعل طلحة ثانيهم ولقبه المعتز، وأقطعه أعمال خراسان وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وأعمال فارس. ثم أضاف إليه سنة أربعين خزن الأموال ودور الضرب في جيم الأفاق، وأمر أن يرسم اسمه في السكة. وجعل الثالث إبراهيم وأقطعه حمص ودمشق وفلسطين وسائر الأعمال الشامية. وفي هذه السنة أمر الجند بتغيير
الزي فلبسوا الطيالسة العسلية وشدوا الزنانير في أوساطهم [*] وجعلوا الطراز في لباس المصاليك، ومنع من لباس المناطق، وأمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمة، ونهى أن يستغاث بهم في الأعمال وأن يظهروا في شعابهم الصلبان، وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب.
ملك محمد بن ابراهيم: كان محمد بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب على بلاد فارس، وهو ابن أخي طاهر، وكان أخوه إسحق بن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد منذ أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وكان ابنه محمد بباب الخليفة بسامرا نائباً عنه. فلما مات إسحق سنة خمس وثلاثين ولاه المتوكل وضم إليه أعمال أبيه، واستخلفه المعتز على اليمامة والبحرين ومكة وحمل إلى المتوكل وبنيه من الجواهر والذخائر كثيرأ، وبلغ ذلك محمد بن إبراهيم فتنكر للخليفة ولمحمد ابن أخيه، وشكا ذلك محمد إلى المتوكل فسرحه إلى فارس وولاه مكان عمه محمد، فسار وعزل عمه محمداً وولى مكانه ابن عمه الحسين بن إسمعيل بن مصعب، وأمره بقتل عمه محمد فأطعمه ومنعه الشراب فمات.
انتقاض أهل أرمينية
كان على أرمينية يوسف بن محمد فجاءه البطريق بقراط بن أسواط ، وهو بطريق البطارقة، يستأمن فقبض عليه وعلى ابنه وبعث بهما إلى المتوكل، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخيه وصهره موسى بن زرارة وتحالفوا على قتله وحاصروه بمدينة طرون في رمضان سنة سبع وثلاثين، وخرج لقتالهم فقتلوه ومن كان معه. فسرح المتوكل بغا الكبير، فسار إلى الموصل والجزيرة وأناخ على أردن حتى أخذها وحمل موسى وأخوته إلى المتوكل، وقتل منهم ثلاثين ألفاً وسبى خلقاً وسار إلى مدينة دبيل فأقام بها شهراً، ثم سار إلى تفليس فحاصرها وبعث في مقدمته بزرك التركي، وكان بتفليس إسحق بن إسمعيل بن إسحق مولى بني أُمَيَّة فخرج وقاتلهم، وكانت المدينة كلها مشيدة من خشب الصنوبر، فأمر بغا أن يرمي عليها بالنفط فاضطرمت النار في الخشب، واحترقت قصور إسحق وجواريه وخمسون ألف إنسان وأسر الباقون، وأحاطت الأتراك والمغاربة بإسحق فأسروه وقتله بغا لوقته، ونجا أهل إسحق بأمواله إلى صعدنيل، مدينة حذاء تفليس على نهر الكرمن من شرقيه بناها أنوشروان وحصنها إسحق، وجعل أمواله فيها فاستباحها بغا، ثم بعث الجند إلى قلعة أخرى بين بردعة وتفليس ففتحوها وأسروا بطريقها. ثم سار إلى عيسى بن يوسف في قلعة كيس من كور البيلقان ففتحها وأسره وحمل معه جماعة من البطارقة، وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
عزل ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم
وفي سنة سبع وثلاثين غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد وقبض ضياعه وحبس أولاده، فحمل أبو الوليد منهم مائة وعشرين ألف دينار وجواهر تساوي عشرين ألفاً، ثم صولح عن ستة عشر ألف آلف درهم وأشهد عليهم ببيع أملاكهم وفلح أحمد، فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم وولاه قضاء القضاة، وولى أبا الوليد بن أبي دؤاد المظالم ثم عزله. وولى أبا الربيع محمد بن يعقوب ثم عزله، وولى يحيى بن أكثم على المظالم ثم عزله سنة أربعين، وصادره على خمسة وسبعين ألف دينار وأربعة آلاف حربو، وولّى مكانه جعفر بن عَبْد الواحد بن جعفر بن سليمان بن عليّ. وتوفى في هذه السنة أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوماً وكان معتزلياً أخذ مذهبهم عن بشر المريسي وأخذه بشر عن جهم بن صَفْوان، وأخذه جهم عن الجعد بن دهم معلم مروان.
انتقاض أهل حمص
وفي سنة سبع وثلاثين وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافقي بسبب أنه قتل بعض رؤسائهم فأخرجوه وقتلوا من أصحابه، فولى مكانه محمد بن عبدويه الأنباري فأساء إليهم وعسف فيهم فوثبوا به، وأمره المتوكل بجند من دمشق والرملة فظفر بهم وقتل منهم جماعة، وأخرج النصارى منها وهدم كنائسهم وأدخل منها بيعة في الجامع كانت تجاوره.
اغارة البجاة على مصر: كانت الهدنة بين أهل مصر والبجاة من لدن الفتح، وكان في بلادهم معادن الذهب يؤدون منها الخمس إلى أهل مصر، فامتنعوا أيام المتوكل وقتلوا من وجدوه من المسلمين بالمعادن، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المتوكل، فشاور الناس في غزوهم فأخبروه أنهم أهل إبل وشاء وأن بين بلادهم وبلاد المسلمين مسيرة شهر ولا بد فيها من الزاد وإن فنيت الأزواد هلك العسكر فأمسك عنهم. وخاف أهل الصغد من شرهم فولّى المتوكل محمد بن عَبْد الله القمي على أسوان وقفط والأقصر وأسنا وأرمنت، وأمره بحرب البجاة. وكتب إلى عنبسة بن إسحق الضبي عامل مصر بتجهيز العساكر معه وأزاحه عليهم فسار في عشرين ألفاً من الجند والمتطوعة، وحملت المراكب من القلزم بالدقيق والتمر والأدم إلى سواحل بلاد البجاة، وانتهى إلى حصونهم وقلاعهم. وزحف إليه ملكهم وإسمه علي بابا في إضعاف عساكرهم على المهاري، وطاولهم علي بابا رجاء أن تفنى أزوادهم فجاءت المراكب وفرقها القمي في أصحابه، فناجزهم البجاة الحرب وكانت إبلهم نفورة، فأمر القمي جنده باتخاذ الأجراس بخيلهم. ثم حملوا عليهم فانهزموا وأثخن فيهم قتلاً وأسراً حتى استأمنوا على أداء الخراج لمّا سلف ولما يأتي وأن يرد إلى مملكته، وسار مع القمي إلى المتوكل واستخلف ابنه، فخلع القمي عليه وعلى أصحابه وكسا أرجلهم الجلال المديحة وولاهم طريق ما بين مصر ومكة، وولى عليهم سعداً الإيتاخي الخادم فولى سعد محمد القمي فرجع معهم واستقامت ناحيتهم.
الصوائف
وفي سنة ثمان وثلاثين ورد على دمياط أسطول الروم في مائة مركب فكبسوها، وكانت المسلحة الذين بها قد ذهبوا إلى مصر باستدعاء صاحب المعونة عنبسة بن إسحق الضبي فانتهزوا الفرصة في مغيبهم وانتهبوا دمياط وأحرقوا الجامع بها وأوقروا سفنهم سبياً ومتاعاً، وذهبوا إلى تنيس ففعلوا فيها مثل ذلك وأقطعوا. وغزا بالصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرميني صاحب الصوائف، وفي سنة إحدى وأربعين كان الفداء بين الروم وبين المسلمين، وكان ندورة ملكة الروم قد حملت أسرى المسلمين على التنصر، فتنصر الكبير منهم. ثم طلبت المفاداة فيمن بقي فبعث المتوكل سيفاً الخادم بالفداء ومعه قاضي بغداد جعفر بن عَبْد الواحد، واستخلف على القضاء ابن أبي الشوارب،. وكان الفداء على نهر اللامس. ثم أغارت الروم بعد ذلك على روبة فأسروا من كان هنالك من الزط وسبوا نساءهم وأولادهم. ولما رجع علي بن يحيى الأرميني من الصائفة خرجت الروم في ناحية سمسياط فانتهوا إلى آمد، واكتسحوا نواحي الثغور والخزرية نهبا وأسروا نحواً من عشرة آلاف ورجعوا وأتبعهم قرشاس وعمر بن عَبْد الأقطع وقوم من المتطوعة فلم يدركوهم ، وأمر المتوكل علي بن يحيى أن يدخل بالثانية في تلك السنة ففعل. وفي سنة أربع وأربعين جاء المتوكل من بغداد إلى دمشق وقد اجتمع نزولها ونقل الكرسي إليها فأقام بها شهرين، ثم استوبأها ورجع بعد أن بعث بغا الكبير في العساكر للصائفة فدخل بلاد الروم فدوخها واكتسحها من سائر النواحي ورجع، وفي سنة خمس وأربعين أغارت الروم على سميساط فغنموا، وغزا علي بن يحيى الأرميني بالصائفة كركرة وانتقض أهلها على بطريقهم فقبضوا عليه وسلموه إلى بعض موالي المتوكل، فأطلق ملك الروم في فداء البطريق ألف أسير من المسلمين. وفي سنة ست وأربعين غزا عمر بن عَبيْد الله الأقطع بالصائفة فجاؤا بأربعة آلاف رأس، وغزا قرشاش فجاء بخمسة آلاف رأس، وغزا الفضل بن قاران في الأسطول بعشرين مركباً فافتتح حصن أنْطاكِية وغزا ملكها دورهم وسبا، وغزا علي بن يحيى فجاء بخمسة آلاف رأس ومن الظهر بعشرة آلاف، وكان على يده في تلك السنة الفداء في ألفين وثلثمائة من الأسرى.
الولايات في النواحي:
ولى المتوكل سنة إثنتين على بلاد فارس محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان على الموصل غانم بن حميد الطوسي، واستوزر لأول خلافته محمد بن عَبْد الله بن الزيات. وولّى على ديوان الخراج يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد، وعزل الفضل بن مروان. وولى على ديوان النفقات إبراهيم بن محمد بن حتول. وولى سنة ثلاث وثلاثين على الحرمين واليمن والطائف ابنه المستنصر، وعزل محمد بن عيسى. وولى على حجابة بابه وصيفاً الخادم عندما سار إيتاخ للحج . وفي سنة خمس وثلاثين عهد لأولاده كما مر، وولى على الشرطة ببغداد إسحق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب مكان ابنه ابراهيم عندما توفي، وكانت وفاته ووفاة الحسن بن سهل في سنة واحدة. وفي سنة ست وثلاثين استكتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان ثم استوزره بعد ذلك وولى على أرمينية وأذربيجان حرباً وخراجاً يوسف بن أبي سعيد محمد بن يوسف المروذوذي عندما توفي أبوه فجاءه فسار إليها وضبطها، وأساء إلى البطارقة بالناحية، فوثبوا به كما مر وقتلوه. وبعث المتوكل بغا الكبير في العساكر فأخذ ثأره منهم، وولى معادن السواد عَبْد الله بن إسحق بن إبراهيم. وفي سنة تسع وثلاثين عزل ابن أبي دؤاد عن القضاء وصادره، وولى مكانه يحيى بن أكثم. وقدم محمد بن عَبْد الله بن طاهر من خراسان فولاه الشرطة والجزية وأعمال السواد، وكان على مكة علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور فحج بالناس، ثم ولى مكانه في السنة القابلة عَبْد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى. وولى على الأحداث بطريق مكة
والمواسم جعفر بن دينار، وكان على. حمص أبو المغيب موسى بن إبراهيم الرافقي وثبوا به سنة تسع وثلاثين، فولى مكانه محمد بن عبدويه. وفي سنة تسع وثلاثين عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وولى مكانه جعفر بن عَبْد الواحد بن جعفر بن سليمان. وفي سنة إثنتين وأربعين ولى على مكة عَبْد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام، وولى على ديوان النفقات الحسن بن مخلد بن الجراح عندما توفي إبراهيم بن العباس الصوليّ وكان خليفته فيها من قبل. وفي سنة خمس وأربعين اختط المتوكل مدينته وأنزلها القواد والأولياء وأنفق عليها ألف ألف دينار، وبنى فيها قصر اللؤلؤة لم ير مثله في علوه وأجرى له الماء في نهر احتفره وسماها المتوكلية، وتسمى الجعفري والماخورة . وفيها ولى على طريق مكة أبا الساج مكان جعفر بن دينار لوفاته تلك السنة. وولى على ديوان الضياع والتوقيع نجاح بن سلمة وكانت له صولة على العمال، فكان ينام المتوكل فسعى عنده في الحسن بن مخلد، وكان معه على ديوان الضياع ولى موسى بن عقبة عَبْد الملك وكان على ديوان الخراج، وضمن للمتوكل في مصادرتهما أربعين ألفاً. وأذن المتوكل وكانا منقطعين إلى عبيد الله بن خاقان، فتلطف عند نجاح وخادعه حتى كتب على الرقعتين، وأشار إليه بأخذ ما فيهما معاً وبدأ بنجاح فكتبه وقبض منه مائة وأربعين ألف دينار سوى الغلات والفرش والضياع، ثم ضرب فمات وصودر أولاده في جميع البلاد على أموال جمة.
مقتل المتوكل وبيعة المنتصر ابنه
كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم وأبغضه لمّا كان يتوهم فيه من استعجاله الأمر لنفسه، وكان يسميه المنتصر والمستعجل لذلك. وكان المنتصر تنكر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال والتشيُّع لعلي، وربما كان الندمان في مجلس المتوكل يفيضون في ثلب علي فينكر المنتصر ذلك ويتهددهم ويقول للمتوكل: إن علياً هو كبير بيننا وشيخ بني هاشم، فإن كنت لا بد ثالبه فتول ذلك بنفسك ولا تجعل لهؤلاء الصفاغين سبيلاً إلى ذلك فيستخف به ويشتمه، ويأمر وزيره عَبيْد الله بصفعه ويتهدده بالقتل ويصرح بخلعه. وربما استخلف ابنه الحبر في الصلاة والخطبة مراراً وتركه، فطوى من ذلك على النكث. وكان المتوكل قد استفسد إلى بغا ووصيف الكبير ووصيف الصغير ودواجن، فأفسدوا عليه الموالي. وكان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار وأمره بالمقام بسميساط لتعهد الصوائف، فسار لذلك واستخلف مكانه ابنه موسى في الدار، وان ابن خالة المتوكل، واستخلف على الستر بغا الشرابي الصغير. ثم تغير المتوكل لوصيف وقبض ضياعه بأصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فتغير وصيف لذلك وداخل المنتصر في قتل المتوكل، وأعد لذلك جماعة من الموالي بعثهم مع ولده صالح وأحمد وعبد الله ونصر، وجاؤا في الليلة الي اتعدوا فيها. وحضر المنتصر ثم انصرف على عادته، وأخذ زرافة الخادم معه، وأمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا الفتح وأربعة من الخاصة، وأغلق الأبواب إلا باب دجلة فأدخل منه الرجال وأحس المتوكل وأصحابه بهم فخافوا على أنفسهم، واستماتوا وابتدروا إليه فقتلوه. وألقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه. وبعث إلى المنتصر وهو ببيت زرافة فأخبره وأوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر، وبايع له زرافة وركب إلى الدار فبايعه من حضر، وبعث إلى وصيف إن الفتح قتل أبي فقتلته. فحضر وبايع، وبعث عن أخويه المعتز والمؤيد فحضرا وبايعا له. وانتهى الخبر إلى عبيد الله بن يحيى فركب من ليله وقصد منزل المعتز فلم يجده، واجتمع عليه عشرة آلاف من الأزد والأرمن والزواقيل، وأغروه بالحملة على المنتصر وأصحابه فأبى وخام عن ذلك، وأصبح المنتصر فأمر بدفن المتوكل والفتح، وذلك لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. وشاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند وتبعهم وركب بعضهم بعضاً، وقصدوا باب السلطان، فخرج إليهم بعض الأولياء فاسمعوه، ورجع فخرج المنتصر بنفسه وبين يديه المغاربة فشردوهم عن الأبواب فتفرقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس.
خلفاء بني العباس أيام الفتنة
الخبر عن الخلفاء من بني العباس أيام الفتنة، وتغلب الأولياء وتضايق نطاق الدولة باستبداد الولاة في النواحي من لدن المنتصر إلي أيام المستكفي كان بنو العباس حين ولوا الخلافة قد امتدت إيالتهم على جميع ممالك الإِسلام، كما كان بنو أُمَيَّة من قبلهم. ثم لحق بالأندلس من فل بني أُمَيَّة من ولدها هاشم بن عَبْد الملك حافده عَبْد الرحمن بن معاوية بن هشام، ونجا من تلك الهلكة فأجاز البحر ودخل الأندلس، فملكها من يد عَبْد الرحمن بن يوسف الفهري، وخطب للسفاح فيها حولاً ثم لحق به أهل بيته من المشرق فعذلوه في ذلك فقطع الدعوة عنهم. وبقيت بلاد الأندلس مقتطعة من الدولة الإِسلامية عن بني العباس. ثم لمّا كانت وقعة فتح أيام الهادي علي بن الحسن بن علي سنة تسع وتسعين ومائة، وقتل داعيتهم يومئذ حسين بن علي بن حسن المثنى وجماعة من أهل بيته ونجا آخرون، وخلص منهم إدريس بن عَبْد الله بن حسن إلى المغرب الأقصى، وقام بدعوته البرابرة هنالك، فاقتطع المغرب عن بني العباس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم. ثم ضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حُجرهم من حين قتل المتوكل وحدثت الفتن ببغداد، وصار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم، فدعا أبو عَبْد الله الشيعي سنة ست وثمانين ومائتين بإفريقية في طامة لعبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسمعيل بن جعفر الصادق وبايع له، وانتزع إفريقية من يد بني الأغلب واستولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام، واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العباس واستحدثوا له دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر في أخبارهم. ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن زيد بن محمد بن إسمعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط ويعرف بالداعي، خرج سنة خمسين ومائتين أيام المستعين ولحق بالديلم فأسلموا على يديه، وملك طبرستان ونواحيها، وصار هنالك دولة أخذها من يد أخيه سنة إحدى وثلثمائة الأطروش من بني الحسين، ثم من بني علي، عمر داعي الطالقان أيام المعتصم، وقد مر خبره. واسم هذا الأطروش الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر، وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الحسين، واستولى عليها الديلم، وصارت لهم دولة أخرى. وظهر باليمن الرئيس وهو ابن إبراهيم طباطبا بن إسمعيل بن إبراهيم بن حسن المثنى فأظهر هنالك دعوة الزيدية وملك صعدة وصنعاء وبلاد اليمن، وكانت لهم هنالك دولة ولم تزل حتى الآن. وأول من ظهر منهم يحيى بن الحسين بن القاسم سنة تسعين ومائتين ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج ادعى أنه أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد، وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي، وطعن الناس في نسبه فادعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجان ، وقيل إنه انتسب إلى طاهر بن الحسين بن علي والذي ثبت عند المحققين أنه علي بن عَبْد الرحيم بن عَبْد القيس، فكانت له ولبنيه دولة بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد أيام السبعين ومائتين. ثم ظهر القرظ بنواحي البحرين وعمان فسار إليها من الكوفة سنة تسع وسبعين أيام المعتضد، وانتسب إلى بني إسمعيل الإمام بن جعفر الصادق دعوى كاذبة، وكان من أصحابه الحسن الجمالي وزكرونة القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة ودعوا لعبد الله المهدي وغلبوا على البصرة والكوفة، ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان، وكانت لهم هنالك دولة انقرضت آخر المائة الرابعة، وتغلب عليهم العرب من بني سليم وبني عقيل. وفي خلال ذلك استبد بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين ومائتين وأقاموا على الدعوة إلا أنهم لا ينفذون أوامر الخلفاء، وأقامت دولتهم إلى آخر المئة الرابعة. ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بغزنة إلى منتصف المائة السادسة، وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقية دولة أخرى بمصر والشام بالاستبداد من لدن الخمسين والمائتين أيام الفتنة إلى اخر المائة الثالثةثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين والثلثمائة. وفي خلال هذا كله. تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي السواد والجزيرة فقط، إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم. ثم كانت للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي وملكوا الأعمال ثم ساروا إلى بغداد وملكوها وصيروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلثمائة، وكانت من أعظم الدول. ثم أخذها من أياديهم السلجوقية من الغز إحدى شعوب الترك، فلم تزل دولتهم من لدن القائم سنة أربعين وأربعمائة إلى آخر المائة السادسة، وكانت دولتهم من أعظم الدول في العالم. وتشعبت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في مكانه، ثم استبد الخلفاء من بني العباس آخراً في هذا النطاق الضيق ما بين دجلة والفرات وأعمال السواد وبعض أعمال فارس، إلى أن خرج التتار من مفازة الصين وزحفوا إلى الدولة السلجوقية وهم على دين المجوسية، وزحفوا إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم، وانقرض أمر الخلافة، وذلك سنة ست وخمسين وستمائة. ثم أسلموا بعد ذلك وكانت لهم دولة عظيمة، وتشعبت عنها دول لهم ولأشياعهم في النواحي وهي باقية لهذا العهد آخذة في الثلاثين كما نذكر ذلك كله في أماكنه.
دولة المنتصر
ولما بويع المنتصر كما ذكرناه ولى على المظالم أبا عمرو أحمد بن سعيد، وعلى دمشق عيسى بن محمد النوشري، وكان على وزارته أحمد بن الخصيب، واستقامت أموره وتفاوض وصيف وبغا وأحمد بن الخصيب في شأن المعتز والمؤيد لمّا توقعوا من سطوتهما بسبب قتل المتوكل، فحملوا المنتصر على خلعهما لأربعين يوماً من خلافته وبعث إليهما بذلك، فأجاب المؤيد وامتنع المعتز فأغلظوا عليه وأوهموه القتل، فخلا به المؤيد وتلطف به حتى أجاب وخلع نفسه وكتبا ذلك بخطهما. ثم دخلا على المنتصر فأجلسهما واعتذر لهما بسمع من الأمراء بأنهم الذين حملوه على خلعهما فأجبتهم إلى ذلك خشية عليكما منهم، فقبلا يده وشكرا له وشهد عليهما القضاة وبنو هاشم والقواد ووجوه الناس، وكتب بذلك المنتصر إلى الآفاق وإلى محمد بن طاهر ببغداد. ثم إن أحمد بن الخصيب أخا المنتصر أمر بإخراج وصيف للصائفة وإبعاده عن الدولة لمّا بينهما من الشحناء، فأحضره المنتصر وقال له: قد أتانا من طاغية الروم أنه أفسد الثغر فلا بد من مسيرك أو مسيري، فقال بل أنا أشخص يا أمير المؤمنين ! فأمر أحمد بن الخصيب أن يجهزه ويزيح علل العسكر معه، وأمره أن يوافي ثغر ملطية، فسار، وعلى مقدمته مزاحم بن خاقان أخو الفتح، وعلى نفقات العساكر والمغانم والمقاسم أبو الوليد الاقروالى أن يأتيه رأيه.
وفاة المنتصر وبيعة المستعين
ثم أصابت المنتصر علة الذبحة فهلك لخمس بقين من ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين ومائتين لستة أشهر من ولايته، وقيل بل أكثر من ذلك، فجعل السم في مشرطة الطبيب فاجتمع الموالي في القصر وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش وغيرهم، فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسية على الرضا بمن يرضونه لهم، ثم خلصوا للمشورة ومعهم أحمد بن الخصيب، فعدلوا عن ولد المتوكل خوفاً منهم ونظروا في ولد المعتصم فبايعوه واستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أتامش وغدا على دار العامة في زي الخلافة، وإبراهيم بن إسحق يحمل بين يديه الحربة، وصفت المماليك والأشروسية صفين بترتيب دواجن، وحضر أصحاب المراتب من العبّاسيين والطالبيين، وثار جماعة من الجند وقصدوا الدار يذكرون أنهم من أصحاب محمد بن عَبْد الله بن طاهر، والغوغاء فشهروا السلاح وهتفوا باسم المعتز وشدوا على أصحاب دواجن فتضعضعوا، ثم جاءت المبيضة والشاكرية وحمل عليهم المغاربة والأشروسية، فنشبت الحرب وانتهبت الدروع والسلاح من الخزائن بدار العامة، وجاء بغا الصغير، فدفعهم عنها وقتل منهم عدة وفتفت السجون وتمت بيعة الأترال للمستعين، ووضع العطاء على البيعة وبعث الى محمد بن عَبْد الله بن طاهر فبايع له هو والناس ببغداد. ثم جاء الخبر بوفاة طاهر بن عَبْد الله بن طاهر بخراسان، وهلك عمه الحسين بن طاهر بمرو، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر مكانه، وعقد لمحمد بن عَبْد الله بن طاهر على خراسان سنة ثمان وأربعين ومائتين، وولى عمه طلحة على نيسابور، وابنه منصور بن طلحة على مرو وسرخس وخوارزم، وعمه الحسين بن عَبْد الله على هراة وأعمالها، وعمه سليمان بن عَبْد الله على طبرستان، والعباس ابن عمه على الجوزجان والطالقان. ومات بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله كلها وبعث أناجور من قواد الترك إلى العمرط الثعلبي فقتله، واستأذنه عَبْد الله بن يحيى بن خان في الحجّ فأذن له، ثم بعث خلفه من نفاه إلى برقة، وحبس المعتز والمؤيد في حجره بالجوسق بعد أن أراد قواد الأتراك قتلهما، فمنعهم أحمد بن الخصيب من ذلك. ثم قبض على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفاه إلى قرطيش واستوزر أتامش وعقد له على مصر والمغرب، وعقد بغا الصغير على حلوان وماسيدان ومهرجا تعرف، وجعل شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخاصة أموره وخدمه، وأشناس على جميع الناس. وعزل علي بن يحيى الأرمني عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. وكان على حمص كندر، فوثب به أهلها فأخرجوه، فبعث المستعين الفضل بن قارن وهو أخو مازيار فاستباحهم وحمل أعيانهم إلى سامرا، وبعث المستعين إلى وصيف وهو بالثغر الشامي بأن يغزو بالصائفة، فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قرورية. ثم غزا بالصائفة سنة تسع وأربعين جعفر بن دينار وافتتح مطامير، واستأذنه عمر بن عَبْد الله الأقطع في تدويخ بلاد الروم فأذن له فدخل في جماعة من أهل ملطية ولقي ملك الروم فخرج الأسقف في خمسين ألفاً أحاطوا به، وقتل عمر في ألفين من المسلمين. وكان على الثغور الجزرية فأغار عليها الروم، وبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قابل من أرمينية إلى ميافارقين ومعه جماعة من أهلها، فنفر إليهم وهو في نحو أربعمائة فقتلوا وقتل.
فتنة بغداد وسامرا
ولما اتصل الخبر ببغداد وسامرا بقتل عمر بن عَبْد الله وعلي بن يحيى شق ذلك على الناس لمّا كانوا عليه من عظيم الغناء في الجهاد، واشتد نكيرهم على الترك في غفلتهم عن المصالح، وتذكروا قتل المتوكل واستيلاءهم على الأمور، فاجتمعت العامة وتنادوا بالنفير إلى الجهاد. وانضم إليهم الشاكرية يطلبون أرزاقهم، ثم فتقوا السجون وقطعوا الجسور وانتهبوا دور كتاب محمد بن عَبْد الله بن طاهر. ثم أخرج أهل اليسار من بغداد الأموال ففرّقوها في المجاهدين، وجاءت العامة من الجبال وفارس والأهواز فنفروا للغزو، ولم يظهر للمستعين ولا لأهل الدولة في ذلك أثر. ثم وثب العامة بسامرا وفتقوا السجون وخرج من كان فيها، وجاء جماعة من الموالي في طلبهم فوثب العامة بهم وهزموهم، وركب بغا ووصيف وأتامش في الترك فقتلوا من العامة خلقا وانتهبوا منازلهم وسكنت الفتنة.
مقتل أتامش
كان المستعين لمّا ولي أطلق يد أمّه وأتامش وشاهك الخادم في الأموال، وما فضل عنهم فلنفقات العباس بن المستعين وكان في حجر أتامش، فبعث ذلك عليه بغا و وصيف، وضاق حال الأتراك والفراعنة ودسهم عليهم بغا ووصيف، فخرج منهم أهل الكرخ والدور وقصدوه في الجوسق مع المتعين، وأراد الهرب فلم يطق واشجار بالمستعين فلم يجره، وحاصروه يومين. ثم افتتحوا عليه الجوسق وقتلوه وقتلوا كاتبه شجاع بن القاسم ونهبت أموالهم، واستوزر المستعين مكانه أبا عَبْد الله بن محمد بن علي على الأهواز، وبغا الصغير على فلسطين. ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح فهرب إلى بغداد، واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني، وولى على ديوان الرسائل سعيد بن حميد.
ظهور يحيي بن عمر ومقتله
كان على الطالبيين بالكوفة يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد الشهيد ويكنى أبا الحسين، وأمه من ولد عَبْد الله بن جعفر وكان من سُراتهم ووجوههم، وكان عمر بن فرج يتولى أمر الطالبيين أيام المتوكل، فعرض له أبر الحسين عند مقدمه من خراسان يسأله صلة لدين لزمه، فأغلظ له عمر القول وحبسه حتى أخذ عليه الكفلاء وانطلق إلى بغداد. لم جاء إلى سامرا، وقد أملق فتعرض لوصيف في رزق يجرى له، فأساءه عليه وإليها فرجع إلى الكوفة وعاملها يومئذ أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي من قبل محمد بن عَبْد الله بن طاهر، فاعتزم على الخروج والتف عليه جمع من الأعراب وأهل الكوفة، ودعا للرضى من آل محمد ففتق السجون ونهبها وطرد العمال، وأخذ من ببت المال ألفي دينار وسبعين ألف درهم. وكان صاحب البريد قد طير بخبره إلى محمد بن عَبْد الله بن طاهر، فكتب إلى عامله بالسواد عَبْد الله بن محمود السرخسي أن يصير مددا إلى الكوفة، فلقيه وقاتله، فهزمهم بحبى، وانتهب ما معهم وخرج إلى سواد الكوفة وتبعه خلق من الزيدية، وانتهى الى ناحية واسط وكثرت جموعه. وسرح محمد بن عَبْد الله بن طاهر إلى محاربة الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في العساكر فسار إليه. وقد كان يحيى قصد الكوفة فلقيه عَبْد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس فهزمه يحيى إلى ناحية ساهي، ودخل الكوفة واجتمعت عليه الزيدية واشتمل عليه عامة أهل الكوفة وإمداد الزيدية من بغداد، وجاء الحسين بن إسماعيل وانضم إليه عَبْد الرحمن بن الخطاب. وخرج يحيى من الكوفة ليعاجلهم الحرب فأسرى ليلته وصبح العساكر فساروا إليه فهزموه ووضعوا السيف في أصحابه، وأسروا الكثير من أتباعه كان منهم الهيصم العجلي
وغيره، وانجلت الحرب عن يحيى بن عمر قتيلا فبعثوا برأسه إلى محمد بن عَبْد الله بن طاهر فبعث به إلى المستعين، وجعل في صندوق في بيت السلاح، وجيء بالأسرى فعبسوا وكان ذلك منتصف رجب سنة خمس ومائتين.
الدولة العلوية
ابتداء الدولة العلوية بطبرستان لمّا ظهر محمد بن عَبْد الله بن طاهر بيحيى بن عمرو وكان له من الغناء في حربه ما قدمناه، أقطعه المستعين قطائع من صوافي السلطان بطبرستان كانت منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس ، وفيها أرض موات ذات غياض وأشجار وكلأ، مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب والرعي، وكان عامل طبرستان يومئذ من قبل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمه سليمان بن عَبْد الله بن طاهر وهو أخو محمد صاحب القطائع، وكان سليمان مكفولا لأمه، وقد حظي عندها وتقدم وفرق أولاده في أعمال طبرستان. وأساؤوا السيرة في الرعايا، ودخل حمد بن أوس بلاد الديلم وهم مسالمون، فسبى منهم وانحرفوا لذلك. وجاء نائب حمد بن عَبْد الله لقبض القطائع فحاز فيها تلك الأرض الموات المرصدة المرافق الناس، فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض وهما محمد وجعفر ابنا رستم واستنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلك، فخافهما النائب ولحق بسليمان صاحب طبرستان. وبعث ابنا رستم إلى الديلم يستنجدانهم على حرب سليمان، وبعثا إلى محمد بن إبراهيم من العلويين بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره، فامتنع ودلهما على كبير العلوية بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط، فشخص إليهما وقد اجتمع أهل كلار وسالوس ومقدمهم ابنا رستم وأهل الريان ومعهم الديلم بأسرهم، فبايعوه جميعاً وطردوا عمال سليمان وابن أوس. ثم انضم إليهم جبال طبرستان وزحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد، وخرج ابن أوس من صارية لمدافعته، فانهزم ولحق بسليمان من سارية، فخرج سليمان لحرب الحسن. لمّا التقى الجمعان بعث الحسن بعض قواده خالد سليمان إلى سارية، وسمع بذلك سليمان فانهزم، وملك الحسن سارية وبعث بعيال سليمان وأولاده في البحر إلى جرجان. وقيل: إن سليمان انهزم اختياراً لمّا كان بنو طاهر يتهمون به من التشييع. ثم بعث الحسن إلى الري ابن عفه وهو القاسم بن علي بن إسماعيل، ويقال محمد بن جعفر بن عَبْد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين، فملكها. وبعث المستعين جنداً إلى همذان ليمنعها. ولما ملك محمد بن جعفر قائد الحسن بن زيد الري أساء السيرة، وبعث محمد بن طاهر قائد محمد بن ميكال أخو الشاه فغلبه على الرى وانتزعها منه وأسره، نجث إليه الحسن بن زيد قائده دواجن، فهزم ابن ميكال وقتله واسترجع الرى. ثم رجع سليمان بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها، ولحق الحسين بالديلم، وسار سليمان إلى سارية وآمد ومعهم أبناء قارن بن شهرزاد، فصفح عنهم ونهى أصحابه عن المك والأذى. ثم جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الري من يدي أبي دُلف ، وبعث مصلحا إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد وهزمه، واستولى على طبرستان، ولحق الحسن بالديلم ودخل مفلح آمد وخرب منازل الحسن ورجع إلى موسى بالري.
مقتل باغر
وكان باغر هذا من قواد الترك ومن جملة بغا الصغير، ولما قتل المتوكل زيد في أرزاقه وأقطعوه قرى بسواد الكوفة وضمنها له بعض أهل باروسما بألفي دينار فطلبه ابن مارمة وكيل باغر، وحبسه، ثم تخلص وسار إلى سامرا، وكانت له ذمة من نصراني عند بغا الصغير، فأجاره النصراني من كيد بغا وأغراه عليه، فغضب لذلك باغر وشكى إلى بغا فأغلظ له القول، وقال: إني مستبدل من النصراني، وافعل فيه بعد ذلك ما تريد، ودس الى النصراني بالحذر من باغر وأظهر عزله، وبقي باغر يتهدده. وقد انقطع عن المستعين، وقد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطان، فسأل المستعين وصيفاً من أعمال إيتاخ وقلدها لباغر، فعذل وصيفاً في الشأن فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة. وتنكر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين بايعوه على المتوكل وجدد عليهم العهد في قتل المستعين وبغا ووصيف، وأن ينصبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لهم. ونما الخبر على الترك إلى المستعين فأحضر بغا ووصيفاً وأعلمهما بالخبر، فحلفا له على العلم وأمروا بحبس باغر ورجلين معه من الأتراك، فسخطوا ذلك، وثاروا فانتهبوا الإصطبل وحضروا الجوثق. وأمر بغا ووصيف وشاهك الخادم وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاده، ونزل على محمد بن طاهر في بيته في المحرم سنة إحدى وخمسين، ولحق به القواد والكتاب والعمال وبنو هاشم، وتخلف جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ، فندم الأتراك وركب جماعة من قوادهم إلى المستعين وأصحابه ليردوهم فأبوا ورجعوا آيسين منه وتفاوضوا في بيعة المعتز. بيعة المعتز وحصار المستعين:
كان قواد الأتراك لمّا جاؤا إلى المستعين ببغداد يعتذرون من فعل ويتطارحون في الرضا عنهم والرجوع إلى دار مكة وهو يوبخهم ويعدد عليهم إحسانه وإساءتهم، ولم يزالوا به حتى صرح لهم بالرضا. فقال بعضهم: فإن كنت رضيت فقم واركب معنا إلى سامرا فكلمه ابن طاهر لسوء خطابهم، وضحك المستعين لعُجمتِهم وجهلهم بآداب الخطاب، وأمر باستمرار أرزاقهم ووعدهم بالرجوع، فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر، وأخرجوا المعتز من محبسه وبايعوا له بالخلافة، وأعطى للناس شهرين.وحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد فامتنع منها وقال: قد خلعت نفسك! فقال أكرهت! فقال ما علمنا ذلك ولا مخلص لنا في إيماننا فتركه. وولوا على الشرطة إبراهيم البربرح وأضيفت له الكتابة والدواوين وبيت المال، وهرب عتاب بن عتاب من القواد إلى بغداد، وقام محمد بن عَبْد الله بن طاهر بالاحتشاد، واستقدم مالك بن طوق في أهل بيته وجنده، وأمر حوبة بن قيس وهو على الأنبار- بالاحتشاد. وكتب إلى سليمان بن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة عن سامرا وشرع في تحصين بغداد وأدار عليها الأسوار والخنادق من الجانبين، وجعل على كل باب قائداً، ونصب على الأبواب المجانيق والعرادات، وشحن الأسوار بالرماة والمقاتلة، وبلغت النفقة في ذلك ثلثمائة وثلاثين ألف دينار، وفوض للعيارين الرزق وأغدق عليهم، وأنفذ كتب المستعين إلى العمال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد. وكتب المستعين إلى الأتراك يأمرهم بالرجوع عما فعلوا، وكتب المعتز إلى محمد يدعوه إلى بيعته، وطالت المراجعات في ذلك، وكان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص، فاختلفت إليه وهو بالشام كتب المستعين والمعتز يدعوه كل واحد منهما إلى نفسه، فاختار المعتز ورجع إليه، وهرب إليه عَبْد الله بن بغا الصغير من بغداد بعد أن هرب عنه فقتله. وهرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلع عليه المستعين وضمّ إليه الأشروسنة. ثم عقد المعتز لأخيه إلى أحمد الواثق عن حرب بغداد، وضمّ إليه الجنود مع باكليال من قوادهم، فسار في خمسين ألفاً من الأتراك والفراغنة والمغاربة، وانتهبوا ما ببن عكبرا وبغداد من القرى والضياع وخرّبوها، وهرب إليهم جماعة من أصحاب بغا الصغير ووصلوا إلى باب الشماسية. وولى المستعين على باب الشماسية الحسين بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب، وجعل القواد هنالك تحت يده، ووافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه وأمده ابن طاهر بالشاه بن ميكال وبيدار الطبري. ثم ركب محمد بن عَبْد الله بن طاهر من الغد ومعه بغا ووصيف والفقهاء والقضاة، وذلك عاشر صفر، وبعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعة على المعتزّ ولي عهده فلم يجيبوا، فانصرفوا، وبعث إليه القواد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال. وقدم ذلك اليوم عَبْد الله بن سليمان خليفة بغا من مكة في ثلثمائة رجل. ثم جاء الأتراك من الغد فاقتتلوا مع القواد وانهزم القواد، وبلغ ابن طاهر أن جماعة من الأتراك ساروا نحو النهروان، فبعث قائداً من أصحابه إليهم فرجع منهزماً، واستولى الأتراك على طريق خراسان وقطعوها عن بغداد. ثم بعث المعتز عسكراً آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجانب الغربي، وبعث ابن طاهر إليهم الشاه بن ميكال فهزمهم وأثخن فيهم، ورجع إلى بغداد فخلع عليه وسائر القواد أربع خلع وطوقاً وسواراً من ذهب لكل واحد. ثم أمر ابن طاهر بهدم الدور والحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحرب، وقدمت عليه أموال فارس والأهواز مع مكحول الأشروسي.
وخرج الأتراك الاعتراضه. وبعث ابن طاهر لحفظه فقدموا به بغداد، ولم يظفر به الأتراك، ومضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن الجسر. وكان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد والياً على الثغور الجزرية، وأقام ينتظر الجند والمال، فلما بلغه خبر هذه الفتنة جاء على طريق الرقة إلى بغداد، فخلع عليه ابن طاهر وبعثه في جيش كثيف لمحاربتهم، وصار إلى ضبيعة بالسواد فأقام بها. فقال ابن طاهر: لن يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به، ثم ذهب الأتراك وقاتلوا. واتصل الحصار واشتدت الحرب وانتهبت الأسواق، وورد الخبر من الثغور بأن بلكاجور حمل الناس على بيعة المعتز فقال ابن طاهر: لعله ظن موت المستعين فكان كذلك، ووصل كتابه بأنه جدد البيعة. وكان موسى بن بغا مع الأتراك كما قد قدمنا فاراد الرجوع على المستعين فامتنع اصحابه وقاتلوه فلم يتم له أمره، وفر القطاعون من البصرة ورموا على الأتراك فأحرقوهم، فبعث ابن طاهر إلى المدائن ليحفظها وامده بثلاثة آلاف فارس، وبعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشق الماء إلى خندقها من الفرات وجاء إلى الإسحاقي من قبل المعتز، فسبق المدد الذي جاء من قبل ابن طاهر وملك الأنبار. ورجع حوبة إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر الحسين بن إسمعيل في جماعة من القواد والجند، فاعترضه الأتراك وحاربوه وعاد إلى الأنبار، وتقدم هو لينزل عليهما، وبينما هو يحط الأثقال إذا بالأتراك فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم، وكانوا قد كمنوا له فخرج الكمين وانهزم الحسين وغرق كثير من أصحابه في الفرات. وأخذ الأتراك عسكره ووصل إلى الياسرية آخر جمادى الآخرة، ومنع ابن طاهر المنهزمين من دخول بغداد، وتوعدهم على الرجوع إليه. وأمده بجند آخر فدخل من الياسرية، وبعث على المخاض الحسين بن علي بن يحيى الأرميني في مائتي مقاتل ليمنع الأتراك من العبور إليه من عدوة الفرات، فوافوه وقاتلوه عليها فهزموه، وركب الحسين في زورق منحدراً، وترك عسكره وأثقاله فاستولى عليها الأتراك، ووصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم. ولحق من عسكره جماعة من القواد والكتاب بالمعتز وفيهم علي ومحمد ابنا الواثق، وذلك أول رجب. ثم كانت بينهم عدة وقعات، وقتل من الفريقين خلق، ودخل الأتراك في كثير من الأيام بغداد وأخرجوا عنها. ثم ساروا إلى المدائن وغلبوا طيها ابن أبي السفاح وملكوها. وجاء الأتراك الذين بالأنبار إلى الجانب الغربي، وانتهوا إلى صرصر وقصر ابن هبيرة، واتصل الحصار إلى شهر ذي القعدة، وخرج ابن طاهر في بعض أيامه في جميع القواد والعساكر، فقاتلهم وانهزموا وقتل منهم خلق، وارتقم الذين كانوا مع بغا ووصيف لذلك فلحقوا بالأتراك. ثم تراجع الأتراك وانهزم أهل بغداد. ثم خرج في ذي الحجة رشيد بن كاووس أخو الأفشين ساعياًَ في الصلح بين الفريقين، واتهم الناس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين، فلما جاء رشيد وأبلغهم سلام المعتز وأخيه أبي أحمد شتموه وشتموا ابن طاهر، وعمدوا إلى دار رشيد ليهدموها، وسأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم فخرج إليهم ونهاهم وبرأ ابن طاهر مما اتهموه به فانصرفوا، وترددت الرسل بين ابن طاهر وبين أبي أحمد فتجدد للعامة والجند سوء الظن. وطلب الجند أرزاقهم فوعدهم بشهرين، وأمرهم بالنزول فأبوا إلا أن يعلمهم الصحيح من رأيه في المستعين. وخاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائن والأنبار، فأصعد المستعين على سطح دار العامة حتى رآه الناس وبيده البردة والقضيب، وأقسم عليهم فانصرفوا. واعتزم ابن طاهر على التحول إلى المدائن، فجاءه وجوه الناس واعتذروا له بالغوغاء فأقصروا بنقل المستعين عن دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم بالرصافة. وأمر القوّاد وبني هاشم بالكون مع ابن طاهر، فركب في تعبية وحلف لهم على المستعين وعلى قصد الإصلاح فدعوا له، وسار إلى المستعين وأغراه به، وأمر بغا ووصيفاً بقتله فلم يفعلا. وجاءه أحمد بن إسرائيل والحسين بن مخلد بمثل ذلك في المستعين، فتغير له ابن طاهر. فلما كان يوم الأضحى وقد حضر الفقهاء والقضاة طالبه ابن طاهر بإمضاء الصلح، فأجاب وخرج إلى باب الشماسية، فجلس هناك ابن طاهر إلى المستعين وأخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه، ويبتذلوا له خمسين ألف دينار، ويعطوه غلة ثلاثين ألف دينار، ويقيم بالحجاز متردداً بين الحرمين، ويكون بغا والياً على الحجاز، ووصيف على الجبل، ويكون ثلث الجباية لابن طاهر، وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك. فامتنع المستعين أولاً من الخلع ظناً منه أن وصيفاً وبغا معه. ثم تبين موافقتهما عليه، فأجاب وكتب بما أراد من الشروط، وأدخل الفقهاء، والقضاة وأشهدهم بأنه قد صير أمره إلى ابن طاهر. ثم أحضر القواد وأخبرهم بأنه ما قصد بهذا الإصلاح إلا حقن الدماء، وأخرجهم الى المعتز ليوافقهم بخطه على كتاب الشرط ويشهدوا على إقراره، فجاؤا بذلك لستٍ خلون من المحرم سنة إثنتين وخمسين ومائتين.
خلع المستعين ومقتله والفتن خلال ذلك: ولما تم ما عقده ابن طاهر ووافى القواد بخط المعتز على كتاب الشروط أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد، وخطب له بها وبايع له المستعين وأشهد على نفسه بذلك، فنقله من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل ومعه عياله وأهله، وأخذ البردة والقضيب والخاتم ومنع من الخروج إلى مكة، فطلب البصرة فمنع منها، وبعث إلى واسط. فاستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل، ورجع أخوه أبو أحمد إلى سامرا. وفي آخر المحرم انصرف أبو الساج دبواز بن درموسب إلى بغداد، فقلده ابن طاهر معاون السواد، فبعث معه مؤنة إليها لطرد الأتراك والمغاربة عنها، وسار هو إلى الكوفة. ثم كتب المعتز إلى ابن طاهر بإسقاط بغا ووصيف ومن معهما من الدواوين، وكان محمد أبو عون من قواد ابن طاهر قد تكفل لأبي إسحق بقتلهما، وعقد له المعتز على اليمامة والبحرين والبصرة. ونمي الخبر إليهما بذلك فركبا إلى ابن طاهر وأخبراه الخبر وأن القوم قد نقضوا العهد. ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد، وكان في حجرها فاستوهبت له الرضا من المعتز، وكذا فعل أبو أحمد مع بغا، وكتب لهم المعتز جميعاً بالرضا. ثم رغب الأتراك في إحضارهما بسامرا، فكتب بذلك ودس إلى ابن طاهر بمنعهما فخرجا فيمن معهما ولم يقدر ابن طاهر على منعهما. وحضرا بسامرا فعقد إليهما المعتز على أعمالهما، ورد البريد إلى موسى بن بغا الكبير. ثم كانت فتنة بين جند بغداد وابن طاهر في شهر رمضان، جاؤا إليه يطلبون أرزاقهم قال: كتبت إلى أمير المؤمنين في ذلك فكتب إلي إن كنت تريد لجند لنفسك فأعطهم، وإن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم. فشغبوا ففرق فيهم ألفي دينار فسكنوا. ثم اجتمعوا ثانية ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا الخيام بباب الشماسية وبنوا البيوت من أ الأعواد والقصب. وجمع محمد بن إبراهيم أصحابه وشحن داره بالرجال، وأرادوا يوم الجمعة أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعد واعتذر بالمرض، فخرجوا إلى الجسر ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر ودفعوهم عنه. ثم دفعوا أصحاب ابن طاهر بإعانة! أهل الجانب الشرقي، وجاء العامة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهر بإحراق الحوانيت إلى باب الجسر، ومات أصحاب تعبية الحرب وجاء من دله على عورة الجند، فسرح الشاه
ابن ميكال وعرض القواد فسار إلى ناحيتهم، وافترقوا وقتل بينهم ابن الخليل .
وحمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عبدون بن الموفق إلى ابن طاهر ومات في خلال ذلك. وأخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد، وذلك أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار، فأخذها عيسى بن فرخانشاه، فأغرى المؤيد بعيسى الأتراك والمغاربة، فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد فحبسهما وقيد المؤيد، فأخذ خطه بخلع نفسه. ثم نمي إليه أن الأتراك يرومون إخراجه من الحبس، فسأل عن ذلك موسى بن بغا فأنكر علم ذلك، وأخرج المؤيد من الغد ميتاً ودفنته أمه، فيقال غطى على أنفه فمات، وقيل أقعد في الثلج ووضع على رأسه. ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى مجلسه. ثم اعتزم المعتز على قتل المستعين، فكتب إلى محمد بن عَبْد الله بن طاهر أن يسلمه إلى سيما الخادم، وكتب محمد في ذلك إلى الموكلين به بواسط، يقال بل أرسل بذلك أحمد بن طولون، فسار به في القاطون وسلمه إلى سعيد بن صالح، فضربه سعيد حتى مات، وقيل ألقاه في دجلة بحجرٍ في رجله، وكانت معه دابته فقتلت معه وحمل رأسه إلى المعتز فأمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولاه معونة البصرة. ثم وقعت فتنة بين الأتراك والمغاربة مستهل رجب، بسبب أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرخانشاه فضربوه وأخذوا دابته لمّا أمرهم المؤيد، فامتعضت المغاربة له ونكروا على الأتراك وغلبوهم على الجوسق، وأخذوا دوابهم وركبوها وملكوا بيت المال. واستجاش الأتراك بمن كان منهم في الكرخ والدور، وانضم الغوغاء والشاكرية إلى المغاربة، فضعفت الأتراك عن لقائهم وسعى بينهم جعفر بن عَبْد الواحد في الصلح، فتوادعوا أياماً. ثم اجتمع الأتراك على حين افتراق المغاربة، فقصد محمد بن راشد ونصر بن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان عنده حتى تسكن الهيعة، فدس للاتراك بخبرهما وجاؤا فقتلوهما في منزله وبلغ ذلك المعتز فهم بقتل ابن عون ثم نفاه. أخبار مساور الخارجي: كان الوالي على الموصل عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هانىء الخزاعي وكان صاحب الشرطة بالحديثة من أعمالها حسين بن بكير، وكان مساور ابن عَبْد الله بن مساور البجلي من الخوارج يسكن بالبواريخ. وحبس صاحب الشرطة حسين بن بكير بالحديثة ابناً للمساور هذا يسمى جوثرة وكان جميلاً، فكتب إلى أبيه مساور بأن حسين بن بكير نال منه الفاحشة، فغضب لذلك وخرج فقصد الحديثة، فاختفى حسين وأخرج ابنه من الحبس. ثم كثر جمعه من الأكراد والأعراب، وقصد الموصل فقاتلها أياماً، ثم رجع فكان تحت طريق خراسان، وكانت لنظر بندأر ومظفر بن مشبك فسار إليه بندأر في ثلثمائة مقاتل، والخوارج مع مساور في سبعمائة فهزموه وقتلوه،ولم ينج منهم إلا نحو خمسين رجلاً، وفر مظفر إلى بغداد. وجاء الخوارج إلى جلولاء، وكانت فيهم حرب هلك فيها من الجانبين خلق. ثم سار خطرمش في العساكر فلقيهم بجلولاء، وهزمه مساور. ثم استولى مساور على أكثر أعمال الموصل، ثم ولي الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي سنة أربع وخمسين، فاستخلف عليها ابنه الحسن، فجمع عسكراً كان فيهم حمدون بن الحرث بن لقمان جد الأمراء من بني حمدان، ومحمد بن عَبْد الله بن السيد بن أنس، وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب، فتأخر عن موضعه. وسار الحسن في طلبه فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل، وقتل محمد بن السيد الأزدي، ونجا الحسن بن أيوب إلى أعمال إربل. ثم كانت الفتنة سنة خمس وخمسين خلع المعتز وبويع للمهتدي، وولي على الموصل عَبْد الله بن سليمان. فزحف إليه مساور، وخام عَبْد الله عن لقائه، فملك مساور البلد، وأقام بها جمعة وصلى وخطب، ثم خرج منها إلى الحديثة وكانت دار هجرته. ثم انتقض عليه سنة ست وخمسين رجل من الخوارج اسمه عبيدة بن زهير العمر بسبب الخلاف في توبة الخاطىء. وقال عبيدة لا تقبل واجتمع معه جماعة، وخرج إليهم مساور من الحديثة واقتتلوا قتالاً شديداً، ثم قتل عبيدة وانهزم أصحابه. وخرج إليه آخر من بني زهر اسمه طوق، فجمع له الحسن بن أيوب بن أحمد العدوي جمعاً كثيراً وحاربه فقاتله سنة خمس أو سبع، واستولى مساور على أكثر العراق ومنع الأموال، فسار إليه موسى بن بغا بابكيال في العساكر فانتهوا إلى [*]
وبلغهم خبر الأتراك مع المهتدي فأقاموا ثم زحفوا بخلع المهدي، فلما ولي المعتمد سير مفلحاً إلى، قتال مساور في عسكر كبير، وخرج مساور عن الحديثة إلى جبلين حذاءها وقاتله مفلح في اتباعه، ولحق الجبل فاعتصم به وأقام مفلح في حصاره، فكانت بينهما وقعات، وكثرت الجراحة في أصحاب مساور من لدن. حربه مع عبيدة إلى هذه الحروب فسار عن الجبل وتركه وأصبح مفلح وقد فقدهم فسار إلى الموصل ثم إلى ديار ربيعة وسنجار ونصيبين والخابور، فأصلح أمورها وخرج من الموصل إلى الحديثة ففارقها عنه، فرجع مساور في اتباعهم يتخطف من أعقابهم ويقاتلهم حتى وصل الحديثة، فأقام بها أياماً، ثم سار إلى بغداد في رمضان سنة ست وخمسين، فرجع مساور إلى الحديثة واستولى على البلاد واشتدت شوكته، ثم أوقع به مسرور البلخي سنة ثمان وخمسين، وجهز العسكر بالحديثة مع جعلان من قواد الترك. ثم قتل سنة إحدى وستين يحيى بن جعفر من ولاة خراسان، وسار مسرور في طلبه وتبعه الموفق فلم يدركاه.
مقتل وصيف ثم بغا
وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز اجتمع الجند من الأتراك والفراغنة والأشروسية فطلبوا أرزاقهم منهم لأربعة أشهر وشغبوا، فخرج إليهم بغا ورصيف وسيما الطويل، وكلمهم وصيف واعتذر بعدم المال وقال: خذوا الزاب في أرزاقكم. ونزلوا بدار أشناس يتناظرون في ذلك، ومضى بغا وسيما إلى المعتز يسألانه في أمرهم، وبقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فقتله وقطعوا رأسه ونصبوه. ثم انقادوا وأهدر لهم ذلك، وجعل المعتز لبغا الشرابي ما كان لوصيف، وألبسه التاج والوشاحين، ثم تغير له المعتز لمّا عليه من الاستبداد على الدولة، وخشي غائلته ومال باطناً إلى بابكيال وداخله فى أمره واعتده لذلك. ثم زوج بغا إبنته آمنة من صالح بن وصيف وشغل بجهازها، فركب المعتز في تلك الغفلة ومعه حمدان بن إسرائيل إلى بابكيال في كرخ سامرا، وكانت بينه وبين بغا وحشة شديدة، وبلغ ذلك بغا فركب في خمسمائة من غلمانه وولده وقواده، وكان أكثرهم منحرفين عنه ولحق بالسن، وأقام المعتز على وجل لا ينام إلا بسلاحه. ثم تعلل أصحاب بغا عليه فأعرض عنهم وركب البحر راجعاً إلى بغداد، وجاء الجسر ليلاً لئلا يفطن به الموكلون هنالك، وبعثوا إلى المعتز بخبره، فأمر بقتله وحمل إليه رأسه، ونصب بسامرا وأحرقت المغاربة شلوه، وكان قصد دار صالح بن وصيف ليثبوا على المعتز.
ابتداء دولة الصفار
كان يعقوب بن الليث بن عمرو الصفار بسجستان، وكان صالح بن النضر الكناني من أهل البيت قد ظهر بتلك الناحية وقام يقاتل الخوارج، وسمى أصحابه المتطوعة، حتى قيل له صالح المطوعى، وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث هذا وغلبوا على سجستان، ثم أخرجهم عنها طاهر بن عَبْد الله أمير خراسان. وهلك صالح إثر ذلك، وقام بأمر المتطوعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه. وكان يعقوب بن الليث شهماً وكان درهم مضعفاً، واحتال صاحب خراسان حتى ظفر به وحبس ببغداد، فاجتمعت المتطوعة على يعقوب بن الليث، وقام بقتال السراة وأتيح له الظفر عليهم وأثخن فيهم وخرب قراهم، وكانت له شرية في أصحابه لم تكن لأحد قبله، فحسنت طاعتهم له وعظم أمره وملك سجستان مظهراً طاعة الخليفة وكاتبه وقلده حرب السراة، فأحسن الغناء فيه وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم سار من سجستان إلى نواحي خراسان وعليها يومئذ محمد بن عَبْد الله بن طاهر، وعلى هراة من قبله محمد بن أوس الأنباري، فجمع لمحاربة يعقوب وسار إليهم في التعبية، فاقتتلوا وانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج، وعظم أمره وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطراف- وكان المعتز قد كتب بولاية سجستان، فكتب له الآن بولاية كرمان، وكان على فارس علي بن الحسين بن شبل، وأبطأ عامل الخراج. واعتذر، فكتب له المعتز بولاية كرمان يريد إعداء كل منهما بصاحبه لأن طاعتهما مهوضة، فأرسل عليّ بن الحسين بفارس طوق بن الغلس خليفة على كرمان، وسار يعقوب الصفار من سجستان فسبقه طوق واستولى عليها، وأقام يعقوب بمكانه قريباً منها يترقب خروج طوق إليه. وبعد شهرين ارتحل إلى سجستان فوضع طوق أوزار الحرب وأقبل على اللهو، واتصل ذلك بيعقوب في طريقه، فكر راجعاً وأغذ السير فصادفه بعد يومين، وركب أصحابه وقد أحيط بهم ففروا ناجين بأنفسهم، وملك يعقوب كرمان وحبس طوق. وبلغ الخبر إلى عليّ بن الحسين وهو على شيراز، فجمع جيشه ونزل على مضيق شيراز وأقبل عليه يعقوب حتى نزل قبالته، والمضيق متوعر بين جبل ونهر ضيق المسلك بينهما، فاقتحم يعقوب النهر بينهما وأجاز إلى علي بن الحسين وأصحابه فانهزموا، وأخذ عليّ أسيراً، واستولى على جميع عسكره، ودخل شيراز وملكها وجبى الخراج ورجع إلى سجستان وذلك سنة خمس وخمسين. ويقال بل وقع بينهما بعد عبور النهر حرب شديدة انهزم آخرها علّي، وكان عسكره نحواً من خمسة عشر ألفاً من الموالي والأكراد، ورجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم وازدحموا في الأبواب، وافترقوا في نواحي فارس وانتهوا إلى الأهواز وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف، ولما دخل يعقوب وملك فارس امتحن عليًّا وأخذ منه ألف بردة، ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحد، وكتب إلى الخليفة بطاعته وأهدى هدية جليلة يقال منها عشر بازات بيض وباز أبلق صيني ومائة نافجة من المسك وغير ذلك من الطرف ورجع إلى سجستان، ثم استعاد الخليفة بعد ذلك فارس وبعث عماله إليها.
ابتداء دولة ابن طولون بمصر
كان بابكيال من أكابر قواد الأتراك مع بغا ووصيف وسيما الطويل، ولما حدثت هذه الفتن وتغلبوا على الخلفاء أخذوا الأعمال والنواحي في اقطاعهم، فأقطع المعتز بابكيال هذا أعمال مصر وبها يومئذ ابن مدبر، وكان بابكيال مقيماً بالحفيدة فنظر فيمن يستخلفه عليها، وكان أحمد بن طولون من أبناء الأتراك وأبوه من سبي فرغانة وربّي في دار الخلفاء، ونشأ ابنه أحمد بها على طريقة مستقيمة لبابكيال خاله، وأشير عليه بتوليته فبعثه على مصر فاستولى عليها أوّلاً دون أعمالها والإسكندرية. ثم قتل المعتز بابكيال وصارت مصر في إقطاع بارجوع الترك، وكان بينه وبين أحمد بن طولون مودّة متأكدة، فكتب إليه واستخلفه على مصر جميعها، ورسخت قدمه فيها وأصارها تراثاً لبنيه فكانت لهم فيها الدولة المعروفة.
استقدام سليمان بن طاهر لولاية بغداد
قد تقدّم لنا أن محمد بن عَبْد الله بن طاهر بن الحسين كان على العراق والسواد، وكانت لهم الشرطة وغيرها، وكان مقيماً ببغداد، وكان في المدافعة عن المستعين لمّا لجأ اليه. ثم صلح ما بينه وبين المعتز، واستقل المعتز بالخلافة والآثار المذكورة. ثم هلك آخر سنة ثلاث وثمانين أيام المعتز وفوض ما كان بيده من الولاية إلى أخيه عَبْيد الله، نازعه ابنه طاهر في الصلاة عليه ومالت العامّة مع أصحاب طاهر، والقواد مع عبيد الله لوصية أخيه. ثم أمضى المعتز عهد أخيه وخلع عليه، وبذل لصاحب الخلع خمسين ألف درهم. ثم بعث المعتز عن سليمان بن عَبْد الله بن طاهر من خراسان، وولاه على العراق والشرطة وغيرها مكان أخيه محمد، وعزل أخاهما عبيد الله. فلما علم عبيد الله تقدم سليمان أخذ ما في بيت المال وانتقل إلى غربيّ دجلة، وجاء سليمان وقائده محمد ابن أوس ومعه جند من خراسان، فأساؤا السيرة في أهل بغداد فحنق الناس عليهم وأعطى أرزاقهم مما بقي في بيت المال، وقدمهم على جند بغداد وشاكريّها، فاتفق الجند على الثورة وفتقوا السجون، وعبر ابن أوس إلى الجزيرة واتبعه الجند والعامّة، فحاربهم وانهزم وأخرجوه من باب الشماسية، ونهب من منزله قيمة ألفي ألف درهم، ومن الأمتعة ما لا يحصر ونهب منازل جنده. ورأى سليمان أن يسكن الثائرة فأمره بالخروج إلى خراسان، ثم كانت الفتنة في خلع المعتز وولاية المهدي كما يذكر، وبعث المهتدي سلخ رجب من سنة خمس وخمسين إلى سليمان ليأخذ البيعة له ببغداد، وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد قد بعثه إليها المعتز، فنقله سليمان إلى داره ووثب الجند والعامة لذلك واجتمعوا بباب سليمان، وقاتلهم أصحابه ملياً، ثم انصرفوا وخطب من الغد للمعتز فسكنوا ثم ساروا ودعوا إلى بيعة أبى أحمد، وطلبوا رؤيته فأظهره لهم ووعدهم بما طلبوا، فافترقوا ووكل بحفظ أبي أحمد ثم بايع للمهتدي في شعبان من تلك السنة.
خبر كرخ أصبهان وأبي دلف:
قد تقدّم لنا شان أبي دُلف أيام المأمون وأنه كان مقيماً بكرخه، وأن المأمون عفا له عما وقع منه في القعود عن نصره، وأقام بتلك الناحية وهلك، فقام ابنه عَبْد العزيز مكانه. ولما كانت أيام الفتنة تمسك بطاعة المستعين، وولّى وصيف على الجبل وأصبهان، فكتب إلى عَبْد العزيز باستخلافه عليها وبعث عليه بالخلع، وعقد المعتز لموسى بن بغا الكبير في شهر رجب من سنة ثلاث وخمسين على الجبل وأصبهان، فسار لذلك وقي مقدمته مفلح، فلقيه عَبْد العزيز بن أبي دلف في عشرين ألفا خارج همذان، فتحاربا وانهزم عَبْد العزيز وقتل أصحابه. وسار مفلح إلى الكرخ، فخرج إليه عَبْد العزيز وقاتله ثانية، فانهزم واستولى مفلح على الكرخ. ومضى عَبْد العزيز إلى قلعة نهاوند، فتحصن بها وأخذ مفلح أهله وأمّه. ثم عقد له وصيف سنة اثنين وخمسين على أعمال الجبل، ثم عقد لموسى بن بغا، فسار وفي مقدمته مفلح، فقاتله عَبْد العزيز فانهزم وملك مفلح الكرخ وأخذ ماله وعياله. ثم ملك عَبْد العزيز وقام مكانه ابنه دلف، وقاتله القاسم بن صبهاه من أهالي أصبهان. ثم قتل القاسم أصحاب أبي دلف وولّوا أخاه أحمد بن عَبْد العزيز سنة خمس وستين. وولاه عمر الصفار من قبله على أصبهان عندما ولاه عليها المعتمد سنة ست وستين، وحاربه كغليغ التركي سنة تسع وستين، فغلبه أحمد وأخرجه إلى الصميرة، وبعث إليه عمر سنة ثمان وستين في المال فبعث إليه. ثم سار الموفق سنة ست وسبعين يريد أحمد بأصبهان، فشاغله أحمد عن البلد وترك داره بفرشها لنزول الموفق. ثم مات أ حمد سنة ثمانين وولى أخوه عمر وأخوه بكير يرادفه، وقاتلا رافع بن الليث بأمر المعتضد فهزمهما كما يأتي ذكره. ثم قلد المعتضد أصبهان ونهاوند والكرخ عمر بن عَبْد العزيز سنة إحدى وثمانين ثم راجعا الطاعة.
خلع المعتز وموته وبيعة المهتدي:
كان صالح بن وصيف بن بغا متغلباً على المعتز وكان كاتبه أحمد بن إسرائيل، وكانت أمًه قبيحة ووزيرها الحسن بن مخلد. وكان أبو نوح عيسى بن إبراهيم من كبار الكتّاب وجباة الأموال. وطلب الأتراك أرزاقهم وشغبوا، فقال صالح للمعتز: هذه الأموال قد ذهب بها الكتّاب والوزراء، وليس في بيت المال شيء، فردّ عليه أحمد بن إسرائيل وأفحش في ردّه، وتفاوضا في الكلام فسقط صالح مغشياً عليه، وتبادر أصحابه بالباب فدخلوا منتضين سيوفهم فدخل إلى قصره، فأمر صالح بالوزراء الثلاثة فقيّدوا، وشفع المعتز في أمر وزيره فلم تقبل شفاعته، وصادرهم على مال جليل حملوه فلم يسدّ شيئاً، فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا من المصادرة اتّهم الجند أنهم حملوا على مال ولم يكن ذلك، فشفعوا في طلب أرزاقهم وضمنوا للمعتز قتل صالح بن وصيف على خمسين ألفاً يبذلها لهم. وسألها من أمّه فاعتذرت فاتفقت كلمتهم على خلعه. ودخل إليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر وبابكيال وطلبوه في الخروج إليهم، فاعذر لهم وأذن لبعضهم في الدخول فدخلوا، وجرّوه إلى الباب وضربوه وأقاموه في الشمس في صحن الدار، وكلما مّر به أحد منهم لطمه. ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب في جماعة فاشهدهم على خلعه، وعلى صالح بن وصيف بأمانه وأمان أمّه وأخته وولده. وفرت أمه قبيحة من سرب كانت اتخذته بالدار، ثم عذبوا المعتز ثم جعلوه في سرب وطمّوا عليه، وأشهد وا على موته بني هاشم والقواد، وذلك آخر رجب من سنة خمس وخمسين، وبايعوا لمحمد ابن عمه الواثق، ولقبّوه المهتدي بالله عندما خلع المعتز نفسه وأقر بالعجز والرغبة في تسليمها إلى المهتدي بايعه الخاصة والعامة. وكانت قبيحة أم المعتز لمّا فعل صالح بالكتاب ما فعل قد [*] ، نفراً منهم على الفتك بصالح، ونمي ذلك إليه، فجمع الأتراك على الثوران، وأيقنت قبيحة بالهلاك فأودعت ما في الخزائن من الأموال والجواهر، وحفرت سرباً في حجرتها هربت منه لمّا احيط بالمعتز، ولما قتل خشيت على نفسها فبعثت إلى صالح تستأمنه فأحضرها في رمضان وظفر منها بخمسمائة ألف دينار، وعذبها على خزائن تحت الارض فيها ألف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار ومقدار مكوك من الزبرجد لم ير مثله، ومقدار مكوك آخر من اللؤلؤ العظيم وجراب من الياقوت الأحمر القليل النظير، وذمها الناس بأنها عرضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار ومعها هذا المال، ثم سارت إلى مكة فأقامت هنالك، وقبض صالح على أحمد بن إسرائيل وزيد بن المعتز وعذبه وصادره. ثم قبض على
أبي نوح وفعل به مثله وقبض على الحسن بن مخلد كذلك ولم يمت. وبلغ المهتدي ذلك فنكره وقال: كان الحبس كافياً في العقوبة. ولأول ولاية المهدي أخرج القيمان والمغنين من سامرا ونفاهم عنها، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب ورد المظالم وجلس للعامة، وكانت الفتن قائمة، والدولة مضطربة، فشمر لإصلاحها لو امهل واستوزر سليمان بن وهب وغلب على أمره صالح بن وصيف وقام بالدولة.
مسير موسى بن بغا إلي سامرا ومقتل صالح بن وصيف:
كان موسى بن بغا غائبا بنواحي الري وأصبهان منذ ولاية المعتز عليها سنة ثلاث وخمسين، ومعه مفلح غلام أبي الساج، وكانت قبيحة أم المعتز لمّا رأت اضطراب أموره كتبت إلى موسى قبل أن يفوت في المعتز أمره، فجاءه كتابها، وقد بعث مفلحاً لحرب الحسن بن زيد العلوي فحربه بطبرستان فغلبه، وأحرق قصوره بآمد وخرج في اتباعه إلى الديلم، فكتب إلى موسى بالرجوع لمداهمة من شاء وبينما هو في استقدامه وانتظاره قتل المعتز وبويع المهتدي، وبلغ أصحابه ما حواه صالح من أموال المعتز وكتابه وأمه، فشرهوا إلى مثل ذلك، وأغروا موسى بالمسير إلى سامرا، ورجع مفلح من بلاد الديلم إليه وهو بالري، فسار نحو سامرا، وسمع المهتدي بذلك فكتب إليه بالمقام يحذره على ما وراءه من العلويين فلم يصغ لذلك، وأفحش أصحابه في إساءة الرسل الواصلين بالكتب. فكتب بالاعتذار واحتج بما عاينه الرسل وأنه يخشى أن يفتله أصحابه أن عادوا إلى الرى وصالح بن وصيف في خلال ذلك يغري به المهتدي وينسبه إلى المعصية والخلاف، إلى أن قدم في المحرم سنة ست وخمسين ودخل في التبعية، فاختفى صالح بن وصيف، ومضى موسى إلى الجوسق والمهتدي جالس للمظالم. فأعرض له عن الإذن ساعة ارتاب فيها هو وأصحابه، وظنوا أنه ينتظر تدوم صالح بالعساكر. ثم أذن لهم فدخلوا وقبضوا على المهتدي وأودعوه دار باجورة، وانتهبوا ما كان في الجوسق. واستغاث المهتدي بموسى فعطف عليه ثم أخذ عليه العهود والأيمان أن لا يوالي صالحا، وأن باطنه وظاهره في موالاتهم سواء فجددوا له البيعة واستبد موسى بالأمر، وبعث إلى صالح للمطالبة بما احتجبه من الأموال فلم يوقف له على أثر، وأخذوا في البحث عنه. وفي آخر المحرم أحضر المهتدي كتابا رفعه إليه سيما الشرابي زعم أن امرأة دفعته إليه وغابت فلم يرها، وحضر القواد وقرأه سليمان بن وهب عليهم وهو بخط صالح بذكر ما صار إليه من الأموال، وأنه إنما استتر خشية على نفسه وحسما للفتنة وإبقاء على الموالي. ولما قرأ الكتاب حثهم المهتدي على الصلح والاتفاق، فاتهمه الأتراك بالميل الى صالح وأنه مطلع على مكانه، وطال الكلام بينهم بذلك. ثم اجتمعوا من الغد بدار موسى بن بغا داخل الجوسق واتفقوا على خلع المهتدي، إلا أخا بابكيال فإنه أبى من ذلك وتهدّدهم بأنه مفارقهم إلى خراسان، واتصل الخبر بالمهتدي فاستدعاه إليه، وقد نظف ثيابه وتطيب وتقلد سيفه فأرعد وأبرق، تهددهم بالاستماتة،ثم حلف لا يعلم مكان صالح، وقال لمحمد بن بغا وبابكيال قد حضرتما مع صالح في أمر المعتز وأموال الكتّاب وأنتم شركاؤه في ذلك كلّه. وانتشر الخبر في العامة بأنهم أرهقوه وأرادوا خلعه، فطفقوا يحاذرون على الدعاء في المساجد والطرقات ويبغون على القوّاد بغيهم على الخليفة، ويرمون الرقاع بذلك في الطرقات. ثم إن الموالي بالكرخ والدور دسوا إلى المهتدي أن يبعثوا إليه أخاه أبا القاسم عَبْد الله بعد أن ركبوا وتحركوا، فقالوا لأبي القاسم: بلغنا ما عليه موسى وبابكيال وأصحابهما ونحن شيعة للخليفة فيما يريده، وشكوا مع ذلك تأخر أرزاقهم وما صاروا من الاقطاع والزيادات إلى قوادهم وما أخذه النساء والدخلاء حتى أصحب ذلك كله بالخراج والضياع، وكتبوا بذلك إلى المهتدي. فأجابهم بالثناء على التشيع له والطاعة، والوعد الجميل في الرزق، والنظر الجميل في شأن الاقطاعات للقواد والنساء، فأفاضوا في الدعاء وأجمعوا على منع الخليفة من الحجر والاستبداد عليه، وأن ترجع الرسوم على عادتها أيام المستعين على كل عشرة عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادة في الاقطاع، ويوضع العطاء في كل شهرين، وكتبوا بذلك إلى المهتدي وأنهم صائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم، وإن أحد اعترض عليه أخذوا رأسه وإن تعرض له أحد قتلوا موسى بن بغا وبابكيال وماجور. فجاء أبو القاسم بالكتاب وقد قعد المهتدي للمظالم وعنده الفقهاء. والقضاة والقواد قائمون في مراتبهم، فقرأ كتابهم على القوّاد فاضطربوا وكتب جوابهم بما سألوا، وطلب أبو القاسم من القواد أن يبعثوا معه رسولاً بالعذر عنهم ففعلوا، ومضى أبو القاسم إليهم بكتاب الكتّاب وبرسل القوّاد وأعذارهم. فكتبوا إلى المهتدي يطلبون التوقيعات بحط الزيادات ورد الإقطاعات وإخراج الموالي البرانيين من الخاصة، وردّ الرسوم إلى عاداتها أيام المستعين، ومحاسبة موسى بن بغا وصالح بن وصيف على ما عندهم من الأموال ووضع العطاء على كل شهرين وصرف النظر في الجيش إلى بعض أخوته أو قرابته وإخراجه من الموالي، وكتبوا بذلك إلى المهتدي والقواد فأجابهم إلى جميع ما سألوه. وكتب إليهم موسى بن بغا بالإجابة في شأن صالح والإذن في ظهوره فقرؤا الكتابين وعدوا بالجواب، فركب إليهم أبو القاسم واتبعه موسى في ألف وخمسمائة فوقف في طريقهم، وجاءهم أبو القاسم فاضطربوا في الجواب ولم يتفقوا فرجع ورد موسى بن بغا فأمرهم المهتدي بالرجوع وأن يتقدم إليهم محمد بن بغا مع أبي القاسم، ويدفعوا إليهم كتاب الأمان لصالح بن وصيف، وقد كان من طلبتهم أن يكون موسى في مرتبة أبيه وصالح كذلك والجيش في يده، وأن يظهر على الأمان فأجيبوا إلى ذلك. وافترق الناس إلى الكرخ والدور وسامرا، فلما كان من الغد ركب بنو وصيف في جماعة ولبسوا السلاح فنهبوا دواب العامة وعسكروا بسامرا وتعلقوا بأبي القاسم يطلبون صالحاً، فأنكر المهتدي أن يكون علم بمكانه، وقال: إن كان عندهم فليظهروه. ثم ركب ابن بغا في القواد ومعه أربعة آلاف فارس وعسكر، وافترق الأتراك ولم يظهر للكرخيين ولا لأهل الدور وسامرا في هذا اليوم حركة. وجدّ موسى في طلب صالح ونادى عليه وعثر عليه بعض الغوغاء فجاء به إلى الجوسق والعامة في اتباعه فضربه بعض أصحاب مفلح فقتله، وطيف برأ سه على قناة وخرج موسى بن بغا لقتال السراة بناحية السنّ.
الصوائف
منذ ولاية المنتصر إلى آخر أيام المهتدي في سنة ثمان وأربعين أيام المستعين خرج بناحية الموصل محمد بن عمر الشرابي وحكم، فسرح المنتصر إسحق بن ثابت الفرغاني فأسره في عدة من أصحابه وقتلوا وصلبوا. وفي هذه السنة غزا بالصائفة وصيف وأمره المنتصر بالمقام بملطية أربع سنين يغزو في أوقات الغزو إلى أن يأتيه رأيه،وكان مقيماً بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قدورية. وفي سنة تسع وأربعين غزا بالصائفة جعفر بن دينار، فافتتح مطامير واستأذنه عمر بن عَبْد الله الأقطع في الدخول إلى بلاد الروم فأذن له، فدخل في جموع من أهل ملطية، ولقي ملك الروم بمرج الأسقف في خمسين ألفاً فأحاطوا به، وقيل في الفين من المسلمين، وخرج الروم إلى الثغور الخزرية فاستباحوها، وبلغ ذلك عليّ بن يحيى الأرمني وقد كان صرف عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان. فلما سمع بخبرهم نفر إليهم وقاتلهم فانهزم وقتل في أربعمائة من المسلمين، وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتز غزا محمد بن معاذ من ناحية ملطية فانهزم وأسر.
الولاة:
لمّا ولى المنتصر استوزر أحمد بن الخصيب، وولّى على المظالم أبا عمر أحمد بن سعيد مولى بني هاشم. ثم ولّي المستعين ومات طاهر بن عَبْد الله بخراسان، فولّى المستعين مكانه ابنه محمداً وولّى محمد بن عَبْد الله على العراق وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعادن السواد، واستخلف أخاه سليمان بن عَبْد الله على طبرستان. وتوفي بغا الكبير فولّى ابنه موسى على أعماله، وضاف إليه ديوان البريد، وشغب أهل حمص على عاملهم وأخرجوه، فبعث عليهم المستعين الفضل بن قارن أخا مازيار فقتل منهم خلقاً وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرا. واستوزر المستعين أتامش بعد أن عزل أحمد بن الخصيب، واستصفى بقى إلى أقريطش، وعقد لأتامش على مصر والمغرب، ولبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجا بعده. ثم قتل أتامش فاستوزر المستعين مكانه أبا صالح عَبْد الله بن محمد بن داود، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولاّه عيسى بن فرخانشاه، وولّى وصيفاً على الأهواز وبغا الصغير على فلسطين، ثم غضب بغا على أبي صالح ففرّ إلى بغداد، واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني، وولّى ديوان الرسائل سعيد بن حميد وعزل جعفر بن عَبْد الواحد عن القضاء ونفاه إلى البصرة، وولّي جعفر بن محمد بن عمار البرجمي، وفي خمسين عقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف بساسان على مكة، ووثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه فسرح إليهم المستعين موسى بن بغا وحاربوه فهزمهم، وافتتحت حمص وأثخن فيهم وأحرقها. وفيها وثب الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحق فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن، وهرب عَبْد الله بن إسحق وفيها كان ظهور العلوية بنواحي طبرستان. وفي سنة إحدى
وخمسين عقد المعتز لبغا ووصيف على أعمالها، وردّ البريد إلى موسى بن بغا الكبير، وعقد محمد بن طاهر لأبي الساج وقدّم بين يديه عَبْد الرحمن كما قلنا، وأظهر أنه إنما جاء لحرب الأعراب وتلطف لأبي أحمد حتى خالطه وقيده وبعث إلى بغداد في سنة إثنتين وخمسين. وولّى المعتز الحسين بن أبي الشوارب على القضاء، وبعث محمد بن عَبْد الله بن طاهر أبا الساج عن طريق مكة وعقد المعتز لعيسى الشيخ بن السليل الشيباني من ولد جساس بن مرة على الرملة فاستولى على فلسطين وعلى دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام. وكان إبرهيم بن المدبر على مصر فبعث إلى بعداد من المال بسبعمائة ألف دينار فاعترضها عيسى وأخذها، وطولب بالمال فقال: الفتنة على الجند ! فولاه المعتمد على أرمينية يقيم بها دعواه. وبث المعتمد إلى الشام ماجور على دمشق وأعمالها، وبلغ الخبر إلى عيسى فبعث ابنه منصوراً في عشرين ألف مقاتل فانهزم وقتل، وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل. وفيها عقد وصيف لعبد العزيز بن أبي دلف العجلي على أعمال الجبل. وفي سنة ثلاث وخمسين عقد لموسى بن بغا على الجبل، فسارو في مقدمته مفلح مولى بني الساج، وقاتله عَبْد العزيز بن أبي دلف فانهزم ولجأ إلى قلعة لهادر، وملك مفلح الكرخ وأخذ أهله وعياله، وفيها مات ابن عَبْد الله بن طاهر ببغداد وولّى أخوه عبيد الله بعهده. ثم بعث المعتز عن أخيه سليمان بطبرستان فولاّه مكانه وكان على الموصل سليمان بن عمران الأزدي، وكانت بينه وبين الأزد حروب بنواحي الموصل. وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر. وفيها يعقوب الصفار سجستان وفارس وهراة، وكان ابتداء دولته، وولّى بابكيال أحمد بن طولون على بر مصر من قبله فكان ابتداء دولته. ثم أقطعها المعتمد سنة سبع وخمسين ليارجوج فولى عليها أحمد بن طولون من قبله، وفي سنة خمس وخمسين أيام المهتدي استولى مساور الخارجي على الموصل وفيها ظهر صاحب الزنج وكان ابتداء فتنته.
أخبار أصحاب الزنج وابتداء فتنته
كان أكثر دعاة العلوية الخارجين بالعراق أيام المعتصم وما بعده أكثرهم من الزيدية، وكان من أئمتهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير وكان نازلاً بالبصرة، ولما وقع البحث عليه من الخلفاء ظفروا بابن عمّه عليّ بن محمد بن الحسين، فقتل بغدك، ولأيام من قتله خرج رجل بالريّ يدّعي أنه عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى المطلوب، وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي. ولما ملك البصرة لقي علياً هذا حياً معروف النسب، فرجع عن ذلك وانتسب إلى يحيى قتيل الجوزجان أخي عيسى المذكور. ونسبه المسعودي إلى طاهر بن الحسين، وأظنه الحسين بن طاهر بن يحيى المحدث بن الحسين بن جعفر بن عَبْد الله بن الحسين بن علي، لأن ابن حزم قال في الحسين السبط إنه لا عقب له إلا من عليّ بن الحسين، وقال فيه عليّ بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر. وقال الطبري وابن حزم وغيرهم من المحققين أنه من عَبْد القيس، واسمه عليّ بن عَبْد الرحيم من قرية من قرى الري، ورأى كثرة خروج الزيدية فحدثته نفسه بالتوثب فانتحل هذا النسب، ويشهد لذلك أنه كان على رأي الأزارقة من الخوارج، ولا يكون ذلك من أهل البيت. وسياقة خبره أنه كان اتصل بجماعة من حاشية المنتصر ومدحهم. ثم شخص من سامرا إلى البحرين سنة تسع وأربعين أدعى أنه من ولد العباس بن أبي طالب، ثم من ولد الحسين بن عَبْد الله بن العباس، ودعا الناس إلى طاعته فأتبعه كثير من أهل حجر وغيرها، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه وعظمت فتنته، فتحول عنهم إلى الإحساء ونزل على بني الشماس من سعد بن تميم، وصحبه جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع فكانا قائدين له، وقاتل أهل البحرين فانهزم وافترقت العرب عنه واتبعه علي بن أبان وسار إلى البصرة ونزل في بني ضبيعة وعاملها يومئذ محمد بن رجاء، والفتنة فيها بين البلالية والسعدية، وطلبه ابن رجاء فهرب وحبس ابنه وزوجته وجماعة من أصحابه، فسار إلى بغداد وأقام بها حولاً وانتسب إلى محمد بن أبي أحمد بن عيسى كما قلناه، واستمال بها جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحاني من ولد زيد بن صوحان، ومسروق ورفيق غلامان ليحيى بن عَبْد الرحمن، وسفي مسروقاً حمزة وكناه أبا أحمد، وسمي رفيقاً جعفراً وكناه أبا الفضل. ثم وثب رؤساء البلالية والسعدية بالبصرة وأخرجوا العامل محمد بن رجاء، فبلغه ذلك وهو ببغداد، وأن أهله خلعوه، فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع ومسروق ورفيق، فنزل بقصر القرش
ودعا الغلمان من الزنوج ووعدهم بالعتق فاجتمع له منهم خلق وخطبهم ووعدهم بالملك ورغبهم في الإحسان، وحلف لهم وكتب لهم في خرقة: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} الآية. واتخذها راية، وجاءه موالي الزنوج في عبيدهم، فأمر كل عَبْد أن يضرب مولاه وحبسهم ثم أطلقهم، ولم يزل هذا رأيه والزنوج في متابعته والدخول في أمره وهو يخطبهم في كل وقت ويرغبهم. ثم عبر دجُيلاً إلى نهر ميمون، فأخرج عند الحميري وملكه وسار إلى الأيلَّة وبها ابن أبي عون، فخرج إليه في أربعة آلاف فهزمهم ونال منهم. ثم سار إلى القادسية فنهبها وكثر سلاحهم، وخرج جماعة من أهل البصرة لقتاله، فبعث إليهم يحيى بن محمد في خمسمائة رجل، فهزمهم وأخذ سلاحهم. ثم طائفة أخرى كذلك وأخرى، وخرج قائدان من البصرة فهزمهما وقتل منهما، وكانت معهما سفن ألقتها الريح إلى الشط فغنموا ما فيها وقتلوا وكثر عيثه وفساده. وجاء أبو هلال من قواده الأتراك في أربعة آلاف مقاتل فلقيه على نهر الريان فهزمه الزنج واستلحموا أكثر أصحابه. ثم خرج أبو منصور أحد موالي الهاشميين في عسكر عظيم من المطوعة البلالية والسعدية فسرح للقائهم علي بن أبان، فلقي طائفة منهم فهزمهم. ثم أرسل طائفة أخرى إلى مرفأ السفن وفيه نحو من ألفي سفينة، فهرب عنها أهلها ونهبوها ثم جاءه عساكر أبي منصور وقعد الزنوج لهم بين النخل، وعليهم على بن أبي أبان ومحمد بن مسلم فهزموا العسكر وقتلوا منهم وأخذوا سلاحهم. ثم سار فنهب القرى حتى امتلأت أيديهم بالنهب. ثم سار يريد البصرة ولقيته عساكرها فهزمهم الزنج وأثخنوا فيهم. ثم سار من الغد نحو البصرة وخرج إليه أهلها واحتشدوا وزحفوا إليه بًّرا وبحراً فلقيهم بالسُد وانهزموا هزيمة شنعاء كثر فيها القتل. ووهن أهل البصرة وكتبوا إلى الخليفة فبعث إليهم جعلان التركي مدداً، وولّى على الأبُلّة أبا الأحوص الباهلي وأمه بجند من الأتراك. وقد بث صاحب الزنج أصحابه يميناً وشمالاً للغارة والنهب. ولما وصل جعلان إلى البصرة نزل على فرسخ منهم وخندق عليه، وأقام ستة أشهر يسرح لحربهم الزيني مع بني هاشم ومرجف، ثم بيته الزنج فقتلوا جماعة من أصحابه، وتحول عن مكانه، ثم انصرف عن حربهم وظفر صاحب الزنج بعدد من المراكب غنم فيها أموالاً عظيمة، وقتل أهلها وألح بالغارات على الأبلة إلى أن دخلها عنوة آخر رجب سنة ست وخمسين، وقتل عاملها أبا الأحوص عبيد الله بن حميد الطوسي وخلقاً من أهلها واستباحها وأحرقها، وبلغ ذلك أهل عبّادان فاستأمنوا له وملكها واستولى على ما فيها من الأموال والعبيد والسلاح إلى الأهواز، وبها إبراهيم بن المدبّر على الخراج، فهرب أهلها ودخلها الزنج ونهبوا وأسروا ابن المدّبر، فخاف أهل البصرة وافترق كثير منهم إلى البلدان. وبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع وخمسين، فهزمهم وأخذ ما معهم وأثخن فيهم، وكان ابن المدّبر أسيراً عندهم في بيت يحيى بن محمد البحراني، وقد ضمن لهم مالاً كثيراً ووكل به رجلين قد أخلفهم حتى حفر سرباً من البيت وخرج منه ولحق بأهله.
خلع المهتدي وقتله وبيعة المعتمد
وفي أول رجب من سنة ست وخمسين شعب الأتراك من الترك والدور بطلب أرزاقهم وبعث المهتدي أخاه أبا القاسم ومعه كفقا وغيره فسكّنوهم وعادوا، وبلغ محمد بن بغا أن المهتدي قال للأتراك إن الأموال عند محمد وموسى ابني بغا، فهرب إلى أخيه بالسند وهو في مقاتلة موسى الشرابي فأمنه المهتدي ورجع ومعه أخوه حنون وكيغلغ، فكتب له المهتدي بالأمان ورجع إلى أصحابه وحبسه وصادره على خمسة عشر ألف دينار، ثم قتله وبعث بابكيال بكتابه إلى موسى بن بغا بأن يتسلم العسكر وأوصاه بمحاربة الشرابي وقتل موسى بن بغا ومفلح، فقرأ الكتاب على موسى وتواطؤا على أن يرجع بابكيال فيتدبر على قتل المهتدي، فرجع ومعه يارجوج وأساتكين وسيما الطويل ودخلوا دار الخلافة منتصف رجب، فحبس بابكيال من بينهم واجتمع أصحابه ومعه الأتراك وشغبوا. وكان عند المهتدي صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور فأشار بقتله ومناجزتهم، فركب في المغاربة والأتراك والفراغنة على التعبية. ومشى والبلخي في الميمنة ويارجوج في الميسرة، ووقف هو في القلب ومعه أساتكين وغيره من القواد، وبعث برأس بابكيال إليهم مع عتاب بن عتاب، ولحق الأتراك من ميمنة المهتدي وميسرته بإخوانهم الأتراك، فانهزم الباقون عن المهتدي وولّى منهزماً ينادي بالناس ولا يجيبه أحد، وسار إلى السجن فأطلق المحبوسين ودخل دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة، وافتتحوا عليه وحملوه على بغل إلى الجوسق، وحبس عند أحمد ابن خاقان، وأرادوه على الخلع فأبى واستمات، فأخرجوا رقعة بخطه لموسى بن بغا وبابكيال وجماعة القواد أنه لا يغدر بهم ولا يقاتلهم ولا يهم بذلك، ومتى فعل شيئا من ذلك فقد جعل أمر الخلافة بأيديهم يولون من شاؤا، فاستحلوا بذلك أمره وقتلوه. وقيل في سبب خلعه غير هذا وهو إن أهل الكرخ والدور من الأتراك طلبوا الدخول على المهتدي ليكلموه فأذ ن لهم، وخرج محمد بن بغا إلى المحمدية، ودخلوا في أربعة آلاف، فطلبوا أن يعزل عنهم قواده ويصادرهم وكتابهم على الأهواز، ويصير الأمر إلى أخوته فوعدهم بالإجابة وأصبحوا من الغد يطلبون الوفاء بما وعدهم به، فاعتذر لهم بالعجز عن ذلك إلا بسياسة ورفق فأبوا إلا المعاجلة فاستخلفهم على القيام معه في ذلك بإيمان البيعة فحلفوا ثم كتبوا إلى محمد بن بغا عن المهتدي وعنهم يعذلونه في غيبته عن مجلسهم مع المهتدي، وأنهم إنما جاؤا بشكوى حالهم ووجدوا الدار خالية، فأقاموا ورجع محمد بن بغا فحبسوه في الأموال وكتبوا إلى موسى بن بغا ومفلح بالقدوم وتسليم العسكر إلى من ذكروه لهم، وبعثوا من يقيدهما إن لم يأتمرا ذلك. ولما قرئت الكتب على موسى وأصحابه امتنعوا لذلك وساروا نحو سامّرا، وخرج المهتدي لقتالهم على التعبية وترددت الرسل بينهم بطلب موسى أن يولّي على ناحية ينصرف إليها، ويطلب أصحاب المهتدي أن يحضر عندهم فيناظرهم على الأموال إلى أن أنفض عنهم أصحابه وسار هو ومفلح على طريق خراسان، ورجع بابكيال وجماعة من القواد إلى المهتدي فقتل بابكيال ثم أنف الأتراك من مساواة الفراغنة والمغاربة لهم وأرادوا طردهم فأبى المهتدي ذلك، فخرج الأتراك عن الدار بأجمعهم طالبين ثأر بابكيال، فركب المهتدي على التعبية في ستة آلاف من الفراغنة والمغاربة ونحو ألف من الأتراك أصحاب صالح بن وصيف، واجتمع الأتراك للحرب في عشرة آلاف، فانهزم المهتدي وكان ما ذكرناه من شأنه. ثم أحضر أبو العباس أحمد بن المتوكل وكان محبوساً بالجوسق، فبايعه الناس، وكتب الأتراك إلى موسى بن بغا وهو غائب فحضر وكملت البيعة لأحمد بن المتوكل ولقب المعتمد على الله، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فأصبح المهتدي ثاني يوم البيعة ميتاً منتصف رجب من سنة ست وخمسين على رأس سنة من ولايته. ولم يزل ابن خاقان في وزارته إلى أن هلك سنة ثلاث وستين من سقطة بالميدان سال فيها دماغه من منخريه، فاستوزر محمد بن مخلد. ثم سخط عليه موسى بن بغا واختلفا فاستوزر مكانه سليمان بن وهب، ثم عزله وحبسه وولّى الحسن بن مخلد، وغضب الموفق لحبسه ابن وهب وعسكر بالجانب الغربي وترددت الرسل بينهما فاتفقا وأطلقه وذلك سنة أربع وستين.
ظهور العلوية بمصر والكوفة
وفي سنة ست وخمسين ظهر بمصر إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عَبْد الله بن محمد بن الحنفية، ويعرف بالصومي، يدعو إلى الرضا من آل محمد، وملك أشياء من بلاد الصعيد. وجاءه عسكر أحمد بن طولون من مصر فهزمهم وقتل قائدهم، فجاء جيش آخر فانهزم أمامهم إلى أبوخات وجمع هنالك جموعاً وسار إلى الأشمومين، فلقيه هنالك أبو عَبْد الرحمن العمري، وهو عَبْد الحميد بن عَبْد العزيز بن عَبْد الله بن عمر كان قد أخذ نفسه بحرب البجاة وغزوا بلادهم لمّا كان منهم في غزو بلاد المسلمين، فاشتد أمره في تلك الناحية وكثر أتباعه، وبعث إليه ابن طولون عسكرأ فقال لقائده: أنا ألبث هناك لدفع الأذى عن بلاد المسلمين، فشاور أحمد بن طولون فأبى القائد إلا من أجزته فهزمه العمري. ولما سمع ابن طولون خبره أنكر عليهم أن لا يكونوا بذكره، فبقي على حاله من الغارة على البجاة حتى أدوا الجزية. فلما جاء الصولي من الأشمونين لقيه العمري فهزمه وعاد العمري إلى أسوان واشتد عيثه، فبعث إليه ابن طولون العساكر فهرب إلى عيذاب وأجاز البحر إلى مكة وافترق أصحابه، وقبض عليه والي مكة وبعث به إلى ابن طولون فحبسه مدة ثم أطلقه فرجع إلى المدينة ومات بها وفي هذه السنة ظهر علي بن زيد، وجاءه الشاه بن ميكال من قبل المعتمد في جيش كثيف فهزمه وأثخن في أصحابه. فسرح المعتمد إلى حربه كجور التركي فخرج على عن الكوفة إلى القادسية وملك كيجور الكوفة أول شوال، وأقام علي بن زيد ببلاد بني أسد. ثم غزا كيجور آخر ذي الحجة فأوقع به وقتل وأسر من أصحابه ورجع إلى الكوفة، ثم إلى سر من رأى، وبقي علي هنالك إلى أن بعث المعتمد سنة تسع [*]، عسكراً فقتلوه بعبكر وانقطع أمره، وقيل سار إلى صاحب الزنج فقتله سنة ستين وفي هذه السنة غلب الحسين بن زيد الطالبي على الرى وسار موسى بن بغا إليه.
بقية أخبار الزنج
قد تقدم لنا أن المعتمد بعث سعيد بن صالح الحاجب لحربهم فأوقع بهم، ثم عاودوه قاوقعوا به وقتلوا من أصحابه وأحرقوا عسكره، ورجع إلى سامرا فعقد المعتمد على حربهم لجعفر بن منصور الخياط فقطع عنهم ميرة السفن. ثم سار إليهم في البحر فهزموه إلى البحرين، ثم بعث الخبيث عليّ بن أبان من قواده إلى إربل لقطع قنطرتها، فلقي إبراهيم بن سيما منصرفاً من فارس، فأوقع بهم إبراهيم وخرج علي بن أبان وسار إبراهيم إلى نهر جي وأمر كاتبه شاهين بن بسطام باتباعه. وجاء الخبر إلى عليّ بن أبان باقبال شاهين فسار ولقيه وهزمه أشد من الأول، وانصرف إلى جي. وكان منصور بن جعفر الخياط منذ انهزم في البحر لم يعد لقتال الزنج واقتصر على حفر الخنادق وإصلاح السفن، فزحف عليّ بن أبان لحصاره بالبصرة وضيق على أهل البلد وأشرف على دخولها وبعث لاحتشاد العرب، فوافاه منهم خلف فدفعهم لقتال أهل البصرة وفرقهم على نواحيها فقاتلهم كذلك يومين، ثم افتتحها علي بن أبان منتصف شوال وأفحش في القتل والتخريب، ورجع ثم عاودهم ثانية وثالثة حتى طلبوا الأمان فأمنهم وأحضرهم في بعض دور الإمارة فقتلهم أجمعين وحرق علي بن أبان الجامع ومواضع من البصرة، واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل وعم النهب وأقام كذلك أياماً. ثم نادى بالأمان فلم يظهر أحد، وانتهى الخبر إلى الخبيث فصرف عليّ بن أبان وولّى عليها يحيى بن محمد البحراني.
مسير المولد لحربهم
لمّا دخل الزنج البصرة وخربوها أمر المعتمد محمداً المعروف بالمولد بالمسير إلى البصرة، وسار إلى الأبله ثم نزل البصرة واجتمع إليه أهلها، وأخرج الزنج عنها إلى نهر معقل. ثم بعث الخبيث قائده يحيى بن محمد لحرب المولد فقاتله عشرة أيام، ووطن المولد نفسه على المقام، وبعث الخبيث إلى يحيى بن محمد أبا الليث الأصبهاني مدداً وأمرهم بتبييت المولد، فبيتوه وقاتلوه تلك الليلة والغد إلى المساء، ثم هزموه وغنم الزنج عسكره واتبعه البحراني إلى الجامدة، وأوقع بأهلها، ونهب تلك القرى أجمع، وعاث فيها ورجع إلى نهر معقل.
مقتل منصور الخياط
كان الزنج لمّا فرغوا من البصرة سار على بن أبان إلى جي، وعلى الأهواز يومئذ منصور بن جعفر الخياط قد ولاه عليها المعتمد بعد مواقعته الزنج بالبحرين، فسار إلى الأهواز ونزل جي وسار علي بن أبان قائد الزنج لحربه. وجاء أبو الليث الأصبهاني في البحر مدداً له، وتقدم إلى منصور من غير أمر علي فظفر منصور وقتل الكثير ممن معه وأفلت منهزماً إلى الخبيث. ثم تواقع علي بن أبان مع منصور فهزمه واتبعه الزنج فحمل عليهم وألقى نفسه في النهر ليعبر إليهم فغرق، وقيل تقدم إليه بعض الزنج لمّا رآه فقتله في الماء. ثم قتل أخوه خلف وغيره من العسكر وولّى يارجوج. على عمل منصور اصطيخور من قواد الأتراك.
مسير الموفق لحرب الزنج
كان أبو أحمد الموفق، وهو أخو المعتمد بمكة، وكان المعتمد قد استقدمه عندما اشتد أمر الزنج وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز، وأمره أن يعقد ليارجوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح. ولما انهزم سعيد بن سعيد بن صالح عقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه على البصرة وكور دجلة والأهواز ثم قتله كما قلناه. فعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الموفق على مصر وقنسرين والعواصم وخلع على مفلح، وذلك في ربيع سنة ثمان وخمسين وسيرهما لحرب الزنج فساروا في عدة كاملة. وخرج المعتمد يشيع أخاه، وكان علي بن أبان بجي ويحيى بن محمد البحراني بنهر العباس والخبيث في قلة من الناس وأصحابه مترددون إلى البصرة لنقل ما نهبوه. فلما نزل الموفق نهر معقل أجفل الزنج إلى صاحبهم مرتاعين، فأمر علي بن أبان بالمسير إليهم ولقي مفلحاً في مقدمة الموفق فاقتتلوا، وبينما هم يقتتلون إذ أصاب مفلحاً سهم غرب فقتل، وانهزم أصحابه وأسر الكثير منهم. ثم رحل الموفق نحو الأبلة ليجمع العساكر، ونزل نهر أبي الأسد ووقع الموتان في عسكره، فرجع إلى بادرود، وأقام لتجهيز الآلة وإزاحة العلل وإصلاح السفن، ثم عاد إلى عسكر الخبيث فالتقوا واشتد الحرب بينهم على نهر أبي الخصيب وقتل جماعة من الزنج ،واستنقذ كثيراً من النساء المسبيات، ورجع إلى عسكره ببادرود فوقع الحريق في عسكره، ورحل إلى واسط، وافترق أصحابه، فرجع إلى سامرا واستخلف على واسط.
مقتل البحراني قائد الزنج
كان اصطيخور لمّا ولي الأهواز بعد منصور الخياط بلغه مسير يحيى بن محمد قائد الزنج إلى نهر العبّاس عند مسير الموفق إليهم، فخرج إليه اصطيخور فقاتله، وعبر يحيى النهر، وغنم سفن الميرة التي كانت عند أصطيخور، وبعث طلائعه إلى دجلة فلقوا جيش الموفق فرجعوا هاربين، وطلائع الموفق في اتباعهم، وعبروا النهر منهزمين. وبقي يحيى فقاتل وانهزم، ودخل في بعض السفن جريحاً وغنم طلائع الموفق غنائمهم والسفن، وأحرقوا بعضها وعبروا الماخورة على يحيى فأنزلوه من سفنهم خشية على أنفسهم، فسعى به طبيب كان يداوي جراحه، وقبض عليه وحمل إلى سامرا وقطع، ثم قتل، ثم أنفذ الخبيث علي بن أبان وسليمان بن موسى الشعراني من قواده إلى الأهواز، وضم إليهما الجيش الذي كان مع يحيى ومحمد البحراني، وذلك سنة تسع وخمسين فلقيهما اصطيخور بدستميسان وانهزم أمامهما وغرق، وهلك من أصحابه خلق وأسر الحسن بن هزيمة والحسن بن جعفر وغيرهما وحبسوا، ودخل الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون في نواحيها ويغنمون إلى أن قدم موسى بن بغا،
مسير ابن بغا لحرب الزنج
ولما ملك الزنج الأهواز سنة تسع وخمسين سرح المعتمد لحربهم موسى بن بغا وعقد له على الأعمال، فبعث إلى الأهواز عَبْد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة إسحق بن كنداجق، وإلى بادرود إبراهيم بن سيما، وأمرهم بمحاربة الزنج. فسار عَبْد الرحمن إلى علي بن أبان فهزمه أولاً، ثم كانت لعبد الرحمن الكرة ثانياً فأثخن فيهم، ورجعوا إلى الخبيث، وجاء عَبْد الرحمن إلى حصن نهدي فعسكر به، وزحف إليه علي بن أبان فامتنع عليه، فسار إلى إبراهيم بن سيما ببادرود فواقعه، فانهزم أولاً إبراهيم ثم كانت له الكرة ثانياً. وسار ابن أ بان في الغياض فأضرموها عليهم ناراً ففروا هاربين، وأسر منهم جماعة. وسار عَبْد الرحمن إلى علي بن أبان، وجاءه المدد من الخبيث في البحر، فبينما عَبْد الرحمن فى حربه إذ بعث علي جماعة من خلفه وشعر بهم، فرجيم القهقرى ولم يصب منهم شيء الا بعض السفن البحرية. ثم راجع عَبْد الرحمن حرب علي بن أبان وفي مقدمته طاشتمر، فأوقعوا بعلي بن أبان ولحق بالخبيث صاحب الزنج، وأقام عَبْد الرحمن بن مفلح. وابراهيم يتناوبان حرب الخبيث ويوقعان به، وإسحق بن كنداجق بالبصرة يقطع عنه المدد، وهو يبعث لكل منهما طائفة يقاتلونهم، وأقاموا على ذلك سبعة عشر شهراً إلى أن صرف موسى بن بغا عن حربهم ووليها مسرور البلخي كما نذكر.
استيلاء الصفار على فارس وطبرستان
قد تقدم استيلاء يعقوب بن الليث الصفار على فارس أيام المعتز من يد علي بن الحسين بن مقبل. ثم عادت فارس إلى الخلفاء ووليها الحرث بن سيما، وكان بها من رجال العراق محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي، فاتفق مع أحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها ووثبوا بالحرث بن سيما فقتلوه، واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين، وقام بدعوة المعتمد وبعث عليها المعتمد الحسن بن الفياض، فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين، وبلغ ذلك المعتمد فكتب إليه بالنكير، وبعث إليه الموفق بولاية بلخ وطخارستان فملكهما وقبض على رتبيل، وبعث إلى المعتمد برسله وهداياه. ثم رجع إلى بست، واعتزم على العود إلى سجستان، فعجل بعض قواده الرحيل قبله، فغضب وأقام سنة ثم رجع إلى سجستان.
استيلاء الصفار على خراسان وانقراض أمر بني طاهر منها ثم استيلاؤه على طبرستان
ثم جاء إلى هراة وحاصر مدينة نيسابور حتى ملكها ثم سار إلى بوشنج وقبض على الحسين بن علي بن طاهر بن الحسين، وبعث إليه محمد بن طاهر بن عبدالله شافعاً فيه فابى من إطلاقه، ثم ولّى على هراة وبوشنج وباذغيس ورجع إلى سجستان وكان بها عبدالله السحري ينازعه. فلما قوي عليه يعقوب فر منه إلى خراسان وحاصر محمد بن طاهر في نيسابور، ورجع إليه الفقهاء فأصلحوا بينه وبين محمد، وولاه الطبسين وقهستان، وأرسل يعقوب في طلبه فأجاره محمد فسار يعقوب إليه بنيسابور فلم يطق لقاءه ونزل يعقوب بظاهرها، فبعث محمد بعمومته وأهل بيته فتلقوه. ثم خرج إليه فوبخّه على التفريط في عمله وقبض عليه وعلى أهل بيته، ودخل نيسابور واستعمل عليها، وأرسل إلى الخليفة بأن أهل خراسان استدعوه لتفريط ابن طاهر في أمره، وغلبه العلوي على و طبرستان فبعث إليه المعتمد بالنكير والاقتصار على ما بيده، وإلا سلك به سبيل المخالفين وذلك سنة تسع وخمسين. وقيل في ملكه نيسابور غير ذلك وهو إن محمد بن طاهر أصاب دولته العجز والإدبار، فكاتب بعض قرابته يعقوب بن الصفار واستدعوه، فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحية موريا بقصد الحسن بن زيد في طبرستان، وأن المعتمد أمره بذلك، وأنه لا يعرض شيئاً من أعمال خراسان. وبعث بعض قواده عيناً عليه يمنعه من البراح عن نيسابور، وجاء بعده. وقدم أخاه عمرا إلى محمد بن طاهر فقبض عليه وعنفه على الأعمال والعجز، وقبض على جميع أهل بيته نحو من مائة وستين رجلاً، وحملهم جميعاً إلى سجستان، واستولى على خراسان، ووثب نوابه في سائر أعمالها، وذلك لإحدى عشرة سنة وشهرين من ولاية محمد. ولما قبض يعقوب على ابن طاهر واستولى على خراسان هرب منازعه عَبْد الله السخري إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان، فبعث إليه فيه فأجاره. وسار إلى يعقوب سنة ستين وحاربه فانهزم الحسن إلى أرض الديلم، وملك يعقوب سارية وآمل ومضى في أثر الحسين من عسكره نحو من أربعين ألفاً من الرجل والظهر ونجا بعد مشقة شديدة، وكتب إلى المعتمد بذلك وكان عَبْد الله السخري قد هرب بعد هزيمة الحسن العلوي إلى الري فسار يعقوب في طلبه، وكتب إلى عامل الري يؤذنه بالحرب إن لم يدفعه إليه، فبعث به إليه وقتله ورجع إلى سجستان.
استيلاء الحسن بن زيد على جرجان
ولما هرب الحسن بن زيد إمام مفلح من طبرستان، ورجع مفلح اعتزم الحسن على الرجوع إلى جرجان فبعث محمد بن طاهر إليها العساكر لحفظها فلم يغنوا عنها، وجاء الحسن فملكها وضعف أمر ابن طاهر في خراسان، وانتقض عليه كثير من أعمالها، وظهر المتغلبون في نواحيها، وعاث السراة من الخوارج في أعمالها ولم يقدر على دفعهم، وآل ذلك إلى تغلب الصفار على ابن طاهر، وانتزاع خراسان من يده كما ذكرنا [*]
فتنة الموصل
كان المعتمد قد ولّى على الموصل أساتكين من قواد الأتراك، فبعث عليها هو ابنه أذكرتكين، وسار إليها في جمادى سنة تسع وخمسين، فأساء السيرة وأظهر المنكر وعسف بالناس في طلب الخوارج، وتعرض بعض الأيام رجل من حاشيته إلى امرأة في الطريق، وتخلصها من يده بعض الصالحين، فأحضره أذكرتكين وضربه ضرباً شديداً، فاجتمع وجوه البلد وتامروا في رفع أمرهم إلى المعتمد، فركب إليهم ليوقع بهم فقاتلوه وأخرجوه، واجتمعوا على يحيى بن سليمان وولوه أمرهم. ولما كانت سنة إحدى وستين ولى أستاكين عليها الهيثم بن عَبْد الله بن العمد الثعلبي العدوي وأمره أن يزحف لحربهم ففعل، وقاتلوه أياماً وكثرت القتلى بينهم ورجع عنهم الهيثم، وولى أستاكين مكانه إسحق بن أيوب الثعلبي جد بني حمدان وغيره، وحاصرها مدة، ومرض يحيى بن سليمان الأمير في أثنائها فطمع إسحق في البلد وجد في الحصار، واقتحمها من بعض الجهات فأخرجوه، وحملوا يحيى بن سليمان في قبة وألقوه أمام الصف واشتد القتال، ولم يزل إسحق يراسلهم ويعدهم حسن السيرة إلى أن أجابوه على أن يقيم بالربض فأقام أسبوعاً، ثم حدثت ممن بايعة بعض الفعلات فوثبوا به وأخرجوه، واستقر يحيى بن سليمان بالموصل.
حروب ابن واصل بفارس
قد تقدم لنا وثوب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي بالحرث بن سيما عامل فارس وتغلبه عليها سنة ست وخمسين، فلما بلغ ذلك إلى المعتمد أضاف فارس إلى عَبْد الرحمن بن مفلح وبعثه إلى الأهواز وأمده بطاشتمر، وزحفوا من الأهواز إلى ابن واصل سنة إحدى وستين، فسار معهم من فارس ومعه أبو داود العلوس، ولقيهم برام هرمز فهزمهم، وقتل طاشتمر وأسر ابن مفلح وغنم عسكرهم. وبعث إليه المعتمد في إطلاق ابن مفلح فقتله خفية وسار لحرب موسى بن بغا بواسط، وانتهى إلى الأهواز، وبها إبراهيم بن سيما في جموع كثيرة. ولما رأى موسى بن بغا اضطراب هذه الناحية استعفى المعتمد من ولايتهم فأعفاه، وكان عند انصراف ابن مفلح عن الأهواز إلى فارس قد ولّي مكانه بالساج وأمره بمحاربة الزنج، فبعث صهره عَبْد الرحمن لذلك فلقيه علي بن أبان قائد الزنج، فهزمه علي وقتله، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، وملك الزنج الأهواز فعاثوا فيها. ثم عزل أبو الساج عن ذلك وولّى مكانه إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف موسى بن بغا عن الأعمال كلها ولما هزم إبراهيم بن سيما بن واصل بن عَبْد الرحمن بن مفلح وقتله، طمع يعقوب الصفار في ملك فارس، فسار من سجستان مجداً، ورجع ابن واصل من الأهواز، وترك محاربة ابن سيما، وأرسل خاله أبا بلال مرداس إلى الصفار، وراجعه بالكتب والرسل بحبس ابن واصل رسله، ورحل بعد السير ليفجأه على بغتة، وشعر به الصفار فقال لخاله مرداس: إن صاحبك قد غدر بنا وسار إليهم، وقد أعيوا وتعبوا من شدة السير، ومات أكثرهم عطشاً. فلما تراءى الجمعان انهزم ابن واصل دون قتال، وغنم الصفار ما في عسكره وما كان لابن مفلح، واستولى على بلاد فارس ورتب بها العمال وأوقع بأهل زم لإعانتهم ابن واصل، وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها.
مبدأ دولة بني سامان وراء النهر
كان جدهم أسد بن سامان من أهل خراسان وبيوتها، وينتسبون في الفرس تارة إلى سامة بن لؤي وإلى ابن غالب أخرى. وكان لأسد أربعة من الولد: نوح وأحمد ويحيى وإلياس. وتقدموا عند المأمون أيام ولايته خراسان واستعملهم، ولما انصرف المأمون إلى العراق ولى على خراسان غسان بن عباد من قرابة الفضل بن سهل، فولى نوحاً منهم على سمرقند وأحمد على فرغانة، ويحيى على الشاش وأشروسنة وإلياس على هراة. فلما ولي طاهر بن الحسين بعده أقرهم على أعمالهم. ثم مات نوح بن أسد فأقر أخويه يحيى وأحمد على عمله، وكان حسن السيرة. ومات إلياس بهراة، فولى عَبْد الله بن طاهر مكانه ابنه أبا إسحق محمد بن إلياس، وكان لأحمد بن أسد من البنين سبعة نصر ويعقوب ويحيى وإسمعيل وإسحق وأسد وكنيته أبو الاشعث وحميد وكنيته أبو غانم. فلما توفي أحمد استخلف ابنه نصراً على أعماله بسمرقند وما إليها، وأقام إلى انقراض أيام بني طاهر وبعدهم، وكان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أيام بني طاهر. واستولى الصفار على خراسان، فعقد المعتمد لنصر هذا على أعماله من قبله سنة إحدى وستين، ولما ملك يعقوب الصفار خراسان كما قلنا بعث نصر جيوشه إلى شط جيحون مسلحة من الصفار، فقتلوا مقدمهم ورجعوا إلى بخارى، وخشيهم واليها على نفسه ففرعنها، فولوا عليهم ثم عزلوا ثم ولوا ثم عزلوا فبعث نصر أخاه إسمعيل لضبط بخارى. ثم ولي خراسان بعد ذلك رافع بن هرثمة بدعوة بني طاهر، وغلب الصفار عليها، وحصلت بينه وبين إسمعيل صاحب بخارى موالاة اتفقا فيها على التعاون والتعاضد، وطلب منه إسمعيل أعمال خوارزم، فولاه إياها، وفسد ما بين إسمعيل وأخيه مضر، وزحف نصر إليه سنة إثنتين وسبعين، واستجاش إسمعيل برافع بن هرثمة فسار إليه بنفسه مدداً، ووصل إلى بخارى، ثم أوقع الصلح بينه وبين أخيه خوفاً على نفسه، وانصرف رافع ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين، وظفر إسمعيل بنصر. ولما حضر عنده ترجل له إسمعيل وقبل يده ورده إلى كرسي إمارته بسمرقند، وأقام نائباً عنه ببخارى، وكان إسمعيل خيراً مكرماً لأهل العلم والدين.
مسير الموفق إلي البصرة لحرب الزنج وولاية العهد
ولما استعفى موسى بن بغا من ولاية الناحية الشرقية عزم المعتمد على تجهيز أخيه أبي أحمد الموفق، فجلس في دار العامة وأحضر الناس على طبقاتهم، وذلك في شوال من سنة إحدى وستين، وعقد لابنه جعفر العهد من بعده، ولقبه المفوض إلى الله، وضم إليه موسى بن بغا وولاه أفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ونهر تصدق، وعقد لأخيه أبي أحمد العهد بعده ولقبه الناصر لدين الله الموفق، وولاه المشرق وبغداد وسواد الكوفة وطريق مكة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والري وزنجان والسند. وعقد لكل واحد منهما لواءين أبيض وأسود، وشرط أنه إن مات وجعفر لم يبلغ يتقدم الموفق عليه، ويكون هو بعده، وأخذت البيعة بذلك على الناس، وعقد جعفر لموسى بن بغا على أعمال العرب، واستوزر صاعد بن مخلد، ثم نكبه سنة إثنتين وسبعين واستصفاه واستكتب مكانه الصفر إسمعيل بن بابل، وأمر المعتمد أخاه الموفق بالمسير لحرب الزنج فبعثه في مقدمته واعتزم على المسير بعده.
وقعة الصفار والموفق
لمّا كان يعقوب الصفار ملك فارس من يد واصل، وخراسان من يد ابن طاهر، وقبض عليه صرح المعتمد بأنه لم يولّه ولا فعل ما فعل بإذنه، وبعث ذلك مع حاج خراسان وطبرستان. ثم سار إلى الأهواز يريد لقاء المعتمد، وذلك سنة إثنتين وسبعين. فأرسل إليه المعتمد إسمعيل بن إسحق وفهواج من قواد الأتراك ليردوه على ذلك، وبعث معهما من كان في حبسه من أصحابه الذين حبسوا عندما قبض على محمد بن طاهر، وعاد إسمعيل من عند الصفار بعزمه على الموصل، فتأخر الموفق لذلك عن المسير لحرب الزنج ووصل مع إسمعيل من عند الصفار حاجبه درهم يطلب ولاية طبرستان وخراسان وجرجان والري وفارس والشرطة ببغداد، فولاه المعتمد ذلك كله مضافاً إلى ما بيده من سجستان وكرمان، وأعاد حاجبه إليه بذلك ومعه عمر بن سيما فكتب يقول: لا بد من الحضور بباب المعتمد. وارتحل من عسكر مكرم حاما، وسار إليه أبو الساج من الأهواز لدخوله تحت ولايته، فأكرمه ووصله وسار إلى بغداد. ونهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانية وأخاه مسرور البلخي، فقاتله منتصف رجب، وانهزمت ميسرة الموفق، وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القواد. ثم تراجعوا واشتدت الحرب، وجاء إلى الموفق محمد بن أوس والداراني مدداً من المعتمد، وفشل أصحاب الصفار لمّا رأوا مدد الخليفة فانهزموا، وخرج الصفار وأتبعهم أصحاب الموفق وغنموا من عسكره نحواً من عشرة آلاف من الظهر، ومن الأموال ما يؤد حمله، وكان محمد بن طاهر معتقلاً معه في العسكر منذ قبض عليه بخراسان، فتخلص ذلك اليوم، وجاء إلى الموفقة وخلع عليه وولاه الشرطة ببغداد، وسار الصفار إلى خوزستان فنزل جنديسابور، وأرسله صاحب الزنج يحثه على الرجوع ويعده المساعدة، فكتب إليه: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } السورة. وكان ابن واصل قد خالف الصفار إلى فارس وملكها، فكتب إليه المعتمد بولايتها، وبعث الصفار إليه جيشاً مع عمر بن السري من قواده، فأخرجه عنها وولّى على الأهواز محمد بن عبدالله بن طاهر. ثم رجع المعتمد إلى سامرا والموفق إلى واسط، واعتزم الموفق على اتباع الصفار، فقعد به المرض عن ذلك، وعاد إلى بغداد ومعه مسرور البلخى سار بعد موسى وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وقدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد.
سياقة أخبار الزنج
قد ذكر أن مسروراً البلخي سار بعد موسى بن بغا لحرب الزنج، ثم سار مسرور للقاء المعتمد وحضر الموفق حرب الصفار، وبلغ صاحب الزنج جاؤا النواحي من العساكر، فبعث سراياه فيها للنهب والحرق والتخريب في بعث سليمان بن جامع إلى البطيحة وسليمان بن موسى إلى القادسية. وجاء أبو التركي في السفن يريد عسكر الزنج فأخذ عليه سليمان بن موسى وقاتله شهراً حتى تخلص وانحاز إلى سليمان بن جامع، وبعث إليهما الخبيث بالمدد، وكان مسرور قد بعث قبل مسيره من واسط جنداً في البحر إلى سليمان فهزمهم وأوقع بهم وقتل أسراهم، ونزل بقرة مروان قريباً من يعقوب متحصناً بالغياض والأغوار. وزحف إليه قائدان من بغداد وهما أغرتمش وحشيش في العساكر براً وبحراً، وأمر سليمان أصحابه بالاختفاء في تلك الغياض حتى يسمعوا أصوات الطبول. وأقبل أغرتمش، ونهض شرذمة من الزنج فواقعوا أصحابه وشاغلوهم، وسار سليمان من خلفهم وضرب طبوله وعبروا إليهم في الماء، فانهزم أصحاب أغرتمش وظهر ما كان مختفياً، وقتل حشيش واتبعوهم إلى العسكر وغنموا منه، وأخذوا من القطع البحرية، ثم استردها أغرتمش من أيديهم، وعاد سليمان ظافراً وبعث برأس حشيش إلى الخبيث صاحبه، فبعث به إلى علي بن أبان في نواحي الأهواز، وكان مسرور البلخي قد بعث إلى كور الأهواز أحمد بن كيتونة، فنزل السوس وكان صاحب الأهواز من قبل الصفار يكاتب صاحب الزنج ويداريه، ويطلب له الولاية عنه، فشرط عليه أن يكون خليفة لابن أبان، واجتمعا بتستر. ولما رأى أحمد تظاهرهما رجع إلى السوس، وكان علي بن أبان يروم خطبة محمد له بعمله، فلما اجتمعا بتستر خطب للمعتضد والصفار ولم يذكر الخبيث، فغضب علي وسار إلى الأهواز. وجاء أحمد بن كيتونة إلى تستر، فأوقع بمحمد بن عَبْد الله وتحضن منه بتستر. وأقبل علي بن أبان إليه فاقتتلا واشتد القتال بينهما، وانهزم علي بن أبان، وقتل جماعة من أصحابه ونجا بنفسه جريحاً في الساريات بالنهر، وعاد إلى الأهواز. وسار منها إلى عسكر الخبيث، واستخلف على عسكره بالأهواز حتى داوى جراحة ورجع. ثم بعث أخاه الخليل إلى أحمد بن كيتونة بعسكر مكرم فقاتله، وقد أكمن لهم فانهزموا، وقتل من الزنج خلق ورجع المنهزمون إلى علي بن أبان، وبعث مسلحة إلى السرقان فاعترضهم جيش من أعيان فارس أصحاب أحمد بن كيتونة، وقتلهم الزنج جميعأ فحظي عنده بذلك وبعث في أثر إبراهيم من قتله في سرخس. ولما أراد الصفار العود إلى سجستان ولى على نيسابور عزيز بن السري وعلى هراة أخاه عمرو بن الليث، فاستخلف عمر وعليها طاهر بن حفص الباذغيسي وسار إلى سجستان سنة إحدى وستين، فجاء الخبيث إلى أخيه علي وزين له أن يقيم نائباً عنه في أموره بخراسان، وطلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له. ولما ارتحلوا جمع جمعاً وحارب عليا فأخرجه من بلده، ثم غلب عزيز بن السري على نيسابور وملكها أول إثنتين وستين، وقام بدعوة بني طاهر. واستقدم رافع بن هرثمة من رجالاتهم فجعله صاحب جيشه، وكتب إلى يعمر بن سركب وهو يحاصر بلخ يستقدمه فلم يثق إليه، وسار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص، وقتله وزحف إليه أحمد وكانت بينهما مواساة. ثم داخل بعض قواد أحمد الخجستاني في الغدر بيعمر، على أن يمكنه من أخيه أبي طلحة، فكلف ذلك القائد به فتم ذلك، وكبسهم أحمد وقبض على يعمر وبعثه إلى نائبه بنيسابور فقتله، وقتل أبا طلحة القائد الذي غدر بأخيه. وسار إلى نيسابور في جماعة، فلقي بها الحسين بن طاهر مردوداً من أصبهان طمعاً أن يدعو له أحمد الخجستاني كما كان يزعم حين أورد فلم يخطب، فخطب له أبو طلحة وأقام معه بنيسابور، فسار إليهما الخجستاني من هراة في إثني عشر ألفاً، وقدم أخاه العباس فخرج إليه أبو طلحة وهزمه، فرجع أحمد إلى هراة ولم يقف على خبر أخيه، وانتدب رافع وهرثمة إلى استعلام خبره واستأمن إلى أبي طلحة فأمنه ووثق إليه. وبعث رافع إلى أحمد نجبر أخيه العباس، ثم أنفذه طاهر إلى بيهق لجباية مالها، وضم معه قائدين لذلك، فجبى المال وقبض على القائدين وانتقض. وسار إلى الخجستاني ونزل في طريقه بقرية وبها علي بن يحيى الخارجي، فنزل ناحية عنه، وركب ابن طاهر في أتباعه فأدركه بتلك القرية، فأوقع بالخارجي يظنه رافعاً، ونجا رافع إلى الخجستاني. وبعث ابن طاهر إسحق الشرابي إلى جرجان لمحاربة الحسن بن زيد والديلم منتصف ثلاث وستين، فأثخن في الديلم ثم انتقض على ابن طاهر، فسار إليه وكبسه إسحق في طريقه فانهزم إلى نيسابور واستضعفه أهلها فأخرجوه، فأقام على فرسخ منها، وجمع جمعاً وحاربهم، ثم كتب إلى أهل نيسابور، إلى إسحق باستدعائه ومساعدته علي بن طاهر وأبي طلحة، وكتب إلى أهل نيسابور عن إسحق بالمواعدة. وسار إسحق أبو محمد في قفة من الجند، فاعترضه أبو طلحة وقتله وحاضر نيسابور، فاستقدموا الخجستاني من هراة وأدخلوه. وسار أبو طلحة إلى الحسن بن زيد مستنجداً فأنجده ولم يظفر، وعاد إلى بلخ وحاصرها سنة خمس وستين، وخرج للخجستاني من نيسابور به، وحاربه الحسن بن زيد لمساعدته أبا طلحة. وجاء أهل جرجان مددا للحسن، فهزمهم الخجستاني وأغرمهم أربعة آلاف ألف درهم. ثم جاء عمرو بن الليث إلى هراة بعد وفاة أخيه يعقوب الصفار، وعاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور، وسار إليه عمرو من هراة فاقتتلا وانهزم عمر، ورجع إلى هراة، وأقام أحمد بنيسابور. وكانت الفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إياه، فأوقع السجستاني بينهم الفتنة ليشغلهم بها، ثم سار إلى هراة سنة سبع وستين وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر منه بشيء، فسار نحو سجستان وترك نائبه بنيسابور فأساء السيرة وقوى أهل الفساد، فوثب به أهل نيسابور واستعانوا بعمرو بن الليث وبعث إليهم جنداً يقبض على نائب الخجستاني وأقاموا بها، ورجع من سجستان فأخرجهم وملكها، وأقام إلى تمام سبع وستين، وكاتب عمرو أبا طلحة وهو يحاصر بلخ فقدم عليه وأعطاه أموالاً واستخلفه بخراسان، وسار إلى سجستان، وسار أحمد إلى سرخس ولقيه أبو طلحة فهزمه أحمد ولحق بسجستان، وأقام أحمد بطخارستان. ثم جاء أبو طلحة إلى نيسابور فقبض على أهل الخجستاني وعياله، وجاء أحمد من طخارستان إلى نيسابور وأقام بها. ثم تبين لابن طاهر أن الخجستاني إنما يروم لنفسه، وليس على ما يدعيه من القيام بأمرهم. وكان على خوارزم أحمد بن محمد بن طاهر، فبعث قائده أبا العباس النوفلي إلى نيسابور في خمسة آلاف مقاتل، وخرج أحمد أمامهم وأقام قريباً منهم، وأفحش النوفلي في القتل والضرب والتشويه، وبعث إليه الخجستاني فنهاه عن مثل ذلك فضرب الرسل، فلحق أهل نيسابور بالخجستاني واستدعوه وجاؤا به وقبض على النوفلي وقتله. ثم بلغه أن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عَبْد الله بن طاهر بمرو، فسار إليه من أسورد في يوم وليلة وقبض عليه وولّى عليها موسى البلخي، ثم وافاها الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة ووصل إليهم نحو عشرين ألف درهم، وكان الخجستاني لمّا بلغه أخذ والدته من نيسابور وهو بطخارستان وسار مجدًّا، فلما بلغ هراة أتاه غلام لأبي طلحة مستأمناً فأمنه وقربه فغص به وغلامه الخالصة عنده والجنود، وطلب الفرصة في قتل الخجستاني، وكان قد غور ساقية قطلغ، فاتفقا على قتله فقتلاه في شوال سنة ثمان وستين. وأنفذ دامجور خاتمه إلى الإسطبل. مع جماعة فركبوا الدواب وساروا بالخبر إلى أبي طلحة ليستقدموه، وأبطأ ظهوره على القوّاد فدخلوا فوجدوه قتيلاً، وأخبرهم صاحب الإسطبل بخبر الخاتم والدواب، وطلبوا دامجور فلم يجدوه، ثم عثروا عليه بعد أيام فقتلوه، واجتمعوا على رافع بن هرثمة وكان من خبره ما نذكره.
استيلاء الصفّار على الأهواز
ثم سار يعقوب الصفار من فارس إلى الأهواز، وأحمد بن كيتونة قائد مسرور البلخي على الأهواز مقيم على تستر، فرحل عنها ونزل يعقوب جنديسابور، ففرّ كل من كان في تلك النواحي من عساكر السلطان، وبعث إلى الأهواز من أصحابه الخضر بن المعبر، فأفرج عنها عليّ بن أبان والزنج ونزلوا السِّدرة، ودخل خضر الأهواز، وأقام أصحاب الخضر وابن أبان يغير بعضهم على بعض. ثم فرّ ابن أبان وسار إلى الأهواز فأوقع بالخضر وفتك في أصحابه وغنم، ولحق الخضر بعسكر مكرم، واستخرج ابن أبان ما كان بالأهواز ورجع إلى نهر السِّدرة. وبعث يعقوب إلى الخضر مدّداً وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز، فأبى ابن أبان من ذلك إلا أن ينقل طعاماً ما كان هناك فنقله وتوادعوا.
استيلاء الزنج علي واسط
قد تقدّم لنا واقعة أغرتمش مع سليمان بن جامع، وظفر سليمان به، فلما انقضى أمره سار سليمان إلى صاحب الخبيث ومرّ في طريقه بعسكر تكين البخاريّ وهو ببردود، فلما حاذاه قريباً أشار عليه الجناني أن يغير على العسكر في البحر ويستطرد لهم لينتهزوا منهم الفرصة ففعل، وجاء مستطردا وقد أكمنوا لهم الكمناء حتى أجازوا موضع الكمائن. وركب سليمان إليهم وعطف الجناني على من في النهر وخرجت الكمائن من خلفهم فأثخنوا فيهم إلى معسكرهم، ثم بيتوهم ليلاً فنالوا منهم، وانكشف سليمان قليلاً، ثم عبر أصحابه وأتاهم من وجوه عديدة برأ وبحراً، فانهزم تكين وغنم الزنج عسكره. ثم استخلف سليمان على عسكره الجناني، وسار إلى صاحب الخبيث سنة ثلاث وستين. ومضى الجناني بالعسكر لطلب الميرة، فاعترضه جعلان من قوّاد السلطان وهزمه وأخذ سيفه. ثم زحف منكجور ومحمد بن علي بن حبيب من القوّاد، وبلغ الحجاجّيّة فرجع سليمان مجدًّا إلى طهثا يريد جعلان وفي مقدمته الجنانيّ. ثم كر إلى ابن خبيث فهزمه وقتل أخاه وغنم ما معه. ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان فأوقع بالقائد هناك جيش ابن خمار تكين وهزمه ونهب القرية وأحرقها. ثم بعث العساكر في الجهات للنهب برًّا وبحراً، واعترض جعلان بعضهم فأوقع بهم، ثم سار سليمان إلى الرصافة فأوقع بالقائد بها واستباحها وغنم ما فيها ورجع إلى منزله بمدينة الخبيث، وجاء مطر إلى الحجّاجيّة فعاث فيها وأسر جماعة منها كان منهم القاضي سليمان، فحمله إلى واسط. ثم سار إلى طهثا وكتب الجنانيّ بذلك إلى سلمان فوافاه لإثنتين من ذي الحجة، وجاء أحمد بن كيتونة بعد أن كان سار إلى الكوفة وجبيل، فعاد إلى البريدية وصرف جعلان وضبط تلك الأعمال، وأوقع تكين بسليمان وقتل جماعة من قوّاده. ثم ولّى الموفّق على مدينة واسط محمد بن الوليد وجاءه في العساكر، واستمّد سليمان صاحبه بالخليل بن أبان في ألف وخمسمائة مقاتل، فزحف إلى ابن المولّد وهزمه واقتحم واسط بها منكجور البخاريّ فقاتله عامة يومه، ثم قتل ونهب البلد وأحرقها وانصرف سليمان إلى جبيل، واستدعوه في نواحيها تسعين ليلة.
استيلاء ابن طولون على الشام
كان على دمشق أيام المعتمد ماجور من قواد الأتراك، فتوفي سنة أربع وستين وقام ابنه عليّ مكانه. وتجهز أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق، وكتب إلى ابن ماجور بأن المعتمد أقطعه الشام والثغور، فأجاب بالطاعة، وسار أحمد واستخلف على مصر إبنه العبّاس، ولقيه ابن ماجور بالرملة فولاّه عليها، وسار إلى دمشق فملكها وأقرّ القوّاد على أقطاعهم. ثم سار إلى حمص فملكها ثم حماة ثم حلب، وكان على أنْطاكِية وطرسوس سيما الطويل من قواد الأتراك، فبعث إليه ابن طولون بالطاعة، وأن يقرّه على ولايته فامتنع، فسار إليه ودلّوه على عورة في سور البلد نصب عليها المجانيق، وقاتله فملكها عنوة وقتل سيما في الحرب، فسار ثم قصد طرسوس فدخلها واعتزم على المقام بها ويريد الغزو. وشكا أهلها غلاء السعر وسألوه الرحيل فرحل عنهم إلى الشام، ومضى إلى حرّان وبها محمد بن أتامش فحاربه وهزمه، واستولى عليها. ثم جاءه الخبر بانتقاض إبنه العبّاس بمصر وأنه أخذ الأموال وسار إلى برقة فلم يكترث لذلك، وأصلح أحوال الشام وأنزل بحرّان عسكراً، وولّى مولاه لؤلؤاً على الرقّة وأنزل معه عسكراً، وبلغ موسى بن أتامش خبر أخيه محمد فجمع العساكر وسار نحو جرجان وبها أحمد بن جيفونة من قوّاد ابن طولون فأهمل مسيره، وقال له بعض الأعراب واسمه أبو الأعز: لا يهمك أمره فإنه طيّاش قلق وأنا آتيك به ! فقال: إفعل! وزاده عشرين رجلاً، وسار إلى عسكر موسى بن أتامش، فأكمن بعض أصحابه ودخل العسكر بالباقي على زيّ الأعراب، وقصد الخيل المرتبطة عند خيام ابن موسى فأطلقها وصاحوا فيها فنفرت واهتاج العسكر وركبوا واستطرد لهم أبو الأعز حتى جاوز الكمين وموسى في أوائلهم، فخرج الكمين وانهزم أصحاب موسى من ورائه، وعطف عليه أبو الأعز فأخذه أسيراً وجاء به إلى ابن جيفونة، وبعث به إلى ابن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر وذلك سنة ست وستين. (ومن أخبار الزنج) أنّ سليمان احتفر نهراً يمرّ إلى سواد الكوفة ليتهيأ له الغارة على تلك النواحي وكان أحمد بن كيتونة [*] فكبسهم وهم يعلمون، وقد جمروا عساكرهم لذلك فأوقع بهم وقتل منهم نحواً من أربعين قائداً وأحرق سفنهم، ورجع سليمان مهزوماً إلى طهتا. ثم عدت عساكر الزنج على النعمانية واستباحوها وصار أهلها إلى جرجرايا وأحفل أهل السواد إلى بغداد، وزحف عليّ بن أبان بعسكر الزنج إلى تستر فحاصرها وأشرف على أخذها. وكان الموفق استعمل على كور الأهواز مسروراً البلخي فولّى عليها تكين البخاريّ فسار إليها ووافاها أهل تستر في تلك الحال فأغزى عليّ بن أبان وهزمه، وقتل من الزنج خلقاً ونزل تستر. وبعث ابن أبان جماعة من قواد الزنج ليقيموا بقنطرة فارس، وجاء عين بخبرهم إلى تكين فكبسهم وهزمهم وقتل منهم جماعة. وسار ابن أبان فانهزم أمامه وكتب ابن أبان إلى تكين يسأله الموادعة فوادعه بعض الشيء واتهمه مسرور فسار وقبض عليه وحبسه عند عجلان بن أبان، وفرّ منه أصحابه وطائفة إلى الزنج وطائفة إلى محمد بن عبدالله الكرخيّ ثم أمن الباقين فرجعوا إليه.
موت يعقوب الصفار وولاية عمر وأخيه
وفي سنة خمس وستين أخريات شوّال منها مات يعقوب الصفّار وقد كان افتتح الرحج وقتل ملكها وأسلم أهلها على يده، وكانت مملكة واسعة الحدود. وافتتح زابلستان وهي غزنة، وكان المعتمد قد استماله وقلّده أعمال فارس. ولما مات قام أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى المعتمد بطاعته، فولاه الموفق من قبله ما كان له من الأعمال، خراسان وأصبهان والسّند وسجستان والشرطة ببغداد وسر من رأى وقبله عبيد الله بن عبدالله بن طاهر، وخلع الموفق عمرو بن الليث، وولّى على أصبهان من قبله أحمد بن عَبْد العزيز بن أبى دلف محمد بن أبي الساج.
أخبار الزنج مع أغرتمش
قد كان تقدم لنا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش وحربه بعد ذلك مع تكين وجعلان ومطر بن جامع وأحمد بن كيتونة واستيلاؤه على مدينة واسط، ثم ولّى أغرتمش مكان تكين البخاري ما يتولاه من أعمال الأهواز فدخل تستر في رمضان ومعه مطر بن جامع، وقتل جماعة من أصحاب أبان كانوا مأسورين بها. ثم سار إلى عسكر مكرم، ووافاه هناك علي بن أبان والزنج، فاقتتلوا ثم تحاجزوا لكثرة الزنج، ورجع عليّ إلى الأهواز وسار أغرتمش إلى الخليل بن أبان ليعبروا إليه من قنطرة أربل، وجاءه أخوه عليّ وخاف أ صحابه المخلّفون بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السروة وتحارب عليّ وأغرتمش يوماً ثم رجع عليّ إلى الأهواز ولم يجد أصحابه، فبعث من يردهم إليه فلم يرجعوا. وجاء أغرتمش وقتل مطر بن جامع في عدّة من القوّاد، وجاء المدّد لابن أبان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش وتركه. ثم بعث محمد بن عبيد الله إلى أبكلاي ابن الخبيث في أن يرفع عنه يد ابن أبان فزاد ذلك في غيظه، وبعث يطالبه محمد بالخراج ودافعه فسار إليه، وهرب محمد من رامهرمز إلى أقصى معاقله، ودخل عليّ والزنج رامهرمز وغنموا ما فيها. ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم، وترك أعماله. ثم استنجده محمد بن عبيد الله على الأكراد، على أنّ لعليّ غنائمهم، فاستخلف عليّ على ذلك مجلز، وطلب منه الرهن فمطل وبعث إليه الجيش فزحف بهم إلى الأكراد. فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج وأثخن الأكراد فيهم، وبعث عليّ من يعترضهم فاستلبوهم، وكتب عليّ إلى محمد يتهدده فاعتذر ورد عليهم كثيراً من أسلابهم، وخشي من الخبيث وبعث إلى أصحابه مالاً ليسألوه في الرضا عنه، فأجابهم إلى ذلك على أن يقيم دعوته في أعماله ففعل كذلك. ثم سار ابن أبان لحصار مؤتة واستكثر من آلات الحصار، وعلم بذلك مسرور البلخي وهو بكور الأهواز، فسار إليه ووافاه عليها، فانهزم ابن أبان وترك ما كان حمله هناك، وقتل من الزنج خلق، وجاء الخبر بمسير الموفّق إليهم.
استرجاع ابن الموفّق ما غلب عليه الزنج من أعمال دجلة
لمّا دخل الزنج واسط وعاثوا فيها كما ذكرناه بعث الموفّق ابنه أبا العبّاس، وهو الذى ولّي الخلافة بعد المعتمد ولقّب ،المعتضد فبعثه أبوه بين يديه في ربيع سنة ست وستين في عشرة آلاف من الخيل والرجال. وركب لتشييعه، وبعث معه السفن في النهر، عليها أبو حمزة نصر، فسار حتى وافى الخيل والرجل والسفن النهرية، وعلى مقدّمته الجناني وأنهم نزلوا الجزيرة قريباً من بردروبا، وجاءهم سليمان بن موسى الشعراني مدداً بمثل ذلك، وأن الزنج اختلفوا في الاحتشاد، ونزلوا من السفح إلى أسفل واسط ينتهزون الفرصة في ابن الموفّق لمّا يظنون من قلّة درايته بالحرب، فركب أبو العبّاس لاستعلام أمرهم ووافى نصيراً فلقيهم جماعة من الزنج فاستطرد لهم أولاً، ثم كر في وجوههم وصاح بنصير فرجع، وركب أبو العبّاس السفن النهرية فهزم الزنج وأثخن فيهم، واتبعهم ستة فراسخ، وغنم من سعيهم وكان ذلك أول الفتح. ورجع سليمان بن جامع إلى نهر الأمين، وسليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس، وأبو العباس على فرسخ من واسط يغاديهم القتال ويراوحهم. ثم احتشد سليمان وجاء من ثلاثة وجوه، وركب في السفن النهرية وبرز إليه نصير في سفنه، وركب معه أبو العباس في خاصته وأمر الجند بمحاذاته من الشط، ونشب الحرب فوقعت الهزيمة على الزنج وغنمت سفنهم، وأفلت سليمان والجناني من الهلكة، وبلغوا طهتا، ورجع أبو العباس إلى معسكره وأمر لإصلاح السفن المغنومة، وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار وغطوها، فوقع بعض الفرسان فيها، فعدل جند السلطان عن ذلك الطريق. وأمر الخبيث أصحابه بالسفن في النهر وأغاروا على سفن أبي العباس، وغنموا بعضها، وركب في أتباعهم واستنقذ سفنهم، وغنم من سفنهم نحواً من ثلاثين، وجدّ في قتالهم وتحصّن ابن جامع بطهتا، وسمّى مدينته المنصورة. والشعراني بسوق الخميس، وسمّى مدينته المنيعة. وكان أبو العباس يغير على الميرة التي تأتيهم من سائر النواحي، وركب في بعض الأيام إلى مدينة الشعراني التي سمّاها المنيعة، وركب نصير في النهر، وافترقوا في مسيرهم، واعترضت أبا العباس جماعة من الزنج فمنعوه من طريق المدينة وقاتلوه مقدار نهاره، وأشاعوا قتل نصير، وخالفهم نصير إلى المدينة فأثخن فيها وأضرموا النار في بيوتها. وجاء الخبر بذلك إلى أبي العبّاس بسبرة. ثم جاء نصير ومعه أسرى كثيرون فقاتلوا الزنج وهزموهم، ورجع أبو العباس إلى عسكره، وبعث الخبيث إلى ابن أبان وابن جامع فأمرهما بالاجتماع على حرب أبي العباس.
وصول الموفق لحرب الزنج وفتح المنيعة والمنصورة
كان الموفق لمّا بعث ابنه أبا العباس لحرب الزنج تأخر لإمداده بالحشود والعدد وإزاحة علله ومسارقة أحواله، فلما بلغه اجتماع ابن أبان وابن جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأول من سنة سبع وستين، ولقيه ابنه وأخبره بالأحوال، ورجع إلى عسكره. ونزل الموفق على نهر شدّاد، ونزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور، فأقام يومين ثم رحل إلى المنيعة بسوق الخميس، سار إليها في النهر، ونادى بالمقامة ولقيه الزنج فحاربوه، ثم جاء الموفق فانهزموا واتبعهم أصحاب أبي العبّاس فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا خلقاً وأسروا آخرين، وهرب الشعراني، واختفى في الآجام آخرون، ورجع الموفق إلى عسكره وقد استنقذ من المسلمات نحو خمس عشرة امرأةن ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها وهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما بقي من السفن فيها، وبيعت الأقوات التي أخذت، فكانت لا حدّ لها فصرفت في الجند.وكتب الخبيث إلى ابن جامع يحذره مثل ما نزل بالشعراني، وجاءت العيون إلى الموفّق أن ابن جامع بالحوانيت، فسار إلى الضبية وأمر إبنه بالسير في النهر إلى الحوانيت، فلم يلق ابن جامع بها، ووجد قائدين من الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلاّت، ولحق بمدينته المنصورة بطهتا، فقاتل ذلك الجند ورجع إلى أبيه بالخبر فأمره بالمسير إليه، وسار على أثره برًّا وبحراً حتى نزلوا على ميلين من طهتا، وركب لبيوني مقاعد القتال على المنصورة فلقيه الزنج وقاتلوه وأسروا جماعة من غلمانه. ورمى أبو العباس بن الموفق أحمد بن مهدي الجناني فمات وأوهن موته، ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع وعبّى عسكره وبعث السفن فى البحر الذي يصل إلى المنصورة، ثم صلّى وابتهل بالدعاء، وقدّم ابنه أبا العباس إلى السور، واعترضه الجند فقاتلهم عليه واقتحموا وولّوا منهزمين إلى الخنادق وراءه، فقاتلوه عندها واقتحمها عليهم كلّها، ودخلت السفن المدينة من النهر فقتلوا وأسروا، وأجلوهم عن المدينة، وما اتصل بها، وهو مقدار فرسخ، وملكه الموفق وأفلت ابن جامع في نفر من أصحابه. وبلغ الطلاّب في أثره إلى دجلة، وكثر القتل في الزنج والأسر، واستنقذ العبّاس من نساء الكوفة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف، وأعطى ما وجد في المنصورة من الذخائر والأموال للأجناد، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة. ولما جاء جماعة من الزنج إلى الآجام اختفوا فأمر بطلبهم وهدم سور المدينة وطم خنادقها وأقام سبعة عشر يوماً في ذلك ثم رجع إلى واسط.
حصار مدينة الخبيث المختارة وفتحها
ثم إن الموفق عرض عساكره وأزاح عليهم وسار معه ابنه أبو العبّاس إلى مدينة الخبيث فأشرف عليها، ورأى من حصانتها بالأسوار والخنادق ووعر الطرق، وما أعد من الآلات للحصار ومن كثرة المقاتلة ما استعظمه. ولما عاين الزنج عساكر الموفق دهشوا وقدم ابنه أبا العبّاس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق والمقاليع والأيدي، ورأوا من صبره وأصحابه ما لم يحتسبوه. ثم رجعوا وتبعهم مستأمنة من المقاتلة والملاّحين نزعوا إلى الموفق فقبلهم وأحسن إليهم، فتتابع المستأمنون في النهر، فوكل الخبيث بفوهة النهر من منعهم وتعبى أهل السفن للحرب مع بهبود قائد الخبيث، فزحف إليه أبو العبّاس في السفن وهزمه وقتل الكثير من أصحابه، ورجع فاستأمن إليه بعض تلك السفن النهرية وكثير من المقاتلة فأمنهم وأقام شهراً لم يقاتلهم. ثم عبى عساكره منتصف شعبان في البر والبحر وكانوا نحوا، من خمسين ألفاً، وكان الزنج في نحو ثلثمائة ألف مقاتل، فأشرف عليهم ونادى بالأمان إلا للخبيث، ورمى بالرقاع في السهام بالأمان، فجاء كثير منهم ولم يكن حرب. ثم رحل من مكانه ونزل قريباً من المختارة، ورتب المنازل من إنشاء السفن، وشرع في اختطاط مدينة لنزله سماها الموفّقيّة. فأكمل بناءها وشيد جامعها وكتب بحمل الأموال والميرة إليها، وأغب الحرب شهراً فتتابعت الميرة إلى المدينة، ورحل إليها التجّار بصنوف البضائع، واستبحر فيها العمران ونفقت الأسواق، وجلبت صنوف الأشياء.
ثم أمر الموفق ابنه أبا العبّاس بقتال من كان من الزنج خارج المختارة فقاتلهم وأثخن فيهم، فاستأمن إليه كثير منهم فأمنهم ووصلهم، وأقام الموفّق أياماّ يحاصر المحاربين ويصل المستأمنين، واعترض الزنج بعض الوفاد الجائية بالميرة، فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار، ووكل ابنه أبا العبّاس بحفظها، وجاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر نصير يريدون الإيقاع به، فأوقع بهم وظفر ببعض القواد منهم، فقتل رشقاً بالسهام، وتتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخر رمضان خمسين ألفاً. ثم بعث الخبيث عسكراً من الزنج مع عليّ بن أبان ليأتوا من وراء الموفق إذا ناشبهم الحرب، ونمى إليه الخبر بذلك فبعث ابنه أبا العبّاس فأوقع بهم، وحملت الأسرى والرؤوس في السفن النهرية ليراها الخبيث وأصحابه، وظنّوا أنّ ذلك تمويه، فرميت الروس في المجانيق حتى عرفوها، فظهر منهم الجزع وتكررت الحرب في السفن بين أبي العبّاس وبين الزنج، وهو يظهر عليهم في جميعها حتى انقطعت الميرة عنهم، فاشتد الحصار عليهم وخرج كثير من وجوه أصحابه مستأمنين، مثل محمد بن الحرث القمي وأحمد اليربوعي. وكان من أشجع رجاله القمي منهم موكلاً بحفظ السور فأمنهم الموفق ووصلهم، وبعث الخبيث قائدين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البطيحة من ثلاثة وجوه، فيعبروا من تلك النواحي ويقطعوا الميرة عن الموفق. وبلغ الموفق خبرهم فبعث إليهم عسكراً مع مولاه، ونزل فأوقع بهم وقتل وأسر، وأخذ منهم أربعمائة سفينة.
ولمّا تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها، وجهدهم الحصار فبعث جماعة من قواده إلى الموفق يستأمنون، وأن يناشبهم الحرب ليجدوا السبيل إليه، فأرسل ابنه أبا العبّاس إلى نهر الغربى وبه علي بن أبان فاشتد الحرب، وظهر أبو العبّاس على بن أبان، وأمده الخبيث بابن جامع ودامت الحرب عامة يومهم، وكان الظفر لأبي العبّاس، وسار إليه المستأمنة الذين واعدوه. وانصرف أبو العبّاس إلى مدينة الخبيث وقاتل بعض الزنج طمعاً فيهم لقتلهم، فتكاثروا عليه، ثم جاءه المدد من قبل أبيه فظهر عليهم. وكان ابن جامع قد صعد في النهر وأتى أبا العبّاس من ورائه، وخفقت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع منهزمة الزنج فأجبت جماعة من غلمان الموفق وعدة من أعلامهم، وحامى أبو العبّاس عن أصحابه حتى خلصوا، وقوي الزنج بهذه الواقعة، فأجمع الموفق العبور إلى مدينتهم بعسكره.
فعبى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجة، واستكثر من المعابر والسفن وقصدوا حصن أو كان بالمدينة، فيها أنكلاي بن الخبيث وابن جامع وابن أبان، وعليه المجانيق والآلات، فأمر غلمانه بالدنو منه فخاموا لاعتراض نهر الأتراك بينهم وبينه، فصاح بهم فقطعوا النهر سبحاً ،وتناولوا الركن بالسلاح يهدمونه، ثم صعدوا عليه وملكوه ونصبوا به علم الموفق وأحرقوا ما كان عليه من الآلات وقتلوا من الزنج خلقاً عظيماً. وكان أبو العبّاس يقاتلهم من الناحية الأخرى وابن أبان قبالته، فهزمه ووصل أصحاب أبي العبّاس إلى السور فثلموه ودخلوا، ولقيهم ابن جامع فقاتلهم حتى ردهم إلى مواقفهم.
ثم توافى الفعلة فثلموا السور في مواضع ونصبوا على الخندق جسراً عبر عليه المقاتلة، فانهزم الزنج عن السور واتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان فملكه أصحاب الموفق وأحرقوه، وقاتلهم الزنج هناك. ثم انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث، فركب من هنالك، وانهزم عنه أصحابه وأظلم الليل ورجع الموفق بالناس، وتأخر أبو العبّاس لحمل بعض المستأمنين في السفن واتبعه بعض الزنج ونالوا من آخر السفن. وكان بهبود بإزاء مسرور البلخي فنال من أصحابه واستأمن بعض المنهزمين من الزنج والأعراب بعثوا بذلك من عبادان والبصرة، وكان منهم قائده ريحان أبو صالح المعريّ فأمنهم الموفق وأحسن إليهم وضم ريحان إلى أبي العبّاس. وخرج في المحرّم إلى الموفق من قوّاد الخبيث وثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف بالسخان، فأحسن إليه الموفق وحمله في بعض السفن إلى قصر الخبيث، فوقف وكلم الزنوج فى ذلك وأقام الموفق أياماً استجم فيها أصحابه، فلما كان منتصف ربيع الثاني قصد مدينة، الخبيث وفرّق القواد على جهاتها ومعهم النقّابون للسور، ومن ورائهم الرماة يحمونهم. وتقدم إليهم أن لا يدخلوا بعد الهزم إلاّ بإذنه، فوصلوا إلى السور وثلمّوه وحاربوا الزنج من ورائه وهزموهم، وبلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمس. ثم تراجع الزنج وحاربوا من المكامن فرجع أصحاب الموفق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج، ورجع الموفق إلى مدينته، ولام أصحابه على تقدمهم بغير إذنه، ثم بلغ الموفق أن بعض الأعراب من بني تميم يجلبون الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكراً أثخنوا فيهم قتلاً وأسراً، وجيء بالأسرى فقتلهم، وأوعز إلى البصرة بقطع الميرة فانقطعت عن الزنج بالكلية، وجهدهم الحصار وكثر المستأمنة وافترق كثير من الزنج في القرى والأمصار البعيدة، وبث الموفق دعاته فيهم، ومن أبى قتلوه وعرض المستأمنين وأحسن إليهم ليستميلهم وتابع الموفق وابنه قتال الزنج، وقتل بهبود بن عَبْد الواحد من قواد الخبيث في تلك الحروب، فكان قتله من أعظم الفتوح، وكان قتله في السفن البحرية ينصب فيها أعلاماً كأعلام الموفق، ويخايل أطراف العسكر فيصيب منهم. وأفلت في بعض الأيام من يد أبي العبّاس بعد أن كان حصل في قبضته، ثم خيل أخرى لبعض السفن طامعاً فيها فحاربوه وطعنه بعض الغلمان منها فسقط في الماء، وأخذه أصحابه فمات بين أيديهم، وخلع الموفق على الغلام الذي طعنه وعلى أهل السفينة. ولما هلك بهبود قبض الخبيث على بعض أصحابه وضربهم على ما له، فاستفسد قلوبهم، وهرب كثير منهم إلى الموفق، فوصلهم ونادى بالأمان لبقيتهم. ثم اعتزم على العبور إلى الزنج من الجانب الغربي وكانت طرقه ملتفة بالنخيل، فأمر بقطعها وأدار الخنادق على معسكره حذراً من البيات. ثم صعب على الموفق القتال من الجانب الغربي لكثرة أوعاره وصعوبة مسالكه، وما يتوجه فيها على أصحابه من خيل الزنج لقلة خبرتهم بها، فصرف قصده إلى هدم أسوارهم، وتوسعت الطرق فهدم طائفة من السور من ناحية نهر سلمى، وباشر الحرب بنفسه، واشتدّ القتال وكثرت القتلى في الجانبين وفشت الجراح، وكانت في النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال، ويأتون أصحاب الموفق من ورائهم، فأمر بهدمهما فهدمتا، ثم هدم طائفة من السور ودخلوا المدينة وانتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث ودواوينه. ثم تقدّموا إلى الجامع فخرّبوه وجاؤا بمنبره إلى الموفق بعد أن استمات الزنج دونه فلم يغنوا به. ثم أكثروا من هدم السور وظهرت علامات الفتح، ثم أصاب الموفّق في ذلك اليوم سهم في صدره، وذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع وستين، فعاد إلى عسكره. ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس. ثم لزم الفراش واضطرب العسكر، واشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى، فاحتجب عن الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه. ثم ركب إلى الحرب فوجد الزنج قد سدوا ما تثلم من الأسوار، فأمر بهدمها كلها، واتصل القتال مما يلي نهر سلمى كما كان، والزنج يظنون أنهم لا يأتون إلا منها فركب يوماً لقتالهم، وبعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب، فانتهوا إلى قصر من قصور الزنج فأحرقوه وانتهبوا ما فيه، واستنقذوا كثيراً من الساكن فيه. ورجع الموفّق آخر يومه ظافراً. ثم بكر لحربهم فوصلت المقدّمات دار أنكلاي بن الخبيث وهي متصلة بدار أبيه. وأشار ابن أبان بإجراء المياه على الساج وحفر الخنادق بين يدي العساكر، وأمر الموفق بطم الخنادق والأنهار، ورام إحراق قصره وقصده من دجلة فمنع من ذلك كثرة الحماة عنه، فأمر أن تسقف السفن بالأخشاب وتطلى بالأدوية المانعة من الإحراق. ورتب فيها أنجاد أصحابه، وباتوا على اهبة الزحف من الغد. وجاء كاتب الخبيث وهو محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمناً، وبكروا إلى الحرب وأمر الموفق ابنه أبا العبّاس بإحراق منازل القواد المتصلة بقصر الخبيث ليشملهم عن حمايته، وقصدت السفن المطليّة قصر الخبيث فأحرقوا الرواشن والأبنية الخارجة وعلت النار فيه ورموا بالنار على السفن فلم تؤثر فيها. ثم حصر الماء من النهر فزحفت السفن، فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتاً كانت تشرع على دجلة، واشتعلت النار فيها وقويت وهرب الخبيث وأصحابه وتركوها وما فيها. واستولى أصحاب الموفق على ذلك كله واستنقذوا جماعة من النساء، وأحرق قصر أنكلاي ابنه، وجرحا، وعاد الموفق عشاء يومه مظفراً. ثم بكر من الغد للقتال وأمر نصيراً قائد السفن بقصد القنطرة التي كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب دون القنطرة التي كان اتخذها، وفرق العسكر في الجهات فدخل نصير في أول المدّ ولصق بالقنطرة واتصل الشد من ورائه فلم يقدر على الرجوع حتى حسر الماء عنها، وفطن لها الزنج فقصدوها فألقى الملاحون أنفسهم في الماء، وألقى نصير نفسه وقاتل ابن جامع ذلك اليوم أشدّ قتال. ثم انهزم وسقط في الحريق فاحترق، ثم خلص بعد الجهد. وانصرف الموفق سالماً وأصابه مرض المفاصل واتصل به إلى شعبان من سنته، فأمسك في هذه المدة عن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير وزاد فيها وأحكمها، وجعل أمامها سكراً من الحجارة ليضيق المدخل على السفن، فبعث الموفق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب وطائفة من بحريه ومعهم الفعلة لقطع القنطرة، وجعل أمامها سفناً مملوءة من القصب لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر، وفرّق جنده على القتال وساروا لمّا أمرهم عاشر شوال، وتقدموا إلى الجسر ولقيهم أنكلاي بن الخبيث وابن أبان وابن جامع، وحاموا على القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرة عليهم، ودامت الحرب عليها إلى العشي، ثم غلبهم أصحاب الموفق عليها ونقضها النجارون ونقضوا الأثقال التي دونها وأدخلوا السفن بالقصب وأضرموها ناراً، ووافت القنطرة فأحرقتها ووصل النجارون بذلك إلى ما أرادوا. وسهل سبيل السفن في النهر، وقتل من الزنج خلق واستأمن آخرون، وانتقل الخبيث بعد حرق قصوره ومساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ونقل أسواقه اليه وتبين ضعفه فانقطعت عنه الميرة وفقدت الأقوات وغلت حتى أكل بعضهم بعضاً وأجمع الموفق أن يحرق الجانب الشرقي كما أحرق الغربى. فقصد دار الهمذان وكان حصيناً وعليه الآلات، فلما انتهى إليها تعذر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب ونشبت في أعلام الخبيث وجذبوها فتساقطت، فانهزم المقاتلة وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من الآلة، ونهبوا الأثاث والمتاع. واتصل الحريق بما حولها من الدور، واستأمن للموفق جماعة من خاصة الخبيث فأمنهم، ودلّوه على سوق عظيمة متصلة بالجسر الأول تسمى المباركة، وبها التجّار الذين بهم قوامهم، فقصدها لإحراقها وحاربه الزنج بعدها، وأضرم أصحابه النار فيها فاتصلت وبقي الحريق عامة اليومّ. ثم رجع الموفق، ثم انتقل التجّار بأمتعتهم وأموالهم إلى أعلى المدينة، ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من حفر الخنادق وتغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي، واحتفر خندقاً عريضاً حصّن به منازل أصحابه على النهر الغربي. ثم خرق الموفق باقي السور إلى النهر الغربي بعد حرب شديدة كانت عليه، وكان للخبيث جمع من الزنج وهم أشجع أصحابه، وقد تحصنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفق عند الحرب فيعوقونهم فأجمع على تخريبه وجمع المقاتلة عليه براً وبحراً وفرّقهم على سائر جهاته وجهات الخبيث، وأمد الخبيث الحصن بالمهلبيّ وابن جامع، فلم يغنوا عنه وانهزموا وتركوا الحصن في يدي أصحاب الموفق وهزموه وقتلوا من الزنج خلقاً، وخلصوا من الحصن كثيراً من النساء والصبيان، ورجع الموفق إلى عسكره ظافراً.
استيلاء الموفق علي الجهة الغربية
ولما هدم الموفق سور دار الخبيث أمر بتوسعة الطرق للحرب، وأحرق الجسر الأول الذي على نهر أبي الخصيب ليمنع من مدد بعضهم بعضا، فكان في إحراقه حرب عظيمة. وأعدت لذلك سفينة ملئت قصباً وجعل فيها النفط، وأرسلت في قوة المدد، فتبادر الزنوج إليها وغرقوها. فركب الموفق إلى فوهة نهر أبي الخصيب وقصدهم من غربي النهر وشرقية إلى أن انتهوا إلى الجسر من غربية وعليه أنكلاي بن الخبيث وابن جامع فأحرقوه، وفعال مثل ذلك من الجانب الشرقي، فاحترق الجسر والحظيرة التي كانت لإنشاء السفن وسجن كان هناك للخبيث. وانحاز هو وأصحابه من الجانب الغربي، واستأمن كثير من قواده فأمّنهم وأخرجوا أرسالاً وخرج قاضيه هارباً، ووكل بالجسر الثاني من يحفظه. وأمر الموفق ابنه أبا العبّاس بأن يتجهز لإحراقه فزحف في إنجاد غلمانه ومعه الفعلة والآلات. وكان في الجانب الغربي قبالة أبي العبّاس أنكلاي وابن جامع، وفي الجانب الغربي قبالة أسد مولى الموفق الخبيث نفسه والمهلّبّي. وجاءت السفن في النهر وقاتلوا حامية الجسر فانهزم ابن جامع وأنكلاي واضرمت النار في الجسر، ولما وافياه وهو مضطرم ناراً ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق من أصحابهما خلق، واحترق الجسر واتصل الحريق بدورهم وقصورهم وأسواقهم وافترق الجيش في الجانبين ونهبت دار الخبيث واستنفذ من كان في حبسه من النسوة والرجال. وأخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة، ونهبها أصحاب الموفّق، واستأمن أنكلاي بن الخبيث وعلم أبوه فثناه عن ذلك. واستأمن ابن سليمان بن موسى الشعراني من رؤساء قواده فأجيب بعد توقف. ولما خرج تبعه أصحاب الخبيث فقاتلهم ووصل إلى الموفق فأحسن إليه، واقتفى أثره في ذلك شبل بن سالم من قواده، وعظم على الخبيث وأوليائه استئمان هؤلاء، وصار شبل بن سالم يخرج في السرايا إلى عسكر الخبيث ويكثر النكاية فيهم.
استيلاء الموفق علي الجهة الشرقية
وفي خلال هذه الحروب واتصالها مرن أصحاب الموفق على تخلل تلك المسالك والشعاب مع تضايقها ووعرها، وأجمع الموفق على قصد الجانب الشرقي في نهر أبي الخصيب، وندب لذلك قواد المستأمنة لخبرتهم بذلك دون غيرهم، ووعدهم بالإحسان والزيادة فأبوا وسألوه الإقالة فأبى لتتميز مناصحتهم. وجمع سفن دجلة من كل جانب، وكان فيها عشرة آلاف ملاح من المرتزقة. وأمر ابنه أبا العبّاس بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتها، فسار إلى دار المهلبي وهو في مائة وخمسين قطعة من السفن قد شحنها بأنجاد غلمانه، وانتخب عشرة آلاف مقاتل وأمرهم بالمسير حفافي النهر يشاهد أحوالهم، وبكر الموفق لثمان خلون من ذي القعدة زاحفاً للحرب، فاقتتلوا مليًّا وصبروا. ثم انهزم الزنج وقتل منهم خلق واسر آخرون فقتلوا، وقصد الموفق جمعه دار الخبيث، وقد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا عنه وانهزموا وأسلموها فنهبها أصحاب الموفق وسبوا حريمه وبنيه وكانوا عشرين. ونجا إلى دار المهلبي ونهبها واشتغل أصحابهم جميعا بنقل الغنائم إلى السفن، فأطمع ذلك الزنج فيهم وتراجعوا وردوا الناس إلى مواقفهم. ثم صدق الموفق الحملة عشي النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث ورجع الناس الى معسكره، ووصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في القدوم عليه فأخر القتال إلى حضوره.
مقتل صاحب الزنج
ولما وصل غلام ابن طولون في ثالث المحرم من سنة سبعين وجاء في جيش عظيم، فأحسن إليهم الموفق وأجرى لهم الأرزاق على مراتبهم، وأمره بالتأهب لقتال الخبيث. وقد كان لمّا غلب على نهر أبي الخصيب وقطعت القناطر والجسور التي عليه، أحدث فيه سكراً وضيق جرية الماء ليمنع السفن من دخوله إذا حضر، ويتعذر خروجها أمامه. وبقي جريه لا يتهيأ الا بإزالة ذلك السكر. فحاول ذلك مدة و