تاريخ ابن خلدون - الجزء الأول
تاريخ ابن خلدون، الجزء الأول.
بسم الله الرحمن الرحيم المجلد الأول من تاريخ العلامة ابن خلدون ص 5-61 يقول العبدُ الفقيرُ إِلى رحمة ربه ، الغنيُّ بلطفه ، عبدُ الرحمن بنُ محمد بن خلدون الْحَضْرَميُ وفَّقه الله تعالى : الحمد للّه الذي له العزَةُ والجبروتُ ، وبيدِهِ المُلكُ والملكوتُ ، ولهُ الأسماءُ الحُسنى والنُعوتُ ، العالِم فلا يعزُبُ عنه ما تُظْهِرُهُ النًجوى أو يُخفيهِ السُّكوتُ ، القادِرُ فلا يُعجِزُهُ شيءٌ في السَّماواتِ والأرضِ ولا يفوتُ . أنشأنا من الأرضِ نَسَماً، واستَعْمَرَنا فيها أجيالاً وأمماً، وَيسَّر لنا منها أرْزاقاً وقِسَماً . تكنُفُنا الأرحامُ والبُيوتُ ويكفُلُنا الرِّزقُ والقوتُ ، وتُبلينا الأيامُ والوقُوتُ ، وتَعتَوِرُنَا الآجالُ التي خُطَ عَلينا كتابُها الْمَوقوتُ ، وله البقاءُ والثُّبوت ، وهو الحيُّ الذي لا يموتُ ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيدنا ومَولانا محمَّد النَبيِّ الأمِّيّ العربيِّ المكتوبِ في التوراةِ والِإنجيلِ المنعوتِ ، الذي تمحضَ لفِصالهِ الكونُ قَبل ان تَتعاقَبَ الآحادُ والسبوتُ ، وَيتَبَايَنَ زُحَلُ واليَهْموتُ وشَهِدَ بصدقِهِ الحمامُ والعنكبوتُ ؛ وعلى آلِهِ وأصْحَابِهِ الَّذِينَ لهم في محبتهِ واتِّباعهِ الأثَرُ
البَعيدُ والصِّيتُ ، والشَّمْل الجميعُ في مُظاهَرَتِهِ ولعدوِّهِم الشمْلُ الشتيتُ ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ ما اتَّصلَ بالإِسلام جَدُّهُ الْمَبْخوتُ ، وآنْقَطَعَ بالكُفْرِ حَبْلُه المبتوتُ ، وسلّم كثيراً .
أما بعدُ، فَإِنَّ فَنَّ التَاريخِ من الفُنونِ التي تَتَداوَلُها الأمَمُ والأجْيالُ ، وتشَذُ إِلَيْهِ الركائبُ والرِّحالُ ، وتسمو إلى مَعرِفَتِهِ السُّوقَةُ والاغْفَالُ ، وتَتنافسُ فيه المُلوكُ والأقْيالُ ، وَيتَساوى في فَهْمِهِ العُلَماءُ والجُهَالُ ، إذْ هُوَ في ظاهِرهِ لا يزيدُ على إِخْبارٍ عن الأيَّامِ والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها ، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيه أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها. وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض وطويل ، ومرعى الجهل بين أنام وخيم وبيل. والحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل ، والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل.
هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ أمم والدول في العالم وسطروا. والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي و المسعودي وغيرهم من المشاهير، المتميزين عن الجماهير؛ وإن كان في كتب المسعودي و الواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات ، و مشهور بين الحفظة الثقات ، إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم، والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار.
ثم أن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك، لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك، وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ و المتارك. ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة من الدول والأمم ، و الأمر العمم ، كالمسعودي ومن نحا منحاه. وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد، ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد، فقيد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على أحاديث دولته ومصره. كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها، وابن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان.
ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عما أحالته الأيام من أحوال، و استبدلت به من عوائد الأمم والأجيال. فيجلبون الأخبار عن الدول،
وحكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجردت عن موادها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها ، إنما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها، يكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها، اتباعا لمن عني من المتقدمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها. ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، واظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدول ومراتبها، مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثاً عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب.ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار، وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار، مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفي هذا الأثر من الهمل. وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد. ولما طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم، وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس، أحسن السوم. فأنشأت في التاريخ كتابا، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللا وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار ، وملؤوا
أكناف النواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار، ومن سلف من الملوك والأنصار، وهم العرب والبربر؛ إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما، وطال فيه على الأحقاب مثواهما، حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما، ولا يعرف أهلة من أجيال الآدميين سواهما. فهذبت مناحيه تهذيبا، وقربته لإفهام العلماء والخاصة تقريبا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا. وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها؛ حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك.ورتبته على مقدمة وثلاثة كتب:
المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين. الكتاب الأول: في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب. الكتاب الثاني: في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد، وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من أمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة. الكتاب الثالث: في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول.ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتلاء أنواره، وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره، والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره، فأفدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الديار، ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار، واتبعت بها ما كتبته في تلك الأسطار ، وأدرجتها
في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من أمم النواحي، وملوك الأمصار والضواحي، سالكا سبيل الاختصار والتلخيص، مفتديا بالمرام السهل من العويص، داخلا من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا، وذلل من الحكم النافرة صعابا، وأعطى لحوادث الدول عللا وأسبابا، وأصبح للحكمة صوانا وللتاريخ جرابا. ولما كان مشتملا على أخبار العرب والبربر، من أهل المدن والوبر، والإلماع بمن عاصرهم من الدول الكبر، وأفصح بالذكرى والعبر، في مبتدأ الأحوال وما بعدها من الخبر، سميته كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر،ولم أترك شيئا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف والحول، في القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة ، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله. فجاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة، والحكم المحجوبة القريبة. وأنا من بعدها موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء، في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء. فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة، والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وبعد أن استوفيت علاجه، وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه، وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه، وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه، وأدرت سياجه، أتحفت بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي منذ خلع التمائم ولوث العمائم، بحلي القانت الزاهد، المتوشح من زكاء المناقب والمحامد ، وكرم الشمائل والشواهد، بأجمل من القلائد، في نحور الولائد، المتناول بالعزم القوي الساعد والجد المواتي المساعد، والمجد الطارف والتالد، ذوائب ملكهم الراسي القواعد، الكريم المعالي والمصاعد، جامع أشتات العلوم والفوائد، وناظم شمل المعارف الشوارد ، ومظهر الآيات الربانية، في فضل المدارك الإنسانية، بفكره الثاقب الناقد، ورأيه الصحيح المعاقد، النير المذاهب والعقائد، نور الله الواضح المراشد، وبعمته العذبة الموارد، ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد، ورحمته الكريمة المقالد، التي وسعت صلاح الزمان الفاسد، واستقامة المائد من الأحوال
والعوائد، وذهبت بالخطوب الأوابد، وخلعت على الزمان رونق الشباب العائد، وحجته التي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند، (أمير المؤمنين) أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان الكبير المجاهد المقدس أمير المؤمنين، أبي الحسن، ابن السادة الأعلام من بني مرين، الذين جددوا الدين، ونهجوا السبيل للمهتدين، ومحوا آثار البغاة المفسدين. أفاء الله على الأمة ظلاله، (وبلغه في نصر دعوة الإسلام آماله).
وبعثته إلى خزانتهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس حاضرة ملكهم، وكرسي سلطانهم، حيث مقر الهدى، ورياض المعارف خضلة الندى، وفضاء الأسرار الربانية فسيح المدى، والإمامة الكريمة الفارسية العزيزة أن شاء الله بنظرها الشريف، وفضلها الغني عن التعريف، تبسط له من العناية مهادا، وتفسح له في جانب القبول آمادا، فتوضح بها أدلة على رسوخه وأشهادا. ففي سوقها تنفق بضائع الكتاب، وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب، ومن مدد بصائرها المنيرة نتائج القرائح و الألباب. والله يوزعنا شكر نعمتها، ويوفر لنا حظوظ المواهب من رحمتها، ويعيننا على حقوق خدمتها، ويجعلنا من السابقين في ميدانها، المجلين في حومتها، ويضفي على أهل إيالتها، وما أوى من الإسلام إلى حرم عمالتها، لبوس حمايتها وحرمتها وهو سبحانه المسؤول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها، بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين
من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابه0ا
إعلم أنَّ فنَّ التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهمْ، والملوك في دولهم وسياستهمْ، حتى تتمَّ فائدةُ الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا. فهو محتاجٌ إلى مآخذ متعدَدةََومعارف متنوعة، وحسن نظرو تثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سمينًاً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط؛ ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هى مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد.
وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل بأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون.ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش. لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها؛ تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة.ثم أن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها، وبعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثاً أو أزيد، فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر. والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
ولقد كان ملك الفرس ودولتهم اعظم من ملك بني إسرائيل بكثير، يشهد لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم، والتهامه بلادهم، واستيلائه على أمرهم، وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم، وهو من بعض عمال مملكة فارس. يقال إنه كان مرزبان المغرب من تخومها. وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير. ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريبا منه. وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرون ألفا، كلهم متبوع على ما نقله "سيف " قال: وكانوا في أتباعهم اكثر من مائتي ألف. وعن عائشة والزهري: أن جموع رستم التي زحف بها لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا كلهم متبوع.وأيضا فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتسع نطاق ملكهم وانفسح مدى دولتهم فإن العمالات والممالك في الدول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلتها وكثرتها حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأول. والقوم لم تتسع ممالكهم إلى غير الأردن وفلسطين من الشام، وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف.
وأيضاً فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بفتح الهاء وكسرها، ابن لاوي بكسر الواو وفتحها، ابن يعقوب وهو إسرائيل الله، كذا نسبه في التوراة. والمدة بينهما على ما نقله المسعودي، قال : دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة، تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة. ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد. وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضا إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلا أحد عشر أبا. فإنه سليمان بن داود بن إيشا بن عوفيذ (ويقال ابن عوفذ) بن باعز (ويقال بوعز) بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب (ويقال حميناذاب) بن رم بن حصرون (ويقال حسرون) بن بارس (ويقال بيرس) بن يهوذا بن يعقوب. ولا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الذي زعموه اللهم إلى المئين والآلاف فربما يكون وأما أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد. وأعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف، تجد زعمهم باطلا ونقلهم كاذبا.
والذي ثبت في الإسرائيليات أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصة، وأن مقرباته كانت ألفا وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه. هذا هو الصحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامة منهم. وفي أيام سليمان عليه السلام وملكه كان عنفوان دولتهم واتساع ملكهم.هذا، وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه، وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى، أو اخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين، توغلوا في العدد
وتجاوزوا حدود العوائد، وطاوعوا وساوس الإعراب. فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم، واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم ، واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم، لن تجد معشار ما يعدونه. وما ذاع إلا لولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد، حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد، ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة، ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش، فترسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه، ويتخذ آيات الله هزءاً، ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، وحسبك بها صفقة خاسرة.
ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب انهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية والبربر من بلاد المغرب، وأن إفريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم أول، وكان لعهد موسى عليه السلام او قبله بقليل. غزا أفريقية واثخن في البربر، وانه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال: ما هذه البربرة ، فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ، وانه لما انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها، ومنهم صنهاجة، وكتامة ومن هذا ذهب الطبري والجرجاني والمسعودي وبن الكلبي والبيلي إلى أن صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر، وهو الصحيح.وذكر المسعودي أيضا أن ذا الإذعار من ملوكهم قبل إفريقش وكان على عهد سليمان عليه السلام، غزا المغرب ودوخه، وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده، وأنه بلغ وادي الرمل من بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكا لكثرة الرمل، فرجع. وكذلك يقولون في تبع الآخر وهو اسعد أبو كرب، وكان على عهد يستاسف من ملوك الفرس الكيانية ، إنه ملك الموصل وأذربيجان
ولقي الترك فهزمهم وأثخن، ثم غزاهم ثانية وثالثة كذلك، وإنه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس، وإلى بلاد الصغد من بلاد أمم الترك وراء النهر، وإلى بلاد الروم، فملك الأول البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى الصين، فوجد أخاه الثاني الذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها، فاثخنا في بلاد الصين ورجعا جميعاًًًً بالغنائم، وتركوا ببلاد الصين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد، وبلغ الثالث إلى قسطنطينية فدرسها ودوخ بلاد الروم ورجع.
وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة، عريقة في الوهم والغلط، وأشبه بأحاديث اقصص الموضوعة. وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيهم بصنعاء اليمن. وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها: فبحر الهند من الجنوب، وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق، وبحر السويس الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب، كما تراه في مصور الجغرافيا. فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السويس. والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما. ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله، هذا ممتنع في العادة.وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشام والقبط بمصر، ثم ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشام، ولم ينقل قط أن التبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال.وأيضا فالشقة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة، فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى إنتهاب الزرع والنعم وانتهاب البلاد فيما يمرون عليه، ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة، وإن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرواحل بنقله، فلا بد وأن يمروا في طريقهم كلها بأعمال قد ملكوها ودوخوها لتكون الميرة منها. وإن قلنا أن تلك العساكر تمر بهؤلاء الأمم من غير أن
تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة، فذلك أبعد وأشد امتناعا، فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة
وأما وادي الرمل الذي يعجز السالك، فلم يسمع قط ذكره في المغرب على كثرة سالكه ومن يقص طرقه من الركاب والقرى في كل عصر وكل جهة، وهو على ما ذكروه من الغرابة تتوافر الدواعي على نقله.وأما غزوهم بلاد الشرق وأرض الترك، وإن كانت طريقه أوسع من مسالك السويس، إلا أن الشقة هنا أبعد، وأمم فارس والروم معترضون فيها دون الترك. ولم ينقل قط أن التبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الروم، وإنما كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق وما بين البحرين والحيرة والجزيرة بين دجلة والفرات وما بينهما في الأعمال، وقد وقع ذلك بين يدي الإذعار منهم وكيكاوس من ملوك الكيانية، وبين تبع الأصغر أبي كرب ويستاسف منهم أيضا، ومع ملوك الطوائف بعد الكيانية والساسانية من بعدهم، بمجاوزة أرض فارس بالغزو إلى بلاد الترك والتبت، وهو ممتنع عادة من أجل الأمم المعترضة منهم، والحاجة إلىالأزودة والعلوفات مع بعد الشقة كما مر. فالأخبار بذلك واهية مدخولة. وهي لو كانت صحيحة النقل لكان ذلك قادحا فيها، فكيف وهي لم تنقل من وجه صحيح. وقول ابن إسحق في خبر يثرب والأوس والخزرج: أن تبعا الآخر سار إلى المشرق محمول على العراق وبلاد فارس. وأما بلاد الترك والتبت فلا يصح غزوهم إليها بوجه لما تقرر. فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك، وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه. والله الهادي إلى الصواب. فصل
وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة
"والفجر"
في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6، 7]، فيجعلون لفظة {إرَمَ} اسما لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين. وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشداد ملكا من بعده، وهلك شديد فخلص الملك لشداد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة، فقال لأبنين مثلها، فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبري والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين وينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره إلى معاوية، فأحضره وقص عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال، هي: "إرم ذات العماد"، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فابصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل.
وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض. وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن، وما زال عمرانها متعاقبا والأدلاء تقص طرقها من كل وجه، ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الإخباريين ولا من أمم. ولو قالوا إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه. إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة. وبعضهم يقول إنها دمشق، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبه بالخرافات.والذى حمل المفسرين
على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظه ذات العماد أنها صفة إرم، وحملو العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير "عادُ إرم" على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة والتي هي أقرب إلى الكذب، المنقولة في عداد المضحكات. وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل للخيام. وإن أريد بها الأساطين فلابدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم، بما اشتهر من قوتهم، لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها. وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة، كما تقول قريش كنانة، وإلياس مضر، وربيعة نزار. وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة. ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين، ما ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحمى بن خالد مولاه، وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصا على اجتماعهما في مجلسه، وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به، لما شغفها من حبه حتى واقعها ، (0زعموا في حالة سكر)، فحملت ووشي بذلك للرشيد، فاستغضب. وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبويها وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده والعباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن مجمد السجاد بن علي أبي الخلفاء، ابن عبد الله ترجمان القران، ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ابنة خليفة، أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول وعمومته، وإمامة الملة ونور الوحي ومهبط
الملائكة من سائر جهاتها، قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة الدين، البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش. فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها، أو أين توجد الطهارة و الزكاء إذا فقد من بيتها، أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم، بملكة جده من الفرس أو بولاء جدها من عمومة الرسول وأشراف قريش. وغايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه واستخلصتهم ورقتهم إلى منازل الأشراف. وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته، وعظم آبائه ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف، وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه، لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها، وفي سلطان قومها، واستنكره ولج في تكذيبه. وأين قدر العباسة والرشيد من الناس.
وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجافهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه. فعظمت آثارهم وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عن سواهم، من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم. ويقال إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح، لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد وخليفة، حتى شب في حجره ودرج
من عشه وغلب على أمره ، وكان يدعوه يا أبت. فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وقصرت عليهم الآمال، وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء، وتسربت إلى خزائنهم في سبيل التزلف والاستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء، وطوقوهم المنن وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك حتى آسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية ، حتى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم الساعين عليهم، لم تعطفهم، لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرحم، ولا وزعتهم أواصر القرابة. وقارن ذلك عند مخدومهم نواشي الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة، وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة، وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أخي محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية الخارج على المنصور. ويحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الديلم على أمان الرشيد بخطه، وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره ا لطبري، ودفعه الرشيد إلى جعفر، وجعل إعتقاله لداره وإلى نظره. فحبسه مدة، ثم حملته الدالة على تخلية سبيله، والاستبداد بحل عقاله، حرما لدماء أهل البيت بزعمه، ودالة على السلطان في حكمه. وسأله الرشيد عنه لما وشي به إليه، ففطن، وقال: أطلقته ، فأبدى له وجه
الاستحسان وأسرها في نفسه. فأوجد السبيل بذلك على نفسه وقومه، حتى ثل عرشهم، وألقيت عليهم سماؤهم، وخسفت الأرض بهم وبدارهم، وذهبت سلفا ومثلا للآخرين أيامهم. ومن تأمل أخبارهم، واستقصى سير الدولة وسيرهم وجد ذلك محقق الأثر ممهد الأسباب.وانظر ما نقله ابن عبد ربه في مفاوضة الرشيد عم جده داود بن علي في شأن نكبتهم، وما ذكره في باب الشعراء من كتاب العقد في محاورة الأصمعي للرشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم، تتفهم أنه إنما قتلتهم الغيرة والمنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه. وكذلك ما تحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالا على إسماعه للخليفة وتحريك حفائظه لهم وهو قوله: ليت هنداً أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجــــد واستبدت مرة واحــــدة إنما العاجز من لا يستبد وأن الرشيد لما سمعها قال: "إي والله إني عاجز" حتى بعثوا بأمثال هذه كامن غيرته، وسلطوا عليهم بأس انتقامه، نعوذ بالله من غلبة الرجال وسوء الحال.وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر، واقتران سكره بسكر الندمان،فحاش لله "ما علمنا عليه من سوء". وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء، ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري ، ومكاتبته سفيان الثوري، وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه، وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها. حكى الطبري وغيره انه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة، وكان يغزو عاما ويحج عاما. ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في الصلاة لما سمعه يقرا {وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، وقال والله ما أدري لم؟ فما تمالك الرشيد أن ضحك، ثم التفت إليه مغضبا، وقال: يا ابن أبي مريم في الصلاة أيضاً إياك إياك
والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.وأيضا فقد كان من العلم والسذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك، ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن، إنما خلفه غلاما. وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها. وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ: "يا أبا عبد الله إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، ووطئه للناس توطئة". قال مالك: "فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ". ولقد أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال. ودخل عليه يوما وهو بمجلسه يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان من ثياب عياله، فاستنكف المهدي من ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين علّيّ كسوة العيال عامنا هذا من عطائي، فقال له لك ذلك ولم يصده عنه، ولا سمح بالإنفاق فية من أموال المسلمين. فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة وأبوته، وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته، والتخلق بها، أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها. وقد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة، ولم يكن الكرم شجرتهم، وكان شربها مذمة عند الكثير منهم، والرشيد وآباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم ودنياهم، والتخلق بالمحامد و أوصاف الكمال ونزعات العرب.وانظر ما نقله الطبري والمسعودي في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين احضر له السمك في مائدته فحماه عنه، ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله وفطن الرشيد وارتاب به، ودس خادمه حتى عاينه يتناوله، فأعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في ثلاثة أقداح: خلط إحداهما باللحم المعالج بالتوابل والبقول والبوارد والحلوى وصب على الثانية ماء مثلجاً، وعلى الثالثة خمرا صرفا. وقال في الأول والثاني هذا طعام أمير المؤمنين، أن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه، وقال في الثالث: هذا طعام ابن بختيشوع، ودفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه الرشيد، وأحضره للتوبيخ، أحضر الثلاثة الأقداح، فوجد صاحب الخمر قد اختلط وأماع وتفتت، ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما. فكانت له في ذلك معذرة. وتبين من ذلك أن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع.وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق(1). وفتاويهم فيها معروفة وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه به، ولا تقليد الأخبار الواهية فيها. فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة. ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنحاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم ، لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد. فما ظنك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر، وعن الحلة إلى الحرمة.ولقد اتفق المؤرخون الطبري والمسعودي وغيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية وبني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق والسيوف واللجم والسروج، وأن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد. وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم فما ظنك بمشاربهم؟ ويتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول أن شاء الله. والله الهادي إلى الصواب.ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه، وأنه كان يعاقر الخمر وأنه سكر ليلة مع شربه، فدفن في الريحان حتى أفاق وينشدون على لسانه:
يا سيدي وأمير الناس كلهم قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تـراني سليب العقل والـديـــن
وحال ابن أكثم والمأمون في ذلك من حال الرشيد. وشرابه إنما كان النبيذ؛ ولم يكن محظورا عندهم. وأما السكر فليس من شأنهم، وصحابته للمأمون إنما كانت خلة في الدين. ولقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت . ونقل من فضائل المأمون وحسن عشرته أنه انتبه ذات ليله عطشان فقام يتحسس ويتلمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى ابن أكثم. وثبت أنهما كانا يصلين الصبح جماعة فأين هذا من المعاقرة وأيضا فإن يحيى ابن أكثم كان من علية أهل الحديث . وقد أثنى عليه الإمام أ حمد بن حنبل وإسماعيل القاضي، وخرج عنه الترمذي كتابه الجامع، وذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير الجامع، فالقدح فيه قدح في جميعهم.وكذلك ما ينبزه المجان بالميل إلى الغلمان بهتانا على الله وفرية على العلماء ويستندون في ذلك إلى أخبار القصاص الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه فإنه كان محسودا في كماله وخلته للسلطان وكان مقامه من العلم والدين منزها عن مثل ذلك. ولقد ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس فقال سبحان الله، سبحان الله، ومن يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكارا شديدا. وأثنى عليه إسماعيل القاضي، فقيل له ما كان يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذب باغ وحاسد. وقال أيضا: يحيي بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيء مما كان يرمى به من أمر الغلمان ولقد كنت اقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله، لكنه كانت فيه دعابة وحسن خلق فرمي به. وذكره ابن حيان في الثقات ، وقال: لا يشتغل بما يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه.ومن أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربه صاحب العقد من حديث الزنبيل، في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران، وانه عثر في بعض الليالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل مدلى من بعض السطوح بمعالق وجدل مغارة الفتل من الحرير فاعتقده وتناول المعالق فاهتزت وذهب به صعدا إلى مجلس شأنه كذا. ووصف من زينة فرشه وتنضيد أبنيته وجمال رؤيته ما يستوقف الطرف ويملك النفس، وأن امرأة برزت له من خلل الستور في ذلك المجلس رائقة الجمال فتانة المحاسن، فحيته ودعته إلى المنادمة، فلم يزل يعاقرها الخمر حتى الصباح، ورجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره وقد شغفته حبا بعثه على الإصهار إلى أبيها. وأين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه وعلمه واقتفائه سنن الخلفاء الراشدين من آبائه، وأخذه بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة ومناظرته للعلماء وحفظه لحدود الله تعالى في صلواته وأحكامه. فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهترين في التطواف بالليل وطروق المنازل وغشيان السمر، سبيل عشاق الأعراب. وأين ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصون والعفاف.وأمثال هذه الحكايات كثيرة، وفي كتب المؤرخين معروفة، وإنما يبعث على وضعها والحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة، وهتك قناع المخدرات، ويتعللون بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم، فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين. ولو ائتسوا بهم في غير هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون.ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار، وقلت له: ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك، فقال لي: أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين في زمانه؟ فقلت له: يا سبحان الله، وهلا تأسيت بأبيه أو بأخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم فصم عن عذلي وأعرض، والله يهدي من يشاء.
ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين والأثبات في العبيديين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله
عليهم، والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق. يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفا إليهم بالقدح فيمن ناصبهم، وتفننا في الشمات بعدوهم، حسبما نذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم، ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم. فإنهم متفقون في حديثهم عن مبدإ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة للرضى من آل محمد، واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي وابنه أبي القاسم، خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر، وانهما خرجا من الإسكندرية في زي التجار، ونمي خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر والإسكندرية، فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبسوا به من الشارة والزي، فأفلتوا إلى المغرب، وأن المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان، وبني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما، فعثر إليسع صاحب سجلماسة من آل مدرار على خفي مكانهما ببلده،واعتقلهما مرضاة للخليفة. هذا قبل أن تظهر الشيعة على الأغالبة بالقيروان. ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب وإفريقية، ثم باليمن، ثم بالإسكندرية، ثم بمصر والشام والحجاز. وقاسموا بني العباس في ممالك الإسلام شق الإبلمة، وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويزايلون من أمرهم. ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري في من موالي الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم، وخطب لهم على منابرها حولا كاملا. وما زال بنو العباس يغضون بمكانهم ودولتهم، وملوك بني أمية وراء البحر ينادون بالويل والحرب منهم. وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر. واعتبر حال القرمطي إذ كان دعيا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرقت اتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم، وذاقوا وبال أمرهم. ولو كان أمر العبيديين كذلك لعرف ولو بعد مهلة:
ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن خالها تخفىعلى الناس تعلم فقد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة، وملكوا مقام إبراهيم عليه السلام ومصلاه، وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم ومدفنه، وموقف الحجيج ومهبط الملائكة، ثم انقرض أمرهم، وشيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق. ولقد خرجوا مراراً بعد ذهاب الدولة ودروس أثرها، داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم، يزعمون استحقاقهم للخلافة، ويذهبون إلى تعيينهم بالوصية ممن سلف قبلهم من الأئمة. ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم، فصاحب البدعة لا يلّبس في أمره ولا يشبّه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحله. والعجب من القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة، ويرى هذا الرأي الضعيف. فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين والتعمق في الرافضية، فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم، وليس إثبات منتسبهم بالذي يغني عنهم من الله شيئا في كفرهم، فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]. وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها: <<يا فاطمة اعملي فلن اغني عنك من الله شيئا>>. ومتى عرف امرؤ قضية أو استيقن أمرا وجب عليه أن يصدع به، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والقوم كانوا في مجال لظنون الدول بهم وتحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم، وتكرر
خروجهم مرة بعد أخرى، فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون، كما قيل:
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت وأين مكاني ما عرفن مكانيا حتى لقد سمي محمد بن إسماعيل جد الإمام عبيد الله المهدي بالمكتوم، سمته بذلك شيعتهم لما اتفقوا عليه من إخفائه حذرا من المتغلبين عليهم. فتوسل شيعة بني العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم. وازدلفوا بهذا الرأي القائل للمستضعفين من خلفائهم، واعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشام ومصر والحجاز من البربر الكتامين شيعة العبيديين وأهل دعوتهم، حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النسب، وشهد بذلك عندهم من أعلام الناس جماعة منهم الشريف الرضي وأخوه المرتضى وابن البطحاوي، ومن العلماء أبو حامل الأسفراييني والقدوري والصيمري وابن الأكفاني والأبيوردي وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة، وغيرهم من أعلام الأمة ببغداد في يوم مشهود، وذلك سنة ستين وأربعمائة في أيام القادر، وكانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد، وغالبها شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب، فنقله الإخباريون كما سمعوه، ورووه حسبما وعوه، والحق من ورائه.
وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحة نسبهم. فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل أحد. والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع، وتلتمس فيه ضوال الحكم، وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار، وما نفق فيها نفق عند الكافة. فإن تنزهت الدولة عن التعسف والميل واللأفن والسفسفة وسلكت النهج الأمم ولم تجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وان ذهبت مع الأغراض والحقود، وماجت بسماسرة البغيوالباطل، نفق البهرج والزائف. والناقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه.
ومثل هذا وابعد منه كثيرا ما يتناجى به الطاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ويعرضون تعريض الحسد بالتظنن في الحمل المخفف عن إدريس الأكبر انه لراشد مولاهم قبحهم الله وأبعدهم، ما أجهلهم أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان أصهاره في البربر وأنه منذ دخل المغرب إلى أن توفاه الله عز وجل عريق في البدو، وأن حال البادية في مثل ذلك غير خافية، إذ لا مكامن لهم يتأتى فيها الريب، وأحوال حرمهم أجمعين بمرأى من جاراتهن ومسمع من جيرانهن لتلاصق الجدران وتطامن البنيان وعدم الفواصل بين المساكن وقد كان راشد يتولى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاه بمشهد من أوليائهم وشيعتهم ومراقبة من كافتهم. وقد اتفق برابرة المغرب الأقصى عامة على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه، وآتوه طاعتهم عن رضا وإصفاق وبايعوه على الموت الأحمر وخاضوا دونه بحار المنايا في حروبه وغزواته. ولو حدثوا أنفسهم بمثل هذه الريبة، أو قرعت أسماعهم، ولو من عدو كاشح أو منافق مرتاب، لتخلف
عن ذلك ولو بعضهم. كلا والله إنما صدرت هذه الكلمات من بني العباس أقتالهم ومن بني الأغلب عمالهم، كانوا بإفريقية وولاتهم.
وذلك أنه لما فر إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ ، أوعز الهادي إلى الأغالبة أن يقعدوا له بالمراصد ويذكوا عليه العيون، فلم يظفروا به، وخلص إلى المغرب، فتم أمره وظهرت دعوته، وظهر الرشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم وعاملهم على الإسكندرية من دسيسة التشيع للعلوية وإدهانه في نجاة إدريس إلى المغرب. فقتله ودس الشماخ من موالي المهدي أبيه للتحيل على قتل إدريس، فاظهر اللحاق به والبراءة من بني العباس مواليه. فاشتمل عليه إدريس وخلطه بنفسه وناوله الشماخ في بعض خلواته سمّا استهلكه به. ووقع خبر مهلكه من بني العباس أحسن المواقع، لما رجوه من قطع أسباب الدعوة العلوية بالمغرب واقتلاع جرثومتها. ولما تأدى إليهم خبر الحمل المخلف لإدريس فلم يكن لهم إلا كلا ولا. وإذا بالدعوة قد عادت، والشيعة بالمغرب قد ظهرت، ودولتهم بإدريس بن إدريس قد تجددت، فكان ذلك عليهم أنكى من وقع السهام، وكان الفشل.والهرم قد نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية. فلم يكن منتهى قدرة الرشيد على إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب، واشتمال البربر عليه إلا التحيل في إهلاكه بالسموم. فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بإفريقية في سد تلك الفرجة من ناحيتهم، وحسم الداء المتوقع بالدولة من قبلهم، واقتلاع تلك العروق قبل أن تشبح منهم، يخاطبهم بذلك المأمون، ومن بعده من خلفائهم. فكان الأغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز، ولمثلها من الزبون على ملوكهم أحوج، لما طرق الخلافة من انتزاء ممالك العجم على سدتها، وامتطائهم صهوة التغلب عليها، وتصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها وجبايتها وأهل خططها، وسائر نقضها وإبرامها كما قال شاعرهم:
خليفة في قفص بين وصيف وبغا يقول ما قالا له كما تقول الببغا فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السعايات ، وتلوا بالمعاذير فطورا باحتقار المغرب وأهله، وطورا بالإرهاب بشأن إدريس الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونهم بتجاوزه حدود التخوم من عمله، وينفذون سكته في تحفهم وهداياهم ومرتفع جباياتهم ، تعريضا باستفحاله وتهويلا باشتداد شوكته وتعظيما لما دفعوا إليه من مطالبته ومراسه ، وتهديدا بقلب الدعوة أن ألجئوا إليه، وطورا يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك الطعن الكاذب، تخفيضا لشأنه لا يبالون بصدقه من كذبه، لبعد المسافة، وأفن عقول من خلف من صبية بني العباس ومماليكهم العجم في القبول من كل فائل والسمع لكل ناعق. ولم يزل هذا دأبهم حتى انقضى أمر الأغالبة ، فقرعت هذه الكلمة الشنعاء أسماع الغوغاء، وصر عليها بعض الطاعنين أذنه، واعتدها ذريعة إلى النيل من خلفهم عند المنافسة. وما لهم قبحهم الله والعدول عن مقاصد الشريعة،فلا تعارض فيها بين المقطوع والمظنون. وإدريس ولد على فراش أبيه، والولد للفراش.
على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان، فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. ففراش إدريس طاهر من الدنس ومنزه عن الرجس بحكم القرآن. ومن اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه وولج الكفر من بابه. وإنما أطنبت في هذا الرد سدا لأبواب الريب ودفعا في صدر الحاسد، لما سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم، القادح في نسبهم بفريته، وينقله بزعمه عن بعض مؤرخي المغرب ممن انحرف عن أهل البيت، وارتاب في الإيمان بسلفهم. وإلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه، ونفي العيب حيث يستحيل العيب عيب. لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا، وأرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة. ولتعلم أن أكثر الطاعنين في نسبهم إنما هم الحسدة لأعقاب إدريس هذا من منتم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم، فإن ادعاء هذا النسب الكريم دعوى شرف عريض على الأمم والأجيال من أهل الآفاق، فتعرض التهمة فيه. ولما كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فاس وسائر ديار المغرب، قد بلغ من الشهرة والوضوح مبلغا لا يكاد يلحق ولا يطمع أحد في دركه، إذ هو نقل الأمة والجيل من الخلف عن الأمة والجيل من السلف، وبيت جدهم إدريس مختط فاس ومؤسسها بين بيوتهم، ومسجده لصق محلتهم ودروبهم، وسيفه منتضى برأس المئذنة العظمى من قرار بلدهم، وغير ذلك من آثاره التي جاوزت أخبارها حدود التواتر مرات، وكادت تلحق بالعيان، فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النسب إلى ما أتاهم الله من أمثالها، وما عضد شرفهم النبوي من جلال الملك الذي كان لسلفهم بالمغرب، واستيقن أنه بمعزل عن ذلك، وانه لا يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه ، وأن غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممن لم يحصل له أمثال هذه الشواهد أن يسلم لهم حالهم، لأن الناس مصدقون في أنسابهم، وبون ما بين العلم والظن واليقين والتسليم، فإذا علم ذلك من نفسه غص بريقه وود كثير منهم لو يردونهم عن شرفهم ذلك سوقة و وضعاء حسدا من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد وارتكاب اللجاج والبهت بمثل هذا الطعن الفائل والقول المكذوب تعللا بالمساواة في الظنة والمشابهة في تطرق الاحتمال، وهيهاث لهم ذلك. فليس في المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن. وكبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الحوطي بن محمد يحيى العوام بن القاسم بن إدريس بن إدريس، وهم نقباء أهل البيت هناك، والساكنون ببيت جدهم إدريس، ولهم السيادة على أهل المغرب كافة، حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة أن شاء الله تعالى.ويلحق بهذه المقالات الفاسدة والمذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين ونسبته إلى الشعوذة والتلبيس فيما أتاه من القيام بالتوحيد الحق والنعي على أهل البغي قبله، وتكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك، حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت. وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه. فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم، ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطؤ العقب نفسوا ذلك عليه وغضوا منه بالقدح في مذاهبه والتكذيب لمدعياته. وأيضا فكانوا يؤنسون من ملوك لمتونة أعدائه تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم، لما كانوا عليه من السذاجة وانتحال الديانة. فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة والانتصاب للشورى، كل في بلده وعلى قدره في قومه. فأصبحوا بذلك شيعة لهم وحربا لعدوهم ونقموا على المهدي ما جاء به من خلافهم والتثريب عليهم والمناصبة لهم، تشيعا للمتونة وتعصبا لدولتهم. ومكان الرجل غير مكانهم وحاله على غير معتقداتهم. وما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم وخالف اجتهاده فقهاؤهم، فنادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه، فاقتلع الدولة من أصولها وجعل عاليها سافلها ، أعظم ما كانت قوة وأشد شوكة وأعز أنصارا وحامية، وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها قد بايعوه على الموت، ووقوه بأنفسهم من الهلكة، وتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم، ودالت بالعدوتين من الدول، وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر على المكاره والتقلل من الدنيا، حتى قبضه الله وليس على شيء من الحظ والمتاع في دنياه، حتى الولد الذي ربما تجنح إليه النفوس، وتخادع عن تمنيه. فليت شعري ما الذي قصد بذلك أن لم يكن وجه الله، وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله. ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره وانفسحت دعوته. سنة الله التي قد خلت في عباده.وأما إنكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجة لهم، مع أنه أن ثبت انه ادعاه وانتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه، لأن الناس مصدقون في أنسابهم. وإن قالوا أن الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصحيح حسبما يأتي في الفصل الأول من هذا الكتاب، والرجل قد رأس سائر المصامدة ودانوا باتباعه والانقياد إليه وإلى عصابته من هرغة حتى تم أمر الله في دعوته، فاعلم أن هذا النسب الفاطمي لم يكن أمر المهدي يتوقف عليه ولا اتبعه الناس بسببه، وإنما كان اتباعهم له بعصبية الهرغية والمصمودية ومكانه منها ورسوخ شجرته فيها. وكان ذلك النسب الفاطمي خفيا قد درس عند الناس وبقي عنده وعند عشيرته يتناقلونه بينهم. فيكون النسب الأول كأنه انسلخ منه ولبس جلدة هؤلاء، وظهر فيها فلا يضره الانتساب الأول في عصبيته، إذ هو مجهول عند أهل العصابة. ومثل هذا واقع كثيرا إذ كان النسب الأول خفيا.وانظر قصة عرفجة وجرير في رئاسة بجيلة وكيف كان عرفجة من الأزد ولبس جلدة بجيلة حتى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه، كما هو مذكور، تتفهم منه وجه
الحق. والله الهادي للصواب.وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط، فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء، وعلقت بأفكارهم ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس، وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا روية واندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً، وناظره مرتبكاً، وعد من مناحي العامة.فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه.وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك، حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحق من قبلهما، وأمثالهم من علماء الأمة وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة، واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه، فاختلط المرعي بالهمل واللباب بالقشر، والصادق بالكاذب. وإلى الله عاقبة الأمور.ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم و،نحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال كما يكون ذلك في الأشخاص
والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول {سنة الله التي قد خلت في عباده } . وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط، وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم، وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم. ثم جاء من بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب، فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها، وإلى ما يباينها أو يباعدها. ثم جاء الإسلام بدولة مصر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى، وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد، يأخذه الخلف عن السلف. ثم درست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف الذين شيدوا عزهم، ومهدوا ملكهم، وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها.والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد، أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، كما يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك. وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد وان يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك. فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول. فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة. ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة. فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان، لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة. والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده، وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع
السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج وأن أباه كان من المعلمين، مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية، والمعلم مستضعف مسكين، منقطع الجذم. فيتشوف الكثير من المستضعفين أهل الحرف والصنائع المعاشية إلى نيل الرتب التي ليسوا لها بأهل ويعدونها من الممكنات لهم. فتذهب بهم وساوس المطامع، وربما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة والتلف، ولا يعلمون استحالتها في حقهم، وأنهم أهل حرف وصنائع للمعاش، وأن التعليم صدر الإسلام والدولتين لم يكن كذلك، ولم يكن العلم بالجملة صناعة، إنما كان نقلا لما سمع من الشارع وتعليماً لما جهل من الدين على جهة البلاغ ، فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ، على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم، قاتلوا عليه وقتلوا، واختصوا به من بين الأمم وشرفوا، فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة ، لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عاذل الأنفة. ويشهد لذلك بعث النبي كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام وما جاء به من شرائع الدين. بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم. فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام أحوالها، وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها، فاحتاج ذلك القانون لمن يحفظه من الخطإ وصارالعلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف كما يأتي ذكره في فصل العلم والتعليم واشتغل أهل العصبية بالقيام
بالملك والسلطان، فدفع للعلم من قام به من سواهم، وأصبح حرفة للمعاش، وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان عن التصدي للتعليم، واختص انتحاله بالمستضعفين وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبية والملك. والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم، ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرف ما علمت. ولم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش، وإنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في الإسلام ومن هذا الباب أيضا ما يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرئاسة في الحروب وقود العساكر، فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب، يحسبون أن الشأن في خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل يظنون بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه وابن عباد من ملوك الطوائف بإشبيلية إذا سمعوا أن آباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد، ولا يتفطنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبينه في فصل القضاء من الكتاب الأول. وابن أبي عامر وابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين بالدولة الأموية بالأندلس وأهل عصبيتها، وكان مكانهم فيها معلوماً، ولم يكن نيلهم لما نالوه من الرئاسة والملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد، بل إنما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة ومواليها، كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب. وانظر خروجهم بالعساكر في الطوائف وتقليدهم عظائم الأمور التي لا تقلد إلا لمن له الغنى فيها بالعصبية فيغلط السامع في ذلك ويحمل الأحوال على غير ما هي واكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد لفقدان العصبية في مواطنهم منذ أعصار بعيدة، لفناء العرب ودولتهم بها، وخروجهم عن ملكة أهل العصبيات من البربر، فبقيت أنسابهم العربية محفوظة، والذريعة إلى العز من العصبية والتناصر مفقودة، بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين تعبدهم القهر، ورئموا للمذلة، يحسبون أن أنسابهم مع مخالطة الدولة هي التي يكون لهم بها الغلب والتحكم، فتجد أهل الحرف والصنائع منهم متصدين لذلك ساعين في نيله. فأما من باشر أحوال القبائل والعصبية ودولهم بالعدوة الغربية، وكيف يكون التغلب بين الأمم والعشائر، فقلما يغلطون في ذلك ويخطئون في اعتباره.ومن هذا الباب أيضا ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه وأمه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره، كل ذلك تقليد لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم والمؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدولة، وأبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم، حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم والقضاة أيضا كانوا من أهل عصبية الدول وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كله. وأما حين تباينت الدول، وتباعد ما بين العصور، ووقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصة ونسب الدول بعضها من بعض في قوتها وغلبتها، ومن كان يناهضها من الأمم أو يقصر عنها، فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنساء ونقش الخاتم واللقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم و مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد والغفلة عن مقاصد المؤلفين الأقدمين والذهول عن تحري الأغراض من التاريخ، اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم وعفت على الملوك أخبارهم، كالحجاج وبني المهلب والبرامكة وبني سهل بن نوبخت وكافور الإخشيدي وابن أبي عامر وأمثالهم فغير نكير الإلماع بآبائهم والإشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك.ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها، وهي أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل. فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره. وقد كان الناس يفردونه بالتأليف كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب، شرح فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده عصر الثلاثين والثلاثمائة غرباً وشرقاً وذكر نحلهم وعوائدهم ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدول وفرق شعوب العرب والعجم، فصار إماما للمؤرخين يرجعون إليه، وأصلا يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه. ثم جاء البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك والممالك خاصة دون غيرها من الأحوال، لأن الأمم والأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال ولا عظيم تغير وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة، واعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بمن طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم، هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم وذهب بل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن. وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه. وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة. والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث. فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لإهلها، ويقفو مسلك المسعودي لعصره ليكون أصلا يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما صريحا أو مندرجا في أخباره وتلويحا، لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب، وأحوال أجياله وأممه، وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار، لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه، وأن الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه والمسعودي إنما استوفى ذلك لبعد رحلته وتقلبه في البلاد، كما ذكر في كتابه، مع أنه لما ذكر المغرب قصر في استيفاء أحواله، وفوق كل ذي علم عليم، ومرد العلم كله إلى الله، والبشر عاجز قاصر، والاعتراف متعين واجب، ومن كان الله في عونه تيسرت عليه المذاهب وأنجحت له المساعي والمطالب. ونحن آخذون بعون الله فيما رمناه من أغراض التأليف، والله المسدد والمعين وعليه التكلان وقد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا. إعلم أن الحروف في النطق كما يأتي شرحه بعد، هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع الحنك والحلق والأضراس، أو بقرع الشفتين أيضا، فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع، وتجيء الحروف متمايزة في السمع، وتتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر. وليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف. فقد يكون لإمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى. والحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفا كما عرفت. ونجد للعبرانيين حروفا ليست في لغتنا، وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم، وكذلك الإفرنج والترك والبربر وغير هؤلاء من العجم ثم أن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها، كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثمانية والعشرين، وإذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملا عن الدلالة الكتابية مغفلا عن البيان، وربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده. وليس ذلك بكاف في الدلالة، بل هو تغيير للحرف من أصله. ولما كان كتابنا مشتملا على أخبار البربر وبعض العجم، وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا، اضطررنا إلى بيانه ولم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه، لإنه عندنا غير واف بالدلالة عليه. فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه، ليتوسط القارئ بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين، فتحصل تأديته وإنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام، كالصراط في قراءة خلف، فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد والزاي ، فوضعوا الصاد ورسموا في داخلها شكل الزاي، ودل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين. فكذلك رسمت أنا كل حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا ، كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف، مثل اسم بلكين فأضعها كافا وأنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوقأو اثنتين، فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف. وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر. وما جاء من
غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معا، ليعلم القارئ أنه متوسط فينطق به كذلك ، فنكون قد دللنا عليه. ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبيه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا وغيرنا لغة القوم. فاعلم ذلك، والله الموفق للصواب بمنه وفضله.
الكتاب الأول
في طبيعة العمران في الخليقة
وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب
إعلم أنه إنما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه. وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. ومنها تقرب الناس
في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعةبحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها. ومن الأسباب المقتضية له أيضا وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض.وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم. كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الإسكندرية، وكيف اتخذ تابوت الخشب وفي باطنه صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر، حتى كتب صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها، وعمل تماثيلها من أجساد معدنية، ونصبها حذاء البنيان، ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها، وتم له بناؤها، في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي، ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه، ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرر، ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع الناس إلى غيره، وفي ذلك إتلافه، ولا ينتظرون به رجوعه، عن غروره ذلك طرفة عين، ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها، إنما هي قادرة على التشكل، وما يذكر من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد به البشاعة والتهويل لا أنه حقيقة.وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية. والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله. وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق قد يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقلته، فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي، ويهلك مكانة. وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء البارد، والمتدلين في الآبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها، فإن المتدلي فيها يهلك لحينه. وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر، فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حار بإفراط، والماء الذي يعدله بارد، والهواء الذي خرج إليه حار، فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك.ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضا في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون، ومنه يتخذون زيتهم. وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت.ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة وتشتمل على عشرة آلاف باب. والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا معتصم وكما نقله المسعودي أيضا في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر، في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص. وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر. ثم أن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة مناف لأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها ، وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية والخرثي، وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد.وأمثال ذلك كثير، وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح. ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل. وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية، لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط.وأما الإخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار في ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه، إذ فائدةالإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة. وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الإخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه. وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه. وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه. وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا.وكان هذا علم مستقل بنفسه. فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى. وهذا شان كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا.واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص. وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية، فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه. ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه. فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه.وكأنه علم مستنبط النشأة. ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة. ما أدري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل. فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل، وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة، لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها. ولم نقف على شيء من علوم غيرهم.وإذا كانت كل حقيقة متعقلة طبيعة يصفح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها، وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه. لكن الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات، وهذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت، وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة، فلهذا هجروه، والله اعلم ، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وهذا الفن الذىلاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب: مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم، فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع، ومثل ما يذكر في أصول الفقه، في باب إثبات اللغات، أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع، وتبيان العبارات أخف، ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع، وأن القتل أيضا مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام، فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران، فكان لها النظر فيما يعرض له، وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثلة.وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة، لكنهم لم يستوفوه. فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي: "أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيما وهو الملك ". ومن كلام أنو شروان في هذا المعنى بعينه: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال باستقامة الوزراء، ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه ".وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة، المتداول بين الناس جزء صالح منه، إلا انه غير مستوف ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره، وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان، وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها، وهو قوله: "العالم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوف وبه قوام العالم، العالم بستان... " ثم ترجع إلى أول الكلام. فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها ببعض، وارتدت أعجازها على صدورها، واتصلت في دائرة لا يتعين طرفها، فخر بعثوره عليها، وعظم من فوائدها. وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم، عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بينا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان. وكذلك تجد في كلام ابن المقفع، وما يستطرد في رسائله من ذكر السياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهناه ، إنما يجليها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل وبلاغة الكلام. وكذلك حوم القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك، وبوبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله، لكنه لم يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة ، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلة إنما يبوب الباب للمسالة، ثم يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التحقيق قناعا ولا يرفع بالبراهين الطبيعية حجابا، إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ، وكأنه حوم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقق قصده، ولا استوفى مسائله.ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما، وأعثرنا على علم جعلنا سن نكره وجهينة خبره. فإن كنت قد استوفيت مسائله، وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية. وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله، فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق. والله يهدي بنوره من يشاء.ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك ونقول:لما كان الإنسان متميزا عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها. إنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الذي تميز به عن الحيوانات، وشرف بوصفه على المخلوقات. ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر، إذ لا يمكن وجوده دون ذلك، من بين الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد، وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر وروية. ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه، لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه، وهداه إلى التماسه وطلبه، قال تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]. ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما نبينه . ومن هذا العمران ما يكون بدويا، وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال ومنه ما يكون حضريا، وهو الذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها. وله في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا له، فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول:الأول- في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض.والثاني- في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية.والثالث- في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية.والرابع- في العمران الحضري والبلدان والأمصار.والخامس- في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه.والسادس- في العلوم واكتسابها وتعلمها.وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما نبين لك بعد، وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار، وأما تقديم المعاش فان المعاش ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي، والطبيعي أقدم من الكمالي وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران، كما نبين لك بعد. والله الموفق للصواب والمعين عليه.
الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري علي الجملة وفيه مقدمات الأولى: في أن الاجتماع الإنساني ضروري. ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: "الإنسان مدني بالطبع "، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه اقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حبا من غير علاج، فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل. ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد. فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف. وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه. لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها، وقسم القدر بينها جعل
حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان، فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته. ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره. وجعل للإنسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد. فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع: مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة والسيوف النائبة عن المخالب الجارحة، والتراس النائبة عن البشرات الجاسية إلى غير ذلك مما ذكره جالينوس في كتاب منافع الأعضاء. فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه. وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء، ولا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات، ويعاجله الهلاك عن مدى حياته، ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه. فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعا لهذا العلم.وفي هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنه الذي هو موضوع له. وهذا وإن لم يكن واجبا على صاحب الفن، لما تقرر في الصناعة المنطقية انه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضا من الممنوعات عندهم فيكون إثباته من التبرعات، والله الموفق بفضله.ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم. وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم. فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض. ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم. فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك. وقد تبين لك بهذا أنه خاصة للإنسان طبيعية ولا بد لهم منها. وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل والجراد لما استقرئ فيها من الحكم والانقياد والاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسياسة: "أعطى كل شيء خلقه ثم هدى".وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته وأنه لا بد للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون بعد ذلك. وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنه لا بد أن يكون متميزا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف. وهذه القضية للحكماء غير برهانية بما كما تراه إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته. فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لفم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلا عن الحياة وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب. بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع. وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات وأنه ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة. والله ولي التوفيق والهداية.
المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من البحار والأنهار والأقاليم إعلم أنه قد تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه. فانحسر الماء عن بعض جوانبها، لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها. وقد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض ؛ وليس بصحيح؛ وإنما النحت الطبيعي قلب الأرض، ووسط كرتها الذي هو مركزها، والكل يطلبه بما فيه من الثقل؛ وما عدا ذلك من جوانبها . وأما الماء المحيط بها فهو فوق الأرض. وإن قيل في شئ منها أنه تحت الارض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه. وأما الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائي بها من جميع جهاتها بحرا يسمي البحر المحيط، ويسمى أيضا لبلاية بتفخيم اللام الثانية، ويسمى أوقيانوس ، أسماء أعجمية، ويقال له البحر الأخضر والأسود. ثم أن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه والخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال، وإنما المعمور منه قطعة أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كروي ينتهي من جهة الجنوب إلى
خط الاستواء، ومن جهة الشمال إلي خط كروي ووراءه الجبال الفاصلة بينه وبين الماء العنصري الذي بينما سد يأجوج ومأجوج. وهذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق. وينتهي من المشرق والمغرب إلى عنصر الماء أيضا بقطعتين من الدائرة المحيطة. وهذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النصف من الكرة أو أقل والمعمور منه مقدار ربعه وهو المنقسم بالأقاليم السبعة.وخط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق، وهو طول الأرض وأكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج ودائرة معدل النهار أكبر خط في الفلك ومنطقة البروج منقسمة بثلثمائة وستين درجة، والدرجة من مسافة الارض خمسة وعشرون فرسخا، والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع في ثلاثة أميال، لأن الميل أربعة إلا ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً، والإصبع لمست حبات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن. وبين دائرة معدل النهار التي تقسم الفلك بنصفين وتسامت خط الاستواء من الارض، وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة. لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء اربع وستون درجة والباقي منها خلاء عمارة فيه لشدة البرد والجمود، كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله أن شاء الله تعالى.ثم أن المخبرين عن هذا المعمور وحدوده وما فيه من الأمصار والمدن والجبال والبحار والأنهار والقفار والرمال مثل: بطليموس في كتاب الجغرافيا، وصاحب كتاب "روجار" من بعده، قسموا هذا المعمور بسبعة اقسام يسمونها الأقاليم السبعة بحد وهمية بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول فالإقليم الأول أطول مما بعده وكذا الثاني إلى آخرها فيكون السابع اقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة من انحسار الماء عن كرة الارض. وكل واحد من هذه الاقاليم عندهم منقسم بعشرة اجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي. وفي كل جزء الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه.
البحار: وذكروا أن هذا البحر المحيط يخرج منه من جهة المغرب في الإقليم الرابع البحر الرومي المعروف. ويبدأ في خليج متضايق في عرض اثني عشرميلا أو نحوها ما بين طنجة وطريف وبسمى الزقاق ثم يذهب مشرقا وينفسح إلى عرض ستمائة ميل. ونهايتها في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع على ألف فرسخ ومائة وستين فرسخا من مبدئه وعليه هنالك سواحل الشام. وعليه من جهة الجنوب سواحل المغرب، أولها طنجة عند الخليج، ثم إفريقية، ثم برقة إلى الإسكندرية. ومن جهة الشمال سواحل القسطنطينية عند الخليج، ثم البنادقة، ثم رومة، ثم الإفرنجة ثم الأندلس إلى طريف عند الزقاق قبالة طنجة. ويسمى هذا البحر الرومي والشامي وفيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل اقريطش وقبرص وصقلية وميورقة وسردانية ودانية.قالوا: ويخرج منه في جهة الشمال بحران آخران من خليجين. احدهما مسامت للقسطنطينية، يبدأ من هذا البحر متضايقا في عرض رمية السهم، ويمر ثلاثة بحار: فيتصل بالقسطنطينية ثم ينفسح في عرض أربعة أميال، ويمر في جريه ستين ميلا، ويسمى خليج القسطنطينية ثم يخرج من فوهة عرضها ستة أميال، فيمد بحر نيطش وهو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشرق فيمر بأرض هريقلية، وينتهي إلى بلاد الخزرية على ألف وثلاثمائة ميل من فوهته، وعليه من الجانبين أمم من الروم والترك وبرجان والروس. والبحر الثاني من خليجي هذا البحر الرومي وهو بحر البنادقة يخرج من بلاد الروم على سمت الشمال، فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة، وينتهي إلي بلاد إنكلاية على ألف ومائة ميل من مبدإه. وعلى حافتيه من
البنادقة والروم وغيرهم أمم، ويسمى خليج البنادقة.قالوا: وينساح من هذا البحر المحيط أيضا من الشرق وعلى ثلاث عشرة درجة في الشمال من خط الاستواء بحر عظيم متسع يمر إلى الجنوب قليلا حتى ينتهي إلى الإقليم الأول، ثم يمر فيه مغربا إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة والزنج، وإلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ وخمسمائة فرسخ من مبدئه ويسمى البحر الصيني والهندي والحبشي. وعليه من جهة الجنوب بلاد الزنج وبلاد بربر التي ذكرها امرؤ القيس في شعره، وليسوا من البربر الذين هم قبائل المغرب، ثم بلد مقدشو، ثم بلد سفالة، وأرض الواق واق، وأمم آخر ليس بعدهم إلا القفار والخلاء. وعليه من جهة الشمال الصين من عند مبدئه ثم الهند ثم السند؛ ثم سواحل اليمن من الاحقاف وزبيد وغيرها، ثم بلاد الزنج عند نهايته وبعدهم الحبشة. قالوا: ويخرج من هذا البحر الحبشي بحران آخران احدهما يخرج من نهايته عند باب المندب فيبدأ متضايقا، ثم يمر مستبحرا إلى ناحية الشمال ومغربا قليلا إلى أن ينتهي إلى مدينة القلزم في الجزء الخامس من الإقليم الثاني على ألف وأربعمائة ميل من مبدئه، ويسمى بحر القلزم وبحر السويس وبينه وبين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل. وعليه من جهة الشرق سواحل اليمن ثم الحجاز وجدة، ثم مدين وأيلة وفاران عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل الصعيد وعيذاب وسواكن وزيلع، ثم بلاد الحبشة عند مبدئه، وآخره عند القلزم يسامت البحر الرومي عند العريش وبينهما نحو ست مراحل. وما زال الملوك في الإسلام وقبله يرومون خرق ما بينهما ولم يتم ذلك. والبحر الثاني من هذا البحر الحبشي، ويسمى الخليج الأخضر، يخرج
ما بين بلاد السند والأحقاف من اليمن ويمر إلى ناحية الشمال مغربا قليلا إلى أن ينتهي إلى الأبلة من سواحل البصرة في الجزء السادس من الإقليم الثاني على أربعمائة فرسخ وأربعين فرسخاً من مبدئه ويسمى بحر فارس. وعليه من جهة الشرق سواحل السند ومكران وكرمان وفارس، والأبلة عند نهايته ومن جهة الغرب سواحل البحرين واليمامة وعمان والشحر، والأحقاف عند مبدئه. وفيما بين بحر فارس والقلزم جزيرة العرب كأنها داخل من البر في البحر يحيط بها البحر الحبشي من الجنوب وبحر القلزم من الغرب، وبحر فارس من الشرق وتفضي إلى العراق فيما بين الشام والبصرة على ألف وخمسمائة ميل بينهما. وهنالك الكوفة والقادسية وبغداد وإيوان كسرى والحيرة. ووراء ذلك أمم الأعاجم من الترك والخزر وغيرهم. وفي جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها، وبلاد اليمامة والبحرين وعمان جهة الشرق منها، وبلاد اليمن في جهة الجنوب منها، وسواحله على البحر الحبشي.قالوا: وفي هذا المعمور بحر آخر منقطع من سائر البحار في ناحية الشمال بأرض الديلم يسمى بحر جرجان وطبرستان، طوله ألف ميل في عرض ستمائة ميل في غربيه أذربيجان والديلم، وفي شرقيه أرض الترك وخوارزم، وفي جنوبية طبرستان، وفي شمالية أرض الخزر واللان.هذه جملة البحار المشهورة التي ذكرها أهل الجغرافيا. الأنهار: قالوا: وفي هذا الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار وهي النيل والفرات ودجلة ونهر بلخ المسمى جيحون. فأما النيل فمبدأهُ من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى "جبل القمر" ولا يعلم فى الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها فى بحيرة هناك وبعضها فى أخرى ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها فى بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر
المجلد الأول - من تاريخ العلامة ابن خلدون
من صفحة 62 حتى 250
مراحل من الجبل ، ويخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية ويسمى " نيل مصر " وعليه الصعيد من شرقية والواحات من غربيه ويذهب الآخر منعطفا إلى المغرب ثم يمر على سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو " نهر السودان " ، وأممهم كلهم على ضفتيه .وأما الفرات فمبدؤه من بلاد أرمينية في الجزء السادس من الإقليم الخامس ويمر جنوباً في أرض الروم وملطية إلى منبج ثم يمر بصفين ثم بالرقة ثم بالكوفة إلى أن ينتهى إلى البطحاء التي بين البصرة وواسط ومن هناك يصب في البحر الحبشى تنجلب إليه في طريقه أنهار كثيرة ويخرج منه أنهار أخرى تصب في دجلة .وأما دجلة فمبدؤها عين ببلاد خلاط من أرمينية أيضاً وتمر على سمت الجنوب بالموصل وأذربيجان وبغداد إلى واسط فتتفرق إلى خلجان كلها تصب في بحيرة البصرة وتفض إلى بحر فارس وهو في الشرق على يمين الفرات وينجلب إليه أنهار كثيرة عظيمة من كل جانب ، وفيما بين الفرات ودجلة من أوله جزيرة الموصل قبالة الشام من عدوتى الفرات وقبالة أذربيجان من عدوة دجلة وأما نهر جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثامن من الإقليم الثالث من عيون هناك كثيرة وتجلب إليه أنهار عظام ويذهب من الجنوب إلى الشمال فيمر ببلاد خراسان ثم يخرج منها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثامن من الإقليم الخامس فيصب في بحيرة الجر جانية التي بأسفل مدينتها وهى مسيرة شهر في مثله وإليها ينصب نهر فرغانة والشاش الآتى من بلاد الترك وعلى غربى نهر جيحون بلاد خراسان وخوارزم وعلى شرقيه بلاد بخارى وترمذ و سمرقند ، ومن هنالك إلى ما وراءه بلاد الترك وفرغانة والخزلجية وأمم الأعاجم .وقد ذكر ذلك كله بطليموس في كتابه والشريف في كتاب رجار وصوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال والبحار والأودية واستوفوا من ذلك
ما لا حاجة لنا به ؛ لطوله ؛ ولأن عنايتنا في الأكثر إنما هى بالمغرب ، الذي هو وطن البربر، وبالأوطان التي للعرب من المشرق ، والله الموفق .
تكملة لهذه المقدمة الثانية
في أن الربع الشمالى من الأرض أكثر عمراناً
من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة أن الأول والثانى من الأقاليم المعمورة أقل عمراناً مما بعدهما وما وجد من عمرانه فيتخلله الخلاء والقفار والرمال والبحر الهندي الذي في الشرق منهما ، وأمم هذين الإقليمين وأناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة وأمصاره ومدنه كذلك ، والثالث والرابع وما بعدهما بخلاف ذلك فالقفار فيها قليلة والرمال كذلك أبى معدومة وأممها وأناسيها تجوز الحد من الكثرة وأمصارها ومدنها تجاوز الحد عدداً والعمران فيها مندرج ما بين الثالث والسادس والجنوب خلاء كله وقد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك لإفراط الحر وقلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس فلنوضح ذلك ببرهانه ويتبين منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثالث والرابع من جانب الشمال إلى الخامس والسابع ، فنقول : إن قطبى الفلك الجنوبى والشمالى إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هى أعظم الدوائر المارة من المشرق إلى المغرب وتسمى " دائرة معدل النهار " وقد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك التي في جوفه قهراً وهذه الحركة محسوسة ، وكذلك تبين أن للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة وهي من المغرب إلى المشرق وتختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب
السرعة والبطء وممرات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين وهى " دائرة فلك البروج" منقسمة باثنى عشر برجاً وهى على ما تبين في موضعه مقاطعة لدائرة معدل النهار على نقطتين متقابلتين من البروج هما : أول الحمل وأول الميزان فتقسمهما دائرة معدل النهار بنصفين نصف مائل عن معدل النهار إلى الشمال وهو من أول الحمل إلى آخر السنبلة، ونصف مائل عنه إلى الجنوب وهو : من أول الميزان إلى آخر الحوت ، وإذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحى الأرض كان على سطح الأرض خط واحد يسامت دائرة معدل النهار يمر من المغرب إلى المشرق ويسمى " خط الاستواء" ووقع هذا الخط بالرصد على ما زعموا في مبدأ الإقليم الأول من الأقاليم السبعة والعمران كله قى الجهة الشمالية عنه والقطب الشمالى يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتدريج إلى أن ينتهى ارتفاعه إلى أربع وستين درجة وهنالك ينقطع العمران وهو آخر الإقليم السابع .وإذا ارتفع على الأفق تسعين درجة وهى التي بين القطب ودائرة معدل النهار صار القطب على سمت الرءوس وصارت دائرة معدل النهار على الأفق وبقيت ستة من البروج فوق الأفق وهى الشمالية وستة تحت الأفق وهى الجنوبية والعمارة فيما بين الأربعة والستين إلى التسعين ممتنعة ، لأن الحر والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزمان بينهما فلا يحصل التكوين فإذا الشمس تسامت الرءوس على خط الاستواء في رأس الحمل والميزان ثم تميل عن المسامتة إلى رأس السرطان ورأس الجدى وبكون نهاية ميلها عن دائرة معدل النهار أربعا وعشرين درجة ثم إذا ارتفع القطب الشمالى عن الأفق مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس بمقدار ارتفاعه وانخفض القطب الجنوبى كله بمقدار متساو في الثلاثة وهو المسمى عند أهل المواقيت " عرض البلد"، وإذا مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرءوس علت عليها البروج الشمالية مندرجة في مقدار علوها إلى رأس السرطان وانخفضت البروج الجنوبية من الأفق كذلك إلى رأس الجدى لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه فلا يزال الأفق الشمالى يرتفع حتى يصير أبعد الشمالية وهو رأس السرطان في سمت الرءوس وذلك حيث يكون عرض . البلد أربعاً وعشرين في الحجاز وما يليه ، وهذا هو الميل الذي إذا مال رأس السرطان عن معدل النهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشمالى حتى صار مسامتاً فإذا ارتفع القطب أكثرمن أربع وعشرين نزلت الشمس عن المسامتة ولا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعاً وستين ويكون انخفاض الشمس عن المسامتة كذلك وانخفاض القطب الجنوبى عن الأفق مثلها فينقطع التكوين لإفراط البرد والجمد وطول زمانه غير ممتزج بالحر .ثم إن الشمس عند المسامتة وما يقاربها تبعث الأشعة على الأرض على زوايا قائمة وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادة ، وإذا كانت زوايا الأشعة قائمة عظم الضوء وانتشر بخلافه في المنفرجة والحادة فلهذا يكون الحر عند المسامتة وما يقرب منها كثر منه فيما بعد ؛ لأن الضوء سبب الحر والتسخين .
ثم إن المسامتة في خط الاستواء تكون مرتين في السنة عند نقطتى الحمل والميزان وإذا مالت فغير بعيد ولا يكاد الحر يعتدل في آخر ميلها عند رأس السرطان والجدي إلا إن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعة القائمة الزوايا تلح على ذلك الأفق ويطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة ويفرط في شدتها وكذا ما دامت الشمس تسامت مرتين فيما بعد خط الاستواء إلى عرض أربعة وعشرين فان الأشعة ملحة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خط الاستواء وإفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفاً ويبساً يمنع من التكوين ؛ لأنه إذا أفرط الحر جفت المياه والرطوبات وفسد التكوين في المعدن والحيوان والنبات ؛ إذ التكوين لا يكون إلا بالرطوبة ، ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت الرءوس في عرض خمسة وعشرين فما بعده نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلاً قليلاً فيكون التكوين ويتزايد على التدريج إلى أن يفرط البرد في شدته لقلة الضوء وكون الأشعة منفرجة الزوايا فينقص التكوين ويفسد إلا أن
فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد ؛ لأن الحر أسرع تأثيراً في التجفيف من تأثير البرد في الجمد ؛ فلذلك كان العمران في الإقليم الأول والثانى قليلاً وفى الثالث والرابع والخامس متوسطا لاعتدال الحر بنقصان الضوء وفى السادس والسابع كثير النقصان الحر ، وأن كيفية البرد لا تؤثر عند أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر ؛ إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر وأوفر والله أعلم.ومن هنا أخذ الحكماء خلاء خط الاستواء وما وراءه وأورد عليهم أنه معمور بالمشاهدة والأخبار المتواترة فكيف يتم البرهان على ذلك ؛ والظاهر أنهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلية إنما أداهم البرهان إلى أن فساد التكوين فيه قوى بإفراط الحر والعمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلى وهو كذلك ، فان خط الاستواء والذى وراءه وإن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جدا .وقد زعم ابن رشد أن خط الاستواء معتدل وأن ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراء في الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا والذى قاله غير ممتنع من جهة فساد التكوين وإنما امتنع فيما وراء خط الاستواء في الجنوب من جهة أن العنصر المائي غمر وجه الأرض هنالك إلى الحد الذي كان مقابله من الجهة الشمالية قابلاً للتكوين ولما امتنع المعتدل لغيبة الماء تبعه ما سواه ،لأن العمران متدرج ويأخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع ، وأما القول بامتناعه في خط الاستواء فيرده النقل المتواتر ، والله أعلم .
ولنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتاب " رو جار " ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى آخره .
تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا اعلم أن الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدم ذكره على سبعة أقسام من الشمال إلى الجنوب يسمون كل قسم منها إقليماً فانقسم المعمور من الأرض كله على هذه السبعة الأقاليم كل واحد منها آخذ من الغرب إلى الشرق على طوله .فالأول منها مار من المغرب إلى المشرق مع خط الاستواء بحده من جهة الجنوب وليس وراءه هنالك إلا القفار والرمال وبعض عمارة إن صحت فهى كلا عمارة ويليه من جهة شماليه الإقليم الثانى ثم الثالث كذلك ثم الرابع والخامس والسادس والسابع وهو آخر العمران من جهة الشمال وليس وراء السابع إلا الخلاء والقفار إلى أن ينتهى إلى البحر المحيط كالحال فيما وراء الإقليم الأول في جهة الجنوب إلا أن الخلاء في جهة الشمال أقل بكثير من الخلاء الذي في جهة الجنوب ، ثم إن أزمنة الليل والنهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل الشمس عن دائرة معدل النهار وارتفاع القطب الشمالى عن آفاقها فيتفاوت قوس النهار والليل لذلك وينتهى طول الليل والنهار في آخر الإقليم الأول وذلك عند حلول الشمس برأس الجدي لليل وبرأس السرطان للنهار كل واحد منهما إلى ثلاث عشرة ساعة وكذلك في آخر الإقليم الثانى مما يلى الشمال فينتهى طول النهار فيه عند حلول الشمس برأس السرطان وهو منقلبها الصيفى إلى ثلاث عشرة ساعة ونصف ساعة ومثله أطول الليل عند منقلبها الشتوى برأس الجدى ويبقى للأقصر من الليل والنهار ما يبقى بعد الثلاث عشرة ونصف من جملة أربع وعشرين الساعات الزمانية لمجموع الليل والنهار وهى دورة الفلك الكاملة وكذلك في آخر الإقليم الثالث مما يلى الشمال أيضا ينتهيان إلى أربع عشرة ساعة وفى آخر الرابع إلى أربع عشرة ساعة
ونصف ساعة وفى آخر الخامس إلى خمس عشرة ساعة وفى آخر السادس إلى خمس عشرة ساعة ونصف وفى آخر السابع إلى ست عثرة ساعة وهنالك ينقطع العمران فيكون تفاوت هذه الأقاليم في الأطول من ليلها ونهارها بنصف ساعة لكل إقليم يتزايد من أوله في ناحية الجنوب إلى آخره في ناحية الشمال موزعة على أجزاء هذا البعد . وأما عرض البلدان في هذه الأقاليم فهو عبارة عن بعد ما بين سمت رأس البلد ودائرة معدل النهار الذي هو سمت رأس خط الاستواء وبمثله سواء ينخفض القطب الجنوبى عن أفق ذلك البلد ويرتفع القطب الشمالى عنه وهو ثلاثة أبعاد متساوية تسمى عرض البلد كما مر ذلك قبل . والمتكلمون على هذه الجغرافيا قسموا كل واحد من هذه الأقاليم السبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية ويذكرون ما اشتمل عليه كل جزء منها من البلدان والأمصار والجبال والأنهار والمسافات بينها نى المسالك ونحن الآن نوجز القول في ذلك ونذكر مشاهير البلدان والأنهار بى البحار في كل جزء منها ونحاذى بذلك ما وقع في كتاب " نزهة المشتاق " والذى ألفه العلوي الإدريسي الحموي لملك صقلية من الإفرنج وهو زخار بن زخار عندما كان نازلاًً عليه بصقلية بعد خروج صقلية من إمارة مالقة وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة وجمع له كتبا جمة للمسعودى وابن خرداذبه والحوقلى والقدرى وابن إسحاق المنجم وبطليموس وغيرهم ونبدأ منها بالإقليم الأول إلى آخرها ، والله سبحانه وتعالى يعصمنا بمنه وفضله . الإقليم الأول : وفيه من جهة غربية الجزائر الخالدات التي منها بدأ بطليموس يأخذ أطوال البلاد وليست في بسيط الإقليم وإنما هى في البحر المحيط جزر متكثرة كبرها وأشهرها ثلاثة ويقال : إنها معمورة وقد بلغنا أن سفائن من الإفرنج مرت بها في أواسط هذه المائة وقاتلوهم فغنموا منهم وسبوا وباعوا بعض
أسراهم بسواحل المغرب الأقصى وصاروا إلى خدمة السلطان فلما تعلموا اللسان العربى أخبروا عن حال جزائرهم وأنهم يحتفرون الأرض للزراعة بالقرون وأن الحديد مفقود بأرضهم وعيشهم من الشعير وماشيتهم المعز وقتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف وعبادتهم السجود للشمس إذا طلعت ولا يعرفون دينا ولم تبلغهم دعوة ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلا بالعثور لا بالقصد إليها ، لأن سفر السفن في البحر إنما هو بالرياح ومعرفة جهات مهابها وإلى أين يوصل إذا مرت على الاستقامة من البلاد التي في ممر ذلك المهب . وإذا اختلف المهب وعلم حيث يوصل على الاستقامة حوذى به القلع محاذاة يحمل السفينة بها على قوانين في ذلك محصلة عند النواتية والملاحين الذين هم رؤساء السفن في البحر والبلاد التي في حافات البحر الرومي وفى عدوته مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هى عليه في الوجود وفى وضعها في سواحل البحر على ترتيبها ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها مرسوم معها في تلك الصحيفة ويسمونها " الكنباص " وعليها يعتمدون في أسفارهم ، وهذا كله مفقود في البحر المحيط فلذلك لا تلج فيه السفن ؛ لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل أن تهتدى إلى الرجوع إليها مع ما ينعقد في جو هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسفن في مسيرها وهى لبعدها لا تدركها أضواء الشمس المنعكسة من سطح الأرض فتحللها فلذلك عسر الاهتداء إليها وصعب الوقوف على خبرها .وأما الجزء الأول من هذا الإقليم ففيه مصب النيل الآتى من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه ويسمى نيل السودان وبذهب إلى البحر المحيط فيصب فيه عند جزيرة أوليك وعلى هذا النيل مدينة سلا وتكرور وغانة وكلها لهذا العهد في مملكة ملك مالى من أمم السودان وإلى بلادهم تسافر تجار المغرب الأقصى وبالقرب منها من شماليها بلاد لمتونة وسائر طوائف الملثمين ومفاوز يجولون فيها وفى جنوبى هذا النيل قوم من السودان يقال لهم لملم وهم كفار ويكتوون في وجوههم وأصداغهم وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إلى المغرب وكلهم عامة رقيقهم وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسى أقرب إلى الحيوان العجم من الناطق يسكنون الفيافى والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة وربما يكل بعضهم بعضا وليسوا في عداد البشر .وفواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان فكان في غانة فيما يقال : ملك دولة لقوم من العلويين يعرفون ببنى صالح وقال صاحب كتاب "روجار" إنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن وقد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد وصارت غانة لسلطان "مالى" .وفى شرقى هذا البلد في الجزء الثالث من هذا الإقليم بلد "كوكو" على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك ويمر مغربا فيغوص في رمال الجزء الثانى وكان ملك كوكو قائماً بنفسه ثم استولى عليها سلطان مالى وأصبحت في مملكته وخربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالى في محلها من تاريخ البربر وفى جنوبى بلد كوكو بلاد كاتم من أمم السودان وبعدهم ونغارة على ضفة النيل من شماليه .وفى شرقى بلاد ونغارة وكاتم بلاد زغاوة وتاجرة المتصلة بأرض النوبة في الجزء الرابع من هذا الإقليم وفيه يمر نيل مصر ذاهبا من مبدإه عند خط الاستواء إلى البحر الرومى في الشمال ، ومخرج هذا ،النيل من جبل القمر الذي فوق خط الاستواء بست عشرة درجة واختلفوا في ضبط هذه اللفظة فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السماء لشدة بياضه وكثرة ضوءه وفى كتاب " المشترك "، الياقوت بضم القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم من أهل الهند وكذا ضبطه ابن سعيد، فيخرج من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كل خمسة منها في بجيرة وبينهما ستة أميال ويخرج من كل واحدة من البحيرتين ثلاثة أنهار تجتمع كلها في بطيحة واحدة في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال ، وينقسم ماؤها بقسمين فيمر الغربى منه إلى بلاد السودان مغرباً حتى يصب في البحر المحيط ويخرج الشرقى منه ذاهباً إلى الشمال على بلاد الحبشة، والنوبة وفيها بينهما وينقسم في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومى عند الإسكندرية ورشيد ودمياط ويصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأول ، وعلى هذا النيل بلاد النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلة وهى في غربى هذا النيل وبعدها علوة وبلاق وبعدهما جبل الجنادل على ست مراحل من بلاق في الشمال وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النوبة فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صباً مهولاً فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة والواحات في غربيها عدوة النيل وهى الآن خراب وبها آثار العمارة القديمة .وفى وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد الحبشة على واد يأتى من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض النوبة فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر ، وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل القمر وبطليموس ذكره في كتاب "الجغرافيا " وذكر أنه ليس من هذا النيل ، وإلى وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس. ينتهى بحر الهند الذي يدخل من ناحية الصين ويغمر عامة هذا الإقليم إلى هذا الجزء الخامس فلا يبقى فيه عمران إلا ما كان في الجزائر التي في داخله وهى متعددة يقال : تنتهى إلى ألف جزيرة أو فيما على سواحله الجنوبية وهى آخر المعمور في الجنوب أو فيما على سواحله من جهة الشمال وليس منها فىء هذا الإقليم الأول إلا طرف من بلاد الصين في جهة الشرق وفى بلاد اليمن .وفى الجزء السادس من هذا الإقليم فيما بين البحرين الهابطين من هذا البحر الهندى إلى جهة الشمال وهما بحر قلزم وبحر فارس وفيما بينهما جزيرة العرب وتشتمل على بلاد اليمن وبلاد الشحر في شرقيها على ساحل هذا البحر الهندى وعلى بلاد الحجاز واليمامة وما إليهما كما نذكره في الإقليم الثانى وما بعده ، فأما الذي على ساحل هذا البحر من غربيه فبلد زالع من أطراف بلاد الحبشة ومجالات البجة في شمالى الحبشة ما بين جبل العلاقى في أعالى الصعيد وبين بحر القلزم الهابط من البحر الهندى وتحت بلاد زالع من جهة الشمال في هذا الجزء خليج باب المندب يضيق البحر الهابط هنالك بمزاحمة جبل المندب المائل في وسط البحر الهندى ممتداً مع ساحل اليمن من الجنوب إلى الشمال في طول اثنى عشر ميلاً فيضيق البحر بسبب ذلك إلى أن يصير في عرض ثلاثة أميال أو نحوها ويسمى " باب المندب " وعليه تمر مراكب اليمن إلى ساحل السويس قربيا من مصر وتحت باب المندب جزيرة سواكن ودهلك وقبالته من غربيه مجالات البجة من أمم السودان كما ذكرناه ومن شرقيه في هذا الجزء تهائم اليمن ومنها على ساحله بلد على بن يعقوب وفى جهة الجنوب من بلد زالع وعلى ساحل هذا البحر من غربيه قرى بربر يتلو بعضها بعضا وينعطف مع جنوبيه إلى آخر الجزء السادس ويليها هنالك من جهة شرقيها بلاد الزنج ثم بلاد سفالة على ساحله الجنوبى في الجزء السابع من هذا الإقليم وفى شرقى بلاد سفالة من ساحله الجنوبى بلاد الواق واق متصلة إلى آخر الجزء العاشر من هذا الإقليم عند مدخل هذا البحر من البحر المحيط . وأما جزائر هذا البحر فكثيرة من أعظمها جزيرة سرنديب مدورة الشكل. وبها الجبل المشهور يقال : ليس في الأرض أعلى منه وهى قبالة سفالة ، ثم جزيرة القمر وهي جزيرة مستطيلة تبدأ من قبالة أرض سفالة وتذهب إلى الشرق منحرفة بكثير إلى الشمال إلى أن تقرب من سواحل أعالى الصين ويحتف بها في هذا البحر من جنوبيها جزائر الواق واق ومن شرقيها جزائر السيلان إلى جزائر أخر في هذا البحر كثيرة العدد ، وفيها أنواع الطيب والأفاويه وفيها يقال : معادن الذهب والزمرد ، وعامة أهلها على دين المجوسية وفيهم ملوك متعددون ، وبهذه الجزائر من أحوال العمران عجائب ذكرها أهل - الجغرافيا ، وعلى الضفة الشمالية من هذا البحر في الجزء السادس من هذا الإقليم بلاد اليمن كلها فمن جهة بحر القلزم بلد زبيد والمهجم وتهامة اليمن وبعدها بلد صعدة مقر الإمامة الزيدية وهى بعيدة عن البحر الجنوبى وعن البحر الشرقى وفيما بعد ذلك مدينة عدن وفى شماليها صنعاء وبعدهما إلى المشرق أرض الأحقاف وظفار وبعدها أرض حضرموت ثم بلاد الشحر ما بين البحر الجنوبى وبحر فارس ، وهذه القطعة من الجزء السادس هى التي انكشف عنها البحر من أجزاء هذا الإقليم الوسطى وينكشف بعدها قليل من الجزء التاسع وأكثر منه من العاشر فيه أعالى بلاد الصين ومن مدنه الشهيرة خانكو وقبالتها من جهة الشرق جزائر السيلان وقد تقدم ذكرها ، وهذا آخر الكلام في الإقليم الأول ، والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق بمنه وفضله .
الإقليم الثانى وهو متصل بالأول من جهة الشمال وقبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات التي مر ذكرها وفى الجزء الأول والثانى منه في الجانب الأعلى منهما أرض قنورية وبعدها في جهة الشرق أعالى أرض غانة ثم مجالات زغاوة من السودان وفى الجانب الأسفل منهما صحراء نستر متصلة من الغرب إلى الشرق ذات مفاوز تسلك فيها التجار ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان وفيها مجالات الملثمين من صنهاجة وهم شعوب كثيرة ما بين كزولة ولمتونة ومسراتة ولمطة ووريكة.وعلى سمت هذه المفاوز شرقا أرض فزان ثم مجالات أزكار من قبائل البربر ذاهبة إلى أعالى الجزء الثالث على سمتها في الشرق وبعدها من هذا الجزء الثالث وهي جهة. الشمال منه بقية أرض وذان ،وعلى سمتها شرقاً أرض سنترية وتسمى الواحات الداخلة. وفى الجزء الرابع من أعلاه
بقية أرض من الباجويين ثم يعترض في وسط هذا الجزء بلاد الصعيد حافات النيل الذاهب من مبدإه في الإقليم الأول إلى مصبه في البحر فيمر في هذا الجزء بين الجبلين الحاجزين وهما : جبل الواحات من غربيه، وجبل المقطم من شرقيه وعليه من أعلاه بلد إسنا وأرمنت ويتصل كذلك حفافيه إلى أسيوط وقوص ثم إلى صول ويفترق النيل هنالك على شعبين ينتهى الأيمن منهما في هذا الجزء عند اللاهون والأيسر عند دلاص وفيما بينهما أعالى ديار مصر.وفى الشرق من جبل المقطم صحارى عيذاب ذاهبة في الجزء الخامس إلى أن تنتهى إلى بحر السويس وهو بحر القلزم الهابط من البحر الهندى في الجنوب إلى جهة الشمال وفى عدوته الشرقية من هذا الجزء أرض الحجار من جبل يلملم إلى بلاد يثرب، وفى وسط الحجاز مكة شرفها الله وفى ساحلها مدينة جدة تقابل بلد عيذاب في العدوة الغربية من هذا البحر .وفى الجزء السادس من غربيه بلاد نجد أعلاها في الجنوب وتبالة وجرش ألى عكاظ من الشمال وتحت نجد من هذا الجزء بقية أرض الحجاز؛ وعلى سمتها في الشرق بلاد نجران وخيبر وتحتها أرض اليمامة وعلى سمت نجران في الشرق أرض سبأ ومأرب ثم أرض الشحر. وينتهى إلى بحر فارس وهو البحر الثانى الهابط من البحر الهندى إلى الشمال كما مر ، ويذهب في هذا الجزء بانحراف إلى الغرب فيمر ما بين شرقيه وجوفيه قطعة مثلثة عليها من أعلاه مدينة قلهات وهى ساحل الشحر ثم تحتها على ساحله بلاد عمان ثم بلاد البحرين وهجر منها في آخر الجزء وفى الجزء السابع في الأعلى من غربيه قطعة من بحر فارس تتصل بالقطعة الأخرى في السادس ويغمر بحر الهند جانبه الأعلى كله وعليه هنالك بلاد السند إلى بلاد مكران ويقابلها بلاد الطوبران وهى من السند أيضاً فيتصل السند كله في الجانب الغربى من هذا الجزء وتحول المفاوز بينه وبين أرض الهند ويمر فيه نهره الآتى من ناحية بلاد الهند ويصب في البحر الهندى في الجنوب وأول بلاد الهند على ساحل البحر الهندى وفى سمتها شرقاً بلاد بلهرا وتحتها الملتان بلاد الصنم
المعظم عندهم، ثم إلى أسفل من السند، ثم إلى أعالى بلاد سجستان. وفى الجزء الثامن من غربيه بقية بلاد بلهرا من الهند وعلى سمتها شرقاً بلاد القندهار ثم بلاد منيبار وفى الجانب الأعلى على ساحل البحر الهندى وتحتها في الجانب الأسفل أرض كابل وبعدها شرقا إلى البحر المحيط بلاد القنوج ما بين قشمير الداخلة وقشمير الخارجة عند آخر الإقليم.وفى الجزء التاسع ثم في الجانب الغربى منه بلاد الهند الأقصى ويتصل فيه إلى الجانب الشرقى فيتصل من أعلاه إلى العاشر وتبقى في أسفل ذلك الجانب قطعة من بلاد الصين فيها مدينة شيغون ثم تتصل بلاد الصين في الجزء العاشر كله إلى البحر المحيط ،والله ورسوله أعلم وبه سبحانه التوفيق وهو ولى الفضل والكرم .
الإقليم الثالث
وهو متصل بالثاني من جهة الشمال. ففي الجزء الأول منه وعلى نحو الثلث من أعلاه جبل درن معترض فيه من غربيه عند البحر المحيط إلى الشرق عند آخره. ويسكن هذا الجبل من البربر أمم لا يحصيهم إلا خالقهم حسبما يأتي ذكره. وفي القطعة التي بين هذا الجبل والإقليم الثاني وعلى البحر المحيط منها رباط ماسة، ويتصل به شرقاً بلاد سوس ونول، وعلى سمتها شرقاً بلاد درعة، ثم بلاد سجلماسة ثم قطعة من صحراء نستر المفازة التي ذكرناها في الإقليم الثاني. وهذا الجبل مطل على هذه البلاد كلها في هذا الجزء، وهو قليل الثنايا والمسالك في هذه الناحية الغربية إلى أن يسامت وادي ملوية فتكثر ثناياه ومسالكه إلى أن ينتهي. وفي هذه الناحية منه أمم المصامدة ثم هنتانة ثم تينملك، ثم كدميوة، ثم مشكورة وهم آخر المصامدة فيه، ثم قبائل صنهاجة وهم صنهاجة. وفي آخر هذا الجزء منه بعض قبائل زناتة. ويتصل به هنالك من جوفيه جبل اوراس وهو جبل كتامة. وبعد ذلك أمم أخرى من البرابرة نذكرهم في أماكنهم. ثم إن جبل درن هذا من جهة غربيه فط ل على بلاد المغرب الأقصى وهي في جوفيه ففي
الناحية الجنوبية منها بلاد مراكش وأغمات وتادلا.وعلي البحر المحيط منها رباط اسفى ومدينة سلا. وفي الجوف عن بلاد مراكش بلاد فاس ومكناسة وتازا وقصر كتامة. وهذه هي التي تسمى المغرب الأقصى في عرف أهلها. وعلى ساحل البحر المحيط منها بلدان: أصيلا؛ والعرايش. وفي سمت هذه البلاد شرقاً بلاد المغرب الأوسط وقاعدتها تلمسان، وفي سواحلها على البحر الرومي بلد هنين ووهران والجزائر. لان هذا البحر الرومي يخرج من البحر المحيط من خليج طنجة في الناحية الغربية من الإقليم الرابع، ويذهب مشرقاً فينتهي إلى بلاد الشام، فإذا خرج من الخليج المتضايق غير بعيد انفسح جنوبا وشمالاً فدخل في الإقليم الثالث والخامس. فلهذا كان على ساحله من هذا الإقليم الثالث الكثير من بلاده. ثم يتصل ببلاد الجزائر من شرقيها بلاد بجاية في ساحل البحر، ثم قسطنطينية في الشرق منها. وفي آخر الجزء الأول، وعلى مرحلة من هذا البحر في جنوب هذه البلاد ومرتفعاً إلى جنوب المغرب الأوسط بلد أشير، ثم بلد المسيلة ثم الزاب وقاعدتها بسكرة تحت جبل اوراس المتصل بدرن كما مر. وذلك عند آخر هذا الجزء من جهة الشرق.والجزء الثاني من هذا الإقليم على هيئة الجزء الأول، ثم جبل درن على نحو الثلث من جنوبه ذاهباً فيه من غرب إلى شرق فيقسمه بقطعتين. ويغمر البحر الرومي مسافة من شماله. فالقطعة الجنوبية عن جبل درن غربيها كله مفاوز، وفي الشرق منها بلد عذامس ، و في سمتها شرقاً أرض ودان التي بقيتها في الإقليم الثاني كما مر. والقطعة الجوفية عن جبل درن ما بينه وبين البحر الرومي في الغرب منها جبل اوراس وتبسة والأوبس. وعلى ساحل البحر بلد بونة. ثم في سمت هذه البلاد شرقاً بلادأ قريقية فعلى ساحل البحر مدينة تونس، ثم سوسة؛ ثم المهدية. وفي جنوب هذه البلاد تحت جبل درن بلاد الجريد: توزر؛ وقفصة؛ ونفزاوة. وفيما بينها وبين السواحل مدينة القيروان وجبل وسلات وسبيطلة. وعلى سمت هذه البلاد
كلها شرقا بلد طرابلس على البحر الرومي. وبإزائها في الجنوب جبل دمر ونقرة من قبائل هوارة متصلة بجبل درن، وفي مقابلة غذامس التي مر ذكرها في آخر القطعة الجنوبية. وآخر هذا الجزء في الشرق سويقة ابن مشكورة على البحر. وفي جنوبها مجالات العرب في أرض ودان وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم يمر أيضاً فيه جبل درن، إلا انه ينعطف عند آخره إلى الشمال ويذهب على سمته إلى أن يدخل في البحر الرومي ويسمى هنالك طرف أوثان. والبحر الرومي من شماليه يغمر طائفة منه إلى أن يضايق ما بينه وبين جبل درن. فالذي وراء الجبل في الجنوب وفي الغرب منه بقية ارض ودان ومجالات العرب فيها، ثم زويلة ابن الخطاب، ثم رمال وقفار إلى آخر الجزء في الشرق. وفيما بين الجبل والبحر في الغرب منه بلد سرت على البحر. ثم خلاء وقفار تجول فيها العرب. ثم أجدابية، ثم برقة عند منعطف الجبل ثم طلمسة على البحر هنالك، ثم في شرق المنعطف من الجبل مجالات هيب ورواحة إلى آخر الجزء وفي الجزء الرابع من هذا الإقليم وفي الأعلى من غربيه صحارى برقيق، وأسفل منها بلاد هيب ورواحة. ثم يدخل البحر الرومي في هذا الجزء فيغمر طائفة منه إلى الجنوب، حتى يزاحم طرفه الأعلى، ويبقى بينه وبين آخر الجزء قفار تجول فيها العرب. وعلى سمتها شرقا بلاد الفيوم وهي على مصب أحد الشعبين من النيل الذي يمر على اللاهون من بلاد الصعيد في الجزء الرابع من الإقليم الثاني. ويصب في بحيرة فيوم وعلى سمته شرقا ارض مصر ومدينتها الشهيرة على الشعب الثاني الذي يمر بدلاص من بلاد الصعيد عند آخر الجزء الثاني. ويفترق هذا الشعب افتراقة ثانية من تحت مصر على شعبين آخرين من شنطوف وزفتي. وينقسم الأيمن منهما من قرمط بشعبين آخرين ويصب
جميعها في البحر الرومي. فعلى مصب الغربي من هذا الشعب بلد الإسكندرية، وعلى مصب الوسط بلد رشيد، وعلى مصب الشرقي بلد دمياط. وبين مصر والقاهرة، وبين هذه السواحل البحرية أسافل الديار المصرية كلها محشوة عمرانا وفلجاً وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم بلاد الشام، وأكثرها على ما أصف، وذلك
لأن بحر القلزم ينتهي من الجنوب وفي الغرب منه عند السويس، لأنة في ممر؛ مبتدىء من البحر الهندي إلى الشمال ينعطف آخذاً إلى جهة الغرب، فتكون قطعة من انعطافه في هذا الجزء طويلة فينتهي في الطرف الغربي منه إلى السويس. وعلى هذه القطعة بعد السويس فاران ثم جبل الطور ثم أيلة مدين ثم الحوراء في آخرها. ومن هنالك ينعطف بساحله إلى الجنوب في ارض الحجاز كما مر في الإقليم الثاني في الجزء الخامس منه. وفي الناحية الشمالية من هذا الجزء قطعة من البحر الرومي غمرت كثيراً من غربيه عليها الفرما والعريش، وقارب طرفها بلد القلزم، فيضايق ما بينهما من هنالك، وبقي شبه الباب مفضيا إلى ارض الشام. وفي غربي هذا الباب فحص التيه أرض جرداء لا تنبت؛ كانت مجالاً لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر وقبل دخولهم إلى الشام أربعين سنة كما قضه القرآن. وفي هذه القطعة من البحر الرومي في هذا الجزء طائفة من جزيرة قبرص وبقيتها في الإقليم الرابع كما نذكره. وعلى ساحل هذه القطعة عند الطرف المتضايق لبحر السويس بلد العريش، وهو آخر الديار المصرية، وعسقلان؛ وبينهما طرف هذا البحر ثم تنحط هذه القطعة في انعطافها من هنالك إلى الإقليم الرابع عند طرابلس وغزة. وهنالك ينتهي البحر الرومي في جهة الشرق. وعلى هذه القطعة اكثر سواحل الشام. ففي شرقه غزة ثم عسقلان، وبانحراف يسير عنها إلى الشمال بلد قيسارية. ثم كذلك بلد عكاء ثم صور ثم صيدا ثم ينعطف البحر إلى الشمال في الإقليم الرابع. ويقابل هذه البلاد الساحلية من هذه القطعة في هذا الجزء جبل عظيم يخرج من ساحل أيلة من بحر
القلزم، ويذهب في ناحية الشمال منحرفاً إلى الشرق إلى أن يجاوز هذا الجزء ويسمى جبل اللكام؛ وكأنه حاجز بين ارضي مصر والشام. ففي طرفه عند أيلة العقبة التي يمر عليها الحجاج من مصر إلى مكة، ثم بعدها في ناحية الشمال مدفن الخليل عليه الصلاة والسلام عند جبل السراة يتصل من عند جبل اللكام المذكور من شمال العقبة ذاهبا على سمت الشرق، ثم ينعطف قليلا. وفي شرقه هنالك بلد الحجر وديار ثمود وتيماء ودومة الجندل وهي أسافل الحجاز. وفوقها جبل رضوى، وحصون خيبر في جهة الجنوب عنها. وفيما بين جبل السراة وبحر القلزم صحراء تبوك. وفي شمال جبل السراة مدينة القدس عند جبل اللكام ثم الأردن ثم طبرية. وفي شرقيها بلاد الغور إلى أذرعات. وفي سمتها شرقا دومة الجندل آخر هذا الجزء وهي آخر الحجاز. وعند منعطف جبل اللكام إلى الشمال من آخر هذا الجزء مدينة دمشق مقابلة صيدا وبيروت من القطعة البحرية، وجبل اللكام يعترض بينها وبينها. وعلى سمت دمشق في الشرق مدينة بعلبك، ثم مدينة حمص في الجهة الشمالية آخر الجزء عند منقطع جبل اللكام. وفي الشرق عن بعلبك وحمص بلد تدمر ومجالات البادية إلى آخر الجزء وفي الجزء السادس من أعلاه مجالات الإعراب تحت بلاد نجد واليمامة ما بين جبل العرج والصمان إلى البحرين وهجر على بحر فارس. وفي أسافل هذا الجزء تحت المجالات بلد الحيرة والقادسية ومغايض الفرات. وفيما بعدها شرقاً مدينة البصرة. وفي هذا الجزء ينتهي بحر فارس عند عبادان والأبلة من أسافل الجزء من شماله. ويصب فيه عند عبادان نهر دجلة بعد أن ينقسم بجداول كثيرة وتختلط به جداول أخرى من الفرات، ثم تجتمع كلها عند عبادان وتصب في بحر فارس. وهذه القطعة من البحر متسعة في أعلاه متضايقة في آخره في شرقيه وضيقة عند منتهاه مضايقة للحد الشمالي منه. وعلى عدوتها الغربية منه أسافل البحرين وهجر والأحساء، وفي غربها أخطب والصمان وبقية ارض اليمامة، وعلى عدوته الشرقية سواحل فارس من أعلاها، وهو من عند آخر الجزء من الشرق
على طرف قد امتد من هذا البحر مشرقاً. ووراءه إلى الجنوب في هذا الجزء جبال القفص من كرمان وتحت هرمز على الساحل بلد سيراف ونجيرم على ساحل هذا البحر. وفي شرقيه إلى آخر هذا الجزء وتحت هرمز بلاد فارس مثل سابور ودار أبجرد ونسا واصطخر والشاهجان وشيراز وهي قاعدتها كلها. وتحت بلاد فارس إلى الشمال عند طرف البحر بلاد خوزستان، ومنها الأهواز وتستر وصدى وسابور والسوس ورام هرمز؛ وغيرها وأرجان وهي حد ما بين فارس وخوزستان. وفي شرقي بلاد خوزستان جبال الأكراد متصلة إلى نواحي أصبهان وبها مساكنهم ومجالاتهم وراءها في ارض فارس، وتسمى الرسوم.وفي الجزء السابع في الأعلى منه من المغرب بقية جبال القفص، ويليها من الجنوب والشمال بلاد كرمان ومكران، ومن مدنها الرودان والشيرجان وجيرفت ويزدشير والبهرج. وتحت ارض كرمان إلى الشمال بقية بلاد فارس إلى حدود أصبهان، ومدينة أصبهان في طرف هذا الجزء ما بين غربه وشماله. ثم في المشرق عن بلاد كرمان وبلاد فارس ارض سجستان وكوهستان في الجنوب. وأرض كوهستان في الشمال عنها. ويتوسط بين كرمان وفارس وبين سجستان وكوهستان، في وسط هذا الجزء المفاوز العظمى القليلة المسالك لصعوبتها. ومن مدن سجستان بست والطاق. وأما كوهستان فهي من بلاد خراسان. ومن مشاهير بلادها سرخس وقوهستان آخر الجزء.وفي الجزء الثامن من غربه وجنوبه مجالات الحلج من أمم الترك متصلة بأرض سجستان من غربها وبأرض كابل الهند من جنوبها. وفي الشمال عن هذه المجالات جبال الغور وبلادها وقاعدتها غزنة فرضة الهند. وفي آخر الغور من الشمال بلاد أستراباذ، ثم في الشمال غرباً إلى آخر الجزء بلاد هراة أوسط خراسان. وبها أسفراين وقاشان وبوشنج ومرو الروذ والطالقان والجوزجان. وتنتهي خراسان هنالك إلى نهر
جيحون. وعلى هذا النهر من بلاد خراسان من غربيه مدينة بلخ، وفي شرقيه مدينة ترمذ، ومدينة بلخ كانت كرسي مملكة الترك. وهذا النهر، نهر جيحون، مخرجه من بلاد وجار في حدود بذخشان مما يلي الهند. ويخرج من جنوب هذا الجزء وعند آخره من الشرق فينعطف عن قرب مغرباً إلى وسط الجزء، ويسمى هنالك نهر خرناب؛ ثم ينعطف إلى الشمال حتى يمر بخراسان، ويذهب على سمته إلى أن يصب في بحيرة خوارزم في الإقليم الخامس كما نذكره. ويمده عند انعطافه في وسط الجزء من الجنوب إلى الشمال خمسة أنهار عظيمة من بلاد الختل والوحش من شرقيه، وانهار أخرى من جبال البتم من شرقيه أيضاً وجوفي الجبل حتى يتسع ويعظم بما لا كفاء له، ومن هذه الأنهار الخمسة الممدة له نهر وخشاب، يخرج من بلاد التبت، وهي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء فيمر مغرباً بانحراف إلى الشمال إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريبا من شمال هذا الجزء يعترضه في طريقه جبل عظيم يمر من وسط الجنوب في هذا الجزء، ويذهب مشرقاً بانحراف إلى الشمال، إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريباً من شمال هذا الجزء، فيجوز بلاد التبت إلى القطعة الشرقية الجنوبية من هذا الجزء. ويحول بين الترك وبين بلاد الختل؛ وليس فيه إلا مسلك واحد في وسط الشرق من هذا الجزء جعل فيه الفضل بن يحيى سدا وبنى فيه باباً كسد يأجوج ومأجوج. فإذا خرج نهر وخشاب من بلاد التبت واعترضه هذا الجبل فيمر تحته في مدى بعيد إلى أن يمر في بلاد الوخش، ويصب في نهر جيحون عند حدود بلخ، ثم يمر هابطاً إلى الترمذ في الشمال إلى بلاد الجوزجان. وفي الشرق عن بلاد الغور فيما بينها وبين نهر جيحون بلاد الناسان من خراسان. وفي العدوة الشرقية هنالك من النهر بلاد الختل وأكثرها جبال، وبلاد الوخش، ويحدها من جهة الشمال جبال البتم تخرج من طرف خراسان غربي نهر جيحون، وتذهب مشرقة إلى أن يتصل طرفها بالجبل العظيم الذي خلفه بلاد التبت. ويمر تحته نهر وخشاب كما قلناه فيتصل به عند باب الفضل بن يحيى. ويمر نهر جيحون بين هذه الجبال، وأنهار أخرى تصب فيه منها نهر بلاد الوخش يصب فيه من الشرق تحت الترمذ إلى جهة الشمال، ونهر بلخ يخرج من جبال البتم من مبدإه عند الجوزجان ويصب فيه من غربيه. وعلى هذا النهر من غربيه بلاد آمد من خراسان. وفي شرقي النهر من هنالك أرض الصغد وأسروشنة من بلاد الترك، وفي شرقها ارض فرغانة أيضاً إلى اخر الجزء شرقاً. وفي بلاد الترك تحوزها جبال البتم إلى شمالها.وفي الجزء التاسع من غربيه أرض التبت إلى وسط الجزء، وفي جنوبيها بلاد الهند وفي شرقيها بلاد الصين إلى آخر الجزء. وفي أسفل هذا الجزء شمالا عن بلاد التبت بلاد الخزلجية من بلاد الترك إلى آخر الجزء شرقاً وشمالا. ويتصل بها من غربيها ارض فرغانة أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً، ومن شرقيها أرض التغرغر من الترك إلى آخر الجزء شرقاً وشمالا.وفي الجزء العاشر في الجنوب منه جميعا بقية الصين وأسافله. وفي الشمال بقية بلاد التغرغر. ثم شرقاً عنهم بلاد خرخير من الترك أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً. وفي الشمال من ارض خرخير بلاد كتمان من الترك. وقبالتها في البحر المحيط جزيرة الياقوت في وسط جبل مستدير لا منفذ منه إليها ولا مسلك؛ والصعود إلى أعلاه من خارجه صعب في الغاية. وفي الجزيرة حيات قتالة وحصى من الياقوت كثيرة؛ فيحتال أهل تلك الناحية في استخراجه بما يلهمهم الله إليه. وأهل هذه البلاد في هذا الجزء التاسع والعاشر- فيما وراء خراسان والجبال كلها مجالات للترك- أمم لا تحصى؛ وهم ظواعن رحالة أهل إبل وشاة وبقر وخيل للنتاج والركوب والأكل وطوائفهم كثيرة لا يحصيهم إلا خالقهم وفيهم مسلمون مما يلي بلاد النهر- نهر جيحون- ويغزون الكفار منهم الدائنين بالمجوسية، فيبيعون رقيقهم لمن يليهم ويخرجون إلى بلاد خراسان والهند والعراق.
الإقليم الرابع يتصل بالثالث من جهة الشمال والجزء الأول منه في غربيه
قطعة من البحر المحيط مستطيلة من أوله جنوباً إلى آخره شمالاً وعليها في الجنوب مدينة طنجة، ومن هذه القطعة تحت طنجة من البحر المحيط إلى البحر الرومي في خليج متضايق بمقدار اثني عشر ميلاً ما بين طريف والجزيرة الخضراء شمالاً وقصر المجاز وسبتة جنوباً؛ ويذهب مشرقاً إلى أن ينتهي إلى وسط الجزء الخامس من هذا الإقليم، وينفسح في ذهابه بتدريج إلى أن يغمر الأربعة أجزاء واكثر الخامس ويغمر عن جانبيه طرفاً من الإقليم الثالث والخامس كما سنذكره. ويسمى هذا البحر "البحر الشامي" أيضاً. وفيه جزائر كثيرة أعظمها في جهة الغرب يابسة، ثم مايرقة، ثم منرقة، ثم سردانية ثم صقلية وهي أعظمها، ثم بلونس، ثم أقريطش ثم قبرص كما نذكرها كلها في أجزائها التي وقعت فيها. ويخرج من هذا البحر الرومي عند آخر الجزء الثالث منه، وفي الجزء الثالث من الإقليم الخامس، خليج البنادقة، يذهب إلى ناحية الشمال، ثم ينعطف عند وسط الجزء من جوفيه، ويمر مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الثاني من الخامس. ويخرج منه أيضاً في آخر الجزء الرابع شرقاً من الإقليم الخامس خليج القسطنطنية، يمر في الشمال متضايقاً في عرض رمية السهم إلى آخر الإقليم. ثم يفضي إلى الجزء الرابع من الإقليم السادس، وينعطف إلى بحر نيطش ذاهباً إلى الشرق في الجزء الخامس كله ويصف السادس من الإقليم السادس كما نذكر ذلك في أماكنه. وعندما يخرج هذا البحر الرومي من البحر المحيط في خليج طنجة، وينفسح إلى الإقليم الثالث يبقى في الجنوب عن الخليج قطعة صغيرة من هذا الجزء فيها مدينة طنجة على مجمع البحرين، وبعدها مدينة سبتة على البحر الرومي ثم قطاون ثم باديس. ثم يغمر هذا البحر بقية هذا الجزء شرقاً، ويخرج إلى الثالث. وأكثر العمارة في هذا الجزء في شماله وشمال الخليج منه، وهي كلها بلاد الأندلس الغربية، ومنها ما بين البحر المحيط والبحر الرومي، أولها طريف عند مجمع البحرين، وفي الشرق منها على ساحل البحر الرومي الجزيرة الخضراء ثم مالقة، ثم المنقب ثم المرية. وتحت هذه من لدن البحر المحيط غرباً وعلى مقربة منه شريش، ثم لبلة، وقبالتها فيه جزيرة قادس، وفي الشرق عن شريش ولبلة أشبيلية، ثم استجة وقرطبة ومديلة، ثم غرناطة وجيان وائدة، ثم وادياش وبسطة، وتحت هذه شنتمرية وشلب على البحر المحيط غرباً، وفي الشرق عنهما بطليوس وماردة ويابرة، ثم غافق وبزجالة، ثم واحة رياح. وتحت هذه أشبونة على البحر المحيط غرباً، وعلى نهر باجة، وفي الشرق عنها شنترين وموزية على النهر المذكور، ثم قنطرة السيف. ويسامت أشبونة من جهة الشرق جبل الشارات، يبدأ من المغرب هنالك، ويذهب مشرقاً مع آخر الجزء من شماليه فينتهي إلى مدينة سالم فيما بعد النصف منه. وتحت هذا الجبل طلبيرة في الشرق من فورنة، ثم طليطلة، ثم وادي الحجارة ثم مدينة سالم. وعند أول هذا الجبل فيما بينه وبين أشبونة بلد قلمرية، وهذه غربي الأندلس. وأما شرقي الأندلس فعلى ساحل البحر الرومي منها بعد المرية قرطاجنة، ثم لفتة، ثم دانية، ثم بلنسية إلى طرطوشة آخر الجزء في الشرق، وتحتها شمالاً ليورقة وشقورة تتاخمان بسطة وقلعة رياح من غرب الأندلس. ثم مرسية شرقاً، ثم شاطبة تحت بلنسية شمالاً، ثم شقر ثم طرطوشة، ثم طركونة آخر الجزء. ثم تحت هذه شمالاً أرض منجالة وريدة متاخمان لشقورة وطليطلة من الغرب، ثم أفراغة شرقاً تحت طرطوشة وشمالاًعنها. ثم في الشرق عن مدينة سالم قلعة أيوب ثم سرقسطة ثم لاردة آخر الجزء شرقاً وشمالاً.والجزء الثاني من هذا الإقليم غمر الماء جميعه إلا قطعة من غربيه في الشمال،فيها بقعة جبل البرنات ومعناه جبل الثنايا. والسالك يخرج إليه من آخر الجزء الأول من الإقليم الخامس، يبدأ من الطرف المنتهي من البحر المحيط عند آخر ذلك الجزء جنوباً وشرقاً، ويمر في الجنوب بانحراف إلى الشرق فيخرج في هذا الإقليم الرابع منحرفاً عن الجزء الأول منه إلى هذا الجزء الثاني، فيقع فيه قطعة منه، تفضي ثناياها إلى البر المتصل، وتسفى ارض غشكونية، وفيه مدينة خريدة وقرقشونة. وعلى ساحل البحر الرومي من هذه القطعة مدينة برشلونة ثم أربونة. وفي هذا البحر الذي غمر الجزء جزائر كثيرة، والكثير منها غير مسكون لصغرها. ففي غربيه جزيرة سردانية، وفي شرقيه جزيرة صقلية متسعة الأقطار يقال إن دورها سبعمائة ميل، وبها مدن كثيرة مشاهيرها سرقوسة وبلرم وطرابغة ومازر ومسيني وهذه الجزيرة تقابل أرض أفريقية، وفيما بينهما جزيرة أعدوش ومالطة.والجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر إلا ثلاث قطع من ناحية الشمال الغربية منها أرض قلورية؛ والوسطى من أرض أبكيردة؛ والشرقية من بلادا لبنادقة.والجزء الرابع من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر كما مر وجزائره كثيرة وأكثرها غير مسكون كما في الثالث. والمعمور منها جزيرة بلونس في الناحية الغربية الشمالية، وجزيرة أقريطش مستطيلة من وسط الجزء إلى ما بين الجنوب والشرق منه.والجزء الخامس من هذا الإقليم غمر البحر منه مثلثة كبيرة بين الجنوب والغرب،ينتهي الضلع الغربي منها إلى آخر الجزء في الشمال، وينتهي الضلع الجنوبي منها إلى نحو الثلثين من الجزء، ويبقى في الجانب الشرقي من الجزء قطعة نحو الثلث، يمر الشمالي منها إلى الغرب منعطفاً مع البحر كما قلناه. وفي النصف الجنوبي منها أسافل الشام، ويمر في وسطها جبل اللكام إلى أن ينتهي إلى آخر الشام في الشمال فينعطف من هنالك ذاهبا إلى القطر الشرقي الشمالي، ويسمى بعد انعطافه جبل السلسلة، ومن هنالك يخرج إلى الإقليم الخامس. ويجوز من عند منعطفه قطعة من بلاد الجزيرة إلى جهة الشرق. ويقوم من عند منعطفه من جهة المغرب جبال متصلة بعضها ببعض إلى ان ينتهي إلى طرف خارج من البحر الرومي متأخر إلى آخر الجزء من الشمال. وبين هذه الجبال ثنايا تسفى الدروب وهي التي تفضي إلى بلاد الأرمن وفي هذا الجزء قطعة منها بين هذه الجبال وبين جبل السلسلة. فأما الجهة الجنوبية التي قدمنا أن فيها أسافل الشام، وان جبل اللكام معترض فيها بين البحر الرومي وآخر الجزء من الجنوب إلى الشمال، فعلى ساحل
البحر منه بلد أنطرطوس في أول الجزء من الجنوب متاخمة لغزة وطرابلس على ساحله من الإقليم الثالث، وفي شمال أنطرطوس جبلة ثم اللاذقية ثم إسكندرونة ثم سلوقية وبعدها شمالاً بلاد الروم. وأما جبل اللكام المعترض بين البحر وآخر الجزء بحافاته فيصاقبه من بلاد الشام من أعلى الجزء جنوباً من غربيه حصن الحواني وهو للحشيشة الإسماعيلية؛ ويعرفون لهذا العهد بالفداوية، ويسمى الحصن "مصيات " وهو قبالة أنطرطوس. وقبالة هذا الحصن في شرق الجبل بلد سلمية في الشمال عن حمص. وفي الشمال عن مصيات بين الجبل والبحر بلد أنطاكية. ويقابلها في شرق الجبل المعرة، وفي شرقها المراغة، وفي شمال أنطاكية المصيصة ثم أذنة ثم طرسوس آخر الشام. ويحاذيها من غرب الجبل قنسرين ثم عين زربة. وقبالة قنسرين في شرق الجبل حلب. ويقابل عين زربة منبج آخر الشام. وأما الدروب فعن يمينها ما بينها وبين البحر الرومي بلاد الروم التي هي لهذا العهد للتركمان وسلطانها ابن عثمان. وفي ساحل البحر منها بلد أنطاكية والعلايا. وأما بلاد الأرمن التي بين جبل الدروب وجبل السلسلة ففيها بلد مرعش وملطية والمعرة إلى آخر الجزء الشمالي. ويخرج من الجزء الخامس في بلاد الأرمن نهر جيحان ونهر سيحان في شرقيه فيمر بها جيحان جنوباً حتى يتجاوز الدروب، ثم يمر بطرسوس ثم بالمصيصة، ثم ينعطف هابطاً إلى الشمال ومغرباً حتى يصب في البحر الرومي جنوب سلوقية. ويمر نهر سيحان مؤا زيا لنهر جيحان فيحاذي المعرة ومرعش ويتجاوز جبال الدروب إلى أرض الشام، ثم يمر بعين زربة ويحوز عن نهر جيحان ثم ينعطف إلى الشمال مغرباً فيختلط بنهر جيحان عند المصيصة
ومن غربها. وأما بلاد الجزيرة التي يحيط بها منعطف جبل اللكام إلى جبل السلسلة ففي جنوبها بلد الرافضة والرقة، ثم حران ثم سروج والرها ثم نصيبين ثم سميساط وآمد تحت جبل السلسلة. وآخر الجزء من شماله وهو أيضاً آخر الجزء من شرقيه، ويمر في وسط هذه القطعة نهر الفرات ونهر دجلة يخرجان من الإقليم الخامس ويمران في بلاد الأرمن جنوباً إلى أن يتجاوزا جبل السلسلة؛ فيمر نهر الفرات من غربي سميساط وسروج وينحرف إلى الشرق فيمر بقرب الرافضة والرقة ويخرج إلى الجزء السادس. ويمر دجلة في شرق آمد وينعطف قريباً إلى الشرق فيخرج قريباً إلى الجزء ا لسادس.وفي الجزء السادس من هذا الإقليم من غربيه بلاد الجزيرة، وفي الشرق منها بلاد العراق متصلة بها تنتهي في الشرق إلى قرب آخر الجزء. ويعترض من آخر العراق هنالك جبل أصبهان هابطاً من جنوب الجزء منحرفاً إلى الغرب، فإذا انتهى إلى وسط الجزء من آخره في الشمال يذهب مغرباً إلى أن يخرج من الجزء السادس، ويتصل على سمته بجبل السلسلة في الجزء الخامس، فينقطع هذا الجزء السادس بقطعتين غربية وشرقية، ففي الغربية من جنوبيها مخرج الفرات من الخامس، وفي شماليها مخرج دجلة منه. أما الفرات فأول ما يخرج إلى السادس يمر بقرقيسيا ويخرج من هنالك جدول إلى الشمال ينساب في أرض الجزيرة ويغوص في نواحيها، ويمر من قرقيسيا غير بعيد، ثم ينعطف إلى الجنوب فيمر بقرب الخابور إلى غرب الرحبة؛ ويخرج منه جداول من هنالك، يمر جنوباً ويبقى صفين في غربيه. ثم ينعطف شرقاً وينقسم بشعوب فيمر بعضها بالكوفة، وبعضها بقصر ابن هبيرة وبالجامعين، و تخرج جميعاً في جنوب الجزء إلى الإقليم الثالث، فيغوص هنالك في شرق الحيرة والقادسية. ويخرج الفرات مر الرحبة مشرقاً على سمته إلى هيت من شمالها يمر إلى الزاب والأنبار من جنوبهما، يصب في دجلة عند بغداد. وأما نهر دجلة فإذا دخل من الجزء الخامس إلى هذا الجزء يمر مشرقاً على سمته ومحاذيا لجبل السلسلة المتصل بجبل العراق على سمته يمر بجزيرة ابن عمر على شمالها، ثم بالموصل كذلك وتكريت، وينتهي إلى الحديثة فينعطف جنوباً وتبقى الحديثة في شرقه والزاب الكبير والصغير كذلك، ويمر على سمت جنوباً وفي غرب القادسية إلى أن ينتهي إلى بغداد ويختلط بالفرات، ثم يمر جنوباً على غرب جرجرايا إلى أن يخرج من الجزء إلى الإقليم الثالث فتنتشر هنالك شعوباً وجداوله، ثم يجتمع ويصب هنالك في بحر فارس عند عبادان. وفيما بين نهر الدجلة والفرات قبل مجمعهما ببغداد هي بلاد الجزيرة. ويختلط بنهر دجلة بعد مفارقته ببغداد نهر آخر يأتي من الجهة الشرقية الشمالية منه وينتهي إلى بلاد النهروان قبالة بغداد شرقاً ثم ينعطف جنوباً، ويختلط بدجلة قبل خروجه إلى الإقليم الثالث. ويبقى ما بين هذا النهر وبين جبل العراق والأعاجم بلد جلولاء، وفي شرقها عند الجبل بلد حلوان وصيمرة. وأما القطعة الغربية من الجزء فيعترضها جبل يبدأ من جبل الأعاجم مشرقاً إلى آخر الجزء ويسمى جبل شهرزور ويقسمها بقطعتين. وفي الجنوب من هذه القطعة الصغرى بلد خونجان في الغرب والشمال عن أصبهان، وتسمى هذه القطعة بلد الهلوس، وفي وسطها بلد نهاوند وفي شمالها بلد شهرزور غرباً عند ملتقى الجبلين، والدينور شرقاًعند آخر الجزء. وفي القطعة الصغرى الثانية طرف من بلاد أرمينية قاعدتها المراغة، والذي يقابلها من جبل العراق يسمى باريا وهو مساكن للأكراد، والزاب الكبير والصغير الذي على دجلة من ورائه. وفي آخر هذه القطعة من جهة الشرق بلاد أذربيجان ومنها تبريز والبندقان. وفي الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء قطعة من بحر نيطش وهو بحر الخزر.وفي الجزء السابع من هذا الإقليم من غربه وجنوبه معظم بلاد الهلوس، وفيها همذان وقزوين وبقيتها في الإقليم الثالث وفيها هنالك أصبهان، ويحيط بها من الجنوب جبل يخرج من غربها ويمر بالإقليم الثالث؛ ثم ينعطف من الجزء السادس إلى الإقليم الرابع ويتصل بجبل العراق في شرقيه الذي مر ذكره هنالك، وانه محيط ببلاد الهلوس في القطعة الشرقية. ويهبط
هذا الجبل المحيط بأصبهان من الإقليم الثالث إلى جهة الشمال، ويخرج إلى هذا الجزء السابع فيحيط ببلاد الهلوس من شرقها وتحته هنالك قاشان ثم قم، وينعطف في قرب النصف من طريقه مغربا بعض الشيء؛ ثم يرجع مستديرا فيذهب مشرقاً ومنحرفاً إلى الشمال، حتى يخرج إلى الإقليم الخامس، ويشتمل على منعطفه واستدارته على بلد الري في شرقيه، ويبدأ من منعطفه جبل آخر يمر غرباً إلى آخر الجزء، ومن جنوبه من هنالك قزوين، ومن جانبه الشمالي وجانب جبل الري المتصل معه ذاهباً إلى الشرق والشمال إلى وسط الجزء، ثم إلى الإقليم الخامس بلاد طبرستان فيما بين هذه الجبال وبين قطعة من بحر طبرستان. ويدخل من الإقليم الخامس في هذا الجزء، في نحو النصف من غربه إلى شرقه، ويعترض عند جبل الري. وعند انعطافه إلى الغرب جبل متصل يمر على سمته مشرقاً وبانحراف قليل إلى الجنوب حتى يدخل في الجزء الثامن من غربه. ويبقى بين جبل الري وهذا الجبل من عند مبدأهما بلاد جرجان فيما بين الجبلين، ومنها بسطام. ووراء هذا الجبل قطعة من هذا الجزء فيها بقية المفازة التي بين فارس وخراسان وهي في شرقي قاشان، وفي آخرها عند الجبل بلد أستراباذ. وحافات هذا الجبل من شرقيه إلى آخر الجزء بلاد نيسابور من خراسان. ففي جنوب الجبل وشرق المفازة بلد نيسابور ثم مرو الشاهجان آخر الجزء. وفي شماله وشرقي جرجان بلد مهرجان وخازرون وطوس آخر الجزء شرقاً. وكل هذه تحت الجبل. وفي الشمال عنها بلاد نسا؛ ويحيط بها عند زاوية الجزئين الشمالي والشرقي مفاوز معطلة.وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم وفي غربيه نهر جيحون ذاهباً من الجنوب إلى الشمال. في عدوته الغربية رمم وآمل من بلاد خراسان، والظاهرية والجرجانية من بلاد خوارزم. ويحيط بالزاوية الغربية الجنوبية منه جبل أستراباذ المعترض في الجزء السابع
قبله، ويخرج في هذا الجزء من غربيه ويحيط بهذه الزاوية، وفيها بقية بلاد هراة، ويمر الجبل في الإقليم الثالث بين هراة والجوزجان حتى يتصل بجبل البتم كما ذكرناه هنالك. وفي شرقي نهر جيحون من هذا الجزء وفي الجنوب منه بلاد بخارى ثم بلاد الصغد وقاعدتها سمرقند ثم بلاد أسروشنة ومنها خجندة آخر الجزء شرقاً. وفي الشمال عن سمرقند وأشروسنة أرض إيلاق. ثم في الشمال عن إيلاق أرض الشاش إلى آخر الجزء شرقاً، ويأخذ قطعة من الجزء التاسع في جنوب لك القطعة بقية أرض فرغانة، ويخرج من تلك القطعة التي في الجزء التاسع نهر الشاش يمر معترضاً في الجزء الثامن إلى أن ينصب في نهر جيحون عند مخرجه من هذا الجزء الثامن في شماله إلى الإقليم الخامس. ويختلط معه في أرض إيلاق نهر يأتي من الجزء التاسع من الإقليم الثالث من تخوم بلاد التبت؛ ويختلط معه قبل مخرجه من الجزء التاسع نهر فرغانة. وعلى سمت نهر الشاش جبل جبراغون، يبدأ من الإقليم الخامس وينعطف شرقاً ومنحرفاً إلى الجنوب حتى يخرج إلى الجزء التاسع محيطاً بأرض الشاش، ثم ينعطف في الجزء التاسع فيحيط بالشاش وفرغانة هناك إلى جنوبه فيدخل في الإقليم الثالث. وبين نهر الشاش وطرف هذا الجبل في وسط هذا الجزء بلاد فاراب. وبينه وبين أرض بخارى وخوارزم مفاوز معطلة. وفي زاوية هذا الجزء الشمال والشرق أرض خجندة وفيها بلد إسبيجاب وطراز.وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في غربيه بعد أرض فرغانة والشاش أرض إلى لجنة في الجنوب وأرض الخليجية في الشمال. وفي شرق الجزء كله أرض الكيماكية. ويتصل في الجزء العاشر كله إلى جبل قوقياً آخر الجزء شرقاً وعلى قطعة من البحر المحيط هنالك، وهو جبل يأجوج ومأجوج. وهذه الأمم كلها من شعوب الترك، انتهى. الإقليم الخامس الجزء الأول منه أكثره مغمور بالماء إلا قليلاً من جنوبه
وشرقه لأن البحر المحيط بهذه الجهة الغربية دخل في الإقليم الخامس والسادس والسابع عن الدائرة المحيطة بالإقليم. فأما المنكشف من جنوبه فقطعة على شكل مثلث متصلة من هنالك بالأندلس وعليها بقيتها. ويحيط بها البحر من جهتين كأنهما ضلعان محيطان بزاوية المثلث ففيها من بقية غرب الأندلس سعيور على البحر عند أول الجزء من الجنوب والغرب، وسلمنكة شرقاً عنها، وفي جوفها سمورة. وفي الشرق عن سلمنكة آيلة آخر الجنوب، وأرض قشتالة شرقاً عنها، وفيها مدينة شقونية. وفي شمالها أرض ليون وبرغشت، ثم وراءها في الشمال أرض جليقية إلى زاوية القطعة. وفيها على البحر المحيط في آخر الضلع الغربي بلد شنتياقو، ومعناه يعقوب. وفيها من شرق بلاد الأندلس مدينة شطلية عند آخر الجزء في الجنوب وشرقاً عن قشتالة. وفي شمالها وشرقها وشقة وبنبلونة على شمتها شرقاً وشمالاً. وفي غرب بنبلونة قشتالة ثم ناجزة فيما بينها وبين برغشت. ويعترض وسط هذه القطعة جبل عظيم محاذ للبحر وللضلع الشمالي الشرقي منه وعلى ترب، ويتصل به وبطرف البحر عند بنبلونة في جهة الشرق الذي ذكرنا من قبل أن يتصل في الجنوب بالبحر الرومي في الإقليم الرابع، ويصير حجراً على بلاد الأندلس من جهة الشرق وثناياه لها أبواب تفضي إلى بلاد غشكونية من أمم الفرنج. فمنها من الإقليم الرابع برشلونة وأربونة على ساحل البحر الرومي، وخريدة وقرقشونة وراءهما في الشمال. ومنها من الإقليم الخامس طلوشة شمالاً عن خريدة. وأما المنكشف في هذا الجزء من جهة الشرق فقطعة على شكل مثلث مستطيل زاويته الحادة وراء البرنات شرقاً. وفيها على البحر المحيط على رأس القطعة التي يتصل بها جبل البرنات بلد نيونة. وفي آخر هذه القطعة في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء أرض بنطو من الفرنج إلى آخر الجزء. وفي الجزء الثاني في الناحية الغربية منه أرض غشكونية، وفي شمالها أرض بنطو وبرغشت، وقد ذكرناهما. وفي شرق بلاد غشكونية في شمالها قطعة ارض من البحر الرومي دخلت في هذا الجزء كالضرس مائلةً إلى الشرق قليلاً، وصارت بلاد غشكونية في غربها داخلة في جون من البحر. وعلى رأس هذا؛ القطعة شمالاً بلاد جنوة وعلى سمتها في الشمال جبل نيت جون. وفي شماله وعلى سمته أرض برغونة. وفي الشرق عن طرف جنوة الخارج من البحر الرومي طرف اخر خارج منه يبقى بينهما جون داخل من البر في البحر في غربيه نيس وفي شرقيه مدينة رومة العظمى كرسي ملك الإفرنجة ومسكن البابا بطركهم الأعظم. وفيها من المباني الضخمة والهياكل الهائلة والكنائس العادية ما هو معروف الأخبار. ومن عجائبها النهر الجاري في وسطها من المشرق إلى المغرب مفروشا قاعه ببلاط النحاس، وفيها كنيسة بطرس وبولس من الحواريين وهما مدفونان بها. وفي الشمال عن بلاد رومة بلاد أقرنصيصة إلى آخر الجزء. وعلى هذا الطرف من البحر الذي في جنوبه رومة بلاد نابل في الجانب الشرقي منه متصلة ببلد قلورية من بلاد الفرنج. وفي شمالها طرف من خليج البنادقة دخل في هذا الجزء من الجزء الثالث مغرباً ومحاذياً للشمال من هذا الجزء، وانتهى إلى نحو الثلث منه، وعليه كثير من بلاد البنادقة دخل في هذا الجزء من جنوبه فيما بينه وبين البحر المحيط. وفي شماله بلاد أنكلاية في الإقليم السادس.وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في غربيه بلاد قلورية بين خليج البنادقة والبحر الرومي يحيط بها من شرقيه يوصل من برها في الإقليم الرابع في البحر الرومي في جون بين طرفين خرجا من البحر على سمت الشمال إلى هذا الجزء. وفي شرقي بلاد قلورية بلاد أنكيردة في جون بين خليج البنادقة والبحر الرومي، ويدخل طرف من هذا الجزء في الجون في الإقليم الرابع وفي البحر الرومي. ويحيط به في شرقيه خليج البنادقة من البحر الرومي ذاهباً إلى سمت الشمال، ثم ينعطف إلى الغرب محاذياً لآخر الجزء الشمالي. ويخرج على سمته من الإقليم الرابع جبل عظيم يؤازيه ويذهب معه في الشمال، ثم يغرب معه في الإقليم السادس إلى أن ينتهي قبالة خليج في شماليه في بلاد أنكلاية من أمم اللمانيين كما نذكر. وعلى هذا الخليج وبينه وبين هذا الجبل ما داما ذاهبين إلى الشمال بلاد البنادقة، فإذا ذهبا إلى المغرب فبينهما بلاد حروايا ثم بلاد الألمانيين عند طرف الخليج.وفي الجزء الرابع من هذا الإقليم قطعة من البحر الرومي خرجت إليه من الإقليم الرابع مضرسة كفها بقطع من البحر. ويخرج منها إلى الشمال وبين كل ضرسين منها طرف من البحر في الجون بينهما، وفي آخر الجزء شرقاً قطع من البحر. ويخرج منها إلى الشمال خليج القسطنطينية، يخرج من هذا الطرف الجنوبي ويذهب على سمت الشمال إلى أن يدخل في الإقليم السادس، وينعطف من هنالك عن قرب مشرقاً إلى بحر نيطش في الجزء الخامس وبعض الرابع قبله، والسادس بعده من الإقليم السادس كما نذكر. وبلد القسطنطينية في شرقي هذا الخليج عند آخر الجزء من الشمال. وهي المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة وبها من آثار البناء والضخامة ما كثرت عنه الأحاديث. والقطعة التي ما بين البحر الرومي وخليج القسطنطينية من هذا الجزء، وفيها بلاد مقدونية التي كانت لليونانيين ومنها ابتداء ملكهم. وفي شرقي هذا الخليج إلى آخر الجزء قطعة من أرض باطوس، وأظنها لهذا العهد مجالات للتركمان، وبها ملك ابن عثمان وقاعدته بها بورصة؛ وكانت من قبلهم للروم وغلبهم عليها الأمم إلى أن صارت للتركمان.وفي الجزء الخامس من هذا الإقليم من غربيه وجنوبه أرض باطوس، وفي الشمال عنها إلى آخر الجزء بلاد عمورية، وفي شرقي عمورية نهر قباقب الذي يمد الفرات؛ يخرج من جبل هنالك ويذهب في الجنوب حتى يخالط الفرات قبل وصوله من هذا الجزء الثاني إلى ممره في الإقليم الرابع. وهنالك في غربيه آخر الجزء في مبدأ نهر سيحان ثم نهر جيحان غربيه الذاهبين على سمته وقد مر ذكرهما. وفي شرقه هنالك مبدأ نهر الدجلة الذاهب على سمته، وفي موازاته حتى يخالطه عند بغداد. وفي الزاوية التي بين الجنوب والشرق من هذا الجزء وراء الجبل الذي يبدأ منه نهر دجلة بلد ميافارقين. ونهر قباقب الذي ذكرناه يقسم هذا الجزء بقطعتين: إحداهما غربية جنوبية وفيها أرض باطوس كما قلناه وأسافلها إلى آخر الجزء شمالاً، ووراء الجبل الذي يبدأ منه نهر قباقب أرض عمورية كما قلناه؛ والقطعة الثانية شرقية شمالية على الثلث في الجنوب منها مبدأ الدجلة والفرات، وفي الشمال بلاد البيلقان متصلة بأرض عمورية من وراء جبل قباقب، وهي عريضة، وفي آخرها عند مبدإ الفرات بلد خرشنة. وفي الزاوية الشرقية الشمالية قطعة من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية.وفي الجزء السادس من هذا الإقليم في جنوبه وغربه بلاد أرمينية متصلة إلى ان يتجاوز وسط الجزء إلى جانب الشرق. وفيها بلد أردن في الجنوب والغرب وفي شمالها تفليس ودبيل. وفي شرق أردن مدينة خلاط ثم بردعة، وفي جنوبها بانحرافي إلى الشرق مدينة أرمينية. ومن هنالك مخرج بلاد أرمينية إلى الإقليم الرابع. وفيها هنالك بلد المراغة في شرقي جبل الأكراد المسمى بأرمى، وقد مر ذكره في الجزء السادس منه. ويتاخم بلاد أرمينية في هذا الجزء وفي الإقليم الرابع قبله من جهة الشرق فيها بلاد أذربيجان، وآخرها في هذا الجزء شرقا بلاد أردبيل على قطعة من بحر طبرستان دخلت في الناحية الشرقية من الجزء السابع، ويسمى بحر طبرستان. وعليه من شماله في الجزء قطعة من بلاد الخزر وهم التركمان. ويبدأ من عند آخر هذه القطعة البحرية في الشمال جبال يتصل بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخامس، فتمر منعطفة ومحيطة ببلد ميافارقين. ويخرج إلى الإقليم الرابع عند آمد، ويتصل بجبل السلسلة في أسافل الشام، ومن هنالك يتصل بجبل اللكام كما مر. وبين هذه الجبال الشمالية في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين. ففي جنوبيها بلاد الأبواب متصلة في الشرق إلى بحر طبرستان، وعليه من هذه البلاد مدينة باب الأبواب. وتتصل بلاد الأبواب في الغرب من ناحية جنوبيها ببلد أرمينية. وبينهما في الشرق وبين بلاد أذربيجان الجنوبية بلاد الزاب متصلة إلى بحر طبرستان. وفي شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة السرير في الزاوية الغربية الشمالية منها. وفي زاوية الجزء كله قطعة أيضا من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية، وقد مر ذكره ويحص بهذه القطعة من بحر نيطش بلاد السرير وعليها منها بلد أطرابزيدة وتتصل بلاد السرير بين جبل الأبواب والجهة الشمالية من الجزء إلى أن ينتهي شرقاً إلى جبل حاجز بينها وبين أرض الخزر. وعند آخرها مدينة صول. ووراء هذا الجبل الحاجز قالعة أرض الخزر تنتهي إلى الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء من بحر طبرستان وآ خر الجزء شمالاً.والجزء السابع من هذا الإقليم غربية كله مغمور ببحر طبرستان، وخرج من جنوبه في الإقليم الرابع القطعة التي ذكرنا هنالك أن عليها بلاد طبرستان، وجبال الديلم قزوين. وفي غربي تلك القطعة متصلة بها القطعة التي في الجزء السادس من الاقليم الرابع. ويتصل بها من شمالها القطعة التي في الجزء السادس من شرقيه أيضاً وينكشف من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشمالية الغربية يصب فيها نهر أثل في البحر. ويبقى من هذا الجزء في ناحية الشرق قطعة منكشفة من البحر هي مجالات لا من أمم الترك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثامن، ويذهب الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشمال إلى أن يلاقي بحر طبرستان فيحتف به ذاهباً معه إلى بقيته في الإقليم السادس، ثم ينعطف مع طرفه ويفارقه ويسمى هنالك جبل سياه، ويذهب مغرباً إلى الجزء السادس من الإقليم السادس، ثم يرجع جنوباً إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس. وهذا الطرف منه هو الذي اعترض في هذا الجزء بين أرض السريروأرض الخزروا تصلت بأرض الخزر في الجزء السادس والسابع حافا ت هذا الجبل المسمى جبل سياه كما سيأتي والجزء الثامن من هذا الإقليم الخامس كله مجالات للغز من أمم الترك؛ وفي الجهة الجنوبية الغربية منه بحيرة خوارزم التي يصب فيها نهر جيحون؛ دورها ثلاثمائة ميل، ويصب فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات. وفي الجهة الشمالية الشرقية منه بحيرة عرعون؛ دورها أربعمائة ميل؛ وماؤها حلو. وفي الناحية الشمالية من هذا الجزء جبل مرغار، ومعناه جبل الثلج لأنه لا يذوب فيه، وهو متصل بآخر الجزء. وفي الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من الحجر الصلد لا ينبت شيئاً يسمى عرعون وبه سميت البحيرة. وينجلب منه ومن جبل مرغار شمالي البحيرة أنهار لا تنحصر عدتها فتصب فيها من الجانبين.وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم بلاد أركس من أمم الترك في غرب بلاد الغز وشرق بلاد الكيماكية. ويحف به من جهة الشرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج، يعترض هنالك من الجنوب إلى الشمال حتى ينعطف أول دخوله من الجزء العاشر، وقد كان دخل إليه من آخر الجزء العاشر من الإقليم الرابع قبله واحتف هنالك بالبحر المحيط إلى آخر الجزء في الشمال، ثم انعطف مغرباً في الجزء العاشر من الإقليم الرابع إلى ما دون نصفه، وأحاط من أوله إلى هنا ببلاد الكيماكية، ثم خرج إلى الجزء العاشر من الإقليم الخامس؛ فذهب فيه مغرباً إلى آخره، وبقيت في جنوبيه من هذا الجزء قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكية، ثم خرج إلى الجزء التاسع في شرقيه وفي الأعلى منه وانعطف قريباً إلى الشمال وذهب على سمته إلى الجزء التاسع من الإقليم السادس. وفيه السد هنالك كما نذكره. وبقيت منه القطعة التي أحاط بها جبل قوقيا عند الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء مستطيلةً إلى الجنوب، وهي من بلاد يأجوج ومأجوج.وفي الجزء العاشر من هذا الإقليم أرض يأجوج ومأجوج متصلةً فيه كله إلا قطعة من البحر المحيط غمرت طرفاً في شرقيه من جنوبه إلى شماله، وإلا القطعة التي يفصلها إلى جهة الجنوب والغرب جبل قوقيا حين مر فيه، وما سوى ذلك فأرض يأجوج ومأجوج. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإقليم السادس فالجزء الأول منه غمر البحر اكثر من نصفه واستدار شرقاً مع الناحية الشمالية، ثم ذهب مع الناحية الشرقية إلى الجنوب وانتهى قريباً من الناحية الجنوبية، فانكشفت قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة بين الطرفين، وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من البحر المحيط كالجون فيه، وينفسح طولاً وعرضاً، وهي كلها أرض بريطانية. وفي بابها بين الطرفين، وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بلاد صاقس متصلةً ببلاد بنطو التي مر ذكرها في الجزء الأول والثاني من الإقليم الخامس.والجزء الثاني من هذا الإقليم دخل البحر المحيط من غربه وشماله، فمن غربه قطعة مستطيلة اكبر من نصفه الشمالي من شرقأ أرض بريطانية في الجزء الأول، واتصلت بها القطعة أخرى في الشمال من غربه إلى شرقه، وانفسحت في النصف الغربي منه بعض الشيء وفيه هنالك قطعة من جزيرة إنكلترة، وهي جزيرة عظيمة متسعة مشتملة على مدن وبها ملك ضخم وبقيتها في الإقليم السابع. وفي جنوب هذه القطعة وجزيرتها في النصف الغربي من هذا الجزء بلاد أرمندية، وبلاد أفلادش متصفين بها، ثم بلاد إفرنسية جنوباً وغرباً من هذا الجزء، وبلاد برغونية شرقاً عنها، وكلها لأمم الإفرنجة، وبلاد اللمانيين في النصف الشرقي من الجزء. فجنوبه بلاد أنكلاية ثم بلاد برغونية شمالاً ثم أرض لهويكة وشطونية. وعلى قطعة البحر المحيط في الزاوية الشمالية الشرقيةأ رض أفريرة وكلها لأمم اللمانيين.وفي الجزء الثالث من هذا الإقليم في الناحية الغربية بلاد مراتية في الجنوب وبلاد شطونية في الشمال. وفي الناحية الشرقية بلاد أنكوية في الجنوب وبلاد بلونية في الشمال، يعترض بينهما جبل بلواط داخلاً من الجزء الرابع ويمر مغرباً بانحرافي إلى الشمال، أن يقف في بلاد شطونية آخر النصف الغربي.وفي الجزء الرابع في ناحية الجنوب أرض جثولية. وتحتها في الشمال بلاد
الروسية. ويفصل بينهما جبل بلواط من أول الجزء غرباً إلى ان يقف في النصف الشرقي. وفي شرق أرض جثولية بلاد جرمانية. وفي الزاوية الجنوبية الشرقية ارض القسطنطينية، ومدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرومي، وعند مدفعه في بحر نيطش؛ فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي الناحية الشرقية من هذا الجزء، ويمدها الخليج وبينهما في الزاوية بلد مسيناه.وفي الجزء الخامس من الإقليم السادس، ثم في الناحية الجنوبية عند بحر نيطش يتصل من الخليج في آخر الجزء الرابع، ويخرج على سمته مشرقاً فيمر في هذا الجزء كله، وفي بعض السادس على طول ألف وثلاثمائة ميل من مبدإه في عرض ستمائة ميل. ويبقى وراء هذا البحر في الناحية الجنوبية من هذا الجزء في غربها إلى شرقها بر مستطيل في غربه هرقلية على ساحل بحر نيطش متصلة بأرض البيلقان من الإقليم الخامس. وفي شرقه بلاد اللانية وقاعدتها سوتلي على بحر نيطش. وفي شمال بحر نيطش في هذا الجزء غرباً أرض ترخان وشرقاً بلاد الروسية وكلها على ساحل هذا البحر. وبلاد الروسية محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السابع ومن غربها في الجزء الرابع من هذا الإقليم.وفي الجزء السادس في غربيه بقية بحر نيطش، وينحرف قليلا إلى الشمال،ويبقى بينه هنالك وبين آخر الجزء شمالاً بلاد قمانية، وفي جنوبه منفسحاً إلى الشمال بما انحرف هو كذلك بقية بلاد اللانية التي كانت آخر جنوبه في الجزء الخامس. وفي الناحية الشرقية من هذا الجزء متصل أرض الخزر. وفي شرقها أرض برطاس، وفي الزاوية الشرقية الشمالية أرض بلغار. وفي الزاوية الشرقية الجنوبية أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سيا كوه المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السابع بعده، ويذهب بعد مفارقته مغرباً فيجوز في هذه القطعة، ويدخل إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس، فيتصل هنالك بجبل الأبواب وعليه من هنالك ناحية بلاد الخزر.وفي الجزء السابع من هذا الإقليم في الناحية الجنوبية ما جازة جبل سياه بعد مفارقته
بحر طبرستان. وهو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غرباً. وفي شرقها القطعة من بحر طبرستان التي يجوزها هذا الجبل من شرقها وشمالها. ووراء جبل سياه في الناحية الغربية الشمالية أرض برطاس وفى الناحية الشرقية من الجزء أرض شحرب ويخناك وهم أمم الترك . وفى الجزء الثامن والناحية الجنوبية منه كلها أرض الجولخ من الترك في الناحية الشمالية غرباً والأرض المنتنة وشرق الأرض التي يقال : إن يأجوج ومأجوج خرباها قبل بناء السد وفى هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من أعظم أنهار العالم وممره في بلاد الترك ومصبه في بحر طبرستان في الإقليم الخامس في الجزء السابع منه وهو كثير الانعطاف يخرج من جبل في الأرض المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد ويمر على سمت الغرب إلى آخر السابع من هذا الإقليم ، فينعطف شمالاً إلى الجزء السابع من الإقليم السابع فيمر في طرفه بين الجنوب والغرب فيخرج في الجزء السادس من السابع ويذهب مغرباً غير بعيد ، ثم ينعطف ثانية إلى الجنوب ويرجع إلى الجزء السادس من الإقليم السادس ، ويخرج منه جدول يذهب مغرباً ويصب في بحر نيطش في ذلك الجزء ، ويمر هو في قطعة بين الشمال والشرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السابع من الإقليم السادس ثم ينعطف ثالثة إلى الجنوب وينفذ في جبل سياه ويمر في بلاد الخزر ويخرج إلى الإقليم الخامس في الجزء السابع منه فيصب هنالك في بحر طبرستان في القطعة التي انكشفت من الجزء عند الزاوية الغربية الجنوبية وفى الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربى منه بلاد خفشاخ من الترك وهم قفجاق وبلاد الشركس منهم أيضا وفى الشرق منه بلاد يأجوج يفصل بينهما جبل قوقيا المحيط وقد مر ذكره ، يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم الرابع ويذهب معه إلى آخر الإقليم في الشمال ويفارقه مغرباً وبانحراف إلى الشمال حتى يدخل في الجزء التاسع من الإقليم الخامس فيرجع إلى سمته الأول حتى يدخل في هذا الجزء التاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى المغرب وفى وسطه ههنا السد الذي بناه الإسكندر ثم يخرج على سمته إلى الإقليم السابع وفى الجزء التاسع منه فيمر فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى البحر المحيط في شماله ثم ينعطف معه من هنالك مغرباً إلى الإقليم السابع إلى الجزء الخامس منه فيتصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيه . وفى وسط هذا الجزء التاسع هو السد الذي بناه الإسكندر كما قلناه ، والصحيح من خبره في القرآن وقد ذكر عبد الله بن خرداذبه في كتابه في الجغرافيا أن الواثق رأى في منامه كان السد انفتح فانتبه نزعا وبعث سلاما الترجمان فوقف عليه وجاء بخبره ووصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا وفى الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجوج متصلة فيه إلى آخره على قطعة من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه وشماله مستطيلة في الشمال وعريضة بعض الشىء في الشرق .
الإقليم السابع والبحر المحيط قد غمر عامته من جهة الشمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج ومأجوج .فالجزء الأول والثاني مغموران بالماء إلا ما انكشف من جزيرةأ نكلتر التي معظمها في الثانى وفى الأول منها طرف انعطف بانحراف إلى الشمال وبقيتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثانى من الإقليم السادس وهى مذكورة هناك والمجاز منها إلى البر في هذه القطعة سعة اثنى عشر ميلاً . ووراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثاني جزيرة رسلاندة مستطيلة من الغرب إلى الشرق .والجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أكثره بالبحر إلا قطعة مستطيلة في جنوبه وتتسع في شرقها وفيها هنالك متصل أرض فلونية التي مر ذكرها في الثالث من الإقليم السادس وأنها في شماله وفى القطعة من البحر التي تغمر هذا الجزء ثم في الجانب الغربى منها مستديرة فسيحة وتتصل بالبر من باب في جنوبها يفضى إلى بلاد فلونية وفى شمالها جزيرة برقاعية مستطيلة مع الشمال من المغرب إلى المشرق .والجزء الرابع من هذا الإقليم شماله كله مغمور بالبحر
المحيط من المغرب إلى المشرق وجنوبه منكشف وفى غربه أرض قيمازك من الترك وفى شرقها بلاد طست ثم أرض رسلان إلى آخر الجزء شرقاً وهى دائمة الثلوج وعمرانها قليل ويتصل ببلاد الروسية في الإقليم السادس وفى الجزء الرابع والخامس منه .وفى الجزء الخامس من هذا الإقليم في الناحية الغربية منه بلاد الروسية وينتهى في الشمال إلى قطعة من البحر المحيط التي يتصل بها جبل قوقيا . كما ذكرناه من قبل .وفي الناحية الشرقية منه متصل أرض القمانية التي على قطعة بحر نيطش من الجزء السادس من الإقليم السادس، وينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء، وهي عذبة تنجلب إليها أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب والشمال. وفي شمال الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض التتارية من التركمان إلى آخره.وفي الجزء السادس من الناحية الغربية الجنوبية متصل بلاد القمانية، وفي وسط الناحية بحيرة عثور عذبة تنجلب إليها الأنهار من الجبال في النواحي الشرقية، وهي جامدة دائما لشدة البرد إلا قليلا في زمن الصيف. وفي شرق بلاد القمانية بلاد الروسية . التي كان مبدؤها في الإقليم السادس في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء الخامس منه، وفي الزاوية، الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بقية أرض بلغار التي كان مبدؤها في الإقليم السادس. وفي الناحية الشرقية الشمالية من الجزء السادس منه، وفي وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل، القطعة الأولى إلى الجنوب كما مر. وفي آخر هذا الجزء السادس من شماله جبل قوقيا متصلا من غربه إلى شرقه.وفي الجزء السابع من هذا الإقليم في غربه بقية أرض يخناك من أمم الترك.وكان مبدؤها من الناحية الشمالية الشرقية من الجزء السادس قبله، وفي الناحية الجنوبية الغربية من هذا الجزء. ويخرج إلى الإقليم السادس من فوقه. وفي الناحية الشرقية بقية أرض سحرب ثم بقية الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقاً. وفي آخر الجزء من جهة الشمال جبل قوقيا المحيط متصلا من غربه إلى شرقه.وفي الجزء الثامن من هذا الإقليم في الجنوبية الغربية منه متصل
الأرض المنتنة. وفي شرقها أرض المحفورة، وهي من العجائب: خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع الوصول إلى قعره يستدل على عمرانه بالدخان في النهار والنيران في الليل تضيء وتخفى. وربما رئي فيها نهر يشقها من الجنوب إلى الشمال. وفي الناحية الشرقية من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسد. وفي آخر الشمال منه جبل قوقيا متصلا من الشرق إلى الغرب وفي الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ وهم قفجق يجوزها جبل قوقيا حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط ويذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى الشرق، فيخرج في الجزء التاسع من الإقليم السادس ويمر معترضاً فيه. وفي وسطه هنالك سد يأجوج ومأجوج وقد ذكرناه. وفي الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلة أحاطت به من شرقه وشماله.والجزء العاشر غمر البحر جميعه.هذا آخر الكلام على الجغرافيا وأقاليمها السبعة. {وفي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات للعالمين }.[سورة……الآية…]
المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم قد بينا أن المعمور في هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال. ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين في الحر والبرد، وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلاً. فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث والخامس اقرب إلى الاعتدال، والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان من الاعتدال. والأول والسابع أبعد بكثير؛ فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات، وجمع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال. وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخلاقاً وادياناً، حتى النبؤا ت فإنما توجد في الأكثر فيها. ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية. وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقه وأخلاقهم. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 112] وذلك ليتم القبول لما يأتيهم به الأنبياء من عند الله. وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم؛ فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم، يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة، المنمقة بالصناعة؛ ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين؛ ويذهبون في ذلك إلى الغاية. وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضة والحديد
والنحاس والرصاص والقصدير. ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين. ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم. وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين، وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين، ومن كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة. ولهذا كان العراق والشام أعد ل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات. وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال؛ مثل الأول والثاني والسادس والسابع فأهلهاأ بعد من الاعتدال في جميع أحوالهم. فبناؤهم بالطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود، وأكثرهم عرايا من اللباس، وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف. ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات. وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خفق الحيوانات العجم. حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول انهم يسكنون الكهوف والغياض، ويأكلون العشب، وانهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضاً؛ وكذا الصقالبة. والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم، ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك. وكذلك أحوالهم في الديانة أيضاً؛ فلا يعرفون نبوة ولا يدينون بشريعة، إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال، وهو في الأقل النادر؛ مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام وما بعده لهذا العهد؛ ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد، يقال إنهم دانوا به في المائة السابعة؛ ومثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال. ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً فالدين مجهول عندهم والعلم مفقود بينهم، وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن وحضرموت والأحقاف وبلاد الحجاز واليمامة وما إليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني؛ فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا؛ فكان لرطوبتهاأ ثر في رطوبة هوائها؛ فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر، وصار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر. وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه؛ وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص. ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة وليس فيه ذكر السواد وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيدا لولد إخوته لا غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة من طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهوا وفيما يتكون فيه من الحيوانات. وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني في مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب؛ فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة، قريبة إحداهما من أخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر. ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس. شمل سكانهما أيضاً البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال؛ إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأ ىالعين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها، فيضعف الحر فيها، ويشتد البرد عامة الفصول، فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة. ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود وصهوبة الشعور. وتوسطت بينهما الأقاليم الثلاثة: الخامس والرابع والثالث؛ فكان لها في الاعتدال الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر. والرابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التوسط كما قدمناه. فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم وخفقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم. وتبعه عن جانبيه الثالث والخامس وان لم يبلغا غاية التوسط، لميل هذا قليلا إلى الجنوب الحار، وهذا قليلا إلى الشمال البارد؛ إلا أنهما لم ينتهيا إلى الانحراف. وكانت الأقاليم الأربعة منحرفة وأهلها كذلك في خلقهم وخلقهم. فالأول والثاني للحر والسواد، والسابع والسادس للبرد والبياض. ويسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم الحبشة والزنج والسودان، أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد، وإن كان اسم الحبشة مختصا منهم بمن تجاه مكة واليمن، والزنج بمن تجاه بحر الهند. وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي اسود لا حام ولا غيره. وقد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الرابع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض، فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام. وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب، تسود ألوان أعقابهم. وفي ذلك دليل على أن اللون تاج لمزاج الهواء. قال ابن سينا في أرجوزته في الطب:
بالزنج حر غير الأجسادا حتى كسا جلودها سوادا والصقلب اكتسبت البياضا حتى غدت جلودها بضاضا وأما أهل الشمال فلم يسفوا باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لوناً لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء. فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التسمية لموافقته واعتياده. ووجدنا سكانه من الترك والصقالبة والطغرغر والخزر واللان، والكثير من الإفرنجة ويأجوج ومأجوج، أسماء متفرقة وأجيالاً متعددة مسمين بأسماء متنوعة. وأما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة، أهل الاعتدال في خلقهم وخلقهم وسيرهم، وكافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش والمساكن والصنائع والعلوم والرياسات والملك، فكانت فيهم النبؤات والملك والدول والشرائع والعلوم والبلدان والأمصار والمباني والفراسة والصنائع الفائقة وسائر الأحوال المعتدلة. وأهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم؛ مثل العرب والروم وفارس وبني إسرائيل واليونان وأهل السند والهند والصين. ولما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها وشعارها
حسبوا ذلك لأجل الأنساب: فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام وارتابوا في ألوانهم، فتكلفوا نقل تلك الحكاية الواهية؛ وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث؛ وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط المنتحلين للعلوم والصنائع والملل والشرائع والسياسة والملك من ولد سام. وهذا الزعم وإن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد؛ إنما هو إخبار عن الواقع، لا أن تسمية أهل الجنوب بالسودان والحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود. وما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط، وليس كذلك: فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب وبني إسرائيل والفرس؛ ويكون بالجهة والسمة كما للزنج والحبشة والصقالبة والسودان؛ ويكون بالعوائد والشعار والنسب كما للعرب؛ ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصهم ومميزاتهم. فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بأنهما من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب، إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات، وإن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولا يجب استمرارها: {سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا}[سورة….الآية..] والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم؛ وهو المولى المنعم الرؤوف الرحيم.
المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قطر. والسبب الصحيح في ذلك انه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس، وهو انقباضه وتكاثفه؛ وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميته. ولهذا يجد المنتشي من الفرح ؛ السرور ما لا يعبر عنه؛ وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية إلي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه، فيتفشى الروح وتجيء طبيعة الفرح. وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك، حدث لهم فرح، وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشىء عن السرور. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولي الحر على أمزجتهم، وفي اصل تكوينهم، كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم؛ فتكور أرواحهم بالقياس إلي أرواح أهل الإقليم الرابع اشد حراً فتكون أكثر تفشياً، فتكون أسرع فرحاً وسروراً وأكثر انبساطاً، ويجيء الطيش على أثر هذه؛ وكذلك يلحق بهم قليلاً أهل البلاد البحرية، لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة. وقد نجد يسيرا من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي
هوائها،لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول.واعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر، فإنها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها، كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب؛ حتى إنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة مآكلهم من أسواقهم. ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن وكيف افرطوا في نظر العواقب، حتى إن الرجل منهم ليذخر قوت سنتين من حبوب الحنطة، ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره، وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء. والله الخلاق العليم.
وقد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان وطيشهم وكثرة الطرب فيهم، وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من انه نقل عن جالينوس ويعقوب بن اسحق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم، وما نشأ عنه من ضعف عقولهم. وهذا كلام لا محصل له ولا برهان فيه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم إعلم أن هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد بها الخصب ولا كل سكانها في رغد من العيش؛ بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش، من الحبوب والأدم والحنطة والفواكه لزكاء المنابت واعتدال الطينة ووفور العمران؛ وفيها الأرض الحرة التي لا تنبت زرعاً ولا عشباً بالجملة، فسكانها في شظف من العيش: مثل
أهل الحجاز وجنوب اليمن ومثل الملثمين من صنهاجة الساكنين بصحراء المغرب وأطراف الرمال فيما بين البربر والسودان، فإن هؤلاء يفقدون الحبوب والأدم جملة، وإنما أغذيتهم وأقواتهم الألبان واللحوم؛ ومثل العرب أيضاً الجائلين في القفار، فإنهم وإن كانوا يأخذون الحبوب والأدم من التلول إلا أن ذلك في الأحايين وتحت ربقة من حاميتها، وعلى الإقلال لقلة وجدهم، فلا يتوصلون منه إلى سد الخلة أو دونها فضلا عن الرغد والخصب، وتجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان وتعوضهم من الحنطة أحسن معاض. وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأدم من أهلى القفار احسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش: فألوانهم أصفى؛ وأبدانهم أنقى؛ وأشكالهم أتم وأحسن؛ وأخلاقهم أبعد من الانحراف؛ وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات. هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم. فكثير ما بين العرب والبربر فيما وصفناه؛ وبين الملثمين وأهل التلول. يعرف ذلك من خبره. والسبب في ذلك والله أعلم أن كثرة الأغذية وكثرة الأخلاط الفاسدة العفنة ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة تنشأعنها بعد أقطارها في غير نسبة، ويتبع ذلك انكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة اللحم كما قلناه، وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار بما يصعد إلى الدماغ من أبخرتها الرديئة، فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال بالجملة. واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بوناً بعيداً في صفاء أديمها؛ وحسن رونقها وأشكالها؛ وتناسب أعضائها وحدة مداركها. فالغزال أخو المعز والزرافة أخو البعير والحمار والبقر أخو الحمار والبقر؛ والبون بينها ما رأيت. وما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره؛ والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء. واعتبر ذلك فم الآدميين أيضاً: فإنا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع والضرع والأدم والفواكه يتصف أهلها غالبا بالبلادة في أذهانهم والخشونة في أجسامهم. وهذا شان البربر المنغمسين في الأدم والحنطة، مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة، مثل المصامدة منهم وأهل غمارة والسوس؛ فتجد هؤلاء أحسن حالا في عقولهم وجسومهم. وكذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسون في الأدم والبر مع أهل الأندلس المفقود بأرضهم السمن جملة، وغالب عيشهم الذرة؛ فتجد لأهل الأندلس من ذكاء العقول وخفة الأجسام وقبول التعليم ما لا يوجد لغيرهم. وكذا أهل الضواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر والأمصار. فإن أهل الأمصار وإن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش، إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ والتلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها ويرق قوامها؛ وعامة مآكلهم لحوم الضان والدجاج، ولا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته؛ فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم ويخف ما تؤذيه إلي أجسامهم من الفضلات الرديئة. فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار الطف من جسوم أهل البادية المخشنين في العيش. وكذلك تجذ المعودين بالجوع من أهل البادية لا فضلات في جسومهم غليظة ولا لطيفة.واعلم أن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتى في حال الدين والعبادة؛فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع والتجافي عن الملاذ أحسن ديناً وإقبالاً العبادة من أهل الترف والخصب. بل نجد أهل الدين قليلين في المدن والأمصار لما يعمها من القساوة والغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان والأدم ولباب البر. ويختص وجود العباد والزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي. وكذلك نجذ حال أهل المدينة الواحدة في ذلك مختلفا باختلاف حالها في الترف والخصب. وكذلك نجذ هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته من أهل البادية وأهل الحواضر والأمصار، إذا نزلت بهم السنون وأخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك اكثر من غيرهم، مثل برابرة المغرب وأهل مدينة فاس ومصر فيما يبلغنا، لا مثل العرب أهل القفر والصحراء، ولا مثل أهل بلاد النخل الذين غالب عيشهم التمر، ولا مثل أهل أفريقية لهذا العهد الذين غالب عيشهم الشعير والزيت، وأهل الأندلس الذين غالب عيشهم الذرة والزيت؛ فإن هؤلاء وإن أخذتهم السنون والمجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك ولا يكثر فيهم الهلاك بالجوع بل ولا يندر. والسبب في ذلك والله اعلم أن المنغمسين في الخصب، المتعودين للأدم والسمن خصوصا، تكتسب من ذلك أمعاؤهم رطوبة فوق رطوبتها الأصلية المزاجية حتى تجاوز حدها؛ فإذا خولف بها العادة بقلة قوات وفقدان الأدم واستعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعا اليبس والانكماش، وهو عضو ضعيف في الغاية، فيسرع إليه المرض ويهلك صاحبه دفعة لأنه من المقاتل. فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق. وأما المتعودون للعيمة وترك الأدم والسمن فلا تزال رطوبتهم الأصلية واقفة عند حدها من غير زيادة، وهي قابلة لجميع الأغذية الطبيعية، فلا يقع في معاهم بتبدل الأغذية يبس ولا انحراف، فيسلمون في الغالب من الهلاك الذي يعرض لغيرهم بالخصب وكثرة الأدم في المآكل وأصل هذا كله أن تعلم أن الأغذية وائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة. فمن عود نفسه غذاء ولاءمه تناوله كان له مألوفا وصار الخروج عنه والتبدل به داء، ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسموم واليتوع وما أفرط في الانحراف. فأما ما وجد فيه التغذي والملاءمة فيصير غذاء مألوفاً بالعادة. فإذا أخذ الإنسان نفسه باستعمال اللبن والبقل عوضا عن الحنطة حتى صار له ديدنا فقد حصل له ذلك غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك ، وكذا من عود نفسه الصبر على الجوع والاستغناء عن الطعام كما ينقل عن أهل الرياضات؛ فإنا نسمع عنهم في ذلك أخباراً غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها. والسبب في ذلك العادة؛ فإن النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها وطبيعتها لأنها كثيرة التلون؛ فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج والرياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعية لها. وما يتوهمه الأطباء من أن الجوع مهلك فليس على ما يتوهمونه إلا إذا حملت النفس عليه دفعة، وقطع عنها الغذاء بالكلية، فإنه حينئذ ينحسم المعاء ويناله المرض الذي يخشى معه الهلاك. وأما إذا كان ذلك القدر تدريجا ورياضة بإقلال الغذاء شيئاً فشيئاً، كما يفعله المتصوفة، فهو بمعزل عن الهلاك. وهذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة. فإنه إذا رجع به إلى الغذاء الأول دفعة خيف عليه الهلاك، وإنما يرجع به كما بدأ في الرياضة بالتدريج. ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوماً وصالاً وأكثر. وحضر أشياخنا بمجلس السلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين، وشاع أمرهما ووقع اختبارهما فصح شأنهما، واتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتتا. ورأينا كثيرا من أصحابنا أيضا من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النهار أو عند الإفطار، ويكون ذلك غذاءه، واستدام على ذلك خمس عشرة سنة وغيرهم كثير؛ ولا يستنكر ذلك.واعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكل وجه، لمن قدر عليه أو إلى الإقلال منها، وأن له أثًراً في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها كما قلناه؛ واعتبر ذلك بآثار الأغذية التي تحصل عنها في الجسوم. فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك. وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة. وكذا المتغذون بألبان الإبل ولحومها أيضاً، مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل، وتنشأ أمعاؤهم أيضا على نسبة أمعاء الإبل في الصحة والغلظ، فلا يطرقها الوهن ولا الضعف، ولا ينالها من مضار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة، كالحنظل قبل طبخه والدرياس والقربيون، ولا ينال أمعاءهم منها ضرر. وهي لو تناولها أهل الحضر الرقيقة أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من .طرفة العين؛ لما فيها من السمية. ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة وشاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الإبل واتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون. وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجئ دجاجها في غاية العظم. وأمثال ذلك كثير؛ فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شك أن للجوع أيضاً آثاراً في الأبدان؛ لان الضدين على نسبة واحدة في التأثير وعدمه؛ فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم. والله محيط بعلمه.
المقدمة السادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً فضلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده، يعرفونهم بمصالحهم، ويحرضونهم على هدايتهم، ويأخذون بحجزاتهم عن النار، ويدلونهم على طريق النجاة. وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم، ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم. قال : <<ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني الله >>. وأعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق، لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبؤة.وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء؛ وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية. ثم يتنزل إلى المدارك البشرية: إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه؛ أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله. ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما القي إليه. قال ، وقد سئل عن الوحي: <<أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال؛ وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فاعي ما يقول >>. ويدركه أثناء ذلك من
الشدة والغط ما لا يعبر عنه. ففي الحديث: <<كان مما يعالج من التنزيل شدة>>. وقالت عائشة: "كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا". وقال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]. ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون: له رئي أو تابع من الجن. وإنما ليس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33].ومن علاماتهم أيضاً انه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع. وهذا هو معنى العصمة. وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها؛ وكأنها منافية لجبلته. وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة، فجعلها في إزاره، فانكشف، فسقط مغشيا عليه حتى استتر بإزاره؛ ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من شأنهم؛ بل نزهه الله عن ذلك كله؛ حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة. فقد كان لا يقرب البصل والثوم، فقيل له في ذلك فقال: <<إني أناجي من لا تناجون >>.وانظر لما أخبر النبي خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره، فقالت: <<إجعلني بينك وبين ثوبك >>؛ فلما فعل ذلك ذهب عنه؛ فقالت: <<إنه ملك وليس بشيطان >>؛ ومعناه انه لا يقرب النساء. وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها، فقال البياض والخضرة، فقالت إنه الملك؛ يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة، والسواد من ألوان الشر الشياطين وأمثال ذلك.ومن علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف. وقد استدلت خديجة على صدقه بذلك، وكذلك أبو بكر، ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه. وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش، وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله، فكان
فيما سأل أن قال: بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه، فقال: "إن يكن ما تقول حقا فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين ". والعفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة. فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلا على صحة نبؤته، ولم يحتج إلى معجزة. فدل على أن ذلك من علامات النبؤة.ومن علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب في قومهم. وفي الصحيح: ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ؛ وفي رواية أخرى "في ثروة من قومه "؛ استدركه الحاكم على الصحيحين وفي مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال: "كيف هو فيكم؛ "؛ قال أبو سفيان: "هو فينا ذو حسب "؛ فقال هرقل: "والرسل تبعث في أحساب قومها". ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته.ومن علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم؛ وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة، وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم. وللناس في كيفية وقوعها ودلالتها على تصديق الأنبياء خلاف.فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنها واقعة بقدرة الله لا بفعل النبي، وإن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم. وليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بإذن الله؛ وهو أن يستدل بها النبي قبل وقوعها على صدقه في مدعاه. فإذا وقعت تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق، وتكون دلالتها حينئذ على الصدق قطعية. فالمعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي؛ ولذلك كان التحدي جزءا منها. وعبارة المتكلمين "صفة نفسها" وهو واحد، لأنه معنى الذاتي عندهم.والتحدي هو الفارق بينها وبين الكرامة والسحر، إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق،فلا وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقاً. وإن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها وكانت لها دلالة فإنما هي على الولاية وهي غير النبؤة. ومن هنا منع الأستاذ أبو إسحق وغيره وقوع الخوارق كرامة فراراً من الالتباس بالنبؤة عند التحدي بالولاية. وقد أريناك المغايرة بينهما وأنه يتحدى بغير ما يتحدى به النبي، فلا لبس، على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً؛ وربما حمل على إنكار أن تقع خوارق الأنبياء لهم بناء على اختصاص كل من الفريقين بخوارقه.وأما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من أفعال العباد، وأفعالهم معتادة، فلا فرق.وأما وقوعها على يد الكاذب تلبيسا فهو محال. أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق والهداية، فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهة، والهداية ضلالة، والتصديق كذباً، واستحالت الحقائق، وانقلبت صفات النفس؛ وما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكناً. وأما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة والهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله.وأما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي، ولو كان في غير محل القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي ووقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف على الأسباب؛ والشروط الحادثة مستندة أخيراً إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار؛ وإن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية، منها صدور هذه الخوارق بقدرته وطاعة العناصر له في التكوين. والنبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها واستجمع لها بما جعل الله له من ذلك. والخارق عندهم يقع للنبي سواء أكان للتحدي أو لم يكن؛ وهو شاهد بصدقه من حيث دلالته على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق. فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعية كما هي عند المتكلمين؛ ولا يكون التحدي جزءاً من المعجزة؛ ولم يصح فارقاً لها عن السحر والكرامة. وفارقها عندهم عن السحر أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه؛ والساحر على الضد فأفعاله كفها شر، وفي مقاصد الشر. وفارقها عن الكرامة ان خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء، والنفوذ في الأجسام الكثيفة، وإحياء الموتى، وتكليم الملائكة والطيران في الهواء؛ وخوارق الولي دون ذلك كتكثير القليل والحديث عن بعض المستقبل وأمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء. ويأتي النبي بجميع خوارقه، ولا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء. وقد قرر ذلك المتصوفة فيما كتبوه في طريقتهم ولقنوه عمن أخبرهم.وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد . فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي ويأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه؛ والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز؛ فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي؛ فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه. وهذا معنى قوله: <<ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي إلي. فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة>>؛ يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق المؤمن وهو التاج والأمة.
ولنذكر الآن تفسير حقيقة النبوة علي ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شأن العرافين وغير ذلك من مدارك المغيب فنقول: إعلم أرشدنا الله وإياك، أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والأحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال الأكوان بالأكوان ، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته. وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني. وأوّلاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدر صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً وهابطاً، ويستحيل بعض الأوقات . والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك وهو ألطف من الكل على طبقات اتّصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط؛ وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها، وما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها. ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش، وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللّمس فقط. ومعني الاتصال. في هذه المكونات أن آخر أفق منها
مستعد بالاستعداد الغريب لان يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك،ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل؛ وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا.ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعة: ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر؛ وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك، تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام. فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في وجودها؛ وذلك هو النفس المدركة والمحركة. ولا بد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك والحركة، ويتصل بها أيضا، ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضاً، وهو عالم الملائكة. فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات؛ وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل كما نذكره بعد، ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها، شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه. فلها في الاتصال جهتا العلو والسفل: فهي متصلة بالبدن من أسفل منها ومكتسبة به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل؛ ومتصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية، فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان. وهذا ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتّصال ذواته وقواه بعضها ببعض.ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان وآثارها ظاهرة في البدن؛ فكأنه وجميع أجزائه مجتمعة ومفترقة آلات للنفس ولقواها، أما الفاعلية فالبطش باليد والمشي بالرجل والكلام باللسان والحركة الكلية بالبدن متدافعاً. وأما المدركة وإن كانت قوى الإدراك مرتبة ومرتقية إلى القوة العليا منها ومن المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة؛ فقوى الحسّ الظاهرة بآلاته من السمع والبصر وسائرها يرتقي إلى الباطن، وأوله الحسّ المشترك؛ وهو قوة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة؛ وبذلك فارقت قوة الحسّ الظاهر؛ لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد. ثم يؤديه الحسّ المشترك إلى الخيال، وهي قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط. وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ: مقدمة للأولى، ومؤخرة للثانية. ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة والحافظة. فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد وصداقة عمرو ورحمة الأب وافتراس الذئب. والحافظة لإيداع المدركات كلّها متخيلة وغير متخيلة؛ وهي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها. وآلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ: أوله للأولى، ومؤخره للأخرى. ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر. وآلته البطن الأوسط من الدماغ، وهي القوة التي يقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقل؛ فتحرك النفس بها دائما لما ركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة والاستعداد الذي للبشرية، وتخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهة بالملإ الأعلى الروحاني. وتصير في أول مراتب الروحانيات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية. فهي متحركة دائماً ومتوجهة نحو ذلك. وقد تنسلخ بالكلية من البشرية وروحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب، بل بما جعل الله فيها من الجبلة والفطرة الأولى في ذلك.
أصناف النفوس البشرية: والنفوس البشرية على ثلاثة أصناف:صنفٌ عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني، فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية، وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة، وترتيب خاص يستفيدون به العلوم التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن؛ وكلها خيالي منحصر نطاقه؛ إذ
هو من جهة مبدئه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها، وإن فسد فسد ما بعدها. وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني. وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم. وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك؛ فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأوّل البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية، وهي وجدان كلها لا نطاق لها من مبدئها ولا من منتهاها. وهذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم اللدنية والمعارف الربانية، وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ. الوحي وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلي، ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل، ويحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة.وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، وهي حالة الوحي، فطرة فطرهم الله عليها وجبلة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبة في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها. فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة.فلذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه، وعاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد. فتارة يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي القي إليه، فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه. وتارة يتمثل له الملك- الذي يلقي إليه- رجلاً فيكلمه ويعي ما يقوله. والتلقي من الملك، والرجوع إلى المدارك البشرية، وفهمه
ما القي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر، لأنه ليس في زمان، بل كفها تقع جميعا فيظهر كأنها سريعة، ولذلك سميت وحياً؛ لأن الوحي في اللغة الإسراع.واعلم أن الأولى وهي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه؛والثانية وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين؛ ولذلك كانت أكمل من الأولى. وهذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي الوحي لما سأله الحارث بن هشام، وقال وكيف يأتيك الوحي؛ فقال: <<أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال؛ وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول >>. وإنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتّصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع وصعب ما سواه. وعندما يتكرر الوحي ويكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية، يأتي على جميعها وخصوصاً الأوضح منها وهو إدراك البصر. وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة؛ وهي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي، فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام، وأخبر أن الفهم والوعي يتبعه غب انقضائه، فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي، المطابق للانقضاء والانقطاع ومثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب ويتكلم، والكلام يساوقه الوعي، فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد.واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة، وشدّة قد أشار إليها القرآن؛قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [سورة…الآية….] وقالت عائشة: "كان مما يعاني من التنزيل شدة"؛ وقالت: كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً". ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط
ما هو معروف. وسبب ذلك أن الوحي كما قررناه مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس، فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر. وهذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدأ الوحي في قوله: <<فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء ، وكذا ثانية وثالثة>> كما في الحديث. وقد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله. ولذلك كان تنزل نجوم القرآن وسوره وآيه حين كان بمكة أقصر منها وهو بالمدينة. وانظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك، وأنها نزلت كلها أو أكثرها عليه وهو يسير على ناقته؛ بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت، وينزل الباقي في حين آخر. وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين وهي ما هي في الطول؛ بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن والذاريات والمدثر والضحى والفلق وأمثالها. واعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي والمدني من السور والآيات. والله المرشد للصواب. هذا محصل أمر النبوة. الكهانة: وأما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية. وذلك أنه وقد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها، وأنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك، وتقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا في التصورات، ولا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركة ولا بأمر من الأمور، إنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر.وإذا كان كذلك، وكان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية، فيعطي التقسيم العقلي، وأن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه، وشتان ما بينهما
فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه بالجبلة، فيكون لها بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة، كالأجسام الشفافة وعظام الحيوانات وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان، فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له. وهذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة. ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات. ولذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات، فتنفذ فيها نفوذاً تاماً في نوم أو يقظة وتكون عندها حاضرة عتيدة تحضرها المخيلة وتكون لها كالمرآة تنظر فيها دائماً. ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان. وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص، فيهجس في قلبه عن تلك الحركة، والذي يشيعها من ذلك الأجنبي، ما يقذفه على لسانه؛ فربما صدق ووافق الحق، وربما كذب، لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة ومباين لها غير ملائم، فيعرض له الصدق والكذب جميعاً ولا يكون موثوقاً به. وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصاً على الظفر بالإدراك بزعمه، وتمويهاً على السائلين. وأصحاب هذا السجع هم المخصصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر أصنافهم. وقد قال في مثله: <<هذا لمن سجع الكهان >>. فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة. وقد قال لابن صياد حين سأله كاشفاً عن حاله بالأخبار: كيف يأتيك الأمر؟ قال:<< يأتيني صادقاً وكاذباً>> فقال: <<خلط عليك الأمر>> يعني أن النبؤة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي والكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه، والتبست بالإدراك الذي توجه إليه، فصار مختلطاً بها، وطرقه الكذب من هذه الجهة، فامتنع أن تكون نبوة. وإنما قلنا إن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخف من سائر المغيبات من المرئيات والمسموعات. وتدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتّصال والإدراك، والبعد فيه عن العجز بعض الشيء وقد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبؤة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة، وان ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن؛ والكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين؛ فبطلت الكهانة من يومئذ.ولا يقوم من ذلك دليل؛ لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضاً كما قررناه. وأيضا فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة، ولم يمنعوا مما سوى ذلك. وأيضاً فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط، ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه، وهذا هو الظاهر؛ لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة، كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس؛ لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور ويذهب.
وقد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبوة، ثم تنقطع؛ وهكذا مع كل نبؤة وقعت، لأن وجود النبؤة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه، وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النبؤة التي دل عليها، ونقض ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة، وهو معنى الكاهن على ما قررناه. فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص، ويقتضي وجود الكاهن إما واحداً أو متعدداً. فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله، وانقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة، فلا يوجد منها شيء بعد. وهذا بناءً على أنّ بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره؛ وهو غير مسلم. فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخاصة، ولو نقص بعض أجزائها فلا يقضي شيئاً، لا إنه يقتضي ذلك الأثر
ناقصاً كما قالوه.ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته، لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبؤة كما لكل إنسان من أمر اليوم ومعقولية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم. ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبؤة لهم، فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ، وكذا وقع لابن صياد ولمسيلمة وغيرهم. فإذا غلب الإيمان وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان؛ كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب؛ وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان. ا لرؤيا: وأما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات. فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها. وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية. وقد يقع لها ذلك لمحةً بسبب النوم كما نذكر، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلطه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير وقد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال. والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة، مستكملة بالبدن ومداركه؛ حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً ويكمل وجودها بالفعل؛ فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية. إلا أن نوعها في الروحانيات دون نوع
الملائكة أهل الأفق الأعلى الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره. فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن: ومنه خاص كالذي للأولياء؛ ومنه عام للبشر على العموم؛ وهو أمر الرؤيا.وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي؛ وهو عندما يعرج على المدارك البدنية ويقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير. فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وفي رواية ثلاثة وأربعين، وفي رواية سبعين. وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب؛ بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه وهو للتكثير عند العرب. وما ذهب إليه بعضهم في رواية ستة وأربعين من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر وهي نصف سنة، ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين، فكلام بعيد من التحقيق. لأنه إنما وقع ذلك للنبي ، ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء؛ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أوّلاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم؛ إذ هو الاستعداد البعيد وإن كان عاما في البشر ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة. ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق، فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر
بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من المبشرات، فقال:<< لم يبق من النبؤة إلا المبشرات؛ قالوا وما المبشرات يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له>>وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك، وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني، وهو بخار لطيف مركزه بالتجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره. وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة وسائر الأفعال البدنية. ويرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده، وتتم أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري، وهي متعلقة به لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف؛ ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية، صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته. وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين: إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس، وإدراك بالباطن بالقوى الدماغية. وان هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية، كانت معرضة للوسن والفشل بما يدركها من التعب والكلال، وتغشى الروح بكثرة التصرف. فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها، ورجوعه إلى الحمق الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن، وتذهب من ظاهره إلى باطنه، فتكون مشيعة مركبها، وهو الروح الحيواني إلى الباطن. ولذلك كان النوم للبشر في الغالب أنما هو بالليل. فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ورجع إلى القوى الباطنة، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة، تمثل منها بالتركيب والتحليل صور خيالية، وأكثر ما تكون معتادة، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا. ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة؛ فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة. وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية مع منازعتها القوى الباطنية، فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ. ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة. والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. وفي الصحيح أن النبي وسلم قال: <<الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله؛ ورؤيا من الملك؛ ورؤيا من الشيطان >>. وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه: فالجلي من الله؛ والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك؛ وأضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كفها باطل والشيطان ينبوع الباطل. هذه حقيقة الرؤيا وما يسببها ويشيعها من النوم وهي خواصر للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم، بل كل واحد من الإنسانى رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة، وحصل له على القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم، ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال؛ لأن الذات المدركة واحدة، وخواصها عامة في كل حال. والله الهادي إلى الحق بمنه وفضله
الإخبار بالمغيبات: ووقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه؛ وإنما تكون النفس متشوفة لذلك الشيء فيقع لها بتلك اللمحة في النوم لا أنها تقصد إلى ذلك فتراه. وقد وقع في كتاب الغاية وغيره من كتب أهل الرياضات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه، ويسمونها الحالومية. وذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها "حالومة الطباع التام "، وهو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر وصحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية وهي
"تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس " ويذكر حاجته، فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم.وحكي أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره، فتمثل له شخص يقول له أنا طباعك التام، فسأله واخبره عما كان يتشوف إليه. وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة وأطلعت بها على أمور كنت أتشوف إليها من أحوالي. وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها؛ وإنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا؛ فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب ولا يكون دليلا على إيقاع المستعد له. فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء؛ فاعلم ذلك وتديره فيما تجد من أمثاله. والله الخبير.
فصل: ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها، بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة، ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا غيرها؛ إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها؛ وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزجر في الطير والسباع، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى، وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها ولا إنكارها. وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها. وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب. وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة.ونحن الآن نتكلم على هذه الإدراكات كلها، ونبتدىء منها بالكهانة، ثم نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها. ونقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الإنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها. وذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة من بين سائر الروحانيات كما ذكرناه قبل؛ وإنما تخرج من القوة إلى الفعل
بالبدن وأحواله. وهذا أمر مدرك لكل أحد. وكل ما بالقوة فله مادة وصورة. وصورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك والتعقل. فهي توجد أوّلاً بالقوة مستعدة للإدراك وقبول الصور الكلية والجزئية. ثم يتم نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها، وما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور، مرة بعد أخرى، حتى يحصل لها الإدراك والتعقل بالفعل، فتتم ذاتها، وتبقى النفس كالهيولى، والصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة. ولذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف ولا بغيرهما. وذلك لأن صورتها التي هي عين ذاتها وهو الإدراك والتعقل لم يتم بعد، بل لم يتم لها انتزاع الكليات. ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك: إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية، وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وبشواغلها، لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أوّلاً من الإدراك الجسماني. وربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن، فيرتفع حجاب البدن لحظة: إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم، أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطرق، أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية. فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملإ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود كما قررناه قبل. وتلك الذوات روحانية وهي إدراك محض وعقول بالفعل، وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مر. فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علوماً. وربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة، ثم يراجع الحسّ بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه: فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها، وأهل الطرق بالحصى والنوى فكلهم من قبيل الكفان، إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم، لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحسّ إلى كثير معاناة؛ وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كفها في نوع واحد منها، وأشرفها البصر، فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه. وربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك. بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر، ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنه غمام يتمثل فيه صور هي مداركهم، فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات، فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه. وأما المرآة وما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال، وإنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك، وهو نفساني ليس من إدراك البصر، بل يتشكل به المدرك النفساني للحسّ كما هو معروف. ومثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها، وللناظرين في الماء والطساس وأمثال ذلك. وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد، ثم يخبر كما أدرك؛ ويزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة. وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين. والعالم أبو الغرائب.وأما الزجر وهو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائراً، حيوان، والفكر فيه بعد مغيبه، وهي قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع. وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية؛ فيبعثها في البحث مستعينا بما رآه أو سمعه؛ فيؤديه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوة المتخيلة في النوم وعند ركود الحواس إذ تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته وتجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرؤيا. وأما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن، لفساد أمزجتهم غالبا وضعف الروح الحيواني فيها، فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواس ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه؛ وربما زاحمها على
التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها، فيكون عنه التخبط. فإذ أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه، غاب عن حسه جملة، فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصور وصرفها الخيال. وربما نطق على لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق.وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل؛ لأنه لا يحصل لهم الاتصال وإن فقدوا الحسّ إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه. ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك. وأما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتصال، فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه، ويأخذون فيه بالظن والتخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادئ ذلك الاتصال والإدراك، ويدعون بذلك معرفة الغيب، وليس منه على الحقيقة.هذا تحصيل هذه الأمور. وقد تكلم عليها المسعودي في (مروج الذهب)، فما صادف تحقيقاً ولا إصابة. ويظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف، فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله.وهذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر. فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم. وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك. واشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار، وسطيح بن مازن بن غسان، وكان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة. ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن مضر، وما أخبراه به من ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم، وظهور النبوة المحمدية في قريش، ورؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النبوة وخراب ملك فارس. وهذه كلها مشهورة وكذلك العرافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم، قال:
- فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيـب
وقال الآخر:
- جعلت لعراف اليمامة حكمه وعراف نجد إن هما شفياني
- فقالا شفاك الله والله مالنا بما حملت منك الضلوع يدان
وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة؛ وعراف نجد الأبلق الأسدي.ومن هذه المدارك الغبية، ما يصدر لبعض الناس، عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه، بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد ولا يقع ذلك إلا في مبادئ النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختيار في الكلام؛ فيتكلم كأنه مجبور على النطق؛ وغايته أن يسمعه ويفهمه. وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنهم قتلوا من سجونهم أشخاصاً ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك، أن آدميا إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يوما يغذى بالتين والجوز حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق وشؤون رأسه؛ فيخرج من ذلك الدهن؛ فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شي يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة. وهذا فعل من مناكير أفعال السحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة؛ فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية، ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس، ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها. ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع. ومن المعلوم على القطع انه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلّعت النفس على ذاتها وعالمها. فيحاولون ذلك بالاكتساب، ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده، وتطلع النفس على المغيبات. ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم. وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً وشمالاً خصوصاً بلاد الهند. ويسمون هنالك الحوكية ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة، والأخبار عنهم في ذلك غريبة وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعرية عن هذه المقاصد المذمومة
وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتوحيد، ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر، فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة. لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله؛ وإذا عريت عن الذكر كانت شيطانية. وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض، ولا يكون مقصوداً من أول الأمر؛ لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله؛ وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب، وأخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك. قال بعضهم: "من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ". فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه. وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالغرض وغير مقصود لهم. وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به؛ وإنما يريد الله لذاته لا لغيره. وحصول ذلك لهم معروف. ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفاً، وما يقع لهم من التصرف كرامة؛ وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم. وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وأبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها. والمعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال: <<إن فيكم محدثين وإن منهم عمر>>. وقد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه: "يا سارية الجبل ". وهو سارية بن زنيم، كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات، وتورط مع المشركين في معترك وهم بالانهزام، وكان بقربه جبل يتجهز إليه، فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه: "يا سارية الجبل " وسمعه سارية وهو بمكانه، ورأى شخصه هنالك؛ والقصة معروفة. ووقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته
عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته، ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة. فقال في سياق كلامه: "وإنما هما أخواك وأختاك " فقالت: "إنما هي أسماء فمن الأخرى؛ " فقال: "إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية"، فكانت جارية. وقع في الموطأ في باب ما لا يجوز من النحل. ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصالحين وأهل الاقتداء. إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي؛ حتى إنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها. والله يرزقنا الهداية، ويرشدنا إلى الحق. فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء، وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق، مع أنهم غير مكلفين. ويقع لهم من الأخبار عن المغيبات عجائب؛ لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب. وربما ينكر الفقهاء انهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم؛ والولاية لا تحصل إلا بالعبادة، وهو غلط؛ فإن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها. وإذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه. وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين؛ وإنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف، وهي صفة خاصة للنفس، وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله وكأنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله
لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده. وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته؛ فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش؛ ولا استحالة في ذلك؛ ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف. وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم. ولك في تمييزهم علامات: منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة ما، لا يخلون عنها أصلاً من ذكر وعبادة، لكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف؛ والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلاً. ومنها انهم يخلقون على البله من أول نشأتهم، والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية، فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة. ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم؛ والمجانين لا تصرف لهم.وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه؛ والله المرشد للصواب.
فصل وقد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب، من دون غيبة عن الحسّ: فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك، وآثارها في العناصر، وما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتناظر، ويتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء. وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شي؛ إنما هي ظنون حدسية وتخمينات مبنية على التآثير النجومية وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس. ونحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله. وهو لوثبت فغايته حدس وتخمين وليس مما ذكرناه في شيء.ومن هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم. ومحصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالا ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجية والفردية واستوائها فيهما، فكانت ستة عشر
شكلاً؛ لأنها إن كانت أزواجا كلها أو أفرادا كلها فشكلان؛ وإن كان الفرد فيهما في مرتبة واحد؛ فقط فأربعة أشكال؛ وإن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال؛ وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال. جاءت ستة عشر شكلاً ميزوها كلها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس، شأن الكواكب، وجعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية بزعمهم، وكأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك والأوتاد الأربعة، وجعلوا لكل شكل منها بيتاً وخطوطاً ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به، واستنبطوا من ذلك فناً حاذوا به فن النجامة ونوع قضائه. إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما زعم بطليموس، وهذه إنما مستندها أوضاع تحكمية وأهواء اتفاقية، ولا دليل يقوم على شيء منها. ويزعمون أن أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم، وربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما، شأن الصنائع كلها. وربما يدعون مشروعيتها ويحتجون بقوله : <<كان نبي يخط، فمن وافق خطه فذاك >>. وليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه، لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك الخط، ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء، فمن وافق خطه ذلك النبي فهو ذاك، أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط. وأما إذا اخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا. وهذا معنى الحديث والله . فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع، ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراَ. ثم يطرحون النقط أزواجاً ويضعون ما بقي من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب، فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية؛ ثم يولدون منها أربعة أشكال أخرى من جانب العرض باعتبار كل مرتبة وما قابلها من الشكل الذي بإزائه؛ وما يجتمع منهما من زوج أو فرد، فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر؛ ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجتمع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها؛ ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها؛ ثم من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما؛ ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون آخر الستة عشر. ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة والنحوسة بالذات، والنظر والحلول والامتزاج والدلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكماً غريباً. وكثرت هذه الصناعة في العمران ووضعت فيها التآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدمين والمتأخرين، وهي كما رأيت تحكم وهوى. والتحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة ولا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع عن عالم الحسّ إلى عالم الروح. ولذلك يسمي المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب. فالخط وغيره من هذه إن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية وقصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها إشغال الحسّ لترجع النفس إلى عالم الروحانيات لحظة ما، فهو من باب الطرق بالحصى والنظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشفافة كما ذكرناه. وإن لم يكن كذلك، وإنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة وأنها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل. والله يهدي من يشاء. والعلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبى انهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب والتمالك ومبادىء الغيبة عن الحسّ، ويختلف ذلك بالقوة والضعف على اختلاف وجودها فيهم. فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنما هو ساع في تنفيق كذبه.
فصل ومنهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس الروحانية، ولا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس، ولا من الظن والتخمين الذي يحاول عليه العرافون؛ وإنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة. ولست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون وولع به الخواص. فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم وهو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو، يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك. وهو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى
الألف آحادا وعشرات ومئين وألوفا. فإذا حسبت الاسم وتحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك. ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة تسعة، واحفظ بقية هذا وبقية هذا. ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين: فإن كان العددان مختلفين في الكلية وكانا معا زوجين أو فردين معا فصاحب الأقل منهما هو الغالب؛ وإن كان أحدهما زوجاً والآخر فرداً فصاحب الأكثر هو الغالب؛ وإن كانا متساويين في الكمية وهما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب؛ وإن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب. ويقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس وهما:
- أرى الزوج والأفراد يسمو أقلهــا وأكثرها عند التخالف غالبــــــــ
- ويغلب مطلوب إذا الزوج يستوي وعند استواء الفرد يغلب طالب
ثم وضعوا لمعرفة ما بقي من الحروف بعد طرحها بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في طرح تسعة، وذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع وهي: (1) الدالة على الواحد و(ي) الدالة على العشرة وهي واحد في مرتبة العشرات و(ق) الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين و(ش) الدالة على الألف لأنها واحد في مرتبة الآلاف. وليس بعد الألف عدد يدل عليه بالحروف، لأن الشين هي آخر حروف أبجد. ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية وهي (ايقش). ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث وأسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد، فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف: وهي (ب) الدالة على اثنين في الآحاد و(ك) الدالة على اثنين في العشرات وهي عشرون و(ر) الدالة على اثنين في المئين وهي مائتان؛ وصيروها كلمة واحدة ثلاثية على نسق المراتب وهي (بكر). ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة
فنشأت عنها كلمة (جلس). وكذلك إلى آخر حروف أبجد. وصارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد (وهي: إيقش، بكر، جلس، دمت، هنث، وصخ، زعد، حفظ، طضغ). مرتبة على توالي الأعداد، ولكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته، فالواحد لكلمة ايقش؛والاثنان لكلمة بكر؛ والثلاثة لكلمة جلس؛ وكذلك إلى التاسعة التي هي طضغ، فتكون لها التسعة. فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات؛ واخذوا عددها مكانه، ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلا من حروف الاسم، فإن كانت زائدة على التسعة أخذوا ما فضل عنها، وإلا أخذوه كما هو، ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر وينظرون بين الخارجين بما قدمناه. والسر في هذا القانون بين. وذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد؛ فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة؛ فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين والعشرين والمائتين والألفين وكلها اثنان؛ وكذلك الثلاثة والثلاثون والثلثمائة والثلاثة الآلاف كلها ثلاثة ثلاثة. فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير؛ وجعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الآحاد والعشرات والمئين والألوف، وصار عدد الكلمة الموضوع عليها نائباً عن كل حرف فيها سواء د ل على الآحاد أو العشرات أو المئين؛ فيوجد عدد كل كلمة عوضاً عن الحروف التي فيها وتجمع كلها إلى آخرها كما قلناه. هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم وكان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه ومتوالية كتواليها، ويفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء؛ وهي هذه: ارب، يسقك، جزلط، مدوص، هف، تحذن، عش، خغ، ثضظ؛ تسع كلمات على توالي العدد، ولكل كلمة منها عددها الذي في مرتبته؛ فيها الثلاثي والرباعى والثنائي. وليست جارية على أصل مطرد كما تراه. لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء وأسرار الحروف والنجامة وهو أبو العباس بن البناء، ويقولون عنه إن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات أيقش. والله اعلم كيف ذلك.وهذه كلها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان ولا تحقيق. والكتاب الذي وجد فيه حساب النيم غير معزو إلى أرسطو عند المحققين لما فيه من الآراء البعيدة عن التحقيق والبرهان؛ يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ 1ه ومن هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة "بزايرجة العالم " المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب، كان في آخر المائة السادسة بمراكش ولعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين. وهي غريبة العمل صناعة. وكثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز؛ فيحرضون بذلك على حل رمزه وكشف غامضه. وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك والعناصر والمكونات والروحانيات وغير ذلك من أصناف الكائنات والعلوم. وكل دائرة مقسومة بأقسام فلكها: إما البروج وإما العناصر أو غيرهما. وخطوط كل قسم مارة إلى المركز ويسمونها الأوتار. وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة، فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب لهذا العهد، ومنها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة. وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان. وعلى ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولاً وعرضاً يشتمل على خمسة وخمسين بيتاً في العرض، ومائة وواحد وثلاثين في الطول، جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف، وجوانب خالية البيوت. ولا تعلم نسبة تلك الأعداد في أوضاعها ولا القسمة التي عينت البيوت العامرة من الخالية. وحافات الزايرجة أبيات من عروض الطويل على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة. إلا أنها من قبيل الألغاز في عدم الوضوح والجلاء. وفي بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب، وهو مالك بن وهيب من علماء أشبيلية كان في الدولة اللمتونية ونص البيت:
- سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
وهو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة وغيرها. فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال وقطعوه حروفاً، ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك ودرجها، وعمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أولي ماراً إلى المركز، ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع. فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى آخره، والأعداد المرسومة بينهما، ويصيرونها حروفاً بحساب الجمل. وقد ينقلون آحادها إلى العشرات وعشراتها إلى المئين وبالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم. ويضعونها مع حروف السؤال ويضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف والأعداد من أوله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط. ويفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول ويضيفونها إلى الحروف الأخرى. يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل وقانونه عندهم، وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم، ويضعونها ناحية؛ ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج. واسه عند هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب؛ فإنه عندهم البعد عن أول المراتب. ثم
يضربونه في عدد آخر يسمونه الأس الأكبر والدور الأصلي. ويدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة، وأعمال مذكورة؛ وأدوار معدودة. ويستخرجون منها حروفاً ويسقطون أخرى. ويقابلون معهم في حروف البيت وينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال، وما معها؛ يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار؛ ويخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنده الدور، يعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك؛ فيخرج آخرها حروف متقطعة وتؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل ورويه وهو بيت مالك بن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة.وقد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال ويحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع. وليس ذلك بصحيح؛ لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة؛ و المطابقة التي فيها بين الجواب والسؤال من حيث الأفهام والتوافق في الخطاب- يكون الجواب مستقيماً أو موافقاً للسؤال. ووقوع ذلك بهذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار. والدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة واستخراج الحروف من الجدول بذلك وطرح أخرى ومعاودة ذلك الأدوار المعدودة، ومقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي، غير مستنكر. وقد يقع الاطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول.فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس، وطريق لحصوله، ولا سيما من أهل الرياضة، فإنها تفيد العقل قوة على القياس وزيادة في الفكر. وقد مر تعليل ذلك غير مرة.ومن أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة؛ فهي منسوبة للسبتي. ولقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله. ولعمري إنها من الأعمال الغريبة والمعاناة العجيبة، والجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت. ولهذا يكون النظم على وزنه ورويه. ويدل عليه أنا وجدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوما كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه. وكثير من الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل ونفوذه إلى المطلوب، فينكر صحتها ويحسب أنها من التخيلات والإيهامات، وأن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال والأوتار، ويفعل تلك الصناعات على غير نسبة ولا قانون، ثم يجيء بالبيت ويوهم أن العمل جاء على طريقة منضبطة. وهذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه القصور من فهم التناسب بين الموجودات والمعدومات، والتفاوت بين المدارك والعقول. ولكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه. ويكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعة والحدس القطعي؛ فإنها جاءت بعمل مطرد وقانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء وحدس. وإذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه و خفائها ، فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه وغرابتها. فلنذكر مسئلة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا. مثاله: لو قيل لك خذ عددا من الدراهم واجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس؛ ثم اجمع الفلوس التي أخذت واشتر بها طائراً؛ ثم اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر؛ فكم الطيور المشتراة بالدراهم والفلوس؛ فجوابه أن تقول هي تسعة. لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة وعشرون؛ وأن الثلاثة ثمنها وأن عدة أثمان الواحد ثمانية، فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد، وتزيد على الثمانية طائراً آخر وهو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً، وعلى سعره اشتريت بالدراهم؛ فتكون تسعة فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسألة والوهم أول ما يلقي إليك هذه وأمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفته وظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها. وهذا إنما فوق الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم. وأما الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته. وإذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر وسر ذلك إنما هو من تناسب بينهما يطلع عليه بعض دون بعض. فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب بتلك القوانين. والجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه وتراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات وليس هذا من المقام الأول؛ بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج. ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه؛ وقد استأثره الله بعلمه {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
الباب الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه فصول وتمهيدات
الفصل الأول في أن أجيال البدو والحضر طبيعية إعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش؛فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضرورى منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي. فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة؛ ومنهم من
ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها. وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة، ولا بد، إلى البدو لأنه متسع لما لا يتسع له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان وغير ذلك. فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم؛ وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفء إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك.ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر. ثم تزيد أحوال الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها، والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها، فيتخذون القصور والمنازل، ويجرون فيها المياه ويعالون في صرحها، ويبالغون في تنجيدها، ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون، أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم. فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لا بد منهما كما قلناه.
الفصل الثاني في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير منجدة، إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه؛ وقد يأوون إلى الغيران والكهوف. وأما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار. فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن؛ وهؤلاء سكان المدر والقرى والجبال، وهم عامة البربر والأعاجم. ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم والبقر فهم ظغن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم؛ فالتقلب في الأرض أصلح بهم؛ ويسمون شاوية ومعناه القائمون على الشاء والبقر؛ ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة؛ وهؤلاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة. وأما من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً؛ لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلباً لماخض النتاج في رماله؛ إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً
ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفء فاضطروا إلى إبعاد النجعة. وربما زادتهم الحامية عن التلول أيضاً، فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم؛ فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم؛ وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق. إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط؛ وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معها. فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر وسابق عليه وأن البادية أصل العمران والأمصار مدد لهما قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم. ولا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه؛ لان الضروري أصل والكمالي فرغ ناشئ عنه. فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري، ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً. فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة، وأمكن نفسه إلى قياد المدينة. وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم. والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته.ومما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر
ومتقدم عليه، أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر وفي قراه، وانهم أيسروا فسكنوا المصر وعدلوا إلى الدعة والترف الذي في الحضر. وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وانها أصل لها، فتفهمه. ثم إن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه: فرب حي أعظم من حي، وقبيلة أعظم من قبيلة؛ ومصر أوسع من مصر، ومدينة أكثر عمراناً من مدينة. فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها؛ بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية، والله اعلم.
الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر؛ قال : <<كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه >>. وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه: فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه؛ وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضاً عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً وعملاً. وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في
الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها. فعوائدهم في معاملاتهم علي نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر اقل بكثير. فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها؛ فيسهل علاجهم عن علاج الحضر، وهو ظاهر. وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير. فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر. والله يحب المتقين.ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع وقد بلغه انه خرج إلى سكني البادية، فقالى له: "ارتددت على عقبيك؛ تعربت؛ " فقال: "لا، ولكن رسول الله أذن لي في البدو". فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه، ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية؛ لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الأعراب. وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة. وقال في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة: <<اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم >>؛ ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها، فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها، وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه. وقيل إن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين؛ وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ، لقوله <<لا هجرة بعد الفتح>> وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح. وقيل سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح. والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة. فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك؛ تعربت؛ نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدعاء المأثور الذي قدمناه، وهو قوله: <<ولا تردهم على أعقابهم >>. وقوله تعربت إشارة إلى انه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون. وأجاب سلمة بإنكار ما الزمه من الأمرين، وان النبي أذن له في البدو. ويكون ذلك خاصا به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة. ويكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكني بالمدينة فقط، لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة، وأجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي أولى وافضل؛ فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه. وعلى كل تقدير فليس دليلا على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب؛ لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي وحراسته، لا لمذمة البدو. فليس في النعي عليه ترك هذا الواجب بالتعرب دليل على مذمة التعرب. والله سبحانه أعلم وبه التوفيق.
الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد؛ فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة
النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم؛ حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم؛ قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أكل أنفسهم. وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشار السبل. وسبب ذلك ما شرحناه. وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبية ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة. واعتبر ذلك في الآدميين تجد كثيرا صحيحاً. والله يخلق ما يشاء.
الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه؛ إذ الرؤساء والأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم؛ فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، ولا بد فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة، لا يعاني منها حكم ولا منع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع، حتى صار لهم الإدلال جبلة لا يعرفون سواها.أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه. وقد نهى عمر سعدا رضي الله عنهما عن مثلها، لما أخذ زهرة بن جوبة سلب الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد وقال له: "هلا انتظرت في اتباعه إذني؛ " وكتب إلى عمر يستأذنه؛ فكتب إليه عمر: "تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به، وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه وتفسد قلبه " وأمضى له عمر سلبه.وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للباس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك. وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه علي المخافة والانقياد
فلا يكون مدلاً ببأسه. ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو اشد بأساً ممن تأخذه الأحكام. ونجد أيضاًالذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من باسهم كثيراً، ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة؛ فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس.ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة، ولم ينقص ذلك من بأسهم، بل كانوا أشد الناس بأساً،لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم، لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي؛ إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق. فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة، كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم. قال عمر رضي الله عنه: "من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله "، حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحدٍ من نفسه ويقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد.ولما تناقص الدين في الناس واخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم.فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للباس لأن الوازع فيها أجنبي؛وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. ولهذا كانت هذه الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم؛ والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب. ولهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين والمتعلمين: "إنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواطٍ "؛ نقله عن شريح القاضي واحتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط وأنه كان ثلاث مرات؛ وهو ضعيف، ولا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف. والله الحكيم الخبير.
الفصل السابع في أن سكني البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية إعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير والشر، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]. والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الاقتداء بالدين. وعلى ذلك الجم الغفير، إلا من وفقه الله. ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض. فمن امتدت عينة إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع كما قال:
- والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
فأما المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض، أو يعدو عليه؛ فإنهما مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم، إلا إذا كان من الحاكم بنفسه. وأما العدوان من الذي خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً، أو يدفعه ازدياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة. وأما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وفر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة. وأما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم. ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسبٍ واحدٍ؛ لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم؛ إذ نعرة كل أحدٍ على نسبه وعصبيته أهم؛ وما جعل الله في قلوب
عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر، وتعظم رهبة العدو لهم، واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السلام، حين قالوا لأبيه: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14]؛ والمعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحدٍ مع وجود العصبة له.وأما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه، فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة واستيحاشاً من التخاذل. فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذٍ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم.وإذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبين لك في كل أمم يحمل الناس عليه من نبؤةٍ أو إقامة ملك أو دعوةٍ؛ إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه، لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً؛ فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد. والله الموفق للصواب.
الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة. فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك: نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا. فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة؛ فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها. وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما
تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه، فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه. ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحدٍ على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب؛ وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها. ومن هذا تفهم معنى قوله : <<تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم >>؛ بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه، إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له؛ ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والالتحام. فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما قلناه. وإذا كان إنما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم وذهبت فائدته وصار الشغل به مجاناً، ومن أعمال اللهو المنهي عنه. ومن هذا الاعتبار معنى قولهم: النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر؛ بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس، وانتفت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلا منفعة فيه حينئذ. والله سبحانه وتعالى اعلم.
الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن، حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة؛ وهي لما كان معاشهم من القيام على الإبل ونتاجها ورعايتها، والإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره
ونتاجها في رماله كما تقدم، والقفر مكان الشظف والسغب؛ فصار لهم إلفاً وعادة وربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقاً وجبلة، فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال. بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله وأمكنه ذلك لما تركه؛ فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها، ولا تزال بينهم محفوظة. واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة؛ لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع، وبعدوا من أرياف الشام والعراق ومعادن الأدم والحبوب، كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيهم شوب. وأما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان وطىء وقضاعة وإياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم. ففي كل واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس ما تعرف. وإنما جاءهم ذلك من قبل العجم ومخالطتهم. وهم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم وشعوبهم؛ وإنما هذا للعرب فقط. قال عمر رضي الله تعالى عنه: "تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد، إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا". هذا إلى ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع الناس على البلد الطيب والمراعي الخصيبة؛ فكثر الاختلاط وتداخلت الأنساب. وقد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن، فيقال جند قنسرين، جند دمشق، جند العواصم، وانتقل ذلك إلى الأندلس؛ ولم يكن لاطراح العرب أمر النسب، وإنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها، وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم. ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت. ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها؛ وبقي ذلك في البدو كما كان. والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع إعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها، فيدعى بنسب هؤلاء ويعد منهم في ثمراته من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال. وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد؛ لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء ومن هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه، وكأنه التحم بهم. ثم إنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر. وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم. وانظر خلاف الناس في نسب آل المنذر وغيرهم يتبين لك شيء من ذلك. ومنه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه، وقالوا هو فينا لزيق، أي دخيل ولصيق، وطلبوا أن يولي عليهم جريراً. فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة: "صدقوا يا أمير المؤمنين، أنا رجل من الأزد أصبت دما في قومي ولحقت بهم ". وانظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى ترشح للرياسة عليهم، لولا علم بعضهم بوشائجه؛ ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي بالجملة وعد منهم بكل وجه ومذهب. فافهمه واعتبر سر الله في خليقته. ومثل هذا كثير لهذا العهد ولما قبله من العهود. والله الموفق للصواب بمنه وفضله وكرمه.
الفصل الحادي عشر
في أن الرئاسة لا تزال في نصابها المخصوص من أهل العصبية
إعلم أن كل حى أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم
أيضاً عصبيات أخرى لانساب خاصة هى أشد التحاماً من النسب العائم لهم، مثل عشيرٍ واحدٍ أو أهل بيتٍ واحدٍ أو إخوة بني أبٍ واحدٍ لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين. فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العائم. والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام، إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة. والرئاسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم ولا تكون في الكل. ولما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها. فإذا وجب ذلك تعين أن الرئاسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم؛ إذ لو خرجت عنهم وصارت في العصائب الأخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تمت لهم الرئاسة. فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع، ولا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه، لما قلناه من سر الغلب. لأن الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج في المتكون؛ والمزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر؛ فلا بد من غلبة أحدها وإلا لم يتم التكوين. فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية. ومنه تعين استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص بها كما قررناه.
الفصل الثاني عشر
في أن الرئاسة علي أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم
وذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه.فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدةً، أن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم اقروا بالإذعان والاتباع. والساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب، إنما هو ملصق لزيق، وغاية التعصب له بالولاء والحلف؛ وذلك لا يوجب له غلبا عليهم البتة، وإذا فرضنا انه قد التحم بهم واختلط وتنوسي عهده الأول من الالتصاق، ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم، فكيف له الرئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحدٍ من سلفه. والرئاسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعين له الغلب بالعصبية. فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك ومنعه ذلك الالتصاق من الرئاسة حينئذ؛ فكيف تنوقلت عنه، وهو على حال الإلصاق والرئاسة لا بد وأن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية. وقد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل والعصائب إلى أنسابٍ يلهجون بها، أما لخصوصية فضيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعةٍ أو كرم، أو ذكر كيف اتفق؛ فينزعون إلى ذلك النسب، ويتورطون بالدعوى في شعوبه؛ ولا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم والطعن في شرفهم. وهذا كثير في الناس لهذا العهد.فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب. ومنه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين من بني عامرٍ أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد
منهم، لحق جدهم ببني عامرٍ نجاراً يصنع الحرجان واختلط بهم والتحم بنسبهم حتى رأس عليهم، ويسمونه الحجازي.ومن ذلك ادعاء بني عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف وغلطاً باسم العباس بن عطية، أبي عبد القوي. ولم يعلم دخول أحدٍ من العباسيين إلى المغرب، لأنه كان منذ أول دولتهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة والعبيديين؛ فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين؟ وكذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس، ذهاباً إلي ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم، فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم، ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس. ولو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم، فكيف تتم له الرئاسة عليهم في باديتهم وإنما هو غلط من قبل اسم القاسم؛ فإنه كثير الوجود في الأدارسة، فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب؛ وهم غير محتاجين لذلك، فإن منالهم للملك والعزة إنما كان بعصبيتهم، ولم يكن بادعاء علوية ولا عباسية ولا شيء من الأنساب. وإنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم ومذاهبهم ويشتهر حتى يبعد عن الرد. ولقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤثل سلطانهم، انه لما قيل له ذلك أنكره، وقال بلغته الزناتية ما معناه: أما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب، وأما نفعه في الآخرة فمردود إلى الله. وأعرض عن التقرب إليه بذلك.ومن هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وبنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم والزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة؛ وكذا بنو مهنى أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم، وأمثال ذلك كثير؛ ورئاستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه؛ بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك
النسب وأقوى عصبياته. فاعتبره واجتنب المغالط فيه. ولا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية، فإن المهدي لم يكن من منبت الرئاسة في هرثمة قومه، وإنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم والدين، ودخول قبائل المصامدة في دعوته؛ وكان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم. والله عالم الغيب والشهادة. الفصل الثالث عشر في أن البيت والشرف بالاصالة والحقيقة لأهل العصبية ويكون لغيرهم بالمجاز والشبه وذلك أن الشرف والحسب إنما هو بالخلال؛ ومعنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافاً مذكورين، تكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلةّ في أهل جلدته، لما وقر في نفوسهم من تجلّة سلفه وشرفهم بخلالهم. والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن؛ قال : << الناسُ معادن: خيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا>>. فمعنى الحسب راجعٌ إلى الأنساب. وقد بيَّنا أن ثمرة الأنساب وفائدتها إنما هي العصبية للنعرة والتناصر؛ فحيث تكون العصبية مرهوبةً ومخشية والمنبت فيها زكيّ محميٌّ تكون فائدة النَّسب أوضح وثمرتها أقوى. وتعديد الأشراف من الآباء زائدٌ في فائدتها؛ فيكون الحسب والشرف أصليَّين في أهل العصبيّة لوجود ثمرة النسب. وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبيَّة؛ لأنه سرُّها. ولا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيت إلاَّ بالمجاز؛ وإن توهموه فزخرف من الدَّعاوى. وإذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار، وجدت معناه أن الرجل منهم يعدُّ سلفاً في خلال الخير ومخالطة أهله مع الركون إلى العافيَّة ما استطاع؛ وهذا مغاير لسر العصبيَّة التي هي ثمرة النَّسب وتعديد الآباء؛ ولكنه يطلق عليه حسب وبيت
بالمجاز، لعلاقة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير ومسالكه؛ وليس حسباً بالحقيقة وعلى الإطلاق؛ وإن ثبت أنه حقيقة فيهما بالوضع اللغويَّ فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى.وقد يكون للبيت شرف أوَّلّ بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم، ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم . من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء، لذهاب العصبيَّة جملةً. وكثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأوَّل عهدهم موسوسون بذلك. وأكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل. فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت:أوَّلا لما تعدَّد في سلفهم من الأنبياءِ والرسل من لدُنْ إبراهيم عليه السلام، إلى موسى صاحب ملتهم وشريعتهم؛ ثم بالعصبيَّة ثانياً وما آتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به. ثم انسلخوا من ذلك أجمع، وضربت عليهم الذَّلة والمسكنة، وكتب عليهم الجلاءُ في الأرض، وانفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين. وما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون: هذا هارونيٌّ؛ هذا من نسل يوشع؛ هذا من عقب كالب؛ هذا من سبط يهوذا؛ مع ذهاب العصبيَّة ورسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة. وكثير من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان. وقد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لمَّا ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلّم الأوَّل. "والحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة" ولم يتعرض لما ذكرناه. وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابةٌ يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه فكأنَّه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط. مع أن الخطابة إنَّما هي استمالة من تؤثَر استمالته وهم أهل الحلّ والعقد. وأما من لا قدرة له البتَّة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد ولا يستمال هو. وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة؛ إلاَّ أن ابن رشدٍ رَبَا في جبلٍ وبلدٍ لم يمارسوا العصبيَّة ولا أنسوا أحوالها؛ فبقي في
أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق، ولم يراجع فيه حقيقة العصبيّة وسرَّها في الخليقة. والله بكل شيء عليمٌ .
الفصل الرابع عشر في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم وذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة، والحقيقة إنما هو لأهل العصبية. فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي، والتحموا بهم كما قلناه، ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبتهم، وحصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها؛ كما قال : <<مولى القوم منهم >>؛ وسواء كان مولى رق أو مولى اصطناع وحلف، وليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية، إذ هي مباينة لذلك النسب، وعصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر، وفقدانه أهل عصبيتها، فيصير من هؤلاء ويندرج فيهم. فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت على نسبته في ولائهم واصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم، بل يكون أدون منهم على كل حال.وهذا شان الموالي في الدول والخدمة كلهم؛ فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في ولاء الدولة وخدمتها، وتعدد الآباء في ولايتها. ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس، وإلى بني برمك من قبلهم، وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة. فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً وشرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه، لا بالانتساب في الفرس. وكذا موالي كل
دولة وخدمها إنما يكون لهم البيت والحسب بالرسوخ في ولائها والأصالة في اصطناعها. ويضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها ويبقى ملغى لا عبرة به في أصالته ومجده. وإنما المعتبر نسبة ولائه واصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت والشرف؛ فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم، فلم ينفعه نسب ولادته؛ وإنما بنى مجده نسب الولاء في الدولة، ولحمة الاصطناع فيها، والتربية. وقد يكون نسبه الأول في لحمة عصبيته ودولته، فإذا ذهبت وصار ولاؤه واصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها. وانتفع بالثانية لوجودها. وهذا حال بني برمك، إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النار عندهم، ولما صاروا إلى ولاء بني العباس لم يكن بالأول اعتبار، وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم. وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا حقيقة له. والوجود شاهد بما قلناه. و{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [سورة…الآية…]. والله ورسوله أعلم.
الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة اباء إعلم أن العالم العنصريّ بما فيه كائن فاسد، لا من ذواته ولا من أحواله. فالمكونات من المعدن والنبات وجميع الحيوانات: الإنسان وغيره، كائنة فاسدة بالمعاينة. وكذلك ما يعرض لها من الأحوال، وخصوصاً الإنسانية. فالعلوم تنشأ ثم تدرس، وكذا الصنائع وأمثالها. والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين؛ فهو كائن فاسد لا محالة. وليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه، إلا ما كان من ذلك للنبي كرامة به وحياطة على السر فيه. وأول كل شرف خارجية كما قيل، وهي الخروج عن الرئاسة والشرف إلى الضعة
والابتذال وعدم الحسب، ومعناه أن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه، شأن كل محدث.ثم إن نهايته أربعة آباء، وذلك أن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هم أسباب كونه وبقائه. وابنه من بعده مباشر لأبيه، قد سمع منه ذلك وأخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له. ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد. ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا بخلال، لما يرى من التجلة بين الناس، ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها، ويتوهم أنه النسب فقط؛ فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم، وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم، والأخذ بمجامع قلوبهم. فيحتقرهم بذلك؛ فينغصون عليه، ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت، ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلناه، بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله. فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول، وينهدم بناء بيته. هذا في الملوك؛ وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع؛ ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19، 20].واشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم. وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس، إلا أنه في انحطاط وذهاب. واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بان؛ ومباشر له؛ ومقلد؛ وهادم. وهو اقل ما يمكن. وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء. قال : <<إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب+ بن إسحق بن إبراهيم >>، إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد. وفي التوراة ما معناه: أنا الله ربك طائق غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب والحسب.ومن كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة. قال: نعم؛ قال: بأي شيء؛ قال: من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل ذلك بكمال الرابع، فالبيت من قبيلته؛ وطلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري، وهم بيت قيس، وآل ذي الجدين بيت شيبان، وآل الأشعث بن قيس من كندة، وآل حاجب بن زرارة، وآل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم، فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم وأقعد لهم الحكام والعدول. فقام حذيفة بن بدر، ثم الاشعث بن قيس لقرابته من النعمان، ثم بسطام بن قيس بن شيبان، ثم حاجب بن زرارة، ثم قيس بن عاصم، وخطبوا ونثروا. فقال كسرى: كلهم سيد يصلح لموضعه. وكانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم، ومعهم بيت بني الذبيان من بني الحارث بن كعب اليمني. وهذا كله يدل على أن الأربعة الآباء نهاية في الحسب. والله أعلم.
الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدر علي التغلب ممن لما سواها
إعلم انه كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر، فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم؛ بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك
باختلاف الأعصار. فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم. واعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء والبقر الوحشية والحمر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين وأخصب عيشها، كيف يختلف حالها في الانتهاض والشدة حتى في مشيتها وحسن أديمها؛ وكذلك الآدمي المتوحش إذا أنس وألف. وسببه أن تكون السجايا والطبائع إنما هو عن المألوفات والعوائد. وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافآ في القوة والعصبية. وانظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير وكهلان السابقين إلى الملك والنعيم، ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق ونعيمه، لما بقي مضر في بداوتهم وتقدمهم الآخرون إلى خصب العيش وغضارة النعيم، كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب، فغلبوهم على ما في أيديهم وانتزعوه منهم. وهذا حال بني طيىء وبني عامر بن صعصعة وبني سليم بن منصور من بعدهم، لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مصر واليمن ولم يتلبسوا بشيء من دنياهم، كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم ولم تخلفها مذاهب الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم. وكذا كل حي من العرب يلي نعيماً وعيشاً خصباً دون الحي الآخر. فإن الحي المتبدي يكون أغلب له وأقدر عليه إذا تكافاّ في القوة والعدد. سنة الله في خلقه.
الفصل السابع عشر في ان الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك وذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه؛ وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض؛ فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية، وإلا لم تتم قدرته على ذلك. وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة؛لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس له عليهم قهر في أحكامه؛ وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر. وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها؛ فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس. ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً. فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت. ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها، تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى؛ وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }.[سورة البقرة الآية 251] ثم إذا حصل التغلب بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها. فإن كافاتها أو مانعتها كانوا أقتالاً وأنظاراً، ولكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها، شأن القبائل والأمم المفترقة في العالم. وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً، وزادتها قوة في التغلب
إلى قوتها، وطلبت غاية من التغلب والتحكم أعلى من الغاية الأولى وأبعد. وهكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة: فإن أدركت الدولة في هرمها ولم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها وانتزعت الأمر من يدها، وصار الملك أجمع لها؛ وإن انتهت إلى قوتها ولم يقارن ذلك هرم الدولة، وإنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها. وذلك ملك آخر دون الملك المستبد، وهو كما وقع للترك في دولة بني العباس، ولصنهاجة وزناتة مع كتامة، ولبني حمدان مه ملوك الشيعة من العلوية والعباسية.فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك، إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك. وإن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق كما نبينه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم، وضربت معهم في ذلك بسهمٍِ وحصةٍ بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها. فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه، أذعن ذلك القبيل لولايتها، والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها؛ ولم تسم آمالهم إلى شيء في منازع الملك ولا أسبابه، إنما همتهم النعيم والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني
والملابس، والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك. فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة، ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة. وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم، ويستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية، حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية، فيأذنون بالانقراض. وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الفلك؛ فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها التغلب. وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة، والتهمتهم الأمم سواهم. فقد تبين أن الترف من عوائق الملك. والله يؤتي ملكة من يشاء. الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل والانقياد إلي سواهم وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها؛ فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها؛ فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة. واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام؛ وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22]، أي يخرجهم الله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا وتكون من معجزاتك يا موسى. ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24]. وما ذلك إلا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة
والمطالبة كما تقتضيه الآية، وما يؤثر في تفسيرها؛ وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً، حتى ذهبت العصبية منهم جملة؛ مع انهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم بحكم من الله قدره لهم؛ فاقصروا عن ذلك، وعجزوا تعويلاًعلى ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة، وطعنوا فيما اخبرهم به نبيهم من ذلك، وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه، وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصراً ولا خالطوا بشراً، كما قصه القرآن لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وافسدوا من عصبيتهم حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا يسام بالمذلة؛ فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها علي المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنةً أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. سبحان الحكيم العليم.وفي هذا أوضح دليل علي شأن العصبية، وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة، وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله. ويلحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب. فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيه؛ لأن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلةً لا تحتملها النفوس الأبية إلا إذا استهونته عن القتل والتلف، وأن عصبيتها حينئذٍ ضعيفة عن المدافعة والحماية؛ ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة وقد حصل له الانقياد للذل، والمذلة عائقة كما قدمناه. ومنه قوله في شأن الحرث لما رأى سكة المحراث فيم بعض دور الأنصار: <<ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل>> فهو دليل صريح على أن المغرم موجب للذلة. هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر. فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلا تطمعن لها بملك آخر الدهر ومن هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانوا شاوية يؤدون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك. وهو غلط فاحش كما رأيت؛ إذ لو وقع ذلك لما استتب لهم ملك ولا لمت لهم دولة. وانظر فيما قاله شهربراز ملك الباب لعبد الرحمن بن ربيعة لما أطل عليه، وسأل شهربراز أمانه على أن يكون له، فقال، أنا اليوم منكم يدي في أيديكم، وصعري معكم فمرحباً بكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم والقيام بما تحثون، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم. فاعتبر هذا فيما قلناه فإنه كافٍ.
الفصل العشرون في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس لما كان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه، وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته وقوَّته الناطقة العاقل، لأن الشر إنماجاءه من قبل القوى الحيوانية التي فيه، وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخلاله أقرب، والملك والسياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان، لأنها خاصة للإنسان لا للحيوان؛ فإذا خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة والفلك، إذ الخير هو المناسب، للسياسة. وقد ذكرنا أن المجد له اصل يبني عليه، وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخلال. وإذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها، وهي الخلال؛ لأن وجوده دون
متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين الناس. وإذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاً في أهل البيوت والأحساب، فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد ونهاية لكل حسب وأيضاً فالسياسة والملك هي كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم؛ وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع؛ وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقدره، فإنه فاعل للخير والشر معاً ومقدرهما إذ لا فاعل سواه. فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرة وأونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ إحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة في العباد وكفالة الخلق، ووجدت فيه الصلاحية لذلك.وهذا البرهان أوثق من الأول وأصح مبنى. فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبية. فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزلات، والاحتمال من غير القادر، والقرى للضيوف، وحمل الكل وكسب المعدم، والصبر على المكاره والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها، والوقوف عندها يحددونه لهم من فعل أو ترك وحسن الظن بهم، واعتقاد أهل الدين والتبرك بهم، ورغبة الدعاء منهم، والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم، والتبدل في أحوالهم، والانقياد للحق والتواضع للمسكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتدين بالشرائع والعبادات، والقيام عليها وعلى أسبابها والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك، علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم، أو على العموم، وأنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهم وغلبهم، وليس ذلك سدى فيهم، ولا وجد عبثاً منهم؛ والملك أنسب المراتب والخيرات لعصبيتهم؛ فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك وساقه إليهم. وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها؛ فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم، ويتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك، وجعل في أيديهم من الخير: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. واستقرىء ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه ورسمناه. والله يخلق ما يشاء ويختار.واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية- وتكون شاهدة لهم بالملك- إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وأصناف التجار والغرباء وإنزال الناس منازلهم. وذلك أن إكرام القبائل وأهل العصبيات والعشائر لمن يناهضهم في الشرف ويجاذبهم حبل العشير والعصبية، ويشاركهم في اتساع الجاه أمر طبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماس مثلها منه. وأما أمثال هؤلاء ممن ليس لهم عصبية تتقى ولا جاه يرتجى فيندفع الشك في شأن كرامتهم، ويتمحض القصد فيهم انه للمجد، وانتحال الكمال في الخلال والإقبال على السياسة بالكلية. لأن إكرام أقتاله وأمثاله ضروري في السياسة الخاصة بين قبيله ونظرائه؛ وإكرام الطارئين من أهل الفضائل والخصوصيات كمال في السياسة العامة. فالصالحون للدين، والعلماء للجاءي إليهم في إقامة مراسم الشريعة، والتجار للترغيب حتى تعم المنفعة بما في أيديهم؛ والغرباء من مكارم الأخلاق؛ وإنزال الناس منازلهم من الإنصاف وهو من العدل. فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك، وأن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجود علاماتها. ولهذا كان أول ما يذهب من القبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم وسلطانهم إكرام هذا الصنف من الخلق. فإذا رأ يته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهم، وارتقب زوال الملك منهم: {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له }[سورة ….الآية ..] والله تعالى أعلم
الفصل الحادي والعشرون في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع وذلك لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد كما قلناه، واستعباد الطوائف، لقدرتهم على محاربة الأمم سواهم ولأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم، وهؤلاء مثل العرب وزناتة ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة. وأيضاً فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه، ولا بلد يجنحون إليه فنسبة الأقطار والمواطن إليهم على السواء. فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم وما جاورهم من البلاد، ولا يقفون عند حدود أفقهم، بل يطفرون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على الأمم النائية. وانظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضي الله عنه لما بويع وقام يحرض الناس على العراق فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين القراء المهاجرون عن موعد الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]. واعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل، مثل التبابعة وحمير، كيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة وإلى العراق والهند أخرى. ولم يكن ذلك لغير
العرب من الأمم. وكذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى الملك طفروا من الإقليم الأول، ومجالاتهم منه في جوار السودان، إلى الإقليم الرابع والخامس في ممالك الأندلس من غير واسطة. وهذا شأن هذه الأمم الوحشية. فلذلك تكون دولتهم أوسع نطاقاً، وأبعد من مراكزها نهايةً. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20] وهو الواحد القهار لا شريك له. الفصل الثاني والعشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلي شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية والسبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهم بعد سورة الغلب والإذعان لهم من سائر الأمم سواهم، فيتعين منهم المباشرون للأمر الحاملون سرير الملك. ولا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنها نطاق المزاحمة والغيرة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة. فإذا تعين أولئك القائمون بالدولة انغمسوا في النعيم، وغرقوا في بحر الترف والخصب واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل، وأنفقوهم في وجوه الدولة ومذاهبها. وبقي الذين بعدوا عن الأمر وكبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم، وبمنجاة من الهرم لبعدهم عن الترف وأسبابه. فإذا استولت على الأولين الأيام، وأباد غضراءهم الهرم فطبختهم الدولة، وأكل الدهر عليهم وشرب، بما أرهف النعيم من حدهم واستقت غريزة الترف من مائهم، وبلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني والتغلب السياسي(،شعر):
- كدود القز ينسج ثم يفنى بمركز نسجه في الانعكاس
كانت حينئذٍ عصبية الآخرين موفورة، وسورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة؛ فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوة الغالبة من جنس عصبيتهم، وترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم، فيستملون على الأمر ويصير إليهم. وكذا يتفق فيهم مع من بقي أيضاً منتبذاً عنه من عشائر أمتهم، فلا يزال الملك ملجئاً في الأمة إلا أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها. سنة الله في الحياة الدنيا، {والآخرة عند ربك للمتقين }[سورة الزخرف آخر الآية 35] واعتبر هذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود، ومن بعدهم إخوانهم العمالقة ومن بعدهم إخوانهم من حمير، ومن بعدهم إخوانهم التبابعة من حمير أيضاً، ومن بعدهم الآذواء كذلك، ثم جاءت الدولة لمضر. وكذا الفرس لما انقرض أمر الكينية، ملك من بعدهم الساسانية، حتى تأذن الله بانقراضهم أجمع بالإسلام. وكذا اليونانيون انقرض أمرهم وانتقل إلى إخوانهم من الروم. وكذا البربر بالمغرب لما انقرض أمر مغراوة وكتامة الملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجة ثم الملثمين من بعدهم، ثم المصامدة، ثم من بقي من شعوب زناتة وهكذا. سنة الله في عباده وخلقه.وأصل هذا كله إنما يكون بالعصبية، وهي متفاوتة في الأجيال؛ والملك يخلقه الترف ويذهبه كما سنذكره بعد. فإذا انقرضت دولة فإنما يتناول الآمر منهم من له عصبية مشاركة لعصبيتهم التي عرف لها التسليم والانقياد وأونس منها الغلب لجميع العصبيات. وذلك إنما يوجد في النسب القريب منهم؛لأن تفاوت العصبية بحسب ما قرب من ذلك النسب التي هي فيه أو بعد. حتى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملة أو ذهاب عمران أو ما شاء الله من قدرته، فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الذي يأذن الله بقيامه بذلك التبديل. كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم والدول وأخذوا الأمر من أيدي أهل العالم، بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقاباً.
الفصل الثالث والعشرون
في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه
ونحلته وسائر أحواله وعوائده
والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه؛ أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصلى لها حصل اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء؛ أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم؛ حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير؛ كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة انه من علامات الاستيلاء؛ والأمر لله. وتأمل في هذا سر قولهم: "العامة على دين الملك "
فإنه من بابه، إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم. والله العليم الحكيم؛ وبه سبحانه وتعالى التوفيق.
الفصل الرابع والعشرون في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل؛ والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبةً بالغلب الحاصل عليهم، تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، بما خضد الغلب من شوكتهم، فأصبحوا مغلبين لكل فتغلب وطعمة لكل آكل؛ وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أو لم يحصلوا.وفيه والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له؛ والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده؛ وهذا موجود في أخلاق الأناسي. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة، وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين. فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقصٍ واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء. والبقاء لله وحده.واعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأ ت العالم كثرةً، ولما فنيت حاميتهم في أيام العرب، بقي منهم كثير وأكثر من الكثير. يقال إن سعداً أحصى ما وراء المدائن فكانوا مائة ألف وسبعة وثلاثين ألفاً، منهم سبعة وثلاثون
ألفاً رب بيت. ولما تحصلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلاً، ودثروا كأن لم يكونوا. ولا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان شملهم؛ فملكة الإسلام في العدل ما علمت؛ وإنما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره، وصار آلة لغيره. ولهذا إنما تذعن للرق في الغالب أمم السودان لنقص الإنسانية فيهم، وقربهم من عرض الحيوانات العجم كما قلناه؛ أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرق حصول رتبة أو إفادة مال أو عز كما يقع لممالك الترك بالمشرق والعلوج من الجلالقة والإفرنجة بالأندلس؛ فإن العادة جارية باستخلاص الدولة لهم، فلا يأنفون من الرق لما يأملونه من الجاه والرتبة باصطفاء الدولة. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا علي البسائط وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعيث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبةٍ ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر؛ ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم. فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسفل عنه، ولا يعرضون له. والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم؛ لأنهم لا يتسنمون إليهم الهضاب، ولا يركبون الصعاب ولا يحاولون الخطر. وأما البسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدولة فهي نهب لهم وطعمة لآكلهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم، إلي أن يصبح أهلها مغلبين لهم، ثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة، إلى أن ينقرض عمرانهم. والله قادر على خلقه، وهو الواحد القهار لا رب غيره.
الفصل السادس والعشرون
في أن العرب إذا تغلبوا علم أوطان أسرع إليها الخراب
والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلةً، وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسه. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم.وأيضاً فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه. فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران.وأيضاً فلأنهم يتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم، لا يرون لها قيمةً ولا قسطاً من الأجر والثمن؛ والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها؛ وإذا فسدت الأعمال وصارت مجاناً، ضعفت الآمال في المكاسب، وانقبضت الأيدي عن العمل؛ وابذعر الساكن، وفسد العمران.وأيضاً فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم
عن بعض؛ إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو غرامةً’ فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد. وربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم؛ وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرض لها؛ بل يكون ذلك زائداً فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرعايا في ملكتهم كأنها فوضى دون حكم. والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران، بما ذكرناه من أن وجود الملك خاصة طبيعية للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلا بها؛ وتقدم ذلك أول الفصل.وأيضاً فهم متنافسون في الرئاسة، وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياء؛ فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابي الوافد على عبد الملك لما سأله عن الحجاج وأراد الثناء عليه عنده بحسن السياسة والعمران، فقال: "تركته يظلم وحده ". وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض: فاليمن قرارهم خراب إلا قليلاً من الأمصار؛ وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع؛ والشام لهذا العهد كذلك؛ وأفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها وعادت بسائطه خراباً كفها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمراناً، تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر. والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الفصل السابع والعشرون
في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة
أو ولاية أو أثر عظيم من الدين علي الجملة
والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة؛ فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبؤة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس. فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق؛ إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيئ لقبول الخير، ببقائه على الفطرة الأولى وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات؛ فإن "كل مولود يولد على الفطرة" كما ورد في الحديث وقد تقدم.
الفصل الثامن والعشرون
في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش؛ فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش؛ ورئيسهم محتاج إليهم
غالباً للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطراً إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم، لئلا يختل عليه شأن عصبيته، فيكون فيها هلاكه وهلاكهم. وسياسة الملك والسلطان تقتضى أن يكون السائس وازعاً بالقهر وإلا لم تستقم سياسته.وأيضاً فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض. فإذا ملكوا أمةً من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد؛ فلا يكون ذلك وازعاً؛ وربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة المفاسد، واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه. فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران؛ فتبقى تلك الأمة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعاً شأن الفوضى كما قدمنا.فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك. وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم، وتبدلها بصبغة دينيه تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه. واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم.كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: أكل عمر كبدي، يعلم الكلاب الآداب.ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين، فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قفرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النصفة، فتوحشوا كما كانوا، ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم. ولما ذهب أمر الخلافة وامحى رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم، لا يعرفون الملك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم، وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك؛ ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك، ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية وبني العباس. لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة. وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكون مآله وغايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدمناه. { والله يؤتي ملكه من يشاء}[سورة…الآية….]
الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار قد تقدم لنا أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار؛ لأن الأمور الضرورية في العمران ليس كلها موجودة لأهل البدو؛ وإنما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح، وموادها معدومة ومعظمها الصنائع، فلا توجد لديهم بالكلية من نجار وخياط وحداد وأمثال ذلك مما يقيم لهم ضروريات معاشهم في الفلح وغيره. وكذا الدنانير والدراهم مفقودة لديهم؛ وإنما بأيديهم أعواضها من مغل الزراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألباناً وأوباراً وأشعاراً وإهاباً مما يحتاج إليه أهل الأمصار، فيعوضونهم عنه بالدنانير والدراهم. إلا أن حاجتهم إلى الأمصار في الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجي والكمالي. فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم. فما داموا في البادية ولم يحصل لهم فلك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك، وطالبوهم به. وإن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك
وإن لم يكن في المصر ملك فلا بد فيه من رئاسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلا انتقض عمرانه. وذلك الرئيس يحملهم على طاعته والسعي في مصالحه: إما طوعاً ببذل المال لهم، ثم يبذل لهم ما يحتاجون إليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهم؛ وإما كرهاً إن تفت قدرته على ذلك ولو بالتفريق بينهم، حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطر الباقون إلى طاعته بما يتوقعون لذلك من فساد عمرانهم. وربما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي إلى جهات أخرى، لان كل الجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرهم، فلا يجد هؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر. فهم بالضرورة مغلوبون لأهل الأمصار. والله قاهر فوق عباده، وهو الواحد الأحد القهار .
الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات
الفصل الأول في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية وذلك أنا قررنا في الفصل الأول أن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كل واحد منهم دون صاحبه. ثم إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدني والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالباً؛ وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه؛ فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة؛ وشيء منها لا يقع إلا بالعصبية كما ذكرناه آنفاً. وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له، لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلاً بعد جيل؛ فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة؛ إنما يدركون أصحاب الدولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التسليم لهم، والاستغناء عن العصبية في تمهيد أمرهم، ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوله، وما لقي أولهم من المتاعب دونه
وخصوصاً أهل الأندلس في نسيان هذه العصبية وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوة العصبية بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب. والله قادر على ما يشاء، وهو بكل شيء عليم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية والسبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب، للغرابة، وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه. فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية؛ فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة؛ بل كان طاعتها كتاب من الله لا يبذل ولا يعلم خلافه. ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية، كأنه من جملة عقودها. ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة: إما بالموالي والمصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبية وغيرها؛ وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها.ومثل هذا وقع لبني العباس. فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم. ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد، حتى زحف إليها الديلم وملكوها، وصار الخلائق في حكمهم. ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم. ثم انقرض أمرهم وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة.وكذا صنهاجة
بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها، واستمرت لهم الدولة مقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور أفريقية. وربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها؛ والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم؛ حتى تأذن الله بانقراض الدولة، وجاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة، فمحوا آثارهم.وكذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمرها، واقتسموا خطتها وتنافسوا بينهم وتوزعوا ممالك الدولة، وانتزى كل واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه. وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية، فتلقبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته، وأمنوا ممن ينقض ذلك عليهم أو يغيره؛ لأن الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره، واستمر لهم ذلك، كما قال ابن شرف:
- مما يزهدني في أرض أندلــس أسماء معتصم فيها ومعتضــــــــد
- ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم، اقتداءً بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم، حين ضعفت عصبية العرب، واستبد ابن أبي عامر على الدولة. فكان لهم دول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس وحظ كبير من الملك على نسبة الدولة التي اقتسموها، ولم يزالوا في سلطانهم ذاك، حتى جاز إليهم البحر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة؛ فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم، ولم يقدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم. فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها. وقد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة، ذكر ذلك في كتابه الذي
سماه (سراج الملوك)؛ وكلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة في أولها، وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب واستحكام الصبغة لأهله. فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة. فإنه إنما أدرك دول الطوائف، وذلك عند اختلال دولة بني أمية، وانقراض عصبيتها من العرب، واستبداد كل أمير بقطره. وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفر أهل سرقسطة، ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائة من السنين وهلاكهم، ولم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره، قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة وبقية العصبية؛ فهو لذلك لا ينازع فيه، ويستعين على أمره بالأجراءٍ من المرتزقة؛ فأطلق الطرطوشي القول في ذلك، ولم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة وأنه لا يتم إلا لأهل العصبية. فتفطن أنت له وافهم سر الله فيه. { والله يؤتي ملكه من يشاء}[سورة…الآية….]
الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية وذلك أنه إذا كان لعصبية غلب كثير على الأمم والأجيال وفي نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم وانقياد، فإذا نزع إليهم هذا الخارج وانتبذ عن مقر ملكه ومنبت عزه، اشتملوا عليه وقاموا بأمره وظاهروه على شأنه، وعنوا بتمهيد دولته، يرجون استقراره في نصابه، وتناوله الأمر من يد أعياصه، وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر، ولا
يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليماً لعصبيته، وانقياداً لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم، وعقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم، فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها.وهذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى والعبيديين بأفريقية ومصر، لما انتبذ الطالبيون من المشرق إلى القاصية، وابتعدوا عن مقر الخلافة وسموا إلى طلبها من أيدي بني العباس، بعد أن استحكمت الصبغة لبني عبد مناف: لبني أمية أولاً؛ ثم لبني هاشم من بعدهم؛ فخرجوا بالقاصية من المغرب ودعوا لأنفسهم، وقام بأمرهم البرابرة مرة بعد أخرى، فأوربة ومغيلة للأدارسة وكتامة وصنهاجة وهوارة للعبيديين، فشيدوا دولتهم ومهدوا بعصائبهم أمرهم، واقتطعوا من ممالك العباسيين المغرب كله ثم أفريقية، ولم يزل ظل الدولة يتقلص وظل العبيديين يمتد إلى أن ملكوا مصر والشام والحجاز، وقاسموهم في الممالك الإسلامية شق الابلمة. وهؤلاء البرابرة القائمون بالدولة مع ذلك كلهم مسلمون للعبيديين أمرهم مذعنون لملكهم. وإنما كانوا يتنافسون في الرتبة عندهم خاصة تسليماً لما حصل من صبغة الفلك لبني هاشم ولما استحكم من الغلب لقريش ومضر على سائر الأمم. فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها. والله يحكم لا معقب لحكمه .
الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63]، وسره أن
القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف؛ وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة علي قوة العصبية التي كانت لها من عددها والسبب في ذلك كما قدمناه أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه؛ وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل؛ فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم، بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل كما قدمناه.وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات. فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعاً وثلاثين ألفاً في كل معسكر؛ وجموع فارس مائة وعشرين ألفاً بالقادسية، وجموع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمائة ألف؛ فلم يقف للعرب أحد من الجانبين، وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم.واعتبر ذلك أيضاً في دولة لمتونة ودولة الموحدين. فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم، إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار
والاستماتة كما قلناه، فلم يقف لهم شيء.واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين، وفسدت، كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين؛ فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الذين لقوتها، ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة.واعتبر هذا في الموحدين مع زناتة؛ لما كانت زناتة أبدى من المصمامدة وأشد توحشاً، وكان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيتهم بها، فغلبوا على زناتة أولاً واستتبعوهم، وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة،أشد منهم؛ فلما خلوا عن تلك الصبغة الدينية انتقضت عليهم زناتة من كل جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم. والله غالب على أمره.
الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية. وفى الحديث الصحيح كما مر. <<ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه >> وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية.وقد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية وصاحب كتاب خلع النعلين في التصوف ثار بالأندلس داعياً إلى الحق وسمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي، فاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين، ولم تكن هناك عصائب ولا في يدعونه عن شأنه؛ فلم يلبث حين استولي الموحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم، وتابعهم من معقله
بحصن أركش، وأمكنهم من ثغره، وكان أول داعية لهم بالأندلس، وكانت ثورته تسمى ثورة المرابطين.ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء. فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله؛ فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه؛ قال : <<من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه >> وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه.وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة. والله حكيم عليم.فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية، فطاح في هوة الهلاك. وأما إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة، فاجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك؛ لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين؛ ولا يشك في ذلك مسلم، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة.وأول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق، ثم عهد لعلي بن موسى الرضا من آل الحسين، فكشف بنو العباس عن وجه النكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه، وبويع إبراهيم بن المهدي، فوقع الهرج ببغداد وانطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار والحربية على أهل العافية والصون، وقطعوا السبيل، وامتلأت أيديهم من نهاب الناس وباعوها علانية في الأسواق، واستعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم. فتوافر أهل الدين والصلاح على منع الفساق وكف عاديتهم. وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس، ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابه خلق وقاتل أهل الزعارة فغلبهم، وأطلق يده فيهم بالضرب والتنكيل.ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاري، ويكنى أبا حاتم، وعلق مصحفاً في عنقه ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله وسنة نبيه ، فاتبعه الناس كافة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم، ونزل قصر طاهر، واتخذ الديوان وطاف ببغداد، ومنع كل من أخاف المارة، ومنع الخفارة لأولئك الشطار. وقال له خالد الدريوس: أنا لا أعيب على السلطان؛ فقال له سهل: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان. وذلك سنة إحدى ومائتين. وجهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه واشره وانحل أمره سريعاً وذهب ونجا بنفسه.ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم ومآل أحوالهم. والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً؛ وإما إذاعة السخرية منهم وعدهم من جملة الصفاعين.وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داعٍ له، وليس ما ذلك على علم من أمر الفاطمي، ولا ما هو. وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية، فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك، ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة، فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة، وتسوء عاقبة مكرهم وقد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري،عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هنالك، وزعم أنة الفاطمي المنتظر، تلبيساً على العامة هنالك، بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك، وأن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته. فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش. ثم خشي رؤساؤهم اتساع نطاق الفتنة؛ فدس إليه كبير المصامدة يومئذٍ عمر السكسيوي من قتله في فراشه.وكذلك خرج في غمارة أيضاً لأول هذه المائة رجل يعرف بالعباس، وادعى مثل هذه الدعوة واتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأغمارهم، وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة ثم قتل لأربعين يوماً من ظهور دعوته، ومضى في الهالكين الأولين.وأمثال ذلك كثير، والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها. وأما إن كان التلبيس فأحرى ألا يتم له أمر وان يبوء بإثمه وذلك جزاء الظالمين. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها والسبب في ذلك أن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها لا بد
من توزيعهم حصصاً على الممالك والثغور التي تصير إليهم، ويستولون عليها لحمايتها من العدو، وإمضاء أحكام الدولة فيها من جباية وردع وغير ذلك. فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها، وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة، وتخماً لوطنها، ونطاقاً لمركز ملكها. فإن تكلفت الدولة بعد ذلك زيادةً على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور، ويعود وبال ذلك على الدولة، بما يكون فيه من التجاسر وخرق سياج الهيبة.وما كانت العصابة موفورةً ولم ينفذ عددها في توزيع الحصص على الثغور والنواحي، بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية، حتى ينفسح نطاقها إلى غايتهٍ. والعلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية؛ وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها. والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق. وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت وأقصرت عما وراءه؛ شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه. ثم إذا أدركها الهرم والضعف فإنما تأخذ في التناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظاً إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة، فحينئذ يكون انقراض المركز. وإذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنطاق بل تضمحل لوقتها؛ فإن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح، فإذا غلب القلب وملك انهزم جميع الأطراف.وانظر هذا في الدولة الفارسية. كان مركزها المدائن؛ فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع، ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه. وبالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام لما كان مركزها القسطنطينية، وغلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم، فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلى أن تأذن الله بانقراضه.وانظر أيضاً شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورةً، كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق ومصر لأسرع وقت، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند والحبشة وأفريقية والمغرب، ثم إلى الأندلس. فلما تفرقوا حصصاً على الممالك والثغور، ونزلوها حامية، ونفد عددهم في تلك التوزيعات، أقصروا عن الفتوحات بعد، وانتهى أمر الإسلام، ولم يتجاوز تلك الحدود؛ ومنها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها.وكذا كان حال الدول من بعد ذلك؛ كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة، وعند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء. سنة الله في خلقه.
الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها علي نسبة القائمين بها في القلة والكثرة والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية. وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها، وينقسمون عليها؛ فما كان من الدولة العامة قبيلها وأهل عصابتها أكثر، كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطاناً، وكان ملكها أوسع لذلك.واعتبر ذلك بالدولة الإسلامية لما ألف الله كلمة العرب على الإسلام وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك، آخر غزوات النبي ، مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان، ما بين فارس وراجل، إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة. فلما توجهوا لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمى ولا وزر، فاستبيح حمى فارس والروم أهل الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم، والترك بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب، والقوط بالأندلس، وخطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى، ومن اليمن إلى الترك بأقصى الشمال، واستولوا على الأقاليم السبعة ثم انظر بعد ذلك دولة صنهاجة والموحدين مع العبيديين قبلهم
لما كان قبيل كتامة القائمين بدولة العبيديين أكثر من صنهاجة ومن المصامدة، كانت دولتهم أعظم؛ فملكوا أفريقية والمغرب والشام ومصر والحجاز. ثم انظر بعد ذلك دولة زناتة لما كان عددهم أقل من المصامدة قصر ملكهم عن ملك الموحدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة منذ أول أمرهم ثم اعتبر بعد ذلك حال الدولتين لهذا العهد لزناتة بني مرين وبني عبد الواد ، كانت دولتهم اقوى منها وأوسع نطاقاً وكان لهم عليهم الغلب مرة بعد أخرى. يقال إن عدد بني مرين لأول ملكهم كان ثلاثة آلاف، وإن بني عبد الواد كانوا ألفاً، إلا أن الدولة بالرفه وكثرة التابع كثرت من أعدادهم.وعلى هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك يكون اتساع لدولة وقوتها.وأما طول أمدها أيضاً فعلى تلك النسبة؛ لان عمر الحادث من قوة مزاجه؛ ومزاج الدول إنما هو بالعصبية؛ فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعاً لها وكان أمد العمر طويلاً؛ والعصبية إنما هي بكثرة العدد ووفوره ؛ كما قلناه. والسبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف؛ فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة، وكل نقص يقع فلا بدّ له من زمان؛فيكون أمدها أطول الدول لابنو العباس أهل المركز ولا بنو أمية المستبدون بالأندلس ولم ينقص أمر جميعهم الإ بعد أربعمائة من الهجرة. ودولة العبيديين كان أمدها قريباً من مائتين وثمانين سنة. ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معز الدولة أمر أفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، إلى حين استيلاء الموحدين على القلعة وبجاية سنة سبع وخمسين وخمسمائة.ودولة الموحدين لهذا العهد تناهز مائتي وسبعين سنة. وهكذا نسب الدول في أعمارها على نسبة القائمين بها. سنة الله التي قد خلت في عباده.
الفصل التاسع
في ان الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب
قل أن تستحكم فيها دولة
والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها؛ فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت، وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة.وانظر ما وقع من ذلك بأفريقية والمغرب منذ أول الإسلام ولهذا العهد.فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات؛ فلم يغن فيهم الغلب الأول الذي كان لابن أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة شيئاً. وعاودوا بعد ذلك الثورة والردة مرة بعد أخرى، وعظم الإثخان من المسلمين فيهم. ولما استقر الدين عندهم عادوا إلى الثورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة.قال بن أبي زيد: ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة. ولم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده. وهذا معنى ما ينقل عن عمر أن أفريقية ففرقة لقلوب أهلها، إشارة إلى ما فيها كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد. ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، إنما كانت حاميتها من فارس والروم؛ والكافة دهماء أهل مدن وأمصار. فلما غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق فيها فمانع ولا مشاق. والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر. وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى دينها من الخلاف والردة؛ فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن أفريقية والمغرب. وكذلك كان الأمر بالشام لعهد بني إسرائيل: كان فيه من
قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والروم واليونان والعمالقة وأكريكش،والنبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوعاً في العصبية. فصعب على بنى إسرائيل تمهيد دولتهم ورسوخ أمرهم واضطرب عليهم الملك مرة بعد أخرى . وسرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم وخرجوا عليه، ولم يكن لهم ملك موطد سائر أيامهم إلى أن غلبهم الفرس ثم يونان ثم الروم آخر أمرهم عند الجلاء. والله غالب على أمره.وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها، ويكون سلطانها وازعاً لقلة الهرج والانتقاض، ولا تحتاج فيها إلى كثير من العصبية، كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد، إذ هي خلو من القبائل والعصبيات، كأن لم يكن الشام معدناً لهم كما قلناه. فملك مصر في غاية الدعة والرسوخ لقفة الخوارج وأهل العصائب، إنما هو سلطان ورعية، ودولتها قائمة بملوك الترك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحداً بعد واحد، وينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت، والخلافة مسماة للعباسي من أعقاب الخلفاء ببغداد.وكذا شأن الأندلس لهذا العهد. فإن عصبية ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأول دولتهم بقوية ولا كانت كرات، إنما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدولة الأموية بقوا، من ذلك، القلة وذلك أن أهل الأندلس لما انقرضت الدولة العربية منه وملكهم البربر من لمتونة والموحدين سئموا ملكتهم، وثقلت وطأتهم عليهم، فأشربت القلوب بغضاءهم؛ وأمكن الموحدون والسادة في آخر الدولة كثيراً من الحصون للطاغية في سبيل الاستظهار به على شأنهم، من تملك الحضرة مراكش. فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبية القديمة معادن من بيوت العرب، تجافى بهم المنبت عن الحاضرة والأمصار بعض الشيءً، ورسخوا في العصبية مثل ابن هود وابن الأحمر وابن مردنيش وأمثالهم. فقام ابن هود بالأمر، ودعا بدعوة الخلافة العباسية بالمشرق، وحمل الناس على الخروج
على الموحدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم، واستقل ابن هود بالأمر بالأندلس. ثم سما ابن الأحمر للأمر، وخالف ابن هود في دعوته، فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب أفريقية من الموحدين وقام بالأمر، وتناوله بعصابة قليلة من قرابته كانوا يسفون الرؤساء ولم يحتج لأكثر منهم لقلة العصائب بالأندلس، وأنها سلطان ورعية. ثم استظهر بعد ذلك على الطاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة، فصاروا معه عصبة على المثاغرة والرباط. ثم سما لصاحب المغرب من ملوك زناتة أمل في الاستيلاء على الأندلس، فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثل أمره ورسخ، والفته النفوس، وعجز الناس عن مطالبته وورثه أعقابه لهذا العهد. فلا تظن أنه بغير عصابة فليس كذلك؛ وقد كان مبدأه بعصابة إلا أنها قليلة، وعلى قدر الحاجة؛ فإن قطر الأندلس لقلة العصائب والقبائل فيه يغني عن كثرة العصبية في التغلب عليهم. والله غني عن العالمين. الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد وذلك أن الملك كما قدمناه إنما هو بالعصبية، والعصبية متألفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها وتستولي عليها، حتى تصيرها جميعاً ضمنها، وبذلك يكون الاجتماع والغلب على الناس والدول. وسره أن العصبية العامة للقبيل هي مثل المزاج للمتكون؛ والمزاج إنما يكون عن العناصر، وقد تبين في موضعه أن العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلاً، بل لا بد أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل حتى تجمعها وتؤلفها وتصيرها عصبية واحدةً شاملة لجميع العصائب، وهي موجودة في ضمنها
وتلك العصبية الكبرى إنما تكون لقوم أهل بيت ورئاسة فيهم؛ ولا بد أن يكون واحد منهم رئيساً لهم غالباً عليهم؛ فيتعين رئيساً للعصبيات كلها لغلب منبته لجميعها. وإذا تعين له ذلك فمن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر والأنفة؛ فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتحكم فيهم؛ ويجئ خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم، لفساد الكل باختلاف الحكام: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فتجدع حينئذ أنوف العصبيات وتفلج شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم، وتقرع عصبيتهم عن ذلك، وينفرد به ما استطاع، حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملا. فينفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته. وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة، وقد لا يتم إلا للثاني والثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها. إلا أنه أمر لا بد منه في الدول. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 58]؛ والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف وذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم، ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته. ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم، وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها، وينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية، ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم، في أكل الطيب ولبس الأنيق وركوب الفاره، ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدولة. وعلى قدر ملكهم يكون حظهم من ذلك، وترفهم فيه؛ إلى أن يبلغوا من ذلك
ٍ الغاية التي للدولة أن تبلغها بحسب قوتها وعوائد من قبلها. سنة الله في خلقه والله تعالى أعلم. الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون وذلك أن الأمة لا يحصل لها الملك إلا بالمطالبة، والمطالبة غايتها الغلب والملك، وإذا حصلت الغاية انقضى السعي إليها. قال الشاعر:
- عجبت لسعي الدهر بيني وبينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة، ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور، ويجرون المياه، ويغرسون الرياض، ويستمتعون بأحوال الدنيا، ويؤثرون الراحة على المتاعب، ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا، ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم. ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذن الله بأمره؛ وهو خير الحاكمين، والله تعالى أعلم. الفصل الثالث عشر في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة علم الهرم وبيانه من وجوه:الأول أنها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه. وما كان المجد مشتركاً
بين العصابة وكان سعيهم له واحداً، كانت هممهم في التغلب على الغَيْرِ والذَّبِّ عَنِ الْحَوزَة أسْوَةً في طُمُوحها وَقُوَّة شَكَائِمِهَا، وَمَرْمَاهُمْ إلى الْعِزِّ جَميعاً، وهم يَستَطِيبُونَ الْموْتَ في بِنَاء مَجْدِهِمْ وَيُؤْثرُونَ الْهَلَكَةَ عَلى فَسَادِهِ. وَإذَا اْنفْرَدَ الْوَاحِدُ منهم بالمجد قرع عصبيتهم وكبح من أعنتهم، واستأثر بالأموال دونهم؛ فتكاسلوا عن الغزو وفشل ريحهم ورئموا المذلة والاستعباد. ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك، يحسبون ما ينالهم من العطاء أجراً من السلطان لهم على الحماية والمعونة، لا يجري في عقولهم سواه، وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت، فيصير ذلك وهناً في الدولة وخضداً من الشوكة، وتقبل به على مناحي الضعف والهرم لفساد العصبية بذهاب البأس من أهلها.والوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه، فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم، ولا يفي دخلهم بخرجهم؛ فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه؛ ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف وعوائده، وتمسهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب؛ فلا يجدون وليجةً عنها، فيوقعون بهم العقوبات، وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم، أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم؛ فيضعفونهم لذلك عن إقامةأحوالهم ، ويضعف صاحب الدولة بضعفهم. وأيضاً إذا كثر الترف في الدولة وصار عطاؤهم مقصراً عن حاجاتهم ونفقاتهم، احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم ويزيح عللهم. والجباية مقدارها معلوم، ولا تزيد؛ ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدوداً فإذا وزعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم، نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات. ثم يعظم الترف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك، فينقص عدد الحامية، وثالثاً ورابعاً إلى أن يعود العسكر إلى اقل الأعداد؛ فتضعف الحماية لذلك، وتسقط قوة الدولة ويتجاسر عليها من يجاورها من الدول أو من هو تحت يديها من القبائل والعصائب، ويأذن الله فيها بالفناء الذي كتبه على خليقته. وأيضاً فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها كما يأتي في فصل الحضارة، فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلاً عليه، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر، فتكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولة مبادىء العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها.الوجه الثالث: أن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه؛ وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفاً وخلقاً صار لهم ذلك طبيعة وجبلة شأن العوائد كلها وإيلافها، فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد الترف والدعة، وينقلب خلق التوحش وينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس، وتعود الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر. فلا يفرق بينهم وبين السوقة من الحضر إلا في الثقافة والشارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس به من ثياب الهرم. ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف والحضارة والسكون والدعة ورقة الحاشية في جميع أحوالهم، وينغمسون فيها، وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة، وينسلخون عنها شيئاً فشيئاً، وينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية والمدافعة، حتى يعودوا عيالاً على حامية أخرى إن كانت لهم. واعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحاً من غير ريبة.وربما يحدث في الدولة، إذا طرقها هذا الهرم بالترف والراحة، أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً وشيعة من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره. وهذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق؛ فإن غالب جندها الموالي من الترك. فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً وجنداً، فيكونون أجرأَ على الحرب وأصبر على الشظف من أبناء الملوك الذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النعيم والسلطان وظله. وكذلك في دولة الموحدين بأفريقية؛ فان صاحبها كثيراً ما يتخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم ويترك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك عمراً آخر سالماً من الهرم. والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها اعمار طبيعية كما للأشخاص إعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرون سنة، وهي سنو القمر الكبرى عند المنجمين. ويختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات؛ فيزيد عن هذا وينقص منه، فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائةً تامةً وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلة القرانات عند الناظرين فيها وأعمار هذه الملة ما بين الستين إلى السبعين كما في الحديث. ولا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة وعشرون إلا في الصور النادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوحٍ عليه السلام، وقليلٍ من قوم عاد وثمود. وأما أعمار الدول أيضاً وإن كانت تختلف بحسب القرانات، إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال. والجيل هو عمر شخصٍ واحدٍ من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15]. ولهذا قلنا إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل
ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي ذكرناه في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل ولا عرفوه؛ فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد.وإنما قلنا إن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال: لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون.والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع. ويبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية، وإن ذهب منه ما ذهب، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم.وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كان لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، ويلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها. فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت. فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة وتخلفها.ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة آباء. وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كافٍ ظاهر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات؛ فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الإنصاف.وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مًرًّ. ولا تعدو الدول في الغالب هذا الغمر بتقريب قبله أو بعده، إلا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب، فيكون الهرم حاصلاً مستولياً والطالب لم يخضرها، ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعا {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون }.[سورة….الآية…].فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزيد إلى سن الوقوف، ثم إلىذ سن الرجوع. ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنةٍ، وهذا معناه. فاعتبره واتخذ منه قانوناً يصحح لك عدد الآباء في عمود النسب الذي تريده من قبل معرفة السنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم، وكانت السنون الماضية منذ أولهم محصلة لديك فعد لكل مائةٍ من السنين ثلاثة من الآباء؛ فإن نفدت على هذا القياس مع نفود عددهم فهو صحيح، وإن نقصت عنه بجيل فقد غُلط عددهم بزيادة واحدٍ في عمود النسب، وإن زادت بمثله فقد سقط واحد. وكذلك تأخذ عدد السنين من عددهم إذا كان محصلاً لديك، فتأمله تجده في الغالب صحيحاً. {والله يُقَدِّر اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ }.[سورة…الآية…]
الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة إعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول. فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وبما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس، ولا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة، فطور الدولة من أولها بداوة. ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساعُ الأحوالِ
والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله؛ فلكل واحدٍ منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضاً، وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف، وما تتلون به من العوائد. فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة، لضرورة تبعية الرفه للملك.وأهل الدول أبداً يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة. فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً، ومثال ذلك.فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك، والقيام على عمله، والتفنن فيه، مع ما حصل لهم من اتساع العيش والتفنن في أحواله، فبلغوا الغاية في ذلك، وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال، واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثي؛ وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والولائم وليالي الأعراس، فأتوا من ذلك وراء الغاية.وانظر ما نقله المسعودي والطبري وغيرهما في أعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح، وركب إليها في السفين، وما أنفق في أملاكها، وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها، تقف من ذلك على العجب. فمنه أن الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصنيع الذي حضره حاشية المأمون، فنثر على
الطبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثةً على الرقاع بالضياع والعقار، مسوغةً لمن حصلت في يده، يقع لكل واحدٍ منهم ما أداه إليه الاتفاق والبخت؛ وفرق على الطبقة الثانية بدر الدنانير في كل بدرة عشرة آلافٍ؛ وفرق على الطبقة الثالثة بدر الدراهم كذلك؛ بعد أن أنفق في مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك. ومنه أن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاةٍ من الياقوت، وأوقد شموع العنبر في كل واحدةٍ مائة من وهو رطل وثلثان وبسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر والياقوت. وقال المأمون حين رآه: "قاتل الله أبا نواسٍ، كأنه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر:
- كَأنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ فَوَاقِعهَا حصباء در على أرض من الذهب
وأعد بدار الطبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائةٍ وأربعين بغلاً مدة عامٍ كاملٍ ثلاث مراتٍ كل يومٍ. وفني الحطب لليلتين، وأوقدوا الجريد يصبون عليه الزيت. وأوعز إلى النواتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة، فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً، أجازوا الناس فيها أخريات نهارهم. وكثير من هذا وأمثاله. وكذلك عرس المأمون بن ذي النون بطليطلة؛ نقله ابن سامٍ في كتاب الذخيرة وابن حيان بعد أن كانوا كلهم في الطور الأول من البداوة عاجزين عن ذلك جملةً، لفقدان أسبابه والقائمين على صنائعه في غضاضتهم وسذاجتهم.يذكر أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس؛ وقال: أخبرني بأعظم صنيع شهدته؛ فقال له: نعم أيها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى، وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة
أربعاً على كل واحدٍ، وتحمله أربع وصائف، ويجلس عليه أربعة من الناس، فإذا طعموا اتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصائفها. فقال الحجاج:" يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس "و علم انه لا يستقل بهذه الأبهة. وكذلك كانت.ومن هذا الباب أعطية بني أمية وجوائزهم. فإنما كان أكثرها الإبل أخذاً بمذاهب العرب وبداوتهم. ثم كانت الجوائز في دولة بني العباس والعبيديين من بعدهم ما علمت من أحمال المال وتخوت الثياب وإعداد الخيل بمراكبها.وهكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بأفريقية، وكذا بنو طفج بمصر، وشأن لمتونة مع ملوك الطوائف بالأندلس، والموحدين كذلك وشأن زناتة مع الموحدين وهلم جراً؛ تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالفة: فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية وبني العباس؛ وانتقلت حضارة بني أُمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين وزناتة لهذا العهد؛ وانتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم إلى الترك، ثم إلى السلجوقية، ثم إلى الترك المماليك بمصر، والتتر بالعراقين. وعلى قدر عظم الدولة يكون شأنها في الحضارة؛ إذ أمور الحضارة من توابع الترف، والترف من توابع الثروة والنعمة، والثروة والنعمة من توابع الملك، ومقدار ما يستولي عليه أهل الدولة. فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله. فاعتبره وتفهمه وتأمله تجده صحيحاً في العمران. {والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين } [.سورة…الآية ]
الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية، فكثرت العصابة؛ واستكثروا أيضاً من الموالي والصنائع، وربيت أجيالهم
في جو ذلك النعيم والرفه، فازدادوا بهم عدداً إلى عددهم وقوةً إلى قوتهم بسب كثرة العصائب حينئذًٍ بكثرة العدد. فإذا ذهب الجيل الأول والثاني وأخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدولة وتمهيد ملكها، لأنهم ليس لهم من الأمر شيء، إنما كانوا عيالاً على أهلها ومعونة لها؛ فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتلاشى، ولا تبقى الدولة على حالها من القوة. واعتبر هذا بما وقع في الدولة العربية في الإسلام. كان عدد العرب كما قلناه لعهد النبوة والخلافة مائة وخمسين ألفاً أو ما يقاربها من مضر وقحطان؛ ولما بلغ الترف مبالغه في الدولة وتوفر نموهم بتوفر النعمة، واستكثر الخلفاء من الموالي والصنائع، بلغ ذلك العدد إلى أضعافه. يقال: إن المعتصم نازل عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف. ولا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحاً إذا اعتبرت حاميتهم في الثغور الدانية والقاصية شرقاً وغرباً إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي والمصطنعين. وقال المسعودي: أحصي بنو العباس بن عبد المطلب خاصة أيام المأمون للإنفاق عليهم، فكانوا ثلاثين ألفاً بين ذكران وإناث؛ فانظر مبالغ هذا العدد لأقل من مئتي سنة، واعلم أن سببه الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم؛ وإلا فعدد العرب لأول الفتح لم يبلغ هذا ولا قريباً منه. والله الخلاق العليم.
الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوال إعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطور لا يكون مثله في الطور الآخر، لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه. وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار: الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع
والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها. فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية، لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطورالثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة. ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع، والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه، الضاربين في الملك بمثل سهمه. فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويرد هم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه، حتى الأمر في نصابه، ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده؛ فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد؛ لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم؛ وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد، فيركب صعباً من الأمر. الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت؛ فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله، هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه، واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة، فيباهي بهم الدول المسالمة، ويرهب الدول المحاربة. وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة. لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم، بانون لعزهم، موضحون الطرق لمن بعدهم. الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة. ويكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه، سلماً لأنظاره من الملوك وأقتاله، مقلدا للماضين من سلفه، فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أن في الخروج تقليدهم فساد أمره وانهم أبصر بما بنوا من مجده. الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير. ويكون صاحب الدولة في هذا متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه، واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن، وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها، ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها، مستفسداً لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه، حتى يضطغنوا عليه، ويتخاذلوا عن نصرته، مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته، وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقده؛ فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها معه برء، إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها. والله خير الوارثين.
الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها علي نسبة قوتها في أصلها والسبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً وعلى قدرها يكون الأثر. فمن ذلك مباني الدولة وهياكلها العظيمة. فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها، لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل والتعاون فيه. فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرعايا، كان الفعلة كثيرين جداًوحشروا من آفاق الدولة وأقطارها، فتم العمل على أعظم هياكله. ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصه القرآن عنهما.
وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى إنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه، وشرع فيه ثم أدركه العجز، وقصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة. فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين. وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها، وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها، وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان، تعلم منه اختلاف الدول في القوة والضعف.
واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها؛ فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع. ولا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها؛ فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما تجد بين الهياكل والآثار. ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه، وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب، من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام؛ زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس. ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة وإنها شديدة فيما قرب منها؛ ولا يعلمون أن الحر هو الضوء؛ وأن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء، فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك، وإذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة
فلا حر هنالك، بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب، وأن الشمس في نفسها لا حارة ولا باردة وإنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له. وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام، وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا. يشهد لذلك أبواب بيت المقدس؛ فإنها وإن خربت وجددت لم تزل محافظة على أشكالها ومقادير أبوابها. وكيف يكون التفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار. وإنه مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون، وما يحمل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة، فصرفوه إلى قوة الأجسام وشدتها بعظم هياكلها، وليس الأمر كذلك.وقد زعم المسعودي ونقله عن الفلاسفة مزعماً لا مستند له إلا التحكم، وهو:الطبيعة التي هى جبلة للأجسام، لما برأ الله الخلق كانت في تمام المرة ونهاية القوة والكمال، وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة؛ فإن طروء الموت إنما هو بانحلال القوى الطبيعية؛ فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد. فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام، ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها؛ ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه؛ وليس له علة طبيعية ولا سبب برهاني. ونحن نشاهد مساكن الأولين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والديار والمساكن، كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر، بيوتاً صغاراً وأبوابها ضيقة. وقد أشار إلى أنها ديارهم، ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرق وقال: <<لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم >>. وكذلك أرض عاد ومصر والشام وسائر بقاع الأرض شرقاً وغرباً. والحق ما قر رناه.ومن آثار الدول أيضاً حالها في الإعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجاج وابن ذي النون، وقد مر ذلك كله.
ومن آثارها أيضاً عطايا الدول وأنها تكون على نسبتها. ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم، فإن الهمم التي لأهل الدولة تتكون على نسبة قوة ملكهم وغلبهم للناس، والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة. واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش، كيف أعطاهم من أرطال الذهب والفضة والأعبد والوصائف عشراً عشراً، ومن كرش العنبر واحدة، واضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب؛ وإنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس؛ وإنما حمله على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب. وكان الصنهاجيون بأفريقية أيضاً إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم، فإنما يعطونهم المال أحمالاً والكساء تخوتاً مملوءةً، والحملان جنائب عديدة.
وفي تأريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة. وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم، وكانوا إذا كسبوا معدماً فإنما هو الولاية والنعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم. وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلها على نسبة الدول جارية. هذا جوهر الصقلي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال. ولا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا.
موارد بيت المال ببغداد أيام المأمون: وكذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي، نقلته من جراب
الدولة:(غلات السواد) سبع وعشرون ألف ألف درهم مرتين، وثمانمائة ألف درهم، ومن الحلل النجرانية مائتا حلةٍ ومن طين الختم مائتان وأربعون رطلاً. (كنكر) أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وستمائة ألف درهم (كور دجلة) عشرون ألف ألف درهم وثمانمائة درهم.(حلوان) أربعة آلاف ألف درهم مرتين، وثمانمائة ألف درهم.(الأهواز) خمسة وعشرون ألف درهم مرة، ومن السكر ثلاثون ألف رطل.(فارس) سبعة وعشرون ألف ألف درهم، ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة، ومن الزيت الأسود عشرون ألف رطل.(كرمان) أربعة آلاف ألف درهم مرتين ومائتا ألف درهم، ومن المتاع اليمانى خمسمائة ثوب، ومن التمر عشرون ألف رطل.(مكران) أربعمائة ألف درهم مرة.(السند وما يليه) أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف درهم، ومن العود الهندي مائة وخمسون رطلاً. (سجستان) أربعة آلاف ألف درهمٍ مرتين، ومن الثياب المعينة ثلاثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلً. (خراسان) ثمانية وعشرون ألف ألف درهم مرتين، ومن نقر الفضة ألفا نقرة، و البراذين أربعة آلاف، ومن الرقيق ألف رأس، ومن المتاع عشرون ألف ثوب، و الإهليلج ثلاثون ألف رطل.(جرجان) اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين، ومن الإبريسم ألف شقةٍ.(قومس) ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف من نقر الفضة.(طبرستان والروبان ونهاوند) ستة آلاف ألف مرتين وثلاثمائة ألف، ومن الفرش الطبري ستمائة قطعة، ومن الأكسية مائتان، ومن الثياب خمسمائة ثوب، ومن المناديل ثلاثمائة، ومن الجامات ثلاثمائة.(الري) اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين، ومن العسل عشرون ألف رطل.(همذان) أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وثلاثمائة ألف، ومن رب الرمان ألف رطل ومن العسل اثناً عشر ألف رطل.(ما بين البصرة والكوفة) عشرة آلاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم. (ماسبذان والدينار) أربعة آلاف ألف درهم مرتين.(شهرزور) ستة آلاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم.(الموصل وما إليها) أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرتين، ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطلٍ.(أذربيجان) أربعة آلاف ألف درهم مرتين.(الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات) أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرتين، ومن الرقيق ألف راس، ومن العسل اثنا عشر ألف زقً، ومن البزاة عشرة، ومن الأكسية عشرون.(أرمينية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن القسط المحفور عشرون، ومن الزقم خمسمائة وثلاثون رطلاً، ومن المسايج السورماهي عشرة آلاف رطلٍ، ومن الصونج عشرة آلاف رطلٍ، ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون.(قنسرين) أربعمائة ألف دينار، ومن الزيت ألف حمل.(دمشق) أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار.(الأردن) سبعة وتسعون ألف دينار.(فلسطين) ثلاثمائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار، ومن الزيت ثلاثمائة ألف رطلٍ. (مصر) ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار.(برقة) ألف ألف درهم مرتين.(أفريقية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين، ومن البسط مائة وعشرون.(اليمن) ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع.(الحجاز) ثلاثمائة ألف دينار. انتهى.
وأما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات، يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.
ورأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار في كل سنةٍ.فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض، ولا تنكرن ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله، فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات. فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر بالإنكار؛ وليس ذلك من الصواب؛ فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة، ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها. ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس وبني أمية والعبيديين، وناسبنا الصحيح من ذلك والذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل با لنسبةإليها وجدنا بينها بوناً؛ وهو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها وعمران ممالكها؛ فالآثار كفها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه؛ ولا يسعنا إنكار ذلك عنها؛ إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة والوضوح، بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر، وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره. فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها، واعتبر ذلك بما نقضه عليك من هذه الحكاية المستظرفة. وذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند، وهو السلطان محمد شاه، واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه، وكان له منه مكان، واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله، ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان، وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض. وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند، ويأتي من
أحواله بما يستغربه السامعون، مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان، وفرض لهم رزق ستة أشهرٍتدفع لهم من عطائه، وأنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به، وينصب أمامه في ذلك الحفل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس، إلى أن يدخل إيوانه؛ وأمثال هذه الحكايات؛ فتناجى الناس بتكذيبه. ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل، لما استفاض في الناس من تكذيبه. فقال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن. وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان الذي كان يتغذى به، فقال أبوه هذا لحم الغنم، فقال وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها؛ فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه، ويقول أين الغنم من الفأر، وكذا في لحم الإبل والبقر؛ إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كفها أبناء جنس الفأر. وهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عن قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب. فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنا على نفسه، ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته. فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه. وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شيء، فلا يفرض حداً بين الواقعات؛ وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء. فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله، وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه؛ {وقل رب زدني علما، وأنت أرحم الراحمين }. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل التاسع عشر
في استظهار صاحب الدولة علي قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين
إعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه، فهم عصابته وظهراؤه على شأنه، وبهم يقارع الخوارج على دولته، ومنهم من يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته، وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب، وشركاؤه في الأمر، ومساهموه في سائر مهماته. هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه. فإذا جاء الطور الثاني وظهر الاستبداد عنهم، والانفراد بالمجد، ودافعهم عنه بالمراح، صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه، واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم، ويتولاهم دونهم، فيكونون أقرب إليه من سائرهم، وأخص به قرباً واصطناعاً، وأولى إيثاراً وجاهاً، لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم، والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم. فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذٍ، ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار، ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختص به لنفسه، وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة؛ لأنهم حينئذٍ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون. وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها؛ لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها.
ومرض قلوب أهل الدولة حينئذٍ من الامتهان وعداوة السلطان فيضطغنون عليه، ويتربصون به الدوائر، ويعود وبال ذلك على الدولة، ولا يطمع في برئها من هذا الداء، لأن ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها. واعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وعبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، والحجاج بن يوسف، والمهلب بن أبي صفرة، وخالد بن عبد الله القسري، وابن هبيرة، وموسى بن نصير، وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ونصر بن سيار، وأمثالهم من رجالات العرب. وكذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب؛ فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات، وصارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر، ثم بني بويه وموالي الترك مثل بغا ووصيف وأتامش وباكناك وابن طولون وأبنائهم، وغير هؤلاء من موالي العجم، فتكون الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه. سنة الله في عباده، والله تعالى أعلم.
الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول إعلم أن المصطنعين في الدول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدولة بتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها. والسبب في ذلك أن المقصود في العصبية من المدافعة والمغالبة إنما يتم بالنسب، لأجل التناصر في ذوي الأرحام والقربى، والتخاذل في الأجانب والبعداء كما قدمناه. والولاية والمخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك؛ لأن أمر النسب وإن كان طبيعيا فإنما هو وهمي، والمعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة. وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة والتناصر؛ وهذا مشاهد بين الناس. واعتبر مثله في الاصطناع؛ فإنه يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة وتؤكد اللحمة
وإن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة. فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم، كانت عروقها أوشج، وعقائدها أصح، ونسبها أصرح لوجهين: أحدهما أنهم قبل الملك أسوةً في حالهم، فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم فيتنزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم. وإذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى، ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع، لما تقتضيه أحوال الرئاسة والملك من تميز الرتب وتفاوتها، فتتميز حالتهم ويتنزلون منزلة الأجانب، ويكون الالتحام بينهم أضعف والتناصر لذلك أبعد، وذلك انقص من الاصطناع، قبل الملك.
الوجه الثاني: أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهدة عن أهل الدولة بطول الزمان ويخفي شأن تلك اللحمة، ويظن بها في الأكثر النسب فيقوى حال العصبية. وأما بعد الملك فيقرب العهد ويستوي في معرفته الأكثر، فتتبين اللحمة وتتميز عن النسب، فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة. واعتبر ذلك في الدول والرئاسات تجده. فكل من كان اصطناعه قبل حصول الرئاسة والملك لمصطنعه تجده أشد التحاماً به، واقرب قرابة إليه، ويتنزل منه منزلة أبنائه وإخوانه وذوي رحمه. ومن كان اصطناعه بعد حصول الملك والرئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة واللحمة ما للأولين. وهذا مشاهد بالعيان؛ حتى إن الدولة في آخر عمرها ترجع إلى استعمال الأجانب واصطناعهم، ولا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة، لقرب العهد حينئذٍ بأوليتهم ومشارفة الدولة على الانقراض، فيكونون منحطين في مهاوي الضعة.وإنما يحمل صاحب الدولة علي اصطناعهم والعدول إليهم عن أوليائها الأقدمين وصنائعها الأولين، ما يعتر يهمل في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة، وقلة الخضوع له، ونظره بما ينظره به قبيله وأهل نسبه، لتأكد اللحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى والاتصال بآبائه وسلف قومه، والانتظام مع كبراء أهل بيته
فيحصل لهم بذلك دالة عليه واعتزاز، فينافرهم بسببها صاحب الدولة، ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم؛ ويكون عهد استخلاصهم واصطناعهم قريباً، فلا يبلغون رتب المجد، ويبقون على حالهم من الخارجية، وهكذا شأن الدول في أواخرها. وأكثر ما يطلق اسم الصنائع والأولياء على الأولين. وأما هؤلاء المحدثون فخدم وأعوان. والله ولي المؤمنين، وهو على كل شيء وكيل.
الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه إذا استقر الملك في نصاب معين ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة، وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحدٍ بحسب الترشيح، فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم. وسببه في الأكثر ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت، يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله، ويوري عنه بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد، ويجعل ذلك ذريعة للملك. فيحجب الصبي عن الناس ويعوده اللذات التي يدعوه إليها ترف أحواله، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه، وينسيه النظر في الأمور السلطانية، حتى يستبد عليه. وهو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير وإعطاء الصفقة وخطاب التهويل، والقعود مع النساء خلف الحجاب، وان الحل والربط والأمر والنهي، ومباشرة الأحوال الملوكية، وتفقدها من النظر في الجيش والمال والثغور إنما هو للوزير، ويسلم له في ذلك، إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد، ويتحول الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده. كما وقع لبني بويه والترك وكافور الإخشيدي وغيرهم بالمشرق، وللمنصور بن أبي عامر بالأندلس.
وقد يتفطن ذلك المحجورالمغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد، ويرجع الملك إلى نصابه، ويضرب على أيدي المتغلبين عليه، إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط؛ إلا أن ذلك في النادر الأقل؛ لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزراء والأولياء استمر لها ذلك، وقل أن تخرج عنه؛لأ ن ذلك إنما يوجد في الأكثر عن أحوال الترف ونشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمه، قد نسوا عهد الرجولة وألفوا أخلاق الدايات والاظآر، وربوا عليها، فلا ينزعون إلى رئاسة ولا يعرفون استبداداً من تغلب، إنما همهم في القنوع بالأبهة والتنفس في اللذات وأنواع الترف. وهذا التغلب يكون للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفرادهم به دونهم. وهو عارض للدولة ضروري كما قدمناه. وهذان مرضان لا برء للدولة منهما إلا في الأقل النادر. {والله يؤتي ملكه من يشاء، وهو على كل شيء قدير}.
الفصل الثاني والعشرون في أن المتغلبين علي السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك وذلك أن الملك والسلطان حصل لأوليه مذ أول الدولة بعصبية قومه، وعصبيته التي استتبعتهم حتى استحكمت له ولقومه صبغة الملك والغلب؛ وهي لم تزل باقية، وبها انحفظ رسم الدولة وبقاؤها وهذا المتغلب وإن كان صاحب عصبية من قبيل الملك أو الموالي والصنائع فعصبيته مندرجة في عصبية أهل الملك وتابعة لها، وليس له صبغة في الملك. وهو لا يحاول في استبداده انتزاع الملك ظاهراً، وإنما يحاول انتزاع ثمراته من الأمر والنهي، والحل والعقد والإبرام والنقض، يوهم فيها أهل الدولة انه متصرف عن
سلطانه، منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك وشاراته وألقابه جهده ويبعد نفسه عن التهمة بذلك وإن حصل له الاستبداد لأنه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الذي ضربه السلطان وأولوه على أنفسهم عن القبيل منذ أول الدولة، ومغالط عنه بالنيابة. ولو تعرض لشيء من ذلك لنفسه عليه أهل العصبية وقبيل الملك، وحاولوا الاستئثار به دونه؛ لأنه لم تستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التسليم له والانقياد؛ فيهلك لأول وهلة. وقد وقع مثل هذا لعبد الرحمن بن الناصر بن المنصور بن أبي عامر، حين سما إلى مشاركة هشام وأهل بيته في لقب الخلافة، و لم يقنع بما قنع به أبوه وأخوه من الاستبداد بالحل والعقد والمراسم المتتابعة. فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة، فنفس ذلك عليه بنو مروان وسائر قريش؛ وبايعوا لابن عم الخليفة هشام محمد بن عبد الجبار بن الناصر، وخرجوا عليه. وكان في ذلك خراب دولة العامريين وهلاك المؤيد خليفتهم، واستبدل منه سواه من أعياص الدولة إلى آخرها، واختلت مراسم ملكهم. والله خير الوارثين.
الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه الملك منصب طبيعي للإنسان؛ لأنا قد بينا أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم. وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات، ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه، لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض
ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوة البشرية في ذلك، فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة، وهي تؤدي إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس، المفضي ذلك إلى انقطاع النوع، وهو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة، فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم. ولا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه، من أن المطالبات كلها والمدافعات لا تتم إلا بالعصبية. وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات؛ ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر. والعصبيات متفاوتة، وكل عصبيةٍ فلها تحكم وتغلب على من يليها من قومها وعشيرها. وليس الملك لكل عصبيةٍ، وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده يد قاهرة. وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور. فمن قصرت به عصبيته عن بعضها، مثل حماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته؛ كما وقع لكثير من ملوك البربر فيم دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدولة العباسية. ومن قصرت به عصبيته أيضاً عن الاستعلاء على جميع العصبيات، والضرب على سائر الأيدي، وكان فوقه حكم غيره، فهو أيضاً فلك ناقص لم تتم حقيقته؛ وهؤلاء مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة. وكثيرا ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق، أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم؛ مثل صنهاجة مع العبيديين، وزناتة مع الأمويين تارةً والعبيديين تارةً أخرى؛ ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس؛ ومثل أمراء البربر وملوكهم مع الفرنجة قبل الإسلام، ومثل ملوك الطوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيين، وكثير من هؤلاء. فاعتبره تجده. والله القاهر فوق عباده.
الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر إعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتساع عمله أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه، وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم؛ فإن الملك والسلطان من الأمور الإضافية، وهي نسبة بين منتسبين. فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم، فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان؛ والصفة التي له من حيث إضافته لهم هي التي تسمى الملكة وهي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه؛ فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم؛ وإن كانت سيئةً متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم وإهلاكاً لهم.ويعود حسن الملكة إلى الرفق. فإن الملك إذا كان قاهراً، باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم؛ وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما اجمعوا على لمحتله لذلك فتفسد الدولة ويخرب السياج، وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبية لما قلناه أولاً، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه، فاستقام الأمر من كل جانب.أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك؛ وأما النعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرفق بهم، والنظر لهم في معاشهم، وهي أصل كبير في التحبب إلى الرعية. واعلم أنه
قلما تكون ملكه الرفق فيمن يكون يقظاً شديد الذكاء من الناس؛ وأكثر ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل. وأقل ما يكون في اليقظ لأنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطلاعه على عواقب أمور في مباديها بألمعيته فيهلكون. لذلك قال : <<سيروا على سير أضعفكم >>. ومن هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء؛ ومأخذه من قصة زياد بن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق، وقال: "لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجزٍ أم لخيانة؟ "؛ فقال عمر: "لم أعزلك لواحدة منهما؛ ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس ". فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس مثل زياد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، لما يتبع ذلك من التعسف وسوء الملكة، وحمل الوجود على ما ليس في طبعه، كما يأتي في آخر هذا الكتاب. والله خير المالكين.وتقرر من هذا أن الكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة، لأنه إفراط في الفكر،كما أن البلادة إفراط في الجمود. والطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية، والمحمود هو التوسط: كما في الكرم مع التبذير والبخل؛ وكما في الشجاعة مع الهوج والجبن؛ وغير ذلك من الصفات الإنسانية. ولهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان، فيقال شيطان ومتشيطن وأمثال ذلك. والله يخلق ما يشاء، وهو العليم القدير.
الفصل الخامس والعشرون في معني الخلافة والإمامة لا كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم، لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته، ويختلف ذلك باختلاف
المقاصد من الخلف والسلف منهم؛ فتعسر طاعته لذلك، وتجيء العصبية المفضية إلى الهرج والقتل. فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم. وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها: "سنة الله في الذين خلوا من قبل ".فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية؛ وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط، فإنها كلها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء؛ والله يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]؛ فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم. {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 53]. فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة؛ حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني، فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع 0 فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب وإهمال القوة العصبية في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية. وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضاً، لأنه نظر بغير نور الله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم، وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم، من ملك أو غيره؛ قال : <<إنما هي أعمالكم ترد عليكم >> وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط. {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]؛ ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم. وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء.فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة، وأن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضي النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. فافهم ذلك واعتبر فيما نورده عليك، من بعد والله الحكيم العليم.
الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه وإذ قد بينا حقيقة هذا المنصب، وانه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، تسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماما. فأما تسميته إماما فتشبيها بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به؛ ولهذا يقال: الإمامة الكبرى. وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبى في أمته، فيقال: خليفة بإطلاق، وخليفة رسول الله. واختلف في تسميته خليفة الله. فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأ رضِْ خَلِيفَةً} البقرة: 30] وقوله: {جَعَلَكُمْ خلائِفَ الأ رْضِ} [الأنعام: 165]. ومنع الجمهور منها لأن معنى الآية ليس عليه؛ وقد نهى أبو بكر عنه لما دعي به، وقال: "لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله "؛ولأ ن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب، وأما الحاضر فلا.ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛لأ ن أصحاب رسول الله عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم. وكذا في كل عصرٍ من بعد ذلك. ولم تترك الناس فوضى في عصرٍ من الأعصار. واستقر ذلك
إجماعا دالاً على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل، وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه؛ قالوا وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين، ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم؛ مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية. وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظة الحكماء في وجوب النبؤات في البشر. وقد نبهنا على فساده، وأن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلم؛ لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة ولو لم يكن شرع، كما في أمم المجوس وغيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة؛ أو نقول يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل. فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك، ونصب الإمام هنا غير صحيح؛ بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم؛ فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة. فدل على أن مدرك وجوبه إنما هو بالشرع وهو الإجماع الذي قدمنا.وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأساً لا بالعقل ولا بالشرع؛ منهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم؛ والواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء أحكام الشرع؛ فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه. وهؤلاء محجوجون بالإجماع. والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا، لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك، والنعي على أهله، ومرغبة في رفضه.واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته ولا حظر القيام به، وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهم والظلم والتمتع باللذات؛ ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة وهي من توابعه؛ كما أثنى على العدل والنصفة وإقامة مراسم الدين والذب عنه، وأوجب بإزائها الثواب وهي كلها من توابع الفلك. فإذا إنما وقع الذم للملك على صفة وحال دون حال أخرى، ولم يذمه لذاته، ولا طلب تركه؛ كما ذم الشهوة والغضب من المكلفين، وليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليها، وأما المراد تصريفهما على مقتضى الحق.وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما، وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده. ثم نقول لهم إن هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النصب لا يغنيكم شيئاً، لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة، وذلك لا يحصل إلا بالعصبية والشوكة، والعصبية مقتضية بطبعها للفلك، فيحصل الملك وإن لم ينصب إمام، وهو عين ما قررتم عنه وإذا تقرر أن هذا النصب واجب بإجماع، فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحل، فيتعين عليهم نصبه، ويجب على الخلق جميعا طاعته، لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].وأما شروط هذا المنصب فهي أربعه: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء؛ مما يؤثر في الرأي والعمل. واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشى.فأما اشتراط العلم فظاهر؛ لأنه إنما يكون منفذاً لأحكام الله تعالى إذا كان عالماً بها، وما لم يعلمها لا يصخ تقديمه لها. ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهداً،لأ ن التقليد نقص؛ والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال.وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه. ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها. وفي انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف.
وأما الكفاية فهو أن يكون جريئاً على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيراً بها، كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفاً بالعصبية وأحوال الدهاء، قوياً على معاناة السياسة؛ ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين، وجهاد العدو، وإقامة الأحكام، وتدبير المصالح.وأما سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة كالجنون والعمى والصمم والخرس، وما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرجلين والأنثيين فتشترط السلامة منها كلها، لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه. وإن كان إنما يشين في المنظر فقط؛ كفقد إحدى هذه الأعضاء، فشرط السلامة منه شرط كمال. ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف. وهو ضربان: ضرب يلحق بهذه في اشتراط السلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التصرف جملة بالأسر وشبهه؛ وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقة، فينتقل النظر في حال هذا المستولي، فإن جرى على حكم الدين والعدل وحميد السياسة جاز قراره، وإلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علته، حتى ينفذ فعل الخليفة. وأما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك، واحتجت قريش على الأنصار لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة وقالوا: "منا أمير ومنكم أمير" بقوله : <<الأئمة من قريش>> وبأن النبي أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم، ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية بكم؛ فحجوا الأنصار، ورجعوا عن قولهم: "منا أمير ومنكم أمير"، وعدلوا عما كانوا هموا به من بيعة سعد لذلك. وثبت أيضاً في الصحيح: "لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش " وأمثال هذه الأدلة كثيرة. إلا أنه لما ضعف أمر قريش وتلاشت
عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة، وتغلبت عليهم الأعاجم وصار الحل والعقد لهم، فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتي ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية وعولوا على ظواهر في ذلك، مثل قوله : <<اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة>>، وهذا لا تقوم به حجة في ذلك، فإنه خرج مخرج التمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة؛ ومثل قول عمر "لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته " أو"لما دخلتني فيه الظنة"، وهو أيضاً لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة، وأيضاً فمولى القوم منهم، وعصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش، وهي الفائدة في اشتراط النسب. ولما استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه، عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه، حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر، ولم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه، إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية وهي حاصلة من الولاء. فكان ذلك حرصاً0 من عمر رضي الله عنه على النظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة.ومن القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني، لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء، فأسقط شرط القرشية، وإن كان موافقاً لرأي الخوارج، لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده. وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحة الإمامة للقرشي، ولو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين. ورد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره؛ لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية؛ وإذا وقع الإخلال بشرط الكافاية تطرق ذلك أيضاً إلى العلم والدين، وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الإجماع.ولنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول: إن الأحكام الشرعية كلها لا بد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها، وتشرع لأجلها. ونحن إذا بحثناً عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه، لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي كما هو في المشهور، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا؛ لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت، فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها. وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها. وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم، وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف. فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم. فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم، وعدم انقيادهم؛ ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر ان يردهم عن الخلاف، ولا يحملهم على الكرة، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة. والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم، ورفع التنازع والشتات بينهم، لتحصل اللحمة والعصبية وتحسن الحماية. بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش، لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم، فلا يخشى من أحد خلاف عليهم ولا فرقة؛ لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها. فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب، وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة؛ وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر اجمع، فأذعن لهم سائر العرب، وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة، ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات، واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة.، وتلاشت عصبية العرب. ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتغلب على بطون مضر، من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطن لذلك في أحوالهم. وقد ذكر ذلك ابن إسحق في كتاب السير وغيره. فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها، وطردنا العفة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها، ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية. ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية، إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة، وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة. وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا؛ لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم، وهو مخاطب يذلك، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه. ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب في شأن النساء وأنهن في كثير من الأحكام الشرعية جعلن تبعا للرجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع وإنما دخلن عنده بالقياس، وذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرجال قوامين عليهن، اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه، فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس. ثم إن الوجود شاهد بذلك؛ فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم. وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفاً لأمر الوجودي. والله تعالى أعلم.
الفصل السابع والعشرون في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والاتباع، ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على اتباع علي وبنيه رضي الله عنهم. ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر، وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة. وتنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلي وخفي: فالجلي مثل قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه ". قالوا: ولم تطرد هذه الولاية إلا في علي، ولهذا قال له عمر: "أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة". ومنها قوله: "أقضاكم علي"، 0ولا معنى للإمامة إلا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله: {أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، والمراد الحكم والقضاء. ولهذا كان حكماً
في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره. ومنها قوله: "من يبايعني على روحه وهو وصي وولي هذا الأمر من بعدي "، فلم يبايعه إلا علي.
ومن الخفي عندهم بعث النبي عليا لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت؛ فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغه رجل منك أو من قومك، فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ. قالوا: وهذا يدل على تقديم علي. وأيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً علي علي. وأما أبو بكر وعمر فقدم عليهما في غزاتين، أسامة بن زيد مرة وعمرو بن العاص أخرى. وهذه كلها أدلة شاهدة بتعين علي للخلافة دون غيره. فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم.ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي وتشخيصه، وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية، ويتبرأون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً ويبايعوه بمقتضى هذه النصوص، ويغمصون في إمامتهما. ولا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم.ومنهم من يقول: إن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص، والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه، وهؤلاء هم الزيدية، ولا يتبرأون من الشيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما، لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل. ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد علي: فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحدٍ على ما يذكر بعد؛ وهؤلاء يسمون الإمامية نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان، وهي أصل عندهم؛ ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ؛ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالماً زاهداً جواداًشجاعاً داعياً إلى إمامته؛ وهؤلاء هم
الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب، وهو زيد بن علي بن الحسين السبط، وقد كان يناظر أخاه محمدا الباقر على اشتراط الخروج في الإمام، فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماما لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج. وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إياها عن واصل بن عطاء. ولما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمة، وبذلك سموا رافضة. ومنهم من ساقها بعد علي وابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمد بن الحنفية، ثم إلى ولده، وهم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه. وبين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً.ومنهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة. إما على أنهم بشر اتصفوا بصفات الألوهية؛ أو أن الإله حل في ذاته البشرية، وهو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله عليه. ولقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم، وسخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه، فصرح بلعنته والبراءة منه، وكذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه. ومنهم من يقول: إن كمال الإمام لا يكون لغيره، فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال؛ وهو قول بالتناسخ.ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم، وهؤلاء هم الواقفية. فبعضهم يقول هو حي لم يمت إلا انه غائب عن أعين الناس، ويستشهدون لذلك بقصة الخضر، قيل مثل ذلك في علي رضي الله عنه وإنه في السحاب، والرعد
صوته، والبرق في صوته. وقالوا مثله في محمد بن الحنفية وإنه في جبل رضوى من أرض الحجاز، وقال شاعرهم:
- ألا إن الأئمة من قريــــــش ولاة الحق أربعة ســــــواء
- علي والثلاثة من بنيـــــــــه هم الأسباط ليس بهم خفـاء
- فسبط سبط إيمان وبـــــــــر وسبط غيبته كر بـــــــــلاء
- وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللــواء
- تغيب لا يرى فيهم زمــــاناً بر ضوى عنده عسل وماء
وقال مثله غلاة الإمامية، وخصوصا الاثني عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم، وهو محمد بن الحسن العسكري ويلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم في الحلة وتغيب حين اعتقل مع أمه وغاب هنالك، وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً؛ يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي؛ وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمونه المنتظر لذلك، ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب، وقد قوموا مركبا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج، حتى تشتبك النجوم، ثم ينفضون ويرجئون الأمر إلى الليلة الآتية وهم علي ذلك لهذا العهد وبعض هؤلاء الواقفية يقول: إن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا. ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف، والذي مر على قرية، وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها. ومثل ذلك من الخوارق التي وقعت على طريق المعجزة، ولا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها. وكان من هؤلاء السيد الحميري، ومن شعره في ذلك:
- إذا ما المرء شاب له قذال وعلله المواشط بالخضـــــاب
- فقد ذهبت بشاشته وأودى فقم يا صاح نبك على الشباب
- إلى يوم تتوب الناس فيه إلى دنيا هم قبل الحســـــــــاب
- فليس بعائد ما فات منــه إلى أحد إلى يوم الإيـــــــــــاب
- أدين بأن ذلك دين حـــق وما أنا في النشور بذي ارتياب
- كذاك الله أخبر عن أناس حيوا من بعد درس في التـراب
وقد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة، فإنهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها.وأما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم، وهؤلاء هم الهاشمية. ثم افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي. وآخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام، وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثية الملقب بالسفاح،وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور، وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحدا بعد واحد إلى آخرهم. وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس. وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثير، وأبو سلمة الخلال وغيرهم من شيعة العباسية. وربما يعضدون ذلك بان حقهم في هذا الأمر يصل إليهم من العباس لأنه كان حياً وقت الوفاة، وهو أولى بالوراثة بعصبية العمومة.وأما الزيدية فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها وأنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص. فقالوا بإمامة علي، ثم ابنه الحسن، ثم أخيه الحسين، ثم ابنه علي زين العابدين، ثم ابنه زيد بن علي وهو صاحب هذا المذهب. وخرج بالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة. وقال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده، فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان، بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط، ويقال له النفس الزكية، فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدي وجاءته عساكر المنصور فقتل، وعهد إلى أخيه إبراهيم، فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن علي، فوجه إليهم المنصور عساكره فهزم، وقتل إبراهيم وعيسى؛ وكان جعفر الصادق
أخبرهم بذلك كله، وهي معدودة في كراماته.وذهب آخرون منهم إلى أن الإمام بعد محمد بن عبد الله النفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر، وعمر هو أخو زيد بن علي، فخرج محمد بن القاسم بالطالقان، فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه. وقال آخرون من الزيدية: إن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع المنصور، ونقلوا الإمامة في عقبه، وإليه انتسب دعي الزنج كما نذكره في أخبارهم.وقال آخرون من الزيدية: إن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات هنالك، وقام بأمره ابنه إدريس واختط مدينة فاس، وكان من بعده عقبه ملوكا بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم.وبقي أمر الزيدية بعد ذلك غير منتظم. وكان منهم الداعي الذي ملك طبرستان،وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط؛ وأخوه محمد بن زيد. ثم قام بهذه الدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم، وأسلموا على يده، وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر، وعمر أخو زيد بن علي، فكانت لبنيه بطبرستان دولة، وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم.وأما الإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضى إلى ابنه الحسن بالوصية، ثم إلى أخيه الحسين، ثم إلى ابنه علي زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصادق. ومن هنا افترقوا فرقتين: فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم الإسماعيلية؛ وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشرية لوقوفهم عند الثاني عشر من الأئمة وقولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر فأما الإسماعيلية فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر. وفائدة النص عليه عندهم، وإن كان قد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات الله عليهما. قالوا: ثم انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم، وهو أول الأئمة المستورين؛ لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق، وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته. قالوا وبعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق وبعده ابنه محمد الحبيب وهو آخر المستورين؛ وبعده ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة، وتتابع الناس على دعوته، ثم أخرجه من معتقله بسجلماسة، وملك القيروان والمغرب وملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم.ويسمى هؤلاء الإسماعيلية، نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل، ويسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور، ويسمون أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد. ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة، وملك حصوناً بالشام والعراق، ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر، وملوك التتر بالعراق فانقرضت. ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب "الملل والنحل " للشهرستاني.وأما الاثنا عشرية خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم، فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر، فنص على إمامة موسى هذا، ثم ابنه عليٍّ الرضا الذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتم له أمر، ثم ابنه محمد التقي، ثم ابنه علي الهادي، ثم ابنه محمد الحسن العسكري، ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل.وفي كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثير؛ إلا أن هذه أشهر مذاهبهم، ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب "الملل والنحل " لابن حزم والشهرستاني وغيرهما، ففيها بيان ذلك. والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو العلي الكبير.
الفصل الثامن والعشرون في انقلاب الخلافة إلي الملك إعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل، وان الشرائع والديانات وكل أمر يحل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية، إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه؛ فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها يتم أمر الله منها. وفي الصحيح: <<ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه >>. ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية وندب إلى اطراحها وتركها فقال: <<إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، انتم بنو آدم وآدم من تراب >>، وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. ووجدناه أيضاً قد ذم الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق، والإسراف في غير القصد والتنكب عن صراط الله. وإنما حض على الإلفة في الدين وحذر من الخلاف والفرقة.وأعلم أن الدنيا كلها وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة، ومن فقد المطية فقد الوصول. وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله، وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية؛ إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة، حتى تصير المقاصد كلها حقا وتتحد الوجهة؛ كما قال : <<من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه>>. فلم يذم الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان، فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله؛ وإنما يذم الغضب
للشيطان ولأغراض الذميمة؛ فإذا كان الغضب لذلك كان مذموماً وإذا كان الغضب في الله ولله كان ممدوحاً؛ وهو من شمائله .وكذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية؛ فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه؛ وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح؛ ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية، وكذا العصبية حيث ذمها الشارع، وقال: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ولا أَوَلادُكُمْ} [الممتحنة: 3] فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهلية، وأن يكون لأحد فخر بها أو حق على أحد، لان ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الآخرة التي هي دار القرار. فأما إذا كانت العصبية في الحق وإقامة أمر الله فأمر مطلوب، ولو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل. وكذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح؛ وإنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات كما قلناه. فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس انه لله ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذموماً.وقد قال سليمان صلوات الله عليه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [صلى الله عليه وسلم: 35]؛ لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك.ولما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة استنكر ذلك وقال: "أكسروية يا معاوية؟ "؛ فقال: "يا أمير المؤمنين إنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة"؛ فسكت ولم يخطئه في انقلاب الخلافة إلى الملك ارتكاب الباطل والظلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله؛ وأجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس وباطلهم، وإنما قصده بها وجه الله فسكت. وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل.فلما استحضر رسول الله استخلف أبا بكر على الصلاة، إذ هي أهم أمور الدين وارتضاه الناس للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة؛ ولم يجر للملك ذكر، لما انه مظنة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين. فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه، وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام.ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره، وقاتل الأمم فغلبهم، وأذن للعرب في انتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه، وانتزعوه منهم. ثم صارت إلى عثمان بن عفان؛ ثم إلى علي رضي الله عنهما؛ والكل متبرئون من الملك متنكبون على طرقه. وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب، فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها، لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم، ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم، وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه.فلم تكن أمة من الأمم أشغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع، وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن؛ فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها. ولقد كانوا كثيرا ما يأكلون العقارب والخنافس، ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه. وقريباً من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم.حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد ، زحفوا إلى أمم فارس والروم، وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق. فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم، فزخرت بحار الرفه لديهم، حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها. فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر. وهم مع ذلك على خشونة عيشهم، فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد، وكان علي يقول: "يا صفراء ويا بيضاء غري غيري ". وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقفتها يومئذ. وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة؛ وإنما كانوا يأكلون الحنطة بنخالها. ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم.قال المسعودي: في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف إبلا وخيلا كثيرة. وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخفف ألف فرس وألف أمة. وكان غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة اكثر من ذلك. وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً. وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار. وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية. وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج. وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات. وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقاراً وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم 1هـ. كلام المسعودي.فكانت مكاسب القوم كما تراه، ولم يكن ذلك منعياً عليهم في دينهم، إذ هي أموال لأنها غنائم وفيوء، ولم يكن تصرفهم فيها بإسراف، إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه؛ فلم يكن ذلك بقادح فيهم، وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموما فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد. وإذا كان حالهم قصداً ونفقاتهم في سبل الحق ومذاهبه كان ذلك الاستكثارعوناً لهم على طرق الحق واكتساب الدار الآخرة. فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها، وجاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه، وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال؛ فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق.ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد، كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد. وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه. وإن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل؛ إنما قصد الحق وأخطأ. والكل كانوا في مقاصدهم على حق.ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد، واستئثار الواحد به. ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها، واستشعرته بنو أمية، ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من اتباعهم فاعصوصبوا عليه، واستماتوا دونه. ولم حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة. وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر: "لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة". ولو أراد أن يعهد إليه لفعل؛ ولكنه كان يخشى من بني أمية أهل الحل والعقد لما ذكرناه؛ فلا يقدران يحول الأمر عنهم، لئلا تقع الفرقة. وهذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية. فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه. ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به، وكانوا ما علمت من النبؤة والحق. وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه؛ مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره؛ فلم يكن ليعهد إليه، وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك.وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكاً فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي، إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هواهم لديهم من كل مقصد. يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء، وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم. فقد احتج مالك في الموطإ بعمل عبد الملك.وأما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين، وعدالتهم معروفة. ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك، وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه. وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده، ولم يهمل. ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها. فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم. وولي رجائها الأمر فكانوا من العدالة بمكان، وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا؛ حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح والطالح. ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه، وانغمسوا في الدنيا وباطلها، ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً، فتأذن الله بحربهم، وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة، وأمكن سواهم منه. والله لا يظلم مثقال ذرة.ومن تأمل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه. وقد حكى المسعودي مثله في أحوال بني أمية عن أبي جعفر المنصور، وقد حضر عمومته وذكروا بني أمية فقال: "أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع؛ وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه؛ وأما عمر فكان أعور بين عميان؛ وكان رجل القوم هشام ". قال: ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه، مع تسنمهم معالي الأمور، ورفضهم دنياتها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت همتهم قصد الشهوات، وركوب اللذات من معاصى الله جهلاً باستدراجه وأمناً لمكره، مع اطراحهم صيانة الخلافة، واستخفافهم بحق الرئاسة وضعفهم عن السياسة، فسلبهم الله العز وألبسهم الذل، ونفى عنهم النعمة". ثم استحضر عبد الله بن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح. قال: "أقمت مليا ثم أتاني ملكهم فاقعد على الأرض وقد بسطت له فرش ذات قيمة، فقلت له ما منعك من القعود على ثيابنا؛ فقال: إني ملك وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله. ثم قال: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؛ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال: فلم تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم؛ قلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال: فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا. فأطرق ينكت بيده في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا! ثم رفع رأسه إلي وقال: "ليس كما ذكرت! بل انتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم،وأتيتم ما عنه نهيتم؛ وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم. ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم. وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وانتم ببلدي فينالني معكم. وإنما الضيافة ثلاث. فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن ارضي ". فتعجب المنصور وأطرق.فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك، وان الأمر كان في أوله خلافة،ووازع كل أحد فيها من نفسه وهو الدين، وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة. فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه، فأبى ومنع من سل السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظاً للإلفة التي بها حفظ الكلمة، ولو أدى إلى هلاكه. وهذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته، وتتفق الكلمة، وله بعد ذلك ما شاء من أمره، وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام. وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق والنصيحة، وان الحق فيما رأيته أنت، فقال علي: لا والله، بل اعلم انك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم. ولكن منعني مما أشرت به زائد الحق. وهكذا كانت أحوالهم في اصطلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن:
- نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً. وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك، والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده. ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر ملكاً بحتاً، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ. وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك، ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس، واسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب. والخلافة والملك في الطورين فلتبس بعضها ببعض. ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكاً بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق، يدينون بطاعة الخليفة تبركاً، والملك جميع ألقابه ومناحيه لهم، وليس للخليفة منه شيء. وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين، ومغراوة وبني يفرن أيضاً مع خلفاء بني امية بالأندلس، والعبيديين بالقيروان. فقد تبين أن الخلافة قد
وجدت بدون الملك أولاً، ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك، حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة. والله مقدر الليل والنهار، وهو الواحد القهار.
الفصل التاسع والعشرون في معني البيعة إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة؛ كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد؛ فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري؛ فسمي بيعة؛ مصدر باع؛ وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع؛ وهو المراد في الحديث في بيعة النبي ليلة العقبة وعند الشجرة، وحيثما ورد هذا اللفظ، ومنه بيعة الخلفاء. ومنه أيمان البيعة. كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك، فسمي هذا الاستيعاب أيمان البيعة؛ وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب. ولهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه، ورأوها قادحة في أيمان البيعة، ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه.وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل، أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية، والتزام الآداب، من لوازم الطاعة وتوابعها؛ وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغني بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل، لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافيين للرياسة، وصون المنصب الملوكي؛ إلا في الأقل
ممن يقصد التواضع من الملوك، فيأخذ به نفسه مع خواصه ومشاهير أهل الدين من رعيته. فافهم معنى البيعة في العرف؛ فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه، ولا تكون أفعاله عبثاً ومجاناً، واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك. والله القوي العزيز.
الفصل الثلاثون في ولاية العهد إعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة ومشروعيتها لما فيها من المصلحة، وأن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم؛ فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته، وبقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها، ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل. وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة علم جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله لعمر بمحضر من الصحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم.وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة: بقية العشرة، وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض، حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان وعلى علي، فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده، فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته. والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية، ولم ينكره أحد منهم. فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته.
والإجماع حجة كما عرف.ولا يتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته، فأولى أن لا يحتمل شيها تبعة بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد، فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله، لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه، من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب. والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذ، لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم. فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع. وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه؛ فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق؛ فإنهم كلهم أجل من ذلك، وعدالتهم مانعة منه. وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً، كما هو معروف عنه. ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف. ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين، والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم، وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك؛ فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك، وكان الوازع دينياً، فعند كل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره، ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه، وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك
والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني. فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف. سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر، فقال: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم والٍ على مثلك، يشير إلى وازع الدين. أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك، ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي، وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده، فلا بد من اعتبار ذلك في العهد، فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من أمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخضه، لطفاً من الله بعباده.وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية؛إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده، ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث بالمناصب الدينية. والملك لله يؤتيه من يشاء.وعرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته. فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد؛ فإنه اعدل من ذلك وأفضل؛ بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه، وهو أقل من ذلك، وكانت مذاهبهم فيه مختلفة. ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه. فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من اجل ذلك، كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في ذلك؛ ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به؛ لأن شوكة يزيد يومئذ هي
عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش،وتستتبع عصبية مضر أجمع، وهي أعظم من كل شوكة، ولا تطاق مقاومتهم؛ فأ قصروا عن يزيد بسبب ذلك، وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه؛ وهذا كان شأن جمهور المسلمين. والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين، فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم.
والأمر الثاني هو شأن العهد من النبي وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنه. وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل. والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من ذلك فدليل واضح على انه لم يقع، وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال: إن أعهد لقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي لم يعهد. وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي يسألانه عن شأنهما في العهد، فأبى علي من ذلك وقال: إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر؛ وهذا دليل على أن علياً علم انه لم يوص ولا عهد إلى أحدٍ. وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون، وليس كذلك؛ وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق. ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة، ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة، ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة.واحتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، دليل على أن الوصية لم تقع. ويدل ذلك أيضاًعلى أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهما كما هو اليوم، وشأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار؛ لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه، واستماتة الناس دونه؛ وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور
الملائكة لنصرهم، وتردد خبر السماء بينهم، وتجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم. فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان، وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة؛ والملائكة المترددة التي وجموا منها، ودهشوا من تتابعها. فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية، وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل، كما وقع. فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات، ثم بفناء القرون الذين شاهدوها، فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان. فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد، وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهما من المهمات الأكيدة كما زعموا، ولم يكن ذلك من قبل.فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي غير مهمة، فلم يعهد فيها. ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الردة والفتوحات، فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه. ثم صارت اليوم من أهم الأمورللإ لفة على الحماية، والقيام بالمصالح؛ فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل، ومنشأ الاجتماع والتوافق، الكفيل بمقاصد الشريعة وأحكامها.
والأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين. فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة، والمجتهدون إذا اختلفوا: فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين، ومن لم يصادفه فهو مخطئ، فإن جهته لا تتعين بإجماع، فيبقى الكل على احتمال الإصابة، ولا تتعين المخطئ منها، والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً؛ وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب، فأحرى بنفي الخطإ والتأثيم. وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين انه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية. وهذا حكمة. والذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو
واقعة علي مع معاوية ومع الزبير وعائشة وطلحة، وواقعة الحسين مع يزيد، وواقعة ابن الزبير مع عبد الملك:فأما واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في أمصار، فلم يشهدوا بيعة علي. والذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعدٍ وسعيدٍ، وابن عمر، وأسامة بن زيد، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن سلام، وقدامة بن مظعون، وأبي سعيدٍ الخدري، وكعب بن عجرة، وكعب بن مالك، والنعمان بن بشير، وحسان بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصحابة. والذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى، حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه. وظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتليه، لا في الممالأة عليه، فحاش لله من ذلك. ولقد كان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط. ثم اختلفوا بعد ذلك، فرأى علي أن بيعته قد انعقدت، ولزمت من تأخر عنها، باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة: دار النبي وموطن الصحابة، وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة، فيتمكن حينئذ من ذلك. ورأى الآخرون أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالآفاق، ولم يحضر إلا قليل ولا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل والعقد، ولا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم، وأن المسلمين حينئذ فوضى، فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام. وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأم المؤمنين عائشة والزبير وابنه عبد الله، وطلحة وابنه محمد، وسعد وسعيد، والنعمان بن بشير ومعاوية بن خديج، ومن كان على رأيهم من الصحابة الذين تخففوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا. إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين، وتصويب رأيه فيما ذهب إليه، وتعين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه، وخصوصاً طلحة والزبير لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل، مع دفع التأثيم عن كل من الفريقين، كالشأن في المجتهدين. وصار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، كما هو معروف. ولقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين، فقال: "والذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء وقلبه نقي إلا دخل الجنة" يشير إلى الفريقين؛ نقله الطبري وغيره. فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك، فهم من علمت ؛ وأقوالهم وأفعالهم إنما هي عن المستندات، وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة، إلا قولا للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق ولا عرج عليه. وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان، واختلاف الصحابة من بعد، وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة، بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم وملكهم أرضهم وديارهم، ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشام ومصر. وكان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي، ولا هذبتهم سيرته وآدابه ولا ارتاضوا بخلقه، مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان. وإذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان، فاستنكفوا من ذلك وغصوا به، لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم، ومصادمة فارس والروم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم، وقيس من مضر. فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم، والتمريض في طاعتهم، والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم، والطعن فيهم بالعجز عن السوية، والعدل في القسم عن التسوية، وفشت المقالة بذلك، وانتهت إلى المدينة، وهم من علمت. فأعظموه وابلغوه عثمان، فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر. بعث ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً ولا رأوا عليهم طعناً، وأدوا ذلك كما علموه. فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار. وما زالت الشناعات تنمو. ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر، وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله. ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال، وشكوا إلى عائشة وعلي والزبير وطلحة، وعزل لهم عثمان بعض العمال. فلم تنقطع بذلك ألسنتهم؛ بل وفد سعيد بن العاص وهو على الكوفة، فلما رجع اعترضوه بالطريق وردوه معزولاً. ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه عن العزل، فأبى إلا أن يكون على جرحة. ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسك بالاجتهاد، وهم أيضاً كذلك. ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله. وفيهم من البصرة والكوفة ومصر. وقام معهم في ذلك علي وعائشة والزبير وطلحة وغيرهم، يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم. وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً. ثم رجعوا وقد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون انهم لقوه في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم، وحلف عثمان على ذلك؛ فقالوا: مكنا من مروان فإنه كاتبك، فحلف مروان؛ فقال عثمان ليس في الحكم أكثر من هذا. فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس وقتلوه، وانفتح باب الفتنة.فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع وكلهم كانوا مهتمين باع مر الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته. ثم نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا. والله مطلع على أحوالهم وعالم بهم. ونحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم، ومقالات الصادق فيهم.
مقتل الحسين بن علي: وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره، بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره. فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك، وظنها من، نفسه بأهليته
وشوكته. فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها؛لأن عصبية مضر كانت في قريش عصبية قريش في عبد مناف، وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس، ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق، وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين. فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت، ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين، والدين فيها محكم والعادة معزولة. حتى إذا انقطع أمر النبؤة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد؛ فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل.فقد تبين لك غلط الحسين؛ إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه. وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك. ولقد عذله ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة، وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله. وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم، فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فاقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، ولا أنكروا عليه، ولا أثموه، لأنه مجتهد وهو أسوةً المجتهدين.ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره؛فانهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه، ويقول: سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك، وسهل بن سعيد، وزيد بن أرقم وأمثالهم. ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض لذلك، لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعله عن اجتهاد منه. وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد، ويكون ذلك كما يحد الشافعي والمالكي والحنفي على شرب النبيذ. واعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم؛ وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه. ولا تقولن إن يزيد وإن كان فاسقاً ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة. واعلم انه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً. وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا؛ فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه؛ والحسين فيها شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً واجتهاد.وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه :
أن الحسين قتل بشرع جده؛ وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل؛ ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء وأما ابن الزبير فإنه رأى في قيامه ما رآه الحسين وظن كما ظن، وغلطه في أمر الشوكة أعظم؛ لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في جاهلية ولا إسلام. والقول بتعين الخطإ في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع علي لا سبيل إليه، لان الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده هاهنا. وأما يزيد فعين خطاه فسقه. وعبد الملك صاحب ابن الزبير اعظم الناس عدالة، وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عباس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير وهم معه بالحجاز؛ مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد، لأنه لم يحضرها أهل العقد والحل كبيعة مروان؛ وابن الزبير على خلاف ذلك؛ والكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر؛ وإن لم يتعين في جهة منهما. والقتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه؛ مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحريه الحق. هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين، فهم خيار الأمة، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص
بالعدالة، والنبي يقول: <<خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو الكذب >>، فجعل الخيرة، وهي العدالة مختصة بالقرن الأول والذي يليه. فإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم، ولا تشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع منهم؛ والتمس لهم مذاهب الحق وطرقه ما استطعت فهم أولى الناس بذلك؛ وما اختلفوا إلا عن بينة، وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق، واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة، ليقتدي كل واحدٍ بمن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله. فافهم ذلك؛ وتبين حكمة الله في خلقه وأكوانه، واعلم انه على كل شيء قدير وإليه الملجأ والمصير. والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع متصرف في الأمرين: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها؛ وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري. وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك، لئلا يفسد إن أهملت؛ وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنما تكون اكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلامياً ويكون من توابعها. وقد ينفرد إذا كان في غير الملة. وله على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططاً وتتوزع على رجال الدولة وظائف، فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم، فيتم بذلك أمره، ويحسن قيامه بسلطانه. وأما المنصب الخلافي وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يختص بخطط ومراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين. فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة، ونرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية.
فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام المشرع فيها على العموم. فأما (إمامة الصلاة) فهي ارفع هذه الخطط كلها وارفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. ولقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم: ارتضاه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؛ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس. وإذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة، وأخرى دونها مختصة بقوم أو محفة وليست للصلوات العامة. فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو وزير أو قاض، فينضب لها الإمام في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء. وتعين ذلك إنما هو من طريق الأولى
والاستحسان ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة. وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة، فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً. وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان. وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي وغيره، فلا نطول بذكرها. ولقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس. وانظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الآذان بالصلاة وترصدهم لذلك في أوقاتها، يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وانهم لم يكونوا يستخلفون فيها. وكذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه: قد جعلت لك حجابة بأبي إلا عن ثلاثة: صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير؛ والآذن بالصلاة فإنه داع إلى الله؛ والبريد فإن في تأخيره فساد القاصية. فلما جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والترفع عن مساواة الناس في دينهم ودنياهم، استنابوا في الصلاة، فكانوا يستأثرون بها في الأحيان، وفي الصلوات العامة كالعيدين والجمعة إشادة وتنويها. فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس والعبيديين، صدر دولتهم. وأما "الفتيا" فللخليفة، تصفح أهل العلم والتدريس، ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك، ومنع من ليس أهلا لها وزجره؛ لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم، فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه والجلوس لذلك في المساجد. فإن كانت من المساجد العظام، التي للسلطان الولاية عليها أو النظر في أئمتها كما مر، فلا بد من استئذانه في ذلك، وإن كان من مساجد العامة، فلا يتوقف ذلك على إذن. على انه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه يمنعه عن
التصدي لما ليس له بأهل فيضل به المستهدي ويضل به المسترشد. وفي الأثر: "أجرأكم على الفتيا أجرأكم على جراثيم جهنم ". فللسطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد.
وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للتنازع؛ إلا انه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة؛ فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجاً في عمومها. وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء منه بالمدينة، وولى شريحاً بالبصرة وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة. وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه.يقول: أما بعد: " فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته أمس، فراجعت اليوم فيه عملك، وهديت فيه لرشدك؛ أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنةٍ. ثم اعرف الأمثال والأشباه؛ وقس الأمور بنظائرها. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن احضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإن ذلك انفى للشك واجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه
شهادة زور، أو ظنيناً في نسب أو ولاء؛ فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان، ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم؛ فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر وبحسن به الذكر والسلام ". انتهى كتاب عمر.وإنما كانوا يقلدون القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم، لقيامهم بالسياسة العامة وكثرة أشغالها، من الجهاد والفتوحات وسد الثغور وحماية البيضة، ولم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية. فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس، واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم. وكانوا مع ذلك إنما يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء ولا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك.وأما أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه، وخصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط؛ ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى. واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم، بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته وتوابع ولايته.وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم، وهي وظيفة ممتزجة، من سطوة السلطنة ونصفة القضاء. وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه. ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد الأمارات والقرائن، وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق، وحمل الخصمين على الصلح، واستحلاف الشهود؛ وذلك أوسع من نظر القاضي.
وكان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس،وربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولاني، وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثر، والمعتصم لأحمد بن أبي داود. وربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف. وكان يحيى بن أكثر يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس. فكانت تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.وكان أيضاً النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس، والعبيديين بمصر والمغرب، راجعاً إلى صاحب الشرطة؛ وهي وظيفة أخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول، توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً، فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويقيم الحدود الثابتة في محالها، ويحكم في القود والقصاص، ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة. ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسي فيها أمر الخلافة؛ فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان، كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن. وانقسمت وظيفة الشرطة قسمين: منها وظيفة التهمة على الجرائم، وإقامة حدودها، ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعين؛ ونصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية، ويسمى تارةً باسم الوالي، وتارةً باسم الشرطة. وبقي قسم التعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً، فجمع
ذلك للقاضي مع ما تقدم وصار ذلك من توابع وظيفته وولايته. واستقر الأمر لهذا العهد على ذلك. وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة. لان الأمر لما كان خلافة دينية، وهذه الخطة من مراسم الذين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه. ولما انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كله ملكاً أو سلطاناً صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء، لأنها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه، ثم خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم الترك والبربر، فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها. وذلك أن العرب كانوا يرونه أن الشريعة دينهم، وان النبي منهم، وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك، إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غير عصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة.
وكان أولئك المتأهلون لما أخذهم ترث الدول منذ مئين من السنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها، والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدول الملوكية من بعد الخلفاء مختصة بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار، ونزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة، فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف والدعة، البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة وأخذها بأحكام الشريعة، لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، وإنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية، ولم يكن لهم فيها من الحل والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل والعقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حلً له ولا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم، وتلقي الفتاوى منهم فنعم. والله الموفق. وربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك، وان فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشورى مرجوح، وقد قال : <<العلماء ورثة الأنبياء>>. فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه. وحكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك، لأن الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حلً أو عقدٍ أو فعلٍ أو ترك، وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا من حمايتها، وإنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها. وإنما إكرامهم من تبرعات الملوك والأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب. وأما قوله: <<العلماء ورثة الأنبياء>>، فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات وكيفية القضاء في المعاملات، ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها؛ هذه غاية أكابرهم ولا يتصفون إلا بالأقل منها، وفي بعض الأحوال. والسلف رضوان الله عليهم وأهل الدين والورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها وتحققاً بمذاهبها. فمن حملها اتصافاً وتحققاً دون نقل فهو من الوارثين، مثل أهل رسالة القشيري.ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة، مثل فقهاء التابعين والسلف والأئمة الأربعة ومن اقتفى طريقهم، وجاء على أثرهم. وإذا انفرد واحد من الأئمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد؛ لأن العابد ورث بصفة والفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً، إنما هو صاحب أقوال ينصها علينا في كيفيات العمل؛ وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا، {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.[سورة…الآية…] وقليل ما هم .
العدالة: وهي وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه. وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم،تحملاً عند الإشهاد وأداءً عند التنازع، وكتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم. وشرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية والبراءة من الجرح، ثم القيام بكتب السجلات والعقود من جهة عبارتها وانتظام فصولها، ومن جهة إحكام شروطها الشرعية وعقودها؛ فيحتاج حينئذٍ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه. ولأجل هذه الشروط وما يحتاج إليه من المران على ذلك والممارسة له اختص ذلك ببعض العدول، وصار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة، وليس كذلك، وإنما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة.ويجب على القاضي تصفح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم، وأن لا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس، فالعهدة عليه في ذلك كله، وهو ضامن دركه. وإذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عفت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار واشتباه الأحوال، واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة، فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف. ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب.وصار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها وبين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح. وقد يتواردان ويفترقان. والله تعالى اعلم. الحسبة والسكة: أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين؛ يعين لذلك من يراه أهلاً له، فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزز ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة: مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة؛ والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين. ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك، ويرفع إليه. وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً؛ بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها، وفي المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة، ولا إنفاذ حكم.وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها. فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء. وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره. ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاما في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية.
وأما السكة فهي النظر في النقود المتعامل بها بين الناس، وحفظها مما يداخلها من الغش أو النقص إن كان يتعامل بها عدداً أو ما يتعلق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات، ثم في وضع علامة السلطان على تلك النقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتخذ لذلك، ونقش فيه نقوش خاصة به، فيوضع على الدينار بعد أن يقدر ويضرب عليه بالمطرقة حتى ترسم فيه تلك النقوش، وتكون علامة على جودته بحسب الغاية التي وقف عندها السبك والتخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدولة الحاكمة، فإن السبك والتخليص
في النقود لا يقف عند غاية، وإنما ترجع غايته إلى الاجتهاد؛ فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التخليص وقفوا عندها وسموها إماماً وعياراً يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته، فإن نقص عن ذلك كان زيفاً.والنظر في ذلك كله لصاحب هذه الوظيفة. وهي دينية بهذا الاعتبار، فتندرج تحت الخلافة. وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي، ثم أفردت لهذا العهد كما وقع في الحسبة.
هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافية، وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانية: فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانية، نتكلم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد؛ ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالباً في السلطانيات.وكذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها. وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسياسة في سائر الدول لهذا العهد. والله مصرف الأمور كيف يشاء. الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين وأنه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء وذلك أنه لما بويع أبو بكر رضي الله عنه، كان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمون خليفة رسول الله ، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك. فلما بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله . وكأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول إضافته وانه يتزايد فيما بعد دائماً إلى أن ينتهي إلى الهجنة، ويذهب منه التمييز بتعدد الإضافات وكثرتها، فلا يعرف. فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه ويدعى به مثله
وكانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة. وقد كان الجاهلية يدعون النبي أمير مكة وأمير الحجاز؛ وكان الصحابة أيضاً يدعون سعد بن أبي وقاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسية، وهم معظم المسلمين يومئذ.واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين، فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به. يقال: إن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش؛ وقيل: عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة؛ وقيل: بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين، وسمعها أصحابه فاستحسنوه، وقالوا أصبت والله اسمه، إنه والله أمير المؤمنين حقاً، فدعوه بذلك، وذهب لقباً له في الناس. وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم سائر دولة بني أمية. ثم إن الشيعة خصوا عليا باسم الإمام نعتاً له بالإمامة التي هي أخت الخلافة، وتعريضاً بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم، فخصوه بهذا اللقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده؛ فكانوا كلهم يسمون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخفاء، حتى إذا يستولون على الدولة يحولون اللقب فيمن بعده إلى أمير المؤمنين، كما فعله شيعة بني العباس، فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا بالدعاء له، وعقدوا الرايات للحرب على أمره، فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين. وكذا الرافضة بأفريقيا فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام، حتى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي وكانوا أيضاً يدعونه بالإمام، ولابنه أبي القاسم من بعده. فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين. وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام، وابنه إدريس الاصغر كذلك، وهكذا شأنهم.وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين، وجعلوه سمة لمن يملك الحجاز والشام والعراق: المواطن التي هي ديار العرب، ومراكز الدولة وأهل الملة والفتح. وازداد كذلك في عنفوان الدولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميز بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم، فاستحدث ذلك بنو العباس، حجاباً، لأسمائهم الأعلام، عن امتهانها في ألسنة السوقة وصوناً لها عن الابتذال، فتلقبوا بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد إلى آخر الدولة. واقتفى أثرهم في ذلك العبيديون بأفريقية ومصر، وتجافى بنو أمية عن ذلك في المشرق قبلهم من الغضاضة والسذاجة، أن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذٍ ولم يتحول عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة. وأما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما علموه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية، وانهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العباس. حتى إذا جاء عبد الرحمن (الداخل) الآخر منهم (وهو الناصر بن محمد ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط) لأول المائة الرابعة، واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسمل، ذهب عبد الرحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وأفريقية، وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله، وأخذت من بعده عادة ومذهبا لقن عنه، ولم يكن لآبائه وسلف قومه.واستمر الحال على ذلك إلى ان انقرضت عصبية العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلب الموالى من العجم على بني العباس، والصنائع على العبيديين بالقاهرة، وصنهاجة على أمراء أفريقية، وزناتة على المغرب، وملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية، واقتسموه، وافترق أمر الإسلام، فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعاً باسم السلطان.
فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم، مثل شرف الدولة وعضد الدولة
وركن الدولة ومعز الدولة ونصير الدولة ونظام الملك وبهاء الدولة وذخيرة الملك وأمثال هذه ، وكان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة. فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها، وعدولاً عن سمتها المختصة بها، شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه قبل.ونزع المتأخرون أعاجم المشرق، حين قوي استبدادهم على الملك، وعلا كعبهم في الدولة والسلطان، وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة، إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك، مثل الناصر والمنصور زيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط، فيقولون: صلاح الدين، أسد الدين، نور الدين.وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها، فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمظفر وأمثالها، كما قال ابن أبي شرف ينعى عليهم:
- مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتــضـــــــــد
- ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
وأما صنهاجة فاقتصروا على الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه: مثل نصير الدولة، ومعز الدولة. واتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة العباسيين. ثم بعدت الشقة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها، فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السلطان. وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئاً من هذه الألقاب إلا اسم السلطان جرياً على مذاهب البداوة والغضاضة. ولما محي رسم الخلافة وتعطل دستها، وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين، وكان من أهل الخير والاقتداء، نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلاً لمراسم دينه
فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله بن العربي وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياه على المغرب وتقليده ذلك، فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيهم في لبوسه ورتبته، وخاطبه فيه بأمير المؤمنين تشريفا له واختصاصاً فاتخذها لقباً. ويقال: إنه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل، أدباً مع رتبة الخلافة، لما كان عليه. هو وقومه المرابطون من انتحال الدين واتباع السنة.وجاء المهدي على أثرهم داعياً إلى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة، وما يؤول إليه ذلك من التجسيم، كما هو معروف من مذهب الأشعرية. وسمى أتباعه الموحدين تعريضاً بذلك النكير. وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وانه لا بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم؛ فسمي بالإمام لما قلناه أولاً من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم، وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام. وتنزه عند أتباعه عن أمير المؤمنين أخذاً بمذاهب المتقدمين من الشيعة، ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق.
ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين، وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم، استئثاراً به عفن سواهم، لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك، وأنه صاحب الأمم وأولياؤه من بعده كذلك دون كل أحد، لانتفاء عصبية قريش وتلاشيها. فكان ذلك دأبهم.ولما انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أولهم مذاهب البداوة والسذاجة واتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدباً مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني
عبد المؤمن أولاً ولبني أبي حفص من بعدهم. ثم نزع المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغاً في منازع الملك وتتميماً لمذاهبه وسماته. والله غالب على أمره.
الفصل الثالث والثلاثون في شرع اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود إعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف. والنوع الإنساني أيضاً، بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري، لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر، وهو المسمى بالملك. والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً اتخذت فيها الخلافة والملأ لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معاً.وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامةً ولا الجهاد عندهم مشروعاً إلا في المدافعة فقط؛ فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك؛ وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير ديني، وهو ما اقتضته لهم العصبية لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه، لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية، وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم.
ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنةٍ لا يعتنون بشىء من أمر الملك، إنما همهم إقامة دينهم فقط. وكان القائم به بينهم يسمى الكوهن كأنه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر الصلاة والقربان، ويشترطون فيه أن يكون من ذرية هارون صلوات الله عليه، لأن موسى لم يعقب. ثم اختاروا لإقامة السياسة التي هي للبشر بالطبع سبعين شيخاً كانوا يتولون أحكامهم العامة. والكوهن أعظم منهم رتبة في الدين، وأبعد عن شغب الأحكام. واتصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبية وتمحضت الشوكة للملك؛ فغلبوا الكنعانيين على الأرض التي أورثهم الله- بيت المقدس وما جاورها- كما بين لهم على لسان موسى صلوات الله عليه، فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيين والأرمن وأردن وعمان ومأرب، ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم، وأقاموا على ذلك نحوا من أربعمائة سنةٍ، ولم تكن لهم صولة الملك. وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم، فطلبوا على لسان شمويل من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولي عليهم طالوت، وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين. ثم ملك بعده داود ثم سليمان صلوات الله عليهما. واستفحل ملكه وامتد إلى الحجاز، ثم أطراف اليمن، ثم إلى أطراف بلاد الروم. ثم افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبية في الدول كما قدمناه، إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة، والأخرى بالقدس والشام لبني يهوذا وبنيامين.
ثم غلبهم بختنصر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك، أولاً الأسباط العشرة، ثم ثانياً بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتصال ملكهم نحو ألف سنة، وخرب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم، ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق، إلى أن ردهم بعض ملوك الكيانية من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنةً من خروجهم، فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرسم الأول للكهنة فقط والملك للفرس. ثم غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم. ثم فشل أمر اليونانيين، فاعتز اليهود عليهم بالعصبية الطبيعية ودفعوهم عن
الاستيلاء عليهم، وقام بملكهم الكهنة الذين كانوا فيهم من بني حشمناي، وقاتلوا اليونان حتى انقرض أمرهم، وغلبهم الروم فصاروا تحت أمرهم. ثم رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي، وبقيت دولتهم، فحاصروهم مدة، ثم افتتحوها عنوة، وأفحشوا في القتل والهدم والتحريق، وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها، وهو الخراب الثاني للمسجد، ويسميه اليهود بالجلوة الكبرى. فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبية منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الروم ومن بعدهم، يقيم لهم أمر دينهم الرئيس عليهم المسمى بالكوهن. ثم جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدين والنسخ لبعض أحكام التوراة، وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، واجتمع عليه كثير من الناس وآمنوا به، وأكثرهم الحواريون من أصحابه وكانوا اثني عشر، وبعث منهم رسلاًإلى الآفاق داعين إلى ملته، وذلك أيام أوغسطس أول ملوك القياصرة، وفي مدة هيرودس، ملك اليهود، الذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره. فحسده اليهود وكذبوه، وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به، فأذن لهم في قتله، ووقع ما تلاه القرآن من أمره. وافترق الحواريون شيعاً ودخل أكثرهم بلاد الروم داعين إلى دين النصرانية. وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة، دار ملك القياصرة. ثم كتبوا الإنجيل الذي انزل على عيسى صلوات الله عليه، في نسخٍ أربعٍ على اختلاف رواياتهم: فكتب متى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية، ونقله يوحنا بن زبدى منهم إلى اللسان اللاطيني، وكتب لوقا منهم إنجيله باللطيني إلى بعض أكابر الروم؛ وكتب يوحنا بن زبدى منهم إنجيله برومة، وكتب بطرس إنجيله باللطيني ونسبه إلى مرقاص تلميذه. واختلفت هذه النسخ الأربع من الإنجيل، مع أنها ليست كلها
وحياً صرفاً بل مشوبة بكلام عيسى عليه السلام، وبكلام الحواريين؛ وكلها مواعظ وقصص؛ والأحكام فيها قليلة جداً. واجتمع الحواريون الرسل لذلك العهد أرومة، ووضعوا قوانين الملة النصرانية، وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس، وكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بها.
فمن شريعة اليهود القديمة التوراة، وهي خمسة أسفار، وكتاب يوشع، وكتاب القضاة، وكتاب راعوث، وكتاب يهوذا، وأسفار الملوك أربعة، وسفر بنيامين، وكتب المقابيين لابن كريون ثلاثة وكتاب عزراً الإمام، وكتاب أوشير وقصة هامان، وكتاب أنوب الصديق، ومزامير داود عليه السلام، وكتب ابنه سليمان عليه السلام خمسة، ونبوات الأنبياء الكبار والصغار ستة عشر، وكتاب يشوع بن شارخ وزير سليمان.ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقاة من الحواريين نسخ الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل، وثامنها الأبريكسيس في قصص الرسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة، وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام، وكتاب أبو غالمسيس، وفيه رؤيا يوحنا بن زبدى واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشريعة تارة وتعظيم أهلها، ثم تركها أخرى والتسلط عليهم بالقتل والبغي؛ إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمروا عليها. وكان صاحب هذا الدين والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك، وهو رئيس الملة عندهم وخليفة المسيح فيهم، يبعث نوابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النصرانية، ويسفون الأسقف أي نائب البطرك، ويسمون الإمام الذي يقيم الصلوات ويفتيهم في الدين بالقسيس. ويسمون المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب.
واكثر خلواتهم في الصوامع. وكان بطرس الرسول رأس الحواريين وكبير التلاميذ برومة يقيم بها دين النصرانية إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة، فيمن قتل من البطارق والأساقفة؛ ثم قام بخلافته في كرسي رومة أريوس. وكان مرقاس الإنجيلي بالإسكندرية ومصر والمغرب داعياً سبع سنين؛ فقام بعده حنانياً وتسمى بالبطرك وهو أول البطاركة فيها. وجعل معه اثني عشر قساًعلى انه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه ويختار من المؤمنين واحداً مكان ذلك الثاني عشر. فكان أمر البطاركة إلى القسوس. ثم لما وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيام قسطنطين لتحرير الحق في الدين، واتفق ثلثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدين، فكتبوه وسموه الإمام، وصيروه أصلاً يرجعون إليه. وكان فيما كتبوه أن البطرك القائم بالدين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسة كما قرره حنانياً تلميذ مرقاس، وأبطلوا ذلك الرأي، وإنما يقدم عن بلاء واختيار من أئمة المؤمنين ورؤسائهم؛ فبقي الأمر كذلك. ثم اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدين وكانت لهم مجتمعات فم تقريره. ولم يختلفوا في هذه القاعدة؛ فبقي الأمر فيها على ذلك. واتصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة. وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضا تعظيماً له. فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة، يقال آخرها بطركية هرقل بالإسكندرية؛ فأرادوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا، ومعناه أبو الآباء. وظهر هذا الاسم أول ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تاريخه. ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم وهو كرسي رومة لأنه كرسي بطرس الرسول كما قدمناه، فلم يزل سمة عليه إلى الآن.ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك، وفيما يعتقدونه في المسيح وصاروا طوائف وفرقاً، واستظهروا بملوك النصرانية كل على صاحبه؛ فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة، إلى أن استقرت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفون إلى غيرها، وهم الملكية واليعقوبية والنسطورية. ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك؛ فبطرك رومة اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية، ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك الناحية. وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبية وهو ساكن بين ظهرانيهم؛ والحبشة يدينون بدينهم؛ ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك. واختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد. ولا تسمي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم. وضبط هذه اللفظة بباءين موحدتين من اسفل، والنطق بها مفخمة والثانية مشددة. ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنه يحضهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرجاً من افتراق الكلمة، ويتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم، لتكون يده عالية على جميعهم، ويسمونه الإنبرذور وحرفه الوسط بين الذال والظاء المعجمتين؛ ومباشره يضع التاج على رأسه للتبرك فيسمى المتوج؛ ولعله معنى لفظة الإنبرذور. وهذا ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين الفذين هما البابا والكوهن؛ {والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء}.
الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان وألقابها إعلم أن السلطان في نفسه ضعيف يحمل أمراً ثقيلاً، فلا بد له من الاستعانة
بأبناء جنسه. وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه فما ظنك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده. وهو محتاج إلى حماية الكافة من عدوهم بالمدافعة عنهم، وإلى كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم، وكف العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم، وإلى حملهم على مصالحهم، وما تعفهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقد المعايش والمكاييل والموازين، حذراً من التطفيف، وإلى النظر في السكة بحفظ النقود التي يتعاملون بها من الغش، وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرضا بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم. فيتحمل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب. قال بعض الأشراف من الحكماء: لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون علي من معاناة قلوب الرجال ". ثم إن الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل، لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه، فتتم المشاكلة في الاستعانة. قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29-32]. وهو إما أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجابه عن الناس أن يزدحموا عليه، فيشغلوه عن النظر في مهماتهم. أو يدفع النظر في الملك كله، ويعول على كفايته في ذلك واضطلاعه. فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص. وقد يتفرع كل واحد منها إلى فروع كثيرة: كالقلم يتفرع إلى قلم الرسائل والمخاطبات، وقلم الصكوك والإقطاعات، وإلى قلم المحاسبات، وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش؛ وكالسيف يتفرع إلى صاحب الحرب، وصاحب الشرطة
وصاحب البريد، وولاية الثغور.ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه. فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها، لعموم تعلق الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد. والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسلطان وشروط تقليدها استبداداً على الخلافة وهو معنى السلطان، أو تعويضاً منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي، وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقاً أو مقيداً، أو في موجبات العزل إن عرضت، وغير ذلك من معاني الملك والسلطان وكذا في سائر الوظائف التي تحت الملك والسلطان من وزارة أو جباية أو ولاية. لا بد للفقيه من النظر في جميع ذلك لما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإسلامية على رتبة الملك والسلطان. إلا أن كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته، إنما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخضها من أحكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت، فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية؛ مع أنها مستوفاة في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماوردي وغيره من أعلام الفقهاء؛ فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك. وإنما تكلمنا في الوظائف الخلافية وأفردناها لنميز بينها وبين الوظائف السلطانية فقط، لا لتحقيق أحكامها الشرعية، فليس من غرض كتابنا، وإنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنساني. والله الموفق.
ا لوزارة: وهي أم الخطط السلطانية والرتب الملوكية، لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة، فإن الوزارة مأخوذة إما من المؤازرة وهي المعاونة، أو من الوزر وهو الثقل كأنه يحمل مع مفاعله أوزاره، وأثقاله، وهو راجع إلى المعاونة المطلقة. وقد كنا قدمنا في أول الفصل أن أحوال السلطان وتصرفاته لا تعدو أربعة: لأنها إما أن تكون في أمور حماية الكافة وأسبابها من النظر في الجند والسلاح والحروب وسائر أمور
الحماية والمطالبة، وصاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدول القديمة بالمشرق، ولهذا العهد بالمغرب، وإما أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في المكان أو في الزمان وتنفيذه الأوامر فيمن هو محجوب عنه وصاحب هذا هو الكاتب؛ وإما أن تكون في أمور جباية المال وإنفاقه، وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضيعة، وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمى بالوزير لهذا العهد بالمشرق؛ وإما أن يكون في مدافعة الناس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه، وهذا راجع لصاحب الباب الذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. وكل خطبه أو رتبة من رتب الملك والسلطان فإليها ترجع. إلا أن الأربع منها ما كانت الإعانة فيه عامة فيما تحت يد السلطان من ذلك الصنف؛ إذ هو يقتضي مباشرة السلطان دائما ومشاركته في كل صنف من أحوال ملكه. وأما ما كان خاصاً بعض الناس أو ببعض الجهات فيكون دون الرتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جبايةٍ خاصةً أو النظر في أمر خاص، كحسبة الطعام أو النظر في السكة؛ فإن هذه كفها نظر في أحوال خاصة، فيكون صاحبها تبعا لأهل النظر العام، وتكون رتبته مرؤوسة أولئك.وما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتى جاء الإسلام وصار أمر خلافة، فذهبت تلك الخطط كفها بذهاب رسم الملك إلا ما هو طبيعي من المعاونة بالرأي، والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله، إذ هو أمر لا بد منه. فكان يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة، ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى؛ حتى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في كسرى وقيصر والنجاشي يسمون أبا بكر وزيره. ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام. وكذا عمر مع أبي بكر، وعلي وعثمان مع عمر. وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة؛ لأن القوم كانوا عرباً أميين لا يحسنون الكتاب والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب أو أفراداً من موالي العجم ممن يجيده، وكان قليلاً فيهم وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه، لأن الأمية كانت صفتهم التي امتازوا بها. وكذا حال المخاطبات وتنفيذ اً الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصة للامية التي كانت فيهم، والأمانة العامة في كتمان القول وتأديته، ولم تخرج السياسة إلى اختياره، لان الخلافة إنما هي دين ليست من السياسة الملكية في شيء. وأيضاً فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة أحسنها؛ لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات. ولم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب في كتابته، متى عن له، من يحسنه. وأما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم، فكان محظورا بالشريعة فلم يفعلوه. فلما انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السلطان وألقابه كان أول شيء بدئ به في الدولة شأن الباب وسده دون الجمهور بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم، مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات. فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب. وقد جاء أن عبد الملك لما ولى حاجبه قال له: قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة: المؤذن للصلاة فإنه داعي الله؛ وصاحب البريد فأمر ما جاء به؛ وصاحب الطعام لئلا يفسد. ثم استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم؛ وأطلق عليه اسم الوزير. وبقي أمر الحسبان في الموالي والذميين. واتخذ للسجلات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه؛ ولم يكن بمثابة الوزير لأنة إنما احتيج له من حيث الخط والكتاب لا من حيث اللسان الذي هو الكلام؛ إذ اللسان لذلك العهد على حاله لم يفسد. فكانت الوزارة لذلك ارفع رتبهم يومئذ. هذا في سائر دولة بني أمية. فكان النظر للوزير عاماً في أحوال التدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النظر في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهلية وغير ذلك. فلما جاءت دولة بني العباس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت، عظم شأن الوزير وصارت إليه النيابة في إنفاذ الحل والعقد
المجلد الأول – تاريخ ابن خلدون من ص 456-593 الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران، يكثر ترفه كما قدمناه، وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف. وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها، فتنقلب ضروراتٍ وتصير الأعمال فيه كلها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية بازدحام الأغراض عليها من أجل الترف، وبالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق، والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات، ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأوقات والأعمال، فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرةً بالغةً على نسبة عمرانه. ولعظم خرجه، فيحتاج حينئذٍ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم.واليدوي لم يكن دخله كثيراً، إذ كان ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب، فلم يتأثل كسباً ولا مالاً فيتعذر عليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير، لغلاء مرافقه وعزة حاجاته. وهو في بدوه يسد خلته بأقل الأعمال، لأنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه، فلا يضطر إلى المال. وكل من يتشوف إلى المصر وسكناه من أهل البادية، فسريعاً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه، إلا من تقدم منهم تأثل المال، ويحصل له منه فوق الحاجة، ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف. فحينئذٍ ينتقل إلى المصر، وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم. وهكذا شأن بداية عمران الأمصار. والله بكل شيء محيط.
الفصل الرابع عشر
في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار
إعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار، وتعددت الأمم في جهاته، وكثر ساكنة، اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب كي ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال، وما يأتي ذكره من أنها سبب للثروة، بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته، فيعود على الناس كسباً يتأثلونه، حسبما نذكر ذلك في فصل المعاشر وبيان الرزق والكسب. فيزيد الرفه لذلك، وتتسع الأحوال، ويجيء الترف والغنى، وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق، فيكثر مالها ويشمخ سلطانها، ويتفنن في اتخاذ المعاقل والحصون، اختطاط المدن، وتشييد الأمصار.واعتبر ذلك بأقطار المشرق، مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين، وناحية الشمال كلها، وأقطارها وراء البحر الرومي، لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم، وعظمت دولهم، وتعددت مدنهم وحوا ضرهم، وعظمت متاجرهم وأحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد، من أحوال تجار الأمم النصرانية، الواردين على المسلمين بالمغرب، في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. وكذا تجار أهل المشرق، وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أحوال أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين، فأنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان بحديثها، وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. ويحسب من يسمعها من العامة أن ذلك لزياد في أموالهم، أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم، أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم، وليس كذلك. فمعدن الذهب
الذي نعرفه في هذه الأقطار، إنما هو ببلاد السودان، وهي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم، لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال، ولاستغنوا عن أموال الناس بالجملة. ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك، واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفور أموالها، فقالوا بأن عطايا الكواكب والسهام في مواليد أهل المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب. وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه. وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي، وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي، وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره. وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال التي هي سببه، فلذلك أختص المشرق بالرفه من بين الآفاق، لا أن ذلك لمجرد ا أثر النجومي. فقد فهمت مما أشرنا لك أولا أنه لا يستقل بدلك، فأن المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمر لا بد منه.واعتبر حال هذا الرفه من العمران، في قطر أفريقية وبرقة، لما خف ساكنها وتناقص عمرانها، كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة. وضعفت جباياتها، فقلت أموال دولها، بعد أن كانت دول الشيعة وصنهاجة بها، على ما بلغك من الرفه وكثرة الجبايات واتساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم. حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته في غالب الأوقات. وكانت أموال الدولة ت بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال، يستعدها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة.وقطر المغرب وأن كان في القديم دون أفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك. وكانت أحواله في دول الموحدين متسعةً وجباياته موفورةً. وهو لهذا العهد
قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه، وتناقصه، فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره، ونقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوساً، وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال أفريقية، بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان، في طول ما بين السوس الأقصى وبرقة. وهي اليوم كلها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى، إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. الفصل الخامس عشر في تأثل العقار والضياع في الأمصار وحال فوائدها ومستغلاتها إعلم أن تأثل العقار والضياع الكثيرة لأهل الأمصار والفدن، لا يكون دفعة واحدة، ولا في عصر واحدٍ، إذ ليس يكون لأحدٍ منهم من الثروة، ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمها عن الحد، ولو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم وتأثلهم لها تدريجاً، أما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه، حتى تتأدى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر كذلك، أو أن يكون بحوالة الأسواق. فأن العقار في أواخر الدولة وأول الأخرى، عند فناء الحامية، وخرج السياج، وتداعي المصر إلى الخراب، تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها، بتلاشي الأحوال، فترخص قيمها وتتملك بالأثمان اليسيرة، وتتخطى بالميراث إلى ملك الآخر، وقد استجد المصر شبابه باستفحال الدولة الثانية، وانتظمت له أحوال رائقة حسنة، تحصل معها الغبطة في العقار والضياع، لكثر الغبطة في العقار والضياع، لكثرة منافعها حينئذٍ، فتعظم قيمها، ويكون لها خطر لم يكن في الأول. وهذا معنى الحوالة فيها. ويصبح مالكها من اغنى أهل المصر، وليس ذلك بسعيه واكتسابه، إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك.وأما فوائد
العقار والضياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه، إذ هي لا تفي بعوائد الترف وأسبابه، وإنما هي في الغالب لسد الخلة وضرورة المعاش. والذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملك من العقار والضياع، إنما هو الخشية على من يترك خلفه من الذرية الضعفاء، ليكون مرباهم به ورزقهم فيه، ونشؤهم بفائدته ما داموا عاجزين عن الاكتساب. فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم. وربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشي، فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. وأما التمول منه وإجراء أحوال المترفين فلا. وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحوالة الأسواق، وحصول الكثرة البالغة منه، والعالي في جنسه وقيمته في المصر. إلا أن ذلك إذا حصل فربما امتدت إليه أعين الأمراء والولاة، واغتصبوه في الغالب، أو أرادوه على بيعه منهم، ونالت أصحابه منه مضار ومعاطب. والله غالب على أمره، وهو رب العرش العظيم.
الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة وذلك أن الحضري إذا عظم تموله وكثر للعقار والضياع تأثله، وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك، وانفسحت أحواله في الترف والعوائد، زاحم عليها الأمراء والملوك وغضوا به. ولما في طباع البشر من العدوان، تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده، وينافسونه فيه، ويتحيلون على ذلك بكل ممكن، حتى يحصلونه في ربقة حكم سلطاني، وسبب من المؤاخذة ظاهرٍ، ينتزع به ماله. وأكثر الأحكام
السلطانية جائرة في الغالب، إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية وهي قليلة اللبث. قال : <<الخلافة بعدي ثلاثون سنةً، ثم تعود ملكاً عضوضاً>>. فلا حينئذٍ لصاحب المال والثروة الشهيرة في العمران، من حاميةٍ تذود عنه، وجاه ينسحب عليه من ذى قرابةٍ للملك، أو خالصةٍ له أو عصبيةٍ يتحاماها السلطان، فيستظل هو بظلها، ويرتع في أمنها من طوارق التعدى. وأن لم يكن له ذلك، أصبح نهباً بوجوه التخيلات وأسباب الحكام. والله يحكم لا معقب لحكمه.
الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول و أنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصرٍ. ويقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزلة الصنائع، ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه، المهرة فيه. وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها، ويتلون ذلك الجيل بها. ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات، حذق أولئك الصناع في صناعتهم، ومهروا في معرفتها. والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاماً ورسوخاً. وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستبحار العمران وكثرة الرفه في أهلها. وذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة، لأن الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها. وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتساعها بالمال، فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في
أهل الدولة، ثم فيمن تعلق بهم من أهل المصر، وهم الأكثر، فتعظم لذلك ثروتهم، ويكثر غناهم، وتتزيد عوائد الترف ومذاهبه، وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه، وهذه هي الحضارة. ولهذا نجد الأمصار التي في القاصية، ولو كانت موفورة العمران، تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها، بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة ومقرها. وما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم وفيض أمواله فيهم، كالماء يخضر ما قرب منه، مما قرب، من الأرض، إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد. وقد قدمنا أن السلطان والدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه، وإذا بعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة. ثم أنه إذا اتصلت تلك الدولة، وتعاقب ملوكها في ذلك المصر، واحداً بعد واحدٍ، استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخاً.واعتبر ذلك في اليهود، لما طال ملكهم بالشام نحوا من ألفٍ وأربعمائة سنةٍ، رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده، والتفنن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائم أحوال المنزل. حتى أنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضاً وعوائدها في الشام منهم، ومن دولة الروم بعدهم ستمائة سنةٍ، فكانوا في غاية الحضارة.وكذلك أيضا القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين، فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر، وأعقبهم بها ملك اليونان والروم، ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلةً. وكذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن، لاتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتبابعة آلافاً من السنين. وأعقبهم ملك مصر.
وكذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط والفرس بها، من لدن الكلدانيين والكيانية والكسروية والعرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على
وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام والعراق ومصر.وكذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس،- لاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط، ثم ما أعقبها من ملك بني أمية- آلافاً من السنين. وكلتا الدولتين عظيمة. فاتصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت.وأما أفريقية والمغرب، فلم يكن بها قبل الإسلام فلك ضخم. إنما قطع الروم والإفرنجة إلى أفريقية البحر، وملكوا الساحل، وكانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعةً غير مستحكمةٍ. فكانوا على قلعةٍ أو فازٍ. وأهل المغرب لم تجاورهم دولة، وإنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر. ولما جاء الله بالإسلام وملك العرب أفريقية والمغرب، ولم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلاً أول الإسلام، وكانوا لذلك العهد في طور البداوة، ومن استقر منهم بأفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفه، إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة. ثم أنتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود، على يد ميسرة المظفري أيام هشام بن عبد الملك، ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلوا بأمر أنفسهم، وأن بايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية، لأن البرابر هم الذين تولوها، ولم يكن من العرب فيها كثير عددٍ. وبقيت أفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب، فكان لهم من الحضارة بعض الشيء، بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه، وكثرة عمران القيروان. وورث ذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم. وذلك كله قليل، لم يبلغ أربعمائة سنةٍ. وانصرمت دولتهم، واستحالت صبغة الحضارة، بما كانت غير مستحكمةٍ. وتغلب يدو العرب الهلاليين عليها وخربوها، وبقى أثر خفي من حضارة العمران فيها. وإلى هذا العهد يونس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدئة سلف، فتجد له من أحوال الحضارة في شؤن منزله وعوائد أحواله، آثاراً ملتبسة بغيرها، يميزها الحضري البصير بها، وكذا في أكثر أمصار أفريقية. وليس كذلك في
المغرب وأمصاره، لرسوخ الدولة بأفريقية أكثر أمداً منذ عهد الأغالبة والشيعة وصنهاجة.وأما المغرب فأنتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس، حظ كبير من الحضارة. واستحكمت به عوائدها، بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس. وأنتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً وكرهاً. وكانت من اتساع النطاق ما علمت، فكان فيها حظ صالح من الحضارة واستحكامها، ومعظمها من أهل الأندلس. ثم أنتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى أفريقية، فابقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً، معظمها بتونس، امتزجت بحضارة مصر، وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بدلك للمغرب وأفريقية حظ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء، ورجع على أعقابه. وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة. وعلى كل حال فآثار الحضارة بأفريقية أكثر منها بالمغرب وأمصاره، لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب، ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فأنه خفي عن الناس.واعلم أنها أمور متناسبة، وهي حال الدولة في القوة والضعف، وكثرة الأمة أو الجيل، وعظم المدينة أو المصر، وكثرة النعمة واليسار. وذلك أن الدولة والملك صورة الخليقة والعمران، وكلها مادة لها، من الرعايا والأمصار وسائر الأحوال. وأحوال الجباية عائدة عليهم، ويسارهم في الغالب من أسواقهم، ومتاجرهم. وإذا أفاض السلطان عطاءه وأمواله في أهلها، انبثت فيهم، ورجعت إليه، ثم إليهم منه. فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج، عائدة عليهم في العطاء. فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا، وعلى نسبة يسار الرعايا أيضاً وكثرتهم، يكون مال الدولة. واصله كله العمران وكثرته. فاعتبره وتأمله في الدول تجده. والله سبحانه وتعالى يحكم لا معقب لحكمه.
الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده قد بينا لك فيما سلف، أن الملك والدول غاية للعصبية، وأن الحضارة غاية للبداوة، وأن العمران كله من بداوةٍ وحضارةٍ وملكٍ وسوقةٍ له عمر محسوس. كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً. وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك، لأنه غاية لا مزيد وراءها. وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران، دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها. والحضارة، كما علمت، هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه، كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل وأحد من هذه، صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة، لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤنات التي تطالب بها العوائد، ويعجز الكسب عن الوفاء بها. وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله، والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران، فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته. ثم تزيدها المكوس غلاءً لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها، وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة
خرجها حينئذٍ كما تقدم. والمكوس تعود على البياعات بالغلاء، لأن السوقة والتجار كلهم، يحتسبون على سلعهم وبضائعهم، جميع ما ينفقونه، حتى في مؤنة أنفسهم، فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى الإسراف. ولا يجدون وليجةً عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر. ويقل المستامون للبضائع، فتكسد الأسواق وتفسد حال المدينة.وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف. وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في الأسواق والعمران.وأما فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد، والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له، فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والرباء في البياعات. ثم تجدهم للكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة به وبدواعيه، واطراح الحشمة في الخوض فيه، حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم، الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بدلك. وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح، حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم، إلا من عصمه الله. ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة. ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب، وأهملته الدولة من عدادها، وغلب عليه خلق
الجوار والصحابة، وأن كانوا أصحابه أهل أنساب وبيوتاتٍ. وذلك أن الناس بشر متماثلون، وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته. ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول، منطرحين في الغمار، منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم، وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها، وهو معنى قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].ووجهه أن مكاسبهم حينئذٍ لا تفي بحاجاتهم، لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها، فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص، واحداً واحداً، أختل نظام المدينة وخربت. وهذا معنى ما يقوله بعفي أهل الخواصي: أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب، حتى أن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور، تطيراً به، وليس المراد ذلك ولا أنه خاصة في النارنج، وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثم أن النارنج والليه والسرو وأمثال ذلك، مما لا طعم فيه ولا منفعة، هو من غايات الحضارة، إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط، ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف. وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدفلي، وهو من هذا الباب، إذ الدفلي لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها، ما بين أحمر وأبيض، وهو من مذاهب الترف.ومن مفاسد الحضارة أيضاً الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح ، من الزنا واللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع: أما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل وأحد ابنه إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدي ذلك إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً وهو أشد في فساد النوع إذ هو يؤدي إلى أن لا يوجد النوع. والزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. ولذلك كان مذهب مالك، رحمه الله، في اللواط أظهر من مذهب غيره، ودل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح. فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف، وأنه إذا بلغ غايته أنقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم، كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول أن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري لا يقدر على مباشرة حاجاته، أما عجزا لما حصل له من الدعة، أو ترفعا لما حصل له من المربى في النعيم والترف. وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك. والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم، فهو لذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً في دينه غالباً بما أفسدت منه العوائد وطاعتها، وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه، إلا في الأقل النادر. وإذا فسد الإنسان في قدرته ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الذين يتقربون، من جند السلطان، إلى البداوة والخشونة، أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها. وهذا موجود في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران والدول. والله سبحانه وتعالى، كل يوم، هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن.
الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت، فإن المصر الذي يكون كرسيا لسلطانها ينتقض عمرانه، وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب، ولا يكاد ذلك يتخفف. والسبب فيه أمور: الأول- أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذلق. ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة، فتقل النفقات ويقصر الترف. فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة، ونقصت أحوال الترف فيها، نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر، لأن الرعايا تبع للدولة، فيرجعون إلى خلق الدولة: أما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم ، أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال، وقفة الفوائد التي هي مادة العوائد، فتقصر لذلك حضارة المصر، ويذهب منه كثير من عوائد الترف. وهي معنى ما نقول في خراب المصر. الأمر الثاني- أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب، وإنما يكون بعد العداوة والحروب. والعداوة تقتضي منافاةً بين أهل الدولتين، وتكثر إحداهما علي الأخرى في العوائد والأحوال. وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الآخر، فتكون أحوال الدولة
السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعةً وقبيحةً. وخصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها، حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف، فتكون عنها حضارة مستأنفة. وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقضها، وهو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث- أن كل أمةٍ لا يد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية ملكهم. وإذا ملكوا وطناً آخر تبعاً للأول، وأمصاره تابعة لأمصار الأول. واتسع نطاق الملك عليهم. ولا بد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة، لأنه شبه المركز للنطاق، فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من اجل الدولة والسلطان، فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول. والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا، فتنتقص حضارته وتمدنه وهو معنى اختلاله. وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى اصبهان، وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة، ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد، ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس. وبالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول. الأمر الرابع- أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها، بتحويلهم إلى قطر آخر يؤمن فيه غائلتهم على الدولة. وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة. أما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان المصر، لأن لهم في الغالب مخالطةً للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشئ في الدولة فهم شيعة لها. وأن لم يكونوا بالشوكة والعصبية، فهم بالميل والمحبة والعقيدة. وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة، فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها. فبعضهم على نوع التغريب والحبس، وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف، بحيث لا يؤدي إلى النفرة، حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة
وسواد العامة. وينزل مكانهم في حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر. وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه، وهو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة، وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتاً داخله البلى، والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحه، وله قدرة- على أوصافٍ مخصوصةٍ - على تغيير تلك الأوضاع، وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت، ثم يعبد بناءه ثانيا.وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه وعلمناه.(والله يقدر الليل والنهار).والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة، أن الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها. وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر، بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع، فتتعين السياسة لذلك. أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة، وإذا كانا لا ينفكان، فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر، كما كان عدمه مؤثرً في عدمه. والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية، مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم، أو بني أمية أو بني العباس كذلك. وأما الدول الشخصية، مثل دولة أنوشروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد، فأشخاصها متعاقبة على العمران، حافظة لوجوده وبقائه، وقريبة الشبه بعضها من بعض، فلا تؤثر كثير اختلال. لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة، وهي مستمرة مع أشخاص الدول. فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران، فأذهبت أهل الشوكة بأجمعهم، عظم الخلل كما قررناه أولاً. والله قادر على ما يشاء. أن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز.
الفصل العشرون في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً، لما في طبيعة العمران من التعاون. وما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومون عليه، ويستبصرون في صناعته ويختصون بوظيفته، ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه، لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه. وما لا يستدعي في المصر يكون غفلاً، إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به. وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش، فيوجد في كل مصر، كالخياط والحداد والنجار وأمثالها. وما يستدعي لعوائد الترف وأحواله، فإنما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة، الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاج والصائغ والدهان والطباخ والصفار والسفاج والفراش والذباح وأمثال هذه، وهي متفاوتة. وبقدر ما تريد عوائد الحضارة وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع، فتوجد بدلك المصر دون غيره. ومن هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار المستحضرة المستبحرة العمران، لما يدعو إليه الترف والغنى من التنعم. ولذلك لا يكون في المدن المتوسطة. وأن نزع بعض الملوك والرؤساء إليها، فيختطها ويجري أحوالها. إلا أنها إذا لم تكن لها داعية من كافة الناس، فسرعان ما تهجر وتخرب، وتفر عنها القومة، لقفة فائدتهم ومعاشهم منها. والله يقبض ويبسط. الفصل الحادي والعشرون في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم على بعض من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر، وأن لم يكونوا أهل نسبٍ واحدٍ، إلا أنه كما قدمناه اضعف مما يكون بالنسب، وأنه تحصل به العصبية
بعضاً مما تحصل بالنسب. وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر، يجذب بعضهم بعضاً إلى أن يكونوا لحماً لحماً، وقرابةً قرابةً، تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله، فيفترقون شيعاً وعصائب. فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية، احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم، والنظر في حماية بلدهم، ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة. والنفوس بطباعها متطاولة على الغلب والرئاسة، فتطمح المشيخة- لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة- إلى الاستبداد، وينازع كل صاحبه، ويستوصلون بالاتباع من الموالي والشيع والأحلاف. ويبدلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب، فيعصوصب كل لصاحبه، ويتعين الغلب لبعضهم، فيعطف على أكفائه، ليقص من أعنتهم. ويتتبعهم بالقتل أو التغريب، حتى يخضد منهم الشوكات النافذة، ويقلم الأظفار الخادشة. ويستبد بمصره اجمع. ويرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه، فيحدث في ذلك الملك الأصغر ما يحدث في الفلك الأعظم، من عوارض الجدة والهرم.وربما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم، أصحاب القبائل والعشائر والعصبيات والزحوف والحروب والأقطار والممالك، فيتحلون بها، من الجلوس على السرير، واتخاذ الآلة، وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد، والتختم والتحية، والخطاب بالتهويل، وما يسخر منه من يشاهد أحوالهم، لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل. إنما دفعهم إلى ذلك تقلص الدولة والتحام بعض القرابات، حتى صارت عصبيةً. وقد يتنزه بعضهم عن ذلك ويجري على مذاهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية والعبث. وقد وقع هذا بأفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجريد، من طرابلس وقابس وتؤزر ونفطة وقفصه وبسكرة والزاب، وما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند
تقلص ظل الدولة عنهم منذ عقود من السنين، فاستغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة في الأحكام والجباية وأعطوا طاعةً معروفةً وصفقةً ممرضةً، واقطعوها جانباً من الملاينة والملاطفة والانقياد، وهم بمعزل عنه. وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. وحدث في خلقهم من الغلظة والتجبر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم. ونظموا أنفسهم في عداد السلاطين، على قرب عهدهم بالسوقة، حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العباس، وأنتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكره في أخبار الدولة. وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدولة الصنهاجية، واستقل بأمصار الجريد أهلها، واستبدوا على الدولة، حتى أنتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي، ونقلهم كفهم من إمارتهم بها إلى المغرب، ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن. وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السر وات والبيوتات المرشحين للمشيخة والرئاسة في المصر، وقد يحدث التغلب لبعض السفلة من الغوغاء والدهماء. وإذا حصلت له العصبية والالتحام بالأوغاد، لأسباب يجرها له المقدار، فيتغلب على المشيخة والعلية، إذا كانوا فاقدين للعصابة. والله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة، أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها، ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربيةً، وأن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه. والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم، والدين والملة صورة
للوجود وللملك. وكلها مواد له، والصورة مقدمة على المادة، والدين إنما يستفاد من الشريعة، وهي بلسان العرب، لما أن النبي عربي، فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها. واعتبر ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم، وقال: أنها خب، أي مكر وخديعة. فلما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً، هجرت كلها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم، وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. وصار اللسان العربي لسانهم، حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبةً. ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أو آخره، وأن كان بقي في الدلالات على اصله، وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام وأيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد، من أعقاب العرب، المالكين لها، الهالكين في ترفها، بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم. واللغات متوارثة، فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء، وأن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً. وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار، بخلاف لغة البدو من العرب، فأنها كانت أعرق في العروبية. ولما تملك العجم من الديلم و السلجوقية بعدهم بالمشرق، وزناتة والبربر بالمغرب، وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية، فسد اللسان العربي لذلك، وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين، وصار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة العربية المضرية من الشعر والكلام، إلا قليلاً بالأمصار، عربية. فلما ملك التتر والمغول بالمشرق، ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح، وفسدت اللغة العربية على الإطلاق، ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية، بالعراق وخراسان
وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر، وبلاد الشمال، وبلاد الروم، وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من علوم العرب، وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب، لبقاء الدين طالباً لها، فانحفظت بعض الشيء. وأما في ممالك العراق وما وراءه، فلم يبق له أثر ولا عين، حتى أن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي، وكذا تدريسه في المجالس. والله أعلم بالصواب. والله مقدر الليل والنهار. صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ودائماً أبداً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين. الباب الخامس من الكتاب الأولى في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية إعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه، في حالاته وأطواره، من لدن نشوءه إلى أشده إلى كبره. "والله الغني وأنتم الفقراء ". والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما أية من كتابه فقال تعالى: {وََّخلق
َ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] وسخر لكم الشمس والقمر وسخر لكم البحر وسخر لكم الفلك وسخر لكم الأنعام. وكثير من شواهده. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه، بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة، فهي مشتركة في ذلك. وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض. فالإنسان متى اقتدر غلى نفسه وتجاوز طور الضعف، سعى في اقتناء المكاسب، لينفق ما آتاه الله منها، في تحصيل حاجاته وضروراته يدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] وقد يحصل له ذلك بغير سعي، كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله. إلا أنها إنما تكون معينة، ولا بد من سعيه معها كما يأتي، فتكون له تلك المكاسب معاشاً أن كانت بمقدار الضرورة والحاجة، ورياشاً ومتمولاًإ ن زادت على ذلك. ثم أن ذلك الحاصل أو المقتنى، أن عادت منفعته على العبد، وحصلت له ثمرته، من أنفاقه في مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقاً. قال : <<إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت >>. وأن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً، والمتملك منه حينئذٍ بسعي العبد وقدرته يسمى كسباً. وهذا مثل التراث، فأنه يسمى بالنسبة إلى الهالك كسباً ولا يسمى رزقاً، إذ لم يحصل له به منتفع، وبالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقاً. هذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة. وقد اشترط المعتزلة في تسميته رزقاً أن يكون بحيث يصح تملكه، وما لا يتملك عندهم لا يسمى رزقاً. وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقاً. والله تعالى يرزق الغاصب والظالم والمؤمن والكافر، ويختص برحمته وهدايته من يشاء. ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها.ثم إعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل، فلا بد في الرزق من سعيٍ وعمل ولو في
تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]. والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكل من عند الله. فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول. لأنه أن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وأن كان مقتنى من الحيوان أو النبات أو المعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع ثم أن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول،وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وأن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق، التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة. وإذا تقرر هذا كله فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات، إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه هو قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها. مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزلى، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر. وأن كان من غير الصنائع، فلا بد من قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرةً في الكثير منها فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفي ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس، فأن اعتبار اً أعمال والنفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدمناه، لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤ نته يسيرة، فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح. فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية، وتبين مسمي الرزق، وأنه المنتفع به. فقد بأن معنى الكسب والرزق وشرح مسماهما.واعلم أنه إذا فقدت الأعمال، أو قلت بانتقاص العمران، تأذن الله برفع الكسب.إلا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن، كيف يقل الرزق والكسب فيها، أو يفقد، لقلة الأعمال الإنسانية. وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر، يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشد رفاهيةً كما قدمناه قبل. ومن هذا الباب تقول العامة في البلاد، إذا تناقص عمرانها إنها قد ذهب رزقها، حتى أن الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر، لما أن فور العيون إنما يكون بالإنبات والامتراء الذي هو بالعمل الإنساني، كالحال في ضروع الأنعام، فما لم يكن أنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة، كما يجف الضرع إذا ترك امتراؤه. وانظره في البلاد التي تعهد فيها العيون لأيام عمرانها، ثم يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنها لم تكن. {وَاللَّهُ مُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20].
الفصل الثاني في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه إعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله، وهو مفعل من العيش. كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه، جعلت موضعاً له على طريق المبالغة. ثم أن تحصيل الرزق وكسبه: أما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه، علي قانونٍ متعارفٍ، ويسمى مغرماً وجبايةً، وإما أن يكون من الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر أو البحر، ويسمى اصطياداً، وأما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المتصرفة بين الناس في منافعهم، كاللبن من الأنعام، والحرير من دوده، والعسل من نحله، أو يكون من النبات في الزرع والشجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته. ويسمى هذا كله فلحاً. وأما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية: أما في مواد بعينها، وتسمى الصنائع من كتابةٍ وتجارةٍ وخياطةٍ وحياكةٍ وفروسيةٍ وأمثال ذلك، أو في مواد غير معينةٍ، وهي جميع الامتهانات والتصرفات، وإما أن يكون الكسب من البضائع
وإعدادها للأعواض، أما بالتقلب بها في البلاد أو احتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها. وشممى هذا تجارة.فهذه وجوه المعاش وأصنافه، وهي معنى ما ذكره المحققون من أهل الأ دب والحكمة كالحريري وغيره، فأنهم قالوا: " المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة": فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش، فلا حاجة بنا إلى ذكرها، وقد تقدم شيء من أحوال الجبايات السلطانية وأهلها في الفصل الثاني، وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش. أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات، إذ هي بسيطة وطبيعية فطرية، لا تحتاج إلى نظر ولا علم، ولهذا تنسب في الخليقة إلى آدم أبي البشر، وأنه معلمها والقائم عليها، إشارة إلى أنها اقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة. وأما الصنائع فهي ثانيتها ومتأخرة عنها، لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار، ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو وثانٍ عنه. ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة، فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. وأما التجارة وأن كانت طبيعية في الكسب، فالأكثر من طرقها ومذاهبها، إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع، لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ولذلك أباح الشرع فيه المكاسبة، لما أنه من باب المقامرة، إلا أنه ليس أخذا لمال الغير مجاناً، فلهذا اختص بالمشروعية. والله أعلم. الفصل الثالث في أن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي إعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله، من الجندي والشرطي والكاتب. ويستكفي في كل باب بمن
يعلم غناءه فيه، ويتكفل بأرزاقهم من.بيت مالة وهذا كله مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة، والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. وأما ما دون ذلك من الخدمة،فسببها أنّ أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته، أو يكون عاجزاً عنها، لما ربي عليه من خلق التنعم والترف، فيتخذ من يتولى ذلك له، ويقطعه عليه أجراً من ماله. وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان، إذ الثقة بكل أحد عجز، ولأنها تزيد في الوظائف والخرج وتدل على العجز والخنث اللذين ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما. إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. ومع ذلك فالخديم الذي يستكفي به ويوثق بغنائه كالمفقود، إذ الخديم القائم بدلك لا يعدو أربع حالات: أما مضطلع بأمره وموثوق فيما يحصل بيده، وأما بالعكس فيهما، وهو أن يكون غير مضطلع بأمره ولا موثوق فيما يحصل بيده، وأما بالعكس في إحداهما فقط، مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلعٍ. فأما الأول، وهو المضطلع الموثوق، فلا يمكن أحداً استعماله بوجه، إذ هو باضطلاعه وثقته غني عن أهل الرتب الدنية ومحتقر لمنال الأجر من الخدمة، لاقتداره على أكثر من ذلك، فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه العريض، لعموم الحاجة إلى الجاه. وأما الصنف الثاني وهو من ليس بمضطلع ولا موثوقٍ، فلا ينبغي لعاقل استعماله، لأنه يجحف بمخدومه في الأمرين معاً، فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارةً، ويذهب ماله بالخيانة أخرى، فهو على كل حال كل على مولاه. فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما. ولم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع، ومضطلع غير موثوقٍ. وللناس في الترجيح بينهما مذهبان، ولكل من الترجيحين وجه. إلا أن المضطلع، ولو كان غير موثوقٍ، أرجح لأنه يؤمن من تضييعه، ويحاول على التحرز من خيانته جهد الاستطاعة. وأما المضيع ولو كان مأموناً، فضرره بالتضييع أكثر من نفعه. فاعلم ذلك واتخذه قانوناً في الاستكفاء بالخدمة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء.
الفصل الرابع
في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي
إعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار، يحرصون على استخراج الأموال
من تحت الأرض، ويبتغون الكسب من ذلك. ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض، مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية، لا يفض ختامها ذلك
إلا من عثر علي علمه، واستحضر ما يحفه من البخور والدعاء والقربان. فأهل الأمصار بأفريقية يرون أن الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك، وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها. وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والروم والفرس. ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة، من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال، ممن لم يعرف طلسمه ولا خبره، فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان. أو يشارف الأموال والجواهر موضوعة، والحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الأرض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر.ونجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه، يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي، أما بخطوطٍ عجميةٍ، أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن، بإعطاء الإمارات عليها في أماكنها، يبتغون بدلك الرزق منهم، بما يبعثونهم على الحفر والطلب، ويموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا، من منال الحكام والعقوبات. وربما تكون عند
بعضهم نادرةً أو غريبةً من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه، وهو بمعزل عن السحر وطرقه، فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار، والتستر فيه بظلمات الليل، مخافة الرقباء وعيون أهل الدول. فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال، يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. والذي يحمل على ذلك في الغالب، زيادة على ضعف العقل، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة، فيطلبونه بالوجوه المنحرفة، وعلى غير المجرى الطبيعي، من هذا وأمثاله، عجزاً عن السعي في المكاسب، وركوناً إلى تناول الرزق من غير تعبٍ ولا نصبٍ في تحصيله واكتسابه. ولا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك، من غير وجهه، في نصبٍ ومتاعب وجهدٍ شديدٍ أشد من الأول، ويعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات.وربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف وعوائده، وخروجها عن حد النهاية، حتى تقصر عنها وجوه الكسب ومذاهبه، ولا تفي بمطالبها. فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي، لم يجد وليجةً في نفسه، إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة، ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في اشرها، فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده. ولهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة، ومن سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال، مثل مصر وما في معناها. فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله، ومساءلة الركبان عن شواذه، كما يحرصون على الكيمياء. هكذا يبلغنا عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة، لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز، ويزيدون على ذلك البحت عن تغو ير المياه، لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل، وأنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق. ويموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة
في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل، تستراً بدلك من الكذب، حتى يحصل على معاشه، فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه، كلفاً بشأن السحر متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه. فعلومهم السحرية وآثارها باقية بأرضهم في البراري وغيرها. وقصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بدلك وقد تناقل أهل المغرب قصيدةً ينسبونها إلى حكماء المشرق، تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعةٍ سحريةٍ حسبما تراه فيها وهي هذه:
- يا طالباً للسر في التغويـــــــــــــر إسمع كلام الصدق من خبيـــــر
- دع عنك ما قد صنفوا في كتبهـــم من قول بهتان ولفظ غــــــرور
- واسمع لصدق مقالتي ونصيحتــي أن كنت ممن لا يرى بالــــزور
- فإذا أردت تغور البئر التــــــــــي حارت لها الأوهام في التدبيـــر
- صور كصورتك التي أوقفتهــــــا والرأس رأس الشبل في التقوير
- ويداه ماسكتان للحبل الــــــــــذي في الدلو ينشل من قرار البيـــر
- وبصدره هاء كما عاينتهـــــــــــا عدد الطلاق أحذر من التكريــر
- ويطا على الطاءات غير ملامس مشي اللبيب الكيس النحريــــر
- يكون حول الكل خط دائـــــــــــر تربيعه أولى من التكويـــــــــر
- واذبح عليه الطير الطخه بـــــــه واقصده عقب الذبح بالتبخيـــــر
- بالسندروس وباللبان وميعـــــــة والقسط والبسه بثوب حريــــــر
- من أحمرٍ أو أصفـــــرٍ لا أزرقٍ لا أخضرٍ فيه ولا تكديــــــــــــر # ويشده خيطان صوفٍ أبيضٍ أو أحمرٍ من خالص التحمير
- والطالع الأسد الذي قد بينوا ويكون بدء الشهر غير منير
- والبدر متصل بسعد عطاردٍ في يوم سبتٍ ساعة التدبير
يعني أن تكون الطاءات بين قدميه كأنه يمشي عليها وعندي أن هذه القصيدة من تمويهات المتخرفين، فلهم في ذلك أحوال غريبة واصطلاحات عجيبة، وتنتهي التخرفة والكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة والدور المعروفة بمثل هذه، ويحفرون بها الحفر ويضعون فيها المطابق والشواهد التي يكتبونها في صحائف كذبهم، ثم يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصحائف، (ويعثون على كبراء) ذلك المنزل وسكناه ويوهمونه أن يه دفيناً من المال لا يعبر عن كثرته، ويطالبونه بالمال لاشتراء العقاقير والبخورات لحل الطلاسم، ويعدونه بظهور الشواهد التي قد أعدوها هنالك بأنفسهم ومن فعلهم، فينبعث لما يراه من ذلك وهو قد خدع ولبس عليه من حيث لا يشعر، وبينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم، يلبسون به عليهم، ليخفي عند محاورتهم فيما يتناولونه، من حفر وبخور وذبح حيوان وأمثال ذلك.وأما الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علمٍ ولا خبرٍ. واعلم أن الكنوز، وأن كانت توجد، لكنها في حكم النادر على وجه الاتفاق، لا على وجه القصد إليها. وليس ذلك بأمر تعم به البلوى، حتى يدخر الناس غالباً أموالهم تحت الأرض، ويختمون عليها بالطلاسم، لا في القديم ولا في الحديث. والركاز الذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء، وهو دفين الجاهلية، إنما يوجد بالعثور والاتفاق، لا بالقصد والطلب. وأيضاً فمن أختزن ماله وختم عليه بالأعمال السحرية فقد بالغ في إخفائه، فكيف ينصب عليه الأدلة والإمارات لمن يبتغيه. ويكتب ذلك في الصحائف، حتى يطلع علي ذخيرته أهل الأمصار
والآفاق ؟ هذا يناقض قصد الإخفاء. وأيضاً فأفعال العقلاء لا بد وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع. ومن أختزن المال فإنه يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره. وأما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحدٍ، وإنما هو للبلاء والهلاك، أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم، فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه.وأما قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا، وما علم فيها من الكثرة والوفور فاعلم أن الأموال من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة إنما هي معادن ومكاسب، مثل الحديد والنحاس والرصاص وسائر العقارات والمعادن. والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها. وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث. وربما أنتقل من قطرٍ إلى قطرٍ ومن دولةٍ إلى أخرى بحسب أغراضه، والعمران الذي يستدعيه. فأن نقص المال في المغرب وأفريقية، فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج، وأن نقص في مصر والشام، فلم ينقص في الهند والصين. وإنما هي الآلات والمكاسب، والعمران يوفرها أو ينقصها، مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات، ويسرع إلى اللؤلؤ والجوهر أعظم مما يسرع إلى غيره. وكذا الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير، ينالها من البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت.وأما ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز، فسببه أن مصر كانت في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين، وكان موتاهم يدفنون بموجود هم من الذهب والفضة والجواهر واللآلئ، على مذهب من تقدم من أهل الدول. فلما انقضت دولة القبط، وملك الفرس بلادهم نقروا على ذلك في قبورهم وكشفوا عنه، فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف: كالأهرام من قبور الملوك وغيرها. وكذا فعل اليونانيون من بعدهم وصارت قبورهم مظنةً لذلك لهذا العهد. ويعثر على الدفين فيها في كثير من الأوقات. أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعيةٍ وتوابيت من
الذهب والفضة معدةٍ لذلك، فصارت قبور القبط منذ آلافٍ من السنين مظنةً لوجود ذلك فيها. فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها، واستخراجها. حتى إنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة، ضربت على أهل المطالب. وصارت ضريبة على من يشتغل بدلك من الحمقى والمهوسين، فوجد بدلك المتعاطون من أهل ا أطماع الذريعة إلى الكشف عنه والذرع باستخراجه. وما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم، نعوذ بالله من الخسران، فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس، أو ابتلي به، أن يتعوذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه، كما تعوذ رسول الله من ذلك، وينصرف عن طرق الشيطان ووسواسه، ولا يشغل نفسه بالمحالات والكاذب من الحكايات. ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ).
الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال وذلك أنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروةً من فاقد الجاه. والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته، من ضروري أو حاجيً أو كماليً، فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه، وجميع ما شأنه أن تبدل فيه الأعواض من العمل، يستعمل فيها الناس من غير عوضٍ فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه. فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها، فتتوفر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة، فتفيد الغنى لأقرب وقتٍ، ويزداد مع الأيام يساراً وثروةً. ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدمناه. وفاقد الجاه بالكلية ولو كان صاحب مالٍ، فلا
يكون يساره إلا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه، وهؤلاء هم أكثر التجار. ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثيرٍ. ومما يشهد لذلك، أنا نجد كثيراً من الفقهاء وأهل الدين والعبادة، إذا اشتهروا حسن الظن بهم، واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم، فأخلص الناس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم. أسرعت إليهم الثروة واصبحوا مياسير من غير مال مقتنى، إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم. رأينا من ذلك أعداداً في الأمصار والمدن. وفي البدو، يسعى لهم الناس في الفلح والتجر، وكل قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه، فينمو ماله ويعظم كسبه، ويتأثل الغنى من غير سعي. ويعجب من لا يفطن لهذا السر في حال ثروته وأسباب غناه ويساره. والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب.
الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق وإن هذا الخلق من أسباب السعادة قد سبق لنا فيما سلف أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم. ولو قذر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية. وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته. وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه. وقد بيناً أنفاً أن الجاه يفيد المال، لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم وأموالهم، في دفع المضار وجلب المنافع. وكان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضاً عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح. وتصير تلك الأعمال في كسبه، وقيمها أموال وثروة له، فيستفيد الغنى واليسار لأقربٍ وقتٍ. ثم أن الجاه متوزع في الناس ومترتب فيهم طبقةً بعد طبقةٍ
ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية وفي السفل إلى من لا يملك ضراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه. وبين ذلك طبقات متعددة. حكمة الله في خلقه. بما ينتظم معاشهم وتتيسر مصالحهم ويتم بقاؤهم،لأن النوع الإنساني لما كان لا يتم وجود وبقاؤه إلا بتعاون أبنائه على مصالحهم، لأنه قد تقرر أن الواحد منهم لا يتم وجوده. وأنه وأن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصخ بقاؤه. ثم أن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع، ولما جعل الله لهم من الاختيار، وأن أفعالهم إنما تصدر بالفكر والروية لا بالطبع. وقد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها، فلا يد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم، لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع. وهذا معنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم، بالإذن والمنع، والتسلط بالقهر والغلبة، ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة، وعلى أغراضه فيما سوى ذلك، ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات، والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي. لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير، إلا بوجود شر يسيرٍ من أجل المواد، فلا يفوت الخير بدلك، بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير. وهذا معنى وقوع الظلم في الخليفة فتفهم تم أن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على دونها من الطباق وكل واحدةٍ من الطبقة السفلى يستمد هذا الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبة تصرفا فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه. والجاه على ذلك داخل أعلى الناس في جميع أبواب المعاش، ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متسعاً كأن الكسب الناشئ عنه كذلك، وأن كان ضيقاً وقليلاً فمثله. وفاقد الجاه وأن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله وعلى نسبة سعيه ذاهباً وآيباً في تنميته كأكثر التجار. وأهل الفلاحة في الغالب، وأهل الصنائع كذلك، إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم، فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة. وإنما يرمقون العيش ترميقاً ويدفعون ضرورة الفقر مدافعة. وإذا تقرر ذلك، وأن الجاه متفرع، وأن السعادة والخير مقترنان بحصوله، علمت أن بدله وأفادته من أعظم النعم واجلها، وأن باذله من اجل المنعمين. وإنما يبدله لمن تحت يديه، فيكون بدله بيد عالية وعن عزة، فيحتاج طالبة ومبتغيه إلى خضوع وتملق، كما يسأل أهل العز والملوك، وإلا فيتعذر حصوله. فلذلك قلنا أن الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة والكسب، وأن أكثر أهل الثروة والسعادة بهذا الخفق. ولهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع والشمم، لا يحصل لهم غرض من الجاه، فيقتصرون في التكسب على أعمالهم، ويصيرون إلى الفقر والخصاصة.واعلم أن هذا الكبر والترفع من الأخلاق المذمومة، إنما يحصل من توهم الكمال، وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة، كالعالم المتبحر في علمه، أو الكاتب المجيد في كتابته أو الشاعر البليغ في شعره. وكل محسنٍ في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما بيده، فيحدث له ترفع عليهم بدلك، وكذا يتوهم أهل الأنساب، ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبرون بما رأوه أو سمعوه من حال آبائهم في المدينة، ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم إذ الكمال لا يورث وكذلك أهل الحيلة والبصر والتجارب بالأمور، قد يتوهم بعضهم كمالاً في نفسه بدلك واحتياجاً إليه وتجد هؤلاء الأصناف كفهم مترفعين، لا يخضعون لصاحب الجاه، ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم. ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على الناس، فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك، ويعده مذلةً وهواناً وسفهاً. ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار ما يتوهم في نفسه، ويحقد على من قصر له في شيء مما يتوهم من ذلك. وربما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه، ويستمر في عناء عظيم من أيجاب الحق لنفسه أو إباية الناس له من ذلك. ويحصل له المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله. وقل أن يسلم أحدٍ منهم لأحد في الكمال والترفع عليه، إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كله في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه، وهو مفقود له كما تبين لك، مقته الناس بهذا الترفع ولم يحصل له حظ من إحسانهم. وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي هي أعلى منه، لأجل المقت وما يحصل له بدلك من القعود من تعاهدهم وغشيان منازلهم، ففسد معاشه، وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأما الثروة فلا تحصل له أصلاً. ومن هذا اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ، وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظ، وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسر له. والله المقدر، لا رب سواه.ولقد يقع في الدول أضراب في المراتب من أهل هذا الخلق، ويرتفع فيها كثير من السفلة، وينزل كثير من العلية بسبب ذلك. وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء أنفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم، ويئس من سواهم من ذلك. وإنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السلطان، وكأنهم خول له. فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك، تساوى حينئذٍ في المنزلة عند السلطان كل من انتمي إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته، واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته. فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه، ويتزلف إليه بوجوه خدمته، ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه. حتى يرسخ قدمه معهم، وينظمه السلطان في جملته، فيحصل له بدلك حظ عظيم من السعادة، وينتظم في عدد أهل الدولة. وناشئة الدولة حينئذٍ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار، وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره، ويجرون في مضمار الدالة بسببه، فيمقتهم السلطان لذلك ويباعد هم. ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم، ولا يذهبون إلى دائه ولا ترفع. إنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه، متى ذهب إليه، فيتسع جاههم وتعلو منازلهم، وتنصرف إليهم الوجوه. والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم، لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان ومقتاً وإيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم، إلى أن تنقرض الدولة. وهذا أمر طبيعي في الدول. ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه.
الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب والسبب في ذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال، وأنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضروريةً في العمران عامة البلوى فيه، كانت قيمتها أعظم
وكانت الحاجة إليها أشد. وأهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق، وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص مضن أقبل على دينه. وأن احتيج إلى الفتيا والقضاء فم الخصومات، فليس على وجه الاضطرار والعموم، فيقع الاستغناء عن هؤلاء في الأكثر. وإنما يهتم بهم وبإقامة مراسمهم صاحب الدولة، بما له من النظر في المصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه. لا يساويهم بأهل الشوكة ولا بأهل الصنائع الضرورية، وأن كانت بضاعتهم أشرف من حيث الدين والمراسم الشرعية، لكنه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران، فلا يصح في قسمتهم إلا القليل. وهم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق وعند نفوسهم، فلا يخضعون لأهل الجاه، حتى ينالوا منه حظاً يستدرون به الرزق، بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك، لما هم فيه من الشغل بهذه الصنائع الشريفة المشتملة على أعمال الفكر والتدبر. بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدنيا لشرف صنائعهم، فهم بمعزل عن ذلك. فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي، فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين يدار المأمون، تشتمل على كثير من الدخل والخرج يومئذٍ. وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين فوقفته عليه. وعلم منه صحة ما قلته ورجع إليه. وقضينا العجب من أسرار الله في خليقته، وحكمته في عوالمه. والله الخالق القادر، لا رب سواه.
الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو وذلك لأنه أصيل في الطبيعة وبسيط في منحاه. ولذلك لا تجده ينتحله أحد
من أهل الحضر في الغالب، ولا من المترفين. ويختص منتحله بالمذلة. قال ، وقد رأى السكة ببعض دور الأنصار: <<ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل >>. وحمله البخاري على الاستكثار منه. وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو تجاوز الحد الذي أمر به. والسبب فيه والله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التحكم واليد العالية، فيكون الغارم ذليلاً بائساً، بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة. قال : <<لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً>> إشارة إلى الملك العضوض، القاهر للناس، الذي معه التسلط والجوز، ونسيان حقوق الله تعالى في المتمولات، واعتبار الحقوق كلها مغرما للملوك والدول. والله قادر على ما يشاء. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل التاسع في مثني التجارة ومذاهبها وأصنافها إعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال، بشراء السلع بالرخص، وبيعها بالغلاء، أيا ما كانت السلعة، من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. وذلك القدر النامي يسمى ربحاً. فالمحاول لذلك الربح: أما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء، فيعظم ربحه، وأما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه، فيعظم ربحه. ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار، لطالب الكشف عن حقيقة التجارة: أنا اعلمها لك في كلمتين، اشتراء الرخيص وبيع الغالي. فقد حصلت التجارة إشارة منه بدلك إلى المعنى الذي قررناه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه.
الفصل العاشر في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها قد تقدم لنا أن معنى التجارة تنمية المال، بشراء البضائع ومحاولة بيعها بأغلى من ثمن الشراء. أما بانتظار حوالة الأسواق، أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى؛ أو بيعها بالغلاء على الآجال. وهذا الربح بالنسبة إلى اصل المال نزر يسير، لأن المال أن كان كثيراً عظم الربح، لأن القليل في الكثير كثير. ثم لا بد في محاولة هذه التنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة، في شراء البضائع وبيعها، ومعاملتهم في تقاضي أثمانها. وأهل النصفة قليل، فلا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع، ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح. كتعطيل المحاولة في تلك المدة وبها نماؤه. ومن الجحود والإنكار المسحت لرأس المال، أن لم يتقيد بالكتاب والشهادة. وغناء الحكام في ذلك قليل، لأن الحكم إنما هو على الظاهر، فيعاني التاجر من ذلك أحوالاً صعبة. ولا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء والمشقة، أو لا يحصل، أو يتلاشى راس ماله. فأن كان جريئاً على الخصومة، بصيراً بالحسبان، شديد المماحكة، مقداماً على الحكام، كان ذلك أقرب له إلى النصفة منهم بجراءته، ومماحكته، وإلا فلا بد له من جاه يدرع به، فيوقع له الهيبة عند الباعة، ويحمل الحكام على أنصافه من معاملية، فيحصل له بدلك النصفة واستخلاص ماله منهم، طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني. وأما من كان فاقدا للجراءة والإقدام من نفسه، وفاقد الجاه من الحكام، فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتجارة، لأنه يعرض ماله للضياع والذهاب، ويصيره مأكله للباعة، ولا يكاد ينتصف منهم، [لأن الغالب في الناس
وخصوصاً الرعاع والباعة، شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم، متوثبون عليه. ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناس نهباً ]. {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك وذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء، ولا يد فيه من المكايسة ضرورة. فأن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها، وهي أعني خلق المكايسة، بعيدة عن المروءة، التي تتخلق بها الملوك والأشراف. وأما أن استرذل خلقة بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم، من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الإيمان الكاذبة على الأثمان رداً وقبولاً، فأجدر بدلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف. ولذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة، لأجل ما يكسب من هذا الخلق. وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه، لشرف نفسه وكرم جلاله، إلا أنه في النادر بين الوجود. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه، وهو رب الأولين والآخرين. الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع التاجر البصير بالتجارة، لا ينقل من السلع، إلا ما تعم الحاجة إليه، من الغني والفقير والسلطان والسوقة، إذ في ذلك نفاق سلعته. وأما إذا أخص نقله بما يحتاج
إليه البعض فقط، فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذٍ، بإعواز الشراء من ذلك البعض، لعارض من العوارض، فتكسد سوقه وتفسد أرباحه. وكذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها، فأن الغالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة وحاشية الدولة، وهم الأقل. وإنما يكون الناس أسوةً في الحاجة إلى الوسط من كل صنف، فليتحر ذلك جهده، ففيه نفاق سلعته أو كسادها. وكذلك نقل السلع في البلد البعيد المسافة، أو شدة الخطر في الطرقات، يكون أكثر فائدةً للتجار وأعظم أرباحاً وأكفل بحوالة الأسواق. لأن السلع المنقولة حينئذٍ تكون قليلة معوزة، لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها، فيقل حاملوها ويعز وجودها. وإذا قلت وعزت غلت أثمانها. وأما إذا كان البلد قريب المسافة، والطريق سابل بالأمن، فإنه حينئذٍ يكثر ناقلوها، فتكثر وترخص أثمانها. ولهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالاً، لبعد طريقهم ومشقته، واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش. لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة، يهتدي إليها أدلاء الركبان، فلا يرتكب خطر هذا الطريق وبعده إلا الأقل من الناس. فتجد سلع بلاد السودان قلية لدينا، فتختص بالغلاء، وكذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التجار من تناقلها ويسرع إليهم الغنى والثروة من أجل ذلك. وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق، لبعد الشقة أيضاً. وأما المترددون في أفقٍ واحدٍ، ما بين أمصاره وبلدانه، ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة، لكثرة السلع وكثرة ناقليها. و(الله هو الرزاق ذو القوة المتين ). الفصل الثالث عشر في الاحتكار ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار، أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤم. وأنه يعود على فائدته، بالتلف والخسران. وسببه، والله أعلم
أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبدلون فيها من المال اضطراراً، فتبقى النفوس متعلقة به. وفي تعلق النفوس بمالها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً. ولعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل. وهذا وأن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به، لإعطائه ضرورة من غير سعةٍ في العذر فهو كالمكره. وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعات لا اضطرار للناس إليها، وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات، فلا يبدلون أموالهم فيها إلا باختيار وحرص. ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه. فلهذا يكون من عرف بالاحتكار، تجتمع القوى النفسانية على متابعته، لما يأخذه من أموالهم، فيفسد ربحه. والله تعالى أعلم.وسمعت فيما يناسب هذا، حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الآبلي قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد، وهو الفقيه أبو الحسن المليلي ، وقد غرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال، فاطرق ملياً، ثم قال لهم: من مكس الخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا، وسألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت الجبايات كلها حراماً،،فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه. والخمر قل أن يبدل فيها أحد ماله، إلا وهو طرب مسرور بوجدانه، غير أسف عليه، ولا متعلقةٍ به نفسه. وهذه ملاحظة غريبة. والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكن الصدور.
الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص وذلك أن الكسب والمعاش، كما قدمناه، إنما هو بالصنائع أو التجارة. والتجارة هي شراء البضائع والسلع وادخارها. يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة
في أثمانها، ويسمي ربحاً. ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتجارة دائماً. فإذا استديم الرخص في سلعة، أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة، ولم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فيه فسد الربح والنماء بطول تلك المدة، وكسدت سوق ذلك الصنف، ولم يحصل التاجر إلا على العناد، فقعد التجار عن السعي فيها وفسدت رؤوس أموا لهم.واعتبر ذلك أولا بالزرع، فأنه إذا استديم رخصه كيف تفسد أحوال المحترفين به،بسائر أطواره، من الفلح والزراعة لقلة الربح فيه، وندارته أو فقده. فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قفة، ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم، وتفسد أحوالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن والخبز، وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرف من لدن زراعته إلى صيرورته مأكولاً.وكذا يفسد حال الجند، إذا كانت أرزاقهم من السلطان عند أهل الفلح زرعاً،فإنها تقل جبايتهم من ذلك، ويعجزون عن إقامة الجندية التي هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها، ويقطع عنهم الرزق، فتفسد أحوالهم. وكذا إذا استديم الرخص في العسل والسكر، فسد جميع ما يتعلق به، وقعد المحترفون به عن التجارة فيه. وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضاً. فإذا الرخص المفرط مجحف بمعاش المحترفين بدلك الصنف الرخيص، وكذا الغلاء المفرط أيضاً. وربما يكون في النادر سبباً لنماء المال بسبب احتكاره وعظم فائدته. وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق، وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران. وإنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه، واضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني والفقير. والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران، فيعم الرفق بدلك، ويرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص. و (الله هو الرزاق ذو القوة المتين ). والله سبحانه وتعالى رب العرش العظيم.
الفصل الخامس عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح، ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج ، وهم عوارض هذه الحرفة. وهذه الأوصاف تعلق من الذكاء والمروءة وتجرح فيها، لأن الأفعال لا يد من عود آثارها على النفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء، وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك، فتتمكن وترسخ أن سبقت وتكررت. وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها، بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس، شأن الملكات الناشئة عن الأفعال. وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم. فمن كان منهم سافل الطور، مخالفاً لشرار الباعة، أهل الغش والخلابة والخديعة والفجور في الأيمان على البياعات والأثمان إقراراً وإنكاراً ، كانت رداءة تلك الخلق عنده أشد، وغلبت عليه السفسفة ، وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة. وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته. وفقدان ذلك فيهم في الجملة. ووجود الصنف الثاني منهم، الذي قدمناه في الفصل قبله أنهم يدرعون بالجاه، ويعوض لهم من مباشرة ذلك، فيهم نادر وأقل من النادر. وذلك أن يكون المال قد توفر عنده دفعة بنوع غريب، أو ورثه عن أحدٍ من أهل بيته، فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة، وتكسبه ظهوراً وشهرةً بين أهل عصره، فيترفع عن مباشرة ذلك بنفسه، ويدفعه إلى من يقوم له به من ولائه وحشمه. ويسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره
وإتحافه، فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر. فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن المحرجات، إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب، فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ووفاقهم، أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك، إلا أنه قليل، ولا يكاد يظهر أثرة. (والله خلقكم وما تعملون ).
الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم إعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري، وبكونه عملياً هو جسماني محسوس. والأحوال الجسمانية المحسوسة، نقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة، والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعلى وتكرره مرة بعد أخرى، حتى ترسخ صورته. وعلى نسبة الأصل تكون الملكة. ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم. فالملكة الحاصلة عنه اكمل وارسخ من الملكة الحاصلة على الخبر. وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته. ثم أن الصنائع منها البسيط ومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليات. والمتقدم منها في التعليم هو البسيط، لبساطته أولا، ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله، فيكون سابقاً في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصاً. ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل، بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج، حتى تكمل. ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال، إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة، لا سيما في الأمور الصناعية. فلا بد له إذن من زمان. ولهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصةً، ولا يوجد منها
إلا البسيط، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع، خرجت من القوة إلى الفعل.وتنقسم الصنائع أيضاً: إلى ما يختص بأمر المعاش، ضرورياً كان أو غير ضروري، وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان، من العلوم والصنائع والسياسة. ومن الأول الحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها. ومن الثاني الوراقة، وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد، والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك. ومن الثالث الجندية وأمثالها. والله أعلم. الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته والسبب في ذلك أن الناس، وما لم يستوف العمران الحضري وتتمدن المدينة إنما همهم في الضروري من المعاش، وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه، صرف الزائد حينئذٍ إلى الكمالات من المعاش. ثم إن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات، والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية، فهو مقدم لضرورته على العلوم والصنائع، وهي متأخرة عن الضروري. وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذٍ، واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة. وأما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط، خاصة المستعمل في الضروريات من نجارٍ أو حدادٍ أو خياطٍ أو حائكٍ أو جزارٍ. وإذا وجدت هذه بعد، فلا توجد فيه كاملةً ولا مستجادةً. وإنما يوجد منها بمقدار الضرورة، إذ هي كلها وسائل إلى غيرها وليست مقصودةً لذاتها. وإذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات، كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها ، فكملت بجميع متمماتها وتزايدت صنائع
أخرى معها، مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله، من جزارٍ ودباغ ٍو خرازٍ وصائغٍ وأمثال ذلك. وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات، ويتأنق فيها في الغاية، وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها. بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال، لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان والصفار والحمامي والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع، ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها، فأن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك. وقد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد، كما بلغنا عن أهل مصر، أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية، ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرقص والمشي على الخيوط في الهواء، ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة، وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب. لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة. أدام الله عمرانها بالمسلمين. والله الحكيم العليم. الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمده والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن هذه كلها عوائد للعمران والأوان. والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال. وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها. ولهذا فأنا نجذ في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة، لما تراجع عمرانها وتناقص، بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في
غيرها من الأمصار المستحدثة العمران، ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة. وما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكررها، وهذه لم تبلغ بعد. وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد، فإنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمةً وأحوالها مستحكمةً راسخةً في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها، كالمباني والطبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص وتنضيد الفرش في القصور، وحسن الترتيب والأوضاع في البناء، وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين، وإقامة الولائم والأعراس وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده. فتجدهم أقوم عليها وأبصر بها. وتجد صنائعها مستحكمة لديهم، فهم على حصة موفورةٍ من ذلك وحظ متميز بين جميع الأمصار. وإن كان عمرانها قد تناقص، والكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة. وما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية وما قبلها من دولة القوط، وما بعدها من دولة الطوائف وهلم جراً. فبلغت الحضارة فيها مبلغاً لم تبلغه في قطر، إلا ما ينقل عن العراق والشام ومصر أيضاً، لطول أمال الدول فيها، فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق. وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران، لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية، حال الصبغ إذا رسخ في الثوب. وكذا أيضاً حال تونس فيما حصل فيها من الحضارة من الدول الصنهاجية والموحدين من بعدهم، وما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال، وإن كان ذلك دون الأندلس. إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما، وتردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنةٍ. وربما سكن أهلها هنالك عصوراً، فينقلون من عوائد ترفهم ومحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه، ومن أحوال الأندلس لما أن أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة. ورسخ فيها من ذلك أحوال، وإن
كان عمرانها ليس بمناسبٍ لذلك لهذا العهد. إلا أن الصبغة إذا استحكمت، فقليلاً ما تحول إلا بزوال محلها. وكذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد أثراً باقياً من ذلك، وإن كانت هذه كلها اليوم خراباً أو في حكم الخراب. ولا يتفطن لها إلا البصير من الناس، فيجد من هذه الصنائع آثاراً تدله على ما كان بها، كأثر الخط الممحو في الكتاب. ( والله الخلاق العليم ).
الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً، لأنه كسبه ومنه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه، فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنفع. وأن كانت الصناعة مطلوبة وتوخه إليها النفاق كانت حينئذٍ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فيجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها، ولا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك وفقدت للإهمال. ولهذا يقال عن علي رضي الله عنه: "قيمة كل امرئ ما يحسن ". بمعنى أن صناعته هي قيمته، أي قيمة عمله الذي هو معاشه. وأيضاٍ فهنا سر آخر وهو أن الصنائع وإجادتها إنما تطلبها الدولة، فهي التي تنفق سوقها وتوجه الطلبات إليها. وما لم تطلبه الدولة، وإنما يطلبها غيرها من أهل المصر، فليس على نسبتها، لأن الدولة هي السوق الأعظم، وفيها نفاق كل شيء، والقليل والكثير فيها على نسبةٍ واحدةٍ. فما نفق فيها كان أكثرياً ضرورةً. والسوقة وإن طلبوا الصناعة فليس طلبهم بعائم ولا سوقهم بنافقةٍ. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء.
الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع وذلك لما بيناه من أن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها. فإذا ضعفت أحوال المصر، وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقفة ساكنه تناقص فيه الترف، ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم، فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف. لأن صاحبها حينئذٍ لا يصح له بها معاشه، فيفر إلى غيرها، أو يموت، ولا يكون خلص منه، فيذهب رسم تلك الصنائع جملة، كما يذهب النقاشون والصواغ والكتاب والنساخ وأمثالهم من الصناع لحاجات الترف. ولا تزال الصناعات في التناقص ما زال المصر في التناقص، إلى أن تضمحل. والله الخلاق العليم، سبحانه وتعالى. الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري، وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها. والعجم من أهل المشرق وأمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها، لأنهم أعرق في العمران الحضري وأبعد عن البدو وعمرانه. حتى أن الإبل التي أعانت العرب على التوحش في القفر، والأعراق في البدو، مفقودة لديهم بالجملة، ومفقودة مراعيها، والرمال المهيئة لنتاجها. ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة، حتى تجلب إليه من قطرٍ آخر. وأنظر بلاد العجم، من الصين والهند وأرض الترك وأمم
النصرانية، كيف استكثرت فيهم الصنائع، واستجلبها الأمم من عندهم.وعجم المغرب من البربر، مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. ويشهد لك بدلك قلة الأمصار بقطرهم كما قدمناه. فالصنائع بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة، إلا ما كان من صناعة الصوف في نسجه، والجلد في خرزه ودبغه. فإنهم لما استحضروا بلغوا فيها المبالغ، لعموم البلوى بها، وكون هذين أغلب السلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. وأما المشرق فقد رسخت الصنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين من الفرس والنبط والقبط وبني إسرائيل ويونان والروم أحقاباً متطاولةً، فرسخت فيهم أحوال الحضارة، ومن جملتها الصنائع كما قدمناه، فلم يمح رسمها. وأما اليمن والبحرين وعمان والجزيرة، وأن ملكه العرب، إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرة منهم، واختطوا أمصاره ومدنه، وبلغوا الغاية من الحضارة والترف. مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم والتبابعة والأذواء، فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفرت الصنائع ورسخت، فلم تبل ببلى الدولة كما قدمناه. فبقيت مستجدةً حتى الآن. واختصت بدلك للوطن، كصناعة الوشي والعصب وما يستجاد من حوك الثياب والحرير فيها. والله وارث الأرض ومن عليها، وهو خير ا لوارثين.
الفصل الثاني والعشرون في أن من حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعدها في ملكة أخري ومثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها، ورسخت في نفسه، فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء، إلا أن تكون الأولي لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان، فلا تزدحم
دفعةً. ومن كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات وأحسن أستعدادا لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة الأخرى اضعف. وهذا بين يشهد له الوجود. فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها، ثم يحكم من بعدها أخرى، ويكون فيهما معاً على رتبةٍ واحدةٍ من الإجادة. حتى أن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته، بل يكون مقصراً فيه أن طلبه، إلا في الأقل النادر من الأحوال. ومبني سببه على ما ذكرناه من الاستعداد وتلوينه بلون الملكة الحاصلة في النفس. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب سواه. الفصل الثالث والعشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع إعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة، لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد. إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضوع، فنخصها بالذكر ونترك ما سواها: فأما الضروري فكالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة، وأما الشريفة بالموضوع فكالتوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب. فأما التوليد فإنها ضرورية في العمران وعامة البلوى، إذ بها تحصل حياة المولود ويتم غالباً وموضوعها مع ذلك المولودون وأمهاتهم. وأما الطب فهو حفظ الصحة للإنسان ودفع المرض عنه، ويتفرع عن علم الطبيعة، وموضوعه مع ذلك يدن الإنسان. وأما الكتابة وما يتبعها من الوراقة، فهي حافظة علي الإنسان حاجته ومقيدة لها
عن النسيان، ومبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب، ومخلدة نتائج الأفكار والعلوم في الصحف، ورافعة رتب الوجود للمعاني. وأما الغناء فهو نسب الأصوات ومظهر جمالها للأسماع. وكل هذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم ومجالس أنسهم، فلها بذلك شرف ليس لغيرها. وما سوى ذلك من الصنائع فتابعة وممتهنة في الغالب. وقد يختلف ذلك باختلاف الأغراض والدواعي. والله أعلم بالصواب. الفصل الرابع والعشرون في صناعة الفلاحة هذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات والحبوب، بالقيام على إثارة الأرض لها وازدراعها، وعلاج نباتها، وتعهده بالسقي والتنمية إلى بلوغ غايته، ثم حصاد سنبله واستخراج حبه في غلافه وأحكام الأعمال لذلك، وتحصيل أسبابه، ودواعيه. وهي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً، إذ يمكن وجوده من دون جميع الأشياء إلا من دون القوت. ولهذا اختصت هذه الصناعة بالبدو. إذ قدمنا أنه أقدم من الحضر وسابق عليه، فكانت هذه الصناعة لذلك يدوية، لا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها، لأن أحوالهم كلها ثانية عن البداوة، فصنائعهم ثانية عن صنائعها وتابعة لها. والله سبحانه وتعالى مقيم العباد فيما أراد. الفصل الخامس والعشرون في صناعة البناء هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري وأقدمها، وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للكن والمأوى للأبدان في المدن. وذلك أن الإنسان لما
جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله، لا بد له أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر والبرد، كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان من سائر جهاتها . والبشر مختلفون في هذه الجبلة الفكرية التي هي معنى الإنسانية، فالمقيدون فيها، ولو على التفاوت، يتخذون ذلك باعتدال، كأهل الإقليم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس [وأما أهل البدو فيبعدون عن اتخاذ ذلك، لقصور أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية، فيبادرون للغير أن والكهوف المعدة من غير علاج]. ثم المعتدلون والمتخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون فتكثر بيوتهم في البسيط الواحد، بحيث يتناكرون ولا يتعارفون فيخشى من طروق بعضهم بعضاً بياتاً، فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة سياج الأسوار التي تحوطهم. ويصير جميعاً مدينةً واحدةً ومصراً واحداً يحوطهم فيها الحكام بدفاع بعضهم عن بعض. وقد يحتاجون إلى الاعتصام من العدو ويتخذون المعاقل والحصون لهم ولمن تحت أيديهم. وهؤلاء مثل الملوك ومن في معناهم من الأمراء وكبار القبائل. ثم يختلف أحوال البناء في المدن، كل مدينة على ما يتعارفون ويصطلحون عليه، ويناسب مزاج أهوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر. وكذا حال أهل المدينة الواحدة. فمنهم من يتخذ القصور والمصانع العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدور والبيوت والغرف الكبيرة لكثرة ولده وحشمه وعياله وتابعه، ويؤسس جدرانها بالحجارة ويلحم بينها بالكلس، ويعالي عليها بالأصبغة والجص، ويبالغ في كل ذلك بالتنجيد والتنميق، إظهاراً للبسطة بالعناية في شأن
المأوى. ويهيئُ مع ذلك الأسراب والمطامير للاختزان أقواته، والإسطبلات لربط مقرباته إذا كان من أهل الجنود وكثرة التاج والحاشية، كالأمراء ومن في معناهم. ومنهم من يبني الدويرة والبيوت لنفسه وسكنه وولده لا يبتغي ما وراء ذلك، لقصور حاله عنه واقتصاره على الكن الطبيعي للبشر. وبين ذلك مراتب غير منحصر،وقد يحتاج لهذه الصناعة أيضاً عند تأسيس الملوك وأهل الدول المدن العظيمة والهياكل المرتفعة، ويبالغون في إتقان الأوضاع وعلو الأجرام مع الأحكام لتبلغ الصناعة مبالغها. وهذه الصناعة هي التي تحصل الدواعي لذلك كله. وأكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع وما حواليه، إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها. وإنما يتخذون البيوت حظائر من القصب والطين أو يأوون إلى الكهوف والغير أن. وأهل هذه الصناعة القائمون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر، ومنهم القاصر. ثم هي تتنوع أنواعاً كثيرة: فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالأجر، يقام بها الجدران ملصقاً بعضها إلى بعض بالطين والكلس الذي يعقد معها فيلتحم كأنها جسم وأحد، ومنها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان بأن يتخذ لها لوحان من الخشب مقدران طولاً وعرضاً باختلاف العادات في التقدير. وأوسطه أربع أذرع، في ذراعين فينصبان على أساس، وقد بوعد ما بينهما على ما يراه صاحب البناء في عرض الأساس، وبوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدل. ويسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين، ثم يوضع فيه التراب مخلطاً بالكلس، ويركز بالمراكز المعدة لذلك، حتى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه بالكلس
. ثم يزاد التراب ثانياً وثالثاً إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللوحين، وقد تداخلت أجزاء الكلس والتراب وصارت جسماً واحداً. ثم يعاد نصب اللوحين على الصورة الأولى، ويركز كذلك إلى أن يتم وتنتظم الألواح كلها سطراً فوق سطر، إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحماً، كأنه قطعة واحدة، ويسمى الطابية وصانعه الطواب. ومن صنائع البناء أيضاً أن تجلل الحيطان بالكلس، بعد أن يحل بالماء ويخمر أسبوعاً أو أسبوعين، على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للألحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط، وذلك إلى أن يلتحم.ومن صنائع البناء عمل السقف بأن تمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت، ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدسائر، ويصب عليها التراب والكلس، ويبلط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما عولي على الحائط. ومن صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق والتزيين، كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء، ثم يرجع جسداً وفيه بقية البلل، فيشكل على التناسب تخريماً بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق ورؤاء وربما عولي على الحيطان أيضاً بقطع الرخام أو الأجر أو الخزف أو بالصدف أو السبج، يفضل أجزاء متجانسة أو مختلفة، وتوضع في الكلس على نسب وأوضاع مقدرة عندهم، يبدو به الحائط للعيان، كأنه قطع الرياض المنمنمة. إلى غير ذلك من بناء الجباب والصهاريج لسفح الماء، بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج، يجلب إليها من خارج في القنوات المفضية به إلى البيوت. وأمثال ذلك من أنواع البناء.وتختلف الصناع في جميع ذلك باختلاف الحذق والبصر، ويعظم عمران
المدينة ويتسع فيكثرون. وربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء. وذلك أن الناس في المدن الكثيرة الازدحام والعمران، يتشاحون حتى في الفضاء والهواء للأعلى والأسفل، في الانتفاع بظاهر البناء، مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان. فيمنع جارة من ذلك، إلا ما كان له فيه حق. ويختلفون أيضاً في استحقاق الطرق والمنافذ، للمياه الجارية، والفضلات المسربة في القنوات. وربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار، أو يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه وخشية سقوطه، ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره، عند من يراه، أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرضة بين شريكين، بحيث لا يقع معها فساد في الدار ولا إهمال لمنفعتها. وأمثال ذلك. ويخفي جميع ذلك إلا على أهل البصر بالبناء العارفين بأحواله، المستدلين عليها بالمعاقد والقمط ومراكز الخشب وميل الحيطان واعتدالها وقسم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها، وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان وغير ذلك. فلهم بهذا كله البصر والخبرة التي ليست لغيرهم. وهم مع ذلك يختلفون بالجودة والقصور في الأجيال باعتبار الدول وقوتها.فإنا قدمنا إن الصنائع، وكمالها إنما هو بكمال الحضارة، وكثرتها بكثرة الطالب لها. فلذلك عندما تكون الدولة يدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقع للوليد بن عبد الملك، حين أجمع على بناء مسجد المدينة والقدس ومسجده بالشام، فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناء، فبعث إليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد.وقد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة، مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الارتفاع وأمثال ذلك، فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله. وكذلك في جر الأثقال بالهندام، فأن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة تعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط، فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل، بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية، تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفاً وتسمى آلة لذلك بالمخال، فيتم المراد من ذلك بغير كلفةٍ. وهذا إنما يتم بأصول هندسيةٍ معروفةٍ، متداولةٍ بين البشر. وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد، التي يحسب الناس أنها من بناء الجاهلية. وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني، وليس كذلك، وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه. فتفهم ذلك. والله يخلق ما يشاء سبحانه.
الفصل السادس والعشرون في صناعة النجارة هذه الصناعة من ضروريات العمران ومادتها الخشب. وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل للآدمي بني كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته، أو حاجاته، وكان منها الشجر، فإن له فيه من المنافع ما لا ينحصر مما هو معروف لكل أحدٍ. ومن منافعها اتخاذها خشباً إذا يبست. وأول منافع الخشب أن يكون وقوداً للنيران في معاشهم، وعصياً للاتكاء والذود، وغيرهما من ضروريا تهم، ودعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثم بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو والحضر. فأما أهل البدو، فيتخذون منها العمد والأوتاد لخيامهم، والحدوج لظعائنهم، والرماح والقسي والسهام لسلاحهم. وأما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسي لجلوسهم. وكل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها، ولا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة.والصناعة المتكفلة بذلك، المحصلة لكل واحد من صورها هي النجارة علي اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولاً: أما بخشب أصغر منه، أو ألواح.
ثم تركب تلك الفصائل بحسب الصور المطلوبة. فهو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام، إلى أن تصير أعضاء لذلك الشكل المخصوص. والقائم على هذه الصناعة هو النجار وهو ضروري في العمران. ثم إذا عظمت الحضارة وجاء الترف، وتأنق الناس فيما يتخذونه من كل صنف، من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون، حدث التأنق في صناعة ذلك واستجادته بغرائب من الصناعة كمالية، ليست من الضروري في شيء. مثل التخطيط في الأبواب والكراسي، ومثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها وتشكيلها، ثم تؤلف على نسب مقدرة، وتلحم بالدسائر فتبدو لمرأى العين ملتحمة، وقد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كل شيء يتخذ من الخشب فيجيء أنق ما يكون. وكذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتخذة من الخشب، من أي نوع كان.وكذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح والدسر، وهي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله، ليكون ذلك الشكل أعون لها على مصادمة الماء، وجعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح. وربما أعينت بحركة المجاديف كما في الأساطيل. وهذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى جزء كبير من الهندسة في جميع أصنافها، لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الأحكام، محتاج إلى معرفة التناسب في المقادير، أما عموماً أو خصوصاً. وتناسب المقادير لا بد فيه من الرجوع إلى المهندس.ولهذا كان أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة، فكان أوقليدس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجاراً وبها كان يعرف. وكذلك أبلونيوس صاحب كتاب المخروطات وميلاوش وغيرهم. وفيما يقال: أن معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام، وبها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان. وهذا الخبر وأن كان ممكناً أعني كونه نجاراً، إلا أن كونه أول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. وإنما معناه والله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم تصح حكاية عنها قبل خبر نوح عليه السلام، فجعل كأنه أول من تعلمها. فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل السابع والعشرون في صناعة الحياكة والخياطة إعلم أن المعتدلين من بشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر والبرد. ولا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوباً واحداً، وهو النسج والحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه وأن مالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعاً يقدرون منها ثوباً على البدن بشكله وتعدد أعضائه واختلاف نواحيها. ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوباً واحداً على البدن ويلبسونها. والصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة.
وهاتان الصناعتان ضروريتان في العمران، لما يحتاج إليه البشر من الرفه. فالأولى لنسج الغزل من الصوف والكتان والقطن إسداءً في الطول وإلحاماً في العرض وأحكاماً لذلك النسج بالالتحام الشديد، فيتم منها قطع مقدرة: فمنها الأكسية من الصوف للاشتمال، ومنها الثياب من القطن والكتان للباس. والصناعة الثانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال والعوائد، تفضل أولا بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاء البدنية، ثم تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلأو حبكاً أو تنبيتاً أو تفتيحاً على حسب نوع الصناعة.وهذه الثانية مختصة
بالعمران الحضري لما أن أهل البدو يستغنون عنها، وإنما يشتملون الأثواب اشتمالاً. وإنما تفصيل الثياب وتقديرها وإلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة وفنونها. وتفهم هذا في سر تحريم المخيط في الحج، لما أن مشروعية الحج مشتملة على نبد العلائق الدنيوية كلها والرجوع إلى الله تعالى. ( كما خلقنا أول مرةٍ). حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيباً ولا نساءً ولا مخيطاً ولا خفاً، ولا يتعرض لصيد ولا لشيء من عوائده التي تكونت بها نفسه وخلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة. وإنما يجيء كأنه وارد على المحشر ضارعاً بقلبه مخلصاً لربه، وكان جزاؤه أن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.سبحانك ما أرفقك بعبادك وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك.وهاتان الصنعتان قديمتان في الخليقة لما أن الدفء ضروري للبشر في العمران المعتدل. وأما المنحرف إلى الحر فلا يحتاج أهله إلى دفء. ولهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأول من السودان أنهم عراة في الغالب. ولقدم هذه الصنائع ينسبها العامة إلى إدريس عليه السلام، وهو أقدم الأنبياء. وربما ينسبونها إلى هرمس، وقد يقال: أن هرمس هو إدريس. والله سبحانه وتعالى هو الخلاق العليم. الفصل الثامن والعشرون في صناعة التوليد وهي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه، من الرفق في إخراجه من رحمها وتهيئة أسباب ذلك. ثم ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. وهي مختصة بالنساء في غالب الأمر، لما أنهن الظاهرات بعضهن على عورات بعض. وتسمى القائمة على ذلك منهن القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء
والقبول، كأن النفساء تعطيها الجنين وكأنها تقبله. وذلك أن الجنين إذا استكمل خلقه في الرحم وأطواره وبلغ إلى غايته، والمدة التي قدر الله لمكثه، وهي تسعة أشهر في الغالب، فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك، ويضيق عليه المنفذ فيعسر. وربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط، وربما أنقطع بعض ما كان في الأغشية من الالتصاق والالتحام بالرحم. وهذه كلها إلام يشتد لها الوجع، وهو معنى الطلق، فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر والوركين وما يحاذي الرحم من الأسافل، تساوق بدلك فعل الدافعة في إخراج الجنين، وتسهيل ما يصعب منه بما يمكنها، وعلى ما تهتدي إلى معرفة عسرهٍ. ثم إذا خرج الجنين بقيت بينة وبين الرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه. وتلك الوصلة عضو فضلي لتغذية المولود خاصة، فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضيلة ولا تضر بمعاه ولا برحم أمه، ثم تدمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثم أن الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق، وهو رطب العظام سهل الانعطاف والانثناء، فربما تتغير أشكال أعضائه وأوضاعها لقرب التكوين ورطوبة المواد، فتتناوله القابلة بالغمز والإصلاح، حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي ووضعه المقدر له، ويرتد خلقه سوياً. ثم بعد ذلك تراجع النفساء وتحاذيها بالغمز والملاينة لخروج أغشية الجنين، لأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلاً. ويخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية، وهي فضلات، فتتعفن ويسري عفنها إلى الرحم فيقع الهلاك، فتحاذر القابلة هذا وتحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية أن كانت قد تأخرت، ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان والذرورات القابضة، لتشده، وتجفف رطوبات الرحم، وتحنكه لرفع لهاته، وتسعطه لاستفراغ نطوف دماغه، وتغرغره باللعوق لدفع السدد من معاه وتجويفها عن
الالتصاق. ثم تداوي النفساء بعد ذلك من الوهن الذي أصابها بالطلق، وما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود وأن لم يكن عضوا طبيعيا فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل، فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. وتداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم، من جراحة التمزيق عند الضغط في الخروج. وهذه كلها أدواء نجد هؤلاء القوابل أبصر بدوائها. وكذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بها من الطبيب الماهر. وما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن أنسأني بالقوة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدناً إنسانياً بالفعل، فكانت حاجته حينئذٍ إلى الطبيب أشد. فهذه الصناعة- كما تراه- ضرورية في العمران للنوع الإنساني، لا يتم كون أشخاصه في الغالب دونها.وقد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة: أما بخلق الله ذلك لهم معجزة وخرقاً للعادة، كما في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو بإلهام وهداية، يلهم لها المولود ويفطر عليها، فيتم وجودهم من دون هذه الصناعة. فأما شأن المعجزة من ذلك، فقد وقع كثيراً. ومنه ما روي أن النبي ولد مسروراً مختوناً، واضعاً يديه على الأرض شاخصاً ببصره إلى السماء. وكذلك شأن عيسى في المهد وغير ذلك. وأما شأن الإلهام فلا ينكر. وإذا كانت الحيوانات العجم تختص بغرائب من الإلهامات كالنحل وغيرها، فما ظنك بالإنسان المفضل عليها. وخصوصاً من اختص بكرامة الله.ثم الإلهام العام للمولودين في الإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجود الإلهام العائم لهم. فشأن العناية الإلهية أعظم من أن يحاط به. ومن هنا يفهم بطلان رأي الفارابي وحكماء الأندلس، فيما احتجوا به لعدم انقراض الأنواع، واستحالة انقطاع المكونات. وخصوصاً في النوع الإنساني. وقالوا: لو انقطعت أشخاص لاستحال وجودها بعد ذلك، لتوقفه على وجود هذه الصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها. إذ لو قدرنا مولوداً دون هذه الصناعة وكفالتها إلى حين
الفصال لم يتم بقاؤه أصلاً. ووجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنها ثمرته وتابعة له. وتكفف ابن سينا في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه، وذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع، وخراب عالم التكوين، ثم عوده ثانياً لاقتضاءات فلكية وأوضاع غريبةً تندر في الأحقاب بزعمه، فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة، فيتم كونه أنساناً. ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاماً لتربيته والحنو عليه، إلى أن يتم وجوده وفصاله. وأطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان. وهذا الاستدلال غير صحيح، وأن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع، لكن من غير ما استدل به. فأن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العفة الموجبة. ودليل القول بالفاعل المختار يرد عليه، ولا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال والقدرة القديمة، ولا حاجة إلى هذا التكلف ثم لو سلمناه جدلاً، فغاية ما ينبني عليه اطراد وجود هذا الشخص بخلق الإلهام لتربيته في الحيوان الأ عجم. وما الضرورة الداعية لذلك، وإذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم، فما المانع من خلقه للمولود نفسه، كما قررناه أولاً. وخلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره، فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك. والله تعالى أعلم. الفصل التاسع والعشرون في صناعة الطب وأنها محتاج إليها في الحواضر والأمصار دون البادية هذه الصناعة ضرورية في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها، فأن ثمرتها حفظ الصحة للأصحاء، ودفع المرض عن المرضى بالمداواة، حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم. واعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية، كما قال في الحديث الجامع للطب كما ينقل بين أهل الصناعة، وأن طعن فيه العلماء، وهو قوله: <<المعدة بيت الداء والحمية
رأس الدواء، واصل كل داء البردة>>. فأما قوله: المعدة بيت الداء، فهو ظاهر، وأما قوله الحمية رأس الدواء، فالحمية الجوع وهو الاحتماء عن الطعام. والمعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية، وأما قوله: أصل كل داء البردة، فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة، قبل أن يتم هضم الأول. وشرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان وحفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل، وينفذ فيه القوى الهاضمة والغاذية إلى أن يصير دماً ملائماً لأجزاء البدن من اللحم والعظم. ثم تأخذه النامية فينقلب لحماً وعظماً. ومعنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طوراً بعد طور حتى يصير جزءاً بالفعل من البدن. وتفسيره أن الغذاء، إذا حصل في الفم ولاكته الأشداق، أثرت فيه حرارة الفم طبخاً يسيراً، وقلبت مزاجه بعض الشيء، كما تراه في اللقمة إذا تناولتها طعاماً، ثم أجدتها مضغاً، فترى مزاجها غير مزاج الطعام. ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموساً وهو صفو ذلك المطبوخ، وترسله إلى الكيد وترسل ما رسب منه في المعى ثفلاً، ثم ينفذ إلى المخرجين. ثم تطبخ حرارة الكيد ذلك الكيموس إلى أن يصير دما عبيطاً وتطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء. وترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء، ويقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثم ترسلها الكيد كلها في العروق والجداول، ويأخذها طبخ الحار الغريزي هناك، فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني. وتأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحماً، ثم غليظه عظاماً. ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق واللعاب والمخاط والدمع. هذه صورة الغذاء وخروجه من القوة إلى الفعل لحماً.ثم أن اصل الأمراض ومعظمها هي الحميات. وسببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن إتمام النضج في طبخه في كل طور من هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج. وسببه غالباً كثرة الغذاء في المعدة، حتى يكون أغلب على الحار الغريزي، أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول، فيشتغل به الحار الغريزي ويترك الأول بحاله. أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ والنضج. وترسله المعدة كذلك إلى الكبد، فلا تقوى حرارة الكبد أيضاً على إنضاجه. وربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة. وترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق والدمع واللعاب أن اقتدر على ذلك. وربما يعجز عن الكثير منه، فيبقى في العروق والكبد والمجدة، وتتزايد مع الأيام. وكل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ والنضج يعفن، فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج وهو المسمى بالخلط. وكل متعفن ففيه حرارة غريبة، وتلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى.اعتبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن وفي الزبل إذا تعفن أيضاً، كيف تنبعث فيه الحرارة وتأخذ مأخذها. فهذا معنى الحميات في الأبدان وهي رأس الأمراض، وأصلها كما وقع في الحديث. ولهذه الحميات علاجات بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم تناوله الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه. وكذلك في حال الصحة له علاج في التحفظ من هذا المرض وغيره، وأصله كما وقع في الحديث. وقد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولد عنه مرض في ذلك العضو، أو تحدث جراحات في البدن: أما في الأعضاء الرئيسة، أو في غيرها. وقد يمرض العضو ويحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلها جماع الأمراض، وأصلها في الغالب من الأغذية، وهذا كله مرفوع إلى الطبيب.ووقوع هذه الأمراض في أهل الحضر والأمصار أكثر، لخصب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحدٍ من الأغذية، وعدم توقيتهم لتناولها. وكثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل والبقول والفواكه، رطباً ويابساً، في سبيل العلاج بالطبخ، ولا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربما عددنا في اللون الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات والحيوان، فيصير للغذاء مزاج غريب. وربما يكون بعيداً عن ملاءمة البدن وأجزائه. ثم أن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفضلات. والأهوية منشطة للأرواح ومقوية بنشاطها لأثر الحار الغريزي فم الهضم. ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار، إذ هم في الغالب وادعون ساكنون، لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً، ولا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن والأمصار، وعلى قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة.وأما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع أغلب عليهم لقفة الحبوب،حتى صار لهم ذلك عادة. وربما يظن أنها جبلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه إنما يدعو إليه ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه، فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعبدة عما يخالطها ويقرب مزاجها من ملاءمة البدن. وأما أهويتهم فقليلة العفن، لقلة الرطوبات والعفونات ، أن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية أن كانوا ظواعن.ثم أن الرياضة موجودة فيهم من كثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات أو مهنة أنفسهم في حاجاتهم، فيحسن بدلك كله الهضم ويجود ويفقد إدخال الطعام على الطعام. فتكون أمزجتهم أصلح وأبعد عن الأمراض، فتقل حاجتهم إلى الطب. ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه. وما ذاك إلا للاستغناء عنه، إذ لو احتيج إليه لوجد. لأنه يكون له بدلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه. (سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً).
الفصل الثلاثون في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس.فهو ثاني رتبة عن الدلالة اللغوية، وهو صناعة شريفة، إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان. وأيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض إلى البلد البعيد، فتقضى الحاجات، وقد دفعت مؤنة المباشرة لها، ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين، وما كتبوه في علومهم وأخبارهم، فهي شريفة بجميع هذه الوجوه والمنافع. وخروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم، وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك، تكون جودة الخط في المدينة إذ هو من جملة الصنائع. وقد قدمنا أن هذا شأنها وأنها تابعة للعمران، ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرأون ، ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصراً وقراءته غير نافذة. ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقاً، لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد، وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين وأحكاماً في وضع كل حرف، ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه، فتعتضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم، وتأتي ملكته على أتم الوجوه.وإنما أتى هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال.وليس الشأن في تعليم الخط بالأندلس والمغرب كذلك في تعلم كل حرف بانفراده، على قوانين يلقيها المعلم للمتعلم، وإنما يتعلم بمحاكاة الخط من كتابة الكلمات جملة. ويكون ذلك من المتعلم ومطالعة المعلم له، إلى أن يحصل له الإجادة ويتمكن في بنانه الملكة، فيسمى مجيداً. وقد كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف، وهو المسمى بالخط الحميري. وأنتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية، والمجددين لفلك العرب بأرض العراق. ولم يكن الخط
عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة، لقصور ما بين الدولتين. فكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهلى الطائف وقريش فيما ذكر. ويقال: أن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية وبقال حرب بن أمية، وأخذها من أسلم بن سدرة. وهو قول ممكن، وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من أياد أهل العراق لقول شاعرهم:
- قوم لهم ساحة العراق، إذا سارواً جميعاً، والخط والقلم
وهو قول بعيد، لأن إياداً ، وأن نزلوا ساحة العراق، فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. والخط من الصنائع الحضرية. وإنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط والقلم من غيرهم من العرب، لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها، فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة، ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال. ورأيت في كتاب التكملة لابن الأبار ، عند التعريف بابن فروخ القيرواني الفاسي الأندلسي، من أصحاب مالك رضي الله عنه، وأسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً ، تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق، مثل الألف واللام، والميم والنون، قال:نعم، قلت: وممن أخذتموه، قال: من حرب بن أمية. قلت: وممن أخذه حرب، قال: من عبد الله بن جدعان. قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان، قال من أهل الأنبار. قلت: وممن أخذه أهل الأنبار، قال: من طارئ طرأ عليه من أهل اليمن. قلت: وممن أخذه ذلك الطارئ ؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام. وهو الذي يقول:
- أفي كل عام سنة تحدثونهـــا ورأي على غير الطريق يعبـر
- وللموت خير من حياة تسبناً بها جرهم فيمن يسب وحميـــر
إنتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة. وزاد في آخره: حدثني بذلك أبو بكر بن أبي حميرة في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الو قشي عن أبي عمر الطلمنكي ابن أبي عبد الله بن مفرح. ومن خطه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمد بن حشيش بن عمر بن أيوب المعافري التونسي عن بهلول بن عبيدة الحمي عن عبد الله بن فروخ. أنتهى.
وكان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة، وكانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم. ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية، إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو، فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو والصناعة واستغناء البدو عنها في الأكثر، فكانت كتابة العرب يدوية مثل كتابتهم أو قريباً من كتابتهم لهذا العهد، أو نقول أن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة، لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول. وأما مضر فكانوا أعرق في البدو وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشام ومصر، فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الأحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع.وأنظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسه رسوم صناعة الخط عند أهلها. ثم اقتفي التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله ، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفي لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً، ويتبع رسمه خطأً أو صواباً. وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك واثبت رسما، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه.ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل
من مخالفة خطوطهم أصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه. ويقولون في مثل زيادة الألف في لا اذبحنه: أنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في "بأييد" أنه تنبيه على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. وقد كان النبي أمياً، وكان ذلك كمالا في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية، التي هي أسباب المعاش والعمران كلها. وليست الأمية كمالاً في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا، شأن الصنائع كلها، حتى العلوم الاصطلاحية. فأن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا.
ثم لما جاء الملك للعرب، وفتحوا الأمصار، وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلموه وتداولوه، فترقت الإجادة فيه، واستحكم، وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان، إلا أنها كانت دون الغاية. والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد.ثم انتشرت العرب في الأقطار والممالك، وافتتحوا أفريقية والأندلس، وأختط بنو العباس بغداد وترقت الخطوط فيها إلى الغاية، لما استبحرت في العمران، وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية، وخالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة، في الميل إلى إجادة وجمال الرونق وحسن الرواء. واستحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رأيتها ببغداد علي بن مقلة الوزير ثم تلاه في ذلك علي بن هلال، الكاتب
الشهير بابن البواب، ووقف سند تعليمها عليه في المائة الثالثة وما بعدها. وبعدت رسوم الخط البغدادي وأوضاعه عن الكوفة، حتى أنتهى إلى المباينة. ثم ازدادت المخالفة بعد تلك العصور بتفنن الجهابذة في أحكام رسومه وأوضاعه، حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت والولي علي العجمي. ووقف سند تعليم الخط عليهم، وأنتقل ذلك إلى مصر، وخالفت طريقة العراق بعض الشيء، ولقنها العجم هنالك، فظهرت مخالفة لخط أهل مصر أو مباينة.
وكان الخط الأفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد يقرب من أوضاع الخط المشرقي. وتميز ملك الأندلس بالأمويين ، فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط، فتميز صنف خطهم الأندلسي، كما هو معروف الرسم لهذا العهد. وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر. وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها، وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له، وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه.ثم لما أنحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت تناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة، فأنتقل شأنها من الخط والكتابة، بل والعلم إلى مصر والقاهرة، فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد. وللخط بها معلمون يرسمون للمتعلم الحروف بقوانين في وضعها. وأشكالها متعارفة بينهم. فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع. وقد لقنها حسناً وحذق فيها دربة وكتاباً، وأخذها قوانين عملية، فتجيء أحسن ما يكون.وأما أهل الأندلس، فافترقوا في الأقطار، عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر، وتغلبت عليهم أمم النصرانية، فانتشروا في عدوة المغرب
وأفريقية، من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد. وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع، وتعلقوا بأذيال الدولة، فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفي عليه. ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما. وصارت خطوط أهل أفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها، لتوفر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق الأندلس.وبقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس ولا تمرسوا بجوارهم. إنما كانوا يفدون على دار الملك بتونس، فصار خط أهل أفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس، حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء، وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران، نقص حينئذٍ حال الخط وفسدت رسومه، وجهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران. وبقيت فيه آثار الخط الأندلسي، تشهد بما كان لهم من ذلك، لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها. وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي، لقرب جوارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريباً، واستعمالهم إياهم سائر الدولة. ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره كأنه لم يعرف. فصارت الخطوط بأفريقية والمغربيين مائلة إلى الرداءة بعبدة عن الجودة، وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها، إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة، حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر. ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع، بنقص الحضارة وفساد الدول. والله يحكم لا معقب لحكمه. ولأستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب قصيدة من بحر البسيط على روي الراء يذكر فيها صناعة الخط وموادها من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلم هذه الصناعة. وأولها:
- يا من يريد إجادة التحريـــــــــــر ويروم حسن الخط والتصويـر
- أن كان عزمك في الكتابة صادقا فارغب إلى مولاك في التيسير
- أعدد من الأقلام كل مثقـــــــــف صلب يصوغ صناعة التحبيـر
- وإذا عمدت لبريه فتوخــــــــــــه عند القياس بأوسط التقديــــــر
- أنظر إلى طرفيه فاجعل بريــــة من جانب التدقيق والتخضيــر
- واجعل لجلفته قواما عــــــــادلا خلوا عن التطويل والتقصيـــر
- والشق وسطه ليبقى بريـــــــــه من جانبيه مشاكل التقديــــــــر
- حتى إذا اتقنت ذلك كلــــــــــــه فالقط فيه جملة التدبيــــــــــــر
- لا تطمعن في أن أبوح بســـــره أني اضن بسره المستــــــــور
- لكن جملة ما أقول بأنـــــــــــــه ما بين تحريف إلى تدويــــــر
- وألق دواتك بالدخان مدبـــــــرا بالخل أو بالحصرم المعصور
- وأضف إليه مغرة قد صولـــت مع أصفر الزرنيخ والكافـــور
- حتى إذا ما خمرت فاعمد إلــى الورق النقي الناعم المخبـــور
- فاكبسه بعد القطع بالمعصاركي ينأى عن التشعيث والتغييـــــر
- ثم اجعل التمثيل دأبك صابـــرا ما أدرك المأمول مثل صبــور
- أبدأ به في اللوح منتفحـا لـــــه عزما تجرده عن التشميـــــــر
- لا تخجلن من الردى تختطــــه في أول التمثيل والتسطيـــــــر
- فالأمر يصعب ثم يرجع هينــا ولرب سهل جاء بعد عسيــــــر
- حتى إذا أدركت ما أملتـــــــــه أضحيت رب مسرة وحبــــــور
- فاشكر إلهك واتبع رضوانــــه أن الإله يجيب كل شكـــــــــور
- وارغب لكفك أن تخط بنانهــا خيرا تخلفه بدار غـــــــــــرور
- فجميع فعل المرء بلقاه غــــدا عند الشقاء كتابة المنشـــــــــور
واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في
النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة. قال الله تعالى: { خلق الإنسان، علمه البيان}[الرحمن آية 3،4] وهو يشتمل بيان الأدلة كلها. فالخط المجرد كماله أن تكون دلالته واضحة، بإبانة حروفه المتواضعة وإجادة وضعها ورسمها كل وأحد على حدة متميز عن الآخر، إلا ما اصطلح عليه الكتاب من إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض، سوى حروف اصطلحوا على قطعها، مثل الألف المتقدمة في الكلمة، وكذا الراء والزاى والدال والذال وغيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة، وهكذا إلى آخرها. ثم أن المتأخرين من الكتاب اصطلحوا على وصل كلمات، بعضها ببعض، وحذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلا أهل مصطلحهم فتستعجم أعلى غيرهم. وهؤلاء كتاب دواوين السلطان وسجلات القضاة، كأنهم انفردوا بهذا الاصطلاح عن غيرهم، لكثرة موارد الكتابة عليهم، وشهرة كتابتهم وإحاطة كثير من،دونهم بمصطلحهم. فأن كتبوا ذلك لمن لا خبرة له بمصطلحهم فينبغي أن يعدلوا عن ذلك إلى البيان ما استطاعوه، وإلا كان بمثابة الخط الأعجمي، لأنهما بمنزلة واحدة من عدم التواضع عليه. وليس بعذر في هذا القدر، إلا كتاب الأعمال السلطانية في الأموال والجيوش، لأنهم مطلوبون بكتمان ذلك عن الناس، فأنه من الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها، فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم، ويصير بمثابة المعمى. وهو الاصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب والفواكه والطيور أو الأزاهر، ووضع أشكال أخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون لتأدية ما في ضمائرهم بالكتابة. وربما وضع الكتاب للعثور على ذلك، وأن لم يضعوه أولاً، قوانين بمقاييس استخرجوها لذلك بمداركهم يسمونها فك المعمّى. وللناس في ذلك دواوين مشهورة. والله العليم الحكيم.
الفصل الحادي والثلاثون
في صناعة الوراقة
كانت العناية قديماً بالدواوين العلمية والسجلات، في نسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط. وكان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة وتوابع الحضارة. وقد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة وتناقص العمران، بعد أن كان منه في الملة الإسلامية بحر زاخر بالعراق والأندلس، إذ هو كله من توابع العمران واتسع نطاق الدولة ونفاق أشواق ذلك لديهما. فكثرت التآليف العلمية والدواوين، وحرص الناس على تناقلهما في الآفاق والإعصار فانتسخت وجلدت. وجاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدواوين، واختصت بالأمصار العظيمة العمران. وكانت السجلات أولاً لانتساخ العلوم، وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات، والصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، لكثرة الرفه وقفة التآليف صدر الملة كما نذكره، وقلة الرسائل السلطانية والصكوك مع ذلك، فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفاً للمكتوبات وميلاً بها إلى الصحة والإتقان.ثم طما بحر التآليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه وضاق الرق عن ذلك. فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد، وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه. واتخذه الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم السلطانية والعلمية. وبلغت الإجادة في صناعته ما شاء ت. ثم وقفت عناية أهل العلوم وهمم أهل الدول، على ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها، لأنه الشأن الأهم من التصحيح والضبط، فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها، والفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها. وما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدونها، فلا يصح إسناد قول لهم ولا فتيا. وهكذا كان شأن أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق.
حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط، إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث وحسنها ومسندها ومرسلها ومقطوعها وموقوفها من موضوعها، قد ذهبت وتمخضت زبدة في تلك الأمهات المتلقاة بالقبول عند الأمة وصار القصد إلى ذلك لغواً من العمل. ولم تبق ثمرة الرواية والاشتغال بها، إلا في تصحيح تلك الأمهات الحديثية، وسواها من كتب الفقه الفتيا، وغير ذلك من الدواوين والتأليف العلمية، واتصال سندها بمؤلفيها، ليصح النقل عنهم والإسناد إليهم. وكانت هذه الرسوم بالمشرق والأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك. ولهذا نجد الدواوين المنسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان والإحكام والصحة. ومنها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك. وأهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن ويشدون عليها يد الضنانة. ولقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله، لانقطاع صناعة الخط والضبط والرواية منه بانتقاص عمرانه وبداوة أهله. وصارت الأمهات والدواوين تنسخ بالخطوط البدوية، ينسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط وكثرة الفساد والتصحيف، فتستغلق على متصفحها، ولا يحصل منها فائدة إلا في الأقل النادر.وأيضا فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا ؛ فإن غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذاهب، وإنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه. وتبع ذلك أيضا ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التأليف لقلة بصرهم بصناعته، وعدم الصنائع الوافية بمقاصده. ولم يبق من هذا الرسم بالأندلس، إلا إثارة خفية بالإنحاء، وهي على الاضمحلال. فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب.، الله غالب على أمره. ويبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق، وتصحيح الدواوين لمن يرومه بدلك سهل على مبتغيه، لنفاق أسواق العلوم والصنائع كما نذكره بعد. إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للعجم، وفي خطوطهم. وأما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشد. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل الثاني والثلاثون في صناعة الغناء هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة، يوقع على كل صوب منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة. ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات. وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب، فيكون: صوت، نصف صوت، وربع آخر، وخمس آخر، وجزء من أحد عشر من آخر. واختلاف هذه النسب، عند تأديتها إلى السمع، يخرجها من البساطة إلى التركيب. وليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع، بل للملذوذ تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى، وتكلموا عليها كما هو مذكور في موضعه. وقد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات، أما بالقرع أو بالنفخ في آلات تتخذ لذلك، فتزيدها لذة عند السماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف: منها المزمار ويسمونه الشبابة، وهي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة، ينفخ فيها فتصوت. ويخرج الصوت من جوفها على سدادة من تلك الأبخاش. ويقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعاً على تلك الأبخاش وضعاً متعارفاً، حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه، وتتصل كذلك متناسبة، فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي
ذكرناه. ومن جنس هذه الآلة المزمار الذي يسمى الزلامي، وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب، جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفوذتين كذلك بأبخاش معدودة، ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل، فينفذ النفخ بواسطتها إليها، وتصوت بنغمة حادة. ويجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة.ومن أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق، وهو بوق من نحاس، أجوف في مقدار الذراع، يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دور الكف في شكل بري القلم. وينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدّي الريح من الفم إليه، فيخرج الصوت ثخيناً دوياً، وفيه أبخاش أيضاً معدودة. وتقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب، فيكون ملذوذاً. ومنها آلات الأوتار وهي جوفاء كلها: أما على شكل قطعة من الكرة، مثل المربط والرباب، أو على شكل مربع كالقانون، توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليتأتى شد الأوتار ورخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثم تقرع الأوتار أما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمر عليها بعد أن يطلى بالشمع والكندر. ويقطع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر. واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار، فيما يقرع أو يحك بالوتر، فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة. وقد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض، على توقيع متناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع. ولنبين لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء. وذلك أن اللذة كما تقرر في موضعه هي إدراك الملائم، والمحسوس إنما تدرك منه كيفية. فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذوذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة. فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم من الملموسات، وفي الروائح، ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري لأنه
المدرك، وإليه تؤديه الحاسة. ولهذا كانت الرياحين والأزهار العطريات أحسن رائحة وأشد ملاءمة للروح، لغلبة الحرارة فيها، التي هي مزاج الروح القلبي.وأما المرئيات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها، فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمة لها. فإذا كان المرئي متناسباً في أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته، بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع، وذلك هو معنى الجمال والحسن في كل مدرك، كان ذلك حينئذ مناسباً للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها. ولهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. وفي هذا سر تفهمه أن كنت من أهله، وهو اتحاد المبدأ، وأن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحاداً في البداية، يشهد لك به اتحادكما في الكون. ومعناه من وجه آخر أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء. فتود أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال لتتحد به، بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدأ والكون. ولما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى مدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهم كل أنسأن بالحسن في المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن.فأولاً. أن لا يخرج من الصوت إلى مده دفعة بل بتدريج، ثم يرجع كذلك وهكذا إلى المثل، بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين. وتأمل هذا من
افتتاح أهل، اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج، فأنه من بابه.وثانياً: تناسبها في الأجزاء كما مر أول الباب، فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه، على حسب ما يكون التنقل مناسباً على ما حصره أهل صناعة الموسيقى. فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة كانت ملائمة ملذوذة. ومن هذا التناسب ما يكون بسيطاً، ويكون الكثير من الناس مطبوعين عليه، لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة، كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك. وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار. وكثير من القراء بهذه المثابة، يقرأون القرآن، فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم. ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، وليس كل الناس يستوي في معرفته ولا كل الطبائع توافق صاحبها في العمل به إذا علم.وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى، كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم. وقد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتلحين، وأجازها الشافعي رضي الله تعالى عنه. وليس المراد تلحين الموسيقى الصناعي، فإنه لا ينبغي أن يختلف في حظره، إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكل وجه، لأن القراءة والأداء تحتاج إلى مقدار من الصوت لتعيين أداء الحروف من حيث إتباع الحركات في مواضعها، ومقدار المد عند من يطلقه أو يقصره، وأمثال ذلك. والتلحين أيضاً يتعين له مقدار من الصوت لا يتم إلا به من اجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين. فاعتبار أحدهما قد يخل بالآخر إذا تعارضا. وتقديم التلاوة متعين فراراً من تغيير الرواية المنقولة في القرآن، فلا يمكن اجتماع التلحين والأداء المعتبر في القرآن بوجه. وإنما المراد من اختلافهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه، فيردد أصواته ترديداً على نسب يدركها العالم بالغناء وغيره، ولا ينبغي ذلك بوجه كما قاله مالك. هذا هو محل الخلاف. والظاهر تنزيه القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الإمام رحمه الله تعالى، لأن القرآن هو محل خشوع بذكر الموت وما بعده، وليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات. وهكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم.وأما قوله : <<لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود>> فليس المراد به الترديد والتلحين، إنما معناه حسن الصوت وأداء القراءة والإبانة في مخارج الحروف والنطق بها. وإذ قد ذكرنا معنى الغناء، فاعلم أنه يحدث في العمران، إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة. أنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفنناً في مذاهب الملذوذات. وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم. وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به، حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، ولهم مكان في دولتهم، وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها. وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم، ومملكة من ممالكهم.وأما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر، يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها، في عدة حروفها المتحركة والساكنة. ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلاً بالإفادة، لا ينعطف على الآخر. ويسمونه البيت. فيلائم الطبع بالتجزئة أولاً، ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها. فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب. وجعلوه ديواناً لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكاً لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. واستمروا على ذلك.وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف، قطرة من بحر من تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلا أنهم لم يشعروا بما سواه، لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعةً. وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في قضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا. وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيراً بالغين المعجمة والباء الموحدة. وعللها أبو إسحق الزجاج بأنها تذكر بالغابر وهو الباقي، أي بأحوال الآخرة. وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة، كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره. وكانوا يسمونه السناد، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم. وكانوا يسفون هذا الهزج، وهذا البسيط، كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم شأن البسائط كلها من الصنائع.ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم. فلما جاء الإسلام، واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم، وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ. وما ليس بنافع في دين ولا معاش، فهجروا ذلك شيئاً ما. ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي كان ديدنهم ومذهبهم. فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ. وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف المزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات ولحنوا عليها أشعارهم.وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب وحائر مولى عبد الله بن جعفر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر. ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريج وأنظاره. وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند ابراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وابنه حماد. وكان من ذلك في دولتهم ببغداد، ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد، وأمعنوا في اللهو واللعب، واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه. وجعل صنفاً وحده، واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج، وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب، معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان، ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرون ويفرون ويتثاقفون، وأمثال ذلك من اللعب المعد للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو.وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وأنتشر منها إلى غيرها. وكان للموصليين غلام اسمه زرياب، أخذ عنهم الغناء فأجاد، فصرفوه إلى المغرب غيرة منه، فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته، وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات، وأحله من دولته وندمائه بمكان. فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. وطما منها بإشبيلية بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب. وأنقسم على أمصارها، وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف، إلا وظيفة الفراغ والفرح. وهي أيضا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه. والله اعلم.
الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً وخصوصاً الكتابة والحساب قد ذكرنا في الكتاب أن النفس الناطقة للإنسان، إنما توجد فيه بالقوة. وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولاً، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل وعقلاً محضاً، فتكون ذاتاً روحانية وتستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلاً فريداً، والصنائع أبداً يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً، والملكات الصناعية تفيد عقلاً،والحضارة الكاملة تفيد عقلاً، لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل، ومعاشرة أبناء الجنس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها. وهذه كلها قوانين تنتظم علوماً، فيحصل منها زيادة عقل.والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك، لأنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصنائع. وبيانه أن في الكتابة انتقالاً من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس، فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل، ما دام ملتبساً بالكتابة وتتعود النفس ذلك دائماً. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات، وهو معنى النظر العقلي الذي يكتسب به العلوم المجهولة، فتكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل. ويحصل به مزيد فطنة وكيس في الأمور، لما تعودوه من ذلك الانتقال. ولذلك قال كسرى في كتابه، لما رآهم بتلك الفطنة والكيس، فقال: "ديوانه، أي شياطين أو جنون ". قالوا: وذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة.
ويلحق بذلك الحساب فأن في صناعة الحساب نوع تصرفي في العدد بالضم والتفريق، يحتاج فيه إلى استدلال كثير، فيبقى متعوداً للاستدلال والنظر، وهو معنى العقل. والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلاً ما تشكرون.
الباب السادس من الكتاب الأول في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق فالمقدمة في الفكر الإنساني، الذي تميز به البشر عن الحيوانات واهتدى به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والنظر في معبوده، وما جاءت به الرسل من عنده، فصار جميع الحيوانات في طاعته وملك قدرته وفضله به على كثير خلقه. الفصل الأول في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري وذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات، في حيوانيته من الحسّ والحركة والغذاء والكن وغير ذلك. وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به، لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيء لذلك التعاون
وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى، والعمل به واتباع صلاح أخراه. فهو مفكر في ذلك كله دائماً، لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين، بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر. وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع. ثم لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع، فيكون الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى من سبقه بعلم، أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك، أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه، فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه. ثم أن فكره ونظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض له لذاته واحداً بعد آخر، ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له، فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علماً مخصوصاً. وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك، فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا. فقد تبين بدلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر. والله اعلم.
الفصل الثاني في أن تعليم العلم من جملة الصنائع وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، إنما هم بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها، مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن، وبين من هو مبتدئ فيه، وبين العامي الذي لم يحصل علماً، وبين العالم النحرير. والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما، فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي. والملكات
كلها جسمانية، سواء كانت في البدن أو في الدماغ، من الفكر وغيره، كالحساب. والجسمانيات كلها محسوسة، فتفتقر إلى التعليم. ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق وجيل. ويدل أيضاً على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل أمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به، شأن الصنائع كلها، فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، إذ لو كان من العلم لكان وحداً عند جميعهم. إلا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين، وكذا أصول الفقه وكذا العربية، وكذا كل علم يتوجه إلى مطالعته، تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة، فدل على أنها صناعات في التعليم. والعلم واحد في نفسه. وإذا تقرر ذلك، فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب، باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه. وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر. وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس، استبحر عمرانها، وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما، وما كان فيهما من الحضارة. فلما خربتا أنقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً، كان في دولة الموحدين بمراكش مستفاداً منها. ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها، وقرب عهد انقراضها بمبدئها، فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل.وبعد انقراض الدولة بمراكش، ارتحل إلى المشرق من أفريقية، القاضي أبو القاسم بن زيتون، لعهد أواسط المائة السابعة، فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب، فأخذ عنهم، ولقن تعليمهم. وحذق في العقليات والنقليات ، ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن. وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله ابن شعيب الدكالي. كان ارتحل إليه من المغرب، فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقر بها. وكان تعليمه مفيداً، فأخذ عنهما أهل تونس. واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلاً بعد جيل، حتى أنتهى إلى الماضي محمد بن عبد السلام، شارح ابن الحاجب، وتلميذه، وأنتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه. فأنه قرأ مع ابن عبد السلام، على مشيخة واحدة، وفي مجالس بأعيانها، وتلميذ ابن عبد السلام بتونس، وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد، إلا أنهم من القفة بحيث يخشى انقطاع سندهم.ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشد إلى المشرق وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب، وأخذ عنهم ولقن تعليمهم. وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة، وحذق في العقليات والنقليات. ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد، ونزل بجاية واتصل سند تعليمه في طلبتها. وربما أنتقل إلى تلمسان عمران المشد إلى تلميذه وأوطنها وبث طريقته فيها. وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقل من القليل.وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان، ولم يتصل سند التعليم فيهم، فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة قوة اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها. فتجد طالب العلم منهم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل. من ملكة التصرف في العلم والتعليم. ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل، تجد ملكته قاصرة في علمه أن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده. وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ من سواهم، لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك. ومما يشهد بذلك في المغرب، أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة، وهي بتونس خمس سنين. وهذه المدة بالمدارس، على المتعارف
هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها، فطال أمدها في المغرب لهذه العصور لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة، لا مما سوى ذلك. وأما أهل الأندلس، فذهب رسم التعليم من بينهم، وذهبت عنايتهم بالعلوم، لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين. ولم يبق من رسم العلم عندهم إلا فن العربية والأدب، اقتصروا عليه، وانحفظ سند تعليمه بينهم، فانحفظ بحفظه. وأما الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عين. وأما العقليات فلا أثر ولا عين وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران، وتغلب العدو على عامتها ، إلا قليلاً بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها. والله غالب على أمره.وأما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه، بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة، لاتصال العمران الموفور واتصال السند فيه. وأن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت، مثل بغداد والبصرة والكوفة، إلا أن الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك. وأنتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، وما وراء النهر من المشرق، ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة وعمرانها متصلاً وسند التعليم بها قائماً. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم، بل وفي سائر الصنائع. حتى أنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم، أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب، وأنهم أشد نباهة وأعظم كيساً بفطرتهم الأولى. وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك، ويولعون به، لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك.وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة، اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول والسابع، فإن الأمزجة فيها منحرفة والنفوس على نسبتها كما مر. وإنما الذي فضل به أهل
المشرق أهل المغرب، هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة، من العقل، المزيد، كما تقدم في الصنائع، ونزيده الآن شرحاً وتحقيقاً. وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم، وجميع تصرفاتهم. فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك، حتى كأنها حدود لا تتعدى. وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم. ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلاً جديداً، تستعد به لقبول صناعة أخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف.ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك، مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها، ويعجز أهل المغرب عن فهمها فضلاً عن تعليمها. وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية، تزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس، إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات، فيزدادون بدلك كيساً لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية، فيظنه العامي تفاوتاً في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك. إلا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو، كيف تجد الحضري متحلياً بالذكاء ممتلئاً من الكيس، حتى أن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك. وما ذاك إلا لإجادته من ملكات الصنائع والآداب، في العوائد والأحوال الحضرية، ما لا يعرفه البدوي. فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها، ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله، وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وحبلتها عن فطرته، وليس كذلك. فأنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته، وإنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك فهو رونق الصنائع والتعليم، فأن لهما آثاراً ترجع إلى النفس كما قدمناه. وكذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدماً، وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة، لما قدمناه في الفصل قبل هذا، ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب، وليس ذلك بصحيح فتفهمه. والله يزيد في الخلق ما يشاء، وهو إله السماوات والأ رض.
الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة والسبب في ذلك أن تعليم العلم، كما قدمناه، من جملة الصنائع. وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف، تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم، انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع. ومن تشوف بفطرته إلى العلم، ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة، فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي، لفقدان الصنائع في أهل البدو كما قدمناه، ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة، شأن الصنائع في أهل البدو.واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لما كثر عمرانها صدر الإسلام، واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون، حتى أربوا على المتقدمين وفاتوا المتأخرين. ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها، أنطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم، وأنتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة، من بلاد مصر، لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها
تعليم العلم. وأكد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها، منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا. وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم، لما له عليهم من الرق أو الولاء، ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته. فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركاً لولدهم، ينظر عليها أو يصيب منها، مع ما فيهم غالباً من الجنوح إلى الخير والصلاح والتماس الأجور في المقاصد والأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت الغلات والفوائد، وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايتهم منها، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها. والله يخلق ما يشاء.
الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد إعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار، تحصيلاً وتعليماً، هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي. ولا مجال فيها للعقل
إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بأصول، لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة، لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي. إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر، بثبوت الحكم في الأصل، وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه. وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات، من الكتاب والسنة التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله، وما يتعلق بدلك من العلوم التي تهيئوها للإفادة. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي، الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة، لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق، فلا بد من النظر في الكتاب: ببيان ألفاظه أولاً، وهذا هو علم التفسير، ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي الذي جاء به من عند الله ، واختلاف روايات القراءة في قراءته وهذا هو علم القراءات ، ثم بإسناد السنة إلى صاحبها والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك ، وهذه هى علوم الحديث . ثم لابد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانونى يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط وهذا هو أصول الفقه وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين وهذا هو الفقه . ثم إن التكاليف منها بدنى ومنها قلبى وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد وهذه هى العقائد الإيمانية في الذات والصفات وأمور الحشر والنعيم والعذاب عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام ثم النظر في القرآن والحديث لابد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليها وهى أصناف : فمنها : علم اللغة وعلم النحو وعلم البيان وعلم الأدب حسبما نتكلم عليها ، كلها . وهذه العلوم النقلية كلهما مختصة بالملة الإسلامية وأهلها وإن كانت كل ملة على الجملة لابد فيها من مثل ذلك فهى مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث أنها علوم الشريعة المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها ، وأما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجور والنظر فيها محظور فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن قال صلى الله عليه وسلم : << لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم>> {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [البقرة: 46] ورأى النبى صلى الله عليه وسلم في يد عمر رضى الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ؛ ثم قال :<< ألم آتكم بها بيضاء نقية ، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعى >> .ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التى لا فوقها وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التعليم واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون وقد كسدت لهذا العهد أسواقه العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه وانقطاع سند العلم والتعليم كما قدمناه في الفصل قبله ، وما أدرى ما فعل الله بالمشرق والظن به نفاق العلم فيه واتصال التعليم في العلوم وفى سائر الصنائع الضرورية والكمالية لكثرة عمرانه والحضارة ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التى اتسعت بها أرزاقهم . والله سبحانه وتعالى هو الفعال لما يريد وبيده التوفيق والإعانة .
الفصل الخامس
فصل في علوم القرآن من التفسير والقراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتى المصحف وهو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرق مختلفة في
بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها أيضاً بأدائها واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء وهو غير منضبط وليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن ، وأباه الأكثر وقالوا بتواترها وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع وهو الصحيح .ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها إلى أن كتبت العلوم ودونت فكتبت فيما كتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلماً مفرد ، وتناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالى العامريين وكان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبى عامر واجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافراً واختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أنمتها وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً وبالقراءات خصوصاً فظهر لعهده أبو عمرو الدانى وبلغ الغاية فيها ووقفت عليه معرفتها وانتهت إلى روايته أسانيدها وتعددت تآليفه فيها .وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من بينها كتاب التيسير له .ثم ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم بن فيرة من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دونه أبو عمرو وتلخيصه فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف ( أ ب ج د ) ترتيبا أحكمه ليتيسر
عليه ما قصده من الاختصار ، وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً وعنى الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس .وربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً وهى أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية ؛ لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط كزيادة الياء في باييد وزيادة الألف في لا أذبحنه ولا أوضعوا والواو في جزاؤ الظالمين ، وحذف الألفات في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التاءات ممدوداً ، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك . وقد مر تعليل هذا الرسم المصحفى عند الكلام في الخط فلما جاءت هذه مخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج إلى حصرها فكتب الناس فيها أيضاً عند كتبهم في العلوم وانتهت بالمغرب إلى أبى عمرو الدانى المذكور فكتب فيها كتباً من أشهرها كتاب المقنع وأخذ به الناس وعولوا عليه ونظمه أبو القاسم الشاطبى في قصيدته المشهورة على روى الراء وولع الناس بحفظها ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات وحروف أخرى ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالى مجاهد في كتبه وهو من تلاميذ أبى عمر الدانى والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه ثم نقل بعده خلاف آخر ؛ فنظم الخراز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافاً كثيراً ، وعزاه لناقليه واشتهرت بالمغرب واقتصر الناس على حفظها وهجروا بها كتب أبى داود وأبى عمرو الشاطبى في الرسم . التفسير وأما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملاً جملاً وآياتٍ آياتٍ لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع ومنها ما هو في العقائد الإيمانية ومنها ما هو في أحكام الجوارح ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخاً له وكان النبى صلى الله عليه وسلم يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتض الحال منها منقولاً عنه كما علم من قوله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، أنها نعى النبى صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك ونُقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم. ولم يزل ذلك متناقلاً بين الصدر الأول والسلف، حتى صارت المعارف علوماً، ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين. وأنتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثالهم من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك، بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب، فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن، لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي. وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين. وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاً تهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. فإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيد ونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم، مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، في أمثال هذه الأغراض، أخباراً موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهده المنقولات. وأصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
والصنف الآخر من التفسير، وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول، إذ الأول هو المقصود بالذات. وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعات. نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً. ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفسير، كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق، إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد، فيأتي بالحجاج على
مذاهبهم الفاسدة، حيث تعرض له في أي القرآن من طرق البلاغة. فصار بدلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة. وإذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية، محسناً للحجاج عنها، فلا جرم أنه مأمون من غوائله، فليغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان.ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين، وهو شرف الدين الطيبي، من أهل توريز من عراق العجم، شرح فيه كتاب الزمخشري هذا، وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها. ويبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة، لا علي ما يراه المعتزلة، فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة. وفوق كل ذي علم عليم.
الفصل السادس علوم الحديث وأما علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوعة، لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه،وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفاً من الله بعباده وتخفيفاً عنهم، باعتبار مصالحهم التي تكفل الله لهم بها. قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].[ ومعرفة الناسخ والمنسوخ وأن كان عاماً للقرآن والحديث، إلا أن الذي في القرآن منه أندرج في تفاسيره، وبقي ما كان خاصاً بالحديث راجعاً إلى علومه، فإذا تعارض الخبر أن بالنفي والإثبات، وتعذر الجمع بينهما ببعض التأويل، وعلم تقدم أحدهما، تعين أن المتأخر ناسخ]. وهو من أهم علوم الحديث وأصعبها. قال الزهري: "أعيا
الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله من منسوخه ". وكان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة. أومن علوم الحديث النظر في الأسانيد ، ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط، لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله ، فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن، وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط. وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة، ويكون لنا ذلك دليلاً على القبول أو الترك وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين، وتفاوتهم في ذلك وتميزهم فيه واحداً واحداً. وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها، بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه، وبسلامتها من العلل الموهنة لها، وتنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل. ويختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة، مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب، وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لائمة اللسان أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة، وتفاوت رتبها، وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد.ثم اتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف، وما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه. وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين معروفة عند أهل بلده، فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق، ومنهم بالشام ومصر. والجميع معروفون مشهورون في أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة، لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك،. وسيد الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه، ثم أصحابه مثل الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وابن وهب وابن بكير والقصنبي ومحمد بن الحسن ومن بعدهم الإمام احمد بن حنبل في آخرين من أمثالهم.وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلاً صرفاً، شمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك رحمه الله كتاب الموطأ، أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث
وأسانيدها المختلفة. وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين، وقد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري أمام المحدثين في عصره، فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين. واعتمد منها ما اجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب، بمعنى ذلك الباب الذي تضفنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه، حتى يقال: أنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب.ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى، فألف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها. وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. وقد استدرك الناس عليهما في ذلك. ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي، في السنن بأوسع من الصحيح، وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل، أما من الرتبة العالية في الأسانيد، وهو الصحيح، كما هو معروف، وأما من الذي دونه من الحسن وغيره، ليكون ذلك إماماً للسنة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة، وهي أمهات كتب الحديث في السنة، فأنها وأن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب. ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها هي علم الحديث، وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ، فيجعل فنا برأسه وكذا الغريب. وللناس فيه تآليف مشهورة، ثم المؤتلف والمختلف. وقد ألف الناس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمتهم أبو عبد الله الحاكم، وتآليفه فيه مشهورة، وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه. وأشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح، كان لعهد أوائل المائة السابعة، وتلاه
محيي الدين النووي بمثل ذلك. والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما تحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة. وقد أنقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدمين، إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة، على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم، لم يكونوا ليغفلوا شيئاً من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر، هذا بعيد عنهم. وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة، وضبطها بالرواية عن مصنفيها، والنظر في أسانيدها إلى مؤلفها، وعرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط والأحكام، لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمس إلا في القليل.فأما البخاري، وهو أعلاها رتبة، فاستصعب الناس شرحه واستغلقوا منحاه، من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق، ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم. ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه، لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق، ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب. وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث، في أبواب كثيرة، بحسب معانيه واخلافها. ومن شرحه، ولم يستوف هذا فيه، فلم يوف حق الشرح: كابن بطال وابن المهلب وابن التين ونحوهم. ولقد سمعت كثيراً من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة، يعنون أن أحداً من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار.وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به، واكبوا عليه واجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري، من غير الصحيح، مما لم يكن على شرطه، وأكثر ما وقع له في التراجم. وأملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحاً، وسماه (المعلم بفوائد مسلم). اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه. ثم أكمله القاضي عياض من بعده وتممه ، وسماه إكمال المعلم. وتلاهما محيي الدين النووي، بشرح استوفي ما في الكتابين، وزاد عليهما، فجاء شرحاً وافياً.
وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مأخذ الفقهاء، فأكثر شرحها في كتب الفقه، إلا ما يختص بعلم الحديث، فكتب الناس عليها، واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاتها، والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها في السنة.واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد، بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها، تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها. ولم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل، ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها، بحيث لوروي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه. ولقد وقع مثل ذلك للأمام محمد بن إسماعيل البخاري، حين ورد على بغداد، وقصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: "لا اعرف هذه، ولكن حدثني فلان ". ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح، ورد كل متن إلى سنده، وأقروا له بالإمامة.واعلم أيضا أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال،فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها، ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها، وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده خمسون ألف حديث، ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين، إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث، فلهذا قلت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة. ومن كان قليل البضاعة من الحديث، فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة، ويتلقىالأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل
الرواية، لأجل المطاعن التي نعترضه فيها والعلل التي تعرض في طرقها، سيما والجرح مقدم عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد. ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق.هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق، لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة، ومن أنتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر. والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. وقلت من أجلها روايته فقل حديثة. لا أنه ترك رواية الحديث متعمداً، فحاشاه من ذلك. ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم، والتعويل عليه واعتباره رداً وقبولاً. وأما غيره من المحدثين وهم الجمهور، فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم، والكل عن اجتهاد. وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم.وروى الطحطاوي فأكثر وكتب مسنده، وهو جليل القدر، إلا أنه لا يعدل الصحيحين، لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه. وشروط الطحطاوي غير متفق عليها، كالرواية عن المستور الحال وغيره، فلهذا قدم الصحيحان، بل وكتب السنن المعروفة قدمت عليه لتأخر شروطه عن شروطهم. ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك، فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم، والتماس المخارج الصحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى اعلم بما في حقائق الأمور.
الفصل السابع علم الفقه وما يتبعه من الفرائض الفقه هو معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه. وكان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيها بينهم. ولا بد من وقوعه ضرورة. فأن الأدلة من النصوص وهي بلغة العرب، وفي اقتضاءات ألفاظها بكثير من معانيها وخصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف. وأيضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها، فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضاً. فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها، وأيضا فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص. وما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحمل على منصوص لمشابهة بينهما، وهذه كلها مثارات للخلاف ضرورية الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم.ثم أن الصحابة لم يكونوا كفهم أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالاته بما تلقوه من النبي أو ممن سمعه منهم مع عليتهم ، وكانوا يسمون لذلك القراء، أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فأختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر الملة. ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب، وتمكن الاستنباط
وكمل الفقه واصبح صناعة وعلماً فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء. وأنقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي والقياس، وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث، وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلاً في أهل العراق كما قدمناه، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل أهل الرأي. ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة، وأمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشافعي من بعده.ثم أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به. وهم الظاهرية. وجعلوا مدارك الشرع كلها منحصرة في النصوص والإجماع وردوا القياس الجلي والعلة المنصوصة إلى النص، لأن النص على العفة نص على الحكم في جميع محالها. وكان أمام هذا المذهب داود بن علي وابنه وأصحابهما. وكانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة. وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلها أصول واهية. وشذ بمثل ذلك الخوارج. ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم بلى أوسعوها جانب الإنكار والقدح. فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلا في مواطنهم. فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن، والخوارج كذلك. ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة. ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب المجلدة. وربما يعكف كثير من الطالبين، ممن تكفف بانتحال مذهبهم، على تلك الكتب، يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم، فلا يحلو بطائل، ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه. وربما عد بهذه النحلة من أهل الباع بتلقيه العلم من الكتب، من غير مفتاح المعلمين.وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس، على علو رتبته في حفظ الحديث، وصار إلى مذهب أهل الظاهر، ومهر فيه، باجتهاد زعمه في أقوالهم. وخالف أمامهم داود وتعرض للكثير من أئمة المسلمين، فنقم الناس ذلك عليه، وأوسعوا مذهبه استهجاناً وإنكاراً، وتلقوا كتبه بالإغفال والترك، حتى أنها يحظر بيعها بالأسواق، وربما تمزق في بعض الأحيان. ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز.فأما أهل العراق فأمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت،ومقامة في الفقه لا يلحق، شهد له بدلك أهل جلدته وخصوصاً مالك والشافعي.وأما أهل الحجاز فكان إمامهم مالك بن أنس الأصبحي أمام دار الهجرة رحمه الله تعالى. واختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره، وهو عمل أهل المدينة. لأنه رأى أنهم، فيما يتفقون عليه، من فعل أو ترك، متابعون لمن قبلهم، ضرورة لدينهم واقتدائهم ، وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي الآخذين ذلك عنه. وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة.واعلم أن الإجماع إنما هو الإنفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى، وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه. وضرورة اقتدائهم [بعين ذلك يعم الملة] . ذكرت في باب الإجماع لأنها أليق الأبواب بها، من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها وبين الإجماع. إلا أن اتفاق أهل
الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلة، واتفاق هؤلاء في فعل أو ترفي مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. ولو ذكرت المسألة في باب فعل النبي وتقريره، أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها.ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهما الله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، واختص بمذهب. وخالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. وكان من علية المحدثين. وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث، فاختصوا بمذهب آخر. ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم. وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم. ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يوثق برأيه ولا يدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز ، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كل من اختص به من المقلدين. وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب. ولم يبق إلا نقل مذاهبهم. وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية، لا محصول اليوم للفقه غير هذا.ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده. وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة. فأما أحمد بن حنبل، فمقلدوه قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية، وللأخبار بعضها ببعض. وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظاً للسنة ورواية الحديث وميلاً بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن، وكان لهم ببغداد صولة وكثرة، حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها. وعظمت الفتنة من أجل ذلك، ثم أنقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها. ولم يراجع وصارت كثرتهم بالشام. وأما أبو حنيفة فقلده
اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين، وما وراء النهر وبلاد العجم كلها. ولما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام، وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس، فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية وحسنت مباحثهم في الخلافيات، وجاءوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي الناس. وبالمغرب منها شئ قليل نقله إليه القاضي ابن العربي وأبو الوليد الباجي في رحلتهما.وأما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها، وقد كان أنتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار. وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره. وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر، أخذ عنه جماعة منهم. وكان من تلميذه بها: البويطي والمزني وغيرهم، وكان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم. ثم الحارث بن مسكين وبنوه، ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان وأصحابه.ثم أنقرض فقه أهل السنة والجماعة من مصر بظهور دولة الرافضة، وتداول بها فقه أهل البيت وكان من سواهم يتلاشوا ويذهبوا. وارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد، آخر المائة الرابعة، على ما أعلم، من الحاجة والتقليب في المعاش. فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه، وإظهار فضله نعياً على بني العباس في إطراح مثل هذا الإمام، والاغتباط به. فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب، فذهب منها فقه أهل البيت وعاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم ورجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام، فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه. واشتهر فيهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام وعز الدين بن عبد السلام أيضا، ثم ابن الرقعة بمصر وتقي الدين بن دقيق العبد، ثم تقي الدين السبكي بعدهما. إلى أن أنتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد، وهو سراج الدين البلقيني ، فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا بل كبير العلماء من أهل العصر.وأما مالك رحمة الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس. وأن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة. وشيخهم يومئذ وأمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره، ممن لم تصل إليهم طريقته. وأيضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. ولما صار مذهب كل أمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه، بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب أمامهم. وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة، يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة، واتباع مذهب أمامهم فيهما ما استطاعوا.وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. وأهل المغرب جميعا مقلدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق، فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويزمنداد وابن اللبان والقاضي أبو بكر الأبهري، والقاضي أبو الحسين بن القصار والقاضي عبد الوهاب ومن بعدهم. وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم والحارث بن مسكين وطبقتهم. ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، ولقي مالكا. وروى عنه كتاب الموطأ، وكان من جملة أصحابه. ورحل بعده عبد الملك بن حبيب، فأخذ عن ابن القاسم وطبقته، وبث مذهب مالك في الأندلس ودون فيه كتاب الواضحة. ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية. ورحل من إفريقية أسد بن الفرات، فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً، ثم أنتقل إلى مذهب مالك. وكتب علي بن القاسم في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان بكتابه وسمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه، وعارضه بمسائل الأسدية، فرجع عن كثير منها. وكتب سحنون مسائلها ودونها وأثبت ما رجع عنه منها، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما رجع عنه، وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه واتبعوا مدونة سحنون، على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمي المدونة والمختلطة. وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية. ثم أختصر ابن أبي زيد المدونة والمختلطة في كتابه المسمى بالمختصر ولخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب، واعتمده المشيخة من أهل إفريقية وأخذوا به، وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية وهجروا الواضحة وما سواها. ولم يزل علماء المذهب يتعاهدون هذه ا أمهات بالشرح والإيضاح والجمع، فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر،. فاشتمل عين جميع أقوال المذاهب، وفرع الأمهات كلها في
هذا الكتاب. ونقل ابن يونس فعظمه في كتابه على المدونة، وزخرت بحار المذهب المالكي في الأ فقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان. ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك، [ إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب، لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة ، فجاء كالبرنامج للمذهب. وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين، وابن المبشر وابن اللهيث وابن رشيق وابن شاش. وكانت بالإسكندرية في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله. ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب، لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين، وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية. ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة ] عكف عليه الكثير من طلبة المغرب، وخصوصاً أهل بجاية، لما كان
كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب. فأنه كان قرا على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك، فجاء به وأنتشر بقطر بجاية في تلميذه، ومنهم أنتقل إلى سائر الأمصار المغربية. وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه، لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام وابن رشد وابن هارون، وكلهم من مشيخة أهل تونس، وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام، وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. الفصل الثامن علم الفرائض وأما علم الفرائض، وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة، من كم تصخ، باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها. وذلك إذا هلك أحد الورثة وأنكرت سهامه على فروض ورثته، فأنه حينئذ يحتاج إلى حسبان يصحح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعاً في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحدٍ واثنين، وتتعدد كذلك بعدد أكثر. وبقدر ما تتعدد تحتاج إلى الحسبان، وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين، مثل أن يقر بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ. وينظر مبلغ السهام، ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. وكل ذلك يحتاج إلى الحسبان
فأفردوا هذا الباب من أبواب الفقه، لما اجتمع فيه إلى الفقه من الحسبان. وكان غالباً فيه، وجعلوه فناً مفرداً. وللناس فيه تآليف كثيرة، أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت، ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي ، ومن متأخري إفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم.وأما الشافعية والحنفية والحنابلة، فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة، شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب، وخصوصاً أبا المعالي رضي الله تعالى عنه وأمثاله من أهل المذهب. وهو فن شريف لجمعه بين المعقول والمنقول، والوصول به إلى الحقوق في الوراثات، بوجوه صحيحة يقينية، عندما تجهل الحظوظ وتشكل على القاسمين. وللعلماء من أهل الأمصار بها عناية. ومن المصنفين من يحتاج فيها إلى الغلو في الحساب، وفرض المسائل التي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب: كالجبر والمقابلة والتصرف في الجذور وأمثال ذلك، فيملأون بها تآليفهم. وهو وأن لم يكن متداولاً بين الناس، ولا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته وقلة وقوعه، فهو يفيد المران وتحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه.وقد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله، بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الفرائض ثلث العلم وأنها أول ما ينسى، وفي رواية: نصف العلم، خرجه أبو نعيم الحافظ. واحتج به أهل الفرائض، بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة. والذي يظهر أن هذا المحمل بعبد، وأن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات والعادات والمواريث وغيرها. وبهذا المعنى يصح فيها النصفية والثلثية.وأما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علوم الشريعة كلها. ويعني هذا المراد أن حمل لفظ الفرائض على هذا الفن المخصوص، أو تخصيصه بفروض الوراثة، إنما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء عند حدوث الفنون والاصطلاحات. ولم يكن، صدر الإسلام، يطلق هذا اللفظ إلا على عمومه مشتقاً من الفرض الذي هو، لغة، التقدير أو القطع. وما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه، وهي حقيقته الشرعية، فلا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
الفصل التاسع أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدةً، وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف. وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن، ثم السنة المبينة له. فعلى عهد النبي صلي الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقى منه، بما يوحى إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله، بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر. وأما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها، قولاً أو فعلاً، بالنقل الصحيح، الذي يغلب على الظن صدقه. وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار، ثم تنزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت، مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة، فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات.ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة، فإذا هم يقيسون الأشباه منها بالأشباه. ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم،
وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فأن كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه، لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسموها بما ثبت، وألحقوها بما نص عليه، بشروط في ذلك الإلحاق، تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد، وصار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه، وهو القياس، وهو رابع الأدلة واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة، وأن خالف بعضهم في الإجماع والقياس، إلا أنه شذوذ.وألحق بعضهم بهذه الأدلة الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. فكان من أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة. فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه، والتواتر في نقله، فلم يبق فيه مجال للاحتمال. وأما السنة وما نقل إلينا منها، فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه، معتضداً بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه، من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام والشرائع أمراً وناهياً. وأما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للأمة. وأما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه. هذه أصول الأدلة. ثم أن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر، بالنظر في طرق النقل وعدالة الناقلين، لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه، الذي هو مناط وجوب العمل بالخبر. وهذه أيضاً من قواعد الفن.ويلحق بذلك، عند التعارض بين الخبرين، وطلب المتقدم منهما، معرفة الناسخ والمنسوخ، وهي من فصوله أيضاً وأبوابه. ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالات الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق، من تراكيب الكلام على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة. والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان. وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوماً ولا قوانين، ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها، لأنها جبلة وملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب، قيدها الجهابذة المتجردون لذلك، بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة، وصارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام، وهي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة بين تراكيب الكلام وهو الفقه.ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أضل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك، وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أن اللغة لا تثبت قياساً، والمشترك لا يراد به معنياه معاً، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة فيما عداها، والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي، والنهي يقتضي الفساد أو الصحة، والمطلق هل يحمل على المقيد؟ والنص على العلة كاف في التعدد أم لا ؟ وأمثال هذه. فكانت كلها من قواعد هذا الفن. ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم أن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن، لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وتنقيح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل، من تبين أوصاف ذلك المحل، أو وجود ذلك الوصف في الفرع، من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه إلى مسائل أخرى من توابع ذلك، كلها قواعد لهذا الفن.واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً، فعنهم أخذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها، لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم. فلما أنقرض السلف، وذهب الصدر الأولى وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل، احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيلى هذه القوانين والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العفة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة منها والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم، فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن.وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم، فكتب في القياس بأوسع من جميعهم، وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه، وكملت صناعة أصول الفقه بكماله، وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده، وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه. وكان من احسن ما كتب فيه المتكلمون، كتاب البرهان لإمام الحرمين، والمستصفي للغزالي، وهما من الأشعرية. وكتاب العهد لعبد الجبار، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة، قواعد هذا الفن وأركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين، المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج، والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأما كتاب المحصول، فأختصره تلميذ الإمام مثل سراج الدين الأموي في كتاب التحصيل، وتاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل. واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. وكذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. وعني المبتدئون بهذين الكتابين، وشرحهما كثير من الناس. وأما كتاب الأحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقاً في المسائل، فلخصه أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير. ثم أختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم، وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه. وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات.وأما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيراً، وكان من أحسن كتابة المتقدمين فيها تأليف أبي زيد الدبوسي، وأحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم، وهو مستوعب. وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب الأحكام وكتاب البزدوي في الطريقتين، وسمى كتابه بالبدائع، فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها، وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءةً وبحثاً. وأولع كثير من علماء العجم بشرحه. والحال على ذلك لهذا العهد.هذه حقيقة هذا الفن وتعيين موضوعاته وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه.والله ينفعنا بالعلم، ويجعلنا من أهله، بمنه وكرمه، أنه على كل شيء قدير.
ا لخلافات: وأما الخلافيات فاعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين، باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافاً لا بد من وقوعه لما قدمناه. واتسع ذلك في الملة اتساعاً عظيماً، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم. ثم لما أنتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكان من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم، ومنعوا من تقليد سواهم، لذهاب الاجتهاد، لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده، باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة
وأجري الخلاف بين المتمسكين بها، والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية.وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب أمامه، تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة، يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده وتمسك به.و أجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه: فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك، وأبو حنيفة يوافق أحدهما، وتارة يكون مالك وأبي حنيفة، والشافعي يوافق أحدهما، وتارة بين الشافعي وأبي حنيفة، ومالك يوافق أحدهما. وكان في هذه المناظرات بيان مأخذ هؤلاء الأئمة، ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته.وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مأخذ الأئمة وأدلتهم، ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه. وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية، لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت، فهم لذلك أهل النظر والبحث. وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر. وأيضاً فأكثرهم أهل المغرب، وهم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. وللغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المأخذ، ولأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق، ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة، ولابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة، وقد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي، مدرجاً في كل مسألة منه ما ينبني عليها من الخلافيات.
الجدل: وأما الجدل وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب
الفقهية وغيرهم، فأنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج. ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأً، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظر أن عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلاً، وكيف يكون مخصوصاً منقطعاً، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت لخصمه الكلام والاستدلال. ولذلك قيل فيه أنه معرفة بالقواعد، من الحدود والآداب، في الاستدلال، التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره. وهي طريقتان: طريقة البزدوي، وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال، وطريقة العميدي ، وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان، وأكثره استدلالاً. وهو من المناحي الحسنة، والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. وإذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي والسوفسطائي. إلا أن صور الأدلة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. وهذا العميدي هو أول من كتب فيها وبسبت الطريقة إليه. وضع الكتاب المسمي بالإرشاد مختصراً، وتبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي وغيره، جاؤوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التآليف. وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار الإسلامية. وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل العاشر علم الكلام وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد. فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق والمأخذ، ثم نرجع إلى تحقيق علم الكلام وفيما ينظر ونشير إلى حدوثه في الملة، وما دعا إلى وضعه فنقول: إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونه. وكل واحد من تلك الأسباب حادث أيضاً، فلا بد له من أسباب أخرى. ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها، لا إله إلا هو سبحانه.وتلك الأسباب في ارتقائها تتضاعف فتنفسح طولاً وعرضاً، ويحار العقل في إدراكها وتعديدها. فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط، سيما الأفعال البشرية والحيوانية، فأن من جملة أسبابها في الشاهد القصود والادارات، إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته والقصد إليه. والقصودات والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة، يتلو بعضها بعضاً. وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل. وقد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى، وكل ما يقع في النفس من التصورات فمجهول سببه، إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية، ولا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر، يتبع بعضها بعضاً، والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها. وإنما يحيط علماُ في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة
وتقع في مداركها على نظام وترتيب، لأن الطبيعة محصورة للنفس وتحت طورها. وأما التصورات فنطاقها أوسع من النفس، لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس، فلا تكاد النفس تدرك الكثير منها فضلاً عن الإحاطة. وتأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب والوقوف معها، فأنة واد يهيم فيه الفكر ولا يخلو منه بطائل، ولا يظفر بحقيقة. {قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. وربما أنقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمه، وأصبح من الضالين الهالكين. نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين.ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه فم قدرتك أو اختيارك، بل هو لون يحصل للنفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحرزنا منها، فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة. وأيضاً فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول، لأنها إنما يوقف عليها بالعادة، وقضية الاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها وإلغائها جملة، والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها، لترسخ صبغة التوحيد في النفس، على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا، وطرق سعادتنا، لاطلاعه على ما وراء الحس.قال : <<من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة>>. فأن وقف عند تلك الأسباب، فقد أنقطع وحقت عليه كلمة الكفر، وأن سبح في بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحداً بعد واحد، فأنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب وأمرنا بالتوحيد المطلق. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4]. ولا تثقن بما يزعم لك الفكر مع أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق من ورائه. إلا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضاً يسقط من الوجود عنده صنف المرعيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة، لما اقروا به. لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق، لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة لديه بالكلية. فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقاً من ذلك، والله من ورائهم محيط. فانهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك، لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك. وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فأن ذلك طمع في محال.ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن للعقل حد يقف عنده ولا يتعدى طوره، حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته، فأنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه. وتفطن من هذا الغلط من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا، وقصور فهمه واضمحلال رأيه، فقد تبين لك الحق من ذلك. وإذا تبين ذلك، فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا، خرجت عن أن تكون مدركة، فيضل العقل في بيداء الأوهام، ويحار وينقطع. فإذا: التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيراتها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره. وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته، وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنة لا غير.وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: "العجز عن الإدراك إدراك ". ثم أن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط، الذي هو تصديق حكمي، فأن ذلك من حديث النفس. وإنما الكمال فيه حصول صفة منه، تتكيف بها النفس. كما أن المطلوب من الأعمال والعبادات أيضاً حصول ملكة الطاعة والانقياد، وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود، حتى ينقلب المريد السالك ربانياً. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتصاف. وشرحه أن كثيراً من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين، قربة إلى الله تعالى، مندوب إليها، ويقول بدلك ويعترف به وبذكر مأخذه من الشريعة، وهو لو رأى يتيماً أو مسكيناً من أبناء المستضعفين، لفر عنه، واستنكف أن يباشره، فضلاً عن التمسيح عليه للرحمة، وما بعد ذاك من مقامات العطف والحنو والصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم، ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف. ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول، وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيماً أو مسكيناً بادر إليه ومسح عليه والتمس الثواب في الشفقة عليه، لا يكاد يصبر عن ذلك، ولو دفع عنه. ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده. وكذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به، والعلم الحاصل عن الاتصاف ضرورة، هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف. وليس الاتصاف بحاصل عبئ مجرد العلم، حتى يقع العمل ويتكرر مراراً غير منحصرة، فترسخ الملكة ويحصل الاتصاف والتحقيق، ويجيء العلم الثاني النافع في الآخرة. فأن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع، وهذا علم أكثر النظار، والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة. واعلم أن الكمال عند الشارع في كلى ما كلف به إنما هو في هذا: فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف، وما طلب عمله من العبادات، فالكمال فيها في حصول الاتصاف والتحقيق بها. ثم أن الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة. قال : <<في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة>>، فأن الصلاة صارت له صفة وحالاً يجد فيها منتهى لذته وقرة عينه، وأين هذا من صلاة الناس ومن لهم بها، { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4، 5]. اللهم وفقنا، و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].فقد تبين لك من جميع ما قررناه، أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس، ينشأ عنها علم اضطرارى للنفس، هو التوحيد، وهو العقيدة الإيمانية، وهو الذي تحصل به السعادة، وأن ذلك سواء في التكاليف القلبية والبدنية. ويتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف كلها وينبوعها، هو بهذه المثابة وأنه ذو مراتب: أولها التصديق القلبي الموافق للسان، وأعلاها حصول كيفية، من ذلك الاعتقاد القلبي، وما يتبعه من العمل، مستولية على القلب، فيستتبع الجوارح. وتندرج في طاعتها جميع التصرفات، حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. وهذا أرفع مراتب الإيمان، وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة. إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين. قال صلى الله عليه وسلم:<<لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن >>. وفي حديث هرقل، لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي وأحواله، فقال في أصحابه، هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، قال: لا! قال وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها، شأن الملكات إذا استقرت، فأنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة. وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان، وهي في المرتبة الثانية من العصمة.
لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوباً سابقاً، وهذه حاصلة للمؤمنين حصولاً تابعاً لأعمالهم وتصديقهم. فبهذه الملكة ورسوخها، يقع التفاوت في الإيمان، كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف.وفي تراجم البخاري رضي الله عنه، في باب الإيمان، كثير منه، مثل: أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص، وأن الصلاة والصيام من الإيمان، وأن تطوع رمضان من الإيمان، والحياء من الإيمان. والمراد بهذا كله الإيمان الكامل، الذي أشرنا إليه وإلى ملكته، وهو فعلي. وأما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء، وحمله على التصديق منع من التفاوت، كما قال أئمة المتكلمين، ومن اعتبر أو آخر الأسماء، وحمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت. وليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق، إذ التصديق موجود في جميع رتبه، لأنه أول ما يطلق عليه اسم الإيمان، وهو المخلص من عهدة الكفر، والفيصل بين الكافر والمؤمن، فلا يجزي أقل منه. وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت، وإنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه، فافهم وإعلم أن الشارع وصف لنا هذا الإيمان، الذي في المرتبة الأولى، الذي هو تصديق، وعين أموراً مخصوصة، كلفنا التصديق بها بقلوبنا، واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا، وهي العقائد التي تقررت في الدين. قال ، حين سئل عن الإيمان فقال: <<أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر: خيره وشره>>.وهذه هي العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام. ولنشر إليها مجملة لتتبين لك حقيقة هذا الفن وكيفية حدوثه، فنقول: إعلم أن الشارع لما أمرنا بالإيمان بهذا الخالق، الذي رد الأفعال كلها إليه، وأفرده بها كما قدمناه، وعرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا، لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود، إذ ذلك متعذر على إدراكنا ومن فوق طورنا. فكلفنا: أولاً، اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة
المخلوقين، وإلا لما صح أنه خالق لهم، لعدم الفارق على هذا التقدير، ثم تنزيهه عن صفات النقص، وإلا لشابه المخلوقين، ثم توحيده بالاتحاد، وإلا لم يتم الخلق للتمانع، ثم اعتقاد أنه عالم، قادر، فبدلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الإيجاد والخلق، ومريد وإلا لم يخصص شئ من المخلوقات، ومقدر لكل كائن، وإلا فالإرادة حادثة. وأنه يعبدنا بعد الموت تكميلاً لعنايته بالإيجاد، ولو كان للغناء الصرف كان عبثاً، فهو للبقاء السرمدي بعد الموت. ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد، لاختلاف أحواله بالشقاء والسعادة، وعدم معرفتنا بذلك، وتمام لطفه بنا في الأنباء بدلك، وبيان الطريقين. وأن الجنة للنعيم وجهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية، معللة بادلتها العقلية، وأدلتها من الكتاب وألسنة كثيرة. وعن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة، إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد، أكثر مثارها من الآي المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل. فحدث بدلك علم الكلام.ولنبين لك تفصيل هذا المجمل. وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود، بالتنزيه المطلق، الظاهر الدلالة من غير تأويل في أي كثيرة، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها، فوجب الإيمان بها. ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه، مرة في الذات وأخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها، ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول
الكثير منهم: إقرأوها كما جاءت، أي آمنوا بأنها من عند الله. ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها، لجواز أن يكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات، وتوغلوا في التشبيه: ففريق شبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه، عملاً بظواهر وردت بدلك، فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة أي التنزيه المطلق، لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار. وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق، التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة، أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية، وجمع بين الدليلين بتأويلها. ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك يدافع عنهم، لأنه قول متناقض، وجمع بين نفي وإثبات: أن كانا لمعقولية واحدة من الجسم، وأن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة، فقد وافقونا في التنزيه، ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسماً من أسمائه. ويتوقف مثله على الإذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات، كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التجسيم، فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات، جهة لا كالجهات، نزول لا كالنزول، يعنون من الأجسام.وأندفع ذلك بما أندفع به الأول، ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي، لئلا يكّر النفي على معانيها بنفيها، مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له، وفي كتاب الحافظ بن عبد البر وغيرهم، فأنهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الإنحاء، وألف المتكلمون في التنزيه، حدثت بدعة المعتزلة، في
تعميم هذا التنزيه في أي السلوب، فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة، زائدة على أحكامها، لما يلزم ذلك من تعدد القديم بزعمهم، وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها، وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام. وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ، وإنما هو إدراك للمسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما فتي السمع والبصر، ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق، وذلك بدعة صرح السلف بخلافها وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم، فحمل الناس عليها. وخالفهم أئمة السلف، فاستحل لخلافهم أيسار كثير منهم ودماؤهم.وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد، دفعاً في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين، فتوسط بين الطرق ونفي التشبيه. وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل. ورد على المبتدعة في ذلك كله، وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح، وكمل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. والحق بدلك الكلام في الإمامة، لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامة، في قولهم أنها من عقائد الإيمان. وأنها يجب على النبي تعيينها والخروج
عن العهدة فيها لمن هي له، وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية، ولا تلحق بالعقائد، فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام: أما لما فيه من المناظرة على البدع، وهي كلام صرف، وليست براجعة إلى عمل، وأما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو ننازعهم في إثبات الكلام النفسي. وكثر اتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفي طريقته من بعده تلميذه، كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها ووضع المقدمات العقلية، التي تتوقف عليها الأدلة، والأنظار، وذلك مثل: إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها، لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان، على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة، لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك.ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية أمام الحرمين أبو المعالي، فأملى في الطريقة كتاب الشامل وأوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد واتخذه الناس إماماً لعقائدهم. ثم انتشر من بعد ذلك
علم المنطق في الملة. وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، يسبر به الأدلة منها كما يسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك. وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها، ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله، كما صار إليه القاضي، فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى، وتسمى طريقة المتأخرين. وربما ادخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية، وجعلوهم من خصوم العقائد، لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم. ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحداً، من اشتباه المسائل فيهما.واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وهو نوع استدلالهم غالباً. فالجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات، هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم، وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث أنه يدل على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فروضها صحيحة من الشرع، من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية، فترفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد. وإذا تأملت
حال الفن في حدوثه، وكيف تدرج كلام الناس فيه صدراً بعد صدر، وكفهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلة، علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن، وأنه لا يعدوه.ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين، والتبست مسائل الكلام، بمسائل الفلسفة، بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع، ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلا أن هذه الطريقة، قد يعنى بها بعض طلبة العلم، للاطلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج، لوفور ذلك فيها. وأما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام، فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين، وأصلها كتاب الإرشاد، وما حذا حذوه.ومن أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده، فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب، فأنها وأن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم، فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع، ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم. وعلى الجملة، فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأما الآن، فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارئ عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته. ولقد سئل الجنيد رحمه الله، عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء، فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص، فقال: "نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب". لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة، إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. والله ولي المؤمنين.
الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر إعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر وآثارها والمكونات الثلاثة عنها، التي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلها متعلقات القدرة الإلهية وعلى أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتب، وهي الأفعال البشرية، ومنها غير منتظم ولا مرتب، وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع، فإذا قصد أيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بد من التفطن بسببه أو عفته أو شرطه، وهي جملى الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلا ثانياً عنها ولا يمكن ايقاع المتقدم متأخراً ولا المتأخر متقدماً. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخراً عنه، وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا أنتهى إلى آخر المبادئ في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، وشرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي أنتهى إليه الفكر، فكان أول عمله. ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته مثلا، لو فكر في أيجاد سقف يكنه انتقل بدهنه إلى الحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف، وهو آخر العمل. وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل، فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على
بعض. ثم يشرع في فعلها. وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأولها في العمل هو المسبب الأول وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الإنتظام في الأفعال البشرية.
وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل، إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر. ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، وغير المنتظمة إنما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كله في طاعته وتسخره. وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات والخمس الذي ترتيبها وضعي، ومنهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأن لعب الشطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسببات بالطبع، لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
المجلد الأول- تاريخ ابن خلدون صـ 594-668 الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه إنك تسمع في كتب الحكماء قولهم أن الإنسان هو مدني الطبع، يذكرونه في إثبات النبوات وغيرها. والنسبة فيه إلى المدينة، وهي عندهم كناية عن الاجتماع البشري. ومعنى هذا القول، انه لا تمكن حياة المنفرد من البشر، ولا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه. وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه. وتلك المعاونة لا بد فيها من المفاوضة أولاً، ثم المشاركة وما بعدها. وربما تفضي المعاملة عند اتحاد الأعراض إلى المنازعة والمشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤالفة، والصداقة والعداوة. ويؤول إلى الحرب والسلم بين الأمم والقبائل. وليس ذلك على أي وجه اتفق، كما بين الهمل من الحيوانات؛ بل للبشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر، كما تقدم. جعل منتظماً فيهم، ويسرهم لإيقاعه على وجوه سياسية وقوانين حكمية، ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، وعن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميزوا القبائح والمفسدة، بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة؛ وعوائد معروفة بينهم؛ فيفارقون الهمل من الحيوان، وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد. هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحسّ كل البعد ولا يتعمق فيها الناظر؛ بل كلها تدرك بالتجربة وبها يستفاد، لإنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات وصدقها وكذبها، يظهر قريباً في الواقع؛ فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. ويستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصاً له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه، حتى يتعين له ما يجب
وينبغي، فعلاً وتركاً. وتحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. ومن تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كل قضية. ولا بد بما تسعه التجربة من الزمن. وقد يسفل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولقن عنهم ووعى تعليمهم؛ فيستغني عن طول المعاناة في تتبع الوقائع واقتناص هدا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه واتباعه، طال غناؤه في التأديب بذلك؛ فيجري في غير مألوف ويدركها على غير نسبة؛ فتوجد آدابه ومعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل، ويفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. وهذا معنى القول المشهور: "من لم يؤدبه والده أدبه الزمان". أي من لم يلقن الآداب في معاملة البشر من والديه- وفي معناهما المشيخة والأكابر- ويتعلم ذلك منهم، رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الايام؛ فيكون الزمان معلمه ومؤدبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه.
وهذا هو العقل التجريبي، وهو يحصل بعد العقل التمييزي الذي تقع به الأفعال كما بيناه. وبعد هذين مرتبة العقل النظري الذي تكفل بتفسيره أهل العلوم، فلا يحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. والله جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً- ما تشكرون. الفصل الثالث عشر في علوم البشر وعلوم الملائكة إنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم: أولها: عالم الحسّ، ونعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك، ثم نعتبر الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علماً ضرورياً بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحسّ؛ فتراه عالماً آخر فوق
عالم الحس. ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات، نحو الحركات الفعلية، فنعلم أن هناك فاعلاً يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني وذواته بالرؤيا وما نجد في النوم، ويلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصحيحة منها؛ فنعلم أنها حق ومن عالم الحق. وأما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحسّ. ولا نجد على هذا العالم الروحاني برهاناً أوضح من هذا؛ فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلاً.
وما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته وترتبها، المسماة عندهم بالعقول، فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه، كما هو مقرر في كلامهم في المنطق. لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية. وهذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات، فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان ويحكمها. واعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر؛ لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية والروحانية. ويشترك في عالم الحسّ مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته، وهي ذوات مجردة عن الجسمانية والمادة، وعقل صرف يتحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنه ذات حقيقتها الإدراك والعقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة. وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كله مكتسب، والذات التي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئاً شيئاً، حتى
تستكمل، ويصح وجودها بالموت في مادتها وصورتها. فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي والإثبات دائماً، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين. فإذا حصل وصار معلوماً افتقر إلى بيان المطابقة، وربما أوضحها البرهان الصناعي، لكنه من وراء الحجاب. وليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة. وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكي. فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد الذي في علمه، وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية. وكشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالأذكار التي أفضلها صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبالتنزه عن المتناولات المهمة ورأسها الصوم، وبالوجهة إلى الله بجميع قواه. والله علم الإنسان ما لم يعلم.
الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر وأحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية والنزوعية من الشهوة والغضب وسائر الأحوال البدنية، فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية، من العبادة والذكر لله بما يقتضي معرفتهم به، مخبرين عنه بما يوحى إليهم في تلك الحالة، من هداية الأمة على طريقة واحدة وسنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنه جبلة فطرهم الله عليها. وقد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب. وبينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة والمركبة على تركيب طبيعي من أعلاها وأسفلها متصلة كلها اتصالاً لا ينخرم. وان الذوات التي في آخر كل أفتى من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاورها من الأسفل والأعلى، استعداداً طبيعياً، كما في العناصر
الجسمانية البسيطة، وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والروية. وهذا الاستعداد الذي في جانبي كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال
وفوق العالم البشري عالم روحاني، شهدت لنا به الاثار التي فينا منه، بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقل محض، وهو عالم الملائكة؛ فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للإنسلاخ من البشرية إلى الملكية، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات، وفي لمحة من اللمحات. ثم تراجع بشريتها وقد تلقت في عالم الملكية ما كلفت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر. وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة. والأنبياء كلهم مفطورون عليه، كأنه جبلة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة والغطيط ما هو معروف عنهم. وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان، لا يلحقه الخطأ والزلل، ولا يقع فيه الغلط والوهم، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية، لا يفارق علمهم الوضوح، استصحاباً له من تلك الحالة الأولى، ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها، يتردد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها، كما في قوله تعالى: {إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه}[سورة000الآية000]. فافهم ذلك وراجع ما قدمناه لك أول الكتاب، في أصناف المدركين للغيب، يتضح لك شرحه وبيانه، فقد بسطناه هنالك بسطاً شافياً. والله الموفق.
الفصل الخامس عشر
في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات، وأن الله تعالى ميزه
عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه، وهو العقل التجريبي؛ أو يحصل به في تصور الموجودات غائباً وشاهداً، على ما هي عليه، وهو العقل النظري. وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه، ويبدأ من التمييز فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة، معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه في التكوين، من النطفة والعلقة والمضغة. وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس والأفئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}[السجدة :32] فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط، لجهله بجميع المعارف. ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانية في وجودها. وانظر إلى قوله تعالى مبدأ الوحي على نبيه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك اكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم }[العلق الآية5:1] أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلاً له بعد أن كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي وأشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده، وهي الإنسانية. وحالتاه الفطرية والكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي. وكان الله عليماً حكيماً.
الفصل السادس عشر
في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة
وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية والمبتدعة في الاعتقادات
إعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمداً يدعونا إلى النجاة والفوز بالنعيم،
وأنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين، يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب، ومن ضروراته، ذكر صفاته سبحانه وأسمائه، ليعرفنا بذاته؛ وذكر الروح المتعلقة بنا؛ وذكر الوحي والملائكة، الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعين لنا الوقت في شيء منه. وثبت في هذا القرآن الكريم حروفاً من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. وسمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابهاً. وذم على اتباعها فقال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله،، والراسخون في العلم يقولون أمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}[آل عمران الآية00] وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام. ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم: المحكم المتضح المعنى. وأنا المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي التي تفتقر إلى نظر وتفسير يصحح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها وتشتبه. وعلى هذا قال ابن عباس: "المتشابه يؤمن به ولا يعمل به " وقال مجاهد وعكرمة: "كلما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه "
وعليه القاضي أبو بكر وأمام الحرمين. وقال الثوري والشعبي وجماعة من علماء السلف: "المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط الساعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السور؛ وقوله في الآية: (هذه أم الكتاب) أي معظمه وغالبه والمتشابه اقله، وقد يرد إلى المحكم. ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به. وسماهم أهل زيغ، أي ميل عن الحق من الكفار والزنادقة وجهلة أهل البدع. وأن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصداً لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم.
ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلا هو فقال: وما يعلم تأويله إلا الله. ثم اثنى على العلماء بالإيمان بها فقط. فقال: والراسخون في العلم يقولون آمنا به. ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفاً، ورجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب ابلغ في الثناء ومع عطفه إنما يكون إيماناً بالشاهد، لأنهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيباً. ويعضد ذلك قوله: {كل من عند ربنا} [ سورة: آية ] ويدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر. أن الألفاظ اللغوية إنما يفهم منها المعاني التي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ؛ وإن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه؛ فلا سبيل لنا إلى ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن، فهم الذين عنى الله"، فأحذروهم. هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة. وجاء في السنة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد. وإذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها. فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا والله أعلم من المتشابه؛ لأنه لم يرد فيه
لفظ مجمل ولا غيره وإنما هي أزمنة لحادثات أستأثر الله بعلمها بنصه في كتابه وعلى لسان نبيه. وقال: <<إنما علمها عند الله>>. والعجب ممن عدها من المتشابه. وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة. وقد قال الزمخشري: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأن القرآن المنزل مؤلف منها، والبشر فيها سواء، والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح، كقولهم في طه، إنه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك. والنقل الصحيح متعذر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. وأما الوحي والملائكة والروح والجن، فاشتباهها من خفاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة؛ فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد الحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة والجنة والدجال والفتن والشروط، وما هو بخلاف العوائد المألوفة، وهو غير بعيد؛ إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه. وسيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهم، ولم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه، مما يوهم ظاهره نقصاً أو تعجيزاً. وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول، "وما توفيقي إلا بالله ": إعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم، قادر، مريد، حي، سميع، بصير متكلم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم. وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقدم واللسان، إلى غير ذلك من الصفات: فمنها ما يقتضي صحة ألوهية، مثل العلم والقدرة والإرادة، ثم الحياة التي هي شرط جميعها، ومنها ما هي صفة كمال، كالسمع والبصر والكلام؛ ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء،
وكالوجه واليدين والعينين التي هي صفات المحدثات. ثم اخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح. فأما السلف من الصحابة والتابعين فاثبتوا له صفات الألوهية والكمال وفوضوا إليه ما يوهم النقض ساكتين عن مدلوله. ثم اختلف الناس من بعدهم، وجاء المعتزلة فاثبتوا هذه الصفات أحكاماً ذهنية مجردة؛ ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته، وسموا ذلك توحيداً، وجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله، ولا تتعلق بها قدرة الله تعالى، سيما الشرور والمعاصي منها؛ إذ يمتنع على الحكيم فعلها. وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسموا ذلك عدلاً، بعد أن كانوا أولاً يقولون بنفي القدر، وان الأمر كله مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك، كما ورد في الصحيح. وإن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بذلك. وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي، منهم، تلميذ الحسن البصري، لعهد عبد الملك بن مروان. ثم آخراً إلى معمر السلمي، ورجعوا عن القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلاف، وهو شيخ المعتزلة. اخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من نفاة القدر، واتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجودية لظهور مذاهبهم يومئذ. ثم جاء إبراهيم النظام، وقال بالقدر، واتبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدد في نفي الصفات وقرر قواعد الاعتزال. ثم جاء الجاحظ والكعبي والجبائي، وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: أما لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الذي يسمى كلاماً؛ وأما أن اصل طريقتهم نفي صلة الكلام. فلهذا كان الشافعي يقول: حقهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم. وقرر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردوا، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعرى وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح؛ فرفض طريقتهم، وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحرث بن أسد المحاسبي من أتباع
السلف وعلى طريقة السنة. فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى، من العلم والقدرة والإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء. وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر لإنها وإن اوهم ظاهراً النقص بالصوت والحرف الجسمانيين؛ فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت، وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأول؛ فأثبتوها لله تعالى وانتفى إيهام النقص. وأثبتوا هذه الصفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى. وصار القرآن اسماً مشتركاً بين القديم بذات الله تعالى، وهو الكلام النفسي والمحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم،فالمراد الأول؛ وإذا قيل مقروء، مسموع، فلدلالة القراءة والكتابة عليه. وتورع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنه لم يسمع من السلف قبله: لا إنه يقول أن المصاحف المكتوبة قديمة؛ ولا أن القراءة الجارية على ألسنة قديمة، وهو شاهدها محدثة. وإنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه. وأما غير ذلك فإنكار للضروريات، وحاشاه منه. وأما السمع والبصر، وإن كان يوهم إدراك الجارحة، فهو يدل أيضاً لغة على إدراك المسموع والمبصر، وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما. وأما لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين- وأمثال ذلك؛ فعدلوا عن حقائقها اللغوية فما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذر حقائق الألفاظ؛ فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى: (يريد أن ينقض) وأمثاله، طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة. وحملهم على هذا التأويل، وإن كان مخالفاً لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من اتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى، مجهولة الكيفية. فيقولون في
(استوى على العرش ) تثبت له استواء، بحيث مدلول اللفظة، فراراً من تعطيله. ولا نقول بكيفيته فراراً من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب، من قوله: (ليس كمثله شىء) ، (سبحان الله عما يصفون)، (تعالى الله عما يقول الظالمون)، (لم يلد ولم يولد) ولا يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، والاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار والتمكن، وهو جسماني. وأما التعديل الذي يشنعون بإلزامه، وهو تعطيل اللفظ، فلا محذور فيه. وإنما المحذور في تعطيل الآلة. وكذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق، وهو تمويه. لأن التشابه لم يقع في التكاليف. ثم يدعون أن هذا مذهب السلف، وحاشا لله من ذلك. وإنما مذهب السلف ما قررناه أولاً من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها. وقد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك: "أن الاستواء معلوم الثبوت لله " وحاشاه من ذلك، لأنه يعلم مدلول الاستواء. وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة، وهو الجسماني، وكيفيتة أي حقيقته. لأن حقائق الصفات كلها كيفيات، وهي مجهولة الثبوت لله. وكذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء، <<وأنها لما قال لها النبي : أين الله؛ وقالت: في السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة>>. والنبي لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله؛ بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر، أن الله في السماء، فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار. ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل (ليس كمثله شيء) وأشباهه. ومن قوله: (وهو الله في السموات وفي الأرض)، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعاً، والمراد غيره. ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين، والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية وينزهونه عن مدلول الجسماني منها. وهذا شىء لا يعرف في اللغة. وقد درج على ذلك الأول والآخر منهم. ونافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية والحنفية. ورفضوا عقائدهم في ذلك، ووقع بين متكلمي الحنفية ببخارى وبين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف. وأما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية، وأنها لا كالأجسام. ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات. وإنما جّرأهم عليه إثبات هذه الظواهر؛ فلم يقتصروا عليه، بل توغلوا واثبتوا الجسمية، يزعمون فيها مثل ذلك وينزهونه بقول متناقض سفساف، وهو قولهم: "جسم لا كالأجسام ". والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر وغير ذلك، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي. فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا لله وصفاً موهماً يوهم النقص لم يرد في كلامه، ولا كلام نبيه. فقد تبين لك الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة بما أطلعناك عليه. وفي المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه، حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال: اعفوني من اللحية والفرج وسلوا عما بدا لكم من سواهما. وإن لم يتأول ذلك لهم، بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة، وحملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم؛ وإلا فهو كفر صريح والعياذ بالله. وكتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع، وبسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة. وإنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات وجملها. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأما الظواهر الخفية الأدلة والدلالة، كالوحي والملائكة والروح والجن والبرزخ وأحوال القيامة والدجال والفتن والشروط، وسائر ما هر متعذر على الفهم أو مخالف للعادات؛ فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله، وهم
أهل السنة، فلا تشابه؛ وإن قلنا فيه بالتشابه، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: إعلم أن العالم البشرى أشرف العوالم من الموجودات، وارفعها، وهو وإن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الأخر بأحوال تختص به حتى كان الحقائق فيها مختلفة.
فالطور الأول: عالمه الجسماني بحسه الظاهر وفكره المعاشي وسائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر. الطور الثاني: عالم النوم، وهو تصور الخيال بإنفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانية، ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه. ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية والأخروية، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه. وهذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر، وهما مختلفان في المدارك كما تراه. الطور الثالث: طور النبوة، وهو خاض بإشراف صنف البشر بما خضهم الله به من معرفته وتوحيده، وتنزل ملائكته عليهم بوحيه، وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة. الطور الرابع: طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه ويعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى، وهي دار الجزاء الأكبر نعيماً وعذاباً في الجنة أو في النار.
والطوران الأولان شاهدهما وجداني، والطور الثالث النبوي شاهده المعجزة والأحوال المختصة بالأنبياء؛ والطور الرابع شاهده ما تنزل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة، مع أن العقل يقتضي به، كما نبهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. ومن أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالاً تليق به. لكان إيجاده الأول عبثاً. إذ الموت إذا كان عدماً كان مآل الشخص إلى العدم، فلا يكون لوجوده الأول حكمة. والعبث على الحكيم محال. وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافاً بيناً يكشف لك غور المتشابه. فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية. قال الله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}[النحل الآية 78]. فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانية ويوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة.
وأما مداركه فني الطور الثاني، وهو طور النوم، فهي المدارك التى في الحس الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه ولا يرتاب، مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها. والناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، ويزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحسّ المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحش الظاهر والحس الباطن، فتصور محسوسة بالظاهر في الحواس كلها. ويشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد. الفريق الثاني: المتكلمون، أجملوا فيها القول، وقالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة، وهذا أليق، وإن كنا لا نتصور كيفيته.
وهذا الإدراك النومي أوضح شاهدٍ على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار. وأما الطور الثالث، وهو طور الأنبياء، فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النبي الله والملائكة، ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة، ويرى الجنة والنار، والعرش والكرسي، ويخترق السموات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها، ويلقى النبيين هنالك، ويصلي بهم، ويدرك أنواع المدارك في الحسية، كما يدرك في طوره الجسماني والنومي، بعلم ضروري يخلقه الله له، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح، ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحسّ المشترك. فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي والرؤيا من النبي واحدة في يقينها وحقيقتها، وليست كذلك على ما علمت بن رؤيا النبي قبل الوحي ستة أشهر وأنها كانت بمدة الوحي ومقدمته، ويشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة. وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدة كما هي في الصحيح، حتى كان القرآن يتنزل عليه آياتٍ مقطعاتٍ. وبعد ذلك نزل عليه (براءة) في غزوة (تبوك) جملةً واحدةً، وهو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط، ومن الخيال إلى الحس المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. وأما الطور الرابع، وهو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر، وهم مجردون عن البدن، أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام، فمداركهم الحسية موجودة، فيرى الميت في قبره الملكان يسائلانه، ويرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه،
ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه، ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، وغير ذلك. وفي الصحيح أن رسول الله وقف على قليب بدر، وفيه قتلى المشركين من قريش، وناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله ! أتكلم هؤلاء الجيف؛ فقال : <<والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول>>. ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم- كما كانوا يعاينون في الحياة- من نعيم الجنة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه، ويرون الملائكة ويرون ربهم، كما ورد في الصحيح: إنكم ترون ربكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدنيا وهي حسية مثلها، وتقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلناه. وسر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن وبمداركه؛ فإذا فارقت البدن بنومٍ أو بموتٍ أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية، فقد استصحبت ما كان معها من المدارك البشرية مجردةً عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراكٍ شاءت منها، أرفع من إدراكها، وهي في الجسد. قاله الغزالي رحمه الله، وزاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها، بعد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالاً لها، كان في البدن وصوراً.
وأنا أقول: إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطنت لهذا كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة، لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا؛ وإنما هي تختلف بالقوة والضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. ويشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علماً ضرورياً بتلك المدارك، أي
مدرك كان، ويعنون به هذا القدر الذي أوضحناه. وهذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه. ولو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه. فلنفزع إلى الله سبحانه في الهداية والفهم عن أنبيائه وكتابه، بما يحصل به الحق في توحيدنا، والظفر بنجاتنا والله يهدي من يشاء. الفصل السابع عشر في علم التصوف هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذةٍ ومالٍ وجاهٍ، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. وقال القشيري رحمة الله: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال: اشتقاقه من الصفاء، أو من الصفة؛ فبعيد من جهة القياس اللغوي، قال: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه.قلت: والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف. فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة، اختصوا بمآخذ مدركة لهم؛ وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك،وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم؛ وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض
والبسط والرضى والغضب والصبر والشكر، وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكاتٍ وإراداتٍ وأحوالٍ، وهي التي يتميز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشا العلم عن الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمام، والكسل عن الإعياء. وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته، لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدةً حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحال إما أن تكون نوع عبادةٍ، فترسخ وتصير مقامٍ للمريد؛ وإما أن لا تكون عبادةً، وإنما تكون صفةً حاصلةً للنفس. من حزنٍ أو سرورٍ أو نشاطٍ أو كسلٍ أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقى من مقامٍ إلى مقامٍ، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال : <<من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة>>. فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائجٍ وثمراتٍ. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية. فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله، وينظر في حقائقها؛ لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة.وغاية أهل العبادات، إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع، انهم يأتون بالطاعات مخلصةً من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد، ليطلعوا على أنها خالصةً من التقصير أولاً؛ فظهر أن أصل طريقتهم كفها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات؛ ثم تستقر للمريد مقاماً، وبترقى منها إلى غيرها. ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظٍ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف، اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظٍ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحدٍ غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. وصار علم الشريعة على صنفين: صنفٍ مخصوصٍ بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات؛ وصنفٍ مخصوصٍ بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوقٍ إلى ذوقٍ، وشرحٍ الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك.فلما كتبت العلوم ودونت، وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقتهم. فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، كما فعله المحاسبي في كتاب الرعاية له؛ ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب الرسالة، والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء، فدون فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم. وصار علم التصوف في الملة علماً مدوناً، بعد أن كانت الطريقة عبادةً فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك.ثم أن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها. والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الروح، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه وتجدد نشؤه، وأعان على ذلك الذكر؛ فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد، إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً. ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرض حينئذٍ للمواهب
الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصيرطوع إرادتهم. فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه؛ بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حطهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ؛ لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها. وتبعهم في ذلك أهل الطريقة، ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم.ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك التي وراءه، واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك، باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذٍ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كفها من العرش إلى الطش. هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة.ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم، إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة؛ لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة، وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة. ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة، وحوذي بها جهة المرئي؛ فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته. وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحاً. فالاستقامة للنفس، كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال. ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف، تكلموا في حقائق
الموجودات العلوية والسفلية، وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك. وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم. وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق، ردأ وقبولاً؛ إذ هي من قبيل الوجدا نيات.
تفصيل وتحقيق: يقع كثيراً في كلام أهل العقائد، من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل. ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: أما بمعنى الحلول فيها؛ أو بمعنى أنه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً. فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحدٍ منها، حتى تتضح معانيها فنقول، أن المباينة تقال لمعنيين: أحدهما المباينة في الحيز والجهة، ويقابله الاتصال. وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان: أما صريحاً، وهو تجسيم؛ أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارئ أنه مباين مخلوقاته، ولا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. وما يقال من أن المحل لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضده، فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً، وأما مع امتناعه فلا؛ بل يجوز الخلو عن المعنى وضده، كما يقال في الجماد، لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي. وصحة الإتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها. والبارئ سبحانه منزه عن ذلك. ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين وقال: "ولا يقال في البارئ مباين للعالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه، بناءً على وجود الجواهر غير المتحيزة. أنكرها
المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات، وهو مبسوط في علم الكلام. وأما المعنى الأخر للمباينة، فهو المغايرة والمخالفة؛ فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين كاهل الرسالة ومن نحا منحاهم. وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته. وربما زعموا انه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون وسقراط؛ وهو الذي يعينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان، تنتفي إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء؛ فإن تلك مغايرة صريحة، ولا يقولون بذلك. وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدثٍ أو اتحاده به. وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة. وتقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين: الأولى: أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها، متحدة بها في المتصورين، وهي كلها مظاهر له، وهو القائم عليها، اي المقوم لوجودها، بمعنى لولاه كانت عدما وهو رأي أهل الحلول. الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد؛ فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصفات. وغالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية، وهي أوهام. ولا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم والظن والشك؛ وإنما يريدون أنها كلها عديم في الحقيقة، وجود في المدرك
البشري فقط. ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال، كما في المدارك البشرية، غير مفيدٍ؛ لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية؛ وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يتصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال. وربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض.
وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه؛ فأتى بالأغمض فالأغمض، بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم. كما فعل الفرغاني، شارح قصيدة ابن الفارض، في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح؛ فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه، أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية، التي هي مظهر الأحدية، وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير. ويسمون هذا الصدور بالتجلي. وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه، وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور، لقوله في الحديث الذي يتناقلونه: "كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ليعرفوني". وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق، وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية، وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين، والكمل من أهل الملة المحمدية. وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية، وهي مرتبة المثال؛ ثم عنها العرش، ثم الكرسي، ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق، فإذا تجلت، فهي
في عالم الفتق. انتهى.ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات، وهو كلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه، وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل. وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب فإنه لا يعرف في شيء من مناحيه. وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة، وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه، يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله، بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها.والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى، وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها. ثم أن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب. كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها، وزيادة القوة المعدنية؛ ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها؛ وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية؛ ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة. وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل، هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئيةً، وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه، لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة، ولا من جهة المادة؛ فالكل واحدٍ وهو نفس الذات الإلهية، وهي في الحقيقة واحدة بسيطة، والاعتبار هو المفضل لها؛ كالإنسانية مع الحيوانية. إلا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارةً يمثلونها بالجنس مع النوع، في كل موجود كما ذكرناه؛ وتارةً بالكل مع الجزء، على طريقة المثال. وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه، وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب، أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان، من أن وجودها مشروط بالضوء؛ فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه.وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كفها مشروطة بوجود المدرك الحسي؛ بل والموجودات
المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي؛ فإذا، الوجود المفضل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل في الوجود، بل هو بسيط واحد. فالحر والبرد، والصلابة واللين، بل والأرض والماء، والنار والسماء والكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها؛ لما جعل في المدرك من التفصيل، الذي ليس في الموجود، وإنما هو في المدارك فقط. فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل، إنما هو إدراك واحذ، وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النائم؛ فانه إذا نام وفقد الحس الظاهر، فقد كل محسوسٍ، وهو في ذلك الحالة؛ إلا ما يفضله له الخيال. قالوا: فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كفها على التفصيل بنوع مدركه البشري، ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل؛ وهذا هو معنى قولهم: الوهم، لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية.هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان، وهو في غاية السقوط؛ لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون إليه يقيناً مع غيبته عن أعيننا، وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا. والإنسان قاطع بذلك، ولا يكابر أحد نفسه في اليقين، مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون: أن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة، ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات، ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق، وهو مقام العارف المحقق. ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع، وهي عقبة صعبة؛ لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها، فتخسر صفقته. فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة.ثم أن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك؛ فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي، في كتاب المقامات له، وغيره. وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية
المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة، مذهباً لم يعرف لأولهم؛ فأشرب كل واحدٍ من الفريقين مذهب الأخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه راس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة، حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامة الأخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات، في فصول التصوف منها، فقال: "جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد". وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي؛ وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم. فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة في النقباء. حتى إنهم لما اسندوا لباس خرقة التصوف، ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم، رفعوه إلى علي رضي الله عنه، وهو من هذا المعنى أيضاً. وإلا فعلي، رضي الله عنه، لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، أزهد الناس بعد رسول الله وأكثرهم عبادة. ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص، بل كان الصحابة كفهم أسوةً في الدين والزهد والمجاهدة.
تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم أن الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك اختصاص علي بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم. والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف؛ فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه راس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام في الظاهر، وأن يكون على وزانه في الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة
عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغةً في التشبيه. فتأفل ذلك.
يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم في ذلك، مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات؛ وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم. والله يهدي إلى الحق. تذييل: وقد رأيت أن أجلب هنا فصلاً من كلام شيخنا العارف، كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيات، كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها وهي قوله:
- ما وحد الواحد من واحــدٍ إذ كل من وحده جاحـد
- توحيد من ينطق عن نعته تثنية أبطلها الواحــــــد
- توحيده إياه توحيـــــــــــده ونعت من ينعته لأحـــد
فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: "استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وخد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفوه. ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة. وقد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم: الحق عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية. وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأن كل ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: كان الله؛ ولا شيء معه؛ وهو الآن على ما هو عليه، كان عندهم. ومعنى قول لبيد الذي صدقه رسول في قوله: <<إلا كل شيء، ما خلا الله، باطل>>. قالوا فمن وحد ونعت، فقد قال بموجد محدث،ٍ هو نفسه؛ وتوحيد محدثٍ هو فعله، موجدٍ قديمٍ، هو معبود.
وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة، والتوحيد مجحود، والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معاً في بيت واحد: ليس في البيت غيرك! فيقول الأخر بلسان حاله: لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت!وقد قال بعض المحققين في قولهم: "خلق الله الزمان "، هذه ألفاظ تناقض أصولها، لأن خلق الزمان متقدم على الزمان، وهو فعل لا بد من وقوعه في الزمان؛ وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها. فإذا تحقق أن الموحد هو الموحد، وعدم ما سواه جملة، صح التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم: "لا يعرف الله إلا الله ". ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم والآثار؛ وإنما هو من باب: "حسنات الأبرار سيئات المقربين ". لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية. ومن ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصاً، مع علمه بمرتبته، وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهود، ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع. وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكل اعتبارٍ على الانتهاء إلى الواحد؛ وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين، لمقام أعلى، ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق، عيناً لا خطاباً. وعبارة فمن سلم استراح، ومن نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه وبصره. وإذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ. والذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كافٍ. والتعمق في مثل هذا حجاب، وهو الذي أوقع في المقالات المعروفة". انتهى كلام الشيخ أبى مهدي الزيات، ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الذي الله في المحبة، وسماه التعريف بالحب الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبى مهدي مراراً، إلا إني رأيت رسوم الكتاب أوعى له، لطول عهدي به. والله الموفق. ثم أن كثيراً من الفقهاء أهل الفتيا، انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه
المقالات وأمثالها، وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة. والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل، فإن كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال، لتحصل تلك الأذواق، التي تصير مقاماً ويترقى منه إلى غيره كما قلناه؛ وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب، مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها ومكونها كما مر؛ وثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات؛ ورابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم، يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات، تستشكل ظواهرها، فمنكر ومحسن ومتأول. فأما الكلام في المجاهدات والمقامات، وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها، ومحاسبة النفس على المصير في أسبابها، فأمر لا مدفع فيه لأحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها هو عين السعادة؛ وأما الكلام في كرامات القوم وأخبارهم بالمغيبات وتصريحهم في الكائنات، فأمر صحيح غير منكر. وان مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني من أئمة الأشعرية على إنكارها، ، لالتباسها بالمعحزة، فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم أن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية؛ فإن صفة نفسها التصديق، فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات، وإنكارها نوع مكابرة.وقد وقع للصحابة أكابر السلف كثير من ذلك، وهو معلوم مشهور. وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات؛ فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجداني عندهم؛ وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطي دلالةً على مرادهم منه؛ لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره من المحسوسات. فينبغى أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه، ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات، على الوجه الموافق لظاههر الشريعة؛ فاكرم بها سعادة. وأما الألفاظ الموهمة التى يعبرون عنها بالشطحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصات في شان القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب، والمجبور معذور.فمن علم منهم فضلة واقتداؤه، حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها، كما وقع لأبي يزيد البسطامى وأمثاله. ومن لم يعلم فضلة ولا اشتهر، فمؤآخذ بما صدر عنه من ذلك، إذا لم يتبين لنا ما يحملنا وأما من تكلم بمثلها، وهو حاضر في حسه، ولم يملكه الحال، فمؤاخذ أيضاً. ولهذا أفتى الفقهاء أكابر المتصوفة بقتل الحلاج، لأنه تكلم في حضور، وهو مالك لحاله. والله أعلم.وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل، لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، ولا هذا النوع من الإدراك؛ إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن، وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث، وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر، وشريعته بالهداية أملك؛ فلم ينطقوا بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده، بل ويلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء، ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد. والله الموفق للصواب.
الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع، وكتب الناس فيها. وأما الرؤيا والتعبير لها، فقد كان موجوداً في السلف كما هو في الخلف. وربما كان في الملوك والأمم من قبل؛ إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام. وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا، كما وقع في القرآن. وكذلك ثبت في الصحيح، عن النبي ، وعن أبى بكر رضي الله عنه. والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال : <<الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة>>. وقال: <<لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له >>.وأول ما بدأ به النبي من الوحي الرؤيا؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان النبي ، إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ " يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك، مما فيه ظهور الدين وإعزازه.وأما السبب في كون الرؤيا مدركاً للغيب فهو أن الروح القلبي، وهو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي، ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن، وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس، وتصريف القوى الظاهرة، وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل، انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي؛ فيستجم بذلك لمعاودة فعله، فتعطلت الحواس الظاهرة كلها
وذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب. ثم أن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان، والروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته، إذ حقيقته وذاته عين الإدراك. وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية، ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه. فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرد عنه، لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك، فيعقل كل مدركٍ. فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله؛ فلا بد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له، وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كفها، وهي الشاغل الأعظم؛ فاستعذ لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة به من عالمه. وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسماني، لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية. والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية، والمتصرف منها هو الخيال. فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صوراً خيالية، ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر والاستدلال. وكذلك تجرد النفس منها صوراً أخرى نفسانية عقلية؛ فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول، والخيال واسطة بينهما. وكذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه، ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة له، ويدفعه إلى الحس المشترك، فيراه النائم كأنه محسوس؛ فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي. والخيال أيضاً واسطة. هذه حقيقة الرؤيا.ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام الكاذبة؛ فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم. لكن أن كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك فهي رؤيا؛ وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها، منذ اليقظة، فهي أضغاث أحلام.
واعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحتها؛ فيستشعر
الرائي البشارة من الله بما القى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة، ولو كان مستغرقاً في نومه، لحقل ما القي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه؛ ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه، فلا يتخللها سهو ولا نسيان. ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكر، بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه. ولا يغرب عنه شيء منها، لان الإدراك النفساني ليس بزماني ولا يلحقه ترتيب، بل يدركه دفعة في زمن فرد. وأضغاث الأحلام زمانية، لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه. وأفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدم والمتأخر. ويعرض النسيان العارض للقوى الدماغية. وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية، ولا ترتيب فيها. وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. وقد تبقى الرؤيا بعد الانتباه حاضرةً في الحفظ أياماً من العمر، لاتشذ بالغفلة عن الفكر بوجه، إذا كان الإدراك الأول قوياً، وإذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر والوجهة إليها، وينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقةٍ وإنما هي من أضغاث الأحلام. وهذه العلامات من خواص الوحي. قال الله تعالى لنبيه : {لا تحرك به لسانك لتعجل به، أن علينا جمعة وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم أن علينا بيانهْ}[سورة000الآية000] والرؤيا لها نسبة من النبوة والوحي كما في الصحيح. قال : <<الرؤيا جزء من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة>> فلخواصها أيضاً نسبة إلى خواص النبوة، وبذلك القدر؛ فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحق. والله الخالق لما يشاء.
وأما معنى التعبير، فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال،
فصوره؛ فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء، كما يدرك معنى السلطان الأعظم، فيصوره الخيال بصورة البحر؛ أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية. فإذا استيقظ، وهو لم يعلم من أمره، إلا أنه رأى البحر أو الحية؛ فينظر المعبر بقوة التشبيه، بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة، وأن المدرك وراءها، وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك؛ فيقول مثلا هو السلطان: لان البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه به السلطان؛ وكذلك الحية، يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها؛ وكذا الأوانى تشبه بالنساء لأنهن أوعية؛ وأمثال ذلك. ومن المرئي ما يكون صريحاً، لا يفتقر إلى تعبير، لجلالها ووضوحها أو لقرب النسبة فيها بين المدرك وشبهه. ولهذا وقع في الصحيح، الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان. فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التى لا تفتقر إلى تأويل؛ والتي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير، والرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث.واعلم أيضاً أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه، فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس، وما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئاً. فلا يمكن من ولد أعمى أكمه أن يصور له السلطان بالبحر، ولا العدو بالحية، ولا النساء بالأواني؛ لأنه لم يدرك شيئاً من هذه. وإنما يصور له الخيال أمثال هذه، في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات والمشمومات. وليتحفظ المعبر من مثل هذا، فربما اختلط به التعبير وفسد قانونه.ثم أن علم التعبير، عليم بقوانين كلية ، يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان، وفي موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ، وفي موضع آخر على الهم والأمر الفادح. ومثل ما يقولون: الحية تدل على العدو؛ وفي موضع آخر يقولون تدل على الحياة وفي موضع آخر
هي كاتم سر؛ وأمثال ذلك. فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية. ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا. وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النوم، ومنها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه، وكل ميسر لما خلق له. ولم يزل هذا العلم متناقلاً بين السلف. وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء، وكتبت عنه في ذلك قوانين، وتناقلها الناس لهذا العهد. وألف الكرماني فيه من بعده. ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا. والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني، من علماء القيروان، مثل الممتع وغيره، وكتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه أحضرها. وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. وهو علم مضيء بنور النبوة للمناسبة التي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي، كما وقع في الصحيح. والله علام الغيوب.
الفصل التاسع عشر العلوم العقلية وأصنافها وأما العلوم العقلية التي هي طبيعة للإنسان، من حيث أنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة؛ بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كفهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النوع الإنساني، منذ كان عمران الخليقة. وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة، وهي مشتملة على أربعة علوم:الأول علم المنطق، وهو علم يعصم الذهن عن الخطإ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة، وفائدته تمييز الخطإ من الصواب، فيما يلتمسه الناظر في
الموجودات وعوارضها،، ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفياً وثبوتاً بمنتهى فكره. ثم النظر بعد ذلك عندهم أما في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية. أو النفس التي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك، ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي وهو العلم الثاني منها. وأما أن يكون النظر في ا أمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات، ويسمونه العلم الإلهي وهو العلم الثالث منها. والعلم الرابع وهو الناظر في المقادير، ويشتمل على أربعة علوم، وهى تسمى التعاليم.أولها: علم الهندسة، وهو النظر في المقادير على الإطلاق. أما المنفصلة من حيث كونها معدودة؛ أو المتصله، وهي أما ذو بعد واحد وهو الخط، أو ذو بعدين وهو السطح، أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التعليمي. ينظر في هذين المقادير وما يعرض لها، أما من حيث ذاتها، أومن حيث نسبة بعضها إلى بعض.وثانيها: علم الأرتماطيقي، وهو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد،ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة.وثالثها: علم الموسيقى، وهو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد، وثمرته معرفة تلاحين الغناء.ورابعها: علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك، وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والثابتة، والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها، ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها.فهذه أصول العلوم الفلسفية وهي سبعة: المنطق وهو المقدم منها وبعده التعاليم، فالارتماطيقي أولاً ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى، ثم الطبيعيات، ثم الإلهيات، ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات الطب، ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج، وهي قوانين لحساب حركات الكواكب وتعديلها، للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك: ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية. ونحن نتكلم عليها واحداً بعد واحدٍ إلى آخرها.
واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام، وهما فارس والروم؛ فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفوراً فيهم، والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم؛ فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم. وأخذ ذلك عنهم الأمم من فارس ويونان؛ فاختص بها القبط، وطمى بحرها فيهم، كما وقع في المتلو من خبر هاروت وماروت، وشأن السحرة، وما نقلة أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه؛ فدرست علومه وبطلت كان لم تكن، إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع. الله أعلم بصحتها. مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها، مانعة من اختبارها.وأما الفرس، فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيماً، ونطاقها متسعاً، لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك. ولقد يقال: أن هذه العلوم، إنما وصلت إلى يونان منهم، حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية؛ فاستولى على كتبهم وعلومهم. إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم، مما لا يأخذه الحصر؛ ولماقتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرةً كتب سعد بن ابي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هذى، فقد هدانا الله بأهدى منه؛ وان يكن ضلالاً فقد كفاناه الله. فطرحوها في الماء أو في النار، وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا.وأما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولاً، وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب، وحملها مشاهير من رجالهم مثل
أساطين الحكمة وغيرهم. واختص فيها المشاؤون منهم، أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم. كانوا يقرأون في رواق يظلهم من الشمس والبرد على ما زعموا. واتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون، من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط الدن، ثم إلى تلميذه أفلاطون، ثم إلى تلميذه ارسطو، ثم إلى تلميذه الإسكندر الافروسي وتامسطيوس وغيرهم. وكان أرسطو معلماً للإسكندر ملكهم، الذي غلب الفرس علي ملكهم، وانتزع الملك من أيديهم. وكان أرسخهم في هذه العلوم قدماً وأبعدهم فيها صيتاً وشهرةً. وكان يسمى المعلم الأول، فطار له في العالم ذكر.ولما انقرض أمر اليونان، وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية، هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها. وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدةً باقيةً في خزائنهم. ثم ملكوا الشام، وكتب هذه العلوم باقية فيهم.ثم جاء الله بالإسلام، وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له، وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم. وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع؛ حتى إذا تبحبح السلطان والدولة، وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم، وتفننوا في الصنائع والعلوم. ثشوفوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية، بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها، وبما تسموا إليه أفكار الإنسان فيها. فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم ، أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمةً؛ فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطبيعيات. فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها،وازدادوا حريصاً على الظفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك، وكانت له في العلم رغبة لما كان ينتحله، فانبعث لهذه العلوم حرصاً، وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربى. وبعث المترجمين لذلك، فأوعى منه واستوعب. وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. وخالفوا كثيراً من آراء المعلم
الأول، واختصوه بالرد والقبول، لوقوف الشهرة عنده. ودونوا في ذلك الدواوين، وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم. وكان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي، وأبو علي بن سينا بالمشرق، والقاضي أبو الوليد ابن رشد، والوزير أبو بكر بن الصائغ بالاندلس، إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختص هؤلاء بالشهرة والذكر، واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم، وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات. ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق وعلى مسلمة بن احمد المجريطي، من أهل الأندلس وتلميذه. ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة، واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها، والذنب في ذلك لمن ارتكبه. ولو شاء ربك ما فعلوه.ثم أن المغرب والأندلس، لما ركدت ريح العمران بهما، وتناقصت العلوم بتناقصه، اضمحل ذلك منهما، إلا قليلاً من رسومه تجدها في تفاريق من الناس، وتحت رقبة من علماء السنة. ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورةً، وخصوصاً في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر، وأنهم على بح من العلوم العقلية والنقلية، لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددةٍ، لرجلٍ من عظماء هراة، من بلاد خراسان، يشتهر بسعد الدين التفتازاني، منها في علم الكلام أصول الفقه والبيان، تشهد بأن له ملكةً راسخةً في هذه العلوم. وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعاً على العلوم الحكمية وتضلعاً بها وقدماً عاليةً في سائر الفنون العقلية. والله يؤيد بنصره من يشاء.وكذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفة ببلاد الإفرنجة، من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة، ومجالس تعليمها متعددة، وداوينها جامعة وحملتها متوفرون، وطلبتها متكثرون. والله أعلم بما هنالك، وهو يخلق ما يشاء ويختار.
الفصل العشرون
العلوم العددية وأولها الأرتماطيقي، وهو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف، أما على التوالي أو بالتضعيف. مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعددٍ واحدٍ: فإن جمح الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد، ومثل ضعف الواسطة، أن كانت عدة تلك الأعداد فرداً مثل الأفراد على تواليها والأزواج على تواليها والأفراد على تواليها. ومثل أن الأعداد إذا توالت على نسبةٍ واحدةٍ بان يكون أولها نصف ثانيها، وثانيها نصف ثالثها الخ، أو يكون أولها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها الخ. فإن ضرب الطرفين أحدهما في الأخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد أحدهما في الأخر. ومثل مربع الواسطة أن كانت العدة فرداً، وذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر. ومثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتاليةً في سطورها بان تجمع من الواحد إلى العدد الأخير، فتكون مثلثةً. وتتوالى المثلثات هكذا بني سطرٍ تحت الأضلاع، ثم تزيد على كل مثلثٍ ثلث الضلع الذي قبله، فتكون مربعة. وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا. وتتوالى الاشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها، ثم المثلثات على تواليها، ثم المربعات، ثم المخمسات الخ، وفي طوله كل عدد وأشكاله بالغاً ما بلغ. ويحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعفى طولا وعرضاً خواص غريبة، استقريت منها، وتقررت في دواوينهم مسائلها. وكذلك ما يحدث للزوج والفرد، وزوج الزوج وزوج
الفرد، وزوج الزوج والفرد؛ فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن وليست في غيره.وهذا الفن أول أجزاء التعاليم وأثبتها، ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدمين والمتأخرين فيه تآليف، وأكثرهم يدرجونه في التعاليم ولا يفردونه بالتأليف.فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وغيره من المتقدمين. وأما المتأخرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول، ومنفعته في البراهين لا في الحساب، فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية، كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم.
علم الحساب: ومن فروع علم العدد صناعة الحساب، وهي صناعة عملية في حسبان الأعداد بالضم والتفريق. فالضم يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع. وبالتضعيف، تضاعف عدداً بآحاد عددٍ آخر، وهذا هو الضرب، والتفريق أيضاً يكون في الأعداد، أما بالأفراد، مثل إزالة عددٍ من عددٍ ومعرفة الباقي وهو الطرح، أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية، تكون عدتها محصلة وهو القسمة. وسواء كان هذا الضم والتفريق في الصحيح من العدد أو الكسر. ومعنى الكسر نسبة عددٍ إلى عددٍ، وتلك النسبة تسمى كسراً. وكذلك يكون الضم والتفريق في الجذور، ومعناها العدد الذي يضرب في مثله، فيكون منه العدد المربع. والعدد الذي يكون مصرحاً به يسمى المنطق، ومربعه كذلك، ولا يحتاج فيه إلى تكلف عمل بالحسبان. والذي لا يكون مصرحاً به يسمى الأصم ومربعه: أما منطق مثل جذر ثلاثة الذي مربعه ثلاثة، وأما أصم، مثل جذر ثلاثة الذي مربعه جذر ثلاثة، وهو أصم، ويحتاج إلى عمل من الحسبان. فإن تلك الجذور أيضاً يدخلها الضم والتفريق. وهذه الصناعة الحسابية حادثة احتيج إليها للحسبان في المعاملات، وألف الناس فيها كثيراً وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان. ومن أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لإنها معارف متضحة وبراهينها منتظمة؛ فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب. وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره، أنة يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس؛ فيصير ذلك له خلقاً ويتعوذ الصدق ويلازمه مذهباً. ومن أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير. ولابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد، ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب وهو مستغلق على
المبتدئ، بما فيه من البراهين الوثيقة المباني، وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه، وهو كتاب جدير بذلك. وساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب، لابن منعم، والكامل للأحدب، ولخص براهينها وغيرها عن اصطلاح الحروف فيها، إلى علل معنويةٍ ظاهرةٍ، هي سر الإشارة بالحروف وزبدتها. وهي كلها مستغلقة؛ وإنما جاءها الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم، لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها. وإذا قصد شرحها، فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. وفي ذلك من العسر على الفهم، ما لا يوجد في أعمال المسائل، فتأمله. والله يهدي بنوره؛ من يشاء، وهو القو ي المتين.
علم الجبر: ومن فروعه الجبر والمقابلة، وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض، إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب: أولها العدد لأنه به يتعين المطلوب المجهود باستخراجه من نسبة المجهول إليه؛ وثانيها الشيء، لأن كل مجهولٍ فهو من جهة إبهامه شيء، وهو أيضاً جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية؛ وثالثها المال وهو أمر مبهم، وما بعد ذلك فعلى نسبة الأس من المضروبين. ثم يقع العمل المفروض في المسالة فيخرج إلى معادلةٍ بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس؛ فيقابلون بعضها ببعضٍ. ويجبرون ما فيها الكسر. حتى يصير صحيحاً. ويحطون المراتب إلى أقل الأسوس أن أمكن، حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم، وهي العدد والشيء والمال. فإن كانت المعادلة بين واحدٍ وواحدٍ، تعين؛ فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعين. والمال إن عادل الجذور فيتعين بعدتها. وإن كانت المعادلة بين واحدٍ واثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين، وهي مبهمة؛ فيعينها ذلك الضرب المفصل. ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين. وأكثر ما انتهت
المعادلة عندهم إلى ست مسائل، لأن المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركبة تجيء ستة. وأول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس علي أثره فيه. وكتابة في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه، وشرحه كثير من أهل الاندلس فأجادوا. ومن أحسن شروحاته كتاب القرشي. وقد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعادلات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس، وبلغها إلى فوق العشرين، واستخرج لها كلها أعمالاً وثيقةً وأتبعها ببراهين هندسيةٍ. والله يزيد في الخلق ما يشاء، سبحانه وتعالى. المعاملان والفرائض: ومن فروعه أيضاً المعاملات، وهو تصريف الحساب، في معاملات المدن، في البياعات والمساحات والزكوات وسائر ما يعرض في العدد من المعاملات، تصرف في ذلك صناعتا الحساب في المجهول والمعلوم والكسر والصحيح والجذور وغيرها. والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدربة بتكرار العمل، حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. ولأهل الصناعة الحسابية من أهل الاندلس تآليف فيها متعددة، من أشهرها معاملات الزهراوي وابن السمح وأبي مسلمٍ بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم.ومن فروعه أيضاً الفرائض: وهي صناعة حسابية، في تصحيح السهام لذوي الفروض، في الوراثات إذا تعددت، وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته؛ أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كله؛ أو كان في الفريضة إقرار أو إنكار من بعض الورثة دون بعض، فيحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة إلى كم تصح، وسهام الورثة من كل بطن مصححاً، حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحة وكسوره وجذوره ومعلومة ومجهوله، ويترتب على ترتيب
أبواب الفرائض الفقهية ومسائلها. لتشتمل حينئذٍ هذه الصناعة على جزء من الفقه، وهو أحكام الوراثات في الفروض، والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتدبير وغير ذلك من مسائلها، وعلى جزء من الحساب في تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي، وهي من أجل العلوم. وقد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها، مثل: الفرائض ثلث العلم، وإنها أول ما يرفع من العلوم، وغير ذلك. وعندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات، فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم. وأما الفرائض العينية فكثيرة، وقد ألف الناس في هذا الفن قديماً وحديثاً وأوعبوا. ومن أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله تعالى كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي، وكتاب ابن المذمر والجعدي والصردى وغيرهم. لكن الفضل للحوفي، فكتابه مقدم على جميعها. وقد شرحه من شيوخنا أبوعبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس؛ فأوضح وأوعب. ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي، تشهد باتساع باعه في العلوم، ورسوخ قدمه، وكذا للحنفية والحنابلة. ومقامات الناس في العلوم مختلفة. والله يهدي من يشاء بمنه وكرمه، لا رب سواه.
الفصل الحادي والعشرون
العلوم الهندسية
هذا العلم هو النظر في المقادير: أما المتصلة كالخط والسطح والجسم؛ وأما المنفصلة، كالأعداد فيما يعرض لها من العوارض الذاتية. مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين. ومثل أن كل خطيين متوازيين لا يلتقيان في وجهٍ لو خرجا إلى غير نهايةٍ. ومثل أن كل خطين متقاطعين، فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان. ومثل أن الأربعة مقادير المتناسبة، ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع، وأمثال ذلك. والكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب اوقليدس، ويسمى كتاب الأصول الأركان، وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين، أول ما ترجم من كتب اليونانيين في الملة أيام أبى جعفر المنصور، ونسخه مختلفة باختلافي المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق، ولثابت بن قرة، ويوسف بن الحجاج، ويشتمل على خمس عشرة مقالةً. أربعٍ في السطوح، وواحدةٍ في الأقدار المتناسبة، وأخرىفي نسب السطوح بعضها إلى بعضٍ؛ وثلاثٍ في العدد و العاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الجذور وخمسٍ في المجسمات. وقد اختصره الناس اختصاراتٍ كثيرةً، كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء. افرد له جزءاً منها اختصه به. وكذلك ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار وغيرهم. وشرحه آخرون شروحاً كثيرةً وهو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق.واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءةً في عقله واستقامةً في فكره؛ لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها عن الخطإ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع. وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب أفلاطون: "من لم يكن مهندساً
فلا يدخلن منزلنا". وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: "ممارسة علم الهندسة للفكر، بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران ". وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه. ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية والمخروطات. أما الاشكال الكروية، ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس وميلاوش في سطوحها وقطوعها. وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش، لتوقف كثير من براهينه عليه. ولا بد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة؛ لأن براهينها متوقفة عليهما. فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية، وما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكره؛ فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكروية سطوحها وقطوعها. وأما المخروطات، فهو من فروع الهندسة أيضاً. وهو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع، ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض، ببراهين هندسية، متوقفة على التعليم الأول. وفائدتها تظهر في الصنائع العلمية التي موادها الأجسام، مثل النجارة والبناء، وكيف تصنع التماثيل الغريبة والهياكل النادرة؛ وكيف يتحيل على جر الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والمخال وأمثال ذلك. وقد أفرد بعض المؤلفين مي هذا الفن كتاباً في الحيل العملية؛ يتضمن من الصناعات الغريبة والحيل المستظرفة كل عجيبة. وربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية، وهو موجود بأيدي الناس، ينسبونه إلى بني شاكر. والله تعالى أعلم.
المساحة: ومن فروع الهندسة المساحة، وهو فن يحتاج إليه في مسح الأرض؛ ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما، أو نسي أرض من أرض إذا قويست بمثل ذلك. ويحتاج إلى ذلك ة:في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة؛ وفى قسمة الحوائط والاراضي بين الشركاء أو الورثة وأمثال ذلك. وللناس فيها موضوعات حسنة وكثيرة. والله الموفق للصواب بمنه وكرمه.المناظرة من فروع الهندسة: وهو
عليم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري، بمعرفة كيفية وقوعها، بناءً على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي، رأسه نقطة الباصر وقاعدته المرثي. ثم يقع الغلط كثيراً في رؤية القريب كبيراً والبعيد صغيراً. وكذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء وراء الأجسام الشفافة كبيرة ورؤية النقط النازلة من المطر خطاً مستقيماً، والسلقة دائرة وأمثال ذلك. فيبتين في هذا العلم أسباب ذلك وكيفياته بالبراهين الهندسية، ويتبين به أيضاً اختلاف المنظر في القمم، باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا. وقد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين. وأشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم. ولغيره فيه أيضاً تآليف وهو من هذه العلوم الرياضية وتفاريعها.
الفصل الثاني والعشرون علم الهيئة وهو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة. ويستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك، لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية. كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس، بوجود حركة الإقبال والإدبار؛ وكما يستدل بالرجوع والاستقامة للكواكب، على وجود أفلاك صغيرة، حاملة لها، متحركة داخل فلكها الأعظم؛ وكمما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة؛ وكما يبرهن على تعاد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له، وأمثال ذلك. وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد، فإنا إنما علمنا حركات الإقبال
والإدبار به. وكذا تركيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرجوع والاستقامة وأمثال ذلك.وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيراً، ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين. وكانت تسمى عدهم ذات الحلق. وصناعة عميها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس. وأما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل. وكان في أيام المأمون شيء منه، وصنع لهذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق. وشرع في ذلك فلم يتم. ولما مات ذهب رسمه وأغفل، واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة، وليست بمغنيةٍ لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب. وإن مطابقة حركة الآلة في الرصد لحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطي التحقيق؛ فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك التقريب. وهذه الهيئة صناعة شريفة؛ وليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطي صورة السماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة؛ بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيآت للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. وأنت تعلم انه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازماً لمختلفين، وإن قلنا أن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم، ولا يعطي الحقيقة بوجه، على أنه علم جليل، وهو أحد أركان التعاليم. ومن أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي، منسوباً لبطليموس. وليس من ملوك اليونان الذين أسماؤهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا، وأدرجه في تعاليم الشفاء. ولخصه ابن رشد أيضاً من حكماء الأندلس، وابن السفح. وابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار. ولابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها الهندسية. والله علم الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين. علم ا لأزياج: ومن فروعه علم الأزياج، وهو صناعة حسابية على قوانين عدديةٍ، فيما يخص كل كوكبٍ من طريق حركته، وما أدى إليه برهان الهيئة فم وضعه من سرعةٍ وبطءٍ واستقامةٍ ورجوعٍ وغير ذلك؛ يعرف به مواضع
الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها، على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة.ولهذه الصناعة قوانين؛ كالمقدمات والأصول، لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية؛ وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصاف الحركات، واستخراجٍ بعضها من بعضٍ يضعونها في جداول مرتبةٍ تسهيلاً على المتعلمين، وتسمى الأزياج. ويسمى في استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلاً وتقويماً. وللناس فيه تآليف كثيرة للمتقدمين والمتأخرين، مثل البتاني وابن الكماد. وقد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة. ويزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد. وأن يهودياً كان بصقلية ماهراً في الهيئة والتعاليم، وكان قد عني بالرصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب وحركاتها؛ فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. ولخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج، فولع به الناس لما سهل من الأعمال فيه؛ وإنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبنى عليها الأحكام النجومية، وهو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدول والمواليد البشرية والكوائن الحادثة كما نبينه بعد، ونوضح فيه أدلتهم أن شاء الله تعالى. والله الموفق لما يحبه ويرضاه، لا معبود سواه.
الفصل الثالث العشرون علم المنطق وهو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعروفة للماهيات، والحجج المفيدة للتصديقات؛ وذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس. وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق وغيره؛ وإنما يحس الإنسان عنها بإدراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات. وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقه صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة، وهي الكلي. ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى، توافقها في بعض؛ فيحصل له صورة تنطبق أيضاً عليهما باعتبار ما اتفقا فيه. ولا يزال يرتقي في التجريد إلى الكلي الذي لا يجد كلياً آخر معه يوافقه؛ فيكون لأجل ذلك بسيطاً. وهذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها، ثم ينظر بينه وبين الحيوان ويجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما، ثم ينظر بينهما وبين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي، وهو الجوهر؛ فلا يجد كلياً يوافقه في شيء؛ فيقف العقل هنالك عن التجريد. ثم أن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم والصنائع، وكان العلم: أما تصوراً للماهيات، ويعني به إدراك ساذج من غير حكمٍ معه؛ وأما تصديقاً، أي حكماً بثبوت أمر لأمر؛ فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات أما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعضٍ على جهة التآليف، فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج، فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص؛ وأما بأن تحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقاً. وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصور، لأن فائدة ذلك إذا حصل، فإنما هي معرفة حقائق
الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي. وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريقٍ صحيحٍ وقد يكون بطريقٍ فاسٍد؛ فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية، ليتميز فيها الصحيح الفاسد، فكان ذلك قانون المنطق. وتكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملاً جملاً ومتفرقاً متفرقاً. ولم تهذب طرقه ولم تجمع مسائله، حتى ظهر في يونان ارسطو؛ فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله، وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها. ولذلك يسمى بالمعلم الأول، وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى النص، وهو يشتمل على ثمانية كتب. أربعة منها في صورة القياس، وأربعة في مادته. وذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء:فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه، ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن، وهو على مراتب. فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده، وما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار، ومن أي جنسٍ يكون من العلم أو من الظن. وقد ينظر في القياس، لا باعتبار مطلوب مخصوصٍ؛ بل من جهة إنتاجه خاصةً. ويقال للنظم الأول إنه من حيث المادة، ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن؛ ويقال لنظر الثاني إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الإطلاق، فكانت لذلك كتب المنطق ثمانيةٍ:الأول: في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات في الذهن، وهي التي ليس فوقها جنسٍ، ويسمى كتاب المقولات.والثاني: في القضايا التصديقية وأصنافها، ويسمى كتاب العبارة.والثالث: في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق، وسممى كتاب القياس، وهذا آخر النظر من حيث الصورة.ثم الرابع : كتاب البرهان، وهو النظر في القياس المنتج لليقين، وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية. ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورةٍ فيه، مثل كونها ذاتيةً وأوليةً وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المعرفات والحدود، إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا يحتمل غيرها، فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب.والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم، وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات، ويختص أيضاً من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى، ومن مذكورة هناك. وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التى يستنبط منهما صاحب القياس قياسه، بتمييز الجامع بين طرفي المطلوب المسمى بالوسط وفيه عكوس القضايا.والسادس : كتاب السفسطة وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق، ويغالط به المناظر صاحبة وهو فاسد، وهذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه. السابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم، وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات.والثامن : كتاب الشعر، وهو القياس الذي يفيد التمثيل والتشبيه خاصةً للإقبال على الشيء أو النفرة عنه، وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية.هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين. ثم أن حكماء اليونانيين، بعد أن تهذبت الصناعة ورتبت، رأوا أنه لا بد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاص والعرض العام؛ فاستدركوا فيها مقالة، تختص بها مقدمة بين يدي الفن؛ فصارت مقالاته تسعاً، وترجمت كفها في الملة الإسلامية. وكتبها وتناولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص، كما فعله الفارابي وابن سينا، ثم ابن رشدٍ من فلاسفة الأندلس. ولابن سينا كتاب الشفاء، استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها. ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق، وألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته، وهي الكلام في الحدود والرسوم، نقلوها من كتاب البرهان وحذفوا كتاب المقولات، لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات. والحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس، وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنه من
توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه. ثم تكلموا في القياس، من حيث إنتاجه للمطالب على العموم، لا بحسب مادة. وحدقوا النظر فيه بحسب المادة، وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة. وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماماً وأغفلوها كأن لم تكن، وهي المهم المعتمد في الفن. ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاماً مستبحراً ونظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم، فطال الكلام فيه واتسع. وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين ابن الخطيب، رمن بعده افضل الدين الخونجي، وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسوار وهو طويل، ومختصر الموجز وهو حسن في التعليم، ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق، أخذ بمجامع الفن وأصوله، يتداوله المتعلمون. لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كان لم تكن، وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه. والله الهادي للصواب. إعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف والمتكلمين. وبالغوا في الطعن عليه والتحذير منه وحظروا تعلمه وتعليمه. وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي والإمام ابن الخطيب؛ فسامحوا في ذلك بعض الشيء. وأكب الناس على انتحاله من يومئذٍ إلا قليلاً، يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين؛ فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبين لك نكتة القبول والرد في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، وذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام، لنص،ا لعقائد الإيمانية بالحجج العقلية، كانت طريقتهم في ذلك بأدلةٍ خاصةٍ وذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأعراض وحدوثها، وامتناع خلو الأجسام عنها، وما لا يخلو عن الحوادث حادث. وكإثبات التوحيد بدليل التمانع وإثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقاً للغائب بالشاهد، وغير ذلك من أدلتهم المذكورة في كتبهم. ثم مرروا تلك
الأدلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الأجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقلي للماهيات. وأن العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال، وير صفة لموجود، لا موجودة ولا معدومة وغير ذلك من تواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة. ثم ذهب الشيخ أبن الحسن، والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحق إلى أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها. ولهذا رأى القاضي أبو بكر أني بمثابة العقائد، والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. وإذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي وإثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس، التي هي الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، وهذا باطل عند المتكلمين. والكلي والذاتي عندهم إنما هو اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه، أو حمال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس والتعريف المبني عليها والمقولات العشر، ويبطل العرض الذاتي؛ فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان وتبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل. وهي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس، ولا يبقى إلا القياس الصوري. ومن التعريفات المساوئ في الصادقية على إفراد المحمود، لا يكون أعم منها، فيدخل غيرها، ولا أخص فيخرج بعضها، وهو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع والمنع، والمتكلمون بالطرد والعكس، وتنهدم أركان المنطق جملة. وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيراً من مقدمات المتكلمين فيؤذي إلى إبطال أدلتهم على العقائد كما مر، فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق، وعدوه بدعة أو كفراً على نسبة الدليل الذي يبطل. والمتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة، ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، وصح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي ووجود الماهيات الطبيعية وكلياتها في الخارج، قضوا بان المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية، وإن كان منافياً لبعض أدلتها، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية، كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها، ويستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلةٍ أخرى يصححونها بالنظر والقياس العقلي. ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه، وهذا رأي الإمام والغزالي وتابعهما لهذا العهد، فتأمل ذلك وأعرف مدارك العلماء ومآخذهم فيما يذهبون إليه. والله الهادي والموفق للصواب.
الفصل الرابع والعشرون الطبيعيات وهو علم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسكون؛ فينظر في الأجسام السماوية والعنصرية وما يتولد عنها من إنسان وحيوان ونبات ومعدن، وما يتكون في الأرض من العيون والزلازل، وفي الجو من السحاب والبخار والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك. وفي مبدأ الحركة للأجسام وهو النفش على تنوعها في الإنسان والحيوان والنبات. وكتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة، أيام المأمون، وألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح.وأوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء، جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا؛ ثم لخصه في كتاب النجاة وفي كتاب الإشارات، وكأنه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها ويقول برأيه فيها. وأما ابن رشدٍ فلخص كتب أرسطو وشرحها متبعاً له غير مخالف. وألف الناس بعده في ذلك كثيراً، لكن هذه هي المشهورة لهذا العهد والمعتبرة في الصناعة. ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا، وللإمام ابن الخطيب عليه شرخ حسن، وكذا الآمدى. وشرحه
أيضاً نصير الدين الطوسي المعروف بخواجه، من أهل المشرق، وبحث مع الإمام في كثير من مسائله؛ فأوفى على أنظاره وبحوثه. وفوق كل ذي علم عليم؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. الفصل الخامس والعشرون علم الطب ومن فروع الطبيعيات صناعة الطب، وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح؛ فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالأدوية والأغذية ، بعد أن يبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن، وأسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها، وما لكل مرض من الأدوية؛ مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها، وعلى المرض بالعلامات المؤذنة بنضجه وقبوله للدواء، أولاً: في السجية والفضلات والنبض، محاذين لذلك قوة الطبيعة، فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض. وإنما الطبيب يحاذيها ويعينها بعض الشيء، بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة والفصل والسن، ويسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب. وربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علماً خاصاً، كالعين وعالمها وأكحالها. وكذلك الحقوا بالفن منافع الأعضاء ومعناه المنفعة التي خلق لأجلها كل عضو من أعضاء البدن الحيوانى. وإن لم يعن ذلك من موضوع علم الطب، إلا أنهم جعلوه من لواحقه وتوابعه.ولجالينوس في هذا الفن كتاب جليل، عظيم المنفعة، وهو إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين، يقال إنه كان معاصراً لعيسى عليه السلام، ويقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب ومطاوعة اغتراب. وتآليفه فيها هي الأمهات التي
اقتدى بها جميع الأطباء من بعده. وكان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاءوا من وراء الغاية،مثل الرازي والمجوسي وابن سينا، ومن أهل الأندلس أيضاً كثير. وأشهرهم ابن زهر. وهي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران وتناقصه، وهي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة والترف كما نبينه بعد.وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، ويتداولونه متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه؛ وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا عن موافقة المزاجٍ. وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون: كالحرث بن كلدة وغيره. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شي وإنما. هو أمر كان عادياً للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي ، من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطمث ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: <<أنتم أعلم بأمور دنياكم>>. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الذي وقع من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه؛ اللهم إلا أن استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني؛ فيكون له أثر عظيم في النفع. وليس ذلك من الطب المزاجي وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما سوقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه. والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه.
الفصل السادس والعشرون الفلاحة هذه الصناعة من فروع الطبيعيات، وهي النظر في النبات من حيث تنميته ونشؤه بالسقي والعلاج وتعهده بمثل ذلك واستجادة المنبت وصلاحية الفصل وتعاقده بما يصلحه ويتمه من ذلك كله. وكان للمتقدمين بها عناية كثيرة، وكان النظر فيها عندهم عاماً في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر؛ فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. وترجم من كتب اليونانيين، كتاب الفلاحة النبطية، منسوبة لعلماء النبط، مشتملة من ذلك على علم كبير. ولما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب، وكان باب السحر مسدوداً،والنظر فيه محظوراً؛ فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك، وحذفوا الكلام في الفن الأخر منه جملة. واختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج، وبقي الفن الأخر منه مغفلاً نقل منه مسلمة في كتبه السحرية أمهاتٍ من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر أن شاء الله تعالى. وكتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة، ولا يعدون فيها الكلام في الغراس والعلاج وحفظ النبات من حوائجه وعوائقه، وما يعرض في ذلك كله وهي موجودة.
الفصل السابع والعشرون
علم الإلهيات
وهو علم ينظر في الوجود المطلق. فأولاً في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات، من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك؛ ثم ينظر في مبادئ الموجودات وأنها روحانيات، ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها، ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدإ. وهو عندهم علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه، وأن ذلك عين السعادة في زعمهم. وسيأتي الرد عليهم بعد. وهو تالٍ للطبيعيات في ترتيبهم، ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعية. وكتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس. ولخصه ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة، وكذلك لخصها ابن رشدٍ من حكماء الأندلس. ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها، ورد عليهم الغزالي ما رده منها، ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث؛ وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها، فصارت كأنها فناً واحدً. ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فناً واحداً، قدموا فيه الكلام في الأمور العامة؛ ثم اتبعوه بالجسمانيات وتوابعها ثم بالروحانيات وتوابعها، إلى آخر العلم، كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية، وجميع من بعده من علماء الكلام.وصار علم الكلام مختلطاً بمسائل الحكمة، وكتبه محشوة بها، كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحدٍ. والتبس ذلك على الناس، وهو صواب؛ لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة، كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا
تعويل عليه، بمعنى أنها لا تثبت إلا به. فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره. وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج، فليس بحثاً عن الحق فيها ليعلم بالدليل بعد أن لم يكن معلوماً هو شأن الفلسفة؛ بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها، وتدفع شبة أهل البدع عنها، الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية. وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها؛ وكثير ما بين المقامين. وذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية، فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية؛ فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مدرك، فينبغي أن نقدمه على مداركنا ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه؛ بل نعتقد ما أمرنا به اعتقاداً وعلماً، ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه.والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية؛ فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضتهم، واستدعى ذلك الحجج النظرية، ومحاذاة العقائد السلفية بها. وأما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح والبطلان، فليس من موضوع علم الكلام، ولا من جنس أنظار المتكلمين. فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتآليف. والحق، مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل. وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال، وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتقاد بالدليل، وليس كذلك. بل إنما هو رد على الملحدين، والمطلوب مفروض الصدق معلومة.وكذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضاً، فخلطوا مسائل الفنين يفنهم وجعلوا الكلام واحداً فيها كلها. مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك. والمدارك في هذه
الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة، وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة، لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل. والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيمٍ. والله أعلم بالصواب. الفصل الثامن والعشرون
علوم السحر والطلسمات هي علوم بكيفية استعداداتٍ، تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر: أما بغير معين، أو بمعين من الأمور السماوية؛ والأول هو السحر، والثاني هو الطلسمات. ولما كانت هذه العلوم مهجورةً عند الشرائع، لما فيها من الضرر، ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره، كانت كتبها كالمفقودة بين الناس. إلا ما وجد في كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السلام، مثل النبط والكلدانيين؛ فإن جميع من تقدمه من الأنبياء لم يشرعوا الشرائع ولا جاءوا بالأحكام؛ إنما كانت كتبهم مواعظ وتوحيداً لله وتذكيراً بالجنة والنار. وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين، وفي أهل مصر من القبط وغيرهم. وكان لهم فيها التآليف والآثار. ولم يترجم لنا من كتبهم فيها إلا القليل، مثل الفلاحة النبطية لابن وحشية من أوضاع أهل بابل؛ فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه. ووضعت بعد ذلك الأوضاع، مثل مصاحف الكواكب السبعة، وكتاب طمطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرها. ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة؛ فتصفح كتب القوم واستخرج الصناعة، وغاص في زبدتها واستخرجها ووضع فيها عدة من التآليف. وأكثر الكلام فيها وفي صناعة
السيمياء، لأنها من توابعها، ولأن إحالة الأجسام النوعية من صور؛ إلى أخرى إنما تكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية؛ فهو من قبيل السحر كما نذكره في موضعه.ثم جاء مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات؛ فلخص جميع تلك الكتب وهذبها، وجمع طرقها في كتابه الذي سماه غاية الحكيم، ولم يكتب أحد في هذا العلم بعده.ولنقدم هنا مقدمة يتبين لك منها حقيقة السحر، وذلك أن النفوس البشرية وإن كانت واحدة بالنوع، فهي مختلفة بالخواص. وهي أصناف، كل صنف مختص بخاصيةٍ واحدةٍ بالنوع لا توجد في الصنف الأخر. وصارت تلك الخواص فطرةً وجبلةً لصنفها. فنفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لها خاصية تستعد بها للإنسلاخ من الروحانية البشرية إلى الروحانية الملكية، حتى يصير ملكاً في تلك اللمحة التي انسلخت فيها.وهذا هو معنى الوحي كما مر في موضعه، وهي في تلك الحالة محلة للمعرفة الربانية ومخاطبة الملائكة عليهم السلام عن الله سبحانه وتعالى كما مر. وما يتبع ذلك من التأثير في الأكوان. ونفوس السحرة لها خاصية التأثير في الأكوان واستجلاب روحانية الكواكب، للتصرف فيها، والتأثير بقوة نفسانية أو شيطانية. فأما تأثير الأنبياء فمدد إلهي وخاصية ربانية. ونفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات بقوى شيطانية. وهكذا كل صنف مختص بخاصية لا توجد في الأخر.والنفوس الساحرة على مراتب ثلاثٍ يأتي شرحها: فأوله المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين، وهذا هو الذي تسفيه الفلاسفة السحر، والثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد، ويسمونه الطلسمات، وهو أضعف رتبةً من الأول، والثالث تأثير في القوى المتخيلة. يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة، فيتصرف فيها بنوع من التصرف ويلقي فيها أنواعاً من الخيالات والمحاكاة وضوراً مما يقصده من ذلك " ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظرها الراؤن كأنها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك، كما يحكى عن بعضهم أنه يري البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك. ويسمى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة.هذا تفصيل مراتبه. ثم هذه الخاصية تكون في الساحر بالقوة شأن القوى البشرية كلها. وإنما تخرج إلى الفعل بالرياضة. ورياضة السحر كفها إنما تكون بالتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلل، فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود له. والوجهة إلى غير الله كفر. فلهذا كان السحر كفراً والكفر من مواده وأسبابه كما رأيت. ولهذا اختلف الفقهاء في قتل الساحر، هل هو لكفره السابق على فعله، أو لتصرفه بالإفساد وما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان، والكل حاصل منه. ولما كانت المرتبتان ا أوليان من السحر لها حقيقة في الخارج، والمرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السحر: هل هو حقيقة أو إنما هو تخيل؛ فالقائلون بان له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين؛ والقائلون بان لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة. فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر، بل إنما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب. والله أعلم.واعلم أن وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه، وقد نطق به القرآن. قال الله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل، هاروت وماروت، وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}[البقرة:102]. وفي الصحيح أن رسول الله سحر، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وجعل سحره في مشطٍ ومشاقةٍ وجف طلعة ودفن في بئر ذروان؛ فأنزل الله عز وجل عليه في المعوذتين: {ومن شر النفاثات في العقد}[الفلق:4]. قالت عائشة رضي الله عنها: كان
لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت.وأما وجود السحر في أهل بابل، وهم الكلدانيون من النبط والسريانين فكثير، ونطق به القرآن وجاءت به الأخبار. وكان للسحر في بابل ومصر أزمان بعثة موسى عليه الصلاة أسواق نافقة. ولهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون ويتناغون فيه وبقي فيه آثار ذلك في البرابي بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك. ورأينا بالعيان من يصور صورة الشخص المسحور بخواص أشياء مقابلة لما نواه وحاوله موجودة بالمسحور، وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التأليف والتفريق. ثم يتكلم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عيناً أو معنى. ثم ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء، ويعقد على ذلك المعنى في سبب أعده لذلك تفاؤلاً بالعقد واللزام، وأخذ العهد على من أشرك به من الجن في نفثه في فعله ذلك، استشعاراً للعزيمة بالعزم. ولتلك البنية والأسماء السيئة روح خبيثة، تخرج منه مع النفخ، متعلقة بريقه الخارج من فيه بالنفث، فتنزل عنها أرواح خبيثة، ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر. وشاهدنا أيضاً من المنتحلين للسحر وعمله من يشير إلى كساء أو جلد، ويتكلم عليه في سره، فإذا هو مقطوع متخرق. ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج، فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض. وسمعنا أن بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتت قلبه ويقع ميتاً وينقب عن قلبه فلا يوجد في حشاه؛ ويشير إلى الرمانة وتفتح فلا يوجد من حبوبها شيء. وكذلك سمعنا أن بأرض السودان وأرض الترك من يسحر السحاب فيمطر الأرض المخصوصة. وكذلك رأينا من عمل الطلسمات عجائب في الأعداد المتحابة، وهي: ر ك رف د، أحد العددين مائتان وعشرون، والأخر مائتان وأربعة وثمانون، ومعنى المتحابة أن
أجزاء كل واحدٍ التي فيه من نصف وثلثٍ وربعٍ وسدسٍ وخمسٍ وأمثالها، إذا جمع كان مساوياً للعدد الأخر صاحبه، فتسمى لأجل ذلك المتحابة.ونقل أصحاب الطلسمات أن لتلك الأعداد أثراً في الإلفة بين المتحابين واجتماعهما إذا وضع لهما تمثالان. أحدهما بطالع الزهرة وهي في بيتها أو شرفها، ناظرة إلى القمر نظر مودةٍ وقبولٍ، ويجعل طالع الثاني سابع الأول، ويضع على أحدٍ التمثالين أحد العددين والآخر على الأخر. ويقصد بالأكثر الذي يراد ائتلافه، أعني المحبوب، ما أدري، الأكثر كميةً أو الأكثر أجزاء؛ فيكون لذلك من التألف العظيم بين المتحابين ما لا يكاد ينفك أحدهما عن الأخر. قاله صاحب الغاية وغيره من أئمة هذا الشأن، وشهدت له التجربة.وكذا طابع الأسد، ويسمى أيضاً طابع الحصى، وهوأن يرسم في قالب (هند إصبع) صورة أسدٍ شائلاً ذنبه، عاضاً على حصاةٍ قد قسمها بنصفين؛ وبين يديه صورة حيةٍ منسابةٍ من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرةً فاهاً إلى فيه؛ وعلى ظهره صورة عقربٍ تدب. ويتحين برسمه حلول الشمس بالوجه الأول أو الثالث من الأسد، بشرط صلاح النيرين وسلامتهما من النحوس. فإذا وجد ذلك وعثر عليه، طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذهب، وغمس بعد في الزعفران محلولاً بماء الورد، ورفع في خرقة حريرٍ صفراء؛ فإنهم يزعمون أن لممسكه من العز على السلاطين في مباشرتهم وخدمتهم وتسخيرهم له ما لا يعبر عنه. وكذلك للسلاطين فيه من القوة والعز على من تحت أيديهم ذكر ذلك أيضاً أهل هذا الشأن في الغاية وغيرها، وشهدت له التجربة. وكذلك وفق المسدس المختص بالشمس، ذكروا أنه يوضع عند حلول الشمس في شرفها وسلامتها من النحوس، وسلامة القمر، بطالع فلوكي يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطالع نظر مودةٍ وقبولٍ، ويصلح فيه ما يكون في مواليد الملوك من الأدلة الشريفة، ويرفع في خرقة حريرٍ صفراء بعد أن يغمس في الطيب. فزعموا أن له أثراً في صحابة الملوك وخدمتهم، ومعاشرتهم. وأمثال ذلك كثير.وكتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطي هو مدونة هذه الصناعة، وفيه استيفاؤها وكمال مسائلها. وذكر لنا: أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتاباً في ذلك وسماه بالسر المكتوم، وأنه بالمشرق يتداوله أهله ونحن لم نقف عليه، والإمام لم يكن من أئمة الشأن فيما نظن، ولعل الأمر بخلاف ذلك. وبالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين، وهم الذين ذكرت أولاً أنهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق، ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فينبعج. ويسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج، لأن أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام، يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم متسترون بذلك في الغاية خوفاً على أنفسهم من الحكام. لقيت منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك، وأخبروني أن لهم وجهة ورياضة خاصة بدعوات كفرية وإشراك لروحانية الجن والكواكب، سطرت فيها صحيفة عندهم تسمى الخزيرية يتدارسونها؛ وان بهذه الرياضة والوجهة يصلون إلى حصول هذه الأوعال لهم؛ وان التأثير الذي لهم إنما هو فيما سوى الإنسان الحر من المتاع والحيوان والرقيق، ويعبرون عن ذلك بقولهم إنما نفعل فيما يمشي فيه الدرهم أي ما يملك ويباع ويشترى من سائر المتملكات، هذا ما زعموه. وسالت بعضهم فأخبرني به. وأما أفعالهم فظاهرة موجودة، وقفنا على الكثير منها وعاينتها من غير ريبة في ذلك.هذا شان السحر والطلسمات وآثارهما في العالم، فأما الفلاسفة ففرقوا بين السحر والطلمسات بعد أن أثبتوا أنهما جميعأ اثر للنفس الإنسانية، واستدلوا على وجود الأثر للنفس الإنسانية، بأن لها آثاراً في بدنها على غير المجرى الطبيعي وأسبابه الجسمانية، بل آثار عارضة من كيفيات الأرواحٍ؛ تارةً كالسخونة الحادثة عن الفرح والسرور؛ ومن جهة التصورات النفسانية أخرى، كالذي يقع من قبل التوهم. فإن الماشي على حرف حائط أو على جبل منتصب، إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك. ولهذا تجد كثيراً من الناس يعودون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب ولا يخافون السقوط. فثبت أن ذلك من آثار النفس الإنسانية، وتصورها للسقوط من أجل الوهم. وإذا كان ذلك أثراً للنفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانية الطبيعية، فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها؛ إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النوع من التأثير واحدة، لأنها غير حالة في البدن ولا منطبعة فيه، فثبت أنها مؤثرة في سائر الأجسام.وأما التفرقة عندهم بين السحر والطلمسات، فهو أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى معين، وصاحب الطلسمات يستعين بروحانيات الكواكب وأسرار الأعداد وخواص الموجودات وأوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر، كما يقوله المنجمون، ويقولون: السحر اتحاد روح بروح، والطلسم، اتحاد روح بجسم، ومعناه عندهم ربط الطبائع العلوية السماوية بالطبائع السفلية.. والطبائع العلوية هي روحانيات الكواكب، ولذلك يستعين صاحبه، في غالب الأمر بالنجامة. والساحر عندهم غير مكتسب لسحره، بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلة المختصة بذلك النوع من التأثير. والفرق عندهم بين المعجزة والسحر، أن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير، فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك. والساحر إنما يفعل ذلك من عند نفسه وبقوته النفسانية، وبإمداد الشياطين في بعض الأحوال؛ فبينهما الفرق في المعقولية والحقيقة والذات في نفس الأمر، وإنما نستدل نحن على التفرقة بالعلامات الظاهرة وهتي وجود المعجزة لصاحب الخير، وفي مقاصد الخير، وللنفوس المتمحصة للخير والتحدي بها على دعوى النبؤة. والسحر إنما يوجد لصاحب الشر، وفي أفعال الشر في الغالب، من التفريق بين الزوجين وضرر الأعداء
وأمثال ذلك، وللنفوس المتمحصة للشر. هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيين.وقد يوجد لبعض المتصوفة وأصحاب الكرامات تأثير أيضاً في أحوال العالم وليس معدوداً من جنس السحر، وإنما هو بالإمداد الإلهي لأن طريقتهم ونحلتهم من آثار النبؤة وتوابعها. ولهم في المدد الإلهي حظ عظيم علي قدر حالهم وإيمانهم وتمسكهم بكلمة الله. وإذا اقتدر أحذ منهم على أفعال الشر فلا يأتيها لأنه متقيد فيما يأتيه ويذره للأمر الإلهي. فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه ومن أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحق وربما سلب حاله. ولما كانت المعجزة بإمداد روح الله والقوى الإلهية، فلذلك لا يعارضها شي من السحر.وانظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقفت ما كانوا يأفكون، وذهب سحرهم واضمحل كأن لم يكن. وكذلك لما أنزل على النبي في المعوذتين، ومن شر النفاثات في العقد. قالت عائشة رضي الله عنها: فكان لا يقرؤها على عقدة من العقد التي سحر فيها إلا انحلت. فالسحر لا يثبت مع اسم الله وذكره بالهمة الإيمانية. وقد نقل المؤرخون أن زركش كاويان وهي راية كسرى كان فيها الوفق المئيني العددي منسوجاً بالذهب في أوضاع فلكية رصدت لذلك الوفق. ووجدت الراية يوم قتل رستم بالقادسية واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس وشتاتهم.وهو فيما يزعم أهل الطلسمات والأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب، وأن الراية التي يكون فيها أو معها لا تنهزم أصلاً. إلا أن هذه عارضها المدد الإلهي من إيمان أصحاب رسول الله ، وتمسكهم بكلمة الله، فانحل معها كل عقد سحري ولم يثبت، وبطل ما كانوا يعملون. وأما الشريعة فلم تفرق بين السحر والطلسمات والشعبذة وجعلته كله باباً واحداً محظوراً. لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا
الذي فيه صلاح آخرتنا، أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا؛ وما لا يهمنا في شيء منهما. فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر؛ كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع، ويلحق به الطلسمات، لأن أثرهما واحد، كالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير، فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله، فيكون حينئذٍ ذلك الفعل محظوراً على نسبته في الضرر. وإن لم يكن مهماً علينا ولا فيه ضرر، فلا أقل من تركه قربة إلى الله، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات والشعوذة باباً واحداً لما فيها من الضرر، وخصته بالحظر والتحريم.وأما الفرق عندهم بين المعجزة والسحر، فالذي ذكره المتكلمون أنه راجع إلى التحدي، وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه. قالوا: والساحر مصروف عن مثل هذا التحدي، فلا يقع منه. ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية، لأن صفة نفسها التصديق؛ فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصادق كاذباً وهو محال، فإذا لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق. وأما الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه، فرق ما بين الخير والشر في نهاية الطرفين. فالساحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل في أسباب الخير، وصاحب المعجزة لا يصدر منه الشر ولا يستعمل في أسباب الشر، وكأنهما على طرفي النقيض في أصل فطرتهما. والله يهدي من يشاء، وهو القوي العزيز، لا رب سواه.ومن قبيل هذه التأثيرات النفسانية الإصابة بالعين وهو تأثير من نفس المعيان، عندما يستحسن بعينه مدركاً من الذوات أو الأحوال، ويفرط في استحسانه وينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به، فيؤثر فساده. وهو جبلة فطرية، اعني هذه الإصابة بالعين. والفرق بينها وبين التأثيرات النفسانية أن صدوره فطري جبلي لا يتخلف ولا يرجع اختيار صاحبه ولا يكتسبه، وسائر التأثيرات، وإن كان منها ما لا يكتسب، فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها، والفطري منها قوة صدورها لا نفس صدورها، ولهذا قالوا: القاتل بالسحر أو بالكرامة يقتل، والقاتل بالعين لا يقتل. وما ذلك إلا لأنه ليس مما يريده ويقصده أو يتركه، وإنما هو مجبور في صدوره عنه. والله أعلم بما في الغيوب ومطلع على ما في السرائر.
الفصل التاسع والعشرون علم أسرار الحروف وهو المسمى لهذا العهد بالسيميا. نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة؛ فاستعمل استعمال العام في الخاص. وحدث هذا العلم في الملة بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من التصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس، وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه. وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام. والأكوان من لدن الإبداع الأول تتنقل في أطواره وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الخروف، وهو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله. تعددت فيه تآليف البوني وابن العربي وغيرهما ممن اتبع آثارهما. وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان. ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بما هو: فمنهم من جعله
للمزاج الذي فيه، وقسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر. واختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلاً وانفعا لاً بذلك الصنف؛ فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير إلى نارية وهوائية ومائية وترابية على حسب تنوع العناصر، فالألف للنار والباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب. ثم ترجع كذلك على التوالي من الحروف والعناصر إلى أن تنفد. فتعين لعنصر النار حروف سبعة: الألف والهاء والطاء والميم والفاء والسين والذال؛ وتعين لعنصر الهواء سبعة أيضاً: الباء والواو والياء والنون والضاد والتاء والظاء؛ وتعين لعنصر الماء أيضاً سبعة: الجيم والزاي والكاف والصاد والقاف والثاء والغين؛ وتعين لعنصر التراب أيضاً سبعة: الدال والحاء واللام والعين والراء والخاء والشين.
والحروف النارية لدفع الأمراض الباردة ولمضاعفة قوة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها، أما حساً أو حكماً، كما في تضعيف قوى المريخ في الحروب والقتل والفتك. والمائية أيضاً لدفع الأمراض الحارة من حفيات وغيرها، ولتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حساً أو حكماً، كتضعيف قوى القمر وأمثال ذلك. ومنهم من جعل سر التصرف الذي في الحروف للنسبة العددية: فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعاً وطبعاً فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضاً؛ كما بين الباء والكاف والراء لدلالتها كلها على الاثنين كل في مرتبته؛ فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد، والكاف على إثنين في مرتبة العشرات، والراء على اثنين في مرتبة المئين. وكالذي بينها وبين الدال والميم والتاء لدلالتها على الأربعة، وبين الأربعة والإ ثنين نسبة الضعف. وخرج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف، وامتزج التصرف من السر الحرفي
والسر العددي لأجل التناسب الذي بينهما. فأما سر التناسب الذي بين هذه الحروف وأمزجة الطبائع، أو بين الحروف والأعداد؛ فأمر عسير على الفهم، إذ ليس من قبيل العلوم والقياسات، وإنما مستندهم فيه الذوق والكشف. قال البوني: ولا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي، وإنما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهي. وأما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المركبة فيها وتأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواتراً. وقد يظن أن تصرف هؤلاء وتصرف أصحاب الطلسمات واحدٍ، وليس كذلك، فإن حقيقة الطلسم وتأثيره على ما حققه أهلة أنه قوى روحانية من جوهر القهر، تفعل فيما له ركب فعل غلبة وقهر، بأسرار فلكية وبسب عددية وبخورات جالبات لروحانية ذلك الطلسم، مشدودة فيه بالهمة؛ فائدتها ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية، وهو عندهم كالخميرة المركبة من هوائية وأرضية ومائية ونارية حاصلة في جملتها، تخيل وتصرف ما حصلت فيه إلى ذاتها وتقلبه إلى صورتها. وكذلك الإكسير للأجسام المعدنية، كالخميرة تقلب المعدن الذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة. ولذلك يقولون موضوع الكيمياء جسد في جسد لأن الإكسير أجزاؤه كلها جسدانية. ويقولون: موضوع الطلسم روح في جسد لأنه ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية. والطبائع السفلية جسد والطبائع العلوية روحانية. وتحقيق الفرق بين تصرف أهل الطلسمات وأهل الأسماء، بعد أن تعلم أن التصرف في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس الإنسانية والهمم البشرية أن النفس الإنسانية محيطة بالطبيعة وحاكمة عليها بلذات؛ إلا أن تصرف أهل الطلسمات أنما هو في استنزال روحانية الأفلاك وربطها بالصور أو بالنسب العددية، حتى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة والقلب بطبيعته، فعل الخميرة فيما حصلت فيه. وتصرف؛ أصحاب الأسماء إنما هو بما حصل لهم بالمجاهدة والكشف من النور الإلهي والإمداد الرباني؛ فيسخر الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية، ولا يحتاج إلى مدد من القوى، الفلكية ولا غيرها، لأن مدده أعلى منها.
ويحتاج أهل الطلسمات إلى قليل من الرياضة تفيد النفس قوة على استنزال روحانية الأفلاك. وأهون بها وجهة ورياضة. بخلاف أهل الأسماء فإن رياضتهم هي الرياضة الكبرى، وليست لقصد التصرف في الأكوان إذ هو حجاب. وإنما التصرف حاصل لهم بالعرض، كرامة من كرامات الله لهم. فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله وحقائق الملكوت، الذي هو نتيجة المشاهدة والكشف، واقتصر على مناسبات الأسماء وطبائع الحروف والكلمات، وتصرف بها من. هذه الحيثية وهؤلاء هم أهل السيمياء في المشهور- كان إذا لا فرق بينه وبين صاحب الطلسمات؛ بل صاحب الطلسمات أوثق منه لأنه يرجع ألى أصول طبيعية علمية وقوانين مرتبة. وأما صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الذي يطلع به على حقائق الكلمات وآثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة، وليس له في العلوم الاصطلاحية قانون برهاني يعول عليه يكون حاله أضعف رتبة. وقد يمزج صاحب ا"سماء قوى الكلمات والأسماء بقوى الكواكب، فيعين لذكر الأسماء الحسنى، أو ما يرسم من أوفاقها، بل ولسائر الأسماء، أوقاتا تكون من حظوظ الكوكب الذي يناسب ذلك الاسم؛ كما فعله البوني في كتابه الذي سفاه الانماط. وهذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائية، وهي برزخية الكمال الأسمائي، وإنما تنزل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة. وإثبات هذه المناسبة عندهم إنما هو بحكم المشاهدة. فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة، وتلقى تلك المناسبة تقليداً، كان عمله بمثابة عمل صاحب الطلسم؛ بل هو أوثق منه كما قلناه. وكذلك قد يمزج أيضاً صاحب الطلسمات عمله وقوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات والكواكب، إلا أن مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب
الأسماء من الاطلاع في حال المشاهدة، وإنما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السحرية، من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكونات، من جواهر وأعراض وذوات ومعان؛ والحروف والأسماء من جملة ما فيه. فلكل واحدٍ من الكواكب قسم منها يخصه، ويبنون على ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سور القرآن وآيه على هذا النحو، كما فعله مسلمة المجريطي في الغاية. والطاهر من حال البوني في أنماطه أنه اعتبر طريقتهم. فإن تلك الأنماط إذا تصفحتها، وتصفحت الدعوات التي تضمنتها، وتقسيمها على ساعات الكواكب السبعة؛ ثم وقفت على الغاية، وتصفحت قيامات الكواكب التي فيها، وهي الدعوات التي تختص بكل كوكب، ويسمونها قيامات الكواكب، أي الدعوة التي يقام له بها، شهد له ذلك: أما بأنه من مادتها؛ أو بأن التناسب الذي كان في أصل الإبداع وبرزخ العلم قضى بذلك كله. ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)،. وليس كل ما حرمه الشارع من العلوم بمنكر الثبوت، فقد ثبت أن السحر حق مع حظره. لكن حسبنا من العلم ما علمنا. ومن فروع علم السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة، بارتباطات بين الكلمات حرفية، يوهمون أنها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقبالية؛ وإنما هي شبه المعاياة والمسائل السيالة. ولهم في ذلك كلام كثير من أدعية وأوراد. وأعجبه زايرجه العالم للسبتي، وقد تقدم. ذكرها. ونبين هنا ما ذكروه في كيفية العمل بتلك الزايرجة بدائرتها وجدولها المكتوب حولها؛ ثم نكشف عن الحق فيها وأنها ليست من الغيب، وإنما هي مطابقة بين مسألة وجوابها في الإفادة فقط، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. وليس عندنا رواية يعول عليها في صحة هذه القصيدة إلا أننا تحرينا اصح النسخ منها في ظاهر الأمر. والله الموفق بمنه. وهي هذه:
المجلد الأول – تاريخ ابن خلدون صفحة 720- النهاية الطبيعة، ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير وصورته وفي المادة الموضوعة عندهم للعلاج، المسماة عندهم بالجحر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك.وجملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء، بعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها، ويؤثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب. ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراج مائها أو ترابها. فإذا رضي بذلك كله من علاجها وتم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته، حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسقون الإكسير، ويزعمون انه إذا القي على الفضة المحماة بالنار عادت ذهباً؛ أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على حسب ما قصد به في عمله.ويزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة، حصل فيها بذلك العلاج الخاص والتدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها، وتقلبه إلى صورتها ومزاجها، وتبث فيه ما حصل فيها من الكيفيات والقوى، كالخميرة للخبز، تقلب العجين الى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة، ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعاً إلى الغذاء. وكذا إكسير الذهب والفضة فيما يحصل فيه من المعان، يصرفه إليهما ويقلبه إلى صورتهما.هذا محصل زعمهم على الجملة، فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق والمعاش فيه، ويتناقلون أحكامه وقواعده من كتب لائمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم، ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها، إذ هي في الأكثر تشبه المعمى. كتأليف جابر بن حيان في رسائله السبعين، ومسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم، والطغرائي والمغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم وأمثالها، ولا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها. فاوضت يوما شيخنا أبا البركات التلفيفي، كبير مشيخة
الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض التآليف فيها؛ فتصفحه طويلاً، ثم رده إلى وقال لي، وأنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة. ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط. إما الظاهرة، كتمويه الفضة بالذهب، أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جز أو جزأين أو ثلاثة؛ أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن لصناعة، مثل تبييض النحاس وتليينه بالزوق المصعد، فيجيء جسماً معدنياً شبيهاً بالفضة، ويخفى إلا على النقاد المهرة؛ فيقدر أصحاب هذه الدلس، مع دلستهم هذه، سكة يسربونها في الناس ويطبعونها بطابع السلطان تمويها على الجمهور بالخلاص وهؤلاء أخس الناس حرفة وأسوأهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس؛ فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاساً في الفضة وفضة في الذهب، ليستخلصها لنفسه؛ فهو سارق وأشر من السارق.ومعظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار، يأوون إلى مساجد البادية ويموهون على الأغنياء منهم، بأن بأيديهم صناعة الذهب والفضة، والنفوس مولعة بحبهما والاستهلاك في طلبهما، فيحصلون من ذلك على معاش. ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرقبة، إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة، فيفرون إلى موضع آخر، ويستجدون حالاً أخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم. ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم. وهذا الصنف لا كلام معهم، لأنهم بلغوا الغاية في الجهل والرداءة والاحتراف بالسرقة؛ ولا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم، وتناولهم من حيث كانوا، وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم، لأن فيه إفساداً للسكة التي تعم بها البلوى، وهي متمول الناس كافة. والسلطان مكلف بإصلاحها والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها. وأما من انتحل هذه الصناعة، ولم يرض بحال الدلسة؛ بل استنكف عنها ونزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين ونقودهم، وإنما يطلب إحالة الفضة للذهب، والرصاص والنحاس والقصدير الى الفضة بذلك النحو مع العلاج، وبالإكسير الحاصل عنده؛ فلنا مع هؤلاء متكلم وبحث في مداركهم لذلك. مع أنا لا نعلم أن أحداً من أهل العلم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية. إنما تذهب أعمارهم في التدبير والفهر والصلابة والتصعيد والتكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها. ويتناقلون في ذلك حكايات وقعت لغيرهم، ممن تم له الغرض منها أو وقف الى الوصول، يقنعون باستماعها والمفاوضة فيها؛ ولا يستريبون في تصديقها، شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به، فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه، وقالوا إنما سمعنا ولم نر. هكذا شأنهم في كل عصر وجيل.واعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم، وقد تكلم الناس فيها من المتقدمين والمتأخرين. فلننقل مذاهبهم في ذلك، ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه، فنقول: إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة، وهي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس والحديد والخارصين: هل هي مختلفات بالفصول، وكلها أنواع قائمة بأنفسها؛ أو أنها مختلفة بخواص من الكيفيات، وهي كلها أصناف لنوع واحد؛ فالذي ذهب إليه أبو نصر الفارابي، وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد، وان اختلافها إنما هو بالكيفيات، من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان، من الصفرة والبياض والسواد، وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد. والذي ذهب إليه ابن سينا، وتابعه عليه حكماء المشرق، أنها مختلفة بالفصول، وأنها أنواع متباينة، كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته، له فصل وجنس شأن سائر الأنواع. وبنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض، لإمكان تبذل الأغراض حينئذ وعلاجها بالصنعة.فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء
عنده ممكنة سهلة المأخد. وبنى أبو علي ابن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة واستحالة وجودها، بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه، وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل. والفصول مجهولة الحقائق رأساً بالتصور، فكيف يحاول انقلابها بالصنعة. وغلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول. ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه، إنما هو إعداد المادة لقبوله خاصة. والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه، كما يفيض النور على الأجسام بالصقل والإمهاء.ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته، قال: "وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات، مع الجهل بفصولها، مثل العقرب من التراب والنتن، ومثل الحيات المتكونة من الشعر، ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف وتصييره سكراً بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون؛ فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذهب والفضة؛ فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة. ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها". انتهى كلام الطغرائي بمعناه. وهذا الذي ذكره في الرد على ابن سينا صحيح. لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة، مأخذا آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين، لا الطغرائي ولا ابن سينا. وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعاً ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى إحالته ذهباً أو فضة، ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر. لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله، وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين، دورة الشمس الكبرى. فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على
ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة نصيرها كالخميرة، فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته، وذلك هو الإكسير على ما تقدم.واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية، فلا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة، إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما تم امتزاجها؛ فلا بدّ من الجزء الغالب على الكل. ولا بدّ في كل ممتزج من المولدات من حرار؛ غريزية، هي الفاعلة لكونه، الحافظة لصورته. ثم كل متكون في زمان، فلا بدّ من اختلاف أطوار؛ وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور، حتى ينتهي إلى غايته. وانظر شأن الإنسان في طور النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم التصوير، ثم الجنين، ثم المولود، ثم الرضيع، ثُم ثم إلى نهايته. ويسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها، وإلا لكان الطور بعينه الأول هو الآخر، وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر. فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين، وما ينتقل فيه من الأحوال؛ فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن، ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم.ومن شرط الصناعة أبدا تصور ما يقصد إليه بالصنعة. فمن الأمثال السائرة للحكماء: أول العمل آخر الفكرة، وآخر الفكرة أول العمل. فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة وبسبها المتفاوتة في كل طور، واختلاف الحار الغريزي عند اختلافها ومقدار الزمان في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة، ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز، وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها. وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك. وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني. ونجن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه، وعلم ذلك علماً
محصلاً بتفاصيله، حتى لا يشذ منه شيء عن علمه، سألنا له تخليق هذا الإنسان، وأنى له ذلك.ولنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول: حاصل صناعة الكيمياء، وما يدعونه بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعة المعدنية بالفعل الصناعي، ومحاذاتها به، إلى أن يتم كون الجسم المعدني، أو تخليق مادة بقوى وأفعال وصورة مزاجية تفعل في الجسم فعلاً طبيعياً فتصيره وتقلبه إلى صورتها. والفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية، التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها، أو فعل المادة ذات القوى فيها، تصوراً مفضلاً واحدة بعد أخرى. وتلك الأحوال لا نهاية لها، والعلم البشرى عاجز عن الإحاطة بما دونها، وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات.هذا محصل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته ولا من الطبيعة، إنما هو من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها. وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك، وله وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته. وذلك أن حكمة الله في الحجرين، وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس ومتمولاتهم. فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك، وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. وله وجه آخر من الاستحالة أيضاً، وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد. فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح، وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زماناً، لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته، في كون الفضة والذهب وتخفقهما. وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب والنحل والحية وتخليقها، فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم. وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها، وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء إلى هلم جرا، ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة. ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه، وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرنا. وأما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك، فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد، والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الافعال والطبائع. والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى، فهو تكوين وصلاح، والتكوين أصعب من الفساد، فلا يقاس الإكسير بالخميرة. وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها، مثل جابر بن حيان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهم؛ فليست من باب الصنائع الطبيعية، ولا تتم بأمر صناعي. وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات، إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق ، وما كان من ذلك للحلاج وغيره، وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك. وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى. وهذا كلام جابر. في رسائله. ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه. وبالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع. فكما لا يتدبر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشباً أو حيواناً فيما عدا مجرى تخليقه؛ كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع، فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله وعمله. ويقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم، لأن نيله إن كان صحيحاً فهو واقع مما وراء الطبائع والصنائع، فهو كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد، ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة؛ أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني}[المائدة:110] . فتنفخ فيها، فتكون طيراً بإذني،. وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربما أوتيها الصالح ويؤتيها غيره، فتكون عنده معارة. وربما أوتيها الصالح ولا يملك إيتاءها، فلا تتم في يد غيره.ومن هذا الباب يكون عملها سحرياً، فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس وخوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحراً. ولهذا كان كلام الحكماء كفهم فيها ألغازاً، لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر واطلع على تصرفات النفس في عائم الطبيعة. وأمور خرق العادة غير منحصر؛ ولا يقصد أحد إلى تحصيلها. والله بما يعملون محيط.وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش، وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية، كالفلاحة والتجارة والصناعة، فيستصعب العاجز ابتغاءه من هذه، ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها. وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران. وللناس أقوال كثيرة- حتى في الحكماء المتكلمين- في إنكارها واستحالتها. فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء، فكان من أهل الغنى والثروة، والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه. وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها وانتحالها. والله الرزاق، ذو القوة المتين، لا رب سواه.
الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل إعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل. ويمثل ذلك من شأن الفقه في
المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية، وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله، وحينئذ يسلم له منصب الفتيا وهي كلها متكررة والمعنى واحد. والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها. ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً؛ ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها. ويمثل أيضاً علم العربية من كتاب سيبويه، وجميع ما كتب عليه، وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك. وكيف يطالب به المتعلم، وينقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد، من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هشام، ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة، لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتهما، لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه. ودل ذلك على أن الفضل ليس منحصراً في المتقدمين، سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب والطرق والتآليف ، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا نادر من نوادر الوجود، وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله، فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؛ ولكن الله يهدي من يشاء.
الفصل الخامس والثلاثون
في المقاصل التي ينبغي اعتمادها بالتآليف وإلغاء ما سواها
أعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولاً، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً؛ إما بغير وسط أو بوسط، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعني بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر: إما على وجه التعليم؛ أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. وذلك البيان إنما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف، وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدى بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعد؛ أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفاً بحروف وكلمات بكلمات؛ فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحداً؛ فسمي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها. وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخر، وهؤلاء هم المؤلفون. والتآليف بين العوالم البشرية والأمم الإنسانية كثير، ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأخبار عن الأمم والدول.
وأما العلوم الفلسفية، فلا اختلاف فيها، لأنها إنما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية، في تصور الموجودات على ما هي عليه؛ جسمانيها وروحانيها وفلكيها وعنصريها ومجردها ومادتها. فإن هذه العلوم لا تختلف، وإنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر. ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمى ذلك قلماً وخطاً. فمنها الخط الحميري، ويسمى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر، كما يخالف لغتهم. وإن الكل عربياً. إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان والعبارة غير ملكة أولئك. ولكل منهما قوانين كلية مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. وربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. ومنها الخط السرياني، وهو كتابة النبط والكلدانيين. وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم، ومذهب عامي. لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، وإنما هو يستمر بالقدم والمران حتى يصير ملكة راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية؛ فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهم. ومنها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم. ومنها الخط اللطيني ، خط اللطينيين من الروم، ولهم أيضاً لسان مختص بهم. ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختص بها. مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم. وإنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى. أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا، وأما العربي والعبري فلتنزل القرآن والتوراة بهما بلسانهما. وكان هذان الخطان بياناً لمتلوهما، فوقعت العناية بمنظومهما أولاً وانبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني. وأما اللطيني فكان الروم، وهم أهل ذلك
اللسان، لما اخذوا بدين النصرانية، وهو كله من التوراة، كما سبق في أول الكتاب، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها. وأما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها. ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدوها سبعة: أولها :استنباط العلم بموضوعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق ويحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعي أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن. وثانيها: أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في لهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف. وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التآليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك. ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب
انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة؛ فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم؛ وفي العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك؛ فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة وبقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعي من بعده. وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء الى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم؛ فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولاً لفن البيان، ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم. وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول. فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتآليف ومراعاتها. وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء
مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه؛ أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل والقحة. ولذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل والقحة. نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله يهدي للتي هي أقوم.
الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليم ذهب كثير من المتأخرين الى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة فم الفنون للتفسير والبيان؛ فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لان ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت. ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة؛ فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع
في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقفته كشأن هذه الموضوعات المختصرة؛ فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها. (ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له). والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته إعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً، إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم؛ إلا أنها جزئية وضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية؛ فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفى الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله؛ فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار
ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصواباً فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها؛ فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً، بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب الى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد؛ ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم. ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم. والله يهدي من يشاء.وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانية للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطاً وأقرب صبغة؛ لان الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل توسيت الملكة الناشئة عنه. والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون.ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم
علمان معاً؛ فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الاخر؛ فيستغلقان معا ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرع الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله. والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. الفكر الإنساني: واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك، فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة، ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة. وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها، وذلك ان الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة، فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته، وهو [ وجدان حركة للنفس]، في البطن الأوسط من الدماغ. تارة يكون مبدءا للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب؛ وتارة يكون مبدءاً لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوخه إلى المطلوب. وقد يصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته، فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما، أسرع من لمح البصر إن كان واحداً. وينتقل إلى تحصيل وسط آخر إن كان متعدداً، ويصير إلى الظفر بمطلوبه. هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات.ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية، تصفه ليعلم سداده من خطئه. لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً، إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما ومن اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتائج، فتعين المنطق على التخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق، إذا، أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها، ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر. ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق، ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله تعالى، فإن
ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها؛ فتفضي بهم بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه.ثم من دون هذا الأمر الصناعي، الذي هو المنطق، مقدمة أخرى من التعليم وهي معرفة الألفاظ؛ ودلالتها علي المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أنها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك.فأولاً: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها؛ ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة؛ ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق؛ ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه. وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة بما، ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة؛ بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات، فقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلاً ممن هداه الله.فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك، فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الامر الصناعي جملة واخلص الى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه، واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظار قبلك، متعرضا للفتح من الله، كما فتح عليهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك ، وحصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر وفطرك عليه كما قلناه. وحينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها، فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي؛ ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.وأما إن وقفت عند المناقشة في الألفاظ والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها، وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح، فلا تتميز جهة الحق منها؛ إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع، فيستمر ما حصل من الشك والارتياب، وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثر من النظار والمتأخرين، سيما من سبقت له عجمة في لسانه، فربطت على ذهنه، أو من حصل له شغف بالقانون المنطقي وتعصب له، فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع، فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها، ولا يكاد يخلص منها. والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه، إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى. وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر، فيساوقه لذلك في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى، متى أعوزك فهم المسائل، تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب. والله الهادي إلى رحمته، وما العلم إلا من عند الله.
الفصل الثامن والثلاثون في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل إعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة؛ وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية والحساب
وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة. وربما كان آلة لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين. فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار؛ فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة. وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرع المسائل، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم، والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة؛ فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يغني.وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق، لا بل وأصول الفقه، لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلاً واستدلالاً وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها. وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو، وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق، لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بهذه الآلات والوسائل. فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد، فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل؛ ورأى من نفسه قياماً بذلك وكفاية به فليختر لنفسه ما شاء من المراقي صعباً أو سهلاً. وكل ميسر لما خلق له.
الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه. إعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان، باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه؛ لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب؛ إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة.وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب،في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلسي فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا انه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط؛ بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل، وأخذهم بقوانين
العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب.ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط اكثر من جميعها، الى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة، لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عند ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم. وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها؛ إلا ان عنايتهم بالقرآن، واستظهار الولدان إياه، وووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته اكثر مما سواه؛ وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس، لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الاندلس، واستقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك.وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها. والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطونه بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده، كما تعلم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة، ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه، ويبتغيه من أهل صنعته.فأما أهل إفريقية والمغرب؛ فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة؛ وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها. وليس لهم ملكة في غير
أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب، لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل؛ إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة، لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في فصله.وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. وقصروا في سائر العلوم، لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها. فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقصر، على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا.ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وأبدأ، وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: "لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتقديم العربية في التعليم ضرورة، فساداً للغة؛ ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين؛ ثم ينتقل إلى درس القرآن، فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة". ثم قال: "ويا غفلة أهل بلادنا في إن يؤخذ الصبي بكتاب الله فج أول عمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر، غيره أهم عليه منه ". قال: "ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ". ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان، إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله، وهو لعمري مذهب حسن؛ إلا ان العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد، من تقديم دراسة القرآن، إيثاراً للتبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع
عن العلم؛ فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر؛ فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة؛ فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلا يذهب خلواً منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم، وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق. ولكن الله يحكم ما يشاء، لا معقب لحكمه سبحانه. الفصل الأربعون في أن الشدة علي المتعلمين مضرة بهم وذلك أن إرهاق الحد في التعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل؛ فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها ، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف، واعتبره في كل من يملك أمره عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء. وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج، ومعناه في الاصطلاح
المشهور التخابث والكيد، وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه، الذي أئمة في حكم المعلمين والمتعلمين: "لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً". ومن كلام عمر رضي الله عنه: "من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ". حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب، وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له، فإنه أعلم بمصلحته.ومن أحسن مذاهب التعليم، ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلى الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: "يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه؛ فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بنى هاشم، إذا دخلوا عليه؛ ورفع مجالس القواد، إذا حضروا مجلسه. ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. انتهى". الفصل الحادي والأربعون في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه به من المذاهب والفضائل: تارة علماً وتعليماً وإلقاءً؛ وتارة محاكاةً وتلقيناً بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً. فعلى
قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضاً في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم، وتعدد المشايخ، يفيده تمييز الاصطلاحات، بما يراه من اختلاف طرقهم فيها؛ فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل. وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات. ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم. وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم، لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والأربعون في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها والسبب في ذلك أنهم معتادون النظم الفكر في والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن، أموراً كليةً عامةً؛ ليحكم عليها بأمر على العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس. ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها، بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة، وإنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك؛ كالأحكام الشرعية، فإنها فروع
عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها، عكس الأنظار في العلوم العقلية، التي يطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم أمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها، فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها.ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، إذ كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور، فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الامور، بعضها على بعض، إذا نظروا في السياسة، أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم؛ فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم. ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران، لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم، إلى مثل شأن الفقهاء، من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة، فيقعون في الغلط. والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس، لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم، ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:
- فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأموناً من النظر في سياسته، مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه؛ فيحسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره، باستقامة نظره. وفوق كل ذي علم عليم. ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط، لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس؛ فإنها نظر في المعقولات الثواني. ولعل المواد فيها
ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. وأما النظر في المعقولات الأول، وهى التي تجريدها قريب، فليس كذلك؛ لأنها خيالية، وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وأن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي. والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة؛ لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة؛ وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه. والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة.وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين وكانوا يسفون المختصين بحمل ذلك. ونقله القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً؛ فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء، إشارة الى هذا. فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن الله، لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه. ومن الحديث، الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرخ. قال : <<تركت فيكم أمرين لن تضفوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي >>. فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه؛ ثم
احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه؛ ثم كثر استخراج أحكام الوقائع من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس، واحتاجت الى علوم أخرى هي وسائل لها: من معرفة قوانين العربية وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد؛ فصارت هذه العلوم كلها علوماً ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع.وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها؛ فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها. والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر، الذين هم يومئذ تبغ للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف؛ لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس؛ فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم. وإنما ربوا في اللسان العربي، فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب، وصيروه قوانين وفناً لمن بعدهم.وكذا حملة الحديث الذين حفظوه على أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى لاتساع الفن بالعراق. وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفكرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم. وظهر مصداق قوله : <<لو تعلق العلم بأكناف السماء، لناله قوم من أهل فارس >>.وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه مع القيام بالملك عن القيام بالعلم، والنظر فيه، فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. والرؤساء أبداً يستنكفون عن الصنائع والمهن، وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين. وما زالوا يرون لهم حق القيام به، فإنه دينهم وعلومهم، ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم، صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك، بما هم عليه من البعد عن نسبتها، وامتهن حملتها بما يرون انهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عليهم، في الملك والسياسة كما ذكرناه في فصل المراتب الدينية. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عافتهم من العجم.أما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه. واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم وتركها العرب، وانصرفوا عن انتحالها؛ فلم يحملها إلا المعربون من العجم، شأن الصنائع كما قلناه أولاً. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم وببلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر. فلما خربت تلك الامصار وذهبت منها الحضارة، التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع، ذهب العلم في العجم جملة لما شملهم من البداوة. واختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع. وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر، لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها، فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر. وقد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم في تآليف، وصلت إلينا إلى هذه البلاد، وهو سعد الدين التفتازاني. وأما غيره من العجم، فلم نر لهم، من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدين الطوسي كلاماً يعول على نهايته في الإصابة. فاعتبر ذلك وتأمله تر عجباً في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله.
الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي والسر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية، من بين العلوم الشرعية، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادها من الأحكام المتلقاة من الكتاب والسنة ولغاتها المؤذية لها، وهي كلها في الخيال؛ وبين العلوم العقلية، وهي في الذهن. واللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتعليم، وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران لحى ذلك. والألفاظ واللغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام عن المعاني. ولا بد في اقتناص تلك المعاني من الفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عبيها، وجودة الملكة لناظر فيها؛ وإلا فيعتاص عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهي والجبلي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم، أو خف؛ ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعليم تلقينا وبالخطاب والعبارة. وأما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب؛ وبين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على
الألفاظ المقولة. وما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة، وإن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضاً قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبة، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. وإذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية والخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة. والمتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاماً لملكاتهم. ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها واندرجت الأمم في طيها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها، وكانت أمية النزعة والشعار؛ فأخذ الملك والعزة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب، وصيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلاً؛ فحدثت فيهم الملكات، وكثرت الدواوين والتآليف؛ وتشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم واربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسياً منسياً وطللاً مهجوراً وهباءً منثوراً. وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، ودواوينها المسطرة بخطهم، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها وذهاب العناية بها. وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان، وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد؛ فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصراً في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، وهو ظاهر. وإذا كان مقصراً في اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية أعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، ولا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. وكذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. ولهذا نجد الكثير من علماء الاعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهراً يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك؛ بتمام ملكته، وإنه صار له فهم الأقوال من الخط، والمعاني من الأقوال، كالجبلة الراسخة، وارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وربما يكون الدؤوب على التعليم والمران على اللغة، وممارسة الخط يفضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الاعاجم؛ إلا أنه في النادر. وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربي أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأما عجمة اللغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم. والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، ومن غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه. وهذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللسان العربي. وفي ذلك آيات للمتوسمين.
الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب. ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. وتتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام، حسبما يتبين في الكلام عليها فناً فناً. والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو، إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة. وكان من حق علم اللغة التقدم، لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها، لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه؛ فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة، إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة، وليست كذلك اللغة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. علم النحو: إعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد، لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال.أي الحركات الى الذوات من غير تكفف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلا في لغة
العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخضه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب. وهذا هو معنى قوله : <<أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً >>. فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت، أي الأوضاع، اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم. والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم؛ فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه. مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الاسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال بإشارة عليّ رضي الله عنه، لأنه رأى تغير الملكة، فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة؛ ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، أحوج ما كان الناس إليها، لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة وكمل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه، فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور، الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتباً مختصرة للمتعلمين، يحذون فيها حذو الإمام في كتابه.ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها، في الكوفة والبصرة: المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق في التعليم، وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القران، باختلافهم في تلك القواعد، وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار، فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل، كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله، أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفضل وابن الحاجب في المقدمة له. وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى، وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها، وطرق التعليم فيها مختلفة؛ فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك.وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران، ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر، منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة. وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها؛ فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل، الذين اقتفوا أثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء.
علم اللغة: هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية. وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين؛ خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين، فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي.وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة؛ وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين؛ فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك. ثم الثالث والرابع. ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين، فيكون واحداً، فتكون كلها أعداداً على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين، فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأول مع الأخير وتضرب المجموع في نصف العدة. ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي، لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب، فيكون الخارج جملة الثنائيات.وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على
توالي العدد؛ لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً، فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية، وهي ستة وعشرون حرفاً، بعد الثنائية؛ فتجمع من واحد الى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرباعي والخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف. واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس، ثم الشفة؛ وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين، لأنه الأقصى منها. فلذلك سمي كتابه بالعين، لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه اكثر لدورانه. وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه.وجاء أبو بكر الزبيدى وكتب لهشام المؤيد بالأندلس، في المائة الرابعة؛ فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحذف منه المهمل كله، وكثيراً من شواهد المستعمل، ولخصه للحفظ أحسن تلخيص.وألف الجوهري من المشارقة، كتاب الصحاح، على الترتيب المتعارف لحروف المعجم؛ فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة، لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم، فيجعل.ذلك باباً.. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة، على ترتيب حروف المعجم أيضاً، ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللغة اقتداء بحصر الخليل.ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية، في دولة علي بن مجاهد،كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب، وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها؛ فجاء من أحسن الدواوين. ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توأمى رحم وسليلي أبوة.ولكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباري كتاب الزاهر.هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكنها؛ إلا أن وجه الحصر فيها خفي، ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز، وسماه أساس البلاغة، بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ، فيما تجوزت به من المدلولات، وهو كتاب شريف الإفادة.تم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى على العموم، ثم تستعمل في الامور الخاصة ألفاظاً أخرى خاصة بها، فرق ذلك عندنا، بين الوضع والاستعمال، واحتاج الناس إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ؛ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض، ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب، ومن الإنسان بالأزهر، ومن الغنم بالأملح، حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحناً وخروجاً عن لسان العرب. واختص بالتأليف في هذا المنحي الثعالبي، وأفرده في كتاب له سماه فقه اللغة، وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه، أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب، حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره، حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها، وهو أشر من اللحن في الإعراب وأفحش. وكذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها، وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك، فهو مستوعب للأكثر. وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن، المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال، تسهيلاً لحفظها على الطالب، فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. والله الخلاق العليم، لا رب سواه.
فصل: واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لان الحد راجع إلى المعاني، ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، واللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية الظهور. علم البيان: هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة، وهو من العلوم اللسانية،لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني. وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند وبسند إليها وبفضي بعضها الى بعض، والدلالة على هذه هي المفرادت من الأسماء والأفعال والحروف؛ وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، ويدل عليها بتغير الحركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلها هي صناعة
النحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات، المحتاجة للدلالة، أحوال المتخاطبين أو الفاعلين، وما يقتضيه حال الفعل؛ وهو محتاج إلى الدلالة عليه، لأنه من تمام الإفادة، وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة من كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء منها، فليس من جنس كلام العرب؛ فإن كلامهم واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة.إلا ترى أن قولهم: (زيد جاءني) مغاير لقولهم (جاءني زيد) من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم. فمن قال: جاءني زيد، أفاد أن اهتمامه بالمجيء، قبل الشخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني، أفاد أن اهتمامه بالشخص، قبل المجيء المسند. وكذا التعبير عن أجزاء الجملة، بما يناسب المقام، من موصول أو مبهم أو معرفة. وكذا تأكيد الإسناد على الجملة، كقولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم؛ متغايرة كلها في الدلالة، وإن استوت من طريق الإعراب؛ فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن، والثاني المؤكد بـ (إن) يفيد المتردد، والثالث يفيد المنكر، فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرجل، ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه، وانه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية، وهي التي لها خارج تطابقه أولاً، وإنشائية وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه. ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذ كان للثانية محل من الإعراب: فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتاً أو توكيداً أو بدلاً بلا عطف، أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب أو الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفظ ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفرداً، كما تقول: زيد أسد، فلا تريد حقيقة الاسد لمنطوقه، وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد، وتسمى هذه استعارة.وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه، كما تقول: زيد كثير رماد القدور،وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف، أن كثرة الرماد ناشئة عنهما، فهي دالة عليهما. وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب، وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيئات والأحوال والمقامات، وجعل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال، التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال، ويسمى علم البلاغة؛ والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه وسمى علم البيان. وألحقوا بهما صنفاً آخر، وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إما بسجع يفصله؛ أو تجنيس يشابه بين ألفاظه؛ أو ترصيع يقطع أوزانه؛ أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد، وأمثال ذلك، ويسمى عندهم علم البديع.وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان، وهو اسم الصنف الثاني؛لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه. ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم!تزل مسائل الفن تكمل شيئاًً فشيئاً إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه، على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان، فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. وأخذه المتأخرون من كتابه، ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد، كما فعله السكاكي في كتاب التبيان، وابن مالك في كتاب المصباح، وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص، وهو اصغر حجماً من الإيضاح، والعناية به لهذا العهد، عند أهل المشرق، في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة، وسببه والله أعلم إنه كمالي في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله. وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وفرعوا له ألقاباً وعددوا أبواباً ونوعوا أنواعاً. وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب،وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأن علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق، وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من اهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة؛ وهي أعلى مراتب الكمال، مع الكلام فيما يختص بالألفاظ، في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها، وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر فوقه.فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك، لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه، حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من أعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة، مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة، حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب، للظفر بشيء من الإعجاز، مع السلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
علم الأدب: هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطبقة وسجع متساوٍ في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو، مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية؛ مع ذكر بعض من أيام العرب،يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه.ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية؛ فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم، ليكون قائماً على فهمها. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي
القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبغ لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن، لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به، حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة. وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني وهو ما هو، كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صولت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم، في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها. ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. والله الهادي للصواب.
الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان، للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر الى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة، للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال
أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم؛ كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم.هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال.وهذا هو معني ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم. ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الاعاجم. وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضاً؛ فاختلط عليه الامر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي.ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين أمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. والله سبحانه وتعالى اعلم وبه التوفيق.
الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر ولغة حمير وذلك أنا نجذها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري،ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول؛ فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال- ويسمى بساط الحال- محتاجاً إلى ما يدل عليه. وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه، فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته، وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات، في تراكيب الألفاظ وتأليفها، من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب. وقد يدل عليها بالحروف، غير المستقلة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلد الكيفيات كما قدمناه، فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع الألسن.وهذا معنى قوله: <<أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً>>. واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة: "أني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم والمعنى واحد". فقال له: إن معانيها مختلفة، فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد، والثاني: لمن سمعه فتردد فيه، والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال.وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن
اللسان العربي فسد، اعتباراً بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم؛ وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطباتهم، وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعاً معروفاً وهو الإعراب، وهو بعض من أحكام اللسان. وإنما وقعت العناية بلسان مضر، لما فسد بمخالطتهم الاعاجم، حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً، فانقلب لغة أخرى.وكان القرآن منزلاً به والحديث النبوي منقولاً بلغته وهما أصلا الدين والملة، فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به؛ فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه. وصار علماً ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سماه أهله بعلم النحو، وصناعة العربية؛ فاصبح فناً محفوظاً وعلماً مكتوباً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله راقياً. ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية التي فسدت في دلالتها بأمور أخرى وكيفيات موجودة فيه؛ فتكون لها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره غلى غير المنهاج الأول في لغة مضر، فليست اللغات وملكاتها مجاناً.ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق (القيل) في اللسان الحميري انه من القول وكثير من أشباه هذا، وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر؛ إلا أن العناية بلسان مضر، من أجل الشريعة كما قلناه، حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد، حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف؛ فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية، أنه من أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضاً من مخرج الكاف، وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف، وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق؛ حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم وأجيال ومختصاً بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التعرف والانتساب إلى الجيل والدخول فيها يحاكيهم في النطق بها. وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القافي. ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها، فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقاً وغرباً في ولد منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد اكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر، وسائر الجيل معهم من بني كهلان، في النطق بهذه القاف، أسوة. وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة، ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين، ولعلها لغة النبي بعينها. وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أن من قرأ في أم القرآن (اهدنا الصراط المستقيم ) بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاته، ولم أدر من أين جاء هذا؛ فإن أهل الأمصار أيضاً لم يستحدثوها، وإنما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الامصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضاً لم يستحدثوها، إلا انهم أبعد من مخالطة الاعاجم من أهل الامصار. فهذا يرجح، فيما يوجد من اللغة لديهم، أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقاً وغرباً في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري. والظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، وأن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك وآخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الامصار؛ والنطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. وبهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن؛ فأن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه، شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، وأنها لغة النبي . ويرجح ذلك أيضاً إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وجهي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنها حرف مستقل، وهو بعيد. والظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه واستقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. وفيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلاً بعد جيل، وأنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، ولغة النبي كما تقدم ذلك كله. وقد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، وأنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنهم ينطقون بها كذلك؛ فليست من لغة العرب. ولكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. والله الهادي المبين.
الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر إعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل؛ بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد.فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيها من التغاير الذي بعد عن صناعة أهل النحو لحناً. وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم؛ فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الاندلس معهما، وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه. وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد.وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل؛ فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق. اما إفريقية والمغرب، فخالطت العرب فيها البرابرة
العجم بوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل؛ فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد. وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع؛ ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً كما نذكره، وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدر.
الفصل التاسع والأربعون في تعلم اللسان المضري إعلم أن ملكة اللسان المضري، لهذا العهد، قد ذهبت وفسدت. ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن، وإنما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكناً، شأن سائر الملكات. ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم؛ حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم؛ ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من
أساليبهم وترتيب ألفاظهم؛ فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة. ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال. والذوق يشهد بذلك، وهو ينشا ما بين هذه الملكة والطبع السليم فيهما كما يذكر بعد. وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً. ومن حصل على هذه الملكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه.
الفصل الخمسون في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية، لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط، في خرت الإبرة، ثم تغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، وتخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم تردها إلى حيث ابتدأت، وتخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقين الأولين؛ ثم يتمادى على وصفه إلى آخر العمل، ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها. وهو إذا طولب ان يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً.وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه، وآخر
قبالتك ممسك بطرفه الاخر وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه.وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده ، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.فمن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم؛ فكان فيه " جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، قد حصل على خط من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم؛ فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون انهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها اقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم؛ فيسبق إلى المبتدىء كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.وأما من سواهم من اهل المغرب وإفريقية وغيرهم؛ فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب؛ إلا إن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكلية، وكأنهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم؛ لكنهم اجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علماً بحتاً وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ما قررناه في هذا الباب، أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه. ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدر الامور كلها، والله أعلم بالغيب.
الفصل الحادي والخمسون في تفسير لفظة الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنها لا تحصل غالباً للمستعربين من العجم إعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان. وقد مر تفسير البلاغة، وأنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده؛ فإذا اتصلت معاناته لذلك بمخالطة كلام العرب، حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب؛ وإن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى، مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل. ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً وبلاغة أمر طبيعي. وبقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادىء الرأي أنها جبلة وطبع.وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في صفها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ الى وجود النظم
وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية؛ فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد ومثاله: لو فرضنا صبياً من صبيانهم، نشأ وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها، حتى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك، بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أحيائهم. والقوانين بمعزل عن هذا. واستعير لهذه الملكة، عندما ترسخ وتستقر، اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها اسمه. وأيضا فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له؛ فقيل له ذوق. وإذا تبين لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها؛ لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الامصار، وبعدوا عنها كما"تقدم. وإنما لهم في
ذلك ملكة أخرى وليست هذه ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب، فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها كما عرفت. وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً مع حصول هذه الملكة لهم، فاعلم أن أولئك القوم الذين نسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط. أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراءها؛ وكأنهم في أول نشأتهم بمنزلة الأصاغر من العرب الذين نشأوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها. فهم وإن كانوا عجماً في النسب فليسوا بأعاجم في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منها ولا من أهل الأمصار. ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته.واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة؛ وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والخمسون في أن أهل الأمصار علي الإطلاق قاصرون فم تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم، من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة، بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة، حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم، وليس كذلك، وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك. وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المصرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. واعتبر ذلك في أهل الأمصار.فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده، أعلمني أبو سعيد كلاماً أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلاً، ليس من هذا حرفاً واحداً. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله. وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري، وسببه ما ذكرنا. وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك، لهذا العهد. ولهذا ما كان بإفريقية من
مشاهير الشعراء، إلا ابن رشيق وابن شرفي. وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن ماثلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتها وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظماً ونثراً. وكان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها، وابن عبد ربه والقسطلي وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف؛ لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية. وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض.وكان من آخرهم صالح بن شريف، ومالك بن المرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكانت دولة بني الاحمر في أولها. وألقت الأندلس أفلاذ كبدها، من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة، من عدوة إشبيلية إلى سبتة، ومن شرق الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة، لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم، بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية، وهي منافية لما قلناه.ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت، ونجم بها ابن بشرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم؛ ثم إبراهيم الساحلي الطويجن وطبقته، وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيداً بسعاية أعدائه. وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالاندلس أكثر، وتعليمها أيسر وأسهل، بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة، وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية؛ فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الاندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية؛ فكان شـأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة وإجادتها، لبعدهم لذلك العهد عن الاعاجم ومخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم، وكان فحول الشعراء والكتاب لعهدهم أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق.وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم، وملتهم العربية وسير نبيهم لمجز وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكماً في المشرق في الدولتين، وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب ودرست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم، وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم. وذلك في دولة الديلم والسلجوقية. وخالطوا أهل الأمصار وكثروهم فامتلأت الارض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته، وصار متعلمها منهم مقصراً عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور، وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر إعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنين في الشعر المنظوم، وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحدٍ من وهو القافية. وفي النثر وهو الكلام غير الموزون، وكل واحدٍ من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأما الشعر، فمنه المدح والهجاء والرثاء. وأما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعاً، ويلتزم في كل كلمتين منه قافيةٌ واحدة ٌيسمى سجعاً؛ ومنه المرسل، وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقاً ولا يقطع أجزاءً، بل يرسل إرسالاً من غير تقييدٍ بقافيةٍ ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم.وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقاً ولا مسجعاً. بل تفصيل آياتٍ ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافيةً، وهو معنى قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم }[سورة000الآية000] وقال: {قد فضلنا الآيات }[سورة000الآية000]. وتسمى آخر الآيات فيه فواصل، إذ ليست أسجاعاً، ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضاً قواف. وأطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه، واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا، ولهذا سميت السبع المثاني.وانظر هذا ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني، يشهد لك الحق برحجان ما قلناه.واعلم أن لكل واحدٍ من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه، مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة
الأسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصاً أهل المشرق. وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جاريةً على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صوابٍ من جهة البلاغة، لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطب والمخاطب.وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر، فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه؛ إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف وضرب الامثال وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب. والتزام التقفية أيضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السلطانية الترسل، وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثباتٍ أو تصريحٍ أو إشارةٍ وكنايةٍ واستعارةٍ.وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة علي ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال؛ فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته. وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع
والألقاب البديعية، ويغفلون عفا سوى ذلك. واكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر انحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة، لا يجتمعان معها؛ فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأفل ذلك وانتقد بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب، بمنه وكرمه، والله تعالى أعلم. الفصل الرابع والخمسون في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم والمنثور معاً إلا للأقل والسبب في ذلك أنه كما بيناه ملكةٌ في اللسان؛ فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى، قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن قبول الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر. وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعةً لها في المدة القابلة وعائقةً عن سرعة القبول، فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة. وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. وقد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات، فإنها ملكات اللسان، وهي بمنزلة الصناعة. وانظر من تقدم له شيء من العجمة، كيف يكون قاصراً في اللسان العربي أبداً. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي علي ملكة اللسان العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمه وعلمه. وكذا البربري والرومي الإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان
العربي. وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر، حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي ومن كتبهم جاء مقصراً في معارفه عن الغاية والتحصيل، وما أتى إلا من قبل اللسان. وقد تقدم لك من قبل أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع. وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم. وإن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية. والله خلقكم وما تعلمون.
الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم، ويوجد في سائر اللغات؛ إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم، وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفضل قطعاً قطعاً، متساويةً في الوزن، متحدةً في الحرف الأخير من كل قطعة. وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً؛ ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه روياً وقافيةً؛ ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدةً وكلمةً. وينفرد كل بيتٍ منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبلة وما بعده. وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدحٍ تشبيتٍ أو رثاءٍ؛ فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك، ويسترد للخروج من فنٍ إلى فنٍ ومن مقصودٍ إلى مقصودٍ، بأن يوطيّء المقصود الأول ومعانيه، إلى أن يناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من التسشبيت إلى المدح؛ ومن وصف البيداء والطلول، إلى وصف الركاب أو الخيل أو
الطيف؛ ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره؛ ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأبين وأمثال ذلك.ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزنٍ الى وزنٍ يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. وليس كل وزنٍ يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحراً، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً.واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة.والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه؛ فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب، ويبرزه مستقلاً بنفسه. ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت آخر، ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعضٍ بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محّكا للقرائح في استجادة أساليبه، وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها وباستعمالها فيه.ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب؛ ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان؛ ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية؛ وإنما ترجع إلى صورة ذهنيا للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان؛ فيرضها فيه رصاً، كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه، كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على انحاء مختلفة، فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله:"يا دار مية بالعليا فالسند".ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله:"قفا نسأل الدار التي خف أهلها".أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله:"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ".أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله:"ألم تسأل فتخبرك الرسوم ".ومثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله:"حي الديار بجانب الغزل ".أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
- أسقي طلولهم أجش هذيــــم وغدت عليهم نضرة ونعيـــــــــــم
أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله:
- يا برق طالع منزلاً بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينــــــــــق
أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله:
- كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:"أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي "أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
- منابت العشب لا حامٍ ولا راعٍٍ مضى الردى بطويل الرمحِ والباعِ
أو بالإنكارِ على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
- أيا شجر الخابور ما لك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريفِ
أو بتهنئة فريقهِ بالراحة من ثقل وطأتهِ كقوله:
- ألقى الرماح ربيعةُ بن نزارِ أودى الردى بقريعك المغوارِ
وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه. وتنتظم التراكيب فيه بالجمل
وغير الجمل، إنشائيةً وخبريةً، إسميةً أو فعليةً، متفقةً وغير متفقة، مفصولةً وموصولةً؛ على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في مكان كل كلمةٍ من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب، من القالب الكلي المجرد في الذهن، من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناءِ أو النساجِ، والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالبِ الذي يبني فيه أو المنوالِ الذي ينسج عليهِ. فإن خرج عن القالب في بنائه أو على
المنوالِ في نسجهِ كان فاسداً. ولا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنا نقول: قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية وقياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس. وهو قياس علمي صحيح مطرد، كما هو قياس القوانين الإعرابية. وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شئ إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها؛ فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه. وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه. وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم، تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو، وبهذه الأساليب الذهنية، التي تصير كالقوالب، كان نظراً في المستعمل من تراكيبهم، لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن، إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين، وجاءوا به مفصلاً في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة، واستقلال الكلام في كل قطعة، وفي المنثور، يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالباً، وقد يقيدونه بالأسجاع. وقد يرسلونه، وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلق الكلام عليه تأليفه، ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم، حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية، قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البناءُ على القالب، والنساج على المنوال. فلهذا كان من تأليف الكلام منفرداً عن نظر النحوي والبياني والعروضي. نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر، لطيفِ في هذه القوالب، التي يسفونها أساليب. ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً. وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو، فلنذكر بعده حداً أو رسماً للشعر يفهمنا حقيقته على صعوبة هذا الغرض. فإنا لم نقف عليه لأحدٍ من المتقدمين فيما رأيناه.وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى، ليس بحدٍ لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسمٍ له. وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي، ومماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. وذلك نظر في وزنٍ مجدد عن الألفاظ ودلالتها؛ فناسب أن يكون حّدا عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريفٍ يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه، فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل؛ وقولنا مستقل كل جزءٍ منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة، لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك، ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به، فصل له عما لم يجرمنه على أساليب الشعر المعروفة؛ فإنه حينئذٍ لا يكون شعراً إنما هو كلائم منظوم، لان الشعر له أساليب تخصه، لا تكون للمنثور. وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب، فلا يسمى شعراً. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعرفي ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم، عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب ولغيرهم. ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا يحتاج إلى ذلك، ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر، فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: إعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطاً، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها؛ ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية. ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر ردئ ، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقشت أسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورةً. ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا من المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه.قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر، وفي هواء الجمام. وربما قالوا إن من بواعثه العشق والانتشاء، ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة، وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه الى وقت آخر، ولا يكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه يضعها، ويبني الكلام عليها إلى آخره، لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرةً قلقةً، وإذا سمح الخاطر بالبيت، ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به؛ فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها ما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره، إذ هو نبات فكره واختراع قريحته، ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها، فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة.وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعةٍ منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده. وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقاً على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً، واستعمل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبيء والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هو الذوق. وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماع فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده؛ فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال. وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. وهذه نبذةٌ كافيةٌ والله المعين. وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق:
- لعن الله صنعة الشعر مـــــــــاذا من صنوف الجهال فيها لقينا
- يؤثرون الغريب منه على مـــــا كان سهلاً للسامعين مبينـــــــا
- ويرون المحال معنى صحيحــــاً وخسيس الكلام شيئاً ثمينــــــاً
- يجهلون الصواب منه ولا يـــــد رون للجهل أنهم يجهلونــــــــا
- فهم عند من سوانا يلامـــــــــــو ن وفي الحق عندنا يعذرونـــا
- إنما الشعر ما يناسب في النظم وإن كان في الصفات فنونـــا
- فأتى بعضهُ يشاكلُ بعضــــــــــــــــــاً وأقامت له الصدور المتونــــا
- كل معنى أتاك منه على مـــــــــــــــا تتمنى لو لم يكن أو يكونــــــا
- فتناهى من البيان إلـــــــــــــــــــى أن كاد حسنا يبين للناظرينـــــــــا
- فكان الألفاظ منه وجــــــــــــــــــــوه والمعاني ركبن فيه عيونــــــا
- قائماً في المرام حسب الأمانـــــــــي يتحلى بحسنه المنشدونـــــــــا
- فإذا ما مدحت بالشعر حــــــــــــــّرا رمت فيه مذاهب المشتهينــــا
- فجعلت النسيب سهلاً قريبـــــــــــــاً وجعلت المديح صدقاً مبيـــــنا
- وتنكبت ما تهجن في السمــــــــــــع وإن كان لفظه موزونـــــــــــا
- وإذا ما قرضته بهجــــــــــــــــــــاء عبت فيه مذاهب المرقبينــــــا
- فجعلت التصريح منـــــــــــــه دواء وجعلت التعريض داء دفينـــا
- وإذا ما بكيت فيه على الغـــــــــــــا دين يوماً للبين والظاعنينــــــا
- حلت دون الأسى وذللت ما كــــان من الدمع في العيون مصونــا
- ثم إن كنت عاتباً جئت بالوعـــــــد وعيداً وبالصعوبة لينـــــــــــــا
- فتركت الذي عتبت عليـــــــــــــــه حذراً، آمناً، عزيزاً، مهينـــــــا
- وأصح القريض ما فات في النظم وإن كان واضحاً مستبينـــــــــا
- فإذا قيل أطمع الناس طـــــــــــــرا وإذا ريم اعجز المعجزينــــــــا
ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي:
- الشعر ما قومت ربع صـــــدوره وشددت بالتهذيب أس متونــه
- ورأيت بالإطناب شعب صدوعه وفتحت بالإيجاز عور عيونه
- وجمعت بين قريبه وبعيــــــــــده وجمعت بين مجمه ومعينــــــــه
- وعمدت منه سحد أمر يقتضـــى شبها به فقرينه بقرينـــــــــــــــه
- وإذا مدحت به جواداً ماجــــــــداً وقضيته بالشكر حق ديونــــــــه
- أصفيته بنفيسه ورصينــــــــــــه وخصصته بخطيره وثمينـــــــه
- فيكون جزلاً في مساق صنوفـه ويكون سهلاً في اتفاق فنونـــه
- وإذا بكيت به الديار وأهلهـــــــا أجريت للمحزون ماء شئونـــه
- وإذا أردت كناية عن ريبــــــــة باينت بين ظهوره وبطونــــــه
- فجعلت سامعه يشوب شكوكـــه بثنائه وظنونه بيقينــــــــــــــــه
- وإذا عتبت علم أخٍ في زلـــــــةٍ أدمجت شدته له في لينــــــــــه
- فتركته مستأنساً بدماثـــــــــــــة مستأمناً لوعوته وحزونـــــــــه
- وإذا نبذت إلى الذي علقتهــــــا إذ صارمتك بفاتنات شؤونـــه
- تيمتها بلطيفه ورقيقـــــــــــــــه وشغفتها بخبيه وكمينــــــــــــه
- وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها وأشكت بين مخيله ومبينــــــه
- فيحول ذنبك عند من يعتــــده عتباً عليه مطالباً بيمينــــــــــه
الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إعلم أن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر
إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجريه على لسانه، حتى تستقر له الملكة في لسان مضر، ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله، ويفرض نفسه، مثل وليدٍ نشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي، حتى يصير كأنه واحدً منهم في لسانهم. وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات، والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر. وأيضاً فالمعاني موجودة عند كل واحدٍ وفي طوع كل فكرمنها ما يشاء ويرضى؛ فلا تحتاج إلى تكلف صناعةٍ في تأليفها. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحدُ في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها؛ وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه، على مقتضى ملكة اللسان، إذا حاول العبارة عن مقصوده، ولم يحسن، بمثابة المقعد، الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، لفقدان القدرة عليه. والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان العربي؛ وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانىء أو الشريف الرضي؛ أو رسائلى ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابىء؛ تكون ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة، ممن يحفظ أشعار المتأخرين مثل شعر ابن سهل أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني، لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك. يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات.واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها. والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمنة بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانيا وكذا سائرها. وللنفس في كل واحدٍ منها لون تتكيف به
وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جود؛ أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام، ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كفهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلىء به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة، لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة، فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلىء من حفظ النقي الحر من كلام العرب.أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال:ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبى الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم انسبها له وهو هذا:
- لم أدر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؛ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي.وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك، لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم له الجيد من الكلام.ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام، من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً. وإنما أتيت، والله أعلم بحقيقة الحال، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في
القراءات والرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس؛ فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلى ساعة متعجباً ثم قال: لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك ؟.ويظهر لك من هذا الفصل، وما تقرر فيه سر آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان في الرمة والأحوص وبشابى، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الاموية وصدراً من الدولة العباسية، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم. والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة.والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم؛ فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها؛ فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والبصر بالبلاغة.ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، وكان شيخ هذا الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين، واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه؛ فسألته يوماً: ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين؛ ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلاً ثم قال لي: والله ما أدري ! فقلت له: أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً، ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم. والله خلق الإنسان وعلمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله إعلم أن الكلام الذي هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه في إفادة المعنى. وأما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشروط والأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. وتلك الشروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد بالإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام جل قوانين العربية. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمارٍ وإظهارٍ، وتقييدٍ وإطلاقٍ وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون
البلاغة. فتندرج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصراً عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأن التركيب يدل بالوضع على معنى، ثم ينتقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه؛ فيكون فيها مجازاً: إما باستعارةٍ أو كنايةٍ كما هو مقرر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة وأشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضاً شروط وأحكام كالقوانين صيروها صناعة، وسموها بالبيان. وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى احوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. واللفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربياً، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي وسجيته وروحه وطبيعته. ثم إعلم أنهم إذا قالوا: "الكلام المطبوع " فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادةً تامةً، ويدل به عليه دلالةً وثيقةً. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه
بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، والمطابقة بين المتضادات، ليقع "التجانس بين الألفاظ والمعاني، فيحصل للكلام رونق ولذة في الأسماع وحلاوةٌ وجمالٌ كلها زائدةٌ على الإفادة.وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعددة مثل: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى}[سورة000الآية000]، ومثل: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى}[سورة000الآية000]، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا}[سورة000الآية000] إلى آخر الآية. وكذا: (هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً). وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفواً من غير قصدٍ ولا تعمدٍ. ويقال إنه وقع في شعر زهير.
وأما الإسلاميون فوقع لهم عفواً وقصداً، وأتوا منه بالعجائب. وأول من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتري ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل إن أول من ذهب إلى معاناتها بشار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثارهم حبيب والبحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصناعة أجمع. ولنذكر مثالاً من المطبوع الخالي من الصناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
- وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
وقول كثير:
- وإني وتهيامي بعزة بعدمـــــا تخليت عما بيننا وتخلــــــــــــــــت
- لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلــــــــــــت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت
فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسناً.
وأما المصنوع فكثير من لدن بشار، ثم حبيب وطبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم. وقد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، وأنها هي تعطي التحسين والرونق. وأما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطاً، منها أن تقع من غير تكلفٍ ولا اكتراثٍ في ما يقصد منها. وأما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من غيب الاستهجان، لأن تكلفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأساً ولا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر وأصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، وكان من أهل البصر في اللسان والقريحة في ذوقه يقول:إن من أشهى ما تقترحه علي نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشد العقوبة، ونودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، ويتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين ثم ثلاثةٍ من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من
محسنات الكلام ومزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية والإسلام. وكان أولاً مرسلاً معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلالٍ الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتقفية وأتى بذلك بالعجب. وعاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. وإنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات والأخوانيات والعربيات بالسوقيات. واختلط المرعي بالهمل. وهذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الاكتراث فيه بأصل البلاغة، والحاكم في ذلك الذوق. الله خلقكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع والخمسون في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر إعلم أن الشعر كان ديواناً للعرب، فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كل واحدٍ منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر، لتمييز حوكه. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم إبراهيم؛ كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة، والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها، من كان له قدرة
على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر، على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام، بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً. ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي وأثاب عليه، فرجعوا حينئذٍ إلى ديدنهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيما عاليةٌ وطبقةٌ مرتفعةٌ، وكان كثيراً ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجباً به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدولة العزيزة، وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم، يطلعون منها على الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل الشأن هذا أيام بني أمية وصدراً من دولة بني العباس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي، في باب الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك، والرسوخ فيه والعناية بانتحاله، والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم، من اجل العجمة وتقصيرها باللسان، وأنما تعلموه صناعة، ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط، لا سوى ذلك من الأغراض، كما فعله حبيب والبحتري والمتنبي وابن هانىء ومن بعدهم إلى هلم جرًّا فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو للكدية والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين، كما ذكرناه آنفاً. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين، وتغير الحال فيه وأ صبح تعاطيه هجنةً في الرئاسة ومذمةً؛ لأهل المناصب الكبيرة. والله مقلب الليل والنهار.
الفصل الستون
في أشعار العرب وأهل الأمصال لهذا العهد
إعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغةٍ، سواء
كانت عربيةً أو عجميةً. وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق: أوميروس الشاعر وأثنى عليه. وكان في حمير أيضاً شعراء متقدمون. ولما فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين إعرابها، وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة؛ فكان لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة، وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات. وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف، وخالفت أيضاً لغة الجيل من العرب لهذا العهد. واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق، فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره، وتخالفهما أيضاً لغة أهل الأندلس وأمصاره.ثم لما كان الشعر موجوداً بالطبع في أهل كل لسان، لأن الموازين على نسبةٍ واحدةٍ في إعداد المتحركات والسواكن وتقابلها، موجودة في طباع البشر؛ فلم يهجر الشعر بفقدان لغةٍ واحدةٍ؛ وهي لغة مضر؛ الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه، حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيلٍ وأهل كل لغةٍ من العرب المستعجمين والحضر اهل الامصار، يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب، أهل هذا الجيل، المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض، على ما كان عليه سلفهم المستعربون، ويأتون منه بالمطولات مشتملة
على مذاهب الشعر وأعراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء، ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم. وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر، ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات، نسبةً إلى الأصمعي، راوية العرب في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحوراني والقيسى، وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطةً، لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به، ويسمون الغناء به باسم الحوراني ، نسبةً إلى حوران من أطراف العراق والشام، وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد.ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصباً على أربعة أجزاءٍ، يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة؛ شبيهاً بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة؛ وفيهم الفحول والمتأخرون عن ذلك، والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد، وخصوصاً علم اللسان؛ يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها. وهذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم. فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره؛ وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة، إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه، سواء كان الرفع دالا على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس. وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام، كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة: فإذا عرف اصطلاح في ملكةٍ واشتهر صحة الدلالة؛ وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة. ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم؛ فإن غالب كلماتهم موقوفة الاخر. ويتميز
عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب. فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحانٍ، ويذكر ظعنها مع قومها الى المغرب:
- قال الشريف ابن هاشم علي # يغز للأعلام أين ما رأت خاطري
- وماذا شكاة الروح مما طرا لها
- يحس إن قطاع عامر ضميرها
- وعادت كما خوارة في يد غاسل #تجابذوها اثنين والنزع بينهم
# وباتت دموع العين ذارفات لشانها #تدارك منها النجم حذراً وزادها #يصب من القيعان من جانب الصفا
- هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة
# ونادى المنادي بالرحيل وشدوا # وشد لها الأدهم دياب بن غانم
ترى كبدي حرى شكت من زفيرها يرد غلام البدو يلوي عصيرها
عداة وزائع تلف الله خبيرها
طوى وهند جافي ذكيرها على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها على شوك لعه والبقايا جريرها
شبيه دوار السواني يديرها مرون يجي متراكباً من صبيرها
عيون ولجاز البرق في غزيرها
ناضت من بغداد حتى فقيرها وعرج عاريها على مستعيرها
على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
وقال لهم حسن بن سرحان غربوا وسوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
- ويركض وبيده شهامه بالتسامح وباليمين لا يجدوا في مغيرها
- غدرني زيان السيح من عابس وما كان يرضى زين حمير وميرها
- غدرني وهو زعماً صديقي وصاحبي وأناليه ما من درقتي ما يديرها
- ورجع يقول لهم بلال بن هاشم بحر البلاد العطشى ما بخيرها
- حرام علي باب بغداد وأرضها داخل ولا عائد ركيزه من نعيرها
- تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم على الشمس أو حول الغظا من هجيرها
- وباتت نيران العذارى قوادح يلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بافريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكم:
- تقول فتاة الحي سعدى وهاضهـــا لها في ظعون الباكرين عويلُ
- أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفـــة خذ النعت مني لا تكون هبيــلُ
- تراه يعالي وادي ران وفوقـــــــــه من الربط عيساوي بناه طويلُ
- أراه يميل النور من شارع النقـــــا به الواد شرقاً واليراع دليـــــلُ
- أيا لهف كبدي على الزناتي خليفـه قد كان لأعقاب الجياد سليـــلُ
- قتيل فتى الهيجا دياب بن غانـــــم جراحه كأفواه المزاد تسيـــــلُ
- أيا جائزاً مات الزناتي خليفــــــــه لا ترحل إلا أن يريد رحيـــلُ
- ألا واش رحلنا ثلاثين مـــــــــــرةً وعشراً وستا في النهار قليــلُ
ومن قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتاباً وقع بينه وبين ماضي بن مقرب:
- تبدى ماضي الجبار وقال لـــــــــــي
- أشكر أعد ما بقي ود بيننـــــــــــــــا
- نحن غدينا نصدفو ما قضى لنــــــا
- أشكر أعد إلى يزيد ملامــــــــــــــه
- إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم
أشكر ما نحنا عليك رضــــــاشِ ورانا عريب عربا لابسين نماشِ كما صادفت طعم الزباد طشـاشِ
ليحدو ومن عمر بلاده عـــــاشِ
هنا العرب ما زدنا لهن صيـــاشِ
ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه:
- وأي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم وأي رجال ضاع قبلي جميلها
- لقد كنت أنا وباه في زهو بيتنــــا عناني بحجة وغباني دليلهـــــــــا
- وعدت كأني شارب من مدامــــةٍ من الخمر فهو ما قدر من يميلهــا
- أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريباً وهي مدوخه عن قبيلهـــــــا
- أتاها زمان السوء حتى تدوحـت وهي بين عرباً غافلا عن نزيلهـــا
- كذلك أنا مما لحاني من الوجـــى شاكي بكبد باديتها زعيلهـــــــــــــا
- وأمرت قومي بالرحيل وبكـــروا وقووا وشداد الحوايا حميلهــــــــــا
- قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنـــا والبدو ما ترفع عمود يقيلهــــــــــا
- نظل على حداب الثنايا نـــوازي يظل الجري فوق النضا ونصيلها
ومن شعر سلطان بن مطفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح وأهل الرياسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين:
- يقول وفي بوح الدجا بعد وهنـــــة حرام على أجفان عيني منامهــــــــــا
- يا من لقلب حالف الوجد والأســـى وروح هيامي طال ما في سقامهــــــا
- حجازية بدوية عربيـــــــــــــــــــــة عداوية ولها بعيد مرامهــــــــــــــــــــا
- مولعة بالبدو لا تالف القـــــــــــرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامهـــــــا
- غيات ومشتاها بها كل شتــــــــــوة ممحونة بيها وبيها صحيح غرامهــــا
- ومرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخور الخلايا جسامهـــــــا
- تشوق شوق العين مما تداركـــــــت عليها من السحب السواري عمامهــــا
- وماذا بكت بالما وماذا تناحطــــــت عيون غزار المزن عذبا حمامهــــــــا
- كان عروس البكر لاحت تيابهــــــا عليها ومن نور الأقاحي خزامهـــــــا
- فلاة ودهنا واتساع ومنــــــــــــــــة ومرعى سوى ما في مراعي نعامها
- ومشروبها من مخض ألبان شولها غنيم ومن لحم الجوازي طعامها
- تفانت عن الأبواب والموقف الـــــــــذي يشيب الفتى مما يقاسي زحامهـــــــا
- سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيــــــــا وبلا ويحيى ما بلي من رمامهـــــــا
- فكافأتها بالود مني وليتنــــــــــــــــــــــي ظفرت بأيام مضت في ركامهـــــــا
- ليالي أقواس الصبا في سواعـــــــــــــدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامهـــا
- وفرسي عديد تحت سرجي مشاقـــــــــة زمان الصبا سرجاً وبيدي لجامهـــا
- وكم من رداح أسهرتني ولــــــــــم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامهــا
- وكم غيرها من كاعب مرجحنـــــــــــة مطرزة الأجفان باهي وشامهــــــــا
- وصفقت من وجدي عليها طريحــــــة بكفي ولم ينسى جداها ذمامهــــــــا
- ونار بخطب الوجد توهج في الحشــــا وتوهج لا يطفا من الماء ضرامهـا
- أيا من وعدتى الوعد هذا إلى متـــــــى فني العمر في دار عماني ظلامهـا
- ولكن رأيت الشمس تكسف ساعــــــــةً ويغمى عليها ثم يبدأ غيامهمــــــــا
- بنود ورايات من السعد أقبــــــــــــــلت إلينا بعون الله يهفو علامهـــــــــــا
- أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتـــي ورمحي على كتفي وسيري أمامها
- بجرعا عتاق النوق من فوق شامـــس أحب بلاد الله عندي حشامهــــــــــا
- إلى منزل بالجعفرية ّلّلــــــوى مقيم بها ما لذ عند ى مقامهـــــــــــــا
- ونلقى سراة من هلال بن عامــــــــــر يزيل الصدا والغل عني سلامهـــا
- بهم تضرب الأمثال شرقاً ومغربــــاً إذا قاتلوا قوماً سريع انهزامهـــــــا
- عليهم ومن هو في حماهم تحيــــــــة مدى الدهر ما غنى يفينا حمامهـــا
- فدع ذا ولا تأسف على سالف مضى فذي الدنيا ما دامت لأحد دوامهــــا
ومن أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر، شيخ الكعوب، ومن
أولاد أبي الليل، يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل، عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
- يقول وذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعاني صعابها
- يريح بها حادي المصاب إذا سعــى فنونا من إنشاد القوافي عذابهــا
- محيرة مختارة من نشادهــــــــــــــا تحدى بها تام الوشا ملتهابهـــــا
- مغربلة عن ناقد في غضونهــــــــا محكمة القيعان دابي ودابهـــــا
- وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل وهذي جوابها
- أشبل جنينا من حباك طرائفـــــــــا فراح يريح الموجعين الغنا بها
- فخرت ولم تقصر ولا أنت عـــــــادم
- لقولك في أم المتين بني حمـــــــــــزةٍ
- أما تعلم أنه قد قامها بعدما لقـــــــــي
- شهاباً من أهل الأمر يا شبل خارق # سواها طفاها أضرمت بعد طفيه #وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحــت
- وبان لوالي الأمر في ذا انشحابهــــــا
- كما كان هو يطلب على ذا تجنبـــــت
سوى قلص في جمهورها ما أعابها وحامى حماها عاديا في حرابهــــــــــــــا
رصاص بني يحيى وغلاق دابهـــــــــــا وهل ريت من جا للوغى واصطلى بها واثنى طفاها جاسراً لا يهابهــــــــــــــــــا
لفاس إلى بيت المنى يقتدى بهــــــــــــــا
فصار وهي عن كبر الأسنة تهابها رجال بثي كعب الذي يتقي بهــــــــــــــــا
ومنا في العتاب:
- وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأننــــــي غنيت بمعلاق الثنا واغتصابهـا
- علي ونا ندفع بها كل مبضــــــع بأسياف ننتاش العدا من رقابها
- فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابهــا
- ولا بعدها الإرهاف وذبل ورزق كالسنة الحناش انسلابهـــــــــــا
- بني عمنا ما نرتضي الذل غلمـه تسير السبايا والمطايا ركابهــا
- وهي عالماً بان المنايا تنيلهـــــــا بلا شك والدنيا سريع انقلابهـا
ومنها في وصف الظعائن:
- قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها
- ترى العين فيها قل لشبل عرائف وكل مهاةٍ محتظيها ربابهــــــــــــــا
- ترى أهلها غب الصباح أن يفلهـا بكل حلوب الجوف ما سدَّ بابهــــــا
- لها كل يوم في الأرامي قتائــــــل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
ومن قولهم في الأمثال الحكمية:
- وطلبك في الممنوع منك سفاهـة وصدك عمن صد عنك صواب
- إذا رأيت أناساً يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله بــــــاب
ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
- الشيب وشبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها
ومن قول خالدٍ يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمدٍ بن تافراكين المستبد بححابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا:
- يقول بلا جهل لتى الجود خالــــــــــــدُ
- مقالة حبر ذات ذهن ولم يكــــــــــــــن
- تهجست معنا نابها لا لحاجـــــــــــــــةٍ
- وكنت بها كبدي وهي نعم صابــــــــة
- تفوهت بادي شرحها عن مــــــــآرب
- بنى كعب أدنى الأقربين لدمنـــــــــــتا
- جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم # وبعضهم ملنا له عن خصيمــــــــــه
- وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا # وبعضهمو جانا جريحاً تسمحت #وبعضهمو نظار فينا بســـــــــــــــَّوةٍ
- رجع ينتهي مما سفهنا قبيحــــــــــه
- وبعضهمو شاكي من أوغاد قــــادر
- فصمناه عنه وأقتضي منه مــــورد
- ونحن على دافى المدى نطلب العلا # وحزنا حمى وطن بترشيش بعدمـــــا
- ومهد من الأملاك ما كانا خارجــــــاً
- بردع قروم من قروم قبيلنـــــــــــــــا
- جرينا بهم عن كل تأليف في العــــدا
- إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمـــــة
- وركبوا السبايا المثمنات من أهلها #وساقوا المطايا بالشرا لا نسوا لــــــه
مقالة قوال وقال صـــــــــــــــــوابُ
هريجاً ولا فيما يقول ذهـــــــــــــابُ ولا هرج ينقاد منه معـــــــــــــــابُ حزينة فكبر والحزين يصـــــــــابُ جرت من رجال في القبيل قــرابُ بني عم منهم شايب وشبـــــــــــابُ مصافاة ود واتساع جنــــــــــــــابُ كما يعلموا قولي يقينه صــــــــوابُ جزاعاً وفي جو الضمير كتـــــــابُ خواطر منها للنزيل وهــــــــــــــابُ نقهناه حتى ما عنا به ســــــــــــــاب مراراً وفي بعض المرار يهــــــــاب غلق عنه في أحكام السقائف بــــــاب على كره مولى البالقي وديــــــــــــاب لهم ما حططنا للفجور نقــــــــــــــاب نفقنا عليها سبقاً ورقــــــــــــــــــــــاب على أحكام والي أمرها له نـــــــــــاب بني كعب لاواها الغريم وطــــــــــاب وقمنا لهم عن كل قيد منــــــــــــــاب ربيها وخيراته عليه نصــــــــــــــاب ولبسوا من أنواع الحرير ثيــــــــــاب جماهير ما يغلو بها بحـــــــــــــــلاب
- وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر # وعادوا نظير البر مكيين قبــــــــــل ذا
- وكانوا لا درعاً لكل مهمـــــــــــــــــــة
- وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقـوا
- كسوا الحي جلباب البهيم لستــــــــــره
- كذلك منهم حانس ما دار النبــــــــــــا
- يظن ظنوناً ليس نحن بأهلهــــــــــــــا
- خطا هو ومن واتاهُ في سوّظنه #فواعزوتى إن الفتى بو محمـــــــــــــــد
- ويرحت الأوغاد منه ويحسبـــــــــــوا
- جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع # وهو لو عطى ما كان للرأى عــــارف
- وإن نحن ما نستأملوا عنه راحــــــــــة
- وإن ما وطا ترشيش يضياق وسعها # وأنه منها عن قريب مفاصـــــــــــــــل
- وعن فاتنات الطرف بيض كوانــــــج
- يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا #يضلوه عن عدم اليمين وربمـــــــــــــا
- بهم حازله زمه وطوع أوامــــــــــــــر
- حرام على ابن تافركين ما مضــــــــى
- وإن كان له عقل رجيح وفطنـــــــــــة
- وأما البدالا بّدها من فياعــــــــــــــــــل
- ويحمى بها سوق علينا سلاعـــــــــــه
- ويمسي كلام طالب ريح ملكنـــــــــــا
- أيا واكلين الخبز تبغوا أدامـــــــــــــــه
ضخام لحزات الزمان تصاب
وإلا هلالا في زمان دياب إلى أن بان من نار العدو شهاب ملامه ولا دار الكرام عتاب وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب ذهل حلمي أن كان عقله غاب تمنى يكن له في السماح شعاب بالإثبات من ظن القبائح عاب وهوب لآلاف بغير حساب بروحه ما يحيى بروح سحاب لقوا كل ما يستاملوه سراب ولا كان في قلة عطاه صواب وأنه بإسهام التلاف مصاب
عليه ويمشي بالفزوع لزاب
خنوج عناز هوالها وقباب ربوا خلف أستار وخلف حجاب بحسن قوانين وصوت رباب يطارح حتى ما كأنه شاب ولذة مأكول وطيب شراب من الود إلا ما بدل بحراب يلجج في اليم الغريق غراب كبار إلى أن تبقى الرجال كباب ويحمار موصوف القنا وجعاب ندوما ولا يمسي صحيح بناب غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
ومن شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته:
- محبرة كالدر في يد صانــــــــــع إذا كان في سلك الحرير نظام
- أباحها منها فيه أسباب ما مضى وشاء تبارك والضعون تســـام
- غدا منه لأم الحي حيين وأنشطت عصاها ولا صبنا عليه حكـــام
- ولكن ضميري يوم بأن بهم إلينــا تبرم على شوك القتاد بــــــــرام
- وإلا كأبراص التهامي قـــــــوادح وبين عواج الكانفات ضــــــرام
- وإلا لكان القلب في يد قابـــــــض أتاهم بمنشار القطيع غشـــــــام
- لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق وخــــام
- إلا يا ربوع كان بالأمس عامــــــــــــــــر بيحيى وحله والقطين لمــــــــــــام
- وغيد تداني للخطا في ملاعــــــــــــــــبٍ دجى الليل فيهم ساهرٌ ونيـــــــــام
- ونعم يشوف الناظرين التحامهـــــــــــــــا لنا ما بدا من مهرق وكظــــــــــام
- وعرود باسمها ليدعو لسربهـــــــــــــــــا وإطلاق من شرب المها ونعـــــام
- واليوم ما فيها سوى البوم حولهــــــــــــا ينوح على أطلال لها وخيـــــــــام
- وقفنا بها طورا طويلا نسألهــــــــــــــــا بعين سخينا والدموع سجــــــــــــام
- ولا صح لي منها سوى وحش خاطري وسقمي من أسباب أن عرفت أوهام
- ومن بعد ذا تدى لمنصور بوعلــــــــــي سلام ومن بعد السلام ســـــــــــلام
- وقولوا له يا بو الوفا كلح رأيكـــــــــــــم دخلتم بحور غامقات دهــــــــــــام
- زواخر ما تنقاس بالعود إنمـــــــــــــــــا لها سيلات على الفضا وأكـــــــام
- ولا قستمو فيها قياسا يدلكـــــــــــــــــــم وليس البحور الطاميات تعــــــــام
- وعانوا على هلكاتكم في ورودهـــــــــا من الناس عدمان العقول لئــــــــام
- أيا عزوة ركبوا الضلالة ولا لهــــــــــم قرار ولا دنيا لهــــــــــــــــن دوام
- إلا عناهمو لوترى كيف زايهــــــــــــــم مثل سراب فلاه ما لهن تمـــــــام
- خلو القنا يبغون في مرقب العــــــــــــلا مواضع ما هيا لهم بمقـــــــــــــام
- وحق النبي والبيت وأركانه العلـــــــــــى ومن زارها في كل دهر وعـــام
- لبر الليالي فيه أن طالت الحيــــــــــــــــا يذوقون من خمط الكساع مـــدام
- ولا برها تبقى البوادي عواكـــــــــــــف بكل رديني مطرب وحســـــــــام
- وكل مسافة كالسد إياه عابـــــــــــــــــــر عليها من أولاد الكرام غــــــــلام
- وكل كميث يكتعص عض نابـــــــــــــه يظل يصارع في العنان لجــــــام
- وتحمل بنا الأرض العقيمة مـــــــــــــدة وتولدنا من كل ضيق كظــــــــام
- بالأبطال والقود الهجان وبالقنـــــــــــــا لها وقت وجنات البدور زحـــــام
- أتجحدني وأنا عقيد نقودهــــــــــــــــــا وفي سن رمحي للحروب عـــلام
- ولحن كأضراس الموافي بنجعكــــــــم حتى يقاضوا من ديون غـــــــرام
- متى كان يوم القحط يا مير أبو علــــي يلقى سعايا صايرين قـــــــــــــدام
- كذلك بوحمو إلى اليسر أبعمــــــــــــــه وخفى الجياد العاليات تســـــــــــام
- وخل رجالاً لا يرى الضيم جارهـــــــم ولا يجمعوا بدهى العدو زفـــــــــام
- ألا يقيموها وعقد بؤسهــــــــــــــــــــــــم وهم عذر عنه دائمـــــــــــا ودوام
- وكم ثار طعنها على البدو سابـــــــــــــق ما بين صحاصيح وما بين حســام
- فتى ثار قطار الصوى يومنا علــــــــــى لنا أرض ترك الظاعنين زمـــــــام
- وكما ذا يجيبوا أثرها من غنيمـــــــــــــة حليف الثنا قشاع كل غيـــــــــــــام
- وإن جاء خافوه الملوك ووسعـــــــــــــوا غدا طبعه يجدي عليه قيـــــــــــــام
- عليكم سلام الله من لسن فاهــــــــــــــــــم ما غنت الورقا وناح حمـــــــــــام
ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره لقول:
- تقول فتاة الحي أم سلامــــــــــــــــــة بعين أراع الله من لا رثى لهـــــا
- تبيت بطول الفيل ما تألف الكــــرى موجعة كان الشقافي مجالهمـــــــا
- على ما جرى في دارها وبو عيالها بلحظة عين البين غير حالهــــــــا
- فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكـــــــم ونمتوا عن أخذ الثأر ماذا مقالهــا
- أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرنـــــــي ويبرد من نيران قلبي ذبالهـــــــــا
- أيا حين تسريح الذوائب واللحــــــى وبيض العذارى ما حميتو جمالها
الموشحات والأزجال للأندلس
وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فناً منه سموه بالموشح، وينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً، يكثرون منها، ومن أعاريضها المختلفة. ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. ويشتمل كل بيتٍ على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجارواً في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة، لسهولة تناوله، وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم ابن معافر القبريري من شعراء الأمير عبد الله بى محمد المرواني. وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه، صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما. فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله:
- بدر تــم. شمس ضحا. غصن نقا.مسكٌ شم
- ما أتـــم. ما أوضحـــــا. ما أورقــا. ما أنــــم
- لا جرم. من لمحــــــــا. قد عشقـــا. قد حرم
وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف. وذكرغير واحدٍ من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أنَّ
هذاالشلأنجاء مصلياً خلفه منهم ابن رافع، راس شعراء المأمون ابن ذي النون، صاحب طليطلة. قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول؛
- العود قد ترنم بأبدع تلحين وسقت المذانب رياض البساتين
وفي انتهائه حيث يعول:
- تخطر ولا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيي بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي، ثم يحيى بن بقي، وللطليطلى من الموشحات المهذبة قوله:
- كيف السبيل إلـــــــى صبري وفي المعالم أشجان
- والراكب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بـــــــــان
وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشان بالأندلس يذكرون أن
جماعةً من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية، وكان كل واحدٍ منهم اصطنع موشحةً وتأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
- ضاحك عن جمان سافر عن دُر ضاق عنه الزمان وحواه صدري
صرف ابن بقي موشحته وتبعه الباقون. وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحاً على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
- أما ترى أحمد في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق
وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. وكان في عصرهما أيضاً الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة. ومن الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة؛ فالقى على بعض قيناته موشحته التي أولها:
- جرر الذيل أيما جــر وصلِ الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك، فلما ختمها بقوله:
- عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكــــــــر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت، صاح: واطرباه :وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه. وذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر بين زهر. ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر؛ فغص منه بعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول:
- ما لذ لي شرب راح،على رياض الأقاحٍ لولا هضيم الوشاح،إذا أسا في الصباح
- أو في الأصيل،أضحى يقــــــــــــــــول: ما للشمول،لطمت خــــــــــــــــــــدى؟
- وللشمال هبت فمـــــــــــــــــــــــــــــــال غصن اعتدال ضمه بــــــــــــــــردي
- مما أباد القلوبا،يمشي لنا مستريبـــــــــا يا لحظه رد ذنوباً ويا لماه الشنيبـــــــــــا
- برد غليل،صب عليـــــــــــــــــــــــــــل لا يستحيل،فيه عن العهــــــــــــــــــد
- ولا يزالُ،في كل حــــــــــــــــــــــــــال يرجو الوصال،وهو في الصـــــــــــــد
واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويريدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
- شمس قاربــــــت بـــــــــــــــــــــــدراً راح ونديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
وابن هردوس الذي له:
- يا ليلة الوصل والسعـــــــــــــــــــــود بالله عــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودي
وابن مؤهل الذي له:
- ما العيد في حلة وطاق وشم طيـــب وإنما العيد في التلاقي مع الحبيــــب
وأبو إسحق الرديني، قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول إنه دخل على ابن زهر، وقد أسن، وعليه زي البادية، إذ كان يسكن بحصن أستبه، فلم يعرفه، فجلس حيث انتهى به المجلس. وجرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحةً وقع فيها:
- كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح
- ومعصم النهر في حــــــــلل خضر من البطــاح
فتحرك ابن زفر وقال: أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون؟ فعرفه،فقال: ارتفع فوالله ما عرفتك. قال ابن سعيدٍ: وسابق الحلبة التي أدركت هؤلاء أبو بكر بن زهر، وقد شرقت موشحاته وغربت. قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: قيل لابنٍ زهيرٍ، لو قيل لك ما أباع وأرفع ما وقع لك في التوشيح ما كنت تقول؛ قال، كنت أقول:
- ما للموله؛من سكره لا يفيق. يا له سكران من غير خمر. ما للكئيب المشوق.
يندب الأوطان؟.
- هل تستعاد. أيامنـــــــــــــــــــا بالخليج. وليالينـــــــــــــــــــــا؟
- أو يستفاد. من النسيـــــــــــــم الأريج. مسك دارينـــــــــــــــــا
- أو هل يكاد. حسن المكان البهيج. أن يحيينـــــــــــــــــا؟
- روض أظله. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. والماء يجرى .وعائم وغريق.
من جنى الريحان. واشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله:
- يفوق سهمه كل حيــــــــــــنٍ بما شئت من يدٍ وعيــــــــــــــن
وينشد في القصيد:
- خلقت مليح علمت رامــــــي فليس تخل ساعٍ من قتــــــــــال
- وتعمل بذي العينين متاعـــي ما تعمل يديَّ بالنبـــــــــــــــــال
واشتهر معهما يومئذٍ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيدٍ، ولما سمع ابن زٍهير
قوله:
- لله ما كان من يوم بهيـــجٍ بنهر حمص على تلك المروج ثم # انعطفنا وعلى فم الخليــج نفض في حانه مسك الختام
- عن عسجدٍ زانهُ صافي المدامِ ورداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهرٍ: أين كنا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرفٌ. أخبر ابن سعيدٍ عن والده أن مطرفاً هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه، فقال لا تفعل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
- قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجــــــــــــــــد
وبعد هذا ابن حزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه، فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عارياً عن التكلف، قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي:
- يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيلُ
- أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليلُ
وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيدٍ كان والدي يعجب بقوله:
- إن سيل الصباح في الشرق عاد بحراً في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
- أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق
واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيدٍ عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول له: يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك: واحسرتا لزمان مضى عشية بان الهوى وانقضى وأفردت بالرغم لا بالرضى وبت على جمرات الغضى أعانق بالفكر تلك الطلول وألثم بالوهم تلك الرسوم
قال وسمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما سمعته يقول له لله درك، إلا في قوله:
- قسماً بالهوى لذي حجر ما لليل المشوق من فجر
- جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد اصح ياليل إنك الأبد
# أو قفصت قوادم النســر فنجوم السماء لا تسري
ومن محاسن موشحات ابن الصابوني قوله:
- ما حال صب ذي ضنى واكتئاب أمرضه يا ويلتاه الطبيــــــب
- عامله محبوبه باجتنــــــــــــــــاب ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب
- جفا جفوني النوم لكننـــــــــــــــي لم أبكه إلا لفقد الخيـــــــــــال
- وذا الوصال اليوم قد غرنــــــــي منه كما شاء وشاء الوصـال
- فلست باللائم من صدنـــــــــــــي بصورة الحق ولا بالمحــــال
واشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزايري صاحب الموشحة المشهورة:
- يد الأصباح قدحت زنـــــــــــــاد الأنوار في مجامر الزهــــــــر
وابن خرز البجائي وله من موشحة:
- ثغر الزمان موافــــــــــــــــــــــق حباك منه بابتســـــــــــــــــــــام
ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل، شاعر أشبيلية وسبتة من بعدها؛ فمنها قوله:
- هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنسِ
- فهو في نار وخفق مثل مـــــــــــا لعبت ريح الصبا بالقبــسِ
وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب، شاعر الأندلس والمغرب لعصره، وقد مر ذكره فقال:
- جادك الغيث إذا الغيث همـــــــــــى يا زمان الوصل بالاندلــــــــــــــــــــــــــــس
- لم يكن وصلك إلا حًلمــــــــــــــــــا في الكرى أو خلسة المختلـــــــــــــــــــــــس
- إذ يقود الدهر أشتات المنــــــــــــى تنقل الخطو على ما ترســـــــــــــــــــــــــــم
- زمراً بين فرادى وثنـــــــــــــــا مثل ما يدعو الحجيج الموســــــــــــــــــــــــم
- والحيا قد جلل الروض سنـــــــــي فثغور الأزهار فيه تبســـــــــــــــــــــــــــــــم
- وروى النعمان عن ماء السمــــــا كيف يروي مالك عن أنــــــــــــــــــــــــــس؟
- فكساه الحسن ثوباً معلمــــــــــــــا يزدهي منه بأبهى ملبــــــــــــــــــــــــــــــس
- في ليالٍ كتمت سر الهـــــــــــوى بالدجى لولا شموس القــــــــــــــــــــــــــــدر
- مال نجم الكأس فيها وهــــــــوى مستقيم السير سعد الأثــــــــــــــــــــــــــــــــر
- وطر ما فيه من عيب سوى أنه مر كلمح البصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
- حين لذ النوم شيئاً أو كمـــــــــــا هجم الصبح هجوم الحــــــــــــــــــــــــــــرس
- غارت الشهب بنا، أو ربمـــــــا أثرت فينا عيون النرجــــــــــــــــــــــــــــــس
- أي شيء لا مرىء قد خلصــــا فيكون الروض قد كنن فيــــــــــــــــــــــــــــه
- تنهب الأزهار فيه الفرصــــــــا أمنت من مكره ما تتقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــه
- فإذا الماء تناجى والحصــــــــى وخلا كل خليل بأخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
- تبصر الورد غيوراً برمــــــــــا يكتسي من غيظه ما يكتســـــــــــــــــــــــــــي
- وترى الآس لبيباً فهمـــــــــــــــا يسرق السمع بأذني فــــــــــــــــــــــــــــــرس
- يا أهيل الحي من وادي الغضـا وبقلبي مسكن أنتم بــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
- ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربــــــــــــــــــــــــــــــه
- فأعيدوا عهد أنسٍ قد مضـــــــــــــــى تعتقوا عبدكم من كربــــــــــــــه
- واتقوا الله وأحيوا مغرمـــــــــــــــــــاً يتلاشى نفساً في نفـــــــــــــــــس
- حبس القلب عليكم كرمــــــــــــــــــــا أفترضون خراب الحبــــــــــــس
- وبقلبي منكم مقتــــــــــــــــــــــــــرب بأحاديث المنى وهو بعيــــــــــــد
- قمر أطلع منه المغــــــــــــــــــــــرب شقوة المضنى به، وهو سعيـــــد
- قد تساوى محسن أو مذنـــــــــــــــب في هواه، بين وعدٍ ووعيــــــــــد
- ساحر المقلة معسول اللمـــــــــــــــى جال في النفس مجال النفــــــــس
- سدد السهم وسمى ورمـــــــــــــــــــى ففؤادي نهبة المفتــــــــــــــــرس
- إن يكن جار وخاب الأمــــــــــــــــــل وفؤاد الصب بالشوق يـــــــذوب
- فهو للنفس حبيــــــــــــــــــــــــب أول ليس في الحب لمحبوب ذنـــوب
- أمره معتمل ممتثـــــــــــــــــــــــــــل في ضلوع، قد براها، وقلــــوب
- حكم اللحظ بها فاحتكمــــــــــــــــــا لم يراقب في ضعاف الأنفـــــس
- ينصف المظلوم ممن ظلمـــــــــــــــا ويجازي البر منها والمســـــــــي
- ما لقلبي كلما هبت صبـــــــــــــــــــا عاده عيد من الشوق جديــــــــــد
- كان في اللوح له مكتتبــــــــــــــــــــا قوله إن عذابي لشديــــــــــــــــــد
- جلب الهم له والوصبــــــــــــــــــــــا فهو للأشجان في جهدٍ جهيـــــــد
- لا عج من أضلعي قد أضرمـــــــــا فهي نار في هشيم اليبــــــــــــــس
- لم تدع في مهجتي إلا ذمـــــــــــــــا كبقاء الصبح بعد الغلـــــــــــــــس
- سلمي يا نفس في حكم القضـــــــــــا واعبري الوقت برجعي ومتاب
- وفى عي ذكر زمانٍ قد مضـــــــــى بين عتبى قد تقضت وعتـــــاب
- واصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتـــــــــاب
- الكريم المنتهى والمنتمـــــــــــــــــى أسد السرح وبدر المجلــــــــــس
- ينزل النصر علنه مثلمـــــــــــــــا ينزل الوحي بروح القـــــــــدس
وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقاً وغرباً وأولها:
- حبيبي ارفع حجاب النــــــــور عن العـــــــــــــــــــــــــذار
- تنظر المسك على كافـــــــــور في جلنـــــــــــــــــــــــــار
- كفلي يا سحب تيجان الربــــى بالحلى واجعلـــــــــــــــي
سوارها منعطف الجدول
ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً. واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس؛ لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيدٍ: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول:
ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
- وعريش قد قام على دكــــان بحــــــــــــــــــــال رواق
- وأسد قد ابتلع ثعبـــــــــــــــان من غلظ ســـــــــــــــاق
- وفتح فمه بحال إنســـــــــــان بيه الفـــــــــــــــــــراق
- وانطلق من ثم على الصفاح وألقى الصيـــــــــــاح
وكان ابن قزمان، مع أنه قرطبي الدار، كثيراً ما يتردد إلى إشبيلية ونيتاب نهرها، فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. وقد ركبوا في النهر للنزهة ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم. وكانوا مجتمعين في زورق للصيد؛ فنظموا في وصف الحال، وبدأ منهم عيسى البليدي فقال:
- يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتـو وقد ضمني عشقو لشهماتــــــو
- تراه قد حصل مسكين محلاتـو يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو
- توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتـــــــو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي:
- نشب والهوى من لج فيه ينشب ترى ايش دعاه يشقى ويتعذب
- مع العشق قام في بالوان يلعـب وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني: # نهار مليح يعجبن أوصافــــــــــــو شراب وملاح من حولي قد طافوا
- والمقلين يقول من فوق صفصافو والبوري أخرى فقلاتــــــــــــــــــو
ثم قال أبو بكر بن مرتين:
- الحق تريد حديث بقالي عــــــــاد في الواد النزيه والبوري والصياد
- لسنا حيتان ذيك الذي يصطـــــاد قلوب الورى هي في شبيكاتــــــــو
ثم قال أبو بكر بن قزمان:
- إذا شفر كمامو يرميهـــــــــــــــا ترى البوري يرشق لذاك الجيها
- وليس مرادو أن يقع فيهــــــــــا إلا أن يقبل بدياتــــــــــــــــــــــــو
وكان في عصرهم بشرق الأندلس فحلف الأسود، وله محاسن من الزجل منها قوله:
- قد كنت منشوب واختشيت النشب وردني ذا العشق لأمر صعب
- حتى تنظر الخد الشريق البهـــــي تنتهي في الخمر إلما تنتهــــــي
- يا طالب الكيميا في عيني هــــــي تنظر بها الفضة وترجع ذهـب
وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور:
- ورذاذ دق ينـــــزل وشعاع الشمس يضـــــرب
- فترى الواحد يفضض وترى الآخر يذهـــــــــــــب
- والنبات يشرب ويسكر والغصون ترقص وتطرب
- وبريد تجي إلينـــــــــا ثم تستحي وتهــــــــــــــرب
ومن محاسن أزجاله قوله:
- لاح الضيا والنجوم حيارى فقم بنا ننزع الكســـــــــــــل
- شربت ممزوج من قراعـا أحلى هي عندي من العسل
- يا من يلمني كما تقــــــــلد قلدك الله بما تقـــــــــــــــول
- يقول بان الذنوب تولــــــــــــــــــد وأنه يفسد العقــــــــــــــــــــــــــــول
- لأرض الحجازموريكن لك أرشد إيش ما ساقك معي في ذا الفضول
- مر أنت للحج والزيــــــــــــــــارا ودعني في الشرب منهمـــــــــــــــل
- من ليس لو قدره ولا استطـــــاع النية أبلغ من العمــــــــــــــــــــــــــل
وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية ابن جحدرالدي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا:
- من عاند التوحيد بالسيف يمحــق أنا بري ممن يعاند الحـــــــــــــــــق
قال ابن سعيد لقيته ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
- يا ليتني إن رأيت حبيبــــــــــــي أفتل أذنو بالرسيلا
- ليش أخذ عنق الغزيــــــــــــــــل وسرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
- امزج الأكواس واملالي تجدد ما خلق المال إلا أن يبدد
ومن قوله على طريقة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم:
- بين طلوع وبين نــــــــــزول اختلطت الغـــزول
- ومضى من لم يكـــــــــــــــن وبقي من لم يزول
ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى:
- البعد عنك يا بني أعظم مصايبي وحين حصل لي قربك سببت قاربي
وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي
آش، وكان إماماً في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء والنجوم حيارى بقوله:
- حل المجون يا أهل الشطــــــــارا مذ حلت الشمس في الحمــــــــــل
- تجددوا كل يوم خلاعـــــــــــــــــا لا تجعلوا بينها ثمــــــــــــــــــــــل
- إليها يتخلعوا في شنبـــــــــــــــل على خضورة ذاك النبـــــــــــــات
- وحل بغداد واجتاز النيـــــــــــــل أحسن عندي من ذيك الجهـــــات
- وطاقتها أصلح من أربعين مــل إن مرت الريح عليه وجــــــاءت
- لم تلتق الغبار أمــــــــــــــــــــارا ولا بمقدار ما يكتحــــــــــــــــــل
- وكيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا ونسرح فيه النحــــــــــــــــــل
وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر، وفيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية ويسفون الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم:
- دهر لي نعشق جفونك وسنيـــــــــــن وأنت لا شفقة ولا قلب يليـــــن
- حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السكة بين الحداديــــــــن
- الدموع ترشرش والنار تلتهـــــــــب والمطارق من شمال ومن يمين
- خلق الله النصارى للغـــــــــــــــــزو وأنت تغزو قلوب العاشقيـــــــن
وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي وله
فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
- طل الصباح قم يا نديمي نشربو ونضحكو من بعد ما نطربو
- سبيكة الفجر أحكت شفـــــــــــق في ميلق الليل فقم قلبـــــــــو
- ترى عيارها خالص أبيض نقـــي فضة هو لكن الشفق ذهبو
- فتنتفق سكتوا عند البشـــــــــــــر
- فهو النهار يا صاحبي للمعــــاش
- والليل أيضاً للقبل والعنــــــــــاق
- جاد الزمان من بعد ما كان بخيل
- كما جرع مرو فما قد مضـــــى
- قال الرقيب يا أدباً إيـــــــــش ذا
- وتعجبوا عذالي من ذا الخبــــــر
- نعشق مليح إلا رقيق الطبـــــاع
- ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب
- أما الكاس فحرام نعم هو حـــرام
- ويد الذي يحسن حسابه ولــــــــم
- وأهل العقل والفكر والمجـــــون
- ظبي بهي فيها يطفي الجمـــــــر
- غزال بهي ينظر قلوب الأســود
- ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكــــوا
- فميم كالخاتم وثغر نقـــــــــــي
- جوهر ومرجان أي عقد يا فلان #وشارب أخضر يريد لاش يريد
- يسبل دلال مثل جناح الغراب
- على بدن أبيض بلون الحليب
- وزوج هندات ما علمت قبلها
- تحت العكاكن منها خصر رقيق
- أرق هو من ديني فيما تقول
- أي دين بقا لي معاك وأي عقل
- تحمل أرداف ثقال كالرقيب
نور الجفون من نورها يكسبو عيش الغني فيه بالله ما أطيبو على سرير الوصل يتقلبو ولش ليفلت من يديه عقربو يشرب بيننو ويأكل طيبو في الشرب والعشق ترى ننجبو فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا علاش تكفروا بالله أو تكتبوا يفض بكرو ويدع ثيبو على الذي ما يدري كيف يشربو يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا وقلبي في جمر الغضى يلهبو وبالوهم قبل النظر يذهبوا ويفرحوا من بعد ما يندبوا خطيب الأمة للقبل يخطبو قد صففه الناظم ولم يثقبو من شبهه بالمسك قد عيبو ليالي هجري منه يستغربوا ما قط راعي للغنم يحلبوا ديك الصلا يا ريت ما أصلبو من رقتو يخفي إذا تطلبوا جديد عتبك حق ما أكذبو من يتبعك من ذا وذا تسلبوا حين ينظر العاشق وحين يرقبو
- إن لم ينفس غدر أو ينقشـــــــع في طرف ديسا والبشر تطلبو
- يصير إليك المكان حين تجــي وحين تغيب ترجع في عيني تبو
- محاسنك مثل خصال الأميــــر أو الرمل من هو الذي يحسبو
- عماد الأمصار وفصيح العرب من فصاحة لفظه يتقربو
- بحمل العلم انفرد والعمـــــــــل ومع بديع الشعر ما أكتبو
- ففي الصدور بالرمح ما أطعنه وفي الرقاب بالسيف ما أضربو
- من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو
- الشمس نورو والقمر همتـــــــو الغيث جودو والنجوم منصبو
- يركب جواد الجود ويطلق عنان الأغنيا والجند حين يركبوا
- من خلعتو يلبس كل يوم بطيــب منه بنات المعالي تطيبوا
- نعمتو تظهر على كل من يجيــه قاصد ووارد قط ما خيبوا
- قد أظهر الحق وكان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
- وقد بنى بالسر ركن التقـــــــى من بعد ما كان الزمان خربو
- تخاف حين تلقاه كما ترجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو
- يلقى الحروب ضاحكاً وهي عابسة غلاب هولا شيء في الدنيا يغلبو
- إذا حبد سيفه ما بين الــــــردود فليس شيء يغني من يضربو
- وهو سمي المصطفى والإلـــه للسلطنة اختار واستنخبو
- تراه خليفة أمير المؤمنيـــــــــن يقود جيوشو ويزين موكبو
- لذي الإمارة تخضع الـــرؤوس نعم وفي تقبيل يديه يرغبوا
- بيته بقي بدور الزمــــــــــــان يطلعوا في المجد ولا يغربوا
- وفي المعالي والشرف يبعـــــــدوا وفي التواضع والحيا يقربوا
- والله يبقيهم ما دار الفلـــــــــــــــك وأشرقت شمسه ولاح كوكبو
- وما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر، في أعاريض مزدوجة كالموشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضاً وسفوه عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلاً مطلعها:
- أبكاني بشاطي النهر نوح الحمـــــــام على الغصن في البستان قريب الصباح
- وكف السحر يمحو مداد الظـــــــــلام وماء الندى يجري بثغر الأقاح
- باكرت الرياض والطل فيها افتـــراق كثير الجواهر في نحور الجوار
- ودمع النواعير ينهرق انهــــــــــــراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
- لووا بالغصون خلخال على كل ساق ودار الجميع بالروض دور السوار
- وأيدي الندى تخرق جيوب الكمـــــام ويحمل نسيم المسك عنها رياح
- وعاج الصبا يطلى بمسك الغمــــــام وجر النسيم ذيلو عليها وفاح
- رأيت الحمام بين الورق في القضيب قد ابتلت أرياشو بقطر الندى
- تنوح مثل ذاك المستهام الغريـــــــب قد التف من تربو الجديد في ردا
- ولكن بما أحمر وساقو خضيــــــــب ينظم سلوك جوهر ويتقلدا
- جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد والتوى في جناح
- وصار يشتكي ما في الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره وصاح
- قلت يا حمام أحرمت عيني الهجوع أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
- قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
- على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا والحزن من عهد نوح
- كذا الوفا وكذا هو الزمــــــــــــــــــام انظر جفون صارت بحال الجراح
- وأنتم من بكى منكم إذا تم عام يقــــــول عناني ذا البكا والنواح
- قلت يا حمام لو خضت بحر الضنــــــى كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون
- ولو كان بقلبك ما بقلبي أنــــــــــــــــــــا ما كان يصير تحتك فروع الغصون
- اليوم نقاسي الهجر كم من سنــــــــــــــاً حتى لا سبيل جملة تراني العيون
- ومما كسا جسمي النحول والسقـــــــــام أخفاني نحولي عن عيون اللواح
- لو جتني المنايا كان يموت في المقــام ومن مات بعد يا قوم لقد استراح
- قال لي لو رقدت لأوراق الريـــــــاض من خوفي عليه وذا النفوس للفؤاد
- وتخضبت من دمعي وذاك البيــــــاض طوق العهد في عنقي ليوم التناد
- أما طرف منقاري حديثو استفــــــاض بأطراف البلد والجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الذي ليس
من شانهم، وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافاً إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل. واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهو من أهل تازا:
- المال زينة الدنيا وعز النفـــــــــــــوس يبهي وجوها ليس هي باهيا
- فها كل من هو كثير الفلـــــــــــــــوس ولوه الكلام والرتبة العاليا
- يكبر من كثر مالو ولو كان صغيـــــر ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر
- من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغيـــــر وكان ينفقع لولا الرجوع للقدر
- حتى يلتجي من هو في قومو كبيــــــر لمن لا اصل عندو ولا لو خطر
- لذا ينبغي يحزن على ذي العكــــــوس ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا
- اللي صارت الأذناب أمام الـــــرؤوس وصار يستفيد الواد من الساقيا
- ضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
- اللي صار فلان يصبح بو فـــــــــــلان ولو رأيت كيف يرد الجواب
- عشنا والسلام حتى رأينا عيــــــــــان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
- كبحار النفوس جذا ضعاف الأسوس هم ناحيا والمجد في ناحيا
- يرو أنهم والناس يروهم تيـــــــــوس وجوه البلد والعمدة الراسيا
ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
- تعب من تبع قلبو ملاح ذا الزمــــان أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
- ما منهم مليح عاهد إلا وخـــــــــــان قليل من عليه تحبس ويحبس عليك
- يهبوا على العشاق ويتمنعــــــــــــوا ويستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
- وإن واصلوا من حينهم يقطعــــــوا وإن عاهدوا خانوا على كل حال
- مليح كان هويتو وشت قلبي معــــو وصيرت من خدي لقد مونعال
- ومهدت لو من وسط قلبي مكــــان وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك
- وهون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك
- حكمتوا علي وارتضيت بو أميـــر فلو كان يرى حالي إذا يبصرو
- يرجع مثل در حولي بوجه الغدير مرديه ويتعطس بحال انحرو
- وتعلمت من ساعاً بسبق الضميـر ويفهم مرادو قبل أن يذكرو
- ويحتل في مطلو لو أن كــــــــان عصر في الربيع أو في الليالي يريك
- ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان وإيش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها. وكان منهم علي بن المؤذن بتلمسان، وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفن. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة
يقول في مفتتحها، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمى براعة الاستهلال:
- سبحان مالك خواطر الأمرا ونواصيها في كل حين وزمان
- إن طعناه اعظم لنا نصـــرا وان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
- كن مرعى قل ولاتكن راعـــــي فالراعي عن رعيته مسؤول
- واستفتح بالصلاة على الداعــي للإسلام والرضا السني المكمول
- على الخلفاء الراشدين والأتبـاع واذكر بعدهم إذا تحب وقول
- أحجاجا تخللوا الصحـــــــــــــرا ودوا سرح البلاد مع السكان
- عسكر فاس المنيرة الغـــــــــرا وين سارت بو عزايم السلطان
- أحجاج بالنبي الذي زرتـــــــــــم وقطعتم لو كلاكل البيدا
- عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
- ومن كان بالعطايا يزودكم ويدع برية الحجاز رغدا
- قام قل للسد صادف الجزرا ويعجز شوط بعدما يخفان
- ويزف كر دوم تهب في الغبرا أى ما زاد غزالهم سبحان
- لو كان ما بين تونس الغربا وبلاد الغرب سدّ السكندر
- مبني من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثنايا بصفر
- لا بد للطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
- ما أعوصها من أمور وماشرا لو تقرا كل يوم علي الديوان
- لجرت الدم وانصدع الحجرا وهوت الخراب وخافت الغزلان
- أدرلي بعقلك الفحاص وتفكر لي بخاطرك جمعا
- ان كان تعلم حمام ولا رقاص عن السلطان شه وقبله سبعا
- تظهر عند المهيمن القصاص وعلامات تنشر علي الصمعا
ثم أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه، إلى آخر رحلته ومنتهى أمره، مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكل غريبة من الإبداع. وأما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضاً على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته.
الموشحان والأزجال في المشرق:
وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليا، وتحته فنون كثيرة يسمون منها القُوما، وكان وكان، ومنه مفرد ومنه في بيتين، ويسمون دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحدٍ منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغضانٍ. وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب، وتبخروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاؤوا بالعجائب، ورأيت فم ديوان الصفي الحلي من كلامه (أن المواليا من بحر البسيط، وهو ذو أربعة أغصان وأربع قوافي، ويسمى صوتاً وبيتين. وأنه من مخترعات أهل واسط، وأن كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة وأنه من مخترعات البغداديين. وأنشد فيه لنا:
بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو، وأم الأخرس تعرف بلغة الخرسان إنتهى كلام الصفي. ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم:
- هذي جراحي طريــــــا والدما تنضــــــــــــــــــــح
- وقاتلي يا أخيــــــــــــــا في الفلا يمــــــــــــــــرح
- قالوا ونأخذ بثــــــأرك قلت ذا أقبـــــــــــــــــــــح
- إلى جرحتي يداوينــــي يكون أصلــــــــــــــــــح
ولغيره:
- طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
- تبسمت لاح لي من ثغرها بـــــارق رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
ولغيره:
# عهدي بها وهي لا تأمن علي البين وإن شكوت الهوى قالت فدتك العين # لمن يعاين لها غيري غلام الزيـــن ذكرتها العهد قالت لك علي دين
ولغيره في وصف الحشيش:
- دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر والخمار والساقي
- قحبا ومن قحبها تعمل على إحراقـــي خبيتها في الحشى طلت من أحداقي
ولغيره:
- يا من وصالو لأطفال المحبة بــح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
- أودعت قلبي حوحو والتصبر بـح كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
ولغيره:
- ناديتها ومشيبي قد طواني طــــي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
- قالت وقد كوت داخل فؤادي كـي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
ولغيره:
- راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرف
- أسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
ولغيره:
- يا حادي العيش ازجر بالمطايا زجــــــر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
- زجر وصي في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
ولغيره:
- عيني التي كنت أرعاكم بها باتت ترعى النجوم وبالتسهيد اقتاتت
- وأسهم البين صابتني ولا فاتــــت وسلوتي عظم الله أجركم ماتت
ولغيره:
- هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكــــر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
- غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر وإن تهلل فما للبدر عندو ذكر
ومن الذي يسفونه دوبيت:
- قد أقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الأسحار
- يا نار أشواقي به فاقتدي ليلاً فعساه يهتدي بالنار
واعلم أن الأذواق كفها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها، حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب؛ ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق؛ ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب. لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل واحدٍ منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق محاسن الشجر من أهل جلدته. {وفي خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين} .
خاتمة وقد كدنا أن نخرج عن الغرض، ولذلك عزمنا ان نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول، الذي هو طبيعة العمران، وما يعرض فيه، وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاء له. ولعل من يأتي بعدنا، ممن يؤيده الله بفكر صحيحٍ وعلمٍ مبينٍ، يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا؛ فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.قال مؤلف الكتاب عفا الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول، المشتمل على المقدمة بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته. وما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم.
تم طبع المجلد الأول المعروف بمقدمة ابن خلدون،
ويليه المجلد الثاني. أوله الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم،منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد.
فهرس لمجلد الأول
من تاريخ ابن خلدون
الموضوع الصفحة
مقدمة الناشر
3
مقدمة المؤلف
5
في فضل علم التاريخ
13
الكتاب الأول : في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونموها وما لذلك من العلل والأسباب
46
الباب الأول : المقدمة الأولى : في العمران البشري على الجملة
54
المقدمة الثانية : في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار والأنهار والأقاليم
57
تكملة لهذه المقدمة الثانية
63
تفصيل الكلام على بدء الجغرافيا: أقاليم الأرض السبعة
67
الاقليم الأول
68
الاقليم الثاني
73
الاقليم الثالث
75
الاقليم الرابع
82
الاقليم الخامس
90
الاقليم السادس
97
الاقليم السابع
100
المقدمة الثالثة : في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهراء 103 المقدمة الرابعة: في أثر الهواء في أخلاق البشر 108 المقدمة الخامسة : في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع 109 المقدمة السادسة : في أصناف المدركين للغيب من البشر 115 تفسير حقيقة النبوة 120 الوحي 123 الكهانة 125
الرؤيا 149 الباب الثاني : في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل 149 الفصل الأول : في أن أجيال البدو والحضر طبيعية 149 الفصل الثاني : في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي 151 الفصل الثالث : قدم البادية والبدو 152 الفصل الرابع : في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر 153 الفصل الخامس : شجاعة أهل البدو 155 الفصل السادس : معاناة أهل الحضر للأحكام 157 الفصل السابع : القبائل التي تسكن البدو 159 الفصل الثامن : في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب 160 الفصل التاسع : في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر 161 الفصل العاشر: في اختلاط الأنساب 163 الفصل الحادي عشر: في أن الرئاسة لأهل العصبية 164 الفصل الثاني عشر: في أن الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم 165 الفصل الثالث عشر: في أن البيت والشرف بالأصالة والحقيقة لأهل العصبية 167 الفصل الرابع عشر: في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم 169 الفصل الخامس عشر: في أن نهاية النسب في العقب الواحد أربعة آباء 170 الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب من سواها 172 الفصل السابع عشر: في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك 174 الفصل الثامن عشر: من عوائق الملك حصول الترف 175 الفصل التاسع عشر: من عوائق الملك حصول المذلة 176 الفصل العشرون : الخلال الحميدة من علامات الملك 178 الفصل الحادي والعشرون : في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع 181 الفصل الثاني والعشرون : انتقال الملك بين الشعوب 182 الفصل الثالث والعشرون : ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب 184 الفصل الرابع والعشرون : الأمة إذا غلبت أسرع إليها الفناء 185 الفصل الخامس والعشرون : في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط 186 الفصل السادس والعشرون : في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب 187 الفصل السابع والعشرون : في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم 189
الفصل الثامن والعشرون :.في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك 189 الفصل التاسع والعشرون : في أن البوادي من القبائل مغلوبون لأبل الأمصار 191 الباب الثالث : في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية 193 الفصل الأول : في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية 193 الفصل الثاني : في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية 194 الفصل الثالث : في أنه قد يحدث .لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية 196 الفصل الرابع : الدين أصل الاستيلاء على الملك 197 الفصل الخامس : في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة قوة على قوة العصبية 198 الفصل السادس : في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم 199 الفصل السابع : ني آن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها 202 الفصل الثامن : اتساع نطاق الدولة ونسبة القائمين بها 204 الفصل التاسع : في أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة 206 الفصل العاشر: في أن طبيعة الملك الانفراد بالمجد 208 الفصل الحادي عشر: في أن طبيعة الملك الترف 209 الفصل الثاني عثر: في أن طبيعة الملك الدعة والسكون 210 الفصل الثالث عثر: في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم 210 الفصل الرابع عشر: في أن الدولة لها أعمار طبيعية كم للأشخاص 213 الفصل الخامس عشر: في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة 215 الفصل السادس عشر: في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوة 218 الفصل السابع عشر : في أطوار الدولة واختلاف أحوالها 219 الفصل الثامن عشر: في أن آثار الدولة كلها على نسبة قرتها 221 الفصل التاسع عشر: في استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين 229 الفصل العشرون : في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول 230 الفصل الحادي والعشرون : فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه 232 الفصل الثاني والعشرون : في أن المتغلبين على السلطان لا يثار كونه في اللقب 233 الفصل الثالث والعشرون : في حقيقة الملك وأصنافه 234 الفصل الرابع والعشرون : في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر 236 الفصل الخامس والعشرون : في معنى الخلافة والإمامة 237 الفصل السادس والعشرون : في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه 239
الفصل السابع والعشرون : في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة 246 الفصل الثامن والعشرون : في انقلاب الخلافة إلى الملك 253 الفصل التاسع والعشرون : في معنى البيعة 261 الفصل الثلاثون : في ولاية العهد-مقتل الحسين بن علي 262 الفصل الحادي والثلاثون : في الخطط الدينية الخلافية : 272 العدالة، الحسبة، والسكة 280 الفصل الثاني والثلاثون : في اللقب بأمير المؤمنين وأنه من سمات الخلافة 282 الفصل الثالث والثلاثون : في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود 287 الفصل الرابع والثلاثون : في مراتب الملك والسلطان وألقابها : 292 الوزارة 294 الحجابة 299 ديوان الأعمال والجباية 302 ديوان الرسائل والكتابة 305 الشرطة 311 قيادة الأساطيل 312 الفصل الخامس والثلاثون : في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول 318 الفصل السادس والثلاثون : في شارات الملك والسلطان الخاصة به 319
السرير والمنبر والتخت والكرسي
322 السكة 322 مقدار الدرهم والدينار 324 الخاتم 326 الطراز 329 الفساطيط والسياج 330 المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة 332 الفصل السابع والثلاثون : في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها 334 الفصل الثامن والثلاثون : في الجباية وسبب قلتها وكثرتها 344 الفصل التاسع والثلاثون : في ضرب المكوس أواخر الدولة 345 الفصل الأربعون : ضرر وفساد تجارة السلطان 346 الفصل الحادي والأربعون : في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة 349 الفصل الثاني والأربعون : في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية 353 الفصل الثالث والأربعون : في ان الظلم مؤذن بخراب العمران 353 الاحتكار 357 الفصل الرابع والأربعون : في الحجاب كيف يقع في الدول وانه يعظم عند الهرم 358 الفصل الخامس والأربعون : في انقسام الدولة الواحدة بدولتين 360 الفصل السادس والأربعون : في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع 362 الفصل السابع والأربعون : في كيفية طروق الخلل للدولة 363 الفصل الثامن والأربعون : في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
الفصل التاسع والأربعون : في كيفية استيلاء الدولة المستجدة على الدولة المستقرة
الفصل الخمسون : وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من الموتان والمجاعات 320 الفصل الحادي والخمسون : في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره - نص كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله 321
الفصل الثاني والخمسون : في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شانه 330 الفصل الثالث والخمسون : في حدثان الدول والأمم وفيه الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر-التنجيم -الملاحم 350 الباب الرابع : في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال 365 الفصل الأول : في أن الدول اقدم من المدن والأمصار 365 الفصل الثاني : في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار 366 الفصل الثالث : في ان المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير 367 الفصل الرابع : في ان الهياكل العظيمة لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة 368 الفصل الخامس : فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن 370 الفصل السادس : في المساجد والبيوت العظيمة في العالم 372 الفصل السابع : في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة 381 الفصل الثامن : في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها 382 الفصل التاسع : في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل 382 الفصل العاشر: في مبادئ الخراب في الأمصار 383 الفصل الحادي عشر: في أن تفاضل الأمصار والمدن في كرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة 384 الفصل الثاني عشر: في أسعار المدن 386 الفصل الثالث عشر: في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران 389 الفصل الرابع عشر: في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار 389 الفصل الخامس عشر: في تأثل العقار والضياع في الأمصار وحال فوائدها ومستغلاتها 391 الفصل السادس عشر: في حاجات المتسولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة 392 الفصل السابع عشر: في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول وإنما ترسخ باتصال الدولة أو رسوخها 393 الفصل الثامن عشر: في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساد 396 الفصل التاسع عشر: في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها 399 الفصل العشرون : في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض 401 الفصل الحادي والعشرون : في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم على بعض 402 الفصل الثاني والعشرون : في لغات أهل الأمصار 403 الباب الخامس : في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال 406
الفصل الأول : في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية 406 الفصل الثاني : في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه 408 الفصل الثالث : في أن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي 409 الفصل الرابع : في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي 410 الفصل الخامس : في أن الجاه مفيد للمال 415 الفصل السادس : في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق 415 الفصل السابع : في أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الألب 419 الفصل الثامن : في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو 420 الفصل التاسع : في معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها 420 الفصل العاشر: في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة وأيهم ينبني له اجتناب حرفها 421 الفصل الحادي عشر: في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك 421 الفصل الثاني عشر: في نقل التاجر للسلع 422 الفصل الثالث عشر: في الاحتكار 423 الفصل الرابع عشر: في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص 424 الفصل الخامس عشر: في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة عن المروءة 425 الفصل السادس عشر: في أن الصنائع لا بد لها من العلم 426 الفصل السابع عشر: في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته 427 الفصل الثامن عشر: في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها 428 الفصل التاسع عشر: في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها 429 الفصل العشرون : في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع 430 الفصل الحادي والعشرون : في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع 430 الفصل الثاني والعشرون : في أن من حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعدها ملكة في أخرى 431 الفصل الثالث والعشرون : في الإشارة إلى أمهات الصنائع 432 الفصل الرابع والعشرون : في صناعة الفلاحة 432 الفصل الخامس والعشرون : في صناعة البناء 433 الفصل السادس والعشرون : في صناعة النجارة 436 الفصل السابع والعشرون : في صناعة الحياكة والخياطة 438 الفصل الثامن والعشرون : في صناعة التوليد 439 الفصل التاسع والعشرون : في صناعة الطب 441
الفصل الثلاثون : في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية 444 الفصل الحادي والثلاثون : في صناعة الوراقة 451 الفصل الثاني والثلاثون : في صناعة البناء 453 الفصل الثالث والثلاثون : في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب 458 الباب السادس : في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه 460 الفصل الأول : في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري 460 الفصل الثاني : في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع 461 الفصل الثالث : في أن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة 465 الفصل الرابع : في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد 466 الفصل الخامس : علوم القرآن من التفسير والقراءات 468 الفصل السادس : علوم الحديث 471 الفصل السابع : علم الفقه وما يتبعه من الفرائض 476 الفصل الثامن :علم الفرائض 483 الفصل التاسع : أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات 484 الفصل العاشر: علم الكلام 490 الفصل الحادي عشر: في أن عالم الحوادث إنما يتم بالفكر 499 الفصل الثاني عشر: العقل التجربي وكيفية حدوثه 501 الفصل الثالث عشر: علوم البشر وعلوم الملائكة 502 الفصل الرابع عشر: علوم الأنبياء 503 الفصل الخامس عشر: الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب 504 الفصل السادس عشر: كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة 505 الفصل السابع عشر: علم التصوف 514 الفصل الثامن عشر: علم تعبير الرؤيا 526 الفصل التاسع عشر: العلوم العقلية وأصنافها 535 الفصل العشرون : العلوم العددية : الحساب ، الجبر، المعاملات والفرائض 534 الفصل الحادي والعشرون : العلوم العددية-المساحة 538 الفصل الثاني والعشرون : علم الهيئة-علم الأزياج 540 الفصل الثالث والعشرون : علم المنطق 542 الفصل الرابع والعشرون : الطبيعيات 546 الفصل الخامس والعشرون : علم الطب 547 الفصل السادس والعشرون : الفلاحة 548
الفصل السابع والعشرون : علم الإلهيات 549 الفصل الثامن والعشرون : علوم السحر والطلسمات 551 الفصل التاسع والعشرون : علم أسرار الحروف 558 الفصل الثلاثون : علم الكيمياء 585 الفصل الحادي والثلاثون : في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها 595 الفصل الثاني والثلاثون : في إبطال صناعة النجوم 601 الفصل الثالث والثلاثون : إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشا من المفاسد عن انتحالها 606 الفصل الرابع والثلاثون : كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل 613 الفصل الخامس والثلاثون : المقاصد التي ينبني اعتمادها في التأليف 614 الفصل السادس والثلاثون : كثرة الاختصارات المؤلفهّ في العلوم مخلة بالتعليم 617 الفصل السابع والثلاثون : في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته -الفكر الإنساني 618 الفصل الثامن والثلاثون : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل 622 الفصل التاسع والثلاثون : في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار 623 الفصل الأربعون : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم 625 الفصل الحادي والأربعون : الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم 626 الفصل الثاني والأربعون : بعد العلماء عن السياسة ومذاهبها 627 الفصل الثالث والأربعون : حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم 628 الفصل الرابع والأربعون : في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي 631 الفصل الخاسر والأربعون : في علوم اللسان العربي : علم النحو -علم اللغة-علم البيان -علم الأدب 633 الفصل السادس والأربعون : في ان اللغة ملكة صناعية 643 الفصل السابع والأربعون : مغايرة لغة العرب لهذا العهد للغة مضر وحمير 644 الفصل الثامن والأربعون : لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر 647 الفصل التاسع والأربعون : في تعليم اللسان المضري 648 الفصل الخمسون : ملكة صناعة اللسان غير صناعة العربية 649 الفصل الحادي والخمسون : تفسير الذوق البياني وتحقيق معناه 651
الفصل الثاني والخمسون : قصور أهل الأمصار في تحصيل الملكة اللسانية 654 الفصل الثالث والخمسون : انقسام الكلام إِلى فني النظم والنثر 656 الفصل الرابع والخمسون : في انه لا تتفق الإجادة في فتي المنظوم والمنثور معا إلا للأقل 658 الفصل الخامس والخمسون : في صناعة الشعر ووجه تعلمه 659 الفصل السادس والخمسون : في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني 667 الفصل السابع والخمسون : في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ 668 الفصل الثامن والخمسون : في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع 671 الفصل التاسع والخمسون : في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر 674 الفصل الستون : في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد 675 خاتمة 709
المجلد الأول – تاريخ ابن خلدون
صفحة 720- النهاية
الطبيعة، ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير وصورته وفي المادة الموضوعة عندهم للعلاج، المسماة عندهم بالجحر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك.وجملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء، بعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها، ويؤثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب. ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراج مائها أو ترابها. فإذا رضي بذلك كله من علاجها وتم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته، حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسقون الإكسير، ويزعمون انه إذا القي على الفضة المحماة بالنار عادت ذهباً؛ أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على حسب ما قصد به في عمله.ويزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة، حصل فيها بذلك العلاج الخاص والتدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها، وتقلبه إلى صورتها ومزاجها، وتبث فيه ما حصل فيها من الكيفيات والقوى، كالخميرة للخبز، تقلب العجين الى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة، ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعاً إلى الغذاء. وكذا إكسير الذهب والفضة فيما يحصل فيه من المعان، يصرفه إليهما ويقلبه إلى صورتهما.هذا محصل زعمهم على الجملة، فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق والمعاش فيه، ويتناقلون أحكامه وقواعده من كتب لائمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم، ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها، إذ هي في الأكثر تشبه المعمى. كتأليف جابر بن حيان في رسائله السبعين، ومسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم، والطغرائي والمغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم وأمثالها، ولا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها.
فاوضت يوما شيخنا أبا البركات التلفيفي، كبير مشيخة
الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض التآليف فيها؛ فتصفحه طويلاً، ثم رده إلى وقال لي، وأنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة. ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط. إما الظاهرة، كتمويه الفضة بالذهب، أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جز أو جزأين أو ثلاثة؛ أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن لصناعة، مثل تبييض النحاس وتليينه بالزوق المصعد، فيجيء جسماً معدنياً شبيهاً بالفضة، ويخفى إلا على النقاد المهرة؛ فيقدر أصحاب هذه الدلس، مع دلستهم هذه، سكة يسربونها في الناس ويطبعونها بطابع السلطان تمويها على الجمهور بالخلاص وهؤلاء أخس الناس حرفة وأسوأهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس؛ فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاساً في الفضة وفضة في الذهب، ليستخلصها لنفسه؛ فهو سارق وأشر من السارق.ومعظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار، يأوون إلى مساجد البادية ويموهون على الأغنياء منهم، بأن بأيديهم صناعة الذهب والفضة، والنفوس مولعة بحبهما والاستهلاك في طلبهما، فيحصلون من ذلك على معاش. ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرقبة، إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة، فيفرون إلى موضع آخر، ويستجدون حالاً أخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم. ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم. وهذا الصنف لا كلام معهم، لأنهم بلغوا الغاية في الجهل والرداءة والاحتراف بالسرقة؛ ولا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم، وتناولهم من حيث كانوا، وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم، لأن فيه إفساداً للسكة التي تعم بها البلوى، وهي متمول الناس كافة. والسلطان مكلف بإصلاحها والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها. وأما من انتحل هذه الصناعة، ولم يرض بحال الدلسة؛ بل استنكف عنها ونزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين ونقودهم، وإنما يطلب إحالة الفضة للذهب، والرصاص والنحاس والقصدير الى الفضة بذلك النحو مع العلاج، وبالإكسير الحاصل عنده؛ فلنا مع هؤلاء متكلم وبحث في مداركهم لذلك. مع أنا لا نعلم أن أحداً من أهل العلم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية. إنما تذهب أعمارهم في التدبير والفهر والصلابة والتصعيد والتكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها. ويتناقلون في ذلك حكايات وقعت لغيرهم، ممن تم له الغرض منها أو وقف الى الوصول، يقنعون باستماعها والمفاوضة فيها؛ ولا يستريبون في تصديقها، شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به، فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه، وقالوا إنما سمعنا ولم نر. هكذا شأنهم في كل عصر وجيل.واعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم، وقد تكلم الناس فيها من المتقدمين والمتأخرين. فلننقل مذاهبهم في ذلك، ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه، فنقول: إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة، وهي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس والحديد والخارصين: هل هي مختلفات بالفصول، وكلها أنواع قائمة بأنفسها؛ أو أنها مختلفة بخواص من الكيفيات، وهي كلها أصناف لنوع واحد؛ فالذي ذهب إليه أبو نصر الفارابي، وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد، وان اختلافها إنما هو بالكيفيات، من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان، من الصفرة والبياض والسواد، وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد. والذي ذهب إليه ابن سينا، وتابعه عليه حكماء المشرق، أنها مختلفة بالفصول، وأنها أنواع متباينة، كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته، له فصل وجنس شأن سائر الأنواع. وبنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض، لإمكان تبذل الأغراض حينئذ وعلاجها بالصنعة.فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء
عنده ممكنة سهلة المأخد. وبنى أبو علي ابن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة واستحالة وجودها، بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه، وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل. والفصول مجهولة الحقائق رأساً بالتصور، فكيف يحاول انقلابها بالصنعة. وغلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول. ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه، إنما هو إعداد المادة لقبوله خاصة. والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه، كما يفيض النور على الأجسام بالصقل والإمهاء.ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته، قال: "وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات، مع الجهل بفصولها، مثل العقرب من التراب والنتن، ومثل الحيات المتكونة من الشعر، ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف وتصييره سكراً بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون؛ فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذهب والفضة؛ فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة. ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها". انتهى كلام الطغرائي بمعناه. وهذا الذي ذكره في الرد على ابن سينا صحيح. لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة، مأخذا آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين، لا الطغرائي ولا ابن سينا. وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعاً ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى إحالته ذهباً أو فضة، ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر. لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله، وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين، دورة الشمس الكبرى. فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على
ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة نصيرها كالخميرة، فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته، وذلك هو الإكسير على ما تقدم.واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية، فلا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة، إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما تم امتزاجها؛ فلا بدّ من الجزء الغالب على الكل. ولا بدّ في كل ممتزج من المولدات من حرار؛ غريزية، هي الفاعلة لكونه، الحافظة لصورته. ثم كل متكون في زمان، فلا بدّ من اختلاف أطوار؛ وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور، حتى ينتهي إلى غايته. وانظر شأن الإنسان في طور النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم التصوير، ثم الجنين، ثم المولود، ثم الرضيع، ثُم ثم إلى نهايته. ويسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها، وإلا لكان الطور بعينه الأول هو الآخر، وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر. فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين، وما ينتقل فيه من الأحوال؛ فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن، ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم.ومن شرط الصناعة أبدا تصور ما يقصد إليه بالصنعة. فمن الأمثال السائرة للحكماء: أول العمل آخر الفكرة، وآخر الفكرة أول العمل. فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة وبسبها المتفاوتة في كل طور، واختلاف الحار الغريزي عند اختلافها ومقدار الزمان في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة، ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز، وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها. وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك. وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني. ونجن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه، وعلم ذلك علماً
محصلاً بتفاصيله، حتى لا يشذ منه شيء عن علمه، سألنا له تخليق هذا الإنسان، وأنى له ذلك.ولنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول: حاصل صناعة الكيمياء، وما يدعونه بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعة المعدنية بالفعل الصناعي، ومحاذاتها به، إلى أن يتم كون الجسم المعدني، أو تخليق مادة بقوى وأفعال وصورة مزاجية تفعل في الجسم فعلاً طبيعياً فتصيره وتقلبه إلى صورتها. والفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية، التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها، أو فعل المادة ذات القوى فيها، تصوراً مفضلاً واحدة بعد أخرى. وتلك الأحوال لا نهاية لها، والعلم البشرى عاجز عن الإحاطة بما دونها، وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات.هذا محصل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته ولا من الطبيعة، إنما هو من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها. وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك، وله وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته. وذلك أن حكمة الله في الحجرين، وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس ومتمولاتهم. فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك، وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. وله وجه آخر من الاستحالة أيضاً، وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد. فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح، وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زماناً، لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته، في كون الفضة والذهب وتخفقهما. وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب والنحل والحية وتخليقها، فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم. وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها، وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء إلى هلم جرا، ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة. ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه، وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرنا. وأما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك، فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد، والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الافعال والطبائع. والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى، فهو تكوين وصلاح، والتكوين أصعب من الفساد، فلا يقاس الإكسير بالخميرة. وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها، مثل جابر بن حيان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهم؛ فليست من باب الصنائع الطبيعية، ولا تتم بأمر صناعي. وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات، إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق ، وما كان من ذلك للحلاج وغيره، وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك. وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى. وهذا كلام جابر. في رسائله. ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه. وبالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع. فكما لا يتدبر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشباً أو حيواناً فيما عدا مجرى تخليقه؛ كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع، فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله وعمله. ويقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم، لأن نيله إن كان صحيحاً فهو واقع مما وراء الطبائع والصنائع، فهو كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد، ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة؛ أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني}[المائدة:110] . فتنفخ فيها، فتكون طيراً بإذني،. وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربما أوتيها الصالح ويؤتيها غيره، فتكون عنده معارة. وربما أوتيها الصالح ولا يملك إيتاءها، فلا تتم في يد غيره.ومن هذا الباب يكون عملها سحرياً، فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس وخوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحراً. ولهذا كان كلام الحكماء كفهم فيها ألغازاً، لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر واطلع على تصرفات النفس في عائم الطبيعة. وأمور خرق العادة غير منحصر؛ ولا يقصد أحد إلى تحصيلها. والله بما يعملون محيط.وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش، وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية، كالفلاحة والتجارة والصناعة، فيستصعب العاجز ابتغاءه من هذه، ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها. وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران. وللناس أقوال كثيرة- حتى في الحكماء المتكلمين- في إنكارها واستحالتها. فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء، فكان من أهل الغنى والثروة، والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه. وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها وانتحالها. والله الرزاق، ذو القوة المتين، لا رب سواه.
الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل إعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل. ويمثل ذلك من شأن الفقه في
المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية، وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله، وحينئذ يسلم له منصب الفتيا وهي كلها متكررة والمعنى واحد. والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها. ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً؛ ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها. ويمثل أيضاً علم العربية من كتاب سيبويه، وجميع ما كتب عليه، وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك. وكيف يطالب به المتعلم، وينقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد، من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هشام، ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة، لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتهما، لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه. ودل ذلك على أن الفضل ليس منحصراً في المتقدمين، سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب والطرق والتآليف ، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا نادر من نوادر الوجود، وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله، فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؛ ولكن الله يهدي من يشاء.
الفصل الخامس والثلاثون
في المقاصل التي ينبغي اعتمادها بالتآليف وإلغاء ما سواها
أعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولاً، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً؛ إما بغير وسط أو بوسط، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعني بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر: إما على وجه التعليم؛ أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. وذلك البيان إنما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف، وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدى بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعد؛ أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفاً بحروف وكلمات بكلمات؛ فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحداً؛ فسمي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها. وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخر، وهؤلاء هم المؤلفون. والتآليف بين العوالم البشرية والأمم الإنسانية كثير، ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأخبار عن الأمم والدول.
وأما العلوم الفلسفية، فلا اختلاف فيها، لأنها إنما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية، في تصور الموجودات على ما هي عليه؛ جسمانيها وروحانيها وفلكيها وعنصريها ومجردها ومادتها. فإن هذه العلوم لا تختلف، وإنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر. ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمى ذلك قلماً وخطاً. فمنها الخط الحميري، ويسمى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر، كما يخالف لغتهم. وإن الكل عربياً. إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان والعبارة غير ملكة أولئك. ولكل منهما قوانين كلية مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. وربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. ومنها الخط السرياني، وهو كتابة النبط والكلدانيين. وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم، ومذهب عامي. لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، وإنما هو يستمر بالقدم والمران حتى يصير ملكة راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية؛ فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهم. ومنها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم. ومنها الخط اللطيني ، خط اللطينيين من الروم، ولهم أيضاً لسان مختص بهم. ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختص بها. مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم. وإنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى. أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا، وأما العربي والعبري فلتنزل القرآن والتوراة بهما بلسانهما. وكان هذان الخطان بياناً لمتلوهما، فوقعت العناية بمنظومهما أولاً وانبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني. وأما اللطيني فكان الروم، وهم أهل ذلك
اللسان، لما اخذوا بدين النصرانية، وهو كله من التوراة، كما سبق في أول الكتاب، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها. وأما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها. ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدوها سبعة: أولها :استنباط العلم بموضوعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق ويحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعي أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن. وثانيها: أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في لهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف. وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التآليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك. ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب
انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة؛ فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم؛ وفي العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك؛ فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة وبقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعي من بعده. وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء الى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم؛ فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولاً لفن البيان، ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم. وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول. فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتآليف ومراعاتها. وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء
مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه؛ أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل والقحة. ولذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل والقحة. نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله يهدي للتي هي أقوم.
الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليم ذهب كثير من المتأخرين الى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة فم الفنون للتفسير والبيان؛ فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لان ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت. ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة؛ فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع
في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقفته كشأن هذه الموضوعات المختصرة؛ فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها. (ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له). والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته إعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً، إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم؛ إلا أنها جزئية وضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية؛ فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفى الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله؛ فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار
ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصواباً فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها؛ فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً، بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب الى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد؛ ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم. ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم. والله يهدي من يشاء.وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانية للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطاً وأقرب صبغة؛ لان الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل توسيت الملكة الناشئة عنه. والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون.ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم
علمان معاً؛ فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الاخر؛ فيستغلقان معا ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرع الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله. والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. الفكر الإنساني: واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك، فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة، ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة. وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها، وذلك ان الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة، فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته، وهو [ وجدان حركة للنفس]، في البطن الأوسط من الدماغ. تارة يكون مبدءا للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب؛ وتارة يكون مبدءاً لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوخه إلى المطلوب. وقد يصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته، فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما، أسرع من لمح البصر إن كان واحداً. وينتقل إلى تحصيل وسط آخر إن كان متعدداً، ويصير إلى الظفر بمطلوبه. هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات.ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية، تصفه ليعلم سداده من خطئه. لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً، إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما ومن اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتائج، فتعين المنطق على التخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق، إذا، أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها، ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر. ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق، ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله تعالى، فإن
ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها؛ فتفضي بهم بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه.ثم من دون هذا الأمر الصناعي، الذي هو المنطق، مقدمة أخرى من التعليم وهي معرفة الألفاظ؛ ودلالتها علي المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أنها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك.فأولاً: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها؛ ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة؛ ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق؛ ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه. وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة بما، ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة؛ بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات، فقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلاً ممن هداه الله.فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك، فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الامر الصناعي جملة واخلص الى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه، واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظار قبلك، متعرضا للفتح من الله، كما فتح عليهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك ، وحصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر وفطرك عليه كما قلناه. وحينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها، فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي؛ ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.وأما إن وقفت عند المناقشة في الألفاظ والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها، وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح، فلا تتميز جهة الحق منها؛ إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع، فيستمر ما حصل من الشك والارتياب، وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثر من النظار والمتأخرين، سيما من سبقت له عجمة في لسانه، فربطت على ذهنه، أو من حصل له شغف بالقانون المنطقي وتعصب له، فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع، فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها، ولا يكاد يخلص منها. والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه، إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى. وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر، فيساوقه لذلك في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى، متى أعوزك فهم المسائل، تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب. والله الهادي إلى رحمته، وما العلم إلا من عند الله.
الفصل الثامن والثلاثون في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل إعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة؛ وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية والحساب
وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة. وربما كان آلة لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين. فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار؛ فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة. وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسّع فيها الكلام ولا تفرع المسائل، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم، والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة؛ فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يغني.وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق، لا بل وأصول الفقه، لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلاً واستدلالاً وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها. وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو، وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق، لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بهذه الآلات والوسائل. فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد، فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل؛ ورأى من نفسه قياماً بذلك وكفاية به فليختر لنفسه ما شاء من المراقي صعباً أو سهلاً. وكل ميسر لما خلق له.
الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه. إعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان، باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه؛ لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب؛ إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة.وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب،في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلسي فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا انه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط؛ بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل، وأخذهم بقوانين
العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب.ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط اكثر من جميعها، الى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة، لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عند ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم. وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها؛ إلا ان عنايتهم بالقرآن، واستظهار الولدان إياه، وووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته اكثر مما سواه؛ وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس، لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الاندلس، واستقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك.وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها. والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطونه بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده، كما تعلم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة، ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه، ويبتغيه من أهل صنعته.فأما أهل إفريقية والمغرب؛ فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة؛ وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها. وليس لهم ملكة في غير
أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب، لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل؛ إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة، لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في فصله.وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. وقصروا في سائر العلوم، لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها. فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقصر، على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا.ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وأبدأ، وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: "لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتقديم العربية في التعليم ضرورة، فساداً للغة؛ ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين؛ ثم ينتقل إلى درس القرآن، فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة". ثم قال: "ويا غفلة أهل بلادنا في إن يؤخذ الصبي بكتاب الله فج أول عمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر، غيره أهم عليه منه ". قال: "ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ". ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان، إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله، وهو لعمري مذهب حسن؛ إلا ان العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد، من تقديم دراسة القرآن، إيثاراً للتبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع
عن العلم؛ فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر؛ فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة؛ فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلا يذهب خلواً منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم، وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق. ولكن الله يحكم ما يشاء، لا معقب لحكمه سبحانه. الفصل الأربعون في أن الشدة علي المتعلمين مضرة بهم وذلك أن إرهاق الحد في التعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل؛ فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها ، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف، واعتبره في كل من يملك أمره عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء. وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج، ومعناه في الاصطلاح
المشهور التخابث والكيد، وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه، الذي أئمة في حكم المعلمين والمتعلمين: "لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً". ومن كلام عمر رضي الله عنه: "من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ". حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب، وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له، فإنه أعلم بمصلحته.ومن أحسن مذاهب التعليم، ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلى الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: "يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه؛ فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بنى هاشم، إذا دخلوا عليه؛ ورفع مجالس القواد، إذا حضروا مجلسه. ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. انتهى". الفصل الحادي والأربعون في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه به من المذاهب والفضائل: تارة علماً وتعليماً وإلقاءً؛ وتارة محاكاةً وتلقيناً بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً. فعلى
قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضاً في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم، وتعدد المشايخ، يفيده تمييز الاصطلاحات، بما يراه من اختلاف طرقهم فيها؛ فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل. وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات. ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم. وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم، لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والأربعون في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها والسبب في ذلك أنهم معتادون النظم الفكر في والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن، أموراً كليةً عامةً؛ ليحكم عليها بأمر على العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس. ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها، بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة، وإنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك؛ كالأحكام الشرعية، فإنها فروع
عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها، عكس الأنظار في العلوم العقلية، التي يطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم أمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها، فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها.ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، إذ كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور، فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الامور، بعضها على بعض، إذا نظروا في السياسة، أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم؛ فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم. ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران، لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم، إلى مثل شأن الفقهاء، من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة، فيقعون في الغلط. والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس، لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم، ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر:
- فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأموناً من النظر في سياسته، مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه؛ فيحسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره، باستقامة نظره. وفوق كل ذي علم عليم. ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط، لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس؛ فإنها نظر في المعقولات الثواني. ولعل المواد فيها
ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. وأما النظر في المعقولات الأول، وهى التي تجريدها قريب، فليس كذلك؛ لأنها خيالية، وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وأن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي. والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة؛ لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة؛ وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه. والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة.وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين وكانوا يسفون المختصين بحمل ذلك. ونقله القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً؛ فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء، إشارة الى هذا. فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن الله، لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه. ومن الحديث، الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرخ. قال : <<تركت فيكم أمرين لن تضفوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي >>. فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه؛ ثم
احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه؛ ثم كثر استخراج أحكام الوقائع من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس، واحتاجت الى علوم أخرى هي وسائل لها: من معرفة قوانين العربية وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد؛ فصارت هذه العلوم كلها علوماً ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع.وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها؛ فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها. والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر، الذين هم يومئذ تبغ للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف؛ لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس؛ فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم. وإنما ربوا في اللسان العربي، فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب، وصيروه قوانين وفناً لمن بعدهم.وكذا حملة الحديث الذين حفظوه على أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى لاتساع الفن بالعراق. وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفكرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم. وظهر مصداق قوله : <<لو تعلق العلم بأكناف السماء، لناله قوم من أهل فارس >>.وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه مع القيام بالملك عن القيام بالعلم، والنظر فيه، فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. والرؤساء أبداً يستنكفون عن الصنائع والمهن، وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين. وما زالوا يرون لهم حق القيام به، فإنه دينهم وعلومهم، ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم، صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك، بما هم عليه من البعد عن نسبتها، وامتهن حملتها بما يرون انهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عليهم، في الملك والسياسة كما ذكرناه في فصل المراتب الدينية. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عافتهم من العجم.أما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه. واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم وتركها العرب، وانصرفوا عن انتحالها؛ فلم يحملها إلا المعربون من العجم، شأن الصنائع كما قلناه أولاً. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم وببلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر. فلما خربت تلك الامصار وذهبت منها الحضارة، التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع، ذهب العلم في العجم جملة لما شملهم من البداوة. واختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع. وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر، لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها، فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر. وقد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم في تآليف، وصلت إلينا إلى هذه البلاد، وهو سعد الدين التفتازاني. وأما غيره من العجم، فلم نر لهم، من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدين الطوسي كلاماً يعول على نهايته في الإصابة. فاعتبر ذلك وتأمله تر عجباً في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله.
الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي والسر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية، من بين العلوم الشرعية، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادها من الأحكام المتلقاة من الكتاب والسنة ولغاتها المؤذية لها، وهي كلها في الخيال؛ وبين العلوم العقلية، وهي في الذهن. واللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتعليم، وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران لحى ذلك. والألفاظ واللغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام عن المعاني. ولا بد في اقتناص تلك المعاني من الفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عبيها، وجودة الملكة لناظر فيها؛ وإلا فيعتاص عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهي والجبلي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم، أو خف؛ ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعليم تلقينا وبالخطاب والعبارة. وأما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب؛ وبين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على
الألفاظ المقولة. وما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة، وإن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضاً قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبة، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. وإذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية والخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة. والمتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاماً لملكاتهم. ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها واندرجت الأمم في طيها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها، وكانت أمية النزعة والشعار؛ فأخذ الملك والعزة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب، وصيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلاً؛ فحدثت فيهم الملكات، وكثرت الدواوين والتآليف؛ وتشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم واربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسياً منسياً وطللاً مهجوراً وهباءً منثوراً. وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، ودواوينها المسطرة بخطهم، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها وذهاب العناية بها. وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان، وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد؛ فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصراً في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، وهو ظاهر. وإذا كان مقصراً في اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية أعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، ولا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. وكذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. ولهذا نجد الكثير من علماء الاعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهراً يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك؛ بتمام ملكته، وإنه صار له فهم الأقوال من الخط، والمعاني من الأقوال، كالجبلة الراسخة، وارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وربما يكون الدؤوب على التعليم والمران على اللغة، وممارسة الخط يفضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الاعاجم؛ إلا أنه في النادر. وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربي أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأما عجمة اللغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم. والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، ومن غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه. وهذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللسان العربي. وفي ذلك آيات للمتوسمين.
الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب. ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. وتتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام، حسبما يتبين في الكلام عليها فناً فناً. والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو، إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة. وكان من حق علم اللغة التقدم، لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها، لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه؛ فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة، إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة، وليست كذلك اللغة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق. علم النحو: إعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد، لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال.أي الحركات الى الذوات من غير تكفف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلا في لغة
العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخضه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب. وهذا هو معنى قوله : <<أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً >>. فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت، أي الأوضاع، اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم. والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم؛ فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه. مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الاسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال بإشارة عليّ رضي الله عنه، لأنه رأى تغير الملكة، فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة؛ ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، أحوج ما كان الناس إليها، لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة وكمل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه، فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور، الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتباً مختصرة للمتعلمين، يحذون فيها حذو الإمام في كتابه.ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها، في الكوفة والبصرة: المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق في التعليم، وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القران، باختلافهم في تلك القواعد، وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار، فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل، كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله، أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفضل وابن الحاجب في المقدمة له. وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى، وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها، وطرق التعليم فيها مختلفة؛ فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك.وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران، ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر، منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة. وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها؛ فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل، الذين اقتفوا أثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء.
علم اللغة: هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية. وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين؛ خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين، فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي.وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة؛ وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين؛ فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك. ثم الثالث والرابع. ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين، فيكون واحداً، فتكون كلها أعداداً على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين، فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأول مع الأخير وتضرب المجموع في نصف العدة. ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي، لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب، فيكون الخارج جملة الثنائيات.وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على
توالي العدد؛ لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً، فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية، وهي ستة وعشرون حرفاً، بعد الثنائية؛ فتجمع من واحد الى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرباعي والخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف. واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس، ثم الشفة؛ وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين، لأنه الأقصى منها. فلذلك سمي كتابه بالعين، لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه اكثر لدورانه. وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه.وجاء أبو بكر الزبيدى وكتب لهشام المؤيد بالأندلس، في المائة الرابعة؛ فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحذف منه المهمل كله، وكثيراً من شواهد المستعمل، ولخصه للحفظ أحسن تلخيص.وألف الجوهري من المشارقة، كتاب الصحاح، على الترتيب المتعارف لحروف المعجم؛ فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة، لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم، فيجعل.ذلك باباً.. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة، على ترتيب حروف المعجم أيضاً، ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللغة اقتداء بحصر الخليل.ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية، في دولة علي بن مجاهد،كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب، وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها؛ فجاء من أحسن الدواوين. ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توأمى رحم وسليلي أبوة.ولكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباري كتاب الزاهر.هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكنها؛ إلا أن وجه الحصر فيها خفي، ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز، وسماه أساس البلاغة، بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ، فيما تجوزت به من المدلولات، وهو كتاب شريف الإفادة.تم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى على العموم، ثم تستعمل في الامور الخاصة ألفاظاً أخرى خاصة بها، فرق ذلك عندنا، بين الوضع والاستعمال، واحتاج الناس إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ؛ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض، ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب، ومن الإنسان بالأزهر، ومن الغنم بالأملح، حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحناً وخروجاً عن لسان العرب. واختص بالتأليف في هذا المنحي الثعالبي، وأفرده في كتاب له سماه فقه اللغة، وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه، أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب، حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره، حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها، وهو أشر من اللحن في الإعراب وأفحش. وكذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها، وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك، فهو مستوعب للأكثر. وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن، المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال، تسهيلاً لحفظها على الطالب، فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. والله الخلاق العليم، لا رب سواه.
فصل: واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لان الحد راجع إلى المعاني، ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، واللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية الظهور. علم البيان: هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة، وهو من العلوم اللسانية،لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني. وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند وبسند إليها وبفضي بعضها الى بعض، والدلالة على هذه هي المفرادت من الأسماء والأفعال والحروف؛ وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، ويدل عليها بتغير الحركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلها هي صناعة
النحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات، المحتاجة للدلالة، أحوال المتخاطبين أو الفاعلين، وما يقتضيه حال الفعل؛ وهو محتاج إلى الدلالة عليه، لأنه من تمام الإفادة، وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة من كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء منها، فليس من جنس كلام العرب؛ فإن كلامهم واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة.إلا ترى أن قولهم: (زيد جاءني) مغاير لقولهم (جاءني زيد) من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم. فمن قال: جاءني زيد، أفاد أن اهتمامه بالمجيء، قبل الشخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني، أفاد أن اهتمامه بالشخص، قبل المجيء المسند. وكذا التعبير عن أجزاء الجملة، بما يناسب المقام، من موصول أو مبهم أو معرفة. وكذا تأكيد الإسناد على الجملة، كقولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم؛ متغايرة كلها في الدلالة، وإن استوت من طريق الإعراب؛ فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن، والثاني المؤكد بـ (إن) يفيد المتردد، والثالث يفيد المنكر، فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرجل، ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه، وانه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية، وهي التي لها خارج تطابقه أولاً، وإنشائية وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه. ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذ كان للثانية محل من الإعراب: فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتاً أو توكيداً أو بدلاً بلا عطف، أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب أو الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفظ ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفرداً، كما تقول: زيد أسد، فلا تريد حقيقة الاسد لمنطوقه، وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد، وتسمى هذه استعارة.وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه، كما تقول: زيد كثير رماد القدور،وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف، أن كثرة الرماد ناشئة عنهما، فهي دالة عليهما. وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب، وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيئات والأحوال والمقامات، وجعل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال، التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال، ويسمى علم البلاغة؛ والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه وسمى علم البيان. وألحقوا بهما صنفاً آخر، وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إما بسجع يفصله؛ أو تجنيس يشابه بين ألفاظه؛ أو ترصيع يقطع أوزانه؛ أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد، وأمثال ذلك، ويسمى عندهم علم البديع.وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان، وهو اسم الصنف الثاني؛لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه. ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم!تزل مسائل الفن تكمل شيئاًً فشيئاً إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه، على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان، فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. وأخذه المتأخرون من كتابه، ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد، كما فعله السكاكي في كتاب التبيان، وابن مالك في كتاب المصباح، وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص، وهو اصغر حجماً من الإيضاح، والعناية به لهذا العهد، عند أهل المشرق، في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة، وسببه والله أعلم إنه كمالي في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله. وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وفرعوا له ألقاباً وعددوا أبواباً ونوعوا أنواعاً. وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب،وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأن علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق، وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من اهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة؛ وهي أعلى مراتب الكمال، مع الكلام فيما يختص بالألفاظ، في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها، وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر فوقه.فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك، لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه، حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من أعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة، مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة، حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب، للظفر بشيء من الإعجاز، مع السلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
علم الأدب: هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطبقة وسجع متساوٍ في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو، مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية؛ مع ذكر بعض من أيام العرب،يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه.ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية؛ فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم، ليكون قائماً على فهمها. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي
القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبغ لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن، لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به، حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة. وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني وهو ما هو، كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صولت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم، في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها. ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. والله الهادي للصواب.
الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان، للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر الى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة، للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال
أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم؛ كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم.هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال.وهذا هو معني ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم. ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الاعاجم. وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضاً؛ فاختلط عليه الامر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي.ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين أمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. والله سبحانه وتعالى اعلم وبه التوفيق.
الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر ولغة حمير وذلك أنا نجذها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري،ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول؛ فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال- ويسمى بساط الحال- محتاجاً إلى ما يدل عليه. وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه، فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته، وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات، في تراكيب الألفاظ وتأليفها، من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب. وقد يدل عليها بالحروف، غير المستقلة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلد الكيفيات كما قدمناه، فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع الألسن.وهذا معنى قوله: <<أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً>>. واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة: "أني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم والمعنى واحد". فقال له: إن معانيها مختلفة، فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد، والثاني: لمن سمعه فتردد فيه، والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال.وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن
اللسان العربي فسد، اعتباراً بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم؛ وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطباتهم، وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعاً معروفاً وهو الإعراب، وهو بعض من أحكام اللسان. وإنما وقعت العناية بلسان مضر، لما فسد بمخالطتهم الاعاجم، حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً، فانقلب لغة أخرى.وكان القرآن منزلاً به والحديث النبوي منقولاً بلغته وهما أصلا الدين والملة، فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به؛ فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه. وصار علماً ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سماه أهله بعلم النحو، وصناعة العربية؛ فاصبح فناً محفوظاً وعلماً مكتوباً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله راقياً. ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية التي فسدت في دلالتها بأمور أخرى وكيفيات موجودة فيه؛ فتكون لها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره غلى غير المنهاج الأول في لغة مضر، فليست اللغات وملكاتها مجاناً.ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق (القيل) في اللسان الحميري انه من القول وكثير من أشباه هذا، وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر؛ إلا أن العناية بلسان مضر، من أجل الشريعة كما قلناه، حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد، حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف؛ فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية، أنه من أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضاً من مخرج الكاف، وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف، وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق؛ حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم وأجيال ومختصاً بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التعرف والانتساب إلى الجيل والدخول فيها يحاكيهم في النطق بها. وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القافي. ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها، فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقاً وغرباً في ولد منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد اكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر، وسائر الجيل معهم من بني كهلان، في النطق بهذه القاف، أسوة. وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة، ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين، ولعلها لغة النبي بعينها. وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أن من قرأ في أم القرآن (اهدنا الصراط المستقيم ) بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاته، ولم أدر من أين جاء هذا؛ فإن أهل الأمصار أيضاً لم يستحدثوها، وإنما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الامصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضاً لم يستحدثوها، إلا انهم أبعد من مخالطة الاعاجم من أهل الامصار. فهذا يرجح، فيما يوجد من اللغة لديهم، أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقاً وغرباً في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري. والظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، وأن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك وآخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الامصار؛ والنطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. وبهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن؛ فأن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه، شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، وأنها لغة النبي . ويرجح ذلك أيضاً إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وجهي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنها حرف مستقل، وهو بعيد. والظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه واستقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. وفيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلاً بعد جيل، وأنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، ولغة النبي كما تقدم ذلك كله. وقد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، وأنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنهم ينطقون بها كذلك؛ فليست من لغة العرب. ولكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. والله الهادي المبين.
الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر إعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل؛ بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد.فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيها من التغاير الذي بعد عن صناعة أهل النحو لحناً. وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم؛ فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الاندلس معهما، وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه. وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد.وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل؛ فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق. اما إفريقية والمغرب، فخالطت العرب فيها البرابرة
العجم بوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل؛ فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد. وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع؛ ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً كما نذكره، وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدر.
الفصل التاسع والأربعون في تعلم اللسان المضري إعلم أن ملكة اللسان المضري، لهذا العهد، قد ذهبت وفسدت. ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن، وإنما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكناً، شأن سائر الملكات. ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم؛ حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم؛ ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من
أساليبهم وترتيب ألفاظهم؛ فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة. ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال. والذوق يشهد بذلك، وهو ينشا ما بين هذه الملكة والطبع السليم فيهما كما يذكر بعد. وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً. ومن حصل على هذه الملكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه.
الفصل الخمسون في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية، لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط، في خرت الإبرة، ثم تغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، وتخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم تردها إلى حيث ابتدأت، وتخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقين الأولين؛ ثم يتمادى على وصفه إلى آخر العمل، ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها. وهو إذا طولب ان يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً.وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه، وآخر
قبالتك ممسك بطرفه الاخر وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه.وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده ، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.فمن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم؛ فكان فيه " جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، قد حصل على خط من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم؛ فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون انهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها اقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم؛ فيسبق إلى المبتدىء كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.وأما من سواهم من اهل المغرب وإفريقية وغيرهم؛ فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب؛ إلا إن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكلية، وكأنهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم؛ لكنهم اجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علماً بحتاً وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ما قررناه في هذا الباب، أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه. ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدر الامور كلها، والله أعلم بالغيب.
الفصل الحادي والخمسون في تفسير لفظة الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنها لا تحصل غالباً للمستعربين من العجم إعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان. وقد مر تفسير البلاغة، وأنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده؛ فإذا اتصلت معاناته لذلك بمخالطة كلام العرب، حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب؛ وإن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى، مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل. ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً وبلاغة أمر طبيعي. وبقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادىء الرأي أنها جبلة وطبع.وهذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في صفها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ الى وجود النظم
وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية؛ فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد ومثاله: لو فرضنا صبياً من صبيانهم، نشأ وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها، حتى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك، بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أحيائهم. والقوانين بمعزل عن هذا. واستعير لهذه الملكة، عندما ترسخ وتستقر، اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها اسمه. وأيضا فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له؛ فقيل له ذوق. وإذا تبين لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها؛ لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الامصار، وبعدوا عنها كما"تقدم. وإنما لهم في
ذلك ملكة أخرى وليست هذه ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب، فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها كما عرفت. وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً مع حصول هذه الملكة لهم، فاعلم أن أولئك القوم الذين نسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط. أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراءها؛ وكأنهم في أول نشأتهم بمنزلة الأصاغر من العرب الذين نشأوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها. فهم وإن كانوا عجماً في النسب فليسوا بأعاجم في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منها ولا من أهل الأمصار. ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته.واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة؛ وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والخمسون في أن أهل الأمصار علي الإطلاق قاصرون فم تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم، من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة، بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة، حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم، وليس كذلك، وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك. وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المصرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. واعتبر ذلك في أهل الأمصار.فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده، أعلمني أبو سعيد كلاماً أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلاً، ليس من هذا حرفاً واحداً. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله. وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري، وسببه ما ذكرنا. وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك، لهذا العهد. ولهذا ما كان بإفريقية من
مشاهير الشعراء، إلا ابن رشيق وابن شرفي. وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن ماثلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتها وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظماً ونثراً. وكان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها، وابن عبد ربه والقسطلي وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف؛ لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية. وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض.وكان من آخرهم صالح بن شريف، ومالك بن المرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكانت دولة بني الاحمر في أولها. وألقت الأندلس أفلاذ كبدها، من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة، من عدوة إشبيلية إلى سبتة، ومن شرق الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة، لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم، بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية، وهي منافية لما قلناه.ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت، ونجم بها ابن بشرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم؛ ثم إبراهيم الساحلي الطويجن وطبقته، وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيداً بسعاية أعدائه. وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالاندلس أكثر، وتعليمها أيسر وأسهل، بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة، وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية؛ فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الاندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية؛ فكان شـأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة وإجادتها، لبعدهم لذلك العهد عن الاعاجم ومخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم، وكان فحول الشعراء والكتاب لعهدهم أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق.وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم، وملتهم العربية وسير نبيهم لمجز وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكماً في المشرق في الدولتين، وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب ودرست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم، وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم. وذلك في دولة الديلم والسلجوقية. وخالطوا أهل الأمصار وكثروهم فامتلأت الارض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته، وصار متعلمها منهم مقصراً عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور، وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر إعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنين في الشعر المنظوم، وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحدٍ من وهو القافية. وفي النثر وهو الكلام غير الموزون، وكل واحدٍ من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأما الشعر، فمنه المدح والهجاء والرثاء. وأما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعاً، ويلتزم في كل كلمتين منه قافيةٌ واحدة ٌيسمى سجعاً؛ ومنه المرسل، وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقاً ولا يقطع أجزاءً، بل يرسل إرسالاً من غير تقييدٍ بقافيةٍ ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم.وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقاً ولا مسجعاً. بل تفصيل آياتٍ ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافيةً، وهو معنى قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم }[سورة000الآية000] وقال: {قد فضلنا الآيات }[سورة000الآية000]. وتسمى آخر الآيات فيه فواصل، إذ ليست أسجاعاً، ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضاً قواف. وأطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه، واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا، ولهذا سميت السبع المثاني.وانظر هذا ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني، يشهد لك الحق برحجان ما قلناه.واعلم أن لكل واحدٍ من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه، مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة
الأسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصاً أهل المشرق. وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جاريةً على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صوابٍ من جهة البلاغة، لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطب والمخاطب.وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر، فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه؛ إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف وضرب الامثال وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب. والتزام التقفية أيضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السلطانية الترسل، وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثباتٍ أو تصريحٍ أو إشارةٍ وكنايةٍ واستعارةٍ.وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة علي ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال؛ فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته. وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع
والألقاب البديعية، ويغفلون عفا سوى ذلك. واكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر انحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة، لا يجتمعان معها؛ فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأفل ذلك وانتقد بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب، بمنه وكرمه، والله تعالى أعلم. الفصل الرابع والخمسون في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم والمنثور معاً إلا للأقل والسبب في ذلك أنه كما بيناه ملكةٌ في اللسان؛ فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى، قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن قبول الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر. وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعةً لها في المدة القابلة وعائقةً عن سرعة القبول، فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة. وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. وقد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات، فإنها ملكات اللسان، وهي بمنزلة الصناعة. وانظر من تقدم له شيء من العجمة، كيف يكون قاصراً في اللسان العربي أبداً. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي علي ملكة اللسان العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمه وعلمه. وكذا البربري والرومي الإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان
العربي. وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر، حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي ومن كتبهم جاء مقصراً في معارفه عن الغاية والتحصيل، وما أتى إلا من قبل اللسان. وقد تقدم لك من قبل أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع. وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم. وإن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية. والله خلقكم وما تعلمون.
الفصل الخامس والخمسون في صناعة الشعر ووجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم، ويوجد في سائر اللغات؛ إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم، وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفضل قطعاً قطعاً، متساويةً في الوزن، متحدةً في الحرف الأخير من كل قطعة. وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً؛ ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه روياً وقافيةً؛ ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدةً وكلمةً. وينفرد كل بيتٍ منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبلة وما بعده. وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدحٍ تشبيتٍ أو رثاءٍ؛ فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك، ويسترد للخروج من فنٍ إلى فنٍ ومن مقصودٍ إلى مقصودٍ، بأن يوطيّء المقصود الأول ومعانيه، إلى أن يناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من التسشبيت إلى المدح؛ ومن وصف البيداء والطلول، إلى وصف الركاب أو الخيل أو
الطيف؛ ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره؛ ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأبين وأمثال ذلك.ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزنٍ الى وزنٍ يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. وليس كل وزنٍ يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحراً، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً.واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة.والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه؛ فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب، ويبرزه مستقلاً بنفسه. ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت آخر، ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعضٍ بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محّكا للقرائح في استجادة أساليبه، وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها وباستعمالها فيه.ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب؛ ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان؛ ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية؛ وإنما ترجع إلى صورة ذهنيا للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان؛ فيرضها فيه رصاً، كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه، كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على انحاء مختلفة، فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله:"يا دار مية بالعليا فالسند".ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله:"قفا نسأل الدار التي خف أهلها".أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله:"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ".أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله:"ألم تسأل فتخبرك الرسوم ".ومثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله:"حي الديار بجانب الغزل ".أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
- أسقي طلولهم أجش هذيــــم وغدت عليهم نضرة ونعيـــــــــــم
أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله:
- يا برق طالع منزلاً بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينــــــــــق
أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله:
- كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:"أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي "أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
- منابت العشب لا حامٍ ولا راعٍٍ مضى الردى بطويل الرمحِ والباعِ
أو بالإنكارِ على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
- أيا شجر الخابور ما لك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريفِ
أو بتهنئة فريقهِ بالراحة من ثقل وطأتهِ كقوله:
- ألقى الرماح ربيعةُ بن نزارِ أودى الردى بقريعك المغوارِ
وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه. وتنتظم التراكيب فيه بالجمل
وغير الجمل، إنشائيةً وخبريةً، إسميةً أو فعليةً، متفقةً وغير متفقة، مفصولةً وموصولةً؛ على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في مكان كل كلمةٍ من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب، من القالب الكلي المجرد في الذهن، من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناءِ أو النساجِ، والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالبِ الذي يبني فيه أو المنوالِ الذي ينسج عليهِ. فإن خرج عن القالب في بنائه أو على
المنوالِ في نسجهِ كان فاسداً. ولا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنا نقول: قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية وقياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس. وهو قياس علمي صحيح مطرد، كما هو قياس القوانين الإعرابية. وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شئ إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها؛ فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه. وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه. وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم، تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو، وبهذه الأساليب الذهنية، التي تصير كالقوالب، كان نظراً في المستعمل من تراكيبهم، لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن، إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين، وجاءوا به مفصلاً في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة، واستقلال الكلام في كل قطعة، وفي المنثور، يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالباً، وقد يقيدونه بالأسجاع. وقد يرسلونه، وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلق الكلام عليه تأليفه، ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم، حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية، قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البناءُ على القالب، والنساج على المنوال. فلهذا كان من تأليف الكلام منفرداً عن نظر النحوي والبياني والعروضي. نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر، لطيفِ في هذه القوالب، التي يسفونها أساليب. ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً. وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو، فلنذكر بعده حداً أو رسماً للشعر يفهمنا حقيقته على صعوبة هذا الغرض. فإنا لم نقف عليه لأحدٍ من المتقدمين فيما رأيناه.وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى، ليس بحدٍ لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسمٍ له. وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي، ومماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. وذلك نظر في وزنٍ مجدد عن الألفاظ ودلالتها؛ فناسب أن يكون حّدا عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريفٍ يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه، فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل؛ وقولنا مستقل كل جزءٍ منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة، لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك، ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به، فصل له عما لم يجرمنه على أساليب الشعر المعروفة؛ فإنه حينئذٍ لا يكون شعراً إنما هو كلائم منظوم، لان الشعر له أساليب تخصه، لا تكون للمنثور. وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب، فلا يسمى شعراً. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعرفي ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم، عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب ولغيرهم. ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا يحتاج إلى ذلك، ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر، فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: إعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطاً، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها؛ ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية. ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر ردئ ، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقشت أسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورةً. ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا من المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه.قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر، وفي هواء الجمام. وربما قالوا إن من بواعثه العشق والانتشاء، ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة، وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه الى وقت آخر، ولا يكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه يضعها، ويبني الكلام عليها إلى آخره، لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرةً قلقةً، وإذا سمح الخاطر بالبيت، ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به؛ فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها ما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره، إذ هو نبات فكره واختراع قريحته، ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها، فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة.وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعةٍ منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده. وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقاً على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً، واستعمل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبيء والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هو الذوق. وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماع فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده؛ فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال. وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. وهذه نبذةٌ كافيةٌ والله المعين. وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق:
- لعن الله صنعة الشعر مـــــــــاذا من صنوف الجهال فيها لقينا
- يؤثرون الغريب منه على مـــــا كان سهلاً للسامعين مبينـــــــا
- ويرون المحال معنى صحيحــــاً وخسيس الكلام شيئاً ثمينــــــاً
- يجهلون الصواب منه ولا يـــــد رون للجهل أنهم يجهلونــــــــا
- فهم عند من سوانا يلامـــــــــــو ن وفي الحق عندنا يعذرونـــا
- إنما الشعر ما يناسب في النظم وإن كان في الصفات فنونـــا
- فأتى بعضهُ يشاكلُ بعضــــــــــــــــــاً وأقامت له الصدور المتونــــا
- كل معنى أتاك منه على مـــــــــــــــا تتمنى لو لم يكن أو يكونــــــا
- فتناهى من البيان إلـــــــــــــــــــى أن كاد حسنا يبين للناظرينـــــــــا
- فكان الألفاظ منه وجــــــــــــــــــــوه والمعاني ركبن فيه عيونــــــا
- قائماً في المرام حسب الأمانـــــــــي يتحلى بحسنه المنشدونـــــــــا
- فإذا ما مدحت بالشعر حــــــــــــــّرا رمت فيه مذاهب المشتهينــــا
- فجعلت النسيب سهلاً قريبـــــــــــــاً وجعلت المديح صدقاً مبيـــــنا
- وتنكبت ما تهجن في السمــــــــــــع وإن كان لفظه موزونـــــــــــا
- وإذا ما قرضته بهجــــــــــــــــــــاء عبت فيه مذاهب المرقبينــــــا
- فجعلت التصريح منـــــــــــــه دواء وجعلت التعريض داء دفينـــا
- وإذا ما بكيت فيه على الغـــــــــــــا دين يوماً للبين والظاعنينــــــا
- حلت دون الأسى وذللت ما كــــان من الدمع في العيون مصونــا
- ثم إن كنت عاتباً جئت بالوعـــــــد وعيداً وبالصعوبة لينـــــــــــــا
- فتركت الذي عتبت عليـــــــــــــــه حذراً، آمناً، عزيزاً، مهينـــــــا
- وأصح القريض ما فات في النظم وإن كان واضحاً مستبينـــــــــا
- فإذا قيل أطمع الناس طـــــــــــــرا وإذا ريم اعجز المعجزينــــــــا
ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي:
- الشعر ما قومت ربع صـــــدوره وشددت بالتهذيب أس متونــه
- ورأيت بالإطناب شعب صدوعه وفتحت بالإيجاز عور عيونه
- وجمعت بين قريبه وبعيــــــــــده وجمعت بين مجمه ومعينــــــــه
- وعمدت منه سحد أمر يقتضـــى شبها به فقرينه بقرينـــــــــــــــه
- وإذا مدحت به جواداً ماجــــــــداً وقضيته بالشكر حق ديونــــــــه
- أصفيته بنفيسه ورصينــــــــــــه وخصصته بخطيره وثمينـــــــه
- فيكون جزلاً في مساق صنوفـه ويكون سهلاً في اتفاق فنونـــه
- وإذا بكيت به الديار وأهلهـــــــا أجريت للمحزون ماء شئونـــه
- وإذا أردت كناية عن ريبــــــــة باينت بين ظهوره وبطونــــــه
- فجعلت سامعه يشوب شكوكـــه بثنائه وظنونه بيقينــــــــــــــــه
- وإذا عتبت علم أخٍ في زلـــــــةٍ أدمجت شدته له في لينــــــــــه
- فتركته مستأنساً بدماثـــــــــــــة مستأمناً لوعوته وحزونـــــــــه
- وإذا نبذت إلى الذي علقتهــــــا إذ صارمتك بفاتنات شؤونـــه
- تيمتها بلطيفه ورقيقـــــــــــــــه وشغفتها بخبيه وكمينــــــــــــه
- وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها وأشكت بين مخيله ومبينــــــه
- فيحول ذنبك عند من يعتــــده عتباً عليه مطالباً بيمينــــــــــه
الفصل السادس والخمسون في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إعلم أن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر
إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجريه على لسانه، حتى تستقر له الملكة في لسان مضر، ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله، ويفرض نفسه، مثل وليدٍ نشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي، حتى يصير كأنه واحدً منهم في لسانهم. وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات، والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر. وأيضاً فالمعاني موجودة عند كل واحدٍ وفي طوع كل فكرمنها ما يشاء ويرضى؛ فلا تحتاج إلى تكلف صناعةٍ في تأليفها. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحدُ في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها؛ وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه، على مقتضى ملكة اللسان، إذا حاول العبارة عن مقصوده، ولم يحسن، بمثابة المقعد، الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، لفقدان القدرة عليه. والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان العربي؛ وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانىء أو الشريف الرضي؛ أو رسائلى ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابىء؛ تكون ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة، ممن يحفظ أشعار المتأخرين مثل شعر ابن سهل أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني، لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك. يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات.واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها. والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمنة بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانيا وكذا سائرها. وللنفس في كل واحدٍ منها لون تتكيف به
وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جود؛ أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام، ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كفهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلىء به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة، لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة، فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلىء من حفظ النقي الحر من كلام العرب.أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال:ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبى الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم انسبها له وهو هذا:
- لم أدر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؛ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي.وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك، لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم له الجيد من الكلام.ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام، من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً. وإنما أتيت، والله أعلم بحقيقة الحال، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في
القراءات والرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس؛ فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلى ساعة متعجباً ثم قال: لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك ؟.ويظهر لك من هذا الفصل، وما تقرر فيه سر آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان في الرمة والأحوص وبشابى، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الاموية وصدراً من الدولة العباسية، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم. والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة.والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم؛ فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها؛ فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والبصر بالبلاغة.ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، وكان شيخ هذا الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين، واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه؛ فسألته يوماً: ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين؛ ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلاً ثم قال لي: والله ما أدري ! فقلت له: أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً، ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم. والله خلق الإنسان وعلمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله إعلم أن الكلام الذي هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه في إفادة المعنى. وأما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشروط والأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. وتلك الشروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد بالإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام جل قوانين العربية. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمارٍ وإظهارٍ، وتقييدٍ وإطلاقٍ وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون
البلاغة. فتندرج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصراً عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأن التركيب يدل بالوضع على معنى، ثم ينتقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه؛ فيكون فيها مجازاً: إما باستعارةٍ أو كنايةٍ كما هو مقرر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة وأشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضاً شروط وأحكام كالقوانين صيروها صناعة، وسموها بالبيان. وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى احوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. واللفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربياً، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي وسجيته وروحه وطبيعته. ثم إعلم أنهم إذا قالوا: "الكلام المطبوع " فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادةً تامةً، ويدل به عليه دلالةً وثيقةً. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه
بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، والمطابقة بين المتضادات، ليقع "التجانس بين الألفاظ والمعاني، فيحصل للكلام رونق ولذة في الأسماع وحلاوةٌ وجمالٌ كلها زائدةٌ على الإفادة.وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعددة مثل: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى}[سورة000الآية000]، ومثل: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى}[سورة000الآية000]، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا}[سورة000الآية000] إلى آخر الآية. وكذا: (هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً). وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفواً من غير قصدٍ ولا تعمدٍ. ويقال إنه وقع في شعر زهير.
وأما الإسلاميون فوقع لهم عفواً وقصداً، وأتوا منه بالعجائب. وأول من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتري ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل إن أول من ذهب إلى معاناتها بشار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثارهم حبيب والبحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصناعة أجمع. ولنذكر مثالاً من المطبوع الخالي من الصناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
- وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
وقول كثير:
- وإني وتهيامي بعزة بعدمـــــا تخليت عما بيننا وتخلــــــــــــــــت
- لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلــــــــــــت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت
فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسناً.
وأما المصنوع فكثير من لدن بشار، ثم حبيب وطبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم. وقد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، وأنها هي تعطي التحسين والرونق. وأما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطاً، منها أن تقع من غير تكلفٍ ولا اكتراثٍ في ما يقصد منها. وأما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من غيب الاستهجان، لأن تكلفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأساً ولا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر وأصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، وكان من أهل البصر في اللسان والقريحة في ذوقه يقول:إن من أشهى ما تقترحه علي نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشد العقوبة، ونودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، ويتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين ثم ثلاثةٍ من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من
محسنات الكلام ومزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية والإسلام. وكان أولاً مرسلاً معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلالٍ الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتقفية وأتى بذلك بالعجب. وعاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. وإنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات والأخوانيات والعربيات بالسوقيات. واختلط المرعي بالهمل. وهذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الاكتراث فيه بأصل البلاغة، والحاكم في ذلك الذوق. الله خلقكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع والخمسون في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر إعلم أن الشعر كان ديواناً للعرب، فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كل واحدٍ منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر، لتمييز حوكه. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم إبراهيم؛ كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة، والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها، من كان له قدرة
على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر، على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام، بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً. ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي وأثاب عليه، فرجعوا حينئذٍ إلى ديدنهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيما عاليةٌ وطبقةٌ مرتفعةٌ، وكان كثيراً ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجباً به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدولة العزيزة، وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم، يطلعون منها على الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل الشأن هذا أيام بني أمية وصدراً من دولة بني العباس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي، في باب الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك، والرسوخ فيه والعناية بانتحاله، والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم، من اجل العجمة وتقصيرها باللسان، وأنما تعلموه صناعة، ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط، لا سوى ذلك من الأغراض، كما فعله حبيب والبحتري والمتنبي وابن هانىء ومن بعدهم إلى هلم جرًّا فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو للكدية والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين، كما ذكرناه آنفاً. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين، وتغير الحال فيه وأ صبح تعاطيه هجنةً في الرئاسة ومذمةً؛ لأهل المناصب الكبيرة. والله مقلب الليل والنهار.
الفصل الستون
في أشعار العرب وأهل الأمصال لهذا العهد
إعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغةٍ، سواء
كانت عربيةً أو عجميةً. وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق: أوميروس الشاعر وأثنى عليه. وكان في حمير أيضاً شعراء متقدمون. ولما فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين إعرابها، وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة؛ فكان لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة، وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات. وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف، وخالفت أيضاً لغة الجيل من العرب لهذا العهد. واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق، فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره، وتخالفهما أيضاً لغة أهل الأندلس وأمصاره.ثم لما كان الشعر موجوداً بالطبع في أهل كل لسان، لأن الموازين على نسبةٍ واحدةٍ في إعداد المتحركات والسواكن وتقابلها، موجودة في طباع البشر؛ فلم يهجر الشعر بفقدان لغةٍ واحدةٍ؛ وهي لغة مضر؛ الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه، حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيلٍ وأهل كل لغةٍ من العرب المستعجمين والحضر اهل الامصار، يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب، أهل هذا الجيل، المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض، على ما كان عليه سلفهم المستعربون، ويأتون منه بالمطولات مشتملة
على مذاهب الشعر وأعراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء، ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم. وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر، ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات، نسبةً إلى الأصمعي، راوية العرب في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحوراني والقيسى، وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطةً، لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به، ويسمون الغناء به باسم الحوراني ، نسبةً إلى حوران من أطراف العراق والشام، وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد.ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصباً على أربعة أجزاءٍ، يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة؛ شبيهاً بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة؛ وفيهم الفحول والمتأخرون عن ذلك، والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد، وخصوصاً علم اللسان؛ يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها. وهذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم. فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره؛ وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة، إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه، سواء كان الرفع دالا على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس. وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام، كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة: فإذا عرف اصطلاح في ملكةٍ واشتهر صحة الدلالة؛ وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة. ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم؛ فإن غالب كلماتهم موقوفة الاخر. ويتميز
عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب. فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحانٍ، ويذكر ظعنها مع قومها الى المغرب:
- قال الشريف ابن هاشم علي # يغز للأعلام أين ما رأت خاطري
- وماذا شكاة الروح مما طرا لها
- يحس إن قطاع عامر ضميرها
- وعادت كما خوارة في يد غاسل #تجابذوها اثنين والنزع بينهم
# وباتت دموع العين ذارفات لشانها #تدارك منها النجم حذراً وزادها #يصب من القيعان من جانب الصفا
- هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة
# ونادى المنادي بالرحيل وشدوا # وشد لها الأدهم دياب بن غانم
ترى كبدي حرى شكت من زفيرها يرد غلام البدو يلوي عصيرها
عداة وزائع تلف الله خبيرها
طوى وهند جافي ذكيرها على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها على شوك لعه والبقايا جريرها
شبيه دوار السواني يديرها مرون يجي متراكباً من صبيرها
عيون ولجاز البرق في غزيرها
ناضت من بغداد حتى فقيرها وعرج عاريها على مستعيرها
على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
وقال لهم حسن بن سرحان غربوا وسوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
- ويركض وبيده شهامه بالتسامح وباليمين لا يجدوا في مغيرها
- غدرني زيان السيح من عابس وما كان يرضى زين حمير وميرها
- غدرني وهو زعماً صديقي وصاحبي وأناليه ما من درقتي ما يديرها
- ورجع يقول لهم بلال بن هاشم بحر البلاد العطشى ما بخيرها
- حرام علي باب بغداد وأرضها داخل ولا عائد ركيزه من نعيرها
- تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم على الشمس أو حول الغظا من هجيرها
- وباتت نيران العذارى قوادح يلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بافريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكم:
- تقول فتاة الحي سعدى وهاضهـــا لها في ظعون الباكرين عويلُ
- أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفـــة خذ النعت مني لا تكون هبيــلُ
- تراه يعالي وادي ران وفوقـــــــــه من الربط عيساوي بناه طويلُ
- أراه يميل النور من شارع النقـــــا به الواد شرقاً واليراع دليـــــلُ
- أيا لهف كبدي على الزناتي خليفـه قد كان لأعقاب الجياد سليـــلُ
- قتيل فتى الهيجا دياب بن غانـــــم جراحه كأفواه المزاد تسيـــــلُ
- أيا جائزاً مات الزناتي خليفــــــــه لا ترحل إلا أن يريد رحيـــلُ
- ألا واش رحلنا ثلاثين مـــــــــــرةً وعشراً وستا في النهار قليــلُ
ومن قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتاباً وقع بينه وبين ماضي بن مقرب:
- تبدى ماضي الجبار وقال لـــــــــــي
- أشكر أعد ما بقي ود بيننـــــــــــــــا
- نحن غدينا نصدفو ما قضى لنــــــا
- أشكر أعد إلى يزيد ملامــــــــــــــه
- إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم
أشكر ما نحنا عليك رضــــــاشِ ورانا عريب عربا لابسين نماشِ كما صادفت طعم الزباد طشـاشِ
ليحدو ومن عمر بلاده عـــــاشِ
هنا العرب ما زدنا لهن صيـــاشِ
ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه:
- وأي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم وأي رجال ضاع قبلي جميلها
- لقد كنت أنا وباه في زهو بيتنــــا عناني بحجة وغباني دليلهـــــــــا
- وعدت كأني شارب من مدامــــةٍ من الخمر فهو ما قدر من يميلهــا
- أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريباً وهي مدوخه عن قبيلهـــــــا
- أتاها زمان السوء حتى تدوحـت وهي بين عرباً غافلا عن نزيلهـــا
- كذلك أنا مما لحاني من الوجـــى شاكي بكبد باديتها زعيلهـــــــــــــا
- وأمرت قومي بالرحيل وبكـــروا وقووا وشداد الحوايا حميلهــــــــــا
- قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنـــا والبدو ما ترفع عمود يقيلهــــــــــا
- نظل على حداب الثنايا نـــوازي يظل الجري فوق النضا ونصيلها
ومن شعر سلطان بن مطفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح وأهل الرياسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين:
- يقول وفي بوح الدجا بعد وهنـــــة حرام على أجفان عيني منامهــــــــــا
- يا من لقلب حالف الوجد والأســـى وروح هيامي طال ما في سقامهــــــا
- حجازية بدوية عربيـــــــــــــــــــــة عداوية ولها بعيد مرامهــــــــــــــــــــا
- مولعة بالبدو لا تالف القـــــــــــرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامهـــــــا
- غيات ومشتاها بها كل شتــــــــــوة ممحونة بيها وبيها صحيح غرامهــــا
- ومرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخور الخلايا جسامهـــــــا
- تشوق شوق العين مما تداركـــــــت عليها من السحب السواري عمامهــــا
- وماذا بكت بالما وماذا تناحطــــــت عيون غزار المزن عذبا حمامهــــــــا
- كان عروس البكر لاحت تيابهــــــا عليها ومن نور الأقاحي خزامهـــــــا
- فلاة ودهنا واتساع ومنــــــــــــــــة ومرعى سوى ما في مراعي نعامها
- ومشروبها من مخض ألبان شولها غنيم ومن لحم الجوازي طعامها
- تفانت عن الأبواب والموقف الـــــــــذي يشيب الفتى مما يقاسي زحامهـــــــا
- سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيــــــــا وبلا ويحيى ما بلي من رمامهـــــــا
- فكافأتها بالود مني وليتنــــــــــــــــــــــي ظفرت بأيام مضت في ركامهـــــــا
- ليالي أقواس الصبا في سواعـــــــــــــدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامهـــا
- وفرسي عديد تحت سرجي مشاقـــــــــة زمان الصبا سرجاً وبيدي لجامهـــا
- وكم من رداح أسهرتني ولــــــــــم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامهــا
- وكم غيرها من كاعب مرجحنـــــــــــة مطرزة الأجفان باهي وشامهــــــــا
- وصفقت من وجدي عليها طريحــــــة بكفي ولم ينسى جداها ذمامهــــــــا
- ونار بخطب الوجد توهج في الحشــــا وتوهج لا يطفا من الماء ضرامهـا
- أيا من وعدتى الوعد هذا إلى متـــــــى فني العمر في دار عماني ظلامهـا
- ولكن رأيت الشمس تكسف ساعــــــــةً ويغمى عليها ثم يبدأ غيامهمــــــــا
- بنود ورايات من السعد أقبــــــــــــــلت إلينا بعون الله يهفو علامهـــــــــــا
- أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتـــي ورمحي على كتفي وسيري أمامها
- بجرعا عتاق النوق من فوق شامـــس أحب بلاد الله عندي حشامهــــــــــا
- إلى منزل بالجعفرية ّلّلــــــوى مقيم بها ما لذ عند ى مقامهـــــــــــــا
- ونلقى سراة من هلال بن عامــــــــــر يزيل الصدا والغل عني سلامهـــا
- بهم تضرب الأمثال شرقاً ومغربــــاً إذا قاتلوا قوماً سريع انهزامهـــــــا
- عليهم ومن هو في حماهم تحيــــــــة مدى الدهر ما غنى يفينا حمامهـــا
- فدع ذا ولا تأسف على سالف مضى فذي الدنيا ما دامت لأحد دوامهــــا
ومن أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر، شيخ الكعوب، ومن
أولاد أبي الليل، يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل، عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
- يقول وذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعاني صعابها
- يريح بها حادي المصاب إذا سعــى فنونا من إنشاد القوافي عذابهــا
- محيرة مختارة من نشادهــــــــــــــا تحدى بها تام الوشا ملتهابهـــــا
- مغربلة عن ناقد في غضونهــــــــا محكمة القيعان دابي ودابهـــــا
- وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل وهذي جوابها
- أشبل جنينا من حباك طرائفـــــــــا فراح يريح الموجعين الغنا بها
- فخرت ولم تقصر ولا أنت عـــــــادم
- لقولك في أم المتين بني حمـــــــــــزةٍ
- أما تعلم أنه قد قامها بعدما لقـــــــــي
- شهاباً من أهل الأمر يا شبل خارق # سواها طفاها أضرمت بعد طفيه #وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحــت
- وبان لوالي الأمر في ذا انشحابهــــــا
- كما كان هو يطلب على ذا تجنبـــــت
سوى قلص في جمهورها ما أعابها وحامى حماها عاديا في حرابهــــــــــــــا
رصاص بني يحيى وغلاق دابهـــــــــــا وهل ريت من جا للوغى واصطلى بها واثنى طفاها جاسراً لا يهابهــــــــــــــــــا
لفاس إلى بيت المنى يقتدى بهــــــــــــــا
فصار وهي عن كبر الأسنة تهابها رجال بثي كعب الذي يتقي بهــــــــــــــــا
ومنا في العتاب:
- وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأننــــــي غنيت بمعلاق الثنا واغتصابهـا
- علي ونا ندفع بها كل مبضــــــع بأسياف ننتاش العدا من رقابها
- فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابهــا
- ولا بعدها الإرهاف وذبل ورزق كالسنة الحناش انسلابهـــــــــــا
- بني عمنا ما نرتضي الذل غلمـه تسير السبايا والمطايا ركابهــا
- وهي عالماً بان المنايا تنيلهـــــــا بلا شك والدنيا سريع انقلابهـا
ومنها في وصف الظعائن:
- قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها
- ترى العين فيها قل لشبل عرائف وكل مهاةٍ محتظيها ربابهــــــــــــــا
- ترى أهلها غب الصباح أن يفلهـا بكل حلوب الجوف ما سدَّ بابهــــــا
- لها كل يوم في الأرامي قتائــــــل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
ومن قولهم في الأمثال الحكمية:
- وطلبك في الممنوع منك سفاهـة وصدك عمن صد عنك صواب
- إذا رأيت أناساً يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله بــــــاب
ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
- الشيب وشبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها
ومن قول خالدٍ يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمدٍ بن تافراكين المستبد بححابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا:
- يقول بلا جهل لتى الجود خالــــــــــــدُ
- مقالة حبر ذات ذهن ولم يكــــــــــــــن
- تهجست معنا نابها لا لحاجـــــــــــــــةٍ
- وكنت بها كبدي وهي نعم صابــــــــة
- تفوهت بادي شرحها عن مــــــــآرب
- بنى كعب أدنى الأقربين لدمنـــــــــــتا
- جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم # وبعضهم ملنا له عن خصيمــــــــــه
- وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا # وبعضهمو جانا جريحاً تسمحت #وبعضهمو نظار فينا بســـــــــــــــَّوةٍ
- رجع ينتهي مما سفهنا قبيحــــــــــه
- وبعضهمو شاكي من أوغاد قــــادر
- فصمناه عنه وأقتضي منه مــــورد
- ونحن على دافى المدى نطلب العلا # وحزنا حمى وطن بترشيش بعدمـــــا
- ومهد من الأملاك ما كانا خارجــــــاً
- بردع قروم من قروم قبيلنـــــــــــــــا
- جرينا بهم عن كل تأليف في العــــدا
- إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمـــــة
- وركبوا السبايا المثمنات من أهلها #وساقوا المطايا بالشرا لا نسوا لــــــه
مقالة قوال وقال صـــــــــــــــــوابُ
هريجاً ولا فيما يقول ذهـــــــــــــابُ ولا هرج ينقاد منه معـــــــــــــــابُ حزينة فكبر والحزين يصـــــــــابُ جرت من رجال في القبيل قــرابُ بني عم منهم شايب وشبـــــــــــابُ مصافاة ود واتساع جنــــــــــــــابُ كما يعلموا قولي يقينه صــــــــوابُ جزاعاً وفي جو الضمير كتـــــــابُ خواطر منها للنزيل وهــــــــــــــابُ نقهناه حتى ما عنا به ســــــــــــــاب مراراً وفي بعض المرار يهــــــــاب غلق عنه في أحكام السقائف بــــــاب على كره مولى البالقي وديــــــــــــاب لهم ما حططنا للفجور نقــــــــــــــاب نفقنا عليها سبقاً ورقــــــــــــــــــــــاب على أحكام والي أمرها له نـــــــــــاب بني كعب لاواها الغريم وطــــــــــاب وقمنا لهم عن كل قيد منــــــــــــــاب ربيها وخيراته عليه نصــــــــــــــاب ولبسوا من أنواع الحرير ثيــــــــــاب جماهير ما يغلو بها بحـــــــــــــــلاب
- وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر # وعادوا نظير البر مكيين قبــــــــــل ذا
- وكانوا لا درعاً لكل مهمـــــــــــــــــــة
- وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقـوا
- كسوا الحي جلباب البهيم لستــــــــــره
- كذلك منهم حانس ما دار النبــــــــــــا
- يظن ظنوناً ليس نحن بأهلهــــــــــــــا
- خطا هو ومن واتاهُ في سوّظنه #فواعزوتى إن الفتى بو محمـــــــــــــــد
- ويرحت الأوغاد منه ويحسبـــــــــــوا
- جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع # وهو لو عطى ما كان للرأى عــــارف
- وإن نحن ما نستأملوا عنه راحــــــــــة
- وإن ما وطا ترشيش يضياق وسعها # وأنه منها عن قريب مفاصـــــــــــــــل
- وعن فاتنات الطرف بيض كوانــــــج
- يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا #يضلوه عن عدم اليمين وربمـــــــــــــا
- بهم حازله زمه وطوع أوامــــــــــــــر
- حرام على ابن تافركين ما مضــــــــى
- وإن كان له عقل رجيح وفطنـــــــــــة
- وأما البدالا بّدها من فياعــــــــــــــــــل
- ويحمى بها سوق علينا سلاعـــــــــــه
- ويمسي كلام طالب ريح ملكنـــــــــــا
- أيا واكلين الخبز تبغوا أدامـــــــــــــــه
ضخام لحزات الزمان تصاب
وإلا هلالا في زمان دياب إلى أن بان من نار العدو شهاب ملامه ولا دار الكرام عتاب وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب ذهل حلمي أن كان عقله غاب تمنى يكن له في السماح شعاب بالإثبات من ظن القبائح عاب وهوب لآلاف بغير حساب بروحه ما يحيى بروح سحاب لقوا كل ما يستاملوه سراب ولا كان في قلة عطاه صواب وأنه بإسهام التلاف مصاب
عليه ويمشي بالفزوع لزاب
خنوج عناز هوالها وقباب ربوا خلف أستار وخلف حجاب بحسن قوانين وصوت رباب يطارح حتى ما كأنه شاب ولذة مأكول وطيب شراب من الود إلا ما بدل بحراب يلجج في اليم الغريق غراب كبار إلى أن تبقى الرجال كباب ويحمار موصوف القنا وجعاب ندوما ولا يمسي صحيح بناب غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
ومن شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته:
- محبرة كالدر في يد صانــــــــــع إذا كان في سلك الحرير نظام
- أباحها منها فيه أسباب ما مضى وشاء تبارك والضعون تســـام
- غدا منه لأم الحي حيين وأنشطت عصاها ولا صبنا عليه حكـــام
- ولكن ضميري يوم بأن بهم إلينــا تبرم على شوك القتاد بــــــــرام
- وإلا كأبراص التهامي قـــــــوادح وبين عواج الكانفات ضــــــرام
- وإلا لكان القلب في يد قابـــــــض أتاهم بمنشار القطيع غشـــــــام
- لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق وخــــام
- إلا يا ربوع كان بالأمس عامــــــــــــــــر بيحيى وحله والقطين لمــــــــــــام
- وغيد تداني للخطا في ملاعــــــــــــــــبٍ دجى الليل فيهم ساهرٌ ونيـــــــــام
- ونعم يشوف الناظرين التحامهـــــــــــــــا لنا ما بدا من مهرق وكظــــــــــام
- وعرود باسمها ليدعو لسربهـــــــــــــــــا وإطلاق من شرب المها ونعـــــام
- واليوم ما فيها سوى البوم حولهــــــــــــا ينوح على أطلال لها وخيـــــــــام
- وقفنا بها طورا طويلا نسألهــــــــــــــــا بعين سخينا والدموع سجــــــــــــام
- ولا صح لي منها سوى وحش خاطري وسقمي من أسباب أن عرفت أوهام
- ومن بعد ذا تدى لمنصور بوعلــــــــــي سلام ومن بعد السلام ســـــــــــلام
- وقولوا له يا بو الوفا كلح رأيكـــــــــــــم دخلتم بحور غامقات دهــــــــــــام
- زواخر ما تنقاس بالعود إنمـــــــــــــــــا لها سيلات على الفضا وأكـــــــام
- ولا قستمو فيها قياسا يدلكـــــــــــــــــــم وليس البحور الطاميات تعــــــــام
- وعانوا على هلكاتكم في ورودهـــــــــا من الناس عدمان العقول لئــــــــام
- أيا عزوة ركبوا الضلالة ولا لهــــــــــم قرار ولا دنيا لهــــــــــــــــن دوام
- إلا عناهمو لوترى كيف زايهــــــــــــــم مثل سراب فلاه ما لهن تمـــــــام
- خلو القنا يبغون في مرقب العــــــــــــلا مواضع ما هيا لهم بمقـــــــــــــام
- وحق النبي والبيت وأركانه العلـــــــــــى ومن زارها في كل دهر وعـــام
- لبر الليالي فيه أن طالت الحيــــــــــــــــا يذوقون من خمط الكساع مـــدام
- ولا برها تبقى البوادي عواكـــــــــــــف بكل رديني مطرب وحســـــــــام
- وكل مسافة كالسد إياه عابـــــــــــــــــــر عليها من أولاد الكرام غــــــــلام
- وكل كميث يكتعص عض نابـــــــــــــه يظل يصارع في العنان لجــــــام
- وتحمل بنا الأرض العقيمة مـــــــــــــدة وتولدنا من كل ضيق كظــــــــام
- بالأبطال والقود الهجان وبالقنـــــــــــــا لها وقت وجنات البدور زحـــــام
- أتجحدني وأنا عقيد نقودهــــــــــــــــــا وفي سن رمحي للحروب عـــلام
- ولحن كأضراس الموافي بنجعكــــــــم حتى يقاضوا من ديون غـــــــرام
- متى كان يوم القحط يا مير أبو علــــي يلقى سعايا صايرين قـــــــــــــدام
- كذلك بوحمو إلى اليسر أبعمــــــــــــــه وخفى الجياد العاليات تســـــــــــام
- وخل رجالاً لا يرى الضيم جارهـــــــم ولا يجمعوا بدهى العدو زفـــــــــام
- ألا يقيموها وعقد بؤسهــــــــــــــــــــــــم وهم عذر عنه دائمـــــــــــا ودوام
- وكم ثار طعنها على البدو سابـــــــــــــق ما بين صحاصيح وما بين حســام
- فتى ثار قطار الصوى يومنا علــــــــــى لنا أرض ترك الظاعنين زمـــــــام
- وكما ذا يجيبوا أثرها من غنيمـــــــــــــة حليف الثنا قشاع كل غيـــــــــــــام
- وإن جاء خافوه الملوك ووسعـــــــــــــوا غدا طبعه يجدي عليه قيـــــــــــــام
- عليكم سلام الله من لسن فاهــــــــــــــــــم ما غنت الورقا وناح حمـــــــــــام
ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره لقول:
- تقول فتاة الحي أم سلامــــــــــــــــــة بعين أراع الله من لا رثى لهـــــا
- تبيت بطول الفيل ما تألف الكــــرى موجعة كان الشقافي مجالهمـــــــا
- على ما جرى في دارها وبو عيالها بلحظة عين البين غير حالهــــــــا
- فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكـــــــم ونمتوا عن أخذ الثأر ماذا مقالهــا
- أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرنـــــــي ويبرد من نيران قلبي ذبالهـــــــــا
- أيا حين تسريح الذوائب واللحــــــى وبيض العذارى ما حميتو جمالها
الموشحات والأزجال للأندلس
وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فناً منه سموه بالموشح، وينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً، يكثرون منها، ومن أعاريضها المختلفة. ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. ويشتمل كل بيتٍ على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجارواً في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة، لسهولة تناوله، وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم ابن معافر القبريري من شعراء الأمير عبد الله بى محمد المرواني. وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه، صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما. فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله:
- بدر تــم. شمس ضحا. غصن نقا.مسكٌ شم
- ما أتـــم. ما أوضحـــــا. ما أورقــا. ما أنــــم
- لا جرم. من لمحــــــــا. قد عشقـــا. قد حرم
وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف. وذكرغير واحدٍ من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أنَّ
هذاالشلأنجاء مصلياً خلفه منهم ابن رافع، راس شعراء المأمون ابن ذي النون، صاحب طليطلة. قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول؛
- العود قد ترنم بأبدع تلحين وسقت المذانب رياض البساتين
وفي انتهائه حيث يعول:
- تخطر ولا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيي بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي، ثم يحيى بن بقي، وللطليطلى من الموشحات المهذبة قوله:
- كيف السبيل إلـــــــى صبري وفي المعالم أشجان
- والراكب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بـــــــــان
وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشان بالأندلس يذكرون أن
جماعةً من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية، وكان كل واحدٍ منهم اصطنع موشحةً وتأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
- ضاحك عن جمان سافر عن دُر ضاق عنه الزمان وحواه صدري
صرف ابن بقي موشحته وتبعه الباقون. وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحاً على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
- أما ترى أحمد في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق
وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. وكان في عصرهما أيضاً الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة. ومن الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة؛ فالقى على بعض قيناته موشحته التي أولها:
- جرر الذيل أيما جــر وصلِ الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك، فلما ختمها بقوله:
- عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكــــــــر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت، صاح: واطرباه :وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه. وذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر بين زهر. ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر؛ فغص منه بعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول:
- ما لذ لي شرب راح،على رياض الأقاحٍ لولا هضيم الوشاح،إذا أسا في الصباح
- أو في الأصيل،أضحى يقــــــــــــــــول: ما للشمول،لطمت خــــــــــــــــــــدى؟
- وللشمال هبت فمـــــــــــــــــــــــــــــــال غصن اعتدال ضمه بــــــــــــــــردي
- مما أباد القلوبا،يمشي لنا مستريبـــــــــا يا لحظه رد ذنوباً ويا لماه الشنيبـــــــــــا
- برد غليل،صب عليـــــــــــــــــــــــــــل لا يستحيل،فيه عن العهــــــــــــــــــد
- ولا يزالُ،في كل حــــــــــــــــــــــــــال يرجو الوصال،وهو في الصـــــــــــــد
واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويريدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
- شمس قاربــــــت بـــــــــــــــــــــــدراً راح ونديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
وابن هردوس الذي له:
- يا ليلة الوصل والسعـــــــــــــــــــــود بالله عــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودي
وابن مؤهل الذي له:
- ما العيد في حلة وطاق وشم طيـــب وإنما العيد في التلاقي مع الحبيــــب
وأبو إسحق الرديني، قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول إنه دخل على ابن زهر، وقد أسن، وعليه زي البادية، إذ كان يسكن بحصن أستبه، فلم يعرفه، فجلس حيث انتهى به المجلس. وجرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحةً وقع فيها:
- كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح
- ومعصم النهر في حــــــــلل خضر من البطــاح
فتحرك ابن زفر وقال: أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون؟ فعرفه،فقال: ارتفع فوالله ما عرفتك. قال ابن سعيدٍ: وسابق الحلبة التي أدركت هؤلاء أبو بكر بن زهر، وقد شرقت موشحاته وغربت. قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: قيل لابنٍ زهيرٍ، لو قيل لك ما أباع وأرفع ما وقع لك في التوشيح ما كنت تقول؛ قال، كنت أقول:
- ما للموله؛من سكره لا يفيق. يا له سكران من غير خمر. ما للكئيب المشوق.
يندب الأوطان؟.
- هل تستعاد. أيامنـــــــــــــــــــا بالخليج. وليالينـــــــــــــــــــــا؟
- أو يستفاد. من النسيـــــــــــــم الأريج. مسك دارينـــــــــــــــــا
- أو هل يكاد. حسن المكان البهيج. أن يحيينـــــــــــــــــا؟
- روض أظله. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. والماء يجرى .وعائم وغريق.
من جنى الريحان. واشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله:
- يفوق سهمه كل حيــــــــــــنٍ بما شئت من يدٍ وعيــــــــــــــن
وينشد في القصيد:
- خلقت مليح علمت رامــــــي فليس تخل ساعٍ من قتــــــــــال
- وتعمل بذي العينين متاعـــي ما تعمل يديَّ بالنبـــــــــــــــــال
واشتهر معهما يومئذٍ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيدٍ، ولما سمع ابن زٍهير
قوله:
- لله ما كان من يوم بهيـــجٍ بنهر حمص على تلك المروج ثم # انعطفنا وعلى فم الخليــج نفض في حانه مسك الختام
- عن عسجدٍ زانهُ صافي المدامِ ورداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهرٍ: أين كنا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرفٌ. أخبر ابن سعيدٍ عن والده أن مطرفاً هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه، فقال لا تفعل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
- قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجــــــــــــــــد
وبعد هذا ابن حزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه، فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عارياً عن التكلف، قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي:
- يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيلُ
- أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليلُ
وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيدٍ كان والدي يعجب بقوله:
- إن سيل الصباح في الشرق عاد بحراً في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
- أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق
واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيدٍ عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول له: يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك: واحسرتا لزمان مضى عشية بان الهوى وانقضى وأفردت بالرغم لا بالرضى وبت على جمرات الغضى أعانق بالفكر تلك الطلول وألثم بالوهم تلك الرسوم
قال وسمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما سمعته يقول له لله درك، إلا في قوله:
- قسماً بالهوى لذي حجر ما لليل المشوق من فجر
- جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد اصح ياليل إنك الأبد
# أو قفصت قوادم النســر فنجوم السماء لا تسري
ومن محاسن موشحات ابن الصابوني قوله:
- ما حال صب ذي ضنى واكتئاب أمرضه يا ويلتاه الطبيــــــب
- عامله محبوبه باجتنــــــــــــــــاب ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب
- جفا جفوني النوم لكننـــــــــــــــي لم أبكه إلا لفقد الخيـــــــــــال
- وذا الوصال اليوم قد غرنــــــــي منه كما شاء وشاء الوصـال
- فلست باللائم من صدنـــــــــــــي بصورة الحق ولا بالمحــــال
واشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزايري صاحب الموشحة المشهورة:
- يد الأصباح قدحت زنـــــــــــــاد الأنوار في مجامر الزهــــــــر
وابن خرز البجائي وله من موشحة:
- ثغر الزمان موافــــــــــــــــــــــق حباك منه بابتســـــــــــــــــــــام
ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل، شاعر أشبيلية وسبتة من بعدها؛ فمنها قوله:
- هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنسِ
- فهو في نار وخفق مثل مـــــــــــا لعبت ريح الصبا بالقبــسِ
وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب، شاعر الأندلس والمغرب لعصره، وقد مر ذكره فقال:
- جادك الغيث إذا الغيث همـــــــــــى يا زمان الوصل بالاندلــــــــــــــــــــــــــــس
- لم يكن وصلك إلا حًلمــــــــــــــــــا في الكرى أو خلسة المختلـــــــــــــــــــــــس
- إذ يقود الدهر أشتات المنــــــــــــى تنقل الخطو على ما ترســـــــــــــــــــــــــــم
- زمراً بين فرادى وثنـــــــــــــــا مثل ما يدعو الحجيج الموســــــــــــــــــــــــم
- والحيا قد جلل الروض سنـــــــــي فثغور الأزهار فيه تبســـــــــــــــــــــــــــــــم
- وروى النعمان عن ماء السمــــــا كيف يروي مالك عن أنــــــــــــــــــــــــــس؟
- فكساه الحسن ثوباً معلمــــــــــــــا يزدهي منه بأبهى ملبــــــــــــــــــــــــــــــس
- في ليالٍ كتمت سر الهـــــــــــوى بالدجى لولا شموس القــــــــــــــــــــــــــــدر
- مال نجم الكأس فيها وهــــــــوى مستقيم السير سعد الأثــــــــــــــــــــــــــــــــر
- وطر ما فيه من عيب سوى أنه مر كلمح البصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
- حين لذ النوم شيئاً أو كمـــــــــــا هجم الصبح هجوم الحــــــــــــــــــــــــــــرس
- غارت الشهب بنا، أو ربمـــــــا أثرت فينا عيون النرجــــــــــــــــــــــــــــــس
- أي شيء لا مرىء قد خلصــــا فيكون الروض قد كنن فيــــــــــــــــــــــــــــه
- تنهب الأزهار فيه الفرصــــــــا أمنت من مكره ما تتقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــه
- فإذا الماء تناجى والحصــــــــى وخلا كل خليل بأخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
- تبصر الورد غيوراً برمــــــــــا يكتسي من غيظه ما يكتســـــــــــــــــــــــــــي
- وترى الآس لبيباً فهمـــــــــــــــا يسرق السمع بأذني فــــــــــــــــــــــــــــــرس
- يا أهيل الحي من وادي الغضـا وبقلبي مسكن أنتم بــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
- ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربــــــــــــــــــــــــــــــه
- فأعيدوا عهد أنسٍ قد مضـــــــــــــــى تعتقوا عبدكم من كربــــــــــــــه
- واتقوا الله وأحيوا مغرمـــــــــــــــــــاً يتلاشى نفساً في نفـــــــــــــــــس
- حبس القلب عليكم كرمــــــــــــــــــــا أفترضون خراب الحبــــــــــــس
- وبقلبي منكم مقتــــــــــــــــــــــــــرب بأحاديث المنى وهو بعيــــــــــــد
- قمر أطلع منه المغــــــــــــــــــــــرب شقوة المضنى به، وهو سعيـــــد
- قد تساوى محسن أو مذنـــــــــــــــب في هواه، بين وعدٍ ووعيــــــــــد
- ساحر المقلة معسول اللمـــــــــــــــى جال في النفس مجال النفــــــــس
- سدد السهم وسمى ورمـــــــــــــــــــى ففؤادي نهبة المفتــــــــــــــــرس
- إن يكن جار وخاب الأمــــــــــــــــــل وفؤاد الصب بالشوق يـــــــذوب
- فهو للنفس حبيــــــــــــــــــــــــب أول ليس في الحب لمحبوب ذنـــوب
- أمره معتمل ممتثـــــــــــــــــــــــــــل في ضلوع، قد براها، وقلــــوب
- حكم اللحظ بها فاحتكمــــــــــــــــــا لم يراقب في ضعاف الأنفـــــس
- ينصف المظلوم ممن ظلمـــــــــــــــا ويجازي البر منها والمســـــــــي
- ما لقلبي كلما هبت صبـــــــــــــــــــا عاده عيد من الشوق جديــــــــــد
- كان في اللوح له مكتتبــــــــــــــــــــا قوله إن عذابي لشديــــــــــــــــــد
- جلب الهم له والوصبــــــــــــــــــــــا فهو للأشجان في جهدٍ جهيـــــــد
- لا عج من أضلعي قد أضرمـــــــــا فهي نار في هشيم اليبــــــــــــــس
- لم تدع في مهجتي إلا ذمـــــــــــــــا كبقاء الصبح بعد الغلـــــــــــــــس
- سلمي يا نفس في حكم القضـــــــــــا واعبري الوقت برجعي ومتاب
- وفى عي ذكر زمانٍ قد مضـــــــــى بين عتبى قد تقضت وعتـــــاب
- واصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتـــــــــاب
- الكريم المنتهى والمنتمـــــــــــــــــى أسد السرح وبدر المجلــــــــــس
- ينزل النصر علنه مثلمـــــــــــــــا ينزل الوحي بروح القـــــــــدس
وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقاً وغرباً وأولها:
- حبيبي ارفع حجاب النــــــــور عن العـــــــــــــــــــــــــذار
- تنظر المسك على كافـــــــــور في جلنـــــــــــــــــــــــــار
- كفلي يا سحب تيجان الربــــى بالحلى واجعلـــــــــــــــي
سوارها منعطف الجدول
ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً. واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس؛ لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيدٍ: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول:
ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال:
- وعريش قد قام على دكــــان بحــــــــــــــــــــال رواق
- وأسد قد ابتلع ثعبـــــــــــــــان من غلظ ســـــــــــــــاق
- وفتح فمه بحال إنســـــــــــان بيه الفـــــــــــــــــــراق
- وانطلق من ثم على الصفاح وألقى الصيـــــــــــاح
وكان ابن قزمان، مع أنه قرطبي الدار، كثيراً ما يتردد إلى إشبيلية ونيتاب نهرها، فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. وقد ركبوا في النهر للنزهة ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم. وكانوا مجتمعين في زورق للصيد؛ فنظموا في وصف الحال، وبدأ منهم عيسى البليدي فقال:
- يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتـو وقد ضمني عشقو لشهماتــــــو
- تراه قد حصل مسكين محلاتـو يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو
- توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتـــــــو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي:
- نشب والهوى من لج فيه ينشب ترى ايش دعاه يشقى ويتعذب
- مع العشق قام في بالوان يلعـب وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني: # نهار مليح يعجبن أوصافــــــــــــو شراب وملاح من حولي قد طافوا
- والمقلين يقول من فوق صفصافو والبوري أخرى فقلاتــــــــــــــــــو
ثم قال أبو بكر بن مرتين:
- الحق تريد حديث بقالي عــــــــاد في الواد النزيه والبوري والصياد
- لسنا حيتان ذيك الذي يصطـــــاد قلوب الورى هي في شبيكاتــــــــو
ثم قال أبو بكر بن قزمان:
- إذا شفر كمامو يرميهـــــــــــــــا ترى البوري يرشق لذاك الجيها
- وليس مرادو أن يقع فيهــــــــــا إلا أن يقبل بدياتــــــــــــــــــــــــو
وكان في عصرهم بشرق الأندلس فحلف الأسود، وله محاسن من الزجل منها قوله:
- قد كنت منشوب واختشيت النشب وردني ذا العشق لأمر صعب
- حتى تنظر الخد الشريق البهـــــي تنتهي في الخمر إلما تنتهــــــي
- يا طالب الكيميا في عيني هــــــي تنظر بها الفضة وترجع ذهـب
وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور:
- ورذاذ دق ينـــــزل وشعاع الشمس يضـــــرب
- فترى الواحد يفضض وترى الآخر يذهـــــــــــــب
- والنبات يشرب ويسكر والغصون ترقص وتطرب
- وبريد تجي إلينـــــــــا ثم تستحي وتهــــــــــــــرب
ومن محاسن أزجاله قوله:
- لاح الضيا والنجوم حيارى فقم بنا ننزع الكســـــــــــــل
- شربت ممزوج من قراعـا أحلى هي عندي من العسل
- يا من يلمني كما تقــــــــلد قلدك الله بما تقـــــــــــــــول
- يقول بان الذنوب تولــــــــــــــــــد وأنه يفسد العقــــــــــــــــــــــــــــول
- لأرض الحجازموريكن لك أرشد إيش ما ساقك معي في ذا الفضول
- مر أنت للحج والزيــــــــــــــــارا ودعني في الشرب منهمـــــــــــــــل
- من ليس لو قدره ولا استطـــــاع النية أبلغ من العمــــــــــــــــــــــــــل
وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية ابن جحدرالدي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا:
- من عاند التوحيد بالسيف يمحــق أنا بري ممن يعاند الحـــــــــــــــــق
قال ابن سعيد لقيته ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله:
- يا ليتني إن رأيت حبيبــــــــــــي أفتل أذنو بالرسيلا
- ليش أخذ عنق الغزيــــــــــــــــل وسرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
- امزج الأكواس واملالي تجدد ما خلق المال إلا أن يبدد
ومن قوله على طريقة الصوفية وينحو منحى الششتري منهم:
- بين طلوع وبين نــــــــــزول اختلطت الغـــزول
- ومضى من لم يكـــــــــــــــن وبقي من لم يزول
ومن محاسنه أيضاً قوله في ذلك المعنى:
- البعد عنك يا بني أعظم مصايبي وحين حصل لي قربك سببت قاربي
وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي
آش، وكان إماماً في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء والنجوم حيارى بقوله:
- حل المجون يا أهل الشطــــــــارا مذ حلت الشمس في الحمــــــــــل
- تجددوا كل يوم خلاعـــــــــــــــــا لا تجعلوا بينها ثمــــــــــــــــــــــل
- إليها يتخلعوا في شنبـــــــــــــــل على خضورة ذاك النبـــــــــــــات
- وحل بغداد واجتاز النيـــــــــــــل أحسن عندي من ذيك الجهـــــات
- وطاقتها أصلح من أربعين مــل إن مرت الريح عليه وجــــــاءت
- لم تلتق الغبار أمــــــــــــــــــــارا ولا بمقدار ما يكتحــــــــــــــــــل
- وكيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا ونسرح فيه النحــــــــــــــــــل
وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر، وفيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية ويسفون الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم:
- دهر لي نعشق جفونك وسنيـــــــــــن وأنت لا شفقة ولا قلب يليـــــن
- حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السكة بين الحداديــــــــن
- الدموع ترشرش والنار تلتهـــــــــب والمطارق من شمال ومن يمين
- خلق الله النصارى للغـــــــــــــــــزو وأنت تغزو قلوب العاشقيـــــــن
وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي وله
فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
- طل الصباح قم يا نديمي نشربو ونضحكو من بعد ما نطربو
- سبيكة الفجر أحكت شفـــــــــــق في ميلق الليل فقم قلبـــــــــو
- ترى عيارها خالص أبيض نقـــي فضة هو لكن الشفق ذهبو
- فتنتفق سكتوا عند البشـــــــــــــر
- فهو النهار يا صاحبي للمعــــاش
- والليل أيضاً للقبل والعنــــــــــاق
- جاد الزمان من بعد ما كان بخيل
- كما جرع مرو فما قد مضـــــى
- قال الرقيب يا أدباً إيـــــــــش ذا
- وتعجبوا عذالي من ذا الخبــــــر
- نعشق مليح إلا رقيق الطبـــــاع
- ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب
- أما الكاس فحرام نعم هو حـــرام
- ويد الذي يحسن حسابه ولــــــــم
- وأهل العقل والفكر والمجـــــون
- ظبي بهي فيها يطفي الجمـــــــر
- غزال بهي ينظر قلوب الأســود
- ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكــــوا
- فميم كالخاتم وثغر نقـــــــــــي
- جوهر ومرجان أي عقد يا فلان #وشارب أخضر يريد لاش يريد
- يسبل دلال مثل جناح الغراب
- على بدن أبيض بلون الحليب
- وزوج هندات ما علمت قبلها
- تحت العكاكن منها خصر رقيق
- أرق هو من ديني فيما تقول
- أي دين بقا لي معاك وأي عقل
- تحمل أرداف ثقال كالرقيب
نور الجفون من نورها يكسبو عيش الغني فيه بالله ما أطيبو على سرير الوصل يتقلبو ولش ليفلت من يديه عقربو يشرب بيننو ويأكل طيبو في الشرب والعشق ترى ننجبو فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا علاش تكفروا بالله أو تكتبوا يفض بكرو ويدع ثيبو على الذي ما يدري كيف يشربو يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا وقلبي في جمر الغضى يلهبو وبالوهم قبل النظر يذهبوا ويفرحوا من بعد ما يندبوا خطيب الأمة للقبل يخطبو قد صففه الناظم ولم يثقبو من شبهه بالمسك قد عيبو ليالي هجري منه يستغربوا ما قط راعي للغنم يحلبوا ديك الصلا يا ريت ما أصلبو من رقتو يخفي إذا تطلبوا جديد عتبك حق ما أكذبو من يتبعك من ذا وذا تسلبوا حين ينظر العاشق وحين يرقبو
- إن لم ينفس غدر أو ينقشـــــــع في طرف ديسا والبشر تطلبو
- يصير إليك المكان حين تجــي وحين تغيب ترجع في عيني تبو
- محاسنك مثل خصال الأميــــر أو الرمل من هو الذي يحسبو
- عماد الأمصار وفصيح العرب من فصاحة لفظه يتقربو
- بحمل العلم انفرد والعمـــــــــل ومع بديع الشعر ما أكتبو
- ففي الصدور بالرمح ما أطعنه وفي الرقاب بالسيف ما أضربو
- من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو
- الشمس نورو والقمر همتـــــــو الغيث جودو والنجوم منصبو
- يركب جواد الجود ويطلق عنان الأغنيا والجند حين يركبوا
- من خلعتو يلبس كل يوم بطيــب منه بنات المعالي تطيبوا
- نعمتو تظهر على كل من يجيــه قاصد ووارد قط ما خيبوا
- قد أظهر الحق وكان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
- وقد بنى بالسر ركن التقـــــــى من بعد ما كان الزمان خربو
- تخاف حين تلقاه كما ترجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو
- يلقى الحروب ضاحكاً وهي عابسة غلاب هولا شيء في الدنيا يغلبو
- إذا حبد سيفه ما بين الــــــردود فليس شيء يغني من يضربو
- وهو سمي المصطفى والإلـــه للسلطنة اختار واستنخبو
- تراه خليفة أمير المؤمنيـــــــــن يقود جيوشو ويزين موكبو
- لذي الإمارة تخضع الـــرؤوس نعم وفي تقبيل يديه يرغبوا
- بيته بقي بدور الزمــــــــــــان يطلعوا في المجد ولا يغربوا
- وفي المعالي والشرف يبعـــــــدوا وفي التواضع والحيا يقربوا
- والله يبقيهم ما دار الفلـــــــــــــــك وأشرقت شمسه ولاح كوكبو
- وما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر، في أعاريض مزدوجة كالموشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضاً وسفوه عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلاً مطلعها:
- أبكاني بشاطي النهر نوح الحمـــــــام على الغصن في البستان قريب الصباح
- وكف السحر يمحو مداد الظـــــــــلام وماء الندى يجري بثغر الأقاح
- باكرت الرياض والطل فيها افتـــراق كثير الجواهر في نحور الجوار
- ودمع النواعير ينهرق انهــــــــــــراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
- لووا بالغصون خلخال على كل ساق ودار الجميع بالروض دور السوار
- وأيدي الندى تخرق جيوب الكمـــــام ويحمل نسيم المسك عنها رياح
- وعاج الصبا يطلى بمسك الغمــــــام وجر النسيم ذيلو عليها وفاح
- رأيت الحمام بين الورق في القضيب قد ابتلت أرياشو بقطر الندى
- تنوح مثل ذاك المستهام الغريـــــــب قد التف من تربو الجديد في ردا
- ولكن بما أحمر وساقو خضيــــــــب ينظم سلوك جوهر ويتقلدا
- جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد والتوى في جناح
- وصار يشتكي ما في الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره وصاح
- قلت يا حمام أحرمت عيني الهجوع أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
- قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
- على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا والحزن من عهد نوح
- كذا الوفا وكذا هو الزمــــــــــــــــــام انظر جفون صارت بحال الجراح
- وأنتم من بكى منكم إذا تم عام يقــــــول عناني ذا البكا والنواح
- قلت يا حمام لو خضت بحر الضنــــــى كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون
- ولو كان بقلبك ما بقلبي أنــــــــــــــــــــا ما كان يصير تحتك فروع الغصون
- اليوم نقاسي الهجر كم من سنــــــــــــــاً حتى لا سبيل جملة تراني العيون
- ومما كسا جسمي النحول والسقـــــــــام أخفاني نحولي عن عيون اللواح
- لو جتني المنايا كان يموت في المقــام ومن مات بعد يا قوم لقد استراح
- قال لي لو رقدت لأوراق الريـــــــاض من خوفي عليه وذا النفوس للفؤاد
- وتخضبت من دمعي وذاك البيــــــاض طوق العهد في عنقي ليوم التناد
- أما طرف منقاري حديثو استفــــــاض بأطراف البلد والجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الذي ليس
من شانهم، وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافاً إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل. واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهو من أهل تازا:
- المال زينة الدنيا وعز النفـــــــــــــوس يبهي وجوها ليس هي باهيا
- فها كل من هو كثير الفلـــــــــــــــوس ولوه الكلام والرتبة العاليا
- يكبر من كثر مالو ولو كان صغيـــــر ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر
- من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغيـــــر وكان ينفقع لولا الرجوع للقدر
- حتى يلتجي من هو في قومو كبيــــــر لمن لا اصل عندو ولا لو خطر
- لذا ينبغي يحزن على ذي العكــــــوس ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا
- اللي صارت الأذناب أمام الـــــرؤوس وصار يستفيد الواد من الساقيا
- ضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
- اللي صار فلان يصبح بو فـــــــــــلان ولو رأيت كيف يرد الجواب
- عشنا والسلام حتى رأينا عيــــــــــان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
- كبحار النفوس جذا ضعاف الأسوس هم ناحيا والمجد في ناحيا
- يرو أنهم والناس يروهم تيـــــــــوس وجوه البلد والعمدة الراسيا
ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
- تعب من تبع قلبو ملاح ذا الزمــــان أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
- ما منهم مليح عاهد إلا وخـــــــــــان قليل من عليه تحبس ويحبس عليك
- يهبوا على العشاق ويتمنعــــــــــــوا ويستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
- وإن واصلوا من حينهم يقطعــــــوا وإن عاهدوا خانوا على كل حال
- مليح كان هويتو وشت قلبي معــــو وصيرت من خدي لقد مونعال
- ومهدت لو من وسط قلبي مكــــان وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك
- وهون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك
- حكمتوا علي وارتضيت بو أميـــر فلو كان يرى حالي إذا يبصرو
- يرجع مثل در حولي بوجه الغدير مرديه ويتعطس بحال انحرو
- وتعلمت من ساعاً بسبق الضميـر ويفهم مرادو قبل أن يذكرو
- ويحتل في مطلو لو أن كــــــــان عصر في الربيع أو في الليالي يريك
- ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان وإيش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها. وكان منهم علي بن المؤذن بتلمسان، وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفن. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة
يقول في مفتتحها، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمى براعة الاستهلال:
- سبحان مالك خواطر الأمرا ونواصيها في كل حين وزمان
- إن طعناه اعظم لنا نصـــرا وان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
- كن مرعى قل ولاتكن راعـــــي فالراعي عن رعيته مسؤول
- واستفتح بالصلاة على الداعــي للإسلام والرضا السني المكمول
- على الخلفاء الراشدين والأتبـاع واذكر بعدهم إذا تحب وقول
- أحجاجا تخللوا الصحـــــــــــــرا ودوا سرح البلاد مع السكان
- عسكر فاس المنيرة الغـــــــــرا وين سارت بو عزايم السلطان
- أحجاج بالنبي الذي زرتـــــــــــم وقطعتم لو كلاكل البيدا
- عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
- ومن كان بالعطايا يزودكم ويدع برية الحجاز رغدا
- قام قل للسد صادف الجزرا ويعجز شوط بعدما يخفان
- ويزف كر دوم تهب في الغبرا أى ما زاد غزالهم سبحان
- لو كان ما بين تونس الغربا وبلاد الغرب سدّ السكندر
- مبني من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثنايا بصفر
- لا بد للطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
- ما أعوصها من أمور وماشرا لو تقرا كل يوم علي الديوان
- لجرت الدم وانصدع الحجرا وهوت الخراب وخافت الغزلان
- أدرلي بعقلك الفحاص وتفكر لي بخاطرك جمعا
- ان كان تعلم حمام ولا رقاص عن السلطان شه وقبله سبعا
- تظهر عند المهيمن القصاص وعلامات تنشر علي الصمعا
ثم أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه، إلى آخر رحلته ومنتهى أمره، مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكل غريبة من الإبداع. وأما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضاً على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته.
الموشحان والأزجال في المشرق:
وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه المواليا، وتحته فنون كثيرة يسمون منها القُوما، وكان وكان، ومنه مفرد ومنه في بيتين، ويسمون دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحدٍ منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغضانٍ. وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب، وتبخروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاؤوا بالعجائب، ورأيت فم ديوان الصفي الحلي من كلامه (أن المواليا من بحر البسيط، وهو ذو أربعة أغصان وأربع قوافي، ويسمى صوتاً وبيتين. وأنه من مخترعات أهل واسط، وأن كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة وأنه من مخترعات البغداديين. وأنشد فيه لنا:
بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو، وأم الأخرس تعرف بلغة الخرسان إنتهى كلام الصفي. ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم:
- هذي جراحي طريــــــا والدما تنضــــــــــــــــــــح
- وقاتلي يا أخيــــــــــــــا في الفلا يمــــــــــــــــرح
- قالوا ونأخذ بثــــــأرك قلت ذا أقبـــــــــــــــــــــح
- إلى جرحتي يداوينــــي يكون أصلــــــــــــــــــح
ولغيره:
- طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
- تبسمت لاح لي من ثغرها بـــــارق رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
ولغيره:
# عهدي بها وهي لا تأمن علي البين وإن شكوت الهوى قالت فدتك العين # لمن يعاين لها غيري غلام الزيـــن ذكرتها العهد قالت لك علي دين
ولغيره في وصف الحشيش:
- دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر والخمار والساقي
- قحبا ومن قحبها تعمل على إحراقـــي خبيتها في الحشى طلت من أحداقي
ولغيره:
- يا من وصالو لأطفال المحبة بــح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
- أودعت قلبي حوحو والتصبر بـح كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
ولغيره:
- ناديتها ومشيبي قد طواني طــــي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
- قالت وقد كوت داخل فؤادي كـي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
ولغيره:
- راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرف
- أسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
ولغيره:
- يا حادي العيش ازجر بالمطايا زجــــــر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
- زجر وصي في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
ولغيره:
- عيني التي كنت أرعاكم بها باتت ترعى النجوم وبالتسهيد اقتاتت
- وأسهم البين صابتني ولا فاتــــت وسلوتي عظم الله أجركم ماتت
ولغيره:
- هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكــــر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
- غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر وإن تهلل فما للبدر عندو ذكر
ومن الذي يسفونه دوبيت:
- قد أقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الأسحار
- يا نار أشواقي به فاقتدي ليلاً فعساه يهتدي بالنار
واعلم أن الأذواق كفها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها، حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب؛ ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق؛ ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب. لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل واحدٍ منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق محاسن الشجر من أهل جلدته. {وفي خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين} .
خاتمة وقد كدنا أن نخرج عن الغرض، ولذلك عزمنا ان نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول، الذي هو طبيعة العمران، وما يعرض فيه، وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاء له. ولعل من يأتي بعدنا، ممن يؤيده الله بفكر صحيحٍ وعلمٍ مبينٍ، يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا؛ فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.قال مؤلف الكتاب عفا الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول، المشتمل على المقدمة بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته، وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته. وما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم.
تم طبع المجلد الأول المعروف بمقدمة ابن خلدون،
ويليه المجلد الثاني. أوله الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم،منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد.
فهرس لمجلد الأول
من تاريخ ابن خلدون
الموضوع الصفحة
مقدمة الناشر
3
مقدمة المؤلف
5
في فضل علم التاريخ
13
الكتاب الأول : في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونموها وما لذلك من العلل والأسباب
46
الباب الأول : المقدمة الأولى : في العمران البشري على الجملة
54
المقدمة الثانية : في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار والأنهار والأقاليم
57
تكملة لهذه المقدمة الثانية
63
تفصيل الكلام على بدء الجغرافيا: أقاليم الأرض السبعة
67
الاقليم الأول
68
الاقليم الثاني
73
الاقليم الثالث
75
الاقليم الرابع
82
الاقليم الخامس
90
الاقليم السادس
97
الاقليم السابع
100
المقدمة الثالثة : في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهراء 103 المقدمة الرابعة: في أثر الهواء في أخلاق البشر 108 المقدمة الخامسة : في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع 109 المقدمة السادسة : في أصناف المدركين للغيب من البشر 115 تفسير حقيقة النبوة 120 الوحي 123 الكهانة 125
الرؤيا 149 الباب الثاني : في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل 149 الفصل الأول : في أن أجيال البدو والحضر طبيعية 149 الفصل الثاني : في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي 151 الفصل الثالث : قدم البادية والبدو 152 الفصل الرابع : في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر 153 الفصل الخامس : شجاعة أهل البدو 155 الفصل السادس : معاناة أهل الحضر للأحكام 157 الفصل السابع : القبائل التي تسكن البدو 159 الفصل الثامن : في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب 160 الفصل التاسع : في أن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر 161 الفصل العاشر: في اختلاط الأنساب 163 الفصل الحادي عشر: في أن الرئاسة لأهل العصبية 164 الفصل الثاني عشر: في أن الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم 165 الفصل الثالث عشر: في أن البيت والشرف بالأصالة والحقيقة لأهل العصبية 167 الفصل الرابع عشر: في أن البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم 169 الفصل الخامس عشر: في أن نهاية النسب في العقب الواحد أربعة آباء 170 الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب من سواها 172 الفصل السابع عشر: في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك 174 الفصل الثامن عشر: من عوائق الملك حصول الترف 175 الفصل التاسع عشر: من عوائق الملك حصول المذلة 176 الفصل العشرون : الخلال الحميدة من علامات الملك 178 الفصل الحادي والعشرون : في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع 181 الفصل الثاني والعشرون : انتقال الملك بين الشعوب 182 الفصل الثالث والعشرون : ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب 184 الفصل الرابع والعشرون : الأمة إذا غلبت أسرع إليها الفناء 185 الفصل الخامس والعشرون : في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط 186 الفصل السادس والعشرون : في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب 187 الفصل السابع والعشرون : في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم 189
الفصل الثامن والعشرون :.في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك 189 الفصل التاسع والعشرون : في أن البوادي من القبائل مغلوبون لأبل الأمصار 191 الباب الثالث : في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية 193 الفصل الأول : في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية 193 الفصل الثاني : في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية 194 الفصل الثالث : في أنه قد يحدث .لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية 196 الفصل الرابع : الدين أصل الاستيلاء على الملك 197 الفصل الخامس : في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة قوة على قوة العصبية 198 الفصل السادس : في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم 199 الفصل السابع : ني آن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها 202 الفصل الثامن : اتساع نطاق الدولة ونسبة القائمين بها 204 الفصل التاسع : في أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة 206 الفصل العاشر: في أن طبيعة الملك الانفراد بالمجد 208 الفصل الحادي عشر: في أن طبيعة الملك الترف 209 الفصل الثاني عثر: في أن طبيعة الملك الدعة والسكون 210 الفصل الثالث عثر: في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم 210 الفصل الرابع عشر: في أن الدولة لها أعمار طبيعية كم للأشخاص 213 الفصل الخامس عشر: في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة 215 الفصل السادس عشر: في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوة 218 الفصل السابع عشر : في أطوار الدولة واختلاف أحوالها 219 الفصل الثامن عشر: في أن آثار الدولة كلها على نسبة قرتها 221 الفصل التاسع عشر: في استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين 229 الفصل العشرون : في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول 230 الفصل الحادي والعشرون : فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه 232 الفصل الثاني والعشرون : في أن المتغلبين على السلطان لا يثار كونه في اللقب 233 الفصل الثالث والعشرون : في حقيقة الملك وأصنافه 234 الفصل الرابع والعشرون : في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر 236 الفصل الخامس والعشرون : في معنى الخلافة والإمامة 237 الفصل السادس والعشرون : في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه 239
الفصل السابع والعشرون : في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة 246 الفصل الثامن والعشرون : في انقلاب الخلافة إلى الملك 253 الفصل التاسع والعشرون : في معنى البيعة 261 الفصل الثلاثون : في ولاية العهد-مقتل الحسين بن علي 262 الفصل الحادي والثلاثون : في الخطط الدينية الخلافية : 272 العدالة، الحسبة، والسكة 280 الفصل الثاني والثلاثون : في اللقب بأمير المؤمنين وأنه من سمات الخلافة 282 الفصل الثالث والثلاثون : في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود 287 الفصل الرابع والثلاثون : في مراتب الملك والسلطان وألقابها : 292 الوزارة 294 الحجابة 299 ديوان الأعمال والجباية 302 ديوان الرسائل والكتابة 305 الشرطة 311 قيادة الأساطيل 312 الفصل الخامس والثلاثون : في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول 318 الفصل السادس والثلاثون : في شارات الملك والسلطان الخاصة به 319
السرير والمنبر والتخت والكرسي
322 السكة 322 مقدار الدرهم والدينار 324 الخاتم 326 الطراز 329 الفساطيط والسياج 330 المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة 332 الفصل السابع والثلاثون : في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها 334 الفصل الثامن والثلاثون : في الجباية وسبب قلتها وكثرتها 344 الفصل التاسع والثلاثون : في ضرب المكوس أواخر الدولة 345 الفصل الأربعون : ضرر وفساد تجارة السلطان 346 الفصل الحادي والأربعون : في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة 349 الفصل الثاني والأربعون : في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية 353 الفصل الثالث والأربعون : في ان الظلم مؤذن بخراب العمران 353 الاحتكار 357 الفصل الرابع والأربعون : في الحجاب كيف يقع في الدول وانه يعظم عند الهرم 358 الفصل الخامس والأربعون : في انقسام الدولة الواحدة بدولتين 360 الفصل السادس والأربعون : في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع 362 الفصل السابع والأربعون : في كيفية طروق الخلل للدولة 363 الفصل الثامن والأربعون : في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
الفصل التاسع والأربعون : في كيفية استيلاء الدولة المستجدة على الدولة المستقرة
الفصل الخمسون : وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من الموتان والمجاعات 320 الفصل الحادي والخمسون : في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره - نص كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله 321
الفصل الثاني والخمسون : في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شانه 330 الفصل الثالث والخمسون : في حدثان الدول والأمم وفيه الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر-التنجيم -الملاحم 350 الباب الرابع : في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال 365 الفصل الأول : في أن الدول اقدم من المدن والأمصار 365 الفصل الثاني : في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار 366 الفصل الثالث : في ان المدن العظيمة والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير 367 الفصل الرابع : في ان الهياكل العظيمة لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة 368 الفصل الخامس : فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن 370 الفصل السادس : في المساجد والبيوت العظيمة في العالم 372 الفصل السابع : في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة 381 الفصل الثامن : في أن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها 382 الفصل التاسع : في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل 382 الفصل العاشر: في مبادئ الخراب في الأمصار 383 الفصل الحادي عشر: في أن تفاضل الأمصار والمدن في كرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة 384 الفصل الثاني عشر: في أسعار المدن 386 الفصل الثالث عشر: في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران 389 الفصل الرابع عشر: في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار 389 الفصل الخامس عشر: في تأثل العقار والضياع في الأمصار وحال فوائدها ومستغلاتها 391 الفصل السادس عشر: في حاجات المتسولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة 392 الفصل السابع عشر: في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول وإنما ترسخ باتصال الدولة أو رسوخها 393 الفصل الثامن عشر: في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساد 396 الفصل التاسع عشر: في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها 399 الفصل العشرون : في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض 401 الفصل الحادي والعشرون : في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم على بعض 402 الفصل الثاني والعشرون : في لغات أهل الأمصار 403 الباب الخامس : في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال 406
الفصل الأول : في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية 406 الفصل الثاني : في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه 408 الفصل الثالث : في أن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي 409 الفصل الرابع : في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي 410 الفصل الخامس : في أن الجاه مفيد للمال 415 الفصل السادس : في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق 415 الفصل السابع : في أن القائمين بأمور الدين من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الألب 419 الفصل الثامن : في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو 420 الفصل التاسع : في معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها 420 الفصل العاشر: في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة وأيهم ينبني له اجتناب حرفها 421 الفصل الحادي عشر: في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك 421 الفصل الثاني عشر: في نقل التاجر للسلع 422 الفصل الثالث عشر: في الاحتكار 423 الفصل الرابع عشر: في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص 424 الفصل الخامس عشر: في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة عن المروءة 425 الفصل السادس عشر: في أن الصنائع لا بد لها من العلم 426 الفصل السابع عشر: في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته 427 الفصل الثامن عشر: في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها 428 الفصل التاسع عشر: في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها 429 الفصل العشرون : في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع 430 الفصل الحادي والعشرون : في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع 430 الفصل الثاني والعشرون : في أن من حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعدها ملكة في أخرى 431 الفصل الثالث والعشرون : في الإشارة إلى أمهات الصنائع 432 الفصل الرابع والعشرون : في صناعة الفلاحة 432 الفصل الخامس والعشرون : في صناعة البناء 433 الفصل السادس والعشرون : في صناعة النجارة 436 الفصل السابع والعشرون : في صناعة الحياكة والخياطة 438 الفصل الثامن والعشرون : في صناعة التوليد 439 الفصل التاسع والعشرون : في صناعة الطب 441
الفصل الثلاثون : في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية 444 الفصل الحادي والثلاثون : في صناعة الوراقة 451 الفصل الثاني والثلاثون : في صناعة البناء 453 الفصل الثالث والثلاثون : في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب 458 الباب السادس : في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه 460 الفصل الأول : في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري 460 الفصل الثاني : في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع 461 الفصل الثالث : في أن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة 465 الفصل الرابع : في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد 466 الفصل الخامس : علوم القرآن من التفسير والقراءات 468 الفصل السادس : علوم الحديث 471 الفصل السابع : علم الفقه وما يتبعه من الفرائض 476 الفصل الثامن :علم الفرائض 483 الفصل التاسع : أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات 484 الفصل العاشر: علم الكلام 490 الفصل الحادي عشر: في أن عالم الحوادث إنما يتم بالفكر 499 الفصل الثاني عشر: العقل التجربي وكيفية حدوثه 501 الفصل الثالث عشر: علوم البشر وعلوم الملائكة 502 الفصل الرابع عشر: علوم الأنبياء 503 الفصل الخامس عشر: الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب 504 الفصل السادس عشر: كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة 505 الفصل السابع عشر: علم التصوف 514 الفصل الثامن عشر: علم تعبير الرؤيا 526 الفصل التاسع عشر: العلوم العقلية وأصنافها 535 الفصل العشرون : العلوم العددية : الحساب ، الجبر، المعاملات والفرائض 534 الفصل الحادي والعشرون : العلوم العددية-المساحة 538 الفصل الثاني والعشرون : علم الهيئة-علم الأزياج 540 الفصل الثالث والعشرون : علم المنطق 542 الفصل الرابع والعشرون : الطبيعيات 546 الفصل الخامس والعشرون : علم الطب 547 الفصل السادس والعشرون : الفلاحة 548
الفصل السابع والعشرون : علم الإلهيات 549 الفصل الثامن والعشرون : علوم السحر والطلسمات 551 الفصل التاسع والعشرون : علم أسرار الحروف 558 الفصل الثلاثون : علم الكيمياء 585 الفصل الحادي والثلاثون : في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها 595 الفصل الثاني والثلاثون : في إبطال صناعة النجوم 601 الفصل الثالث والثلاثون : إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشا من المفاسد عن انتحالها 606 الفصل الرابع والثلاثون : كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل 613 الفصل الخامس والثلاثون : المقاصد التي ينبني اعتمادها في التأليف 614 الفصل السادس والثلاثون : كثرة الاختصارات المؤلفهّ في العلوم مخلة بالتعليم 617 الفصل السابع والثلاثون : في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته -الفكر الإنساني 618 الفصل الثامن والثلاثون : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل 622 الفصل التاسع والثلاثون : في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار 623 الفصل الأربعون : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم 625 الفصل الحادي والأربعون : الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم 626 الفصل الثاني والأربعون : بعد العلماء عن السياسة ومذاهبها 627 الفصل الثالث والأربعون : حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم 628 الفصل الرابع والأربعون : في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي 631 الفصل الخاسر والأربعون : في علوم اللسان العربي : علم النحو -علم اللغة-علم البيان -علم الأدب 633 الفصل السادس والأربعون : في ان اللغة ملكة صناعية 643 الفصل السابع والأربعون : مغايرة لغة العرب لهذا العهد للغة مضر وحمير 644 الفصل الثامن والأربعون : لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر 647 الفصل التاسع والأربعون : في تعليم اللسان المضري 648 الفصل الخمسون : ملكة صناعة اللسان غير صناعة العربية 649 الفصل الحادي والخمسون : تفسير الذوق البياني وتحقيق معناه 651
الفصل الثاني والخمسون : قصور أهل الأمصار في تحصيل الملكة اللسانية 654 الفصل الثالث والخمسون : انقسام الكلام إِلى فني النظم والنثر 656 الفصل الرابع والخمسون : في انه لا تتفق الإجادة في فتي المنظوم والمنثور معا إلا للأقل 658 الفصل الخامس والخمسون : في صناعة الشعر ووجه تعلمه 659 الفصل السادس والخمسون : في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني 667 الفصل السابع والخمسون : في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ 668 الفصل الثامن والخمسون : في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع 671 الفصل التاسع والخمسون : في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر 674 الفصل الستون : في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد 675 خاتمة 709